أسرار التكرار في القرآن

اشارة

نام كتاب: أسرار التكرار في القرآن

نويسنده: محمود بن حمزة الكرمانى

موضوع: متشابه لفظى

تاريخ وفات مؤلف: 505 ق

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: دار الفضيلة

مكان چاپ: القاهرة

سال چاپ: بى تا

نوبت چاپ: بى نا

ملاحظات: اين كتاب با نام( البرهان فى متشابه القرآن) نيز چاپ

تقديم الكتاب

القرآن و الكتب السماوية:

القرآن و الكتب السماوية:

لقد سمى اللّه تعالى كتابه الكريم بأسماء كلها تشير إلى عظمته و أهميته فى بناء شخصية الإنسان المسلم، و استحكام أركان المجتمع الإسلامى المكلف بالزحف على الأرض لإعلاء راية القرآن.

لقد سمّاه اللّه تعالى: نورا، و هدى، و شفاء لما فى الصدور، و مهيمنا على كل الكتب و الشرائع، و وصفه بأنه حق، و محكم الآيات، و ألزم العالم كله بالخضوع لأحكامه، و قرّر وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1»، و تحدى الإنس و الجن أن يأتوا بمثله، و كان له شأن بالغ فى الدعوة الإسلامية على عهد النبى صلى اللّه عليه و سلم حتى فزع أساطين الفصاحة و البلاغة من كفار قريش حينما ظهرت فاعليته فى جذب عيونهم و سراتهم إلى دائرة الإسلام الحنيف، فقالوا لأتباعهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «2».

من أجل هذا و غيره مما خص به أهل القرآن من فضل أهاب اللّه بالمسلمين أن يتدبروه فقال: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «3»؟ و أن يجعلوه مادة عبادتهم و مناجاتهم لبارئهم فقال: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ «4»، و قال: وَ رَتِّلِ

__________________________________________________

(1) سورة المائدة: 44.

(2) سورة فصلت: 26.

(3) سورة النساء: 82.

(4) سورة المزمل: 20.

أسرار التكرار في القرآن،

ص: 6

الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «1»، و قال: وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً «2».

و إذا حاولنا استجلاء عظمة القرآن و خلوده و شموله و عالميته و دلائل سلطانه و هيمنته على جميع الكتب و الشرائع فى مختلف الأعصار و الأزمان، تبين لنا على ضوء الفهم الإنسان القاصر عدّة دلائل نجملها فيما يلى:

أولا: كانت المعجزات التى أيّد اللّه بها رسله السابقين على رسالة النبى محمد صلى اللّه عليه و سلم كلها مؤقتة بوقتها. و بحياة الرسل الذين جرت على أيديهم تلك المعجزات، فلم تبق واحدة منها بعد وفاة صاحبها، مما ينفى عنها صفة الشمول و يحدد فاعليتها بوقتها، و من ثم ينفى عن تلك الرسالات صفة الدوام هى الأخرى، و يسلكها فى عداد الشرائع الممهدة لما بعدها، و المنسوخة بالتالية لها، لا يمارى فى هذا صاحب عقل سليم.

ثانيا: و من ناحية الكيف لم تكن تلك المعجزات السابقة على الإسلام الذى جاء به النبى صلى اللّه عليه و سلم وافية بحاجات الإنسان، و لا مثيرة لمواهبه كلها، فقد كانت معجزة موسى من جنس السحر الذى اعتقده قومه عاملا من عوامل حمايتهم من الغوائل فى الأمور الشخصية و السياسية على السواء، و لذلك كان سبب فزعهم: أن يخرجهم موسى من أرضهم بسحره، و يذهب بطريقتهم المثلى التى اختاروها لإسباغ مظهر القوة و الهيبة عليهم و على مملكتهم.

و أبطل موسى فريتهم فى اعتقادهم السحر حارسا للحدود السياسية، و مصدرا من مصادر القوة الشخصية. و زودهم بأسفار و شرائع كانت صالحة لعصر موسى الذى بعث فيه

__________________________________________________

(1) سورة المزمل: 4.

(2) سورة الإسراء: 78.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 7

و مكانه و جنسه لا غيره، و كانت العنصرية المتشددة التى عامل اليهود بها شريعة موسى، و اعتقادهم فى أنفسهم أنهم الشعب المختار، و السور الشامخ الذى أحاطوا به أنفسهم بحيث لا يعترفون بمؤمن من غير عنصرهم دليلا على صحة هذه النظرة.

و كانت معجزة المسيح من جنس الطب الذى يعنى بصحة الأجسام وحدها، و لم يرثه فيها وارث من بعده، لا من حوارييه و لا من بنى إسرائيل فى أى مكان، بل إنها توارت مع رفع المسيح، و بطلت فاعليتها، و استمسك بنو إسرائيل بعالم الوهم فأسبغوا على أحبارهم و رهبانهم خصائص اللّه تعالى محاولين أن يتشبثوا بأذيال البقاء تحت لواء شريعة منسوخة، و من هنا فقدوا سمة الصيانة لوحى اللّه عن أهواء النفس، و شطط العقل، فلم تعد شريعتهم صالحة لقيادة العالم و لا لإصلاح الخلل المتمكّن فى قلوبهم.

ثالثا: اتجه القرآن الكريم إلى بناء شخصية جديدة لإنسان حضارة الإسلام تتميز بالعمل و الفدائية و القوامة على الأجيال.

لم يكن القرآن معجزة تهيئ لأتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم أن يعملوا فى الدنيا على مقتضى الخوارق دون عمل إيجابى من جانبهم كما صنع اللّه لنبيه موسى حين شق البحر له و لقومه، و أغرق لهم عدوهم- فرعون و ملأه- بل كان القرآن يعمل على بعث القوة المعنوية فى داخل الإنسان المسلم، و يزود المجتمع بالتشريعات التى تجعل منه قوة لا يقهرها غالب من بنى الإنسان إن هو أحكم سلوكه على هداه. و أعلن اللّه تعالى أنه لو شاء لانتصر للمسلمين من عدوهم: وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ «1». أى: أن

الإسلام و القرآن جاءا ليؤكدا القيمة

__________________________________________________

(1) سورة محمد: 4.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 8

العملية للبشر الموصول بحبل اللّه المتين، من حيث كان الإنسان المؤمن مسيرا بمحض الإرادة الإلهية فى الشرائع السابقة على الإسلام فى موضوع الجهاد فى سبيل اللّه.

و لهذا لم يكن القرآن علاجا للجسد فحسب، بل كان حياة للنفوس و كاشفا عن مواهب المؤمنين، و سجلّا جامعا للشرائع النابعة من فطرة اللّه فى الإنسان حيثما كان و أينما وجد، و دام القرآن بعد النبى محمد صلى اللّه عليه و سلم بنفس القوة و الفاعلية و الصيانة من العبث، و غزا جوانب الفكر العالمى كله، و خضعت له الهامات الشامخة متصاغرة أمام جلاله و عظمته و سيادته الروحية و الفكرية جميعا، فكان شاملا، و كان باقيا، و كان حياة للروح من حيث يبلى الجسد، لا سيما و أن وعد اللّه بحفظ القرآن من عبث الهوى و شطط العقل قد تحقق بطريقة منهجية عجيبة على يد أبى بكر، إذ كوّن لجنة من كبار الحفّاظ حقّقت النص المخطوط الذى دوّنه كتّاب الوحى فى حياة الرسول صلى اللّه عليه و سلم للقرآن، ثم أعيد تحقيق المخطوطات القرآنية المتداولة فى الأمصار مرة أخرى على عهد عثمان، و اتفقت الكلمة على تدوينه بلهجة قريش، و إلغاء ما دوّن منه بلهجات أخرى، لئلا يختلف المسلمون فى المعانى لاختلاف اللهجة فى مستقبل الزمان البعيد.

رابعا: و من وجهة المنزلة الخاصة للأنبياء و التى تتبع رسالاتهم و معجزاتهم فقد كانت منزلة النبى محمد صلى اللّه عليه و سلم

فوق كل المنازل. فلئن كان موسى كليما فقد صعق حين تجلّى ربه للجبل، و قرب اللّه رسوله محمدا صلى اللّه عليه و سلم للنجوى ليلة المعراج دون أن يصعق، و لئن كان المسيح أحيا الأجساد فقد أحيا النبى صلى اللّه عليه و سلم بالقرآن موات النفوس. و هدى حائر العقول، و لئن سخر اللّه الريح لسليمان فقد اخترق محمد صلى اللّه عليه و سلم السبع الطباق، و لئن

أسرار التكرار في القرآن، ص: 9

انشق البحر لموسى فقد عبر القرآن المحيطات، و اجتاز الوعر و السهل.

تلك عظمة القرآن، و تلك مكانته العالمية التابعة لمكانته عند اللّه، و من ثم تكون مكانة العالمين على خدمته، الدائبين على الكشف عن أسراره و دلائل إعجازه، و كنوز عظمته، فمن هذا الكشف يكون استمساك اتباع القرآن به، و يكون إصرارهم على العمل بمقتضاه، و يكون لهم من قوة الإيمان ما يؤهلهم للمهمة التى كلفهم اللّه تعالى به: أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، و أن يأمروا بالمعروف و ينهوا عن المنكر على المستوى المحلى و العالمى على السواء.

فالقرآن هو الذى بقى من الكتب السماوية منضبطا فى صورته، واضحا فى معالمه، غالبا كل الغلبة على محاولات التزييف فى الشكل أو المعنى رغم الجهود المضنية التى بذلت فى هذا السبيل، أثيرا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه الذين أخذوه مأخذ الحفظ و العلم و العمل، فأحاطوه بقلوبهم وجدانا، و بعقولهم فهما و درسا، و أقاموا على صراطه أنفسهم، و دعوا الناس جميعا إلى اللّه

و إلى سبيل اللّه على بصيرة و علم و هدى.

و لقد أراد اللّه تعالى أن يبقى القرآن وثيقا كل الوثاقة فى نصوصه، و سلوك الصحابة على صراطه، لأنه منهاج دعوة و دستور حياة للفرد و الدولة جميعا. فهو منهاج دعوة من حيث نزوله على مدى عشرين عاما من الزمان على مقتضى الظروف و الأحوال التى يقتضيها بناء أمة قرآنية مجاهدة مظفرة، ترتفع من حضيض الشرك و الفوضى و الإثم إلى قمة الإيمان و النظام و طهارة القلب و اليد و الجسد، و لم يكن بناء هذه الأمة على هذه الصورة إلّا ثمرة للقدوة السلوكية و الدعوة مجتمعين.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 10

و ذلك أن العبادة قد فرضت على الجميع بما فيها من فعل و ترك لإبقاء الإيمان فى القلوب على درجة من القوة و الفاعلية ترفع طلائع الإسلام إلى الدعوة بالقول و العمل. فالعبادة فى الحقيقة وسيلة تربية و إعداد و بناء لإنسان الحضارة القرآنية، فمن أقام عليها دون أن يدعو إلى اللّه و إلى سبيله فمثله كمثل من أعد أرضا للزرع، و هيأها للإنتاج، ثم نام على ثراها لا يفيد نفسه و لا غيره من ثمارها، و هو انحراف عن السنن المشروع الذى علّمه الرسول صلى اللّه عليه و سلم لأصحابه فى صدر الدعوة، ثم بدت نذر (التقوقع) و الانزواء فى عصر التابعين و فى حياة المعمرين من الصحابة أنفسهم. و من أمثلة ذلك ما روى الشعبى: «أن رجالا خرجوا من الكوفة، و نزلوا قريبا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد

اللّه بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم:

ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد، فقال عبد اللّه: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم، فمن كان يقاتل العدو؟! و ما أنا ببارح حتى ترجعوا».

هذا هو فقه القرآن كما علمه ابن مسعود من تعاليم الرسول صلى اللّه عليه و سلم، و من تجربة مماثلة حاول القيام بها عثمان بن مظعون الصحابى هو و جماعة من أصحابه فنهاهم الرسول صلى اللّه عليه و سلم، و أنار لهم طريق القرآن الحق.

لن يكون الإنسان المسلم التابع للقرآن عاملا بأمر ربه إلّا إذا عبده، و دعا إليه و إلى دينه و كتابه. هكذا أرسل اللّه رسوله صلى اللّه عليه و سلم وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً «1»، و هكذا أثنى القرآن على الدعاة وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ «2»، بل إن الإمام الشاطبى لم يجعل من قاعدة فرض الكفاية فى

__________________________________________________

(1) سورة الأحزاب: 46.

(2) سورة فصلت: 33.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 11

الدعوة ذريعة إلى قعود الباقين عنها إذا أقامها البعض حين قال فى موافقاته: «القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة، فبعضهم قادر عليها مباشرة، و ذلك من كان أهلا لها، و الباقون و إن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، و من لا يقدر عليها مطلوب بإقامة القادر و إجباره على القيام بها، إذ لا يتوصل إلى

القيام إلّا بالإقامة، من باب «ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب».

و إذا كانت تجزئة القرآن فى النزول على أكثر من عشرين عاما كافية لدراسة منهج الدعوة القرآنية من خلال هذا المنهج النزولى لإنشاء أمة مؤمنة لم تكن مؤمنة من قبل، فإن جمع القرآن فى المصحف على ترتيب آخر غير ترتيب النزول بأمر الوحى هو دستور حياة الأمة التى استجابت و آمنت بالفعل، و منهاج دعوة فى أوساط تلك الأمة التى قامت دعائمها بالفعل على أساس من الإسلام. و من تأمل فى ترتيب النزول و ترتيب المصحف أذهله العجب من تلك الدقة البالغة فى كلا المنهجين، و هو الأمر الذى سوف نحاوله إن شاء اللّه فى الدراسة المقدمة لكتاب (أسرار ترتيب القرآن).

و لكن هذه الإشارة العابرة، و ما سوف نكتبه إن شاء اللّه، ما هو إلّا ضوء قليل على الطريق، نرجو أن يواصله القادرون من المؤمنين، و يتعهدوه بالدرس و البحث و النشر لخدمة القرآن الذى لم تكشف كل أسراره بعد.

الدراسات القرآنية و أهميتها:

الدراسات القرآنية و أهميتها:

لقد أجاد الباحثون فى أرجاء القرآن فيما عدا الباحثين عن إعجازه فإنهم لم يصلوا إلى مقطع الصواب فى هذا المضمار.

لقد أجاد اللغويون بحث القرآن من وجوه العربية إجادة

أسرار التكرار في القرآن، ص: 12

ممثلة فى تفسير أبى السعود العمادى، و أثير الدين أبى حيان، و جار اللّه الزمخشرى، و أجاد الباحثون فى الأحكام إجادة ممثّلة فى تفسير القرطبى و شيخه ابن عطية، و المتخصصون فى أحكام القرآن كابن العربى و الجصاص و الكيا الهراسى (و لا

زال كتابه مخطوطا). و أجاد الباحثون فى أخبار القرآن و سننه النبوية، و كان رائدهم فى هذا الباب ابن جرير الطبرى فى تفسيره و حيدر بن على القاشى فى المعتمد (و لا زال مخطوطا) كما أسهم علماء الفلسفة و الكلام فى فهم القرآن من وجهة نظرهم فهما ممثلا فى تفسير فخر الدين الرازى، و أدلى الصوفية بدلائهم أيضا، فكان تفسير القشيرى و حقائق التفسير للسلمى. و روح البيان للشيخ إسماعيل حقى و إعجاز البيان للقونوى، و تفسير النخجوانى.

و هكذا الشأن فى جميع العلوم و الفنون ما عدا إعجاز القرآن. فإن العلماء قصّروا فيه، و إن كانوا قد بذلوا كل جهودهم للكشف عنه.

و لقد حاول أبو السعود العمّادى، و أثير الدين أبو حيان، و جار اللّه الزمخشرى الكشف عن بعض جوانب الإعجاز فى القرآن المناسبة لمن نزل عليهم القرآن من فصحاء العرب- إذ هم المقصودون أولا بالإعجاز- فوفّقوا فى حالات معدودة، ثم تكلموا عن عظمة الأساليب القرآنية من وجوه غير وجوه الإعجاز فى باقيها، و إنما من وجوه البلاغة التقليدية. و مع ذلك فإننا نرى بريقا من نور الفهم لدى أبى السعود العمادى دون أن يطبقه على تفسيره كله و ذلك حين يقول: «إن جميع المقالات المنقولة فى القرآن الكريم إنما تحكى بكيفيات و اعتبارات لا يكاد يقدر على مراعاتها من تكلم بها حتما،

أسرار التكرار في القرآن، ص: 13

و إلّا لأمكن صدور الكلام المعجز عن البشر».

فالدقة فى مراعاة تلك الكيفيات و الاعتبارات بحيث لا يشذ منها اعتبار واحد، و لا كيفية

واحدة هو مقطع الحق فى مسألة الإعجاز دون مراء.

و تلك الاعتبارات و الكيفيات قد تكون ذات جوانب مختلفة: أسلوبية و هى موسيقى اللغة و وقعها المتهادى على مناط الذوق من كل نفس، فيكون منه حبور و ارتياح لا نجد له نظيرا فى أسلوب آخر لا تراعى فيه تلك الكيفيات و قد تكون نفسيّة تتصل بحركات النفس و انفعالاتها، و قد تكون من باب التشريع و التقنين و غير ذلك من الاعتبارات و لكن المهم هو استقصاء القرآن لإثبات أنه أسلوب لم يشذ مرة واحدة عن مراعاة أدق الكيفيات و الاعتبارات، و من هنا يخرج عن نطاق الكلام البشرى، و ذلك الكلام الذى لا يوجد منه أنموذج واحد فيه هنات من إغفال اعتبار، أو إهمال كيفية.

و هذا المقياس من مقاييس الإعجاز هو المقياس الذى لا تختلف فيه الطوائف. فمقياس علم البيان مما تختلف فيه الأذواق، و مقياس التشريع مما تختلف فيه الأجناس بالطواعية و العناد، اللهم إلّا هذا المقياس الذى أشرنا إليه و الذى يستبطن مقياس الموسيقى اللغوية، فهو ما تتفق فيه الآراء و لا تقوى أعتى الطبائع عنادا على إنكاره و عدم الاستجابة لجمال البيان فى أطوائه.

لقد أنكر كفار مكة مميزات القرآن، و لكن أثره فى الذوق هو الذى جعل الوليد يعلن على الملأ: «إن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمونق، و إن أسفله لمغدق، و ما هو بقول البشر».

أسرار التكرار في القرآن، ص: 14

فهل كان إحساس الوليد هذا نابعا من عظمة التشريع أو من جودة

التشبيه أو نضرة الاستعارة؟ لم يكن شى ء من هذا هو مصدر إعجاب العرب ممثلا فى الوليد، بل هو الذوق الذى لا ينتشى إلّا من مراعاة الملابسات و الكيفيات و الاعتبارات التى سنتحدث عنها عند الحديث عن كتاب البرهان أو أسرار التكرار فى القرآن «كما أطلقنا عليه».

على أن هذا الباب ليس هو الباب الوحيد الذى يلوح منه إعجاز القرآن، فهناك إعجاز الترتيب الذى يجده القارئ مفصلا إن شاء اللّه فى الدراسة المقدمة لكتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطى، و هناك إعجاز العقول البشرية كلها فى تاريخها الغابر و اللاحق بصلاحية القرآن وحده للقيادة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية فى جميع البيئات، و ضلال الفكر الإنسانى المجرد فى هذا الصدد، و هناك إعجاز القرآن من حيث هو الفطرة التى لا تتبدل، و التى يقاس بها الفكر البشرى للتعرف على الخطأ و الصواب، إلى غير ذلك من نواحى الإعجاز التى يصعب حصرها فى هذه العجالة.

و إذا تفجرت القوة من مظنة الضعف كان ذلك أدخل فى باب الإعجاز، و أعلى كعبا فى باب البلاغة و التحدى، و لا نعلم مظنة للضعف أظهر من التكرار و هو الباب الذى حاوله الكرمانى تاج القراء فى «كتابه البرهان» فأجاد بحق و أفاد.

أقول: إن العصر بحمد اللّه عصر قد أقبل فيه الإيمان و أدبرت فلول إلحاد كانت قد تسللت كما تتسلل الجرذان بين الخرائب و أكداس القمامة لا يحلو لها إلّا أن تسكن العفن من العقول و تستمكن إلّا من دنس الطباع، و قد أراد اللّه تعالى أن يتفجر نور الإيمان من جديد فى أرجاء أرض الإسلام، و لكن

أسرار التكرار في القرآن، ص: 15

شبابنا لا زالوا فى حيرة بين نداءات الإيمان الرزينة العميقة، و بين عويل تلك الفلول المندحرة من قنافذ الإلحاد و قد لجأت إلى استثارة الرحمة و اصطناع خلائق اللؤم و توسلات الضعف.

و كان لزاما على كل مخلص لدينه، مكين الإيمان برسوله و بكتابه المبين: أن يسهم بقبس من نور القرآن يشعله أعقاب تلك الفتنة المدمرة التى أرادت بالمسلمين السوء، ليكون نورها قبس إيمان فى قلوب الشباب. و بصيرة يقين فى أفئدة الشيوخ، و نار هلاك لتلك الطفيليات التافهة، و هو الأمر الذى اعتزمته بحول اللّه و قوته فى مجموعة من الدراسات القرآنية الواعية أبدأها بكتاب البرهان، و أثنيها إن شاء اللّه بكتاب «تناسق الدرر» لجلال الدين السيوطى، و بما شاء اللّه مما نعثر عليه بين خزائن المخطوطات.

تاج القراء الكرمانى و كتابه «البرهان»:

تاج القراء الكرمانى و كتابه «البرهان»:

الكرمانى هذا ليس هو الكرمانى شارح صحيح البخارى، و إنما هو تاج القراء محمود بن حمزة بن نصر أبو القاسم برهان الدين الكرمانى، و لم يترجم له سوى ياقوت فى معجم الأدباء (19/ 125) و قال عنه: أحد العلماء الفهماء النبلاء، صاحب التصانيف و الفضل، كان عجبا فى دقة الفهم و حسن الاستنباط، لم يفارق وطنه و لم يرحل، و كان فى حدود الخمسمائة، و توفى بعدها، صنف لباب التفسير و عجائب التأويل (و قد أشار إليه السيوطى ناقلا عنه رأيا فى تناسق توالى الحواميم و ذلك فى كتابه تناسق الدرر)، و الإعجاز فى النحو، و النظامى فى النحو، و الإشارة و العنوان فى النحو، و غير ذلك: ثم ساق له نموذجا من شعره فى النحو على غرار ألفية

ابن مالك.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 16

و قد نقل هذه الترجمة بحروفها صاحب بغية الوعاة، و أنباء الرواة، و الجزرى فى طبقات القراء و الذهبى فى طبقات القراء أيضا، و الداوديّ فى طبقات المفسرين و شيخه السيوطى فى طبقات المفسرين أيضا، و لم يزيدوا عليها شيئا، و هو مظهر غريب بالنسبة لرجل له مؤلفات فى النحو و التفسير، و له مشاركة فى علوم أخرى تبدو من كتابه «البرهان».

و يبدو أن ملازمته لوطنه «كرمان» و عدم رحلته فى طلب العلم لم يدع له شهرة بين مؤلفى الطبقات حتى جهلت سنة ميلاده و سنة وفاته، و كل ما عرف عن حياته أنه كان فى حدود الخمسمائة و توفى بعدها (و أرخ الزركلى صاحب الأعلام تاريخ وفاته نحو 505 ه الموافق 1110 م) «1»، و لا نجد فى كتابه إشارة إلى شيخ من شيوخه يمكن استنباط عمره منها، و الظاهر أنه كان عصاميّا فى العلم، تتلمذ على ما وصله من الكتب، و اعتمد على ذكائه الذى وصفه ياقوت بأنه كان عجبا، فربما لقيه ياقوت و ربما لم يلقه، و لكن مؤلفاته تنم حقّا عن ذكائه.

و المؤكد أن تاج القراء كان يعيش فى آخر القرن الخامس و أول السادس، و إن كنا نرجح أنه عاش فى النصف الثانى من القرن السادس.

و هو زمن كانت قد تدهورت فيه دولة بنى العباس، فلم يبق لها إلّا صورة هزيلة احتوتها الخلافة الفاطمية بمصر و الشام و المغرب، و كان هناك فى ذلك الزمان نشاط واسع النطاق للقرامطة

و المغول و الباطنية و غيرهم من أرباب النحل الهدامة، و كان استمساك هذا الرجل بتقاليد الدراسة الإسلامية الخالية من الانحراف، و التى تهدف إلى البناء بين معاول الهدم دليلا

__________________________________________________

(1) من إضافات المراجع.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 17

على سلامة عقيدته و قوته فى دينه، و استقامة سبيله.

و قد نقل قليلا من مسائل كتابه عن أبى مسلم محمد بن على بن الحسين بن مهرايزد النحوى الأصبهانى الأديب الذى ألف تفسيرا فى عشرين مجلدا، و الذى نقله بدوره عن الخطيب الإسكافى و كان له تفسير فى مجلد يبحث فى نفس الموضوع، و لكن الكرمانى لم يقف عليه إلّا من خلال أبى مسلم. و تفسير أبى مسلم مع تفسير الكرمانى الذى سماه «لباب التفسير و عجائب التأويل» (المخطوط فى شستربتى تحت رقم (4147) و طبع تحت عنوان: «العجائب و الغرائب» فى عشر مجلدات) «1» كما نقل رأيا واحدا لنحوى آخر فى التفسير هو قاسم بن حبيب، و معلوماتنا عنه قليلة جدّا، إذا لم يترجم له إلا فى أنباء الرواة فى سطر واحد، و نقل رأيا أخر لعلى بن عيسى الرمانى النحوى المعروف، و هذا كل ما ذكره عن العلماء الذين استفاد منهم فى كتابه هذا ...

و رغم أن مسائله عن غيره لا تعدو بضع مسائل فقد عقب عليها برأيه الشخصى و لم يكتف بها، و لم يقف على كتاب أبى جعفر بن الزبير فى الموضوع، و الذى توجد منه نسخة خطية بمعهد إحياء المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية بالقاهرة.

(و إحقاقا للحق

فإن هذا الرجل محمود بن حمزة الكرمانى عالم جليل بالقراءات، و لكنه نقل فى التفسير آراء مستنكرة، فى معرض التحذير منها كان الأولى إهمالها، و ذلك فى كتابه «لباب التفسير» و هو الكتاب المعروف ب «العجائب و الغرائب» قال السيوطى عن هذه الآراء: «لا يحل الاعتماد عليها و لا ذكرها إلّا للتحذير منها» «2» من ذلك أنه نقل قول

__________________________________________________

(1) حيث إن المحقق ذكر أن الكتاب مفقود و لم يجده و لكن إحقاقا للعلم أثبتنا أنه منشور (المراجع).

(2) الإتقان فى علوم القرآن، السيوطى 2/ 221.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 18

«أبى مسلم» فى «حم عسق»: إن، الحاء حرب على و معاوية. و الميم: ولاية المروانية، و العين: ولاية العباسية، و السين: ولاية السفيانية، و القاف: قدرة مهدى.

و قال الكرمانى معقّبا على ذلك: «أردت بذلك أن يعلم أن فيمن يدّعى العلم حمقى»! و من هذه الآراء المستنكرة نقله قول من قال فى «الم»:

«معنى ألف: ألف اللّه محمدا فبعثه نبيّا، و معنى لام: لامه الجاحدون و أنكروه، و معنى ميم: الجاحدون المنكرون، من الموم، و هو البرسام «1»»، و ثمة ترهات أخرى فى تفسير نقل السيوطى بعضها، و نقل طاشكبرى «2» بعضا آخر، و استنكرا إيراده لها) «3».

كتب للمؤلف «محمود بن حمزة الكرمانى» «4»:

كتب للمؤلف «محمود بن حمزة الكرمانى» «4»:

1- لباب التفسير و عجائب التأويل «مخطوط» فى شستربتى برقم 4147 و هو المعروف بكتاب «العجائب و الغرائب» فى عشر مجلدات.

2- خط المصاحف.

3- لباب التأويل.

4- البرهان فى توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة و البيان

«و هو الكتاب الذى بين يديك الآن» بعنوان: (أسرار التكرار فى القرآن).

__________________________________________________

(1) البرسام: ذات الجنب، و هو التهاب فى الغشاء المحيط بالرئة.

(2) مفتاح السعادة، طاشكبرى زاده 1/ 421.

(3) هذه الفقرات من إضافات المراجع بداية من قوله: و إحقاقا للحق. و ذلك لإعلام القارئ بما فى الكتاب (المراجع).

(4) هذا العنوان و ما تحته من إضافات المراجع (المراجع).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 19

5- شرح اللّمع لابن جنى.

6- اختصار اللمع لابن جنى.

7- «الإيجاز» مختصر الإيضاح للفارسى.

قيمة الكتاب:

قيمة الكتاب:

ذكر السيوطى كتاب البرهان فى كتابه الإتقان، و استدل بما فيه على أن القرآن بترتيبه فى المصحف هو بترتيبه فى اللوح المحفوظ، و ساق بعض أدلة الكرمانى على هذا القول.

كما أن أحد العلماء المتأخرين و هو على بن عطية الأجهورى المصرى وقع على الكتاب فاستبطنه فى كتاب «إرشاد الرحمن فى أسباب النزول و الناسخ و المنسوخ و المتشابه و تجويد القرآن» إذ أنه اختار من كل فن من فنون كتابه كتابا نجمه على سور القرآن، فساق فى كل سورة منه جزءا من الكتاب الذى اختاره، و لكنه أجل كتاب التجويد للبقرى، فساقه مجموعا فى آخر كتابه الذى لا زال مخطوطا، و قد اقتبسه العلامة الشيخ زكريا الأنصارى و ضمّ إليه مقتطفات من الأنموذج الجليل فى غرائب التنزيل للرازى و جمعها فى كتاب سماه: «فتح الرحمن». و كلها لا زالت مخطوطة، و قد ذكره أيضا أحد علماء الحنابلة الذين عاشوا فى مصر هو مرعى بن يوسف الحنبلى، و نقل عن كتابه هذا رأيه فى

الفرق بين العلم و الفقه و العالم و الفقيه، و ذلك فى كتابه المخطوط «تنوير بصائر المقلدين بمناقب الأئمة المجتهدين».

فالكتاب معروف إذن بين العلماء القدامى، و لكنه لم يتداول فى عصرنا و لم تنهض إليه يد لإخراجه لسبب واحد فيما نرى، هو العنوان الذى اختاره للكتاب، إذ سماه:

أسرار التكرار في القرآن، ص: 20

«البرهان فى توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة و البيان» فأغمض المشتغلون بالنشر عنه عيونهم إذ ظنوه فى المتشابه بمعنى:

الموهم، أو الغامض، و لم يفطنوا إلى أنه فى المتشابه بمعنى:

المتماثل، و هو مكررات القرآن كما أوضح مؤلفه فى مقدمته.

و قبل أن أعتزم إخراج الكتاب إلى النور راجعت كثيرا من كتب التفسير التى عنيت بالمقارنة و البحث كإرشاد العقل السليم لأبى السعود، و الكشاف للزمخشرى، و البحر المحيط لأبى حيان، و الدر اللقيط لتلميذه، و تفسير القرطبى، و تفسير الخازن، و متشابه القرآن للقاضى عبد الجبار، و العقد الجميل لآغا باشا و غيرها خشية أن يكون الكرمانى قد نقل مسألة من هنا و مسألة من هناك و لفق من نقوله كتابا كما يفعل الكثيرون، فلم أجد ما يشير إلى هذا الظن من قريب أو من بعيد.

لقد وجدت أن بعض المفسرين كأبى السعود و أبى حيان تعرضوا فى قليل من المواضع للحديث عن المكرر، و لكنهم عالجوه بمنهج آخر غير الذى لجأ إليه الكرمانى، و إن كان فى قليل منها تفوق على تعليلات الكرمانى، و قد أشرت إلى هذه الآراء فى هوامش الكتاب.

و قد تأكد لدى أن الكرمانى

مستقل بكتابه، معول على فكره و استنباطه هو، صادق فيما قال فى مقدمته من: أن الأئمة قد اقتصروا على تصنيف المكررات و لم يشتغلوا بذكر وجوهها و عللها، و الفرق بين الآية و مثلها هو المشكل الذى لا يقوم بأعبائه إلّا من وفقه اللّه لأدائه.

و لا نعلم إلى الآن كتابا مطبوعا عالج هذا الباب من الدراسة القرآنية مستقصيا و مستقلّا، إلّا كتاب الإسكافى «درة

أسرار التكرار في القرآن، ص: 21

التنزيل، و غرة التأويل» و قد أطال القول فيه، و غمض مقصده، و أغفل كثيرا من مواضيع التكرار، و إلّا «درة التنزيل» للرازى و هو مطبوع بمصر مختصرا غير واف بالغرض، و إلّا متفرقات هنا و هناك فى بطون الكتب، أو جانب واحد من جوانب التكرار الكلى كالقصص، أما جزئيات التكرار و استقصائها فى القرآن على الوجه الذى سلكه الكرمانى فى البرهان من الإيجاز و الوضوح فلا نجده، و لذلك يعتبر هذا الكتاب هو الأول من نوعه و بابه فى المكتبة الإسلامية، و تلك أولى دلائل أهميته.

منهج الكتاب «1»:

منهج الكتاب «1»:

لقد حدد الكرمانى منهجه فى كتابه حين قال:

«هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التى تكررت فى القرآن و ألفاظها متفقة، لكن وقع فى بعضها زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف، أو غير ذلك مما يوجب اختلافا بين الآيتين أو الآيات التى تكررت من غير زيادة و لا نقصان، و أبين ما السبب فى تكرارها، و الفائدة فى إعادتها، و ما الموجب للزيادة و النقصان، و التقديم

و التأخير و الإبدال، و ما الحكمة فى تخصيص الآية بذلك دون الأخرى، و هل كان يصلح ما فى هذه السورة مكان ما فى السورة التى تشاكلها أم لا؟ ليجرى ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها و تمتاز بها عن إشكالها.

فقد يرد فى القرآن كثيرا أمثال قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا- أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا- إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ- إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ-

__________________________________________________

(1) العنوان من عندنا للتوضيح (المراجع).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 22

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ- كذلك نطبع- ... إلى أمثال ذلك».

و لقد بلغت هذه المكررات قمة الإعجاز، بحيث يمكن اعتبارها من علامات التنبيه على الإعجاز الذى لا يدرك إلّا بعمق الفهم و الفقه و التذكر فى كل سورة من سور القرآن، حتى يدرك الإنسان المستوى الواجب من يقظة العقل و التدبر حين يقرأ القرآن، إما لاكتشاف آفاق أخرى من آفاق إعجازه التى لا تنتهى، و أما ما أدركه الأولون و استيعابه، حتى تؤتى القراءة ثمارها من ذلك الكتاب المبارك المبين، و تلك هى الأهمية الأخرى للكتاب.

و لقد نبّه الكرمانى على بعض مسائله بأنها براهين لإعجاز القرآن، و منها قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ «1» فى سورة الأنعام، و قوله تعالى:

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فى سورتى الروم «2» و يونس «3».

و ما ذلك إلّا لأن ما فى الأنعام وقع بين أسماء الفاعلين و هو فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى - فالِقُ الْإِصْباحِ و اسم الفاعل يشبه الاسم من وجه، فيدخله الألف و اللام و التنوين

و الجر و غير ذلك، و يشبه الفعل من وجه فيعمل، و لا يثنى و لا يجمع إذا عمل و لهذا جاز العطف عليه بالفعل نحو قوله: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ ... وَ أَقْرَضُوا و بالاسم نحو قوله: أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ.

فلهذا وقع بينهما يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ بلفظ الفعل و مُخْرِجُ الْمَيِّتِ لفظ الاسم عملا بالشبهين، و أخّر لفظ الاسم لأن الواقع بعده اسمان و المتقدم اسم واحد بخلاف

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام: 95.

(2) سورة الروم: 19.

(3) سورة يونس: 31.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 23

ما فى سورتى الروم و يونس، لأن ما قبله و ما بعده أفعال، فتأمل فيه فإنه من معجزات القرآن.

و بمثل هذا الوعى العميق سار الكرمانى فى كتابه ممّا يجعله أوفى كتاب بحث إعجاز الأسلوب القرآنى، إذ درج المؤلفون على تلمسه فى كلمة أو تعبير مفرد مقطوع عما قبله و ما بعده، أما استيعاب الأسلوب و النظر إلى القرآن فى وحدة متكاملة فهو الجديد فى هذا الكتاب، و ما ذلك إلّا لأن هذه الملاحظة تعطينا الفهم الحقيقى لحكمة منزل القرآن سبحانه و تعالى فى رعاية كل الاعتبارات و الهيئات مما لا يتسنى لبشر على الإطلاق.

منهج التحقيق:

منهج التحقيق:

يوجد من الكتاب أربع نسخ خطية أرقامها 156، 149، 117 مجاميع، 121 علوم قرآن بالمكتبة الأزهرية منها نسختان أختان لأن رقم 149 منسوخة من رقم 117 نظرا لما أصاب الثانية من الأرضة، و الثانية رقم 156 حديثة الكتابة مشوهة الخط يبدو أن ناسخها لم يكن له دراية بالعلم فحرّف جلّها،

و أفسد معانيها، و لذلك اعتمدنا على النسختين رقم 149، 121 و قمنا بالعمل على الوجه التالى:

1- نسخ النسخة الأم 149 و الاستعانة بالثانية و إثبات الفروق.

2- أحيانا كانت تجمع النسختان على خطأ فكنا نحاول إصلاحه من السياق و قد نبّهت على ذلك فى الهامش.

3- مراجعة جميع الآيات القرآنية الواردة فى الأصول، إذ أن فيها تحريفا واضحا، فصحّحناها و أثبتنا أرقامها.

4- إرجاع المسائل إلى أصولها من الكتب المعتمدة

أسرار التكرار في القرآن، ص: 24

و التأكد منها لا سيما القراءات و الأخبار ما وجدت إلى ذلك السبيل.

5- تخريج الأخبار و الأحاديث و التعريف بالأعلام الواردة فى الكتاب.

6- أضفت كلمات أحيانا إما فى آيات القرآن متى ذكرها المؤلف مبتورة، و إما فى صلب كلامه لتوضيح المعنى و جعلتها بين علامتين هكذا [].

7- قمت بترقيم الآيات التى تعرض لها المؤلف بالبحث حتى يسهل الرجوع إليها.

8- قمت بعمل الفهارس التى تسهل البحث فى الكتاب فهرسا للآيات القرآنية، و فهرسا للأعلام، و الفرق، و الأحاديث، و أقوال الصحابة، و الأمثال، و الأشعار «1».

9- ما سقط من إحدى النسخ نبهت عليه بوضعه بين () و لم أثبت من الفروق ما كان قليل القيمة كالنقط و غيرها، فأصبحت النسخ الأصلية مستندات من التراث كما هى، و لكنى أثبت الصحيح فى الصلب و أنزلت غيره إلى الهوامش.

و اللّه أسأل أن يجعله خالصا لوجهه و أن ينفع به المسلمين، و أن يكون بداية لحلقة من دراسات القرآن ينسخ على نهجها أهل الغيرة على كتاب اللّه و صلى اللّه على سيدنا

محمد و آله و صحبه و تابعيه ... إنه سميع قريب.

القاهرة عبد القادر أحمد عطا

__________________________________________________

(1) هذه الفهارس من إضافات المراجع (أحمد عبد التواب).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 25

دراسة فى إعجاز القرآن

ما هو الإعجاز و ما مقاصده؟

القرآن بيان و معجزة:

القرآن بيان و معجزة:

المعجزة: أمر خارق للعادة. مقرون بالتحدى، سالم عن المعارضة ..

فخرق العادة يعنى جريانه على غير ما ألف الناس .. و الاقتران بالتحدى يقصرها على الرسل المبلغين عن اللّه، إذ هو وحده الذى يملك قطع حجة الجاحدين و السلامة من المعارضة تعزل الشعوذة التى تبدو فى ظاهرها خرقا للعادة.

و قد اقتضت سنة اللّه فى خلقه أن يؤيد رسله بالآيات التى هى المعجزات بالمعنى الاصطلاحى فى مواجهة تحديات الجاحدين الذين ينكرون رسالات اللّه عنادا و استكبارا، تحت سلطان الترف و تسفل الإدراك من جهة، و من جهة أخرى لإمداد المؤمنين على مدى الزمن بطاقات من قوة اليقين، و نور البصيرة، و ثبات القلوب فى مواجهة التحديات المادية الهائلة التى يهاجم بها المعاندون المؤمنين فى ميدان الفكر و فى ميدان الحرب على السواء.

و ذلك أننا استقصينا التاريخ الدينى كله فما وجدنا الجاحدين إلّا المترفين المستكبرين الذين لصقوا بالتراب: و أعماهم الهوى عن الخضوع للحجة و البيان. و لا يستبعد أن يكون قد وقر فى قلوب هؤلاء الجاحدين المعاندين وميض من الاقتناع بصحة ما جاء به الرسل، و لكنهم فى سبيل الشهوات التى أحاطت بهم من كل جهاتهم، و غلّفت كل مشاعرهم فأطاحت بإنسانيتهم، جهروا بالنكران، و اصطنعوا له الحجة الساقطة، تماما كما هو حادث الآن فى أوساط الشيوعية اليهودية التى تهدد

العالم بالدمار فى سبيل إقامة المادية الإلحادية: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ

أسرار التكرار في القرآن، ص: 28

إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «1»، و الملأ الذين استكبروا و الذين أترفوا، هم أئمة العناد، و دعاة الجحود و الكفر فى كل ملة إلهية كما بيّن ذلك القرآن الكريم.

لم يكن البيان و الوضوح فى تبليغ الدعوة إذن كافيا لقطع الحجة الكافرة، و إقناع أنواع المدعوين إلى الشرائع على اختلاف أفهامهم و مداركهم و ميولهم و شواكلهم، بل إن البيان الواضح كاف لإقناع من رق حجاب الشهوة عن قلبه و بصيرته، و استعلى عقله على هدى نفسه دون سواه من غلاظ القلوب و الرقاب .. أما هؤلاء الغلاظ فلم يستجيبوا للبيان، و لم يتخاذلوا أمام الوعيد بالهلاك فى الدنيا و لا فى الآخرة، و لم تلن قلوبهم أمام دلائل الصدق الواضحة فى شخصيات رسل اللّه، فراحوا يطالبون رسلهم بآيات و دلائل تدل على أنهم صادقون فى البلاغ عن إله غير منظور و لا مدرك بالحواس، و لن تكون المطالبة بتلك الدلائل إلّا نوعا من التحدى الموجه للرسل أن يثبتوا للكفرة أن هناك شيئا وراء الحواس، أو قانونا علميّا يعمل فى الكون غير القوانين التى ألفوها من خلال السبب و النتيجة فى عالم المحسوس المادى الذى يمارسونه فى حياتهم.

و كانت ناقة صالح، و عصا موسى و بقية آياته التسع، و إحياء الموتى على يد عيسى- عليهم الصلاة و السلام- آيات مؤيدات لبيان اللسان و حجة العقل، و تحديا لأهل العناد

بأن قوة عظمى تحكم الكون غير قوة المادة، و بأن قانون السبب و النتيجة المحسوس و المألوف ليس إلّا أدنى مراتب السبب و النتيجة ظهورا للإنسان فى عالمه المادى الذى أمر أن يمارسه على هدى من الإيمان المطلق، حتى يستقيم العمران، و تتحقق خلافة الإنسان لربه الأعلى.

و لما لم تجد تلك الآيات و الدلائل الواضحة على سلطان اللّه تعالى

__________________________________________________

(1) سورة سبأ: 34.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 29

و ملكه المطلق للكون فى هداية هؤلاء المعاندين كانت مرحلة أخرى من مراحل الدعوة هى الوعيد بالخراب و الدمار و تدمير الحضارة القائمة حينما أضربوا صفحا عن الوعيد بالهلاك فى الآخرة .. و قد حدث ذلك بالفعل فى تاريخ الديانات، فكانت وسائل العمران هى بعينها وسائل الدمار و الخراب .. فالماء الذى جعله اللّه سببا للحياة و النماء كان طوفانا أغرق قوم نوح، و الرياح اللواقح المنظمة لوسيلة الرخاء من السحاب و المطر كانت عقيما، ما تذر من شى ء أتت عليه فى قوم هود (عاد) إلّا جعلته رميما، و تركتهم صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «1». و كان ميزان الجاذبية، و الوزن الحق لانسياب الكهربية اللذان قدرهما اللّه تقديرا يحفظ على الناس منافعهم، هما سبب الدمار ممثلا فى الصيحة، و الرجفة، و الخسف إلى غير ذلك مما لا تنكره وقائع التاريخ، و ما هو مسطور فى الكتاب المبين.

و لم يسفر ضياء الرسالة المحمدية الخاتمة إلّا و التراث الدينى مسطور فى الكتاب الكريم بأفصح بيان و أوضحه، بحيث لا يعجز عن إدراكه أقل الناس

فهما و وعيا، داعيا إلى أن: الكون غيب و شهادة، اللّه حاكم على الغيب و الشهادة، قادر على تدمير كل مشهود و محسوس كما هو قادر على بركته و نمائه و ازدهاره إذا كان هناك قبس من النور فى قلوب الناس يرقى بهم على التدبر و التأمل إلى الإيمان بكل مغيب عن المدارك من حقائق الوجود، و باللّه حاكما رحيما بالمؤمنين، قاهرا للجاحدين ..

و كانت كلمة قد سبقت من اللّه تعالى بألّا يكون خسف و لا رجف و لا مسخ، حتى تتحقق عالمية الرسالة على مدى الزمان على نور هذا البيان القرآنى الذى لم يفتر عن لفت الأنظار إلى التواريخ السابقة، و إلى الأمم ذات القوى الهائلة، و كيف انتهى بها العناد إلى الدمار و الهلاك هنا فى الدنيا قبل الآخرة.

__________________________________________________

(1) سورة الحاقة: 7.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 30

«لا إله إلّا اللّه»، هذه الكلمة هى خلاصة رسالات اللّه، محمد و جميع الرسل عباد اللّه. هذا هو الحجم الأصيل للمبلغين عن اللّه فى كل ملة، فلا كهنوت، و لا احتكار للدين باسم الوساطة، و لا سحر و لا شعوذة فى الدين و هى الأصول التى تدور حولها حقائق القرآن، لتثبيتها فى القلوب، و لإمدادها بطاقة من القوة و اليقين عن طريق التشريع بالأمر و النهى.

فما ذا كان موقف العرب و هم أئمة الفصاحة و البلاغة من هذه الحقائق الواضحة باللسان البليغ المبين؟

كان هذا البيان هدى لمن رقت حجب الغفلة عن قلوبهم فآمنوا، و كفر الكثيرون و عاندوا و هم

أرباب القلوب الغليظة المعتمة، و بدأت سلسلة من التحديات و طلبوا آية ربانية، أى معجزة بالمعنى الاصطلاحى تدل على صدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم فى دعواه. و أعلن اللّه تعالى أن آية محمد صلى اللّه عليه و سلم و معجزته لأهل العناد ما هى إلّا الكتاب المبين حيث يقول:

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «1».

أى: أنه قائم مقام المعجزات المادية التى أيد اللّه بها رسله السابقين.

و كان هذا البيان القرآنى حينما طلبوا تلك الآيات صراحة كما فى هذه الآية و حين قالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ «2».

القرآن إذن آية اللّه لرسوله صلى اللّه عليه و سلم بالمعنى اللغوى و الاصطلاحى لكلمة (آية) فهو البيان الواضح الجلى يدركه كل المخاطبين، و هو فى الوقت نفسه معجزة بيانية عظمى يمنح المعتدين مزيدا من النور، و يتحدى المعاندين أن يعارضوه بمثله، كما تحدى موسى سحر قومه بعصاه و عيسى طب عصره بإحياء الموتى، و آمن الكثير حينما تأملوا و تدبروا و عاينوا المعجزة بالقلوب .. فالإعجاز على أى حال هو وسيلة إيمان، و وسيلة

__________________________________________________

(1) سورة العنكبوت: 50- 51.

(2) سورة الأنبياء: 5.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 31

ضلال يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ «1».

من هنا كان وجه من وجوه عظمة القرآن، هو: أن يجمع بين البيان و الإعجاز، فلا

تكون الآية الدالة على صدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم منفصلة عن البيان كما كان ذلك فى رسالة موسى و عيسى، إذ كانت آيات موسى التسع، و إحياء المسيح للموتى شيئا منفصلا تماما عن صلب التوراة و الإنجيل .. أما القرآن فلمّا كان مصدقا للتوراة و الإنجيل و مهيمنا عليهما، و جامعا لحقائقهما، فقد اجتمع فى صلبه البلاغ المبين، و الإعجاز القائم مدى الدهر، و ما ذاك إلّا لأنه كتاب لم ينزل لهداية العرب خاصة، و إنما نزل لهداية البشرية كلها فى عصر الرسول صلى اللّه عليه و سلم و بعد عصره و إلى أن تقوم الساعة، فلو انفصلت آية صدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم عن نفس القرآن كما حدث فى الرسالات السابقة، فمن الذى كان يأتى الناس بهذه الآية التى هى المعجزة بمعناها الاصطلاحى الآن؟

يعنى: أنه إذا ارتاب قوم فى صدق النبى صلى اللّه عليه و سلم فى عصرنا الحاضر، فمن أين نأتى بالرسول صلى اللّه عليه و سلم ليطالبوه بمعجزة مادية تدل على صدقه؟

و لهذا كان القرآن نفسه بيانا و معجزة فى آن واحد، و لم تكن مادة إعجازه شيئا واحدا بحيث لا تلائم إلّا عصرا واحدا أو مجموعة من الأجيال بعينها، بل كانت مواد إعجازه كامنة فى أطوائه، و كلما تقدم المنكرون الجاحدون فى العلم المادى انكشف من وجوه إعجازه وجه يقمع ضلالات الكفر، و يهدى إليه الآلاف المؤلفة فى كل عصر، و هو ما نشهده الآن و قبل الآن، و ما ستشهده الأجيال بعد الآن بإذن اللّه.

و قد أشار الرسول صلى اللّه عليه و سلم إلى هذا المعنى فى حديث أخرجه البخارى عنه قال: «ما من الأنبياء نبى

إلّا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، و إنما كان الذى أوتيته و حيا أوحاه اللّه إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا».

قالوا فى معناه: إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 26.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 32

يشاهدها إلّا من حضرها، و معجزة القرآن باقية إلى يوم القيامة، و خرقه للعادة فى أسلوبه و بلاغته و إخباره بالمغيبات ثابت، فلا يمر عصر من الأعصار إلّا و يظهر فيه شى ء مما أخبر أنه سيكون، ليدل على صحة دعواه، و المعجزات كانت حسية تشاهد بالأبصار، و معجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه فيها أكثر، فما يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهديه، و ما يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرّا.

و من هنا كان استبطان القرآن للبيان و الإعجاز معا فى وقت واحد دليلا على صدقه و عالمية رسالته، و ذلك لأن الجاحد العريق فى الجحود لا يمكن أن يؤمن إلّا إذا صدمته خارقة تهدم مذهبه المادى المتأصل فى أعماقه و تهدده فى الوقت نفسه بخارقة مثلها تأتى على ما بناه من أمجاد مادية فى لمح البصر، و تلك هى سنة اللّه الماضية التى سجلها القرآن فى تواريخ الرسل، و لفت إليها أنظار الناس فى كل زمان فقال تعالى:

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا «1».

و لقد كان القرآن و ما يزال وافيا بحاجات البشر فى الإقناع و التحدى كلما فرح جيل بما عنده من العلم، و ما زال العلم يكشف من أسراره كل يوم عن جديد

يكشف عن أخطاء العلم فى أحدث نظرياته، فإنكار إعجازه- على هذا- يعتبر تآمرا على دعوة الإسلام، و عملا لئيما على انحسار امتدادها، و تجريدا له من سلاحه الهادف الذى زوّده اللّه تعالى به لا سيما بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه و سلم، بل و إنكارا لما هو واقع ملموس يشهد له العدو و الصديق معا، بل إن إسلام العلماء فى العصر الحديث ما كان إلّا على ضوء لون من هذا التحدى فى مختلف فروع المعرفة.

هل كان يمكن أن يؤمن العرب دون أن يذعنوا لإعجاز القرآن إلى جانب إذعانهم لوضوح البيان؟

__________________________________________________

(1) سورة غافر: 82، و محمد: 10.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 33

أقول: إن أئمة الكفر أنفسهم شعروا بسلطانه على القلوب- و هو القدر المتاح لهم لإدراك إعجازه البيانى- فقالوا لأتباعهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «1». و ذلك خوفا من سريان الروح التى شعر بها الوليد بن المغيرة حين قال: «إن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، و إنه ليعلو و لا يعلى عليه، و إنه ليحطم ما تحته». و هو نفس الإعجاز الذى أدرك منه عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- وجها يناسبه حينما سمع القرآن فى بيت أخته فتهاوى صرح الشرك من قلبه، و شمخ صرح الإيمان فى كيانه، إلى آخر ما هو معلوم لنا فى تاريخ دعوة الإسلام.

لقد صحح القرآن كثيرا من النظريات العلمية التى كانت سائدة فى عصر التنزيل، و سجّل فى مكان تلك النظريات

حقائق ثابتة لا تقبل التبديل و لا التغيير، فكان ذلك إلى جانب استعمال القرآن للحقائق الكونية فى الدعوة إلى الخالق الحكيم المبدع تحديا للعقل البشرى بإحقاق الحق مكان الباطل على يد رسول أمى ما كان يتلو كتابا و لا يخطّه بيمينه.

و صدق اللّه تعالى الذى تحدّى العالم كله فى كل العصور فى معرض الدلالة على وحدانيته و تفرده بالسلطان، و ذلك حينما قرر قيام دولة الإسلام على الأرض، و عجز كل القوى العالمية عن أن تقضى على مجدها فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «2»، و قال:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ «3». و مؤامرات العالم على الإسلام و صموده شامخا أمام المؤامرات، بل و اتساع سلطانه على القلوب أعظم دليل على اتساع مدى الإعجاز القرآنى إلى جانب إقناع البيان، و تجاوز

__________________________________________________

(1) سورة فصلت: 26.

(2) سورة النور: 55.

(3) سورة الأنفال: 36.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 34

هذا الإعجاز نطاق البلاغة و الفصاحة، و تصحيح النظريات العلمية، و التنبؤ بالمستقبل، إلى نطاق السياسة و الاجتماع و العلوم التجريبية كلها.

و لو لم يكن القرآن معجزا لأهل عصره لكان قصاراه: أن يكون أسلوبا ممتازا يلقى فصحاء العرب إلى من جاء به بزمام التفوق و السلطان، شأنه فى ذلك شأن المعلقات السبع و أمثالها، أما و الرسول العظيم

صلى اللّه عليه و سلم يأبى أن تكون الشمس فى يمينه و القمر فى يساره إلّا أن يظهر دين اللّه، فالأمر إذن فوق جودة الأسلوب، و فوق كل الاعتبارات، ذلك هو:

إذعان العرب عاجزين، أو انقيادهم مختارين إلى تلك العظمة القرآنية التى تفوق مقاييس العظمة الأسلوبية المتعارفة آنذاك.

لقد اشتبه الأمر على العرب، فلم تكن فى الرسالات السابقة معجزات باطنة فى الكتب التى أنزلت على الرسل، أى: لم تكن هناك معجزات من جنس الكلام، بل كانت معجزات مادية منفصلة تماما عن الكتب السماوية، و هذا الواقع هو الذى دفع العرب إلى أن يقولوا:

ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ «1» و إلى أن يطلبوا منه أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، ... و إلى أن يقولوا عن القرآن:

هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «2» حينما لم يهتدوا بعيدا عن معجزات المادة.

و ليس فى تحدى اللّه لعباده انتقاصا من هيبة اللّه تعالى، بل إن الإنسان الذى أحل نفسه مكان اللّه فى الأرض كان و ما يزال بعيدا عن الإذعان إلّا على وجه التحدى البيانى، ثم التحدى بالقوارع المدمرة، على أن آيات القرآن مليئة بتحدى المخاطبين. أ لم يقل اللّه تعالى لليهود:

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً «3»؟ أ لم يقل لهم: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «4» ... قُلْ

__________________________________________________

(1) سورة ص: 7.

(2) سورة الأحقاف: 11.

(3) سورة الجمعة: 6- 7.

(4) سورة آل عمران: 93.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 35

صَدَقَ اللَّهُ «1»؟ و قال: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ

كُنْتُمْ صادِقِينَ «2».

أ ليس هذا هو التحدى بعينه؟ أ ليس هذا التحدى إبرازا لعظمة اللّه، و تقريرا لسلطانه و جبروته فوق كل جبروت؟

بداية القول بعدم إعجاز القرآن:

بداية القول بعدم إعجاز القرآن:

و لكنها فرية قديمة، و نحلة متهالكة كانت فى الماضى، و قد بدأت تطل برأسها على أيدى المدربين على دس الإلحاد فى ثنايا الإيمان فى الحاضر من المستشرقين و أذنابهم أدعياء الإسلام.

تلك الفرية هى القول بعدم إعجاز القرآن، أو بأن مقاصده لا تشمل التحدى.

و أول من قال بعدم إعجاز القرآن فى نظمه (إبراهيم بن إسحاق النظام) المعتزلى الذى هلك فى القرن الثالث الهجرى، قال عنه أبو منصور البغدادى فى كتابه (الفرق بين الفرق ص 79، 80): «عاشر فى شبابه قوما من الثنوية و السمنية، و خالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة، ثم دون مذاهب الثنوية، و بدع الفلاسفة، و شبه الملاحدة فى دين الإسلام، و أعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، و لم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف، فأنكر إعجاز القرآن فى نظمه، و أنكر معجزات نبينا صلى اللّه عليه و سلم، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا إلى إنكار نبوته».

أ رأيت يا أخى إلى أين يسير بنا القائلون بعدم إعجاز القرآن فى عصرنا الحاضر؟

أ رأيت من هم شيوخهم فى هذه النحلة الكافرة الخبيثة؟

أ رايت كيف يكون غش المحدثين باسم الفكر العصرى و هم يرددون نحلا بال عليها الزمان؟

و لم يكتف إبراهيم النظام القائل بعدم إعجاز القرآن توصلا إلى

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران 95.

(2) سورة البقرة: 111.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 36

إبطال نبوة الرسول صلى اللّه عليه و سلم بما نقله إلينا من ضلالات الثنوية و البراهمة و غيرهم، بل أنه احتاط لأمره احتياطا شيطانيّا، و ذلك أنه كما يقول البغدادى: «استثقل أحكام الشريعة، و لم يجسر على إظهار رفعها، فأنكر حجة الإجماع، و حجة القياس فى الفروع الشرعية، و لما علم إجماع الصحابة على الاجتهاد فى الفروع الشرعية ذكرهم بما يقرؤه غدا فى صحيفة مخازيه، و طعن فى فتاوى أعلام الصحابة، و جميع فرق الأمة». ثم ساق البغدادى من فضائحه و كفرياته الشنيعة إحدى و عشرين فضيحة من أرادها فلينظرها فى كتاب (الفرق بين الفرق ص 80- 91).

و من العجيب أننا نجد امتدادا لتلك النحلة فى عصرنا الحديث:

دعوات هزيلة إلى إعادة النظر فى اجتهادات السابقين من الأعلام، و دعوة إلى إحلال الرأى مكانها بينما القاعدة تقول: لا يجوز خرق الإجماع إلّا بإجماع مثله. إن صحت هذه القاعدة، فأين أهل الإجماع فى عصرنا حتى يخرقوا بإجماعهم إجماع الصحابة و التابعين؟! و يكفى أن يعلم القارئ: أن إبراهيم النظام هذا و هو معتزلى المذهب قضى المعتزلة بكفره، و منهم خاله أبو الهذيل العلاف، و الجبائى، و الإسكافى، ... و كثير غيرهم. و كفّره أهل السنة و ألفوا فى تكفيره كتبا و منهم: الأشعرى، و القلانسى، و الباقلانى و غيرهم كثيرون.

و لقد عاد هذا الخبيث (النظام) فصادم إجماع المسلمين على إعجاز القرآن بقوله: إن هذا الإعجاز كان بالصرفة، أى أن اللّه صرف العرب عن معارضته، و سلب عقولهم و قدراتهم على ذلك، و كانت معارضة القرآن مقدورة لهم، لكن عاقهم عنها أمر خارجى، فصار القرآن معجزة لذلك.

و أقول: إن هذا القول معناه: الارتداد إلى الفكر اليهودى السائد فى

سفر التكوين، و الذى يصف اللّه- سبحانه- بالتردد و الغيظ من عبيده، إذ أنه كما يتصورون قد ندم على خلق آدم لما وجد أنه سوف يسبب له المتاعب، و اغتاظ حينما سادت الأخوة الإنسانية، فبلبل ألسنة

أسرار التكرار في القرآن، ص: 37

الناس ليحل العداء محل الحب بسبب عدم فهم بعضهم لغة بعض.

و يتصل قول النظام هذا بالفكر اليهودى فى صورة أوضح حينما نقارنه بما جاء فى سفر التكوين من أن صراعا مريرا كان يدور بين اللّه و خلقه، حتى لقد تغلب يعقوب- عليه السّلام- فخلع حق فخذه.

و خلاصة الفكر اليهودى: أن اللّه كما تصوروه: قابل للهزيمة، بارع فى التآمر ضد عباده، متردد فى أفكاره، يقرر الشي ء ثم يرجع عنه، و يعالج هذا التردد بالكيد لعباده، و هو نفس القول الذى ردده المختار الثقفى باسم (نظرية البداء) إذ كان اللّه يعده بالنصر، ثم يبدو له أن يغير موقفه فيصيبه بالهزيمة.

أ ليس القول بأن العرب كان فى مقدورهم معارضة القرآن و لكن اللّه صرفهم عن ذلك، وثيق النسب بهذا الفكر اليهودى المشبوه؟؟ و أ ليس التحدى ثم الصرف على هذه الصورة التى رسمها إبراهيم النظام عبارة عن ضرب من ضروب الخداع و الهروب من الحقيقة جل اللّه تعالى عن مثله؟؟ أ ليس هذا القول يساوى نسبة خطأ التقدير إلى اللّه، ثم التخلص من هذا الخطأ بلعبة تشبه ألعاب السياسة المعاصرة؟؟ و إلّا فكيف يتحدى اللّه العرب صراحة أن يأتوا بمثل القرآن، أو بآية واحدة من مثله، و هم مصروفون بطبيعتهم، أو بصرفهم- سبحانه-

عن الاستجابة للتحدى بوسيلة ما من وسائل الصرف؟ و هل يكون هذا العمل إلّا عبثا تجل عنه حكمة التدبير الماثلة أمام العالم و المعجزة له، و الهادية إلى مزيد من الإيمان فى الوقت نفسه؟؟

يقول الإمام السيوطى ردّا على هذا القول الذى قال به النظام و من جرى مجراه: «إن هذا القول فاسد بدليل قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ ... «1» الآية. فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، و لو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، و ليس عجز الموتى مما يحتفل به. هذا مع أن

__________________________________________________

(1) سورة الإسراء: 88.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 38

الإجماع قد انعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن. و يلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدى، و خلو القرآن من الإعجاز، و فى ذلك خرق لإجماع الأمة على استمرار معجزة القرآن للرسول صلى اللّه عليه و سلم بعد عصره».

و قال القاضى أبو بكر الباقلانى: «و مما يبطل القول بالصرفة: أنه لو كانت المعارضة ممكنة، و إنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا، و إنما يكون بالمنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره فى نفسه، و ليس هذا بأعجب من قول بعضهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، و إنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجوه ترتيب أو تعلموه لو صلوا إليه به، و لا بأعجب من قول آخرين: إن العجز وقع منهم، و أما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله».

أما الجاحظ فقد فضح أستاذه إبراهيم

النظام فقال: «بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و سلم أكثرا ما كانت العرب شاعرا و خطيبا، و أحكم ما كانت لغة، و أشد ما كانت عدة .. و هو فى ذلك يحتج عليهم بالقرآن، و يدعوهم صباحا و مساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بهم، و تقريعا لعجزهم عنها، تكشف من نقصهم ما كان مستورا، و ظهر منه ما كان خفيّا، فحين لم يجدوا حيلة و لا حجة قالوا: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف.

قال: فهاتوها مفتريات. فلم يرم ذلك خطيب، و لا طمع فيه شاعر ..

فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، و كثرة شعرائهم، و كثرة من هجاه منهم، و عارض شعراء أصحابه، و خطباء أمته، لأن سورة واحدة، أو آيات يسيرة، كانت أنقض لقوله، و أفسد لأمره، و أبلغ فى تكذيبه، و أسرع فى تفريق أتباعه من بذل النفوس، و الخروج من الأوطان، و إنفاق الأموال، و هذا من جليل التدبير الذى لا يخفى على من هو دون قريش و العرب فى الرأى و العقل بطبقات ...».

أسرار التكرار في القرآن، ص: 39

و مع احتفاظنا بأن القرآن كلام اللّه غير مخلوق نقول: إن كان صرف اللّه عباده عن معارضته أمرا مقرّرا فى الإسلام، فلما ذا لم يصرف اللّه العلماء عن معارضة خلقه فى العصر الحاضر؟ أ لا ترى أن العلماء فى معاملهم راحوا يتحدثون عن الإنسان الآلى، و عن بناء الأجنة فى غير

أرحام الأمهات، و عن الأمطار الصناعية، و لم يصب اللّه تعالى عالما من هؤلاء بالجنون، و لا بالمغص الكلوى كلما توجه إلى معمله ليصنع خلقا كخلق اللّه، بل كانت لهم حرية العمل، و حرية الاعتراف بالعجز، و كان من هذا العجز هدى للكثيرين من العلماء فى تلك الدول، إما إلى الإسلام مباشرة، أو إلى الإقرار بوجود اللّه المبدع الذى يعجز العالم كله أمام حكمته و إبداعه.

فمحاولة التشكيك فى إعجاز القرآن بحجة القول بالصرفة، أو بحجة أنه آية للبيان و ليست للإعجاز تخبط دعا إليه الحقد على الإسلام و على القرآن، أو التعصب العنصرى للجنس العربى تعصبا مصادما لعالمية القرآن و عدم اختصاصه بجنس دون جنس .. و لقد فند الإمام المحقق الشيخ محمد زاهد الكوثرى رحمه اللّه هذا الزعم فى كتابه (العقيدة النظامية)، و لكن ضلالات المستشرقين، من أمثال جولدزيهر، و رودل، و مرجيلوث، وجب، و ضلالات أذنابهم و على رأسهم طه حسين فى كتابه عن (الشعر الجاهلى) من أنصار المذهب الديكارتى ما زالت تحتاج إلى جهود مضادة تنير قلوب الشباب المسلم بالحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 40

وجوه إعجاز القرآن

اشارة

وجوه إعجاز القرآن

انتهينا إلى أن حكمة اللّه تعالى اقتضت أن تكون معجزة الرسالة الخاتمة، أو الآية الدالة على صدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم فى التبليغ عن ربه هى القرآن الذى جمع بين البيان الواضح، و الإعجاز القاطع لحجة العناد و الجحود، و ذلك ليتهيأ استمرار التبليغ بعد الرسول صلى

اللّه عليه و سلم، و استمرار وسائل الإقناع على مر الزمن.

و على هذا لم يكن دليل إعجاز القرآن قاصرا على الإعجاز البيانى كما كان فى عصر النزول، بل كان جامعا لعدد هائل من دلائل الإعجاز بحيث يواجه كل العصور، و جميع نواحى النشاط الإنسانى فى تفوق معجز، يجذب إلى دعوته المزيد من الأجيال.

جهود العلماء الأقدمين

جهود العلماء الأقدمين

بذل الأقدمون جهودا مشكورة فى محاولة الكشف عن وجوه إعجاز القرآن، و ألفوا فى ذلك كتبا، و منهم: أبو سليمان الخطابى، و على بن عيسى الرمانى، و فخر الدين الرازى، و ابن سراقة، و أبو بكر الباقلانى، و الكمال بن الهمام، و ابن الزملكاني، و السيوطى، و عبد القاهر الجرجانى، و غيرهم .. و قد تكلم الكثيرون عن هذا الموضوع فى التفاسير و الكتب ذات الموضوعات الأخرى، و منهم: ابن عطية، و المراكشى، و الأصبهانى، و السكاكى، و السهيلى، و القاضى عياض، و الزركشى و غيرهم.

أما فى العصر الحديث فقد كتب الأستاذ مصطفى صادق الرافعى كتابا فى إعجاز القرآن، و تحدث كثيرون عن الإعجاز فى كتب ليست فى موضوعه، و منهم إمام العصر، و نزيل مصر، الشيخ محمد زاهد الكوثرى وكيل المشيخة الإسلامية العثمانية، و الأستاذ عباس

أسرار التكرار في القرآن، ص: 41

محمود العقاد، و الأستاذ محمد الغمراوى، رحمهم اللّه جميعا.

و الذى يسترعى الانتباه أن العلماء على ما لهم من الاقتدار وسعة المعرفة وقفوا هم الآخرون مبهورين أمام إعجاز القرآن، فراحوا يرددون وجوها عامة و غير محدودة أحيانا، كقولهم: إن الإعجاز فى جودة الرصف، و حسن

النظم، و ما أشبه ذلك من الصفات العامة التى لا تكشف عن وجه الإعجاز فى جودة الرصف، و لا حسن النظم.

و أحيانا أخرى ذكروا وجوها قالوا: إنه لا يمكن وصفها، كما قال السكاكى فى مفتاح العلوم: «إعجاز القرآن يدرك و لا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك و لا يمكن وصفها، و كالملاحة، و كما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، و لا يدرك تحصيله لغير ذوى الفطرة السليمة إلّا بإتقان علمى المعانى و البيان و التمرين فيهما».

فإذا كانت تلك المحاولات تنطق بالعجز عن إدراك وجوه الإعجاز، فقد صرح بعض العلماء بهذا العجز. قال أبو حيان التوحيدى فى (المقابسات): «سئل بندار الفارسى عن موضع الإعجاز فى القرآن؟

فقال: هذه مسألة فيها حيف على المعنى، و ذلك أنه شبيه بقولك:

ما موضع الإنسان من الإنسان .. فالقرآن لشرفه لا يشار إلى شى ء فيه إلّا و كان المعنى آية فى نفسه، و معجزة لمحاوله، و هدى لقائله، و ليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض اللّه فى كلامه، و أسراره فى كتابه، فلذلك حارت العقول و تاهت البصائر».

و قد قرر أبو سليمان الخطابى عجز جمهور العلماء عن إبراز تفاصيل وجوه الإعجاز فقال فى كتابه (بيان إعجاز القرآن): «ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجه الإعجاز من جهة البلاغة، لكن صعب عليهم تفصيلها، و صغوا فيه إلى حكم الذوق».

و مع ذلك فقد كان الإعجاز البلاغى للقرآن سببا فى زلل الرأى عند المفسر الكبير ابن عطية شيخ القرطبى إذ قال بعد كلام طويل فى مقدمة

أسرار التكرار في القرآن،

ص: 42

تفسيره: «و نحن تتبين لنا البراعة فى أكثره، و يخفى علينا وجهها فى مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ فى سلامة الذوق، و جودة القريحة، و قامت الحجة على العالم بالعرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة، و فطنة المعارضة». فقوله: إن الحجة قامت على العالم بالعرب لا يمكن تسليمه على إطلاقه هكذا. إذ لا يمكن أن تكون البلاغة القرآنية الخارقة لبلاغة العرب هى سبب هداية الترك و الفرس قديما، و الأوربيين حديثا، بل يمكن أن يكون عجز العرب عن المعارضة عاملا مساعدا، و عنصرا واحدا من عناصر الدعوة عن طريق التفوق القرآنى فى جميع الميادين.

و هناك محاولات تفصيلية بعيدة عن العمومات تدور حول النظر التحليلى فى أسلوب القرآن للتعرف على وجوه إعجازه من وجهة النظر العربية يمكن الإشارة إليها على سبيل المثال لا الحصر.

أولا: الموازين الدقيقة بين اللفظ و المعنى. و فى هذا يقول ابن عطية:

«إذ ترتبت اللفظة من القرآن علم اللّه بإحاطته، أى لفظة تصلح إن تلا الأولى، و تبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره و البشر يعمهم الجهل و النسيان و الذهول ... و كتاب اللّه تعالى لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد».

و قد أكمل ابن سراقة هذا المعنى فقال: «إن من اقتصر على معانيه و غير حروفه أذهب رونقه، و من اقتصر على حروفه و غير معانيه أبطل فائدته، فكان ذلك أبلغ فى الدلالة على إعجازه».

و لقد أدخل الفخر الرازى فى هذا الباب علم مناسبات الآيات و السور، و ارتباط بعضها ببعض حتى تصير شيئا واحدا، و بناء متينا لا خلل بين أجزائه، حتى لقد قال: «إن

الإعجاز يكاد ينحصر فى هذا المعنى الذى لا يوجد أبدا فى كلام البشر». و قد أخرجنا بعون اللّه كتابا مستقلّا فى هذا الباب، و زودته بدراسة وافية، و هو (أسرار ترتيب القرآن).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 43

ثانيا: تفرد القرآن بطريقة بيانية غير طرق العرب. و فى هذا المعنى يقول الأصبهانى فى تفسيره: «بيان كون النظم معجزا يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه، فمراتب تأليف الكلام خمس: الأولى: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث: الاسم، و الفعل، و الحرف. و الثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة، و يقال له:

منثور الكلام. و الثالثة: ضم بعض ذلك إلى بعض ضمّا له مباد و مقاطع، و مداخل و مخارج، و يقال له: المنظوم. و الرابعة: أن يعتبر فى أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، و يقال له: المسجع. و الخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن، و يقال له: الشعر.

و المنظوم إما محاورة، و يقال له: الخطابة. و إما مكاتبة، و يقال له:

الرسالة. فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، و لكل من ذلك نظم مخصوص، و القرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شى ء منها.

فلا يصح أن يقال للقرآن: رسالة أو خطابة، أو شعر، أو سجع، كما لا يصح أن يقال: هو كلام. و البليغ إذا قرع سمعه فصل بينه و بين ما عداه من الكلام».

و قال الرمانى: بعد أن ساق أنواع الكلام: «فأتى القرآن بطريقة مفردة، خارجة

عن العادة، لها منزلة فى الحسن تفوق كل طريقة، و تفوق الموزون الذى هو أحسن الكلام».

ثالثا: جمع القرآن لمراتب البيان فى أسلوب واحد. قال أبو سليمان الخطابى: «إن أجناس الكلام مختلفة، و مراتبها فى درجات البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، و منها الفصيح الغريب السهل، و منها الجائز الطلق الرسل، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، و أخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتى الفخامة، و العذوبة، و هما على الانفراد فى نعوتهما كالمتضادتين، لأن العذوبة نتاج السهولة، و الجزالة و المتانة يعالجان

أسرار التكرار في القرآن، ص: 44

نوعا من الزعورة، فكان اجتماع النوعين فى نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن، ليكون آية بينة لنبيه صلى اللّه عليه و سلم».

رابعا: روعته فى القلوب: و قد فطن إلى هذا الوجه بعض المؤمنين بل و كثير من الجاحدين المنكرين أيضا. فيقول الخطابى: «و قد قلت فى إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس، و هو صنيعه فى القلوب و تأثيره فى النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما و لا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة و الحلاوة فى حال، و من الروعة و المهابة فى حال آخر ما يخلص منه إليه. قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «1»، و قال:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ

يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ «2»». و يقول الزركشى: «فمنها الروعة التى فى قلوب السامعين و أسماعهم، سواء منهم المقر و الجاحد، و منها أنه لم يزل غضّا طريّا فى أسماع السامعين، و على ألسنة القارئين». و يكتشف القاضى عياض أن هذه الروعة و تلك الهيبة كانت سببا فى إسلام بعض الكفار من العرب فيقول: «و منها الروعة التى تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم، و الهيبة التى تعتريهم عند تلاوته، و قد أسلم جماعة عند سماع آياته منهم جبير بن مطعم، فإنه سمع النبى صلى اللّه عليه و سلم يقرأ فى المغرب بالطور. قال: فلما بلغ قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ... «3» إلى قوله: ... الْمُصَيْطِرُونَ كاد قلبى أن يطير، و ذلك أول ما وقر الإسلام فى قلبى».

خامسا: ما وراء التكرار فى القرآن: و هذا الوجه يمكن أن نسميه تجاوزا (بالتركيب الكيميائى للقرآن). و ذلك أن أسلوب القرآن من هذه الوجهة مركب تركيبا دقيقا بالغ الدقة، بحيث تقرب منه التركيبات

__________________________________________________

(1) سورة الحشر: 21.

(2) سورة الزمر: 23.

(3) سورة الطور: 35.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 45

المعملية التى توزن على مقادير بالغة الدقة، و لا تؤتى النتيجة المأمولة منها إذا اختلت هذه التراكيب فى جزء من مائة منها.

هذا توجيه من توجيهات المكررات القرآنية يمكن أن نتبينه واضحا من قوله تعالى فى سورة البقرة: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ

لا يَهْتَدُونَ «1»، و قوله فى سورة المائدة: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ «2». فقوله تعالى على لسان الكفار: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا لا يمنع أن يرجعوا عن اتباع آبائهم، فهم لم يبلغوا النهاية فى دعوى إيمانهم بالأوثان، و لهذا استعمل اللّه تعالى فى نفى هدايتهم لفظا لا يبلغ النهاية فى اليقين و هو قوله تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً. فإن فوق العقل فى اليقين (العلم). أما فى المائدة فقد بلغ الكفار النهاية فى الاعتداد بالأوثان، و قطعوا على أنفسهم طريق العودة عنها بقولهم: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. و لهذا استعمل اللّه فى نفى هدايتهم نفى العلم الذى هو أبلغ درجات اليقين فقال: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً. و الدليل على أن العلم أرفع من العقل أن اللّه لا يوصف بالعقل، و إنما يوصف بالعلم. فهل ترى أدق وزنا لمعانى الألفاظ، و مراعاة تناسبها من هذا الوزن الحق الذى نزل به القرآن؟؟

و من أمثلة هذه الدقة الرائعة التى لا تبلغها دقة العالم فى معمله ما جاء فى قوله تعالى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا «3» فاستعمل الفاء فى عطف النظر على السير، و هى للتعقيب بلا تراخ بينهما. و قد

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 170.

(2) سورة المائدة: 104.

(3) سورة النحل: 36.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 46

تكرر

هذا الاستعمال فى سورة النحل (36)، و النمل (69)، و الروم (42) و هكذا فى القرآن كله ما عدا سورة الأنعام فقد قال تعالى فيها: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا «1» فاستعمل فى عطف النظر على السير ثُمَّ التى هى للتراخى، فلم كان ذلك، و ما ذا وراء هذا التكرار مع اختلاف العطف بين التعقيب و التراخى؟

أقول: إن الآيات كلها تجمع على حث المؤمنين على النظر فى عواقب المكذبين، و هذا نهج عام يشترك فيه العلماء و غير العلماء من المسلمين على طريق الدعوة إلى اللّه، يهتدى به الجاحدون إلى الحق، و يزداد به الذين آمنوا إيمانا و يقينا، و هو أن يتعظوا بمجرد رؤية آثار الكفار السابقين، و كيف دمرت حضاراتهم و بادت حتى صارت أثرا بعد عين، إذ يكفى: أن يلقى الإنسان نظرة عابرة على آثار الفراعنة فى مصر، أو على مدائن صالح بالمملكة السعودية، ليدرك من خلال عظمة الحضارة و سطوة الخراب عظمة اللّه و سلطانه على الكون، و تكفى زيارة واحدة يقوم بها الإنسان للحصول على هذه النتيجة العاجلة.

أما آية سورة الأنعام فهى تطالب بمنهج آخر فيه تريث و تراخ و دراسة علمية متأنية يخرج منها الباحثون بمزيد من التفاصيل، و مزيد من النتائج و الدلالات على وجود اللّه و عظمته. و لهذا كانت الملابسات التى تحيط بآية الأنعام تشير إلى المطالبة بهذه الدراسة المتأنية المتراخية التى تحتاج بطبيعتها إلى وقت طويل، ففي الآية (6) أشار اللّه تعالى إلى القرون الماضية، و إلى القرون التى أنشأها من بعدهم فى قوله: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ

مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ «2». فما دام موضوع السير هو البحث فى القرون الماضية و المتتابعة، و التى أصبحت

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام: 11.

(2) سورة الأنعام: 6.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 47

موضوع دراسة و بحث عن أسباب تحول الرى إلى جفاف، و الخصب إلى قفر و العمران إلى خراب، كما أشارت إليه الآية التاسعة من سورة الأنعام ما دام الأمر هكذا فإن الأمر يحتاج إلى دراسة و بحث يقوم على العلم و التحليل، و تسجيل الأسباب و النتائج، و مخاطبة العالم كله بهذه الدراسات الهادفة. و كما قال الكرمانى فى كتابه هذا: «أمروا باستقراء الديار، و تأمل الآثار، و فيها كثرة، فيقع ذلك سيرا بعد سير و زمانا بعد زمان، ليعلم أن السير مأمور به على حدة، و النظر مأمور به على حدة، و لم يتقدم فى سائر السور مثله».

و العجب العجاب من أمر تكرار القرآن و ما يتراءى خلاله من إعجاز آيتان، إحداهما من سورة الأنعام: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ «1»، و قوله فى سورة القلم: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ «2»، فأكثر ما يستعمل وزن (أفعل) فى لغة العرب مع الفعل الماضى، كقولهم: أعلم من دب و درج، و أحسن من قام و قعد، و أفضل من حج و اعتمر. فلما ذا استعمل مع الفعل المضارع فى سورة الأنعام و لم يستعمله مع الماضى كما فى سورة القلم، و كما

هو الغالب فى لغة العرب. و لما ذا الباء فى آية (القلم)، و حذفت فى آية الأنعام؟

أما استعمال (أفعل) مع المضارع فى الأنعام فلأن سياق الكلام دائر حول المستقبل لبيان أصل عام، و ماض إلى الأبد، فى شأن الرأى العام، أو رأى (الجماهير) فيما يتصل بالعقيدة و شئون الدين بوجه خاص، فالآية السابقة على آية الأنعام هى قوله تعالى: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «3». بخلاف ما فى سورة القلم، فإن الكلام فيها عن قوم ضلوا بالفعل، هم الكافرون من قريش: فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام: 117.

(2) سورة النجم: 30.

(3) سورة الأنعام: 116.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 48

الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ «1». يعنى: ضل فقال عن الرسول: إنه مجنون، و عن القرآن: إنه سحر مبين .. فلما جاء (أفعل) مع المضارع فى الأنعام انقطعت مظنة الضلال إلى اللّه تعالى، كما هو جائز فى المعنى إذا استعمل مع الماضى، فصار معنى الآية فى الأنعام: إن اللّه أعلم بمن يضلون عن طريقه فى المستقبل، فصار ورود أفعل مع المضارع اتباعا للسياق، و قطعا لمعنى الإضافة المؤكد فى استعمالها مع الماضى كما هو الغالب فى لغة العرب، فلما استعمله مع الماضى فى سورة القلم استعمله مع الباء، إذ لو لم تذكر الباء لصار المعنى أنه تعالى أعلم الضالين عن سبيله، و تعالى اللّه علوا كبيرا.

فانظر كيف خالف الغالب من

لغة العرب فى الأنعام، و لم يزد حرفا لا معنى لزيادته مع فعل المستقبل حفظا للقرآن من الحشو، و كيف كان الاحتياط للمعنى فى سورة القلم حينما تعارض المعنى مع الاستعمال اللغوى الشائع فى لغة العرب، فلم تكن الباء زائدة فى سورة القلم.

و لهذا عقب الكرمانى على كلامه هنا بقوله: «فتنبه فإنه من أسرار القرآن».

ثم انظر كيف يستعمل الكتاب و الباحثون كلمتى (ينفع و يضر) مقترنتين بتقديم أيهما شاءوا، و ليس فى ذلك خلل فى معانيهم على أى حال، و لكن كتابا لا يقدم النفع على الضر، أو الضر على النفع إلّا لأن السياق و (هندسة النظم) و (و التركيب الكيميائى) و (الإبداع الجمالى) يدعو إلى ذلك، بحيث لا تجد نشازا فى التركيب لا لفظا و لا معنى- هذا الكتاب لم نعثر عليه إلى الآن إلّا فيما بين دفتى كتاب اللّه العزيز الحكيم الذى لا يأتيه الباطل أبدا.

جاء فى سورة الأعراف: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ «2» و على هذا الترتيب جاءت آيات فى سورة: الرعد،

__________________________________________________

(1) سورة القلم: 5- 7.

(2) سورة الأعراف: 188.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 49

و سبأ، و الأنعام، و يونس، و الأنبياء، و الفرقان، و الشعراء. و جاء تقديم الضرر على النفع فى سورة يونس: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ «1». و على هذا الترتيب الأخير سارت معظم آيات القرآن إلّا فى المواضع الثمانية التى ذكرناها، و إنما تقدم الضر على

النفع لأنه أصل الفطرة التى نزل بها القرآن، لأن العابدين يعبدون اللّه خوفا من عقابه أولا، و طمعا فى ثوابه ثانيا، و على هذا دلت الدلائل فى فطرة البدائيين و فى وجدان الموحدين، و قد سجل اللّه تعالى هذه الفطرة البشرية فى قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً «2». أما قوله تعالى: يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً «3»، فقد جاء معبرا عن نوع راق و متطور من الفطرة ألف العبادة حتى تحولت إلى معرفة و حب للّه و رسوله.

فلما اختلفت هذه المواضع الثمانية من القرآن مع الأصل، فتقدم فيها النفع على الضر إذن؟

اختلفت هذه المواضع الثمانية فتقدم النفع على الضر، لأن السوابق من الآيات تدعو إلى هذا التركيب، حرصا على النظام القرآنى البديع المعجز من حيث لا يمكن بأى حال أن يستمر الناس فى كتاباتهم على مراعاة هذا النظام، بل تعمهم الغفلة غالبا. ففي سورة الأنعام جاءت الآية بعد قوله تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها «4». فالولاية و الشفاعة تناسب النفع، و عدم أخذ العدل يناسب الضر، فجاءت الآية على هذا النسق: قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا «5»، و فى يونس: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا «6»، فناسب تقديم النفع رعاية للنجاة، و هى نفع. و فى الأنبياء جادل الكفار إبراهيم فى أصنامهم فقالوا:

__________________________________________________

(1) سورة يونس: 49.

(2) سورة السجدة: 16.

(3) سورة الأنبياء: 90.

(4) سورة الأنعام: 70.

(5) سورة الأنعام: 71.

(6) سورة يونس: 103.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 50

لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ «1». حرصا على بقائهم لمنفعتهم فى زعمهم. فقال تعالى: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ «2». و قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «3»، و استمرت الآيات فى سياق يعدد نعم اللّه الجليلة فى عشر آيات، ثم قال: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ «4».

و فى سورة (المؤمنون) قال تعالى: لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ «5». و فى الزخرف فاكِهَةٌ على التوحيد، و مِنْها تَأْكُلُونَ بدون واو.

و السبب أن القرآن لما راعى لفظ الجنة، و لما كان الحديث فى (المؤمنون) عن الجنات بالجمع كانت الفواكه جمعا، و لما كان الحديث فى الزخرف عن الجنة مفردة كانت الفاكهة مفردة، ثم يعود البحث إلى كشف جديد عن وجه بديع من وجوه الخلاف فى حذف الواو من آية الزخرف، و إثباتها فى آية (المؤمنون)، لأنها تتحدث عن جنات الأرض فى الدنيا، و كان حق الكلام أن يقال: منها تبيعون، و منها تدخرون، و منها تأكلون، فاقتضى الإيجاز المعجز أن يبقى ما به أساس الحياة مسبوقا بواو تدل على بقية المنافع المقصودة من حدائق الأرض دون إخلال بالمعنى. أما فى الزخرف فالحديث عن جنة الخلد، و ليست للأكل فحسب، فحذف الواو للدلالة على ذلك.

و لا حاجة بنا إلى التعليق على هذه الأمثلة القليلة التى انتقيناها من كتاب الكرمانى (أسرار التكرار فى القرآن) لندل على أن هذا التكرار بمعانيه باب واسع من أبواب إعجاز القرآن، لا يرومه و لا يقاربه بشر على الإطلاق.

و أنت يا

أخى حيثما طوفت فى هذا الكتاب الذى نقدمه فى طبعته

__________________________________________________

(1) سورة الأنبياء: 65.

(2) سورة الأنبياء: 66.

(3) سورة الفرقان: 45.

(4) سورة الفرقان: 55.

(5) سورة: المؤمنون: الآية 19.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 51

الثانية فإن دلائل الإعجاز من هذه الوجهة التى بحثها الكرمانى فى كتاب مستقل تواجهك دلالة بعد دلالة، بحيث لا تمل أن تستكشفها من وراء التراكيب الموزونة بأدق الموازين، و التى عبر عنها الكتاب الكريم بالحق و هذا التعبير بالحق يعنى أن هذا التحدى الموجه لأفصح أمة نطقت بلغة القرآن إنما يهدف إلى تقرير الحق.

و إنك لا تنتهى من فقرة من فقرات هذا الكتاب إلّا و قد تفاعلت مع كل مشاعرك و مداركك، حتى تنتهى بك إلى نوع من الإذعان و الرضا يمس أعماق القلب بلون هادئ و قوى من الأمن و الطمأنينة إلى الحق الذى نزل به القرآن. و لا تبدأ فى فقرة أخرى إلّا بدأت استكشاف مزيد من دقائق الأسلوب القرآنى يزيد به الأمن إلى جناب اللّه، و الإيمان بالحق، و هكذا يزداد بك الإيمان قوة إلى أن تستقر فى أعماقك العزة و البذل و الفداء فى سبيل دعوة القرآن إيمانا بالقرآن و رسول القرآن:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً «1».

و هذا المعنى هو الذى أشار إليه الزملكانى حين قال فى كتابه (نهاية التأمل فى أسرار التنزيل): «إن الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص بالقرآن، لا مطلق التأليف، حيث اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة، و علت مركباته

معنى، بأن وقع كل فن فى مرتبته العليا فى اللفظ و المعنى».

و يؤكد المراكشى هذا المعنى بقوله: «الدليل التفصيلى على إعجاز القرآن مقدمته التفكر فى خواص تركيبه، و نتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شى ء علما».

سادسا: القرآن وتيرة واحدة: يقول اللّه سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «2». و قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالى مشيرا إلى إعجاز القرآن من هذه الوجهة: «المراد: نفى

__________________________________________________

(1) سورة الأنفال: 2.

(2) سورة النساء: 82.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 52

الاختلاف عن ذات القرآن. يقال: هذا كلام مختلف، أى لا يشبه أوله آخره فى الفصاحة، أو هو مختلف الدعوى، أى بعضه يدعو إلى الدين و بعضه يدعو إلى الدنيا، أو هو مختلف النظم، فبعضه على وزن الشعر، و بعضه منزحف، و بعضه على أسلوب مخصوص فى الجزالة، و بعضه على أسلوب يخالفه، و كلام اللّه منزه عن هذه الاختلافات فإنه على منهاج واحد فى النظم مناسب أوله آخره، و على درجة واحدة فى الفصاحة، فليس يشتمل على الغث و السمين، و مسوق لمعنى واحد، و هو دعوة الخلق إلى اللّه، و صرفهم عن الدنيا إلى الدين.

و كلام الناس تتطرق إليه هذه الاختلافات، إذ كلام المترسّلين و الشعراء إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف فى منهاج النظم، ثم اختلاف فى درجات الفصاحة، بل فى أصل الفصاحة، فلا تتساوى رسالتان و لا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة، و أبيات سخيفة، و كذلك تشتمل القصائد و الأشعار على

أغراض مختلفة، لأن الشعراء و الفصحاء فى كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا، و تارة يذمونها، و تارة يمدحون الجبن و يسمونه حزما، و تارة يذمونه و يسمونه تهورا، و لا ينفك آدمى عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف الأغراض، و الأحوال، و الإنسان.

و كذلك تختلف أغراضه، فيميل إلى الشي ء، تارة، و يميل عنه أخرى، فيوجب ذلك اختلافا فى كلامه بالضرورة، فلا يصادف إنسان يتكلم فى ثلاث و عشرين سنة و هى مدة نزول القرآن، فيتكلم على غرض واحد. و منهاج واحد، و لقد كان النبى صلى اللّه عليه و سلم بشرا تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه، أو كلام غيره من البشر، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا».

و هذا المعنى فطن إليه صاحب (منهاج البلغاء) حين قال: «وجه الإعجاز: استمرار الفصاحة و البلاغة فيه من جميع أنحائها فى جميعه،

أسرار التكرار في القرآن، ص: 53

استمرارا لا توجد له فترة، و لا يقدر عليه أحد من البشر، و كلام العرب و من تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة و البلاغة من جميع أنحائها فى العالى منه إلّا فى الشي ء اليسير المعدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية، فينقطع طيب الكلام و رونقه، فلا تستمر الفصاحة فى جميعه، بل توجد فى تفاريق و أجزاء منه.

و هذا الوجه الذى فطن إليه القدامى لا يحتاج إلى دليل على صحته، فهذا القرآن بين أيدى الناس فى كل مكان على مدى أربعة عشر قرنا، و هذه كتب الأدباء و دواوين الشعراء هى الأخرى فى كل مكان، و هذا علم النقد الأدبى

مكتمل المنهج لدى جميع النقاد، و ما وجدنا النقاد إلّا و يتناولون الإنتاج الإنسانى بالتشريح و كشف ما فيه من ظواهر المد و الجزر فى درجة الفصاحة و البلاغة، و كشف ما يتداخله لا معنى له سوى المحافظة على جرس الكلام، أو مداراة ما اعترى الفكر من فتور بتكرار الجمل على وجه الترادف و التكرار الخطابى الذى لا يبتدئ و لا يعيد.

أما القرآن فلم يستطع النقاد أن يصلوا فيه إلى ثغرة، أو إلى وجه من وجوه النقص الكثيرة فى كلام البشر. كل ما قالوه: إن فيه تكرارا، و قد رد عليهم الكرمانى بكتابه هذا الذى نقدمه للقراء أبلغ رد و أفحمه لمكابر حقود. و قالوا: إن القرآن موضوعات شتى و سور لا رابط بينها، و قد أخرجنا كتابا فى هذا الموضوع هو كتاب (أسرار ترتيب القرآن) للإمام السيوطى.

العنصر العالمى فى إعجاز القرآن

العنصر العالمى فى إعجاز القرآن

أشرنا إلى خطأ الإمام ابن عطية فى تعميمه القول بأن الحجة قامت على العالم بالعرب فى مسألة الإعجاز القرآنى.

و نزيد هنا: أن هذا القول قد يكون له بعض الوجاهة إذا فسرناه على أن عجز العرب المطبق عن معارضة القرآن بمثله، و هم فى الذروة

أسرار التكرار في القرآن، ص: 54

العليا من البلاغة و التحكم فى زمام القول، و جودة القريحة، و صفاء السليقة، هذا العجز من هؤلاء القوم الذى أنزل القرآن بلغتهم يشكل عنصرا واحدا من حجة القرآن على العالم، و هذا العنصر يضع القرآن موضع الاعتبار أمام غير العرب من الناطقين بلغات أخرى، و الذين لا يجيدون إلّا

تذوق المعنى فى القرآن، و هم عن تذوق الأساليب العربية بمعزل.

و ذلك لأن العرب لو نجحوا فى معارضة القرآن لأسقطوا على الفور حجة الرسول صلى اللّه عليه و سلم على أنه رسول يبلغ عن ربه دعوة الإسلام الخاتمة، و لو سقطت هذه الحجة القائمة للرسول لاندثرت الدعوة، و أصبحت فى عداد النحل الكاذبة التى زخرت بها المراجع الإسلامية.

أما و قد عجز العرب تماما عن معارضة القرآن، فقد قامت حجة الرسول صلى اللّه عليه و سلم على العرب، و كان قيام هذه الحجة عاملا رئيسيّا فى إبراز حجة أخرى تشير بوضوح إلى روح القرآن و أثره العجيب فى بناء القوة من الضعف، و التماسك من التمزق، و سمو الهدف من ماديته و أرضيته، و العالمية من النعرة العصبية، و النبل و الإيثار من السعار المالى الرهيب، و تواضع الرءوس من تعاليها، إلى غير ذلك من معجزات التاريخ التى دبت فى الوسط العربى فى قوة و سرعة و عزم فسمت بهم من وهدة التحلل، و فرقة التجمع حول شيوخ القبائل المختلفى النزعات و الأغراض، و هلهلة العقيدة فى الأحجار و الكهان إلى الوحدة حول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على أساس متين من عقيدة الوحدانية التى رفضت كل الشوائب، و أحالت القتام الذى كان يسود الجزيرة العربية إلى صفاء و نقاء.

و دالت دول الشرك تماما فى الجزيرة، و كان جيش تبوك و بعث أسامة بن زيد، الذى توفى الرسول صلى اللّه عليه و سلم قبل إنفاذه، كان هذان العملان العسكريان بمثابة الإشارة النبوية إلى ساعة الصفر التى يتحول فيها جهاد الإسلام إلى الواقع العالمى، بعد أن أقام حجته الناصعة بالقرآن العربى على العرب الناطقين بالعربية،

و أفصح من نطق بها.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 55

من هنا يصلح العرب أن يكونوا حجة على العالم، بعد ما قامت حجة القرآن عليهم بأنه صالح لبناء أمة لها خصائص الأمم الراقية إذا قيس الرقى بموازين العلم و العقل، لا بمقاييس الشطط و الهوى. و كانت صورة الإنسان المسلم الذى بناه الرسول صلى اللّه عليه و سلم بالقرآن حجة على صلاحية القرآن للدعوة العالمية.

لم يكن الأسلوب العربى إذن مهما بلغ من الإعجاز حجة على الروم و الفرس و القبط، لأن هؤلاء لا يدركون من ذوق العربية لا قليلا و لا كثيرا، و إنما كانت فاعلية القرآن، و أعاجيب الفدائية التى كانت ماثلة أمام تلك الشعوب من جهة، و تسامى السلوك، و ارتفاع الإنسانية إلى مستواها الحق الذى تهفو إليه الدنيا كلها هى الحجة الماثلة أمام الشعوب غير العربية، مما جعلها بعد أن اطمأنت إلى العدل الذى حمله العرب إلى غيرهم تتحرق شوقا إلى بحث هذا الكتاب الذى هدى العرب، و بنى منهم تلك الأعجوبة الماثلة أمامهم.

و من هنا أيضا كان غزو اللغة العربية للغات الأخرى، لأن هذا التطلع الملح الذى يتحرك فى أعماق غير العرب إلى استكشاف أسرار القرآن و مفاهيمه دفعهم إلى تعلم العربية، و كان ذلك بالفعل، حتى كان الغزو اللغوى العربى فى صف واحد مع الغزو العسكرى فى سبيل تأصيل العقيدة الخاتمة.

و كان أن تحول الجم الغفير من تلك الشعوب غير العربية إلى علماء فى العربية، و إلى أصوليين و مفسرين و محدثين و دعاة لا يقلون

شأنا عن الدعاة العرب فى نطاق دعوة الإسلام، و ما زالت الآلاف من تلك الأسماء غير العربية تدوى فى آفاق الأرض شاهدة على إعجاز القرآن من نواح غير النواحى الأسلوبية و البلاغية.

و يكفى لإدراك معجزة القرآن العملية بعد الأسلوبية أن تعلم أن الأزهر قد أنشئ فى مصر للقضاء على شريعة القرآن على أيدى الأدعياء

أسرار التكرار في القرآن، ص: 56

الذين سموا أنفسهم بالفاطميين، و حاولوا أن يحلوا محل شريعة القرآن مجموعة من المذاهب و النحل الفلسفية سجلها المقريزى فى خططه و كان مع الفاطميين الذهب، و كان سب الشيخين يسطر على جدران جامع عمرو بن العاص، و كان الإرهاب بالرءوس المحمولة على الرماح فى شوارع القاهرة. كان كل ذلك، و لكن الناس لم يفتروا عن المظاهرات المعادية لتلك النحلة الغريبة و هم يرفعون شعارا يسموا على كل اعتبار، إذ كانوا يهتفون فى مظاهراتهم قائلين: «معاوية خال على و خال المؤمنين» .. و أخيرا تحول الأزهر الشيعى إلى الأزهر السنى بشيوخه من أهل السنة و الجماعة إلى اليوم؟

أ ليس ذلك إعجازا فى روح القرآن و معناه؟

و إذا لم يكن إعجازا فبم نسمى هذا النصر الساحق العجيب؟

أ ليست تلك الواحدة أعجوبة فى التاريخ؟

أ ليست كافية فى شد أنظار العالم كله إلى القرآن؟

و هو ما حدث بالفعل. و هذه واحدة من إعجازات القرآن الروحية و المعنوية و السلوكية تضاف مثيلاتها إليها فى العصر الحديث.

بقيت واحدة نكتفى بها لضيق المقام يمكن أن تكون منطلقا إلى غيرها.

ذلك: أنه لا يوجد فى التاريخ كله كتاب سماوى و

لا كتاب وضعه بشر، يمكن أن يكون مصدرا لحقائق العلم و المعرفة كلها دون أن يشذ منها شى ء إلّا القرآن.

كتاب ذو موضوع واحد، تدور حقائقه كلها حول ذلك الموضوع لإثباته، و فى تطوافه بين الحقائق لإثبات حقيقته العظمى يستبطن كل العلوم و المعارف ما كان منها موجودا من قبل تدوينه، و ما كان فى عصر تدوينه، و ما جد بعد عصر تدوينه إلى أن تقوم الساعة. كتاب مثل هذا الكتاب لم و لن يوجد إلّا فى كتاب اللّه المبين، القرآن الحكيم العزيز

أسرار التكرار في القرآن، ص: 57

المجيد الكريم .. هكذا سماه اللّه بأسمائه للدلالة الواضحة على أنه فوق متناول أى بشر أو ملك فى الكون.

موضوع واحد هو: إثبات وحدانية اللّه، و نفى ما عداه من الأوثان و أوهام العقائد الملحدة.

و فى سبيل إثبات الوحدانية الإلهية استخدم القرآن كل المعارف و العلوم، و شرع الشريعة الحارسة على هذا الاعتقاد الصحيح، و وضع الضوابط لعلم الاجتماع الإنسانى، و كيف لا تتضارب المصالح، و لا تتصارع الأمم، و أشار إلى مواطن النماء المالى فى الأرض و فى البحر، و رسم الخط الواضح للسياسة المالية فى جميع العصور، و من منهجه التربوى كان منهج التعليم الأمثل الذى يجب أن يسير عليه الناس إذا طلبوا العافية و السلامة فى دنياهم و أخراهم، و رفع همم المؤمنين عن الماديات إلى المعارف الروحية فيما وراء المادة.

و قد نقل الإمام السيوطى فى الإتقان عن أبى الفضل المرسى فى تفسيره أنه قال:

«جمع القرآن علوم الأولين و الآخرين، بحيث

لم يحظ بها علما حقيقة إلّا المتكلم بها، ثم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خلا ما استأثر اللّه بعلمه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة و أعلامهم، مثل الخلفاء الأربعة، و ابن مسعود، و ابن عباس، حتى قال: لو ضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب اللّه. ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، و فترت العزائم، و تضاءل أهل العلم، و ضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة و التابعون من علومه، فنوعوا علومه، و قامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتنى قوم بضبط لغاته .. و اعتنى النحاة بالمعرب و المبنى منه من الأسماء و الأفعال و الحروف العاملة و غيرها .. حتى إن بعضهم أعرب مشكله، و بعضهم أعربه كلمة كلمة ..

و اعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا لفظا يدل على معنى واحد،

أسرار التكرار في القرآن، ص: 58

و لفظا يدل على معنيين، و لفظا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، و أوضحوا معنى الخفى، و خاضوا فى ترجيح أحد محتملات ذى المعنيين و المعانى، و أعمل كل منهم فكره.

و اعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية و الشواهد الأصلية و النظرية، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية اللّه و وجوده، و سموا هذا العلم: أصول الدين. و تأملت طائفة معانى خطابه، فرأت منها ما يقتضى العموم، و منها ما يقتضى الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا أحكام اللغة من الحقيقة و المجاز، و تكلموا فى التخصيص و الإخبار، و النص و الاجتهاد، و الظاهر، و المجمل و

المحكم، و المتشابه، و الأمر و النهى .. و سموا هذا الفن: أصول الفقه».

ثم عدد ابن أبى الفضل علوم الدين و الأدب و الأمثال و الحكم و الوعظ و المعاد، و أصول تعبير الرؤيا، و الظواهر الكونية، و علوم الحقائق، و الطب، و الجدل، و الهيئة، و الهندسة، و الجبر، و المقابلة، و أصول الصناعات، و نبه إلى مكانها من القرآن.

بل إن السيوطى نقل: أن سكوت القرآن عن حقيقة من الحقائق يمكن استنباط الحقيقة منه. و مثل له باستدلال جماعة على أن القرآن غير مخلوق بأن اللّه تعالى ذكر الإنسان فى القرآن فى ثمانية عشر موضعا و قال: إنه مخلوق. و ذكر القرآن فى أربعة و خمسين موضعا، و لم يقل: إنه مخلوق. فلما جمع بينهما غاير فقال: الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ «1».

و نقول: إن فى قوله تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ دليلا على أنه غير مخلوق لأنه أرجعه إلى ذاته يعلم به عباده، لا إلى خلقه الذى وضعه بين عباده يتصرفون فيه حيث شاءوا.

و لقد جمع الإمام بن أسد المحاسبى من هدى القرآن ما يمكن أن

__________________________________________________

(1) سورة الرحمن: 1- 3.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 59

يسمى «علم النفس القرآنى». و ذلك فى كتابيه: «الرعاية لحقوق اللّه» و «أدب النفوس»، و فى كتاب ثالث يعتبر امتدادا للكتابين السابقين هو «أعمال القلوب و الجوارح».

و لقد بذل المحدثون جهدا فى هذا السبيل نرى أنه يتطلب الزيادة و العمق فى كتاباتهم نحو نظم الحكم، و نظام المال، و غير ذلك من مواضيع الثقافة الجديدة،

و بحث أصولها فى القرآن.

كما تكلم المرحوم الدكتور محمد أحمد الغمراوى فى كتابه «الإسلام فى عصر العلم» بما يثبت الوصاية الشرعية على العلم الحديث و إعجازه للعقل البشرى.

و نبه الكثيرون من علماء الأجانب على هذا المعنى.

و من ذلك ما قاله (جول لا بوم): «القرآن أكثر من الوعظ و الترغيب و الترهيب، بل إنه علم اجتماع، فلم يوجه الكلام إلى الكبراء و القادة، بل وجهه للناس جميعا بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «1» و يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» و لم يذكر السادة إلّا فى معرض النص على الأمم فى استسلامها لضلال قادتها و أهواء كبرائها فقال: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «3».

و يقول ديسون: «فى القرآن أمثلة كثيرة على هذه الدعوة العالمية.

فالواقع أنه يساير الفلسفة الحديثة كل المسايرة، و يتفق معها كل الاتفاق (؟) و أوامره لا تناقض المبادئ العلمية. فالقرآن ليس كتاب عقيدة و إيمان فحسب، إذ لا يمكن أن تفرض العقيدة إلّا إذا جعلتها فى صورة يقبلها العقل، و يطمئن إليها الفكر، و لا يمكن للإنسان أن يعتقد عقيدة جديدة

__________________________________________________

(1) سورة التحريم: 6.

(2) سورة النساء: 174.

(3) سورة الأحزاب: 67.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 60

بدون مبرر قوى، و براهين واضحة. و هو ليس كتاب تشريع و أخلاق فحسب، فالتشريع و الأخلاق لا بدّ لهما من فلسفة قوية يقومان عليها، و المشرع الأخلاقى يجب أن يكون فيلسوفا، فلا يمكن أن يحث القرآن على الزهد إن

لم يتحدث عن قيمة الحياة الآخرة، و الخلود، و البعث، و هذه مسائل فلسفية، كما أن القرآن لا يمكن أن يبشر بالتوحيد إن لم يطرق البحث فى الخالق و صفاته و هذه مسائل فلسفية. فالقرآن تعرض لكل بحوث الفلسفة، فتكلم فى اللّه و صفاته، و عرض للروح، و بحث فى الخلود و البعث، و صور للإنسان مثلا أعلى يجب أن ينشده، و اختط له طريقا يجب أن يسلكه».

و يقول دريبر: «إننا لندهش حين نرى فى مؤلفات المسلمين من الآراء العالمية ما كنا نظنه من نتائج العلم الحديث فى هذا العصر، و من هذا: إن مذهب النشوء و الارتقاء للكائنات العضوية الذى يعتبر مذهبا حديثا كان يدرّس فى مدارسهم، و لقد أحس المسلمون إحساسا صادقا بتطور الحياة، حتى إن الفقه الإسلامى ذاته تطبيق عملى لفكرة التطور البشرى و ذلك أن مهمته الدائمة هى البحث عن حلول جديدة للمشكلات المتطورة المستجدة، مستمدة من أصول الدين و روحه .. و لو كان رجال الدين فى أوربا على هذا الفهم الناجح فى القرنيين الثامن عشر و التاسع عشر لما صدمتهم بحوث العالم الجديدة، و لما قامت النفرة بينهم و بين العلم، تلك النفرة التى أودت بأوربا كلها، و تكاد تؤدى بالإنسانية كلها نحو الهاوية».

و أخيرا نسوق قول الأستاذ العقاد يؤيد الإعجاز الروحى و المعنوى للقرآن فى صورة ما يسمى الآن بالديمقراطية مذهبا سياسيا قرره الإسلام فى صورته المثلى. يقول: «معجزة أن تنبت الديمقراطية الإسلامية فى تربة الصحراء لا فى تربة الحضارة، و لكنها معجزة إلهية مثلها فى الظهور بين الجاهلين كمثل الإيمان بالإله الواحد الأحد الذى لا يحابى قوما

أسرار التكرار في القرآن، ص: 61

لأنهم قومه دون سائر الأقوام، و لا يلعن قوما لأنهم ورثوا اللعنة من الآباء و الأجداد، حق الإنسان الإيمان باللّه رب العالمين. كلاهما معجزة إلهية تجلت بها قدرة اللّه على غير مثال سابق متسلسل عن أسبابه فى بيئته، و لا فيما جاورها من البيئات، فإن السوابق التى سلفت قبل الإسلام كانت كسوابق المرض الذى يتطلب الشفاء، و لم تكن كسوابق العلاج الذى ينتهى إلى الشفاء. و تلك هى السوابق التى تتجلى فيها قدرة اللّه على يد رسول من رسله، ينبعث بالهداية، موفقا بوحى من اللّه فيصنع المعجزة التى لم تمهد لها أسبابها و دواعيها، لأن أسبابها الخفية، و دواعيها الكامنة فى السريرة الإنسانية تفوق ذرع العقول، و لا تدخل فى الحساب .. المرض الذى يؤدى إلى الموت سبب، و المرض الذى ينتهى إلى العلاج سبب، فإذا اختلط علينا السببان، و جاء الشفاء من حيث نتوقع الهلاك، فتلك معجزة إلهية علمها عند اللّه، و أسبابها غير الأسباب التى نقدرها قبل وقوعها».

و هكذا يمتد نور القرآن، فيداخل العقول فى كل مكان على ظهر الأرض يكاد يشبه فعله فيها فعل الصدمات الكهربية فى أدمغة المرضى العقليين، إذ يفيقون بعدها و قد تفتحت عيونهم على الكون برؤية جديدة، و إدراك رشيد، و لم تكن تلك الموجات التى تروى الفكر فى أرجاء الأرض هى موجات اللغة و الأسلوب. كل ما فى الأمر أن روح هذا القرآن صنعت المعجزة بين قوم عجزوا عن معارضته فأسلموا له القياد، و بدأت بعد ذلك مسيرة القرآن فى العالم الناطق بمختلف الألسنة و اللغات، و اكتشف

هؤلاء الأعاجم من أسرار القرآن و دلائل إعجازه و عظمته و تفوقه على كل الدساتير و المناهج العلمية فى العالم كل ما لم يمارسه الناطقون بالعربية فى عصرنا الحاضر.

أ لم يأن للمؤمنين أن يفتحوا أعينهم بعد؟

أ لم يأن لهم أن يجانبوا السفسطة و حب الظهور على حساب غمز القرآن؟

أسرار التكرار في القرآن، ص: 62

أ لم يأن لهم أن يتفرغوا للقرآن بدلا من تفرغهم لأوهام ذوى المآرب العالمية؟

أ لم يأن لهم أن يرتفعوا عن ضيق الأفق و العنصرية التى تهدد الزحف القرآنى نحو العالم؟

بل: أ لم يأن لنا أن ننشئ أكاديمية للدراسات القرآنية؟

إن فى هذا فتحا جديدا للعرب و المسلمين إن فعلوا، و اللّه نسأل لنا و لهم التوفيق.

عبد القادر أحمد عطا القاهرة:

محرم 1397 ه يناير 1977 م

أسرار التكرار في القرآن، ص: 63

مقدّمة المصنّف «1»

مقدّمة المصنّف «1»

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قال الشيخ الإمام العالم العلامة، تاج القراء أبو القاسم محمود «2» ابن حمزة نصر الكرمانى- رضى اللّه عنه و رحمه-:

الحمد للّه الذى أنزل الفرقان «3» على محمد صلى اللّه عليه و سلم ليكون للعالمين نذيرا و معجزا للإنس و الجن و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، نحمده على تفضّله علينا بكتابه «4» فضلا كبيرا، و من يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا.

و نصلى و نسلم على المبعوث بشيرا و نذيرا، و داعيا «5» إلى اللّه بإذنه و

سراجا منيرا، صلاة (دائمة) «6» تتصل و لا تنقطع بكرة و هجيرا «7».

و بعد: فإن هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات «8» التى تكرّرت فى القرآن و ألفاظها متّفقة، و لكن وقع فى بعضها زيادة أو نقصان، أو تقديم أو إبدال «9» حرف مكان حرف، أو غير ذلك مما يوجب اختلافا بين الآيتين أو الآيات التى تكرّرت من غير زيادة و لا نقصان، و أبين (ما) «10»

__________________________________________________

(1) العنوان من عندنا لزيادة الفائدة (المراجع).

(2) فى أ: محمد. و المثبت عن ب و معجم الأدباء لياقوت 19/ 25 و طبقات المفسرين للداودى 2/ 242 و بغية الوعاة 2/ 277 و طبقات القراء 2/ 291.

(3) فى ب: (القرآن).

(4) فى ب: (بكتابه تفضيلا).

(5) فى ب: (و دعانا).

(6) سقطت من: ب.

(7) الهجير: وقت الظهيرة.

(8) فى ب: (المتشابهة).

(9) فى ب: (بإبدال).

(10) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 64

السبب فى تكرارها «1»، و الفائدة فى إعادتها، و ما الموجب للزيادة و النقصان، و التقديم و التأخير و الإبدال، و ما الحكمة فى تخصيص الآية بذلك دون الآية الأخرى، و هل كان يصلح (ما) «2» فى هذا السورة مكان ما فى السورة التى تشاكلها «3» أم لا؟ ليجرى ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها، و تمتاز (بها) «4» عن أشكالها، من غير أن أشتغل بتفسيرها و تأويلها، فإنى بحمد اللّه (قد) «5» بيّنت ذلك كله (بشرائطه) «6» فى كتاب «لباب التفسير و عجائب التأويل» «7» مشتملا على أكثر

ما نحن بصدده، و لكنى «8» أفردت هذا الكتاب لبيان المتشابه، فإن الأئمة- رحمهم اللّه تعالى- قد شرعوا فى تصنيفه و اقتصروا على ذكر الآية و نظيرتها «9»، و لم يشتغلوا بذكر وجوهها و عللها و الفرق بين الآية و مثلها. (و هو) «10» المشكل الذى لا يقوم بأعبائه إلّا من وفّقه اللّه لأدائه.

و قد قال أبو مسلم «11» فى تفسيره عن أبى عبد اللّه الخطيب «12» فى تفسيره كلمات معدودات منها، و أنا أحكى لك كلامه فيها إذا بلغت إليها، مستعينا باللّه، و متوكلا عليه.

و سميت هذا الكتاب «البرهان فى متشابه القرآن، لما فيه من الحجة و البيان» «13» و باللّه و عليه التكلان.

__________________________________________________

(1) فى ب: (تكريرها).

(2) سقطت من أ.

(3) فى ب: (تشابهها).

(4، 5، 6) سقطت من ب.

(7) كتاب «لباب التفسير و عجائب التأويل» ذكره ياقوت فى معجم الأدباء 19/ 25 و الداودى فى طبقات المفسرين 2/ 242، و هو مطبوع فى مجلدين (المراجع).

(8) فى أ: (و لكن).

(9) فى ب: (و نظيرها).

(10) سقطت من أ.

(11) أبو مسلم هو: محمد بن محمد على بن الحسين بن مهرايزد النحوى المعلم الأصبهانى الأديب. كان نحويّا غاليا فى الاعتزال، صنّف تفسيرا فى عشرين مجلدا. ولد عام 266 ه و مات فى 459 ه. انظر (بغية الوعاة 1/ 655، شذرات الذهب 3/ 307، لسان الميزان 5/ 298، ميزان الاعتدال 3/ 655، و الوافى بالوفيات 4/ 130).

(12) هو: أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه المعروف بالخطيب الإسكافى أحد علماء اللغة و الأدب من أهل أصبهانى، و كان إسكافا، ولى خطابة الرى و مات سنة 420 ه. له كتب فى

اللغة و الأدب.

(13) و قد سميناه «أسرار التكرار فى القرآن الكريم» لما بيّنّاه فى المقدمة، للعدول عن التسمية الأصلية (المراجع).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 65

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة

1- أول المتشابهات قول: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ فيمن جعل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية «1» من الفاتحة. و فى تكراره قولان: قال على بن عيسى «2»: إنما كرّر للتوكيد، و أنشد قول الشاعر:

هلّا سألت جموع كن دة يوم ولّوا أين أينا

و قال قاسم بن حبيب «3»: إنما كرّر لأن المعنى: وجب الحمد للّه لأنه الرحمن الرحيم.

قلت: إنما كرّر لأن الرحمة هى: الإنعام على المحتاج. و ذكر فى الآية الأولى المنعم و لم يذكر المنعم عليهم، فأعادها مع ذكرهم و قال:

رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ لهم جميعا «4»، ينعم عليهم و يرزقهم الرَّحِيمِ بالمؤمنين خاصة يوم الدين، ينعم عليهم و يغفر لهم.

2- قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. كرر إِيَّاكَ و قدّمه، و لم يقتصر على ذكره مرة، كما اقتصر على ذكر أحد المفعولين فى آيات كثيرة منها: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى «5». أى: ما قلاك.

و كذلك الآيات التى بعدها معناها: (فآواك- فهداك- فأغناك)، لأن فى التقديم فائدة، و هى: قطع الاشتراك، و لو حذف لم يدل على

__________________________________________________

(1) الذين جعلوا البسملة آية من الفاتحة: ابن عباس، و ابن عمر، و ابن الزبير، و مكحول، و طاوس، و ابن المبارك، و

ابن شهاب و طائفة لا تحصى و الشافعى و ابن وهب المالكى، و أحمد، و إسحاق، و أبو عبيد، و طائفة من أهل النظر و الأصول (العلوم و المعانى ورقة 15).

(2) على بن عيسى أبو الحسن الرمانى مفسر من كبار النحاة. ولد ببغداد و مات بها سنة 384 ه. له مؤلفات منها: التفسير و هو مفقود، و المعلوم و المجهول، و الأكوان، و رسائل فى إعجاز القرآن ... و غيرها. انظر ترجمته فى: (بغية الوعاة 2/ 180، 181، وفيات الأعيان، و تاريخ بغداد 2/ 16، و نزهة الألباء 289، و إنباء الرواة 2/ 294).

(3) قاسم بن حبيب ذكره الزبيدى فى الطبقة الرابعة من النحاة بالقيروان. (طبقات النحويين و اللغويين 372)، و ذكره السيوطى فى بغية الوعاة 2/ 252/ 1917.

(4) فى أ: أجمعين.

(5) سورة الضحى، الآية 3.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 66

التقديم، لأنّك لو قلت: إياك نعبد و نستعين، لم يظهر أن التقدير: إياك نعبد و إياك نستعين، أم: إياك نعبد و نستعينك، فكرّره «1».

3- قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. كرّر الصِّراطَ لعلّه تقرب ممّا ذكرت فى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، و ذلك أن الصراط هو: المكان المهيأ للسلوك، فذكر فى الأول المكان، و لم يذكر السّالكين، فأعاده مع ذكرهم فقال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. أى: الذى يسلكه النبيون و المؤمنون. و لهذا كرّر أيضا فى قوله: ... إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللَّهِ «2» لأنه ذكر المكان المهيّأ، و لم يذكر المهيّئ. فأعاده مع ذكره فقال: صِراطِ اللَّهِ،

أى الذى هيّأه للسالكين.

4- قوله: عَلَيْهِمْ ليس بتكرار، لأن كل واحد منهما متصل بفعل غير الآخر، و هو: الإنعام، و الغضب. و كل واحد منهما يقتضيه اللفظ، و ما كان هذا سبيله فليس بتكرار و لا من المتشابه.

سورة البقرة

سورة البقرة

5- قوله تعالى: الم هذه الآية تتكرر فى أوائل ست سور، فهى من المتشابه لفظا، و ذهب جماعة من المفسرين إلى أن قوله:

وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «3» هى هذه الحروف الواقعة فى أوائل السور، فهى أيضا من المتشابه لفظا و معنى، و الموجب لذكره أول البقرة من

__________________________________________________

(1) و الفرق بينهما: أن معنى الأول: لا نعبد غيرك، و لا نستعين بسواك، و الثانى: لا نعبد غيرك و نستعين بك و بسواك. فكرّر إياك لقطع الاشتراك فى أىّ من الفعلين.

(2) سورة الشورى، آية 52، 53 و الصراط: الطريق و السبيل، و ذلك لقطع دعوى استقامة الطرق السلوكية التى يخترعها الناس، و لتخصيص الاستقامة بطريق اللّه وحده. و فى آية الفاتحة ذكر هذا المعنى مفهوما من نتيجة السلوك على الصراط، و هى: الإنعام على السالكين من اللّه. فإنعام اللّه على سالكيه دليل على أنه طريقه المرضى عنده.

(3) سورة آل عمران آية 7. و القول الذى نقله المؤلف هو قول مقاتل بن حيان. انظر (تفسير ابن كثير 2/ 5).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 67

القسم و غيره، و هو بعينه الموجب لذكره فى أوائل سائر السور المبدوءة به، و زاد فى الأعراف صادا لما جاء بعده: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ «1» و

لهذا قال بعض المفسرين: معنى المص «2» أ لم نشرح لك صدرك. و قيل: معناه المصور. و زاد فى الرعد راء لقوله بعده: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ «3».

6- قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ «4»، و فى يس: وَ سَواءٌ «5» بزيادة واو، لأن ما فى البقرة جملة هى خبر عن اسم إن، و ما فى يس جملة عطفت بالواو على جملة.

7- قوله: آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «6» ليس فى القرآن غيره تكرار العامل مع حرف العطف لا يكون إلّا للتأكيد، و هذه حكاية كلام المنافقين، و هم أكّدوا كلامهم نفيا للريبة، و إبعادا للتهمة، فكانوا فى ذلك كما قيل: (يكاد المريب يقول خذونى). فنفى اللّه الإيمان عنهم بأوكد الألفاظ فقال: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «7»، و يكثر ذلك مع النفى، و قد جاء فى القرآن فى موضعين: فى النساء: وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «38»، و فى التوبة: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «29».

8- قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «21» ليس فى القرآن غيره، لأن العبادة فى الآية: التوحيد «8».

__________________________________________________

(1) سورة الأعراف: 2.

(2) سورة الأعراف: 1.

(3) سورة الرعد: 2.

(4) سورة البقرة: 6.

(5) سورة يس: 10.

(6) سورة البقرة: 8.

(7) سورة البقرة: 8.

(8) انظر فى تفسير هذه الآية القرطبى 1/ 238، و الكشاف 1/ 80، و البيضاوى 1/ 16، و مثل قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الذاريات: 56. أى يوحدون، و مثل قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ الزخرف 81. أى الموحدين انظر تفسير الطبرى 27/ 228، و القرطبى 17/ 55 (المراجع).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 68

و التوحيد أول ما يلزم العبد من المعارف، فكان هذا أول خطاب خاطب اللّه به الناس فى القرآن، فخاطبهم بما ألزمهم أولا، ثم ذكر سائر المعارف، و بنى عليها العبادات فيما بعدها من السور و الآيات.

فإن قيل: سورة البقرة ليست من أول القرآن نزولا، فلا يحسن فيها ما ذكرت.

قلت: أول القرآن سورة الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، على هذا الترتيب إلى سورة الناس، و هكذا هو عند اللّه فى اللوح المحفوظ، و هو على هذا الترتيب كان يعرضه عليه الصلاة و السلام على جبريل عليه السلام كل سنة أى: ما كان يجتمع عنده منه، و عرضه عليه الصلاة و السلام فى السنة التى توفى فيها مرتين «1»، و كان آخر الآيات نزولا: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «2»، فأمره جبريل أن يضعها بين آيتى الرّبا و الدين «3».

و ذهب جماعة من المفسرين إلى أن قوله فى هود: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ «13» معناه: مثل البقرة إلى هود، و هى العاشرة، و معلوم أن سورة هود مكية، و أن البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنفال، و التوبة مدنيات نزلن بعدها.

__________________________________________________

(1) نقل القرطبى 1/ 60 عن أبى بكر بن الأنبارى: أن اللّه تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ثم فرق على النبى صلى اللّه عليه و سلم فى عشرين سنة. و كانت السورة تنزل فى أمر يحدث، و الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل، و يوقف جبريل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على موضع

السورة و الآية ...

فمن أخّر سورة مقدّمة، أو قدّم سورة مؤخّرة، فهو كمن أفسد نظم الآيات. و حديث عرض القرآن مرتين فى آخر حياة النبى صلى اللّه عليه و سلم أخرجه أحمد فى المسند عن ابن عباس المسند 1/ 213، و موافقة ما فى مصحف عثمان للعرضة الأخيرة نقله القسطلانى عن الإمام أحمد، و ابن أبى داود فى المصاحف، و الطبرى من طريق عبيدة السلمانى، و محمد بن سيرين (لطائف الإشارات 1/ 30، و انظر الإتقان 1/ 77- 79) فقد استوعب السيوطى آراء العلماء فى ترتيب السور و الآيات و أنها من الوحى، و كذلك انظر مقدمة (تناسق الدرر فى تناسب السور) للسيوطى أيضا.

(2) سورة البقرة: 281.

(3) تفسير القرطبى 1/ 60، 61 أخرجه عن ابن عباس، خلافا لما روى عن البراء: أن آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... [سورة النساء: 176].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 69

و فسّر بعضهم قوله: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «73: 4» أى:

اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم و تأخير، و جاء النكير على من قرأه معكوسا «1»، و لو حلف إنسان أن يقرأ القرآن على الترتيب لم يلزمه إلّا على هذا الترتيب، و لو نزل جملة كما اقترحوا عليه بقولهم: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «25: 32» لنزل على هذا الترتيب، و إنما تفرقت سوره و آياته نزولا لحاجة الناس حالة بعد حالة، و لأن فيه الناسخ و المنسوخ، و لم يكونا ليجتمعا نزولا.

و أبلغ الحكم فى

تفرقة ما قاله سبحانه: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «17: 106» و هذا أصل تنبنى عليه مسائل، و اللّه أعلم.

9- قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «2: 23» بزيادة مِنْ السورة، و غيرها بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «10: 38»، لأن مِنْ تدل على التبعيض، و لما كانت هذه السورة سنام القرآن «2» و أوله بعد الفاتحة، حسن دخول مِنْ فيها ليعلم أن التحدى واقع على جميع سور القرآن من أوله إلى آخره، و غيرها من السور لو دخلها مِنْ لكان التحدى واقعا على بعض السور دون بعض، و لم يكن ذلك بالسهل.

و الهاء فى قوله: مِنْ مِثْلِهِ تعود إلى مِمَّا «3» و هو القرآن، و ذهب بعضهم إلى أنه يعود على محمد عليه الصلاة و السلام «4»، أى:

__________________________________________________

(1) هذا هو رأى ابن مسعود و ابن عمر. انظر تفسير القرطبى 1/ 61. و قد فسره القرطبى بقراءة السورة منكوسة أى من آخرها إلى أولها.

(2) أخرجه أحمد فى المسند 5/ 26 عن معقل بن يسار عن النبى صلى اللّه عليه و سلم: «البقرة سنام القرآن و ذروته ...» الحديث، و فى الترمذى 8/ 181 عن أبى هريرة عن النبى صلى اللّه عليه و سلم: «لكل شى ء سنام و إن سنام القرآن البقرة» أخرجه الطبرانى و أبو حاتم و ابن حبان فى صحيحه (مجمع الزوائد 2/ 447)، و الدارمى فى فضائل القرآن 2/ 447 عن ابن مسعود.

(3) إشارة إلى ما فى قوله تعالى فى نفس الآية: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا ....

(4) و هو مدلول عليه فى الآية بقوله: عَلى عَبْدِنا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 70

فأتوا بسورة من إنسان مثله، و قيل: يعود إلى الأنداد «1» و هو ضعيف.

لأن الأنداد جماعة، و الهاء لفرد. و قيل: مثله: التوراة، و الهاء تعود إلى القرآن. و المعنى: فأتوا بسورة من التوراة التى هى مثل القرآن ليعلموا وفاقهما. (و هو) خطاب لليهود.

10- قوله: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ «2: 34» ذكر هذه الخلال فى هذه السورة جملة، ثم ذكرها فى سائر السور مفصلا، فقال فى الأعراف «2»: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ «11».

و فى سبحان (الإسراء) «3»: إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «61». و فى الكهف: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ «4» «50».

و فى طه: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى «116». و فى ص: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «74» «5».

11- قوله: اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا «35» بالواو.

و فى الأعراف: فَكُلا «19» بالفاء. اسْكُنْ فى الآيتين ليس بأمر بالسكون الذى هو ضد الحركة، و إنما الذى فى البقرة من السكون الذى معناه الإقامة (و ذلك يستدعى زمانا ممتدا) فلم يصح إلّا بالواو، لأن المعنى: اجمع بين الإقامة فيها و الأكل من ثمارها. و لو كان الفاء مكان الواو لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة، لأن الفاء للتعقيب و الترتيب. و الذى فى الأعراف من السكنى الذى معناها:

اتخاذ الموضع مسكنا، لأن اللّه تعالى أخرج إبليس من الجنة بقوله:

__________________________________________________

(1) الأنداد فى قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً آية 22 من نفس السورة.

و الأنداد: النظراء و الشركاء. (المراجع)

(2) فى أ، ب: فى الفرقان،

و الآية فى الأعراف كما أثبتناه و ليست فى الفرقان.

(3) إضافات من المراجع.

(4) الآية: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... [الكهف: 50].

(5) لم يذكر المؤلف علّة الإجمال و التفصيل. و أقول: إن هذه قضية تتعلق بالعقيدة، و كل ما كان من أصول العقيدة فى القرآن بدئ فيه بالكلى، ثم بالجزئيات، إلزاما لصيانة الاعتقاد.

و كل ما هو من أصول التشريع جاء تدريجيا، من الجزئى إلى الكلى.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 71

اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً «18» و خاطب آدم فقال: وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ «19» أى: اتخذاها لأنفسكما مسكنا فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما «19»، فكانت الفاء أولى، لأن اتخاذ المسكن لا يستدعى زمانا ممتدا، و لا يمكن الجمع بين الاتخاذ و الأكل فيه، بل يقع الأكل عقيبه.

و زاد فى البقرة رَغَداً لما زاد فى الخبر تعظيما بقوله:

وَ قُلْنا، بخلاف سورة الأعراف، فإن فيها قالَ. و الخطيب ذهب إلى أن ما فى الأعراف خطاب لهما قبل الدخول، و ما فى البقرة بعد الدخول «1».

12- قوله: اهْبِطُوا مِنْها «38»، كرّر الأمر بالهبوط «2» لأن الأول من الجنة و الثانى من السماء.

13- قوله: فَمَنْ تَبِعَ «38»، و فى طه: فَمَنِ اتَّبَعَ «123» تبع و اتبع بمعنى، و إنما اختار فى طه اتَّبَعَ موافقة لقوله تعالى: يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: 108].

14- قوله: وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ «48» قدم الشفاعة فى هذه الآية و أخّر العدل، و قدم العدل فى الآية الأخرى

«3» من هذه السورة و أخّر الشفاعة. و إنما قدم الشفاعة قطعا

__________________________________________________

(1) انظر: (درة التنزيل و غرة التأويل ص 11) نشر دار الآفاق الجديدة فى بيروت 1973 م و فيه كذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء. و كان الأول مع الثانى بمنزلة الشرط و الجزاء، فالأصل فيه عطف الثانى على الأول بالفاء، و ما لم يكن كذلك فالعطف بالواو. و من الأول الآية رقم (19، 161) الأعراف، و (58) البقرة. و من الثانى آية البقرة هنا (35).

(2) التكرار فى نفس السورة: وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [البقرة: 36].

و الآية الأخرى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] (المراجع).

(3) الآية الأخرى فى نفس السورة وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ (132)، و العدل هنا: الفدية.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 72

لطمع من زعم أن آباءهم تشفع لهم، و أن الأصنام شفعاؤهم عند اللّه «1»، و أخرها فى الآية الأخرى لأن التقدير فى الآيتين معا: لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن النفع بعد القبول، و قدم العدل فى الآية الأخرى ليكون لفظ القبول مقدما فيها.

15- قوله: يُذَبِّحُونَ «49» بغير واو هنا على البدل من (يسومونكم) «2» و فى الأعراف: يَقْتُلُونَ «141». و فى إبراهيم:

وَ يُذَبِّحُونَ «6» بالواو، لأن ما فى «هذه السورة» و «الأعراف» من كلام

اللّه تعالى، فلم يرد تعداد المحن عليهم، و الذى فى «إبراهيم» من كلام موسى، فعدد المحن عليهم، و كان مأمورا بذلك فى قوله:

وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ «14: 5».

16- قوله: وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «57» هاهنا، و فى الأعراف «160». و قال فى آل عمران: وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «117» لأن ما فى السورتين إخبار عن قوم ماتوا و انقرضوا، و ما فى آل عمران مثل «3».

17- قوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا «58» بالفاء، و فى الأعراف «161» بالواو، لأن الدخول سريع الانقضاء، فيتبعه الأكل، و فى (الأعراف) «4»: وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا «161»

__________________________________________________

(1) و يرى الإسكافى أن الآية الأولى جمعت على الترتيب كل الأمور التى يدفع بها المكروه عن الأعزة و نفت حدوثها فى الآخرة. فالعرب تدافع عن العزيز بغاية القوة و الجلد كما يدفع الوالد عن ولده، فإذا عجزوا عادوا بوجوه الضراعة و الشفاعة، فإذا عجزوا عرضوا الفداء بالمال أو غيره.

و على مقتضى التقاليد العربية نفت الآية جدوى تلك التقاليد فى الآخرة (درة التنزيل ص 12).

(2) قال الزجاج: يسومونكم: يولونكم سوء العذاب. و قال الليث: السوم: أن تجشم إنسانا مشقة أو سوءا أو ظلما (لسان العرب 12/ 312).

(3) سياق الآيات فى البقرة و الأعراف عن بنى إسرائيل، و كان المخاطبون بها قد ماتوا و انقرضوا قبل البعثة المحمدية. و المثل فى آل عمران قوله: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (177).

(4) سقطت من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 73

المعنى: أقيموا فيها، و ذلك ممتد، فذكر بالواو، أى: اجمعوا بين الأكل و السكون، و زاد فى البقرة رَغَداً لأنه سبحانه أسنده إلى ذاته بلفظ التعظم و هو قوله: وَ إِذْ قُلْنا خلاف ما فى الأعراف، فإن فيه:

وَ إِذْ قِيلَ.

و قدم وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً على قوله: وَ قُولُوا حِطَّةٌ فى هذه السورة، و أخّرها فى الأعراف، لأن السابق فى هذه السورة ادْخُلُوا فبيّن كيفية الدخول «1».

و فى هذه السورة خَطاياكُمْ «58» بالإجماع. و فى الأعراف خَطِيئاتِكُمْ «161» مختلف «2» لأن خطايا صيغة الجمع الكثير، و مغفرتها أليق فى الآية بإسناد الفعل إلى نفسه سبحانه.

و فى هذه السورة وَ سَنَزِيدُ، و فى الأعراف سَنَزِيدُ بغير واو، لأن اتصالها فى هذه السورة أشد، لاتفاق اللفظين. و اختلفا فى الإعراب لأن اللائق سَنَزِيدُ محذوف الواو ليكون استئنافا لكلام «3».

__________________________________________________

(1) قال الإسكافى: إن ما أخبر اللّه به من قصة موسى و بنى إسرائيل و سائر الأنبياء لم يقصد به حكاية الألفاظ بأعيانها، و إنما قصد اقتصاص معانيها، و كيف لا يكون كذلك و اللغة التى خوطبوا بها غير العربية، فحكاية اللفظ إذن زائلة، و تبقى حكاية المعنى، و من حكاية المعنى كان مخبرا بأى لفظ أراد، و كيف شاء من تقديم و تأخير بحرف لا يدل على الترتيب كالواو. و على هذا يقاس نظائره فى القرآن (درة التنزيل ص 17).

(2) قرأ نافع و ابن عامر (تغفر) بالتاء مضمومة و فتح الفاء، و الباقون بالنون مفتوحة (نغفر).

و قرأ أبو عمرو (خطاياكم) على لفظ قضاياكم، من غير همز، و ابن عامر

(خطيئتكم) بالهمز و ضم التاء من غير ألف، على التوحيد، و نافع كذلك إلّا أنه على الجمع، و الباقون كذلك إلّا أنهم يكسرون التاء (التيسير ص 114) طبعة إستانبول 1920 م.

(3) بيان ذلك: أن ادْخُلُوا من قوله تعالى فى البقرة: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا وقعت فى موضع المفعول من قُلْنَا. و المفعول يكون مفردا، و يكون مكانه جملة، و الفاعل عند البصريين لا يكون إلّا مفردا، و لا تصح الجملة مكانه، و لذلك يقولون فى قوله فى سورة يوسف: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ (35). إن فاعل بَدا هو البداء الذى دل عليه الفعل، لأن الفعل دال على مصدر، و كذلك قوله تعالى فى السجدة:

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا (26). فاعل يَهْدِ عند البصريين يكون الفاعل فى قوله فى الأعراف: وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا مفردا، و لا يصح أن يكون جملة، و لا يجوز أن يكون

أسرار التكرار في القرآن، ص: 74

و فى هذه السورة فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا «59». و فى الأعراف «162» ظَلَمُوا مِنْهُمْ، (لأن فى الأعراف) «1» وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى «159»، و لقوله: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ «7: 168».

و فى هذه السورة فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «59»، و فى الأعراف فَأَرْسَلْنا «162»، لأن لفظ الرسول و الرسالة كثرت فى الأعراف، فجاء ذلك وفقا لما قبله، و ليس كذلك فى سورة البقرة.

18- قوله: فَانْفَجَرَتْ «60»، و فى الأعراف: فَانْبَجَسَتْ «160»، لأن الانفجار: انصباب الماء بكثرة. و الانبجاس: ظهور

الماء.

و كان فى هذه السورة كُلُوا وَ اشْرَبُوا فذكر بلفظ بليغ. و فى الأعراف: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و ليس فيه: و اشربوا. فلم يبالغ فيه.

19- قوله: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ «61» فى هذه السورة، و فى آل عمران: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ «21» و فيها و فى النساء: وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ «155»، لأن ما فى البقرة إشارة إلى الحق الذى أذن اللّه أن تقتل النفس به، و هو قوله: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «6: 151» فكان الأولى أن يذكر «2»

__________________________________________________

اسْكُنُوا مكان الفاعل كما كان ادْخُلُوا مكان المفعول، فى قوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا. فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل لفظا مفردا، هو القول، كما كان البداء فاعل قوله: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ، و إذا خرج قوله: اسْكُنُوا عن كونه فاعلا و كان لفظه فى موضع الفاعل، و لم يتعلق بالفعل الذى قبله تعلق الفاعل بفعله، و لا تعلق المفعول بفعله الواقع فيه فى قوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا صار كأنه منفصل عن الفعل فى الحكم، و إن كان متصلا به فى اللفظ، و جواب الأمر الذى هو اسكنوا قوله: نَغْفِرْ لَكُمْ. و الجواب فى حكم الابتداء، ينفصل كما يتصل، و لا دليل فى اللفظ على انفصاله إلّا بفصل ما أصله أن يكون متعلقا به بحرف عطف، و هو سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، بحذف الواو منه، و استئنافه خبرا مفردا. (درة التنزيل ص 17، 18).

(1) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(2) فى أ: فكان الأولى الذكر.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 75

معرفا، لأنه من اللّه تعالى، و ما فى آل عمران و النساء نكرة، أى بغير حق فى معتقدهم و دينهم، فكان هذا بالتنكير أولى. و جمع النبيين جمع السلامة فى البقرة لموافقة ما بعده من جمعى السلامة و هو النَّبِيِّينَ- الصَّابِئِينَ، و كذلك فى آل عمران إِنَّ الَّذِينَ- و ناصِرِينَ- و مُعْرِضُونَ بخلاف الْأَنْبِياءَ فى السورتين.

20- قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ «62»، و قال فى الحج: وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى «17»، و قال فى المائدة: وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى «69»، لأن النصارى مقدمون على الصابئين فى الرتبة، لأنهم أهل كتاب «1»، فقدمهم فى البقرة. و الصابئون مقدمون على النصارى فى الزمان، لأنهم كانوا قبلهم، فقدمهم فى الحج. و داعى «2» فى المائدة (بين) «3» المعنيين، و قدمهم فى اللفظ، و أخرهم فى التقدير «4»، لأن تقديره و الصابئون كذلك «5».

قال الشاعر:

فإن يك أمسى بالمدينة رحله. فإنى و قيار بها لغريب «6»

__________________________________________________

(1) فى أ: أهل الكتاب.

(2) فى أ: و راعى.

(3) سقطت من أ.

(4) فى ب: التقديم.

(5) الصابئون: يزعمون أنهم على دين نوح، و فى الصحاح: جنس من أهل الكتاب قبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار. و فى التهذيب: يشبه دينهم دين النصارى، و قبلتهم نحو مهب الجنوب (لسان العرب 1/ 107).

و ترتيب الطوائف فى المائدة جامع للترتيب بالكتب و بالزمان، فتقديم الصابئين فيها على النصارى يدل على ترتيب الزمان. و رفعها بين المنصوبات يدل على نية تأخيرهم، و الترتيب بالكتب السماوية. و ترتيبهم فى البقرة بالكتب، فأخّر المجوس لأنهم لا

كتاب لهم. و ترتيبهم فى الحج بالأزمنة، فقدمهم لأنهم قبل النصارى، و لم يقصد الترتيب بالكتب، لأن أكثر المذكورين ممن لا كتب لهم. و أخر الذين أشركوا و إن تقدمت لهم أزمنة لأنهم كانوا أكثر من ابتلى بهم الرسول صلى اللّه عليه و سلم و يحادهم، فكانوا أهل زمانه أيضا.

(6) البيت من قصيدة لضابئ البرجمى. و كان عثمان رضى اللّه عنه اعتقله، لأنه كان قد همّ بقتله. و قيّار: اسم رجل، أو فرس، أو جمل (لسان العرب 5/ 124، 125).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 76

أراد: إنى لغريب و قيار كذلك. فتأمل فيها و فى أمثالها يظهر لك إعجاز القرآن.

21- قوله: أَيَّاماً مَعْدُودَةً «80»، و فى آل عمران: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ «24»، لأن الأصل فى الجمع إذا كان واحده مذكرا أن يقتصر فى الوصف على التأنيث، نحو قوله: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ «88: 13- 16»، و قد يأتى: سرر مرفوعات على تقدير: ثلاث سرر مرفوعة، و تسع سرر مرفوعات، إلّا أنه ليس بالأصل، فجاء فى البقرة على الأصل، و فى آل عمران على الفرع. و قوله: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ «203». أى: فى ساعات أيام معدودات «1»، و كذلك فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ «22: 28».

22- قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ «94، 95»، و فى الجمعة: وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ «7»، لأن دعواهم فى هذه السورة بالغة قاطعة، و هى: كون الجنة (لهم) «2» بصفة الخلوص، فبالغ فى الرد عليهم بلن، و هو

أبلغ «3» ألفاظ النفى، و دعواهم فى الجمعة قاصرة مترددة، و هى زعمهم أنهم أولياء اللّه «4»، فاقتصر على (لا).

23- قوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «100»، و فى غيرها:

لا يَعْقِلُونَ- لا يَعْلَمُونَ، لأنهم بين ناقض عهد، و جاحد حق، إلّا القليل، منهم عبد اللّه بن سلام و أصحابه، و لم يأت هذان المعنيان معا «5» فى غير هذه السورة.

__________________________________________________

(1) و ذلك لأن المراد من (اذكروا) أن يكبروا فى اليوم الواحد فى أدبار الصلوات الخمس، فحذفت الساعات، و أقيم المضاف إليها مقامها.

(2) سقطت من ب.

(3) فى ب: بما هو أبلغ.

(4) و ذلك فى قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [6]. فدعواهم هنا ليست المطلوب الذى ليس وراءه مطلوب كدعواهم فى البقرة أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس.

(5) و هما: نقض العهد، و جحد الحق عند اليهود، و يوضحه قوله تعالى فى نفس

أسرار التكرار في القرآن، ص: 77

24- قوله: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ «120»، و فيها أيضا: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ «145» فجعل مكان قول الَّذِي ما و زاد فى أوله مِنْ، لأن العلم فى الآية الأولى علم بالكمال، و ليس وراءه علم، لأن معناه:

بعد الذى جاءك من العلم باللّه و صفاته، و بأن الهدى هدى اللّه، و معناه: بأن دين اللّه الإسلام، و أن القرآن كلام اللّه، فكان لفظ الَّذِي «1» أليق به من لفظ ما،

لأنه فى التعريف أبلغ، و فى الوصف أقعد، لأن الَّذِي تعرفه صلته فلا يتنكر قط، و تتقدمه أسماء الإشارة، نحو قوله: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ «67:

20»، أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ «67: 21» فيكتنف الَّذِي بيانان: «2» هما الإشارة قبلها و الصلة بعدها، و يلزمه الألف و اللام، و يثنى و يجمع، و ليس لما شى ء من ذلك، لأنه يتنكر مرة و يتعرف أخرى، و لا يقع وصفا لأسماء الإشارة، و لا تدخله الألف و اللام، و لا يثنى و لا يجمع.

و خص الثانى بِما لأن المعنى: من بعد ما جاءك من العلم بأن قبلة اللَّهِ «3» هى الكعبة، و ذلك قليل من كثير من العلم، و زيدت «4» معه مِنْ التى لابتداء الغاية، لأن تقديره: من الوقت الذى جاءك فيه العلم بالقبلة، لأن القبلة الأولى نسخت بهذه الآية، و ليست الأولى مؤقتة بوقت.

و قال فى سورة الرعد: بَعْدَ ما جاءَكَ «37». فعبر بلفظ ما و لم يزد مِنْ لأن العلم هنا هو: الحكم العربى «5»، أى:

__________________________________________________

السورة: قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [93]، و قوله:

أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [100].

(1) سقطت من أ.

(2) فى أ: بنيانات.

(3) سقطت من ب.

(4) فى أ: و تزيدت.

(5) الحكم العربى هو المذكور فى نفس الآية: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 78

القرآن. فكان بعضا من الأول، و لم يزد

فيه مِنْ لأنه غير مؤقت، و قريب من معنى القبلة ما فى آل عمران: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ «61» فهذا جاء بلفظ ما و زيدت فيه مِنْ «1».

25- قوله: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً «7، 48 و 122، 123» هذه الآية و التى قبلها متكررتان، و إنما كررت لأن كل واحدة منهما صادفت معصية تقتضى تنبيها و وعظا، لأن كل واحدة وقعت فى غير وقت الأخرى. و المعصية الأولى:

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ «44»، و الثانية: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ «120».

26- قوله: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً «126»، و فى إبراهيم: هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «35»، لأن هَذَا «2» هنا إشارة إلى المذكور فى قوله: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ «37» قبل بناء الكعبة، و فى إبراهيم إشارة إلى البلد بعد الكعبة «3». فيكون بَلَداً فى هذه السورة المفعول الثانى، و آمِناً صفته «4» و هَذَا الْبَلَدَ فى إبراهيم المفعول الأول، و آمِناً المفعول الثانى «5».

__________________________________________________

(1) و مما يبين الأغراض المذكورة: ما اقترن بكل منها من الوعيد. ففي الآية الأولى منعه اللّه بعلمه عن الكفر فى قوله: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى ، و ختمها بقوله: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ. و فى آية الرعد كان العلم مانعا من ترك شطر القرآن، فكانت خاتمها: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ. أما اتباع أهوائهم فى أمر القبلة فلما كان مما يجوز نسخه كان الوعيد عليه أخف:

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ

الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.

(درة التنزيل ص 28، 29).

(2) سقطت من أ.

(3) فى ب: بعد البناء.

(4) فى أ: نعته.

(5) ما بين الحاصرين سقط من أ.

و فى (درة التنزيل ص 29): هذا هو المفعول الأول، و البلد عطف بيان على مذهب سيبويه، و صفة على مذهب أبى العباس المبرد، و آمنا مفعول ثان.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 79

و قيل: لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة «1»، و قيل: تقديره فى البقرة: البلد بلدا آمنا. فحذف اكتفاء بالإشارة، فتكون الآيتان سواء «2».

27- قوله: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا «136» فى هذه السورة. و فى آل عمران عَلَيْنا «84»، لأن إِلى للانتهاء إلى الشي ء من أى جهة كانت، و الكتب منتهية إلى الأنبياء و إلى أممهم جميعا. و الخطاب فى هذه السورة لهذه الأمة «3»، لقوله تعالى: قُولُوا «136» فلم يصح إلّا إِلى و عَلى مختص بجانب الفوق «4»، و هو مختص بالأنبياء، لأن الكتب منزلة عليهم، لا شركة للأمة فيها.

و فى آل عمران قُلْ «84» و هو مختص بالنبى صلى اللّه عليه و سلم دون أمته، فكان الذى يليق به عَلى .

و زاد فى هذه السورة: وَ ما أُوتِيَ. و حذف من آل عمران، لأن فى آل عمران قد تقدم ذكر الأنبياء حيث قال: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ «81» «5».

28- قوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ «149» هذه الآية مكررة ثلاث مرات. قيل: إن الأولى لنسخ القبلة، و الثانية للسبب «6»، و

هو قوله: وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ «149»، و الثالثة للعلة، و هو قوله:

لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ «150»، و قيل: الأولى فى مسجد المدينة، و الثانية خارج المسجد، و الثالثة خارج البلد.

__________________________________________________

(1) قال الإسكافى: هذا التعليل ليس بشي ء، و ليس هذا مثالا له، و لا هذا مكانه. (درة التنزيل ص 30).

(2) و يكون المراد فى الآيتين الدعاء للبلد بالأمن. كما تقول: كن رجلا كريما، فليس المراد الأمر بأن يكون المخاطب رجلا، و إنما المراد: بأن يكون كريما.

(3) فى ب: للأمة.

(4) فى أ: الفوت: تحريف.

(5) يعنى: لأن قوله: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ هو معنى: وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ و مع هذا فقد جاء بعده: وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى . فكان هذا مغنيا عن تكرار الإيتاء للنبيين.

(6) فى: السبب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 80

و قيل: (فى) «1» الآيات خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه القبلة، و خروج إلى مكان لا ترى، أى: الحالتان فيه سواء.

قلت: (إنّما) «2» كرر لأن المراد بذلك: الحال، و المكان، و الزمان، و قلت فى الآية الأولى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ و ليس فيها وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فجمع فى الآية الثالثة بين قوله: حَيْثُ خَرَجْتَ- وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ، ليعلم أن النبى صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين فى ذلك سواء.

29- قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا «160» ليس فى هذه مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. و فى غيرها: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ «3: 89» لأن قبله هنا: مِنْ

بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ «159» فلو أعاد التبس «3».

30- قوله: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «164» خص العقل بالذكر لأن به «4» يتوصّل إلى معرفة الآيات. و مثله فى الرعد «4»، النحل «12»، و النور «61»، و الروم «24».

31- قوله: ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا «170» فى هذه السورة، و فى المائدة «104»، و لقمان «21»: ما وَجَدْنا لأن ألفيت يتعدى إلى مفعولين، تقول: ألفيت زيدا قائما، و ألفيت عمرا على كذا.

و وجدت يتعدى مرة إلى مفعول واحد، تقول: وجدت الضالة، و مرة إلى مفعولين، تقول: وجدت زيدا جالسا. فهو مشترك. فكان الموضع الأول باللفظ الأخص «5» أولى، لأن غيره إذا وقع موقعه فى الثانى و الثالث علم (أنّه) «6» بمعناه.

__________________________________________________

(1) سقطت من ب.

(2) سقطت من ب.

(3) وجه الالتباس هو عدم وضوح متعلق قوله: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. هل هو متعلق بقوله:

يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا [159] أو متعلق بقوله: تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا [160]. و المراد هنا الكتم بعد البيان، و المراد من الآيات التى ذكر فيها مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التوبة بعد الكتم.

(4) فى ب: لأنه يتوصل.

(5) فى ب: بلفظ الأخص.

(6) سقطت من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 81

32- قوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً «170»، و فى المائدة لا يَعْلَمُونَ «104»، لأن العلم أبلغ درجة من العقل، و لهذا جاز وصف اللّه به، و لم يجز وصفه بالعقل «1»، فكانت دعواهم فى المائدة أبلغ، لقولهم: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا «104». فادعوا النهاية بلفظ حَسْبُنا.

فنفى ذلك بالعلم و هو النهاية. و قال فى البقرة: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا «170»، و لم تكن النهاية «2» فنفى بما هو دون العلم، لتكون كل دعوى منفية بما يلائمها، و اللّه أعلم.

33- قوله: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ «173». قدم بِهِ فى هذه السورة، و أخرها فى المائدة «3»، و الأنعام «145»، و النحل «115»، لأن تقديم الباء «3» الأصل، فإنها تجرى مجرى الهمزة و التشديد فى التعدى، فكانت كحرف من الفعل، فكان الموضع الأول أولى بما هو الأصل، ليعلم ما يقتضيه اللفظ. ثم قدم فيما سواها ما هو المستنكر «4» و هو الذبح لغير اللّه، و تقديم ما هو الغرض أولى، و لهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، و الحال على ذى الحال، و الظرف على العامل فيه، إذا كان ذلك أكثر للغرض فى الإخبار.

34- قوله فى هذه السورة: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «173» و فى السور الثلاث «5» بحذفها، لأنه لما قال فى الموضع الأول: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ صريحا كان نفى الإثم «6» فى غيره تضمينا، لأن قوله:

__________________________________________________

(1) لا يجوز وصف اللّه بالعقل، لأن يعقل معناه: يحصر الشي ء بإدراكه له عما لا يدركه، و يقيده تمييزه له عن غيره مما لا يدركه، أو معناه: حبس النفس عما تدعو إليه الشهوات. و ليس فى الوجود شى ء لا يدركه اللّه، و ليس له شهوة فيحتبس عنها (درة التنزيل ص 39).

(2) لأن قولهم: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا لا يمنع أن يرجعوا عن اتباعهم آباءهم.

أما قولهم: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فيفيد انتهاءهم إلى عقيدة آبائهم، و استقرارهم عليها.

(3) فى ب: لأن فى تقديم الباء فى الأصول، و

ما أثبتناه أصح.

(4) فى أ: المتكثر. و فى ب: المستكثر. و السياق يقتضى ما أثبتناه.

(5) السور الثلاث: (الأنعام آية 145)، و (المائدة آية 3)، و (النحل آية 115).

(6) فى الأصل: كان النفى، و ما أثبتناه أبعد من اللبس.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 82

غَفُورٌ رَحِيمٌ يدل على أنه لا إثم عليه.

35- قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «173» فى هذه السورة، خلاف سورة الأنعام فإن فيها: فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «145»، لأن لفظ الرب تكرر فى الأنعام مرات، و لأن فى الأنعام قوله: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ «141» الآية. و فيها ذكر الحبوب و الثمار، و أتبعها بذكر الحيوان، من الضأن، و المعز، و الإبل، و بها تربية الأجسام، فكان ذكر الرب فيها أليق «1».

36- قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «174» الآية فى السورة على هذا النسق، و فى آل عمران: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «77» لأن المنكر فى هذه السورة أكثر فالمتوعد «2» فيها أكثر «3»، و إن شئت قلت: زاد فى آل عمران: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ

__________________________________________________

(1) لم يذكر المؤلف سر اختصاص آية البقرة و آية النحل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ. و السر أنه

تقدم على الآيتين الحديث عن الألوهية و ما يختص بها. فتقدم فى البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، و ختم بقوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ... كذا و كذا. فتقدم لفظ اللَّهِ و تقدم التحريم و لا يملكه إلّا اللّه، و العبادة و هى واجبة للّه. و فى النحل: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فأشبه ما فى البقرة. و كان لفظ اللَّهُ أولى و أخص بالآيتين. و انظر (درة التنزيل ص 42).

(2) فى أ: فالمتوكل.

(3) كثرة المنكر فى آية البقرة بكثرة الذنوب التى ارتكبوها. فقال تعالى فى صدر الآية:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ... الآية. فسجل عليهم: أنهم خالفوا اللّه فى أمره، و نقضوا ما عاهدهم عليه، فى قوله تعالى فى آل عمران: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ... الآية [187]. فخالفوا و ارتكبوا ما حرم اللّه ثم آثروا القليل من الدنيا على

أسرار التكرار في القرآن، ص: 83

فى مقابلة: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ.

37- قوله فى آية الوصية: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «181» خص السمع بالذكر لما فى الآية من قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ، ليكون مطابقا. و قال فى الآية الأخرى بعدها: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «182» لقوله قبله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فهو مطابق معنى له.

38-

قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ «184» قيد بقوله: مِنْكُمْ، و كذلك: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ «196»، و لم يقيد «1» فى قوله: وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ «185»، اكتفاء «2» بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «185» لاتصاله به.

39- قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها «187»، و قال بعده: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها «229»، لأن الحد الأول نهى و هو قوله: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ «187»، و ما كان من الحدود نهيا أمر بترك المقاربة، و الحد الثانى أمر، و هو بيان عدد الطلاق «3» بخلاف ما كان عليه العرب من المراجعة بعد الطلاق من غير عدد و ما كان أمرا أمر بترك المجاوزة و هو الاعتداء «4».

40- قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «189»: جميع ما جاء

__________________________________________________

العظيم من عهد اللّه. فكان غلظ الوعيد لذلك أعظم. أما فى آل عمران فلم يذكر فى صدر الآية إلا بعض ما فى آية البقرة، إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية. انظر: [درة التنزيل 44، 45].

(1) فى ب: و لم يقيده.

(2) فى ب: اكتفى بقوله.

(3) و هو قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ... إلى قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [229].

(4) قال الإسكافى: الحدود ضربان: حد هو منع ارتكاب المحظور، و حد فاصل بين الحلال و الحرام. فالأول: ينهى عن مقاربته، و الثانى: ينهى عن مجاوزته. (درة التنزيل ص 36).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 84

فى القرآن من السؤال وقع عقبه الجواب بغير الفاء، إلّا فى قوله:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي «20: 105»، فإنه أجيب بالفاء، لأن الأجوبة فى الجميع كانت بعد السؤال، و فى طه قبل (وقوع) السؤال، فكأنه قيل: إن سئلت عن الجبال فقال: ينسفها ربى.

41- قوله: وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ «193» فى هذه السورة، و فى الأنفال: وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ «39»، لأن القتال فى هذه السورة مع أهل مكة، و فى الأنفال مع جميع الكفار، فقيده بقوله:

كُلُّهُ.

42- قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ «214». و قال فى آل عمران: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «142».

و قال فى التوبة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ... الآية «16»، الخطيب أطنب فى هذه الآيات، و محصول كلامه: أن الأول: للنبى صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين، و الثانى: للمؤمنين، و الثالث: للمخاطبين جميعا «1».

43- قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ «219، 220»، و فى آخر السورة: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ «266»، و مثله فى الأنعام «2»، لأنه لما بين فِي «3» الأول مفعول التفكر و هو قوله: فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ حذفه مما بعده للعلم به.

و قيل: فِي متعلقه بقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ «219».

__________________________________________________

(1) انظر: (الإسكافى ص 47، 48، 49، 50).

(2) الذى فى الأنعام: أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ [50] و لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [152] و ليس فيها لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.

(3) سقطت من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 85

44- قوله: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ «221» بفتح التاء، و الثانى بضمها «1»، لأن الأول: من نكحت، و الثانى: من أنكحت، و هو يتعدى إلى مفعولين (و المفعول) «2» الأول فى الآية: الْمُشْرِكِينَ و الثانى محذوف و هو الْمُؤْمِناتِ أى: لا تنكحوا المشركين النساء المؤمنات حتى يؤمنوا.

45- قوله: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ «231» «3» أجمعوا على تخفيفه إلّا شاذا «4» و ما فى غير هذه السورة قرئ بالوجهين، لأن قبله فَأَمْسِكُوهُنَّ «231»، و قبل ذلك فَإِمْساكٌ «229» فاقتضى ذلك التخفيف.

46- قوله: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ «232»، و فى الطلاق: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ ... «2» الكاف فى ذلِكَ «5» لمجرد الخطاب لا محل له «6» من الإعراب، فجاز الاختصار على التوحيد، و جاز إجراؤه على عدد المخاطبين، و مثله:

عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ «52»، و قيل: حيث جاء موحدا «7» فالخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم، و خص بالتوحيد فى هذه السورة لقوله: مَنْ كانَ مِنْكُمْ و جمع (فى) «8» الطلاق لما (لم) «9» يكن بعده مِنْكُمْ «10».

47- قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ

__________________________________________________

(1) و هو فى نفس الآية: وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [221] بضم التاء.

(2) سقطت من أ.

(3) فى ب: تمسوهم. خطأ.

(4) القراءة الشاذة عن ابن الزبير (و لا تماسكوهن) (مختصر شواذ القراءات لابن خالويه) نشر برجشتراسر. الرحمانية بمصر 1934 م.

(5) فى أ: ذلكم.

(6) فى ب: لها.

(7) فى أ: بواحد.

(8) سقطتا

من ب.

(9) سقطتا من ب.

(10) انظر: (القول الأخير عند الإسكافى ص 51).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 86

بِالْمَعْرُوفِ «234»، و قال فى (الآية) «1» الأخرى: مِنْ مَعْرُوفٍ «240»، لأن تقدير الأول [فيما فعلن بأمر اللّه و هو المعروف، و الثانى ] «2» فيما فعلن فى أنفسهن فعلا «3» من أفعالهن معروفا، أى:

جاز فعله شرعا «4».

قال أبو مسلم حاكيا عن الخطيب: إنما جاء المعروف الأول معرّف اللفظ لأن المعنى: بالوجه المعروف من الشرع لهن، و هو الوجه الذى دل اللّه عليه و أبانه. و الثانى: كان وجها من الوجوه التى لهن أن يأتينه، فأخرج مخرج النكرة لذلك.

قلت: النكرة إذا تكررت صارت معرفة، فإن قيل: كيف يصح ما قلت و الأول معرفة و الثانى نكرة؟ و ما ذهبت إليه يقتضى ضد هذا، بدليل قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «73: 15، 116»، فالجواب: أن هذه الآية بإجماع من المفسرين مقدمة على تلك الآية فى النزول، و إن وقعت متأخرة فى التلاوة. و لهذا نظير فى القرآن فى موضع آخر أو موضعين و قد سبق بيانه «5»، و أجمعوا أيضا على أن هذه الآية منسوخة بتلك الآية «6»، و المنسوخ سابق على الناسخ ضرورة، فصح ما ذكرت أن قوله:

__________________________________________________

(1) سقطت من ب.

(2) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(3) فى أ: (فعل).

(4) يفهم ذلك من صدر آية: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ

فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

أى: لا جناح عليكم فى أن يفعلن فى أنفسهن فعلا هو بأمر اللّه و هو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة فصار المعروف هنا محددا مشهورا. و فى الآية الثانية تخييرا لهن بين أمرين مشروعين هما: القعود، و الزواج. و هما مشروعان، فلم يكن المعروف الثانى إلا وجها من الوجوه المشروعة غير محدد، فلهذا خرج مخرج النكرة.

(5) انظر: الفقرة [26] سورة البقرة.

(6) أخرج البخارى عن الزبير أنه قال لعثمان: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... الآية. قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها؟ فقال عثمان: يا ابن أخى، لا أغير شيئا من مكانه.

انظر: (البخارى، هامش فتح البارى 8/ 33 طبع الهند، كذلك انظر الناسخ و المنسوخ للنحاس 72- 7 ط الخانجى).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 87

بالمعروف، هو ما ذكر فى قوله: من معروف. فتأمل فيه فإن هذا دليل على إعجاز القرآن «1».

48- قوله: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا «253». كرّر هنا تأكيدا. و قيل: ليس بتكرار، لأن الأول: للجماعة، و الثانى:

للمؤمنين. و قيل: كرّر تكذيبا لمن زعم (أن ذلك) «2» لم يكن بمشيئة اللّه تعالى.

49- قوله: وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ «271» فى هذه السورة بزيادة مِنْ موافقة لما بعدها، لأن بعدها ثلاث آيات فيها مَنْ على التوالى و هى قوله: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ثلاث مرات «3».

50- قوله: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «284».

(يغفر) مقدم فى هذه السورة و غيرها، إلّا فى المائدة فإن فيها:

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ

يَغْفِرُ «40»، لأنها نزلت بعدها فى حق السارق و السارقة «4»، و عذابهما يقع فى الدنيا، فقدم لفظ العذاب، و فى غيرها

__________________________________________________

(1) الآية دليل على أن القرآن من عند اللّه، فلو كان من عند النبى صلى اللّه عليه و سلم لوضع الآية الثانية أو لا بمقتضى كونها منسوخة، و بمقتضى المتعارف من لغة العرب حتى تتعرف النكرة بتكرارها حسب قواعد اللغة. و لكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتقدم الناسخ فى الترتيب باعتباره حكما يجب العمل به، على الفور، فهو مقدم لذلك، و أن يتأخر المنسوخ باعتباره مستبعدا من ناحية العمل به، و مع ذلك يأخذ حكم المقدم باعتباره سبقه فى النزول، فيتعرف بالتكرار و إن لم يكن جاريا على الترتيب المتعارف فى اللغة ظاهرا، و ليس هذا صنيع إنسان أمي، بل هو اللّه منزل الكتاب.

(2) سقطت من ب. و هو يقصد قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (المراجع).

(3) كررت مَنْ ثلاث مرات فى قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [272] و كررت كذلك فى قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [273]

(4) و ذلك فى قوله تعالى: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ [38]. و تلك المراعاة الدقيقة للمعانى من دقائق إعجاز القرآن، فالكلام البشرى يكثر فيه التجوز و

نسيان السوابق و اللواحق، دون كلام الحكيم سبحانه و تعالى.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 88

(قدم لفظ) «1» المغفرة رحمة منه تعالى، و ترغيبا للعباد فى المسارعة إلى موجبات «2» المغفرة (جعلنا اللّه تعالى منهم بمنّه و كرمه) «3».

سورة آل عمران

سورة آل عمران

51- قوله تعالى: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «9» أول السورة، و فى آخرها: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ «194»، فعدل من الخطاب إلى لفظ الغيبة فى أول السورة، و استمر على الخطاب فى آخرها، لأن ما فى أول السورة لا يتصل بالكلام الأول كاتصال ما فى آخرها، فإن اتصال قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «9» بقوله: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ «9» معنوى، و اتصال قوله: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ «194» بقوله: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا «194» لفظى و معنوى جميعا لتقدم لفظ الوعد، (و لا يجوز أن يكون الأول استئنافا) «3»، و الآخر من تمام الكلام «4».

52- قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ «11»، كان القياس: فأخذناهم و لكن لما عدل فى الآية الأولى إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «9» عدل فى هذه الآية أيضا، لتكون الآيات على منهج واحد.

53- قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «18»، ثمّ كرّر فى هذه الآية فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لأن الأول جرى مجرى الشهادة و أعاده ليجرى الثانى مجرى الحكم بصحة ما شهد به الشهود.

__________________________________________________

(1) سقطت من

أ.

(2) فى أ: إلى مرضاته و المغفرة.

(3) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(4) لأن جمع الناس ليوم لا ريب فيه يقتضى تنفيذ المواعيد.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 89

54- قوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «28»، كرّره مرتين «1» لأنه وعيد عطف عليه وعيد آخر فى الآية الأولى، فإن قوله: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ معناه: مصيركم إلى اللّه، و العذاب معدّ لديه فاستدركه «2» فى الآية الثانية بوعد، و هو قوله تعالى: وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «30» و الرأفة أشد من الرحمة. و قيل: من رأفته تحذيره.

55- قوله: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ «40». قدّم فى هذه السورة ذكر الكبر، و أخّر ذكر المرأة. و قال فى سورة مريم: وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا «8» فقدم ذكر المرأة، لأن فى مريم قد تقدم ذكر الكبر فى قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي «4» و تأخر ذكر المرأة فى قوله: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً «5» ثم أعاد ذكرها فأخّر ذكر الكبر ليوافق عِتِيًّا ما بعده من الآيات و هى: سَوِيًّا «10» و عَشِيًّا «11» و صَبِيًّا «12» «3».

56- قوله: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ «47». و فى مريم: قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ «20»، لأن فى هذه السورة تقدم ذكر المسيح، و هو ولدها «4»، و فى مريم ذكر الغلام، حيث قال:

لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا «19».

57- قوله: فَأَنْفُخُ فِيهِ «49». و فى

المائدة: فَتَنْفُخُ فِيها «110». قيل: الضمير فى هذه السورة يعود إلى الطير. و قيل:

__________________________________________________

(1) المرة الثانية قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [30].

(2) فى أ: فاستدرك.

(3) فى أ، ب: عتيّا، وصليا، و ليس كذلك ما بعد عِتِيًّا و يلاحظ أن المؤلف ترك (شيئا- 9).

(4) و ذلك فى قوله تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [45].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 90

إلى الطين. و قيل: إلى المهيأ «1». و قيل: إلى الكاف «2» فإنه فى معنى:

مثل، و فى المائدة يعود إلى الهيئة. و هذا جواب التذكير و التأنيث، لا جواب التخصيص، و إنما الكلام وقع فى التخصيص، و هل يجوز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر أم لا؟ فالجواب أن يقال: فى هذه السورة إخبار قبل الفعل فوحّده، و فى المائدة خطاب من اللّه له يوم القيامة و قد تقدم «3» من عيسى- عليه السلام- الفعل مرات، و الطير صالح للواحد و صالح للجميع.

58- قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ «49». ذكر فى هذه الآية مرتين.

و قال فى المائدة: بِإِذْنِي أربع مرات «4»، لأن ما فى هذه السورة كلام عيسى، فما يتصور أن يكون من فعل البشر أضافه إلى نفسه، و هو: الخلق الذى معناه التقدير، و النفخ (الذى) «5» هو: إخراج الريح من الفم. و ما يتصور إضافته إلى اللّه تعالى (أضافه إليه) «6» و هو قوله:

فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بما يكون فى

طوق البشر، فإن الأكمه «7» عند بعض المفسرين: الأعمش، و عند بعضهم: الأعشى، و عند بعضهم: الذى يولد أعمى، و إحياء الموتى من فعل اللّه فأضافه إليه.

و ما فى المائدة من كلام اللّه سبحانه و تعالى فأضاف جميع ذلك إلى صنعه إظهارا لعجز البشر، و لأن فعل العبد «8» مخلوق للّه تعالى.

و قيل: بِإِذْنِ اللَّهِ يعود إلى الأفعال الثلاثة «9»، و كذلك

__________________________________________________

(1) فى أ: المهيئ، خطأ. و المراد بالمهيإ قوله تعالى: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.

(2) يعنى فى قوله: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.

(3) فى ب: سبق.

(4) المرات الأربع فى قوله تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي [المائدة: 110].

(5) سقطت من ب.

(6) ما بين الحاصرين سقط من ب

(7) فى ب: الكمه، و البرص.

(8) فى ب: و أن فعل العبد.

(9) الأفعال الثلاثة فى آية آل عمران هى: أَخْلُقُ- فَأَنْفُخُ- فَيَكُونُ طَيْراً.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 91

الثانى يعود إلى الثلاثة الأخرى «1».

59- قوله: إِنَّ اللَّهَ «2» رَبِّي وَ رَبُّكُمْ «51»، و كذلك فى مريم: رَبِّي وَ رَبُّكُمْ «36». و فى الزخرف فى هذه القصة: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ «64» بزيادة هُوَ.

قال الشيخ: إذا قلت: زيد هو قائم، فيحتمل أن يكون تقديره:

و عمر قائم، فإذا قلت: زيد هو القائم، خصصت القيام به، فهو كذلك فى الآية، و هذا مثاله، لأن (هو) يذكر فى مثل هذه المواضع إعلاما أن المبتدأ

مقصور على هذا الخبر، و هذا الخبر مقصور عليه دون غيره.

و الذى فى آل عمران وقع بعد عشر آيات من قصتها «3»، و ليس كذلك ما فى الزخرف، فإنه ابتداء كلام منه، فحسن التأكيد بقوله:

هُوَ، ليصير المبتدأ مقصورا على الخبر المذكور فى الآية، و هو إثبات الربوبية، و نفى الأبوّة، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

60- قوله: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «52» فى هذه السورة، و فى المائدة: بِأَنَّنا «111»، لأن ما فى المائدة أول كلام الحواريين، فجاء على الأصل، و ما فى هذه السورة تكرار لكلامهم، فجاز فيه التخفيف، لأن التخفيف فرع، و التكرار فرع، و الفرع بالفرع أولى.

61- قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ «60» فى هذه السورة، و فى البقرة: فَلا تَكُونَنَّ «147»، لأن ما فى هذه السورة جاء على الأصل و لم يكن فيها ما أوجب إدخال نون التأكيد فى الكلمة، بخلاف سورة البقرة، فإن فى أول القصة: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «144» بنون التوكيد، فأوجب الازدواج إدخال النون فى الكلمة، فيصير

__________________________________________________

(1) الثلاثة الأخرى هى: أُبْرِئُ- أُنَبِّئُكُمْ- أُحْيِي.

(2) فى الأصول: و إن اللّه. خطأ.

(3) من أول قوله تعالى: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ ... الآيات [42- 51].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 92

التقدير: فلنولينك قبلة ترضاها، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ «1».

و الخطاب فى الآيتين للنبى صلى اللّه عليه و سلم، و المراد به غيره.

62- قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ «73» فى هذه السورة، و فى البقرة: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ

هُوَ الْهُدى «120»، لأن الهدى فى هذه السورة هو الدين، و قد تقدم فى قوله: لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ «73»، و هدى اللّه: الإسلام، فكأنه قال بعد قولهم:

وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ. قل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ كما سبق فى أول السورة.

و الذى فى البقرة معناه: القبلة، لأن الآية نزلت فى تحويل القبلة، و تقديره: قل: إن قبلة اللّه هى الكعبة.

63- قوله: مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً «99» ليس هاهنا (به) و لا واو العطف، و فى الأعراف: مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها «86» بزيادة (به) و واو العطف، لأن القياس: آمن به كما فى الأعراف، لكنها حذفت فى هذه السورة موافقة لقوله: وَ مَنْ كَفَرَ. فإن القياس أيضا: كفر به، و قوله: تَبْغُونَها عِوَجاً هاهنا حال، و الواو لا تزداد مع الفعل إذا وقع حالا، نحو قوله: وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «74- 6» و دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ «34: 14» و غير ذلك.

و فى الأعراف عطف على الحال، و الحال قوله: تُوعَدُونَ، و تَصُدُّونَ عطف عليه، و كذلك تَبْغُونَها عِوَجاً.

64- قوله: وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «126». هاهنا بإثبات لَكُمْ و تأخير بِهِ. و حذف إِنَّ اللَّهَ، و فى الأنفال «10» بحذف لَكُمْ و تقديم بِهِ و إثبات إِنَّ اللَّهَ، لأن البشرى هنا للمخاطبين «1»، فبين و قال: لَكُمْ. و فى الأنفال قد تقدم

__________________________________________________

(1) ما بين الحاصرين سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن،

ص: 93

لَكُمْ فى قوله: فَاسْتَجابَ لَكُمْ «9» فاكتفى بذلك.

و قدم قُلُوبُكُمْ هنا، و أخّر بِهِ ازدواجا بين المخاطبين «1» فقال: وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ «126».

و قدم بِهِ فى الأنفال ازدواجا بين الغائبين فقال: وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ «10».

و حذف إِنَّ اللَّهَ هاهنا، لأن ما فى الأنفال قصة بدر، و هى سابقة على ما فى هذه السورة، فإنها فى قصة أحد، و أخبر هناك بأن اللّه عزيز حكيم، و جعله فى هذه السورة صفة، لأن الخبر قد سبق.

65- قوله: وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ «136» بزيادة الواو، لأن الاتصال بما قبلها أكثر من غيرها «2»، و تقديره: و نعم أجر العاملين المغفرة و الجنات و الخلود.

66- قوله: رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ «164» بزيادة الأنفس، و فى غيرها رَسُولًا مِنْكُمْ «2: 151» لأنه سبحانه منّ على المؤمنين

__________________________________________________

(1) و المخاطبون فى هذه السورة هم المؤمنون فى قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية [124]، و بعدها: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا [125].

(2) مراده بغيرها فى سورة العنكبوت: خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [58].

و يمكن توضيح كلام الكرمانى: بأن آية آل عمران: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، و آية العنكبوت: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. فآية آل عمران مبنية على تداخل الأخبار، فأولئك مبتدأ، و جزاؤهم مبتدأ ثان، و مغفرة خبر المبتدأ الثانى، و الثانى و خبره خبر الأول و الجزاء هو

الأجر فكأنه قال: أولئك أجزيهم على أعمالهم: محو ذنوبهم و جنة عدن و دوام نعيمهم، و الخبر إذا جاء بعد خبر فى مثل هذا المكان الذى تفصل فيه المواهب المرغب فيها فحقه أن يعطف على ما قبله بالواو، فصار المعنى جزاؤهم: ترك المؤاخذة بالذنب، و دخول الجنة، و الخلود فيها، و ذلك تشريف و كرامة للعاملين.

أما فى العنكبوت فالكلام فيها مدرج على جملة واحدة هى تبوئة المؤمنين غرفا فى الجنة، و هى جملة ابتداء و خبر لم يعطف عليها بالواو، لأن الجملة فى موضع خبر المبتدأ، كأنه قال:

ذلك نعم أجر العاملين، و تجرى مجرى ما هو من تمام الكلام كقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 94

به فجعله من أنفسهم ليكون موجب المنة أظهر، و كذلك قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «9: 128» لما وصفه بقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ جعله من أنفسهم ليكون موجب الإجابة و الإيمان أظهر و أبين.

67- قوله: جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ «184» هاهنا بباء واحدة، إلا فى قراءة ابن عامر «1»، و فى فاطر:

بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ «25» بثلاث باءات، لأنه فى هذه السورة وقع فى كلام مبنى على الاختصار، و هو إقامة لفظ الماضى فى الشرط مقام لفظ المستقبل، و لفظ الماضى أخف، و بنى الفعل للمجهول فلا يحتاج إلى ذكر الفاعل، و هو قوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «184»، لذلك حذفت الباءات

ليوافق الأول فى الاختصار، بخلاف ما فى فاطر، فإن الشرط فيه بلفظ المستقبل، و الفاعل مذكور مع الفعل، و هو قوله: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «25». ثم ذكر بعدها الباءات ليكون كله على نسق واحد.

68- قوله: ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «197» هاهنا، و فى غيرها:

وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «9: 73، 95 و 66: 9»، لأن ما قبلها فى هذه السورة: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ «196، 197» أى: (ذلك) «2» متاع (فى الدنيا) «3» قليل، و القليل يدل على تراخ و إن صغر و قل، و ثم للتراخى فكان طبقا له- و اللّه (تعالى) «4» أعلم-.

__________________________________________________

(1) انظر: (تفسير القرطبى 4/ 296)، و قال: بزيادة باء فى الكلمتين (بالزبر و الكتاب)، و هو كذلك فى مصاحف أهل الشام.

(2) سقطت من ب.

(3) سقطت من أ.

(4) سقطت من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 95

سورة النّساء

سورة النّساء

69- قوله فى هذه السورة: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ «12». ليس غيره، أى: عليم بالمضارة، حليم عن المضادة «1».

70- قوله: خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «13»، بالواو. و فى براءة: ذلِكَ «89، 100» بغير واو، لأن الجملة إذا وقعت (بعد جملة) «2» أجنبية لا تحسن إلا بحرف العطف، و إن كان فى الجملة الثانية ما يعود إلى الأولى حسن إثبات حرف العطف، و حسن الحذف اكتفاء بالعائد، و لفظ ذلِكَ فى الآيتين يعود إلى ما قبل الجملة، فحسن الحذف و الإثبات فيهما «3» و لتخصيص هذه السورة

بالواو وجهان لم يكونا فى براءة:

أحدهما: موافقة لما قبلها، و هى جملة مبدوءة بالواو «4»، و ذلك قوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ «13».

و الثانى: موافقة لما بعدها، و هو قوله: وَ لَهُ بعد قوله:

خالِداً فِيها «5».

و فى براءة أَعَدَّ اللَّهُ «6» بغير واو، و لذلك قال: ذلِكَ بغير واو.

71- قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ «24»، فى أول

__________________________________________________

(1) ما أورده المؤلف تذييل لآية الميراث عقب الوصية فيها: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. يعنى: غير مضار بوصيته أحدا من الورثة.

ثم قال و اللّه أعلم بالمضارة، حليم عند المضادة لأمره، فلا يؤاخذ على الفور، رجاء أن يعود الحق إلى أهله.

(2) سقطت من أ.

(3) فى ب: فيها.

(4) فى ب: مبدوءة بواو.

(5) و ذلك فى الآية التى بعد هذه: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ [14].

(6) و ذلك فى آية براءة: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [89].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 96

السورة، و بعدها: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ «25»، و فى المائدة مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ «5»، لأن فى هذه السورة وقع فى حق الأحرار المسلمين، فاقتصر على لفظ غَيْرَ مُسافِحِينَ. و الثانية الجوارى. و ما فى المائدة فى الكتابيات، فقال: وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ، حرمة للحرائر المسلمات، لأنهن إلى الصيانة أقرب، و من

الخيانة أبعد، و لأنهن لا يتعاطين ما يتعاطاه الإماء و الكتابيات من اتخاذ الأخدان.

72- قوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ «43». فى هذه السورة، و زاد فى المائدة: مِنْهُ «6»، لأن المذكور فى هذه بعض أحكام الوضوء و التيمم، فحسن الحذف، و المذكور فى المائدة جميع أحكامها، فحسن الإثبات و البيان.

73- قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «48». ختم الآية مرة بقوله: فَقَدِ افْتَرى «48»، و مرة بقوله: فَقَدْ ضَلَّ «116»، لأن الأول نزل فى اليهود، و هم الذين افتروا على اللّه ما ليس فى كتابهم، و الثانى نزل فى الكفار و لم يكن لهم كتاب، فكان ضلالهم أشد «1».

74- قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «47» و فى غيرها:

يا أَهْلَ الْكِتابِ «3: 65، 70، 71، 99 و 5: 19، 59 ... إلخ».

لأنه سبحانه استخف بهم فى هذه الآية و بالغ، ثم ختم بالطمس ورد

__________________________________________________

(1) الآيتان رقم 48، 116 من سورة النساء مكرّرتان فيما عدا تذييل كل منهما، ففي الأولى: فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً، و فى الثانية: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. و لا تكرار، لأن الأولى فى اليهود، بدليل قوله تعالى قبلها: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [44]. ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا الآية [47]. و لما كانوا قد عرفوا صحّة نبوته و كذبوا، فقد افتروا إثما عظيما. أما الثانية ففي الكفار، و قد جاء قبلها: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [115]. و من فعل ذلك فقد ضل ضلالا بعيدا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 97

الوجوه على الأدبار و اللعن، و بأنها (كلها) «1» واقعة بهم.

75- قوله: دَرَجَةً «95»، ثم فى الآيات الأخرى:

دَرَجاتٍ «96 و 3: 163 و 4: 96 و 6: 83 و 132»، لأن الأولى فى الدنيا، و الثانية فى الجنة. و قيل: الأولى المنزلة، و الثانية المنزل «2» و هو درجات. و قيل: الأولى على القاعدين (بعذر) «3»، و الثانية على القاعدين بغير عذر.

76- قوله: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ «115»، بالإظهار فى هذه السورة، و كذلك فى الأنفال «13». و فى الحشر بالإدغام «4» «4»، لأن الثانى من المثلين إذا تحرك بحركة لازمة وجب إدغام الأول فى الثانى، أ لا ترى أنك تقول: اردد له بالإظهار؟ و لا يجوز: ارددا، ارددوا، أو:

ارددى، لأنها تحركت بحركة لازمة، و الألف و اللام فى اللَّهِ لازمتان، فصارت حركة القاف لازمة و ليس الألف و اللام فى الرسول كذلك. و أما فى الأنفال فلانضمام الرسول إليه فى العطف، و لم يدغم فيها لأن التقدير فى القافات قد اتصل بهما، فإن الواو توجب ذلك.

__________________________________________________

(1) سقطت من ب.

(2) فى ب: الأولى بالمنزلة، و الثانية بالمنزل.

(3) سقطت من أ.

(4) الآية فى الحشر/ 4: وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (المراجع).

ملحق:

(أ) ذكر الإسكافى فى التكرار آية لم يذكرها الكرمانى هى قوله تعالى فى النساء: وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [128].

و قال بعدها:

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ، وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [129]، لم قال فى الأولى:

وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا، و فى الثانية: وَ إِنْ تُصْلِحُوا؟ و لم ختم الثانية بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً؟

و الجواب عن الأول: أنه لما كان الكلام عن شحّ النساء بمهورهن عند خوف الزوجة نفور زوجها، و رغبتها فى الخلع، و هذا يقتضى غضب الزوج، فخوطب بوجوب الإحسان فى القول و المعاملة.

أما الآية الثانية: فلما كان العدل بين النساء فى الشهوة و الحب غير مستطاع، اقتضى ذلك الميل إلى إحداهن و ترك الأخرى معلّقة، فاقتضى الحال حث الأزواج على إصلاح هذا الخطأ،

أسرار التكرار في القرآن، ص: 98

77- قوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ «135»، و فى المائدة: قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ «8»، لأن لِلَّهِ فى هذه السورة متصل و متعلق بالشهادة بدليل قوله: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ «135»، أى: و لو تشهدون عليهم. و فى المائدة منفصل و متعلق بقوامين، و الخطاب للولاة بدليل قوله:

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ الآية «5/ 8».

78- قوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ «149» فى هذه السورة، و فى الأحزاب: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً «54»، لأن فى هذه السورة وقع الخبر فى مقابلة السوء فى قوله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ «148». و المقابلة اقتضت أن يكون بإزاء السوء الخير، و فى الأحزاب وقع بعدها: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «60». فاقتضى العموم، و أعم الأسماء شى ء، ثم ختم الآية بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً «54».

79- قوله: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «170».

__________________________________________________

فقال: وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا. و لذلك اقتضى تذييل الآية بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. و تذييل الأولى بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فهو العالم بحقيقة الإحسان فى المعاملة، و الخبير بما فى الصدور. انظر: (درة التنزيل: 80، 81).

(ب) كذلك ذكر الإسكافى قوله تعالى: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فقد كررت ثلاث مرات فى سورة النساء، [الآيات 126، 131، 132]. و ختمت الأولى بقوله: وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً، و الثانية: وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً، و الثالثة بقوله: وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. و الأولى لم يتبعها ما أتبع الوسطى و الأخيرة.

و لا تكرار، لأن الكلام أعيد لأسباب مختلفة، فالثانية: جاءت بعد الإذن للزوجين بالتفرقة لأنه يغنى كلّا منها من فضله، لأن له ما فى السموات و الأرض، و الثالثة: بعد وصية أهل الكتاب بالتقوى لأنه واسع الفضل، و له ما فى السموات و الأرض، فناسب ختم الآية بقوله:

وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً. و لما وجبت طاعته لأنه ملك السموات و الأرض اقتضى ذلك أن يخبر عن كمال كفايته و حفظه للمؤمنين و لا زيادة على كفايته فى حفظ ما هو موكول إلى تدبيره، فاقتضى الختم بقوله: وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. انظر: (درة التنزيل 82- 83).

أسرار التكرار في القرآن،

ص: 99

و سائر ما فى هذه السورة: ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «126، 131، 171»، لأن اللّه سبحانه ذكر أهل الأرض فى هذه الآية تبعا لأهل السموات، و لم يفردهم بالذكر لانضمام المخاطبين إليهم، و دخولهم فى زمرتهم، و هم كفار عبدة أوثان، و ليسوا بمؤمنين و لا من أهل الكتب، لقوله: وَ إِنْ تَكْفُرُوا «170» و ليس هذا قياسا مطردا، بل علامة.

80- قوله: يَسْتَفْتُونَكَ «176» بغير واو، لأن الأول لما اتصل بما بعده و هو قوله: فِي النِّساءِ «127» وصله بما قبله بواو العطف و العائد جميعا، (و الثانى لما انفصل عما بعده) «1» اقتصر من الاتصال على العائد و هو ضمير المستفتين، و فى الآية متصل بقوله:

يُفْتِيكُمْ، و ليس بمتصل بقوله: يَسْتَفْتُونَكَ، لأن ذلك يستدعى:

قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. و الذى يتصل بيستفتونك «2» محذوف يحتمل أن يكون فِي الْكَلالَةِ «3»، و يحتمل أن يكون فيما بدا لهم من الوقائع.

سورة المائدة

سورة المائدة

81- قوله: وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ «4» «3»، بحذف الياء، و كذلك: وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا «5» «44». و فى البقرة و غيرها:

وَ اخْشَوْنِي «6» «150» بالإثبات، لأن الإثبات هو الأصل،

__________________________________________________

(1) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(2) فى أ: و الذى يتصل به يستفتونك.

(3) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(4) الآية: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... الآية [المائدة: 3] (المراجع).

(5) الآية: ... فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية [المائدة: 44] (المراجع).

(6) الآية: ... فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ... الآية.

[البقرة: 150]

أسرار التكرار في القرآن، ص: 100

و حذفت الياء من وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ من الخط لما حذفت من اللفظ، و حذفت من وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا موافقة لما قبلها «1».

82- قوله: وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «7» ثم أعاد فقال: وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «8»، لأن الأول وقع على النية و هى بذات الصدور «2» و الثانى على العمل.

و عن ابن كثير: أن الأولى نزلت فى اليهود «3» و ليس بتكرار.

83- قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ «9». و قال فى سورة الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً «29». رفع ما فى هذه السورة موافقة لفواصل الآى، و نصب ما فى الفتح موافقة للفواصل أيضا، و لأنه فى الفتح مفعول وعد.

و فى مفعول وعد فى هذه السورة أقوال:

أحدها: محذوف دل عليه وعد، خلاف ما دل عليه أو عد، أى «4»: خيرا، و قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يفسره. و قيل: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ جملة وقعت موقع المفرد، و محلها نصب كما قال الشاعر:

وجدنا الصالحين لهم جزاء و جنات و عينا سلسبيلا

فعطف «5» جنات على محل: لهم جزاء. و قيل: رفع على الحكاية، لأن الوعد قول، و تقديره قال اللّه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ. و قيل: تقديره:

إن لهم مغفرة. فحذف إن فارتفع ما بعده.

__________________________________________________

(1) العبارة مضطربة فى ب هكذا: (و

حذف و اخشون و لا موافقة قبلها) و ما قبلها هو ما فى الآية (1).

(2) فى أ: ذات الصدور. و النية مفهومة من تشريع التيمم فى الآية رقم (6) من سورة الأنعام، و هى قبل هذه.

(3) انظر: (تفسير ابن كثير 2/ 57) طبعة الشعب. رواه على بن طلحة عن ابن عباس.

و به قال السدى، و اختاره ابن جرير. و انظر: (جامع البيان الطبرى 10/ 93).

(4) سقطت من ب.

(5) فى ب: و عطف.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 101

84 قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «13» و بعده:

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ «41»، لأن الأولى فى أوائل اليهود، و الثانية فيمن كانوا فى زمن النبى صلى اللّه عليه و سلم، أى: حرفوها بعد أن وضعها اللّه مواضعها، و عرفوها و عملوا بها زمانا «1».

85- قوله: وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ «13، 14» كرّر لأن الأولى فى اليهود، و الثانية فى حق النصارى، و المعنى: لم ينالوا منه نصيبا. و قيل: معناه: و نسوا نصيبا. و قيل: معناه: تركوا بعض ما أمروا به.

86- قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ..

«15» ثم كرّرها «2» فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ «19»، لأن الأولى نزلت فى اليهود حين كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم و آية الرجم «3» من التوراة، و النصارى حين كتموا بشارة عيسى بمحمد صلى اللّه عليه و سلم «4» فى الإنجيل، و هو قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ «15».

ثمّ كرّر فقال: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ «18» فكرّر: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ، أى:

__________________________________________________

(1) قال الإسكافى: «عن» فى كلام العرب موضوع لما عدا الشي ء، و كان اليهود يعدلون بالكلم تأويله الذى له، و تنزيله الذى جاء عليه إلى غيره مما هو باطل، و «عن» فى هذا الموضع تقترب من معنى «بعد»، إلا أن الأصل فى هذا المكان أن يستعمل «عن»، لأن «بعد» قد تكون لما تأخر زمانه بأزمنة كثيرة، و «عن» لما جاوز الشي ء صار ملاصقا زمنه لزمنه.

و أما الآية الثانية: فهى فى قوم من اليهود أخبر اللّه عنهم بأنهم يسمعون ليكذبوا، فهم يسمعون مع نية التحريف، و هذا يكون بعد زمان منفصل عن السماع. (درة التنزيل ص 92).

و قيل: المراد ما ذهب إليه المفسرون، و هو أن قوما أرسلوا هؤلاء إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم فى قصة زان محصن، فقالوا لهم: إن أفتاكم محمد بالجلد فحدوه، و إن أفتاكم بالرجم فلا تقتلوه.

انظر (البخارى فى الحدود 4/ 251 و مسلم فى الحدود 4/ 22).

(2) فى ب: ثم كرر.

(3) أخرج الحاكم فى المستدرك 4/ 359 عن ابن عباس: «من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب»، و هو قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ.

(4) فى ب: عليهما السلام.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 102

شرائعكم، فإنكم على ضلال لا يرضاه اللّه عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ

«19»: على انقطاع منهم و دروس مما جاءوا به «1» و اللّه أعلم.

87- قوله: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ «17». ثم كرّر فقال: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ «18» كرّر، لأن:

الأولى: نزلت فى النصارى حين قالوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «17»، فقال: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما، ليس فيهما معه شريك، و لو كان عيسى إلها لاقتضى أن يكون معه شريكا، ثم من يذبّ عن المسيح و أمه و عمن فى الأرض جميعا إن أراد إهلاكهم، فإنهم كلهم مخلوقون له، و إن قدرته شاملة عليهم، و على كل ما يريد بهم «2».

و الثانية: نزلت فى اليهود و النصارى حين قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ «18» فقال: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما «18»، و الأب لا يملك ابنه، و لا يهلكه، و لا يعذّبه، و أنتم مصيركم إليه، فيعذب من يشاء منكم، و يغفر لمن يشاء «3».

__________________________________________________

(1) هذه الكلمة (على فترة من الرسل) برهان لإعجاز القرآن، لأنها تبطل دعوى التكرار بلا فائدة، إذ أن فترة الرسل تحتم نسيان الشرائع، و تعين أن البيان متوجه إلى الشرائع، لا إلى ما كتموه مما هو مبيّن فى الآية (15).

(2) كما أن قوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ يفيد أن اللّه خلق ما يشاء من أنواع الخلق باعتبار «ما» نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية، لا على المفعولية. أى: يخلق أى خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل كالسماوات و الأرض، أو من أصل كخلق ما بينهما، و من ذكر و أنثى، أو من

ذكر فقط كآدم، أو من أنثى وحدها كعيسى، و بتوسط كخلق الطير على يد عيسى ... إلخ. انظر (إرشاد العقل السليم 3/ 30 و الأنموذج الجليل، ورقة 18 [أ]).

(3) أخرج ابن جرير فى تفسيره 10/ 150/ 1510 عن ابن عباس قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نعمان بن أضاء، و بحرى بن عمرو، و شاس بن عدى، فكلموه و كلمهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و دعاهم إلى اللّه، و حذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟ نحن و اللّه أبناء اللّه و أحباؤه، كقول النصارى فأنزل اللّه: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 103

88- قوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا ...

«20»، و قال فى سورة إبراهيم: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا ..

«6»، لأن تصريح اسم المخاطب مع حرف الخطاب يدل على تعظيم المخاطب به «1»، و لما كان ما فى هذه السورة نعما جساما ما عليها من مزيد، و هو قوله: جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «20» صرح فقال: يا قوم، و لموافقته ما قبله و ما بعده من النداء، و هو قوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا «21» و يا مُوسى إِنَّا «24»، و لم يكن ما فى إبراهيم بهذه المنزلة، فاقتصر على حرف الخطاب «2».

89- قوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ كرّره ثلاث مرات، و ختم الأولى بقوله:

فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «44»، و الثانية بقوله: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «45»، و الثالثة بقوله:

فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «47»، قيل: لأن الأولى: نزلت فى حكّام المسلمين، و الثانية: فى حكّام اليهود، و الثالثة: فى حكّام النصارى، و قيل: الكافر و الفاسق و الظالم كلها بمعنى واحد، و هو الكفر، عبّر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة، و اجتناب صورة التكرار.

و قيل: و من لم يحكم بما أنزل اللّه إنكارا له فهو كافر، و من لم يحكم بالحق مع اعتقاده حقّا و حكم بضده فهو ظالم، و من لم يحكم بالحق جهلا و حكم بضده فهو فاسق. و قيل: و من لم يحكم بما أنزل اللّه فهو كافر بنعمة اللّه، ظالم فى حكمه، فاسق فى فعله.

90- قوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «73» كرّر، لأن النصارى اختلفت أقوالهم:

__________________________________________________

(1) فى ت: المخاطب له، بكسر الطاء.

(2) فى ب: حرف المخاطب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 104

فقالت اليعقوبية: إن اللّه تعالى ربّما تجلّى فى بعض الأزمان فى شخص، فتجلى يومئذ فى شخص عيسى، فظهرت منه المعجزات.

و قالت الملكية: إن اللّه اسم يجمع أبا و ابنا و روح القدس، اختلفت بالأقانيم و الذات واحدة، فأخبر اللّه- عزّ و جلّ- أنهم كلهم كفار «1».

91- قوله: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «119»، ذكر فى هذه السورة هذه الخلال جملة، ثم فصّل لأنها أول ما ذكرت.

سورة الأنعام

سورة الأنعام

92- قوله: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ

فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ «5»، و فى الشعراء: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ «6»، لأن سورة الأنعام متقدمة، فقيد التكذيب بقوله: بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، ثم قال: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ على التمام. و ذكر فى الشعراء: فَقَدْ كَذَّبُوا مطلقا، لأن تقييده فى هذه السورة يدل عليه، ثم اقتصر على السين هنا بدل سوف ليتفق اللفظان فيه على الاختصار.

93- قوله: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا «6» فى بعض المواضع بغير واو كما فى هذه السورة، و فى بعضها بالواو، و فى بعضها بالفاء.

هذه الكلمة تأتى فى القرآن على وجهين:

__________________________________________________

(1) هذه الآية برهان للقرآن من وجهين:

1- أن تكرار كلمة (ثلاثة) دلت على المذهبين اللذين ذهب إليهما النصارى فى شخص المسيح.

2- إن قوله تعالى عقيبها: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يصلح ردّا على المذهبين، فهو رد على من قال: إن المسيح إله من حيث تجلى اللّه فى المسيح. و معناها: ما من إله إلا إله واحد، من حيث مصدر الموجودات، و رد على من قال: إن اللّه جوهر فى ثلاثة أقانيم و منها المسيح.

و معناها: ما من إله إلا إله واحد بالذات، منزه عن التعدد فهو بيان للمذهبين، ورد عليهما مع إيجاز معجز، و وفاء بالغرض أشد إعجازا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 105

أحدهما: متصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فذكره بالألف و الواو، لتدل الألف على الاستفهام، و الواو على عطف جملة على جملة «1» قبلها. و كذا الفاء، لكنها أشد اتصالا بما قبلها.

و الوجه الثانى: متصل بما الاعتبار فيه بالاستدلال، فاقتصر على الألف دون الواو

و الفاء، لتجرى مجرى الاستئناف.

و لا ينقص هذا الأصل قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ «79» فى النحل لاتصالها بقوله: وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «78» وسيلة الاعتبار بالاستدلال، فبنى عليه أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ.

94- قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا «11» فى هذه السورة فحسب، و فى غيرها: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا «3: 137 و 16: 36 و 27: 69 و 30: 42»، لأن ثم للتراخى، و الفاء للتعقيب، و فى هذه السورة تقدم ذكر القرون فى قوله: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ «6»، ثم قال: وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ «6». فأمروا باستقراء الديار، و تأمل الآثار، و فيها كثرة، فيقع ذلك سيرا بعد سير، و زمانا بعد زمان «2»، فخصت ب (ثم) على التراخى بين «3» الفعلين «4»، ليعلم أن السير مأمور به على حدة، و النظر مأمور به على حدة، و لم يتقدم فى سائر السور مثله، فخصت بالفاء الدالة على التعقيب «5».

95- قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «12، 20»

__________________________________________________

(1) الجملة التى عطف عليها مقدرة. و التقدير: أكذبوا و لم يروا.

(2) فى أ، ب: سير بعد سير، و زمان بعد زمان.

(3) فى ب: فخصت بهم الدار. خطأ.

(4) فى ب: من الفعلين.

(5) يرى أبو السعود: أن (ثم) لإبانة ما بين السير و النظر من التفاوت فى مراتب الوجود، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلة إلى النظر، و العطف بالفاء دليل على هذا المعنى.

انظر: (إرشاد العقل السليم 2/ 177).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 106

ليس بتكرار، لأن الأول فى حق الكفار، و الثانى فى حق أهل الكتاب.

96- قوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ «21»، و قال فى يونس: فَمَنْ أَظْلَمُ «17»، و ختم الآية بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ «17».

لأن الآيات التى تقدمت فى هذه السورة عطف بعضها على بعض بالواو، و هو قوله: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ...

- إلى- وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ «19». ثم قال: وَ مَنْ أَظْلَمُ، ختم الآية بقوله: الظَّالِمُونَ ليكون آخر الآية لفقا لأول الأولى.

و أما فى سورة يونس فالآيات التى تقدمت عطف بعضها على بعض بالفاء، و هو قوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ «16»، ثم قال: فَمَنْ أَظْلَمُ بالفاء، و ختم الآية بقوله:

الْمُجْرِمُونَ أيضا، موافقة لما قبلها، و هو: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ «13» فوصفهم بأنهم مجرمون. و قال بعده: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ «14» فختم الآية بقوله:

الْمُجْرِمُونَ. ليعلم أن سبيل هؤلاء سبيل من تقدمهم.

97- قوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ «25»، و فى يونس:

يَسْتَمِعُونَ «42»، لأن ما فى هذه السورة نزل فى أبى سفيان، و النّضر بن الحارث و عتبة، و شيبة، و أميّة، و أبىّ بن خلف «1»، فلم يكثروا كثرة «2» من فى يونس و لأن المراد بهم فى يونس جميع الكفار، فحمل هاهنا مرة على لفظ (من) فوحد لقلتهم، و مرة على المعنى

__________________________________________________

(1) روى أنه اجتمع أبو سفيان، و الوليد، و النضر بن الحارث، و شيبة، و أبو جهل، و أضرابهم يستمعون إلى

تلاوة النبى صلى اللّه عليه و سلم فقالوا للنضر و كان صاحب أخبار: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: و الذى جعلها بينه، ما أرى ما يقول إلا أن يحرك لسانه و يقول أساطير الأولين، مثل ما حدّثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان: إنى لأراه حقا، و قال أبو جهل:

كلا، فنزلت الآية. انظر: (المعتمد من المنقول فيما أوحى إلى الرسول صلى اللّه عليه و سلم ورقة 120- أ).

(2) فى ب: ككثرة.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 107

فجمع، لأنهم و إن قالوا كانوا جماعة، و جمع ما فى يونس ليوافق اللفظ المعنى، و أما قوله فى يونس: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ «43» فسيأتى فى موضعه إن شاء اللّه.

98- قوله: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «27»، ثم عاد فقال: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ «30»، لأنهم أنكروا النار فى القيامة، جزاء اللّه و نكاله، فقال فى الأولى: إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ.

و فى الثانية: وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ، أى: (على) «1» جزاء ربهم و نكاله فى النار، و ختم بقوله: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ «30».

99- قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «29»، ليس غيره. و فى غيرها بزيادة: نَمُوتُ وَ نَحْيا «23: 37 و 45: 24»، لأن ما فى هذه السورة عند كثير من المفسرين متصل بقوله: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «28»، وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «29».

و لم يقولوا:

(أى نموت و نحيا) بخلاف ما فى سائر السور، فإنهم قالوا ذلك، فحكى اللّه عنهم ذلك.

100- قوله: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ «32». قدّم اللعب على اللهو فى هذه السورة فى موضعين، و كذلك (سورتى) القتال «محمد» «2» «36» و الحديد «20».

و قدم اللهو على اللعب فى الأعراف و العنكبوت «3»، و إنما قدم اللعب فى الأكثر، لأن اللعب زمانه الصبا، و اللهو زمانه الشباب،

__________________________________________________

(1) سقط من ب.

(2) الإضافة من عند المراجع، و كذا فى الهامش.

(3) الموضع الثانى هنا قوله تعالى: وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً [70]، و فى سورة القتال «محمد»: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ

أسرار التكرار في القرآن، ص: 108

و زمان الصبا مقدم على زمان الشباب، يبينه ما ذكر فى الحديد:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ كلعب الصبيان، وَ لَهْوٌ كلهو الشبان، وَ زِينَةٌ كزينة النسوان، وَ تَفاخُرٌ كتفاخر الإخوان، وَ تَكاثُرٌ كتكاثر السلطان.

و قريب من هذا (فى) «1»، تقديم لفظ اللعب على اللهو قوله تعالى: وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا «21: 16، 17».

و قدم اللهو فى الأعراف، لأن ذلك فى القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، و بدأ بما به الإنسان انتهى من الحالتين، أما العنكبوت فالمراد بذكرها زمان الدنيا، و أنه سريع الانقضاء، قليل البقاء: وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ «64»، أى: الحياة التى لا أمد لها، و لا نهاية لأبدها، بدأ بذكر

اللهو لأنه فى زمان الشباب، و هو أكثر من زمان اللعب، و هو: زمان الصّبا.

101- قوله: أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ «40». ثم قال: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً «47» و ليس لهما ثالث. و قال فيما بينهما: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ «46»، و كذلك فى غيرها، و ليس لهذه الجملة فى العربية نظير، لأنه جمع بين علامتى خطاب و هما: التاء و الكاف. و التاء اسم الإجماع، و الكاف حرف عند البصريين يفيد الخطاب فحسب «2»، و الجمع بينهما يدل على أن ذلك تنبيه على شى ء ما عليه من مزيد، و هو: ذكر الاستئصال بالهلاك،

__________________________________________________

أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [36]، و فى الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ [20]، و فى الأعراف تقدم اللهو فى قوله: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً [51]، و كذا فى العنكبوت: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ [64].

(1) سقط من ب.

(2) الكاف لتأكيد الخطاب: و مبنى التركيب و إن كان على الاستخبار عن الرؤية القلبية أو البصرية. فالمراد الاستخبار عن متعلقها. انظر: (إرشاد العقل السليم 2/ 205).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 109

و ليس فيما سواهما ما يدل على ذلك، فاكتفى بخطاب واحد، و العلم عند اللّه «1».

102- قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ «42»، فى هذه السورة، و فى الأعراف: يَضَّرَّعُونَ «94»، بالإدغام، لأن هاهنا وافق ما بعده، و هو قوله: جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا «43»، و مستقبل تضرعوا:

يتضرعون لا غير.

103- قوله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ «46، 65» مكرّر، لأن التقدير: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون عنها، فلا تعرض عنهم، بل تكررها لهم لعلهم يفقهون.

104- قوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «50»، فكرّر لَكُمْ، و قال فى هود: وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ «31» فلم يكرر لَكُمْ، لأن فى هود تقدم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ «25»، و عقبه وَ ما نَرى لَكُمْ «27».

__________________________________________________

(1) بيان ذلك أن ترادف الخطابين (التاء، و الكاف) لا يكونان إلا عند المبالغة فى التنبيه، و المبالغة فيه: أن يعلم المخاطب ألا تنبيه بعده، و ما يتصل بقوله: أَ رَأَيْتَكُمْ فى الموضعين كلام بدل على أنه إذا وقع لم ينفع عنده الزجر و التنبيه. فإتيان العذاب، أو قيام الساعة فى الموضع الأول و إتيان عذاب اللّه بغتة أو جهرة فى الموضع الثانى لا ينفع عنده تنبيه و لا زجر، و لذلك تناهت الآية فى التخويف فترادف الخطابان معا.

أما ما اقتصر فيه على خطاب واحد ففي الأنعام: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ [46]، و فى يونس: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [50]. فى الأنعام لم يهدد اللّه الكافرين بالاستئصال، و فى يونس لا يوجد ما يدل على التهديد بالاستئصال، لأن قبلها: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فهم لا يخافون، و قوله: ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ دليل على عدم التصريح بالاستئصال حتى ينذر بأقصى أدوات الإنذار. و هذا من أسرار إعجاز القرآن، لأنه ليس من دأب البشر

الدقة البالغة فى ملاحظة الملابسات، و مناسبة الكلمات و الحروف للحالة النفسية للمخاطبين على هذا الوجه العجيب الذى لا يمكن أن يخطئه القرآن الكريم المعجز العالمين حقّا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 110

و بعده أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ «34»، فلما تكرر لَكُمْ فى القصة أربع مرات اكتفى بذلك.

105- قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ «90» فى هذه السورة، و فى سورة يوسف- عليه السلام-: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «104»، منوّن، لأن فى هذه السورة تقدم بَعْدَ الذِّكْرى «68» وَ لكِنْ ذِكْرى «69»، فكان الذكرى أليق بها.

106- قوله: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ «95» فى هذه السورة، و فى آل عمران: وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ «27»، و كذلك فى الروم «19»، و يونس «31»: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، لأن (ما) «1» فى هذه السورة وقعت بين أسماء الفاعلين، و هو: فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى «95»، فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً «96» «2»، و اسم الفاعل يشبه الاسم من وجه، فيدخله الألف و اللام و التنوين و الجر و غير ذلك، و يشبه الفعل من وجه، فيعمل عمل الفعل، و لا يثنى و لا يجمع إذا عمل، و غير ذلك، و لهذا جاز العطف عليه بالفعل «3» نحو قوله: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «57: 18»، و جاز عطفه على الفعل نحو قوله: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ

أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «7: 193».

فلما وقع بينهما، ذكر يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ بلفظ الفعل،

__________________________________________________

(1) سقطت من أ.

(2) قرأ الكوفيون وَ جَعَلَ اللَّيْلَ بالفعل الماضى. و قرأ باقى السبعة و جاعل الليل باسم الفاعل مضافا إلى الليل. انظر: (البحر المحيط 4/ 186).

(3) فى ب: جاز العطف عليه بالاسم نحو قوله: الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ. و هى زيادة لا معنى لها فحذفناها.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 111

وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بلفظ الاسم، عملا بالشبهين، و أخّر لفظ الاسم، لأن الواقع بعده اسمان «1»، و المتقدم اسم واحد، بخلاف ما فى آل عمران، لأن ما قبله و ما بعده أفعال، فتأمل فيه فإنه من معجزات القرآن.

107- قوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «97»، ثم قال: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ «98»، و قال بعدهما:

إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «99»، لأن من أحاط علما بما فى الآية الأولى «2» صار عالما، لأنه أشرف العلوم، فختم الآية بقوله:

يَعْلَمُونَ، و الآية الثانية «3» مشتملة على ما يستدعى تأملا و تدبرا، و الفقه علم يحصل بالتدبر (و التأمل) «4» و التفكر «5» و لهذا لا يوصف به اللّه سبحانه و تعالى، فختم الآية بقوله: يَفْقَهُونَ، و من أقر بما فى الآية الثالثة صار مؤمنا حقّا «6»، فختم الآية بقوله: يُؤْمِنُونَ «7»، حكاه أبو مسلم عن الخطيب.

و قوله: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ «99»، فى هذه السورة بحضور الجماعات و ظهور الآيات، عم الخطاب و جمع الآيات.

108- قوله: أَنْشَأَكُمْ «98»، و فى غيرها: خَلَقَكُمْ

__________________________________________________

(1)

الأسماء هما: فالِقُ- جاعِلٌ على قراءة باقى السبعة. انظر (الهامش رقم 2 من الصفحة السابقة).

(2) و هى قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ.

(3) هى قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ و الفقه هنا التأمل لإرجاع ذلك كله إلى اللّه.

(4) سقطت من أ.

(5) فى ب: التفكير و التدبر.

(6) و هى قوله: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ.

(7) و جاء فى الآية 136 من نفس السورة: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. و أغفلها المؤلف. و وجهه: أن من فقه و علم و آمن نفعه التذكر، و قد سبقها تحذير من الهوى الذى يضل على علم، و من إيحاء الشياطين إلى أوليائهم، و من أكابر المجرمين، و من تذكر و هو عالم فقيه نجا من كل ذلك. كما أن مادة (ذكر) سبقت فى الآية فى قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، و قوله: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فكان مناسبا له و اللّه أعلم.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 112

«1: 21 و 4: 1 و 6: 2 و 7: 189 ... إلخ»، لموافقة ما قبلها و هو: وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ «6»، و ما بعدها: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ «141».

109- قوله: مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ «99»، و فى الأخرى:

مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ «141»، لأن أكثر ما

جاء «1» فى القرآن من هاتين الكلمتين جاء بلفظ التشابه، نحو قوله: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً «2/ 25»، إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا «2/ 70»، تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ «118»، وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «3: 7» فجاء قوله:

مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ «2» فى الآية الأولى و مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ و الآية الأخرى على تلك القاعدة.

ثم كان لقوله: تشابه معنيان:

أحدهما: التبس. و الثانى: تساوى.

و ما فى البقرة معناه: التبس فحسب، فبين بقوله: مُتَشابِهاً و معناه: ملتبسا، لأن ما بعده من باب التساوى، و اللّه أعلم.

110- قوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ «102» فى هذه السورة، و فى المؤمن «غافر»: خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «62»، لأن (فيها) «3» قبله ذكر الشركاء و البنين و البنات، فدفع قول قائله بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم قال:

خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ. و فى المؤمن قبله ذكر الخلق و هو: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، فخرج الكلام على

__________________________________________________

(1) فى ب: الأكثر مما جاء.

(2) فى ب: متشابها و غير متشابه. و ليس كذلك فى الآية.

(3) سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 113

إثبات خلق الناس، لا على نفى الشريك، فقدم فى كل سورة ما يقتضيه ما قبله من الآيات.

111- قوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ «112»، و قال فى الآية الأخرى من هذه السورة: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ «137»، لأن قوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ وقع

عقيب آيات فيها ذكر الرب مرّات، و منها: جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «104» (فختم بذكر الرب) «1» ليوافق آخرها أولها، و قوله:

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ وقع بعد قوله: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ «136» فختم بما بدأ به.

112- قوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ «117»، و فى ن وَ الْقَلَمِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ «7»، بزيادة الباء و لفظ الماضى، لأن إثبات الباء هو الأصل، كما فى ن وَ الْقَلَمِ و غيرها من السور، لأن المعنى لا يعمل فى المفعول به، فنوى الباء، و حيث حذفت أضمر فعل يعمل فيما بعده.

و خصت «2» هذه السورة بالحذف موافقة لقوله «3»: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «124». و عدل هنا إلى لفظ المستقبل، لأن الباء لما حذفت التبس اللفظ بالإضافة، تعالى اللّه عن ذلك، فنبّه بلفظ المستقبل على قطع الإضافة، لأن أكثر ما يستعمل لفظ أفعل «4» من يستعمله مع الماضى، نحو: «أعلم من دب و درج»، «و أحسن من قام و قعد»، «و أفضل من حج و اعتمر»، فتنبه. فإنه (من) «5» أسرار القرآن، لأنه لو قال: أعلم من ضل بدون الياء مع الماضى لكان المعنى: أعلم الضالين.

113- قوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ

__________________________________________________

(1) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(2) فى ب: خصصت.

(3) فى ب: الموافقة قوله.

(4) فى ب: بلفظ أفعل.

(5) سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 114

تَعْلَمُونَ «135» بالفاء حيث وقع، و فى هود:

سَوْفَ تَعْلَمُونَ «93» بغير فاء، لأنه تقدم فى هذه السورة و غيرها قُلْ فأمرهم أمر وعيد بقوله: اعْمَلُوا (أى اعملوا) «1» فستجزون. و لم يكن فى هود قُلْ فصار استئنافا، و قيل: سَوْفَ تَعْلَمُونَ فى سورة هود صفة لعامل، أى: إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، فحذف الفاء.

114- قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ «148»، و قال فى النحل: وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ «35»، فزاد مِنْ دُونِهِ مرتين، و زاد نَحْنُ، لأن لفظ الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، و دل على تحريم أشياء و تحليل أشياء من دون اللّه، فلم يحتج إلى لفظ مِنْ دُونِهِ بخلاف لفظ العبادة، فإنها غير مستنكرة، و إنما المستنكر عبادة شى ء مع اللّه سبحانه و تعالى، و لا يدل على تحريم شى ء كما يدل «2» عليه (أشرك)، فلم يكن للّه هنا من يعتبره بقوله: مِنْ دُونِهِ و لما حذف مِنْ دُونِهِ مرّتين حذف معه نَحْنُ لتطرد الآية فى حكم التخفيف.

115- قوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ «151»، و قال فى «سبحان» «الإسراء»: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ «31» على الضد، لأن التقدير: من إملاق بكم «3»، نحن نرزقكم و إياهم، و فى (سبحان).

خشية إملاق يقع بهم «4» نحن نرزقهم و إياكم «5».

116- قوله: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «151»، و فى

__________________________________________________

(1) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(2) فى ب: دل عليه.

(3) فى أ: من إملاق لكم.

(4) فى أ: من إملاق لهم.

(5) يعنى: أن الإملاق و

هو الفقر قد تعلق بالآباء فى هذه السورة، فقال: نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ، و تعلق بالأبناء فى الإسراء فقال: نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 115

الثانية: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «152»، و فى الثالثة: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «153»، لأن الآية الأولى: مشتملة على خمسة أشياء كلها عظام جسام. فكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا «1»، فختم الآية الأولى بما فى الإنسان من أشرف السجايا و هو العقل، الذى امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان.

و الآية الثانية: مشتملة على خمسة أشياء يقبح تعاطى ضدها «2» و ارتكابها «3»، و كانت الوصية بها تجرى مجرى الزجر و الوعظ، فختم الآية بقوله: تَذَكَّرُونَ أى: تتعظون بمواعظ اللّه.

و الآية الثالثة «4»: مشتملة على ذكر الصراط المستقيم، و التحريض على اتباعه، و اجتناب مناهيه، فختم الآية بالتقوى التى هى ملاك العمل، و خير الزاد.

117- قوله: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «165» فى هذه السورة، و فى يونس و الملائكة: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ «5»، لأن فى هذا العشر تكرر ذكر المخاطبين كرّات، فعرفهم بالإضافة، و قد جاء فى السورتين على الأصل و هو: جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2: 30»، جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ «7: 57».

118- قوله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «165»، و قال فى الأعراف: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ

__________________________________________________

(1) و هى قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها

وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.

(2) فى الأصول: يقبح تعاطيها و ارتكابها. خطأ.

(3) و هى فى قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.

(4) فى ب: الثانية. خطأ.

(5) فى يونس آية 14، و فى الملائكة (فاطر) آية 19، و ما فى يونس: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 116

رَحِيمٌ «167»، لأن ما فى هذه السورة وقع بعد قوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «160»، و قوله: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «165»، فقيّد قوله: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ باللام ترجيحا للغفران على العقاب.

و وقع ما فى الأعراف بعد قوله: وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ «165»، و قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «166» فقيد رحمة منه للعباد، لئلا يرجح جانب الخوف على الرجاء، و قدم سريع العقاب فى الآيتين مراعاة لفواصل الآى.

سورة الأعراف

سورة الأعراف

119- قوله: قالَ ما مَنَعَكَ «12»، فى هذه السورة، و فى «ص»: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ «75»، و فى الحجر: قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ «32» بزيادة يا إِبْلِيسُ فى السورتين، لأن خطابه قرب من ذكره فى هذه السورة و هو قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. قالَ ما مَنَعَكَ «11، 12» فحسن حذف حرف النداء و المنادى، و لم يقرب فى «ص»

قربه منه فى هذه السورة، لأن فى «ص»: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «74» بزيادة اسْتَكْبَرَ «1»، فزاد حرف النداء و المنادى فقال: يا إِبْلِيسُ، و كذلك (فى) «2» الحجر، فإن فيها: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ «31» بزيادة أَبى ، فزاد حرف النداء و المنادى فقال:

يا إِبْلِيسُ ما لَكَ.

120- قوله: أَلَّا تَسْجُدَ «12»، و فى «ص»: أَنْ تَسْجُدَ «75»، و فى الحجر: ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ «32» فزاد فى

__________________________________________________

(1) فى أ: أبى و استكبر. خطأ.

(2) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 117

هذه السورة (لا) و للمفسرين فى (لا) أقوال: قال بعضهم: (لا) صلة، كما فى قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ «57: 29» «1»، و قال بعضهم:

الممنوع من الشي ء مضطر إلى ما منع، و قال بعضهم: معناه: ما الذى جعلك فى منعة من عذابى، و قال بعضهم: معناه: من قال لك لا تسجد. و قد ذكرت ذلك و أخبرت بالصواب فى كتابى «لباب التفسير». و الذى يليق بهذا الكتاب أن نذكر ما السبب الذى خص هذه السورة بزيادة (لا) دون السورتين.

قلت: لما حذف منها يا إِبْلِيسُ و اقتصر على الخطاب، جمع بين لفظ المنع و لفظ (لا) زيادة فى النفى، و إعلاما أن المخاطب به إبليس، خلافا للسورتين، فإنه صرح فيهما باسمه.

و إن شئت قلت: جمع فى هذه السورة بين ما فى «ص» و ما فى الحجر، فقال: ما منعك أن تسجد- مالك ألا تسجد. فحذف أَنْ تَسْجُدَ، و حذف ما لَكَ لدلالة الحال و دلالة

السورتين عليه، فبقى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ، و هذه لطيفة فاحفظها.

121- قوله: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «14»، و فى الحجر «26» و «ص» «79»: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي، لأنه سبحانه لما اقتصر فى السؤال على الخطاب دون صريح الاسم فى هذه السورة اقتصر فى الجواب أيضا على الخطاب دون ذكر المنادى. و أما زيادة الفاء فى السورتين دون هذه السورة فلأن داعية الفاء ما يتضمنه النداء من: أدعو، أو أنادى، نحو: رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا «3: 193» أى: أدعوك.

و كذلك داعية الواو فى قوله: رَبَّنا وَ آتِنا «3: 194» فحذف

__________________________________________________

(1) و قيل: لا زائدة لتوكيد المعنى الذى دخلت عليه، منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود (إرشاد العقل السليم 2/ 327). و معنى أَلَّا تَسْجُدَ على أن (لا) صلة، لأن يعلم، و كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب. و الدليل على زيادتها سقوطها فى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ. و قيل: ليست زائدة، و معناها: ما منعك فأحوجك ألا تسجد.

انظر (البحر المحيط 3/ 272).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 118

المنادى فى هذه السورة، فلما حذفه انحذفت الفاء.

122- قوله: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ «15» فى هذه السورة، و فى السورتين: قالَ فَإِنَّكَ «1»، لأن الجواب يبنى «2» على السؤال و لما خلا فى هذه السورة عن الفاء خلا الجواب عنه. و لما ثبتت الفاء فى السؤال فى السورتين ثبتت (فى الجواب، و الجواب) «3» فى السور الثلاث إجابة، و ليس باستجابة.

123- قوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي «16» فى هذه السورة، و فى «ص»: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ «82»، و فى

الحجر: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي «39»، لأن ما فى هذه السورة موافق لما قبله فى الاقتصار على الخطاب دون النداء، و ما فى الحجر موافق لما قبله فى مطابقة النداء، و زاد فى هذه السورة الفاء التى (هى) «4» للعطف، ليكون الثانى مربوطا بالأول، و لم تدخل فى الحجر، فاكتفى بمطابقة النداء، لامتناع النداء منه، لأنه ليس بالذى يستدعيه النداء، فإن ذلك يقع مع السؤال و الطلب، و هذا قسم عند أكثرهم، بدليل ما فى «ص»، و خبر عند بعضهم و الذى فى «ص» على قياس ما فى الأعراف «16، 17» دون الحجر «39، 40»، لأن موافقتهما أكثر على ما سبق فقال:

فَبِعِزَّتِكَ «5» و اللّه أعلم «6».

و هذا الفصل فى هذه السورة برهان لامع. و سأل الخطيب نفسه عن هذه المسائل فأجاب عنها، و قال: إن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها كان اختلافها و اتفاقها سواء إذا أدّى

__________________________________________________

(1) فى سورة الحجر، آية 27، و فى سورة ص، آية 80.

(2) فى (أ) ينبنى.

(3) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(4) سقط من ب.

(5) سقط من ب.

(6) و قيل: الباء للسببية، أى بسبب إغرائك لى. و قال ابن عطية: فيها معنى المجازاة، كما تقول: فبإكرامك. و هذا أليق بالقصة. (البحر المحيط 5/ 275).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 119

المعنى المقصود. و هذا جواب حسن، إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر.

124- قوله: قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً «18» ليس فى القرآن غيره، لأنه

سبحانه لما بالغ فى الحكاية عنه بقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ الآية «16». بالغ فى ذمه فقال: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً «1» مَدْحُوراً. و الذأم: أشد الذم.

125- قوله: فَكُلا «19» سبق فى البقرة.

126- قوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ «34».

بالفاء حيث وقع، إلا فى يونس «49» فإنه هنا جملة عطفت على جملة بينهما اتصال و تعقب، فكان الموضع موضع الفاء و ما فى يونس يأتى فى موضعه.

127- قوله: وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ «45» ما فى هذه السورة جاء على القياس، و تقديره: و هم كافرون بالآخرة، (فقدم بالآخرة) «2» تصحيحا لفواصل الآى، و فى هود لما تقدم: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ «18»، ثم قال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «18». و لم يقل: (عليهم)، و القياس ذلك، (و لو قال) «3» لالتبس أنهم هم أم غيرهم، فكرّر و قال: وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ «19» ليعلم أنهم هم المذكورون لا غيرهم، و ليس (هم) هاهنا للتوكيد كما زعم بعضهم، لأن (ذلك) «4» يزاد مع الألف و اللام ملفوظا أو مقدرا.

128- قوله: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ «57» فى هذه

__________________________________________________

(1) فى أ: (مذموما) فى الموضعين. خطأ. و فى معنى الذأم قال قتادة لعينا. و قال الكلبى:

ملوما. و قال مجاهد: منفيا، و قيل: ممقوتا مدحورا.

(البحر المحيط 4/ 277، و لسان العرب 12/ 219).

(2) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(3) سقطت من أ.

(4) سقطت من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 120

السورة و فى الروم «1» بلفظ المستقبل. و

فى الفرقان «2» و فاطر «3» بلفظ الماضى، لأن ما قبلها فى هذه السورة ذكر الخوف و الطمع، و هو قوله: وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً «56» و هما يكونان فى المستقبل لا غير، فكان يُرْسِلُ بلفظ المستقبل أشبه بما قبله. و فى الروم قبله:

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ «46» فجاء بلفظ المستقبل وفقا لما قبله.

و أما فى الفرقان فإن قبله: كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «45» الآية. و بعد الآية: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ «47» و مَرَجَ «53» و خَلَقَ «54». فكان الماضى أليق به.

و فى فاطر مبنى على أول السورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ و هما بمعنى الماضى لا غير، فبنى (على) «4» ذلك فقال: أُرْسِلَ بلفظ الماضى، ليكون الكل على مقتضى اللفظ الذى خصّ به.

129- قوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً «59». فى هذه السورة بغير واو، و فى هود «25»، و المؤمنون «23» وَ لَقَدْ «5» بالواو، لأنه لم يتقدم فى هذه السورة ذكر رسول، فيكون هذا عطفا عليه، بل هو استئناف كلام. و فى هود تقدم ذكر الرسول مرات «6»، و فى

__________________________________________________

(1) فى الروم: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً الآية [48].

(2) فى الفرقان: وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً [48].

(3) فى فاطر: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ الآية [9].

(4) سقطت من ب.

(5) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(6) فى هود من أولها احتجاج على الكفار بآيات

اللّه التى أظهرها على أيدى أنبيائه و ألسنتهم، و توعد لهم على كفرهم، و ذكر قصص من جحد آيات الأنبياء من قبلهم. و بعد عشر آيات جاء: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ..» إلى الآية [25] منها تتحدث عن الرسالات و الرسل.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 121

المؤمنون «1» تقدم ذكر نوح ضمنا فى قوله: وَ عَلَى الْفُلْكِ «22»، لأنه أول من صنع الفلك، فعطف فى السورتين بالواو.

130- قوله: أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ «59» بالفاء فى هذه السورة، و كذلك فى المؤمنون فى قصة نوح: فَقالَ «23»، و فى هود فى قصة نوح: إِنِّي لَكُمْ «25» بغير قالَ، و فى هذه السورة فى قصة عاد بغير فاء «2»، لأن إثبات الفاء هو الأصل، و تقديره:

أرسلنا نوحا فجاء فقال. فكان فى هذه السورة و المؤمنون على ما يوجبه اللفظ.

و أما فى هود فالتقدير: فقال إنى. فأضمر قال، و أضمر معه الفاء، و هذا كما قلنا فى قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ «3: 106» أى فيقال لهم: أكفرتم. فأضمر الفاء و القول معا.

و أما قصة عاد فالتقدير: و أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا فقال.

فأضمر أَرْسَلْنا، و أضمر الفاء لأن داعى الفاء أرسلنا.

131- قوله: قالَ الْمَلَأُ «66». بغير فاء فى قصة نوح و هود فى هذه السورة، و فى سورة هود و المؤمنون: فَقالَ (بالفاء) «3»، لأن ما فى هذه السورة فى السورتين لا يليق بالجواب، و هو قولهم لنوح: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ

«60»، و قولهم لهود: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ «7: 66» بخلاف السورتين، فإنهم أجابوا فيهما بما زعموا أنه جواب «4».

132- قوله: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ «62» فى

__________________________________________________

(1) فى أ: وقى نوح. خطأ.

(2) و هو قوله: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ [65].

(3) سقطت من ب.

(4) و هو قولهم فى هود: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا [27]، و فى المؤمنون: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [24].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 122

قصة نوح. و قال فى قصة هود: وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ «68»، لأن ما فى هذه الآية: أُبَلِّغُكُمْ بلفظ المستقبل، فعطف عليه أَنْصَحُ لَكُمْ كما فى الآية الأخرى: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ «7: 79». فعطف الماضى، لكن فى قصة هود قابل باسم الفاعل على قولهم له: وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ «66» ليقابل الاسم بالاسم.

133- قوله: أُبَلِّغُكُمْ «62» فى قصة نوح و هود بلفظ المستقبل، و فى قصة صالح و شعيب: أَبْلَغْتُكُمْ «79، 93» بلفظ الماضى، لأن فى قصة نوح و هود وقع فى ابتداء الرسالة، و فى قصة صالح و شعيب وقع فى آخر الرسالة و دنوّ العذاب، أ لا تسمع قوله:

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ فى القصتين؟

134- قوله: رِسالاتِ رَبِّي فى جميع القصص، إلّا فى قصة صالح فإن فيها: رِسالَةَ «79» على الواحدة، لأنه سبحانه حكى عنهم بعد الإيمان باللّه و التقوى أشياء أمروا قومهم بها، إلّا فى قصة صالح، فإن فيها ذكر الناقة فصار

كأنها رسالة «1» واحدة، و قوله:

بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي «7: 144». مختلف فيها «2».

135- قوله: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا «64». و فى يونس: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ «73»، لأن أنجينا و نجينا للتعدى، لكن التشديد يدل على الكثرة و المبالغة فكان فى يونس وَ مَنْ مَعَهُ، و لفظ مَنْ يقع على كثرة مما يقع عليه الَّذِينَ لأن من يصلح للواحد و التثنية و الجمع، و المذكر و المؤنث، بخلاف الذين، فإنه «3» لجمع

__________________________________________________

(1) فى أ: كأنه رسالة.

(2) قرأ نافع و ابن كثير المكى (برسالتى). انظر: (تفسير القرطبى 7/ 280).

(3) فى ب: لأنه.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 123

المذكر فحسب، فكان التشديد (مع من) «1» أليق.

136- قوله فى هذه السورة: وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «73»، و فى هود: وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ «64»، و فى الشعراء: وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ «156»، لأنه فى هذه السورة بالغ فى الوعظ، فبالغ فى الوعيد، فقال: عَذابٌ أَلِيمٌ، و فى هود لما اتصل بقوله: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «65» وصفه بالقرب فقال: عَذابٌ قَرِيبٌ، و زاد فى الشعراء ذكر اليوم، لأنه قبله:

لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «155»، فالتقدير: لها شرب يوم معلوم، فختم الآية بذكر اليوم فقال: عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

137- قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «78» على الوحدة، و قال: وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ

جاثِمِينَ «11: 94» حيث (ذكر الرجفة و هى الزلزلة) «2»، وحد الدار. و حيث ذكر الصيحة جمع، لأن الصيحة كانت من السماء، فبلوغها أكثر و أبلغ من الزلزلة، فاتصل كل واحد بما هو لائق به.

138- قوله: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ «71» فى هذه السورة نَزَّلَ و فى غيرها أَنْزَلَ «12: 40»، لأن أفعل كما ذكرت آنفا للتعدى، و فعل للتعدى و التكثير، فذكر فى الموضع الأول بلفظ المبالغة ليجرى مجرى ذكر الجملة و التفصيل، و ذكر الجنس و النوع، فيكون الأول كالجنس و ما سواه كالنوع.

139- قوله: وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً «74» فى هذه

__________________________________________________

(1) ساقطة من ب.

(2) ما بين الحاصرين سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 124

السورة، و فى غيرها مِنَ الْجِبالِ «15: 82 و 26: 149»، لأن فى هذه السورة تقدمه مِنْ سُهُولِها قُصُوراً «74» فاكتفى بذلك.

140- قوله: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ «84» فى هذه (السورة)، و فى غيرها: فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ «27: 58»، لأن فى هذه السورة وافق ما بعده، و هو قوله:

وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «86».

141- قوله: وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ «80» بالاستفهام، و هو استفهام تقريع و توبيخ و إنكار. و قال بعده: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ «81» فزاد مع الاستفهام إِنَّ لأن التقريع و التوبيخ و الإنكار فى الثانى أكثر، و مثله فى النمل: أَ تَأْتُونَ «54». و بعده أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ «29» فجمع بين: إن، و أئن، و

ذلك لموافقة آخر القصة، فإن فى الآخرة: إِنَّا مُنَجُّوكَ «33»، إِنَّا مُنْزِلُونَ «34» فتأمل فيه فإنه صعب المستخرج «1».

142- قوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ «81»، فى هذه السورة بلفظ الاسم، و فى النمل: قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «55» بلفظ الفعل، لأن «2» كل إسراف جهل، و كل جهل إسراف «3»، ثم ختم الآية بلفظ الاسم موافقة لرءوس الآيات التى تقدمت، و كلها أسماء الْعالَمِينَ «80»، النَّاصِحِينَ «79» و جاثِمِينَ «4» «78» و الْمُرْسَلِينَ «77» و كافِرُونَ «76» و مُؤْمِنُونَ «75» و مُفْسِدِينَ «74»،

__________________________________________________

(1) صعب استخراجه لأن جميع القصص المذكورة لم يأت الجزاء فيها مؤكدا، فقد جاء فى الأعراف: فَأَنْجَيْناهُ [64]، و فى النمل: فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ [57]، أما فى العنكبوت فالجزاء: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ [33]، و إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً [34]. فاقتضى تكرار التأكيد لمعنى التقريع مرتين: إحداهما بالاستفهام الإنكارى و إن.

(2) فى أ: أو لأن. زيادة لا معنى لها.

(3) يعتبر الجهل إسرافا على النفس من حيث حرمانها من العلم و النظر، و تعريفها بالحدود.

(4) فى أ: وقع جاثِمِينَ بعد الْمُرْسَلِينَ و هو مخالف للترتيب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 125

و فى النمل وافق ما قبلها من الآيات و كلها أفعال: تُبْصِرُونَ- يَتَّقُونَ- يَعْلَمُونَ «1».

143- قوله: وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ «82» بالواو فى هذه السورة، و فى غيرها «2»: فَما بالفاء، لأن ما قبله اسم، و الفاء للتعقيب، و التعقيب يكون مع الأفعال، فقال فى النمل: تَجْهَلُونَ. فَما كانَ «55، 56»، و

كذلك فى العنكبوت فى هذه القصة:

وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ «29» و فى هذه السورة:

مُسْرِفُونَ. وَ ما كانَ «81، 82» «3».

و فى هذه السورة: أَخْرِجُوهُمْ «82» «4»، و فى النمل:

أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ «56» و لأن ما فى هذه السورة كناية فسّرها فى السورة التى بعدها. و فى النمل قال الخطيب: سورة النمل نزلت قبل هذه السورة، فصرّح فى الأولى و كنّى فى الثانية.

144- قوله: كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ «83» فى هذه السورة، و فى النمل: قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ «57» (أى: كانت فى علم اللّه من الغابرين فقدّرناها من الغابرين. و على وزن قول الخطيب:

قدّرناها من الغابرين) «5» فصارت من الغابرين. و كان بمعنى صار و قد فسر كانَ مِنَ الْجِنِّ «18: 50» بالوجهين.

145- قوله: بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ «101» فى هذه السورة، و فى يونس: بِما كَذَّبُوا بِهِ «74» و لأن أول القصة فى هذه السورة: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا ... «96»، و فى الآية:

... وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ «96» و ليس بعدها الباء، فختم القصة بمثل ما بدأ به، و كذلك فى يونس وافق ما قبله: فَكَذَّبُوهُ

__________________________________________________

(1) سقطت يَعْلَمُونَ من ب.

(2) و ذلك فى سورة النمل آية 58، و العنكبوت آية 29.

(3) سقطت (و ما كان) من ب.

(4) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(5) ما بين الحاصرين سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 126

فَنَجَّيْناهُ «73»، كَذَّبُوا بِآياتِنا «73» فختم بمثل ذلك فقال:

بِما كَذَّبُوا بِهِ «74».

و ذهب بعض أهل العلم إلى

أن ما فى حق العقلاء «1» من التكذيب فبغير الباء نحو قوله: فَكَذَّبُوا رُسُلِي و فَكَذَّبُوهُ و غيره. و ما فى حق غيرهم ب (باء. نحو) «2» كَذَّبُوا بِآياتِنا و غيرها، و عند المحققين تقديره: فكذبوا رسلنا برد آياتنا حيث وقع.

146- قوله: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ «101»، و فى يونس:

نَطْبَعُ «74» بالنون، لأن فى هذه السورة قدّم ذكر اللّه سبحانه بالصريح «3» و الكناية، فجمع بينهما فقال: وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ «100» بالنون و ختم الآية بالصريح فقال: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ.

و أما فى يونس فمبنى «4» على ما قبله من قوله: فَنَجَّيْناهُ «73» «5»، وَ جَعَلْناهُمْ «73» و ثُمَّ بَعَثْنا «74» بلفظ الجمع، فختم بمثله فقال: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ «74».

147- قوله: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «109»، و فى الشعراء: قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ «25»، لأن التقدير فى هذه الآية: قال الملأ من قوم فرعون و فرعون بعض لبعض.

فحذف فرعون لاشتمال الملأ من آل فرعون. فحذف فرعون، لأن آل فرعون اشتمل على اسمه، فالقائل هو فرعون وحده «6» بدليل الجواب و هو: قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ «111» «7» بلفظ التوحيد و الملأ هم المقول

__________________________________________________

(1) حرفت الكلمة فى ب إلى (العقد).

(2) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(3) فى ب: بالتصريح.

(4) فى ب: فمشى.

(5) فى أ: (فنجيناهم) خطأ.

(6) فى أ: فرعون واحد.

(7) قالُوا أى الملأ من أتباع فرعون: أَرْجِهْ ردا على قوله: لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ [110] و هذا دليل على أن القائل هو فرعون وحده، لا الملأ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 127

لهم، إذ ليس فى الآية مخاطبون بقوله: يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ «110» غيرهم. فتأمل فيه فإنه برهان للقرآن شاف.

148- قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ «110»، و فى الشعراء: مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ «35»، لأن الآية الأولى فى هذه السورة بنيت على الاقتصار، و كذلك الآية الثانية، و لأن لفظ الساحر يدل على السحر.

149- قوله: وَ أَرْسِلْ «111»، و فى الشعراء: وَ ابْعَثْ «36»، لأن الإرسال يفيد معنى البعث، و يتضمن نوعا من العلو، لأنه يكون من فوق، فخصصت هذه السورة به لما التبس، ليعلم أن المخاطب به فرعون دون غيره.

150- قوله: بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ «112»، و فى الشعراء:

بِكُلِّ سَحَّارٍ «37»، لأنه راعى ما قبله فى هذه السورة و هو قوله:

إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «109» و راعى فى الشعراء الإمام فإنه فيه:

بِكُلِّ سَحَّارٍ، بالألف. و قرئ فى هذه السورة سَحَّارٍ أيضا طلبا للمبالغة، و موافقة لما فى الشعراء.

151- قوله: وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا «113»، و فى الشعراء: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ «41»، لأن القياس فى هذه السورة، فلما جاء السحرة فرعون قالوا، أو فقالوا، لا بدّ من ذلك.

لكن أضمر فيه فَلَمَّا فحسن حذف الفاء، و خص هذه السورة بإضمار فلما، لأن ما فى هذه السورة وقع على الاختصار و الاقتصار على ما سبق. و أما تقديم فرعون و تأخيره فى الشعراء فلأن التقدير فيهما:

فلما جاء السحرة فرعون قالوا لفرعون، فأظهر الأول فى هذه السورة، لأنها الأولى، و أضمر الثانى فى الشعراء، لأنها الثانية.

152- قوله: قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «114»، و فى الشعراء إِذاً

لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «42»، لأن إِذاً فى هذه

أسرار التكرار في القرآن، ص: 128

السورة مضمرة مقدرة، لأن إذا جزاء، و معناه: إن غلبتم قربتكم و رفعت منزلتكم، و خص هذه السورة بالإضمار اختصارا.

153- قوله: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ «115»، و فى طه: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى «65». راعى فى السورتين أواخر الآى «1»، و مثله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ فى السورتين «2»، و فى طه: سُجَّداً «70»، و فى السورتين أيضا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ «3» و ليس فى طه: رَبُّ الْعالَمِينَ «4»، و فى السورتين: رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ «5»، و فى هذه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، لَأُقَطِّعَنَّ «123، 124»، و فى الشعراء:

فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ «49»، و فى طه: فَلَأُقَطِّعَنَّ «71»، و فى السورتين: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ «6»، و فى طه:

وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «71» و هذا كله مراعاة لفواصل الآى، لأنها مرعية تنبنى عليها مسائل كثيرة.

154- قوله فى هذه السورة: آمَنْتُمْ بِهِ «123»، و فى

__________________________________________________

(1) أواخر الآى فى هذه السورة: الْغالِبِينَ- الْمُلْقِينَ- عَظِيمٌ- يَأْفِكُونَ.

و فى طه: النَّجْوى - الْمُثْلى - اسْتَعْلى - أَلْقى - تَسْعى .

(2) أى فى سورة الأعراف، آية 120، و فى سورة الشعراء، آية 46.

(3) فى الأعراف، آية 121، و فى الشعراء، آية 47.

(4) و لكنها هنا: بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى [70].

(5) فى الأعراف، آية 122، و الشعراء، آية 48.

(6) فى الأعراف: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [124]، و فى الشعراء: وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [149]، و فى أ: فَلَأُقَطِّعَنَّ خطأ. و

الملاحظ أن فى الأعراف فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ. و التسويف فى الآيتين، لأن مراد فرعون قتل السحرة المؤمنين و ذرياتهم أجمعين، و فى طه ليس فيه ما يدل على استقصائهم، بل فيه أنه سيوقع عقوبة عاجلة بهم و اللّه أعلم، و إنما اقترنت لام القسم بالتسويف فى الشعراء، لأنه سبقها وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ. لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ [39، 40].

فلما غلب موسى السحرة و آمنوا اقتضى تأكيد العقوبة مستقبلا، لئلا يتبع الناس السحرة إيمانهم- و اللّه أعلم.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 129

السورتين: آمَنْتُمْ لَهُ لأن (الضمير) هنا يعود إلى رب العالمين، و هو المؤمن به سبحانه و فى السورتين يعود إلى موسى (و هو المؤمن له)، لقوله: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ، و قيل: آمنتم به و آمنتم له واحد.

155- قوله: قالَ فِرْعَوْنُ «123»، و فى السورتين:

قالَ آمَنْتُمْ، لأن هذه السورة متعقبة على السورتين، فصرّح فى الأولى و كنّى فى الأخريين و هو القياس. قال الخطيب: لأن فى هذه السورة بعد عن ذكر فرعون بآيات فصرّح، و قرب فى السورتين من ذكره فكنّى.

156- قوله: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ «124»، و فى السورتين:

وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ، لأن ثم تدل على أن الصلب يقع بعد التقطيع، و إذا دل فى الأولى، علم فى غيرها، و لأن موضع الواو تصلح له ثمّ.

157- قوله: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «125»، و فى الشعراء:

لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «50» بزيادة لا ضَيْرَ، لأن هذه السورة اختصرت فيها هذه القصة، و أشبعت فى الشعراء، و ذكر فيها أول أحوال موسى مع فرعون إلى

آخرها، فبدأ بقوله: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «18»، و ختم بقوله: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ «66»، فلهذا وقع فيها زوائد لم تقع فى الأعراف و طه، فتأمل و تدبر تعرف إعجاز القرآن «1».

158- قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ «141» بغير واو على البدل و قد سبق.

159- قوله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي «178» بإثبات الياء على الأصل، و فى غيرها بغير ياء على التخفيف «2».

__________________________________________________

(1) و فائدة قوله تعالى: لا ضَيْرَ فى الشعراء، و هى السورة التى وقع فيها استقصاء القصة: أن العذاب الذى حاول فرعون إنزاله بالسحرة المؤمنين لا ضير منه، لأنه ساعة ينقلبون بعدها إلى اللّه فى النعيم المقيم. و لكن الضير يقع على فرعون أبدا فى الآخرة.

انظر: (درة التنزيل ص 180).

(2) و سبب تكرار هذه الآية: التنبيه على أن الهداية من اللّه أولا و سبيلها اتباع ما أرشد اللّه إليه، أما العمل بمقتضى الفكر دون ميزان الشرع فهو الضلال.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 130

160- قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ «188» فى هذه السورة، و فى يونس: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ «49»، لأن أكثر ما جاء فى القرآن من لفظى الضر و النفع معا جاء بتقديم لفظ الضر على النفع، لأن العابد يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا، ثم طمعا فى ثوابه ثانيا، يقويه قوله:

يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً «32: 16» و حيث تقدم النفع على الضر تقدم لسابقة لفظ

تضمن نفعا، و ذلك فى ثمانية مواضع، ثلاثة منها بلفظ الاسم. و هى: هاهنا، و الرعد، و سبأ «1»، و خمسة بلفظ الفعل، و هى فى الأنعام: يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا «71»، و آخر فى يونس:

ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ «106»، و فى الأنبياء: ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ «66»، و فى الفرقان: ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ «55»، و فى الشعراء: يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ «73».

أما فى هذه السورة فقد تقدمه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ ... «178» فقدم الهداية على الضلالة، و بعد ذلك:

لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ «188»، فقدم الخير على السوء، فلذلك قدم النفع على الضر.

و فى الرعد: طَوْعاً وَ كَرْهاً «15» فقدم الطوع، و فى سبأ:

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ «36» فقدم البسط.

و فى يونس قدّم الضر على الأصل، و لموافقة ما قبلها:

ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ «18» و فيها: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ «12» فيكون فى الآية ثلاث مرات.

و كذلك ما جاء بلفظ الفعل فلسابقة معنى يتضمن فعلا.

__________________________________________________

(1) فى الرعد: أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا [16]، و فى سبأ: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا [42].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 131

أما سورة الأنعام ففيها: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها «70» ثم وصلها بقوله: قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما

لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا «71»، و فى يونس تقدمه قوله: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ «103»، ثم قال: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ «106»، و فى الأنبياء تقدم فى الكفار لإبراهيم فى المجادلة: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ. قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ «65، 66»، و فى الفرقان تقدمه قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «45». و عدّ نعما جمّة فى الآيات، ثم قال: يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ «55».

فتأمل فإنه برهان القرآن.

161- قوله: وَ خِيفَةً «205» ذكرت فى المتشابه و ليست منه، لأنها من الخوف. و (خفية) «1» من قوله تعالى: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً من خفى الشي ء إذا استتر.

سورة الأنفال

سورة الأنفال

162- قوله: وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى «10»، و قوله:

وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ «13»، و قوله: وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ «39» و قد سبق «2».

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام، آية 63. و وردت كذلك فى سورة الأعراف، آية 55: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً.

ملحق:

(2) لم يذكر المؤلف قوله تعالى فى الأنفال: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [35]، و فى الأعراف: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [39]، لأن ما فى الأعراف جاء بعد مناقشة بين أهل النار، و ادعاء كل فريق أن على غيره ضعف العذاب بما أضله، يعنى على قدر اكتسابه من الإثم فناسب تَكْسِبُونَ. أما الأنفال فما قبلها خاص بالكفار و صلاتهم عند البيت، و هم كفار قريش، و ليس فيه ما يدل على زيادة كسب على كسب، فجاء على الأصل تَكْفُرُونَ.

انظر: (درة التنزيل ص 188).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 132

163- قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ «52»، ثم قال بعد آية: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ «54». قال الخطيب: قد أجاب فيها بعض أهل النظر بأن قال: ذكر فى الآية الأولى عقوبته إياهم عند الموت كما فعله بآل فرعون و من قبلهم من الكفار، و ذكر فى الثانية ما يفعل بهم بعد الموت كما فعله بآل فرعون و من قبلهم، فلم يكن تكرارا.

قال الخطيب: و الجواب عندى:

أن الأول: إخبار عن عذاب لم يمكن اللّه أحدا من فعله، و هو:

ضرب الملائكة وجوههم و أدبارهم عند نزع أرواحهم.

و الثانى: إخبار عن عذاب مكّن الناس من فعل مثله، و هو الإهلاك، و الإغراق.

قلت: و له وجهان آخران محتملان:

أحدهما: كدأب آل فرعون فيما فعلوا.

و الثانى: كدأب آل فرعون فيما فعل بهم، فهم فاعلون على الأول، و مفعولون فى الثانى.

و الوجه الآخر: أن المراد بالأول كفرهم باللّه، و بالثانى تكذيبهم بالأنبياء، لأن تقدير الآية: كذبوا الرسل بردهم آيات اللّه.

و له وجه آخر، و هو: أن يجعل الضمير فى كَفَرُوا لكفار قريش على تقدير: كفروا بآيات اللّه كدأب آل فرعون. و كذلك الثانى: كذبوا بآيات ربهم كدأب آل فرعون.

164- قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «72» فى هذه السورة بتقديم بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ. و فى براءة بتقديم: فِي سَبِيلِ اللَّهِ «20»؛ لأن فى هذه السورة تقدم ذكر المال و

الفداء و الغنيمة فى قوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ

أسرار التكرار في القرآن، ص: 133

الدُّنْيا «67»، لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ «68» أى من الفداء، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ «69» فقدم ذكر المال، و فى براءة تقدم ذكر الجهاد و هو قوله: وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «16»، و قوله: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «19». فقدم ذكر الجهاد فى هذه الآى فى هذه السورة ثلاث مرات، فأورد فى الأولى: بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، و حذف من الثانية: بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ اكتفاء بما فى الأولى، و حذف من الثالثة: بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، و زاد حذف فِي سَبِيلِ اللَّهِ (اكتفاء بما فى الآيتين قبلها) «1».

سورة التّوبة

سورة التّوبة

165- قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ «2، 3».

ليس بتكرار، لأن الأول للمكان، و الثانى للزمان، و قد تقدم ذكرهما فى قوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ «2».

166- قوله: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ «11». ليس بتكرار، لأن الأول: فى الكفار، و الثانى: فى اليهود فيمن حمل قوله: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا «9» على التوراة.

و قيل: هما فى الكفّار، و جزاء الأول: تخلية سبيلهم، و جزاء الثانى:

إثبات الأخوة لهم، و المعنى بإثبات اللّه القرآن «2».

167- قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ «7»، ثم ذكر بعده: كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً «8» «3». و اقتصر عليه، فذهب بعضهم إلى أنه

__________________________________________________

(1) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(2) و ذلك لأن الجزاء فى الآية الأولى رقم [5] قوله: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ و فى رقم [10] قوله: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ. و الأخوة فى الدين إثبات للقرآن ضمنا.

(3) الإل: العهد، أو الحلف، و الذمة: اليمين أو الحرمة. (القرطبى 8/ 89).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 134

تكرار للتأكيد، و اكتفى بذكر كَيْفَ عن الجملة بعده، لدلالة الأولى عليه. و قيل: تقديره: كيف لا تقتلونهم، فلا يكون من التكرار فى شى ء.

168- قوله: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً «8»، و قوله:

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً «10»، الأول: للكفار، و الثانى: لليهود. و قيل: ذكر الأول و جعل جزاء للشرط، ثم أعاد ذلك تقبيحا لهم فقال: ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً فلا يكون تكرارا محضا.

169- قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ «20». إنما قدم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى هذه السورة لموافقة قوله قبله: وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «19» و قد سبق ذكره فى الأنفال، و قد جاء بعده فى موضعين: بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ليعلم أن الأصل ذلك، و إنما هاهنا لموافقة ما قبله فحسب.

170- قوله: كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ «54» بزيادة باء، و بعده: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا «80، 84» «1» بغير باء فيهما، لأن الكلام فى الآية الأولى إيجاب بعد نفى، و هو الغاية فى باب التأكيد،

و هو قولهم: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ «54». فأكّد المعطوف أيضا، فالباء ليكون الكل فى التأكيد على منهاج واحد، و ليس كذلك الآيتان بعده، فإنهما خلتا من التأكيد.

171- قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ «55» بالفاء، و قال فى

__________________________________________________

(1) ما بين الحاصرين سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 135

الآية الأخرى: وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ «85» بالواو، لأن الفاء تتضمن معنى الجزاء، و الفعل الذى قبله مستقبل يتضمن معنى الشرط، و هو قوله: وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ «54». أى: إن يكن منهم ذلك فما ذكر جزاؤهم، فكان الفاء هاهنا أحسن موقعا من الواو، و التى بعدها جاء قبلها: كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا «84» بلفظ الماضى و بمعناه، و الماضى لا يتضمن معنى الشرط، و لا يقع من الميت فعل، فكان الواو أحسن.

172- قوله: وَ لا أَوْلادُهُمْ «55» بزيادة لا، و قال فى الأخرى: وَ أَوْلادُهُمْ «85». بغير لا، لأنه لمّا أكّد الكلام الأول بالإيجاب بعد النفى و هو الغاية، و علق الثانى بالأول تعليق الجزاء بالشرط، اقتضى الكلام الثانى من التوكيد ما اقتضاه الأول، فأكد معنى النهى بتكرار لا فى المعطوف.

173- و قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ «55»، و قال فى الأخرى: أَنْ يُعَذِّبَهُمْ «85»، لأن أَنْ فى هذه الآية مقدرة، و هى الناصبة للفعل فصار فى الكلام هاهنا زيادة كزيادة (الباء، و لا) فى الآية.

174- قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «55»،

و فى الآية الأخرى:

فِي الدُّنْيا «85»، لأن الدنيا صفة الحياة فى الآيتين، فأثبت الموصوف و الصفة فى الأولى، و حذف الموصوف فى الثانية، اكتفاء بذكره فى الأولى «1»، و ليس الآيتان مكرّرتين، لأن الأولى فى قوم،

__________________________________________________

(1) فى الأصول: و هو أن المحذوف فى هذه الآية محذوف. و المثبت عن (البحر المحيط 5/ 81) و عن السياق. و قدره أبو حيان: إنما يريد اللّه ابتلاءهم بالأموال و الأولاد ليعذبهم.

و هو أوضح.

و يرى أبو حيان أنه ليس تكرارا، لأن الآيتين فى فريقين من المنافقين، و قيل: أراد بالأولى لا تعظمهم فى حال حياتهم و لا بعد مماتهم (المصدر السابق).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 136

و الثانية فى آخرين، و قيل: الأولى فى اليهود، و الثانية فى المنافقين.

و جواب آخر: و هو أن المفعول فى هذه الآية محذوف «1»، أى أن يزيد فى نعمائهم بالأموال و الأولاد ليعذبهم بها فى الحياة الدنيا. و الآية الأخرى إخبار عن قوم ماتوا على الكفر، فتعلقت الإرادة بما هم فيه، و هو العذاب.

175- قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «32»، و فى الصف: لِيُطْفِؤُا «8». هذه الآية تشبه قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ «85»، و لِيُعَذِّبَهُمْ «55». حذف اللام من الآية الأولى، لأن مرادهم إطفاء نور اللّه بأفواههم، و المراد الذى هو المفعول به فى الصف مضمر، تقديره: و من أظلم ممن افترى على اللّه الكذب ليطفئوا نور اللّه، و اللام لام العلة، و ذهب بعض النحاة إلى أن الفعل محمول على المصدر، أى: إرادتهم لإطفاء

نور اللّه.

176- قوله: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «72» هذه الكلمات تقع على وجهين:

أحدهما: ذلِكَ الْفَوْزُ بغير هُوَ و هو فى القرآن فى ستة مواضع: فى براءة موضعان، و فى يونس، و المؤمن (غافر)، و الدخان و الحديد «2». و ما فى براءة أحدهما بزيادة الواو، و هو قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «111»، و كذلك ما فى المؤمن، بزيادة واو.

__________________________________________________

(1) و قد حذف الْحَياةِ فى الآية الثانية تنبيها على خساستها و أنها لا تستحق أن تسمى حياة (البحر المحيط 5/ 82).

(2) الموضعان فى براءة ذكرهما المؤلف «72، 111»، و فى يونس: لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [64]. و فى المؤمن: وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9]. و فى الدخان: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [57]. و فى الحديد: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [12].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 137

و الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخ بنزول جاءت مربوطة بما قبلها «1»، إما بواو العطف، و إما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى، و إما بإشارة فيها إليها، و ربما يجمع بين الاثنين منها «2» و الثلاثة للدلالة على مبالغة فيها، ففي براءة: خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ «89»، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ «100»، و فيها أيضا: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ

هُوَ الْفَوْزُ «72» فجمع بين اثنين، و بعدها:

فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «111» فجمع بين الثلاثة تنبيها على: أن الاستبشار من اللّه تعالى يتضمن رضوانه، و الرضوان يتضمن الخلود فى الجنان.

قلت: و يحتمل أن ذلك لما تقدمه من قوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ «111»، و يكون كل واحد منها فى مقابلة واحد، و كذلك فى المؤمن تقدمه «3» فَاغْفِرْ «7» وَ قِهِمْ «7» وَ أَدْخِلْهُمْ «8» فوقعت فى مقابلة الثلاثة.

177- قوله: وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ «87»، ثم قال بعده:

وَ طَبَعَ اللَّهُ «93»، لأن قوله: وَ طُبِعَ محمول على رأس المائة، و هو قوله: وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «86» مبنى للمجهول، و الثانى: محمول على ما تقدم من ذكر اللّه تعالى مرات، فكان اللائق وَ طَبَعَ اللَّهُ. ثم ختم كل آية بما يليق بها فقال فى الأولى:

لا يَفْقَهُونَ، و فى الثانية: لا يَعْلَمُونَ، لأن العلم فوق الفقه، و الفعل المسند إلى اللّه فوق المسند إلى المجهول.

178- قوله: وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ «94»، و قال فى الأخرى: فَسَيَرَى «4» اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ

__________________________________________________

(1) فى أ: مما قبلها.

(2) فى الأصول: بين اثنين منها و الثلاثة.

(3) فى ب: فى المؤمن أى «غافر» لقومه. تحريف.

(4) فى أ: وَ سَيَرَى خطأ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 138

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ «105»، لأن الأولى فى المنافقين، و لا يطلع على ضمائرهم إلّا اللّه تعالى، ثم رسوله صلى اللّه عليه و

سلم باطلاع اللّه إياه عليها، كقوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «9: 94»، و الثانية فى المؤمنين و طاعات المؤمنين و عبادتهم ظاهرة للّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين.

و ختم آية المنافقين بقوله: ثُمَّ تُرَدُّونَ، فعطفه على الأول، لأنه وعيد، و ختم آية المؤمنين بقوله: وَ سَتُرَدُّونَ، لأنه وعد، فبناه على قوله: فَسَيَرَى اللَّهُ.

179- قوله: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ «120»، و فى الأخرى: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ «121»، لأن الآية الأولى مشتملة على ما هو من عملهم و هو قوله: وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً «1» يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا «120» و على ما ليس من عملهم، و هو:

الظمأ و النّصب و المخمصة. و اللّه سبحانه و تعالى بفضله أجرى ذلك مجرى عملهم فى الثواب فقال: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ.

أى: جزاء عمل صالح. و الثانية: مشتملة على المشاق و قطع المسافات، فكتب لهم ذلك بعينه، و كذلك ختم الآية بقوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «121» لكن الكل من عملهم، فوعدهم أحسن الجزاء عليه، و ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ «120» حتى ألحق ما ليس من عملهم بما هو من عملهم، ثم جازاهم على الكل أحسن الجزاء.

سورة يونس

سورة يونس

180- قوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ «4»، و فى هود:

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ «4»، لأن ما فى هذه السورة خطاب للمؤمنين و الكافرين جميعا، يدل عليه قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا

__________________________________________________

(1) الموطى ء: المنزل فى السفر.

أسرار التكرار في القرآن،

ص: 139

الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ «1» وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية «4». و كذلك ما فى المائدة: مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً «48»، لأنه خطاب للمؤمنين و الكافرين، بدليل قوله: فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. و ما فى هود خطاب للكفار، يدل عليه: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ «3».

181- قوله: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ «12» بالألف و اللام، لأنه إشارة إلى ما تقدم من الضر فى قوله: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ «11» فإن الضر و الشر واحد، و جاء الضر فى هذه السورة بالألف و اللام، و بالإضافة، و بالتنوين «2».

182- قوله: وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا «13» بالواو، لأنه معطوف على قوله: ظَلَمُوا من قوله: لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ «13» و فى غيرها بالفاء للتعقيب.

183- قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ «17» بالفاء لموافقة ما قبلها و قد سبق فى الأنعام.

184- قوله: ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ «18» سبق فى الأعراف.

185- قوله: فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «19» فى هذه السورة، و فى غيرها: فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «39: 3»، بزيادة هُمْ لأن فى هذه السورة تقدم فَاخْتَلَفُوا فاكتفى به عن إعادة الضمير.

186- و فى الآية: بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ «18» بزيادة لا و تكرار فِي، لأن تكرار لا مع النفى كثير حسن، فلما كرر لا، كرر فِي تحسينا للفظ بالألف،

__________________________________________________

(1) القسط: العدل.

(2) بالإضافة ضُرَّهُ [12]. و التنوين: ضُرٍّ مَسَّهُ [12] و ضَرًّا وَ لا نَفْعاً [49].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 140

لأنه وقع فى

مقابلة أَنْجَيْتَنا و مثله فى سبأ فى موضعين و الملائكة «1».

187- قوله: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ «23» بالألف، لأنه فى مقابلة أَنْجَيْتَنا «22» «2».

188- قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «38»، و فى هود:

بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «11: 13»، لأن ما فى هذه السورة تقدير:

سورة مثل سورة يونس، فالمضاف محذوف فى السورتين، و ما فى هود إشارة إلى ما تقدمها من أول الفاتحة إلى سورة هود، و هو عشر سور.

189- قوله: وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ «38» فى هذه السورة، و كذلك فى هود «13»، و فى البقرة: شُهَداءَكُمْ «23»؛ لأنه لما زاد فى هود السور زاد فى المدعوين، و لهذا قال فى سبحان: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ «88»، مقترنا بقوله: بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ «88»، و المراد: به كله.

190- قوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «42» بلفظ الجمع، و بعده: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ «43» بلفظ المفرد، لأن المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم، بخلاف النظر، فكان فى المستمعين كثرة، فجمع ليطابق اللفظ المعنى، و وحّد يَنْظُرُ حملا على اللفظ، إذا لم يكثر كثرتهم.

191- قوله: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا «45» فى هذه الآية فحسب، لأن قوله قبله: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً «28»، و قوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً «4» يدلان على ذلك، فاكتفى به.

192- قوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ

__________________________________________________

(1) فى سبأ: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ [3]، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ [22]، و فى الملائكة: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ [44].

(2) فى الأصول: أنجينا، و

لا توجد فى يونس.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 141

ساعَةً «49»، لأن التقدير فيها: لكل أمة أجل فلا يستأخرون ساعة إذا جاء أجلهم، فكان هذا فيمن قتل ببدر. و المعنى: لم يستأخروا.

193- قوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «55».

ذكر بلفظ ما فى هذه الآية و لم يكرّره، لأن معنى ما هاهنا:

المال، فذكر بلفظ ما دون مَنْ و لم يكررها بقوله قبله:

وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ «54».

194- قوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «66». ذكر بلفظ مَنْ و كرر، لأن هذه الآية نزلت فى قوم آذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فنزلت: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ «65» فاقتضى لفظ مَنْ و كرر، لأن المراد: من فى الأرض هاهنا، لكونهم فيها، لكن قدم ذكر مَنْ فِي السَّماواتِ تعظيما، ثم عطف مَنْ فِي الْأَرْضِ على ذلك.

195- قوله: ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «68» ذكر بلفظ ما و كرّر لأن بعض الكفار قالوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «68» فقال سبحانه: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «68» فكان الموضع موضع ما، و موضع التكرار للتأكيد و التخصيص.

196- قوله: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ «60»، و مثله فى النمل، و فى البقرة، و يوسف، و المؤمن: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ «1»، لأن فى هذه السورة تقدم وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ «55» فوافقه، و فى غيرها جاء بلفظ الصريح.

197- و فيها أيضا قوله: فِي الْأَرْضِ وَ لا

فِي السَّماءِ «61» فقدم الأرض لكون المخاطبين فيها، و مثله فى آل عمران، و إبراهيم،

__________________________________________________

(1) فى النمل آية 73، و فى البقرة آية 243، و فى يوسف آية 38، و فى المؤمن (غافر) آية 61.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 142

و طه، و العنكبوت «1».

198- و فيها: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ «67»، بناء على قوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «42»، و مثله فى الروم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ «23» فحسب «2».

199- قوله: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «68» بغير واو، لأنه اكتفى بالفاء عن الواو العاطف، و مثله فى البقرة على قراءة ابن عامر:

قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «116».

200- قوله: فَنَجَّيْناهُ «73» سبق، و مثله فى الأنبياء «3» و الشعراء.

201- قوله: كَذَّبُوا «4» سبق، و قوله: نَطْبَعُ عَلى «74» قد سبق.

202- قوله: مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ «83» بالجمع، و فى غيرها: مَلَائِهِمْ «5»، لأن الضمير فى هذه السورة يعود إلى الذرية، و قيل: يعود إلى القوم، و فى غيرها يعود إلى فرعون.

203- قوله: وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «104» و فى

__________________________________________________

(1) فى آل عمران: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [5].

و فى إبراهيم: وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [38]، و فى العنكبوت: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [22]، و فى طه: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى [4].

(2) من سمع أن النوم من صنع

اللّه لا يمكن جلبه و لا دفعه من قبل الإنسان آمن. و قد ذكر هذه العلة فى غير هذا الموضع، و سبق ذكر النوم فى هذه السورة.

(3) الذى فى الأنبياء: وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً [71]، و فى الشعراء [170].

(4) وردت كلمة كَذَّبُوا فى سورة يونس فى الآيات رقم: 39، 45، 73، 74، 95.

(5) وردت كلمة وَ مَلَائِهِ فى الأعراف 103، و يونس 75، و هود 97، و المؤمنون 46 و القصص 32، و الزخرف 46.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 143

النمل: مِنَ الْمُسْلِمِينَ «91»، لأن ما قبله فى هذه السورة:

الْمُؤْمِنِينَ «103» فوافقه، و فى النمل وافق ما قبله و هو قوله: فَهُمْ مُسْلِمُونَ «81». و قد قدم فى يونس: وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «72».

سورة هود

سورة هود

204- قوله تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا «14»، بحذف النون و الجمع، و فى القصص: فَإِنْ لَمْ بإثبات النون لَكَ فَاعْلَمْ «13» على الواحد. عدت هذه الآية من المتشابه فى فصلين:

أحدهما: حذف النون من فَإِلَّمْ فى هذه السورة و إثباتها فى غيرها، و هذا من فعل الخط، و قد ذكرته فى «كتابة المصاحف».

و الثانى: جمع الخطاب هاهنا، و توحيده فى القصص، لأن ما فى هذه السورة خطاب للكفار. و الفعل يعود ل مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، و ما فى القصص خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم، و الفعل للكفار «1».

205- قوله: وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ «19» سبق.

206- قوله: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ «22»، و فى النحل: هُمُ الْخاسِرُونَ

«109»، لأن هؤلاء صدوا عن سبيل اللّه و صدوا غيرهم فضلوا. فهم الأخسرون يضاعف لهم العذاب. و فى النحل: صدوا فهم الخاسرون. قال الخطيب: لأن ما قبلها فى هذه السورة: يُبْصِرُونَ «20»، يَفْتَرُونَ «21» لا يعتمدان على ألف بينهما. و فى النحل: الْكافِرُونَ «83» و الْغافِلُونَ «108» فللموافقة بين الفواصل جاء فى هذه السورة

__________________________________________________

(1) فى قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ [13]. فالفعل هو: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا. مراد به مَنِ فى قوله: مَنِ اسْتَطَعْتُمْ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 144

الْأَخْسَرُونَ، و فى النحل الْخاسِرُونَ.

207- قوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ «25» بالفاء، و بعده: فَقالَ الْمَلَأُ «27» بالفاء، و هو القياس، و قد سبق.

208- قوله: وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ «28»، و بعده:

وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً «63»، و بعدهما: وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً «88» لأن عِنْدِهِ و إن كان ظرفا فهو اسم، فذكر الأولى بالصريح، و الثانية و الثالثة بالكناية، لتقدم ذكره، فلما كنّى عنه قدمه، لأن الكناية يتقدم عليها الظاهر، نحو: ضرب زيد عمرا، فإن كنيت عن عمر قدمته، نحو: عمرو ضربه زيد، و كذلك: زيد أعطانى درهما من ماله، فإن كنيت عن المال قلت: المال زيد أعطانى منه درهما.

قال الخطيب: لما وقع آتانِي رَحْمَةً «28» فى جواب كلام فيه ثلاثة أفعال كلها متعد إلى مفعولين، ليس بينهما حائل بجار و مجرور، و هو قوله: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا «27» و وَ ما نَراكَ

اتَّبَعَكَ «27» و بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ «27» أجرى الجواب مجراه، فجمع بين المفعولين من غير حائل.

و أما الثانى: فقد وقع فى جواب كلام قد حيل بينهما بجار و مجرور، و هو قوله: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا «62» لأن خبر كان بمنزلة المفعول، كذلك حيل فى الجواب بين المفعولين بالجار و المجرور.

209- قوله: يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ «29» فى قصة نوح، و فى غيرها: أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ «1»، لأن فى قصة نوح وقع بعدها خَزائِنُ «31» و لفظ المال بالخزائن أليق.

__________________________________________________

(1) وردت هكذا فى هود 51، و الشعراء 109 و فيها: مِنْ أَجْرٍ، و كذلك فى رقم 127، 245، 164، 180، و فى سبأ 47.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 145

210- قوله: وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ «31»، و فى الأنعام:

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «50»، لأن فى الأنعام آخر الكلام فيه (جاء) «1» بالخطاب، و ختم به، و ليس فى هذه السورة آخر الكلام، بل آخره: تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ «31»، فبدأ بالخطاب و ختم به فى السورتين.

211- قوله: وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً «57»، و فى التوبة:

وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً «39». ذكر هذا فى المتشابه و ليس منه، لأن قوله: وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً عطف على قوله: وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي «57» فهو مرفوع، و فى التوبة معطوف على يُعَذِّبْكُمْ- يَسْتَبْدِلْ «39» و هما مجزومان فهو مجزوم.

212- قوله: وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً «58، 94» فى قصة هود و شعيب بالواو. و فى قصة

صالح و لوط: فَلَمَّا «66، 82» بالفاء، لأن العذاب فى قصة هود و شعيب تأخّر عن وقت الوعيد، فإن فى قصة هود: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ «57»، و فى قصة شعيب: سَوْفَ تَعْلَمُونَ «93». و التخويف قارنه التسويف، فجاء بالواو المهملة. و فى قصة صالح و لوط وقع العذاب عقيب الوعيد، فإن فى قصة صالح:

تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «65»، و فى قصة لوط: أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ «81» فجاء الفاء للتعجيل و التعقيب.

213- قوله: وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً «60»، و فى قصة موسى: فِي هذِهِ لَعْنَةً «99»، لأنه لما ذكر فى الآية الأولى الصفة و الموصوف، اقتصر فى الثانية على الموصوف للعلم، و الاكتفاء بما قبله.

__________________________________________________

(1) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 146

214- قوله: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ «61» و بعده: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ «90» لموافقة الفواصل، و مثله: لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ «75» «1»، و فى التوبة: لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ «114» للروى «2» فى السورتين.

215- قوله: وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ «62»، و فى إبراهيم: وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ «9»، لأنه فى السورتين جاء على الأصل و تدعونا خطاب مفرد، و فى إبراهيم لما وقع بعده تَدْعُونَنا بنونين، لأنه خطاب جمع، حذف منه «3» النون استثقالا للجمع بين النونات، و لأن فى إبراهيم اقترن بضمير قد غير ما قبله بحذف الحركة و هو الضمير المرفوع فى قوله: لَكَفَّرْنا «4»

فغيّر ما قبله فى إننا بحذف النون. و فى هود اقترن بضمير لم يغير ما قبله، و هو الضمير المنصوب و الضمير المجرور فى قوله: ... فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا «62» فصح كما صح.

216- قوله: وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «67»، ثم قال:

وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «94» التذكير و التأنيث حسنان، لكن التذكير أخف فى الأولى بحذف حرف منه، و فى الأخرى وافق ما بعدها و هو: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ «95».

قال الخطيب: لما جاءت فى قصة شعيب مرة: الرَّجْفَةُ، و مرة: الظُّلَّةِ، و مرة: الصَّيْحَةُ، ازداد التأنيث حسنا.

217- قوله: فِي دِيارِهِمْ «67، 94» فى موضعين فى هذه السورة، لأنه اتصل بالصيحة، و كانت من السماء، فازدادت على الرجفة، لأنها: الزلزلة، و هى تختص بجزء من الأرض، فجمعت مع الصيحة، و أفردت مع الرجفة.

__________________________________________________

(1) الأواه: الكثير التأوه و الألم. و المنيب: الراجع إلى اللّه.

(2) هكذا فى الأصل، و كان ينبغى أن يقول: «مراعاة الفواصل» تأدبا مع القرآن، إذ أن الروى يطلق فى الشعر (المرجع).

(3) سقطت ب.

(4) فى نفس الآية: وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا ...

. أسرار التكرار في القرآن، ص: 147

218- قوله: إنّ ثمودا «68» بالتنوين، ذكر فى المتشابه، فقلت: ثمود من الثمد، و هو: الماء القليل، جعل اسم قبيلة، فهو منصرف من وجه، و غير منصرف من وجه «1»، فصرفوه فى حال النصب، لأنه أخف أحوال الاسم، و لم يصرفوه فى حال الرفع، لأنه أثقل

أحوال الاسم، و جاز الوجهان فى الجر، لأنه واسطة بين الخفة و الثقل.

219- قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ «117». و فى القصص: مُهْلِكَ الْقُرى «59»، لأن اللّه تعالى نفى الظلم عن نفسه فأبلغ لفظ يستعمل فى النفى، لأن هذه اللام لام الجحود، و تظهر بعدها أن، و لا يقع بعدها المصدر، و تختص بكان، معناه: ما فعلت فيما مضى، و لا أفعل فى الحال، و لا أفعل فى المستقبل، فكان الغاية فى النفى. و ما فى القصص لم يكن صريح ظلم «2»، فاكتفى بذكر اسم الفاعل، و هو أحد الأزمنة غير معين، ثم نفاه.

220- قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ «3» مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ «81»، و فى الحجر: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ «65». استثنى فى هذه السورة من الأهل قوله: إِلَّا امْرَأَتَكَ «81». و لم يستثن فى الحجر اكتفاء بما قبله، و هو قوله: إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ «58- 60». فهذا الاستثناء الذى تفردت به

__________________________________________________

(1) قال سيبويه: ثمود يكون اسما للقبيلة و الحى. فمن صرفه ذهب به إلى الحى، لأنه اسم عربى مذكر سمى بمذكر. و من لم يصرفه ذهب به إلى القبيلة و هى مؤنثة.

(لسان العرب 3/ 105).

(2) الظلم فى هود صريح، فإهلاك المصلحين ظلم. أما فى القصص فليس صريحا:

وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ. و ذلك لأن العقل كاف فى استنباط وجود الخالق، فالإهلاك من الغفلة ليس صريحا فى

الظلم.

(3) بقطع من الليل: بسواد من الليل. (القرطبى ص 799).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 148

سورة الحجر قام مقام الاستثناء من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، و زاد فى الحجر: وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ «65»، لأنه إذا ساقهم و كان من ورائهم علم بنجاتهم و لا يخفى عليه حالهم.

سورة يوسف

سورة يوسف

221- قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «6» ليس فى القرآن غيره أى: عليم علّمك تأويل الأحاديث، حكيم باجتبائك للرسالة.

222- قوله: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ «18» فى هذه السورة فى موضعين ليس بتكرار، لأنه ذكر الأول حين نعى إليه يوسف، و الثانى لما رفع إليه ما جرى على بنيامين «1».

223- قوله: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً «22».

و مثلها فى القصص، فى قصة موسى، و زاد فيها: وَ اسْتَوى «14»، لأن يوسف- عليه السلام- أوحى إليه و هو فى البئر، و موسى- عليه السلام- أوحى إليه بعد أربعين سنة، و قوله: وَ اسْتَوى إشارة إلى تلك الزيادة. و مثله: وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً بعد قوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ «15: 46». و الخلاف فى أشده قد ذكره فى موضعه.

224- قوله: مَعاذَ اللَّهِ «23» فى هذه السورة فى موضعين «2». ليس بتكرار، لأن الأول ذكر حين دعته إلى المواقعة.

و الثانى حين دعى إلى تغيير حكم السرقة، فليس بتكرار.

225- قوله: قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ «31، 51» فى الموضعين:

أحدهما: فى حضرة يوسف- عليه السلام- حين نفين عنه البشرية بزعمهن. و الثانى: بظهر الغيب حين نفين عنه السوء فليس بتكرار.

__________________________________________________

(1) بنيامين: أخو يوسف عليه السلام (المراجع).

(2) هنا: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [23]، و الثانى: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [79].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 149

226- قوله: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «36، 78»، فى موضعين «1» ليس بتكرار، لأن الأول من كلام صاحبى السجن ليوسف عليه السلام، و الثانى من كلام إخوة يوسف ليوسف.

227- يا صاحِبَيِ السِّجْنِ «39، 41»، فى موضعين:

الأول منهما: ذكره يوسف حين عدل عن جوابهما إلى دعائهما إلى الإيمان «2»، و الثانى: حين دعياه إلى تعبير الرؤيا لهما «3»، تنبيها على أن الكلام الأول قد تمّ.

228- قوله: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ «46»، كرّر لعل رعاية لفواصل الآى، إذ لو جاء بمقتضى الكلام لقال: لعلى أرجع فيعلموا، بحذف النون على الجواب، و مثله فى هذه السورة سواء قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «62»، فمقتضى الكلام: لعلهم يعرفونها فيرجعوا.

229- قوله: تَاللَّهِ «73، 85، 91، 95» فى أربعة مواضع «4»: الأول: يمين منهم أنهم ليسوا سارقين، و أن أهل مصر بذلك عالمون. و الثانى: يمين منهم أنك لو واظبت على الحزن تصير حرضا، أو تكون من الهالكين. و الثالث: يمين منهم أن اللّه فضله عليهم، و أنهم كانوا خاطئين. و الرابع: ما ذكره، و هو قوله: قالُوا

__________________________________________________

(1) الموضع الأول قوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [36]، و الثانى: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [78].

(2) و ذلك فى قوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ

أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [39].

(3) و ذلك فى قوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً الآية [41].

(4) فى الأصول: ثلاثة: هى قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ [73]، و قوله: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ [85]، و قوله: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [91].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 150

تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «95» و هو يمين من أولاده على أنه لم يزل على محبة يوسف.

230- قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ «109»، و فى الأنبياء:

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ «7» بغير مِنْ، لأن (قبل) اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه. و مِنْ تفيد استيعاب الطرفين، و ما فى هذه السورة للاستيعاب «1»، و قد يقع (قبل) على بعض ما تقدم، كما فى الأنبياء فى قوله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ «6». ثم وقع عقيبها: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ «7» بحذف مِنْ لأنه بعينه.

231- قوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «109» بالفاء، و فى الروم «9»، و الملائكة «2» «44» بالواو، لأن الفاء تدل على الاتصال و العطف، و الواو تدل على العطف المجرد، و فى السورة قد اتصلت بالأول لقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا حال من كذبهم، و ما نزل بهم من العذاب، و ليس كذلك فى

الروم و الملائكة.

232- قوله: وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ «109»، و فى الأعراف:

وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ «169» على الصفة، لأن فى هذه السورة تقدم ذكر الساعة، و صار التقدير: و لدار الساعة الآخرة، فحذف الموصوف، و فى الأعراف تقدم قوله: عَرَضَ هذَا الْأَدْنى «169». أى:

المنزل الأدنى، فجعله وصفا للمنزل، و الدار الدنيا و الدار الآخرة بمعناه، فأجرى مجراه. تأمل فى هذه السورة فإن فيها برهانا لأحسن القصص.

__________________________________________________

(1) إنما كان ما فى هذه السورة للاستيعاب لأن المراد- و اللّه أعلم- هو توجيه الأنظار إلى استيعاب تواريخ المكذبين و معرفة عواقبهم، و هو أمر لا يتحقق إلا فى استيعاب قاعدة الهلاك لجميع المكذبين.

أما فى سورة الأنبياء فالمراد- و اللّه أعلم- هو توجيه النظر إلى أن المرسلين بشر يوحى إليهم و ليسوا ملائكة لا يأكلون و لا يشربون. و هو أمر يتحقق بمعرفة البعض.

(2) سورة الملائكة: أى سورة فاطر (المراجع).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 151

سورة الرّعد

سورة الرّعد

233- قوله تعالى: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى «2»، و فى سورة لقمان: إِلى أَجَلٍ «29» لا ثانى له، لأنك تقول فى الزمان: جرى ليوم كذا، و إلى يوم كذا «1»، و الأكثر اللام، كما فى هذه السورة و سورة الملائكة «13»، و كذلك فى يس: تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها «38»، لأنه بمنزلة التاريخ. تقول: لبثت لثلاث بقين من الشهر، و آتيك لخمس تبقى من الشهر. و أما فى لقمان فوافق ما قبلها و هو قوله: وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ «22». و القياس: للّه، كما فى

قوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ «3: 20» لكنه حمل على المعنى، أى: يقصد بطاعته إلى اللّه، و كذلك: يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «29: 31» أى يجرى إلى وقته المسمى له.

234- قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «3»، و بعدها: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «4»، لأن «2» بالتفكر فى الآيات يعقل ما جعلت الآيات دليلا عليه، فهو الأول المؤدى إلى الثانى.

235- قوله: وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «7، 27» فى هذه السورة فِي موضعين، و زعموا أنه لا ثالث لهما. ليس بتكرار محض، لأن المراد بالأول: آية مما اقترحوا، نحو ما فى قوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «17: 90»، و المراد بالثانى: آية ما، لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية، و أنكروا «3» سائر آياته صلى اللّه عليه و سلم.

__________________________________________________

(1) و الأجل المسمى قيل: منافع العباد. و قال ابن عباس: منازل الشمس و القمر. و قيل:

يوم القيامة. (البحر المحيط 5/ 267).

(2) على هامش أ: لأنه من نسخة ثانية.

(3) فى ب: فأنكروا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 152

236- قوله: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «15»، و فى النحل: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ «49»، و فى الحج: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ «18» لأن ما «1»

فى هذه السورة تقدم آية السجدة ذكر العلويات من البرق و السحاب و الصواعق، ثم ذكر الملائكة و تسبيحهم، و ذكر بآخره الأصنام و الكفار، فبدأ فى آية السجدة بذكر من فى السموات لذلك، و ذكر الأرض تبعا، و لم يذكر مَنْ فيها استخفافا بالكفار و الأصنام.

و أما فى الحج فقد تقدم ذكر المؤمنين و سائر الأديان، فقدم ذكر من فى السموات تعظيما لهم و لها، و ذكر من فى الأرض لأنهم هم الذين تقدم ذكرهم.

و أما فى النحل فقد تقدم ذكر ما خلق اللّه على العموم، و لم يكن فيه ذكر الملائكة و لا الإنس بالصريح، فاقتضت الآية ما فِي السَّماواتِ فقال فى كل آية ما لاق بها.

237- قوله: نَفْعاً وَ لا ضَرًّا «16» قد سبق.

238- قوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ «17»، ليس بتكرار، لأن التقدير: كذلك يضرب اللّه الحق و الباطل الأمثال، فلما اعترض بينهما (فأما- و أما) «2» و أطال الكلام، أعاد فقال:

كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ «17».

239- قوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ «18». و فى المائدة لِيَفْتَدُوا بِهِ «36»، لأن لو و جوابها يتصلان بالماضى، فقال فى هذه السورة: لَافْتَدَوْا بِهِ.

__________________________________________________

(1) سقطت من أ.

(2) يعنى قوله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [17].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 153

و جوابه فى المائدة: ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ «36» و هو بلفظ الماضى، و قوله:

لِيَفْتَدُوا بِهِ علة، و ليس بجواب.

240- قوله: ما

أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «21، 25» فى موضعين من هذه السورة. ليس بتكرار، لأن الأول: متصل بقوله:

يَصِلُونَ «21» و عطف عليه وَ يَخْشَوْنَ «21» «1»، و الثانى:

متصل بقوله: يَقْطَعُونَ «25» «2» و عطف عليه: وَ يُفْسِدُونَ.

241- قوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ «38»، و مثله فى المؤمن «78»، ليس بتكرار. قال ابن عباس: عيّروا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم باشتغاله بالنكاح و التكثر منه، فأنزل اللّه تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً «38» «3» بخلاف ما فى المؤمن فإن المراد منه: لست ببدع من الرسل وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «78».

242- قوله: وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ «40». مقطوع، و فى سائر القرآن وَ إِمَّا «4» موصل، و هو من اللهجات. و قد ذكر فى موضعه.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم

243- قوله: وَ يُذَبِّحُونَ «6» بواو العطف قد سبق و اللّه أعلم.

244- قوله: وَ إِنَّا «9» بنون واحدة «5» و: تَدْعُونَنا «9» بنونين على القياس، و قد سبق فى هود.

__________________________________________________

(1) من قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.

(2) من قوله تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.

(3) الآية جاءت للنهى عن التبتل كما نقله القاشى عن الدارمى و النسائى و الترمذى (المعتمد ورقة 301)، و ما أورده المؤلف ذكره القرطبى فى تفسيره 7/ 327 غير منسوب إلى ابن عباس.

و أخرجه النسائى 6/ 60 عن عائشة و أحمد فى المسند 6/ 91، 97 بنحوه، و الترمذى 8/ 93 بتحفة الأحوذى و الدارمى بنحوه 2/ 123.

(4)

يريد أن الأولى مركبة من إن و ما.

(5) فى قوله تعالى: وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 154

245- قوله: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «11»، و بعده: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ «12»، لأن الإيمان سابق على التوكل، لأن عَلى من صفة القدرة، و لأن مِمَّا كَسَبُوا صفة لشى ء، و إنما قدم مما كسبوا فى هذه السورة، لأن الكسب هو المقصود بالذكر، فإن المثل ضرب للعمل، يدل عليه ما قبله: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ.

246- قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ «18» و قال فى البقرة: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا «264»، لأن الأصل ما فى البقرة.

247- قوله: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً «32»، و فى النمل:

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً «60» بزيادة لَكُمْ، لأن لَكُمْ فى هذه السورة مذكور فى آخر الآية. فاكتفى بذكره، و لم يكن فى النمل فى آخرها، فذكر فى أولها، و ليس قوله: فَما كانَ لَكُمْ يكفى عن ذكره «1»، لأنه نفى و لا يفيد معنى الأول.

سورة الحجر

سورة الحجر

248- قوله: لَوْ ما تَأْتِينا «7»، و فى غيرها: فَلَوْ لا «34: 3»، لأن فَلَوْ لا تأتى على وجهين:

أحدهما: امتناع الشي ء لوجود غيره، و هو الأكثر.

و الثانى: بمعنى هلا، و هو للتحضيض، و يختص بالفعل، و لو لا بمعناه، و خصت هذه السورة بلو ما موافقة لقوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ «2»، فإنها أيضا ممّا خصت به هذه السورة.

249- قوله: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ

لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً «28»

__________________________________________________

(1) فى ب: من ذكره.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 155

هنا، و فى ص «71»، و فى البقرة: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ «30»، و لا ثالث لهما، لأن جعل إذا كان بمعنى خلق يستعمل فى الشي ء يتجدد و يتكرر، كقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ «6: 1»، لأنهما يتجددان زمانا بعد زمان، و كذلك الخليقة، يدل لفظه على أن بعضهم يخلف بعضا إلى يوم القيامة، و خصت هذه السورة بقوله: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً «28» إذ ليس فى لفظ البشر ما يدل على التجدد و التكرار، فجاء فى كل واحدة من السورتين ما اقتضاه ما بعده من الألفاظ.

250- قوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «30» فى هذه السورة، و فى ص «73»، لأنه لما بالغ فى السورتين فى الأمر بالسجود و هو قوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فى السورتين، بالغ فى الامتثال فيهما فقال: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لتقع الموافقة بين أولاها و أخراها. و باقى قصة آدم و إبليس سبق.

251- قوله فى هذه السورة لإبليس: وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ «35» بالألف و اللام، و فى «ص»: وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي «78» بالإضافة، لأن الكلام فى هذه السورة جرى على الجنس من أول القصة فى قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ «26» و وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ «27» و فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ «30»، كذلك قال: عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ، و فى «ص» تقدم: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «75»، فختم بقوله:

عَلَيْكَ لَعْنَتِي «78».

252- قوله: وَ نَزَعْنا ما فِي

صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ «47» «1»، و زاد فى هذه السورة إِخْواناً، لأنها نزلت فى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما سواها عام فى المؤمنين.

__________________________________________________

(1) الغل: الحقد، غل صدره يغل (القاموس المحيط 4/ 61).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 156

253- قوله فى قصة إبراهيم: فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ «52»، لأن هذه السورة متأخرة، فاكتفى بها عمّا فى هود، لأن التقدير: فقالوا: سلاما، قال: سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة، قال:

إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. فحذف للدلالة عليه.

254- قوله: وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ «65» قد سبق.

255- قوله: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ «74»، و فى غيرها «1»:

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها «1: 80». قال بعض المفسرين: عليهم. أى:

على أهلها، و قال بعضهم: على من شذ من القرية منهم.

قلت: و ليس فى القولين ما يوجب تخصيص هذه السورة بقوله:

عَلَيْهِمْ، بل هو يعود على أول القصة، و هو: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ «58»، ثم قال: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «2» «74» فهذه لطيفة فاحفظها.

256- قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ «75» بالجمع، و بعدها: لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ «77» على التوحيد.

قال الخطيب: الأولى إشارة إلى ما تقدم من قصة لوط و ضيف إبراهيم، و تعرض قوم لوط لهم طمعا فيهم، و قلب القرية على من فيها، و إمطار الحجارة عليها و على من غاب منهم، فختم بقوله: لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أى: لمن تدبر السمة، و هى ما وسم اللّه به قوم لوط و

غيرهم. قال: و الثانية تعود إلى القرية و إنها لسبيل مقيم، و هى واحدة، فوحد الآية.

__________________________________________________

(1) و ورد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ فى غير هذه السورة فى الأعراف، آية 4، و الشعراء، آية 172، و النمل، آية 58. إذ كلام المؤلف يوهم أنها هنا فحسب.

(2) سجيل: شديد كبير و هى، و سجين واحد. قال تميم بن مقبل:

و رجلة يضربون البيض ضاحية. حتى تواصى به الأبطال سجينا (البحر المحيط 6/ 200، و لسان العرب 12/ 327).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 157

قلت: ما جاء من الآيات فلجمع الدلائل، و ما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه. فلما ذكر عقيبه المؤمنون و هم المقرون بوحدانية اللّه تعالى وحد الآية، و ليس لها نظير فى القرآن إلّا فى العنكبوت، و هو قوله تعالى: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ «44»، فوحد بعد ذكر الجمع لما ذكرت و اللّه أعلم.

سورة النّحل

سورة النّحل

257- قوله فيها فى موضعين: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ «12، 79» بالجمع. و فى خمس مواضع: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً على الوحدة.

أما الجمع فلموافقة قوله: مُسَخَّراتٌ فى الآيتين، لتقع الموافقة فى اللفظ و المعنى، و أما التوحيد فلتوحيد المدلول عليه.

و من الخمس قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ «13» و ليس له نظير، و خص الذكر لاتصاله بقوله: وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ «13»، فإن اختلاف ألوان الشي ء و تغير أحواله يدل على صانع حكيم فما يشبهه شى ء، فمن تأمل فيها تذكر.

و من الخمس «1»:

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «11، 69» فى موضعين، و ليس لهما نظير، و خصّتا بالتفكر، لأن الأولى: متصلة بقوله: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «11» و أكثرها للأكل، و به قوام البدن، فيستدعى تفكرا و تأملا، ليعرف به المنعم عليه فيشكر، و الثانية: متصلة بذكر النحل، و فيها أعجوبة من انقيادها لأميرها، و اتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق، ثم تتبعها الزهر و الطل «2» من الأشجار، ثم خروج ذلك

__________________________________________________

(1) و تمام الخمس قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [65]، و إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [67].

(2) يعنى السّكر فى قوله تعالى: سَكَراً و هو: اللذة، و البهجة.

(لسان العرب 15/ 17).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 158

من بطونها لعابا هو شفاء «1»، فاقتضى ذلك ذكرا بليغا، فختم الآية بالتفكير.

258- قوله: وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا «14» ما فى هذه السورة جاء على القياس، فإن الفلك المفعول الأول لترى، و مواخر المفعول الثانى، و فيه ظروف، و حقّه التأخر، و الواو فى وَ لِتَبْتَغُوا للعطف على لام العلّة فى قوله: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ «14»، و أما فى الملائكة فقدم فِيهِ «12» موافقة لما قبله، و هو قوله:

وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا «12» فوافق تقديم الجار و المجرور على الفعل و الفاعل، و لم يزد الواو على لِتَبْتَغُوا، لأن اللام فى لتبتغوا هنا لام العلّة، و ليس بعطف على شى ء قبله: ثم إن قوله:

وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ فى هذه السورة و فِيهِ مَواخِرَ فى فاطر، اعتراض فى السورتين يجرى مجرى المثل، و لهذا وحّد الخطاب فِيهِ «2»، و هو قوله: وَ تَرَى، و قبله و بعده جمع و هو قوله:

لِتَأْكُلُوا- وَ تَسْتَخْرِجُوا- وَ لِتَبْتَغُوا «14»، و فى الملائكة:

تَأْكُلُوا- تَسْتَخْرِجُونَ «12»، و مثله فى القرآن كثير: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا «57: 20»، و كذلك: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً «48: 29» و وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «39: 75»، و أمثاله. أى: لو حصرت أيها المخاطب لرأيته بهذه الصفة، كما تقول: أيها الرجل و كلكم ذلك الرجل، فتأمل فإن فيه دقيقة.

259- قوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ «3»

__________________________________________________

(1) حرّفت العبارة فى أ: هو لها شفاء.

(2) سقطت من أ.

(3) أساطير: أقاصيص.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 159

الْأَوَّلِينَ «24»، و بعده: وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً «30». إنما رفع الأول لأنهم أنكروا إنزال القرآن، فعدلوا عن الجواب فقالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. و الثانى من كلام المتقين، و هو مقرون بالوحى و الإنزال، فقالوا: خَيْراً. أى: أنزل خيرا، فيكون الجواب مطابقا.

و خيرا نصب بأنزل، و إن شئت جعلت خيرا مفعول القول، أى:

قالوا خيرا، و لم يقولوا شرّا كما قالت الكفار، و إن شئت جعلت خيرا صفة مصدر محذوف، أى: قالوا قولا خيرا. و قد ذكرت مثله ما زاد فى موضعها.

260- قوله: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ «29» ليس له فى القرآن نظير.

الفاء للعطف على فاء التعقيب فى قوله: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ «29» و اللام للتأكيد، يجرى مجرى القسم موافقة لقوله: وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ «30» و ليس له نظير، و بينهما وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ «30».

261- قوله: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا «34» هنا، و فى الجاثية «33» «1»، و فى غيرهما ما كَسَبُوا «39: 51»، لأن العمل أعم من الكسب، و لهذا قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «99»: (7، 8). و خصت هذه السورة لموافقة ما قبله، و هو قوله: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «28»، و لموافقة ما بعده، و هو قوله:

وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ «111»، و فى الزمر «70»، و ليس لها نظير.

__________________________________________________

(1) فى الجاثية: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا و شاهد التكرار بين: ما عَمِلُوا- ما كَسَبُوا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 160

262- قوله: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ «35» قد سبق.

263- قوله: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ «49» قد سبق.

264- قوله: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ قد سبق أيضا.

265- قوله: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «55»، و مثله فى الروم «34»، و فى العنكبوت: وَ لِيَتَمَتَّعُوا «1» فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «66» باللام و الياء، أما التاء فى السورتين فإضمار القول، أى: قل لهم تمتعوا، كما فى قوله: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ «14: 3»، و كذلك: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا «30:

8».

و خصت هذه بالخطاب بقوله: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ «54» و ألحق ما فى الروم به «2».

و أما فى العنكبوت فعلى القياس، عطف على اللام قبله، و هى للغائب «3».

266- قوله: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ «61»، و فى الملائكة: بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها «45». الهاء فى هذه السورة كناية عن الأرض، و لم يتقدم ذكرها، و العرب تجوز ذلك فى كلمات منها: الأرض، تقول: فلان أفضل من عليها. و منها: السماء، تقول: فلان أكرم من تحتها. و منها: الغداء (تقول): إنها اليوم لباردة. و منها: الأصابع، تقول: و الذى شقهن خمسا من واحدة، يعنى الأصابع من اليد. و إنما جوزوا ذلك لحصولها بين يدى كل متكلم و سامع.

__________________________________________________

(1) فى أ، ب وَ تَمَتَّعُوا خطأ.

(2) فى الروم: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [33] و ألحق بالخطاب.

(3) و هى فى قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا الآية.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 161

و لما كان كناية عن غير مذكور لم يزد معه الظهر، لئلا يلتبس بالدابة، لأن الظهر أكثر ما يستعمل فى الدابة. قال- عليه الصلاة و السلام-: «إن المنبتّ لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى» «1».

و أما فى الملائكة فقد تقدم ذكر الأرض فى قوله أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «44»، و بعدها: وَ لا فِي الْأَرْضِ «44» فكان كناية عن مذكور سابق، فذكر الظهر حيث لا يلتبس.

قال الخطيب: لما قال فى النحل: بِظُلْمِهِمْ «61» لم يقل:

(على

ظهرها) احترازا عن الجمع بين الظلمين، لأنها تقل فى الكلام، و ليست لأمة من الأمم سوى العرب.

قال: و لم يجي ء فى هذه السورة إلّا فى سبعة أحرف، نحو:

الظلم، و النظر، و الظل، و ظل وجهه، و الظهر، و العظم، و الوعظ، فلم يجمع بينهما فى جملتين معقودتين عقد كلام واحد و هو:

لو و جوابه.

267- قوله: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «65»، و فى العنكبوت: مِنْ بَعْدِ مَوْتِها «63»، و كذلك حذف من قوله:

لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً «70»، و فى الحج: مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً «5»، لأنه أجمل الكلام فى هذه السورة (و فصل فى الحج) «2» فقال: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ... إلى قوله: وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى «5» فاقتضى الإجمال

__________________________________________________

(1) أخرجه البزار و الحاكم و البيهقى و أبو نعيم و القضاعى عن جابر مرفوعا.

(المقاصد الحسنة ص 319).

(2) ما بين الحاصرين سقط من ب فى أ: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ .. الآية، و هو مخالف لما فى سورة الحج.

و لم يذكر المؤلف وجه التفصيل فى العنكبوت. و وجه: أن اللّه تعالى ذكر الدواب و أرزاقها و خلق السموات و الأرض و تسخير الشمس و القمر و بسط الرزق و تقديره و هو تفصيل اقتضى إثبات بِهِ فى الآية رقم (1) من العنكبوت.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 162

الحذف، و التفصيل الإثبات. فجاء فى كل سورة بما اقتضاه الحال.

268- قوله: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ «66»، و فى

المؤمنين:

فِي بُطُونِها «21»، لأن (الضمير) فى هذه السورة يعود إلى البعض و هو الإناث، لأن اللبن لا يكون للكل، فصار تقدير الآية: و إن لكم فى بعض الأنعام. بخلاف ما فى المؤمنين، فإنه عطف عليه ما يعود على الكل و لا يقتصر على البعض، و هو قوله: وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ. وَ عَلَيْها «21، 22»، ثم يحتمل أن يكون المراد البعض، فأنّث حملا على الأنعام، و ما قيل من أن الأنعام هاهنا بمعنى النعم، لأن الألف و اللام تلحق الآحاد بالجمع، و فى إلحاق الجمع بالآحاد حسن، لكن الكلام وقع فى التخصيص، و الوجه ما ذكرت و اللّه أعلم.

269- قوله: وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ «72»، و فى العنكبوت: يَكْفُرُونَ «67» بغير هُمْ، لأن فى هذه السورة اتصل وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً «1» وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ «72». ثم عاد إلى الغيبة فقال: أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ «72».

فلا بد من تقييده بهم، لئلا تلتبس الغيبة بالخطاب و التاء بالياء.

و ما فى العنكبوت اتصل بآيات استمرت على الغيبة فيها كلها، فلم يحتج إلى تقييده بالضمير.

270- قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «110». كرّر إِنَّ، و كذلك فى الآية الأخرى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ «2»، لأن

__________________________________________________

(1) حفدة: جمع حفيد و هو: ولد الابن.

(2) هى قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [119]. فقد كررت إن أيضا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 163

الكلام لما طال بصلته أعاد إن و اسمها، و ثم، و ذكر الخبر، و مثله:

أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «23: 35» أعاد أن و اسمها لمّا طال الكلام.

271- قوله: وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا «127»، و فى النمل:

وَ لا تَكُنْ «70» بإثبات النون. هذه الكلمة كثر دورها فى الكلام، فحذف النون منها تخفيفا من غير قياس، بل تشبيها بحروف العلة، و يأتى ذلك فى القرآن فى بضع عشرة موضعا، تسعة منها بالتاء، و ثمانية بالياء، و موضعان بالنون، و موضع بالهمزة، و خصّت هذه السورة بالحذف دون النمل موافقة لما قبلها و هو قوله: وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «120».

و الثانى: إن هذه الآية نزلت تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم حين قتل عمه حمزة و مثّل به، فقال- عليه الصلاة و السلام-: «لأفعلن بهم و لأصنعن»، فأنزل اللّه تعالى: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ «126، 127» «1» فبالغ فى الحذف ليكون ذلك مبالغة فى التسلى، و جاء فى النمل على القياس، و لأن الحزن هنا دون الحزن هناك.

سورة الإسراء

سورة الإسراء

272- قوله تعالى: وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً «9». و خصت سورة الكهف بقوله: أَجْراً حَسَناً «2»، لأن الأجر فى السورتين: الجنة. و الكبير و الحسن من أوصافها، لكن خصت هذه السورة بالكبير موافقة لفواصل

الآى قبلها و بعدها، و هى: حَصِيراً «8»- أَلِيماً «10»- عَجُولًا «11».

و جلها وقع قبل آخرها مدة، و كذلك فى سورة الكهف جاء على

__________________________________________________

(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 135)، و الترمذى (1/ 89) طبع الهند و السيوطى فى الدر المنثور (4/ 135) و عزاه إلى ابن المنذر و ابن أبى حاتم و ابن حبان و البيهقى فى الدلائل.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 164

ما تقتضيه الآيات قبلها و بعدها، و هى: عِوَجاً «1»- أَبَداً «1»- وَلَداً. و جلّها قبل آخرها متحرك.

و أما رفع يُبَشِّرُ فى سبحان، و نصبها فى الكهف، فليس من المتشابه.

273- قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا «22»، و قوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «29»، و قوله:

وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً «39»، فيها بعض المتشابه و يشبه التكرار، و ليس بتكرار، لأن الأولى فى الدنيا، و الثالثة فى العقبى (الثانية) الخطاب فيها للنبى صلى اللّه عليه و سلم و المراد به غيره، و ذلك أن امرأة بعثت صبيّا لها إليه مرة بعد أخرى تسأله قميصا، و لم يكن عليه و لا له صلى اللّه عليه و سلم قميص غيره فنزعه و دفعه إليه، فدخل وقت الصلاة فلم يخرج حياء، فدخل عليه أصحابه فوجدوه على تلك الحالة، فلاموه على ذلك، فأنزل اللّه تعالى: فَتَقْعُدَ مَلُوماً يلومك الناس مَحْسُوراً مكشوفا «2». هذا هو الأظهر من تفسيره.

274- قوله:

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا «41»، و فى آخر السورة: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ «89». إنما لم يذكر فى أول سبحان الناس لتقدم ذكرهم فى السورة «3»، و ذكرهم فى آخر السورة «89»، و ذكرهم فى الكهف «4» إذ لم يجر ذكرهم، لأن ذكر الإنس و الجن جرى معا «5»، فذكر الناس كراهة

__________________________________________________

(1) فى ب: و كذا خطأ.

(2) أخرجه السيوطى فى: (الدر المنثور 4/ 178)، و عزاه إلى ابن أبى حاتم عن المنهال ابن عمرو، و ابن جرير عن ابن مسعود، و الأجهورى فى (إرشاد الرحمن ورقة 124 أ).

(3) و ذلك قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [3].

(4) فى الكهف: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [54].

(5) جرى ذكر الإنس و الجن معا فى الكهف آية 50: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [50].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 165

الالتباس «1».

و قدمه على قوله: فِي هذَا الْقُرْآنِ كما قدمه فى قوله:

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «88»، ثم قال: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ «89».

و أما فى الكهف فقدم فِي هذَا الْقُرْآنِ لأن ذكره جل الغرض، و ذلك أن اليهود سألته عن قصة أصحاب الكهف و قصة ذى القرنين فأوحى اللّه إليه فى القرآن، فكان تقديمه فى هذا الموضع أجدر، و العناية بذكره أحرى.

275- قوله: وَ قالُوا أَ إِذا

كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً «2» أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً «49»، ثم أعادها فى آخر السورة بعينها، من غير زيادة و لا نقصان «98»، لأن هذا ليس بتكرار، فإن الأول من كلامهم فى الدنيا، حين جادلوا الرسول صلى اللّه عليه و سلم و أنكروا البعث. و الثانى من كلام اللّه تعالى، حين جازاهم على كفرهم، و قولهم و إنكارهم البعث، فقال:

مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ «3» زِدْناهُمْ سَعِيراً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً «97، 98».

276- قوله: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا «98»، و فى الكهف: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا «106»، اقتصر فى هذه السورة على الإشارة لتقدم ذكر جهنم «4».

و لم يقتصر فى الكهف على الإشارة دون العبارة لما اقترن بقوله:

__________________________________________________

(1) لأنه لو لم يذكر الناس لالتبس بالملائكة و الجن.

(2) الرفات: الحطام.

(3) خبت: طفئت.

(4) ذكرت جهنم فى الإسراء: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ [67].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 166

جَنَّاتُ «107» «1»، فقال: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا الآية «106». ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا «107» ليكون الوعد و الوعيد كلاهما ظاهرين للمستمعين.

277- قوله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ «56»، و فى سبأ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ «22»، لأنه يعود إلى الرب (فى هذه السورة)، و قد تقدم ذكره فى الآية الأولى و هو قوله:

وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ «55»، و فى سبأ لو ذكر بالكناية

لكان يعود إلى اللّه كما صرح «2»، فعاد إليه، و بينه و بين ذكره سبحانه صريحا أربع عشرة آية، فلما طالت الآيات صرح و لم يكن.

278- قوله: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي «62»، و فى غيرها:

أَ رَأَيْتَ، لأن ترادف الخطاب يدل على أن المخاطب به أمر عظيم، و خطب فظيع، و هكذا هو فى هذه السورة، لأنه لعنة اللّه ضمن أخطال ذرية بنى آدم عن آخرهم إلّا قليلا، و مثل هذا: أَ رَأَيْتَكُمْ فى الأنعام فى موضعين و قد سبق «3».

279- قوله: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى «94»، و فى الكهف بزيادة: وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ «55»، لأن ما فى هذه السورة، معناه: ما منعهم عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم إلّا قولهم:

أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا «94»، هلّا بعث ملكا؟ و جهلوا أن التجانس يورث التآنس، و التغاير يورث التنافر. و ما فى الكهف معناه:

منعهم عن الإيمان و الاستغفار «4» إلّا إتيان سنّة الأولين.

__________________________________________________

(1) فى قوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [107].

(2) و ذلك فى قوله تعالى فى هذه السورة: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [8].

(3) هما الآيتان: 40، 47 من سورة الأنعام، و سبق الكلام فيهما فى الفقرة رقم 101.

(4) فى ب: و الاستعفاء.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 167

قال الزّجّاج: إلّا طلب سنة الأولين، و هو قوله: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «8: 32»، فزاد:

وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ «55» لاتصاله بقوله: سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ

«18: 55» و هم: قوم نوح، و هود، و صالح، و شعيب، كلهم أمروا بالاستغفار. فنوح يقول: وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «1» «11: 52». و صالح يقول:

فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ «11: 61». و شعيب يقول: وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ «11: 90»، فلما خوفهم سنة الأولين أجرى المخاطبين مجراهم.

280- قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ «96»، و فى العنكبوت: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً «52» كما فى الفتح: وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «28»، و الرعد: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «43»، و مثله: كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً «40: 45» «2»، وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً «4: 6»، فجاء فى الرعد و سبحان على الأصل، و فى العنكبوت آخر شَهِيداً، لأنه لما وصفه بقوله:

يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طال فلم يجز الفصل به.

281- قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ «99»، و فى الأحقاف: بِقادِرٍ «33» و فى يس:

«81»، لأن ما فى هذه السورة خبر أن، و ما فى يس خبر ليس «3»، فدخل الباء الخبر، و كان القياس ألا يدخل فى حم «الأحقاف» و لكنه شابه ليس لما ترادف النفى، و هو قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا «33»،

__________________________________________________

(1) مدرارا: دائما.

(2) فى أ: قدمت كفى باللّه حسيبا على كفى باللّه نصيرا.

(3) ما فى يس آية 81: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ فهو خبر ليس.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 168

وَ لَمْ يَعْيَ «33» «1»، و فى هذه السورة نفى واحد، و أكثر أحكام المتشابه فى العربية ثبت من وجهين، قياسا على باب ما لا ينصرف و غيره.

282- قوله: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً «101» قابل موسى- عليه السلام- كل كلمة من فرعون بكلمة من نفسه، فقال:

إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً «2» «102».

سورة الكهف

سورة الكهف

283- قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ «22»، بغير واو وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «22» بزيادة واو.

فى هذه الواو أقوال: إحداها: أن الأول و الثانى وصفان لما قبلها، أى: هم ثلاثة، و كذلك الثانى، أى: هم خمسة سادسهم كلبهم، و الثالث عطف على ما قبله، أى: هم سبعة، عطف عليه وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.

و قيل: كل واحد من الثلاثة جملة وقعت بعدها جملة، و كل جملة وقعت بعدها جملة فيها عائد يعود منها إليها، فأنت فى إلحاق واو العطف و حذفها بالخيار، و ليس فى هذين القولين ما يوجب تخصيص الثالث بالواو.

و قال بعض النحويين: السبعة نهاية العدد، و لهذا كثر ذكرها فى القرآن و الأخبار، و الثمانية تجرى مجرى استئناف كلام، و من هنا لقبه جماعة من المفسرين بواو الثمانية، و استدلوا بقوله سبحانه: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ- إلى- وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «9: 112» «3»

__________________________________________________

(1) الآية فى الأحقاف آية 33: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ فتكرار النفى قام مقام ليس.

(2) مثبورا: ملعونا.

(3) ما بين إلى الحاصرين سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 169

الآية، و بقوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ- إلى- ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً «66: 5» الآية، و بقوله: وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها «39: 73» و زعموا أن هذه الواو تدل على أن أبوابها ثمانية، و لكل واحد من هذه الآيات وجوه ذكرتها فى موضعها.

و قيل: إن اللّه حكى القولين الأولين و لم يرضهما، و حكى القول الثالث فارتضاه، و هو قوله: وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ، ثم استأنف فقال:

وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، و لهذا عقب الأول و الثانى بقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ «22»، و لم يقل فى الثالث.

فإن قيل: و قد قال فى الثالث: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ «22».

فالجواب: تقديره: قل ربى أعلم بعدتهم و قد أخبركم أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم، بدليل قوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ «22»، و لهذا قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، فعد أسماءهم.

و قال بعضهم: الواو فى قوله: وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ «22»، يعود إلى اللّه تعالى، فذكر بلفظ الجمع، كقوله: أَمَّا و أمثاله، هذا على الاختصار.

284- قوله: وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي «36»، و فى حم (فصلت): وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي «50»، لأن الرد عن الشي ء يتضمن كراهة المردود. و لما كان فى الكهف تقديره: و لئن رددت عن جنتى هذه التى أظن ألّا تبيد أبدا إلى ربى. كان لفظ الرد الذى يتضمن الكراهة أولى. و ليس فى حم ما يدل على الكراهة، فذكر بلفظ الرجع ليقع فى كل سورة ما يليق بها.

285- قوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها «57»، و فى السجدة: ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها «22»، لأن الفاء للتعقيب، و ثم للتراخى، و

ما فى هذه السورة فى الأحياء من الكفار، إذ ذكروا فأعرضوا عقيب ما ذكروا، و نسوا ذنوبهم و هم بعد متوقع منهم

أسرار التكرار في القرآن، ص: 170

أن يؤمنوا، و ما فى السجدة فى الأموات من الكفار، بدليل قوله:

وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «12». أى:

ذكروا مرة بعد أخرى، و زمانا بعد زمان، ثم أعرضوا عنها بالموت، فلم يؤمنوا، و انقطع رجاء إيمانهم.

286- قوله: نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ «61». و فى الآية الثالثة: وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ «63»، لأن الفاء للتعقيب و العطف، فكان اتخاذ الحوت للسبيل عقيب النسيان، فذكر بالفاء. و فى الآية الأخرى لما حيل بينهما بقوله: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ «63» زال معنى التعقيب، و بقى العطف المجرد، و حرفه الواو.

287- قوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً «71»، و بعده: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً «74»، لأن الإمر: العجب و المعجب «1».

و العجب يستعمل فى الخير و الشر، بخلاف النكر، لأن ما ينكره العقل فهو شر، و خرق السفينة لم يكن معه غرق، فكان أسهل من قتل الغلام و إهلاكه، فصار لكل واحد معنى يخصه.

288- قوله: أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ «72»، و بعده: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ «75»، لأن الإنكار فى الثانية أكثر، و قيل: أكد التقدير الثانى بقوله: لك، كما تقول لمن توبخه: لك أقول، و إياك أعنى، و قيل: بين فى الثانى المقول له لما لم يبين فى الأول.

289- قوله فى الأول: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها «79»، و فى الثانى: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما

رَبُّهُما «81»، و فى الثالث: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما «82»، لأن الأول فى الظاهر إفساد، فأسنده إلى نفسه، و الثالث إنعام محض فأسنده إلى اللّه- عزّ و جلّ-، و الثانى إفساد من حيث القتل، إنعام من حيث التأويل، فأسنده إلى نفسه و إلى اللّه عزّ و جلّ.

__________________________________________________

(1) فى ب: لأن الإمر و المعجب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 171

و قيل: القتل كان منه، و إزهاق الروح كان من اللّه سبحانه.

قوله: ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «78»، جاء فى الأول على الأصل، و فى الثانى: تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «82» على التخفيف، لأنه الفرع.

290- قوله: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً «97» اختار التخفيف فى الأول، لأن مفعوله «1» حرف و فعل و فاعل و مفعول، فاختار فيه الحذف، و الثانى مفعوله «2»، اسم واحد، و هو قوله: نَقْباً.

و قرأ حمزة «3»، بالتشديد و أدغم التاء فى الطاء فى الشواذ، فما استطاعوا بفتح الهمزة وزنه استفعلوا. و مثلها: استخذ فلان أرضا، أى: أخذ أرضا وزنه استفعل و من أهراق و وزنه استفعل، و قيل:

استعمل من وجهين، و قيل: السين بدل التاء و وزنه افتعل.

سورة مريم

سورة مريم

291- قوله: وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا «14»، و بعده:

وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا «32»، لأن الأول فى حق يحيى، و جاء فى الخبر عن النبى صلى اللّه عليه و سلم: «ما من أحد من بنى آدم إلّا أذنب أو همّ بذنب إلّا يحيى بن زكريا عليهما السّلام» «4»، فنفى عنه العصيان. و

الثانى

__________________________________________________

(1) فى ب: لأن مفعول.

(2) فى ب: مفعول.

(3) قراءة حمزة ذكرها القرطبى 11/ 63 فى تفسيره، و قال: كأنه أراد استطاعوا فأدغم التاء فى الطاء و شددها، و هى قراءة ضعيفة الوجه. قال أبو على: و هى غير جائزة، وعدها الدانى فى السبع و لم يشر إلى ضعفها (التيسير فى القراءات السبع ص 146). و أشار العكبرى إلى أنها قراءة بعيدة (إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب و القراءات فى القرآن، لأبى البقاء محب الدين عبد اللّه بن الحسين العكبرى 2/ 58) ط الميمنية بمصر 1306. و انظر (البحر المحيط 6/ 165) و قال فيه: قرأ الأعشى عن أبى بكر: فما اصطاعوا، و الأعمش استاعوا.

و فى هذه الفقرة فى: استجد بدل استخذ، و الفراق بدل أهراق، و اهتفعل بدل افتعل.

(4) أخرجه الإمام أحمد فى (مسنده 1/ 254) عن ابن عباس و فيه: «ما من أحد ولد أم إلّا

أسرار التكرار في القرآن، ص: 172

فى عيسى عليه السلام فنفى عنه الشقاوة، و أثبت له السعادة، و الانبياء عندنا معصومون عن الكبائر غير معصومين عن الصغائر.

292- قوله: وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ «15» «1»، فى قصة يحيى: وَ السَّلامُ عَلَيَّ «33» فى قصة عيسى. فنكّر فى الأول، و عرّف فى الثانى، لأن الأول من اللّه تعالى، و القليل منه كثير كما قال الشاعر:

قليل منك يكفينى و لكن. قليلك لا يقال له قليل و لهذا قرأ الحسن: اهدنا صراطا مستقيما «1: 6» «2»، أى:

نحن راضون منك بالقليل، و

مثل هذا فى الشعر كثير قال:

و إنّى لراض منك يا هند بالّذى. لو أبصره الواشى لقرت بلابله بلا و بأن لا أستطيع و بالمنى. و بالوعد حتّى يسأم الوعد آمله و الثانى: من عيسى عليه السلام، و الألف و اللام لاستغراق الجنس، و لو أدخل عليه التسعة و العشرين و الفروع المستحسنة و المستقبحة لم تبلغ عشر معشار سلام اللّه عليه.

و يجوز أن يكون ذلك وحيا من اللّه عزّ و جلّ، فيقرب من سلام يحيى.

و قيل: إنما دخل الألف و اللام لأن النكرة إذا تكررت تعرفت.

و قيل: نكرة الجنس و معرفته سواء، تقول: لا أشرب ماء، و لا أشرب الماء، فهما سواء.

__________________________________________________

قد أخطأ أو هم بخطيئة ...» الحديث. و كما هو هنا أخرجه فى (المسند 1/ 292، 215، 301) عن ابن عباس رضى اللّه عنهما.

ملحق:

(1) جاء فى هذه السورة: حيّا، فى قوله تعالى: ما دُمْتُ حَيًّا [31] و يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [33]. و لا تكرار فيها، لأن الأولى فى الدنيا، و الأخرى يوم البعث.

(2) قراءة الحسن ذكرها أبو حيان فى (البحر 1/ 26) رواية عن زيد بن على و الضحاك، و نصر بن على عن الحسن.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 173

293- قوله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا «37»، و فى حم (الزخرف): فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا «65»، لأن الكفر أبلغ من الظلم، و قصة عيسى فى هذه السورة مشروحة، و فيها ذكر نسبتهم إياه إلى اللّه تعالى حين قال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «35».

فذكر بلفظ الكفر. و قصته فى الزخرف مجملة، فوصفهم بلفظ دونه، و هو: الظلم.

294- قوله: وَ عَمِلَ صالِحاً «60»، و فى الفرقان:

وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً «70»، لأن هذه السورة أوجز فى ذكر المعاصى، فأوجز فى التوبة، و أطال هناك فأطال.

سورة طه

سورة طه

295- قوله تبارك و تعالى: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى . إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ «1» ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ «2» أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً «9، 10»، و فى النمل: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ «3» «7»، و فى القصص: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ «29». هذه الآيات تشتمل على ذكر رؤية موسى النار، و أمره أهله بالمكث، و إخباره أنه آنس نارا، و إطماعهم أن يأتيهم بنار يصطلون بها، أو بخبر يهتدون به إلى الطريق التى ضلوا عنها، لكنه نقص فى النمل «4» ذكر رؤية النار، و أمر أهله بالمكث، اكتفاء بما تقدم، و زاد فى

__________________________________________________

(1) آنست: رأيت من بعيد. قبس: خشبة فى رأسها شعلة (المعجم الوسيط 2/ 818).

(2) تصطلون: تستدفئون (المعجم الوسيط 1/ 524).

(3) أخرج البخارى تعليقا عن ابن عباس 7/ 118 قال: ضلوا الطريق و كانوا شاتين، فقال موسى: إن لم أجد عليها (أى نار) من يهدى الطريق آتيكم بنار تستدفئون بها.

(4) فى ب: نقص فى النار.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 174

القصص: قضاء موسى الأجل المضروب، و سيره بأهله إلى مصر، لأن الشي ء قد يجمل ثم يفصل، و قد يفصل ثم يجمل، و فى طه فصل، و أجمل فى النمل، ثم فصل فى القصص و بالغ فيه.

و قوله فى طه: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً «10»، أى: من يخبرنى بالطريق فيهدينى إليه. و إنما أخر ذكر المخبر فيهما و قدمه فيهما مرات لفواصل الآى، و كرر لَعَلِّي فى القصص لفظا، و فيهما معنى، لأن أَوْ فى قوله: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً «10»، نائب عن لَعَلِّي، و سَآتِيكُمْ تتضمن معنى لعلى، و فى القصص:

أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ «29»، و فى النمل: بِشِهابٍ قَبَسٍ «7»، و فى طه: بِقَبَسٍ «10»، لأن الجذوة من النار خشبة فى رأسها «1» قبس له شهاب، فهى فى السور الثلاث عبارة عن معبر واحد.

296- قوله: فَلَمَّا أَتاها «11» هنا، و فى النمل: فَلَمَّا جاءَها «8»، و فى القصص: أَتاها «30»، لأن أتى و جاء بمعنى واحد، لكن كثر دور الإتيان فى طه نحو: فَأْتِياهُ «47»، فَلَنَأْتِيَنَّكَ «58»، ثُمَّ أَتى «60»، ثُمَّ ائْتُوا «64»، حَيْثُ أَتى «69». و لفظ (جاء) فى النمل أكثر، نحو فَلَمَّا جاءَتْهُمْ «13»، وَ جِئْتُكَ «22»، فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ «36» و ألحق القصص ب (طه) لقرب ما بينهما.

297- قوله: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ «40»، و فى القصص:

فَرَدَدْناهُ «13»، لأن الرجع إلى الشي ء و الرد إليه بمعنى، وارد على الشي ء يقتضى كراهة المردود، و لفظ الرجع ألطف، فخصّ ب (طه)، و خصّ القصص بقوله: فَرَدَدْناهُ تصديقا لقوله: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ «7».

__________________________________________________

(1) فى ب: من رأسها.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 175

298- قوله: وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا «53»، و فى الزخرف:

وَ جَعَلَ «10»، لأن لفظ السلوك مع السبيل أكثر استعمالا به، فخصّ به طه، و خصّ الزخرف بجعل ازدواجا للكلام، و موافقة لما قبله و ما بعدها «1».

299- قوله: إِلى فِرْعَوْنَ «43»، و فى الشعراء: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ «10، 11»، و فى القصص: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ «32»، لأن طه هى السابقة، و فرعون هو الأصل المبعوث إليه، و قومه تبع له، و هم كالمذكورين معه، و فى الشعراء: قَوْمَ فِرْعَوْنَ، أى: قوم فرعون و فرعون، فاكتفى بذكره فى الإضافة عن ذكره مفردا. و مثله:

أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ «2» أى: آل فرعون و فرعون، و فى القصص:

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ «32» فجمع بين الآيتين، فصار كذكر الجملة بعد التفصيل.

300- قوله: وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «27» صرح بالعقدة فى هذه السورة لأنها السابقة، و فى الشعراء: وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي «13». كناية عن العقدة بما يقرب من التصريح، و فى القصص:

وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً «34». فكنّى عن العقدة كناية مبهمة، لأن الأول يدل على ذلك.

__________________________________________________

(1) جاء بعد هذه الآية فى الزخرف: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ [12]، وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [15]، و قبلها فى نفس الآية: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [10]. و يصح أن يكون سبب التكرار ما ذكره المؤلف فى غير هذا الموضع من أن (خلق) تأتى لما لا يتكرر و

يتبدل و (جعل) تأتى لما يتكرر و يتبدل. فالسبل تتغير بفعل الإنسان، و كذلك الأرض الممهدة يحيلها الإنسان إلى وعر و بالعكس. أما الأزواج و السموات و الأرض فخلقها اللّه و لا يمكن تكرار نماذج أخرى منها.

(2) وردت فى البقرة مغايرة لها: فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ [50]، و فى الأنفال: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ [54].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 176

301- و قوله فى الشعراء: وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ «14»، و فى القصص: إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ «33»، و ليس له فى طه ذكره، لأن قوله: وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي «26» مشتمل على ذلك و غيره، لأن اللّه عز و جل إذا يسر له أمره فلن يخاف القتل.

302- قوله: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي «29، 30» صرح بالوزير لأنها الأولى فى الذكر، و كنّى عنه فى الشعراء حيث قال: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «13» ليأتينى، فيكون لى وزيرا، و فى القصص: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي «34». أى:

اجعله لى وزيرا. فكنّى عنه بقوله: رِدْءاً لبيان الأول.

303- قوله: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ «47» و بعده: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ «26: 16»، لأن الرسول مصدر يسمى به، فحيث وحده حمل على المصدر، و حيث ثنى حمل على الاسم.

و يجوز أن يقال: حيث وحد حمل على الرسالة، لأنهما أرسلا لشى ء واحد، و حيث ثنى حمل على الشخصين.

و أكثر ما فيه من المتشابه سبق.

304- قوله: أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ

«128» بالفاء من غير (من)، و فى السجدة «26» بالواو، و بعده (من)، لأن الفاء للتعقيب و الاتصال بالأول، فطال الكلام، فحسن حذف (من)، و الواو تدل على الاستئناف، و إثبات (من) مستثقل و قد سبق الفرق بين إثباته و حذفه.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

305- قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ «2»، و فى الشعراء: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ «5».

أسرار التكرار في القرآن، ص: 177

خصت هذه السورة بقوله: مِنْ رَبِّهِمْ «2» بالإضافة، لأن الرحمن لم يأت مضافا، و لموافقته ما بعده، و هو قوله: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ «4» و خصت الشعراء بقوله: مِنَ الرَّحْمنِ «5» لتكون كل سورة مخصوصة بوصف من أوصافه، و ليس فى أوصاف اللّه اسم أشبه باسم اللّه من الرحمن، لأنهما اسمان ممنوعان أن يسمى بهما غير اللّه عزّ و جلّ، و لموافقة ما بعده و هو قوله: لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ «9»، لأن الرحمن الرحيم مصدر واحد.

306- قوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا «7»، و بعده:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ «25». كلاهما لاستيعاب الزمان المتقدم، إلّا أن مِنْ إذا دخل دل على الحصر بين الحدين، و ضبطه بذكر الطرفين، و لم يأت وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ «7» إلّا هذه، و خصت الحذف لأن قبلها: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ «6» فبناه عليه، لأنه هو. و أخّر مِنَ فى الفرقان: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ «20» و زاد فى الثانى: مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ «21: 25، 22: 52» على

الأصل للحصر.

307- قوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ «1» بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ «35»، و فى العنكبوت: ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ «57»، لأن ثم للتراخى، و الرجوع هو: الرجوع إلى الجنة أو النار، و ذلك فى القيامة، فخصت سورة العنكبوت به، و خصت هذه السورة بالواو لما حيل «2» الكلامين بقوله: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً «35»، و إنما ذكرا «3» لتقدم ذكرهما، فقام مقام التراخى و ناب الواو منابه.

__________________________________________________

(1) فى ب: (و لنبلونكم) خطأ.

(2) فى أ: و لما قيل. و فى الأصلين: و لما حيل. فحذفنا الواو ليستقيم الكلام.

(3) فى أ: و لما ذكر.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 178

308- قوله: وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً «36»، و فى الفرقان: وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً «41»، لأنه ليس فى الآية التى تقدمتها ذكر الكفار (هنا)، فصرح باسمهم، و فى الفرقان قد ذكر الكفار «1»، فخص الإظهار بهذه السورة، و الكناية بتلك.

309- ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ. قالُوا وَجَدْنا آباءَنا «52، 53»، و فى الشعراء: قالُوا بَلْ وَجَدْنا «74» بزيادة بَلْ، لأن قوله: وَجَدْنا آباءَنا «53» جواب لقوله: ما هذِهِ التَّماثِيلُ «52»، و فى الشعراء أجابوا عن قوله: ما تَعْبُدُونَ «70»، بقولهم: نَعْبُدُ أَصْناماً «71». ثم قال: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ «72، 73». فأتى بصورة الاستفهام و معناه النفى، قالوا: بَلْ وَجَدْنا. أى: قالوا:

لا. بل وجدنا عليه آباءنا، لأن السؤال فى الآية

يقتضى فى جوابهم أن ينفوا ما نفاه السائل، فأضربوا عنه إضراب من ينفى الأول و يثبت الثانى، فقالوا: بل وجدنا. فخصت السورة به.

310- قوله: وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ «70»، و فى الصافات: الْأَسْفَلِينَ «98»، لأن فى هذه السورة كادهم إبراهيم عليه السلام بقوله: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «57». و كادوا هم إبراهيم بقوله: وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً. فجرت بينهم مكايدة فغلبهم إبراهيم، لأنه كسر أصنامهم، و لم يغلبوه، لأنهم لم يبلغوا من إحراقه مرادهم، فكانوا هم الأخسرون.

و فى الصّافات: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ «97»

__________________________________________________

(1) سبق ذكر الكفار ضمنا عند ذكر القرية التى أمطرت مطر السوء. و عند ذكر قوم نوح، و صريحا فى قوله: فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [36].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 179

فأججوا نارا عظيمة، و بنوا بنيانا عاليا، و رفعوه إليه، و رموه منه إلى أسفل، فرفعه اللّه، و جعلهم فى الدنيا من الأسفلين، و ردهم فى العقبى أسفل سافلين، فخصت الصافات بالأسفلين.

311- قوله: وَ نَجَّيْناهُ «71» بالفاء سبق فى يونس، و مثله فى الشعراء: فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ «170، 171».

312- قوله: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ «83»، ختم القصة بقوله: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا «84»، و قال فى ص: رَحْمَةً مِنَّا «43»، لأنه هنا بالغ فى التضرع بقوله: وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «83» فبالغ سبحانه فى الإجابة و قال: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا «84»، لأن (عند) حيث جاء دل على: أن اللّه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة.

و فى

(ص) لما بدأ القصة بقوله: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا «41» ختم بقوله: مِنَّا ليكون آخر الآية لفقا بالأول «1». الآية.

313- قوله: فَاعْبُدُونِ. وَ تَقَطَّعُوا «92، 93»، و فى المؤمنون: فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا «52، 53»، لأن الخطاب فى هذه السورة للكفار، فأمرهم بالعبادة التى هى التوحيد، ثم قال: وَ تَقَطَّعُوا «93» بالواو، لأن التقطع قد كان منهم قبل هذا القول لهم، و من جملة خطاب المؤمنين، فمعناه: داوموا على الطاعة. و فى المؤمنون الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و للمؤمنين، بدليل قوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «51»، و الأنبياء و المؤمنون مأمورون بالتقوى. ثم قال: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ «53» أى: ظهر منهم التقطع بعد هذه القول، و المراد أممهم.

314- قوله: وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها «91»،

__________________________________________________

(1) فى ب: لفقا للأول.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 180

و فى التحريم: فَنَفَخْنا فِيهِ «12»، لأن المقصود فى هذه السورة ذكرها، و ما آل إليه أمرها حتى ظهر فيها «1» ابنها، و صارت هى و ابنها آية، و ذلك لا يكون إلّا بالنفخ فى حملها و تحملها، و الاستمرار على ذلك إلى ولادتها. فلهذا اختصت بالتأنيث.

و ما فى التحريم مقصور على ذكر إحصانها، و تصديقها بكلمات ربها، و كأن النفخ أصاب فرجها و هو مذكر. و المراد به: فرج الجيب، أو غيره فخصت بالتذكير.

سورة الحجّ

سورة الحجّ

315- قوله: يَوْمَ تَرَوْنَها «2»، و بعده: وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى «2» محول على: أيها المخاطب، كما سبق فى قوله:

وَ تَرَى الْفُلْكَ «16: 14».

316- قوله: وَ مِنَ النَّاسِ

مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ «8» فى هذه السورة، و فى لقمان:

وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ «20»، لأن ما فى هذه السورة وافق ما قبلها من الآيات، و هى: قَدِيرٌ «6»، الْقُبُورِ «7»، و كذلك فى لقمان وافق ما قبلها و ما بعدها، و هى: الْحَمِيرِ «19»، السَّعِيرِ «21»، الْأُمُورِ «22».

317- قوله: مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً «5» بزيادة مِنَ لقوله تعالى: مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الآية «5» و قد سبق فى النحل.

318- قوله: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «10»، و فى غيرها:

أَيْدِيكُمْ «3: 182»، لأن هذه الآية نزلت فى النضر بن الحارث، و قيل: فى أبى جهل، فوحّده، و فى غيرها نزلت فى الجماعة التى تقدم ذكرهم.

319- قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ

__________________________________________________

(1) فى ب: حتى يظهر فيها.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 181

وَ النَّصارى «17». قدم الصابئين لتقدم زمانهم، و قد تقدم فى البقرة.

320- قوله: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ «18» سبق فى الرعد.

321- قوله: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها «22»، و فى السجدة: مِنْها أُعِيدُوا فِيها «20»، لأن المراد بالغم: الكرب و الأخذ بالنفس، حتى لا يجد صاحبه متنفسا، و ما قبله من الآيات يقتضى ذلك، و هو: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ «19» إلى قوله: مِنْ حَدِيدٍ «21». فمن كان فى ثياب من نار و فوق رأسه حميم يذوب من حره أحشاء بطنه حتى يذوب ظاهر جلده، و عليه موكلون

يضربون بمقامع من حديد، كيف يجد سرورا، أو يجد متنفسا من تلك الكرب التى عليه، و ليس فى السجدة من هذا ذكر، و إنما قبلها: فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها.

322- قوله: وَ ذُوقُوا «22»، و فى السجدة: وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا «20» القول هاهنا مضمر، و خص بالإضمار لطول الكلام بوصف العذاب. و خصت السجدة بالإظهار، موافقة للقول قبله فى مواضع منها: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «3» و وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا «10» و قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ «11» و حَقَّ الْقَوْلُ «13». و ليس فى الحج شى ء منه.

323- قوله: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «14، 23» مكررة. و موجب هذا التكرار قوله: هذانِ خَصْمانِ «19»، لأنه لما ذكر أحد الخصمين و هو: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ «19». لم يكن بد من ذكر الخصم الآخر فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية «23».

أسرار التكرار في القرآن، ص: 182

324- قوله: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ «26»، و فى البقرة: لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ «125». و حقه أن يذكر هناك، لأن ذكر العاكف هاهنا سبق فى قوله: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ «25»، و معنى وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ: المصلون، و قيل: القائمون، بمعنى المقيمين، و هم العاكفون، لكن لما تقدم ذكرهم عبر عنهم بعبارة أخرى.

325- قوله: فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ «36» كرر، لأن الأول «1» متصل بكلام إبراهيم، و هو اعتراض،

ثم أعاده مع قوله: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ «36».

326- قوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها «45»، و بعده:

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها «48». خصّ الأول بذكر الإهلاك «2» لاتصاله بقوله: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ «44». أى:

أهلكتهم.

و الثانى بالإملاء، لأن قبله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «47» فحسن ذكر الإملاء.

327- قوله: وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ «62»، و فى سورة لقمان: مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ «30»، لأن فى هذه السورة وقع بعد عشر آيات «3» كل آية مؤكدة مرة أو مرتين، و لهذا أيضا زيد فى السورة اللام فى قوله: وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «64».

__________________________________________________

(1) الأول هو قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ [28]. و القانع:

السائل أو الراضى، و المعتر: الذى يطلب ما عندك سائلا كان أو ساكنا. و قال مالك: القانع الفقير، و المعتر: السائل (تفسير القرطبى 12/ 64، 65).

(2) فى ب: إهلاك.

(3) و هذه العشر من قوله تعالى: لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [53]، إلى هذه الآية و كلها مؤكدة كما ذكر المؤلف.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 183

و فى لقمان: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «26» إذا لم تكن سورة لقمان بهذه الصفة.

و إن شئت قلت: لما تقدم فى هذه السورة ذكر اللّه سبحانه و ذكر الشيطان أكدهما، فإنه خبر وقع بين خبرين، و لم يتقدم فى لقمان ذكر الشيطان فأكد ذكر اللّه تعالى و أهمل ذكر الشيطان، و هذه دقيقة.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون

328- قوله تبارك و تعالى: لَكُمْ

فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ «19» بالجمع و بالواو، و فى الزخرف: فاكِهَةٌ «73» على التوحيد مِنْها تَأْكُلُونَ «73» بغير واو. راعى فى السورتين لفظ الجنة. فكانت هذه جنات «1» بالجمع، فقال: فَواكِهُ «19» بالجمع، و فى الزخرف: وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ «72» بلفظ التوحيد، و إن كانت هذه جنة الخلد، لكن راعى اللفظ فقال: فِيها فاكِهَةٌ «73».

و قال فى هذه السورة: وَ مِنْها تَأْكُلُونَ «19» بزيادة الواو، لأن التقدير الآية: منها تدخرون و منها تبيعون «2»، و ليس كذلك فاكهة الجنة، فإنها للأكل فحسب، فلذلك قال فى الزخرف: مِنْها تَأْكُلُونَ «73» و وافق هذه السورة ما بعدها أيضا و هو قوله: وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ «21». فهذا للقرآن معجزة و برهان.

329- قوله: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ «24»، و بعده: وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «33» فقدم مِنْ قَوْمِهِ فى الآية الأخرى، و فى الأولى أخّر، لأن صلة الَّذِينَ فى الأولى اقتصرت على الفعل و ضمير الفاعل «3»، ثم ذكر بعده الجار و المجرور، ثم ذكر

__________________________________________________

(1) فى نفس الآية: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ.

(2) فى ب: و منها تبغون.

(3) و هى قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 184

المفعول و هو المقول. و ليس كذلك فى الأخرى، فإن صلة الموصول طالت بذكر الفاعل و المفعول و العطف عليه مرة بعد أخرى، فقدم الجار و المجرور، و لأن

تأخيره ملتبس «1»، و توسطه ركيك، فخص بالتقديم.

330- قوله: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «24»، و فى حم (فصلت): لَوْ شاءَ رَبُّنا «2» لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «14»، لأن فى هذه السورة تقدم ذكر اللّه، و ليس فيه ذكر الرب.

و فى فصلت تقدم ذكر رب العالمين سابقا على ذكر اللّه. فصرّح فى هذه السورة بذكر اللّه، و هناك بذكر الرب، لإضافته إلى العالمين و هم جملتهم فقالوا: إما اعتقادا و إما استهزاء، لَوْ شاءَ رَبُّنا (3) لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «14» فأضافوا الرب إليهم.

331- قوله: وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ «51»، و فى سبأ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «11» كلاهما من وصف اللّه سبحانه و تعالى، و خص كل سورة بما وافق فواصل الآى.

332- قوله: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «41» بالألف و اللام، و بعده: لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ «44»، لأن الأول لقوم صالح، فعرفهم بدليل قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ «41»، و الثانى نكرة، و قبله:

قُرُوناً آخَرِينَ «42». فكانوا منكرين، و لم يكن معهم قرينة عرفوا بهم فخصهم بالنكرة.

333- قوله: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ «83»، و فى النمل: لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ «68»، لأن ما فى هذه السورة على القياس، فإن الضمير المرفوع المتصل لا يجوز

__________________________________________________

(1) وجه الالتباس أنه لو قال: «... و أترفناهم فى الحياة الدنيا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم». لاحتمل أنه من مقول الذين آمنوا و كانوا مترفين فى معيشتهم كما هو مقول الكفار من هذا النوع. و هذا التقديم فى هذه الآية من براهين الإعجاز المبنى على دقة مراعاة الملابسات.

(2) فى الأصول: و لو شاء ربك- و ليس كذلك.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 185

العطف عليه حتى يؤكد بالمنفصل، فأكد وُعِدْنا نَحْنُ ثم عطف عليه آباؤُنا ثم ذكر المفعول و هو هذا.

و قدم فى النمل المفعول موافقة لقوله: تُراباً «67» «1»، لأن القياس فيه أيضا: كنا نحن و آباؤنا ترابا، فقدم ترابا ليسد مسد نَحْنُ، فكانا لفقين.

334- قوله: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ «85»، و بعده: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ «87»، و بعده: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ «89». الأول: جواب لقوله: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها «84» جواب مطابق لفظا و معنى، لأنه قال فى السؤال: قل لمن؟ فقال فى الجواب: للّه.

و أما الثانى و الثالث: فالمطابقة فيهما فى المعنى، لأن القائل إذا قال لك: من مالك هذا الغلام؟ فإن لك أن تقول: زيد، فيكون مطابقا لفظا و معنى و لك أن تقول: لزيد، فيكون مطابقا للمعنى، و لهذا قرأ أبو عمرو الثانى و الثالث اللّه. اللّه، مراعاة للمطابقة.

335- قوله: أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ «105»، و قبله:

قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ «66» ليس بتكرار، لأن الأول فى الدنيا عند نزول العذاب، و هو: الجدب عند بعضهم و يوم بدر «2» عند بعضهم، و الثانى فى القيامة و هم فى الجحيم، بدليل قوله: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها «107».

__________________________________________________

(1) أى فى قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ الآية [67 من سورة النمل ].

(2) أخرج البخارى (5/ 83)، و مسلم (4/ 13)، و الترمذى (2/ 126) عن ابن مسعود:

أن قريشا أبطأت عن الإسلام فدعا عليهم النبى صلى اللّه عليه و سلم فأخذتهم سنة

حتى هلكوا فيها و أكلوا الميتة و العظام- فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بطاعة اللّه و صلة الرحم، و إن قومك هلكوا، فادع اللّه، فقرأ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فاستسقى لهم فسقوا. ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى : يوم بدر.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 186

سورة النّور

سورة النّور

336- قوله تعالى على رأس العشر: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ «10» محذوف الجواب. تقديره:

لفضحكم، و هو متصل ببيان حكم الزانيين، و حكم القاذف، و حكم اللعان، و جواب لو لا محذوفا أحسن منه ملفوظا به، و هو المكان الذى يكون الإنسان فيه أفصح ما يكون إذا سكت.

337- و قوله على رأس العشرين: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «20» فحذف الجواب أيضا.

تقديره: لعجل لكم العذاب، و هو متضمن بقصتها رضى اللّه عنها و عن أبيها، و قيل: دل عليه قوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ «14»، و قيل:

دل عليه قوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «21».

و فى خلال هذه الآيات: لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ «12»، لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ «13»، وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ «16» و ليس هو الدال على امتناع الشي ء لوجود غيره، بل هو للتحضيض.

قال الشاعر:

تعدون عقر النيب أفضل

مجدكم. بنى ضوطرى لو لا الكمى المقنعا «1»

__________________________________________________

(1) البيت من قصيدة لجرير يهجو الفرزدق. و النيب جمع ناب و هى: المسنة من الإبل، و الكمى المقنع: الشجاع المغطى بالسلاح، و الضوطرى: المرأة الحمقاء.

(فوائد القلائد ص 196).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 187

و هو البيت للتحضيض، و التحضيض يختص بالفعل، و الفعل فى البيت مقدر، تقديره: هلا تعدون الكمى، أو: هلا تعقرون الكمى، و يختص الثانى بالفعل، و الأول يختص بالاسم، و يدخل المبتدأ و يلزم خبره الحذف.

338- قوله: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ «30» متصل بآيات الغض «1» و ليس له نظير.

339- قوله: وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ «34»، و بعده:

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ «46»، لأن اتصال الأول بما قبله أشد، فإن قوله: وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ «34» محمول و مصروف إلى قوله:

وَ لْيَسْتَعْفِفِ «33»، و إلى قوله: فَكاتِبُوهُمْ «33»، وَ لا تُكْرِهُوا «33» فاقتضى الواو، ليعلم أنه عطف على الأول، و اقتضى بيانه بقوله: إِلَيْكُمْ ليعلم أن المخاطبين بالآية الثانية هم المخاطبون بالآية الأولى. و أما الثانية فاستئناف كلام. فخص بالحذف.

340- قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ «55» إنما زاد مِنْكُمْ لأنهم المهاجرون، و قيل: عام، و (من) للتبيين.

341- قوله: وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ «59»، ختم الآية بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ «59»، و قبلها و بعدها:

الآيات «58، 61»، لأن الذى قبلها و الذى بعدها يشتمل على علامات يمكن الوقوف عليها، و هى فى الأولى: ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ

وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ «58»، و فى الأخرى: مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ الآية «61». فعد فيها آيات كلها معلومة، فختم الآيتين

__________________________________________________

(1) و هى قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ، و قبلها: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 188

بقوله: لَكُمُ الْآياتِ «61»، و مثلها: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ «17، 18».

يعنى حد الزانيين و حد القاذف، فختم بالآيات.

و أما بلوغ الأطفال فلم يذكر له علامات يمكن الوقوف عليها، بل تفرد سبحانه بعلم ذلك، فخصها بالإضافة إلى نفسه، و ختم كل آية بما اقتضى أولها.

سورة الفرقان

سورة الفرقان

342- قوله تعالى: تَبارَكَ هذه لفظة لا تستعمل إلّا للّه، و لا تستعمل إلّا بلفظ الماضى. و جاءت فى هذه السورة فى ثلاث مواضع: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ «1» «1»، و تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ «10»، و تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً «61»، تعظيما لذكر اللّه. و خصت هذه المواضع بالذكر، لأن ما بعدها عظائم:

الأول: ذكر الفرقان و هو القرآن المشتمل على معانى جميع كتب اللّه.

و الثانى: ذكر النبى صلى اللّه عليه و سلم، و اللّه خاطبه بقوله: لولاك يا محمد ما خلقت الكائنات «1».

و الثالث: ذكر للبروج و السيارات، و الشمس و القمر، و الليل و النهار، و لولاها ما وجد فى الأرض حيوان و لا نبات.

و مثلها: فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «40: 64»، و فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «23:

14»، و تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ «67: 1».

343- قوله: مِنْ دُونِهِ «3» فى هذه السورة، و فى مريم «48»،

__________________________________________________

(1) هذه العبارة تحتاج إلى دليل صحيح (المراجع).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 189

و يس «74» مِنْ دُونِ اللَّهِ، لأن هذه السورة وافق ما قبله «1»، و فى السورتين لو جاء مِنْ دُونِهِ لخالف ما قبله، لأن ما قبله فى السورتين بلفظ الجمع تعظيما فصرح.

344- قوله: ضَرًّا وَ لا نَفْعاً «3». قدم الضر موافقة لما قبله و ما بعده، فما قبله نفى و إثبات، و ما بعده موت و حياة، و قد سبق.

345- قوله: ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ «55». قدم النفع موافقة لقوله: هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ «53» و قد سبق.

346- قوله: وَ عَمِلَ عَمَلًا «70» بزيادة عَمَلًا، قد سبق.

347- قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ «59»، و مثلها فى السجدة.

يجوز أن يكون الذى فى السورتين مبتدأ، و الرحمن خبره فى الفرقان. و ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ خبره فى السجدة، و جاز غير ذلك.

سورة الشّعراء

سورة الشّعراء

348- قوله تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ «5» سبق فى الأنبياء.

349- قوله: فَسَيَأْتِيهِمْ «6» سبق فى الأنعام، و كذا:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا «7». و ما يتعلق بقصة موسى و فرعون سبق فى الأعراف 350- قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ... «8» إلى آخر الآية.

مذكور فى ثمانية مواضع: أولها: فى محمد صلى اللّه عليه و سلم، و إن

لم يتقدم ذكره صريحا فقد تقدم كناية و وضوحا. و الثانية: فى قصة موسى «67»، ثم إبراهيم «103»، ثم نوح «121»، ثم هود «139»، ثم

__________________________________________________

(1) لأن ما قبله بالإفراد و الغيبة الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [2] و وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [3].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 190

صالح «158» ثم لوط «174»، ثم شعيب «190» «1» عليه السلام.

351- قوله: أَ لا تَتَّقُونَ ... إلى قوله: الْعالَمِينَ مذكور فى خمسة مواضع: فى قصة نوح «106- 109»، و هود «124- 127»، و صالح «142- 45»، و لوط «161- 164»، و شعيب «177- 180» عليهم الصلاة و السلام، ثم كرر: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ فى قصة نوح «110»، و هود «131»، و صالح «50»، فصار ثمانية مواضع (و ليس فى قصة النبى صلى اللّه عليه و سلم: وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، لذكرها فى مواضع) «2»، و ليس فى قصة موسى عليه السلام، لأنه رباه فرعون حيث قال: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «18» و لا فى قصة إبراهيم عليه السلام، لأن أباه فى المخاطبين، حيث يقول:

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ «70» و هو رباه، و استحيا موسى و إبراهيم أن يقولا: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ و إن كانا منزهين من طلب الأجرة.

352- قوله تعالى فى قصة إبراهيم: ما تَعْبُدُونَ «70»، و فى الصافات: ما ذا تَعْبُدُونَ «85»، لأن (ما) لمجرد الاستفهام، فأجابوا فقالوا: نَعْبُدُ أَصْناماً «71»، وَ ما ذا فيه مبالغة، و قد تضمن فى الصافات معنى

التوبيخ، فلما وبخهم قال:

أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ «86، 87»، فجاء فى كل سورة ما اقتضاه ما قبله و ما بعده.

353- قوله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ. وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ «78- 80» زاد هُوَ فى الإطعام و الشفاء، لأنهما مما يدعى الإنسان أن يفعله، فيقال: زيد يطعم، و عمرو يداوى، فأكّد إعلاما أن ذلك منه سبحانه، لا من غيره، و أما الخلق و الموت و الحياة فلا يدعيهما مدع فأطلق.

354- قوله فى قصة صالح: ما أَنْتَ «3» «154» بغير

__________________________________________________

(1) فى الأصول: ثم شعيب ثم لوط و الترتيب يقتضى ما أثبتناه.

(2) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(3) فى الأصول: ما منت فى الموضعين خطأ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 191

واو، و فى قصة شعيب: وَ ما أَنْتَ «186»، لأنه فى قصة صالح بدل من الأولى، و فى الثانية عطف، و خصت أولى بالبدل «1»، لأن صالحا قلل فى الخطاب فقللوا الجواب، و أكثر شعيب فى الخطاب فأكثروا.

سورة النّمل

سورة النّمل

355- قوله تبارك و تعالى: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ «8»، و فى القصص «30»، و فى طه فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ «11»، لأنه قال فى هذه السورة: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ «7» فكرر آتِيكُمْ، فاستثقل الجمع بينهما و بين فَلَمَّا أَتاها، فعدل إلى قوله: فَلَمَّا جاءَها بعد أن كانا بمعنى واحد.

و أما فى السورتين فلم يكن إلّا لَعَلِّي آتِيكُمْ «2» و فَلَمَّا أَتاها.

356- قوله: وَ أَلْقِ عَصاكَ «10»،

و فى القصص: وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ «31»، لأن فى هذه السورة: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَ أَلْقِ عَصاكَ «8، 9، 10» فحيل بينهما بهذه الجملة، فاستغنى عن إعادة أَنْ.

و فى القصص: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ «30، 31»، فلم يكن بينهما جملة أخرى عطف بها على الأول، فحسن إدخال أَنْ.

357- قوله: لا تَخَفْ «10»، و فى القصص: أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ «31»، خصت هذه السورة بقوله: لا تَخَفْ، لأنه

__________________________________________________

(1) أى: بدل من إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [153].

(2) فى أ: سَآتِيكُمْ، و ليس فى السورتين إلا ما أثبتناه (طه 10، القصص 29).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 192

بنى على ذكر الخوف كلام يليق به و هو قوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ «10».

و فى القصص اقتصر على قوله: لا تَخَفْ و لم يبن عليه كلام، فزيد قبله أَقْبِلْ ليكون فى مقابلة مُدْبِراً «31»، أى: أقبل آمنا غير مدبر و لا تخف. فخصت هذه السورة به.

358- قوله: وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «12»، و فى القصص: اسْلُكْ يَدَكَ «32». خصت هذه السورة بأدخل، لأنه أبلغ من قوله: اسْلُكْ، لأن اسْلُكْ يأتى لازما و متعديا، و أَدْخِلْ متعد لا غير، و لأن فى هذه السورة فِي تِسْعِ آياتٍ «12». أى: مع تسع آيات مرسلا إلى فرعون.

و خصت القصص بقوله: اسْلُكْ موافقة لقوله:

اضْمُمْ «32»، ثم قال: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ «32» فكان دون الأول، فخص بالأدنى «1» (و الأقرب) من اللفظين.

359- قوله: إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ «12»، و فى القصص: إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ «32»، لأن الملأ أشراف القوم، و كانوا فى هذه السورة موصوفين بما وصفهم اللّه به من قوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَ جَحَدُوا بِها «13، 14»، فلم يسمهم ملأ، بل سماهم قوما. و فى القصص لم يكونوا موصوفين بتلك الصفات فسماهم ملأ، و عقبه: وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «38»، و ما يتعلق بقصة موسى سوى هذه الكلمات قد سبق.

360- قوله: وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا «53»، و فى حم

__________________________________________________

(1) فى أ: بالإذن. و الكلمة بين الحاصرين سقطت من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 193

(فصلت): وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ «18». نجينا و أنجينا بمعنى واحد، و خصت هذه السورة بأنجينا لموافقته لما بعده و هو:

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ «57»، و بعده: وَ أَمْطَرْنا «58»، وَ أَنْزَلَ ...

فَأَنْبَتْنا «60» «1» كله على لفظ أفعل.

و خص حم (فصلت) بنجينا، لموافقته ما قبله وَ زَيَّنَّا «12»، و بعده: قَيَّضْنا لَهُمْ «25»، و كله على لفظ فعلنا.

361- قوله: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ «60» قد سبق.

362- قوله: أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ فى خمس آيات و ختم الأولى بقوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ «60». ثم قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «61»، ثم قال: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «62»،

ثم قال:

تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «63»، ثم قال: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «64» أى: عدلوا إلى الذنوب «2» و أول الذنوب: العدل عن الحق، ثم لم يعلموا، لو علموا ما عدلوا، ثم لم يذكروا فيعلموا بالنظر و الاستدلال، فأشركوا عن غير حجة «3» و برهان، قل لهم يا محمد: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «64».

363- قوله: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ «87»، و فى الزمر: فَصَعِقَ «68». خصت هذه السورة بقوله:

فَفَزِعَ موافقة لقوله: وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ «89»، و خصت الزمر بقوله: فَصَعِقَ موافقة لقوله: وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «30»، لأن معناه: مات.

__________________________________________________

(1) فى الأصول: و أنزلنا، و لم يذكر: فأنبتنا. و المثبت هو ما فى المصحف من هذه السورة بعد تلك الآية. و هى قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ... النمل: 60 (المراجع).

(2) فى جميع الأصول: عدلوا عن الذنوب، و هو خطأ.

(3) فى ب: فأشربوا على حجة.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 194

سورة القصص

سورة القصص

364- قوله تبارك و تعالى: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى «14» أى: كمل أربعين سنة، و قيل: كمل قوله، و قيل: خرجت لحيته، و فى يوسف: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ «22»، لأنه أوحى إليه فى صباه.

365- قوله: وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «20»، و فى يس: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى «20»، اسمه حزبيل «1» من آل فرعون، و هو

النجار، و قيل: شمعون، و قيل:

حبيب «2»، و فى يس هو هو «3»، و قوله: مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون من أقصى المدينة صفة لرجل.

و الثانى: أن يكون صلة لجاء.

و الثالث: أن يكون صلة ليسعى. و الأظهر فى هذه السورة أن يكون وصفا، و فى يس: أن يكون صلة.

و خصت هذه السورة بالتقديم «4» لقوله قبله: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ «15»، ثم قال: وَ جاءَ رَجُلٌ «20».

و خصت سورة يس بقوله: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ لما جاء فى التفسير: أنه كان يعبد اللّه فى جبل، فلمّا سمع خبر الرسل سعى مستعجلا «5».

__________________________________________________

(1) فى الدر المنثور (حزقيل) أخرجه ابن أبى حاتم عن الضحاك (5/ 122).

(2) أخرج السيوطى أن اسمه شمعون عن ابن جرير و ابن أبى حاتم (الدر المنثور 5/ 123)، و أخرج عن عبد الرزاق أنه مؤمن آل فرعون.

(3) هو هو، أى: اسم الرجل، لا نسق الآية.

(4) يعنى تقديم (رجل).

(5) أى: إن المراد الإخبار عن سعيه لا عنه، و هو للاهتمام.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 195

366- قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ «27»، و فى الصافات: مِنَ الصَّابِرِينَ «102»، لأن ما فى هذه السورة من كلام شعيب، أى: من الصالحين فى حين المعاشرة، و الوفاء بالعهد، و فى الصّافات من كلام إسماعيل حين قال له أبوه: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى «102»، فأجاب: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «102».

367-

قوله: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ «37»، و بعده: مَنْ جاءَ بغير باء، الأول هو أم الأوجه، لأن أفعل هذا فيه معنى الفعل، و معنى الفعل لا يعمل فى المفعول به، فزيد بعده باء تقوية للعمل.

و خص الأول بالأصل ثم حذف من الآخر الباء اكتفاء بدلالة الأول عليه، و محله نصب بفعل آخر، أى: يعلم من جاء بالهدى، و لم يقتض تغييرا كما قلنا فى الأنعام «1»، لأن دلالة الأول قام مقام التغيير.

و خص الثانى به لأنه فرع.

368- قوله: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى «38»، و فى المؤمن (غافر): لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى «36، 37»، لأن قوله: أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ، و فى هذه السورة خبر لعلى، و جعل قوله: أَبْلُغُ الْأَسْبابَ فى المؤمن: خبر لعلى، ثم أبدلت منه أَسْبابَ السَّماواتِ.

و إنما زادها ليقع فى مقابلة قوله: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ «40: 26»، لأنه (زعم) «2» أنه إله الأرض فقال: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «38»، أى: فى الأرض. أ لا ترى أنه قال: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى فجاء على كل سورة ما اقتضاه ما قبله.

__________________________________________________

(1) الذى فى الأنعام قوله تعالى: رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [117].

(2) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 196

369- قوله: وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ «38»، و فى المؤمن: كاذِباً «37»، لأن التقدير فى هذه السورة: و إنى لأظنه كاذبا من الكاذبين. فزيد (من) لرءوس الآيات، ثم أضمر كاذبا لدلالة الكاذبين عليه. و

فى المؤمن جاء على الأصل، و لم يكن فيه موجب تغيير.

370- قوله: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «60» بالواو، و فى الشورى: فَما أُوتِيتُمْ «36» بالفاء، لأنه لم يتعلق فى هذه السورة بما قبله كبير تعلق فاقتصر على الواو، لعطف جملة على جملة «1»، و تعلق فى الشورى بما قبلها، أشد تعلق، لأنه عقب ما لهم من المخافة «2» بما أوتوا من الأمنة، و الفاء حرف للتعقيب.

371- قوله: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها «60»، و فى الشورى: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «36» فحسب، لأن فى هذه السورة ذكر جميع ما بسط من الرزق، و أعراض الدنيا كلها مستوعبة بهذين اللفظين. فالمتاع: ما لا غنى عنه فى الحياة من المأكول و المشروب و الملبوس، و المسكن و المنكوح. و الزينة: ما يتجمل به الإنسان، و قد يستغنى عنه، كالثياب الفاخرة، و المراكب الرائقة، و الدور المجصصة، و الأطعمة الملبقة «3».

و أما فى الشورى فلم يقصد الاستيعاب، بل ما هو مطلوبهم فى تلك الحالة، و من النجاة و الأمن فى الحياة فلم يحتج إلى ذكر الزينة.

372- قوله: إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً «71»، و بعده: إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً «72»، قدم الليل على

__________________________________________________

(1) أى: إن جملة وَ ما أُوتِيتُمْ [60] معطوفة على جملة وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى [59].

(2) المخافة مذكورة فيما قبله فى قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ [30]، و أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [34].

(3) الأطعمة الملبقة: الشهية.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 197

النهار، لأن

ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار «1» بدخول الليل، ثم ختم الآية الأولى بقوله: أَ فَلا تَسْمَعُونَ «71»، بناء على الليل، و ختم الأخرى بقوله: أَ فَلا تُبْصِرُونَ «72» بناء على النهار، و النهار مبصر، و آية النهار مبصرة.

373- قوله: وَيْكَأَنَّ «82» و وَيْكَأَنَّهُ «82». ليس بتكرار، لأن كل واحد منهما متصل بغير ما اتصل به الآخر. قال ابن عباس: وى: صلة، و إليه ذهب سيبويه فقال: وى: كلمة يستعملها النادم بإظهار ندامته، و هى مفصولة من كأنه «2». و قال الأخفش:

أصله: ويك، و أن اللّه بعده منصوب بإضمار العلم. أى: أعلم «3» أن اللّه، و قال بعضهم: أصله ويلك، و فيه ضعيف، و قال الضحاك: الياء و الكاف صلة، و تقديره: و إن اللّه، و هذا كلام مزيف «4»

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت

374- قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «8»، و فى لقمان: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ «14»، و فى الأحقاف: بِوالِدَيْهِ إِحْساناً «15» «5». الجمهور على أن الآيات الثلاث نزلت فى سعد بن مالك، و هو سعد بن أبى وقاص، و أنها فى سورة لقمان اعتراض بين كلام لقمان لابنه، و لم يذكر فى لقمان حُسْناً، لأن قوله بعده: أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ «14» قام

__________________________________________________

(1) فى الأصول: من ذهاب الليل: و السياق لا يقتضيه.

(2) و إليه ذهب البصريون، و الكاف متصلة بأن (إملاء ما منّ به الرحمن 2/ 94).

(3) و به قال الفراء و هو ضعيف، لأن معنى الخطاب هنا بعيد، و لأن تقدير أى بأعلم لا نظير له، و هو غير سائغ (إملاء ما من به الرحمن 2/ 94).

(4) لم يذكر المؤلف اتصال كل

كلمة بما اتصلت به. و الظاهر أن الأولى اتصلت بحكمة اللّه تعالى فى بسط الرزق و تقديره. و الثانية اتصلت بعاقبة قارون و أمثاله من الكافرين حيث لا يفلحون و اللّه أعلم.

(5) فى الأصول: حُسْناً و ما أثبتناه هو الصحيح.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 198

مقامه، و لم يذكر فى هذه السورة: حَمَلَتْهُ، و لا وَضَعَتْهُ موافقة لما قبله من الاختصار، و هو قوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ «7»، فإنه ذكر فيها جميع ما يقع بالمؤمنين بأوجز كلام، و أحسن نظام، ثم قال: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ «8»، أى: ألزمناه حُسْناً فى حقهما، و قياما بأمرهما، و إعراضا عنهما، و خلافا لقولهما، و خلافا لقولهما إن أمراه بالشرك باللّه.

و ذكر فى لقمان و الأحقاف حالة حملهما و وضعهما.

375- قوله: وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي «8»، و فى لقمان:

عَلى أَنْ تُشْرِكَ «15»، لأن ما فى هذه السورة وافق ما قبله لفظا، و هو قوله: وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ «6»، و فى لقمان محمول على المعنى، لأن التقدير: و إن حملاك على أن تشرك.

376- قوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ «21» بتقديم العذاب على الرحمة فى هذه السورة فحسب، لأن إبراهيم خاطب به نمرود و أصحابه، و أن العذاب وقع بهم فى الدنيا.

377- قوله: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ «22»، و فى الشورى: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ «31»، لأنه فى هذه

السورة خطاب لنمرود حين صعد الجو موهما أنه يحاول؟

السماء، فقال إبراهيم له و لقومه «1»: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.

أى: من فى الأرض من الجن و الإنس، و لا من فى السماء من الملائكة، فكيف تعجزون اللّه.

و قيل: ما أنتم بفائتين عليه و لو هربتم فى الأرض أو صعدتم فى

__________________________________________________

(1) فى الأصول: فقال له و لقوم إبراهيم. و ما اخترناه أوضح.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 199

السماء فقال: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ لو كنتم فيها.

و ما فى الشورى خطاب للمؤمنين، و قوله: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «30» يدل عليه، و قد جاء: وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ «51» فى قوله: وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا «39: 51» من غير ذكر الأرض و لا السماء.

378- قوله: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «24»، و قال بعده: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ «44». فجمع الأولى و وحد الثانية، لأن الأولى إشارة إلى إثبات النبوة، و فى النبيين- صلوات اللّه عليهم- كثرة، و الثانى إشارة إلى التوحيد، و هو سبحانه واحد لا شريك له.

379- قوله: أَ إِنَّكُمْ «29». جمع بين استفهامين، قد سبق فى الأعراف.

380- قوله: وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً «33»، و فى هود: وَ لَمَّا جاءَتْ «77» بغير أَنْ، لأن (لما) يقتضى جوابا، و إذا اتصل به (أن) دل على أن الجواب وقع فى الحال من

غير تراخ كما فى هذه السورة، و هو قوله: سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً «33»، و مثله فى يوسف: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً «96».

و فى هود اتصل به كلام بعد كلام إلى قوله: قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ «81». فلما طال لم يحسن دخول (أن) «1».

__________________________________________________

(1) و طول الكلام هذا قرينة على أن الجواب لم يقع فى الحال، بدليل قوله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ «81». أما فى هذه السورة فإن فيها: إِنَّا

أسرار التكرار في القرآن، ص: 200

381- قوله: وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ «36». هو عطف على قوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ «14».

382- قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً «52» أخّره فى هذه السورة لما وصف، و قد سبق.

383- قوله: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ «62»، و فى القصص: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ «82»، و فى الرعد «26»، و فى الشورى: لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ «12»، لأن ما فى هذه السورة اتصل بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الآية «60»، و فيها عموم، فسار تقدير الآية:

يبسط الرزق لمن يشاء من عباده أحيانا، و يقدر له أحيانا، لأن الضمير «1» يعود إلى (من)، و قيل: يقدر له: البسط من التقدير.

و فى القصص تقديره: يبسط الرزق لمن يشاء، و يقدر لمن يشاء، و كل واحد منهما غير الآخر، بخلاف الأولى.

و

فى السورتين يحتمل الوجهين فأطلق.

384- قوله: مِنْ بَعْدِ مَوْتِها «63»، و فى البقرة و الجاثية و الروم: بَعْدَ مَوْتِها، لأن فى هذه السورة وافق ما قبله و هو: مِنْ قَبْلِهِ فإنهما يتوافقان. و فيه شى ء آخر، و هو: أن ما فى هذه السورة سؤال و تقرير «2»، و التقرير يحتاج إلى التحقيق فوق غيره، فقيد الظرف بمن، فجمع بين طرفيه كما سبق.

385- قوله: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ «58» بغير واو، لاتصاله بالأول أشد اتصال، و تقديره: ذلك نعم أجر العاملين.

__________________________________________________

مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً «34» و ليس فيها ما يدل على إمهال، و هذا برهان للقرآن من حيث الدقة فى استعمال الكلمات.

(1) المراد: الضمير فى لَهُ.

(2) و السؤال فى نفس الآية، و هو قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 201

سورة الرّوم

سورة الرّوم

386- قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «9» هنا، و فى فاطر «44»، و أول المؤمن «21» بالواو، و فى غيرهن بالفاء، لأن ما قبلها فى هذه السورة: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا «8»، و كذلك بعدها:

وَ أَثارُوا الْأَرْضَ «9» بالواو، فوافق ما قبلها و ما بعدها. و فى فاطر أيضا وافق ما قبله ما بعده، فإن قبله: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «43»، و بعدها: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ «44»، و كذلك أول المؤمن قبله: وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ «20».

و أما فى آخر المؤمن

فوافق ما قبله و ما بعده و كانا بالفاء، و هو قوله:

فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ «81»، و بعده: فَما أَغْنى عَنْهُمْ «82».

387- قوله: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً «9» و مِنْ قَبْلِهِمْ متصل بكون آخر مضمر «1»، و قوله:

كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً. إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك.

و خصت هذه السورة بهذا النسق لما يتصل من الآيات بعده، و كله إخبار عما كانوا عليه و هو: وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها «9»، و فى فاطر: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا «44» بزيادة الواو، لأن التقدير: فينظروا كيف أهلكوا و كانوا أشد منهم قوة.

و خصت هذه السورة به لقوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ الآية «44».

و فى المؤمن: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً «21». فأظهر كانَ العامل فى مِنْ قَبْلِهِمْ، و زاد هُمْ، لأن فى هذه السورة وقعت فى أوائل قصة نوح، و هى

__________________________________________________

(1) يعنى و التقدير: كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 202

تتم فى ثلاثين آية، فكان اللائق البسط، و فى آخر المؤمن: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً «82» «1» فلم يبسط القول، لأن أول السورة يدل عليه.

388- قوله: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «21»، و ختم الآية بقوله: يَتَفَكَّرُونَ «21»، لأن الفكر يؤدى إلى الوقوف على المعانى التى خلقن لها، من التآنس و التجانس، و

سكون كل واحد منهما إلى الآخر.

389- قوله: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «22»، و ختم بقوله: لِلْعالِمِينَ «22»، لأن الكل تظلهم السماء، و تقلهم الأرض، و كل واحد منفرد بلطيفة فى صوته يمتاز بها عن غيرها، حتى لا ترى اثنين فى ألف يتشابه صوتاهما «2» و يلتبس كلاهما، و كذلك ينفرد كل واحد بدقيقة فى صورته يتميز بها من بين الأنام، فلا ترى اثنين يشتبهان، و هذا يشترك فى معرفته الناس جميعا، فلهذا قال:

لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ.

و من حمل اختلاف الألسن على اللغات، و اختلاف الألوان على السواد و البياض و الشقرة و السمرة، فالاشتراك فى معرفتها أيضا ظاهر.

و من قرأ لِلْعالِمِينَ بكسر اللام «3» فقد أحسن، لأن بالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره.

390- قوله: وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ «23»، و ختم بقوله: يَسْمَعُونَ «23»، فإن من سمع أن النوم من صنع اللّه الحكيم و لا يقدر أحد على اجتلابه إذا امتنع، و لا على دفعه إذا ورد،

__________________________________________________

(1) سقطت كلمة أَشَدَّ من الأصول.

(2) فى أ: صوتاهما.

(3) هى قراءة حفص بكسر اللام، و الباقون بفتحها (الدانى: التيسير ص 175).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 203

تيقن أن له صانعا مدبرا «1».

قال الخطيب: معنى يَسْمَعُونَ هاهنا: يستجيبون إلى ما يدعوهم إليه الكتاب.

و ختم الآية الرابعة «2» بقوله: يَعْقِلُونَ «24»، لأن العقل ملاك أمر فى هذه الأبواب، و هو المؤدى إلى العلم، فختم بذكره.

391- قوله: وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ «24» أى: أنه يريكم، و قيل: تقديره و يريكم من

آياته البرق، و قيل: أن يريكم. فلما حذف (أن) سكن الياء، و قيل: من آياته كلام كاف. كما تقول: منها كذا، و منها كذا، و منها و تسكت تريد الكثرة.

392- قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ «37»، و فى الزمر: أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا «52»، لأن بسط الرزق مما يشاهد و يروى، فجاء فى هذه السورة على ما يقتضيه اللفظ و المعنى، و فى الزمر اتصل بقوله: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ «49»، و بعده: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ «49»، فحسن: أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا.

393- قوله: وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ «46»، و فى الجاثية:

فِيهِ بِأَمْرِهِ «12»، لأن فى هذه السورة تقدم ذكر الرياح و هو قوله:

أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «46» بالمطر و إذاقة الرحمة، لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بالرياح بأمر اللّه تعالى، و لم يتقدم ذكر البحر.

و فى الجاثية تقدم ذكر البحر و هو قوله: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ «12»، فكنى عنه فقال: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ.

__________________________________________________

(1) انظر: (العبر و الاعتبار ورقة 48، ففيه بحث ممتع عن النوم خط رقم 32918 جامعة القاهرة).

(2) المراد بالآية الرابعة: آيات اللّه و دلائل عظمته.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 204

سورة لقمان

سورة لقمان

394- قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «1» «7»، و فى الجاثية: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ «8» زاد فى هذه السورة: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، جل المفسرين على أن الآيتين نزلتا فى النضر بن الحارث «2». و ذلك أنه ذهب إلى فارس فاشترى كتاب كليلة و دمنة،

و أخبار رستم و اسفنديار، و أحاديث الأكاسرة، فجعل يرويها و يحدث بها قريشا و يقول: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد و ثمود، و أنا أحدثكم بحديث رستم و اسفنديار، و يستملحون حديثه، و يتركون استماع القرآن، فأنزل اللّه هذه الآيات. و بالغ فى ذمه لتركه استماع القرآن فقال: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أى: صمما لا يقرع مسامعه صوت.

و لم يبالغ فى الجاثية هذه المبالغة لما ذكر بعده: وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً «9»، لأن العلم لا يحصل إلّا بالسماع، أو ما يقوم مقامه من خط أو غيره.

395- قوله: كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «29» «3»، و فى الزمر: لِأَجَلٍ «5»، قد سبق شطر من هذا، و نزيده بيانا: أن إِلى متصل لآخر الكلام، و دال على الانتهاء، و اللام متصل بأول الكلام، و دال على الصلة و السلام.

سورة السّجدة

سورة السّجدة

396- قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ «5»، و فى المعارج: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «4»، موضع بيانه التفسير، و الغريب فيه ما روى عن عكرمة فى جماعة: أن اليوم فى المعارج عبارة عن أول

__________________________________________________

(1) الوقر: الصمم.

(2) انظر: (البحر المحيط 7/ 183)، و ذكر: أن عبد اللّه بن خطل اشترى جارية تغنى بالنسيب. و بهذا فسر لهو الحديث: بالمعازف و الغناء. المصدر السابق.

(3) سبق فى سورة الرعد.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 205

أيام الدنيا إلى انقضائها، و أنها خمسون ألف سنة، لا يدرى أحدكم مضى و كم بقى إلّا اللّه عزّ و جلّ «1».

و من

الغريب أن عبارة عن الشدة و استطالة أهلها إياها، كالعادة فى استطالة أيام الشدة و الحزن، و استقصار أيام الراحة و السرور حتى قال القائل: سنة الوصل سنة (بكسر السين)، و سنة الهجر سنة (بفتح السين).

و خصت هذه السورة بقوله: أَلْفَ سَنَةٍ لما قبله، و هو قوله:

فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «4» و تلك الأيام من جنس ذلك اليوم.

و خصت المعارج بقوله: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، لأن فيها ذكر القيامة و أهوالها، فكان اللائق بها.

397- قوله: ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها «22»، ثُمَّ هاهنا تدل على الإعراض عقب التذكير «2».

398- قوله: عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «20»، و فى سبأ: الَّتِي كُنْتُمْ «42»، لأن النار فى هذه السورة وقعت موقع الكناية، لتقدم ذكرها، و الكنايات لا توصف، فوصف العذاب.

و فى سبأ يتقدم ذكر النار (قبل) «3» فحسن وصف النار.

399- قوله: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ «26» بالواو مِنْ قَبْلِهِمْ بزيادة مِنْ سبق فى طه.

400- قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ «26»، ليس غيره، لأنه لما ذكر القرون و المساكن بالجمع، حسن جمع الآيات، و لما تقدم ذكر الكتاب و هو مسموع حسن ذكر لفظ السماع، فختم الآية به.

__________________________________________________

(1) للأستاذ الدكتور منصور حسب النبى، أستاذ الطبيعة بجامعة عين شمس رأى فى هاتين الآيتين و أنهما يدلّان على سرعات، فآية السجدة تدل على أقوى سرعة فى الكون و هى سرعة الضوء، و آية المعارج تدل على سرعات الملائكة التى تفوق سرعة الضوء، و قد نوقشت هذه القضية على صفحات مجلة الأزهر فى أعداد تبدأ من شهر رجب 1414 ه و ما بعدها فانظرها (المراجع).

(2) و ذلك فى الآية: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ

عَنْها.

(3) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 206

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب

ذهب بعض القراء إلى أنه ليس فى هذه السورة ما يذكر فى المتشابه، و بعضهم أورد فيها كلمات، و ليس فى ذلك كثير تشابه، بل قد يلتبس على الحافظ القليل البضاعة، و على الصبى القليل التجارب، فأوردتها إذ لم تخل من فائدة، و ذكرت مع بعضها علامة يستعين بها المبتدئ فى تلاوته.

401- منها قوله: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ «8»، و بعده: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ «24». ليس فيها تشابه، لأن الأول من لفظ السؤال، و صلته عَنْ صِدْقِهِمْ، و بعده:

وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ «8». و الثانى من لفظ الجزاء، و فاعله اللَّهُ و صلته بِصِدْقِهِمْ بالباء، و بعده وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ «24».

402- و منها قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «9»، و بعده: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً «41»، فيقال للمبتدئ: إن الذى يأتى بعد العذاب الأليم نعمة من اللّه على المؤمنين «1»، و ما يأتى قبل قوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ «43»، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً «41» شكرا على أن أنزلكم منزلة نبيه صلى اللّه عليه و سلم فى صلاته و صلاة ملائكته عليه، حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «56».

403- و منها قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ «28» و يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ «59»، ليس من المتشابه، لأن الأول فى التخيير «2»، و الثانى فى الحجاب.

__________________________________________________

(1) لأن قبل هذه الآية: وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً [8].

(2) المراد بالتخيير: تخيير النبى صلى اللّه عليه و سلم أزواجه بين اللّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم و بين الدنيا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 207

404- و منها قوله: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ «38، 62» فى موضعين، و فى الفتح: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ «23».

التقدير فى الآيات: سنة اللّه التى قد خلت فى الذين خلوا، فذكر فى كل سورة الطرف الذى هو أعم، و اكتفى به عن الطرف الآخر، و المراد بما فى أول هذه السورة: النكاح. نزلت حين عيروا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنكاحه زينب، فأنزل اللّه: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أى النكاح سنة فى النبيين على العموم. و كانت لداود تسع و تسعون، فضم إليهم «1» المرأة التى خطبها أوريا، و ولدت سليمان، و المراد بما فى آخر هذه السورة القتل. نزلت فى المنافقين و الشاكين الذين فى قلوبهم مرض، و المرجفين «2» فى المدينة على العموم.

و ما فى سورة الفتح يريد به نصرة اللّه لأنبيائه، و العموم فى النصرة أبلغ منه فى النكاح و القتل.

و مثله فى حم (غافر): سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ «85» فإن المراد بها: عدم الانتفاع بالإيمان عند البأس، فلهذا قال:

قَدْ خَلَتْ.

405- و منها قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً «34» و وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً «52» و وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً «25» و وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً «51» و هذا من باب الإعراب،

و إنما نصب لدخول كان على الجملة، فتفردت السورة به، و حسن دخول كان عليها، مراعاة لفواصل الآى و اللّه أعلم.

سورة سبأ

سورة سبأ

406- قوله تعالى: مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ «3» مرتين بتقديم السموات. خلاف يونس فإن فيها: مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي

__________________________________________________

(1) فى أ: فضم إليها.

(2) فى الأصول: و المرجفون.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 208

الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ «61»، لأن فى هذه السورة تقدم ذكر السموات فى أول السورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «1» و قد سبق فى يونس.

407- قوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا «9» بالفاء، ليس غيره، زيد الحرف، لأن الاعتبار فيها بالمشاهدة على ما ذكرناه، و خصت بالفاء لشدة اتصالها بالأول، لأن الضمير يعود إلى الذين قسموا الكلام فى النبى صلى اللّه عليه و سلم، قالوا: محمد إما غافل كاذب، و إما مجنون هاذ، و هو قولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ «8»، فقال اللّه تعالى:

بل تركتم القسمة الثالثة و هى: و إما صحيح العقل صادق.

408- قوله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ «22»، و فى سبحان: مِنْ دُونِهِ «56»، لأنه فى هذه السورة اتصلت الآية بآية ليس فيها لفظ اللّه، فكان الصريح أحسن، و فى سبحان «1» اتصل بآيتين فيهما بضعة عشر مرة ذكر اللّه صريحا و كناية، فكانت الكناية أولى، و قد سبق.

409- قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ «9»، و بعده: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ «19»،

بالجمع، لأن المراد بالأول: لآية على إحياء الموتى، فخصت بالتوحيد، و فى قصة سبأ جمع، لأنهم صاروا اعتبارا يضرب بهم المثل، تفرقوا أيادى سبأ، و فرقوا كل مفرق، و مزقوا كل ممزق، فرفع بعضهم إلى الشام، و بعضهم (ذهب) «2» إلى يثرب، و بعضهم إلى عمان، فختم بالجمع.

و خصت به لكثرتهم، و كثرة من يعتبر بهم، فقال: لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على الجنة شَكُورٍ على النعمة، أى المؤمنين.

410- قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ «36»،

__________________________________________________

(1) فى أ: فيها.

(2) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 209

و بعده: لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ «39» قد سبق.

و خص هذه السورة بذكر الرب، لأنه تكرر فيها مرات كثيرة، منها: بَلى وَ رَبِّي «3» و بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ «15» و رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ «19» و يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا «26»، مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ «31» و لم يذكر مع الأول مِنْ عِبادِهِ، لأن المراد بهم الكفار، و ذكره مع الثانى لأنهم المؤمنون، و زاد لَهُ و قد سبق بيانه.

411- قوله: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ «34» و لم يقل:

مِنْ قَبْلِكَ، و لا قَبْلِكَ. خصت السورة به، لأنه فى هذه السورة إخبار مجرد، و فى غيرها إخبار النبى صلى اللّه عليه و سلم و تسلية له، فقال:

قَبْلِكَ و مِنْ قَبْلِكَ.

412- قوله: وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ «25»، و فى غيرها:

عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» لأن قوله: أَجْرَمْنا «25» بلفظ الماضى، أى قبل هذا. و لم يقل: نجرم،

فيقع فى مقابلة تعملون، لأن من شرط الإيمان و وصف المؤمن: أن يعزم ألّا يجرم، و قوله: تَعْمَلُونَ خطاب للكفار، و كانوا مصرين على الكفر فى الماضى من الزمان و المستقبل، فاستغنت به الآية عن قوله: كُنْتُمْ.

413- قوله: عَذابَ النَّارِ «42» قد سبق.

سورة فاطر

سورة فاطر

414- قوله جل و علا: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ «9» بلفظ الماضى، موافقة لأول السورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1» لأنهما للماضى لا غير، و قد سبق.

415- قوله: وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ «12» «2» بتقديم

__________________________________________________

(1) يعنى: (فاطر- جاعل).

(2) مواخر: تشق عباب الموج.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 210

فِيهِ موافقة لتقدم: وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ «12» و قد سبق.

416- قوله: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ «25» بزيادة الباءات، قد سبق.

417- قوله: مُخْتَلِفاً أَلْوانُها «27»، و بعده: أَلْوانُها «27» ثم: أَلْوانُهُ «28»، لأن الأول يعود إلى ثَمَراتٍ «27»، و الثانى يعود إلى الْجِبالِ «27»، و قيل: يعود إلى الحمر، و الثالث يعود إلى بعض الدال عليه «1» مِنَ، لأنه ذكر مِنَ و لم يفسره كما فسره فى قوله: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ «27»، فاختص الثالث بالتذكير.

418- قوله: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ «31» بالصريح، و بزيادة اللام، و فى الشورى: إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ «27»، لأنه المتقدمة فى هذه السورة لم يكن فيها ذكر اللّه «2» فصرح باسمه سبحانه، و فى الشورى متصل بقوله: وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ «27» فخص بالكناية.

و دخل اللام فى

الخبر موافقة لقوله: إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ «34» «3».

419- قوله: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ «39» على الأصل قد سبق، و أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا «44» سبق، و عَلى ظَهْرِها سبق بيانه.

420- قوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «43» كرر. و قال فى الفتح: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا «23» و قال فى سبحان: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا «77»، التبديل:

__________________________________________________

(1) و هو قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.

(2) و هى قوله تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [30].

(3) و لم تدخل اللام فى الخبر فى الشورى موافقة لقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 211

تغيير الشي ء عما كان عليه. قيل: مع بقاء مادة الأصل، كقوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «4: 56»، و كذلك: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ «14: 48». و التحويل: نقل الشي ء من مكان إلى مكان آخر. و سنة اللّه سبحانه لا تبدل و لا تحول، فخص هذه الموضع بالجمع بين الوصفين، لما وصف الكفار بوصفين، و ذكر لهم غرضين، و هو قوله: وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً «1» وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً «39»، و قوله:

اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ «23».

و قيل: هما بدلان من نُفُوراً «42» فكما ثنى الأول و الثانى «2» ثنى الثالث، ليكون الكلام كله على غرار واحد.

و قال فى الفتح: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ

اللَّهِ «3» تَبْدِيلًا «23» فاقتصر على مرة واحدة لما لم يكن للتكرار موجب.

و خص (سبحان) بقوله: تَحْوِيلًا «77»، لأن قريشا قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: لو كنت نبيّا لذهبت إلى الشام، فإنها أرض المبعث و المحشر. فهم النبى صلى اللّه عليه و سلم بالذهاب إليها، فهيأ أسباب الرحيل و التحويل، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها «76»، و ختم الآيات بقوله: تَحْوِيلًا «77» تطبيقا للمعنى.

سورة يس

سورة يس

421- قوله تبارك و تعالى: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى «20» قد سبق.

422- قوله: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً «29، 53»

__________________________________________________

(1) المقت: السخط.

(2) المراد ذكر اثنين من الصفات: (نذيرا، نفورا- استكبارا، و مكر السيئ- تبديلا، تحويلا).

(3) فى أ: لسنتنا، و ليس هو ما فى الفتح.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 212

مرتين ليس بتكرار، لأن الأولى هى النفخة التى يموت بها الخلق، و الثانية هى التى يحيا بها الخلق.

423- قوله: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ «76»، و فى يونس: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «65» تشابها فى الوقف على قَوْلُهُمْ فى السورتين، لأن الوقف عليه لازم، و إِنَّ فيهما مكسورة بالابتداء بالكتابة، و محكى القول محذوف، و لا يجوز الوصل، لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم منزه من أن يخاطب بذلك.

424- قوله: وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ «52»، و فى الصافات:

وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ «37»، ذكر فى المتشابه: و ما يتعلق بالإعراب لا يعد فى المتشابه «1».

سورة الصّافّات

سورة الصّافّات

425- قوله تبارك و تعالى: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ «16»، و بعدها: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ «53»، لأن الأول حكاية كلام الكافرين، و هم منكرون للبعث، و الثانى قول أحد الفريقين لصاحبه عند وقوع الحساب و الجزاء و حصوله فيه: كان لى قرين ينكر الجزاء و ما نحن فيه، فهل أنتم تطلعوننى عليه؟ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ. قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ

«2» «55، 56». قيل: كانا أخوين، و قيل: كانا شريكين، و قيل: هما بطروس الكافر، و يهوذا مسلم، و قيل: القرين هو إبليس.

426- قوله: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «27»، و بعده: فَأَقْبَلَ «50» بالفاء، و كذلك فى ن وَ الْقَلَمِ آية «30»،

__________________________________________________

(1) و ليس من التكرار، لأن ما فى يس من كلام الكفار حين البعث و معاينتهم ما كذبوا به من قبل، و ما فى الصافات من قول اللّه تعالى ردا على الكفار و تأييدا لرسالة النبى صلى اللّه عليه و سلم.

(2) لتردين: لتهلكنى.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 213

لأن الأول لعطف جملة على جملة فحسب، و الثانى لعطف جملة على جملة بينهما مناسبة و التئام، لأنه حكى أحوال أهل الجنة، و مذاكرتهم فيها ما كان يجرى فى الدنيا بينهم و بين أصدقائهم، و هو قوله:

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ «1». فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «48، 50»: أى يتذاكرون.

و كذلك فى ن وَ الْقَلَمِ هو من كلام أصحاب الجنة بصنعاء، لما رأوها كالصريم، و ندموا ما كان منهم، و جعلوا يقولون: سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ «29». بعد أن ذكرهم التسبيح أوسطهم. ثم قال:

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ «30» أى على تركهم الاستثناء و تخافتهم: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ «24».

427- قوله: إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ «34»، و فى المرسلات: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ «18»، لأن فى هذه السورة حيل بين الضمير «2»، و بين كذلك بقوله: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ «33»

فأعاد.

و فى المرسلات متصل بالأول، و هو قوله: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ. كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ «17، 18»، فلم يحتج إلى إعادة الضمير.

428- قوله: إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «35»، و فى القتال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «19» بزيادة أَنَّهُ و ليس لهما فى القرآن ثالث، لأن ما فى هذه السورة وقع بعد القول، فحكى (المقول)، و فى القتال وقع بعد العلم، فزيد قبله أَنَّهُ، ليصير مفعول العلم، ثم يتصل به ما بعده.

__________________________________________________

(1) مكنون: مصون.

(2) الضمير هو إِنَّا فى قوله تعالى: فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ [32] و لو لا الفصل لاتصل الكلام و لم يكرر إِنَّا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 214

429- قوله: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ «78- 79»، و بعده: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ «109»، ثم: سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ «120»، و كذلك: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «130» فيمن جعله لغة فى إلياس. و لم يقل فى قصة لوط و لا يونس و لا إلياس: سَلامٌ، لأنه لما قال: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «133» و وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «139»، و كذلك:

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «123»، فقد قال سلام على كل واحد منهم، لقوله فى آخر السورة: وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ «181».

430- قوله: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ «1»، و فى قصة إبراهيم: كَذلِكَ «110» و لم يقل: إِنَّا لأنه تقدم فى قصته:

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ «105». و لا بقى من قصته شى ء، و فى سائرها بعد الفراغ، و

لم يقل فى قصتى لوط و يونس: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، لأنه لما اقتصر من التسليم على ما سبق ذكره اكتفى بذلك.

431- قوله: بِغُلامٍ حَلِيمٍ «101»، و فى الذاريات: عَلِيمٍ «27»، و كذلك فى الحجر «53» لأن التقدير: بغلام حليم فى صباه، عليم فى كبره.

و خصت هذه السورة بحليم لأنه (عليه السلام «2») حليم، فاتقاه و أطاعه و قال: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «102» و الأظهر أن الحليم إسماعيل، و العليم إسحاق، لقوله: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها «3» «51: 28». قال مجاهد:

__________________________________________________

(1) وردت هذه الآية مكررة بنصها رقم 80، 121، 131.

(2) ما بين الحاصرين غير ظاهر فى ب فقد أكلته الأرضة.

(3) فى صرة: جماعة، أو فى صياح. صكت وجهها: ضربت.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 215

العليم و الحليم فى السورتين إسماعيل، و قيل: هما فى السورتين إسحاق، و هذا عند من زعم أن الذبيح إسحاق، و ذكرت ذلك بشرحه فى موضعه.

432- قوله: وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ «175»، ثم قال:

وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ «179» كرر، و حذف الضمير من الثانى، لأنه لما نزل وَ أَبْصِرْهُمْ قالوا: متى هذا الوعد الذى توعدنا به؟

فأنزل اللّه: أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ «176»، كرّر تأكيدا. و قيل:

الأولى فى الدنيا، و الثانية فى العقبى، و التقدير: أبصر ما ينالهم، فسوف يبصرون ذلك «1».

و قيل: أبصر «2» حالهم بقلبك فسوف يبصرون معاينة، و قيل:

بعد ما ضيعوا من أمرنا فسوف يبصرون ما يحل بهم.

و حذف

الضمير من الثانى اكتفاء بالأول، و قيل: (الضمير «3» مضمر تقديره: ترى اليوم خيرهم إلى تول، و ترى بعد اليوم ما تحتقر ما شاهدتهم فيه من عذاب الدنيا.

و ذكر فى المتشابه: فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ «91» بالفاء، و فى الذاريات: قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ «27» بغير فاء، لأن ما فى هذه السورة اتصلت جملة بخمس جمل كلها مبدوءة بالفاء على التوالى و هى:

فَما ظَنُّكُمْ الآيات «87- 90» و الخطاب للأوثان تقريعا لمن زعم أنها تأكل و تشرب.

و فى الذاريات متصل بمضمر تقديره: فقربه إليهم فلم يأكلوا، فلما رآهم لا يأكلون. و الخطاب للملائكة، فجاء فى كل موضع بما يلائمه.

__________________________________________________

(1) انظر: (تفسير القرطبى 17/ 45).

(2) فى ب: (بصرهم حالهم)، و فى أ: (أبصرهم حالهم).

(3) سقط من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 216

سورة ص

سورة ص

433- قوله تعالى: وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ «4» بالواو، و فى «ق»: فَقالَ «2» بالفاء، لأن اتصاله بما قبله فى هذه السورة معنوى، و هو أنهم عجبوا من مجى ء المنذر و قالوا: هذا المنذر ساحر كذاب. و اتصاله فى «ق» معنوى و لفظى، و هو أنهم عجبوا فقالوا: هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ «2» فراعى المطابقة و العجز و الصدر، و ختم بما بدأ به، و هو النهاية فى البلاغة.

434- قوله: أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «8»، و فى القمر: أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا «25»، لأن ما فى هذه السورة حكاية عن كفار قريش يجيبون محمدا صلى اللّه عليه

و سلم حين قرأ عليهم: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فقالوا: أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «8»، و مثله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «18: 1»، و تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ «25: 1» و هو كثير.

و ما فى القمر حكاية عن قوم صالح، و كان يأتى الأنبياء يومئذ صحف مكتوبة، و ألواح مسطورة، كما جاء إبراهيم و موسى، فلهذا قالوا: أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ «25»، مع أن لفظ الإلقاء يستعمل لما يستعمل له الإنزال.

435- قوله: وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا «43»، و فى الأنبياء:

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا «84»، لأن اللّه سبحانه ميز أيوب بحسن صبره على بلائه بين أنبيائه، فحيث قال لهم: مِنْ عِنْدِنا. قال له:

مِنْ و حيث لم يقل لهم: من عندنا قال له: مِنْ عِنْدِنا.

فخصت هذه السورة بقوله: مِنَّا لما تقدم فى حقهم مِنْ

أسرار التكرار في القرآن، ص: 217

عِنْدِنا فى مواضع، و خصت سورة الأنبياء بقوله: مِنْ عِنْدِنا لتفرده بذلك.

436- قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ «12»، و فى «ق»: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ إلى قوله: فَحَقَّ وَعِيدِ «12- 14».

قال الخطيب: سورة «ص» بنيت فواصلها على ردف أواخرها.

بالباء و الواو، فقال فى هذه السورة: الْأَوْتادِ «12» و (الأحزاب) «13»، عِقابِ «14»، و جاء بإزاء ذلك فى «ق»: ثَمُودُ «12» و وَعِيدِ «14» «1»، و مثله فى الصافات: قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ «48»، و فى «ص»: قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ «52». فالقصد للتوفيق

بالألفاظ مع وضوح المعانى.

437- قوله فى قصة آدم عليه السلام: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ «71» قد سبق.

سورة الزّمر

سورة الزّمر

438- قوله عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، و فى هذه أيضا: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ. الفرق بين أنزلنا إليك الكتاب، و أنزلنا عليك، قد سبق فى البقرة، و نزيده وضوحا: أن كل موضع خاطب النبى صلى اللّه عليه و سلم بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ففيه تكليف، و إذا خاطبه بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ ففيه تخفيف.

و اعتبر بما فى هذه السورة، فالذى فى أول السورة إِلَيْكَ فكلفه الإخلاص فى العبادة و الذى فى آخرها عَلَيْكَ فختم الآية

__________________________________________________

(1) فى جميع الأصول هكذا. و يبدو أنها أسقطت (لوطا) «» فالسياق يقتضيه.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 218

بقوله: وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أى: لست بمسئول عنهم، فخفف عنه ذلك.

439- قوله: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ «11، 12». زاد مع الثانى لاما، لأن المفعول من الثانى محذوف تقديره: فأمرت أن أعبد اللّه لأن أكون، فاكتفى بالأول.

440- قوله: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي «14» بالإضافة. و الأول: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ «11»، لأن قوله: أَعْبُدَ إخبار صدر عن المتكلم، فاقتضى الإضافة إلى المتكلم، و قوله: أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ «11» ليس بإخبار عن المتكلم، و إنما الإخبار، و ما بعده فضله و مفعول.

441- قوله: وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ «35»، و فى النحل: وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما

كانُوا يَعْمَلُونَ «96». و كان حقه أن يذكر هناك.

خصت هذه السورة بالذى ليوافق ما قبله، و هو: أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا «35»، و قبله: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ «33» و خصت النحل بما، للموافقة أيضا، و هو قوله: إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ «1»، و خَيْرٌ لَكُمْ «95» و ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «96» فتلاءم اللفظان فى السورتين.

442- قوله: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا «48»، و فى الجاثية: ما عَمِلُوا «33». علة الآية الأولى: لأن ما كسبوا فى هذه السورة وقع بين ألفاظ الكسب و هو: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ «24» «2»، و فى الجاثية وقع بين ألفاظ العمل، و هو: ما كُنْتُمْ

__________________________________________________

(1) سقطت كلمة هُوَ من الآية فى الأصول.

(2) و بعده: فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [50] و يبدو أنها سقطت من الأصول كما يدل عليه سياق كلام المؤلف: «بين ألفاظ الكسب».

أسرار التكرار في القرآن، ص: 219

تَعْمَلُونَ «29» و وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ «30»، و بعده: سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا «33» فخصت كل سورة بما اقتضاه.

443- قوله: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً «1» «21»، و فى الحديد: ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً «20»، لأن الفعل قبل قوله: ثُمَّ يَهِيجُ فى هذه السورة مسند إلى اللّه تعالى، و هو قوله: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً «21» فكذلك الفعل بعد: ثُمَّ يَجْعَلُهُ «21».

و أما الفعل قبله فى الحديد فمسند إلى النبات و هو: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «20» فكذلك ما بعده و هو: ثُمَّ يَكُونُ «20» ليوافق فى السورتين

ما قبله و ما بعده.

444- قوله: فُتِحَتْ أَبْوابُها «71»، و بعده: وَ فُتِحَتْ «73» بالواو للحال، أى: جاءوها و قد فتحت أبوابها، و قيل: الواو فى وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها زائدة و هو الجواب، و قيل: الواو واو الثمانية، و قد سبق فى الكهف.

445- قوله: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ «41»، و فى آخرها:

فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن هذه السورة متأخرة عن تلك السورة، فاكتفى بذكره فيها.

سورة غافر

سورة غافر

446- قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا «2» فِي الْأَرْضِ «21» ما يتعلق بذكرها قد سبق.

447- قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ «22»، و فى التغابن: بِأَنَّهُ كانَتْ «6»، لأن هاء الكناية إنما زيدت لامتناع

__________________________________________________

(1) حطاما: باليا.

(2) فى الأصول: (أ فلم يسيروا). خطأ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 220

(أن) عن الدخول على كان، فخصت هذه السورة بكناية المتقدم ذكرهم، موافقة لقوله: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً «21» و خصت سورة التغابن بضمير الأمر و الشأن توصلا إلى كان.

448- قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ «25» فى هذه السورة فحسب، لأن الفعل لموسى، و فى سائر القرآن الفعل للحق.

449- قوله: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ «59» «1»، و فى طه:

آتِيَةٌ «15»، لأن اللام إنما تزاد لتأكيد الخبر، و تأكيد الخبر إنما يحتاج إليه إذا كان المخبر به شاكا فى الخبر، فالمخاطبون فى هذه السورة الكفار فأكد، و كذلك أكد: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «57» فى هذه السورة باللام.

450- قوله: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ «61»، و فى يونس: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ

«60» و قد سبق، لأنه وافق ما قبله فى هذه السورة: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «57»، و بعده: أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ «59»، ثم قال: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ «61».

451- قوله فى الآية الأولى: لا يَعْلَمُونَ «57» أى:

لا يعلمون أن خلق الأكبر أسهل من خلق الأصغر، ثم قال:

لا يُؤْمِنُونَ «59» بالبعث، ثم قال: لا يَشْكُرُونَ «61» أى:

لا يشكرون اللّه على فضله، فختم كل آية بما اقتضاه.

452- قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «62» سبق.

453- قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «65». مدح نفسه سبحانه، و ختم ثلاث آيات على التوالى بقوله: رَبُّ الْعالَمِينَ

__________________________________________________

(1) فى الأصول: (و أن الساعة لآية). خطأ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 221

«64، 65، 66» و ليس له فى القرآن نظير «1».

454- قوله: وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ «78»، و ختم بقوله: وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ «85»، لأن الأول متصل بقوله:

قُضِيَ بِالْحَقِّ «78»، و نقيض الحق الباطل، و الثانى متصل بإيمان غير مجد «2»، و نقيض الإيمان الكفر.

سورة فصّلت

سورة فصّلت

455- قوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ «10»، أى: مع اليومين الذين تقدما قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «9». لئلا يزيد العدد على ستة أيام، فيتطرق إليه كلام المعترض.

و إنما جمع بينهما و لم يذكر اليومين على الانفراد بعدهما لدقيقة لا يهتدى إليها كل أحد، و هى: أن قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.

صلة الذى، و وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عطف على قوله: لَتَكْفُرُونَ «9»، وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ «10» عطف على قوله: خَلَقَ

الْأَرْضَ «9»، و هذا تفريع فى الإعراب لا يجوز فى الكلام، و هو فى الشعر من أقبح الضرورات لا يجوز أن يقال: جاءنى الذى يكتب و جلس و يقرأ، لأنه لا يحال بين صلة الموصول و ما يعطف بأجنبى من الصلة.

فإذا امتنع هذا لم يكن بد من إضمار فعل يصح الكلام به و معه، فيضمر خلق الأرض بعد قوله: ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ «9» فيصير التقدير: ذلك رب العالمين خلق الأرض و جعل فيها رواسى من فوقها و بارك فيها، و قدر فيها أقواتها فى أربعة أيام، ليقع هذا كله فى أربعة أيام، و يسقط الاعتراض و السؤال. و هذه معجزة و برهان.

__________________________________________________

(1) و سبب التكرار و اللّه أعلم هو: تأكيد ربوبية اللّه للعالمين على أسماع الكفار جميعا، لا سيما أهل التثليث ثلاث مرات.

(2) و هو قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [85].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 222

456- قوله: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ «1» «20»، و فى الزخرف و غيره: حَتَّى إِذا جاءَنا «38» و حَتَّى إِذا جاؤُها «39: 73» بغير (ما)، لأن حتى هاهنا هى التى تجرى مجرى واو العطف، نحو قولك: أكلت السمكة حتى رأسها. أى و رأسها. و تقدير الآية: فهم يوزعون إذا جاءوها. و (ما) هى التى تزاد مع الشروط نحو: أينما، و حيثما، و (حتى) فى غيرها من السور للغاية.

457- قوله: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ «2» مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «36»، و مثله فى

الأعراف، لكنه ختم بقوله:

إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «200»، لأن الآية فى هذه السورة متصلة بقوله:

وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «35» فكان مؤكدا بالتكرار و بالنفى و الإثبات، فبالغ فى قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «36» بزيادة هُوَ و بالألف و اللام، و لم يكن فى الأعراف هذا النوع من الاتصال، فأتى على القياس: المخبر عنه معرفة، و الخبر نكرة.

458- قوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «45»، و فى «حم عسق» بزيادة قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و زاد فيها أيضا: بَغْياً بَيْنَهُمْ، لأن المعنى: تفرق قول اليهود فى التوراة، و تفرق قول الكافرين فى القرآن، و لو لا كلمة سبقت من ربك بتأخر العذاب إلى يوم الجزاء، لقضى بينهم بإنزال العذاب عليهم.

و خصت حم عسق بزيادة قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، لأنه ذكر البداية فى أول الآية، و هو: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ «14» و هو مبدأ كفرهم، فحسن ذكر النهاية التى أمهلوها إليها، ليكون محدودا من الطرفين.

__________________________________________________

(1) الآية بين الحاصرين سقطت من ب.

(2) ينزغنك: يوسوس لك.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 223

459- قوله: وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ «49» «1»، و بعده: وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «51» لا منافاة بينهما، لأن معناه: قنوط من الضيم، دعاء للّه، و قيل: يئوس قنوط بالقلب دعاء باللسان، و قيل: الأول فى قوم، و الثانى فى آخرين. و قيل: الدعاء مذكور فى الآيتين، و

دعاء عريض فى الثانى.

460- قوله: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ «50» بزيادة مِنَّا و مِنْ، و فى هود: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ «10»، لأن ما فى هذه السورة بين جهة الرحمة، و بالكلام حاجة إلى ذكرها، و حذف فى هود اكتفاء بما قبله، و هو قوله: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً «9» و زاد فى هذه السورة مِنْ لأنه لما حد الرحمة و الجهة الواقعة منها، حد الطرف الذى بعدها، ليتشاكلا فى التحديد.

و فى هود لما أهمل الأول أهمل الثانى.

461- قوله: أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ «52»، و فى الأحقاف: وَ كَفَرْتُمْ بِهِ «10» بالواو، لأن معناه فى هذه السورة: كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر و التدبر: الكفر، فحسن دخول ثُمَّ، و فى الأحقاف عطف عليه وَ شَهِدَ شاهِدٌ فلم يكن عاقبة أمرهم، فكان من مواضع الواو.

سورة الشّورى

سورة الشّورى

462- قوله: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «43»، و فى لقمان: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «17»، لأن الصبر على وجهين: صبر على مكروه ينال الإنسان ظلما، كمن قتل بعض أعزته، و صبر على

__________________________________________________

(1) قنوط: شديد اليأس.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 224

مكروه ينال الإنسان ليس بظلم. كمن مات بعض أعزته. فالصبر على الأول أشد، و العزم عليه أوكد و كان ما فى هذه السورة من الجنس الأول، لقوله: وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ «43» فأكد الخبر باللام.

و فى لقمان من الجنس الثانى فلم يؤكده.

463- قوله: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ

فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ «44»، و بعده: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ «46»، ليس بتكرار، لأن المعنى: ليس له من هاد و لا ملجأ.

464- قوله: إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ «51» ليس له نظير. و المعنى:

تعالى أن يكلم أو يتناهى، حكيم فى تقسيم وجوه التكليم.

465- قوله: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «17»، و فى الأحزاب:

تَكُونُ قَرِيباً «63». زيد معه تَكُونُ مراعاة للفواصل و قد سبق.

466- قوله تبارك و تعالى: جَعَلَ لَكُمْ «11» قد سبق.

سورة الزّخرف

سورة الزّخرف

467- قوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «20»، و فى الجاثية: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «24»، لأن ما فى هذه السورة متصل بقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «19». و المعنى: أنهم قالوا: الملائكة بنات اللّه، و إن اللّه قد شاء منا عبادتنا إياهم. و هذا جهل منهم و كذب، فقال سبحانه:

ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «20» أى: يكذبون.

و فى الجاثية خلطوا الصدق بالكذب. فإن قولهم: نَمُوتُ وَ نَحْيا «24» صدق، فإن المعنى: يموت السلف و يحيى الخلف، و هى كذلك إلى أن تقوم الساعة. و كذبوا فى إنكارهم البعث و قولهم:

ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «24»، و لهذا قال: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «24» أى: هم شاكون فيما يقولون.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 225

468- قوله: وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ «22»، و بعده:

مُقْتَدُونَ «23». خص الأول بالاهتداء، لأنه كلام العرب فى محاجتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و ادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين،

فنحن مهتدون، و لهذا قال عقبه: قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى «24» و الثانية حكاية عمن كان قبلهم من الكفار، و ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء، فاقتضت كل آية ما ختمت به «1».

469- قوله: وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ «14»، و فى الشعراء:

إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «50»، لأن ما فى هذه السورة عام لمن ركب سفينة أو دابة، و قيل: معناه: إلى ربنا لمنقلبون على مركب آخر و هو الجنازة، فحسن إدخال اللام على الخبر للعموم، و ما فى الشعراء كلام السحرة حين آمنوا و لم يكن فيه عموم.

470- قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ «64» سبق «2».

سورة الدّخان

سورة الدّخان

471- قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى «35».

مرفوع، و فى الصافات منصوب، ذكر فى المتشابه و ليس منه، لأن ما فى هذه السورة مبتدأ و خبر، و ما فى الصافات استثناء «3».

472- قوله: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ «32» أى على علم منا. و لم يقل فى الجاثية، و فضلناهم على علم، بل قال:

__________________________________________________

(1) و من دلائل و براهين إعجاز القرآن من وجهة الدقة البالغة فى رعاية المعانى: أن من طبائع المترفين: التقليد الأعمى، و الخضوع لتقاليد المجتمعات، و الآية الثانية تترجم عن هذا المعنى:

وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [23].

(2) سبق فى سورة مريم.

(3) ما فى الصافات هو قوله تعالى: فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [58، 59].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 226

وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ «16»، لأنه مكرر فى: وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ «23».

سورة الجاثية

سورة الجاثية

«1» 473- قوله: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ «12». أى: البحر و قد سبق.

474- قوله: وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ «17» نزلت فى اليهود و قد سبق.

475- قوله: نَمُوتُ وَ نَحْيا «24». قيل: فيه تقديم نَمُوتُ و تأخير نَحْيا. قيل: يحيا البعض و يموت البعض، و قيل: هو كلام من يقول بالتناسخ.

476- قوله: وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «22» «2» بالياء موافقة لقوله: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «14».

477- قوله: سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا «33». لتقدم: كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «29»، وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ «30».

478- قوله: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ «30» تعظيما لإدخال اللّه المؤمنين فى رحمته.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف

479- ما فى هذه السورة من المتشابه قد سبق، و ذكر فى المتشابه أُولئِكَ «14» و أُولئِكَ «61» (أى) «3» لم يجتمع فى القرآن همزتان مضمومتان فى غيرها.

__________________________________________________

(1) سقط عنوان السورة من أ.

(2) الذى فى سورة الجاثية: وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [22].

(3) سقطت من ب.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 227

سورة محمّد

سورة محمّد

480- قوله: لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «20»، نزل و أنزل كلاهما متعد، و قيل: نزل للتعدى و المبالغة، و أنزل للتعدى، و قيل: نزل دفعه مجموعا، و أنزل متفرقا.

و خص الأولى بنزلت لأنه من كلام المؤمنين، و ذكر بلفظ المبالغة، و كانوا يأنسون لنزول الوحى «1»، و يستوحشون لإبطائه، و الثانى: من كلام اللّه، و لأن فى أول السورة: نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ «2»، و بعده: أَنْزَلَ اللَّهُ «9»، كذلك فى هذه الآية قال: نُزِّلَتْ ثم أُنْزِلَتْ.

481- قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ «25» نزلت فى اليهود، و بعده: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً «32» نزلت فى قوم ارتدوا، و ليس بتكرار.

سورة الفتح

سورة الفتح

482- قوله عزّ و جلّ: وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً «4»، و بعده: عَزِيزاً حَكِيماً «7، 19»، لأن الأول متصل بإنزال السكينة، و ازدياد إيمان المؤمنين، فكان الموضع موضع علم و حكمة. و قد تقدم ما اقتضاه الفتح عند قوله: وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً.

و أما الثانى و الثالث الذى بعده فمتصلان بالعذاب و الغضب و سلب الأموال و الغنائم، فكان الموضع موضع عز و غلبة و حكمة.

483- قوله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ

__________________________________________________

(1) فى أ: بنزول الوحى.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 228

ضَرًّا «11»، و فى المائدة: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ «17» زاد فى هذه السورة لَكُمْ،

لأن ما فى هذه السورة نزلت فى قوم بأعيانهم، و هم المخلفون «1»، و ما فى المائدة عام لقوله: أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.

484- قوله: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ «15» بلفظ الجمع، و ليس له نظير، و هو خطاب للمضمرين فى قوله: لَنْ تَتَّبِعُونا «15».

سورة الحجرات

سورة الحجرات

485- قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا «1» مذكورة فى السورة خمس «2» مرات، و المخاطبون المؤمنون، و المخاطب به أمر و نهى، و ذكر فى السادس: يا أَيُّهَا النَّاسُ «13» فعم المؤمنين و الكافرين، و المخاطب به قوله: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى «13»، لأن الناس كلهم فى ذلك شرع سواء.

سورة ق

سورة ق

486- قوله: فَقالَ الْكافِرُونَ «2» بالفاء. سبق.

487- قوله: وَ قالَ قَرِينُهُ «23»، و بعده: قالَ قَرِينُهُ «27»، لأن الأول خطاب الإنسان من قرينه، و متصل بكلامه. و الثانى استئناف خطاب اللّه سبحانه به من غير اتصال بالمخاطب الأول، و هو قوله: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ «27»، و كذلك الخطاب بغير واو «3»، و هو

__________________________________________________

(1) كما فى صدر الآية: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا.

(2) الأولى مذكورة، و الثانية رقم 2: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، و الثالثة رقم 6: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا، و الرابعة رقم 11: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ، و الخامسة رقم 12: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... الآية.

(3) فى أ: بفراق، و فى ب: بغير أو، و السياق يقتضى ما أثبتناه.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 229

قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ «28»، و كذلك: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ «29»، فجاء الأول على نسق واحد.

488- قوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ «39»، و فى طه: وَ قَبْلَ غُرُوبِها «130»، لأن فى هذه السورة

راعى الفواصل، و فى طه راعى القياس، لأن الغروب للشمس كما أن الطلوع لها.

سورة الذّاريات

سورة الذّاريات

489- قوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ. آخِذِينَ «15، 16»، و فى الطور: فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ. فاكِهِينَ «17، 18».

ليس بتكرار، لأن ما فى هذه السورة متصل بذكر ما به يصل الإنسان إليها، و هو قوله: كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ «16»، و فى الطور متصل بما ينال الإنسان فيها إذا وصل إليها، و هو قوله: وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَ اشْرَبُوا الآيات «18، 19، 20».

490- قوله: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ «50»، و بعده:

إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ «51»، ليس بتكرار، لأن كل واحد منهما متعلق بغير ما تعلق به الآخر، فالأول: متعلق بترك الطاعة إلى المعصية، و الثانى: متعلق بالشرك باللّه تعالى.

سورة الطّور

سورة الطّور

491- قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ «30». أعاد أَمْ خمس عشرة مرة «1»، و كلها إلزامات ليس للمخاطبين بها جواب.

492- قوله: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ «24» بالواو عطف على قوله:

__________________________________________________

(1) فى الأصول خمسة عشرة مرة (و هو خطأ لغوى) و هى محصورة بين الآية رقم 30 إلى رقم 43. و كرر أَمْ لأن لإلزامهم بها إضراب عما سبقها حتى لم يبق أمل فى جوابهم عنها. و لو استعمل غيرها مما لا يفيد الإضراب لاحتمل جواز إجابتهم.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 230

وَ أَمْدَدْناهُمْ «22»، و كذلك: وَ أَقْبَلَ «25» بالواو، و فى الواقعة يَطُوفُ «17» بغير واو. فيحتمل أن يكون حالا، أو يكون خبرا، و فى الإنسان: وَ يَطُوفُ «19» عطف على: وَ يُطافُ «15».

493- قوله: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ «48» بالواو، سبق.

سورة النجم

سورة النجم

494- قوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ «23»، و بعده:

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ «28». ليس بتكرار، لأن الأول: متصل بعبادتهم اللات و العزى و مناة، و الثانى: بعبادتهم الملائكة، ثم ذم الظن فقال: وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «28».

495- قوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ «23» فى جميع القرآن بالألف إلّا فى الأعراف، و قد سبق.

سورة القمر

سورة القمر

496- قصة نوح و عاد و ثمود و لوط فى كل واحدة منها من التخويف و التحذير مما حل بهم، فيتعظ بها حامل القرآن و تاليه، و يعظ غيره.

497- و أعاد فى قصة عاد: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ «18، 21»، لأن الأولى فى الدنيا و الثانية فى العقبى، كما قال فى هذه القصة: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ، و قيل: الأول: لتحذيرهم قبل إهلاكهم، و الثانى:

لتحذير غيرهم بهم بعد هلاكهم.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 231

سورة الرّحمن

سورة الرّحمن

498- قوله: وَ وَضَعَ الْمِيزانَ «7، 8، 9». أعاده ثلاث «1» مرات، فصرح و لم يضمر، ليكون كل واحد قائما بنفسه، غير محتاج إلى الأول، و قيل: لأن كل واحد غير الآخر. الأول: ميزان الدنيا، و الثانى: ميزان الآخرة، و الثالث: ميزان العقل، و قيل: نزلت متفرقة فاقتضى الإظهار.

499- قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. كرر الآية إحدى و ثلاثين مرة، ثمانية منها ذكرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق اللّه، و بدائع صنعه «2»، و مبدأ الخلق و معادهم. ثم سبعة منها عقيب آيات فيها ذكر النار و شدائدها على عدد أبواب جهنم «3». و حسن ذكر الآلاء عقيبها، لأن فى صرفها «4» و دفعها نعما توازى النعم المذكورة، أو لأنها حلت بالأعداء و ذلك يعد أكبر النعماء.

و بعد هذه السبعة ثمانية «5» فى وصف الجنان و أهلها على عدد أبواب الجنة. ثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى و عمل بموجبها استحق كلتا

الثمانيتين من اللّه، و وقاه السبعة السابقة، و اللّه تعالى أعلم.

سورة الواقعة

سورة الواقعة

500- قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ «8».

أعاد ذكرها، و كذلك: الْمَشْئَمَةِ «9»، ثم قال: وَ السَّابِقُونَ «10»، لأن التقدير عند بعضهم و السابقون ما السابقون. فحذف

__________________________________________________

(1) أعاد (الميزان) فقط.

(2) و هى الآيات من 16 إلى 34.

(3) و السبعة الثانية من 34 إلى 45.

(4) على هامش أ: حذفها. من نسخة ثانية.

(5) و الثمانية التى فى نعيم الجنان من 47 إلى 61، و التى للجنتين دون الأولين من 63 إلى 75.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 232

(ما) لدلالة ما قبله عليه، و قيل: تقديره: أزواجا ثلاثة. فأصحاب الميمنة، و أصحاب المشئمة، و السابقون، ثم ذكر عقيب كل واحد منهم تعظيما و تهويلا فقال: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ «8» و ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ «9» و السَّابِقُونَ «10» أى: هم السابقون و الكلام فيه.

501- قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ «58» و أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ «63» و أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ «68» و أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ «71» بدأ بذكر خلق الإنسان، ثم (ذكر) «1»، ما لا غنى له عنه و هو الحبّ الذى منه قوامه و قوته، ثم الماء الذى منه سوغه و عجنه، ثم النار التى منه نضجه و صلاحه، و ذكر عقيب كل ما يأتى عليه و يفسده.

فقال فى الأولى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «60»، و فى الثانية: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً «65»، و (فى) «2» الثالثة:

لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «70»

و لم يقل فى الرابعة ما يفسدها، بل قال: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً «73» يتعظون بها وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ «73» أى: المسافرين ينتفعون بها.

سورة الحديد

سورة الحديد

502- قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ «1»، و كذلك الحشر و الصف، ثم يُسَبِّحُ فى الجمعة «1» و التغابن «1» هذه الكلمة استأثر اللّه بها، فبدأ بالمصدر فى بنى إسرائيل (الإسراء)، لأنه الأصل، ثم بالماضى لأنه أسبق الزمانين، ثم بالمستقبل، ثم بالأمر فى سورة الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها «3»، و هى أربع:

المصدر، و الماضى، و المستقبل، و الأمر للمخاطب.

503- قوله: ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1»، و فى السور

__________________________________________________

(1) سقطت من أ.

(2) سقطت من ب.

(3) فى ب: أزمنتها.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 233

الخمس: ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «1» إعادة ما هو الأصل، و خصت هذه السورة بالحذف موافقة لما بعدها، و هو:

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «4» و بعدها: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «2، 5»، لأن التقدير فى هذه السورة: سبح للّه خلق السموات و الأرض، و كذلك قال فى آخر الحشر بعده قوله: الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أى خلقهما «1».

504- قوله: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «2»، و بعده:

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «5» ليس بتكرار، لأن الأولى (فى الدنيا «2») يحيى و يميت، و الثانى فى العقبى، لقوله: وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «5».

505- قوله ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «12» بزيادة هُوَ لأن بُشْراكُمُ مبتدأ، و جنات

خبره تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا صفة لها خالِدِينَ فِيها حال ذلِكَ إشارة إلى ما قبله و هُوَ تنبيه على عظم شأن المذكور الْفَوْزُ الْعَظِيمُ خبره.

506- قوله: لَقَدْ «3» أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ «25» ابتداء كلام وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً «26» عطف عليه.

507- قوله: ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً «20» سبق.

508- قوله: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ «22»، و فى التغابن: مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «11»، فصل فى هذه السورة و أجمل هناك موافقة لما قبلها فى هذه السورة، فإنه فصّل أحوال الدنيا و الآخرة فيها بقوله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ

__________________________________________________

(1) فى الأصول: خالقها. و السياق يقتضى ما أثبتناه.

(2) ما بين الحاصرين أكلته الأرضة فى ب.

(3) فى الأصول: وَ لَقَدْ و ليس فيها واو.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 234

وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ «20» «1».

سورة المجادلة

سورة المجادلة

509- قوله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ «2»، و بعده: وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «3»، لأن الأول خطاب للعرب، و كان طلاقهم فى الجاهلية الظّهار، فقيّده بقوله: مِنْكُمْ، و بقوله: وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً «2»، ثم بين أحكام الظهار للناس عامة، فعطف عليه فقال: وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فجاء فى كل آية ما اقتضاه معناه.

510- قوله: وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ «4»، و بعده:

وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ «5»، لأن الأول: متصل بعده و هو الإيمان، فتوعد على الكفر بالعذاب الأليم الذى هو جزاء الكافرين، و

الثانى: متصل بقوله: كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «5» و هو الإذلال و الإهانة، فوصف العذاب بمثل ذلك فقال: مُهِينٌ.

511- قوله: جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ «8» بالفاء لما فيها من معنى التعقيب، أى فبئس المصير ما صاروا إليه و هو جهنم «2».

__________________________________________________

(1) و يجوز ألا يكون تكرارا، لاتصال الأولى بالدنيا و خلقها، فالمصيبة مصيبة الدنيا، و الثانية فى الآخرة بدليل قوله قبلها: يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [9] و وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [10]، فقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ يجيز أن يعفو اللّه عمن يشاء و يعذب من باب الجواز العقلى.

وجه الاختصار فى الآية الثانية على الوجه الأول: أن ما قبلها مختصرة.

(2) و فى الحديد: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [15]، لأن ما فى الحديد تعداد لما حل بهم من آلام ولاية النار لهم، و مصيرهم السيئ البئيس و لم يلاحظ تعقيبا، بل هو إخبار عن أن النار لا تفديهم، لأنها ولى لا يعتق من تحت ولايته و بئست الولاية.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 235

512- قوله: مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ «17» بغير فاء، موافقة للجمل التى قبلها، و موافقة لقوله: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ «22» «1».

سورة الحشر

سورة الحشر

513- قوله: وَ ما أَفاءَ اللَّهُ «6»، و بعدها: ما أَفاءَ «7» بغير واو، لأن الأول معطوف على قوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ «5»، و الثانى استئناف كلام، و ليس له به تعلق، و قول من قال: إنه بدل من الأول مزيف عند أكثر المفسرين «2».

514- قوله: ذلِكَ

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ «13»، و بعده:

قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ «14»، لأن الأول متصل بقوله: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ «13»، لأنهم يرون الظاهر، و لا يفقهون علم ما استتر عليهم، و الفقه: معرفة ظاهر الشي ء و غامضه بسرعة و فطنة، فنفى عنهم ذلك، و الثانى متصل بقوله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى «14» أى: لو عقلوا لاجتمعوا على الحق و لم يتفرقوا.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة

515- قوله تعالى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «1»، و بعده:

تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «1». الأول: حال من المخاطبين، و قيل:

أ تلقون إليهم؟ و الاستفهام مقدر، و قيل: خبر مبتدأ. أى: تلقون، و الثانى: بدل من الأول على الوجوه المذكورة، و الباء زيادة عند الأخفش، و قيل: بسبب أو تودوا، و قال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبى صلى اللّه عليه و سلم و سره بالمودة «3».

__________________________________________________

(1) و ما قبلها: عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ [15]، و بعدها كذلك: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ [19].

(2) نقل أبو حيان أن ما أَفاءَ الثانية بيان الأولى يبين لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما يصنع بهذا الفي ء، و عن ابن عطية: أهل القرى المذكورين فى الثانية هم أهل الصفراء و ينبع و وادى القرى، و ما هنالك قرى عربية، و حكمها مخالف لبنى النضير، و لم يحبس النبى صلى اللّه عليه و سلم منها شيئا.

(البحر المحيط 8/ 245). و هذا دليل على تزييف من قال: إنه بدل أو بيان.

(3) و كرر، لأن الأول: فى مودة عدو اللّه جهرا، و الثانى: فى مودتهم سرا و نفاقا للمؤمنين.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 236

516- قوله: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «4»، و بعده:

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «6». أنث الفعل الأول مع الحائل، و ذكّر الثانى لكثرة الحائل، و إنما كرر لأن الأول فى القول، و الثانى فى الفعل، و قيل: الأول: فى إبراهيم عليه السلام، و الثانى:

فى محمد صلى اللّه عليه و سلم.

سورة الصّفّ

سورة الصّفّ

517- قوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ «7» بالألف و اللام. فى غيرها: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «1» بالنكرة، لأنها أكثر استعمالا فى المصدر فى المعرفة، و خصت هذه السورة بالمعرفة لأنه إشارة إلى ما تقدم من قول اليهود و النصارى.

518- قوله: لِيُطْفِؤُا «8» باللام، لأن المفعول محذوف، و قيل: اللام زيادة، و قيل: محمول على المصدر «2».

519- قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «12» جزم على جواب الأمر، فإن قوله: تُؤْمِنُونَ «11». محمول على الأمر، أى:

آمنوا، و ليس بعده: مِنْ و لا خالِدِينَ.

سورة الجمعة

سورة الجمعة

520- قوله: وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ «7»، و فى البقرة: وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ «2: 95» سبق.

سورة المنافقون

سورة المنافقون

521- قوله: وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ «7»، و بعده:

لا يَعْلَمُونَ «8»، لأن الأول متصل بقوله: وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «7»، و فى معرفتها غموض يحتاج إلى فطنة،

__________________________________________________

(1) الآية رقم 68 من سورة العنكبوت (المراجع: أحمد عبد التواب).

(2) و هو قوله تعالى فى الآية قبلها: قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [6].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 237

و المنافق لا فطنة له «1»، و الثانى متصل بقوله: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «8» معز لأوليائه و مذل لأعدائه.

سورة التغابن

سورة التغابن

522- قوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «1»، و بعده: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ «4» إنما كرر ما فى أول السورة لاختلاف تسبيح أهل الأرض (و تسبيح «2») أهل السماء فى الكثرة و القلة، و البعد و القرب من المعصية و الطاعة، و كذلك: ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ «4» فإنهما ضدان، و لم يكرر معها يَعْلَمُ «3» لأن الكل بالإضافة إلى علم اللّه سبحانه جنس واحد، لا يخفى عليه شى ء.

523- قوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً «9»، و مثله فى الطلاق سواء، لكنه زاد هنا: يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، لأن ما فى هذه السورة جاء بعد قوله: أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا «6» الآيات. فأخبر عن الكفار سيئات تحتاج إلى تكفير «4» إذا آمنوا باللّه، و

لم يتقدم الخبر عن الكفار بسيئات فى الطلاق فلم يحتج إلى ذكرها.

سورة الطّلاق

سورة الطّلاق

524- قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «2».

أمر بالتقوى فى أحكام الطلاق ثلاث مرات، و وعد فى كل مرة نوعا من الجزاء فقال أولا: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، يخرجه مما دخل فيه و هو

__________________________________________________

(1) فى ب: لا فقه له، من نسخة ثانية.

(2) سقطت من ب.

(3) فى الأصول: و لم يكرر مع يعلم. و ما أثبتناه أوضح.

(4) و الذنوب هى: إنكار الهداية من البشر أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا [6]، و إنكار البعث:

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [7].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 238

يكرهه، و يبيح له محبوبه من حيث لا يأمل. و قال فى الثانى: يسهل عليه الصعب من أمره «1» و يبيح له خيرا ممن طلقها. و الثالث: وعد عليه أفضل الجزاء، و هو ما يكون فى الآخرة من النعماء «2».

سورة التّحريم

سورة التّحريم

525- قوله: خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ «5»، ذكر الجميع بغير واو ثم ختم بالواو فقال: وَ أَبْكاراً «5»، لأنه استحال العطف على ثيبات، فعطفها على أول الكلام «3»، و يحسن الوقف على ثيبات لما استحال عطف أبكارا عليها. و قول من قال: إنها واو الثمانية بعيد، و قد سبق.

526- قوله: فَنَفَخْنا فِيهِ «12» سبق.

سورة الملك

سورة الملك

527- قوله: فَارْجِعِ الْبَصَرَ «3»، و بعده: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «4» أى: مع الكرة الأولى، و قيل: هى ثلاث مرات.

أى: ارجع البصر و هذه مرة، ثم ارجع البصر كرتين، فمجموعها ثلاث مرات.

قلت: يحتمل أن يكون أربع مرات، لأن قوله: ارْجِعِ يدل على سابقه مرة «4».

__________________________________________________

(1) و هو قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً.

(2) و هو قوله تعالى: وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً.

(3) الواو التى قبل و أبكارا لا بدّ منها، لأن المعنى: بعضهن ثيبات و بعضهن أبكارا.

و يستحيل العطف لأنه لا يمكن أن يكن ثيبات و أبكارا معا.

(إملاء ما من به الرحمن «2/ 141»).

(4) عنى المؤلف بعدد الكرات و لم يذكر سبب التكرار. و أقول: إن رجع البصر فى الكرة الأولى تحد من اللّه للعالم أن يكتشف الإنسان خللا فى إحكام خلق السموات، فقد قال

أسرار التكرار في القرآن، ص: 239

528- قوله: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ «16»، و بعده: أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً «17». خوّفهم بالخسف أولا لكونهم على الأرض، و بعده: أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً «1» من السماء فلذلك

جاء ثانية.

سورة القلم

سورة القلم

529- قوله تعالى: حَلَّافٍ مَهِينٍ إلى قوله: زَنِيمٍ «10، 13» «2» أوصاف تسعة، و لم يدخل بينها واو العطف، و لا بعد السابع، فدل على ضعف القول بواو الثمانية.

530- قوله: فَأَقْبَلَ «30» بالفاء. سبق.

531- قوله: فَاصْبِرْ «48» بالفاء. سبق.

سورة الحاقّة

سورة الحاقّة

532- قوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ «19» بالفاء، و بعده: وَ أَمَّا «25» بالواو، لأن الأول متصل بأحوال القيامة

__________________________________________________

بعدها: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ «3» أى: شقوق. أما رجع البصر الثانى فهو كالأمر بالنظر فى ملكوت السموات، و هو متجه إلى تحدى الإنسان أن يحصى ما فيها من عجائب الخلق، أو يحيط بما فيها من كواكب و سيارات. فقد ذكر بعدها: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [5] كما أعجز الخلق أن يعلموا شيئا عن السموات الأخرى غير الدنيا مهما استعانوا بوسائل الكشف جيلا بعد جيل، و كرة بعد كرة، فمهما حاولوا فإن البصر سينقلب خاسئا و هو حسير. و العجز متحقق من الإنسان فى الكرتين، فى الأولى عجز عن إحصاء الكواكب و السيارات. و فى الثانية عجز عن معرفة حقيقة السماء الدنيا، و السموات الأخرى.

(1) الحاصب: القذف بالشهب و غيرها.

(2) الزنيم: الدعى من الزنمة و هى الهنة من جلد الماعز تقطع فتخلى معلقة فى حلقة. سمى بذلك لأنه زيادة معلقة بغير أهله. و كان الوليد دعيا فى قريش، ادعاه أبوه بعد ثمانى عشرة من مولده (البحر المحيط 8/ 310).

و لم يدخل الواو لأن الصفات المذكورة كلها كانت مجتمعة فى الوليد الذى نزلت فيه الآية، و لو ذكر الواو لاقتضى أن تكون موجودة فيه فى بعض الأحيان دون بعض.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 240

و أهوالها، فاقتضى الفاء للتعقيب، و الثانى متصل بالأول فأدخل الواو لأنه للجمع.

533- قوله: وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ. وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «41، 42». خص ذكر الشعر بقوله:

ما تُؤْمِنُونَ لأن من قال: القرآن شعر، و محمد شاعر، بعد ما علم اختلاف آيات القرآن فى الطول و القصر، و اختلاف حروف مقاطعه، فلكفره و قلة إيمانه. فإن الشعر: كلام موزون مقفى.

و خص ذكر الكهانة بقوله: ما تَذَكَّرُونَ لأن من ذهب إلى أن القرآن كهانة، و أن محمدا كاهن، فهو ذاهل عن كلام الكهان، فإنه أسجاع لا معانى تحتها، و أوضاع تنبو الطباع عنها، و لا يكون فى كلامهم ذكر اللّه تعالى.

سورة المعارج

سورة المعارج

534- قوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ «22». و عقيبه ذكر الخصال المذكورة أول سورة المؤمنون «1». و زاد فيها: وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ «33»، لأنه وقع عقيب قوله: لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ «32»، و إقامة الشهادة أمانة يؤديها إذا احتاج إليها صاحبها لإحياء حق، فهى إذن من جملة الأمانة.

و قد ذكرت الأمانة فى سورة المؤمنون «2»، و خصت هذه السورة بزيادة بيانها، كما خصت بإعادة ذكر الصلاة حيث قال: وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ «34»، بعد قوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ.

__________________________________________________

(1) أى بداية من قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ... إلى قوله تعالى: ... أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ.

(2) فى قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 241

الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ «23» «1».

سورة نوح

سورة نوح

535- قوله: قالَ نُوحٌ «21» بغير واو، ثم قال: وَ قالَ نُوحٌ «26» بزيادة الواو، لأن الأول ابتداء دعاء، و الثانى عطف عليه.

536- قوله: وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا «24»، و بعده:

إِلَّا تَباراً «28» «2»، لأن الأول وقع بعد قوله: وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً «24»، و الثانى بعد قوله: لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «26» فذكر فى كل مكان ما اقتضاه معناه.

سورة الجنّ

سورة الجنّ

537- قوله: وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا «3». كرر (أن) مرات، و اختلف القراء فى اثنتى عشرة منها، و هى من قوله: وَ أَنَّهُ تَعالى ... «3» إلى قوله: وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ «14»، ففتحها

__________________________________________________

(1) لم يذكر المؤلف علة التكرار فى الصلاة، و لا الفرق بين دائِمُونَ و يُحافِظُونَ و ذلك أن ما فى سورة المؤمنون بدأ بذكر الخشوع فى الصلاة إذ لا جدوى بدون الخشوع. ثم ذكر صفات تعين على الخشوع و إقام الصلاة هى:

1- الإعراض عن اللغو. 2- و أداء الزكاة.

3- و العفة. 4- و حفظ الأمانة و العهد.

5- و من حفظ تلك الخلال حافظ على الصلاة فى وقتها. فقال تعالى: وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ.

و فى سورة المعارج ذكر العلة التى تزلزل الإيمان و هى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [19- 21]. و ذكر أنه لا ينجو من تلك العلة إلا من تمكنت الصلاة و الخشوع من قلبه، و دوام عليها حتى دام له معنى الصلاة فيها و فى غيرها من الأوقات، ذكرا لربه وصلة دائمة به. ثم ذكر سائر الصفات السابقة فى المؤمنون، و ختمها بقوله: وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ بالإفراد لتعم

وقت الصلاة و غيره. أى:

يحافظون على معنى الصلاة فى قلوبهم، فيها و فى غيرها من الأوقات و هو: (المراقبة للّه فى كل وقت) و اللّه أعلم.

(2) تبارا: هلاكا و دمارا.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 242

بعضهم عطفا على أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ «1»، و كسرها بعضهم على قوله: إِنَّا سَمِعْنا «1»، و بعضهم فتح أنه عطفا على أَنَّهُ و كسر إنا عطفا على إِنَّا و هو شاذ «1».

سورة المزّمّل

سورة المزّمّل

538- قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ «20»، و بعده:

فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ «20»، لأن الأول فى الفرض، و قيل: فى النافلة، و قيل: خارج الصلاة، ثم ذكر سبب التخفيف فقال: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى «20»، ثم أعاد فقال: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ «20»، و الأكثرون على أنه فى صلاة المغرب و العشاء.

سورة المدّثر

سورة المدّثر

539- قوله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ «18- 20»، أعاد كَيْفَ قَدَّرَ مرتين، و أعاد قَدَّرَ ثلاث مرات، لأن التقدير: إنه أى الوليد فكر فى بيان محمد صلى اللّه عليه و سلم و ما أتى به، و قدر ما يمكنه أن يقول فيهما، فقال اللّه سبحانه: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ.

أى: القول فى محمد و ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، أى: القول فى القرآن.

540- قوله: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ «54». أى: تذكير، و عدل إليها للفاصلة، و قوله: إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «54، 55»، و فى عبس: إِنَّها تَذْكِرَةٌ «11»، لأن تقدير الآية فى هذه السورة:

إن القرآن تذكرة، و فى عبس: إن آيات القرآن تذكرة «2»، و قيل:

حمل التذكرة على التذكير، لأنها بمعناه.

__________________________________________________

(1) انظر: (البحر المحيط 8/ 347) و لم يذكر هذه القراءة، و إنما ذكر قراءة الفتح و الكسر فحسب.

(2) و يحتمل أن تكون التذكرة الثانية متوجهة إلى قصة الأعمى، و الآيات التى نزلت فيها، توجيها للمؤمنين و إلى وسائل تربية المسلمين. أما الأولى فللقرآن كله، لأن المقام مقام الكلام عن الإيمان و الكفر، لا طرائق تربية المسلمين.

أسرار التكرار

في القرآن، ص: 243

سورة القيمة

سورة القيمة

541- قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «1»، ثم أعاد فقال:

وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ «2». فيه ثلاث أقوال «1»: أحدها:

أنه سبحانه أقسم بهما، و الثانى: لم يقسم بهما، و الثالث: أقسم بيوم القيامة و لم يقسم بالنفس اللوامة، و قد سبق بيانه فى التفسير «2».

542- قوله: وَ خَسَفَ الْقَمَرُ «8». و كرر فى الآية الثانية:

وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ «9»، لأن الأول عبارة عن بياض العين «3»، بدليل قوله: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ «4» «7»، و فيه قول ثان، و هو قول الجمهور: إنهما بمعنى واحد، و جاز تكراره لأنه أخبر عنه بغير الخبر الأول.

و قيل: الثانى واقع موقع الكناية كقوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ «58: 1» فصرح تعظيما و تفخيما و تيمنا.

قلت: و يحتمل أن يقال: أراد بالأول الشمس قياسا على القمرين، و لهذا ذكر فقال: وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ. أى: جمع القمران، فإن التثنية أخت العطف، و هى دقيقة.

543- قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «34، 35» كررها مرتين، بل كررها أربع مرات، فإن قوله: أَوْلى تام فى الذم، بدليل قوله:

فَأَوْلى لَهُمْ «47: 20». فإن جمهور المفسرين: ذهبوا إلى أنه للتهديد، و إنما كررها، لأن المعنى: أولى لك الموت، فأولى لك العذاب

__________________________________________________

(1) فى الأصول: ثلاث أقوال.

(2) درج المؤلف على الإحالة على تفسيره، و لا يوجد كاملا فيما نعلمه من مخطوطات إلى الآن.

(3) لم نجد هذا المعنى فيما لدينا من كتب التفسير.

(4) برق البصر: فزع و دهش.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 244

فى القبر، ثم أولى لك أهوال القيامة، و أولى لك عذاب النار. نعوذ باللّه منها.

سورة الإنسان

سورة الإنسان

544- قوله: وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ «15»، و بعده: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ* «19»، إنما ذكر الأول بلفظ المجهول، لأن المقصود ما يطاف به لا الطائفون، و لهذا قال: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ «15»، ثم ذكر الطائفين فقال: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ «19».

545- قوله: مِزاجُها كافُوراً «5»، و بعدها: زَنْجَبِيلًا «17» و سَلْسَبِيلًا «18»، لأن الثانية غير الأولى، و قيل: كافورا اسم علم لذلك الماء، و اسم الثانى: زنجبيل، و قيل: سلسبيلا «1»، قال ابن المبارك: سل من اللّه إليه سلسبيلا «2».

و يجوز أن يكون اسمها زنجبيلا، ثم ابتدأ فقال: سل سبيلا.

و يجوز أن يكون اسمها هذه الجملة كقولهم: «تأبط شرّا» و «برق نحره»، و يجوز أن يكون معنى (تسمى): تذكر، ثم قال اللّه: سل سبيلا، و اتصاله فى المصحف لا يمنع هذا التأويل لكثرة أمثاله فيه.

سورة المرسلات

سورة المرسلات

546- قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ مكرر عشرات مرات «3»، لأن كل واحد منها ذكرت عقيب آية غير الأولى، فلا يكون تكرارا مستهجنا، و لو لم يكرر كان متوعدا على بعض دون بعض.

__________________________________________________

(1) قال ابن الأعرابى و الزجاج: «لم أسمع السلسبيل إلا فى القرآن، و هو ما كان من الشراب غاية فى السلاسة». (البحر المحيط 8/ 392).

(2) لم يورد السيوطى فى الدر، و لا أبو حيان فى البحر، و لا الزمخشرى فى الكشاف هذا المعنى.

(3) هى فى الآيات: [15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 245

و قيل: إن من عادة العرب التكرار و الإطناب،

كما فى عادتهم الاقتصار و الإيجاز، و لأن بسط الكلام فى الترغيب و الترهيب أدعى إلّا إدراك البغية من الإيجاز.

سورة النّبإ

سورة النّبإ

547- قوله: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ «4، 5».

قيل: التكرار للتأكد، و قيل: الأول للكفار، و الثانى للمؤمنين، و قيل:

الأول عند النزع، و الثانى فى القيامة، و قيل: الأول ردع عن الاختلاف، و الثانى عن الكفر «1».

548- قوله: جَزاءً وِفاقاً «26»، و بعده: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً «36»، لأن الأول للكفار، و قد قال اللّه تعالى:

وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها. فيكون جزاؤهم على وفق أعمالهم، و الثانى للمؤمنين و جزائهم جزاء وافيا كافيا، فلهذا قال: حِساباً «36» أى: كافيا، و من قولك: حسبى و كفانى.

سورة النّازعات

سورة النّازعات

549- قوله: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى «34»، و فى غيرها: الصَّاخَّةُ «80: 33»، لأن الطامة مشتقة من: طممت البئر، إذا كسبتها، و سميت القيامة طامة، لأنها تكبس كل شى ء و تكسره، و سميت الصاخة، و الصاخة من الصخ: الصوت الشديد، لأنه بشدة صوتها يجثو لها الناس، كما يتنبه النائم بالصوت الشديد.

__________________________________________________

(1) و يجوز أن تكون الأولى لما ينالهم من هزيمة على أيدى المؤمنين، و الثانية لما ينالهم من عذاب الآخرة. و يؤيد هذا أن السورة مكية، و قرب ما ينالونه من هزيمة ملحوظ، و كذلك استعمال ثم الدالة على التراخى و توالى الهزائم. و لم تستعمل سوف للدلالة على أنه قريب بالنسبة له تعالى.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 246

و خصت النازعات بالطامة، لأن الطم قبل الصخ، و الفزع قبل الصوت فكانت هى السابقة، و خصت عبس بالصاخة لأنها بعدها و هى اللاحقة «1».

سورة التّكوير

سورة التّكوير

550- قوله: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «6»، و فى الانفطار:

وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ «3»، لأن معنى سجرت عند أكثر المفسرين:

أوقدت فصارت نارا، من قولهم: سجرت التنور، و قيل: هى بحار جهنم تملأ حميما فيعاقب بها أهل النار، فخصت هذه السورة بسجرت موافقة لقوله: سُعِّرَتْ «12» ليقع الوعيد بتسعير النار و تسجير البحار.

و فى الانفطار وافق قوله: وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ «2»، أى: تساقطت وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ «3»، أى: سالت مياهها «2» ففاضت على وجه الأرض و وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ «4»، قلبت و أثيرت، و هذه الأشياء كلها زايلت أماكنها، فلاقت كل واحدة

قرائنها «3».

551- قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ «14»، و فى الانفطار: ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ «5»، لأن ما فى السورة متصل بقوله: وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ «10» فقرأها أربابها، فعلموا «4» ما أحضرت، و فى الانفطار متصل بقوله: وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ «4»، و القبور كانت فى الدنيا، فيذكرون ما قدموا فى الدنيا و ما أخروا فى العقبى «5»، فكل خاتمة لائقة بمكانها، و هذه السورة من أولها شرط و جزاء، و قسم و جواب.

__________________________________________________

(1) لم يذكر المؤلف سورة عبس، و لعله اكتفى بما ذكره عنها فى آخر سورة النازعات.

(2) فى أ: مائها.

(3) فى ب: قراءتها. تحريف.

(4) فى ب: فعلمت.

(5) فى ب: فتتذكر ما قدمت فى الدنيا و ما أخرت فى العقبى.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 247

سورة الانفطار

سورة الانفطار

552- سبق ما فيها، و قوله: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ «17، 18» تكرار أفاد التعظيم ليوم الدين، و قيل: أحدهما: للمؤمن، و الثانى: للكافر.

سورة المطفّفين

سورة المطفّفين

553- قوله: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ «7- 9»، و بعده: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ «18- 20» التقدير فيهما: إن كتاب الفجار لكتاب مرقوم فى سجين، و إن كتاب الأبرار لكتاب مرقوم فى عليين، ثم ختم الأول بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «10»، لأنه فى حق الفجار، و ختم الثانى بقوله:

يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ «21»، فختم كل واحد بما لا يصلح سواه مكانه.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق

554- قوله: وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ «2، 5»، لأن الأول:

متصل بالسماء، و الثانى: متصل بالأرض، و معنى أذنت، سمعت و انقادت و حق لها أن تسمع و تطيع، و إذا اتصل واحد بغير ما اتصل به الآخر لا يكون تكرارا.

555- قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ «22»، و فى البروج: فِي تَكْذِيبٍ «19» راعى فواصل الآى مع صحة اللفظ و جودة المعنى «1».

__________________________________________________

(1) لم يوضح المؤلف ما ستر وراء مراعاة الفواصل من جودة المعنى و ما بلغ الغاية من دقته.

و الذى لاحظته: أن الكلام فى سورة الانشقاق عن الأحياء من الكفار زمن النبى صلى اللّه عليه و سلم، فاستعمل القرآن الفعل المضارع دون اقترانه بما يحول معناه إلى الاستقبال دلالة على كفرهم

أسرار التكرار في القرآن، ص: 248

سورة البروج

سورة البروج

556- قوله: ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ «11». ذلك مبتدأ و الفوز خبره، و الكبير صفته، و ليس له فى القرآن نظير.

سورة الطّارق

سورة الطّارق

557- قوله: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «17». هذا تكرار و تقديره: مهل، مهل، مهل، لكنه عدل فى الثانى إلى أَمْهِلْهُمْ لأنه من أصله، و بمعناه، كراهة التكرار. و عدل فى الثالث إلى قوله: رُوَيْداً «17»، لأنه بمعناه، أى: إروادا، ثم إروادا. ثم صغر إروادا تصغير الترخيم فصار رويدا و ذهب بعضهم إلى أن رويدا صفة مصدر محذوف، أى: إمهالا رويدا فيكون التكرار مرتين، و هذه أعجوبة «1».

سورة الأعلى

سورة الأعلى

558- قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ «1- 2» و فى العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1»، زاد فى هذه السورة الْأَعْلَى مراعاة للفواصل «2»، و فى هذه السورة: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى «2»، و فى العلق: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ «2».

__________________________________________________

فى الحال دون أن يغلق عليهم باب الإيمان. فلو قال فى هذه السورة: فِي تَكْذِيبٍ لاحتجوا بالقدر. أما فى سورة البروج فالكلام فى الذاهبين من الكفار فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ. و قد ثبت كفرهم و ليس لهم مستقبل حياة، فاستعمل المصدر الشامل لكل الأوقات. أ لا ترى أنه قال فى هذه السورة: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ؟.

و ذلك من دلائل إعجاز القرآن.

(1) وجه العجب: تصرف القرآن الكريم فى الأسلوب بحيث يصلح بمقتضى التقدير موجزا و مسهبا فى تركيب واحد.

(2) ليس الوجه هو مراعاة الفواصل فحسب، بل إن ما فى سورة الأعلى اقترن اسم الرب بالتسبيح، و التسبيح تنزيه، و التنزيه علو، فاقتضى الْأَعْلَى فهو توجه محض إلى الأعلى، و لذلك أخر سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [6].

أسرار التكرار في القرآن، ص: 249

سورة الغاشية

سورة الغاشية

559- قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ «2»، و بعده: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ «8» ليس بتكرار، لأن الأول: هم الكفار، و الثانى: المؤمنون، و كان القياس أن يكون الثانى بالواو للعطف، لكنه جاء على وفاق الجمل قبلها و بعدها، و ليس معهن واو العطف البتة.

560- قوله: وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَ نَمارِقُ «1» «14، 15» كلها قد سبق، و قوله: وَ إِلَى السَّماءِ «18»، وَ إِلَى الْجِبالِ «19» ليس من الجمل، بل هى أتباع لما قبلها.

سورة الفجر

سورة الفجر

561- قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ «15»، و بعده: وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ «16»، لأن التقدير فى الثانى أيضا:

و أما الإنسان فاكتفى بذكره فى الأول. و الفاء لازم بعده، لأن المعنى مهما يكن من شى ء فالإنسان بهذه الصفة، لكن الفاء أخرت ليكون على لفظ الشرط و الجزاء «2».

سورة البلد

سورة البلد

562- قوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «1»، ثم قال: وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «2» كرره و جعله فاصلا فى الآيتين، و قد سبق القول فى مثل هذا. و مما ذكر فى هذه السورة على الخصوص أن التقدير:

__________________________________________________

و فى العلق اقترن اسم الرب بالقراءة، و هى رسالة كلف بها النبى صلى اللّه عليه و سلم لأهل الأرض. فهو تسبيح مع تكليف، فاقتضى حذف الْأَعْلَى لئلا يستغرقه شهود العلو، فلا يقوى على أداء الرسالة فى الأرض: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ.

(1) النمارق: جمع نمرقة و هى: البساط.

(2) و سر الشرط و الجزاء: بيان فهم الإنسان حكمة اللّه فيه، و أنه خاطئ فى نسبة الإهانة إلى اللّه، بل أهان الإنسان نفسه بعدم إكرام اليتيم و عدم الحض على طعام المسكين عند الفقد.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 250

لا أقسم بهذا البلد و هو حرام، و أنت حل بهذا البلد «1»، و هو حلال، لأنه أحلت له مكة حتى قتل فيها من شاء «2» و قاتل، فلما اختلف معناه صار كأنه غير الأول، و دخل فى القسم الذى يختلف معناه و يتفق لفظه.

سورة الشمس

سورة الشمس

563- قوله: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها «12». قيل: هما رجلان: قدار بن سالف، و مصدع بن يزدهر «3» فوحد لروى الآية.

سورة الليل

سورة الليل

564- قوله: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى «7»، و بعده: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى «10» أى: نسهله للحالة اليسرى، و الحالة العسرى، و قيل:

الأولى: الجنة، و الثانية: النار. و لفظه سنيسره. و جاء فى الخبر:

«اعملوا فكل ميسر لما خلق له» «4».

سورة الضّحى

سورة الضّحى

565- قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ «9» كرر أَمَّا ثلاث مرات، لأنها وقعت فى مقابلة ثلاث آيات أيضا، و هى: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى . وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى . وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى .

__________________________________________________

(1) أخرج الشيخان و أبو داود عن أبى هريرة عن النبى صلى اللّه عليه و سلم: «إن اللّه تعالى حبس عن مكة الفيل، و سلط عليهم رسوله و المؤمنين، و إنها لم تحل لأحد قبلى، و إنها إنما حلت لى ساعة من نهار، و إنها لن تحل لأحد بعدى». (تيسير الوصول 2/ 274، 275) حلبى.

(2) قتل يوم الفتح عبد اللّه بن خطل. فقد أخرج الستة عن أنس: أن رجلا جاء إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم يوم الفتح فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: اقتلوه.

(تيسير الوصول 2/ 273).

(3) ذكر أبو حيان أن اسمه مصدع بن مهرج، و قال: استغويا سبعة نفر فكانوا تسعة (البحر المحيط 4/ 330).

(4) أخرجه الإمام أحمد فى مسند (1/ 27 و 4/ 67 و 6/ 441)، و أبو داود فى السنة و هو حديث و ليس بخبر كما زعم المؤلف.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 251

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ «6- 9» و اذكر يتمك و وَ أَمَّا السَّائِلَ

فَلا تَنْهَرْ «10» و اذكر فقرك. وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «11» و اذكر ضلالك و الإسلام، و لقوله: ضَالًّا وجوه ذكرت فى موضعها «1».

سورة الشرح

سورة الشرح

566- قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «5، 6» ليس بتكرار، لأن المعنى: إن مع العسر الذى أنت فيه من مقاساة الكفار يسرا فى العاجل، و إن مع العسر الذى أنت فيه من الكفار يسرا فى الآجل، فالعسر واحد، و اليسر اثنان.

و عن عمر رضى اللّه عنه: «لن يغلب عسر يسرين» «2».

سورة التّين

سورة التّين

567- قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «4»، و قال فى البلد: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ «90: 4» لا مناقضة بينهما، لأن معناه عند كثير من المفسرين: منتصب القامة معتدلها، فيكون فى معنى: أحسن تقويم، و لمراعاة الفواصل فى السورتين جاء على ما جاء.

__________________________________________________

(1) أخرج السيوطى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما فى معناه: و وجدك بين ضالين فاستنقذك منهم. (الدر المنثور 6/ 362).

و قال أبو حيان: لا يمكن حمله على الضلال الذى هو ضد الهداية، لأن الأنبياء معصومون من ذلك (البحر المحيط 8/ 486). و أجاد أبو زيد الدبوسى فى تفسير الآية فقال: لم يكن فى الأنبياء بحكم الفطرة خبث يدعوهم إلى المضل، و لا ما يهديهم إلى المحل، و كانوا فى مقام الحيرة ضالين عن الطريق بالوقوف على المنزل حتى هدوا بالعقل و الكتاب المنزل .. (الأمد الأقصى.

كتاب أقسام الناس فى الدين، ورقة 87) و قد أفاض فى الحديث عن الموضوع.

(2) هذا حديث عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أخرجه السيوطى عن عبد بن حميد عن قتادة بلاغا، و عن ابن مردويه عن الحسن، و عن جابر بن عبد اللّه، و عن البزار و ابن أبى حاتم و الطبرانى فى الأوسط، و ابن مردويه و البيهقى فى الشعب عن

أنس و عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر فدخل عليه حتى يخرجه»، فأنزل اللّه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً.

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. و عند الطبرانى: و تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الآيتين (الدر المنثور 6/ 364).

أسرار التكرار في القرآن، ص: 252

سورة العلق

سورة العلق

568- قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «1»، و بعده: اقْرَأْ وَ رَبُّكَ «3»، و كذلك: الَّذِي خَلَقَ «1»، و بعده: خَلَقَ «2»، و مثله: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ «4» و عَلَّمَ الْإِنْسانَ «5»، لأن قوله: اقْرَأْ مطلق، فقيده بالثانى، و الذى خلق علم فخصه بما بعده، و عَلَّمَ مبهم ففسره فقال: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «1».

سورة القدر

سورة القدر

569- قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ «1، 2»، ثم قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ «3» فصرح به و كان حقه الكناية رفعا لمنزلتها، فإن الاسم قد يذكر بالتصريح فى موضع الكناية تعظيما و تخويفا كما قال الشاعر:

لا أرى الموت يسبق الموت حتى. نغص الموت ذا الغنى و الفقيرا فصرح باسم الموت ثلاث مرات تخويفا، و هو من أبيات الكتاب.

__________________________________________________

(1) ما ذكره المؤلف فى هذه السورة لا يكفى للكشف عن براهين القرآن فيها. و الذى أراه و اللّه أعلم: أن اقْرَأْ الأولى خاصة بالقرآن حفظا و تأملا، لأنها كذلك فى سبب نزولها.

و قرنها بقوله: بِاسْمِ رَبِّكَ تنبيها على الاستعانة به تعالى فى فهم مراده من كتابه.

و اقْرَأْ الثانية مراد بها جميع العلوم المدونة التى تعين على زيادة الإيمان و قوته، بالاستعانة باللّه و بفيض كرمه، و لذلك قال: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بعد قوله: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.

و خَلَقَ الأولى حث على التأمل فى صفة الخلق بالاستعانة به خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ و كذلك سائر جزئيات الخلق.

و عَلَّمَ الأولى هى العلوم المكتوبة المدونة بالقلم مما يعين على الإيمان و للعبد فيها مدخل.

و الثانية العلم الموهوب من اللّه تعالى إذا روعيت الملابسات السابقة. و من الملاحظ أن بداية العلم تأمل كلى يؤدى إلى العلم الجزئى،

ثم ينتهى الجزئى إلى الكلى أيضا على وجه أشمل و أقوى.

فقد بدأ فى السورة ب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و تدرج إلى الجزئى خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، ثم إلى جهد الإنسان مستعينا بربه عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. و انتهى إلى فيض اللّه و مواهبه عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 253

سورة البيّنة

سورة البيّنة

570- المتشابه فيها إعادة البينة و البرية مرتين، و قد سبق.

سورة الزّلزلة

سورة الزّلزلة

571- قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «7، 8» و أعاده مرة أخرى ليس بتكرار، لأن الأول متصل بقوله: خَيْراً يَرَهُ، و الثانى بقوله: شَرًّا يَرَهُ.

سورة العاديات

سورة العاديات

572- قوله: وَ الْعادِياتِ «1». أقسم بثلاثة أشياء:

وَ الْعادِياتِ و فَالْمُورِياتِ «2» و فَالْمُغِيراتِ «3» «1»، و جعل جواب القسم أيضا ثلاثة أشياء: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «2». وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «4- 6».

سورة القارعة

سورة القارعة

573- قوله: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ «6»، ثم: وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ «8» جمع ميزان، و له كفان و عمود لسان. و إنما جمع لاختلاف الموزونات، و تجدد الوزن، و كثرة الموزون لهم، كقوله:

عَنِ الْأَهِلَّةِ و إنما هو هلال واحد، و قيل: هى جمع موزون.

سورة التّكاثر

سورة التّكاثر

574- قوله: كَلَّا «3، 4، 5» فى المواضع الثلاثة. فيه قولان:

أحدهما: أن معناه: الردع و الزجر عن التكاثر، فحسن الوقف عليه

__________________________________________________

(1) العاديات: الجاريات بسرعة. الموريات قدحا: أى التى تقدح الشرر من اصطدام حوافرها بالصخر و هى تجرى. و المغيرات: التى تغير على العدو فى سبيل اللّه.

(2) الكنود: الكفور النعمة.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 254

و الابتداء بما بعده، و الثانى: أنه يجرى مجرى القسم و معناه «1».

575- قوله: سَوْفَ تَعْلَمُونَ «3»، و بعده: سَوْفَ تَعْلَمُونَ* «4» تكرار للتأكيد عند بعضهم، و عند بعضهم هما فى وقتين: القبر و القيامة، فلا يكون تكرارا، و كذلك قول من قال: الأول للكفار و الثانى للمؤمنين «2».

576- قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها «5، 6» تأكيد أيضا: و قيل: الأول قبل الدخول، و الثانى بعد الدخول. و لهذا قال بعده: عَيْنَ الْيَقِينِ «5» أى: عيانا لستم عنها بغائبين، و قيل:

الأول من رؤية القلب، و الثانى من رؤية العين «3».

سورة العصر

سورة العصر

577- قوله: وَ الْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ «1، 2». إنه أبو جهل، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا: أبو بكر، وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ: عمر، وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ: عثمان، وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ: على رضى اللّه عن الخلفاء الأربع، و لعن أبا جهل.

578- قوله: وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ «3». كرر لاختلاف المفعولين. و هما: بالحق، و بالصبر، و قيل: لاختلاف

__________________________________________________

(1) و نزيد على ما ذكره المؤلف: أن الردع متوجه على التكاثر فى الدنيا بالمال و الجاه، ثم التكاثر فى المقابر و الفخر بها. فكانت كَلَّا. الأولى

ردعا فى الدنيا بما ينال المتكاثرين من عقوبات مرتبة على الترف سجلها القرآن. و الثانية فى الآخرة، و لذلك اقترنت بحرف التراخى ثُمَّ حيث لا ينفع مال و لا بنون.

(2) ليس كذلك، بل الخطاب فيهما للمتكاثرين بالمال و الجاه و الأجداد.

(3) فى الأصول: الأول من رؤية العين، و الثانى من رؤية القلب، و لعله تحريف من النساخ أفسد المعنى، بدليل قوله تعالى قبله: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ فالخطاب هنا فى الدنيا، و علم اليقين هو: رؤية ما ليس مشهودا من الأمور الغيبية و كأنه مشاهد محسوس. و جاء بعدها ثُمَّ الدالة على التراخى، و قال: لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أى مشاهدة محسوسة بالعين يوم القيامة. و هذا أيضا دليل على ما قلنا فى السورة.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 255

الفاعلين، فقد جاء مرفوعا: إن الإنسان «1».

سورة الهمزة

سورة الهمزة

579- قوله: الَّذِي جَمَعَ «2». فيه اشتباه، و يحسن الوقف على لُمَزَةٍ «1» حيث لم يصلح أن يكون الَّذِي «1» وصفا له، و لا بدلا عنه، و يجوز أن يكون رفعا بالابتداء بحسب خبره، و يجوز أن يرتفع بالخبر. أى: هو الذى جمع. و يجوز أن يكون نصبا على الذم بإضمار. أعنى، و يجوز أن يكون جرا بالبدل من قوله: لِكُلِّ «1».

سورة الفيل

سورة الفيل

580- قوله: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ «1» أتى فى مواضع «2»، و هذا آخرها. و مفعولاه محذوفان، و كيف مفعول، و لا يعمل فيه ما قبله، لأنه استفهام، و الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

سورة قريش

سورة قريش

581- قوله: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ «1، 2» كرر، لأن الثانى بدل من الأول، أفاد بيان المفعول، و هو: رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ «2».

و روى عن الكسائى و غيره: ترك التسمية بين السورتين، على أن اللام فى لِإِيلافِ متصل بالسورة الأولى، و قد سبق بيانه فى التفسير.

سورة الماعون

سورة الماعون

582- قوله: الَّذِينَ هُمْ «5، 6». كرر و لم يقتصر على مرة واحدة لامتناع عطف الفعل على الاسم، و لم يقل: الذين هم يمنعون، لأنه فعل فحسن عطف الفعل على الفعل.

__________________________________________________

(1) هكذا فى الأصول.

(2) فى أ: جاءت فى مواضع.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 256

سورة الكوثر

سورة الكوثر

583- قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1»، و بعده: إِنَّ شانِئَكَ «3». قيد الخبرين بإن تأكيدا، و الخبر إذا أكد بإن قارب القسم

سورة الكافرون

سورة الكافرون

584- قوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ «2». فى تكراره أقوال جمة، و معان كثيرة، ذكرت فى موضعها، قال الشيخ الإمام: و أقول:

هذا التكرار اختصار. و هو إعجاز، لأن اللّه نفى عن نبيه عبادة الأصنام فى الماضى و الحال و الاستقبال، و نفى (عن) «1» الكفار المذكورين عبادة اللّه فى الأزمنة الثلاثة أيضا، فاقتضى القياس تكرار هذه اللفظة «2» ست مرات فذكر لفظ الحال، لأن الحال هو: الزمان الموجود، و اسم الفاعل واقع موقع الحال، و هو صالح للأزمنة الثلاثة، و اقتصر من الماضى على المسند إليهم، فقال: وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ «4».

و لأن اسم الفاعل بمعنى الماضى، فعمل على مذهب الكوفيين، و اقتصر من المستقبل على (لفظ) «3» المسند إليه، فقال: وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ «3، 5»، و كأن أسماء الفاعلين بمعنى المستقبل.

سورة النّصر

سورة النّصر

585- و تسمى أيضا سورة التوديع، فإن جواب إذا مضمر تقديره:

إذا جاء نصر اللّه إياك على من ناوأك حضر أجلك. و كان صلى اللّه عليه و سلم لما نزلت هذه السورة يقول: «نعى اللّه تعالى إلى نفسى».

__________________________________________________

(1) سقطت من ب.

(2) فى أ: أن تكرار هذه اللفظة.

(3) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 257

سورة المسد «1»

سورة المسد «1»

586- قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا، و بعده: وَ تَبَّ «1» «2»، ليس بتكرار، لأن الأول جرى مجرى الدعاء، و الثانى جزاء، أى: و قد تب، و قيل: تبت يدا أبى لهب. أى: عمله، و تب أبو لهب، و قال مجاهد: و تب ابنه.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص

587- قوله تعالى: اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ «1، 2». كرر لتكون كل جملة منهما مستقلة بذاتها، غير محتاجة إلى ما قبلها. ثم نفى سبحانه عن نفسه «3» الولد و الصاحبة «4»، بقوله: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.

سورة الفلق

سورة الفلق

588- نزلت فى ابتداء خمس سور و صارت متلوا بها، لأنها نزلت جوابا «5».

و كرر قوله: مِنْ شَرِّ أربع مرات، لأن شر كل واحد منها غير «6» الآخر.

سورة النّاس

سورة النّاس

589- قوله تعالى: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «1»، ثم كرر الناس خمس مرات. قيل: كرر تبجيلا لهم على ما سبق، و قيل: كرر

__________________________________________________

(1) و هى سورة المسد (المراجع).

(2) فى أ: (ثب) خطأ.

(3) فى ب: عند الولد.

(4) فى ب: و الزوجة و الصاحبة.

(5) لأن قوله تعالى: قُلْ: دال على طلب قبله.

(6) سقطت من أ.

أسرار التكرار في القرآن، ص: 258

لانفصال كل آية من الأخرى، لعدم حرف العطف، و قيل: المراد بالأول الأطفال، و معنى الربوبية يدل عليه «1»، و بالثانى الشبان، و لفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه، و بالثالث الشيوخ، و لفظ إله المنبئ عن العبادة يدل عليه، و بالرابع الصالحون و الأبرار، و الشيطان يولع بإغوائهم، و بالخامس المفسدون و الأشرار، و عطفه على المتعوذ منهم يدل على ذلك «2».

__________________________________________________

(1) فى الأصول: (له).

(2) فى أ: المعوذ منهم.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.