اسم الکتاب...الامام السادس جعفربن محمد الصادق (علیه السلام)
المولف...لجنة التحریر في طریق الحق
المترجم...محمد عبدالمنعم الخاقاني
الناشر...موسسة في طریق الحق
عدد النسخ...3000
المطبعة...سلمان الفارسی
الطبعة...الثانیة
تاریخ النشر...1425 ه- ق _ 2004 م
964-6425-84-4ISBN:
السعر...650 تومان
محرر الرقمي: امین حياتغيبي
ص: 1
الامام السادس
جعفر بن محمد الصادق [عليه السلام]
ص: 2
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیم»
ان التاريخ الثري للتشيع _ وهو تاريخ الاسلام الحقيقي الملي بالأحداث _ يبين في كل صفحة من صفحاته صورة صادقة لانسان كان يُمثل في زمانه سفينة النجاة في مجتمعه ومشعل الطريق للضالين والتائهين.
وقد تجلى الاسلام الأصيل الخالي من اي انحراف _ منذالهوة السحيقة للسقيفة وحتى السهول الخضراء للثورة الاسلامية في ايران _ في واحد من هؤلاء الرجال العظام. وقد أطلّت الشجرة الباسقة لعلمهم وفضيلتهم التابعين الذين كانوا متفانين في حب الحقيقة وباحثين عن الاسلام الذي يريده الله تعالى ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل ان تتسلّل اليه الشوائب على ايدي الطغاة والظالمين.
وقد تألق الحب والاتباع في سماء الاسلام الشيعي بجماعة عظيمة تبداً بنجوم امثال سلمان وابي ذر وتنتهي الى رجال احرار امثال الميرزا الشيرازي والامام الخمينى ومن الذي لا يعلم ان زُلال العقيدة والعمل في هذه المنابع الصافية يمثل امواجا من بحر الوحي والنبوة، اشجار مغروسة في حديقة العصمة والامامة؟
ص: 3
هؤلاء هم الذين يحرسون بدمائهم امامة اهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) التي تعتبر امتداداً حقيقيا للرسالة الالهية، وهم الذين يحملون على عواتقهم مشعل القرآن والتوحيد، ويعدّ هذا اهم عامل لانقاذ الاسلام وحمايته من ان تمتد اليه ايدي المزورين في التاريخ. ولا يستطيع احد _ إلا ان يكون اعمى أو ينكر البصر في وجوده _ ان يغض الطرف عن هذه الحقيقة المشرقة على الجبين الجريح للاسلام المحمدي (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث انهالت صخور اعداء الاسلام وقادة الكفر الجاهلي من كل حدب وصوب تستهدف الاسلام وصدور أئمة الشيعة ورؤوس اتباعه المخلصين...
اجل ان القامة الرشيقة لقادتنا الاقوياء كانت الدرع الحصين الذي تحطمت عليه كل صخور البلاء حتى يبقى الاسلام مصوناً منها ، وحتى يستطيع السالكون في جميع الوديان البعيدة والقرون المتطاولة الوصول الى المنبع الصافي للاسلام الواقعى من دون ان تكدره شوائب الكفر والظلم، وقد لاحظنا ان هؤلاء الصالحين قد وجدوا طريقهم ال--ى ان الاعداء لم يدخروا جهداً ولم يعفّوا عن جريمة اِلا ان ذلك المنبع الطهر، ومع إلا ان ذلك المنبع الواضح لم يعله الغبار ولم تغطه الشوائب بالنسبة لأصحاب القلوب البصيرة....
وموضوع دراستنا هو سادس نجم يتألق في سماء الامامة، وقد اصبح من اروع حلقات هذه السلسلة حسب مقتضیات زمانه و موقعه الاجتماعي، فأحيا العلوم الاسلامية، وكان قد سبق ذلك تألق الشرف والشجاعة الحسينيين الذين قد غسلا الاسلام وعمداه مما لحق به من شوائب بالدماء الطاهرة الزكية.
ص: 4
فمذهبنا هو المذهب الجعفري، ونحن نفتخر بهذا الانتساب، لانه اذا كان الاسلام هو اسلام محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فان دعوته لابد ان نجدها في دم الحسين (علیه السلام)، وبيانه في تعليم الامام جعفر الصادق (علیه السلام)، وان كان الاسلام هو اسلام حكّام الزور والتآمر على اهل بيت الرسالة فنحن نتباهى بالبعد عن هذا الاسلام.
ان لمولانا صادق آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) حقاً على ايماننا وعقيدتنا هو نفس ذلك الحق الثابت لجهاد علي (علیه السلام) ولصلح الحسن (علیه السلام) ولدم الحسين (علیه السلام) ولدموع الزهراء وزينب (علیه السلام)، فاذا كان الاسلام هو ذلك الذي بكت عليه الزهراء فلابد اذن ان يكون مذهبنا ،جعفريا، وان كان الاسلام هو ما أجلس على الكرسي المغصوب ، وقد نظرت اليه الزهراء (علیه السلام) بعين الغضب فاننا نعلنها صريحة اننا لسنا متمسكين بهذا الاسلام، ونشهد الله اننا لن نخضع لمثل هذا الاسلام! لانه الاسلام الذي ابتعد عنه اهل بيت النبي، وتجلى في كراسي الغاصبين وبلاط الخلفاء، واولياء امره امثال معاوية ويزيد وهارون والمتوكل، ومثل هذا الاسلام ليس هو اسلام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) وبالتالي فانه لن يكون اسلامنا ايضا... ان الامام الكريم جعفر بن محمد (علیه السلام) قد شيّد نهضة علمية وقام بنشر معارف الاسلام بحيث ضيّع الفرصة على بلاط الخلفاء حيث كانوا يتآمرون للحيلولة دون انوار المعرفة، وبناء على ذلك نلاحظ انه في الجيل اللاحق وحينما ورد الامام الثامن علي بن موسى الرضا عليهما السلام الى نيشابور فان آلاف المحبين قد استقبلوه وكل وجودهم آذان صاغية تحب ان تسمع کلام امام الاسلام. واذا قارنا هذا النجاح بذلك الزمان الذي دخل فيه الامام زين العابدين (علیه السلام) مع اسرى اهل بيت النبوة الى الشام وكان اهل
ص: 5
الشام يديعون بين الناس ان هؤلاء خوارج ثائرون ضد الاسلام! واخذنا ايضا بعين الاعتبار البعد المكاني بين نيشابور ودمشق، لوجدنا المدى الذي تقدمت فيه النهضة العلمية للامام الصادق (علیه السلام) وبعد آثارها.
وقد كانت المائدة التي هيأها الامام عامة وشاملة بحيث لم تقتصرعلى اتباعه وانما امتدت لتشمل اعداءه ومخالفيه، والكل يعلم ان الامام الاول للفقه السني وهو «ابوحنيفه» يفتخر بانه قد تتلمذ في مدرسة الامام الصادق (علیه السلام) لمدة سنتين، يعدهما اساس وعيه الفقهى وذلك من خلال قوله :
«لولا السنتان لهلك النعمان»(1)
والنعمان هو اسم ابي حنيفة.
وقد تربى في مدرسة الامام الصادق (علیه السلام) رجال مشاهير يحتلون الدرجات العليا في العلوم المختلفة، وكل واحد منهم يشكل صفحة مضيئة في تاريخ المعارف الاسلامية، ومن جملتهم زرارة ومحمد بن مسلم في الفقه، وهشام ومؤمن الطاق في الفلسفة والكلام ، والمفضّل وصفوان في المعارف والعرفان، وجابر بن حيان في الرياضيات والعلوم التجريبية، وكثير غيرهم يعدون من مفاخر ومؤسسي العلوم والفنون الاسلامية المتنوعة.
وقد كان سيل العلوم الالهية على يد الامام الصادق (علیه السلام) جاذبا للانتباه بحيث اجتذب اهتمام العلماء الا وربيين بعد مرور ثلاثة عشر قرنا من بدئه لكي يتعمقوا في دوره العلمي، وقد خصصوا كتبا للحديث
ص: 6
عن ذلك ، ويُعدّ هذا جانبا من فضائل الامام، لان اي عاقل لا يستطيع ان يدعي انه بمدح اشعاع من اشعة الشمس قد مدح الشمس و وصفها، فمادح الشمس مداح لنفسه ، لانه يعلن ان عينيه تتمتعان بالرؤية السليمة وليستا مصابتين بالرمد.
وفي هذه الكراسة التي هي بين ايديكم لم نحاول ان نستقصي جميع ابعاد حياة الامام الصادق المباركة كما ينبغي، لان مثل هذه المهمة خارجة عن قدرتنا، و انماحا ولنا فيها تصوير بعض النقاط المشرقة في حياة ذلك الامام العظيم، ومع كل ما فيها من الوان القصور فاننا نأمل ان تكون جذابة ومفيدة للاخوة المسلمين والاخوات المسلمات ولاسيما الطبقة الشابة منهم، ومن الله التوفيق. مؤسسة فى طريق الحق
ص: 7
ص: 8
اسمه الكريم «جعفر»، وكنيته «ابوعبدالله»، ولقبه «الصادق»، ووالده الامام محمد الباقر عليه السلام وهو الامام الخامس للشيعة.
ولد في المدنية في اليوم السابع عشر من ربيع الاول عام ثلاث وثمانين للهجرة(1) ، وامه السيدة الجليلة «ام فروه»، وقد قال الامام نفسه في حق والدته:
«لقد كانت امي من النساء المتقيات المؤمنات المحسنات»(2)
عاش في الدنيا خمساً وستين سنة، وامتدت فترة امامته اربعاً وثلاثين سنة، منذمائة واربعة عشر هجري وحتى مائة وثمانية واربعين.
وتعاقب على الخلافة في زمانه :
«هشام بن عبد الملك » و «الوليد بن يزيد بن عبد الملك » و «يزيد بن الوليد« و «ابراهيم بن الوليد» و «مروان الحمار» من بني امية،
ص: 9
و«السفاح» و «المنصور الدوانيقي» من بني العباس.(1)
واما ابناؤه فهم : الامام الكاظم عليه السلام» و«عبدالله» و«محمد «دیباج» و«اسحاق» و«علي العريضي» و«العباس» و «ام فروه» و«اسماء» و «فاطمة» ، فكانوا سبعة اولاد وثلاث بنات.(2)
اخلاق الامام:
لقد كان ائمتنا الطاهرون - كل واحد في زمانه - يمثلون النموذج
- الارفع للاخلاق والعمل الاسلاميين، وكما كانوا هم يوصون اتباعهم :
كونوا دعاة الناس بغير السنتكم».
اي لتكن دعوتكم للاسلام بسلوككم وأعمالكم، فان جميع احداث حياتهم (ع) كانت دروساً واضحة للأساليب الاسلامية الأصيلة في جميع ابعاد الحياة، ولم يكن هناك احد اكثر تقيّداً منهم بأحكام الاسلام، ولم يأمروا بمعروف إلا وكانوا مقيدين بالعمل به قبل الآخرين واشدّ منهم، ولم ينهوا عن منكر إلا وكانوا متجنبين عنه دائماً. وهكذا كان اتباع
مدرستهم يتعلمون دروس الايمان والعمل من جميع جوانب حياة المتهم وباقتفائهم اثرهم (ع) يصبحون مسلمين صادقين ونماذج وقدوة للآخرين في كل عصر ومصر.
ص: 10
ونذكر الآن مقتطفات من اخلاق الامام وسلوكه :
1_يقول عبد الاعلى: في يوم من ايام الصيف شاهدت الامام الصادق عليه السلام في طريق من طرق المدينة وهو ذاهب ليعمل فقلت له : فديتك كيف تكلّف نفسك هذه المشقة في مثل هذا الجو الساخن مع مالك من منزلة قريبة من الله ومع قرابتك للنبي الاكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال الامام:
خرجت لكسب الرزق حتى استغني عن امثالك.(1)
2_يقول ابوعمر و الشيباني: شاهدت الامام الصادق عليه السلام مرتدياً ثوباً خشناً وبيده مسحاة يعمل بها في الحقل والعرق يتصبب منه.
فقلت له : فديتك ناولني المسحاة واسمح لي ان اعمل مكانك.
فقال : احب ان يتأذى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة.(2)
3_ارسل الامام الصادق عليه السلام احد اصحابه وهو يسمى ب- «مصادف» الى مصر للتجارة واعطاه الف دينار. فاشترى مصادف سلعاً بتلك الاموال وذهب الى مصر برفقة تجار آخرين، ولما اقتربوا من مقصدهم التقوا بقافلة عائدة من مصر، فسألوهم عن وضعية السلع التي
ص: 11
يحملونها وهي تتعلق بالاحتياجات العامة للناس، فأخبروهم ان بضائعكم نادرة في سوق مصر.
ولما علم مصادف وسائر التجار الذاهبون الى مصر بحاجة اهلها الى بضائعهم اتفقوا على ان لا يبيعوها بأقل من ربح يعادل مائة في المائة، وقد نفذوا فعلا ما اتفقوا عليه، ونتيجة لذلك فقد ربح مصادف الف دينار.
وبعد انتهاء مهمتهم عادوا الى المدينة فجاء مصادف الى الامام الصادق وسلّمه كيسين في كل واحد منهما الف دينار قائلا له ان في احدهما رأس المال الذي اعطيتني اياه، وفي الآخر ربح التجارة.
فسأله الامام: انه لربح كبير، فكيف امكنك الحصول عليه؟
فبين له مصادف ان البضاعة التي كانوا يحملونها نادرة في مصروشرح له كيفية اتفاق التجار على ثمن البيع.
فقال له الامام:
سبحان الله أتتعاهدون بضرر جماعة من المسلمين حيث لا تبيعون بضاعتكم بأقل من ربح يعادل مائة في المائة؟ عندئذ اخذ احد الكيسين بعنوان انه رأس المال ورفض الآخر قائلا له :
لا حاجة لي بهذا الربح _ الذي جاء عن طريق لا انصاف فيه _ يا مصادف مجالدة السيوف اهون من طلب الحلال.(1)
اي ان تحصيل المال عن طريق حلال صعب جداً .
ص: 12
4_ختلف شخص مع اقربائه على ميراث، وانتهى امرهم الى الجدال والعراك ، فمربهم المفضّل _ وهو احد اصحاب الامام الصادق (علیه السلام) _ والتفت الى ما يجري بينهم من نزاع فدعاهم الى بيته وأقر بينهم الصلح بأربعمائة درهم، ثم دفع الدراهم وانهى الاختلاف، وقال لهم المفضّل : ان هذه الاموال التي دفعتها في سبيل حل النزاع الواقع بينكم انما هي اموال الامام الصادق عليه السلام حيث امرني بصرف امواله لايجاد الصلح بين شخصين من الشيعة يحدث بينهما صراع ونزاع .(1)
5_يقول هارون ابن جهم: كنّا في الحيرة (وهي مدينة تقع قرب الكوفة وقد نفى المنصور الدوانيقي الامام الصادق اليها وفرض عليه الاقامة الجبرية فيها) وفى احدى المناسبات دعا احد ضباط الجيش مجموعة من الناس ومن جملتهم الامام الصادق (علیه السلام) الى منزله، وبينما كنا جلوساً حول المائدة طلب احد المدعوين ماء فجي له بقدح من الخمر بدلاً عنه، فنهض الامام من على المائدة وغادر معترضاً وهو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : انه بعيد عن رحمة الله وملعون من جلس حول مائدة يُتناول فيها الخمر.(2)
ص: 13
6_أمر المنصور بفتح صندوق بيت المال واعطاء كل احد شيئا منه. ومن جملة الاشخاص الذين جاءوا لاستلام سهم من بيت المال شخص يسمى ب- «الشقراني»، ولكنه لما لم يكن احد يعرفه لهذا لم يجد وسيلة لكي ينال سهماً منه. وكان الشقراني ينتسب الى جد كان عبداً فحرره رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، وقدورث عنه الشقراني هذه الحرية ولهذا كان يطلق عليه انه «مولى رسول الله». ويعد هذا مفخرة للشقراني، ومن هنا فهو يعتبر من المنتسبين الى اهل بيت الرسالة.
وبينهما كان الشقراني يبحث عن شخص يعرفه ليصبح واسطة لأخذ سهم له من بيت المال اذا به يرى الامام الصادق (علیه السلام) فتقدم نحوه وذكر له حاجته. وذهب الامام ولم يستمر طويلا حتى عاد للشقراني ومعه السهم الذي اخذه .له وعندما سلّمه للشقراني قال له بلهجة يملؤها الحنان والعطف:
«ان فعل الخير حسن من كل احد ولكنه منك احسن واجمل بسبب انتسابك لنا حيث تعد متعلقا بأهل بيت الرسالة. وفعل الشرقبيح من كل احد ولكنه منك اقبح واسوأ بسبب ذلك الانتساب».
قالها الامام الصادق (ع) ومضى لسبيله.
و بمجرد ان سمع الشقراني هذه الجملة عرف ان الامام قد اكتشف سرّه اي انه يعلم بكونه شاربا للخم، وقد استبد به الخجل والحياء، لانه مع كون الامام عالماً بشربه الخمر لكنه مع ذلك تلظف به وقضى له حاجته ثم نبهه على خطئه، وبذلك ايقظ ضميره .(1)
ص: 14
7_ يقول ابراهيم بن بلاد: لقد قرأت وثيقة تحرير احد العبيد الذين حررهم الامام الصادق فوجدت فيها ما يلي:
«حرر هذا العبد جعفر بن محمد من اجل رضى الله تعالى، وهو لا يريد منه اي شكر ولا جزاء بشرط ان يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويقوم بالحج ويصوم شهر رمضان ويحب اولیاء، الله ويتبرأ من اعداء الله».
وقد شهد في هذه الوثيقة ثلاثة اشخاص .(1)
_يقول مسمع بن عبدالملك : كنا في منى عندالامام الصادق عليه السلام ونحن مشغولون بأكل العنب فدخل علينا سائل وطلب من الامام مساعدة فأعطاه الامام عنقوداً من العنب فرفضه قائلا: ان كان عندكم مال فاعطوني فأجابه الامام يعطيك الله .
وذهب السائل قليلا ثم عاد طالبا عنقود العنب، فقال له الامام: يعطيك الله، ولم يعطه شيئا.
ثم جاء سائل آخر فأعطاه الامام ثلاث حبات من العنب فأخذها منه قائلا : شكراً الله رب العالمين الذي منحني هذا الرزق.
فملأ الامام كفيه بالعنب واعطاه اياه فأخذها السائل وهو يقول:شكراً الله رب العالمين.
ص: 15
فأمره الامام بالانتظار وسأل مرافقه : كم معنا من المال؟ وكأنه كان معهم عشرون درهما فأعطاها لذلك السائل، فقال السائل: شكراً الله، الهی ان هذه النعمة منك وانت واحد لا شريك لك .
فقال له الامام انتظر قليلا واعطاه ثوبه وامره بلبسه. فلبسه السائل وقال :
الحمد لله الذي اعطاني هذا الثوب وكساني به، ثم التفت الى الامام قائلا له : جزاك الله خير الجزاء.
يقول مسمع : يبدو أنه اذا لم يدع للامام في هذه المرة و اكتفى بشكرالله وحمده فان الامام كان يستمر في اعطائه.(1)
يقول مالك بن انس: كان جعفر بن محمد مشغولاً دائما اما بالصيام واما بالصلاة واما بذكر الله، ويعد من اكبر العباد والزهاد. وكان يحدث كثيراً، ومجلسه لطيف عظيم الفائدة، وعندما كان يقول: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله» فان لونه يتغير... كنا معه في الحج في احدى السنين فلما أحرم تغيرت أحواله وكأنه لا يستطيع ان ينطق ب- «لبيك »، ومن شدّة هول الموقف يكاد يسقط من مركبه، فقلت له : يا بن رسول الله قل لبيك ولا بدلك من قولها .
فقال: كيف اقول «لبيك اللهم لبيك » بينما انا خائف ان يجيبني الله بقوله : «لا لبيك ولا سعديك » .(2)
ص: 16
10_يقول قتيبة وهو من اصحاب الامام الصادق (علیه السلام):
ذهبت في احد الايام الى بيت الامام الصادق العيادة احد اولاده حيث كان مريضا فوجدت الامام واقفاً امام الباب وهو قلق حزين، فسألته عن حال الطفل فأجابني: «والله انه لن يبقى»، ثم دخل الى البيت وبعد فترة خرج الي وقد هدأ روعه وزال اضطرابه فساورني الأمل وفرحت متخيلاً ان المريض قد تحسنت حالته، فسألته مرة اخرى عن حالة الطفل، فأجاب (علیه السلام)
:
«لقد توفاه الله فقلت له متعجباً : فداك نفسي عندما كان حيا كنت مضطربا وحزينا عليه، والآن قد تُوفّي لكنك لا يُلاحظ عليك
الحزن؟
فقال: نحن اهل بيت يظهر علينا الحزن قبل وقوع المصيبة، ولكنه بعد نفوذ القضاء الالهي فاننا راضون برضا الله ومستسلمون لأمره.(1)
11_يقول حفص بن ابي عايشه: ارسل الامام الصادق خادمه لانجاز احدى المهمات، فتأخر الخادم فذهب الامام خلفه ووجده في احدى الزوايا وهو يغط في نوم عميق فجلس الامام عند رأسه وأخذ يروح له بهدوء، ولما استيقظ قال له الامام: والله ليس لك ان تنام في الليل والنهار ان الليل لك والنهار لنا.(2)
ص: 17
12_يقول معلى بن خنيس: في احدى الليالي المطيرة لاحظت الامام الصادق (علیه السلام) وهو متجه الى ظلة بني ساعدة ة «وهي خيمة منصوبة ليستريح فيها الفقراء والبؤساء) فتبعته، وبينما نحن في الطريق اذ سقط شَيْ مما يحمله الامام معه فقال: «بسم الله، اللهم ارجع الينا ما سقط منا على الارض»، فتقدمت نحوه وسلمت عليه فقال : يا معلى هذا هو أنت؟ فقلت : نعم فداك نفسي.
فقال : ابحث بيدك فاذا وجدت شيئا فاعطني اياه. فبحثت و وجدت عدداً من أرغفة الخبز فناولته اياها وكان يحمل كيسا مليئا بالخبز، وبدالي انه ثقيل الوزن جداً فقلت له : فداك نفسي اسمح لي ان احمل الكيس عنك.
فقال كلا: انا أولى بهذا العمل منك ، ولكن تعال معي . فصحبته الى ان وصلنا الى ظلة بني ساعدة فرأينا مجموعة من البؤساء وهم نيام فوضع الامام قرصاً أو قرصين من الرغيف تحت ثياب كل واحد منهم ولم يستثن احداً ابداً، ثم عدنا ادراجنا ، فقلت له: فديتك هل كان هؤلاء، من شيعتكم؟
اجاب: لو كانوا من شيعتنا لقد منا لهم مساعدة اكبر من هذه(1)
13_يقول هشام بن سالم: كان من عادة الامام الصادق عليه السلام ان يحمل على عاتقه في الليالي كيسا فيه اقراص من الخبز
ص: 18
ولحم ودراهم ليوزعها على المحتاجين في المدينة، وهم لا يعرفونه، ولما لقى الامام وجه ربه انقطعت هذه المساعدة عنهم، وعندئذ التفتوا الى ان الامام هو صاحب تلك المساعدات.(1)
ولد الامام (علیه السلام) سنة ثلاث وثمانين هجرية، في زمان سلطة خامس خليفة اموي ظالم هو عبد الملك بن مروان، و وصل الى الامامة في سن الواحدة والثلاثين عام مائة واربعة عشر هجري، وذلك بعد استشهاد والده الكريم الامام محمد الباقر عليه السلام، في زمان خلافة هشام بن عبدالملك .
وفيما يلى نذكر اسماء الخلفاء الأمويين الذين عاصروا الامام الصادق (علیه السلام) منذ ولادته وحتى عام (132) هجري ( عام انقراض سلطة بني أمية)، مشيرين الى فترة حكومة كل واحد منهم :
«عبدالملك بن مروان» وقد استمرت فترة حكومته منذ عام (65) وحتى عام (86) ، وقد تقارنت السنين الثلاث من اواخر حكومته مع الفترة الممتدة منذ ولادة الامام وحتى صيرورة عمره الشريف ثلاث سنوات.
«الوليد بن عبدالملك » وقد حكم تسع سنوات وثمانية شهور.
«سلیمان بن عبد الملك» حكم ثلاث سنوات وثلاثة شهور.
عمر بن عبدالعزيز حكم سنتين وخمسة شهور.
«يزيد بن عبدالملك » حكم اربع سنوات وشهراً واحداً.
ص: 19
«هشام بن عبد الملك» حكم عشرين سنه، وقد عاصر ما يناهز اثني عشر عاما منها زمان امامة الامام الصادق عليه السلام.
«الوليد بن زيد بن عبدالملك » حكم عاما واحداً
«يزيد بن الوليد»حكم ستة شهور.
«ابراهيم بن الوليد» حكم شهرين أو أربعة شهور.
«مروان الحمار» حكم خمس سنوت وعدة شهور، وبهزيمة على يد بني العباس و بقتله في شهر ذي الحجة عام (132) هجري زالت دولة بني امية وانقرضت.(1)
واستمرت حكومة الأمويين ما يقرب من قرن كامل وهي من أحلك مراحل التاريخ الاسلامي ، فقد كان الاسلام والامة الاسلامية خلال هذه الفترة ملعبة للأغراض الاموية، حيث كان الأمويون لا يقيمون وزناً للناس. وكان جميع المسلمين ولا سيما اتباع اهل بيت النبوة يعيشون اقسى الاوضاع في ظل الارهاب والخوف تحت سيطرة هذه الحكومة الجائرة، فنلاحظ مثلا «عبد الملك » وهو احد الحكام الامويين وهو يعلن للناس في احدى خطبه :
«كل من يدعوني الى التقوى فاني اضرب عنقه»(2)
ويقول «الوليد بن عبد الملك» في اول خطبة له بعد توليه السلطة :
«كل من يتمرّد علينا فاننا نقتله، وكل من يسكت فان السكوت
21
ص: 20
سوف يقتله».(1)
لقد كان بنو امية مجموعة من الزنادقة التي لا تعرف الله وقد اظهروا عداوة عميقة للدين والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) منذ ظهور الاسلام، وقد أدت الحوادث اللاحقة وغزوتا بدر وأحد الى أن تنبعث في قلوب بني امية احقاد لا تقبل الزوال اتجاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلي (علیه السلام) ، و بعد ذلك فانهم لم يفوتوا اية فرصة سنحت لهم للانتقام وتفريغ الاحقاد، ولم يدخروا جهداً ولم يعفوا عن أية حيلة أو خداع أو جريمة للقضاء على الاسلام والايقاع بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واهل بيته الطاهرين (علیه السلام).
وقد استلم بنو امية السلطة في العالم الاسلامي عمليا في سنة اربعين للهجرة بعد استشهاد الامام امير المؤمنين وجلوس معاوية على عرش الخلافة، ومنذئذ بدأت تُسلّط على الشيعة اشد الضغوط، وكان شتم امير المؤمنين علي (علیه السلام) على رأس قائمة المهمات التي ينفذها بنو أمية، ويعد القتل الجماعي في كربلاء واستشهاد سيدالشهداء الحسين عليه السلام ذروة جرائم بني امية. وقبل فاجعة كربلاء وبعدها ايضا قام بنوامية بقتل مجموعة كبيرة من شخصيات الشيعة والعلويين بتهمة الدفاع عن اهل البيت (علیه السلام) وسجنوا كثيرين آخرين منهم في زنزانات مخيفة وفي أتعس ظروف للسجن. فاستشهد مثلا زيد ابن الامام الرابع عليه السلام فی عصر هشام بن عبد الملك ، وقد أمر هشام بتعليق جسمه بعد شهادته على مقصلة الصلب، ثم انزل بعد عدة أعوام وأحرق...
وقد كان لواقعة كربلاء وفضح الحقائق والنضال السلبي للائمة (علیه السلام)
ص: 21
22
بعد تلك الفاجعة اعظم الأثر في ايجاد الاشمئزاز العام من حكم بنی امية، وبالتالي فقد أدّت شهادة زيد الى ان ينفد صبر الناس ازاء ظلم بني امية وقسوتهم ولا دينيتهم، وانتهى الأمر عام (132) الى الاطاحة بسلطة العار حكومة الأمويين، واستغل بنو العباس الظروف واستلموا زمام الامور متظاهرين بمظهر الدفاع عن الحق.
والامام الصادق عليه السلام، مثل سائر أئمتنا الكرام، تفرغ طيلة حياته، ومن جملتها الاعوام التي عاشها تحت سيطرة حكم الامويين، للنضال ضد الظالمين بصورة علنية أو خفيّة، وكلّما سمحت له الظروف مع القيود والمراقبة المفروضة عليه من قبل بني امية فانه كان يستغلها لايقاف الناس على الحقائق وهداية محى الدين والحقيقة وبيان الاسلام الحقيقي لهم.
واثناء حكومة هشام بن عبد الملك سافر الامام الصادق عليه السلام برفقة والده الكريم المى حج بيت الله الحرام، وقد خطب في الاجتماع العظيم للحجاج خطبة تعرّض فيها لموضوع قيادة اهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وامامتهم قائلا :
«الحمد لله الذي ارسل محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) بالصدق، وكرمنا به، فنحن الذين اصطفانا الله من بين الخلق ونحن خلفاء الله (في الارض)، فالمفلح هو من يتبعنا، والخاسر هو من يعادينا».(1)
فنقلوا مضمون حديث الامام الى هشام، وبعد عودة الناس من الحج اصدر هشام امره الى حاكم المدنية ان يشخص الى دمشق الامام
ص: 22
الباقر والامام الصادق عليهما السلام، فذهبا الى دمشق وكانت لهما مواقف مع هشام...
ومن ابرز الخدمات الجليلة التي قام بها الامام الباقر والامام الصادق عليهما السلام في تلك المرحلة التاريخية الحالكة هي نهضتهما العلمية لاحياء وحفظ معارف الاسلام وتربية علماء وفقهاء ملتزمين يشعرون بالمسؤولية حتى يتمكنوا من ترويج الدين والقرآن في اقصى نقاط البلاد الاسلامية من دون انحراف ومن دون ان يتطرق اليه تزویر بلاط الحكام، فتُحفظ احكام الدين ويُحال دون الانحرافات العقائدية ويُحرس الخط الاصيل للاسلام. ويعتبر هذا اللون من النضال اشد صعوبة _ من بعض الجهات _ من بعض الوان النضال الاخرى، حيث نلاحظ ان حكم بني امية الظالم اللااسلامي قد استمر طيلة قرن كامل، ومع ان الامويين حاولوا بكل جهودهم ان يعيدوا الامة الى الجاهلية، وقد حققوا بعض التقدم في هذا المجال حسب الظاهر، ولكنهم لم ينجحوا في تحطيم القواعد الأساسية للدين، وذلك بفضل جهود المتنا الكرام ودقة عملهم في تربية التلامذة والمؤهلين وبثّهم في المجتمع ليصبحوا مصدر الاشعاع والوعي والمعرفة الاسلامية بين الناس، فكان ذلك سدا منيعا في وجه الامويين، وبالتالي فقد فشل اعداء الاسلام في تحقيق غرضهم الاساسي وهو القضاء على جذور الاسلام.
* * *
وفي النهاية سقطت الدولة الأموية وحلّ بنو العباس محلّ الامويين... ويعود بنو العباس الى جدهم العباس بن عبد المطلب وهو عم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقد جمعوا الناس حولهم في البدء بعنوان المطالبة بدماء
ص: 23
شهداء كربلاء والنضال ضد ظلم الأمويين، وقد استغلوا حب الإيرانيين لآل علي (علیه السلام) ، واشاعوا انهم يريدون انتزاع السلطة من الأمويين وتسليمها الى من يليق بها، فاجتمعت مجموعة من الثوار و بمساعدة ابي مسلم الخراساني و بعض الايرانيين الطاحوا بحكم بني امية ولكنهم بدل ان يسلموا السلطة الى امام ذلك العصر وهو جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقد عضوا هم بالنواجذ ع-ل-ى زمام الامور. وكان بنو العباس يتظاهرون كثيراً بالاسلام، ويشيعون بين الناس انهم من آل النبي حتى يوحوا اليهم انهم الورثة الحقيقيون للنبي وانهم انسب الناس للخلافة الاسلامية، ولمّا كانوا اعرف الناس بمن هو أهل لهذا المنصب، فانهم مثل الطغاة السابقين راحوا يسلطون الضغوط المختلفة على الامام الصادق (علیه السلام) واصحابه وشيعته لحفظ سلطانهم، وحاولوا بكل الطرق المتوفّرة لهم ان يبعدوا المجتمع عن اهل بيت النبوة والامامة، حتى لا يفقدوا ما ظفروا به من حكومة وخلافة باسم القرابة من النبي وبالتظاهر بتطبيق الاسلام....
ومنذ انهيار الحكم الأموي عام (132) ه- وحتى وفاة الامام الصادق (ع) عام (148) ه- ، فقد تسلم زمام الحكم اثنان من خلفاء بني العباس وهما «ابو العباس السفاح» و «المنصور الدوانيق». فالسفا هو اول خليفة عباسي وقد استمر حكمه اربعة اعوام.والمنصور هو الخليفة الثاني وقد بقى في الحكم (22) عاما، بمعنى انه قد استمرت السلطة في قبضته بعد استشهاد الامام الصادق (علیه السلام) لمدة عشر سنوات.(1)
ص: 24
وقد عاش الامام الصادق عليه السلام خلال هذه الفترة ولاسيما تحت سيطرة حكومة المنصور معانياً من الضغوط الشديدة والمراقبة الدقيقة، حتى انه في كثير من الاحيان كانوا يحولون بينه وبين الاتصال بالناس.
يقول «هارون بن خارجة »: كان احد الشيعة بحاجة ماسة للسؤال من الامام الصادق (علیه السلام) عن صحة الطلاق ثلاث مرات في مجلس واحد، فذهب الى المحلة التي كان يسكن فيها الامام (علیه السلام) ولكنه وجد ان الخليفة العباسي قد منع مواجهة الامام (علیه السلام) ، فتحيّر في كيفية الوصول الى الامام (علیه السلام) ، وفي هذه الاثناء صادف احد الباعة الجوالين وهو يرتدي ثيابا رثة ويبيع الخيار، فاقترب منه واشترى منه كل ما لديه من خيار واستعار ثيابه ثم دنا الى منزل الامام متظاهراً بانه بائع للخيار، فناداه واحد من الخدم في منزل الامام بعنوان انه يريد ان يشتري من بضاعته، وبهذا العذر دخل الى البيت ولقي الامام (علیه السلام) ، فقال له الامام (علیه السلام) :
لقد تحايلت عليهم بحيلة جيدة! فما هي هي حاجتك؟
فطرح عليه سؤاله فأجابه الامام: ان ذلك الطلاق باطل...(1)
ولم يدخر المنصور الدوانيقي اتي جهد في التشدد والحاق الاذى بالامام واتباعه وسائر العلويين، وقد اقتفى بدقة نفس الاسلوب الأموي في هذا المجال، فألقى ب- «سدیر» و «عبدالسلام بن عبدالرحمان وجماعة آخرين من اصحاب الامام في غياهب
ص: 25
السجن، وقتل «المعلى بن خنيس» وهو من خيرة اصحاب الامام الصادق (علیه السلام) ، ونفى الى العراق «عبدالله بن الحسن» وهو من احفاد الامام الحسن (علیه السلام) ويعتبر من ابرز العلويين، ولم يكتف بهذا وانما القاه في السجن ثم قتله ...(1)
ومن ناحية اخرى فقد كان يحاول بمختلف الطرق لكسب حب الامة الاسلامية ورضاها حتى تتخيل انه في الواقع خليفة للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وامين على شريعته وظل الله في الارض وكان يصر على التجاهر بانه من اهل بيت النبي ويحتل بالمغالطة مكان الائمة والاوصياء الحقيقيين لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لانه يعلم مدى تعلق المسلمين بأهل بيت النبوة، وقد سبق هذا ايضا سوء استغلال بني العباس لعقيدة الناس هذه فرفعوا شعار الدفاع عن آل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واستطاعوا اكتساح بني امية من السلطة.
يقول المنصور في احدى خطبه وقد ألقاها يوم عرفة : ايها الناس! انا الملك الوحيد على وجه الارض من قبل الله ، وبتوفيق منه انا ادير اموركم، فأنا الامين على خزائن الله ، وبيت المال تحت تصرفي، ولهذا فاني اعمل حسب ارادته واقسمه كما يحب، واعطي منه باذنه، وقد جعلني الله قفلا لخزائنه، ومتى ما شاء فانه يفتح هذا القفل حتى يعطيكم منه !...(2)
ويقول في خطبة اخرى موجهة الى اهل خراسان: یا اهل خراسان!
ص: 26
ان الله قد اظهر حقنا، واعاد الينا ميراثن-ا (الخلافة) من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فاستقر الحق في مكانه واظهر الله نوره واعزّ اولياءه واهلك الظالمين....(1)
فالمنصور كان يحاول اضفاء القدسية على نفسه بهذه الاساليب من خداع العامة، وشخصيته الحقيقية لم تكن تختلف عن بني امية في السقوط والكفر والنفاق ولكنه يبذل غاية جهده لاخفائها خلف هذه العناوين المتصنّعة، وكان يجهد نفسه في جلب الموافقة الظاهرية للامام الصادق عليه السلام ولو بالتهديد والتضييق، حتى يحافظ على شرعيته امام اعين الناس ولكن الامام (علیه السلام) لم يكتف بعدم تأييده وانما فضح _ بكل الاساليب التي تيسرت له _ الهوية الواقعية له ولجميع بني العباس:
فقد سأل الامام احد اصحابه : ان بعض شيعتكم يعيش في ضيق و عسر، و يقترح عليه ان يبني لهم (بني العباس) بيتا أويشق لهم نهراً، و يأخذ على هذا اجراً، فما هو رأيكم في هذا العمل؟
فأجاب الامام (ع):
«انني لا احب ان اعقد لهم (لبني العباس) عقدة أو أخط لهم خطاحتى لو بذلوالي في مقابل ذلك اموالاً طائلة، لان من يعين الظالمين تنصب له يوم القيامة خيمة من النار حتى يحكم الله بين عباده».(2)
و يقول الامام (علیه السلام) في الفقهاء:
«ان الفقهاء امناء الانبياء، فان وجدتموهم متجهين نحو السلاطين (اي يختلطون مع الظالمين ويتعاونون معهم) فأسيئوا الظن بهم ولا
ص: 27
تطمئنوا اليهم».(1)
وكان الامام (علیه السلام) يصرح بمهاجمة المنصور في لقاءاته ومكاتباته، ففى مرة كتب اليه المنصور رسالة يقول فيها :
لماذا لا تأتي الينا مثل الآخرين؟
فكتب اليه الامام جوابا يقول فيه :
«ليس لدينا من حطام الدنيا شي حتى نخافك عليه، وليس لديك ايضا من المعنويات والآخرة شي حتى نأملك به، فلا انت في نعمة حتی نجيئك لنبارك لك ، ولا انت ترى نفسك في مصيبة وبلاء حتی نأتي اليك لنعزيك ونسليك ، فلأي شي نجيئك ؟!»
فكتب اليه المنصور:
تعال حتى تنصحنا :
فأجابه الامام:
«كل من كان من اهل الدنيا فانه لا ينصحك ، وكل من كان من اهل الآخرة فانه لا يأتي اليك »(2)
في يوم من الايام كان الامام في مجلس المنصور واخذت ذبابة تضايق المنصور وتؤذيه وكلما حاول ابعادها عن نفسه فانها كانت تعود لتحط على وجهه، فالتفت المنصور للامام منزعجاً قائلاً له :
لماذا خلق الله الذباب؟!
فأجابه الامام من دون ارتباك :
ص: 28
ليدل به الجبابرة».
فاهتز المنصور واطرق ساكتا متحيراً.(1)
يقول «عبدالله بن سليمان التميمي»:
عندما استشهد محمد وابراهيم وهما ولدان من اولاد عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام على ايدي الحكام العباسيين نصب المنصور الدوانيقي احد عملائه المسمى ب- شيبة بن غفال» والياً على المدينة، وجاء شيبة الى المدينة وخطب يوم الجمعه على المنبر في مسجد المدينة قائلا:
«ان علي بن ابي طالب قد اثار الاختلاف بين المسلمين وحارب اهل الايمان وكان يطلب الزعامة لنفسه ولا يتركها تصل الى اهلها ولكن الله حرمه من السلطة، وها هم اولاده بعده يسلكون طريقه في الفساد ويطلبون الحكم من دون ان تكون لهم اللياقة لذلك، ولهذا فانهم يقتلون في مختلف بقاع الارض ويتلطخون بدمائهم !».
فكبر كلام شيبة على انفس الناس ولكن احداً لم يستطع ان يقول له شيئا . وفي هذه الاثناء نهض رجل يرتدي ملابس صوفية وقال:
«اننا نحمد الله ونشكره و نصلي على محمد خاتم المرسلين وسيد الانبياء وعلى جميع الانبياء.
اما الحسنات التي ذكرتها فنحن اهل لها، واما السيئات التي جرت على لسانك فانك والمنصور اولى بها».
ص: 29
ثم التفت الى الناس قائلا:
«ألا أعلمكم بمن يكون ميزان اعماله يوم القيامة افرغ من الجميع وهو من الأخسرين؟ انه من باع آخرته بدنيا الآخرين، وهذا الوالي الفاسق من جملة هؤلاء اي انه باع آخرته بدنيا المنصور)...»
فهدأ الناس وخرج الوالي من المسجد من دون ان يرد بشي عليه. فسألت عن هذا الرجل الذي اسكت الوالي بهذه الحجة الداحضة؟ فقيل لي: انه الامام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام).(1)
ان زيداً هو ابن الامام الرابع زين العابدين عليه السلام، وهو شخصية اسلامية من الدرجة الاولى ومن ارفع الناس علماً وتقى
وفضيلة .
وقد نهض زيد في اوج ارهاب الحكم الاموي وقاتل بشجاعة واستشهد بشرف. وتعدّ حياته المضيئة وتقواه الفائقة ثم نهضته واستشهاده اكبر دليل على ما لقيه من تربية مستقيمة بين اهل بيت العصمة والامامة من ابيه واخيه.
ويجمع علماء الاسلام على عظمته وتقواه وعلمه وفضيلته. وقد اثنى ائمتنا (علیه السلام) في مجالات متعدّدة على فضيلة زيد وتقواه. وقد كانت عظمته كبيرة بحيث خصص لها الشيخ الصدوق رحمه الله بابا في كتابه «عيون اخبار الرضا ينقل فيه الروايات الواردة في هذا المضمار.(2)
ص: 30
يقول الشيخ المفيد:
«وكان زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام عين اخوته (اي شريفهم وسيدهم) بعد ابي جعفر عليه السلام وافضلهم وكان عابداً ورعا فقيها سخيا شجاعا وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».(1)
يقول ابو الجارود زياد بن المنذر :
«قدمت المدينة فجعلت كلما سألت عن زيد بن علي عليه السلام قيل لي ذاك حليف القرآن».(2)
يقول هشام: سألت خالد بن صفوان عن زيد بن علي عليه السلام وكان يحدثنا عنه فقلت این لقيته ؟ قال بالرصافة. فقلت اي رجل كان؟ فقال: كان كما علمت يبكي من خشية الله حتى يختلط دموعه مخاطه».(3)
«واعتقد كثير من الشيعة (الزيدية) فيه الامامة وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف يدعو الى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله، فظنّوه يريد بذلك نفسه، ولم يكن يريدها ب-ه لمعرفته باستحقاق اخيه عليه السلام للامامة من قبله ووصيته عند وفاته الى ابي عبدالله (الامام الصادق) (علیه السلام).(4)
ص: 31
سافر زيد بن علي الى الشام قاصداً هشام بن عبدالملك الاموي ليشكو اليه والي المدينة المسمى خالد بن عبدالملك ، ولكن هشاماً لم يستقبل زيداً احتقاراً له، فكتب اليه زيد كتابا يوضح فيه اعتراضه ومطالبته بالعدالة، فلم يعرها هشام اية اهمية، وعلق على هامشها ان هذه الرسالة تعود الى المكان الذي جاءت منه. فقال زيد:
«والله لن اعود»... وبقي فترة من الزمن في الشام حتى اضطر هشام ليعين له وقتا للقائه، وأو عز هشام الى جماعة من اهل الشام ان يحيطوا بزيد اثناء لقائه معه حتى لا يستطيع زيد الاقتراب من هشام.
وعندما دخل زيد الى مجلس هشام بدأ حديثه فوراً موجهاً الخطاب الى هشام:
«ليس بين عباد الله من هو ارفع من ان يُدعى الى التقوى، وليس هناك من هو احظ من ان يدعو الى التقوى، فأنا ادعوك الى التقوى فكن خائفا من الله ورعاً.»
فقال هشام بطريقة مهينة : «انك ترى نفسك اهلاً للخلافة وتأمل في الحصول عليها ، بينما انت لا تليق لها فلست سوى ولد لأمة».
فأجاب زید:
«ليس هناك منصب ارفع من النبوة، وبعض الانبياء مثل اسماعيل بن ابراهيم كان ابنا لأمة، ولو كانت هذه الامومة نقصاً لم يُبعث اسماعيل نبيا . فهل النبوة ارفع ام الخلافة؟ وعلاوة على هذا فمن كان آباؤه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلي بن ابي طالب (علیه السلام) فأي نقص يلحق به لو كانت والدته امة ؟!».
ص: 32
وعندما سمع هشام هذا الجواب نهض من هذا الجواب نهض من مكانه مغضبا وأمر باخراج زيد. وفي اثناء الخروج قال زيد:
«لم يكره قوم قط حرّ السيوف إلا ذلّوا».
ولمّا نُقل لهشام قول زيد عرف انه سوف يثور ضد الامويين، فقال هشام لاعضاء بلاطه :
انكم تتخيلون ان اهل هذا البيت (بيت امير المؤمنين علي عليه السلام) انقرضوا لعمري ان بيتاً فيه مثل «زيد» لم ينقرض !».
فرحل زيد من الشام الى الكوفة، وتجمع حوله الشيعة وبايعوه، وقد بايعه من الكوفة وحدها خمسة عشر الف ،رجل، وبايعه كثير من اهل المدائن والبصرة وواسط وخراسان والري والموصل وسائر المدن وعندئذ بدأ زيد نهضته.(1)
وبدأ القتال بين الجانبين ولكن اصحاب زيد تخاذلوا عنه وداسوا بيعته تحت اقدامهم وانصرفوا عن نصرته، إلا ان زيداً صمد في المعركة وقاتل قتال الابطال مع انه لم يصمد معه إلا القليل، وبالتالي فقد اصابه سهم في جبهته، وبعد عدة ايام نال الشهادة في سبيل الله . وقد كان استشهاد زيد في شهر صفر عام (120) او (121) للهجرة الشريفة.
وجاء بعض المحبين لزيد فدفنوا جسده ليلاً في نهر واجروا فيه الماء، ولكن الاعداء استطاعوا ان يكتشفوا مرقد زيد فنبشوا قبر ذلك الشهيد الجليل بحقارة ودناءة واستخرجوا جسده وقطعوا رأسه الشريف وفصلوه عن بدنه، وارسلوا برأسه الى هشام في الشام، وعلقوا جسده عاريا _ بأمر من هشام _ مصلوباً في مزبلة الكوفة، وبقي على اعواد المشنقة عدة اعوام
ص: 33
راية مرفوعة للشهادة، حتى امر هشام بالتالي ان ينزلوا جسده من علی المشنقة ثم احرقوه وذروا رماده في الهواء...(1)
«ولمّا قتل بلغ ذلك لابي عبدالله الصادق عليه السلام فحزن له حزنا عظما حتى بان عليه وفرق من ماله في عيال من اصيب معه من اصحابه الف دينار، روى ذلك ابوخالد الواسطي قال سلّم إلى ابوعبدالله عليه السلام الف دينار وامزني ان اقسمها في عيال من اصيب مع زید...»(2)
يقول فضيل الرسان:
«بعد استشهاد زيد ذهبت يوماً الى الامام (علیه السلام) فجرى حديث زيد فقال الامام:
«رحم الله زيداً لقد كان مؤمنا عارفا (اي معتقداً بامامتنا) عالماً صادقا، ولو كان قد انتصر لوفي بوعده، فهو يعلم لمن لابدان تسلّم الخلافة »(3) (بمعنى انه كان يناضل من اجل ان يصل الامام الصادق (علیه السلام) الى الخلافة، ولو كان قد حقق النصر لأعلن للناس من هو الخليفة الواقعي).
ويبدو من كلام الامام عليه السلام بوضوح تام ان نهضة زيد كانت من اجل استلام السلطة من الخلفاء الامويين الظلمة وتسليمها الى
الامام (علیه السلام) ، وان زيداً كان مؤمنا بامامة الباقر والصادق عليهما السلام.
ص: 34
قال الامام الثامن الرضا عليه السلام مخاطباً المأمون:
كان زيد من علماء آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقد غضب الله وصارع اعداء الله حتى نال الشهادة في سبيل الله، نقل لي ابي موسى بن جعفر عليهما السلام عن ابيه جعفر بن محمد (علیه السلام) انه كان يقول: رحم الله عمي زيداً فانه كان يدعوا الناس الى امامة آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولو كان قد انتصر لوفى بما دعا الناس اليه (اي اعطاء السلطة للامام الحق)، وقد شاورني في موضوع نهضته فقلت له ياعم ان كنت ترضى بان تقتل وتعلق على اعواد المشنقة فانهض».
فسأله المأمون : ألم يكن مدعيا للامامة؟
اجاب الامام: « كلا؟! و انما كان يدعو الناس الى امامة آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ».(1)
ينقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن زيد بن علي انه قال:
في كل زمان يوجد فرد من آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) هو الامام وحجة الله ، وفي زماننا هذا ابن اخي (جعفر بن محمد هو حجة الله، فكل من اتبعه فانه لا يضل وكل من خالفه فانه لا يهتدي»(2)
لقد استغل الامام الصادق الفرصة السانحة في اثناء السنين الاخيرة من حكم الامويين والاعوام الاولى من تسلط العباسيين حيث كان الامويون والعباسيون منشغلين بالصراع والنزاع وترتب على ذلك بعض
ص: 35
التخفيف من الارهاب، فوسّع الامام (علیه السلام) نشاطه العلمي الديني واصبحت المدينة مركزاً علميا يستفيد فيه آلاف الباحثين المشتاقين في مختلف التخصصات من مجلس الامام سلام الله عليه. فطارت شهرة الامام العلمية في البلاد الاسلامية، واصبح درسه حديث العام والخاص حتى في النقاط البعيدة من الوطن الاسلامي فجاء الطالبون للعلم والتقى من كل حدب وصوب ليكسبوا شيئا من بحر العلوم الالهية الحال في المدينة. وحتى ان بعض المفكرين من غير المسلمين قصدوا المدينة ليدخلوا مع الامام (علیه السلام) في حوار علمي. وتعد اجوبة الامام في محاوراته للفرق المختلفة واصحاب العقائد المتنوعة من اروع صفحات التاريخ العلمي للعهد الاسلامي الاول.
ويبدو ان اجوبة الامام كانت تتناسب مع الظروف من زمان وطريقة تفكير السائل ومدى استيعابه، ولهذا فان بعض اجوبته تبطل برهان المجادل فحسب وتدله على مواطن الضعف في دعواه، وبعضها يدفع السائل نحو التفكير والتعمق، بينما البعض الآخر مبنى على الأسس العلمية والفلسفية بصورة كاملة...
وذكر جميع اجوبة الامام (علیه السلام) ومحاوراته يحتاج الى كتاب ضخم ونحن نختار في هذا الفصل بعض النماذج القصيرة من اجوبة الامام وقد تم اختيارها بناء على وضوحها وسهولة فهمها من قبل الشباب المتعطش للحقيقة، ثم نعرّج على التعريف بالرسالة التي وجهها الامام الصادق (علیه السلام) الى «المفضل» في مجال التوحيد:
1_قال احمد بن محسن الميثمي : بن محسن الميثمي : كنت عند ابي منصور المتطبب فقال اخبرني رجل من اصحابي قال كنت انا وابن ابي العوجاء
ص: 36
وعبدالله بن المقفع (وهما من اصحاب المذهب الدهري في ذلك الزمان) في المسجد الحرام، فقال ابن المقفع ترون هذا الخلق _وأو مأبيده الى موضع الطواف _ مامنهم أحد اوجب له اسم الانسانية إلا ذلك الشيخ الجالس _ يعني اباعبدالله جعفر بن محمد عليهما السلام _ فأما الباقون فرعاع وبهائم. فقال له ابن ابي العوجاء:
وكيف اوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟!
قال:لاني رأيت عنده ما لم اره عندهم (من العلم والفضل والكرامة).
فقال له ابن ابي العوجاء لابد من اختبار ما قلت فيه منه .
قال : فقال له ابن المقفّع : لا تفعل فاني اخاف ان يفسد عليك مافي يدك (اي انه يعيدك عن عقيدتك في انكار الله والدين).
فقال: ليس ذا رأيك ولكن تخاف ان يضعف رأيك عندي في احلالك اياه المحل الذي وصفت.
فقال ابن المقفّع :اما اذا توهمت عليّ هذا فقم اليه وتحفّظ ما استطعت من الزلل ولا تثني عنانك الى استرسال فيسلمك الى عقال وسمه مالك او عليك ؟
قال : فقام ابن ابي العوجاء وبقيت انا وابن المقفع جالسين فما رجع الينا ابن ابي العوجاء قال: ويلك يا ابن المقفع ما هذا ببشر، وان كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ظاهراً ويتروح اذا شاء باطنا فهو هذا، فقال له : وكيف ذلك ؟
قال:جلست اليه فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال:
ان يكن الامر (اي الدين والايمان )على ما يقول هؤلاء (مشيراً
ص: 37
الى المسلمين الذين هم في حال الطواف ) _ وهو على ما يقولون _(اى ان الله والدين والآخرة هي الحق) اي اهل الطواف، فقد سلموا وعطبتم . وان يكن الامر على ما تقولون (اي ليس هناك اله ولا آخرة)، وليس كما تقولون فقد استويتم وهم (اي ان المسلمين المعتقدين بالدين لم يتورطوا في مهلكة لانه حتى لو فرضنا فرض المستحيل انه لا يوجد اله ولا آخرة كما يتصور الدهريون وانه ينتهي بالموت كلّ شي فلاحساب ولا كتاب فان المسلمين لم يخسروا شيئا وتصبح عاقبة الجميع واحدة).
فقلت له: يرحمك الله واي شي نقول واي شي يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحداً.
فقال : وكيف يكون قولك وقولهم واحداً؟ وهم يقولون:
ان لهم معاداً وثوابا وعقابا ويدينون بان في السماء الها وانها عمران وانتم تزعمون ان السماء خراب ليس فيها احد.
قال فاغتنمتها منه فقلت له :
ما منعه ان كان الامر كما يقولون ان يظهر لخلقه ويدعوهم الى
عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان ولم احتجب عنهم وارسل اليهم الرسل ؟ ولو باشرهم بنفسه كان اقرب الى الايمان به؟
فقال لي:
ويلك وكيف احتجب عنك من اراك قدرته في نفسك :
نشوءك ولم تكن وكبرك بعد صغرك ، وقوتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوتك ، وسقمك بعد صحتك ، وصحتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد حزنك ، وحبك بعد بغضك ، وبغضك بعد حبك ، وعزمك
ص: 38
بعد أناتك ، واناتك بعد عزمك ، وشهوتك بعد كراهتك ، وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاءك بعد يأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك بما لم يكن في وهمك وغروب ما انت معتقده عن ذهنك، وما زال يعدّد عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا ادفعها حتى ظننت انه سيظهر فيا بيني وبينه».(1)
2_ان عبدالله الديصاني لم يكن معتقداً بالله سبحانه فجاء يوماً الى بيت الامام الصادق (ع) فاستأذن عليه فأذن له فلما قعد قال له:
«يا جعفر بن محمد! دلّني على معبودي».
فقال له الامام (ع):
ما اسمك ؟
فخرج عنه ولم يخبره باسمه. فقال له اصحابه:
كيف لم تخبره باسمك ؟
قال : لو كنت قلت له : عبدالله، كان يقول :
من هذا الذي انت له عبد.
فقالوا له : عد اليه وقل له : يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمک.
فرجع اليه فقال له :
يا جعفر بن محمد دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي.
فقال له الامام (ع):
اجلس واذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها، فقال له
ص: 39
ابو عبد الله (علیه السلام) : ناولني يا غلام البيضة فنا وله اياها فقال له ابو عبد الله (علیه السلام) : يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها لا يدري للذكر خلقت ام للأنثى، تنفلق عن مثل الوان الطواويس أترى لها مدبراً ؟ قال :
فأطرق ملياً ثم قال : اشهد ان لا اله إلا الله وحده لا شريك له وان محمداً عبده ورسوله وانك امام وحجة من الله على خلقه وانا تائب مما كنت فيه».(1)
يقول هشام بن الحكم:
ان الامام الصادق (علیه السلام) قال للزنديق حين سأله عن الله سبحانه : «ما هو؟»
قال الامام (علیه السلام) : هو شي بخلاف الاشياء ارجع بقولي الى اثبات معنى وانه شي بحقيقة الشيئية اي انه شي موجود في الواقع غير انه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجسّ ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركة الاوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيّره الازمان فقال له السائل:
فتقول : انه سميع بصير؟
قال: هو سميع بصير سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه ليس :قولي انه سميع يسمع بنفسه وبصير يبصر
ص: 40
بنفسه انه شئ والنفس شئ آخر، ولكن اردت عبارة عن نفسي اذ كنتُ مسؤولاً وافهاماً لك اذ كنت سائلا، فأقول : انه سميع بكله ، لا ان الكل منه له بعض، ولكني اردت افهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلا الى انه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى .
قال له السائل : فما هو؟
قال ابو عبدالله (علیه السلام):
هو الرب وهو المعبود وهو الله . وليس قولي الله اثبات هذه الحروف. الف ولام وهاء، ولا راء ولا باء، ولكن ارجع الى معنى وشئ خالق الاشياء وصانعها ونعت هذه الحروف وهو المعنى سمي به الله والرحمان والرحيم والعزيز واشباه ذلك من اسمائه وهو المعبود جل وعز.
قال له السائل:
فانا لم تجد موهوماً إلا مخلوقا .
قال الامام (علیه السلام):
لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لانا لم نكلّف غير موهوم، ولكنّا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك به تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق، اذ كان النفى هو الابطال والعدم، والجهة الثانية: التشبيه اذ كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، فلم يكن بد من اثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار اليهم انهم مصنوعون وان صانعهم غيرهم وليس مثلهم اذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد اذ لم يكونوا
ص: 41
وتنقلهم من صغر الى كبر وسواد الى بياض وقوة الى ضعف واحوال موجودة لا حاجة بنا الى تفسيرها لبيانها ووجودها .
قال له السائل:
فقد حددته اذ اثبت وجوده.
قال له ابوعبدالله (علیه السلام):
لم احده ولكني اثبته اذا لم يكن بين النفي والاثبات منزلة .
قال له السائل:
فله انية ومائية ؟
قال : نعم لا يثبت الشيء إلا بانية ومائية.
قال له السائل:
فله كيفية ؟
قال : لا لان الكيفية جهة الصفة والاحاطة ولكن لابد من الخروج من جهة التعطيل (النفي والانكار) والتشبيه تشبيهه بغيره)، لان من نفاه فقد انكره ودفع ربوبيته وابطله ومن شبهه بغيره فقد اثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية، ولكن لابد من اثبات ان له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره.
قال السائل فيعاني الاشياء بنفسه ؟
قال ابو عبد الله (علیه السلام): هو اجل من ان يعاني الاشياء بمباشرة ومعالجة (اي القيام بالاعمال بواسطة البدن والاعضاء) لان ذلك صفة المخلوق الذي لاتجئ الاشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة، وهو متعال نافذ الارادة
ص: 42
والمشيئه ، فعّال لما يشاء» .(1)
ان كتاب «توحيد المفضّل» يضم مواضيع مهمة ونافعة في مجال خلق الانسان والعالم واثبات وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته، حيث بينها الامام الصادق عليه السلام للمفضل خلال اربعة مجالس وقد اذن الامام (علیه السلام) للمفضّل ان يكتبها .
وتعد هذه الرسالة _ التي ترجمها العلامة المجلسي وغيره من العلماء الى اللغة الفارسية(2) _مفيدة للجميع ، وتهم كل الباحثين والراغبين في الاطلاع على مسائل التوحيد والمتأملين في آيات العظمة الالهية.
والسيد بن طاووس يوصي ابنه في «كشف المحجة» بان يقرأ هذه الرسالة بعمق(3) ، ويقول في مجال آخر ان كل من يسافر لا بد له من مجموعة من الكتب ترافقه ومن اهمها توحيد المفضّل.(4)
ونتناول هنا هذه الرسالة باختصار ونذكر بعض فقرات منها بمقدار ما يسعه المجال:
يقول المفضل في مقدمة هذه الرسالة:
«كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر والمنبر وانا مفكر فيما خص الله تعالى به سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله من الشرف والفضائل وما منحه واعطاه وشرفه وحباه مما لا يعرفه الجمهور من
ص: 43
الامة وما جهلوه من فضله وعظيم ،منزلته، وخطير مرتبته ، فاني لكذلك اذا أقبل «ابن ابي العوجاء » (وهو من زنادقة ذلك الزمان ) فجلس بحيث اسمع كلامه فلما استقر به المجلس اذ رجل من اصحابه قد جاء فجلس اليه، فتكلم ابن ابي العوجاء بكلام يدور حول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)... ثم بعد هذا جرى الحديث عن مبدع العالم وخالقه وانتهى بهما المطاف الى انه لا خالق ولا مدبر لهذا العالم، وكل شي يجي من الطبيعة وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال !
يقول المفضل : فلم املك نفسي غضبا وغيظا وحنقا فقلت: يا عدو الله الح-دت في دين الله وانكرت الباري جل قدسه الذي خلقك في احسن تقويم وصورك في اتم صورة ونقلك في احوالك حتى بلغ الى حيث انتهيت.
فلو تفكرت في نفسك وصدقك لطيف حسك لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة وشواهده جل وتقدس في خلقك واضحة وبراهينه لك لائحه.
فقال يا هذا ان كنت من اهل الكلام (اي من اهل البحث في العقائد والمتمرسين في النقاش والجدل) كلمناك ، فان ثبتت لك حجة تبعناك ، وان لم تكن منهم فلا كلام لك ، وان كنت من اصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما افحش في خطابنا، ولا تعدى في جوابنا، وانه الحليم الرزين، العاقل الرصين لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق يسمع كلامنا، ويصغي الينا ويتعرف حجتنا ، حتى اذا استفرغنا ما عندنا وظننا انا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب
ص: 44
قصير، يلزمنابه الحجة ويقطع العذر، ولا نستطيع الجوابه رداً، فان كنت من اصحابه فخاطبنا بمثل خطابه .
يقول المفضل : فخرجت من المسجد محزونا مفكراً فيما بلي به الاسلام واهله من كفر هذه العصابة ،وتعطيلها، فدخلت على مولاي (الصادق) علیه السلام فرآني منكسراً، فقال مالك ؟ فأخبرته بما سمعت من الدهريين وبما رددت عليهما .
فقال : يا مفضّل لألقين عليك من حكمة الباري جل وعلا وتقدس اسمه في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام وكل ذي روح من الانعام والنبات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول من ذلك وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون ويسكن الى معرفته المؤمنون، ويتحيّر فيه الملحدون فبكر على غداً.
يقول المفضل : فانصرفت من عنده فرحاً مسروراً وطالت علي تلك الليلة انتظاراً لما وعدني به.
فلما اصبحت غدوت فاستئوذن لي فدخلت وقمت بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم نهض الى حجرة كان يخلو فيها ونهضت بنهوضه، فقال اتبعني فتبعته فدخل ودخلت خلفه، فجلس وجلست بين يديه :فقال يا مفضّل كأني بك وقد طالت عليك هذه الليلة انتظاراً لما وعدتك ، فقلت اجل يا مولاي فقال يا مفضل ان الله تعالى كان ولا شي قبله، وهو باق ولا نهاية له فله الحمد على ما الهمنا والشكر على ما منحنا، فقد خصنا من العلوم بأعلاها، ومن المعالي بأسناها واصطفانا على جميع الخلق بعلمه وجعلنا مهيمنين عليهم بحكمه، فقلت يا
ص: 45
مولاي أتأذن لي ان اكتب ما تشرحه _ وكنت اعددت معي ما اكتب فيه _ فقال لي: افعل يا مفضل.
ان الشكاك جهلوا الاسباب والمعاني في الخلقة، قصرت افهامهم عن تأمل الصواب والحكمة فما ذرأ الباري جل قدسه وبرأمن صنوف خلقه في البر والبحر والسهل والوعر فخرجوا بقصر علومهم الى الجحود وبضعف بصائرهم الى التكذيب والعنود حتى انكروا خلق الاشياء وادعوا ان تكنوها بالاهمال لا صنعة فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبر ولا صانع، تعالى الله عما يصفون وقاتلهم الله اني يؤفكون، فهم في ضلالهم وغيهم وتجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقى بناء واحسنه وفُرشت بأحسن الفرشى وأفخره واعد فيها ضروب الاطعمة والاشربة والملابس والمآرب التي يحتاج اليها ولا يستغنى عنها، ووضع كل شي من ذلك موضعه على صواب من التقدير وحكمة من التدبير فجعلوا يترددون فيها يميناً وشمالا ويطوفون بيوتها ادباراً واقبالا، محجوبة ابصارهم عنها ، لا يبصرون بنية الدار وما اعد فيها وربما عثر بعضهم بالشئ الذي قد وضع موضعه واعد للحاجة اليه وهو جاهل للمعنى فيه ولما اعد ولماذا جعل كذلك ! فتذمّر وتسخط وذم الدار وبانيها .
فهذه حال هذا الصنف في انكارهم ما انكروا من امر الخلقة وثبات الصنعة. فانهم لما عزبت اذهانهم عن معرفة الاسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى ، فلا يفهمون ما هو عليه من اتقان خلقته وحسن صنعته وصواب ،هیئته، وربما وقف بعضهم على الشئ يجهل سببه والأرب فيه فيسرع الى ذمه ووصفه بالاحالة والخطأ...»
ص: 46
ويواصل الامام (ع) حديثه ببيان كيفية خلقة الانسان والحكم المتنوعة الكامنة فيها والنعم الالهية المتعلقة بها، ونكتفي بهذا المقدار من المجلس الاول رعاية للاختصار، لننتقل الآن لذكر فقرات من المجلس الثاني.
يا مفضّل... تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات اسنان حداد و براثن شداد و اشداق وافواه واسعة فانه لما قدر ان يكون طعمها اللحم خلقت خلقة تشاكل ذلك واعينت بسلاح وادوات للصيد، وكذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير ومخالب مهيئة لفعلها ، ولوكانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد اعطيت ما لاتحتاج اليه، لانها لا تصيد ولا تأكل الحم، ولو كانت السباع ذوات اظلاف كانت قد منعت ما تحتاج اليه أعني السلاح الذي تصيد به وتتعيش. أفلا ترى كيف اعطى كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته. بل ما فيه بقاؤه وصلاحه.
انظر الآن الى ذوات الاربع كيف تراها تتبع امهاها مستقلة بأنفسها لاتحتاج الى الحمل والتربية كما تحتاج اولاد الانس، فمن اجل انه ليس عند امهاتها ما عند امهات البشر من الرفق والعلم بالتربية والقوة عليها بالأكف والاصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها وكذلك ترى كثيراً من الطير كمثل الدجاج والدرّاج والقبج تدرج وتلقط حين تنقاب عنها البيضة. فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه ، كمثل فراخ الحمام واليمام والحمر فقد جعل في الامهات فضل عطف عليها ، فصارت تمج الطعام في افواهها بعدما توعيه
ص: 47
حواصلها، فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها، ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج، التقوى الام على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت فكلا اعطى بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير...».
«.. وانبئك عن الهواء بخلة اخرى، فان الصوت أثر يؤثره اصطكاك الاجسام في الهواء، والهواء يؤديه الى المسامع، والناس يتكلمون في حوائجهم ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم، فلوكان اثر هذا الكلام يبقى في الهواء، كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه فكان يكرهم ويقدحهم ، وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال به الى اكثر مما يحتاج اليه في تجديد القراطيس، لان ما يلفظ من الكلام اكثر مما يكتب فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه هذا الهواء قرطاساً خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم، ثم يمحى فيعود جديداً نقيّا، ويحمل ما حمل ابداً بلا انقطاع، وحسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة وما فيه من المصالح فانه حياة هذه الابدان والممسك لها من داخل بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه، وفيه تطرد هذه الاصوات فيؤدي البعد البعيد. وهو الحامل لهذه الارواح ينقلها من موضع الى موضع ... ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح، فكذلك الصوت، وهو القابل لهذا الحر والبرد اللذين يتعاقبان على العالم الصلاحه، ومنه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الاجسام وتزجي السحاب من موضع الى موضع ليعم نفعه حتى يتكثف فيمطر، وتفضه حتى يستخف فيتفشى، وتلقح الشجر، وتسير السفن، وترخي
ص: 48
الاطعمة وتبرد وتشب النار وتجفف الاشياء الندية، وبالجملة انها تحيي كل ما في الارض... فلولا الريح لذوى النبات ولمات الحيوان وحمت الاشياء وفسدت».
«... فكر في ضروب من التدبير في الشجر، فانك تراه يموت في كل سنة موتة فتحتبس الحرارة الغريزية في عوده، ويتولد فيه مواد الثمار ثم يحيى وينتشر فيأتيك بهذه الفواكه نوعاً بعد نوع، كما تقدم اليك انواع الأطبخة التي تعالج بالايدي واحداً بعد واحد، فترى الاغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد، وترى الرياحين تتلقاك في أفنانها كأنها تجيئك بأنفسها، فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم ، وما العلّة فيه إلا تفكيه الانسان بهذه الثمار والانوار ؟ والعجب من اناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها. واعتبر بخلق الرمانة وما ترى فيها من اثر العمد والتدبير فانك ترى فيها كأمثال التلال، من شحم مركوم في نواحيها وحب مرصوف صفاً كنحو ما ينضد بالأيدي. وترى الحب مقسوماً اقساماً، وكل قسم منها ملفوفاً بلفائف من حجب منسوجة أعجب النسج والطفه، وقشره يضمّ ذلك كله.
فمن التدبير في هذه الصنعة انه لم يكن يجوز ان يكون حشو الرمانة من الحب ،وحده وذلك لان الحب لا يمدّ بعضه بعضا ، فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمده بالغذاء، ألا ترى ان اصول الحب مركوزة في ذلك الشحم ، ثم لق بتلك اللفائف لتضمه وتمسكه فلا يضطرب، وغشى فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه وتحصنه من الآفات، فهذا قليل من كثير من وصف الرمانة، وفيه اكثر من هذا لمن اراد الاطناب والتذرع في الكلام، ولكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة والاعتبار».
ص: 49
«قد شرحت لك يا مفضّل من الأدلة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد في الانسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر وانا اشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الازمان التي اتخذها اناس من الجهال ذريعة الى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير، وما انكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب وما انكروه من الموت والفناء وما قاله اصحاب الطبائع، ومن زعم ان كون الاشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك القول في الردّ عليهم قاتلهم الله اني يؤفكون.
اتخذ اناس من الجه-ال ه-ذه الآفات الحادثة في بعض الازمان_ كمثل الوباء واليرقان والبرد والجراد_ذريعة الى جحود الخالق والتدبير والخلق، فيقال في جواب ذلك : انه ان لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو اكثر من هذا وافظع ؟ فمن ذلك ان تسقط السماء على الارض، وتهوي الارض فتذهب سفلا تتخلف الشمس عن الطلوع اصلاً، وتجف الانهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة، وتركد الريح، حتى تخم الاشياء وتفسد، ويفيض ، ماء البحر على الارض فيغرقها، ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما اشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد حتى تجتاح كل ما في العالم، بل تحدث في الاحايين ثم لا تلبث ان ترفع افلا ترى ان العالم يصان ويحفظ م-ن ت-ل-ك الاحداث الجليلة التي لوحدث عليه شي منها كان فيه بواره ويلذع احيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم، ثم لا تدوم هذه الآفات، بل تكشف عنهم عند القنوط منهم ، فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة .
ص: 50
(1)وقد انكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس، فكلاهما يقول : ان كان للعالم خالق رؤوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الامور المكروهة... والقائل بهذا القول يذهب الى انه ينبغي ان يكون عيش الانسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر ، ولو كان هكذا كان الانسان يخرج من الاشر والعتو الى ما لا يصلح في دين ولا دنيا كالذي ترى كثيراً من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون اليه حتى ان احدهم ينسى انه بشر وانه مربوب أو أن ضرراً يمسه او ان مكروها ينزل به او انه يجب عليه ان يرحم ضعيفا، أو يواسي فقيراً أو يرثي لمبتلى او يتحنَّن على ضعيف أو يتعطف على مكروب، فاذا عضته المكاره ووجد مضضها اتعظ وابصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ، عنه، ورجع الی كثير مما كان يجب عليه.
والمنكرون لهذه الامور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الادوية المرّة البشعة، ويتسخطون من المنع من الاطعمة الضارة، ويتكرهون الأدب والعمل، ويحبّون ان يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كل مطعم ومشرب، ولا يعرفون ما تؤديهم اليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الاطعمة اللذيذة الضارة من الادواء والاسقام، وما لهم في الادب من الصلاح وفي الادوية من المنفعة، وان شاب ذلك بعض الكراهة ...»
لا شك ان ائمتنا الطاهرين _ الذين هم حقا اوصياء النبي الكريم
ه -
ص: 51
صلى الله عليه وآله وسلم و وارثي العلوم الالهية _ يتمتعون بميزات خاصة وهبها الله سبحانه للأنبياء واوليائه الخاصين. ومن تلك الميزات الارتباط بخالق الكون والتمتع بعلوم غيبية معينة لا ترتفع اليها الاوهام والخيال، وهي بعيدة عن الكذب وعدم الصحة كما هو شأن الوحي للأنبياء، مع فرق واحد وهو ان الائمة والاوصياء لم يكونوا انبياء ولم يأتوا بدين جديد وانماهم مبلغون وحافظون لدين النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهم قادة الامة ، وذلك كما قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لعلي امير المؤمنين:
«انت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لابني بعدي».
وقد وردت في الروايات الاسلامية نماذج كثيرة من هذا العلوم التي هي فوق القدرة العادية لكل واحد من ائمتنا (علیه السلام) بحيث لا تبقي لدى اي مسلم واع غير مريض القلب اي شك في ان هؤلاء الكرام معتمدون على علم الهي عميق وكلما حانت الفرصة وكان من الصالح الكشف فانهم يكشفون جانبا من معلوماتهم الغيبية من اجل هداية الاتباع.
ونذكرهنا بعض النماذج للعلوم الغيبية للامام الصادق:
1_بعد ان استشهد زيد بن علي عليهما السلام فريحيى _ وهو الابن الاكبر لزيد الى ايران متخفيا، وبعد مرور فترة من الزمن جمع حوله مجموعة من المريدين ثم ثار على الخليفة الاموي، وقاتل بشجاعة قليلة النظير ثم استشهد بشرف ورجولة، وقد صُلب جسده كما فعلوا بأبيه زيد وبقي معلّقاً على المشنقة سنين حتى نهض ابومسلم فأنزل جسد يحيى من المشنقة ودفنه باحترام وتكريم.
وفي خلال الايام التي كان يحيى يتحرك فيها نحو خراسان واجه شخصا من الشيعة يسمى «المتوكل بن هارون» وقد كان عائداً من سفر
ص: 52
الحج الذي لقي فيه الامام الصادق (علیه السلام) في المدينة.
يقول المتوكل : سلمت عليه، فسألني: من اين انت قادم؟
قلت من الحج. فسألني عن احوال اهل بيته وابناء عمومته وعن وضع الامام الصادق (علیه السلام) ، فأخبرته مما اعلم وبينت له ما اعتراهم من حزن وغم اثر استشهاد والده زيد.
فقال : هل لقيت ابن عمي جعفر بن محمد عليه السلام؟
قلت : نعم .
قال: هل تحدث عن شي حولي؟
قلت : نعم .
قال : اذكر لي ما قاله عني.
قلت: لست احب ان او اجهك بما سمعته من الامام (علیه السلام).
قال: أبالموت ترهبني؟! قل ما سمعت.
قلت: ان الامام يقول انك سوف تقتل ايضا وسوف تعلق _ مثل ابيك - على المشنقة...».
وبعد حديث استمر قليلا اخرج يحيى نسخة من الصحيفة السجادية كانت ترافقه فأودعها عند المتوكل واوصاه ان يوصلها الى بعض اهله في المدينة ثم قال:
«والله لو لم يقل ابن عمي الصادق عليه السلام انني سوف اقتل وتعلّق جثتي على المشنقة لما اودعتك هذه الصحيفة... لكني اعلم ان قوله حق وقد استقاه من آبائه عليهم السلام». (1)
ص: 53
ولم يمرّ وقت طويل حتى تحقق ما قاله الامام الصادق (علیه السلام) عنه.
2_يقول صفوان بن يحيى عن جعفر بن محمد بن الاشعث قال:«قال لي: أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الامر (اي التشيع) ومعرفتنا به؟ وما كان عندنا منه ذكر ولا معرفة شي مما عند الناس. :قال قلت له ما ذاك ؟ قال ان ابا جعفر _ يعني ابا الدوانيق _ (المنصور الدوانيقي) قال لابي، محمد بن الاشعث، يا محمد ابغ لي رجلاً له عقل يؤدي عني فقال له ابي قد اصبته لك هذا فلان بن مهاجر خالي: قال : فاتني به. قال فأتيته بخالي فقال له ابوجعفر: يا ابن مهاجر خذ هذا المال وأت المدينة وأت عبد الله بن الحسن بن الحسن وعدة من اهل بيته فيهم جعفر بن محمد فقل لهم : اني رجل غريب من اهل خراسان و بها شيعة من شيعتكم وجهوا اليكم بهذا المال، وادفع الى كل واحد منهم على شرط كذا وكذا ، فاذا قبضوا المال فقل : اني رسول وأحب ان يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم فأخذ المال واتى المدينة فرجع الى ابي الدوانيق ومحمد بن الاشعث عنده فقال له ابوالدوانيق ما وراءك ؟ قال اتيت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمد، فاني اتيته وهو يصلي في مسجد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فجلست خلفه وقلت حتى ينصرف فاذكر له ما ذكرت لأصحابه، فعجّل وانصرف، ثم التفت الى :فقال يا هذا اتق الله ولا تغرّ اهل بيت محمد فانهم قريب العهد بدولة بني مروان وكلهم محتاج فقلت : وما ذاك اصلحك الله؟ قال: فأدنى رأسه مني واخبرني بجميع ماجرى بيني وبينك كأنه كان ثالثنا. قال: فقال له :ابوجعفر یا ابن مهاجر اعلم انه ليس من اهل بيت نبوة إلا وفيه محدّث وان جعفر بن محمد محدثنا اليوم، وكانت هذه الدلالة سبب
ص: 54
قولنا بهذه المقالة».(1)
3_يقول ابوبصير: سمعت ابا عبدالله (علیه السلام) يقول وقد جرى ذكرالمعلى بن خنيس فقال يا ابا محمد اكتم علي ما اقول لك في المعلى. قلت: افعل. فقال: اما انه ما كان ينال درجتنا الا بما كان ينال منه داوود بن علي، قلت: وما الذي يصيبه من داوود؟ قال: يدعو به فيأمر به فيضرب عنقه ويصلبه وذلك من ،قابل، فلما كان من قابل ولي داوود المدينة فدعا المعلى وسأله عن شيعة ابي عبدالله فكتمه. فقال: أتكتمني اما انك ان كتمتني قتلتك . فقال المعلى : أبا لقتل تهددني والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم وان انت قتلتني لتسعدني ولتشقين. فلما اراد قتله قال المعلى : اخرجني الى الناس فأن لي اشياء كثيرة حتى اشهد بذلك ، فأخرجه الى السوق فلما اجتمع الناس قال : ايها الناس اشهدوا ان ما تركت من مال عين أو دين أو أمة أو عبد أو دار أو قليل أو كثير فهو لجعفر بن محمد فقتل».(2)
4_يقول علي بن حمزة كان لي صديق من كبار بني امية فقال لي: استأذن لي على ابي عبدالله فاستأذنت له فلما دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً واغمضت في مطالبه، فقال ابوعبدالله : لولا ان بني امية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما
ص: 55
سلبونا حقنا ولو تركهم الناس وما في ايديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في ايديهم، فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي من مخرج منه؟ قال: ان قلت لك تفعل ؟ قال افعل قال : اخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم فمن عرفت منهم رددت عليه ما له ومن لم تعرف تصدقت به وانا اضمن لك على الله الجنة.
قال: فأطرق الفتى طويلا فقال : قد فعلت جعلت فداك . قال ابن ابي حمزة فرجع الفتى الى الكوفة فما ترك شيئا على وجه وجه الارض الاخرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه. قال فقسمنا له قسمة واشترينا له ثيابا وبعثنا له بنفقة قال فما اتى عليه اشهر قلائل حتى مرض فكنا نعوده. قال فدخلت عليه يوماً وهو في السياق ففتح عينيه ثم قال: يا علي وفى والله صاحبك . قال : ثم مات فولينا امره فخرجت حتى دخلت على ابي عبدالله فلما نظر الي قال: يا علي وفينا لصاحبك قال فقلت: صدقت جعلت فداك هكذا قال لي والله عند موته».(1)
5_يقول سدير الصير في: دخلت على ابي عبدالله وقد اجتمع على مالي بيان فأحببت دفعه اليه وكنت حبست منه ديناراً لكي أعلم اقاويل الناس فوضعت المال بين يديه فقال لي: يا سدير خنتنا ولم ترد بخيانتك ايانا قطيعتنا :قلت جعلت فداك وما ذلك ؟ قال : اخذت شيئا من حقنا لتعلم كيف مذهبنا قلت صدقت جعلت فداك انما اردت ان اعلم قول اصحابي . فقال :لي اما علمت ان كل ما يحتاج اليه نعلمه وعندنا ذلك اما سمعت قول الله تعالى وكل شي احصيناه في
ص: 56
امام (مبین اعلم ان علم الانبياء محفوظ في علمنا مجتمع عندنا وعلمنا من
علم الانبياء فاين يذهب بك ؟ قلت صدقت جعلت فداك»(1)
كما ذكرنا من قبل فان الحكام الامويين والعباسيين كانوا يراقبون ائمتنا الكرام بدقة وعنف ويضبطون تحركاتهم، وحتى انهم في بعض الاحيان يحولون دون اتصال الناس بهم، وفي نفس الوقت فانه بسبب الضعف وشدة الصراعات والانشغالات التي ابتليت بها حكومة بني امية في اواخر عهدهم وحكومة بني العباس في اوائل تسلطهم فقد استغل هذه الفرصة السانحة المحبون والمريدون ليستفيدوا من مجلس الامام الباقر والامام الصادق عليهما السلام وينالوا شيئا من علومهما .
وان شوق الباحثين وطلاب الدين للاستفادة من ثمار علوم الائمة عليهم السلام كان شديداً الى الحد الذي لم يتوقف عند هذه الفرصة المواتية وانما كانوا يوصلون انفسهم الى الامام (علیه السلام) في اصعب ظروف الارهاب والقسوة بشكل أو بآخر بأية صورة ممكنة ليحققوا رغبتهم في اقتطاف عنقود من شجرة كمالاتهم...
وقد تربى في مدرسة الامام الصادق تلامذة كثيرون اكتسبوا العلوم والمعارف الاسلامية في مختلف المجالات ونقلوها بدورهم الى من يتلقاها منهم، ويذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب الرجال اسماء ما يناهز اربعة آلاف را و وطالب اكتسبوا العلم أو رو واعن الامام الصادق (علیه السلام) ،
ص: 57
ولكي نكرّم منزل-ة هؤلاء الرفيعة ونقدر جهودهم في سبيل نقل العلوم والمعارف الاسلامية الى الاجيال اللاحقه نذكرهنا باختصار ثلاثة من اولئك الافذاذ :
1_حمران بن اعين الشيباني:
ان عائلة ابن اعين هي بصورة عامة من خواص شيعة الائمة عليهم السلام ومن العاشقين لأهل بيت الرسالة، وقد كان حمران واخوه زراة كلاهما من المع الشخصيات الشيعي-ة وم-ن ابرز علماء وفقهاء عصرهما ومن اقرب اصحاب الامام الباقر والامام الصادق عليهما السلام.
يقول الامام الصادق (علیه السلام): ان حمران بن اعين رجل ذو ايمان ووالله انه لن يرجع عن دينه. ويقول ايضا ان حمران من اهل الجنة.(1)
يقول زرارة : جئت الى المدينة في ايام شبابي وحضرت موسم الحج في منى وذهبت الى خيمة الامام الباقر عليه السلام فسلمت عليه فردّ علي السلام، وعندما جلست بين يديه قال (علیه السلام) هل انت من ابناء اعين؟
قلت: نعم انا زرارة بن اعير
قال: عرفتك بالتشبيه. فهل جاء الى الحج اخوك حمران؟
قلت كلا، إلا انه يبلغك السلام.
قال: انه من المؤمنين الواقعيين الذين لن يرجعوا عن دينهم اطلاقا، فاذا لقيته فأبلغه سلامي.(2)
ص: 58
يقول حمران نفسه : قلت للامام الباقر عليه السلام:
هل انا من شيعتكم؟
قال : نعم انك والله من شيعتنا في الدنيا والآخرة... (1)
يقول اسباط بن سالم : قال موسى بن جعفر عليهما السلام: ينادى في القيامة اين الحواريون _ الاصحاب المقربون _ لرسول الله محمد بن عبدالله صلى عليه وآله الذين لم ينقضوا عهدهم وقد رحلوا عن هذه الدنيا وهو برفقتهم ؟
فينهض سلمان و ابوذر والمقداد.
ثم يدعى بالاصحاب المقربين وخاصة كل واحد من الائمة (علیه السلام) فينهض افراد معينون حتى يصل الدور فيدعى اصحاب الامام الخامس والامام السادس فينهض:
عبدالله بن شریک العامري وزرارة بن اعين وبريد بن معاوية ومحمد بن مسلم وابو بصير المرادي وعبدالله بن ابي يعفور وعامر بن عبدالله وحجر بن زايدة وحمران بن اعين.(2)
يقول صفوان: كان حمران يجالس اصحابه ويروي دائماً عن الائمة (علیه السلام) وان نقل مجالسوه حديثاً عن غير الائمة (علیه السلام) فانه لا يقبله، وان تكرر هذا الامر (نقل الحديث عن غيرهم) ثلاث مرات ولم يلتفتوا الى اعتراضه فانه كان يغادر ذلك المجلس.(3)
ص: 59
يقول يونس بن يعقوب كان حمران يعرف علم الكلام (العقائد) بصورة جيدة.(1)
يقول هشام بن سالم:
كنا انا ومجموعة من اصحاب الامام الصادق عليه السلام جالسين بين يدي الامام فدخل علينا رجل من اهل الشام... فقال له الامام ماذا ترید؟
قال: سمعت انك تعلم كل ما تُسأل به، ولهذا جئت اليك لا فتح معك حواراً.
قال الامام: حول اي شي ؟
قال : حول القرآن.
فأعاده الامام الى «حمران».
فقال : انا جئت لا حاورك انت لا حمران !
فقال الامام : ان انت تغلبت على حمران فقد انتصرت عليّ . فالتفت الرجل الشامي الى حمران، وكلما سأله عن شي سمع منه جوابا
حتى عجز. فسأله الامام:
كيف وجدت حمران؟
اجاب: استاد ماهر، فقد أجابني على كل ما سألته....(2)
2_عبدالله بن ابي يعفور:
وهو من خاصة اصحاب الامام الصادق (ع) وقد كان متقدماً في
ص: 60
درجات المعرفة لمنزلة الامامة بحيث لم يُلحظ عليه سوى الطاعة والا تباع للامام.
وقد قال للامام مرة:
لو قسمت رمانة الى قسمين وق-ل-ت ه-ذا النصف حرام وذاك النصف الآخر حلال لشهدت على ان ما اعتبرته حلالاً فهو حلال وان ماعددته حراماً فهو حرام. فقال له الامام يرحمك الله كررها مرتين.(1)
وقد ابتلي عبدالله بمرض خاص كان يشتد عليه احياناً، واجيز له تناول الشراب لتسكين ذلك الداء.
فجاء الى الامام (علیه السلام) واخبره ب-دائ-ه وما وصف له من دواء وأوضح له انه ان تناول الشراب فسوف يسكن الداء فوراً.
فقال الامام الشراب حرام فلا تذقه ابداً. انه الشيطان يحاول_بعنوان علاج المرض _أن يدفع بك الى معاقرة الخمرة، فان عصيته يأس منك وكفّ عنك .
فعاد ابن ابي يعفور الى الكوفة فاشتد عليه مرضه اكثر مما سبق فجاء اهله بالخمر له فقال :
«والله لن اتناول منه حتى قطرة واحدة».
فبقي على فراش المرض عدة ايام وتحمّل آلام المرض حتى عافاه الله منه الى الى الاخير.(2)
وقد توفي ابن ابي يعفور في عصر الامام الصادق عليه السلام فكتب الامام رسالة الى المفضل بن عمر يقول فيها :
ص: 61
يا مفضل عهدت اليك عهدي كان الى عبدالله بن ابي يعفور صلوات الله عليه (رضي الله عنه) فمضى صلوات الله عليه (رضي الله عنه) موقنا الله ولرسوله ولامامه بالعهد المعهود الله وقبض صلوات الله على روحه محمود الأثر مشكور السعي مغفوراً له مرحوماً برضاء الله ورسوله وامامه عنه بولادتي من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ما كان في عصرنا احد اطوع الله ولرسوله ولامامه منه فما زال كذلك حتى قبض الله اليه برحمته وصيره مساكناً فيها مع رسول الله (صلعم) وامير المؤمنين صلوات الله الى جنته عليهما انزله الله بين المسكنين مسكن محمد وامير المؤمنين صلوات الله عليهما وان كانت المساكن واحدة والدرجات واحدة فزاده الله رضا من عنده ومغفرة من فضله الرضاي عنه .(1)
3_المفضل بن عمر الجعفي:
وهو من كبار اصحاب الامام الصادق وخاصته، واحد الفقهاء الكبار وهو ثقة. كان يعد من المقربين للامام وقد تصدى لبعض الامور في زمانه (علیه السلام)(2)
وقصد المدينة مجموعة من الشيعة وهي تطلب من الامام الصادق (علیه السلام) ان يدلهم على شخص يرجعون اليه عند الحاجة في شؤونهم الدينية والاحكام الشرعية، فقال الامام كل من كان له سؤال فليأت الي وليسأ لني ثم يعود.
ص: 62
فألحوا عليه ان يعين لهم شخصاً ايضاً فقال:
عينت لكم المفضل فاقبلوا منه ما يقول، لانه لا يقول غير الحق...(1) وقد عقد الامام الصادق (علیه السلام) عدة جلسات لدروس خاصة في التوحيد القاها على المفضل وقد جمعت في كتاب يعرف بتوحيد المفضل وقد تعرضنا لذكره سابقا وذكرنا مقتطفات منه. وهذه الدروس شاهد آخر على العناية الخاصة للامام بالمفضل ودليل على علو مكانته عند الامام (علیه السلام).
وكان المفضّل يتمتع بمكانة رفيعة عند الامام الصادق (علیه السلام) بحيث ان الامام قال له مرة:
«والله انني لأحبك واحب ايضا من يحبك ...»(2)
ويقول الامام الكاظم (علیه السلام) في حق المفضل :
ان المفضل مؤنسي وموجب راحتي.(3) وعندما توفي المفضّل قال (علیه السلام): رحمه الله لقد كان اباً بعد الأب، والآن استراح واطمئن بالاً .(4)
ان الخليفة العباسي الظالم «المنصور الدوانيقي» وهو من ارذل خلفاء بني العباس واكثرهم ظلماً وقسوة قد سلط على الامام رقابة شديدة
ص: 63
بواسطة عماله وجواسيسه وقد استدعاه اليه عدة مرات للايذاء وحتى انه عرضه للموت لكنه لمالم يكن الموت مقدراً عليه فانه لم يستطع تنفيذ نيته الخبيثة.
ينقل الامام السابع الكاظم عليه السلام انه ذات يوم استدعى المنصور والدي حتى يقتله وقد اعد لذلك عدته من سيف وغيره واوصى الربيع - وهو من اعضاء بلاطه _ بانه اذا دخل جعفر بن محمد وتحدثت معه ثم صفقت بيدي فعليك ان تضرب عنقه.
فلما دخل الامام عليه، وبمجرد ان وقعت عينا المنصور على الامام نهض من مكانه من دون ارادة ورحب ب-ه، وابدى له انني جئت بك الى هنا لأؤدي عنك ديونك...
ثم سأله بابتشار عن احوال اهله ومتعلقيه، ثم التفت الى الربيع وقال له : اعد جعفر بن محمد الى اهله الى اهله بعد ثلاثة ايام...(1)
إلا ان المنصور لم يستطع ان يتحمّل وجود الامام الذي طارصيت امامته وقيادته ليعم ابعد النقاط في البلاد الاسلامية ولهذا فقد اقدم على دس السم له في شهر شوال عام (148) ورحل الامام (علیه السلام) عن هذه الدنيا في الخامس والعشرين من شوال وقد كان عمره الشريف آنذاك خمساً وستين عاماً، وقد دفن جثمانه الكريم في البقيع الى جانب والده العظيم.(2)
وما اروع قول الشاعر المجاهد الشيعي ابي هريرة العجلي في مأتم
ص: 64
الامام (علیه السلام) حيث يقول باكياً:
اقول وقد راحوا به يحملونه على كاهل من حامليه وعاتق
اتدرون ماذا تحملون الى الثرى تبيراً ثوى من رأس علياء شاهق
غداة حتى الحاثون فوق ضريحه ترابا وأولى كان فوق المفارق(1)
اجل لا شك ان تاريخ الانسان والاسلام فقد باستشهاد الامام العظيم صادق آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) جوهرة ثمينة، بحيث لولم يأت بعده الائمة الستة من نسله لقلنا من دون ترديد ان هذا العالم عقيم عن تربية رجل مثله حتى يوم القيامة... صلوات الله عليه والملائكة
والمؤمنين والصالحين.
يقول ابوبصير وهو من اكبر اصحاب الامام الصادق عليه السلام:
بعد ارتحال الامام الى الملأ الا على ذهبت الى بيت الامام (علیه السلام) لأعزي زوجته ام حميدة»، فاستغرقنا في البكاء انا واياها على فقده ثم قالت لي:
يا ابا بصير لو كنت حاضراً حين وفاة الامام لأصابك العجب، لان الامام فتح عينيه وقال اجمعوا لي اهل بيتي وعندما اجتمعوا بين يديه قال (علیه السلام): «ان شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة».(2)
ص: 65
ولنلتفت في خاتمة المطاف الى فقرات من اقوال الامام (علیه السلام) آملين ان تؤثر كلماته الشريفة في قلوبنا فتضيئها وتزيد ايماننا وتصبح مشعلا تضي لنا الطريق في العمل :
1_«ان المسلم اذا جاء اخوه المسلم فقام معه في حاجته كان كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ »(1)
2_«قال الله عزّوجل الخلق عيالي فأحبّهم الي الصقهم بهم وأسعاهم في حوائجهم»(2)
3_«وجدت علم الناس كلها في اربع اولها ان تعرف ربك ، والثاني ان تعرف ما صنع بك ، الثالث ان تعرف ما اراد منك ، والرابع ان تعرف ما يخرجك من دينك ».(3)
4_«اربعة من اخلاق الانبياء: البرّ والسخاء والصبر على النائبة والقيام بحق المؤمن»(4)
5_«المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك ، فهو لا يصبح إلا خائفا ولا يمسي إلا خائفا ولا يصلحه إلا الخوف».(5)
6_«لا يستكمل عبد حقيقة الايمان حتى تكون فيه خصال
ص: 66
ثلاث: الفقه في الدين وحسن التقدير في المعيشة والصبر على الرزايا»(1)
7_«ثلاثة لا تُعرف إلا في ثلاث مواطن : لا يُعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا أخ إلا عند الحاجة»(2)
8_«لا يستغني اهل كل بلد عن ثلاثة يفزع اليه في امر دنياهم وآخرتهم ، فان عدموا ذلك كانوا همجاً: فقيه عالم ورع، وامير خير مطاع، وطبيب بصير ثقة»(3)
9_نحن اساس كل خير وحسن وجميع الخيرات من اغصاننا واوراقنا، فالتوحيد والصيام وكظم الغيظ والعفو عمن اساء للانسان والرحمة للضعيف والتفقد للجار والاعتراف بفضيلة اصحاب الفضيلة، كل هذه الامور تعدّ من الخيرات.
واعداؤنا هم اساس كل شر وقبح، وجميع القبائح من غصونهم واوراقهم، من جملتها : الكذب والبخل والتقول وقطع الرحم والمراباة واكل مال اليتيم والتعدي عن الحدود التي عينها الله وارتكاب الجرائم الخفية ،والظاهرة والزنا والسرقة وامثالها . وانه ليكذب من يدعي انه معنا ومن شيعتنا بينما هو متمسك بساق واغصان اعدائنا ومتعلّق بها»(4)
ص: 67