اسم الكتاب:.... السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) في الكتب والمصنِّفات
إعداد وتنظيم :... السيّد محمّد السيّد حسين الحكيم
اشراف وتقديم:...مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
رقم الإصدار :... 297
الطبعة :... الأولى 1445ه_
عدد النُّسَخ:...طبعة محدودة
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق - النجف الأشرف
السيّدة نَرجِس (عَلَيهَا السَّلَامُ) فِی الكتُب والمصنِّفاتِ
إعْدَادَ وَتَنظيم
السيّد محمّد السيّد حسين الحكيم
إشراف وتقديم
مرکز الدراسات التخصصيَّة فِي الأمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
ص: 1
اسم الكتاب:.... السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) في الكتب والمصنِّفات / ج 1
إعداد وتنظيم :... السيّد محمّد السيّد حسين الحكيم
اشراف وتقديم:...مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
رقم الإصدار :... 297
الطبعة :... الأولى 1445ه_
عدد النُّسَخ:...طبعة محدودة
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق - النجف الأشرف
هاتف 07809744474
07816282226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 2
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم ومنكري فضائلهم إلى يوم الدين اللّهم عجل فرج إمامنا الموعود وانصر به الحق وأقم به العدل وأيّد به الدين وادفع به الظلم عن المؤمنين.
اللّهم أرنا ذلك اليوم قريباً واجعلنا من أعوانه وأنصاره وشيعته الثابتين على موالاته والمتشرفين ببيعته.
لا شك في أنّ قيمة العقيدة والإيمان تمثل للإنسان المؤمن فصله الحقيقي فيه يكون وجيهاً عند اللّه سبحانه وتعالى وعند أهل البيت (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) وينبغي ألّا يدّخر جهداً ولا يتوانى للحظة في بحثه عن عقيدته وضبطها والاستدلال عليها والدفاع عنها ودفع الشبهات المثارة حولها.
الحاجة الملحّة للقيام بهذه المهمة مع كثرة الكتب المنتشرة والبحوث والمقالات وضياع المصادر في بعض الأحيان وعسر الوصول إلى نسخها المطبوعة ورقياً مع ما يستلزم ذلك من ضياع الجهد الكبير والوقت الكثير وقد لا يوفّق بعض الباحثين في العثور على ما يهم بحثهم إلا بعد إنجازه والفراغ عنه، لأجل هذا، ولأجل غيره، قام مركزنا (مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)) بجمع ما وقع تحت يده من كتب مختصة بالإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) أو فصول أو أبواب أو بحوث تحت عناوين محددَّة، فضلاً عما دوّنته المجلات العلميَّة والتخصصّية من بحوث ومقالات، وغيرها، وتبويبها وتسهيل الوصول إليها من
ص: 3
خلال منهجة وفهرسة تضمّنت الإشارة التفصيلية إلى جميع ما يرتبط بالفصل أو المسألة أو التفريعات التي يبحث عنها الكاتب أو الباحث.
وكانت طريقة الاستلال من الكتب التي استخرجت منها الفصول أو المسائل أو البحوث أو المقالات هي بأخذ صورة للكتاب والفصل الّذي تعرّض فيه المؤلِّف إلى البحث المعيّن، ثمّ بتصوير صفحات البحث كاملة وبنفس الترقيم الموجود في الكتاب دون إجراء أي تغيير لأجل تصحيح الاستشهاد من قبل الكتاب والمؤلِّفين وتسهيل عملية الإرجاع وضبط المصادر عند الاعتماد على هذه الموسوعة في كتاباتهم وتأليفاتهم.
ولتوضيح المسألة بمثال حي فإنّ البحوث المرتبطة بولادة الإمام (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) من كتاب الغيبة لشيخ الطائفة (قدّس سِرُّه) عندما قمنا باستلالها وإدراجها في هذه الموسوعة في الفصل المختص ببحوث الولادة فإنّنا قمنا بأخذ صورة لكتاب الغيبة لكي يتبيّن للمؤلف والباحث النسخة التي اعتمدنا عليها والجهة التي حققت الكتاب والطبعة، ثمّ نأخذ صوراً لبحث الولادة الّذي ذكره شيخ الطائفة (قدّس سِرُّه) بنفس الصفحات الموجودة في الكتاب من تلك الطبعة، وبذلك قد جعلنا نفس المصدر الّذي اعتمدناه تحت يد المؤلِّف والكاتب فله الحق في الإرجاع وكأنما يقرء من كتاب الغيبة مباشرة.
فيتجلى الهدف بوضوح من وراء هذا العمل الكبير والمهم في رفد الكتّاب والمؤلِّفين بجميع المصادر المتاحة فيما يرتبط ببحثهم، فيمكن لهم الرجوع إلى هذه الموسوعة وكأنّهم يقرؤون عدّة موسوعات وكتب ومقالات وبحوث في كتاب واحد، فهو ادّخار للجهد والوقت وغير ذلك.
ص: 4
وبين يديك عزيزي القارئ موسوعة (السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) في الكتب والمصنِّفات في ثلاث مجلدات ضخمة فعلاً قابلة للزيادة وهي من تنظيم وإعداد وبإشراف وتقديم مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف).
كما قد بلغ عدد الكتب التي بحث فيها عن شخصية (السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) وتفرعاتها أكثر من (850) كتاباً فعلاً.
فيما بلغ عدد الكتب التي استلت منها البحوث المرتبطة بالإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) (57) مصدراً قابلاً للزيادة بعد العثور على مصادر أخرى لم تذكر هنا.
ومن الجدير بنا التنبيه على أمر في غاية الأهمية وهو أنّ بعض الموسوعات المعدّة تشترك مع غيرها في بعض المحاور، كما في موسوعة (السفياني) وموسوعة (خسف البيداء)، وكذلك في موسوعة (السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) و (ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف))، فلابد للباحث إذا أراد أن يستوعب ويبحث في موسوعة ما لكتابة رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه أن يقرأ المشتركات أيضاً ولا يكتفى بعنوان الرسالة فقط.
ومن اللّه نسأل أن يزيد في توفيق السيّد الجليل (محمّد الحكيم) حيث بذل جهداً كبيراً ومشكوراً لتنظيم هذه الموسوعة، وغيرها، كما نسأله تعالى أن يوفقنا جميعاً لخدمة المولى صاحب العصر والزمان (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وأن نكون من أنصاره وأعوانه وشيعته والمستشهدين تحت لوائه.
مركز الدراسات التخصصية
في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
جمادى الآخرة / 1445ه_
ص: 5
ص: 6
لِلشَيخ
الفضل بن شاذان الأندى النيسابوري
من اعلام القرن الثالث الهجري
تحقيق شعبة التحقيق
قسم الشؤون الفكرية والثقافية
(183)
ص: 7
الطبعة الأولى
1437 ه_ - 2016م
جميع الحقوق محفوظة
للعتبة الحسينية المقدسة
العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة
قسم الشؤون الفكرية والثقافية - هاتف: 326499
Web: www. imamhussain-lib, com
E-mail: info@imamhussain-lib. com
ص: 8
حدَّثنا محمّد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد اللّه (1) بن العبّاس بن علي ابن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سمعت أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «قد ولِدَ ولي اللّه وحجته على عباده، وخليفتي من بعدي، مختوناً ليلة النصف من
ص: 9
شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين عند طلوع الفجر، وكان أول من غسله رضوان خازن الجنان مع جمع من الملائكة المقربين بماء الكوثر والسلسبيل ثمّ غسلته عمتي حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا (عَلَيهِمُ السَّلَامُ).
وسُئِلَ الإمام محمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عن أمه، قال: «وأمّه مليكة التي يقال لها في بعض الأيام سوسن، وفي بعضها ريحانه»، وكان صقيل ونرجس أيضاً من أسمائها (1).
ص: 10
تأليف: الشیخ الجليل أبي عبداللّه محمّد بن إبراهيم بن جعفر الکاتب المعروف: (ابن أبي زينب النعماني)
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
ص: 11
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
اسم الكتاب:..الغيبة
تأليف... (الشيخ ابن أبي زينب النعماني)
تقديم وتحقيق... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
رقم الإصدار...267
الطبعة:....الأولى 1442ه_
عدد النُّسَخ...طبعة محدودة
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق - النجف الأشرف
هاتف: 07809744474 - 07816787226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 12
[164 / 3] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ محمّد بْن سَعِيدٍ، قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ المُفَضَّل وَسَعْدَانُ بْنُ إِسْحَاقَ بْن سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ (1) وَمحمّد بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْقَطَوَانِ جَمِيعاً، عَن الحَسَنِ بْنِ عَحَبُوبِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمِ الْجَوَالِيقِيِّ، عَنْ يَزِيدَ الْكُنَاسِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرِ الْبَاقِرَ (عَلَيهِم السَّلَامُ) يَقُولُ: «إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ
ص: 13
شَبَةٌ مِنْ يُوسُفَ (1)، ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاء (2)، يُصْلِحُ اللّه لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ» (3).
ص: 14
فاعتبروا يا أُولي الأبصار - الناظرة بنور الهدى، والقلوب السليمة من العمى، المشرقة بالإيمان والضياء - بهذا القول - قول الإمامين الباقر والصادق (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) - في الغيبة، وما في القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) من سُنَن (1) الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) من الاستتار، والخوف، وأنه ابن أمة سوداء يُصلح اللّه له أمره في ليلة، وتأملوه حسناً فإنَّه يسقط معه الأباطيل والأضاليل التي ابتدعها المبتدعون الّذين لم يذقهم اللّه حلاوة الإيمان والعلم وجعلهم بنجوة منه وبمعزل عنه، وليحمد هذه الطائفة القليلة النزرة (2) اللّه حقَّ حمده على ما منَّ به عليها من الثبات على نظام الإمامة وترك الشذوذ عنها كما شذَّ الأكثر ممن كان يعتقدها، وطار يميناً وشمالاً وأمكن الشيطان منه ومن قياده وزمامه، يُدخله في كلِّ لون، ويُخرجه من آخر حتّى يورده كلَّ غيّ، ويصدَّه عن كلَّ رشدٍ، ويُكره إليه الإيمان، ويُزيّن له الضلال، ويُجلِّي في صدره قول كلّ من قال بعقله، وعمل على قياسه، ويوحش عنده الحقِّ (3)، واعتقاد طاعة من فرض اللّه طاعته، كما قال (جلَّ وعزّ) في محكم كتابه حكايةً لقول إبليس (لعنه اللّه): «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ» [ ص: 82 و 83]، وقوله تعالى أيضاً: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمنينَّهُمْ» [النساء: 119] وقوله: «لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(4)» [الأعراف: 16].
ص: 15
[265/ 5] حدَّثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللّه، قَالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ محمّد بْنِ رَبَاح الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلى الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حدَّثنا الحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَمْرٍو الْخَتْعَمِيُّ، قَالَ: حدَّثني محمّد بْنُ عِصَامٍ، قَالَ: حدَّثني وُهَيْبُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لا أَوْ أَبُو عَبْدِ اللّه اللا - الشَّكُ مِنِ ابْنِ عِصَامٍ -: «يَا أَبَا محمّد، بِالْقَائِمِ عَلَامَتَانِ: شَامَةٌ فِي رَأْسِهِ (1)، وَدَاءُ
ص: 16
الْخَزَازِ بِرَأْسِهِ، وَشَامَةٌ بَيْنَ كَيْفَيْهِ مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ، تَحْتَ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَرَقَةٌ مِثْلُ وَرَقَةِ الْآسِ (1)».
ص: 17
[ كونه (عَلَيهِ السَّلَامُ)] (1) ابن سبية، ابن خيرة الإماء:
[268/ 8] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ محمّد بْن سَعِيدٍ ابْنُ عُقْدَةَ، قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ الْمُفَضَّلِ بْنِ قَيْسِ بْنِ رُمَّانَةَ الْأَشْعَرِيُّ وَسَعْدَانُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ وَمحمّد بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَوَانِيُّ، قَالُوا جَمِيعاً : حدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ
ص: 18
مَحَبُوبِ الزَّرَّادُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ يَزِيدَ الْكُنَاسِي (1)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ محمّد بْنَ عَلَى الْبَاقِرَ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يَقُولُ: «إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ شَبَهُ مِنْ يُوسُفَ (2)، ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاءَ، يُصْلِحُ اللّه (عزّوجلّ) وَ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ»(3).
يريد بالشَّبه من يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) غيبته (4).
[269/ 9] أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللّه بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ محمّد بْنِ رَبَاحِ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلى الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حدَّثنا الحكَمُ أَخُو مُشْمَعِلُ الْأَسَدِيُّ (5)، قَالَ: حدَّثني عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقَصِيرُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرِ (عَلَيهِ السَّلَامُ): قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «بِأَبِي ابْنُ خِيَرَةِ (6) الْإِمَاءِ»، أَهِيَ فَاطِمَةُ (عَلَيهَا السَّلَامُ)؟
فَقَالَ: «إِنَّ فَاطِمَةَ (عَلَيهَا السَّلَامُ) خِيَرَةُ الْخَرَائِرِ، ذَاكَ الْمُبْدَحُ بَطْنه، المُشْرَبُ حُمْرَةً، رَحِمَ اللّه فُلاناً».
[ 27 / 10] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ محمّد بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حدَّثنا الْقَاسِمُ بْنُ محمّد اِبْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: حدَّثنا عُبَيْسُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي الصَّبَاحِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ لِي: «مَا وَرَاءَكَ».
ص: 19
فَقُلْتُ : سُرُورٌ مِنْ عَمِّكَ زَيْدِ، خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ سَبيَّة (1)، وَهُوَ (2) قَائِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ.
فَقَالَ: «كَذَبَ (3) لَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، إِنْ خَرَجَ قُتِلَ» (4).
[11/271] حدَّثنا محمّد بْنُ هَمَّامٍ وَمحمّد بْنُ الحَسَنِ بْنِ جُهُورٍ جَميعاً، عَنِ الحَسَنِ بْنِ محمّد بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ اهُمْدَانِيِّ، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ المؤمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): بأَبي ابْنُ خِيرَةِ الْإِمَاءِ - يَعْنِي الْقَائِمَ مِنْ وُلْدِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) -، يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ (5)، وَلَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ هَرْجاً (6)، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَمَنَّى فَجَرَةُ قُرَيْشٍ لَوْ أَنَّ هَا مُفَادَاةً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لِيُغْفَرَ هَا، لَا نَكُتُ حتّى يَرْضَى اللّه» (7).
[12/272] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ محمّد بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ
ص: 20
التَّيْمِلُي، قَالَ: حدَّثنا محمّد وَأَحْمَدُ ابْنَا الحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبي حَازِمٍ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ المَدِينَةَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي: «هَلْ صَاحَبَكَ أَحَدٌ؟».
فَقُلْتُ: نعم.
فَقَالَ: «أَكُنتُمْ تَتَكَلَّمُونَ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ، صَحِبَنِي رَجُلٌ مِنَ المُغيريَّة (1).
قَالَ: «فَمَا كَانَ يَقُولُ؟».
قُلْتُ: كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ محمّد بْنَ عَبْدِ اللّه بن الحسن هُوَ الْقَائِمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْمَهُ اسْمُ النَّبِيِّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وَاسْمَ أَبِيهِ اسْمُ أَبي النَّبِيِّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فَقُلْتُ لَهُ فِي الْجَوَابِ: إِنْ كُنْتَ تَأْخُذُ بِالْأَسْمَاءِ فَهُوَ ذَا فِي وُلْدِ الحُسَيْنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) محمّد بْنُ عَبْدِ اللّه بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ لِي: إِنَّ هَذَا ابْنُ أَمَةٍ - يَعْنِي محمّد بْنَ عَبْدِ اللّه بْنِ عَلِيٍّ، وَهَذَا ابْنُ مَهِيرَةٍ (2) - يَعْنِي محمّد بْنَ عَبْدِ اللّه بْنِ الحَسَنِ بْنِ الحَسَنِ -.
فَقَالَ أَبو عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فَما رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟».
فَقُلْتُ: مَا كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ أَرُدُّ عَلَيْهِ.
فَقَالَ: «أَوَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ ابْنُ سَبيَّة (3) - يَعْنِي الْقَائِمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) -؟».
ص: 21
ص: 22
[39/345] حدَّثنا أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدُ بْنُ هَوْذَةَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حدَّثنا إِبْرَاهِيمُ اِبْنُ إِسْحَاقَ النَّهَاوَنَدِيُّ، قَالَ: حدَّثنا عَبْدُ اللّه بْنُ حَمَّادٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكِ الْخُضْرَمِيُّ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَسْلَمَ المَكِّيِّ (1)، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: يُقْتَلُ خَلِيفَةٌ مَا لَهُ فِي السَّمَاءِ عَاذِرُ، وَلَا فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ، وَيُخْلَعُ خَلِيفَةٌ حتّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ، وَيُسْتَخْلَفُ ابْنُ السَّبِيَّة.
قَالَ: فَقَالَ أَبو الطفيل: يَا ابْنَ أُخْتِي، لَيْتَنِي أَنَا وَأَنْتَ مِنْ كُورِهِ (2).
قَالَ: قُلْتُ: وَلِمَ تَتَمَنَّى - يَا خَالِ - ذَلِكَ؟
قَالَ: لِأَنَّ حُذَيْفَةَ حدَّثني أَنَّ المُلْكَ يَرْجِعُ فِي أَهْلِ النُّبُوَّةِ.
ص: 23
ص: 24
الشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه)
الجزء الأول
تقديم وتحقيق
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
ص: 25
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
اسم الكتاب:... كمال الدِّين وتمام النعمة / الجزء الأول
تأليف:...الشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه)
تقديم وتحقيق:... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
رقم الإصدار...257
الطبعة:... الأولى 1442ه_
عدد النُّسَخ...1000
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
-العراق- النجف الأشرف
هاتف: 07809744474 - 07816787226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 26
فما روي في صحة وفاة الحسن بن علي بن محمّد العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1):
مَا حدَّثنا بهِ أَبي وَمحمّد بْنُ الحَسَن بن أَحْمَدَ بْن الْوَلِيدِ، قَالا: حدَّثنا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللّه، قَالَ: حدَّثنا مَنْ حَضَرَ مَوْتَ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ محمّد العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَدَفْنَهُ مِمَّنْ لَا يُوقَفُ عَلَى إِحْصَاءِ عَدَدِهِمْ وَلَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِم التَّوَاطِقُ بِالْكَذِبِ. وَبَعْدُ فَقَدْ حَضَرْنَا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِي أَبِي محمّد الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةٌ أَوْ أَكْثَرَ تَجْلِسَ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللّه بْنِ يَحْيَى بْنِ خَافَانَ (2) وَهُوَ عَامِلُ السُّلْطَانِ يومئذٍ عَلَى الخراج وَالضّيَاع بِكُورَةِ قُمَّ، وَكَانَ مِنْ أَنصَبٍ خَلْقِ اللّه وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةٌ هُمْ، فَجَرَى ذِكْرُ المُقِيمِينَ مِنْ آلِ أَي طَالِبٍ بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَمَذَاهِبِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللّه: مَا رَأَيْتُ وَلَا عَرَفْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى رَجُلاً مِنَ الْعَلَوِيَّةِ مِثْلَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ محمّد بْنِ عَلى الرِّضَا اللّه، وَلَا سَمِعْتُ بِهِ فِي هَدْيِهِ وَسُكُونِهِ وَعَفَافِهِ وَنُبْلِهِ وَكَرَمِهِ عِنْدَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَالسُّلْطَانِ بَنِي هَاشِمٍ، وَتَقْدِيمِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى ذَوِي السِّنَّ مِنْهُمْ وَالخَطَرِ، وَكَذَلِكَ الْقُوَّاد وَالْوُزَرَاءُ وَالْكُتَّابُ وَعَوَامُ النَّاسِ، فَإِنِّي كُنْتُ قَائِاً ذَاتَ يَوْم عَلَى رَأْسٍ أَي وَهُوَ يَوْمُ تَجْلِسِهِ لِلنَّاسِ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ حُجَّابُهُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ ابْنُ الرِّضَا عَلَى الْبَابِ فَقَالَ بِصَوْتٍ عَالِ: ائذَنُوا لَهُ (3)، فَدَخَلَ رَجُلٌ أَسْمَرُ أَعْيَنُ حَسَنُ الْقَامَةِ، جَمِيلُ الْوَجْهِ، جَيّدُ الْبَدَنِ، حَدَثُ السِّنِّ، لَهُ جَلَالَةٌ وَهَيْبَةٌ، فَلَا نَظَرَ إِلَيْهِ أَبِي قَامَ، فَمَشَى
ص: 27
إِلَيْهِ خُطّى، وَلَا أَعْلَمُهُ فَعَلَ هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلَا بِالْقُوَّادِ وَلَا بِأَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ عَانَقَهُ وَقَبْلَ وَجْهَهُ وَمَنْكِبَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مُصَلَّاهُ الّذي كَانَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ مُقْبلاً عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ وَيُكَنِّيهِ، وَيَهْدِيهِ بِنَفْسِهِ وَبِأَبَوَيْهِ، وَأَنَا مُتَعَجَبٌ مِمَّا أَرَى مِنْهُ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ الحُجَّابُ، فَقَالُوا: المُوَفَّقُ قَدْ جَاء (1) ، وَكَانَ الْمُوَفَّقُ إِذَا جَاءَ وَدَخَلَ عَلَى أَبِي تَقَدَّمَ حُجَّابُهُ وَخَاصَّةُ قُوَّادِهِ، فَقَامُوا بَيْنَ مَجْلِسِ أَبِي وَبَيْنَ بَابِ الدَّارِ سِمَاطَيْنِ (2) إِلَى أَنْ يَدْخُلَ وَيَخْرُجَ، فَلَمْ يَزَلْ أَبِي مُقْبِلاً عَلَيْهِ (3) يُحَدِّثُهُ حتّى نَظَرَ إِلَى غِلْمَانِ الْخَاصَّةِ، فَقَالَ حِينَئِذٍ : إِذَا شِئْتَ فَقُمْ جَعَلَنِيَ اللّه فِدَاكَ يَا أَبَا محمّد ثمّ قَالَ لِغِلْمَانِهِ : خُذُوا بِهِ خَلْفَ السَّمَاطَيْنِ كَيْلَا يَرَاهُ الْأَمِيرُ - يَعْنِي الْمُوَفَّقَ -، فَقَامَ وَقَامَ أَبِي فَعَانَقَهُ وَقَبَّلَ وَجْهَهُ وَمَضَى، فَقُلْتُ حِجَابٍ أَبي وَغِلْمَانِهِ: وَيْلَكُمْ مَنْ هَذَا الّذي فَعَلَ بِهِ أَبي هَذَا الّذي فَعَلَ؟ فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْعَلَوِيَّةِ يُقَالُ لَهُ: الْحَسَنُ بْنُ عَليَّ يُعْرَفُ بِابْنِ الرِّضَا، فَازْدَدْتُ تَعَجُّباً، فَلَمْ أَزَلْ يَوْمِي ذَلِكَ قَلِقاً مُتَفَكِّراً فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَبِي وَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ حتّى كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتْ عَادَتْهُ أَنْ يُصَلِّى الْعَتَمَةَ، ثمّ يَجْلِسَ فَيَنْظُرَ فِيمَا يَحتاجُ إِلَيْهِ مِنَ المُوَامَرَاتِ وَمَا يَرْفَعُهُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا صَلَّى وَجَلَسَ (4) جِنْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَبَةِ إِنْ أَذِنْتَ سَأَلْتُكَ عَنْهَا، فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ يَا بُنَيَّ فَقُلْ مَا أَحْيَيْتَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَةِ، مَنْ كَانَ الرَّجُلُ الّذي أَتَاكَ بِالْغَدَاةِ وَفَعَلْتَ بِهِ مَا فَعَلْتَ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ وَفَدَيْتَهُ بِنَفْسِكَ وَبَأَبَوَيْكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ ذَاكَ إِمَامُ الرَّافِضَةِ، ذَاكَ ابْنُ الرِّضَاء فَسَكَتَ سَاعَةً،
ص: 28
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَوْ زَالَتِ الْخِلَافَةُ عَنْ خُلَفَاءِ بَنِي العبّاس مَا اسْتَحَقَّهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ غَيْرُ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُهَا فِي فَضْلِهِ وَعَفَافِهِ وَهَدْيِهِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَزُهْدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَجَمِيلَ أَخْلَاقِهِ وَصَلَاحِهِ، وَلَوْ رَأَيْتَ أَبَاهُ لَرَأَيْتَ رَجُلاً جَلِيلاً نَبِيلاً خَيْراً فَاضِلاً، فَازْدَدْتُ قَلَقاً وَتَفَكَّراً وَغَيْظاً عَلَى أَبِي مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لي هِمَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا السُّوَالَ عَنْ خَبَرِهِ، وَالْبَحْثَ عَنْ أَمْرِهِ، فَمَا سَأَلْتُ عَنْهُ أَحَداً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَمِنَ الْقُوَّادِ وَالْكُتَابِ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ إِلَّا وَجَدْتُهُ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ الْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وَالمَحَلَّ الرَّفِيعِ وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالتَّقْدِيمِ لَهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَشَايِخِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَكُلُّ يَقُولُ: هُوَ إِمَامُ الرَّافِضَةِ، فَعَظْمَ قَدَّرُهُ عِنْدِي، إِذْ لَمْ أَرَ لَهُ وَلِيًّا وَلَا عَدُوّاً إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الْقَوْلَ فِيهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، فَمَا خَبَرُ أَخِيهِ جَعْفَرٍ ؟ فَقَالَ: وَمَنْ جَعْفَرٌ فَيُسْتَلَ عَنْ خَبَرِهِ (1) أَوْ يُقْرَنَ بِهِ؟ إِنَّ جَعْفَراً مُعْلِنُ بِالْفِسْقِ، مَاجِنٌ (2)، شرِّيبُ لِلْخُمُورِ، وَأَقَلُّ مَنْ رَأَيْتُهُ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَهْتَكُهُمْ لِسَتْرِهِ، فَدْمٌ خَمَارٌ (3)، قَلِيلٌ فِي نَفْسِهِ خَفِيفٌ، وَاللّه لَقَدْ وَرَدَ عَلَى السُّلْطَانِ وَأَصْحَابِهِ فِي وَقْتِ وَفَاةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مَا تَعَجَبْتَ مِنْهُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكُونُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اعْتَلَّ بَعَثَ إِلَى أَبِي أَنَّ ابْنَ الرِّضَا قَدِ اعْتَلَ، فَرَكِبَ مِنْ سَاعَتِهِ مُبَادِراً إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، ثمّ رَجَعَ مُسْتَعْجِلاً وَمَعَهُ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنْ خُدَّام أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، كُلُّهُمْ مِنْ ثِقَاتِهِ وَخَاصَّتِهِ، فَمِنْهُمْ نِحْرِيرُ (4)، وَأَمَرَهُمْ بِلْزُومِ دَارِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٌّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وَتَعَرُّفِ خَبَرِه وَحَالِهِ، وَبَعَثَ إِلَى نَفَرٍ مِنَ المُتَطَبِينَ، فَأَمَرَهُمْ بِالاخْتِلَافِ إِلَيْهِ (5)، وَتَعَاهُدِهِ صَبَاحاً
ص: 29
وَمَسَاءً، فَلَما كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ جَاءَهُ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ، فَرَكِبَ حتّى بَكَّرَ إِلَيْهِ، ثمّ أَمَرَ المُتَطَيِّبِينَ بِالْزُومِهِ، وَبَعَثَ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ فَأَحْضَرَهُ مَجْلِسَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَختَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَةً مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَوَرَعِهِ، فَأَحْضَرَهُمْ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى دَارِ الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَأَمَرَهُمْ بِلْزُومِ دَارِهِ لَيْلاً وَنَهَاراً، فَلَمْ يَزَالُوا هُنَاكَ حتّى تُوُفِّي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لِأَيَّامٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعِ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَصَارَتْ سُرَّ مَنْ رَأَى ضَجِّةً وَاحِدَةً: مَاتَ ابْنُ الرّضَا.
وَبَعَثَ السُّلْطَانُ إِلَى دَارِهِ مَنْ يُفَتِّشُهَا وَيُفَتِّشُ حُجَرَهَا، وَخَتَمَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِيهَا، وَطَلَبُوا أَثَرَ وَلَدِهِ، وَجَاءُوا بِنِسَاءٍ يَعْرِفْنَ بِالحَبْلِ، فَدَخَلْنَ عَلَى جَوَارِيهِ، فَنَظَرْنَ إِلَيْهِنَّ، فَذَكَرَ بَعْضُهُنَّ أَنَّ هُنَاكَ جَارِيَةً بِهَا حَمْلٌ (1)، فَأَمَرَ بِهَا، فَجُعِلَتْ فِي حُجْرَةِ، وَوُكُلَ بِهَا نِحْرِيرُ الخَادِمُ وَأَصْحَابُهُ وَنِسْوَةٌ مَعَهُمْ،
ص: 30
[1/204] حدَّثنا محمّد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِي (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ: حدَّثنا الحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حدَّثنا أَبُو عَمْرٍو سَعِيدُ بْنُ محمّد بْنِ نَصْرِ الْقَطَانُ، قَالَ: حدَّثنا عَبْدُ اللّه بْنُ محمّد السُّلَمِيُّ، قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ(1) قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ سَعِيدِ بْنِ محمّد، قَالَ: حدَّثنا العبّاس بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبو جَعْفَرٍ محمّد بْنُ عَلَى الْبَاقِرُ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عِنْدَ الْوَفَاةِ دَعَا بِابْنِهِ الصَّادِقِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْداً، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: لَوِ امْتَتَلْتَ فِي تِمْثَالَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لَرَجَوْتُ أَنْ لَا تَكُونَ أَتَيْتَ مُنْكَراً، فَقَالَ: «يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّ الْأَمَانَاتِ لَيْسَتْ بِالتِّمْثَالِ، وَلَا الْعُهُودَ بِالرُّسُوم، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ سَابِقَةٌ عَنْ حُجَج اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، ثمّ دَعَا بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّه (2)، فَقَالَ لَهُ: «يَا جَابِرُ، حدَّثنا بِمَا عَايَنْتَ فِي
ص: 31
الصَّحِيفَةِ»، فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: نَعَمْ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، دَخَلْتُ عَلَى مَوْلَاتِي فَاطِمَةَ (عَلَيهَا السَّلَامُ) لأُهَنتَهَا بِمَوْلُودِ الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1)، فَإِذَا هِيَ بصَحِيفَةٍ بِيَدِهَا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدَةَ النِّسْوَانِ، مَا هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الَّتِى أَرَاهَا مَعَكِ؟ قَالَتْ: فِيهَا أَسْمَاءُ الأئمّة مِنْ وُلْدِي، فَقُلْتُ لَهَا: نَاوِلِينِي لأَنظُرَ فِيهَا، قَالَتْ: «يَا جَابِرُ، لَوْ لَا النَّهْيُّ لَكُنْتُ أَفْعَلُ، لَكِنَّهُ نُهِيَ أَنْ يَمَسَّهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ أَهْلُ بَيْتِ نَبِيٍّ، وَلَكِنَّهُ مَأْذُونٌ لَكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى بَاطِنِهَا مِنْ ظَاهِرِهَا».
ص: 32
قَالَ جَابِرٌ: فَقَرَأْتُ فَإِذَا فِيهَا: أَبُو الْقَاسِم محمّد بْنُ عَبْدِ اللّه المُصْطَفَى أمّه آمِنَةٌ بِنْتُ وَهْبٍ. أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ الْمُرْتَضَى، أمّه فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ ابْن عَبْدِ مَنَافٍ. أَبو محمّد الحَسَنُ بْنُ عَلَى الْبَرُّ أَبو عَبْدِ اللّه الحُسَيْنُ بْنُ عَلَى التَّقِيُّ، أُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). أَبو محمّد عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَدْلُ، أمّه شَهْرَبَانُويَهُ (1) بِنْتُ يَزْدَجَرْدَ بْنِ شَاهَنْشَاهَ. أَبو جَعْفَرٍ محمّد بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ، أمّه أُمُّ عَبْدِ اللّه بنتُ الحَسَنِ بْنِ عَلَيَّ بنِ أَبِي طَالِبٍ. أَبو عَبْدِ اللّه جَعْفَرُ بْنُ محمّد الصَّادِقُ أمّه أُمُّ فَرْوَةً بِنْتُ الْقَاسِم بن محمّد بْنِ أَبِي بَكْرٍ. أَبُو إِبْرَاهِيمَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ الثَّقَةُ، أمّه جَارِيَةٌ اسْمُهَا حَمِيدَةُ. أَبو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرّضَا، أمّه جَارِيَةٌ اسْمُهَا نَجْمَةُ. أَبو جَعْفَرٍ محمّد بْنُ عَلِيٍّ الزَّكِيُّ، أمّه جَارِيَةٌ اسْمُهَا خَيْزُرَانُ. أَبو الحَسَن عَلَى بْنُ محمّد الْأَمِينُ، أمّه جَارِيَةٌ اسْمُهَا سَوْسَنُ (2). أَبو محمّد الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّفِيقُ، أمّه جَارِيَةٌ اسْمُهَا سُمَانَةُ (3)، وَتُكَنَّى بِأُمِّ الْحَسَنِ. أَبُو الْقَاسِم محمّد بْنُ الْحَسَنِ، هُوَ حُجَّةُ اللّه تَعَالَى عَلَىٰ خَلْقِهِ الْقَائِمُ (4)، أمّه جَارِيَةٌ اسْمُهَا نَرْجِسُ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) (5).
قال مصنف هذا الكتاب (رَحمهُ اللّه) : جاء هذا الحديث هكذا بتسمية القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والّذي أذهب إليه ما روي في النهي من تسميته، وسيأتي ذكر ما روينا (6) في ذلك من الأخبار في باب أضعه في هذا الكتاب لذلك إن شاء اللّه [تعالى ذكره ].
ص: 33
[2/210] حدَّثنا الْمُظَفَرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمُطَفِّرِ الْعَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِي (رَحمهُ اللّه)، قَالَ: حدَّثنا جَعْفَرُ بْنُ محمّد بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حدَّثنا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ الْبَغْدَادِي، قَالَ: حدَّثني الحَسَنُ بْنُ محمّد الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ سَدِيرِ بْنِ حُكَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَقِيصَا، قَالَ: لَمَّا صَالَحَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَلَامَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وَيُحكُمْ مَا تَدْرُونَ مَا عَمِلْتُ، وَاللّه الّذي عَمِلْتُ خَيْرٌ لِشِيعَتِي مِما طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، أَلَا تَعْلَمُونَ أَنَّني إمَامُكُمْ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ عَلَيْكُمْ وَأَحَدُ سيّدي شَبَاب أَهْلِ الجنَّةِ بِنَصْ مِنْ رَسُولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عَلَيَّ؟»، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الخَضِرَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ وَأَقَامَ الْجِدَارَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ كَانَ ذَلِكَ سَخَطَاً مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، إِذْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللّه تَعَالَى ذِكْرُهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَّاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا الْقَائِمُ الّذي يُصَلِّي رُوحُ اللّه عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) خَلْفَهُ، فَإِنَّ اللّه (عزَّوَجلَّ) يُخْفِي وِلَادَتَهُ، وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ، لِئَلَّا لا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، ذَلِكَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ أَخِي الحُسَيْنِ ابْنِ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطِيلُ اللّه عُمُرَهُ فِي غَيْبَتِهِ، ثمّ يُظْهِرُهُ بِقُدْرَتِهِ فِي صُورَةٍ شَابٌ دُونَ أَرْبَعِينَ سَنَةٌ، ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1).
***
ص: 34
[12/236] حدَّثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ محمّد بْنِ عُبُدُوسِ (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ: حدَّثنا أَبو عَمْرِو الْكَشَّيُّ، قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ محمّد
ص: 35
الْقُمِّيُّ، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ ضُرَيْسِ الْكُنَاسِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: «إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاءَ، يُصْلِحُ اللّه (عزَّوجلَّ) أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَة» (1)،(2).
ص: 36
الشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه)
الجزء الثاني
تقديم وتحقيق
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
ص: 37
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
اسم الكتاب:... كمال الدِّين وتمام النعمة / الجزء الثاني
تأليف:...الشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه)
تقديم وتحقيق:... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
رقم الإصدار...258
الطبعة:... الأولى 1442ه_
عدد النُّسَخ...1000
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
-العراق- النجف الأشرف
هاتف: 07809744474 - 07816787226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 38
[31/272] حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْن محمّد بْن عِمْرَانَ (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ : حدَّثنا، محمّد بْنُ عَبْدِ اللّه الْكُوفِيُّ، قَالَ: حدَّثنا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الحُسَيْنِ
ص: 39
ابْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: «إِنَّ سُنَنَ الْأَنْبِيَاءِ (عَلَيهِم السَّلَامُ) بما وَقَعَ بهم مِنَ الْغَيِّبَاتِ حَادِثَةٌ فِي الْقَائِمِ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ (1)».
قَالَ أَبو بَصِير : فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه وَمَن الْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَصِير، هُوَ الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ ابْنِي مُوسَى، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يَغِيبُ غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا الْمُبْطِلُونَ، ثمّ يُظْهِرُهُ اللّه (عزَّوجلّ)، فَيَفْتَحُ اللّه عَلَى يَدِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللّه عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَلَا تَبْقَى فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللّه (عزَّوجلّ) إِلَّا عُبِدَ اللّه فِيهَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ للّه وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ».
ص: 40
[6/302] حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرِ الهُمَدَانِيُّ، قَالَ: حدَّثنا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَحَدَ محمّد بْنِ زِيَادِ الْأَزْدِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ سيّدي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عَنْ قَوْلِ اللّه (عزَّوجلّ): «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» [لقمان: 20]، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الْإِمَامُ الظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنَةُ الْإِمَامُ الْغَائِبُ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَيَكُونُ فِي الأئمّة مَنْ يَغِيبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ شَخْصُهُ، وَلَا يَغِيبُ عَنْ قَلوبِ المُؤْمِنِينَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَّا، يُسَهِّلُ اللّه لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ، وَيُذَلَّلُ لَهُ كُلَّ صَعْب وَيُظْهِرُ لَهُ كُنُوزَ الْأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ لَهُ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُبِيرُ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ (1)، وَيُهْلِكُ عَلَى يَدِهِ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ الّذي تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ هُمْ تَسْمِيَتُهُ حتّى يُظْهِرَهُ اللّه (عزَّوجلّ) وَ فَيَمْلَاَ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلماً» (2)،(3)،(4).
ص: 41
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضیَ اللّهُ عنهُ): لم أسمع هذا الحديث إلا من أحمد بن زياد ابن جعفر الهمداني (رضیَ اللّهُ عنهُ) بهمدان عند منصر في من حجّ بيت اللّه الحرام، وكان رجلاً ثقةً ديناً فاضلاً (رحمة اللّه عليه ورضوانه).
***
ص: 42
[ 307/ 5] حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْن جَعْفَرِ الْهمَدَانِيُّ (رضیَ اللّهُ عنهُ)(1)، قَالَ: حدَّثنا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرّضَا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «لَا دِينَ مَنْ لَا وَرَعَ لَهُ، وَلَا إِيمَانَ مَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أَعْمَلُكُمْ بِالتَّقِيَّةِ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه، إِلَى مَتَى؟ قَالَ: «إِلَى يَوْم الْوَقْتِ المعلوم، وَهُوَ يَوْمُ خُرُوج قَائِمِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَمَنْ تَرَكَ التَّقِيَّةَ قَبْلَ خُرُوج قَائِمِنَا فَلَيْسَ مِنَّا فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه، وَمَنِ الْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ قَالَ: «الرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطَهِّرَ اللّه بِهِ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ جَوْرٍ، وَيُقَدِّسُهَا مِنْ كُلِّ ظُلم، [وَهُوَ] الّذي يَشْكُ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْغَيْبة قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِ (2) وَوَضَعَ مِيزَانَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَهُوَ الّذي تُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ وَلَا يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ، وَهُوَ الّذي يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ أَهْل الْأَرْضِ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، يَقُولُ: أَلَا إِنَّ حُجَّةَ اللّه قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ بَيْتِ اللّه فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّ الْحَقِّ مَعَهُ وَفِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللّه (عزَّوجلَّ): «إِنْ نَشَأ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ» [الشعراء: 4]»(3).
ص: 43
[ 338 / 4] حدَّثنا محمّد بْنُ محمّد بْنِ عِصام (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ، قَالَ : حدَّثني عَلَّانٌ الرَّازِيُّ، قَالَ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ جَارِيَةُ أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قَالَ: «سَتَحْمِلِينَ ذَكَراً، وَاسْمُهُ محمّدٌ، وَهُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي»(1).
ص: 44
[1/369] حدَّثنا محمّد بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِم النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حدَّثنا أَبُو العبّاس أحمَدُ بنُ عِيسى الْوَشَّاءِ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرِ الْقُمِّيُّ، قَالَ: حدَّثنا أبو الحُسَيْنِ محمّد بْنُ بَحْرِ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ : وَرَدْتُ كَرْبَلَاءَ سَنَةَ سِتٌ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: وَزُرْتُ قَبْرَ غَرِيبٍ رَسُولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمّ انْكَفَأْتُ إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ مُتَوَجِّهَا إِلَى مَقَابِرٍ قُرَيْشٍ فِي وَقْتِ قَدْ تَضَرَّمَتِ الْهَوَاجِرُ وَتَوَفَّدَتِ السَّمَائِمُ، فَلَها وَصَلْتُ مِنْهَا إِلَى مَشْهَدِ الْكَاظِم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَاسْتَنْشَقْتُ نَسِيمَ تُرْبَتِهِ المَغْمُورَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ، المَحْفُوفَةِ بِحَدَائِقِ الْغُفْرَانِ أَكْبَيْتَ عَلَيْهَا بِعَبَرَاتٍ مُتَقَاطِرَةٍ، وَزَفَرَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَقَدْ حَجَبَ الدَّمْعُ طَرْفِي عَنِ النَّظَرِ، فَلَمَّا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَانْقَطَعَ النَّحِيبُ فَتَحْتُ بَصَرِي فَإِذَا أَنَا بِشَيْخ قَدِ انْحَنَى صُلْبُهُ، وَتَقَوَّسَ مَنْكِبَاهُ، وَثَفِنَتْ جَبْهَتُهُ وَرَاحَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَةً عِنْدَ الْقَبْرِ: يَا ابْنَ أَخِي لَقَدْ نَالَ عَمُّكَ شَرَفاً بِمَا حَمَلَهُ السيّدانِ مِنْ غَوَامِضِ الْغُيُوبِ وَشَرَائِفِ الْعُلُوم الَّتِي لَمْ يَحْمِلْ مِثْلَهَا إِلَّا سَلْمَانُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَمُّكَ عَلَى اسْتِكْمال المُدَّةِ وَانْقِضَاءِ الْعُمُرِ، وَلَيْسَ يَجِدُ فِي أَهْلِ الْوَلَايَةِ رَجُلاً يُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ، قُلْتُ: يَا نَفْسُ لَا يَزَالُ الْعَنَاءِ وَالمَشَقَّةُ يَنَالَانِ مِنْكِ بِإِنْعَابِ الخُفَّ وَالْخَافِرَ (1) فِي طَلَبِ الْعِلْم، وَقَدْ قَرَعَ سَمْعِي مِنْ هَذَا الشَّيْخِ لَفْظُ يَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ جَسيم وَأَثَرِ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، وَمَنِ السيّدانِ؟ قَالَ: النَّجْمَانِ الْمُغَيِّبَانِ فِي الثَّرَى بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَقُلْتُ: إِنِّي أُقْسِمُ بِالمُوَالَاةِ وَشَرَفِ تَحَلَّ هَذَيْنِ السيّدينِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالْوِرَاثَةِ، أَنِّي خَاطِبٌ عِلْمَهُمَا، وَطَالِبُ آثَارَهُمَا، وَبَاذِلٌ مِنْ نَفْسِيَ الْأَيْمَانَ الْمُؤَكَّدَةَ عَلَى حِفْظِ أَسْرَارِهِمَا، قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَحْضِرْ مَا صَحِبَكَ مِنَ الْآثَارِ عَنْ نَقَلَةِ أَخْبَارِهِمْ،
ص: 45
فَلَما فَتَشَ الْكُتُبَ وَتَصَفَّحَ الرِّوَايَاتِ مِنْهَا قَالَ: صَدَقْتَ، أَنَا بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَاسُ (1) مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَحَدُ مَوَالِي أَبي الحَسَنِ وَأَبِي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى، قُلْتُ: فَأَكْرِمْ أَخَاكَ بِبَعْضِ مَا شَاهَدْتَ مِنْ آثَارِهِمَا، قَالَ: كَانَ مَوْلَانَا أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ محمّد العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فَقَّهَنِي فِي أَمْرِ الرَّقِيقِ، فَكُنْتُ لَا أَبْتَاعُ وَلَا أَبيعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَاجْتَنَبْتُ بِذَلِكَ مَوَارِدَ الشُّبُهَاتِ حتّى كَمَلَتْ مَعْرِفَتِي فِيهِ، فَأَحْسَنْتُ الْفَرْقَ [فِيمَا] بَيْنَ الحَلَالِ وَالحَرَام.
فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلِي بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَقَدْ مَضَى هَوَيٌّ (2) مِنَ اللَّيْلِ إِذْ قَرَعَ الْبَابَ قَارِعٌ، فَعَدَوْتُ مُسْرِعاً، فَإِذَا أَنَا بِكَافُورٍ الْخَادِم رَسُولِ مَوْلَانَا أَبِي الحَسَنِ عَلِيٍّ ابْنِ محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يَدْعُونِي إِلَيْهِ، فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ ابْنَهُ أبا محمّد وَأُخْتَهُ حَكِيمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، فَلَما جَلَسْتُ قَالَ: «يَا بِشْرُ، إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ الْوَلَايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَمُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَةٍ تَسْبِقُ بِهَا شَأْوُ الشَّيعَةِ (3) فِي المُوَالاةِ بِهَا، أَطَّلِعُكَ عَلَيْهِ وَأَنْفِذُكَ فِي ابْتِيَاع أَمَةٍ» (4)، فَكَتَبَ كِتَاباً مُلْصَقاً (5) بِخَطِّ رُومِيٌّ وَلُغَةٍ رُومِيَّةٍ، وَطَبَعَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ، وَأَخْرَجَ شَسْتَقَةٌ (6) صَفْرَاءَ فِيهَا مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ دِينَاراً، فَقَالَ: «خُذْهَا وَتَوَجَّهُ بهَا إِلَى بَغْدَادَ، وَاحْضُرْ مَعْبَرَ الْفُرَاتِ ضَحْوَةَ كَذَا، فَإِذَا
ص: 46
وَصَلَتْ إِلَى جَانِبِكَ زَوَارِقُ السَّبَايَا وَبَرْزَنُ الْجَوَارِي مِنْهَا فَسَتَحْدِقُ بِهِمْ طَوَائِفُ المُبْتَاعِينَ مِنْ وَكَلَاءِ قُوَّادِ بَنِي العبّاس وَشَرَاذِمُ مِنْ فِتْيَانِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرِفْ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى المُسَمَّى عُمَرَ بْنَ يَزِيدَ النَّخَاسَ عَامَّةَ نَهَارِكَ إِلَى أَنْ يُبْرِزَ لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا، لَابِسَةً حَرِيرَتَيْنِ صَفِيقَتَيْنِ، تَمتَنِعُ مِنَ السُّفُورِ وَلَمَسِ الْمُعْتَرِضِ، وَالْإِنْقِيَادِ لَنْ يُحَاوِلُ لَسَهَا، وَيَشْغَلُ نَظَرَهُ بِتَأَقُل مَكَاشِفِهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ الرَّقِيقِ، فَيَضْرِبُهَا النَّخَاسُ فَتَصْرَحُ صَرْخَةً رُومِيَّةٌ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ : وَاهَتْكَ ستْرَاهُ، فَيَقُولُ بَعْضُ الْمُبْتَاعِينَ: عَلَيَّ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَادَنِي الْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً، فَتَقُولُ بِالْعَرَبِيَّةِ: لَوْ بَرَزْتَ فِي زِيِّ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مِثْل سَرِيرِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لِي فِيكَ رَغْبَةٌ، فَاشْفَقْ عَلَى مَالِكَ، فَيَقُولُ النَّخَاسُ : فَمَا الحِيلَةُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ، فَتَقُولُ الجَارِيَةُ: وَمَا الْعَجَلَةُ وَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِيَارِ مُبْتَاعَ يَسْكُنُ قَلْبِي [إِلَيْهِ وَ] إِلَى أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَاسِ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ مَعِي كِتَاباً مُلْصَقاً لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةٍ رُومِيَّةٍ وَخَطَّ رُومِي، وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ، فَنَاوِهُهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أَخْلَاقَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ، فَأَنَا وَكِيلُهُ فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ».
قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَاسُ : فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لِي مَوْلَايَ أَبو الحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أَمْرِ الجَارِيَةِ، فَلَما نَظَرَتْ فِي الْكِتَابِ بَكَتْ بُكَاءً شَدِيداً، وَقَالَتْ لِعُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَاسِ : بِعْنِي مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ، وَحَلَفَتْ بِالحَرّجَةِ المغَلَّظَةِ (1) إِنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا مِنْهُ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، فَمَا زِلْتَ أُشَاحُهُ فِي ثَمَيْهَا حتّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مِقْدَارٍ مَا كَانَ أَصْحَبَنِيهِ مَوْلايَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ الدَّنَانِيرِ فِي الشَّسْتَقَةِ لصَّفْرَاءِ، فَاسْتَوْفَاهُ مِنِّى وَتَسَلَّمْتُ مِنْهُ الْجَارِيَةً ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةً، وَانْصَرَفْتُ بها إِلَى حُجْرَتِ الَّتِي كُنْتُ آوِي إِلَيْهَا بِبَغْدَادَ، فَمَا أَخَذَهَا الْقَرَارُ حتّى أَخْرَجَتْ كِتَابَ
ص: 47
مَوْلَاهَا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنْ جَيْبهَا وَهِيَ تَلْثِمُهُ (1) وَتَضَعُهُ عَلَى خَدَّهَا وَتُطْبقهُ عَلَى جَفْنِهَا وَتَمْسَحُهُ عَلَى بَدَنِهَا، فَقُلْتُ تَعَجَّباً مِنْهَا : أَتَلْثِمِينَ كِتَاباً وَلَا تَعْرِفِينَ صَاحِبَهُ؟
قَالَتْ: أَيُّهَا الْعَاجِزُ الضَّعِيفُ المَعْرِفَةِ بِمَحَلِّ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، أَعِرْنِي سَمْعَكَ وَفَرِّغْ فِي قَلْبَكَ، أَنَا مَلِيكَةُ بِنْتُ يَشُوعَا (2) بنِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَأُمِّي مِنْ وُلْدِ الْخَوَارِيِّينَ تُنْسَبُ إِلَى وَصِيِّ المَسِيحَ شَمْعُونَ، أُنَبِّئُكَ الْعَجَبَ الْعَجِيبَ، إِنَّ جَدِّي قَيْصَرَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَنِي مِنِ ابْنِ أَخِيهِ وَأَنَا مِنْ بَنَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٌ، فَجَمَعَ فِي قَصْرِهِ مِنْ نَسْل الحَوَارِيِّينَ وَمِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُل وَمِنْ ذَوِي الْأَخْطَارِ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَمَعَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَقُوَّادِ الْعَسَاكِرِ وَنُقَبَاءِ الْجُيُوشِ وَمُلُوكِ الْعَشَائِرِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَبْرَزَ مِنْ بَهْوِ مُلْكِهِ عَرْشَاً مَسُوغًا (3) مِنْ أَصْنَافِ الْجَوَاهِرِ إِلَى صَحْنِ الْقَصْرِ، فَرَفَعَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ مِرْقَاةً، فَلَمَّا صَعِدَ ابْنُ أَخِيهِ وَأَحْدَقَتْ الصُّلْبَانُ وَقَامَتِ الْأَسَاقِفَةُ عُكَفاً وَنُشِرَتْ أَسْفَارُ الْإِنْجِيلِ تَسَافَلَتِ الصُّلْبَانُ (4) مِنَ الْأَعَالِي فَلَصِقَتْ بِالْأَرْضِ، وَتَقَوَّضَتِ الْأَعْمِدَةُ (5) فَانْهَارَتْ إِلَى الْقَرَارِ، وَخَرَّ الصَّاعِدُ مِنَ الْعَرْشِ مَغْشِيَّا عَلَيْهِ، فَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُ الْأَسَاقِفَةِ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ جُدِّي : أَيُّهَا المَلِكُ، أَعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ النُّحُوسِ الدَّالَّة عَلَى زَوَالِ هَذَا الدِّينِ المَسِيحِيٌّ وَالمَذْهَبِ المَلِكَانِيِّ (6)، فَتَطَيَّرَ جَدِّي مِنْ ذَلِكَ تَطَيَّراً شَدِيداً، وَقَالَ
ص: 48
لِلْأَسَاقِفَةِ: أَقِيمُوا هَذِهِ الْأَعْمِدَةَ، وَارْفَعُوا الصُّلْبَانَ، وَأَحْضِرُوا أَخَا هَذَا المُدْبَرِ الْعَاثِرِ (1) المَنْكُوسِ جَدُّهُ لِأُزَوِّجَ مِنْهُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ فَيُدْفَعَ نُحُوسُهُ عَنْكُمْ بِسُعُودِهِ، فَلَما فَعَلُوا ذَلِكَ حَدَثَ عَلَى الثَّانِي مَا حَدَثَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَقَامَ جَدِّي قَيْصَرُ مُغْتَمَّا وَدَخَلَ قَصْرَهُ وَأَرْخِيَتِ السُّتُورُ.
فَأُريتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ المَسِيحَ وَالشَّمْعُونَ وَعِدَّةٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي قَصْرِ جَدِّي، وَنَصَبُوا فِيهِ مِنْبَراً يُبَارِي السَّمَاءَ عُلُوًّا (2) وَارْتفاعاً في المَوْضِع الّذي كَانَ جَدِّي نَصَبَ فِيهِ عَرْشَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مَعَ فِتْيَةٍ وَعِدَّةٍ مِنْ بَنِيهِ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ المَسِيحُ فَيَعْتَنِقُهُ فَيَقُولُ: يَا رُوحَ اللّه، إِنِّي جِئْتُكَ خَاطِباً مِنْ وَصِيِّكَ شَمْعُونَ فَتَاتَهُ مَلِيكَةَ لِابْنِي هَذَا - وَأَوْمَا بِيَدِهِ إِلَىٰ أَبِي محمّد صَاحِبِ هَذَا الْكِتَاب -، فَنَظَرَ المَسِيحُ إِلَى شَمْعُونَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَتَاكَ الشَّرَفُ، فَصِلْ رَحِمَكَ بِرَحِم رَسُولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ، فَصَعِدَ ذَلِكَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وَزَوَّجَنِي، وَشَهِدَ المَسَيحُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَشَهِدَ بَنُو محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وَالحَوَارِيُّونَ.
فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي أَشْفَقْتُ أَنْ أَقُصَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَىٰ أَبِي وَجَدِّي مَخَافَةَ الْقَتْلِ، فَكُنْتُ أُسِرُّهَا فِي نَفْسِي وَلَا أُبْدِيهَا فَهُمْ، وَضَرَبَ صَدْرِي بِمَحَبَّةِ أَبِي محمّد حتّى امْتَنَعْتُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَضَعْفَتْ نَفْسِي وَدَقَّ شَخْصِي، وَمَرِضْتُ مَرَضاً شَدِيداً، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَدَائِنِ الرُّومِ طَبِيبٌ إِلَّا أَحْضَرَهُ جَدِّي وَسَأَلَهُ عَنْ دَوَائِي، فَلَمَّا بَرَّحَ بِهِ الْيَأْسُ (3) قَالَ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، فَهَلْ تَخْطُرُ بِبَالِكِ شَهْوَةً فَأَزَوِّدَكِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟ فَقَلْتُ يَا جَدِّي أَرَى أَبْوَابَ الْفَرَجِ عَلَى مُغْلَقَةٌ، فَلَوْ كَشَفْتَ الْعَذَابَ عَمَّنْ فِي سِجْنِكَ مِنْ أَسَارَى المُسْلِمِينَ، وَفَكَكْتَ عَنْهُمُ الأَغْلَالَ، وَتَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ وَمَنَتَهُمْ بالخلاص لَرَجَوْتُ أَنْ يَهَبَ المَسِيحُ وأمّه لِي عَافِيَةٌ وَشِفَاءٌ.
ص: 49
فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَدِّي تَجَلَّدْتُ فِي إظْهَارِ الصَّحَةِ فِي بَدَنِي وَتَنَاوَلْتُ يَسِيراً مِنَ الطَّعَامِ، فَسَرَّ بِذَلِكَ جَدِّي وَأَقْبَلَ عَلَى إِكْرَامِ الْأَسَارَى [وَ]إِعْزَازِهِمْ.
فَرَأَيْتُ أَيْضاً بَعْدَ أَرْبَعِ لَيَالٍ كَأَنَّ سَيْدَةَ النِّسَاءِ قَدْ زَارَتْنِي وَمَعَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَأَلْفُ وَصِيفَةٍ مِنْ وَصَائِفِ الجِنَانِ، فَتَقُولُ لي مَرْيَمُ: هَذِهِ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ أُمُّ زَوْجِكِ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَأَتَعَلَّقُ بِهَا وَأَبْكِي وَأَشْكُو إِلَيْهَا امْتِنَاعَ أَبِي محمّد مِنْ زِيَارَتِي، فَقَالَتْ لي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ (عَلَيهَا السَّلَامُ): إِنَّ ابْنِي أَبَا محمّد لَا يَزُورُكِ وَأَنْتِ مُشْرِكَةٌ بِاللّه وَعَلَى مَذْهَبِ النَّصَارَى (1)، وَهَذِهِ أُخْتِي مَرْيَمُ تَبْرَةُ إِلَى اللّه تَعَالَى مِنْ دِينِكِ، فَإِنْ مِلَّتِ إِلَى رِضًا اللّه (عزَّوجلَّ) وَرِضَا المَسِيحَ وَمَرْيَمَ عَنْكِ وَزِيَارَةِ أَبِي محمّد إِيَّاكِ فَتَقُولي: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وَأَشْهَدُ أَنَّ - أَبي - محمّداً رَسُولُ اللّه، فَلَا تَكَلَّمْتُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ضَمَّتْنِي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ إِلَى صَدْرِهَا، فَطَيِّبَتْ لِي نَفْسِي، وَقَالَتِ الْآنَ تَوَفَّعِي زِيَارَةَ أَي محمّد إِيَّاكِ، فَإِنِّي مُنْفِذُهُ إِلَيْكِ، فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا أَقُولُ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى لِقَاءِ أَبِي محمّد، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْقَابِلَةُ جَاءَنِي أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مَنَامِي، فَرَأَيْتُهُ كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: جَفَوْتَنِي يَا حبيبي بَعْدَ أَنْ شَغَلْتَ قَلْبِي بِجَوَامِع حُبِّكَ، قَالَ: مَا كَانَ تَأْخِيرِي عَنْكِ إِلَّا لِشِرْكِكِ، وَإِذْ قَدْ أَسْلَمْتِ فَإِنِّي زَائِرُكِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللّه شَمْلَنَا فِي الْعَيَانِ، فَما قَطَعَ عَنِّي زِيَارَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
قَالَ بِشْرٌ: فَقُلْتُ هَا: وَكَيْفَ وَقَعْتِ فِي الْأَسْرِ (2)؟ فَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَبُو محمّد لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرِّبُ (3) جُيُوشاً إِلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا، ثمّ يَتْبَعُهُمْ فَعَلَيْكِ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ مُتَنكَرَةً فِي زِي الْخَدَم مَعَ عِدَّةٍ مِنَ الْوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا، فَفَعَلْتُ، فَوَقَعَتْ عَلَيْنَا طَلَائِعُ المُسْلِمِينَ حتّى كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَمَا شَاهَدْتَ،
ص: 50
وَمَا شَعَرَ أَحَدٌ [ بِي] بِأَنِّي ابْنَةُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ سِوَاكَ، وَذَلِكَ بِاطَّلَاعِي إِيَّاكَ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي الشَّيْحُ الّذي وَفَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ عَنِ اسْمِي فَأَنْكَرْتُهُ وَقُلْتُ: نَرْجِسُ، فَقَالَ: اسْمُ الجَوَارِي.
فَقُلْتُ: الْعَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَبِيٌّ، قَالَتْ: بَلَغَ مِنْ وُلُوعِ جَدِّي وَحَبْلِهِ إِيَّايَ عَلَى تَعَلَّمُ الْآدَابِ أَنْ أَوْعَزَ (1) إِلَيَّ امْرَأَةَ تَرْجُمَانِ لَهُ فِي الْاِخْتِلَافِ إِلَيَّ، فَكَانَتْ تَقْصُدُنِي صَبَاحَاً وَمَسَاءَ وَتُفِيدُنِي الْعَرَبِيَّةَ حتّى اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا لِسَانِي وَاسْتَقَامَ.
قَالَ بِشْرُ : فَلَمَّا انْكَفَأْتُ بِهَا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى (2) دَخَلْتُ عَلَى مَوْلَانَا أَبِي الْحَسَنِ العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ لَهَا: «كَيْفَ أَرَاكِ اللّه عِزَّ الْإِسْلَامِ وَذُلَّ النَّصْرَانِيَّةِ وَشَرَفَ أَهْلِ بَيْتِ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟»، قَالَتْ: كَيْفَ أَصِفُ لَكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْي؟ قَالَ: «فَإِنِّي أُرِيدُ (3) أَنْ أُكْرِمَكِ، فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكِ عَشَرَةُ آلَافٍ دِرْهَم أَمْ بُشْرَى لَكِ فِيهَا شَرَفُ الْأَبَدِ؟»، قَالَتْ: بَل الْبُشْرَى (4)، قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فَأَبْشِرِي بِوَلَدِ يَمْلِكُ الدُّنْيَا شَرْقاً وَغَرْباً وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»، قَالَتْ: مَنْ؟ قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ خَطَبَكِ رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لَهُ مِنْ لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرٍ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا بِالرُّومِيَّةِ»، قَالَتْ: مِنَ المَسِيح وَوَصِيَّهِ؟ قَالَ: «فَمِمَّنْ زَوَّجَكِ المَسِيحُ وَوَصِيُّهُ؟»، قَالَتْ: مِنِ ابْنِكَ أَبِي محمّد، قَالَ: «فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ؟»، قَالَتْ: وَهَلْ خَلَوْتُ لَيْلَةً مِنْ زِيَارَتِهِ إِيَّايَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَسْلَمْتُ فِيهَا عَلَى يَدِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ أُمِّهِ؟
فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا كَافُورُ، ادْعُ لي أُخْتِي حَكِيمَةَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَهَا: «هَا هِيَهُ»، فَاعْتَنقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: «يَا
ص: 51
بِنْتَ رَسُولِ اللّه أَخْرِجِيهَا إِلَى مَنْزِلِكِ وَعَلّمِيهَا الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أبي محمّد وَأُمُّ الْقَائِمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(1)،(2).
***
ص: 52
[ 370 / 1] حدَّثنا محمّد بْنُ الْحَسَن بن الْوَلِيدِ (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ : حدَّثنا محمّد بْنُ يَحْيَى الْعَطَارُ، قَالَ: حدَّثنا أَبُو عَبْدِ اللّه الحُسَيْنُ بْنُ رِزْقِ اللّه (1)، قَالَ: حدَّثني مُوسَى ابْنُ محمّد بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قَالَ : حَدَّثَتْنِي حَكِيمَةُ بِنْتُ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْن محمّد بْن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْن عَلَى بْن أَبي طَالِب، قَالَتْ: بَعَثَ إِلَى أَبو محمّد الحَسَنُ بْنُ عَلَيَّ هَا، فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اجْعَلِي إِفْطَارَكِ [ هَذِهِ] اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهَا لَيْلَةُ النَّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيُظهرُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ الحجّة، وَهُوَ حُجَّتُهُ فِي أَرْضِهِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ أُمُّهُ؟ قَالَ لي: «نَرْجِسُ»، قُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي اللّه فِدَاكَ مَا بِهَا أَثَرُ، فَقَالَ: «هُوَ مَا أَقُولُ لَكِ»، قَالَتْ: فَجِئْتُ، فَلَها سَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ جَاءَتْ تَنْزِعُ خُفِّي وَقَالَتْ لِي: يَا سَيِّدَتِي [وَسَيِّدَةَ أَهْلِي]، كَيْفَ أَمْسَيْتِ ؟ فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَسَيِّدَةُ أَهْلِي، قَالَتْ: فَأَنْكَرَتْ قَوْلِي وَقَالَتْ: مَا هَذَا يَا عَمَّةُ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ اللّه تَعَالَى سَيَهَبُ لَكِ فِي لَيْلَتِكِ هَذِهِ غُلاماً سَيِّداً في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَتْ : فَخَجِلَتْ وَاسْتَحْيَتْ.
فَلَما أَنْ فَرَغْتُ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ أَفْطَرْتُ وَأَخَذْتُ مَضْجَعِي فَرَقَدْتُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَفَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي وَهِيَ نَائِمَةٌ لَيْسَ بِهَا حَادِثٌ، ثمّ جَلَسْتُ مُعَقِّبَةً، ثمّ اضْطَجَعْتُ ثمّ انْتَبَهْتُ فَزِعَةً وَهِيَ رَاقِدَةٌ، ثمّ قَامَتْ فَصَلَّتْ وَنَامَتْ.
ص: 53
قَالَتْ حَكِيمَةُ: وَخَرَجْتُ أَتَفَقَّدُ الْفَجْرَ، فَإِذَا أَنَا بِالْفَجْرِ الْأَوَّلِ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَدَخَلَنِي الشُّكُوكُ، فَصَاحَ بي أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ المَجْلِسِ فَقَالَ: «لَا تَعْجَلِي يَا عَمَّهُ، فَهَاكِ الْأَمْرُ قَدْ قَرُبَ»، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ وَقَرَأْتُ الم السَّجْدَةَ وَيس، فَبَيْنَها أَنا كَذَلِكَ إِذِ انْتَبَهَتْ فَزِعَةً، فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: اسْمُ اللّه عَلَيْكِ، ثمّ قُلْتُ لَهَا: أَتَحِسِّينَ شَيْئاً؟ قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَمَّةُ، فَقُلْتُ لَهَا: اجمْعِي نَفْسَكَ وَاجْمَعِي قَلْبَكِ، فَهُوَ مَا قُلْتُ لَكِ، قَالَتْ: فَأَخَذَتْنِي فَتْرَةٌ وَأَخَذَتْهَا فَتْرَةٌ، فَانْتَبَهْتُ بحِسِّ سيّدي، فَكَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ عَلي سَاجِداً يَتَلَقَّى الْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِهِ نَظِيفٌ مُتَنَطِّفٌ، فَصَاحَ بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هَلُمَّي إِلَيَّ ابْنِي يَا عَمَّةٌ»، فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ تَحْتَ أَلْيَتَيْهِ وَظَهْرِهِ، وَوَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ، ثمّ أَدْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ، وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَمَفَاصِلِهِ، ثمّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمّداً رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»، ثمّ صَلَّى عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) إِلَى أَنْ وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ، ثمّ أَحْجَمَ (1).
ثُمَّ قَالَ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّةُ، اذْهَبِي بِهِ إِلَى أمّه لِيُسَلَّمَ عَلَيْهَا وَأْتِينِي بِهِ»، فَذَهَبْتُ بِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَرَدَدْتُهُ فَوَضَعْتُهُ فِي المَجْلِسِ، ثمّ قَالَ: «يَا عَمَّةُ، إِذَا كَانَ يَوْمُ السابع فَأَتِينَا»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ جِئْتُ لِأَسَلَّمَ عَلَى أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَكَشَفْتُ السِّتْرَ لأَتَفَقَّدَ سيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا فَعَلَ سيّدي ؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اسْتَوْدَعْنَاهُ الّذي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى مُوسَى (عَلَيهِ السَّلَامُ)».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابع جئْتُ فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ: «هَلُمَّي إِلَيَّ ابْنِي»، فَجِئْتُ بِسيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَهُوَ فِي الْخِرْقَةِ، فَفَعَلَ بِهِ كَفَعْلَتِهِ الْأُولَى، ثمّ أَدْلَ لِسَانَهُ فِي فِيهِ كَأَنَّهُ يُغَذِّيهِ لَبَناً أَوْ عَسَلاً، ثمّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ
ص: 54
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه»، وَثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى محمّد وَعَلَى أمير المؤمِنِينَ وَعَلَى الأئمّة الطَّاهِرِينَ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) حتّى وَقَفَ عَلَى أَبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ «بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» [القصص : 5 و 6]، قَالَ مُوسَى : فَسَأَلْتُ عُقْبَةَ الخَادِمَ عَنْ هَذِهِ، فَقَالَتْ: صَدَقَتْ حَكِيمَةُ (1).
[2/371] حدَّثنا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ: حدَّثنا أَبِي، قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ : حدَّثني محمّد بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حدَّثنا محمّد ابْنُ عَبْدِ اللّه الطَّهَوِيُّ (2)، قَالَ: قَصَدْتُ حَكِيمَةَ بِنْتَ محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَعْدَ مُضِيٍّ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَسْأَلُهَا عَنِ الحجّة وَمَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الخَيْرَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، فَقَالَتْ لِي: اجْلِسُ فَجَلَسْتُ، ثمّ قَالَتْ: يَا محمّد، إِنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ نَاطِقَةٍ أَوْ صَامِتَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، تَفْضِيلاً لِلْحَسَن وَالحُسَيْنِ، وَتَنزيهاً لَهُما أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ لها عَدِيلُهُما، إِلَّا أَنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَصَّ وَلْدَ الْحُسَيْنِ بِالْفَضْلِ عَلَى وُلْدِ الحَسَنِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، كَمَا خَصَّ وَلْدَ هَارُونَ عَلَى وُلْدِ مُوسَى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَإِنْ كَانَ مُوسَى حُجَّةً عَلَى هَارُونَ، وَالْفَضْلُ لِوُلْدِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ، وَلَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ حَيْرَةِ يَرْتَابُ فِيهَا الْمُبْطِلُونَ وَيَخْلُصُ فِيهَا الحِقُونَ، كَيْ لَا يَكُونَ لِلْخَلْقِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ، وَإِنَّ الخَيْرَةَ لَا بُدَّ وَاقِعَةٌ بَعْدَ مُضِي أَبِي محمّد الحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقُلْتُ: يَا مَوْلَاتِي، هَلْ كَانَ لِلْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَلَدٌ؟
ص: 55
فَتَبَسَّمَتْ ثمّ قَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عَقِبٌ فَمَنِ الحجّة مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا إِمَامَةَ لِأَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فَقُلْتُ: يَا سيّدي حَدِّثِينِي بِوِلَادَةِ مَوْلَايَ وَغَيْبَتِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ هَا: نَرْجِسُ، فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي فَأَقْبَلَ يَحْدِقُ النَّظَرَ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سيّدي، لَعَلَّكَ هَوِيتَهَا فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ؟ فَقَالَ هَا: لَا يَا عَمَّهُ، وَلَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْهَا، فَقُلْتُ: وَمَا أَعْجَبَكَ [مِنْهَا]؟ فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَدٌ كَرِيمٌ عَلَى اللّه (عَزَّوَجَلّ) الّذي يَمْلَأُ اللّه بهِ الْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَما مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلماً»، فَقُلْتُ: فَأُرْسِلْهَا إِلَيْكَ يَا سَيِّدِى؟ فَقَالَ: «اسْتَأْذِنِي في ذَلِكَ أَبي (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، قَالَتْ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ مَنْزِلَ أَبي الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَبَدَأَنِي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَقَالَ: «يَا حَكِيمَةُ، ابْعَتِي نَرْجِسَ إِلَى ابْنِي أَبِي محمّد»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا سيّدي (1)، عَلَى هَذَا قَصَدْتُكَ، عَلَى أَنْ أَسْتَأْذِنَكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: «يَا مُبَارَكَةُ إِنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَكِ فِي الْأَجْرِ وَيَجْعَلَ لَكِ فِي الْخَيْرِ نَصِيباً»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ رَجَعْتُ إِلَىٰ مَنْزِلِي وَزَيَّنْتُهَا وَوَهَبْتُهَا لِأَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَجَمَعْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي مَنْزِلِي، فَأَقَامَ عِنْدِي أَيَّاماً، ثمّ مَضَى إِلَى وَالِدِهِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وَوَجَّهْتُ بهَا مَعَهُ.
قَالَتْ حَكِيمَةُ : فَمَضَى أَبُو الْحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَجَلَسَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَكَانَ وَالِدِهِ، وَكُنْتُ أَزُورُهُ كَمَا كُنْتُ أَزُورُ وَالِدَهُ، فَجَاءَتْني نَرْجِسُ يَوْماً تَخْلَعُ خُفّي، فَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي نَاوِلِينِي خُفَّكِ، فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَنِي وَمَوْلَاتِي، وَاللّه لَا أَدْفَعُ إِلَيْكِ خُفِّي لِتَخْلَعِيهِ، وَلَا لِتَخْدُمِينِي، بَلْ أَنَا أَخْدُمُكِ عَلَى بَصَرِي، فَسَمِعَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذَلِكَ، فَقَالَ: «جَزَاكِ اللّه يَا عَمَّةٌ خَيْراً»، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ إِلَى وَقْتِ غُرُوبِ
ص: 56
الشَّمْسِ، فَصِحْتُ بالجَارِيَةِ وَقُلْتُ: نَاوِلِينِي ثِيَابي لِأَنْصَرِفَ، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لَا يَا عَمَّتَا بيتي اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ سَيُولَدُ اللَّيْلَةَ المَوْلُودُ الْكَرِيمُ عَلَى اللّه (عَزَّوجلَّ) الّذي يُحْيِي اللّه (عَزَّوجلَّ) بهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، فَقُلْتُ: لِمَنْ يَا سيّدي؟ وَلَسْتُ أَرَى بِنَرْجِسَ شَيْئاً مِنْ أَثَرِ الحَبَلِ، فَقَالَ: «مِنْ نَرْجِسَ لَا مِنْ غَيْرِهَا»، قَالَتْ: فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقَلَبْتُهَا ظَهْراً لِبَطْنٍ فَلَمْ أَرَ بِهَا أَثَرَ حَبَلِ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَعَلْتُ، فَتَبَسَّمَ ثمّ قَالَ لِي: «إِذَا كَانَ وَقْتُ الْفَجْرِ يَظْهَرُ لَكِ بِهَا الْحَبَلُ، لِأَنَّ مَثَلَهَا مَثَلُ أُمِّ مُوسَى (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمْ يَظْهَرُ بها الحَبَلُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ إِلَى وَقْتِ وِلَادَتِهَا، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشُقُّ بُطُونَ الحُبَالَي في طَلَب مُوسَى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَهَذَا نَظِيرُ مُوسَى (عَلَيهِ السَّلَامُ)».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَعُدْتُ إِلَيْهَا فَأَخْبَرْتُها بِمَا قَالَ، وَسَأَلْتُهَا عَنْ حَالِهَا، فَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي، مَا أَرَى بِي شَيْئاً مِنْ هَذَا، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْقُبُهَا إِلَى وَقْتِ طلوع الْفَجْرِ وَهِيَ نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيَّ لَا تَقْلِبُ جَنْباً إِلَى جَنْبِ حتّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ وَقْتُ طلوع الْفَجْرِ وَثَبَتْ فَزِعَةً، فَضَمَمْتُهَا إِلَى صَدْرِي وَسَمَّيْتُ عَلَيْهَا (1)، فَصَاحَ [إِلَيَّ ] أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَقَالَ: «اقْرَئِي عَلَيْهَا «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، فَأَقْبَلْتُ أَقْرأْ عَلَيْهَا، وَقُلْتُ لهَا: مَا حَالُكِ؟ قَالَتْ: ظَهَرَ [بِيَ ] الْأَمْرُ الّذي أَخْبَرَكِ بِهِ مَوْلَايَ، فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأْ عَلَيْهَا كَمَا أَمَرَنِي، فَأَجَابَنِي الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِهَا يَقْرَأُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ.
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَفَزِعْتُ مَا سَمِعْتُ، فَصَاحَ بِي أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللّه (عَزَّوجلَّ)، إِنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنْطِقُنَا بِالحِكْمَةِ صِغَاراً، وَيَجْعَلُنَا حُجَّةً فِي أَرْضِهِ كِبَاراً، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ الْكَلَامَ حتّى غِيبَتْ عَنِّي نَرْجِسُ فَلَمْ أَرَهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَابٌ، فَعَدَوْتُ نَحْوَ أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَأَنَا صَارِخَةٌ، فَقَالَ ِلي: ارْجِعِي يَا عَمَّهُ فَإِنَّكِ سَتَجِدِيهَا فِي مَكَانِهَا».
قَالَتْ: فَرَجَعْتُ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ كُشِفَ الْغِطَاءُ الّذي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، وَإِذَا أَنَا
ص: 57
بِهَا وَعَلَيْهَا مِنْ أَثَرِ النُّورِ مَا غَشِيَ بَصَرِي، وَإِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَاجِداً لِوَجْهِهِ (1) جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ جَدِّي محمّداً رَسُولُ اللّه، وَأَنَّ أَبي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ»، ثمّ عَدَّ إِمَاماً إِمَاماً إِلَىٰ أَنْ بَلَغَ إِلَى نَفْسِهِ، ثمّ قَالَ (2): «اللّهمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، وَأَتْمِمْ لِي أَمْرِي، وَثَبِّتْ وَطأَتِي، وَامْلَا الْأَرْضَ بِي عَدْلاً وَقِسْطاً».
فَصَاحَ بي أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ: «يَا عَمَّهُ، تَنَاوَلِيهِ وَهَاتِيهِ»، فَتَنَاوَلْتُهُ وَأَتَيْتُ بِهِ نَحْوَهُ، فَلَمَّا مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ وَهُوَ عَلَى يَدَيَّ سَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ، فَتَنَاوَلَهُ الْحَسَنُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنِّي، [وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ]، وَنَاوَلَهُ لِسَانَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثمّ قَالَ: «امْضِي بِهِ إِلَى أمّه لِتُرْضِعَهُ وَرُدِّيهِ إِلَيَّ»، قَالَتْ : فَتَنَاوَلْتُهُ أمّه فَأَرْضَعَتْهُ، فَرَدَدْتُهُ إِلَى أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ، فَصَاحَ بِطَيْرِ مِنْهَا فَقَالَ لَهُ: «احْمِلْهُ وَاحْفَظْهُ وَرُدَّهُ إِلَيْنَا فِي كُلُّ أَرْبَعِينَ يَوْماً، فَتَنَاوَلَهُ الطَّيْرُ وَطَارَ بِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَاتَّبَعَهُ سَائِرُ الطَّيْرِ، فَسَمِعْتُ أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: «أَسْتَوْدِعُكَ اللّه الّذي أَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى مُوسَى»، فَبَكَتْ نَرْجِسُ، فَقَالَ لَهَا: «اسْكُتِي فَإِنَّ الرَّضَاعَ مُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ ثَدْيِكِ، وَسَيْعَادُ إِلَيْكِ كَمَا رُدَّ مُوسَى إِلَى أُمِّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللّه (عَزَّوجلَّ): «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أمّه كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ» [القصص: 13].
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا الطَّيْرُ؟ قَالَ: «هَذَا رُوحُ الْقُدُسِ المُوَكَّلُ بالأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) يُوَفِّقُهُمْ وَيُسَدِّدُهُمْ وَيُرَبِّيهِمْ بِالْعِلْم»(3).
قَالَتْ حَكِيمَةُ : فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً رُدَّ الْغُلَامُ، وَوُجِّهَ إِلَيَّ ابْنِ أَخِي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَدَعَانِي، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ مُتَحَرِّكٌ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ : يَا سيّدي،
ص: 58
هَذَا ابْنُ سَنَتَيْنِ، فَتَبَسَّمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ قَالَ: «إِنَّ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ إِذَا كَانُوا أَئِمَّةً يَنْشَؤُونَ بِخِلَافِ مَا يَنْشَؤُ غَيْرُهُمْ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا إِذَا كَانَ أَتَى عَلَيْهِ شَهْرٌ كَانَ كَمَنْ أَتَى عَلَيْهِ سَنَةٌ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا لَيَتَكَلَّمُ فِي بَطْنِ أمّه وَيَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ (عَزَّوجلَّ)، [وَ] عِنْدَ الرَّضَاعَ تُطِيعُهُ المَلَائِكَةُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ صَبَاحاً وَمَسَاءً».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرَى ذَلِكَ الصَّبِيَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلَى أَنْ رَأَيْتُهُ رَجُلاً (1) قَبْلَ مُضِي أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ فَلَمْ أَعْرِفْهُ، فَقُلْتُ لِابْنِ أَخِي (عَلَيهِ السَّلَامُ): مَنْ هَذَا الّذي تَأْمُرُنِي أَنْ أَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ؟ فَقَالَ لي: «هَذَا ابْنُ نَرْجِسَ، وَهَذَا خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي، وَعَنْ قَلِيلِ تَفْقِدُونِي، فَاسْمَعِي لَهُ وَأَطِيعِي».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَمَضَى أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ، وَافْتَرَقَ النَّاسُ كَمَا تَرَى، وَوَاللّه إِنِّي لَأَرَاهُ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّهُ لَيُنْبِئُنِي عَمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ فَأَخْبِرُكُمْ، وَوَاللّه إِنِّي لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَبْدَأُنِي بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَرُدُّ عَلَيَّ الْأَمْرَ فَيَخْرُجُ إِلَيَّ مِنْهُ جَوَابُةَ مِنْ سَاعَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَتِي، وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْبَارِحَةَ بِمَجِيئِكَ إِلَيَّ وَأَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكَ بِالْحَقِّ.
قَالَ محمّد بْنُ عَبْدِ اللّه : فَوَاللّه لَقَدْ أَخْبَرَتْنِي حَكِيمَةُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللّه (عَزَّوجلَّ)، فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقُ وَعَدْلٌ مِنَ اللّه (عَزَّوجلَّ)، لِأَنَّ اللّه (عَزَّوجلَّ) وَ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ (2).
ص: 59
[376/ 7] حدَّثنا محمّد بْنُ عَلى مَا جِيلَوَيْهِ (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ : حدَّثنا محمّد بْنُ يَحْيَى الْعَطَارُ، قَالَ: حدَّثني أَبُو عَلَيَّ الْخَيْزَرَانِيُّ، عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ كَانَ أَهْدَاهَا لِأَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَلَمَّا أَغَارَ جَعْفَرُ الْكَذَّابُ عَلَى الدَّارِ جَاءَتْهُ فَارَّةً مِنْ جَعْفَرٍ، فَتَزَوَّجَ بِهَا.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ : فَحَدَّثَتْنِي أَنَّهَا حَضَرَتْ وِلَادَةَ السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَأَنَّ اسْمَ أُمِّ السيّد: صَقِيلُ، وَأَنَّ أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حَدَّثَهَا بِمَا يَجْرِي عَلَى عِمَالِهِ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللّه (عَزَّوجلَّ) لَهَا
ص: 60
[12/381] حدَّثنا محمّد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْن إِسْحَاقَ (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ : حدَّثنا الْحَسَنُ ابْنُ عَلِيّ بْن زكريّا بِمَدِينَةِ السَّلَام قَالَ: حدَّثنا أَبُو عَبْدِ اللّه محمّد بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حدَّثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: وُلِدَ الخَلَفُ المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَوْمَ الجُمُعَةِ، وأمّه رَيْحَانَهُ، وَيُقَالُ لَهَا : نَرْجِسُ، وَيُقَالُ: صَغِيلُ، وَيُقَالُ: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ لِسَبَبِ الحَمْلِ : صَقِيلُ (1)، وَكَانَ مَوْلِدُهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةٌ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمَانَتَيْنِ، وَوَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ محمّد بْنِ عُثْمَانَ، وَأَوْصَى أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رُوحٍ، وَأَوْصَى أبو الْقَاسِمِ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ محمّد السَّمُرِي (رضیَ اللّهُ عنهُم)، قَالَ : فَلَمَّا حَضَرَتِ السَّمُرِيَ الْوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ فَقَالَ: لِلّه أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، فَالْغَيْبَةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِي السَّمري (رضیَ اللّهُ عنهُ) (2).
[13/382] حدَّثنا محمّد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضیَ اللّهُ عنهُ)، قَالَ: حدَّثنا الحَسَنُ بْنُ عَلِيّ بْن زكريّا بِمَدِينَةِ السَّلَام قَالَ: حدَّثنا أَبُو عَبْدِ اللّه محمّد بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حدَّثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ(3)، قَالَ: شَهِدْتُ
ص: 61
محمّد بْنَ عُثمانَ الْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللّه رُوحَهُ) يَقُولُ: لَمَّا وُلِدَ الخَلَفُ المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَطَعَ نُورٌ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ إِلَى أَعْنَانِ السَّمَاءِ، ثمّ سَقَطَ لِوَجْهِهِ سَاجِداً لِرَبِّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، ثمّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ [آل عمران: 18 و 19]، قَالَ : وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
[ 383 / 14] وَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ محمّد بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِي (قَدَّسَ اللّه رُوحَهُ) أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَخْتُونَا، وَسَمِعْتُ حَكِيمَةَ تَقُولُ: لَمْ يُرَ بِأُمِّهِ دَمٌ فِي نِفَاسِهَا، وَهَكَذَا سَبِيلُ أُمَّهَاتِ الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ص: 62
[ 410 / 24] حدَّثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ [عَلِيِّ بْنِ ] محمّد بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الحُسَيْنِ بْن عَلِيّ بْن أبي طَالِب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الحُسَيْنِ الْحَسَنَ بْنَ وَجْنَاءَ يَقُولُ: حدَّثنا أَبِي، عَنْ جَدِّهِ (1) أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ الحَسَن بن على، فَكَبَسَتْنَا الخَيْلُ وَفِيهِمْ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَذَّابُ، وَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ وَالْغَارَةِ، وَكَانَتْ هِمَّتِي فِي مَوْلَايَ
ص: 63
الْقَائِم (عَلَيهِ السَّلَامُ). قَالَ : فَإِذَا [أَنَا] بِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قَدْ أَقْبَلَ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابْنُ سِتّ سِنِينَ، فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حتّى غَابَ (1).
وَوَجَدْتُ مُثبتاً فِي بَعْضِ الْكُتُبِ المصنِّفةِ فِي التَّوَارِيحَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا عَنْ محمّد ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبَّادِ، أَنَّهُ قَالَ: مَاتَ أَبو محمّد الحَسَنُ بْنُ عَلىٍّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لم يَوْمَ جُمعَةٍ مَعَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَكَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَدْ كَتَبَ بِيَدِهِ كُتباً كَثِيرَةً إِلَى المَدِينَةِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعِ الْأَوَّلِ لِثَمَانِ خَلَوْنَ مِنْهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهَجْرَةِ، وَلَمْ يَحْضُرْ[هُ] فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا صَقِيلُ الْجَارِيَةُ، وَعَقِيدٌ الخَادِمُ، وَمَنْ عَلِمَ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) غَيْرُهُمَا.
قَالَ عَقِيدٌ: فَدَعَا بِمَاءٍ قَدْ أُغْلِيَ بِالمَصْطَكِي (2)، فَجِئْنَا بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ، هَيِّئُونِي»، فَجِئْنَا بِهِ وَبَسَطْنَا فِي حَجْرِهِ الْمُنْدِيلَ، فَأَخَذَ مِنْ صَقِيلَ المَاءَ، فَغَسَلَ بِهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ مَسْحاً، وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْح عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَخَذَ الْقَدَحَ لِيَشْرَبَ فَأَقْبَلَ الْقَدَحُ يَضْرِبُ ثَنَايَاهُ وَيَدُهُ تَرْتَعِدُ، فَأَخَذَتْ صَقِيلُ الْقَدَحَ مِنْ يَدِهِ.
وَمَضَى مِنْ سَاعَتِهِ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ)، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ بسُرَّ مَنْ رَأَى إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمَا)، فَصَارَ إِلَى كَرَامَةِ اللّه (عَزَّوَجَلَّ)، وَقَدْ كَمَلَ عُمُرُهُ تِسْعاً وَعِشْرِينَ سَنَةٌ.
قَالَ: وَقَالَ لِي عَبَّادٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَدِمَتْ أُمُّ أَبي مُحمّدٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ المَدِينَةِ، وَاسْمُهَا: حَدِيثُ، حِينَ اتَّصَلَ بِهَا الْخَبَرُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَىٰ، فَكَانَتْ لَمَا أَقَاصِيصُ يَطُولُ شَرْحُهَا مَعَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ وَمُطَالَبَتْهُ إِيَّاهَا بِمِيرَائِهِ وَسِعَايَتُهُ بِهَا إِلَى السُّلْطَانِ وَكَشْفُهُ مَا أَمَرَ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) بِسَتْرِهِ، فَادَّعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ صَقِيلُ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَحُمِلَتْ إِلَى دَارِ المُعْتَمِدِ، فَجَعَلَ نِسَاءُ الْمُعْتَمِدِ وَخَدَمُهُ وَنِسَاءُ الْمُوَفَّقِ وَخَدَمُهُ وَنِسَاءُ الْقَاضِي ابْنِ أَبِي
ص: 64
الشَّوَارِبِ يَتَعَاهَدْنَ أَمْرَهَا فِي كُلِّ وَقْتِ، وَيُرَاعُونَ إِلَى أَنْ دَهَمَهُمْ أَمْرُ الصِّغَارِ وَمَوْتُ عُبَيْدِ اللّه بن يَحْيَى بن خَاقَانَ بَغْتَةً، وَخُرُوجُهُمْ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَأَمْرُ صَاحِب الزِّنْجِ بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ محمّد حَبَّابٌ (1): حدَّثني أَبُو الْأَدْيَانِ، قَالَ: قَالَ عَقِيدٌ الخَادِمُ. وَقَالَ أَبُو محمّد بْنُ خَيْرَوَيْهِ التُسْتَرِيُّ، وَقَالَ حَاجِزُ الْوَضَّاءُ (2)، كُلُّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَقِيدِ الْخَادِم.
وَقَالَ أَبُو سَهْلِ بْنُ نَوْبَخْتَ قَالَ عَقِيدٌ الْحَادِمُ: وُلِدَ وَليُّ اللّه الحجّة بن الحَسَنِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ غُرَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ (3) سَنَةَ أَرْبَعِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَيُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ، وَيُقَالُ: أَبو جَعْفَرٍ، وَلَقَبُهُ المهديّ، وَهُوَ حُجَّةُ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) فِي أَرْضِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وأمّه صَقِيلُ الْجَارِيَةُ، وَمَوْلِدُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فِي دَرْبِ الرَّاضَةِ (4)، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْ ذِكْرِ خَبَرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَى ذِكْرَهُ، وَاللّه أَعْلَمُ بِهِ.
وَحَدَّثَ أَبُو الْأَدْيَانِ، قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وَأَحْمِلُ كُتُبَهُ إِلَى الْأَمْصَارِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ)، فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً، وَقَالَ: «امْضِ بِهَا إِلَى المَدَائِنِ، فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَتَدْخُلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَتَسْمَعُ الْوَاعِيَّةَ فِي دَارِي، وَتَجِدُنِي عَلَى
ص: 65
المُغْتَسَل»، قَالَ أَبُو الْأَدْيَانِ: فَقُلْتُ: يَا سيّدي، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ الْقَائِمُ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي الْهِمْيَانِ فَهُوَ الْقَائِمُ بعدي»، ثمّ مَنَعَتْنِي هَيْبَتُهُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَمَّا فِي الهِمْيَانِ.
وَخَرَجْتُ بِالْكُتُبِ إِلَى المَدَائِنِ، وَأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا، وَدَخَلْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ كَمَا ذَكَرَ لي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَإِذَا أَنَا بِالْوَاعِيَةِ فِي دَارِهِ، وَإِذَا بِهِ عَلَى الْمُغْتَسَلِ، وَإِذَا أَنَا بِجَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ أَخِيهِ بِبَابِ الدَّارِ وَالشَّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يُعَزُّونَهُ وَيُهنُّونَهُ، فَقُلتُ في نَفْسِي إِنْ يَكُنْ هَذَا الْإِمَامُ فَقَدْ بَطَلَتِ الْإِمَامَةُ، لِأَنّي كُنْتُ أَعْرِفُهُ يَشْرَبُ النَّبِيذ، وَيُقَامِرُ فِي الْجَوْسَقِ، وَيَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ، فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ وَهَنَّيْتُ، فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، ثمّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَالَ : يَا سيّدي، قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ، فَقُمْ وَصَلِّ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشَّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يَقْدُمُهُمُ السَّمانُ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَتِيلُ المُعْتَصِمِ المَعْرُوفُ بِسَلَمَةَ.
فَلَمَّا صِرْنَا فِي الدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٌّ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ) عَلَى نَعْشِهِ مُكَفَّنَا، فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَى أَخِيهِ، فَلَمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِيرِ خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ بِشَعْرِهِ قَطَطٌ بِأَسْنَانِهِ تَفْلِيجٌ، فَجَبَدَ بِرِدَاءِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «تَأَخَّرْ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَبِي»، فَتَأَخَرَ جَعْفَرٌ، وَقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاصْفَرَّ (1)، فَتَقَدَّمَ الصَّبِيُّ وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، ثمّ قَالَ: «يَا بَصْرِيُّ، هَاتِ جَوَابَاتِ الْكُتُبِ الَّتِي مَعَكَ»، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ بَيِّنَتَانِ (2)، بَقِيَ الْهِمْيَانُ.
ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَزْفِرُ، فَقَالَ لَهُ حَاجِزٌ الْوَشَاءُ: يَا سيّدي، مَنِ الصَّبِيُّ؟ لِنُقِيمَ الحجّة عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاللّه مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ، وَلَا أَعْرِفُهُ.
ص: 66
فَنَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُمَّ، فَسَأَلُوا عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فَعَرَفُوا مَوْتَهُ، فَقَالُوا: فَمَنْ [نُعَزِّي ]؟ فَأَشَارَ النَّاسُ إِلَى جَعْفَرِ بْن عَلَى، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَزَّوْهُ وَهَنَّوْهُ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعَنَا كُتُباً وَمَالاً، فَتَقُولُ مِمَّنِ الْكُتُبُ، وَكَم المالُ، فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ وَيَقُولُ: تُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَعْلَمَ الْغَيْبَ.
قَالَ: فَخَرَجَ الْخَادِمُ، فَقَالَ: مَعَكُمْ كُتُبُ فَلَانٍ وَفُلَانِ [وَفُلَانٍ]، وَهِمْيَانٌ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مَطْلِيَّةٌ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ الْكُتُبَ وَالمَالَ وَقَالُوا: الّذي وَجَهَ بِكَ لِأَخْذِ ذَلِكَ هُوَ الْإِمَامُ.
فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْمُعْتَمِدِ وَكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ، فَوَجَّهَ الْمُعْتَمِدُ بِخَدَمِهِ، فَقَبَضُوا عَلَى صَقِيلَ الجَارِيَةِ، فَطَالَبُوهَا بِالصَّبِيِّ، فَأَنْكَرَتْهُ وَادَّعَتْ حَبْلاً بِهَا لِتُغَطِّيَ حَالَ الصَّبِيِّ، فَسُلَّمَتْ إِلَى ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ الْقَاضِي، وَبَغَتَهُمْ مَوْتُ عُبَيْدِ اللّه بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ فَجْأَةً، وَخُرُوجُ صَاحِبِ الزِّنْج بِالْبَصْرَةِ، فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَنِ الْجَارِيَةِ، فَخَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (1).
ص: 67
ص: 68
تأليف
العالِمِ الرَّيَّانِي شَحَ الطَّائِفَةِ
أَبِي جَعفَرٍ مُحَمَّد بن الحَسَن الطوسيّ (قدّس سِرُّه)
تقديم وتحقيق
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
ص: 69
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
اسم الكتاب: ...كتاب الغيبة
تأليف:... شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (قدّس سِرُّه)
تقديم وتحقيق:... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
رقم الإصدار:...275
الطبعة:... الأولى 1444ه_
عدد النُّسَخ... طبعة محدودة
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق- النجف الأشرف
هاتف: 07809744474 - 07816787226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 70
178 - أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي الْفَضَّل الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي الحُسَيْنِ محمّد بْنِ بَحْرِ بْنِ سَهْلِ الشيبانيّ الرُّهْنِي (1)، قَالَ: قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمانَ اَلنَّخَّاسُ - وَهُوَ مِنْ وُلْدِ أَي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَحَدُ مَوَالِي أَبِي اَلْحَسَنِ وَأَبِي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى -: أَتَانِي كَافُورٌ اَلْخَادِمُ (2)، فَقَالَ: مَوْلَانَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ محمّد العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، يَدْعُوكَ إِلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لِي: «يَا بِشْرُ، إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ الْمُوَالَاةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، وَأَنْتُمْ ثِقَاتُنا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَمُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الشَّيعَةَ فِي المُوَالَاةِ بِهَا بِسِرِّ
ص: 71
أُطْلِعُكَ عَلَيْهِ، وَأُنْفِذُكَ فِي ابْتِيَاع أَمَةٍ»، فَكَتَبَ كِتَاباً لَطِيفاً بِخَطٌ رُومِيٌّ وَلْغَةٍ رُومِيَّةٍ، وَطَبَعَ عَلَيْهِ خَاتَمَهُ، وَأَخْرَجَ شَقِيقَةٌ (1) صَفْرَاءَ فِيهَا مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ دِينَاراً، فَقَالَ: «خُذْهَا وَتَوَجَّهُ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ، وَاحْضُرُ مَعْبَرَ الْفُرَاتِ ضَحْوَةَ يَوْمٍ كَذَا، فَإِذَا وَصَلَتْ إلَى جَانِبِكَ زَوَارِيقُ السَّبَايَا، وَتَرَى الْجَوَارِي فِيهَا، سَتَجِدُ طَوَائِفَ المُبْتَاعِينَ مِنْ وَكَلَاءِ فَوَّادِ بَنِي العبّاس وَشِرْذِمَةً مِنْ فِتْيَانِ الْعَرَب، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرِفْ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى المُسَمَّى عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسَ عَامَّةَ نَهَارِكَ إِلَى أَنْ تُبْرَزَ لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيَةٌ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا، لَابِسَةٌ حَرِيرَيْنِ صَفِيقَيْنِ (2)، تَمتَنِعُ مِنَ الْعَرْضِ وَلَسِ الْمُعْتَرِضِ وَالْاِنْقِيَادِ مَنْ يُحَاوِلُ لَمَسَهَا، وَتَسْمَعُ صَرْخَةٌ رُومِيَّةٌ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِ رَقِيقِ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ: وَا هَتْكَ سِتْرَاهُ، فَيَقُولُ بَعْضُ الْمُبْتَاعِينَ : عَلَيَّ ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَدْ زَادَنِي اَلْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً، فَتَقُولُ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ : لَوْ بَرَزْتَ فِي زِيّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَعَلَى شِبْهِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لي فِيكَ رَغْبَةٌ، فَأَشْفِقُ عَلَى مَالِكَ، فَيَقُولُ النَّخَاسُ : فَمَا الحِيلَةُ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ، فَتَقُولُ الْجَارِيَةُ: وَمَا الْعَجَلَهُ؟ وَلَا بُدَّ مِن اِخْتِيَارِ مُبْتَاعَ يَسْكُنُ قَلْبِي إِلَيْهِ وَإِلَىٰ وَفَائِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسِ (3)، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ مَعَكَ كِتاباً مُلْصَقاً (4) لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغةٍ رُومِيَّةٍ وَخَط رُومِيٌّ وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ، فَنَاولِهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أَخْلَاقَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ فَأَنا وَكِيلُهُ فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ».
قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ : فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لي مَوْلَايَ أَبُو الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أَمْرِ الْجَارِيَةِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ فِي الْكِتَابِ بَكَتْ بُكَاءً شَدِيداً، وَقَالَتْ لِعُمَرَ (5) بْنِ يَزِيدَ:
ص: 72
بِعْنِي مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ، وَحَلَفَتْ بِالمُحَرَّجَةِ وَالْمُغَلَّظَةِ (1) أَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ بَيْعهَا مِنْهُ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، فَمَا زِلْتُ أَشَاحُهُ فِي ثَمَنِهَا حتّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ أَصْحَبَنِيهِ مَوْلَايَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ الدَّنَانِيرِ، فَاسْتَوْفَاهُ مِنِّي، وَتَسَلَّمْتُ الجَارِيَةَ ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً، وَانْصَرَفْتُ بِهَا إِلَى الحَجَيْرَةِ الَّتِي كُنْتُ آوِي إِلَيْهَا بِبَغْدَادَ، فَمَا أَخَذَهَا الْقَرَارُ حتّى أَخْرَجَتْ كِتَابَ مَوْلَانَا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنْ جَيْبِهَا وَهِيَ تَلْثِمُهُ وَتُطْبقه عَلَى جَفْنِهَا وَتَضَعُهُ عَلَى خَدَّهَا وَتَمْسَحُهُ عَلَى بَدَنها (2).
فَقُلْتُ تَعَجُّباً مِنْهَا: تَلْثِمِينَ كِتَاباً لَا تَعْرِفِينَ صَاحِبَهُ.
فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْعَاجِزُ الضَّعِيفُ المَعْرِفَةِ بِمَحَلِّ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، أَعِرْنِي (3) سَمْعَكَ وَفَرِّغْ فِي قَلْبَكَ، أَنَا مَلَيْكَةُ بِنْتُ يَشُوعًا بْنِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَأُمِّي مِنْ وُلْدِ الْخَوَارِيِّينَ تُنْسَبُ إِلَى وَصِيِّ المَسِيحَ شَمْعُونَ، أُنَبِّتُكَ بِالْعَجَبِ.
إِنَّ جَدِّي قَيْصَرَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَنِي مِن اِبْنِ أَخِيهِ وَأَنَا مِنْ بَنَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٌ، فَجَمَعَ فِي قَصْرِهِ مِنْ نَسْلِ الْخَوَارِيِّينَ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَمِنْ ذَوِي الْأَخْطَارِ مِنْهُمْ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَمَعَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَقُوَّادِ الْعَسْكَرِ وَنُقَبَاءِ الجُيُوشِ وَمُلُوكِ الْعَشَائِرِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَبْرَزَ مِنْ بَهِي مُلْكِهِ عَرْشاً مَصْنُوعاً (4) مِنْ أَصْنَافِ اَلْجُوْهَرِ إِلَى صَحْنِ الْقَصْرِ، وَرَفَعَهُ (5) فَوْقَ أَرْبَعِينَ مِرْقَاةً، فَلَما صَعِدَ اِبْنُ أَخِيهِ، وَأَحْدَقَتِ الصُّلُبُ (6)، وَقَامَتِ الْأَسَاقِفَةُ عُكَفَاً، وَنُشِرَتْ
ص: 73
أَسْفَارُ الْإِنْجِيل، تَسَافَلَتِ الصُّلُبُ مِنَ الْأَعْلَى فَلَصِقَتْ بِالْأَرْضِ، وَتَقَوَّضَتْ أَعْمِدَةُ الْعَرْشِ، فَانُهَارَتْ إِلَى الْقَرَارِ، وَخَرَّ الصَّاعِدُ مِنَ الْعَرْشِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُ الْأَسَاقِفَةِ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ جَدي: أَيُّهَا المَلِكُ أَعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ النُّحُوسِ الدَّالَّةِ عَلَى زَوَالِ دَوْلَةِ هَذَا الدِّينِ المَسِيحِي وَالمَذْهَبِ اَلمَلِكَانِيِّ، فَتَطَيَّرَ جَدِّي مِنْ ذَلِكَ تَطَيْراً شَدِيداً، وَقَالَ لِلْأَسَاقِفَةِ: أَقِيمُوا هَذِهِ الْأَعْمِدَةَ وَارْفَعُوا الصُّلْبَانَ وَأَحْضِرُوا أَخَا هَذَا المذبر الْعَاثِر (1) المنكوس جَدُّهُ لِأَزَوِّجَهُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ، فَيُدْفَعَ (2) نُحُوسُهُ عَنْكُمْ بِسُعُودِهِ، فَلَها فَعَلُوا ذَلِكَ حَدَثَ عَلَى الثَّانِي مِثْلُ مَا حَدَثَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَقَامَ جَدِّي قَيْصَرُ مُنْتَها، فَدَخَلَ مَنْزِلَ النِّسَاءِ، وَأُرْخِيَتِ السُّتُورُ، وَأُرِيتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ المَسِيحَ وَشَمْعُونَ وَعِدَّةٌ مِنَ الْخَوَارِيِّينَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي قَصْرِ جَدِّي، وَنَصَبُوا فِيهِ مِنْبَراً مِنْ نُورٍ يُبَارِي السَّمَاءَ عُلُوًّا وَارْتِفَاعاً فِي المَوْضِع الّذي كَانَ نَصَبَ جَدِّي فِيهِ عَرْشَهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وَخَتَتْهُ وَوَصِيهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَعِدَّةٌ مِنْ أَبْنَائِهِ (عَلَيهِم السَّلَامُ).
فَتَقَدَّمَ المَسِيحُ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ، فَيَقُولُ لَهُ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يَا رُوحَ اللّه، إِنِّي جِئْتُكَ خَاطِباً مِنْ وَصِيكَ شَمْعُونَ فَتَاتَهُ مُلَيْكَةَ لِابْنِى هَذَا - وَأَوْمَا بِيَدِهِ إِلَى أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابْنِ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ-» ، فَنَظَرَ المَسِيحُ إِلَى شَمْعُونَ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَتَاكَ الشَّرَفُ، فَصِلْ رَحِمَكَ رَحِمَ آلِ محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)، قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ، فَصَعِدَ ذَلِكَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وَزَوَّجَنِي مِن ابْنِهِ، وَشَهِدَ المَسِيحُ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَشَهِدَ أَبْنَاءُ محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ) وَالخَوَارِيُّونَ.
ص: 74
فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ أَشْفَقْتُ أَنْ أَقُصَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى أَبي وَجَدِّي مَخَافَةَ الْقَتْل فَكُنْتُ أُسِرهَا وَلَا أُبْدِيها هُمْ، وَضَرَبَ صَدْرِي بِمَحَبَّةِ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى اِمْتَنَعْتُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَضَعْفَتْ نَفْسِي، وَدَقَّ (1) شَخْصِي، وَمَرِضْتُ مَرَضاً شَدِيداً، فَمَا بَقِيَ فِي مَدَائِنِ الرُّومِ طَبِيبٌ إِلَّا أَحْضَرَهُ جَدِّي، وَسَأَلَهُ عَنْ دَوَائِي، فَلَما بَرِحَ بِهِ الْيَأْسُ قَالَ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، وَهَلْ يَخْطُرُ بِبَالِكِ شَهْوَةٌ فَأَزَوِّدَكِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟ فَقُلْتُ: يَا جَدْيِ، أَرَى أَبْوَابَ الْفَرَج عَلَيَّ مُغْلَقَةٌ، فَلَوْ كَشَفْتَ الْعَذَابَ عَمَّنْ فِي سِجْنِكَ مِنْ أَسَارَى المُسْلِمِينَ، وَفَكَكْتَ عَنْهُمُ الْأَغْلَالَ، وَتَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَمَنيَّتَهُمُ الخَلاصَ، رَجَوْتُ أَنْ يَهبَ ليَ المَسِيحُ وأمّه عَافِيَةٌ.
فَلَما فَعَلَ ذَلِكَ تَجَلَّدْتُ فِي إِظْهَارِ الصَّحَّةِ مِنْ بَدَنِي قَلِيلاً، وَتَنَاوَلْتُ يَسِيراً مِنَ الطَّعَامِ، فَسَّرَ بِذَلِكَ، وَأَقْبَلَ عَلَى إِكْرَامِ الْأَسَارَى وَإِعْزَازِهِمْ، فَأُرِيتُ أَيْضاً بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً كَأَنَّ سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاطِمَةَ (عَلَيهَا السَّلَامُ) قَدْ زَارَتْنِي وَمَعَهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَأَلْفٌ مِنْ وَصَائِفِ الْجِنَانِ، فَتَقُولُ لِي مَرْيَمُ: هَذِهِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أُمُّ زَوْجِكِ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَأَتَعَلَّقُ بِهَا وَأَبْكِي وَأَشْكُو إِلَيْهَا اِمْتِنَاعَ أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنْ زِيَارَتِي.
فَقَالَتْ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ (عَلَيهَا السَّلَامُ): «إِنَّ ابْنِي أَبَا محمّد لَا يَزُورُكِ وَأَنْتِ مُشْرِكَةً بِاللّه عَلَى مَذْهَبِ اَلنَّصَارَى، وَ هَذِهِ أُخْتِي مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ تَبْرَأَ إِلَى اللّه تَعَالَى مِنَ دِينِكِ، فَإِنْ مِلْتِ إِلَى رِضَى اللّه وَرِضَى المَسِيحَ وَمَرْيَمَ ما وَزِيَارَةِ أَبِي محمّد إِيَّاكِ، فَقُولِي: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وَأَنَّ أَبي محمّداً رَسُولُ اللّه»، فَلَمَّا تَكَلَّمْتُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ضَمَّتْنِي إِلَى صَدْرِهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (عَلَيهَا السَّلَامُ)، وَطَيِّبَتْ نَفْسِي، وَقَالَتْ: «أَلْآنَ تَوَقَّعِي زِيَارَةَ أَي محمّد، فَإِنِّي مُنْفِذَتُهُ إِلَيْكِ»، فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا أَنُولُ (2) وَأَتَوَفَّعُ لِقَاءَ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 75
فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ رَأَيْتُ أَبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَكَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: جَفَوْتَنِي يَا حَبِيبِي بَعْدَ أَنْ أَتْلَفَتْ نَفْسِي مُعَالَجَةُ حُبِّكَ، فَقَالَ: «مَا كَانَ تَأْخُرِي عَنْكِ إِلَّا لِشِرْكِكِ، فَقَدْ أَسْلَمْتِ، وَأَنَا زَائِرُكِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللّه تَعَالَى شَمْلَنَا فِي الْعَيَانِ، فَما قَطَعَ عَنِّي زِيَارَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
قَالَ بِشَرٌ: فَقُلْتُ هَا: وَكَيْفَ وَقَعَتِ فِي الْأُسَارَى؟
فَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرُ جَيْشاً إِلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، ثمّ يَتْبَعُهُمْ، فَعَلَيْكِ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ مُتَنَكَّرَةٌ فِي زِيٍّ اَلْخَدَمِ مَعَ عِدَّةٍ مِنَ الْوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَوَقَعَتْ عَلَيْنَا طَلَايعُ الْمُسْلِمِينَ حتّى كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَشَاهَدْتَ، وَمَا شَعَرَ بِأَنِّي ابْنَةُ مَلِكِ الرُّوم إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَحَدٌ سِوَاكَ، وَذَلِكَ بِإِطْلَاعِي إِيَّاكَ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي الشَّيْخُ الّذي وَقَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ عَنِ اسْمِي، فَأَنْكَرْتُهُ وَقُلْتُ: نَرْجِسُ، فَقَالَ: اِسْمُ الْجَوَارِي.
قُلْتُ: الْعَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَفٌ.
قَالَتْ: نَعَمْ مِنْ وُلُوعِ جَدِّي وَحَمْلِهِ إِيَّايَ عَلَى تَعَلُّمِ الْآدَابِ أَنْ أَوْعَزَ (1) إِلَيَّ امْرَأَةً تَرْجُمَانَةٌ لِي (2) فِي الْاِخْتِلَافِ إِلَيَّ، وَكَانَتْ تَقْصُدُنِي صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَتُفِيدُنِي الْعَرَبيَّة حتّى اسْتَمَرَّ لِسَانِي عَلَيْهَا وَاسْتَقَامَ.
قَالَ بِشْرٌ : فَلَمَّا انْكَفَأْتُ (3) بِهَا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى دَخَلَتْ عَلَى مَوْلَايَ أَبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ: «كَيْفَ أَرَاكِ اللّه عِزَّ الْإِسْلَام وَذُلُّ النَّصْرَانِيَّةِ وَشَرَفَ محمّد وَأَهْل بَيْتِهِ (عَلَيهِم السَّلَامُ)»، قَالَتْ: كَيْفَ أَصِفُ لَكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ
ص: 76
مِنِّي ؟ قَالَ: «فَإِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكِ، فَما أَحَبُّ إِلَيْكِ، عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ أَمْ بُشْرَى لَكِ بِشَرَفِ الْأَبَدِ؟»، قَالَتْ: بُشْرَى بِوَلَدِ ِلي، قَالَ لَهَا: «أَبْشِرِي بوَلَدِ يَمْلِكُ الدُّنْيَا شَرْقاً وَغَرْباً، وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»، قَالَتْ: مَنْ؟ قَالَ: «مِمَّنْ خَطَبَكِ رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لَهُ لَيْلَةَ كَذَا فِي شَهْرٍ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا بِالرُّومِيَّةِ؟»، قَالَتْ: مِنَ المَسِيحَ وَوَصِيهِ، قَالَ لَهَا: «مَنْ زَوَّجَكِ المَسِيحُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَوَصِيُّهُ؟»، قَالَتْ: ابْنِكَ أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ: «هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟»، قَالَتْ: وَهَلْ خَلَتْ لَيْلَةٌ لَمْ يَرَنِي فِيهَا مُنْذُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَسْلَمْتُ عَلَى يَدِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهَا)؟
قَالَ: فَقَالَ مَوْلَانَا: «يَا كَافُورُ، أَدْعُ أُخْتِي حَكِيمَةَ»، فَلَمَّا دَخَلَتْ قَالَ لَهَا: «هَا هِيَهُ»، فَاعْتَنقَتْهَا طَوِيلاً، وَسُرَتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا أَبُو أَحْسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا بِنْتَ رَسُولِ اللّه، خُذِيهَا إِلَى مَنْزِلِكِ وَعَلْمِيهَا الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ، فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَي محمّد، وَأُمُّ الْقَائِم (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(1).
ص: 77
204 - وَأَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي جِيدِ، عَنْ محمّد بْنِ اَلحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ - اَلصَّفَّارِ محمّد بْنِ الْحَسَنِ الْقُمِّيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه المُطَهَّرِيِّ، عَنْ حَكِيمَةَ بِنْتِ محمّد اِبْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي النَّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقَالَ: «يَا عَمَّةِ، اِجْعَلِي اللَّيْلَةَ إِفْطَارَكِ عِنْدِي، فَإِنَّ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) سَيَسُرُّكِ بِوَليّهِ وَحُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَتَدَاخَلَنِي لِذَلِكَ سُرُورٌ شَدِيدٌ، وَأَخَذْتُ ثِيَابِي عَلَيَّ وَخَرَجْتُ مِنْ سَاعَتِي حتّى انْتَهَيْتُ إِلَى أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَهُوَ جَالِسٌ فِي صَحْنٍ دَارِهِ، وَجَوَارِيهِ حَوْلَهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا سيّدي، اَلْخَلَفُ مِمَّنْ هُوَ ؟ قَالَ: «مِنْ سَوْسَنَ»، فَأَدَرْتُ طَرْفِي فِيهِنَّ، فَلَمْ أَرَ جَارِيَةً عَلَيْهَا أَثَرٌ غَيْرَ سَوْسَنَ.
ص: 78
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا أَنْ صَلَّيْتُ المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ أُتِيتُ بِالمَائِدَةِ، فَأَفْطَرْتُ أَنَا وَسَوْسَنُ، وَبَايَتُهَا فِي بَيْتِ وَاحِدٍ، فَغَفَوْتُ غَفْوَة (1) ، ثمّ اسْتَيْقَظتُ، فَلَمْ أَزَلُ مُفَكَّرَةً فِيمَا وَعَدَنِ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنْ أَمْرِ ولي اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقُمْتُ قَبْلَ الْوَقْتِ الّذي كُنْتُ أَقُومُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ اللَّيْلِ حتّى بَلَغْتُ إِلَى الْوَتْرِ، فَوَثَبَتْ سَوْسَنُ فَزِعَةً، وَخَرَجْتُ فَزِعَةً وَ[خَرَجَتْ ] (2) وَأَسْبَغَتِ الْوُضُوءَ، ثمّ عَادَتْ فَصَلَّتْ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَبَلَغَتْ إِلَى الْوَتْرِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ الْفَجْرَ (قَدْ) (3) قَرُبَ، فَقُمْتُ لِأَنْظُرَ، فَإِذَا بِالْفَجْرِ الْأَوَّلِ قَدْ طَلَعَ، فَتَدَاخَلَ قَلْبِيَ الشَّكُ مِنْ وَعْدِ أبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَنَادَانِي مِنْ حُجْرَتِهِ: «لَا تَشُكّي، وَكَأَنَّكِ (4) بِالْأَمْرِ السَّاعَةَ قَدْ رَأَيْتِهِ إِنْ شَاءَ اللّه تَعَالَى».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَمِمَّا وَقَعَ فِي قَلْبِي، وَرَجَعْتُ إِلَى الْبَيْتِ وَأَنَا خَجِلَةٌ، فَإِذَا هِيَ قَدْ قَطَعَتِ الصَّلَاةَ وَخَرَجَتْ فَزِعَةٌ، فَلَقِيتُهَا عَلَى بَابِ الْبَيْتِ، فَقُلْتُ: بأَبِي أَنتِ (وَأُمِّي) (5)، هَلْ تُحِسِّينَ شَيْئاً؟ قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَمَّةِ، إِنِّي لَأَجِدُ أَمْراً شَدِيداً، قُلْتُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللّه تَعَالَى، وَأَخَذْتُ وِسَادَةً فَأَلْقَيْتُهَا فِي وَسَطِ الْبَيْتِ، وَأَجْلَسْتُهَا عَلَيْهَا، وَجَلَسْتُ مِنْهَا حَيْثُ تَقْعُدُ المَرْأَةُ مِنَ المَرْأَةِ لِلْوِلَادَةِ، فَقَبَضَتْ عَلَى كَفَّى، وَغَمَزَتْ غَمْزَةً شَدِيدَةً، ثمّ أَنَّتْ أَنَّةً، وَتَشَهَّدَتْ، وَنَظَرْتُ تَحْتَهَا، فَإِذَا أَنَا بِوَلِيٍّ اللّه (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ) مُتَلَقِّياً اَلْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، فَأَخَذْتُ بِكَتِفَيْهِ، فَأَجْلَسْتُهُ فِي حَجْرِي، فَإِذَا هُوَ نَظِيفٌ مَفْرُوعٌ
ص: 79
مِنْهُ، فَنَادَانِي أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّةِ، هَلُمَّي فَأْتِينِي بِابْنِي»، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَتَنَاوَلَهُ، وَأَخْرَجَ لِسَانَهُ، فَمَسَحَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، فَفَتَحَهَا (1)، ثمّ أَدْخَلَهُ فِي فِيهِ، فَحَنَكَهُ، ثمّ [أَدْخَلَهُ] فِي أُذُنَيْهِ وَأَجْلَسَهُ فِي رَاحَتِهِ الْيُسْرَى، فَاسْتَوَى وَلي اللّه جَالِساً، فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، اِنْطِقُ بِقُدْرَةِ أَلل»، فَاسْتَعَاذَ وَلِيُّ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ، وَاسْتَفْتَحَ «بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنَّ نَمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» [القصص: 5 و 6]، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وَعَلَى أمير المؤمِنِينَ وَالأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) وَاحِداً وَاحِداً حتّى انْتَهَى إِلَى أَبِيهِ، فَنَاوَلَنِيهِ (2) أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَقَالَ: «يَا عَمَّةِ، رُدِّيهِ إلَى أمّه حتّى «تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» [القصص: 13]، فَرَدَدْتُهُ إِلَى أمّه وَقَدِ انْفَجَرَ الْفَجْرُ الثَّانِي، فَصَلَّيْتُ اَلْفَرِيضَةَ وَعَقَّبْتُ إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، ثمّ وَدَّعْتُ أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَانْصَرَفْتُ إِلَى مَنْزِلي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثِ اِشْتَقْتُ إِلَى وَلي اللّه، فَصِرْتُ إِلَيْهِمْ، فَبَدَأتُ بالحُجْرَةِ الَّتِي كَانَتْ سَوْسَنُ فِيهَا، فَلَمْ أَرَ أَثَراً وَلَا سَمِعْتُ ذِكْراً، فَكَرِهْتُ أَنْ أَسْأَلَ، فَدَخَلْتُ عَلَى أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَبْدَأَهُ بِالسُّؤَالِ، فَبَدَأَنِي، فَقَالَ: «هُوَ يَا عَمَّةٍ فِي كَتَفِ اللّه وَحِرْزِهِ وَسِتْرِهِ وَغَيْبِهِ حتّى يَأْذَنَ اللّه لَهُ، فَإِذَا غَيَّبَ اللّه شَخْصِي وَتَوَفَّانِي وَرَأَيْتِ شِيعَتِي قَدِ اِخْتَلَفُوا فَأَخْبِرِي الثَّقَاتَ مِنْهُمْ، وَليَكُنْ عِندَكِ وَعِنْدَهُمْ مَكْتُوماً، فَإِنَّ وَليَّ اللّه يُغَيِّبُهُ اللّه عَنْ خَلْقِهِ وَيَحْجُبُهُ عَنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ حتّى يُقَدِّمَ لَهُ جَبْرَئِيلُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَرَسَهُ، «لِيَقْضِيَ اللّه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً» [الأنفال: 42]».
ص: 80
205 - وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ محمّد بْنِ الحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى الْعَطَارِ، عَنْ محمّد بْن حَمَّوَيْهِ الرَّازِيِّ، عَن الحُسَيْنِ بْن رِزْقِ اللّه، عَنْ مُوسَى بْنِ محمّد بْنِ جَعْفَرٍ (1)، قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَكِيمَةُ بِنْتُ محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِمِثْلِ مَعْنَى الحَدِيثِ اَلْأَوَّلِ إِلَّا أَنها قَالَتْ: فَقَالَ لي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّةِ، إِذَا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ فَأْتِينَا»، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ جِئْتُ لِأُسَلَّمَ عَلَى أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَكَشَفْتُ عَن السِّتْرَ لأَتَفَقَّدَ سيّدي، فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا فَعَلَ سيّدي ؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةِ، اِسْتَوْدَعْنَاهُ الّذي اسْتَوْدَعَتْ أُمُّ مُوسَى»، فَلَما كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ: «هَلُمُّوا ابْنِي»، فَجِيءَ بِسيّدي وَهُوَ فِي خِرَقٍ صُفْرِ، فَفَعَلَ بِهِ كَفِعْلِهِ (2) اَلْأَوَّلِ، ثمّ أَدْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ كَأَنَّما يُغَذِّيهِ لَبَناً وَعَسَلاً، ثمّ قَالَ: «تَكَلَّمْ، يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وَثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى محمّد وَعَلَى الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) حتّى وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ، ثمّ قَرَأَ: «بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ...» إِلَى قَوْلِهِ «مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» [القصص: 5 و 6]. (3)
206 - أَحْمَدُ بْنُ عَنْ الرَّازِيُّ، عَنْ محمّد بْن عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَمِيعِ بْنِ عَلِيِّ بُنَانِ، عَنْ محمّد بْن عَلَى بْن أَبي الدَّارِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْن محمّد، عَنْ أَحْمَدَ بْن عَبْدِ اللّه، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ رَوْح الْأَهْوَازِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَكِيمَةَ بِمِثْل مَعْنَى الحَدِيثِ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَالَتْ: بَعَثَ إِلَى أَبو مُحَمّدٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَهْرٍ
ص: 81
رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَتْ: وَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه مَنْ أُمُّهُ؟ قَالَ: «نَرْجِسُ»، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ اِشْتَدَّ شَوْفِي إِلَى وَلي اللّه، فَأَتَيْتُهُمْ عَائِدَةً، فَبَدَأَتُ بالحُجْرَةِ الَّتِي فِيهَا الجَارِيَةُ، فَإِذَا أَنَا بِهَا جَالِسَةٌ فِي تَجْلِسِ اَلَمَرْأَةِ النُّفَسَاءِ، وَعَلَيْهَا أَنْوَابٌ صُفْرٌ، وَهِيَ مُعَصَّبَةُ الرَّأْسِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهَا، وَالْتَفَتُّ إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ وَإِذَا بِمَهْدِ عَلَيْهِ أَثْوَابٌ خُضْرٌ، فَعَدَلْتُ إِلَى المَهْدِ وَرَفَعْتُ عَنْهُ اَلْأَثْوَابَ، فَإِذَا أَنَا بِوَلِيُّ اللّه نَائِمُ عَلَى قَفَاهُ غَيْرَ مَحزُومٍ وَلَا مَقْمُوطٍ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَجَعَلَ يَضْحَكُ وَيُنَاجِينِي بِإِصْبَعِه (1)، فَتَنَاوَلْتُهُ وَأَدْنَيْتُهُ إِلَى فَمِي لأُقَبِّلَهُ، فَشَمِمْتُ مِنْهُ رَائِحَةً مَا شَمِمْتُ قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا، وَنَادَانِي أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّتِي، هَلُمِّي فَتَايَ إِلَيَّ»، فَتَنَاوَلَهُ وَقَالَ (2): «يَا بُنَيَّ، اِنْطِقُ»، وَذَكَرَ الحَدِيثَ.
قَالَتْ: ثمّ تَنَاوَلْتُهُ مِنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا بُنَيَّ، أَسْتَوْدِعُكَ الّذي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى، كُنْ فِي دَعَةِ اللّه وَسِتْرِهِ وَكَنَفِهِ وَجِوَارِهِ»، وَقَالَ:«رُدِّيهِ إِلَى أمّه يَا عَمَّةِ، وَاُكْتُمِي خَبَرَ هَذَا المَوْلُودِ عَلَيْنَا، وَلَا تُخْبِرِي بِهِ أَحَداً حتّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»، فَأَتَيْتُ أُمَّهُ، وَوَدَّعْتُهُمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ.
أحمد بن عليٍّ الرازي عن محمّد بن عليٍّ، عن حنظلة بن زكريّا قال: حدَّثني الثقة، عن محمّد بن علي بن بلال (3)، عن حكيمة، بمثل ذلك.
207 - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ أَنَّ حَكِيمَةَ حَدَّثَتْ بِهَذَا اَلحَدِيثِ، وَذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَنَّ أمّه نَرْجِسُ، وَسَاقَتِ اَلحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِا: فَإِذَا أَنَا بِحِسّ سيّدي وَبِصَوْتِ أَبي مُحَمّدٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَهُوَ يَقُولُ: «يَا
ص: 82
عَمَّتِي، هَانِ اِبْني إِلَى»، فَكَشَفْتُ عَنْ سيّدي، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ مُتَلَقِّياً الْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، وَعَلَى ذِرَاعِهِ الْأَيْمَنِ مَكْتُوبٌ : «جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِل كانَ زَهُوقاً» [الإسراء: 81]، فَضَمَمْتُهُ إِليَّ، فَوَجَدْتُهُ مَفْرُوغاً مِنْهُ، فَلَفَّفْتُهُ في ثَوْبِ وَحَمَلْتُهُ إِلَى أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ : «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وَأَنَّ محمّداً رَسُولُ اللّه، وَأَنَّ عَلِيًّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا»، ثمّ لَمْ يَزَلْ يَعُدُّ السَّادَةَ الْأَوْصِيَاءَ إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَىٰ نَفْسِهِ، وَدَعَا لِأَوْلِيَائِهِ بِالْفَرَجِ عَلَى يَدَيْهِ، ثمّ أَحْجَمَ.
وَقَالَتْ: ثمّ رُفِعَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كَالْحِجَابِ، فَلَمْ أَرَ سيّدي، فَقُلْتُ لِأَبِي محمّد : يَا سيّدي، أَيْنَ مَوْلَايَ ؟ فَقَالَ: «أَخَذَهُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْكَ وَمِنَّا».
ثُمَّ ذَكَرُوا الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَزَادُوا فِيهِ: فَلَا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً دَخَلْتُ عَلَى أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَإِذَا مَوْلَانَا الصَّاحِبُ يَمْشِي فِي الدَّارِ، فَلَمْ أَرَ وَجْهَا أَحْسَنَ مِنْ وَجْهِهِ، وَلَا لُغَةٌ أَفْصَحَ مِنْ لُغَتِهِ، فَقَالَ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هَذَا المَوْلُودُ الْكَرِيمُ عَلَى اللّه (عَزَّوَجَلَّ)»، فَقُلْتُ: سيّدي أَرَى مِنْ أَمْرِهِ مَا أَرَى وَلَهُ أَرْبَعُونَ يَوْماً، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: «يَا عَمَّتِي، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّا مَعَاشِرَ الأئمّة نَنْشَأُ فِي الْيَوْم مَا يَنْشَأُ غَيْرُنَا فِي اَلسَّنَةِ»، فَقُمْتُ فَقَبَّلْتُ رَأسَهُ وَانْصَرَفْتُ، ثمّ عُدْتُ وَتَفَقَدْتُهُ، فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): مَا فَعَلَ مَوْلَانَا؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةِ، اِسْتَوْدَعْنَاهُ الّذي اسْتَوْدَعَتْ أُمُّ مُوسى»(1).
208 - أَحْمَدُ بْنُ عَلى الرَّازِيُّ، عَنْ محمّد بْن عَلِيٍّ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ زكريّا، قَالَ: حدَّثني أَحْمَدُ بْنُ بِلَالِ بْنِ دَاوُدَ الْكَاتِبُ، وَكَانَ عَامِّيَّا بِمَحَلِّ مِنَ النَّصْبِ لِأَهْل الْبَيْتِ (عَلَيهِم السَّلَامُ)، يُظهِرُ ذَلِكَ وَلَا يَكْتُمُهُ، وَكَانَ صَدِيقاً لِي يُظهِرُ مَوَدَّةً بِمَا فِيهِ مِنْ
ص: 83
طَبْع أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَيَقُولُ - كُلَّمَا لَقِيَنِي - : لَكَ عِنْدِي خَبَرٌ تَفْرَحُ بِهِ وَلَا أُخْبِرُك بِهِ، فَأَتَغَافَلُ عَنْهُ، إِلَى أَنْ جَمَعَنِي وَإِيَّاهُ مَوْضِعُ خَلْوَةِ، فَاسْتَقْصَيْتُ عَنْهُ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُخْبِرَنِي بِهِ، فَقَالَ: كَانَتْ دُورُنَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى مُقَابِلَ دَارِ اِبْنِ الرِّضَا - يَعْنِي أَبَا محمّد الحَسَنَ بْنَ عَلِيٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) -، فَغِبْتُ عَنْهَا دَهْراً طَوِيلاً إِلَى قَزْوِينَ وَغَيْرِهَا، ثمّ قُضِيَ لي الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَافَيْتُهَا وَقَدْ كُنْتُ فَقَدْتُ جَمِيعَ مَنْ خَلَّفْتُهُ مِنْ أَهْلِي وَقَرَابَاتِي إِلَّا عَجُوزاً كَانَتْ رَبَّتْنِي، وَلَهَا بِنْتُ مَعَهَا، وَكَانَتْ مِنْ طَبْع اَلْأَوَّلِ (1) مَسْتُورَةً صَائِنَةٌ لَا تُحْسِنُ الْكَذِبَ، وَكَذَلِكَ مَوَالِيَاتٌ لَنَا بَقِينَ فِي الدَّارِ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُنَّ أَيَّاماً ثمّ عَزَمْتُ الخُرُوجَ، فَقَالَتِ الْعَجُوزَةُ: كَيْفَ تَسْتَعْجِلُ الْإِنْصِرَافَ وَقَدْ غِبْتَ زَمَانَا؟ فَأَقِمْ عِنْدَنَا لِنَفْرَحَ بِمَكَانِكَ، فَقُلْتُ لَهَا عَلَى جِهَةِ الهُزءِ : أُرِيدُ أَنْ أَصِيرَ إِلَى كَرْبَلَاءَ، وَكَانَ النَّاسُ لِلْخُرُوج فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ لِيَوْمٍ عَرَفَةَ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أُعِيدُكَ بِاللّه أَنْ تَسْتَهِينَ مَا ذَكَرْتَ أَوْ تَقُولَهُ عَلَى وَجْهِ الهُزءِ، فَإِنِّي أُحَدِّثُكَ بِمَا رَأَيْتُهُ بعيني بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْ عِنْدِنَا بِسَنَتَيْنِ.
كُنْتُ فِي هَذَا الْبَيْتِ نَائِمَةً بِالْقُرْبِ مِنَ الدَّهْلِيزِ، وَمَعِي اِبْتَتِي، وَأَنَا بَيْنَ اَلنَّائِمَةِ وَالْيَقْظَانَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ نَظِيفُ الشَّيَابِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، فَقَالَ: يَا فَلَانَةُ، يَحِيتُكِ السَّاعَةَ مَنْ يَدْعُوكِ فِي الْجِيرَانِ فَلَا تَمتَنِعِي مِنَ الذَّهَابِ مَعَهُ، وَلَا تَخَافِي، فَفَزِعْتُ، فَنَادَيْتُ ابْتَتِي، وَقُلْتُ هَا: هَلْ شَعَرْتِ بِأَحَدٍ دَخَلَ الْبَيْتَ ؟ فَقَالَتْ: لا، فَذَكَرْتُ اللّه وَقَرَأْتُ وَنِمْتُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ لي مِثْلَ قَوْلِهِ، فَفَزِعْتُ وَصِحْتُ بِابْنَتِي، فَقَالَتْ: لَمْ يَدْخُلِ الْبَيْتَ، فَاذْكُرِي اللّه وَلَا تَفْزَعِي، فَقَرَأْتُ وَنِمْتُ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ جَاءَ الرَّجُلُ وَقَالَ: يَا فُلَانَةُ، قَدْ جَاءَكِ مَنْ يَدْعُوكِ وَيَقْرَعُ
ص: 84
الْبَابَ، فَاذْهَبِي مَعَهُ، وَسَمِعْتُ دَقَّ الْبَابِ، فَقُمْتُ وَرَاءَ الْبَابِ وَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: افْتَحِي وَلَا تَخَافِي، فَعَرَفْتُ كَلَامَهُ وَفَتَحْتُ الْبَابَ، فَإِذَا خَادِمٌ مَعَهُ إِزَارٌ، فَقَالَ: يَحْتَاجُ إِلَيْكِ بَعْضُ الجِيرَانِ لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ، فَادْخُلِي، وَلَفَّ رَأْسِي بِالمَلاءَةِ وَأَدْخَلَنِي الدَّارَ وَأَنَا أَعْرِفُهَا، فَإِذَا بِشِقَاقٍ (1) مَشْدُودَةٍ وَسَطَ الدَّارِ وَرَجُلٌ قَاعِدٌ بِجَنْبِ الشَّقَاقِ، فَرَفَعَ الْحَادِمُ طَرَفَهُ، فَدَخَلْتُ وَإِذَا امْرَأَةٌ قَدْ أَخَذَهَا الطَّلَقُ وَامْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلْفَهَا كَأَنَّهَا تَقْبَلُهَا.
فَقَالَتِ المَرْأَةُ: تُعينينَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَعَالَجَتُهَا بِمَا يُعَالَجُ بِهِ مِثْلُهَا، فَما كَانَ إِلَّا قَلِيلاً حتّى سَقَطَ غُلَامٌ، فَأَخَذْتُهُ عَلَى كَفِّي وَصِحْتُ : غُلَامٌ غُلَامٌ، وَأَخْرَجْتُ رَأْسِي مِنْ طَرَفِ الشَّقَاقِ أَبَشِّرُ الرَّجُلَ الْقَاعِدَ، فَقِيلَ لِي: لَا تَصِيحِي، فَلَمَّا رَدَدْتُ وَجْهِي إِلَى الْغُلَامِ قَدْ كُنْتُ فَقَدْتُهُ مِنْ كَفِّي، فَقَالَتْ لِيَ الْمَرْأَةُ الْقَاعِدَةُ: لَا تَصِيحِي، وَأَخَذَ الْخَادِمُ بِيَدِي وَلَفَّ رَأْسِي بِالمُلَاءَةِ وَأَخْرَجَنِي مِنَ الدَّارِ وَرَدَّنِي إِلَى دَارِي وَنَاوَلَنِي صُرَّةً، وَقَالَ: لَا تُخْبِرِي بِمَا رَأَيْتِ أَحَداً.
فَدَخَلْتُ الدَّارَ وَرَجَعْتُ إِلَى فِرَاشِي فِي هَذَا الْبَيْتِ وَابْنَتِي نَائِمَةٌ بَعْدُ، فَأَنْبَهْتُهَا وَسَأَلْتُهَا: هَلْ عَلِمْتِ بِخُرُوجِي وَرُجُوعِي؟ فَقَالَتْ: لَا، وَفَتَحْتُ الصُّرَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِذَا فِيهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ عَدَداً، وَمَا أَخْبَرْتُ بِهَذَا أَحَداً إِلَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ لَمَّا تَكَلَّمْتَ بِهَذَا الْكَلَام عَلَى حَدٌ (2) الهُزءِ، فَحَدَّثْتُكَ إِشْفَافاً عَلَيْكَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عِنْدَ اللّه وَل شَأْنَا وَمَنْزِلَةٌ، وَكُلُّ مَا يَدَّعُونَهُ حَقٌّ.
قَالَ: فَعَجِبْتُ (3) مِنْ قَوْلِهَا وَصَرَفْتُهُ إِلَى السُّخْرِيَّةِ وَالهُزءِ وَلَمْ أَسْأَها عَنِ
ص: 85
الْوَقْتِ غَيْرَ أَنِّي أَعْلَمُ يَقِيناً أَنِّي غِبْتُ عَنْهُمْ فِي سَنَةِ نَيْفٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ وَرَجَعْتُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى فِي وَقْتِ أَخْبَرَتْنِي الْعَجُوزَةُ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي وِزَارَةِ عُبَيْدِ اللّه بن سُلَيْمانَ (1) لَمَّا فَصَدْتُهُ.
قَالَ حَنْظَلَةُ: فَدَعَوْتُ بِأَبِي الْفَرَجِ الْمُظَفَرِ بْنِ أَحْمَدَ حتّى سَمِعَ مَعِي [مِنْهُ] هَذَا الخَبَر.
ص: 86
210 - وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَخَوَاتِ أَبِي الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ رَبَّتْهَا تُسَمَّى نَرْجِسَ فَلَا كَبِرَتْ دَخَلَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَنَظَرَ إلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ : أَرَاكَ يَا سيّدي تَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: إِنِّي مَا نَظَرْتُ إِلَيْهَا إِلَّا مُتَعَجِّباً، أَمَا إِنَّ المَوْلُودَ الْكَرِيمَ عَلَى اللّه تَعَالَى يَكُونُ مِنْهَا»، ثمّ أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَبَا اَحْسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دَفْعِهَا إِلَيْهِ، فَفَعَلَتْ، فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ (1).
ص: 87
237 - أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيُّ، عَنْ محمّد بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ محمّد بْنِ خَافَانَ الدِّهْقَانِ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ دَادِ بْنِ غَسَّانَ (1) الْبَحْرَانِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبي سَهْلِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيٍّ النَّوْبَخْتِي(2)، قَالَ: مَوْلِدُ محمّد بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ محمّد اِبْنِ عَلِيٍّ الرّضَا بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ محمّد الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ اِبْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) : وُلِدَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِسَامِرَّاءَ سَنَةَ سِتّوَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، أُمّه صَقِيلُ، وَيُكَنِّي أَبَا الْقَاسِمِ، بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ أَوْصَى النَّبيُّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أَنَّهُ قَالَ: «اِسْمُهُ كَاسْمِي (3)، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي»، لَقَبُهُ المهديّ، وَهُوَ الحجّة، وَهُوَ المنتظَرُ، وَهُوَ صَاحِبُ الزَّمَانِ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 88
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي محمّد الحَسَنِ بْنِ عَليَّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فِي المَرْضَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَأَنَا عِنْدَهُ إِذْ قَالَ لِخَادِمِهِ عَقِيدٍ - وَكَانَ الْخَادِمُ أَسْوَدَ نُوبِيًّا قَدْ خَدَمَ مِنْ قَبْلِهِ عَلِيَّ بْنَ محمّد، وَهُوَ رَبَّى اَحْسَنَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) -، فَقَالَ لَهُ: «يَا عَقِيدُ، أَغْلِ لي مَاءً بِمُصْطَكِيّ»، فَأَغْلَى لَهُ، ثمّ جَاءَتْ بِهِ صَقِيلُ الْجَارِيَةُ أُمُّ الْخَلَفِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَلَما صَارَ الْفَدَحُ فِي يَدَيْهِ وَهَمَّ بِشُرْبِهِ فَجَعَلَتْ يَدُهُ تَرْتَعِدُ حتّى ضَرَبَ الْقَدَحَ ثَنَايَا الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَتَرَكَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ لِعَقِيد: «ادْخُل الْبَيْتَ، فَإِنَّكَ تَرَىٰ صَبِيًّا سَاجِداً، فَأْتِنِي بِهِ».
قَالَ أَبُو سَهْلِ: قَالَ عَقِيدٌ: فَدَخَلْتُ أَتَحَرَّى، فَإِذَا أَنَا بِصَبِيٌّ سَاجِدٍ رَافِعِ سَبَّابَتَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَأَوْجَزَ فِي صَلَاتِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ سيّدي يَأْمُرُكَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ، إِذَا جَاءَتْ أمّه صَقِيلُ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ وَأَخْرَجَتْهُ إِلَى أَبِيهِ اَلْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
قَالَ أَبُو سَهْلِ: فَلَمَّا مَثْلَ الصَّبِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ، وَإِذَا هُوَ دُرِّيٌّ اللَّوْنِ، وَفِي شَعْرِ رَأْسِهِ قَطَطٌ، مُفَلَّجُ الْأَسْنَانِ، فَلَمَّا رَآهُ اَلحَسَنُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَكَى وَقَالَ: «يَا سَيِّدَ أَهْلِ بَيْتِهِ، اِسْقِنِي ألَمَاءَ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي»، وَأَخَذَ الصَّبِيُّ الْقَدَحَ المغيَّ بِالمُصطكي بِيَدِهِ، ثمّ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ، ثمّ سَقَاهُ، فَلَا شَرِبَهُ قَالَ: «هَيْئُونِي لِلصَّلَاةِ»، فَطْرِحَ فِي حِجْرِهِ مِنْدِيلٌ، فَوَضَّأَهُ الصَّبِيُّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أَبْشِرُ يَا بُنَيَّ، فَأَنْتَ صَاحِبُ الزَّمَانِ، وَأَنْتَ المهديّ، وَأَنْتَ حُجَّةُ اللّه عَلَى أَرْضِهِ، وَأَنْتَ وَلَدِي وَوَصِي وَأَنَا وَلَدْتُكَ، وَأَنْتَ محمّد بْنُ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ابْنِ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وَلَدَكَ رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وأَنتَ خَاتَمُ [الْأَوْصِيَاءِ] الأئمّة الطَّاهِرِينَ، وَبَشَّرَ بِكَ رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وَسَمَّاكَ وَكَنَّاكَ، وَبِذَلِكَ عَهِدَ إِلَيَّ أَي عَنْ آبَائِكَ الطَّاهِرِينَ، صَلَّى اللّه عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ رَبُّنَا إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»، وَمَاتَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ وَقْتِهِ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) (1).
ص: 89
362 - أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبي جَعْفَرٍ محمّد بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حدَّثنا محمّد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زكريّا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حدَّثنا أَبُو عَبْدِ اللّه محمّد بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حدَّثني أَبِي، عَنْ جَدِّهِ عَتّاب - مِنْ وُلْدِ عَتّاب بن أَسِيدٍ -، قَالَ: وُلِدَ الخَلَفُ المهديّ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ) يَوْمَ الجُمُعَةِ، وأمّه رَيْحَانَهُ، وَيُقَالُ هَا: نَرْجِسُ، وَيُقَالُ لَهَا: صَقِيلُ، وَيُقَالُ لَهَا: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ بِسَبَبٍ اَلْحَمْلِ : صَقِيلُ (1).
وَكَانَ مَوْلِدُهُ لِثَمَانِ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٌ وَخَمْسِينَ وَمائَتَيْنِ، وَوَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ أَوْصَى إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ محمّد بْنِ عثمان (رَحمهُ اللّه)، وَأَوْصَى أَبُو جَعْفَرِ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحِ اللّه (رضیَ اللّهُ عنهُ)، وَأَوْصَى أَبُو اَلْقَاسِم إِلَى أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ محمّد السَّمُرِي (رضیَ اللّهُ عنهُ)، فَلَمَّا حَضَرَتِ السَّمُرِي الْوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ، فَقَالَ: للّه أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ.
فَالْغَيْبَةُ التّامَّةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِي السَّمري (رضیَ اللّهُ عنهُ)(2).
ص: 90
487 - سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللّه، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبَانِ (1)، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ المهديّ مَا اسمه؟
ص: 91
فَقَالَ: «أَمَّا اِسْمُهُ فَإِنَّ حَبِيبِي شَهِدَ (1) إِلَيَّ أَنْ لَا أُحَدِّثَ بِاسْمِهِ حتّى يَبْعَثَهُ اللّهُ».
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ صِفَتِهِ؟
قَالَ: «هُوَ شَابٌ مَرْبُوعٌ، حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الشَّعْرِ، يَسِيلُ شَعْرُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَنُورُ وَجْهِهِ يَعْلُو سَوَادَ حِيَتِهِ وَرَأْسِهِ، بِأَبِي إِبْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ» (2).
ص: 92
تأليف: الشيخ ابو عبداللّه محمّد بن جعفر المشهدي
تحقيق: جواد القيومي الاصفهاني
ص: 93
املاها عليّ رجل من البحرين سمعته يزور بها
ثم عد الى العسكريّين صلوات اللّه عليهما، وقف على قبر ام الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قل :
السَّلامُ عَلى رَسُول اللّه الصّادِق الامين، السَّلامُ عَلى مَوْلانا أمير المؤمنين، السَّلامُ عَلَى الأئمّة الطَّاهِرينَ الْحُجَجِ الْمَيامِينِ، السَّلامُ على والِدة الامام والْمُودَعَة أَسْرارِ الْمَلِكِ الْعَلّامَ، وَ الْحامِلَة لاشْرَفِ الانام، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِّيقَةِ الْمَرْضِيَّة، السَّلامُ عَلَيكِ يا شَبيهَةَ أُمِّ مُوسى وابْنَةِ حواريّ عيسى، السَّلامُ عَلَيكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّة النَّقِيَّة، السَّلامُ عَلَيكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَّة المَرْضِيَّة.
السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْمَنْعُونَة فِي الانْجِيلِ، الْمَخْطُوبَة مِنْ روح اللّه الامينِ، ومَن رَغِب في وُصْلَتها محمّد سَيّدِ الْمُرْسَلِين، والْمُسْتَوْدَعَة اسرار رَبِّ الْعالَمين، السَّلامُ عَلَيكِ و عَلى آبائِكِ الْحَوَارِيَين، السلامُ عَلَيكِ وعَلى بَعْلِكِ ووَلَدِكِ، اَلسَّلامُ عَلَيكِ وَ عَلى رُوحِكِ وبَدَنِكِ الطَّاهر.
اَشْهد أَنَّكِ أَحْسَنْتِ الْكفالَةَ واَدَّيْتِ الامانَةَ، واجْتَهَدْتِ في مَرْضاةِ اللّه، وصَبَرْتِ في ذاتِ اللّه، و حَفِظْتِ سِرَّ اللّه، و حَمَلْتِ وَلِيّ اللّه
ص: 94
و بالغتِ في حِفْظ حُجَّةِ اللّه، و رَغِبْتِ في وَصْلَةِ أَبْناءِ رَسُول اللّه، عارِفاً بِحَقِّهِمْ، مُؤْمِنَةٍ بِصِدْقِهِمْ، مُعْتَرِفَة بِمَنْزِلَتِهِمْ، مُسْتَبْصِرَة بِأَمْرِهِمْ، مُشْفِقَة عَلَيْهِم، مُؤثِرَة هَواهُ.
و أَشْهَد أَنَّكِ مَضَيْتِ عَلى بَصِيرَة مِنْ أَمْرِكِ، مُقْتَدِيَة بِالصَّالِحِينَ، راضِيَة مَرْضِية، تَقِيَّة نَفِيَّة زَكِيَّة، فَرَضِيَ اللّه عَنْكِ وأَرْضاكِ، و جَعَلِ الْجَنَّة منزلك ومَأْواكِ، فَلَقَدْ اَوْلاكِ مِنَ الْخَيْرَاتِ ما اَوْلاكِ، وأَعْطَاكِ مِنَ الشَّرَف ما بِه أَغْناكِ، فَهَنّاكِ اللّه بِما مَنَحَكِ مِنَ الْكَرَامَةِ واَمَرَاكِ.
ثم ترفع رأسك و تقول :
اللّهمْ إِيَّاكَ اعْتَمَدْتُ، و رضاكَ طَلبْتُ، و بِأَوْلِيَائِكَ إِلَيْكَ تَوَسَّلْتُ، و عَلى غُفْرانِكَ و حِلْمِكَ اتَّكَلْتُ، و بِكَ اعْتَصَمْتُ، وبِقَبْرِ أُمِّ وَلِيِّكَ لُذْتُ، فَصَلِّ عَلى محمّد و آلِ محمّد و انْفَعْنى بِزِيارَتِها، و ثَبَتْني عَلَى مَحَبَّتِها و لا تَحْرِمْني شَفَاعَتَها وشَفاعَة وَلَدِها عَجَّلَ اللّه فَرَجَهُ، وارْزُقْنى مُرافَقَتَها، واحْشُرْنِي مَعَها ومَعَ وَلَدِهَا، كَما وَفَّقْتَني لِزِيارَةِ وَلَدِها وزيارتها.
اللّهمَّ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِالأئمّة الطَّاهِرِينَ و اَتَوَسّلُ إِلَيْكَ بِالْحُجَج الْمَيامين، مِن آل طه ويس، أن تُصَلِّيَ عَلَى محمّد وَ آلِهِ الطَّيِّبين، و أَنَّ تَجْعَلَنِي مِنَ الْمُطْمَئِنَينِ الْفَائِزِينَ، الْفَرِحِينَ الْمُسْتَبْشِرين، الّذينَ لا خَوْف عَلَيْهِم ولا هُمْ يَحْزَنون، واجْعَلني مِمَّن قَبِلْتَ سَعْيَهُ، و يَسَّرْتَ أَمْرَه، و كَشَفْتَ ضُرَّهُ و آمَنْتَ خَوْفَهُ.
ص: 95
اللّهمَّ بِحَقِّ محمّد و آلِ محمّد صَلِّ عَلى محمّد و آل محمّد، و لا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِن زِيارَتي إيَّاها، وارْزُقْنِي الْمَوْدَ إِلَيْهَا أَبَداً ما أَبْقَيْتَني، وإذا تَوَفَّيْتَني فَاحْشُرْني في زُمْرَتِها، وأَدْخِلْنِي فِي شَفاعَةِ وَلَدِها و شَفاعَتِها، واغْفِرْ لي ولوالدي و لِلْمُؤْمِنين والْمُؤْمِنات، واتِنا في الدُّنْيا حَسَنَة و في الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذاب النّار، والسَّلامُ عَلَيكم يا سَاداتي ورَحمة اللّه وبَركاتُه (1).
ص: 96
الكتاب الّذي يعطيك صورة صادقة عن سيرة الأئمّة الإثني عشر (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) باسلوب رصين ممتكم وضبط وتحقيق نسالم الفريقان على صحنه وتأييده فهو خير مصدر يرجع إليه ويعول عليه
تأليف
الشيخ الامام العلّامة ابي سالم كمال الدِّين محمّد بن طلحة ابن محمّد بن الحسن القرشي العدوي النصيبي الشافعي المتوفى - 652
طبع بإشراف
السيّد عبد العزيز الطباطبائي
ص: 97
حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى
1419ه_ / 1999م
مؤسسة البلاغ
لبنان - بيروت بئر العبد - سنتر الانماء 1. ط 3 – ص ب : 117952 هاتف : 553119 - 1- 00961 - فاكس : 3279-6-1-00961 المستودع - طريق صيدا القديم - جانب فرن الاسراء - هاتف: 463258
ص: 98
ص: 99
وأما نسبه أباً وأماً فأبوه محمّد الحسن الخالص بن علي المتوكل ابن محمّد القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين، وقد تقدم ذكر ذلك مفصلا، وأمّه أم ولد تسمى صقيل وقيل حكيمه وقيل غير ذلك.
ص: 100
[في ذكر القائم الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)]
الأصل
العلّامة النسابة السيّد بها الدِّين
علي بن عبد الكريم بن عبد الحَميد النيلي النَجفي
كان حيا سنة 803 ه_
تحقیق
مُؤَسَّسَةِ الْإِمَامِ الهَادِي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 101
بهاء الدين نيلي على بن عبد الكريم - 803 ق.
منتخب الانوار المضيئة [في ذكر القائم الحجّة ] / الاصل بهاءالدين علي بن عبدالكريم بن عبد الحميد النيلي النجفي: تحقيق مؤسسة الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) - قم: مؤسسة الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). 1420 ق. - 1378
65. 415 ص -: نمونه.
20000 ریال : 4 - 90069 - 964 ISBN
فهرستنویسی بر اساس اطلاعات فیپا
عربي.
کتابنامه: ص 438 - 450.
1. محمّد بن حسن (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) امام دوازدهم 255 ق. - 2. مهدویت.3. بهاء الدين نيلي على بن عبد الكريم. - 803 ق. - سرگذشتنامه.
الف موسسه امام هادی (عَلَيهِ السَّلَامُ). ب: عنوان.
8 م9 ب / 51 BP 959 / 297
کتابخانه ملی ایران 26057 - 78م
با همکاری معاونت پژوهشی و آموزشی وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامی
اسم الكتاب : منتخب الانوار المضيئة
المؤلِّف : الأصل للسيّد بهاء الدين علي بن عبدالكريم بن عبدالحميد النيلي النجفي
التحقيق :لجنة التحقيق التابعة لمؤسسة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
الناشر: مؤسسة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
الطبعة: الأولى - ذو القعدة 1420 اسفند 78
المطبعة : اعتماد - قم
الكمية : 3000
الصف والإخراج : مؤسسة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
السعر: تومان
شابك X - 4 – 90069 - 964
ISBN 964 - 90069- 4 - x
حقوق الطبع محفوظة للناشر
توزيع
مؤسسة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
قم شارع بهار - زقاق أية اللّه النجفي رقم 48
742574 - فاكس 741574 - م ب 514 - 37185
ص: 102
وأما ما ورد عن أمير المؤمنين عليّ (1) (عَلَيهِ السَّلَامُ):
ص: 103
وأمّا والدته :
فمن ذلك ما جاز لي روايته عن الشيخ محمّد بن علي بن بابويه (رَحمهُ اللّه)، يرفعه إلى أبي الحسين (1) محمّد (بن بحر) (2) الشيبانيّ قال: وردت كربلاء سنة ستّ وثمانين ومائتين، وزرت قبر غریب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؛ ثمّ انكفأت (3) إلى مدينة السّلام متوجّهاً إلى مقابر قريش - على ساكنيها (4) السّلام - في وقت
ص: 105
تضرّم (1) الهواجر (2)، وتوقد السماء؛ فلما وصلت إلى مشهد الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) واستنشقت روائح، تربته المغمورة (3) من الرّحمة المحفوفة بحدائق الغفران، بكيت (4) عليها بعبرات (5) متقاطرة وزفرات متتابعة، وقد حجب الدّمع طرفي عن النظر؛ فلمّا رقأت العبرة وانقطع النحيب (6)، فتحت بصري وإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه، وتقوّس منكباه وثفنت جبهته وراحتاه، وهو يقول لآخر معه: يا ابن أخ لقد نال عمّك شرفاً بما حمله السيّدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلا سلمان، وقد أشرفتُ على استكمال المدّة وانقضاء العمر، ولست أجد في أهل الولاية من يفضى إليه بسرّ.
قلت: يا نفس لا يزال العناء والمشقة ينالان منك بإتعابي الخف والحافر في طلب العلم، وقد قرعت سمعي من الشيخ لفظة تدلّ على حال جسيم، وأمر عظيم.
فقلت: أيها الشيخ ومن السيّدان؟
قال: البحران (7) المغيبان في الثّرى بسر من رأى.
قلت: فإنّي أقسم بالموالاة وشرف محلّ هذين السيّدين من الإمامة والوراثة. أنّي خاطب علمها وطالب آثارهما، وباذل من نفسي الأيمان المؤكّدة على حفظ أسرارهما.
ص: 106
قال: إن كنت صادقاً فيما تقول، فأحضر ما صحبك من الآثار عن نَقَلة آثارهم. فأخرجت له ما حضرني من ذلك.
قال: صدقت أنا بشر بن سلمان (1) النخّاس (2)، من ولد أبي أيوب الأنصاريّ، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وجارهما بسرّ من رأى.
قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما.
قال: كان مولاي أبو الحسن علي بن محمّد العسكريّ فقّهني في أمر الرّقيق فكنت لا أشتري (3) ولا أبيع إلّا بإذنه. فاجتنبت بذلك موارد الشّبهات حتّى كملت (4) معرفتي فيه وحسنت (5) الفرق بين الحلال والحرام
فبينا أنا ذات ليلة في منزلي بسرّ من رأى، وقد مضى هويّ (6) من اللّيل، إذ قرع
ص: 107
الباب قارع. فعدوت (1) مسرعاً، فإذا بكافور الخادم، رسول مولاي أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) يدعوني إليه فلبست ثيابي ودخلت عليه، وإنّه يحدّث ابنه أبا محمّد، وأخته حكيمة من وراء السّتر.
فلمّا جلست :قال يا بشر إنك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن (2) سلف؛ فأنتم ثقاتنا أهل البيت وإنّي مزكّيك ومشرفك بفضيلة تسبق (3) فيها سبّاق الّشيعة في الموالاة بها، بستر أطلعك عليه وأنفذك في تتبّعه وكتب كتاباً ملطفا (4) بخطّ رومي ولغة روميّة، وطبع عليه خاتمه، وأعطاني ششتقة (5) صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة (6) يوم كذا وكذا، فإذا وصلت سَتَرى إلى جانبك زواريق السّبايا، وسيبرزن منها الّسبايا، ويستحدق بهنّ طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العبّاس، وشراذم من فتيان العراق.
فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن [يزيد] (7) النخّاس عامّة (8)
ص: 108
نهارك، إلى أن يندر (1) المتبايعون جارية صفتها كذا (وكذا) (2)، لابسة حريرتين صفيقتين تمتنع من السفور ولمس المعرّض(3) والإنقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرّقيق، فيضربها النّخّاس فتصرخ صرخة روميّة، فاعلم أنّها تقول: وا هتك ستراه. فيقول بعض المبتاعين: [عليّ بثلاثمائة دينار] (4) فقد زادني العفاف فيها رغبة فتقول بالعربية (5): لوبرزت في (6) زيّ سليمان بن داود على سرير ملكه، ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك (7). فيقول النّخّاس: فما الحيلة لا بدّ من بيعك. فتقول الجارية: وما العجلة ولابدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته ووفائه.
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النّخاس وقل له: إن معي كتاباً ملطفاً (8) لبعض الأشراف كتبه بلغة روميّة وخطّ روميّ، وُصف فيه كرمه ووفاؤه (9) ونبله وسخاؤه (10). فناولها لتتأمل منه (11) أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكليه في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان النخاس : فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 109
في أمر الجارية. فلمّا نظرت في الكتاب بكت بكاءاً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد النخّاس: بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمُحرّجة (1) العظيمة (2) أنَّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها.
فمازلت أشاحّه (3) في ثمنها حتّى استقرّ الأمر على مقدار (ما كان أصحبنيه) (4) مولاي من الدّنانير في الشّشتقة، فاستوفى مني، وتسلمت الجارية ضاحكةً مستبشرةً، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أجدها (5) حتّى أخرجت كتابة مولانا (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جيبها وجعلت تلثمه (6) وتضعه على خدّها، وتطيفه (7) على جفنها، وتمسحه على بدنها.
فقلت متعجباً منها: أتلثمين (8) كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟
فقالت أيّها العاجز الضّعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء، أرعني (9) سمعك وفرّغ لي قلبك أنا مليكة بنت يشوعا (10) بن قيصر ملك الرّوم، وأمي من ولد الحواريين تنسب إلى شمعون. أنبئك العجب أنّ جدّي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه – (وأنا بنت ثلاثة عشر) (11) سنة - فجمع في قصره من نسل الحواريين والقسيسين
ص: 110
والرّهبان ثلاثمائة رجل ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف رجل؛ وأبرز من بَهو (1) ملكه عرشاً مصنوعاً من أصناف الجواهر إلى صحن القصر، فرفعه فوق (2) أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه، وأحدقت به (3) الصّلبان، وقامت الأساقفة (4) عُكّفاً، ونشرت أسفار الإنجيل، تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوّضت (5) الأعمدة وانهارت إلى القرار، وخرّ الصّاعد مغشياً عليه.
فتغيّرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، وقال كبيرهم لجدّي: أيّها الملك ! اعفنا من ملاقاة هذه النّحوس الدّالّة على زوال هذا الدين المسيحيّ والمذهب الملكاني.
فتطيّر جدّي تطيّراً شديداً وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا هذه الصلبان، وأحضروا أخا هذا المدير المنكوس جدّه لأزوّج منه هذه الصّبيّة، فيدفع (6)نحوسه عنكم بسعوده
ص: 111
فلمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأوّل، وتفرّق النّاس وقام جدّي قيصر مغتاً فدخل قصره، وأُرخيت الستور.
فرأيت في تلك اللّيلة كأنّ المسيح وشمعون وعدّة من الحواريين اجتمعوا في قصر جدّي، ونصبوا فيه منبراً يباري السّماء علوّاً وارتفاعاً في الموضع الّذي كان فيه جدّي نصب عرشه فدخل عليهم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع فتية وعدّة من بنيه فقام إليه المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) واعتنقه، فقال له: يا روح اللّه إنّي جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته: مليكة لابني هذا - وأو مى بيده إلى أبي محمّد، ابن (1) صاحب هذا الكتاب -.
فنظر المسيح إلى شمعون (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: قد أتاك الشّرف، فصل رحمك برحم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
قال: قد فعلت.
فصعدوا ذلك المنبر فخطب محمّد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والحواريّون (2)، وزوّجني من ابنه، وشهد المسيح وشهد بنو محمّد والحواريّون.
فلمّا استيقظت من منامي أشفقت أن أقص هذه الرّؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل. فكنت (أسرّما في نفسي) (3) ولا أبديها (4) لهم، وضرب صدري بمحبّة أبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودقّ شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدّي، وسأله عن دوائي.
فلمّا برح به اليأس، قال: يا قرة عيني هل يخطر ببالك شهوة فأُوردكها في
ص: 112
هذه الدّنيا ؟
فقلت: يا جدّي أرى أبواب الفرج مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدّقت عليهم ومنيتهم الخلاص، رجوت أن يهب المسيح وأمّه العافية والشفاء.
فلمّا فعل ذلك، تجلّدت في إظهار الصحة (1) في بدني وتناولت يسيراً من الطّعام فسرّ بذلك جدّي وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم.
فرأيت - أيضاً - بعد أربع ليالٍ (2) كأنّ سيّدة النّساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف من وصائف (3) الجنان فقالت لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمّد، فأتعلّق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي.
فقالت سيّدة النّساء (عَلَيهَا السَّلَامُ) إنّ ابنى أبا محمّد لن يزورك وأنت مشركة باللّه على دين مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى اللّه من دينك، فإن ملت إلى رضا اللّه عزّوجلّ ورضا المسيح بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنك وزيارة أبي محمّد إيّاك فقُولي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ (4) محمّداً رسول اللّه.
فقلت.
فلمّا تكلّمت بهذه الكلمة (5) ضمّتني سيّدة النّساء إلى صدرها وطيبت نفسي وقالت: الآن توقّعي زيارة أبي محمّد (فإنّي مُنفذته إليك.
ص: 113
فانتبهت وأنا أقول: وا شوقاه إلى لقاء أبي محمّد) (1).
فلمّا كان في اللّيلة القابلة، جاءني أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في منامي : فرأيت كأني أقول له: لم جفوتني - يا حبيبي - بعد أن شغلت (2) قلبي بجوامع حبّك؟
فقال: ما كان تأخري عنك إلا لشركك، فإذ قد أسلمت فإني زائرك كل ليلة إلى أن يجمع اللّه عزوجل شملنا في العيان. فما قطع زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.
قال بشر : فقلت لها: وكيف وقعت في الأسارى؟
قالت: أخبرني أبو محمّد ليلة من الليالي: أنّ جدّك سيُسرب (3) جيوشاً الى قتال المسلمين يوم كذا وكذا ثمّ يتبعهم (4). فعليك باللّحاق بهم متنكرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف من (5) طريق كذا.
ففعلت فوقعت علينا طلائع (6) المسلمين حتّى كان من أمري ما كان وشاهدت وما شعر بأنّي ابنة ملك الرّوم إلى هذه الغاية أحد سواك، وذلك بإطلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشّيخ الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي، فأنكرته وقلت: نرجس فقال: هذا اسم الجواري.
قال بشر : فقلت: العجب إنك روميّة، ولسانك لسان العرب؟
قالت: بلغ من ولوع جدّي بي وحثّه (7) إيّاي على تعلّم (8) الآداب، أن
ص: 114
أوعز (1) إلى امرأة ترجمان له في الإختلاف إلى، فكانت تقصدني صباحاً ومساءاً. وتفيدني العربية حتّى استمرّ عليها لساني واستقام.
قال بشر: فلما انكفأتُ بها الى سرّ من رأى، دخلت على مولانا أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): فقال لها: كيف أراك اللّه عزّوجلّ عزّ الإسلام وذل النصرانية وشرف آل محمّد نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2) ؟؟
فقالت: كيف أصف لك ما أنت أعلم به منّي ؟
قال: فإني أحب أن أكرمك فأيهما أحب إليك: عشرة آلاف درهم، أم بشرى لك فيها شرف الأبد ؟
قالت: بل البشرى.
قال: أبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.
قالت: ثمن ؟
قال: تمن خطبك له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليلة كذا في شهر كذا من سنة كذا بالرّومية؟
قالت: ممّن؟
قال: من المسيح ووصيه.
قالت من ابنك أبي محمّد.
قال: فهل تعرفينه ؟
قالت: وهل خلوت ليلةً من زيارته منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيّدة النساء أمه.
ص: 115
فقال أبو الحسن: يا كافور ادع لي أختي حكيمة.
فلمّا دخلت عليه قال لها هاهيه فاعتنقتها طويلاً وسألت (1) بها كثيراً.
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا بنت رسول اللّه أخرجيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن، فإنّها زوجة أبي محمّد وأمّ القائم - صلوات اللّه عليهم أجمعين. (2)
بالطّريق المذكور يرفعه إلى موسى بن محمّد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: حدّثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قالت: بعث إلىّ أبو محمّد الحسن بن عليّ (عَلَيهِم السَّلَامُ) فقال: يا عمة اجعلي إفطارك الليلة عندنا فإنّها ليلة النصف من شعبان، وإن اللّه عزّوجلّ سيظهر في هذه الليلة الحجّة، وهو حجّته (3) في أرضه.
قالت: فقلت: ومن أمّه ؟
قال: نرجس.
فقلت: واللّه - جعلني اللّه فداك - ما أرى بها أثراً.
ص: 116
قال: هو كما أقول لك.
فجئت فلمّا سلّمت وجلست جاءت تنزع خفّي وقالت: ياسيدتي كيف أمسيت؟
قلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
قالت: فأنكرت قولي وقالت: ما هذا يا عمّة؟
فقلت: يا بُنية؛ إن اللّه سيهب لك في هذه اللّيلة غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة.
قالت: فخجلت واستحيت.
فلمّا فرغتُ من صلاة العشاء الآخرة، أفطرتُ وأخذتُ مضجعى فرقدتُ (1)؛ فلمّا كان في جوف اللّيل قمت إلى الصّلاة، ففرغت من صلاتي - وهي نائمة ليس فيها حادث - ثمّ جلست معقبةً، ثمّ اضطجعتُ، ثمّ انتبهتُ فزعةً - وهي راقدة - ثمّ قامت فصلّت ونامت.
قالت حكيمة: وخرجت أتفقد الفجر، فإذا أنا بالفجر الأوّل كذنَب السِّرحان (2). وهي نائمة.
قالت حكيمة: فدخلتني الشكّوك، فصاح أبو محمّد فقال: لا تعجلي يا عمّة! فإنّ الأمر قد قرب.
قالت: فجلست فقرأت حم (3) السجدة ويس، فبينا أنا كذلك إذ انتبهت فزِعةً فوثبتُ إليها فقلت: باسم اللّه عليك، تُحسّين شيئاً ؟
قالت: نعم يا عمّة.
ص: 117
فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.
قالت حكيمة: فأخذتني فترة وأخذتها فترة فانتبهت بحسِّ سيّدي، فكشفت عنه التّوب فإذا به (عَلَيهِ السَّلَامُ) ساجداً يتلق الأرض بمساجده. فضممته (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلىَّ، فإذا به منظّف (1).
فصاح أبو محمّد: هلتي إليّ ابني. فجئت به إليه، فوضع يده تحت أليتيه وظهره (2) ووضع قدمه في صدره، ثمّ أولج (3) لسانه في فيه، وأمر يده على عينيه وسمعه ومفاصله ثمّ قال: تكلّم يا بني.
فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ثمّ صلّى على أمير المؤمنين، وعلى الأئمّة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - إلى أن وقف على أبيه ثمّ أحجم (4).
فقال أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا عمّة اذهبي به إلى أمّه ليسلّم عليها ثمّ ائتيني به.
فذهبت به إلى أمّه فسلم عليها ورددته إليه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المجلس وقال: يا عمّة إذا كان [اليوم] (5) السابع فأتينا.
قالت حكيمة - رضي اللّه عنها - : فلمّا أصبحت جئت لأسلم على أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكشفت (6) السّتر لأتفّقد سيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلم أره.
فقلت له: جُعلت فداك ما فعل سيّدي؟
ص: 118
فقال: استودعه (1) الّذي استودعت أمّ موسى.
قالت حكيمة: فلمّا كان [اليوم] (2)السابع جئت فسلّمت وجلست. فقال: هلمّي إلىّ ابني. فجنت بسيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو في الخرقة؛ ففعل به كفعلته الأولى (3) ثمّ قال: تكلّم يا بنيّ.
فقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه، والصلاة على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وعلى أمير المؤمنين، وعلى الأئمّة، «بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ»(4).
قال موسى: ثمّ سألت عقيد الخادم عن هذا، فقال: صدقت حكيمة (رضي اللّه عنها) (5).
ص: 119
وبالطريق المذكور، يرفعه إلى محمّد بن عبد اللّه الظّهري (1) قال: أتيت حكيمة أسألها عن الحجّة، وما اختلف النّاس فيه من الحيرة التي هم فيها.
فقالت لي: اجلس. ثمّ حكت لي الحكاية المذكورة بعينها وزادت عليها أنّه قالت: فتناوله الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) منّي - والطير ترفرف على رأسه - فناوله لسانه فشرب منه ثمّ قال:
امضي به إلى أمّه لترضعه ورديّه إليّ.
قالت: فناولته أمّه فأرضعته، ورددته إلى أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)- والطّير ترفرف على رأسه - فصاح بطائر منها فقال:
احفظه وردّه إلينا في كل أربعين يوماً.
فتناوله وطار به في جوّ السّماء ومعه سائر الطّير. فسمعت أبا محمّد يقول: استودعك اللّه الّذي أودعته أمّ موسي (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
فبكت نرجس فقال: اسكتي فإنّ الرّضاع محرّم عليه إلّا من ثديك، وسيعاد إلينا كما ردّ موسى إلى أم موسى كما ذكر اللّه تعالى في كتابه: «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أمّه كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ»(3).
قالت حكيمة: قلت: وما هذا الطّائر؟
ص: 120
قال: هذا روح القدس الموكّل بالأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) يوفقهم ويسدّدهم ويربّيهم بالعلم.
قالت حكيمة: فلمّا (1) كان بعد أربعين يوماً ردّ الغلام ووجّه إلىّ ابن أخي، ودخلت فإذا أنا بصبي يتحرّك ويمشي بين يديّ (2). فقلت: سيّدي ابن (3)سنتين !
فتبسّم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ قال: إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم، فإنّ الصبيّ منا إذا أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، وإنّ الصّبيّ منّا ليتكلّم في بطن أمه، ويقرأ (4) القرآن، ويعبد ربّه (5) عزّوجل عند الرّضاع، وتطيعه الملائكة، وتنزل عليه صباحاً ومساءاً.
قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبي في كل أربعين يوماً (6) إلى أن رأيته رجلاً قبل مضي أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأيام قلائل، فلم أعرفه فقلت لابن أخي (عَلَيهِ السَّلَامُ): من هذا الّذي تأمرني أجلس (7) بين يديه؟
فقال: هذا ابن نرجس، وهذا خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني فاسمعي (8)وأطيعي.
قالت حكيمة: فمضى أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد ذلك بأيام قلائل وافترق النّاس كما ترى. واللّه إني لأراء صباحاً ومساءاً وإنه لينبئني عن كلّ ما يسألوني عنه فأخبرهم. و واللّه إني لأريد أن أسأله عن الشيء فيبدأني به، وإنَّه ليرد علىّ الأمر فيخرج إلّي جوابه من ساعته من غير مسألتي وقد أخبرني البارحة بمجيئك إليّ وأمرني أن
ص: 121
أخبرك بالحقّ.
قال محمّد بن عبداللّه: لقد أخبرتني بأشياء لم يطلع عليها إلّا اللّه تعالى، فعلمت أنّ ذلك صدق وعدل من اللّه عزّوجلّ وقد أطلعهم على ما لم يطلع عليه أحداً (1) من خلقه. (2)
ص: 122
مختصر كفاية المهدوي
لمعرفة المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
تأليف
السيّد محمّد مير لوحي الإصفهاني
ترجمة وتحقيق
السيّد ياسين الموسوي
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
ص: 123
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
النجف الأشرف - شارع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) - محلة الحويش رقم الزقاق 54 _ رقم الدار 2
هاتف: 332811 و 210309
www.n-nabdi.com
m-mahdi@m_mahdi.com
مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
السيّد محمّد مير لوحي الأصفهاني
ترجمة وتحقيق
السيّد ياسين الموسوي
تقديم
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّه تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
الطبعة الأولى: جمادى الأولى 1437ه_
رقم الإصدار: 39
السعر: 1000 دينار
النجف الأشرف
جميع الحقوق محفوظة للمركز
عدد النُّسَخ: 3000
ص: 124
قال أبو محمّد ابن شاذان عليه الرحمة والغفران: حدَّثنا محمّد بن عبد الجبار (رضیَ اللّهُ عنهُ) قال: قلت لسيّدي الحسن بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، يا ابن رسول اللّه جعلني اللّه فداك، أحب أن أعلم من الإمام، وحجة اللّه على عباده من بعدك؟
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن الإمام، والحجّة بعدي ابني سميّ رسول اللّه، وكنيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الّذي هو خاتم حجج اللّه وآخر خلفائه.
فقلت: مِمَّنْ [ يتولد] هو يا ابن رسول اللّه ؟
قال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، ألا إنه سيولد فيغيب عن الناس غيبة طويلة، ثمّ يظهر، ويقتل الدجال فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فلا يحل لأحد أن يسميه أو يكتيه باسمه وكنيته قبل خروجه صلوات اللّه عليه.
يقول المترجم: (1) إني أتعجب من كلام صاحب كتاب كشف الغمّة للشيخ الفاضل العادل علي بن عيسى الأربلي عليه الرحمة حيث يقول: من العجيب أن الشيخ الطبرسي، والشيخ المفيد (رَحمهُما اللّه) قالا: أنَّه لا يجوز ذكر اسمه ولا كنيته ثمّ يقولان: اسمه اسم النبي، وكنيته كنيته عليهما الصلاة والسلام وهما يظنان أنهما لم يذكرا اسمه ولا كنيته، وهذا عجيب، انتهى. (2)
ص: 125
ومن العجيب جداً أن هذا الرجل العالم مع كمال وسع معرفته فإنه قد غفل أنَّ الإشارة إلى الاسم والكنية شيء، والتلفظ بالاسم والكنية شيء آخر.
والحال أن عدَّة من الأحاديث من تلك الأحاديث المشتملة على النهي عن التسمية والتكنية مثل الحديث السادس والعشرين من أحاديث هذه الأربعين، قد ذكر فيها أن خاتم الأوصياء يشترك مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالاسم والكنية مثل الحديث المذكور.
والسلام على من اتبع الهدى.
وليعلم أنه وبسبب طولانية حديث والدة صاحب الأمر (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الماجدة فإننا نقتصر في هذا المقام على ترجمته رعايةً للاختصار (1).
روى الفضل بن شاذان (2) وابن بابويه (3) والشيخ الطوسيّ (4) والشيخ الطبرسي (5) والشيخ الطرابلسي (6) وغيرهم كثيراً جداً من علماء الإمامية (رضي اللّه عنهم) جميعاً في كتبهم بعبارات مختلفة ومعاني متفقة.
أما الشيخ الطوسيّ عليه الرحمة فقد نقل على النحو التالي بسنده عن
ص: 126
بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن، وأبي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وجارهما بسرّ من رأى
أتاني كافور الخادم، فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يدعوك إليه ؛ فأتيته، فلما جلست بين يديه قال لي:
يا بشر! إنَّك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسرّ أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمة.
فكتب كتاباً لطيفاً بخط رومي، ولغة روميّة، وطبع عليه خاتمه، وأخرج شقيقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: خذها، وتوجّه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا، وترى الجواري فيها ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العبّاس وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فاشرف من البُعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين تمتنع من العرض، ولمس المعترض، والانقياد لِمَن يحاول لمسها، وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق، فاعلم أنها تقول واهتك ستراه.
فيقول بعض المبتاعين علي ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة.
فتقول له بالعربية لو برزت في زي سليمان بن داود، وعلى شبه ملکه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك.
فيقول النخّاس: فما الحيلة ولا بدّ من بيعك.
فتقول الجارية: وما العجلة ولا بدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه، وإلى وفائه، وأمانته.
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن معك كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية، وخط رومي ووصف فيه كرمه، ووفاءه،
ص: 127
ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه، ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سلیمان: فامتثلت جميع ما حدَّه لي مولاي أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أمر الجارية، فلمّا نَظَرتْ في الكتاب بَكَتْ بكاءاً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد:
بعني من صاحب هذا الكتاب وحَلَفَتْ بالمحرّجة والمغلّظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها.
فما زلتُ أشاحه في ثمنها حتّى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الدنانير، فاستوفاه (منّي) وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتّى أخرجت كتاب مولانا (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدّها وتمسحه على بدنها.
فقلت تعجباً منها: تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه.
فقالت: أيها العاجز، الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء، أعرني سمعك، وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمّي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون، أنبئك بالعجب
إنَّ جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاثة عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين من القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد، وقواد العسكر، ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف وأبرز من بهي ملكه عرشاً مصنوعاً من أصناف الجوهر (إلى صحن القصر)، ورفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه، وأحدَقَت الصلب وقامت الأساقفة عكّفاً، ونشرت أسفار الإنجيل، تسافلت الصلب من الأعلى فلصقت بالأرض وتقوّضت أعمدة العرش، فانهارت إلى القرار، وخّر الصاعد من العرش مغشياً عليه.
ص: 128
فَتَغَيَّرَتْ ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم (لجدّي):
أيها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس، الدالّة على زوال دولة هذا الدين المسيحي، والمذهب الملكاني.
فتطيَّر جدّي من ذلك ذلك تطيُّراً شديداً، وقال للأساقفة:
أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا الصلبان واحضروا أخا هذا المدير العاثر المنكوس جده لأزوجه هذه الصبية، فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.
فلمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني (مثل) ما حدث على الأول، وتفرق الناس.
وقام جدي قيصر مغتماً فدخل منزل النساء، وأرخيَتْ الستور، وأريتُ في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي ونصبوا فيه منبراً من نور يباري السماء علواً وارتفاعاً في الموضع الّذي كان نصب جدي فيه عرشه، ودخل عليهم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وختنه ووصيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعدة من أبنائه (عَلَيهِم السَّلَامُ).
فتقدم المسيح إليه، فاعتنقه، فيقول له محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): يا روح اللّه إني جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأوماً بيده إلى أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن صاحب هذا الكتاب.
فنظر المسيح إلى شمعون وقال :(له) قد أتاك الشرف، فصل رحمك رحم آل محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ).
قال: قد فَعَلْتُ.
فصعد ذلك المنبر، فخطب محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وزوجني من ابنه، وشهد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وشهد أبناء محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)، والحواريون.
فلما استيقظت أشْفَقْتُ أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، فكنت أسُرُّها ولا أبديها لهم، وضرب صدري أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى امتنعت من الطعام والشراب، فَضَعْفَتْ نفسي، ودق شخصي، ومَرضتُ مرضاً شديداً، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي، وسأله عن دوائي.
ص: 129
فلما برح به اليأس قال:
يا قرة عيني ! وهل يخطر ببالك شهوة فازودكها في هذه الدنيا؟
فقلت يا جدي أرى أبواباً علي مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدقت عليهم، ومَنَّيْتَهُم الخلاص رجوتُ أن يهب (لي) المسيح وأمّه عافية.
فلما فعل ذلك تجلدتُ في إظهار الصحة من بدني قليلاً، وتناولتُ يسيراً من الطعام فسّر بذلك، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم.
فأريت (أيضاً) بعد أربع عشرة ليلة كأن سيدة نساء العالمين فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) قد زارتني، ومعها مريم ابنة عمران وألف من وصائف الجنان، فتقول لي مريم:
هذه سيدة نساء العالمين أم زوجك أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأتعلق بها، وأبكي، وأشكو إليها امتناع أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من زيارتي.
فقالت سيدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ): إن ابني أبا محمّد لا يزورك، وأنت مشركة باللّه على مذهب النصارى، وهذه أختي مريم بنت عمران تبرأ إلى اللّه تعالى من دينك فان ملت إلى رضى اللّه ورضى المسيح ومريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وزيارة أبي محمّد إياك فقولي: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن أبي محمّداً رسول اللّه.
فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني إلى صدرها سيدة نساء العالمين (عَلَيهَا السَّلَامُ)، وطيبت نفسي وقالت الآن توقعي زيارة أبي محمّد، فإني منفذته إليك.
فانتبهت وأنا أنول، (1) أتوقع لقاء أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ).
فلما كان في الليلة القابلة رأيت أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكأني أقول له:
جفوتني يا حبيبي بعد أن أتلفى أن أتلفت نفسي معالجة حبّك.
ص: 130
فقال: ما كان تأخري عنك إلا لشركك، فقد أسْلَمْت وأنا زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع اللّه تعالى شملنا في العيان.
فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.
قال بشر فقلت لها وكيف وقعت في الأسارى؟
فقالت أخبرني أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليلة من الليالي أن جدك سيُّسير جيشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا، ثمّ يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرةً في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف من طريق كذا.
ففعلت ذلك، فوقعت علينا طلائع المسلمين، حتّى كان من أمري ما رأيت، وشاهدت وما شعر بأنّي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية أحد سواك وذلك باطلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت: نرجس، فقال: اسم الجواري.
قلت: العجب انك رومية، ولسانك عربي؟
قالت نعم من ولوع جدي، وحمله إياي على تعلم الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمانة لي في الاختلاف إليّ، وكانت تقصدني صباحاً ومساءاً، وتفيدني العربية حتّى استمرَّ لساني عليها واستقام.
قال بشر: فلما انكفأتُ بها إلى سُرَّ مَنْ رأى دخلت على مولاي أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: كيف أراكِ اللّه عزَّ الإسلام، وذل النصرانية، وشرف محمّد وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)؟
قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول اللّه ما أنت أعلم به منّي؟!
قال فانّي أحببت أن أكرمك؛ فما أحب إليك، عشرة آلاف دينار، أم بشرى لك يشرف الأبد؟
قالت: بشرى بولد لي.
ص: 131
قال لها: أبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً.
قلت: مِمَّن؟
قال: مِمَّنْ خطبك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليلة كذا في شهر كذا، من سنة كذا بالرومية.
قالت من المسيح ووصيه؟
قال لها مِمَّنْ زوجك المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) ووصيه ؟
قالت: من ابنك أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ).
فقال: هل تعرفينه؟
قالت: وهل خلت ليلة لم يرني فيها منذ الليلة التي أسلمتُ على يد سيدة النساء صلوات اللّه عليها.
قال: فقال مولانا: يا كافور ادع أختي حكيمة.
فلمّا دَخَلَتْ قال لها: ها هيه فاعتنقتها طويلاً، وسرَّت بها كثيراً.
فقال لها أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا بنت رسول اللّه خذيها إلى منزلك، وعلميها الفرائض والسنن؛ فإنها زوجة أبي محمّد، وأم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).
والسلام على من اتبع الهدى.
***
ص: 132
الجامعة لدرر أخبار الائمّة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ)
الجزءُ الأَوَّلُ
العلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسي (قدّس سِرُّه)
اعْدَاد
الشيخ ياسر الصَّالِحَي
ص: 133
الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) في بحار الأنوار / ج (1)
تأليف: العلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسي (قدّس سِرُّه)
إعداد: الشيخ ياسر الصالحي
الناشر : بيت الثقافة المهدويَّة
الطبعة الثانية: 1442ه_
عدد النُّسَخ: 1000
النجف الأشرف
جميع الحقوق محفوظة للناشر
ص: 134
[2/2] كمال الدِّين: ابْنُ عِصَامٍ، عَن الْكُلَيْنيِّ، عَنْ عَلَّانِ الرَّازِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ جَارِيَةُ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قَالَ: «سَتَحْمِلِينَ ذَكَراً، وَاسْمُهُ محمّد، وَهُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي»(1).
[3/3] كمال الدِّين: ابْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ محمّد العَطَّارِ، عَن الحُسَيْن بْن رِزْقِ اللّه، عَنْ مُوسَى بْن محمّد بْن الْقَاسِمِ بْن حَمْزَةَ بْن مُوسَى بْن جَعْفَرٍ (2)، قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَكِيمَةُ بِنْتُ محمّد بْن عَلِيٍّ بن مُوسَى بْن جَعْفَرَ بْن محمّد بْن عَلِيٍّ بن الحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قَالَتْ : بَعَثَ إِلَيَّ أَبو محمّد الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قَالَ: «يَا عَمَّةُ اجْعَلِي إِفْطَارَكِ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا، فَإِنَّهَا لَيْلَةُ النُصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّ اللّه تبَارَكَ وَتَعَالَى سَيُظْهِرُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ الحجّة، وَهُوَ حُجَّتُهُ فِي أَرْضِهِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ أُمُّهُ؟ قَالَ لِي: «نَرْجِسُ»، قُلْتُ لَهُ: وَاللّه جَعَلَنِيَ اللّه فِدَاكَ مَا بِهَا أَثَرُ، فَقَالَ: «هُوَ مَا أَقُولُ لَكِ»، قَالَتْ: فَجِئْتُ، فَلَما سَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ جَاءَتْ تَنْزِعُ خُفِّي وَقَالَتْ ِلي: يَا سَيِّدَنِي، كَيْفَ أَمْسَيْتِ ؟ فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيْدَنِ وَسَيْدَةُ أهْلِي، قَالَتْ: فَأَنْكَرَتْ قَوْلي وَقَالَتْ: مَا هَذَا يَا عَمَّةُ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَا يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَهَبُ لَكِ فِي لَيْلَتِكِ هَذِهِ غُلَامًا سَيِّداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَتْ: فَجَلَسَتْ
ص: 135
وَاسْتَحْيَتْ (1)، فَلَمَّا أَنْ فَرَغْتُ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَأَفْطَرْتُ وَأَخَذْتُ مَضْجَعِي فَرَقَدْتُ، فَلمَّا أَنْ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَفَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي وَهِيَ نَائِمَةٌ لَيْسَ بِهَا حَادِيٌّ، ثمّ جَلَسْتُ مُعَقِّبَةً، ثمّ اضْطَجَعْتُ، ثمّ انتبهتُ فَرَعَةً وَهِيَ رَاقِدَةٌ، ثمّ قَامَتْ فَصَلَّت (2).
قَالَتْ حَكِيمَةُ (3): فَدَخَلَتْنِي الشُّكُوكُ، فَصَاحَ بِي أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ المَجْلِس فَقَالَ: «لَا تَعْجَلِي يَا عَمَّةُ فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدْ قَرُبَ»، قَالَتْ: فَقَرَأَتُ الم السَّجْدَةَ وَيس، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكِ إِذَا انْتَبَهَتْ فَرْعَةً، فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: اسْمُ اللّه عَلَيْكَ، ثمّ قُلْتُ لَهَا: تَحِسِّينَ شَيْئاً؟ قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَمَّةٌ، فَقُلْتُ هَا: أَجْمَعِي نَفْسَكِ وَاجْمَعِي قَلْبَكِ فَهُوَ ما قُلْتُ لك.
قَالَتْ حَكِيمَةُ: ثمّ أَخَذَتْنِي فَتْرَةٌ وَأَخَذَتْهَا فِطْرَةٌ (4)، فَانْتَبَهْتُ بِحِسٌ سيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَكَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَاجِداً يَتَلَقَّى الْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِهِ نَظِيفٌ [مُنَظَّفٌ]، فَصَاحَ بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هَلُمِّي إِلَيَّ ابْني يَا عَمَّةٌ، فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ تَحْتَ أَلْيَتَيْهِ وَظَهْرِهِ وَوَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ ثمّ أَهْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَمَفَاصِلِهِ، ثمّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أنَّ محمّداً رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...» ثمّ صَلَّى عَلَى أمير المؤمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَعَلَى الأئمّة إِلَى أَنْ وَقَفَ عَلَى أَبيهِ، ثمّ أَحْجَمَ.
ص: 136
قَالَ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّةُ، اذْهَبِي بِهِ إِلَى أمّه لِيُسَلَّمَ عَلَيْهَا وَائْتِني بِهِ»، فَذَهَبْتُ بِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَرَدَدْتُهُ وَوَضَعْتُهُ فِي المَجْلِس، ثمّ قَالَ: «يَا عَمَّةُ، إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِع فَأتِينَا».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ جِئْتُ لِأُسَلَّمَ عَلَى أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَكَشَفْتُ السِّتْرَ لِأَفْتَقِدَ (1) سيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا فَعَلَ سيّدي؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اسْتَوْدَعْنَاهُ الّذي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى(عَلَيهِ السَّلَامُ) (2)».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابع جِئْتُ وَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ: هَلُمِّي إِلَى ابْنِي، فَجِئْتُ بِسيّدي فِي الْخِرْقَةِ، فَفَعَلَ بِهِ كَفَعْلَتِهِ الْأُولَى، ثمّ أَدْلى لِسَانَهُ فِي فِيهِ كَأَنَّهُ يُغَذِّيهِ لَبَناً أَوْ عَسَلاً.
ثُمَّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه...»، وَثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى محمّد وَعَلَى أَمِير المُؤْمِنِينَ وَالأئمّة (3)(صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) حتّى وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: «بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» [القصص: 5 و 6].
قَالَ مُوسَى : فَسَأَلْتُ عُقْبَةَ الْحَادِمَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ حَكِيمَةُ. (4)
بيان: يقال: حجمته عن الشيء فأحجم، أي كففته فكفَّ.
ص: 137
[10/10] كمال الدِّين: مَاجِيلَوَيْهِ عَنْ محمّد الْعَطَّارِ، عَنْ أَبي عَلى الخيزرَانِيُّ، عَنْ جَارِيَةِ لَهُ كَانَ أَهْدَاهَا لأَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَلَمَّا أَغَارَ جَعْفَرٌ الْكَذَّابُ عَلَى الدَّارِ جَاءَتْهُ فَارَّةٌ مِنْ جَعْفَرٍ فَتَزَوَّجَ بِهَا، قَالَ أَبو عَلى فَحَدَّثَتْنِي أَنها حَضَرَتْ
ص: 138
وِلَادَةَ السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَأَنَّ اسْمَ أُمِّ السيّد صَقِيلُ، وَأَنَّ أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حَدَّثَهَا بِمَا جَرَى (1) عَلَى عِيَالِهِ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا بأَنْ يَجْعَلَ مَنِيَّتَهَا قَبْلَهُ، فَمَاتَتْ قَبْلَهُ فِي حَيَاةِ محمّد يا، وَعَلَى قَبْرهَا لَوْحٌ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ : هَذَا أُمُّ محمّد.
قَالَ أَبُو عَلِيٌّ : وَسَمِعْتُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ تَذْكُرُ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ السيّد رَأتْ لَهُ نُوراً سَاطِعاً قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ وَبَلَغَ أُفُقَ السَّمَاءِ، وَرَأتْ طُيُوراً بيضاً تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ وَتَمَسَحُ أَجْنِحَتَهَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَسَائِر جَسَدِهِ ثمّ تَطيرُ، فَأَخْبَرْنَا أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذَلِكَ، فَضَحِكَ، ثمّ قَالَ: تِلْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ نَزَلَتْ لِتَتَبَرَّكَ بِهِ، وَهِيَ أَنْصَارُهُ إِذَا خَرَج»(2).
[12/12] الغيبة للطوسي: جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي المُفَضَّل الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ محمّد بْن بَحْر بن سَهْل الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمانَ النَّخَاسُ، وَهُوَ مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَحَدُ مَوَالِي أَي الحَسَن وَأَي محمّد وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى: أَتَانِي كَافُورٌ الْخَادِمُ فَقَالَ : مَوْلَانَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ محمّد العسكريّ يَدْعُوكَ إِلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُ فَلَما جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لِي: يَا بِشْرُ، إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ المُوَالاَةٌ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، وَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِنِّي مُزَكِّيكَ
ص: 139
وَمُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الشَّيعَةَ فِي المُوَالاَةِ بِسِر أُطْلِعُكَ عَلَيْهِ، وَأُنْفِدُكَ فِي ابْتِيَاع أمَةٍ»، فَكَتَبَ كِتاباً لطيفاً بِخَطٌ رُومِيٌّ وَلُغَةٍ رُومِيَّةٍ، وَطَبَعَ عَلَيْهِ خَاتَمهُ، وَأَخْرَجَ شُقَةٌ (1) صَفْرَاءَ فِيهَا مِاتَتَانِ وَعِشْرُونَ دِينَاراً، فَقَالَ: «خُذْهَا وَتَوَجَّهُ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ، وَاحْضَرْ مَعْبَرَ الْفُرَاتِ ضَحْوَةً يَوْمَ كَذَا، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى جَانِبِكَ زَوَارِيقُ السَّبَايَا وَتَرَى الْجَوَارِيَ فِيهَا سَتَجِدُ طَوَائِفَ الْمُتَاعِينَ مِنْ وُكَلَاءِ قُوَّادِ بَنِي العبّاس وَشِرْذِمَةٌ مِنْ فِتْيَانِ الْعَرَبِ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرفْ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى المُسَمَّى عُمَرَ ابْنَ يَزِيدٍ النَّخَاسَ عَامَّةَ نَهَارِكَ إِلَى أَنْ تَبْرُزَ لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيَةٌ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا لَابِسَةٌ حَرِيرَيْنِ صَفِيقَيْن تَمتَنِعُ مِنَ الْعَرْضِ وَلَمَس المُعْتَرَض وَالْإِنْقِيَادِ لَنْ يُحَاوِلُ لَمَسَهَا، وَتَسْمَعُ صَرْخَةٌ رُومِيَّةً مِنْ وَرَاءِ سَتْرٍ رَقِيق، فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ : وَا هَتْكَ سَتْرَاهُ، فَيَقُولُ بَعْضُ المُبْتَاعِينَ : عَلَيَّ ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَدْ زَادَنِي الْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً، فَتَقُولُ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ : لَوْ بَرَزْتَ فِي زِيّ سُلَيْمَانَ بْن دَاوُدَ وَعَلَى شِبْهِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لي فِيكَ رَغْبَةٌ، فَاشْفَقْ عَلَى مَالِكَ، فَيَقُولُ النَّنَّاسُ : فَمَا الحِيلَةُ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ، فَتَقُولُ الجَارِيَةُ: وَمَا الْعَجَلَةُ؟ وَلَا بُدَّ مِن اِخْتِيَارِ مُبْتَاعَ يَسْكُنُ قَلْبِي إِلَيْهِ وَإِلَى وَفَائِهِ وَأَمَانَتِهِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَى عُمَرَ بْن يَزِيدَ النَّخَّاسِ وَقُلْ لَهُ إِنَّ مَعَكَ كِتاباً مُلَطَّفَةٌ (2) لِبَعْض الْأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةِ رُومِيَّةٍ وَخَطٌ رُومِيٌّ، وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ، تُنَاوِها لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أخْلَاقَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ فَأَنا وَكِيلُهُ في ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ».
قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ : فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لِي مَوْلَايَ أَبُو الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في
ص: 140
أَمْرِ الْجَارِيَةِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ فِي الْكِتَابِ بَكَتْ بُكَاءً شَدِيداً، وَقَالَتْ لِعُمَرَ بْن يَزِيدَ: بِعْنِي مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ، وَحَلَفَتْ بِالمُحَرِّجَةِ وَالمُغَلَّظَةِ (1) أَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا مِنْهُ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، فَا زِلْتُ أُشَاحُهُ فِي ثَمَنِهَا حتّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ أَصْحَبَنِيهِ مَوْلَايَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ الدَّنَانِير، فَاسْتَوْفَاهُ وَتَسَلَّمْتُ الْجَارِيَةَ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةً، وَانْصَرَفْتُ بِهَا إِلَى الحُجَيْرَةِ الَّتِي كُنْتُ آوَى إِلَيْهَا بِبَغْدَادَ، فَما أَخَذَهَا الْقَرَارُ حتّى أَخْرَجَتْ كِتَابَ مَوْلَانَا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنْ جَيْبِهَا وَهِيَ تَلْيْمُهُ وَتُطْبِقُهُ عَلَى جَفْنِهَا وَتَضَعُهُ عَلَى خَدِّهَا وَتَمَسَحُهُ عَلَى بَدَنِهَا، فَقُلْتُ تَعَجُّباً مِنْهَا : تَلْثِمِينَ كِتاباً لا تَعْرِفِينَ صَاحِبَهُ؟!
فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْعَاجِزُ الضَّعِيفُ المَعْرفَةِ بِمَحَلِّ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، أَعِرْني سَمْعَكَ (2)، وَفَرِّغْ لِي قَلْبَكَ، أَنَا مَلِيكَةُ بِنْتُ يَشُوعَا بْن قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّوم، وَأُمِّي مِنْ وُلْدِ الحَوَارِيِّينَ تُنْسَبُ إِلَى وَصِيِّ المَسِيحَ شَمْعُونَ، أُنَبِّئُكَ بِالْعَجَبِ.
إِنَّ جَدِّي قَيْصَرَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَنِي مِن ابْن أَخِيهِ وَأَنَا مِنْ بَنَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٌ، فَجَمَعَ فِي قَصْرِهِ مِنْ نَسْلِ الْحَوَارِيِّينَ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَمِنْ ذَوِي الْأَخْطَارِ مِنْهُمْ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَمَعَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَقُوَّادِ الْعَسْكَر وَنُقَبَاءِ الجيوش وَمُلُوكِ الْعَشَائِر أَرْبَعَةَ آلافٍ، وَأَبْرَزَ مِنْ بَهِي مُلْكِهِ عَرْشاً مُسَاغَاً (3) مِنْ أَصْنَافِ الجُوْهَر (4)، وَرَفَعَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ مِرْقَاةً، فَلَمَّا صَعِدَ ابْنُ أَخِيهِ وَأَحْدَقَتِ الصُّلُبُ وَقَامَتِ الْأَسَاقِفَةُ عُكَّفاً وَنُشِرَتْ أَسْفَارُ الْإِنْجِيلِ تَسَافَلَتِ الصُّلُبُ مِنَ الْأَعْلَى فَلَصِقَتِ الْأَرْضَ وَتَقَوَّضَتْ أَعْمِدَةُ الْعَرْشِ فَانْهَارَتْ إِلَى الْقَرَارِ وَخَرَّ
ص: 141
الصَّاعِدُ مِنَ الْعَرْشِ مَغْشِيَّا عَلَيْهِ، فَتَغَيَّرَتِ أَلْوَانُ الْأَسَاقِفَةِ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ لجِدِّي : أَيُّهَا المَلِكُ أَعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ النُّحُوسِ الدَّالَّة عَلَى زَوَالِ هَذَا الدِّين المَسِيحِيّ وَالمَذْهَبِ المَلِكَاني، فَتَطَيَّرَ جَدِّي مِنْ ذَلِكَ تَطَرُّراً شَدِيداً، وَقَالَ لِلْأَسَاقِفَةِ: أَقِيمُوا هَذِهِ الْأَعْمِدَةَ، وَارْفَعُوا الصُّلْبَانَ، وَأَحْضِرُوا أَخَا هَذَا المُدْبَر الْعَاهِر (1) المنكوس جَدُّهُ لِأُزَوْجَهُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ فَيُدْفَعُ نُحُوسُهُ عَنْكُمْ بِسُعُودِهِ، وَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ حَدَثَ عَلَى الثَّانِي مِثْلُ مَا حَدَثَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَقَامَ جَدِّي قَيْصَرُ مُعْتَها، فَدَخَلَ مَنْزِلَ النِّسَاءِ، وَأَرْخِيَتِ السُّتُورُ، وَأُرِيتُ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ المَسِيحَ وَشَمْعُونَ وَعِدَّةٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي قَصْر جَدِّي، وَنَصَبُوا فِيهِ مِنْبَراً مِنْ نُورٍ يُبَارِي السَّمَاءَ عُلُوًّا وَارْتِفَاعاً فِي المَوْضِع الّذي كَانَ نَصَبَ جَدِّي وَ (2) فِيهِ عَرْشُهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ محمّدٌ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وَخَتَنْهُ وَوَصِيَّهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَعِدَّةٌ مِنْ أَبْنَائِهِ.
فَتَقَدَّمَ المَسِيحُ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ، فَيَقُولُ لَهُ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «يَا رُوحَ اللّه، إِنِّي جِئْتُكَ خَاطِباً مِنْ وَصِيَّكَ شَمْعُونَ فَتَاتَهُ مَلِيكَةَ لإبني هَذَا»، وَأَوْمَا بِيَدِهِ إِلَى أَبِ محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ، فَنَظَرَ المَسِيحُ إِلَى شَمْعُونَ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَتَاكَ الشَّرَفُ، فَصِلْ رَحِمَكَ بِرَحِم آلِ محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)، قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ، فَصَعِدَ ذَلِكَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وَزَوَّجَنِي مِن ابْنِهِ، وَشَهِدَ المَسِيحُ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَشَهِدَ أَبْنَاءُ محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وَالْحَوَارِيُّونَ.
فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ أَشْفَقْتُ أَنْ أَقُصَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَىٰ أَبِي وَجَدِّي مَخَافَةَ الْقَتْلِ، فَكُنْتُ أُمِرُهَا وَلَا أُبَدِيهَا لَهُمْ، وَضَرَبَ صَدْرِي بِمَحَبَّةِ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى امْتَنَعْتُ مِنَ الطَّعَام وَالشَّرَابِ، فَضَعُفَتْ نَفْسِي وَدَقَّ شَخْصِي وَمَرِضْتُ مَرَضاً شَدِيداً، فَما بَقِيَ فِي مَدَائِنِ الرُّومِ طَبِيبٌ إِلَّا أَحْضَرَهُ جَدِّي وَسَأَلَهُ عَنْ دَوَائِي، فَلَما
ص: 142
بَرَّحَ بِهِ الْيَاسُ قَالَ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، هَلْ يَخْطُرُ بِبَالِكِ شَهْرَةٌ فَأَزَوِّدُكِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟ فَقُلْتُ: يَا جَدّي، أَرَى أَبْوَابَ الْفَرَج عَلَى مُغْلَقَةٌ، فَلَوْ كَشَفْتَ الْعَذَابَ عَمَّنْ فِي سِجْنِكَ مِنْ أُسَارَى المُسْلِمِينَ وَفَكَكْتَ عَنْهُمُ الْأَغْلَال وَتَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ وَمَنيتهم الخلاصَ رَجَوْتُ أَنْ يَهبَ (1) المَسِيحُ وأمّه عَافِيَةٌ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ تَجَلَّدْتُ فِي إِظْهَارِ الصَّحَّةِ مِنْ بَدَنِي قَلِيلاً، وَتَنَاوَلْتُ يَسِيراً مِنَ الطَّعَامِ، فَسَرَّ بِذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى إِكْرَام الْأَسَارَى وَإِعْزَازِهِمْ، فَأُرِيتُ أَيْضاً بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً كَأَنَّ سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاطِمَةَ (عَلَيهَا السَّلَامُ) قَدْ زَارَتْنِي وَمَعَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَأَلْفُ مِنْ وَصَائِفِ الْجِنَانِ، فتَقُولُ لِي مَرْيَمُ: هَذِهِ سَيَّدَةُ النِّسَاءِ (عَلَيهَا السَّلَامُ) أُمُّ زَوْجِكِ أَي محمّد، فَأَتَعَلَّقُ بِهَا وَأَبْكِي وَأَشْكُو إِلَيْهَا امْتِنَاعَ أَبِي محمّد مِنْ زِيَارَتِي، فَقَالَتْ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ (عَلَيهَا السَّلَامُ) : «إِنَّ ابْنِي أَبَا محمّد لَا يَزُورُكِ وَأَنْتِ مُشْرِكَةٌ بِاللّه عَلَى مَذْهَبِ النَّصَارَى، وَهَذِهِ أُخْتِي مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ تَبْرَأَ إِلَى اللّه مِنْ دِينكِ، فَإِنْ مِلْتِ إِلَى رِضَى اللّه تَعَالَى وَرِضَى المَسِيح ومريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) وَزِيَارَة أَبِي محمّد إِيَّاكِ فَقُولِي : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وَأَنَّ أَي محمّداً رَسُولُ اللّه»، فَلَمَّا تَكَلَّمْتُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ضَمَّتْنِي إِلَى صَدْرِهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَطِيبَ نَفْسِي، وَقَالَتِ: «الْآنَ تَوَفَّعِي زِيَارَةَ أَبِي محمّد، وَإِنِّي مُنْفِذَتُهُ إِلَيْكِ»، فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا أَنُولُ (2) وَأَتَوَقَّعُ لِقَاءَ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ رَأَيْتُ أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَكَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: جَفَوْتَنِي يَا حَبِيبي بَعْدَ أَنْ أَتَلَفْتُ نَفْسِي مُعَالَجَةَ حُبِّكَ، فَقَالَ: «مَا كَانَ تَأْخُري عَنْكِ إِلَّا لِشِرْكِكِ فَقَدْ أَسْلَمْتِ، وَأَنَا زَائِرُكِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللّه شَمْلَنَا فِي الْعَيَانِ»، فَلَمَّا (3) قَطَعَ عَنِّي زِيَارَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
ص: 143
قَالَ بِشَرٌ: فَقُلْتُ لهَا: وَكَيْفَ وَقَعَتِ فِي الْأَسَارَى؟ فَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي: «أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرُ جَيْشاً إِلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ثمّ يَتْبَعُهُمْ، فَعَلَيْكَ بِاللَّحَاقِ ِبهِمْ مُتَنكَّرَةً فِي زِيّ الخَدَم مَعَ عِدَّةٍ مِنَ الْوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا»، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَوَقَفَتْ عَلَيْنَا طَلَائِعُ المُسْلِمِينَ حتّى كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَشَاهَدْتَ، وَمَا شَعَرَ بِأَنِّي ابْنَةُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَحَدٌ سِوَاكَ وَذَلِكَ بِاطَّلَاعِي إِيَّاكَ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي الشَّيْخُ الّذي وَقَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهُم الْغَنِيمَةِ عَن اسْمِي، فَأَنْكَرْتُهُ وَقُلْتُ: نَرْجِسُ، فَقَالَ: اسْمُ الجَوَارِي.
قُلْتُ: الْعَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَبيٌّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ مِنْ وَلُوع جَدِّي وَحَمْلِهِ إِيَّايَ عَلَى تَعَلَّمَ الْآدَابِ أَنْ أَوْعَزَ إِلَيَّ امْرَأَةَ تَرْجُمَانَةٌ لَه (1) فِي الْاِخْتِلَافِ إِلَيَّ، وَكَانَتْ تَقْصُدُنِي صَبَاحاً وَمَسَاءً وَتُفِيدُنِي الْعَرَبِيَّةَ حتّى اسْتَمَرَّ لِسَانِي عَلَيْهَا وَاسْتَقَامَ.
قَالَ بِشْرُ : فَلَمَّا انْكَفَاتُ بِهَا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى دَخَلَتْ عَلَى مَوْلَايَ أَبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ: كَيْفَ أَرَاكِ اللّه عِزَّ الْإِسْلَام وَذُلَّ النَّصْرَانِيَّةِ وَشَرَفَ محمّد وَأَهْل بَيْتِه (عَلَيهِم السَّلَامُ)؟»
قَالَتْ: كَيْفَ أَصِفُ لَكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي؟ قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكْرَمَكِ، فَأَيُّها أَحَبُّ إِلَيْكِ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ أَمْ بُشْرَى لَكِ بِشَرَفِ الْأَبَدِ؟». قَالَتْ: بُشْرَى بِوَلَدِ لي. قَالَ لَهَا: «أبشري بوَلَدٍ يَمْلِكُ الدُّنْيَا شَرْقاً وَغَرْباً وَيَمْلأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»، قَالَتْ: مَنْ؟ قَالَ: «مَنْ خَطَبَكِ رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لَهُ لَيْلَةَ كَذَا فِي شَهْرٍ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا بِالرُّومِيَّة» (2)، قَالَ ها: «مَنْ زَوَّجَكِ المَسِيحُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَوَصِيُّهُ؟»، قَالَتْ: مِن ابْنكَ أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ:
ص: 144
«هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟»، قَالَتْ: وَهَلْ خَلَتْ لَيْلَةٌ لَمْ يَزُرْني فِيهَا مُنْذُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَسْلَمْتُ عَلَى يَدِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ (عَلَيهَا السَّلَامُ)؟ قَالَ : فَقَالَ مَوْلَانَا: «يَا كَافُورُ، ادْعُ أُخْتِي حَكِيمَةَ»، فَلا دَخَلَتْ قَالَ لَهَا: «هَا هِيَهُ»، فَاعْتَنقَتْهَا طَويلاً وَسَرَّتْ بهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا أَبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا بنتَ رَسُولِ اللّه، خُذِيهَا إلَى مَنْزِلِكِ وَعَلْمِيهَا الفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةً أَي محمّد وَأُمُّ الْقَائِم (عَلَيهِ السَّلَامُ)» (1).
[13 / 13] كمال الدِّين (2): محمّد بْنُ عَلِيّ بْن محمّد بْن (3) حَاتِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْن عِيسَى الْوَشَّاءِ، عَنْ أَحْمَدَ بْن طَاهِرِ الْقُمِّيِّ، عَنْ أَبي الحُسَيْن محمّد بْن يَحْيَى (4) الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: وَرَدْتُ كَرْبَلَاءَ سَنَةَ سِتٌ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْن، قَالَ: وَزُرْتُ قَبْرَ غَريبٍ رَسُولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمّ انْكَفَاتُ إِلَى مَدِينَةِ السَّلام مُتَوَجِّهاً إِلَى مَقَابِرٍ قُرَيْشٍ وَقَدْ تَضَرَّمَتِ الْهَوَاجِرُ وَتَوَفَّدَتِ السَّمَاءُ، وَلَمَّا وَصَلْتُ مِنْهَا إِلَى مَشْهَدِ الْكَاظِم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَاسْتَنْشَقْتُ نَسِيمَ تُرْبَتِهِ المَغْمُورَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ المَحْفُوفَةِ بِحَدَائِقِ الْغُفْرَانِ أَكْبَيْتُ عَلَيْهَا بِعَبَرَاتٍ مُتَقَاطِرَةٍ وَزَفَرَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَقَدْ حَجَبَ الدَّمْعُ طَرْفِي عَن النَّظَر، فَلَما رَقَاتِ الْعَبْرَةُ وَانْقَطَعَ النَّحِيبُ وَفَتَحْتُ بَصَرِي وَإِذَا أَنَا بِشَيْخ قَدِ انْحَنَى صُلْبُهُ وَتَقَوَّسَ مَنْكِبَاهُ وَثَفِنَتْ جَبْهَتُهُ وَرَاحَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَهُ عِنْدَ الْقَبْر : يَا ابْنَ أخ، فَقَدْ نَالَ عَمُّكَ شَرَفاً بَمَا حَمَلَهُ السيّدانِ مِنْ غَوَامِض الْغُيُوبِ وَشَرَائِفِ الْعُلُوم الَّتِي لَمْ يَحْمِلْ مِثْلَهَا إِلَّا سَلْمَانُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَمُّكَ عَلَى اسْتِكْمَالِ المُدَّةِ وَانْقِضَاءِ الْعُمُرِ، وَلَيْسَ يَجِدُ فِي أَهْل الْوَلَايَةِ رَجُلاً يُفْضِي إِلَيْهِ (5)، قُلْتُ: يَا نَفْسُ لَا يَزَالُ
ص: 145
الْعَنَاءُ وَالمَشَقَّةُ يَنَالَانِ مِنْكِ بإتعَابِي الخُفَّ وَالْحَافِرَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَرَعَ سَمْعِي مِنْ هَذَا الشَّيْخ لَفْظُ يَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ جَسِيمٍ وَأَمْرٍ عَظِيم.
فَقُلْتُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ وَمَن السيّدانِ؟ قَالَ: النَّجْمَانِ الْمُغَيِّبَانِ فِي الثَّرَى بِسُرَّ مَنْ رَأى، فَقُلْتُ: إِنِّي أُقْسِمُ بِالْمَوَالاَةِ وَشَرَفِ مَحَلَّ هَذَيْن السيّدينِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالْورَاثَةِ أَنِّي خَاطِبٌ عِلْمَهُما وَطَالِبٌ آثَارَهُمَا وَبَاذِلٌ مِنْ نَفْسِي الْأَيْمَانَ الْمُوَكَّدَةَ عَلَى حِفْظِ أَسْرَارِهِمَا، قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَحْضِرْ مَا صَحِبَكَ مِنَ الْآثَارِ عَنْ نَقَلَةٍ أَخْبَارِهِمْ، فَلَا فَتَّشَ الْكُتُبَ وَتَصَفَّحَ الرَّوَايَاتِ مِنْهَا قَالَ: صَدَقْتَ، أَنَا بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَاسُ مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَحَدُ مَوَالِي أَي الحَسَن وَأَبِي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأى، قُلْتُ: فَأَكْرمُ أَخَاكَ بِبَعْض مَا شَاهَدتَ مِنْ آثَارِهِمَا، قَالَ: كَانَ مَوْلَايَ أَبو الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَقْهَني فِي عِلْم الرَّقِيقِ، فَكُنْتُ لَا أَبْتَاعُ وَلَا أَبيعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَاجْتَنَبْتُ بِذَلِكَ مَوَارِدَ الشُّبُهَاتِ حتّى كَمَلَتْ مَعْرِفَتِي فِيهِ، فَأَحْسَنْتُ الْفَرْقَ فِيمَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالحَرَامِ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلِي بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَقَدْ مَضَى هَوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ إِذْ قَدْ قَرَعَ الْبَابَ قَارِعٌ، فَعَدَوْتُ مُسْرِعاً، فَإِذَا بِكَافُورٍ الْخَادِم رَسُولِ مَوْلَانَا أَبِي الحَسَن عَلِيّ بْن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يَدْعُونِي إِلَيْهِ، فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ ابْنَهُ أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَأُخْتَهُ حَكِيمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْر، فَلَها جَلَسْتُ قَالَ: «يَا بِشْرُ، إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ الْوَلَايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرتُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفِ، وَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»... وَسَاقَ الْخَبَرَ نَحْواً مِمَّا رَوَاهُ الشَّيْخُ إِلَى آخِره(1).
بيان: (يباري السماء) : أي يعارضها ويقال: برح به الأمر تبريحاً جهده وأضرَّ به. وأوعز إليه في كذا أي تقدَّم وانكفأ أي رجع.
ص: 146
[14 / 14] كمال الدِّين: ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ محمّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ محمّد بْن إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، عَنْ محمّد بْن عَبْدِ اللّه المُطَهَّري (1)، قَالَ: فَصَدْتُ حَكِيمَةَ بنتَ محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَعْدَ مُضِي أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَسْأَها عَن الحجّة وَمَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الخَيْرَةِ الَّتِي(2) فِيهَا، فَقَالَتْ لي: اجْلِسُ، فَجَلَسْتُ، ثمّ قَالَتْ لي: يَا محمّد، إِنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُخلِّي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ نَاطِقَةٍ أَوْ صَامِتَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي أَخَوَيْن بَعْدَ الحَسَن وَالْحُسَيْن تَفْضِيلاً لِلْحَسَن وَالحُسَيْن (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وَتَمييزاً لَهما (3) أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ عَدِيلُهُمَا، إِلَّا أَنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَصَّ وُلْدَ الحُسَيْنِ بِالْفَضْل عَلَى وُلْدِ الحَسَن كَمَا خَصَّ وَلْدَ هَارُونَ عَلَى وُلْدِ مُوسَى وَإِنْ كَان مُوسَى حُجَّةٌ عَلَى هَارُونَ وَالْفَضْلُ لِوُلْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا بُدَّ لِلأُمَّةِ مِنْ حَيْرَةِ يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ وَيَخْلُصُ فِيهَا الْمُحِقُونَ، لِئَلَّا (4) يَكُونَ لِلنَّاسِ (5) عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل، وَإِنَّ الخَيْرَةَ لَا بُدَّ وَاقِعَةٌ بَعْدَ مُضِي أَبِي محمّد الْحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ).
فَقُلْتُ: يَا مَوْلَاتِ هَلْ كَانَ لِلْحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَلَدٌ؟ فَتَبَسَّمَتْ ثمّ قَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عَقِبٌ فَمَن الحجّة مِنْ بَعْدِهِ؟ وَقَدْ أَخْبَرْتُكَ [أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تكُونُ لِأَخَوَيْن (6) بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْن (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)].
[ فَقُلْتُ : يَا سَيِّدَتِي، حَدِّثِيني بِوِلَادَةِ مَوْلَايَ وَغَيْبَتِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ). [قال]: قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ هَا: نَرْجِسُ، فَزَارَني ابْنُ أَخِي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَأَقْبَلَ يُحِدُّ النَّظَرَ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سيّدي لَعَلَّكَ هَويتَهَا، فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: «لَا يَا عَمَّةٌ
ص: 147
لَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْهَا، فَقُلْتُ: وَمَا أَعْجَبَكَ؟ فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَدٌ كَرِيمٌ عَلَى اللّه (عَزَّوَجَلَّ) الّذي يَمْلَأُ اللّه بِهِ الْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَما مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلما»، فَقُلْتُ: فَأَرْسِلُهَا إِلَيْكَ يَا سيّدي؟ فَقَالَ: «اسْتَأْذِي فِي ذَلِكَ أَبي»، قَالَتْ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ مَنْزلَ أبي الحسن، فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَبَدَأني (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَقَالَ: «يَا حَكِيمَةُ، ابْعَثِي بِنَرْجِسَ إِلَى ابْنِي أَبِي محمّد، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا سيّدي، عَلَى هَذَا فَصَدْتُكَ أَنْ أَسْتَأذِنَكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «يَا مُبَارَكَةُ، إِنَّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَكِ فِي الْأَجْر وَيَجْعَلَ لَكِ فِي الخَيْر نَصِيباً»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ رَجَعْتُ إِلَى مَنزلي وَزَيَّنَتُهَا وَوَهَبْتُهَا لِأَبِي محمّد، وَجَمَعْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي مَنزلي، فَأَقَامَ عِنْدِي أَيَّاماً، ثمّ مَضَى إِلَى وَالِدِهِ، وَوَجَّهْتُ بِهَا مَعَهُ.
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَمَضَى أَبو الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَجَلَسَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَكَانَ وَالِدِهِ، وَكُنْتُ أَزُورُهُ كَمَا كُنْتُ أَزُورُ وَالِدَهُ، فَجَاءَتْنِي نَرْجِسُ يَوْماً تَخْلَعُ خُفِّي وَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي نَاوِلْنِي خُفَّكِ، فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَمَوْلَاتِي، وَاللّه لَا دَفَعْتُ إِلَيْكِ خُفِّي لِتَخْلَعِيهِ وَلَا خَدَمْتِيني (1)، بَلْ أَخْدُمُكِ (2) عَلَى بَصَرِي، فَسَمِعَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذَلِكَ فَقَالَ: «جَزَاكِ اللّه خَيْراً يَا عَمَّةٌ، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ إِلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَصِحْتُ بِالجَارِيَةِ وَقُلْتُ: نَاوِلِيني ثِيَابِي لِأَنْصَرفَ، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّتَاهُ بِيتِيَ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ سَيُولَدُ اللَّيْلَةَ المَوْلُودُ الْكَرِيمُ عَلَى اللّه (عَزَّوَجَلَّ) الّذي يُحْيِي اللّه (عَزَّوَجَلَّ) بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا».
قُلْتُ: عَنْ يَا سيّدي وَلَسْتُ أَرَى بَنَرْجِسَ شَيْئاً مِنْ أَثَرِ الْحَمْل؟ فَقَالَ: «مِنْ نَرْجِسَ لَا مِنْ غَيْرَهَا»، قَالَتْ: فَوَثَبْتُ إِلَى نَرْجِسَ فَقَلَبْتُهَا ظَهْراً لِبَطْنِ فَلَمْ أَرَ بِهَا أثراً مِنْ جَبَلٍ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَعَلْتُ، فَتَبَسَّمَ ثمّ قَالَ لِي: «إِذَا كَانَ وَقْتُ
ص: 148
الْفَجْر يَظْهَرُ لَكِ بِهَا الْخَبَلُ، لِأَنَّ مَثَلَهَا مَثَلُ أُمَّ مُوسَى لَمْ يَظْهَرْ بِهَا الخَبَلُ وَلَمْ يَعْلَمْ بهَا أَحَدٌ إِلَى وَقْتِ وِلَادَتِهَا، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشُقُ بُطُونَ الحَبَالَى فِي طَلَبِ مُوسَى وَهَذَا نَظِيرُ مُوسَى (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْقُبُهَا إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْر وَهِيَ نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيَّ لَا تَقْلِبُ جَنْباً إِلَى جَنْبِ، حتّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْر وَثَبَتْ فَرْعَةٌ، فَضَمَمْتُهَا إِلَى صَدْرِي وَسَمَّيْتُ عَلَيْهَا، فَصَاحَ (2) أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَقَالَ: «اقْرَئِي عَلَيْهَا: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»»، فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأ عَلَيْهَا، وَقُلْتُ لَهَا: مَا حَالُكِ؟ قَالَتْ: ظَهَرَ (3) الْأَمْرُ الّذي أَخْبَرَكِ بِهِ مَوْلَايَ، فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأْ عَلَيْهَا كَمَا أَمَرَنِي، فَأَجَابَني الجنينُ مِنْ بَطْنِهَا يَقْرَأُ كَمَا أَقْرَأُ، وَسَلَّمَ عَلَىَّ، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَفَزِعْتُ لِمَا سَمِعْتُ، فَصَاحَ بِي أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللّه (عَزَّوَجَلَّ)، إِنَّ اللّه تبَارَكَ وَتَعَالَى يُنْطِقُنَا بِالْحِكْمَةِ صِغَاراً وَيَجْعَلْنَا حُجَّةٌ فِي أَرْضِهِ كِبَاراً»، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ الْكَلَامَ حتّى غِيبَتْ عَنِّي نَرْجِسُ فَلَمْ أَرَهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَابٌ، فَعَدَوْتُ نَحْوَ أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَأَنَا صَارِخَةٌ، فَقَالَ لِي: «ارْجِعِي يَا عَمَّهُ فَإِنَّكِ سَتَجِدِيهَا فِي مَكَانِهَا»، قَالَتْ: فَرَجَعْتُ فَلَمْ أَلْبَتْ أَنْ كُشِفَ الْحِجَابُ (4) بَيْني وَبَيْنَهَا، وَإِذَا أَنَا بِهَا وَعَلَيْهَا مِنْ أَثر النُّورِ مَا غَشِيَ بَصَرِي، وَإِذَا أَنَا بِالصَّبِي (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَاجِداً عَلَى وَجْهِهِ، جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ، رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأَنَّ جَدِّي رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وَأَنَّ
ص: 149
أبي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ...»، ثمّ عَدَّ إِمَاماً إِمَاماً إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «اللّهمَّ أَنْجِزْ لِي وَعْدِي، وَأَتْمِمْ لِي أَمْرِي، وَثَبِّتْ وَطَأَتِي، وَامْلًا الْأَرْضَ بِي عَدْلاً وَقِسْطاً».
فَصَاحَ أَبو محمّد الحَسَنُ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، تَنَاوَلِيهِ فَهَاتِيهِ»، فَتَنَاوَلْتُهُ وَأَتَيْتُ بِهِ نَحْوَهُ، فَلَمَّا مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ وَهُوَ عَلَى يَدَيَّ سَلَّمَ عَلَى أَبيهِ، فَتَنَاوَلَهُ الحَسَنُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَالطَّيْرُ تُرَفُرفُ عَلَى رَأْسِهِ (1)، فَصَاحَ بِطَيْرِ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ: «احْمِلْهُ وَاحْفَظْهُ وَرُدَّهُ إِلَيْنَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً»، فَتَنَاوَلَهُ الطَّائِرُ وَطَارَ بِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَأَتْبَعَهُ سَائِرُ الطَّيْرِ، فَسَمِعْتُ أَبَا محمّد يَقُولُ: «أَسْتَوْدِعُكَ الّذي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى (2)»، فَبَكَتْ نَرْجِسُ، فَقَالَ لَهَا: «اسْكُتِي فَإِنَّ الرَّضَاعَ مُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ ثَدْيِكِ، وَسَيْعَادُ إِلَيْكِ كَمَا رُدَّ مُوسَى إِلَى أُمِّهِ، وَذَلِكِ قَوْلُهُ (عَزَّوَجَلَّ): «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أمّه كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ» [القصص: 13]».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَقُلْتُ: مَا هَذَا الطَّائِرُ؟ قَالَ: «هَذَا رُوحُ الْقُدُسِ المُوَكَّلُ بالأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) يُوَفِّقُهُمْ وَيُسَدِّدُهُمْ وَيُرَبِّيهِمْ بِالْعِلْم».
قَالَتْ حَكِيمَةُ : فَلَا أَنْ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً رُدَّ الْغُلَامُ، وَوَجَّهَ إِلَى ابْنُ أَخِي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَدَعَانِي، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَبِيٌّ مُتَحَرِّكُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: سيّدي هَذَا ابْنُ سَنَتَيْن، فَتَبَسَّمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ قَالَ: «إِنَّ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ إِذَا كَانُوا أَئِمَّةً يَنْشَئُونَ بِخِلَافِ مَا يَنْشَأُ غَيْرُهُمْ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا إِذَا أَتَى عَلَيْهِ شَهْرٌ كَانَ كَمَنْ يَأْتِي (3) عَلَيْهِ سَنَةٌ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا لَيَتَكَلَّمُ في بَطْن أمّه وَيَقْرَأ الْقُرْآنَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ (عَزَّوَجَلَّ) وَعِنْدَ الرَّضَاعَ تُطِيعُهُ المَلائِكَةُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ [كُلَّ ] صَبَاح [وَ] مَسَاء (4)».
ص: 150
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرَى ذَلِكَ الصَّبِيَّ كُلّ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلَى أَنْ رَأَيْتُهُ رَجُلاً قَبْلَ مُضِي أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأيَّامٍ قَلائِلَ فَلَمْ أَعْرِفُهُ، فَقُلْتُ لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : مَنْ هَذَا الّذي تَأْمُرُنِي أَنْ أَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ؟ فَقَالَ: «ابْنُ نَرْجِسَ، وَهُوَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي، وَعَنْ قَلِيلِ تَفْقِدُونَّي، فَاسْمَعِي لَهُ وَأَطِيعِي»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَمَضَى أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأيَّامٍ قَلَائِلَ، وَافْتَرَقَ النَّاسُ كَمَا تَرَى، وَوَاللّه إِنِّي لَأَرَاهُ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّهُ لَيُنْبِئُنِي عَمَّا تَسْأَلُونِّي عَنْهُ فَأَخْبِرُكُمْ، وَوَاللّه إِنِّي لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَن الشَّيْءِ فَيَبْدَأُني بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَرُدُّ عَلَى الْأَمْرَ فَيَخْرُجُ إِلَيَّ مِنْهُ جَوَابُهُ مِنْ سَاعَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَتِي، وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْبَارِحَةَ بِمَجِيئكَ إِلَيَّ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكَ بِالْحَقِّ.
قَالَ محمّد بْنُ عَبْدِ اللّه: فَوَ اللّه لَقَدْ أَخْبَرَتْنِي حَكِيمَةُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللّه (عَزَّوَجَلَّ)، فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ وَعَدْلٌ مِنَ اللّه (عَزَّوَجَلَّ)، وَأَنَّ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) قَدِ اطَّلَعَهُ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ (1).
بیان: قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): (وثبِّت وطأتي): الوطئ الدوس بالقدم، سُمِّي به الغزو والقتل لأنَّ من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه وإهانته، ذكره الجزري (2)، أي أحكم وثبت ما وعدتني من جهاد المخالفين واستيصالهم.
[15/15] كمال الدِّين: الطَّالَقَانِيُّ، عَن الحَسَنِ بْن عَلِيّ بْن زكريّا، عَنْ محمّد بْن خَلِيلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ غِيَاثِ بْن أَسَدٍ، قَالَ : وُلِدَ الخَلَفُ (3) المهديّ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ) يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وأمّه رَيْحَانَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا : نَرْجِسُ، وَيُقَالُ: صَقِيلُ، وَيُقَالُ: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ لِسَبَبِ الحُمْل : صَقِيلُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لِثَمَانِ لَيَالِ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتَّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن، وَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ،
ص: 151
فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ محمّد بْن عُثْمَانَ، وَأَوْصَىٰ أَبُو جَعْفَرِ إِلَى أبِي الْقَاسِم الحُسَيْن بْن رُوحٍ، وَأَوْصَى أَبُو الْقَاسِم إلى أبي الحسن علي بن محمّد السَّمُرِي (رضیَ اللّهُ عنهُم)، فَلَمَّا حَضَرَتِ السَّمُريَّ (رضیَ اللّهُ عنهُ) الْوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ، فَقَالَ: للّه أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، فَالْغَيْبَةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ السَّمُري (رَحمهُ اللّه) (1).
بيان: قوله : (إلَّا أنَّه قيل لسبب الحمل) : أي إنَّما سُمِّي صقيلاً لما اعتراه من النور والجلاء بسبب الحمل المنوّر، يقال: صقل السيف، وغيره أي جلاه، فهو صقيل. ولا يبعد أن يكون تصحيف الجمال.
ص: 152
[20/20] كمال الدِّين: بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ محمّد بْن عُثْمَانَ الْعَمْرِي (قَدَّسَ اللّه رُوحَهُ)، أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) تَحْتُونَا، وَسَمِعْتُ حَكِيمَةَ تَقُولُ: لَمْ يُرَ بِأُمِّهِ دَمٌ فِي نِفَاسِهَا، وَهَذَا سَبِيلُ أُمَّهَاتِ الأئمّة (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ) (1).
ص: 153
[23/23] كمال الدِّين : عَلِيُّ بْنُ محمّد بْن حُبَابِ، عَنْ أَبِي الْأَدْيَانِ (1)، قَالَ: قَالَ عَقِيدٌ الخَادِمُ: قَالَ أَبُو محمّد ابْنُ خَيْرَوَيْهِ الْبَصْرِيُّ (2)، وَقَالَ حَاجِرٌ الْوَشّاءُ كُلُّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَقِيدٍ، وَقَالَ أَبُو سَهْلِ بْنُ نَوْبَخْتَ : قَالَ عَقِيدٌ: وُلِدَ وَليُّ اللّه الحجّة بْنُ الحَسَن بْن عَلِيّ بْن محمّد بْن عَلِيّ بْن مُوسَى بْن جَعْفَر بْن محمّد بْن عَليَّ ابن الحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ مِنْ شَهْرٍ رَمَضَانَ (3) مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن للّهجْرَةِ، وَيُكَنَّى أَبَا الْقَاسِم، وَيُقَالُ: أَبو جَعْفَرٍ، وَلَقَبُهُ المهديّ، وَهُوَ حُجَّةُ اللّه فِي أَرْضِهِ (4)، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ في ولادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْ ذِكْر خَبَرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَى ذِكْرَهُ، وَاللّه أَعْلَمُ (5).
ص: 154
[25/25] الغيبة للطوسي : ابْنُ أَبِي جَيّدٍ، عَن ابْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الصَّفَّار، عَنْ محمّد بْن عَبْدِ اللّه المُطَهَّريّ (1)، عَنْ حَكِيمَةَ بِنْتِ محمّد بْن عَلى الرِّضَا، قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اجْعَلِي اللَّيْلَةَ إِفْطَارَكِ عِنْدِي، فَإِنَّ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) سَيَسُرُّكِ بِوَلِيهِ وَحُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَتَدَاخَلَنِي لِذَلِكَ سُرُورٌ شَدِيدٌ، وَأَخَذْتُ ثِيَابِي عَلَيَّ، وَخَرَجْتُ مِنْ سَاعَتِي حتّى انْتَهَيْتُ إِلَى أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَهُوَ جَالِسٌ فِي صَحْن دَارِهِ وَجَوَارِيهِ حَوْلَهُ، فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا سيّدي، الخَلَفُ منْ هُوَ؟ قَالَ: «مِنْ سَوْسَنَ»، فَأَدَرْتُ طَرْفِي فِيهِنَّ، فَلَمْ أَرَ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَثرٌ غَيْرَ سَوْسَنَ، قَالَتْ حَكِيمَةُ : فَلَمَّا أَنْ صَلَّيْتُ المَغْربَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ أَتَيْتُ بِالمَائِدَةِ، فَأَفْطَرْتُ أَنَا وَسَوْسَنُ، وَبَايَتُهَا فِي بَيْتِ وَاحِدٍ، فَغَفَوْتُ غَفْوَةً (2)، ثمّ اسْتَيْقَظتُ، فَلَمْ أَزَل مُفَكَّرَةً فِيمَا وَعَدَنِي أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنْ أَمْر ولي اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقُمْتُ قَبْلَ الْوَقْتِ الّذي كُنْتُ أَقُومُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ اللَّيْل حتّى بَلَغْتُ إِلَى الْوَتْرِ، فَوَثَبَتْ سَوْسَنُ فَزِعَةٌ، وَخَرَجَتْ وَأَسْبَغَتِ الْوُضُوءَ، ثمّ عَادَتْ فَصَلَّتْ صَلَاةَ اللَّيْلِ وَبَلَغَتْ إِلَى الْوَتْرِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ قَرُبَ، فَقُمْتُ لأَنظُرَ
ص: 155
فَإِذَا بِالْفَجْرِ الْأَوَّلِ قَدْ طَلَعَ، فَتَدَاخَلَ قَلْبِي الشَّكُ (1) مِنْ وَعْدِ أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَنَادَانِي مِنْ حُجْرَتِهِ: «لَا تَشُكّي، وَكَأَنَّكِ بِالْأَمْرِ السَّاعَةَ قَدْ رَأَيْتِهِ إِنْ شَاءَ اللّه».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَمِمَّا وَقَعَ فِي قَلْبِي، وَرَجَعْتُ إِلَى الْبَيْتِ وَأَنَا خَجِلَةٌ، فَإِذَا هِيَ قَدْ قَطَعَتِ الصَّلَاةَ وَخَرَجَتْ فَرْعَةً، فَلَقِيتُهَا عَلَى بَابِ الْبَيْتِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتِ وَأُمِّي، هَلْ تَحِسِّينَ شَيْئًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَمَّةُ، إِنِّي لأَجِدُ أَمْراً شَدِيداً، قُلْتُ: لَا خَوْفَ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللّه، وَأَخَذْتُ وسَادَةً فَأَلْقَيْتُهَا فِي وَسَطِ الْبَيْتِ وَأَجْلَسْتُهَا عَلَيْهَا وَجَلَسْتُ مِنْهَا حَيْثُ تَقْعُدُ المَرْأَةُ مِنَ المَرْأَةِ لِلْوِلَادَةِ، فَقَبَضَتْ عَلَى كَفِّى وَغَمَزَتْ غَمْزَةٌ شَدِيدَةً، ثمّ أَنَّتْ أَنَّةً وَتَشَهَّدَتْ، وَنَظَرْتُ تَحْتَهَا فَإِذَا أَنَا بِوَلِيٍّ اللّه (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ) مُتَلَقِّياً الْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، فَأَخَذْتُ بِكَتِفَيْهِ فَأَجْلَسْتُهُ فِي حَجْرِي، وَإِذَا هُوَ نَظِيفٌ مَفْرُوعٌ مِنْهُ، فَنَادَانِي أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يَا عَمَّةُ، هَلُمِّي فَأتِيني بابني»، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَتَنَاوَلَهُ، وَأَخْرَجَ لِسَانَهُ فَمَسَحَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ فَفَتَحَهَا، ثمّ أَدْخَلَهُ فِي فِيهِ فَحَنَّكَهُ، ثمّ أَدْخَلَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَأَجْلَسَهُ فِي رَاحَتِهِ الْيُسْرَى، فَاسْتَوَى وَليُّ اللّه جَالِسًا، فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، انْطِقُ بِقُدْرَةِ اللّه، فَاسْتَعَاذَ وَليُّ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ، وَاسْتَفْتَحَ: «بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» [القصص: 5 و 6]...، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللّه وَعَلَى أمير المؤمِنِينَ وَالأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) وَاحِداً وَاحِداً حتّى انتهى إلى أَبِيهِ، فَنَاوَلَنِيهِ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَقَالَ: يَا عَمَّهُ، رُدِّيهِ إلَى أمّه حتّى تَقَرَّ عَيْنُها وَلَا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(2)، فَرَدَدْتُهُ إِلَى أمّه
ص: 156
وَقَدِ انْفَجَرَ الْفَجْرُ الثَّانِي، فَصَلَّيْتُ الْفَرِيضَةَ وَعَقَبْتُ إلى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، ثمّ وَدَّعْتُ أَبَا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَانْصَرَفْتُ إِلَى مَنزلي، فَلَما كَانَ بَعْدَ ثَلَاثَ اشْتَقْتُ إِلَى وَلي اللّه، فَصِرْتُ إِلَيْهِمْ، فَبَدَأتُ بالحُجْرَةِ الَّتِي كَانَتْ سَوْسَنُ فِيهَا، فَلَمْ أَرَ أثراً وَلَا سَمِعْتُ ذِكْراً، فَكَرِهْتُ أَنْ أَسْأَلَ، فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَبْدَأَهُ بِالسُّؤَالِ فَبَدَأَنِي، فَقَالَ: «يَا عَمَّةٌ فِي كَنَفِ اللّه وَحِرْزِهِ وَسَتْرِهِ وَعَيْنِهِ (1) حتّى يَأْذَنَ اللّه لَهُ، فَإِذَا غَيَّبَ اللّه شَخْصِي وَتَوَفَّانِي وَرَأَيْتَ شِيعَتِي قَدِ اخْتَلَفُوا فَأَخْبِري الثَّقَاتَ مِنْهُمْ، وَلْيَكُنْ عِندَكِ وَعِنْدَهُمْ مَكْتُوماً، فَإِنَّ وَليَّ اللّه يُغَيِّبُهُ اللّه عَنْ خَلْقِهِ وَيَحْجُبُهُ عَنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ حتّى يُقَدِّمَ لَهُ جَبْرَئِيلُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَرَسَهُ، «لِيَقْضِيَ اللّه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً» [الأنفال: 42]» (2).
[26/26] الغيبة للطوسي : أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ محمّد بْن عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ بن سَمِيع بن بُنَانِ، عَنْ محمّد بْن عَلِيٌّ بن أبي الدَّارِي، عَنْ أَحْمَدَ بْن محمّد، عَنْ أَحْمَدَ بْن عَبْدِ اللّه، عَنْ أَحْمَدَ بْن رُوحٍ الْأَهْوَازِيِّ، عَنْ محمّد بْن إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَكِيمَةَ بِمِثْل مَعْنَى الحَدِيثِ الأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَالَتْ : بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَيْلَةَ النَّصْفِ مِنْ شَهْرٍ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن، قَالَتْ: وَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه مَنْ أُمُّهُ؟ قَالَ: «نَرْجِسُ»، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ اشْتَدَّ شَوْقِي إِلَى وَلَي اللّه، فَأَتَيْتُهُمْ عَائِدَةً، فَبَدَأتُ بالحُجْرَةِ الَّتِي فِيهَا الْجَارِيَةُ، فَإِذَا أَنَا بِهَا جَالِسَةً في تجلس المَرْأَةِ التَّفَسَاءِ وَعَلَيْهَا أَثْوَابٌ صُفْرٌ وَهِيَ مُعَصَّبَةُ الرَّأس، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهَا، وَالْتَفَتُّ إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ وَإِذَا بِمَهْدِ عَلَيْهِ أَنْوَابٌ خُضْرٌ، فَعَدَلْتُ إِلَى المَهْدِ وَرَفَعْتُ عَنْهُ الْأَنْوَابَ، فَإِذَا أَنَا بِوَلِيٍّ اللّه نَائِمٌ عَلَى قَفَاهُ غَيْرَ مَحْزُومٍ وَلَا مَقْمُوطٍ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَجَعَلَ يَضْحَكُ وَيُنَاجِينِي بِإِصْبَعِهِ، فَتَنَاوَلْتُهُ وَأَدْنَيْتُهُ إلَى فَمِى لأقبلَهُ، فَشَمَمْتُ مِنْهُ
ص: 157
رَائِحَةٌ مَا شَمَمْتُ قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا، وَنَادَانِي أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّتِي، هَلُمَّي فَتَايَ إِلَيَّ»، فَتَنَاوَلَهُ، وَقَالَ: «يَا بُنَيَّ، انْطِقُ».... وَذَكَرَ الحَدِيثَ.
قَالَتْ: ثمّ تَنَاوَلَهُ مِنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا بُنَيَّ، أَسْتَوْدِعُكَ الّذي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى! كُنْ فِي دَعَةِ اللّه وَسَتْرِهِ وَكَنَفِهِ وَجِوَارِهِ، وَقَالَ: «رُدِّيهِ إِلَى أمّه يَا عَمَّهُ، وَاكْتُمِي خَبَرَ هَذَا المَوْلُودِ عَلَيْنَا، وَلَا تُخْبِرِي بِهِ أَحَداً حتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ»، فَأَتَيْتُ أمّه وَوَدَّعْتُهُمْ...، وَذَكَرَ الحَدِيثَ إِلَى آخِره (1).
بیان: حزمه يحزمه شدَّه.
[27/27] الغيبة للطوسي : أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ محمّد بْن عَلِيٍّ، عَنْ حَنْظَلَةَ ابْن زكريّا، قَالَ: حدَّثني الثَّقَةُ، عَنْ محمّد بْن عَلِيِّ بْن بِلَالٍ، عَنْ حَكِيمَةَ بِمِثْل ذَلِكَ (2).
وَفِي ِروَايَةٍ أُخْرَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ أَنَّ حَكِيمَةَ حَدَّثَتْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَنَّ أمّه نَرْجِسُ.... وَسَاقَتِ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهَا: فَإِذَا أَنَا بِحِسِّ سيّدي وَبِصَوْتِ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَهُوَ يَقُولُ: «يَا عَمَّتِي، هَاتِي ابْنِي إِلَيَّ»، فَكَشَفْتُ عَنْ سيّدي، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ مُتَلَقِّياً الأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ وَعَلَى ذِرَاعِهِ الْأَيْمَن مَكْتُوبٌ : «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً» [الإسراء: 81]، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَوَجَدْتُهُ مَفْرُوعَاً مِنْهُ، فَلَفَفْتُهُ فِي ثَوْبٍ وَحَمَلْتُهُ إِلَى أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...، وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وَأَنَّ محمّداً رَسُولُ اللّه، وَأَنَّ عَلِيًّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا...»، ثمّ لَمْ يَزَلْ يَعُدُّ السَّادَةَ الْأَوْصِيَاءَ إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى نَفْسِهِ، وَدَعَا لِأَوْلِيَائِهِ بِالْفَرَجِ عَلَى يَدَيْهِ، ثمّ أَحْجَمَ. وَقَالَتْ: ثمّ رُفِعَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَي محمّد كَالْحِجَابِ، فَلَمْ أَرَ سيّدي، فَقُلْتُ لِأَبِي محمّد:
ص: 158
يَا سيّدي، أَيْنَ مَوْلَايَ؟ فَقَالَ: «أَخَذَهُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْكِ وَمِنَّا».... ثمّ ذَكَرُوا الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ وَزَادُوا فِيهِ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً دَخَلْتُ عَلَى أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَإِذَا مَوْلَانَا الصَّاحِبُ يَمْشِي فِي الدَّارِ، فَلَمْ أَرَ وَجْهاً أَحْسَنَ مِنْ وَجْهِهِ، وَلَا لُغَةٌ أَفْصَحَ مِنْ لُغَتِهِ، فَقَالَ أَبو محمّد: «هَذَا المَوْلُودُ الْكَريمُ عَلَى اللّه (عَزَّوَجَلَّ)»، فَقُلْتُ: سيّدي، أَرَى مِنْ أَمْرِهِ مَا أَرَى وَلَهُ أرْبَعُونَ يَوْماً ؟ !، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: «يَا عَمَّتِي، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّا مَعَاشِرَ الأئمّة نَنشَأُ فِي الْيَوْم مَا يَنْشَأُ غَيْرُنَا فِي السَّنَةِ؟»، فَقُمْتُ فَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَانْصَرَفْتُ، ثمّ عُدْتُ وَتَفَقَدْتُهُ فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : مَا فَعَلَ مَوْلَانَا؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اسْتَوْدَعْنَاهُ الّذي اسْتَوْدَعَتْ أُمُّ مُوسَى» (1).
[28/28] الغيبة للطوسي : أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ محمّد بْن عَلِيٍّ، عَنْ حَنْظَلَةَ ابْن زكريّا، قَالَ: حدَّثني أَحْمَدُ بْنُ بِلَالِ بْن دَاوُدَ الْكَاتِبِ، وَكَانَ عَامِّيَّا بِمَحَلٌ مِنَ النَّصْبِ لِأَهْل الْبَيْتِ (عَلَيهِم السَّلَامُ) يُظْهِرُ ذَلِكَ وَلَا يَكْتُمُهُ، وَكَانَ صَدِيقاً لِي يُظْهِرُ مَوَدَّةً بِمَا فِيهِ مِنْ طَبْع أَهْل الْعِرَاقِ، فَيَقُولُ كُلَّمَا لَقِيَنِي: لَكَ عِنْدِي خَبَرٌ تَفْرَحُ بِهِ وَلَا أُخْبِرُكَ بِهِ، فَأَتَغَافَلُ عَنْهُ إِلَى أَنْ جَمَعَنِي وَإِيَّاهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ فَاسْتَقْصَيْتُ عَنْهُ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُخْبِرَني بِهِ، فَقَالَ: كَانَتْ دُورُنَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى مُقَابِلَ دَار ابن الرِّضَا - يَعْنِي أَبَا محمّد الْحَسَنَ بْنَ عَلَيَّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) -، فَغِبْتُ عَنْهَا دَهْراً طويلاً إِلَى قَزْوِينَ وَغَيْرهَا، ثمّ قَضَى لي الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَافَيْتُهَا وَقَدْ كُنْتُ فَقَدْتُ جَمِيعَ مَنْ خَلَّفْتُهُ مِنْ أَهْلِي وَقَرَابَاتِي إِلَّا عَجُوزاً كَانَتْ رَبَّتْنِي وَلَهَا بِنْتُ مَعَهَا، وَكَانَتْ مِنْ طَبْعِ الأولِ مَسْتُورَةٌ صَائِنَةٌ لَا تُحْسِنُ الْكَذِبَ، وَكَذَلِكَ مُوَالِيَاتٌ لَنَا بَقِينَ في الدّار، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُمْ أَيَّاماً، ثمّ عَزَمْتُ [ عَلَى ] (2) الخُرُوج، فَقَالَتِ الْعَجُوزُ : كَيْفَ تَسْتَعْجِلُ الْإِنْصِرَافَ وَقَدْ غِبْتَ زَمَاناً؟ فَأَقِمْ عِنْدَنَا لِنَفْرَحَ بِمَكَانِكَ، فَقُلْتُ لَهَا عَلَى جِهَةِ الهُزْءِ: أُرِيدُ أَنْ أَصِيرَ إِلَى
ص: 159
كَرْبَلَاءَ، وَكَانَ النَّاسُ لِلْخُرُوج فِي النَّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ لِيَوْمٍ عَرَفَةَ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أُعِيدُكَ بِاللّه أَن تستهيني بما [تَسْتَهِينَ مَا ] ذَكَرْتَ، أَوْ تَقُولَهُ عَلَىٰ وَجْهِ الْهُزْءِ، فَإِنِّي أُحَدِّثُكَ بِمَا رَأَيْتُهُ، يَعْنِي بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْ عِنْدَنَا بِسَنَتَيْن.
كُنتُ في هَذَا الْبَيْتِ نَائِمَةٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الدَّهْلِيز، وَمَعِيَ ابْنَتِي، وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمَةِ وَالْيَقْظَانَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، نَظِيفُ الشَّيَابِ، طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، فَقَالَ: يَا فُلَانَهُ، يَحِيتُكِ السَّاعَةَ مَنْ يَدْعُوكِ في الجيران، فَلَا تَمتَنِعِي مِنَ الذَّهَابِ مَعَهُ وَلَا تَخَافِي، فَفَزِعْتُ، وَنَادَيْتُ ابْنَتِي وَقُلْتُ هَا: هَلْ شَعَرْتِ بِأَحَدٍ دَخَلَ الْبَيْتَ؟ فَقَالَتْ: لَا، فَذَكَرْتُ اللّه وَقَرَاتُ وَنَمْتُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ بِعَيْنِهِ وَقَالَ لِي مِثْلَ قَوْلِهِ، فَفَزِعْتُ وَصِحْتُ بِابْنَتِي، فَقَالَتْ: لَمْ يَدْخُل الْبَيْتَ، فَاذْكُري اللّه وَلَا تَفْزَعِي فَقَرَاتُ وَنَمْتُ، فَلَا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ جَاءَ الرَّجُلُ وَقَالَ: يَا فَلَانَةُ، قَدْ جَاءَكِ مَنْ يَدْعُوكِ وَيَقْرَعُ الْبَابَ، فَاذْهَبِي مَعَهُ، وَسَمِعْتُ دَقَّ الْبَابِ، فَقُمْتُ وَرَاءَ الْبَابِ وَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: افْتَحِي وَلَا تَخَافِي، فَعَرَفْتُ كَلَامَهُ وَفَتَحْتُ الْبَابَ، فَإِذَا خَادِمٌ مَعَهُ إِزَارٌ، فَقَالَ: يَحْتَاجُ إِلَيْكِ بَعْضُ الجِيرَان حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ فَادْخُلِي، وَلَفٌ رَأْسِي بِالمُلَاءَةِ وَأَدْخَلَنِي الدَّارَ وَأَنَا أَعْرِفُهَا، فَإِذَا بِشِقَاقٍ مَشْدُودَةٍ وَسَطَ الدَّارِ وَرَجُلٌ قَاعِدٌ بِجَنْبِ الشَّقَاقِ، فَرَفَعَ الْخَادِمُ طَرَفَهُ، فَدَخَلْتُ وَإِذَا امْرَأَةٌ قَدْ أَخَذَهَا الطَّلِّقُ وَامْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلْفَهَا كَأَنها تَقْبَلُهَا، فَقَالَتِ المَرْأَةُ: تُعِينُنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَعَالَجَتُهَا بِمَا يُعَالَجُ بِهِ مِثْلُهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا قَلِيلاً حتّى سَقَطَ غُلَامٌ، فَأَخَذْتُهُ عَلَى كَفِّي وَصِحْتُ غُلَامٌ غُلَامٌ، وَأَخْرَجْتُ رَأْسِي مِنْ طَرَفِ الشَّقَاقِ أُبَشِّرُ الرَّجُلَ الْقَاعِدَ، فَقِيلَ لي: لَا نَصِيحِي، فَلَمَّا رَدَدْتُ وَجْهِي إِلَى الْغُلَام قَدْ كُنْتُ فَقَدْتُهُ مِنْ كَفِّي، فَقَالَتْ لِي المَرْأَةُ الْقَاعِدَةُ: لَا تَصِيحِي، وَأَخَذَ الْخَادِمُ بِيَدِي وَلَفَّ رَأْسِي بِالْمَلَاءَةِ وَأَخْرَجَنِي مِنَ الدَّارِ وَرَدَّنِي إِلَى دَارِي وَنَاوَلَنِي صُرَّةٌ، وَقَالَ لي: لَا تُخبري بِمَا رَأَيْتِ أَحَداً.
ص: 160
فَدَخَلْتُ الدَّارَ وَرَجَعْتُ إِلَى فِرَاشِي فِي هَذَا الْبَيْتِ وَابْنَتِي نَائِمَةٌ بَعْدُ، فَأَنْبَهْتُهَا وَسَأَلْتُهَا : هَلْ عَلِمْتِ بِخُرُوجِي وَرُجُوعِي؟ فَقَالَتْ: لَا، وَفَتَحْتُ الصُّرَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِذَا فِيهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ عَدَداً، وَمَا أَخْبَرْتُ بِهَذَا أَحَداً إِلَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ لَمَّا تَكَلَّمْتَ بِهَذَا الْكَلَام عَلَى حَدَّ الهُرهِ، فَحَدَّثْتُكَ إِشْفَاقاً عَلَيْكَ، فَإِنَّ هِؤُلَاءِ الْقَوْمِ عِنْدَ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) شَأناً وَمَنْزلَةٌ، وَكُلُّ مَا يَدَّعُونَهُ حتّى [حَقٌّ]، قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ قَوْلِهَا وَصَرَفْتُهُ إِلَى السُّخْرِيَّةِ وَالهُزءِ، وَلَمْ أَسْأَلُها عَن الْوَقْتِ، غَيْرَ أَنِّي أَعْلَمُ يَقِيناً أَنِّي غِبْتُ عَنْهُمْ فِي سَنَةِ نَيِّفٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَرَجَعْتُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى فِي وَقْتٍ أَخْبَرَتْنِي الْعَجُوزُ بهَذَا الْخَبَر فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي وِزَارَةِ عُبَيْدِ اللّه بن سُلَيْمانَ لَمَّا قَصَدْتُهُ.
قَالَ حَنْظَلَةُ: فَدَعَوْتُ بِأَي الْفَرَج المظفّر بْن أَحْمَدَ حتّى سَمِعَ مَعِي (1) هَذَا الخبر (2).
بیان :قوله: (من طبع الأول): أي كانت من طبع الخلق الأول هكذا، أي كان مطبوعاً على تلك الخصال في أوّل عمره والشقاق جمع الشقّة بالكسر، وهي من الثوب ما شقّ مستطيلاً.
[29 / 29] الغيبة للطوسي: رُويَ أَنَّ بَعْضَ أَخَوَاتِ أَبِي الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) كَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ رَبَّتْهَا تُسَمَّى نَرْجِسَ فَلَمَّا كَبِرَتْ دَخَلَ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَرَاكَ يَا سيّدي تَنظُرُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: «إِنِّي مَا نَظَرْتُ إِلَيْهَا إِلَّا مُتَعَجِّباً، أَمَا إِنَّ المَوْلُودَ الْكَرِيمَ عَلَى اللّه يَكُونُ مِنْهَا»، ثمّ أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَبَا الْحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ، فَفَعَلَتْ، فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ (3).
ص: 161
[35/ 35] كشف الغمّة: قَالَ الشَّيْخُ كمال الدِّين بنُ طَلْحَةَ: مَوْلِدُ الحجّة ابْن الحَسَن (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) بِسُرَّ مَنْ رَأى فِي ثَالِثٍ وَعِشْرِينَ رَمَضَانَ سَنَةً ثَمانٍ وَخَمْسِينَ وَمائتين، وَأَبُوهُ أَبو محمّد الْحَسَنُ، وأمّه أُمُّ وَلَدٍ تُسَمَّى صَقِيلَ، وَقِيلَ: حَكِيمَةَ، وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَكُنيتُهُ أبو الْقَاسِمِ، وَلَقَبُهُ الحجّة وَالخَلَفُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ: المتنظَرُ (1).
ص: 162
[36/36] الإرشاد: كَانَ مَوْلِدُهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَيْلَةَ النَّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْس وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن، وأمّه أُمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لهَا: نَرْجِسُ، وَكَانَ سِنُّهُ عِنْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ خَمْسُ سِنِينَ آتَاهُ اللّه فِيهِ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَجَعَلَهُ آيَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَآتَاهُ الْحِكْمَةَ كَما آتَاهُ يَحْيَى صَبيَّا، وَجَعَلَهُ إِمَاماً كَمَا جَعَلَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ في المَهْدِ نَبِيًّا، وَلَهُ قَبْلَ قِيَامِهِ غَيْبَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَطْوَلُ مِنَ الْأُخْرَى جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ، فَأَمَّا الْقُصْرَى مِنْهَا فَمُنْذُ وَقْتِ مَوْلِدِهِ إِلَى انْقِطَاعِ السَّفَارَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شِيعَتِهِ وَعَدَمِ السُّفَرَاءِ بالْوَفَاةِ، وَأَمَّا الطُّولَى فَهِيَ بَعْدَ الأُولَى وَفِي آخِرهَا يَقُومُ بِالسَّيْف (1).
[37/37] كشف الغمّة : قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ : حدَّثني أَبُو الْقَاسِم طَاهِرُ بْنُ هَارُونَ بْن مُوسَى الْعَلَوِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ سيّدي جَعْفَرُ بْنُ محمّد : «الخَلَفُ الصَّالِحُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ المهديّ، اسْمُهُ (م ح م د)، وَكُنْيَتُه أَبو الْقَاسِم، يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يُقَالُ لِأُمِّهِ: صَقِيلُ»، قَالَ لَنَا أَبُو بَكْرِ الدَّارِعُ (2): وَفِي ِروَايَةٍ أَخْرَى بَلْ أمّه حَكِيمَةُ، وَفِي ِروَايَةٍ ثَالِثَة: يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ، وَيُقَالُ: بَلْ سَوْسَنُ، وَاللّه أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
وَيُكَنَّى بأبي الْقَاسِمِ، وَهُوَ ذُو الْإِسْمَيْن: خَلَفٍ وَمحمّد، يَظْهَرُ فِي آخِر الزَّمَان وَعَلَى رَأْسِهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْس تَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، تُنَادِي بِصَوْتٍ فَصِيح : هَذَا المهديّ.
حدَّثني محمّد بْنُ مُوسَى الطُّوسِيُّ، قَالَ: حدَّثنا أَبُو مِسْكِينٍ، عَنْ بَعْض أَصْحَابِ التَّاريخ أَنَّ أُمَّ المُنتظَر يُقَالُ لَهَا: حَكِيمَةُ (3).
أقول: سيأتي بعض الأخبار في (باب) من رآه) (4).
ص: 163
وقال ابن خلِّكان في تاريخه: هو ثاني عشر الأئمّة الاثنا عشر على اعتقاد الإمامية المعروف بالحجّة، وهو الّذي تزعم الشيعة أنَّه المنتظر والقائم والمهديّ، وهو صاحب السرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب بسُرَّ من رأى كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين، ولمَّا تُوفّي أبوه كان عمره خمس سنين، واسم أمّه خمط وقيل: نرجس والشيعة يقولون: إنَّه دخل السرداب في دار أبيه وأمّه تنظر إليه، فلم يعد يخرج إليها، وذلك في سنة خمس وستين ومأتين، [وعمره يومئذٍ تسع سنين، وذكر ابن الأزرق في تاريخ ميافارقين أنَّ الحجّة المذكور وُلِدَ تاسع شهر ربیع الأوَّل سنة ثمان وخمسين ومأتين ] (1)، وقيل : في ثامن شعبان سنة ستّ وخمسين، وهو الأصحُّ، وإنَّه لما دخل السرداب كان عمره أربع سنين، وقيل: خمس سنين، وقيل: إنَّه دخل السرداب سنة خمس وسبعين ومأتين وعمره [ سبع ] عشر سنة، واللّه أعلم (2).
أقول: رَأَيْتُ فِي بَعْض مُؤَلَّفَاتِ أَصْحَابِنَا (3) روَايَةٌ هَذِهِ صُورَتُهَا، قَالَ: حدَّثني هَارُونُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعْدَانَ الْبَصْرِي وَمحمّد بْن أَحْمَدَ الْبَغْدَادِي وَأَحْمَدَ ابْن إِسْحَاقَ وَسَهْل بن زِيَادِ الْآدَمِيٌّ وَعَبْدِ اللّه بْن جَعْفَرٍ، عَنْ عِدَّةٍ مِنَ المَشايخ وَالثَّقَاتِ، عَنْ سيّدينَا أَبي الحَسَن وَأَبِي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، قَالَا: «إِنَّ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْإِمَامَ أَنْزَلَ قَطْرَةً مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ فِي المَزْن، فَتَسْقُطُ فِي ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمار الجنَّةِ، فَيَأْكُلُهَا الحجّة في الزَّمَان (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ فِيهِ فَيَمْضِي لَهُ أَرْبَعُونَ يَوْماً سَمِعَ الصَّوْتَ، فَإِذَا آنَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ حُمِلَ كُتِبَ عَلَى عَضُدِهِ الْأَيْمَن: «وَتَمَّتْ
ص: 164
كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» :[الأنعام: (115]، فَإِذَا وُلِدَ قَامَ بِأَمْرِ اللّه وَرُفِعَ لَهُ عَمُودٌ مِنْ نُورٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَنْظُرُ فِيهِ إِلَى الخَلَائِقِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَيَنْزِلُ أَمْرُ اللّه إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْعَمُودِ وَالْعَمُودُ نُصْبُ عَيْنِهِ حَيْثُ تَوَلَّى وَنَظَرَ».
قَالَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «دَخَلْتُ عَلَى عَمَّاتِي، فَرَأَيْتُ جَارِيَةً مِنْ جَوَارِيهِنَّ قَدْ زُيِّنَتْ تُسَمَّى : نَرْجِسُ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا نَظَراً أَطَلْتُهُ، فَقَالَتْ لي عَمَّتِي حَكِيمَةُ: أَرَاكَ يَا سيّدي تَنْظُرُ إِلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ نَظَراً شَدِيداً، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَمَّةُ، مَا نَظَري إِلَيْهَا إِلَّا نَظَرَ التَّعَجُبِ مِما للّه فِيهِ مِنْ إِرَادَتِهِ وَخِيَرَتِهِ، قَالَتْ لِي: أَحْسَبُكَ يَا سيّدي تُريدُهَا، فَأَمَرْتُهَا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَي عَلِيَّ بْنَ محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فِي تَسْلِيمِهَا إِلَيَّ، فَفَعَلَتْ، فَأَمَرَهَا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِذَلِكَ، فَجَاءَتْنِي بِهَا».
قَالَ الحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ وَحدَّثني مَنْ أَثْقُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَشَايخ، عَنْ حَكِيمَةَ بِنْتِ محمّد بْن عَلى الرّضَا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قَالَ: كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أَي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَتَدْعُو لَهُ أَنْ يَرْزُقَهُ اللّه وَلَداً، وَأَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ كَمَا أَقُولُ وَدَعَوْتُ كَمَا أَدْعُو.
فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، أَمَا إِنَّ الّذي تَدْعِينَ اللّه أَنْ يَرْزُقَنِيهِ يُولَدُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ»، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْع وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن، «فَاجْعَلِي إِفْطَارَكِ مَعَنَا»، فَقُلْتُ: يَا سيّدي مِمَّنْ يَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ الْعَظِيمُ؟ فَقَالَ لي (عَلَيهِ السَّلَامُ): مِنْ نَرْجِسَ يَا عَمَّهُ».
قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ (1): يَا سيّدي مَا فِي جَوَارِيكِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا، وَقُمْتُ وَدَخَلْتُ إِلَيْهَا، وَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ فَعَلَتْ بي كَمَا تَفْعَلُ، فَانْكَبَيْتُ عَلَى يَدَيْهَا فَقَبَّلْتُهُما وَمَنَعْتُهَا مِمَّا كَانَتْ تَفْعَلُهُ، فَخَاطَبَتْنِي بِالسَّيَادَةِ، فَخَاطَبْتُهَا بِمِثْلِهَا، فَقَالَتْ لِي: فَدَيْتُكِ، فَقُلْتُ هَا: أَنَا فِدَاكِ وَجَمِيعُ الْعَالَمِينَ، فَأَنْكَرَتْ ذَلِكِ، فَقُلْتُ لَهَا: لَا تُنْكِرينَ
ص: 165
مَا فَعَلْتُ، فَإِنَّ اللّه سَيَهَبُ لَكِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ غُلَاماً سَيْداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ فَرَجُ الْمُؤْمِنِينَ، فَاسْتَحْيَتْ.
فَتَأَمَّلْتُهَا فَلَمْ أَرَ فِيهَا أَثَرَ الْحَمْل، فَقُلْتُ لِسيّدي أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): مَا أَرَى بها حَمْلاً، فَتَبَسَّمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ قَالَ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَوْصِيَاءِ لَسْنَا نُحْمَلُ فِي الْبُطُونَ وَإِنَّمَا نُحْمَلُ فِي الجُنْبِ، وَلَا نَخْرُجُ مِنَ الْأَرْحَامِ وَإِنَّمَا نَخْرُجُ مِنَ الْفَخِذِ الْأَيْمَن مِنْ أُمَّهَاتِنَا، لأنَّنا نُورُ اللّه الّذي لَا تَنَالُهُ الدَّانِسَاتُ»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سيّدي، قَدْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّهُ يُولَدُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَفِي أَيِّ وَقْتِ مِنْهَا؟ قَالَ لي: «في طُلُوعِ الْفَجْر يُولَدُ الْكَريمُ عَلَى اللّه إِنْ شَاءَ اللّه».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَأَقَمْتُ، فَأَفْطَرْتُ، ونمْتُ بِقُرْبِ مِنْ نَرْجِسَ، وَبَاتَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فِي صُفَّةٍ فِي تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، فَلَا وَرَدَ وَقْتُ صَلَاةِ اللَّيْلِ قُمْتُ وَنَرْجِسُ نَائِمَةٌ مَا بِهَا أَثَرُ ولَادَةٍ، فَأَخَذْتُ فِي صَلَاتِ ثمّ أَوْتَرْتُ فَأَنَا فِي الْوَتْرِ حتّى وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ وَدَخَلَ قَلْبِي شَيْءٌ، فَصَاحَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ الصُّفَّةِ: «لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ يَا عَمَّةُ».
فَأَسْرَعْتُ الصَّلَاةَ، وَتَحَرَّكَتْ نَرْجِسُ، فَدَنَوْتُ مِنْهَا وَضَمَمْتُهَا إِلَى وَسَمَّيْتُ عَلَيْهَا، ثمّ قُلْتُ لهَا: هَلْ تَحِسِّينَ بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَوَقَعَ عَلَى سُبَاتٌ لَمْ أَتَمالَكَ مَعَهُ أَنْ نَمْتُ، وَوَقَعَ عَلَى نَرْجِسَ مِثْلُ ذَلِكَ وَنَامَتْ، فَلَمْ أَنْتَبِهُ إِلَّا بِحِسٌ سيّدي المهديّ وَصَيْحَةِ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: «يَا عَمَّةُ، هَاتِي ابْني إِلَيَّ فَقَدْ قَبلْتُهُ»، فَكَشَفْتُ عَنْ سيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَإِذَا أَنَا بِهِ سَاجِداً يَبْلُغُ الْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، وَعَلَى ذِرَاعِهِ الْأَيْمَنِ مَكْتُوبٌ : «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً» [الإسراء: 81]، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَوَجَدْتُهُ مَفْرُوغاً مِنْهُ، وَلَفَفْتُهُ فِي ثَوْبِ وَحَمَلْتُهُ إِلَى أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَأَخَذَهُ فَأَقْعَدَهُ عَلَى رَاحَتِهِ الْيُسْرَى، وَجَعَلَ رَاحَتَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِهِ، ثمّ أَدْخَلَ لِسَانَهُ في فِيهِ، وَأَمَرَّ بِيَدِهِ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَمْعِهِ وَمَفَاصِلِهِ، ثمّ قَالَ لَهُ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ».
ص: 166
فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمّداً رَسُولُ اللّه، وَأَنَّ عَلِيًّا أَمِيرَ المؤمِنينَ وَليُّ اللّه...»، ثمّ لَمْ يَزَلْ يُعَدِّدُ السَّادَةَ الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) إِلَى أَنَّ بَلَغَ إِلَى نَفْسِهِ، وَدَعَا لِأَوْلِيَائِهِ بِالْفَرَجِ عَلَى يَدِهِ، ثمّ أَجْحَمَ. قَالَ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يَا عَمَّةُ، اذْهَبِي [بِهِ] إِلَى أمّه لِيُسَلَّمَ عَلَيْهَا وَأتِينِي بِهِ»، فَمَضَيْتُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَرَدَدْتُهُ، ثمّ وَقَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبي محمّد لا كَالْحِجَابٍ، فَلَمْ أَرَ سيّدي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سيّدي، أَيْنَ مَوْلَانَا ؟ فَقَالَ: «أَخَذَهُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكِ، فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ فَأَتِينَا».
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابع جِنْتُ فَسَلَّمْتُ ثمّ جَلَسْتُ، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هَلُمَّي ابْنِي، فَجِئْتُ بِسيّدي وَهُوَ فِي ثِيَابٍ صُفْرٍ، فَفَعَلَ بِهِ كَفِعَالِهِ الْأَوَّلِ، وَجَعَلَ لِسَانَهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فِي فِيهِ، ثمّ قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ عَلَيْا : «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه...»، وَثَنَّى بالصَّلَاةِ عَلَى محمّد وَأَمِير المُؤمِنينَ وَالأئمّة حتّى وَقَفَ عَلَى أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ قَرَأَ ««بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» [القصص: 5 و 6]»، ثمّ قَالَ لَهُ: «اقْرَأ يَا بُنَيَّ مَا أَنْزَلَ اللّه عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ»، فَابْتَدَأَ بِصُحُفِ آدَمَ فَقَرَأَهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَكِتَابِ إِدْرِيسَ، وَكِتَابِ نُوحٍ، وَكِتَابِ هُودٍ، وَكِتَابِ صَالِحٍ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَوْرَاةِ مُوسَى، وَزَبُور دَاوُدَ، وَإِنْجِيل عِيسَى، وَفُرْقَان جَدِّي رَسُولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمّ قَصَّ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ إِلَى عَهْدِهِ، فَلَما كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً دَخَلْتُ دَارَ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَإِذَا مَوْلَانَا صَاحِبُ الزَّمَان يَمْشِي فِي الدَّارِ، فَلَمْ أَرَ وَجْهَا أَحْسَنَ مِنْ وَجْهِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وَلَا لُغَةٌ أَفْصَحَ مِنْ لُغَتِهِ، فَقَالَ لي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «هَذَا المَوْلُودُ الْكَريمُ عَلَى اللّه (عَزَّوَجَلَّ)»، قُلْتُ لَهُ: يَا سيّدي، لَهُ أَرْبَعُونَ يَوْماً وَأَنَا أَرَى مِنْ أَمْرِهِ مَا أَرَى، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَا عَمَّتِي، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّا مَعْشَرَ الْأَوْصِيَاءِ نَنْشَأُ فِي الْيَوْم مَا يَنْشَأُ غَيْرُنَا فِي الجُمْعَةِ، وَیَنْشَأْ فِي
ص: 167
الجُمْعَةِ مَا يَنْشَأُ غَيْرُنَا فِي السَّنَةِ؟»، فَقُمْتُ فَقَبَّلْتُ رَأَسَهُ فَانْصَرَفْتُ، فَعُدْتُ وَتَفَقَّدْتُهُ فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ لِسيّدي أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : مَا فَعَلَ مَوْلَانَا ؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّهُ، اسْتَوْدَعْنَاهُ الّذي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، ثمّ قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لَمَّا وَهَبَ لِي رَبِّي مَهْدِيّ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَرْسَلَ مَلَكَيْن فَحَمَلَاهُ إِلَى سُرَادِقِ الْعَرْشِ حتّى وَقَفَا [به] بَيْنَ يَدَى اللّه (عَزَّوَجَلَّ)، فَقَالَ لَهُ: مَرْحَباً بِكَ عَبْدِي لِنُصْرَةِ دِينِي وَإظْهَارِ أَمْرِي وَمَهْدِي عِبَادِي، آلَيْتُ أَنِّي بِكَ أَخُذُ وَبِكَ أُعْطِي وَبكَ أَغْفِرُ وَبكَ أُعَذِّبُ، ارْدُدَاهُ أَيُّهَا الملكان رُدَّاهُ رُدَّاهُ عَلَى أَبِيهِ رَدًّا رَفِيقاً وَأَبْلِغَاهُ، فَإِنَّهُ فِي ضَمَانِي وَكَنَفِي وَبِعَيْنِي إِلَى أَنْ أُحِقَّ بِهِ الحَقَّ وَأَزْهِقَ بِهِ الْبَاطِلَ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِي وَاصِباً».
ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا سَقَطَ مِنْ بَطْن أمّه إِلَى الْأَرْضِ وُجِدَ جَائِباً عَلَى رُكْبَتَيْهِ رَافِعاً بِسَبَّابَتَيْهِ، ثمّ عَطَسَ فَقَالَ: «الْحَمْدُ اللّه رَبِّ الْعالَمينَ، وَصَلَّى اللّه عَلَى محمّد وَآلِهِ عَبْداً دَاخِراً غَيْرَ مُسْتَنْكِفٍ وَلَا مُسْتَكْبِر، ثمّ قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «زَعَمَتِ الظُّلَمَةُ أَنَّ حُجَّةَ اللّه دَاحِضَةٌ، لَوْ أَذِنَ لِي لَزَالَ الشَّكُ».
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبِ أَبِي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ قَالَ: وَجَّهَ إِلَيَّ مَوْلَايَ أَبو الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِأَرْبَعَةِ أَكْبُشِ، وَكَتَبَ إِلَيَّ: «بِسْم اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، [عُقَّ] هَذِهِ عَن ابني محمّد المهديّ، وَكُلْ هَنَّأَكَ وَأَطْعِمْ مَنْ وَجَدْتَ مِنْ شِيعَتِنَا» (1).
أقول: وقال الشهيد (رَحمهُ اللّه) في الدروس ولد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بسُرَّ من رأى يوم الجمعة ليلاً خامس عشر شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين، وأمّه صقيل، وقيل: نرجس :وقيل: مريم بنت زيد العلويَّة (2).
ص: 168
[7/66] الغيبة للطوسي: سَعْدٌ، عَن الْيَقْطِينِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبَانِ، عَنْ
ص: 169
عَمْرو بن شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ الجُعْفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: «سَايَرَ (1) عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي عَن المهديّ مَا اسْمُهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا اسْمُهُ فَإِنَّ حَبِيبي عَهِدَ (2) إِليَّ أَنْ لَا أُحَدِّثَ بِاسْمِهِ حتّى يَبْعَثَهُ اللّه، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ صِفَتِهِ، قَالَ: هُوَ شَابٌ مَرْبُوعٌ، حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الشَّعْرِ، يَسِيلُ شَعْرُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَنُورُ وَجْهِهِ يَعْلُو سَوَادَ الحِيَتِهِ وَرَأْسِهِ، بِأَبِي ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ» (3).
الغيبة للنعماني: عن عمرو بن شمر، مثله (4).
ص: 170
[23/82] الغيبة للنعماني: بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَن الحُسَيْن بْن أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللّه الخَنْعَمِيُّ، عَنْ محمّد بْن عَبْدِ اللّه، عَنْ وُهَيْبِ بْن حَفْصٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبو جَعْفَرٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَوْ أَبو عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) - الشَّكُ مِن ابْن عِصَام -: «يَا بَا محمّد، بِالْقَائِم عَلَامَتَان شَامَةٌ فِي رَأْسِهِ، وَدَاءُ الْخَزَازِ بِرَأْسِهِ، وَشَامَةٌ بَيْنَ كَيْفَيْهِ، مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْسَر تَحْتَ كَيْفَيْهِ وَرَقَةٌ مِثْلُ وَرَقَةِ الْآس (1)، ابْنُ سِتَّةِ، وَابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ».
بيان: لعلَّ المعنى ابن ستَّة أعوام عند الإمامة، أو ابن ستَّة بحسب الأسماء فإن أسماء آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) محمّد وعلي وحسين وجعفر وموسى وحسن ولم يحصل ذلك في أحد من الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) قبله، مع أنَّ بعض رواة تلك الأخبار من الواقفيّة ولا تُقبل رواياتهم فيما يوافق مذهبهم (2).
[24/83] الغيبة للنعماني: ابْنُ عُقْدَةَ، عَنْ محمّد بْن الْفَضْل بن قَيْسِ وَسَعْدَانَ بْن إِسْحَاقَ بْن سَعِيدٍ وَأَحْمَدَ بْن الْحَسَن (3) بْن عَبْدِ المَلِكِ وَمحمّد بْن الحَسَنِ الْقَطَوَانِيِّ جَمِيعاً، عَن ابْن مَحْبُوبِ، عَنْ هِشَامِ بْن سَالِمٍ، عَنْ زَيْدٍ الْكُنَاسِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ محمّد بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يَقُولُ: «إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ
ص: 171
فِيهِ شَبَهُ مِنْ (1) يُوسُفَ مِنْ أَمَةٍ سَوْدَاءَ، يَصْلُحُ اللّه لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ (2)، يُريدُ بِالشَّبَه مِنْ يُوسُفَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) الغيبة (3).
[25/84] الغيبة للنعماني: عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللّه، عَنْ أَحْمَدَ بْن محمّد بْن رَبَاحٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْن عَلِيُّ الْحِمْيَرِيُّ، عَن الحَكَم بن عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِير، قَالَ: قُلْتُ لأَبي جَعْفَرٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ): قَوْلُ أمير المؤمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «بأبي ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ» أَهِيَ فَاطِمَةُ؟ قَالَ: «فَاطِمَةُ خَيْرُ الْحَرَائِر»، قَالَ: «المبدح [المُدَبَّحُ] بَطْنُهُ، المُشْرَبُ عُمْرَةً، رَحِمَ اللّه فلاناً» (4).
[26/85] الغيبة للنعماني: ابْنُ عُقْدَةَ، عَن الْقَاسِمِ بْن محمّد بْنِ الحُسَيْن، عَنْ عُبَيْس بن هِشَامٍ، عَن ابْن جَبَلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ بن المغيرَةِ، عَنْ أَبِي الصَّباح، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَقَالَ: «مَا وَرَاءَكَ؟»، فَقُلْتُ: سُرُورٌ مِنْ عَمِّكَ زَيْدِ خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ سِتَّةِ (5)، وَأَنَّهُ قَائِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، فَقَالَ: «كَذَبَ لَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، إِنْ خَرَجَ قُتِلَ» (6).
بيان: لعلَّ زيداً أدخل الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عداد الآباء مجازاً فإنَّ العم قد يُسمَّى أباً، فمع فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ستّة من المعصومين.
[27/86] الغيبة للنعماني: ابْنُ عُقْدَةَ، عَنْ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن، عَنْ محمّد وَأَحْمَدَ ابْنَا الحَسَن، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ ثَعْلَبَةَ بن مِهْرَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْن حَازِمٍ (7)، قَالَ:
ص: 172
خَرَجْتُ مِنَ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ المَدِينَةَ دَخَلْتُ عَلَى أَبي عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي: «هَلْ صَاحَبَكَ أَحَدٌ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ (1) صَحِبَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزَلَةِ، قَالَ: «فِيمَا (2) كَانَ يَقُولُ»، قُلْتُ : كَانَ يَزْعُمُ محمّد بْنَ عَبْدِ اللّه بْنِ الْحَسَنِ يُرْجَى هُوَ الْقَائِمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْمَهُ اسْمُ النَّبِيِّ وَاسْمَ أَبِيهِ اسْمُ أَبي النَّبِيِّ، فَقُلْتُ لَهُ في الجواب: إِنْ كُنْتَ تَأخُذُ بِالْأَسْمَاءِ فَهُوَ ذَا فِي وُلْدِ الحُسَيْن محمّد بْنُ عَبْدِ اللّه بن عَلَى، فَقَالَ لي: إِنَّ هَذَا ابْنُ أَمَةٍ يَعْنِي محمّد بْنَ عَبْدِ اللّه بْن عَلِيٍّ، وَهَذَا ابْنُ مَهِيرَةٍ يَعْنِي محمّد بْنَ عَبْدِ اللّه بن الحسن بن الحَسَن، فَقَالَ لَي أَبو عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فَما رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟»، قُلْتُ: مَا كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ (3) أَنَّهُ ابْنُ ستَّه (4)»، يَعْنِي الْقَائِمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) (5).
ص: 173
[4/205] كِتَابُ المُقْتَضَبِ لابْن الْعَيَّاش: قَالَ: حدَّثني الشَّيْخُ الثَّقَةُ أَبو الحُسَيْن بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْن عَلَى فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْن عِنْدَ عُبَيْدِ بن كَثِير، عَنْ نُوح بن دَرَّاجِ، عَنْ يَحْيَى، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْن وَهْبٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَالْحَارِثِ بْن عَبْدِ اللّه الهَمْدَانِيِّ وَالْحَارِثِ بْن شَرب كُلِّ حدَّثنا أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ عَلى عَلِيّ ابْن أَبي طَالِب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ ابْنُهُ الحَسَنُ يَقُولُ: «مَرْحَباً بِابْن رَسُولِ اللّه»، وَإِذَا أَقْبَلَ الحُسَيْنُ يَقُولُ: «بِأَبي أَنْتَ يَا أَبَا ابْن خِيَرَةِ الْإِمَاءِ»، فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَالُكَ تَقُولُ هَذَا لِلْحَسَن وَهَذَا لِلْحُسَيْنِ؟ وَمَن ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ؟ فَقَالَ: «ذَاكَ الْفَقِيدُ الطَّرِيدُ الشَّريدُ (م ح م د) بنُ الحَسَن بن عَلِيَّ بْن محمّد بْن عَلِيَّ بْن مُوسَى بْن جَعْفَرِ بْن محمّد بْن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن هَذَا»، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأس الحُسَيْن (1).
ص: 174
[23/224] نهج البلاغة في بَعْض خُطَبِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ - يَعْنِي نَفْسَهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) - مَا شَاءَ اللّه حتّى يُطْلِعَ اللّه لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ، وَيَضُمُّ نَشْرَكُمْ...» (2) إِلَى آخِر مَا مَرَّ فِي كِتَاب الْفِتَن.
ص: 175
اللّه أَنْتُمْ بِأَحْلَامِكُمْ، كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَكُونُوا مِنْ وَرَاءِ مَعَايِشِكُمْ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ سَيَصِلُ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ صَبَرْتُمْ وَاحْتَسَبْتُمْ وَاسْتَيْقَتَتُمْ أَنَّهُ طَالِبٌ وَتَرَكُمْ وَمُدْرِكُ آثَارَكُمْ وَآخِذُ بِحَقِّكُمْ، وَأُقْسِمُ بِاللّه قَسَماً حَقًّا إِنَّ اللّه مَعَ الّذينَ اتَّقَوْا وَالّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ».
أَقُولُ: وَقَالَ ابْنُ أَبي الحَدِيدِ فِي شَرْح خُطْبَةٍ أَوْرَدَهَا السيّد الرَّضِيُّ فِي نَهْج الْبَلاغَةِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْر بَنِي أُمَيَّةَ هَذِهِ الخُطْبَةُ ذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ : السِّيَرَ، وَهِيَ مُتَدَاولَةٌ مَنْقُولَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، وَفِيهَا أَلْفَاظٌ لَمْ يُوردُهَا الرَّضِيُّ.
ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهَا: «فَانْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَإن لَبَدُوا فَالْبَدُوا وَإنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فَانْصُرُوهُمْ، لَيَفْرِجَنَّ (1) اللّه بِرَجُلٍ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، بِأَبِي ابْن خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ هَرْجاً هَرْجاً، مَوْضُوعاً عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةٌ (2)، حتّى تَقُولَ قُرَيْضٌ لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ لَرَحِمَنَا، فَيُغْرِيهِ اللّه بِبَني أُمَيَّةَ حتّى يَجْعَلَهُمْ حُطَاماً وَرُفَاتاً، «مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا تُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتَّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللّه فِي الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلاً» [الأحزاب: 61 و 62]»(3).
ثُمَّ قال ابن أبي الحديد: فإن قيل من هذا الرجل الموعود؟ قيل: أمّا الإماميَّة فيزعمون أَنَّه إمامهم الثاني عشر وأنَّه ابن أمة اسمها نرجس، وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يُولد في مستقبل الزمان لأم ولد وليس بموجود الآن.
ص: 176
[1/227] كمال الدِّين : المُظَفَرُ الْعَلَوِيُّ، عَن ابْن الْعَيَّاشِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَبْرَئِيلَ بْن أَحْمَدَ، عَنْ مُوسَى بْن جَعْفَرِ الْبَغْدَادِي، عَن الحَسَن بن محمّد الصَّيْرَفي، عَنْ حَنَان بن سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ سَدِير بن حُكَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ عقيصاء [عَقِيصَى]، قَالَ: لَمَّا صَالَحَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيَّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَلَامَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَقَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وَيُحكُمْ مَا تَدْرُونَ مَا عَمِلْتُ، وَاللّه عَلي الّذي عَمِلْتُ خَيْرٌ لِشِيعَتِي مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، أَلَا تَعْلَمُونَ أَنَّني إمَامُكُمْ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ عَلَيْكُمْ وَأَحَدُ سيّدي شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِنَصِّ مِنْ رَسُولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؟»، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الخَضِرَ لَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ وَأَقَامَ الجِدَارَ كَانَ ذَلِكَ سَخَطاً مُوسَى بْن عِمْرَانَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إِذْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللّه حِكْمَةً وَصَوَاباً؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا الْقَائِمُ الّذي يُصَلِّي رُوحُ اللّه عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ خَلْفَهُ؟ فَإِنَّ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) تُخْفِي وَلَادَتَهُ وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، ذَاكَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ أَخِي الحُسَيْن ابْن سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطِيلُ اللّه عُمُرَهُ فِي غَيْبَتِهِ، ثمّ يُظهِرُهُ بِقُدْرَتِهِ فِي صُورَةٍ شَابٌ ابْن دُون أَرْبَعِينَ سَنَةً، ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1).
الاحتجاج عن حنان بن سدير، مثله (2).
ص: 177
[15/265] كمال الدِّين: الدَّقَّاقُ، عَن الْأَسَدِيُّ، عَن النَّخَعِيُّ، عَن
ص: 178
النَّوْفَلِيُّ، عَن ابْن الْبَطَائِنِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: «إِنَّ سُنَنَ الْأَنْبِيَاءِ (عَلَيهِم السَّلَامُ) مَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَيْبَاتِ جَارِيَةٌ (1) فِي الْقَائِم مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ حَذْوَ النَّعْل بِالنَّعْل وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ»، قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه، وَمَن الْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ؟ فَقَالَ: «يَا بَا بَصِير، هُوَ الْخامِسُ مِنْ وُلْدِ ابْنى مُوسَى، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يَغِيبُ غَيْبةً يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، ثمّ يُظْهِرُهُ اللّه (عَزَّوَجَلَّ)، فَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللّه عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ الْأَرْضُ بِنُور رَبِّهَا، وَلَا تَبْقَى فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ عُبدَ فِيهَا غَيْرُ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) إِلَّا عُبدَ اللّه فِيهَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ اللّه وَلَوْ كَرَهَ المُشْرِكُونَ» (2).
بیان: قال الجزري: القذَّة: ريش السهم، ومنه الحديث: «لتركبنَّ سَنَن من كان قبلكم حذو القَّذة بالقذَّة»، أي كما يقدر كلُّ واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع، يضرب مثلاً للشيئين يستويان ولا يتفاوتان(3).
ص: 179
[2/277] كمال الدِّين : الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ محمّد بْن زِيَادٍ
ص: 180
الْأَزْدِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ سيّدي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عَنْ قَوْلِ اللّه (عَزَّوَجَلَّ): «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» [لقمان: (20]، فَقَالَ: «النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الْإِمَامُ، الظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنَةُ الْإِمَامُ الْغَائِبُ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَيَكُونُ فِي الأئمّة مَنْ يَغِيبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَغِيبُ عَنْ أَبْصَار النَّاسِ شَخْصُهُ، وَلَا يَغِيبُ عَنْ قُلُوبِ المُؤمِنينَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَّا يُسَهِّلُ اللّه لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ، وَيُذَلِّلُ لَهُ كُلَّ صَعْب، وَيُظْهِرُ لَهُ كُنُوزَ الْأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ لَهُ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُبيرُ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ، وَيُهْلِكُ عَلَى يَدِهِ كُلَّ شَيْطَانٍ مَريدِ، ذَاكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، الّذي يَحْفَى عَلَى النَّاس ولَادَتُهُ، وَلَا يَحِلَّ هُمْ تَسْمِيَتُهُ، حتّى يُظْهِرَهُ [اللّه] (عَزَّوَجَلَّ)، فَيَمْلَا بِهِ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَما مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلماً».
قال الصدوق (رَحمهُ اللّه) : لم أسمع هذا الحديث إلا من أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، عند منصر في من حج بيت اللّه الحرام، وكان رجلاً ثقةً ديناً فاضلاً (رحمة اللّه عليه ورضوانه).
كفاية الأثر محمّد بن عبد اللّه بن حمزة، عن عمه الحسن، عن عليٍّ، عن أبيه، مثله (1).
ص: 181
[13/309] كفاية الأثر : أبو المَفَضَّل الشَّيْبَانِيُّ، عَن الْكَلَيْنيِّ، عَنْ عَلان الرَّازِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ جَارِيَةُ أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قَالَ: «سَتَحْمِلِينَ ذَكَراً، وَاسْمُهُ (م ح م د)، وَهُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي»(1).
ص: 182
[8/319] كمال الدِّين : عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ محمّد، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ اللَّيْثي (1)، عَنْ محمّد بْن مَسْعُودٍ، عَنْ محمّد بْن عَلِيٍّ الْقُمِّيِّ، عَنْ محمّد بْن يَحْيَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ، عَنْ ضُرَيْسِ الْكُنَاسِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: «إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاءَ، يُصْلِحُ اللّه أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ» (2).
الغيبة للنعماني: ابن عقدة، عن محمّد بن المفضّل وسعدان بن إسحاق
ص: 183
وأحمد بن الحسن (1) جميعاً، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم عن الكناسي مثله (2).
بیان: قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ابن أمّة سوداء) يخالف كثيراً من الأخبار التي وردت في وصف أمّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ظاهراً إلَّا أنْ يُحمل على الأُمّ بالواسطة أو المربيّة.
ص: 184
[3/332] الخرائج و الجرائح: رُويَ عَنْ حَكِيمَةَ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً مِنْ وَلَادَةِ نَرْجِسَ، فَإِذَا مَوْلَانَا صَاحِبُ الزَّمَان يَمْشِى في الدار، فَلَمْ أَرَ لُغَةٌ أَفْصَحَ مِنْ لُغَتِهِ، فَتَبَسَّمَ أَبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَقَالَ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأئمّة نَنْشَأُ فِي يَوْمٍ كَمَا يَنْشَأْ غَيْرُنَا فِي سَنَةٍ»، قَالَتْ: ثمّ كُنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَسْأَلُ أَبَا محمّد عَنْهُ، فَقَالَ: «اسْتَوْدَعْنَاهُ الّذي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى وَلَدَهَا» (1).
ص: 185
أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ محمّد بْن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْن مُوسَى بْن بَابَوَيْهِ، قَالَ : حدَّثنا محمّد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْن إِسْحَاقَ، عَن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن زكريّا بِمَدِينَةِ السَّلَام، قَالَ: حدَّثنا أَبُو عَبْدِ اللّه محمّد بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حدَّثني أَبِي، عَنْ جَدِّهِ عَتَّاب - مِنْ وُلْدِ عَتَّاب بن أَسِيدٍ، قَالَ : وُلِدَ الخَلَفُ المهديّ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ) يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وأمّه رَيْحَانَةُ، وَيُقَالُ لَهَا: نَرْجِسُ، وَيُقَالُ لَهَا: صَقِيلُ، وَيُقَالُ هَا: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ بِسَبَبِ الحَمْلِ : صَقِيلُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ لِثَمَانِ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ
ص: 186
سَنَةَ سِتٌ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن، وَوَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ أَوْصَى إِلَى أَبي جَعْفَرٍ محمّد بْن عُثمانَ، وَأَوْصَى أَبُو جَعْفَرٍ إلى أبي الْقَاسِم الحسين بن رَوْح، وَأَوْصَى أبو الْقَاسِم إِلَى أَبي الحَسَن عَلِيّ بْن محمّد السَّمُري (رضیَ اللّهُ عنهُ)، فَلَمًا حَضَرَتِ السَّمُريَّ (رضیَ اللّهُ عنهُ) الْوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ، فَقَالَ: اللّه أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، فَالْغَيْبَةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِي السَّمُري (قدّس سِرُّه) (1).
ص: 187
[14/428] الغيبة للطوسي: أَحْمَدُ بنُ عليٍّ الرَّازِيُّ، عَنْ محمّد بْن عَليٍّ، عَنْ عُبَيْدِ (1) اللّه بن محمّد بن جَابَانَ (2) الدَّهْقَان، عَنْ أَبِي سُلَيْمانَ دَاوُدَ (3) بْن غَسَّانَ الْبَحْرَانِيّ، قَالَ: قَرَأَتُ عَلَى أَي سَهْل إِسْمَاعِيلَ بن على النَّوْبَخْتِيّ، قَالَ: مَوْلِدُ (م ح م د) (4) بن الحسن بن على بن محمّد بْن على الرّضَا بن مُوسَى بْن جَعْفَر الصَّادِقِ بْن محمّد الْبَاقِرِ بن عَلِيِّ ب ْنِ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)، وُلِدَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِسَامَرَّاءَ سَنَةَ سِتْ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن، وأمّه صَقِيلُ، وَيُكَنَّى أَبَا الْقَاسِم بهَذِهِ الْكُنْيَةِ أَوْصَى النَّبِيُّ أَنَّهُ قَالَ: «اسْمُهُ كَاسْمِي [وَ] (5) كُنيتُهُ كُنيتي»، لَقَبهُ المهديّ، وَهُوَ الحجّة، وَهُوَ المنتظر، وَهُوَ صَاحِبُ الزَّمَان (عَلَيهِ السَّلَامُ).
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ علىٍّ (6): دَخَلْتُ عَلَى أَبِي محمّد الحَسَن بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في :
ص: 188
المَرْضَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَأَنَا عِنْدَهُ إِذْ قَالَ لِحَادِمِهِ عَقِيدٍ - وَكَانَ الْخَادِمُ أَسْوَدَ نُوبيًّا (1) قَدْ خَدَمَ مِنْ قَبْلِهِ عَلِيَّ بْنَ محمّد وَهُوَ رَبَّى الحَسَنَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) -، فَقَالَ لَهُ: يَا عَقِيدُ، أَغْل لي مَاءً بِمُصْطَكِي فَأَغْلَ لَهُ، ثمّ جَاءَتْ بهِ صَغِيلُ الجَارِيَةُ أمُّ الخَلَفِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَلَا صَارَ الْقَدَحُ فِي يَدَيْهِ وَهَمَّ بِشُرْبهِ فَجَعَلَتْ يَدُهُ تَرْتَعِدُ حتّى ضَرَبَ الْقَدَحُ ثَنَايَا الْحَسَن فَتَرَكَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ لِعَقِيدٍ : «ادْخُلِ الْبَيْتَ فَإِنَّكَ تَرَى صَبِيًّا سَاجِداً فَائتني (2) بِهِ»، قَالَ أَبُو سَهْل : قَالَ عَقِيدٌ: فَدَخَلْتُ أَتَخَرَّى، فَإِذَا أَنَا بِصَبِيَّ سَاجِدٍ رَافِعٌ سَبَّابَتَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَأَوْجَزَ فِي صَلَاتِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ سيّدي يَأْمُرُكَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ، إِذْ جَاءَتْ أمّه صَقِيلُ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ وَأَخْرَجَتْهُ إِلَى أَبِيهِ الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ).
قَالَ أَبُو سَهْل فَلَمَّا مَثْلَ الصَّبِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ، وَإِذَا هُوَ دُرِّيُّ اللَّوْن، وَفِي شَعْر رَأْسِهِ قَطَطٌ، مُفَلَّجُ الْأَسْنَان، فَلَمَّا رَآهُ الْحَسَنُ بَكَى وَقَالَ: «يَا سَيِّدَ أَهْلِ بَيْتِهِ، اسْقِنِي المَاءَ فَإِنِّى ذَاهِبٌ إِلى رَبِّي»، وَأَخَذَ الصّبي ال المَغلي بالمضطكِي بِيَدِهِ ثمّ لا حَرَّكَ شَفَتَيْهِ ثمّ سَقَاهُ، فَلَا شَرِبَهُ قَالَ: «هَيُؤُونِي (3) لِلصَّلَاةِ»، فَرحَ في حَجْرهِ مِنْدِيلٌ، فَوَضَّأَهُ الصَّبِيُّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أَبْشِرُ يَا بُنَيَّ، فَأَنْتَ صَاحِبُ الزَّمَان وَأَنْتَ المهديّ، وَأَنْتَ حُجَّةُ اللّه عَلَى أَرْضِهِ، وَأَنْتُ وَلَدِي وَوَصِي وَأَنَا وَلَدْتُكَ، وَأَنْتَ (م ح م د) (4) بْنُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيّ بْن محمّد بْن عَلِيّ بْن مُوسَى بْن جَعْفَر بن محمّد بْن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ بن
ص: 189
أبي طَالِب، وَلَدَكَ رَسُولُ اللّه، وَأَنْتَ خَاتِمُ (1) الأئمّة الطَّاهِرينَ، وَبَشَّرَ بكَ رَسُولُ اللّه وَسَمَّاكَ وَكَنَّاكَ، بِذَلِكَ عَهِدَ إِلَيَّ أَبي عَنْ آبَائِكَ الطَّاهِرينَ، صَلَّى اللّه عَلَى أَهْل الْبَيْتِ رَبُّنَا إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»، وَمَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عليٍّ مِنْ وَقْتِهِ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمْ أجمعين) (2).
ص: 190
[54/468] كمال الدِّين: حدَّثنا أَبو الأديان (1)، قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ الحَسَنَ ابْنَ عَلِيّ بْن محمّد بْن عَلِيّ بْن مُوسَى بْن جَعْفَرَ بْن محمّد بْن عَلى بن الحُسَيْن بْن عَلَى ابْن أَبِي طَالِب (عَلَيهِم السَّلَامُ) وَأَحْمِلُ كُتبهُ إِلَى الْأَمْصَار، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ (2) فِي عِلَّتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ)، فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً وَقَالَ: «تَمْضِي (3) بِهَا إِلَى المَدَائِنِ، فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَتَدْخُلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَتَسْمَعُ الْوَاعِيَّةَ فِي دَارِي وَتَجِدُنِي عَلَى الْمُغْتَسَل».
قَالَ أَبُو الْأَدْيَان: فَقُلْتُ: يَا سيّدي، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ الْقَائِمُ بَعْدِي، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ الْقَائِمُ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي الهِمْيَان فَهُوَ الْقَائِمُ بَعْدِي»،
ص: 191
ثُمَّ مَنَعَتْنِي هَيْبتُهُ أَنْ أَسْأَلَهُ مَا فِي الهِمْيان، وَخَرَجْتُ بِالْكُتُبِ إِلَى المَدَائِن وَأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا وَدَخَلْتُ سُرّ مَنْ رَأى يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ كَمَا قَالَ لي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَإذَا أَنَا بِالْوَاعِيةِ في دَارِهِ (1)، وَإِذَا أَنَا بِجَعْفَر بن عليٌّ أَخِيهِ بِبَابِ الدَّار وَالشَّيعَةُ حَوْلَهُ يُعَزُّونَهُ، وَيُهنئُونَهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : إِنْ يَكُنْ هَذَا الْإِمَامَ فَقَدْ حَالَتِ (2) الْإِمَامَةُ، لِأَنِّي كُنْتُ أَعْرِفُهُ بِشُرْبِ (3) النَّبِيذ، وَيُقَامِرُ فِي الْجُوْسَقِ (4)، وَيَلْعَبُ بِالطَّنُّبُور.
فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ وَهَنَّيْتُ، فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، ثمّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَالَ: يَا سيّدي، قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ فَقُمْ لِلصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلى وَالشَّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يَقْدُمُهُمُ السَّمَانُ وَالحَسَنُ بْنُ عليٍّ قَتِيلُ المُعْتَصِم المَعْرُوفُ بِسَلَمَةَ.
فَلمَّا صِرْنَا فِي الدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالحَسَن بن عليّ (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ) عَلَى نَعْشِهِ مُكَفِّناً، فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عليٍّ لِيُصَلِّي عَلَى أَخِيهِ، فَلَمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِير خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ، بِشَعْرِهِ قَطَطٌ بِأَسْنَانِهِ تَفْلِيجُ (5)، فَجَبَذْ ردَاءَ جَعْفَر بن علي، وَقَالَ: «تَأَّخَرُ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَبِي»، فَتَأَخَّرَ جَعْفَرٌ وَقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ (6)، فَتَقَدَّمَ الصَّبِيُّ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْر أَبِيهِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).
ثُمَّ قَالَ: «يَا بَصْرِيُّ، هَاتِ جَوَابَاتِ الْكُتُبِ الَّتِي مَعَكَ»، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ اثْنَتَانِ (7) بَقِيَ الحِمْيَانُ، ثمّ خَرَجْتُ إِلَى جَعْفَر بن عليٍّ وَهُوَ
ص: 192
يَزْفِرُ، فَقَالَ لَهُ حَاجِزُ الْوَشَّاءُ: يَا سيّدي، مَن الصَّبِيُّ ؟ - لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الحجّة (1) -، فَقَالَ : وَاللّه مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ وَلَا عَرَفْتُهُ.
فَنَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ ثمّ فَسَأَلُوا عَن الحَسَن بن علي (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِ)، فَعَرَفُوا مَوْتَهُ، فَقَالُوا: فَمَنْ [نُعَزّني ] (2)؟ فَأَشَارَ النَّاسُ إِلَى جَعْفَرِ بْنَ عَلِيٍّ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَزَّوْهُ وَهَنَّئُوهُ وَقَالُوا: مَعَنَا كُتُبُ وَمَالٌ فَتَقُولُ مِمَّن الْكُتُبُ وَكَم المالُ؟ فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ، وَيَقُولُ: يُريدُونَ (3) مِنَّا أَنْ نَعْلَمَ الْغَيْبَ، قَالَ: فَخَرَجَ الْخَادِمُ فَقَالَ: مَعَكُمْ كُتُبُ فَلَانٍ وَفُلَانٍ، وَهِمْيَانٌ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مُطَلَّسَةٌ (4)، فَدَفَعُوا (5) الْكُتُبَ وَالمَالَ وَقَالُوا: الّذي وَجَّهَ بِكَ لِأَجل (6) ذَلِكَ هُوَ الإمام.
فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلى عَلَى المُعْتَمِد وَكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ، فَوَجَّهَ المُعْتَمِدُ خَدَمَهُ فَقَبَضُوا عَلَى صَقِيلَ الْجَارِيَةِ وَطَالَبُوهَا بِالصَّبِيِّ، فَأَنْكَرَتْهُ وَادَّعَتْ حَمْلاَ (7) بِهَا لِتُغَطَّيَ عَلَى حَالَ الصَّبِيِّ، فَسُلَّمَتْ إِلَى ابْن أَبي الشَّوَارِبِ الْقَاضِي، وَبَغَتَهُمْ مَوْتُ عُبَيْدِ اللّه بْن يَحْيَى بْن خَافَانَ فَجْأَةً، وَخُرُوجُ صَاحِبِ الزَّنْج بِالْبَصْرَةِ، فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَن الجَارِيَةِ، فَخَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَالْحَمْدُ اللّه رَبِّ الْعَالَمينَ لَا شَريكَ لَهُ (8).
ص: 193
بيان: (الجوسق) القصر. و (جبذ) : أي جذب. وفي النهاية: أربد وجهه، أي تغيّر إلى الغبرة، وقيل: الربدة لون بين السواد والغبرة (1).
ص: 194
الجامعة لدرر أخبار الائمّة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ)
الجزءُ الثّاني
العلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسي (قدّس سِرُّه)
اعْدَاد
الشيخ ياسر الصَّالِحَي
ص: 195
الامام المهدیّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) في بجار الأنوار / ج 2
تأليف: العلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسي (قدّس سِرُّه)
إعداد: الشيخ ياسر الصالحي
الناشر : بيت الثقافة المهدويَّة
الطبعة الثانية: 1442ه_
عدد النُّسَخ.
النجف الأشرف
جميع الحقوق محفوظة للناشر
ص: 196
[ 109/750] الغيبة للنعماني: أَحْمَدُ بْنُ هَوْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْن إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللّه بن حَمَّادٍ، عَن ابْن (1) أَبي مَالِكِ، عَنْ محمّد بْن أَبي الحَكَم عَنْ عَبْدِ، اللّه بن عُثْمَانَ، عَنْ حُصَيْنٍ (2) المكيّ، عَنْ أَبِي الطَّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْن الْيَمَان، قَالَ: يُقْتَلُ خَلِيفَةٌ مَا لَهُ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ، وَلَا فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ، وَيُخْلَعُ خَلِيفَةٌ حتّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ (3) شَيْءٌ، وَيَسْتَخْلِفُ ابْنَ السِّتَّةِ(4)،
ص: 197
[ قَالَ] (1) : فَقَالَ أَبُو الطَّفَيْلِ : [يَا ابْنَ أَخِي لَيْتَنِي أَنَا وَأَنْتَ مِنْ كُورَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَلِمَ تَتَمَنَّى يَا خَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ حُذَيْفَةَ] حدَّثني أَنَّ المُلْكَ يَرْجِعُ فِي أَهْل النُبُوَّة (2).
ص: 198
[3/817] الاحتجاج : حَنَانُ بْنُ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ سَدِير بن حُكَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَقِيصَا (1)، عَن الحَسَن بن علي (صَلَوَاتُ اللّه عَلَيْهِمَا)، قَالَ: «مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا الْقَائِمَ الّذي يُصَلِّي خَلْفَهُ رُوحُ اللّه عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، فَإِنَّ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) يُخْفِي وَلَادَتَهُ وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنْقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، ذَلِكَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ أَخِي الحُسَيْن، ابْن سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطِيلُ اللّه عُمُرَهُ فِي غَيْبَتِهِ ثمّ يُظهِرُهُ بِقُدْرَتِهِ فِي صُورَةٍ شَابٌ ذو أَرْبَعِينَ سَنَةٌ، ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (2).
ص: 199
[29/927] كمال الدِّين : الهُمَدَانِيُّ، عَنْ عليٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيّ بْن مَعْبَدٍ، عَن الحُسَيْن بن خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرّضَا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لَا دِينَ لمَنْ لَا وَرَعَ
ص: 200
لَهُ، وَلَا إِيمَانَ لَمِنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّه (عَزَّوَجَلَّ) أَعْمَلُكُمْ بِالتَّقِيَّة (1) قَبْلَ خُرُوج قَائِمِنًا، فَمَنْ تَرَكَهَا قَبْلَ خُرُوج قَائِمِنًا فَلَيْسَ مِنَّا». (2)
فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُول اللّه، وَمَن الْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ قَالَ: «الرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطَهِّرُ اللّه بِهِ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ جَوْرِ، وَيُقَدِّسُهَا مِنْ كُلِّ ظلم، وَهُوَ الّذي يَشْكُ النَّاسُ فِي وَلَادَتِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْغَيْبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُور رَبِّهَا (3)، وَوَضَعَ مِيزَانَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً.
وَهُوَ الّذي تُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ وَلَا يَكُونُ لَهُ ظِلٍّ، وَهُوَ الّذي يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ بِاسْمِهِ، يَسْمَعُهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، يَقُولُ: أَلَا إِنَّ حُجَّةَ اللّه قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ بَيْتِ اللّه فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّ الْحَقِّ مَعَهُ وَفِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللّه (عَزَّوَجَلَّ): «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّل عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ» [الشعراء: 4]» (4).
إعلام الورى: عن عليَّ، مثله (5).
ص: 201
ص: 202
عوالم العلوم والمعارف والأحوال
مِنَ الآیات والأخبار و الأقوال
في أحوال الأمام الحجّة بنِ الحَسن المَهدىّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
للمُحدِّث الكَبير المُتَتَبِّع الخبير
الشيخ عبد اللّه البحرانيّ الأصفهاني
ومستدركاتها
للسیّد محمّد باقر المُوحّد الأبطحي الأصفهاني
ص: 203
سرشناسه : بحرانی اصفهانی، شیخ عبداللّه
عنوان و نام پدیدآورنده : عوالم العلوم والمعارف والأحوال الامام الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) ج 26/1 بحرانی اصفهانی
مشخصات نشر : قم عطر عترت 1390
مشخصات ظاهری : 560 ص
شابک : 85000 ريال 4-001-243- 600 - 678 دوره 7 - 000-243- 600-978
وضعیت فهرست نویسی : فيا
موضوع : محمّد بن حسن، امام دوازدهم، امام زمان (عَلَيهِ السَّلَامُ).
موضوع : محمّد بن حسن، زندگینامه، فضائل
موضوع : محمّد بن حس، سیره، علائم ظهور، حکومت.
رده بندی کنگره : 6 م / 35 / 51 BP
رده بندی دیویی : 959 / 297
هوية الكتاب
الكتاب : عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار في أحوال الإمام الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) الجزء 26/1
المؤلِّف : العلّامة الشيخ عبداللّه بن نور اللّه البحراني (رَحمهُ اللّه) من أعلام تلامذة شيخ الاسلام العلّامة المجلسي (قدّس سِرُّه)
المستدركات : السماحة السيّد محمّد باقر الموحّد الابطحي الاصفهاني
التحقيق: مؤسسة الامام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - قم المقدسة (عش آل محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ))
الناشر: عطر عترت
صف الحروف : ظریف / محمّدی
الطبعة : الأولى - شعبان - 1432
العدد: 2000 نسخة
السعر الدورة : 40000 تومان
حق الطبع محفوظ لمؤسسة الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 204
الرواة (1).
[75] 1 - كمال الدِّين الطالقاني، عن الحسن بن علي بن زكريّا، عن محمّد بن خلیلان قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، جدّه عن غياث بن أُسيد (2)، قال: عن ولد الخلف المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم الجمعة، وأمّه ريحانة.
ويقال لها: نرجس. ويقال: صقيل.
ويقال: سوسن، إلّا أنّه قيل لسبب الحمل (3): «صقيل» الخبر (4).
ص: 205
الأئمّة، الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).
[76] 2 - كشف الغمّة: قال ابن الخشّاب : حدَّثني أبو القاسم طاهر بن هارون بن موسى العلوي، عن أبيه عن جدّه قال: قال سيّدي جعفر بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) :
الخلف الصالح من ولدي وهو المهديّ، اسمه: «م ح م د».
وكنيته أبو القاسم، يخرج في آخر الزمان، يقال لأمّه: صقيل.
قال لنا أبو بكر الذارع: (1)
وفي رواية أخرى، بل أمّه حكيمة.
وفي رواية ثالثة، يقال لها: نرجس.
ويقال: بل سوسن، واللّه أعلم بذلك.
ويكنى ب_«أبي القاسم» وهو ذو الإسمين: «خلف» و«م ح م د».
يظهر في آخر الزمان، على رأسه غمامة تظلّه من الشمس، تدور معه حيثما دار، تنادي بصوت فصيح هذا المهديّ.
حدَّثني محمّد بن موسى الطوسي، قال حدَّثنا أبو السكين (2)، عن بعض أصحاب التاريخ، أنّ أمّ المنتظر يقال لها: حكيمة. (3)
ص: 206
الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
(3) غيبة الطوسي: (بإسناد يأتي ح 82) - في حديث - قالت:
أنا «مليكة» بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم.
العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ):
(4) مشارق أنوار اليقين: (بإسناد يأتي: ح116) عن حكيمة - في حديث - قالت:
وأمّه «نرجس» بنت ملك الروم.
(5) بعض مؤلفات أصحابنا: (بإسناد يأتي : ح 84) - في حديث - عن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: فرأيت جارية من جواريهنّ قد زيّنت - تسمّى نرجس -.
(6) ومنه (بإسناد يأتي: ح 97) عن حكيمة قالت:
فقلت ياسيّدي ممّن يكون هذا الولد العظيم ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): من نرجس يا عمّة.
(7) إثبات الرجعة: (بإسناد يأتي: 977) عن محمّد بن عبد الجبار، عن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قال: قلت: ممّن هو يا بن رسول اللّه؟
قال : من ابنة قيصر ملك الروم.
(8) غيبة الطوسي: (بإسناد يأتي: ح 94) عن حكيمة - في حديث – قالت:
قلت له يابن رسول اللّه من أمّه ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «نرجس».
(9) شواهد النبوة: (بإسناد يأتي: ح 117) عن حكيمة، عن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قال: يا عمّة، مَثَلُ «نرجس» مَثَلُ أم موسى.
(10) غيبة الطوسي: (بإسناد يأتي: ح93) عن حكيمة - في حديث - قالت:
فقلت: جعلت فداك يا سيّدي، الخلف ممّن هو ؟
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): من «سوسن» إلى أن قالت : فلما كان بعد ثلاث إشتقت إلى ولىّ اللّه، فصرت إليهم، فبدأت بالحجرة التي كانت «سوسن» فيها.
(11) فصل الخطاب (بإسناد يأتي: ح118) عن حكيمة - في حديث - قالت :
ص: 207
وقت الفجر اضطربت «نرجس».
(12) كمال الدِّين: (بإسناد يأتي: ح 91) عن حكيمة قالت:
كانت لي جارية يقال لها: «نرجس».
(13) مشارق أنوار اليقين (بإسناد يأتي: ح116) عن حكيمة، قالت:
امه نرجس بنت ملك الروم.
(14) كمال الدِّين (بإسناد يأتي ح 125) عن عقيد الخادم قال:
... أمّه صقيل الجارية.
(15) ومنه (بإسناد يأتي: ح 86 و 105) عن أبي عليّ قال:
اسم أمّ السيّد: «صقيل».
[77] (16) غيبة الطوسي: روي أن بعض أخوات أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت لها جارية ربّتها تسمّى «انرجس»... . (1)
الكتب
[78] 17- إرشاد المفيد وأمّه أم ولد، يقال لها: «نرجس». (2)
[79] 18- كشف الغمّة: قال الشيخ كمال الدِّين بن طلحة: أبوه أبو محمّد الحسن؛ وأمّه أمّ ولد تسمّى «صقيل»، وقيل: حكيمة»، وقيل: غير ذلك. (3)
[80] 19 تاريخ ابن خلكان: [هو ] ثاني عشر الأئمّة... واسم أمّه خمط؛
وقيل: نرجس (4).
[81] 20 - الدروس وأمّه صقيل. وقيل: نرجس، وقيل: مريم بنت زيد العلويّة (5).
ص: 208
(21) ينابيع المودة: نقلاً من كتاب فصل الخطاب (يأتي: ح143) وفيه: أمّه أمّ ولد، يقال لها: نرجس.
(22) مرآة الأسرار : (يأتي: ح139) أمّه كانت أمّ ولد اسمها نرجس.
(23) نزهة الجليس - في حديث - (يأتي: ح 140)... اسم أمّه «نرجس».
الأئمّة، أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
(1) ينابيع المودة: (بإسناد يأتي: ح 830) عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قال : ذلك أمر اللّه وهو كائن وقتاً مريحاً، فيا ابن خيرة الإماء، متى تنتظر؟
(2) مقتضب الأثر: (بإسناد يأتي: ح 805) عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قال للحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ): بأبي أنت وأمي يا أبا ابن خيرة الإماء.
(3) شرح النهج: (بإسناد يأتي ذح (821) - في حديث - عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : بأبي ابن خيرة الإماء.
غيبة النعماني: (بإسناد يأتي: ح 825) عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) (مثله).
الباقر، عن عليّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)
(4) غيبة الطوسي: (بإسناد يأتي: ح212) عن الباقر، عن عليّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) - في حد حديث - قال: ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبى ابن خيرة الإماء.
(5) غيبة النعماني: (بإسناد يأتي: ح213) عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): قول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«بأبي ابن خيرة الإماء، أهي فاطمة؟ فقال: فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) خيرة الحرائر.
الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)
(6) كمال الدِّين: (بإسناد يأتي: ح 901) عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قال:
ص: 209
هو الخامس من ولد ابني موسى ذلك ابن سيدة الإماء.
(7) غيبة النعماني: (بإسناد يأتي: ح243) عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قال: وإنّه قائم هذه الأمة، وإنَّه ابن خيرة الإماء.
الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)
(8) کمال الدین: (بإسناد يأتي: ح928) عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في حديث - قال: الاهلية ذلك ابن سيّدة الإماء، الّذي تخفى على الناس ولادته.
أصحاب الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)
[82] 1 - غيبة الطوسي: أخبرني جماعة، عن أبي المفضّل الشيباني، عن أبي الحسين محمّد بن بحر بن سهل الشيبانيّ الرهني، قال: قال بشر بن سليمان النخّاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) و جارهما بسرّ من رأى أتاني كافور الخادم فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يدعوك إليه، فأتيته، فلما جلست بين يديه قال لي:
يا بشر، إنّك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بها، بسرّ أطلعك عليه، وأُنفذك في ابتياع أمة.
فكتب كتاباً لطيفاً بخط رومي ولغة روميّة، وطبع عليه خاتمه.
وأخرج شقيقة (1) صفراء، فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال:
ص: 210
خذها وتوجّه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوةً يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس، وشرذمة من فتيان العرب؛
فإذا رأيت ذلك، فأشرف من البعد على المسمّى «عمر بن يزيد النخّاس» عامة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين (1)، تمتنع من العرض ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها،
وتسمع صرخةً روميّة من وراء ستر رقيق فاعلم أنها تقول: «وا هتك ستراه» ! فيقول بعض المبتاعين عليَّ ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبةً ! فتقول له بالعربيّة: لو برزت في زيّ سليمان بن داود وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة فاشفق على مالك !
فيقول النخّاس: فما الحيلة ولابد من بيعك؟ فتقول الجارية :
وما العجلة ولابدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته.
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إنّ معي (2) كتاباً ملصقاً (3) لبعض الأشراف كتبه بلغة روميّة وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمّل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء ًشديداً؛
وقالت لعمر بن يزيد يعني من صاحب هذا الكتاب !
ص: 211
وحلفت بالمحرجة والمغلّظة (1) أنه متى امتنع من بيعها منه، قتلت نفسها ! فما زلت أشاحه في ثمنها حتّى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الدنانير.
فاستوفاه مني، وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتّى أخرجت كتاب مولانا (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جيبها، وهي تلثمه وتطبقه على جفنها، وتضعه على خدّها وتمسحه على بدنها؛
فقلت تعجّباً منها تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟
فقالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء، أعرني(2) سمعك وفرّغ لي قلبك أنا مليكة (3) بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمّي من ولد الحواريّين، تنسب إلى وصي المسيح شمعون، أنبنك بالعجب:
إنّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريّين من القسّيسين والرهبان ثلاثمائة رجل ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقواد العسكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف وأبرز من بهي ملكه عرشاً مصنوعاً (4) من أصناف الجوهر إلى صحن القصر، ورفعه فوق أربعين مرقاة،
فلمّا صعد ابن أخيه وأحدقت [به](5) الصلب، وقامت الأساقفة عكّفاً ونشرت أسفار الإنجيل، تسافلت الصُلب من الأعلى، فلصقت بالأرض وتقوّضت أعمدة العرش فانهارت إلى القرار، وخرّ الصاعد من العرش مغشياً عليه، فتغيّرت ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدّي:
ص: 212
أيّها الملك، أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال دولة هذا الدين المسيحي، والمذهب الملكاني (1).
فتطيّر جدّي من ذلك تطيراً شديداً، وقال للأساقفة:
أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان، وأحضروا أخا هذا المدبّر العاثر (2) المنكوس جدّه (3)، لأزوجه هذه الصبية، فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.
فلمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأوّل، وتفرّق الناس، وقام جدّي قيصر مغتمّاً، فدخل منزل النساء، وأُرخيت الستور.
وأريتُ في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدّة من الحواريّين قد اجتمعوا في قصر جدّي ونصبوا فيه منبراً من نور يباري السماء (4) علوّاً وارتفاعاً في الموضع الّذي كان نصب جدّي فيه عرشه،
ودخل عليهم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، و ختنه (5) ووصيّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعدة من أبنائه (عَلَيهِم السَّلَامُ).
فتقدم المسيح إليه فاعتنقه، فيقول له محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): يا روح اللّه، إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا وأومأ بيده إلى أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون، وقال له:
قد أتاك الشرف، فصل رحمك برحم آل محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ).
قال: قد فعلت فصعد ذلك المنبر، فخطب محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وزوّجني من ابنه وشهد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وشهد أبناء محمّد والحواريّون.
فلما استيقظت أشفقت أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل فكنت أسرها في نفسي ولا أبديها لهم.
ص: 213
وضرب صدري بمحبة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى امتنعت من الطعام والشراب فضعفت نفسي ودق شخصي ومرضت مرضاً شديداً؛
فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي وسأله عن دوائي.
فلمّا برّح (1) به اليأس قال: يا قرة عيني وهل يخطر ببالك شهوة فأزودّكها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدّي أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقةً؛
فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدّقت عليهم، ومنّيتهم الخلاص رجوت أن يهب لي المسيح وأمّه عافية، فلما فعل ذلك، تجلّدت في إظهار الصحة من بدني قليلاً، وتناولت يسيراً من الطعام، فسر بذلك، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم.
فاُريت [أيضاً] بعد أربع عشرة ليلة كأنّ سيّدة نساء العالمين، فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) قد زارتني، ومعها مريم ابنة عمران، وألف من وصائف الجنان؛
فتقول لي مريم (عَلَيهَا السَّلَامُ): هذه سيدة نساء العالمين (عَلَيهَا السَّلَامُ) أُمّ زوجك أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)
فأتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من زيارتي.
فقالت سيدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ): إن ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة باللّه على مذهب النصارى، وهذه أختي مريم بنت عمران تبرأ إلى اللّه تعالى من دينك؛ فإن مِلْتِ إلى رضى اللّه تعالى ورضى المسيح ومريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وزيارة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إيّاك، فقولي: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن أبي محمّداً رسول اللّه، فلما تكلمت بهذه الكلمة، ضمتني إلى صدرها سيدة نساء العالمين (عَلَيهَا السَّلَامُ) وطيّبت نفسي وقالت: الآن توقّعي زيارة أبي محمّد، فإنّي منفذته إليك. فانتبهت وأنا أقول (2): [واشوقاه إلى لقاء أبي محمّد] (3) وأتوقع لقاء أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلما كان في الليلة القابلة، رأيت
ص: 214
أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكأنّي أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن أتلفت نفسي معالجة حبّك.
فقال: ما كان تأخّري عنك إلا لشركك، فقد أسلمت وأنا زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع اللّه تعالى شملنا في العيان.
فما قطع عنّي زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.
قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسارى (1)؟
فقالت: أخبرني أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)- ليلة من الليالي - أنّ جدّك سيسيّر جيشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا، ثمّ يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت ذلك، فوقعت علينا طلايع المسلمين حتّى كان من أمري ما رأيت وشاهدت وما شعر بأنّي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية أحد سواك، وذلك بإطلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ - الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة - عن اسمي، فأنكرته، وقلت: نرجس.
فقال: اسم الجواري، قلت: العجب، إنّك رومية ولسانك عربي؟ قالت: نعم، [بلغ ] (2) من ولوع جدّي وحمله إيَّاي على تعلم الآداب، أن أوعز (3) إلى امرأة ترجمانة له (4) في الإختلاف إليّ، وكانت تقصدني صباحاً ومساءً، وتفيدني العربية حتّى استمر لساني عليها واستقام قال بشر فلما انكفأت (5) بها إلى «سر من رأى» دخلت على مولاي أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال : كيف أراك اللّه عزّ الإسلام وذل النصرانيّة، وشرف محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)؟
قالت: كيف أصف لك يابن رسول اللّه ما أنت أعلم به مني ؟! قال: فإنّي أحبّ (6)أن أكرمك، فأيّما (7) أحب إليك عشرة آلاف دينار، أم بشرى لك بشرف الأبد؟
ص: 215
قالت: بشرى بولد لي قال لها: أبشري بولدٍ يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً. قالت: ممن؟ قال:
ممّن خطبك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) له ليلة كذا في شهر كذا من سنة كذا بالرومية.
[قالت: من المسيح ووصيه ؟] قال لها ممّن زوجك المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) ووصيه ؟
قالت: من ابنك أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟ فقال: هل تعرفينه؟
قالت: وهل خلت ليلة لم يرني (1) فيها منذ الليلة التي أسلمت على يد سيّدة النساء (صلوات اللّه عليها). قال: فقال مولانا: ياكافور أُدع أُختي حكيمة.
فلمّا دخلت، قال لها ها هيه فاعتنقتها طويلاً، وسرّت بها كثيراً؛
فقال لها أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا بنت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )، خذيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن، فإنّها زوجة أبي محمّد، وأمّ القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
[83] 2 - کمال الدین محمّد بن علي بن حاتم، عن أحمد بن عيسى الوشاء، عن أحمد بن طاهر القمي، عن أبي الحسين محمّد بن بحر (3) الشيبانيّ قال:
وردت كربلاء سنة ستّ وثمانين ومائتين وزرت قبر غریب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ثمّ انكفأت إلى مدينة السلام متوجهاً إلى مقابر قريش، في وقت قد تضرمت الهواجر (4)، وتوقدت السمائم (5).
ص: 216
فلمَّا وصلت منها إلى مشهد الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة، المحفوفة بحدائق الغفران أكببت عليها بعبرات متقاطرة وزفرات متتابعة، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر؛
فلمّا رقأت العبرة، وانقطع النحيب، فتحت بصري، فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه وتقوّس منكباه وثفنت جبهته وراحتاه، وهو يقول لآخر معه عند القبر:
يابن أخي لقد نال عمّك شرفاً بما حمله السيّدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلا سلمان، وقد أشرف عمّك على استكمال المدّة، وانقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلاً يفضي إليه بسرّه.
قلت: يا نفس، لا يزال العناء والمشقة ينالان منك ياتعابي الخفّ والحافر (1) في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدل على علم جسيم وأثر عظيم فقلت: أيها الشيخ ومن السيّدان؟ قال: النجمان المغيّبان في الثرى بسرّ من رأى.
فقلت: إنّي أقسم بالموالاة، وشرف محلّ هذين السيّدين من الإمامة والوراثة، أنّي خاطب علمهما، وطالب آثارهما، وباذل من نفسي الأيمان الموكّدة على حفظ أسرار هما (2).
قال: إن كنت صادقاً فيما تقول، فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم. فلمّا فتّش الكتب وتصفّح الروايات منها قال:
صدقت، أنا بشر بن سليمان النخاس، من ولد أبي أيوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن، وأبي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وجارهما بسرّ من رأى.
قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما؛
قال: كان مولانا أبو الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فقّهني في أمر (3) الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلّا بإذنه فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتّى
ص: 217
کملت معرفتي فيه فأحسنت الفرق فيما بين الحلال والحرام، فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى، وقد مضى هويّ (1) من الليل، إذ قرع الباب قارع، فعدوت مسرعاً، فإذا أنا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يدعوني إليه فلبست ثيابي، ودخلت عليه؛
فرأيته يحدث ابنه أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأخته حكيمة من وراء الستر.
فلمّا جلست قال: يا بشر، إنّك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت... .
وساق الخبر نحواً ممّا رواه الشيخ إلى آخره. (2)
الأئمّة، الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
[84] 1 - في بعض مؤلفات الأصحاب: قال أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
دخلت على عمّاتي فرأيت جارية من جواريهن قد زيّنت تسمّى نرجس فنظرت إليها نظراً أطلته، فقالت لي عمّتي حكيمة أراك يا سيّدي، تنظر إلى هذه الجارية نظراً شديداً، فقلت لها: يا عمّة ما نظري إليها إلا نظر التعجّب مما للّه فيها من إرادته وخيرته فقالت لي: أحسبك يا سيّدي، تريدها؟
قلت: بلى فأمرتها أن تستأذن لي أبي علي بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في تسليمها إليّ، ففعلت فأمرها (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك فجاءتني بها. (3)
[85] 2- غيبة الطوسي: روي أن بعض أخوات أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت لها جارية ربّتها، تسمى نرجس فلما كبرت دخل أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فنظر إليها؛
ص: 218
فقالت له: أراك يا سيّدي تنظر إليها؟
فقال: إنّي ما نظرت إليها إلا متعجباً ؛
أما إنّ المولود الكريم على اللّه تعالى يكون منها.
ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دفعها إليه، ففعلت، فأمرها بذلك. (1)
الأصحاب
[86] 1- كمال الدِّين: ماجيلويه عن محمّد العطار، عن أبي علي الخيزراني؛ عن جارية له كان أهداها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا أغار جعفر الكذّاب على الدار، جاءته فارّةً من جعفر، فتزوّج بها.
قال أبو عليّ: فحدثتني أنها حضرت ولادة السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأنّ اسم أمّ السيّد: صقيل، وأن أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حدّثها بما يجري على عياله، فسألته أن يدعو اللّه عزّ وجل لها أن يجعل منيتها قبله.
فماتت في حياة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى قبرها لوح مكتوب عليه :
«هذا قبر أم محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)» الخبر. (2)
***
ص: 219
وحده عن أمير المؤمنين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)
[212] 24- غيبة الطوسي: سعد، عن اليقطيني، عن إسماعيل بن أبان، عن عمرو ابن شمر عن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: سأل عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: أخبرني عن المهديّ ما اسمه؟
قال: أمّا اسمه فإنّ حبيبي عهد إلي أن لا أحدّثَ باسمه حتّى يبعثه اللّه. قال: فأخبرني عن صفته. قال: صفته قال هو شابّ مربوع حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبى ابن خيرة الإماء.
إرشاد المفيد: عن عمرو بن شمر (مثله) (1).
[213] 25 - غيبة النعماني عبد الواحد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد بن رباح عن أحمد بن عليّ الحميري عن الحكم عن (2) عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): قول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «بأبي ابن خيرة الإماء»، أهي فاطمة؟ فقال: فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) خيرة الحرائر (3)، ذاك المبدح بطنه، المشرب حمرةً، رحم اللّه فلانا (4). (5)
ص: 220
[243] 23 ومنه: ابن عقدة عن القاسم بن محمّد بن الحسن، عن عبيس بن هشام، عن ابن جبلة، عن علي بن أبي المغيرة، عن أبي الصباح، قال:
دخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لي : ما وراءك ؟
فقلت: سرور من عمّك زيد، خرج يزعم أنه ابن سبيّة (1) وأنه قائم هذه الأمّة، وأنّه ابن خيرة الإماء. فقال: كذبٌ (2) ليس هو كما قال إن خرج قتل (3).
ص: 221
ص: 222
سلسلة التراث المهدوي
كشف الحق أو الأربعون
تأليف
العالم الجليل محمّد صادق الخاتون آبادي (رَحمهُ اللّه)
1207-1272ه_
ترجمة وتحقيق
السيّد ياسين الموسوي
ص: 223
مركز الدراسات التخصصية
في الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
النجف - الأشرف - شارع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) _ محلة الحريش
رقم الزقاق: 54 رقم الدار: 2
هاتف: 332811 و 332813
ص.ب 588
www.m-nmahdi.com.
mmahdi@m-mahdl.com
كشف الحق أو الأربعون
العالم الجليل محمّد صادق الخاتون آبادي (رَحمهُ اللّه)
ترجمة وتحقيق
السيّد ياسين الموسوي
تقديم
مركز الدراسات التخصصية
في الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
الطبعة الأولى: شعبان 1436 ه_
النجف الأشرف
العدد: 3000 نسخة
السعر: 1200 دينار
جميع الحقوق محفوظة للمركز
ص: 224
قال أبو محمّد بن شاذان عليه الرحمة :
حدَّثنا محمّد بن عبد الجبار قال: «قلت لسيّدي الحسن بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): یا بن رسول اللّه جعلني اللّه فداك أحبُّ أن اعلم أن الإمام، وحجة اللّه على عباده من بعدك؟
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): انّ الإمام مِن بَعْدِي ابني؛ سميُّ رسول اللّه، وكنّيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؛الّذي هو خاتم حجج اللّه، وآخر خلفائه.
فقلت: ممَّنْ يتولد هو يا بن رسول اللّه ؟
قال من ابنة قيصر ملك الروم؛ ألا أنّه سيولد، فيغيب عن الناس غيبة طويلة، ثمّ يظهر، ويقتل الدجال ؛ فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً؛ فلا يحلّ لِأحَدٍ أن يسمّيه، أو يكنيه قبل خروجه (صلوات اللّه عليه)».
ص: 225
قال أبو محمّد بن شاذان (رَحمهُ اللّه):
حدَّثنا محمّد بن حمزة بن الحسن بن عبد اللّه بن العبّاس بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه) قال: سمعت أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول:
«قد ولد ولي اللّه، وحجته على عباده، وخليفتي من بعدي مختوناً، ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين عند طلوع الفجر، وكان أول مَنْ غسله رضوان خازن الجنان مع جمع من الملائكة المقربين بماء الكوثر والسلسبيل، ثمّ غَسَّلته عمتي حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). قال: أمّه مليكة التي يقال لها بعض الأيام سوسن، وفي بعضها ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضاً من أسمائها».
ص: 226
إحقاق الحقّ
وازهاق الباطل
تألیف
العلّامة في العلوم العقلية والنقلية
متكلم الشيعة نابغة الفضل والادب
القَاضِي السيّد نوراللّه الحسيني المرعشى التُستريّ
الشهيدُ
في بلاد الهندسنة 119
الجزء الثالث عشر
مع تعليقات نفيسة هامة
للعلّامة الحجّة اية اللّه العُظمى
السیدّ شهاب الدين الحُسیني المرعشي النَجفي (دامَ ظِلّه)
باهتمام السيّد محمود المرعشى
ص: 227
من منشورات مكتبة آية اللّه العطى المرعشي النجفي
قم - ایران
ص: 228
و منهم العلّامة الحمويني في «فرائد السمطين» (مخطوط)
روی باسناده عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضى اللّه عنه) قال حدَّثنا الحسن بن إسماعيل قال حدَّثنا أبو عمر سعيد بن محمّد بن نصر القطان قال حدَّثنا عبيد اللّه بن محمّد السلمي قال حدَّثنا محمّد بن عبد الرحيم قال حدَّثنا محمّد بن سعيد بن قد قال حدَّثنا العبّاس بن أبي عمر عن صدقة بن أبي موسى عن أبي نضرة قال : لما احتضر أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عليه عند الوفاة دعا بابنه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليعهد إليه عهداً وقال له أخوه زيد بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لو امتثلت في تمثال الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) الرجوت أن لا تكون أتيت منكراً فقال له يا أبا الحسين انّ الأمانات ليس بالمثال ولا العهود بالسوم و إنما هي امور سابقة عن حجج اللّه تبارك وتعالى ثمّ دعا بجابر بن عبداللّه فقال له يا جابر حدَّثنا بما عاينت من الصحيفة فقال له جابر نعم يا ابا جعفر دخلت على مولاتي فاطمة بنت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأهنّيها بمولد الحسين فإذا بيدها صحيفة من درّة بيضاء، فقلت ياسيدة البتول ما هذه الصحيفة التي أراها معك؟ قال فيها أسماء
ص: 229
الولاة من ولدى، فقلت لها ناولينى لأنظر فيها، قالت ياجابر لولا النهى لكنت أفعل لكنَّه نهي أن يمستها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو أهل بيت نبيّ ولكنّه مأذون لك أن تنظر إلى بطنها من ظاهرها، قال جابر فقرأت فإذا أبو القاسم محمّد بن عبد اللّه المصطفى وأمّه آمنة، وأبو الحسن عليّ بن ابيطالب المرتضى أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أبو محمّد الحسن بن عليّ و أبو عبد اللّه الحسين بن عليّ التقي أمّهما فاطمة بنت محمّد، عليّ بن الحسين العدل أمّه شاه بانونه بنت يزدجرد بن شاهنشاه، أبو جعفر محمّد ابن علي الباقر أمّه امّ عبداللّه بنت حمد الحسن بن عليّ بن ابيطالب، أبو عبد اللّه جعفر ابن محمّد الصادق أمّه امّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر، أبو إبراهيم موسى بن جعفر الثقة أمّه جارية اسمها حميدة، أبو الحسن علي بن موسى الرضا أمّه جارية إسمها نجمة، أبو جعفر عبد بن عليّ الزكيّ أمّه جارية إسمها خيزران، أبو الحسن عليّ ابن محمّد الأمين أمّه جارية إسمها سوسن، أبو عمد الحسن بن عليّ الرفيق أمّه جارية إسمها سمانة، أبو القاسم محمّد بن الحسن هو حجة اللّه القائم أمّه جارية إسمها نرجس صلوات اللّه عليهم أجمعين.
ص: 230
رواه جماعة من أعلام القوم :
ومنهم العلّامة كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشامى الشافعى فى «مطالب السؤول (س) 89 ط طهران قال :
الباب الثانى عشر في أبي القاسم محمّد بن الحسن الخالص بن عليّ المتوكّل بن محمّد القائع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن حمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين الزكي بن عليّ المرتضى بن أبيطالب المهديّ الحجّة الخلف الصالح المنتظر (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) ورحمة اللّه بركاته.
فهذا الخلف الحجّة قد أيّده اللّه***هذا منهج الحقّ و آتاه سجاياه
و اعلى في ذري العلياء بالتأييد مرقاه***و آتاه على فضل عظيم فتحلّاه
و قد قال رسول اللّه قولاً قد رويناه***و ذو العلم بما قال إذا أدرك معناه
ص: 231
يرى الأخيار في المهدى جائت بمسمّاه***و قد أبداه بالنسبة والوصف وسمّاه
و يكفى قوله منى لاشراق محياه***و من بضعته الزّهراء مرساه و مسراه
ولن يبلغ ما اوتيه امثال و اشباه فمن قالوا هو المهدى مامانوا بما فاهو
وقد رتع من النّبوة في أكناف عناصرها ورضع من الرّسالة اخلاف اواصرها وترع من القرابة بسجال معاصرها و برع في صفات الشرف فعقدت عليه بخياصرها فاقتنى من الأنساب شرف نصابها واعتلى عند الانتساب على شرف احسابها واجتنى الهداية من معادنها واسبابها فهو من ولد الطهر البتول المجزوم بكونها بضعة من الرسول فالرسالة أصلها وانها لأشرف العناصل والاصول.
فأمّا مولده فبسر من رأى في ثالث وعشرين شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وماتين للّهجرة.
و أمّا نسيه أباً واماً فأبوه محمّد الحسن الخالص بن عليّ المتوكل بن محمّد القائع ابن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن حمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين.
وأمّه أمّ ولد تسمى صقيل وقيل حكيمة وقيل غير ذلك.
وأما اسمه محمّد وكنيته أبو القاسم ولقبه الحجّة والخلف الصالح وقيل المنتظر.
ص: 232
ومنهم العلّامة سبط ابن الجوزى فى «تذكرة الخواص» (ص 204 ط طهران) قال :
محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن ابيطالب وكنيته أبو عبد اللّه وأبو القاسم وهو الخلف الحجّة صاحب الزمان القائم والمنتظر و التالي وهو آخر الأئمّة.
و قال :
ويقال له ذو الأسمين محمد وأبو القاسم قالوا: أمّه أمّ ولد يقال لها سيقل.
ومنهم العلّامة ابن الصباغ المصرى فى «الفصول المهمة» (ص 274 ط النرى) قال :
ولد أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين للهجرة.
و أمّا نسبه أباً واماً فهو أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن ابيطالب صلوات اللّه عليهم أجمعين.
و أمّا أمّه فامّ ولد يقال لها : نرجس خير أمة وقيل : اسمها غير ذلك.
و أمّا كنيته فأبو القاسم.
و أمّا لقبه فالحجّة والمهدى والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان وأشهرها المهدى.
ص: 233
ومنهم العارف عبد الرحمان من مشايخ الصوفية في «مرآة الاسرار» (ص 31 ط).
قال ما ترجمته بالعربية : ذكر شمس الدين والدولة هادي الملة والدولة : من هو القائم في المقام المطّهري الأحمدي الإمام بالحق أبو القاسم محمّد بن الحسن المهدى (رضي اللّه عنه)، وهو الامام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، أمّه كانت أمّ ولد اسمها نرجس ولادته ليلة الجمعة خامس عشر شهر شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين وعلى رواية شواهد النبوّة أنّها في ثلاث وعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين في سرّ من رأى المعروفة بسامرّأء، وافق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) في الاسم والكنية، وألقابه المهديّ و الحجّة والقائم والمنتظر و صاحب الزمان و خاتم الاثنى عشر و صاحب الزمان، كان عمره عند وفاة عند وفاة أبيه خمس سنين وجلس على مسند الامامة ومثله مثل يحيى بن زكريّا حيث أعطاه اللّه في الطفولية الحكمة و الكرامة، و مثل عيسى بن مريم حيث أعطاه اللّه النبوة في صغر سنه كذلك المهديّ جعله اللّه اماماً في صغر سنّه، وماظهر له من خوارق العادات كثير لا يسعها هذا المختصر.
ومنهم العلّامة السيّد عباس بن على المكي فى «نزهة الجليس» (ج 2 ص 128 ط- القاهرة) قال :
ص: 234
ترجمة الإمام المهديّ المنتظر أبي القاسم محمّد بن الحسن العسكريّ بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ).
هو القائم المنتظر على رأي الإماميّة، و هو صاحب السّرداب و قد تقدّم ذكر السرداب في اوائل الكتاب، وللاماميّة فيه أقوال كثيرة وهم ينتظرون خروجه آخر الزمان، كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومأنين ولمّا توفّى أبوه وقد تقدّم ذكره كان عمره خمس سنين واسم أمّه نرجس.
«إلى أن قال» : والصحيح ان ولادته في ثامن شعبان سنة ست وخمسين ومأتين و دخل السرداب سنة خمس وسبعين ومأتين وعمره سبع عشرة سنة، واللّه الموفق للصواب وإليه المآب.
ص: 235
و تروى عنه أحاديث :
قال :
عن الحسن بن خالد قال : قال علي بن موسى الرضا (رضي اللّه عنه) : لادين لمن لا ورع له و إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم أي أعملكم بالتّقوى ثمّ قال : إنّ الرابع من ولدى ابن سيدة الاماء يطهّر اللّه به الأرض من كل جور و ظلم وهو الّذي يشكّ الناس في ولادته و هو صاحب الغيبة فاذا خرج أشرقت الأرض
ص: 236
بنور ربّها و وضع ميزان العدل بين الناس فلا يظلم أحد أحداً الناس فلا يظلم أحد أحداً و هو الّذي تطوى له الأرض ولا يكون له ظلّ و هو الّذي بنادى مناد من السماء يسمعه جميع أهل الأرض ألا إن حجّة اللّه قد ظهر عند بيت اللّه فاتّبعوه فإنّ الحقّ فيه و معه و هو قول اللّه عزّ وجلّ إن نشأ ننزل عليهم آية من السماء فظلت أعناقهم لها خاضعين -. وقول اللّه عزّ وجلّ : يوم ينادى المنادى من مكان قريب ويوم يسمعون الصّيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج أى خروج ولدي القائم المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 237
ص: 238
مُلحقات الإحقاق
تالیف
لمرجع الديني كبير العلّامة الحجّة
آية اللّه العظمی السیّد شهاب الدين مرعشي النجفي
اَعْلَى اللّه مَقَامَهُ الشريف
المجلد التاسع والعشرون
باهتمام
السيّد محمود المرعشي
ص: 239
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* کتاب : ملحقات احقاق الحق
* تأليف : آية اللّه العظمى المرعشي النجفي (رَحمهُ اللّه)
* نشر : مكتبة اية اللّه المرعشي النجفي (رَحمهُ اللّه)
* الفلم و الزنگ : تیزهوش
* طبع : حافظ - قم
* الطبعة : الأولى
* العدد : 1000
* التاريخ : 1415ه_
* المجلد التاسع والعشرون
ص: 240
د تقدم نقل ما يدل عليه عن أعلام العامة في ج 13 ص 88 إلى ص 97 و ج 19 ص 632 إلى ص 646، و نستدرك هيهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق :
ص: 241
ومنهم الشريف علي فكري الحسيني القاهري في «أحسن القصص» (ج 4 ص 307 ط بيروت) قال :
نسبه : هو سيدنا محمّد بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنهم).
و أمّه أمّ ولد يقال لها : نرجس، وقيل : صقيل، وقيل : سوسن.
ص: 242
الأيام المهديّ
عند أهل السُّنّة
يتضَمَّن رَسائل عُمْرَدَة وَفصُولا وابحاناً
افتطفناها من مؤلّفات ائمّة الحديث وأعلام التاريخ
ورجالات العلم من اهل السُّنّة
خلال اثني عشر قرنا
المجلد الاول - قسم المطبوعات
ربها وقدّم لها مهدى الفقيه ايماني
ص: 243
الكتاب الامام المهديّ عند أهل السنّة
الموضوع: رسائل وفصول مختارة حول المهديّ
المؤلِّف: مهدي الفقيه الايماني
نشر : مكتبة الامام أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأصفهان
طبع: دار التعارف للمطبوعات بيروت
الطبعة الثانية
1402 ه_
ص: 244
تذكرة الخواص
للعلّامة سبط ابن الجوزي المتوفى سنة 654 ه_
المعروف - : (تذكرة خواص الأمة)
(في خصائص الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ))
تأليف
يوسف بن فرغلي بن عبد اللّه البغدادي - سبط الحافظ
أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي - الحنفي
المولود سنة 581 والمتوفى 654 ه_
قدم له
العلّامة الكبير السيّد محمّد صادق بحر العلوم
طبع على نفقة
(محمّد كاظم الحاج محمّد صادق المكتبي)
صاحب المكتبة والمطبعة الحيدرية في النجف الأشرف
منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها في النجف الاشرف
1383 ه_ - 1964م
ص: 245
هو محمّد بن الحسن بن على بن محمّد بن على بن موسى الرضا بن جعفر بن محمّد ابن على بن الحسين بن على بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكنيته أبو عبد اللّه وأبو القاسم وهو الخلف الحجّة صاحب الزمان، القائم والمنتظر، والتالى، وهو آخر الأئمّة أنبأنا عبد العزيز بن محمود بن البزاز عن أبن عمر قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يخرج في آخر الزمان رجل من ولدى أسمه كأسمى وكنيته ككنيتى یملأ الأرض
ص: 246
عدلا كما ملئت جوراً. فذلك هو المهدى، وهذا حديث مشهور.
وقد اخرج أبو داود والزهري عن على بمعناه وفيه لو لم يبق من الدهر إلا يوم واحد لبحث اللّه من أهل بيتي من يملأ الأرض عدلا، وذكره في روايات كثيرة ويقال له ذو الاسمين محمّد وأبو القاسم قالوا أمّه أم ولد يقال لها صيقل.
ص: 247
وفيات الأعيان
وانناء ابناء الزمان
لأبي العب من شمس الّذين يحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّگان
(608 – 681 ه_)
حققه
الدكتور احسان عباس
المجلّد الرّابع
دار صادر
بیروت
213
ص: 248
أبو القاسم المنتظر (1)
أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكريّ بن علي الهادي بن محمّد الجواد المذكور قبله ؛ ثاني عشر الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الامامية، المعروف بالحجّة، وهو الّذي تزعم الشيعة أنّه المنتظر والقائم والمهديّ، وهو صاحب السرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب بسر من رأى. كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولما توفي أبوه - وقد سبق ذكره (2) - كان عمره خمس سنين، واسم أمّه خمط، وقيل نرجس، والشيعة يقولون : إنه دخل السرداب في دار أبيه وأمّه تنظر إليه، فلم يعد يخرج إليها، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين، وعمره يومئذٍ تسع سنين.
وذكر ابن الأزرق في «تاريخ ميّافارقين»: أن الحجّة المذكور ولد تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وماقتين، وقيل في ثامن شعبان سنة ست وخمسين، هو الأصح، وأنه لما دخل السرداب كان عمره أربع سنين، وقيل خمس سنين، وقيل إنه دخل السرداب سنة خمس وسبعين ومائتين وعمره سبع عشرة سنة، واللّه أعلم أي ذلك كان، رحمه اللّه تعالى.
ص: 249
الكتاب الّذي يعطيك صورة صادقة عن سيرة الأئمّة الأثنى عشر (عَلَيهِ السَّلَامُ) باسلوب رهمين محكم وضبط وتحقيق تسالم الفريقان على صحته وتأييده فهو خير مصدر يرجع اليه و يعول عليه ؟
تأليف
الشيخ الإمام العلّامة والبحر الفهامة على بن محمّد ابن احمد المالكي المكي الشهير بابن الصباغ المتوفّى 855
مطبعة العدل في النجف
من نشريات مكتب دار الكتب التجارية في النجف الأشرف
ص: 250
ولد أبو القاسم محمّد بن الحجّة بن الحسن الخالص بسر من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة. وأما نسبه ابا وامّا فهو ابو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن على الهادي ابن محمّد الجواد بن على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن ابى طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين. وامّا أمّه نام ولد يقال لها نرجس خير أمة وقيل اسمها غير ذلك.
ص: 251
الأئمّة الإثنا عشر
تأليف
مؤرخ دمشق
شمس الدين محمّد بن طولون
953 ه_ - 1546 م
تحقيق
الدكتور صلاح الدين المنجد
دار بیروت للطباعة والنشر - دار صادر للطباعة والنشر
بیروت
1377 ه_ - 1958م
ص: 252
كانت ولادته، (رضي اللّه عنه) (1): يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولما توفي أبوه المتقدّم ذكرُه، (رضي اللّه عنهما)، كان عمره خمس سنين.
واسم امّه خمط، وقيل نرجس (26 ب).
والشيعةُ يقولون إنه دخل السرداب في دار أبيه وأمّه تنظر إليه فلم يعد يخرج إليها. وذلك في سنة خمس وستين ومائتين، وعمره يومئذٍ تسع سنين.
ص: 253
ص: 254
الأمام المهديّ
عند أهل السُنّة
یتضَمَّن رسائل مفردة وفصُولاً وابحاثا اقتطفناها من مؤلّفات ائمّة الحديث وأعلام التاريخ ورجالات العلم من اهل السُنَّة خلال اثنى عشر قرنا
المجلّد الثاني - قم مطبوعات
رتّبها وقدّم لها
مهدى الفقيه ايماني
ص: 255
كتاب نور الأبصار في مناقب آل بيت
النبي المختار للعالم الفاضل
الشيخ الشبلنجي
المدعوّ بمؤمن
نفع اللّه به آمین
«وبهامشه كتاب اسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل»
«أهل بيته الطاهرين تأليف علامة زمانه الأستاذ»
«الشيخ محمّد الصبان عليه الرحمة والرضوان»
اذا استعرت کتابی و انتفعت به * فاحذر وقبت الردى من أن تفسيره
وارد د ملی سالما انی شغفت به * لولا مخافة كتم العلم لم تره
«وهذه الطبعة قوبلت على نسخة المؤلِّف بخط».
ص: 256
فصل في ذكر مناقب محمّد بن الحسن الخالص بن على الهادي بن محمّد الجواد بن على الرضاين. موسى الكاظ ابن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب (رضي اللّه عنهم) أمّه أم ولد يقال لها نرجس وقيل صقيل وقبل و سنّه وكنيته أبو القاسم ولقبه الامامية بالحجّة والمهدى والخلاف الصالح والقائم والمنتظر وصاحب الزمان وأشهرها المهدى.
ص: 257
فيضُ القدير
شرح الجامع الصغير
للعلّامة المناوي
وهو شرح نفيس للعلّامة المحدث
محمّد المدعو بعبد الرؤف المناوى
على كتاب و «الجامع الصغير»، من أحاديث البشير النذير
للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي
نفعنا اللّه بعلومهما
الجزء السادس
صحت هذه الطبعة وقوبلت على عدة نسخ من أهمها نسخة نفيسة مخطوطة في سنة 1093 ه_ وعلق عليها تعليقات قيمة نخبة من العلماء الأجلاء
جميع حقوق التعليق والنقل محفوظة
قد جعلنا متن الجامع الصغير بأعلى الصفحات، والشرح بأسفلها
منصولا بینهما بجدول
واتمام الفائدة قد ضبطنا الأحاديث بالشكل الكامل
1391 ه_ - 1972م
الطبعة الثانية
دار المعرفة
للطباعة والنشر
بيروت - لبنان
ص: 258
924 - المَهْدِى مِنْ عِترتي، مِن وَلَد فَاطِمَة - (ده ك) عن أم سلمة - (صح)
(المهدى من عترتى من ولد فاطمة) لا يعارضه مايجيء عقبه أنه من ولد العبّاس الحمله على أنه شعبة منه (تنبيه) قال العارف البسطامي في الجفر هذه الدرة اليتيمة والحكمة القديمة ستدخل فى باب السبب إلى مكتب الأدب ليقرأ لوح الوجود ثمّ يخرج منه ويدخل إلى مكتب التسليم ليطالع لوح الشهود وقيل يولد في فارس وهو خماسي الفد عقيقي الخد وقد آتاه اللّه في حال الطفولية المحكمة وفصل الخطاب و أما أمّه فاسمها ترجس من أولاد الحواريين.
ص: 259
هذه الرسالة تشتمل على منظومة وشرحها لرجلين معاصرين أما المنظومة فهي المسماة ب_«القطر الشهدي في اوصاف المهدي» وتحتوي على خمسة وخمسين بيتا حول اوصاف الحجّة الامام المهديّ المنتظر (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) مأخوذة من الاحاديث الواردة في الصحاح والمسانيد.
نظمه شهاب الدین احمد بن اسماعيل الحلواني الخليجي الشافعي المصري (1249 - 1308)
كان عالماً شاعراً من أدباء مصر مولده ووفاته في بلدة رأس الخليج قرب دمياط من اعمال الغربية بمصر.
وله : «الاشارة الاصفية، فيما لا يستحيل بالانعكاس في صورة الرسمية ط»، «البشرى باخبار الاسراء والمعراج الأسرى»، «الجمال المبين على الجوهر
ص: 260
الثمين في الصلوة على أشرف المرسلين»، «القصيدة الحلواء في مدح بني الزهراء» (1).
واما الشرح فهو كتاب «العطر الوردي بشرح القطر الشهدي» للأديب المحدث الفاضل محمّد البلبيسي بن محمّد بن احمد الحسيني الشافعي المصري، كان من الفضلاء المعروفين ومسؤول تصحيح قسم العلوم بدار الطباعة ببولاق مصر، ولم نجد فيها بأيدينا من كتب التراجم عنواناً للشارح، وشرحه هذا للمنظومة - كما ترى - يكفينا ويكفي كل قارى لبيب للوقوف على طول باع الشارح وسعة اطلاعه ومقامه في الأدب والحديث.
وقد إشتبه علي الزركلي في الاعلام (265,7) حيث نسب «العطر الوردي» الى محمّد بن محمّد بن علي البلبيسي المتوفي (749) وكذا البغدادي في ايضاح المكنون (102,2) في نسبة الكتاب الى الشيخ محمّد بن الياس البلبيسي المصري المتوفى (749) فإن ما ذكرت من اسم المؤلِّف الشارح هو مكتوب في أول الكتاب كما تراه ويضاف اليه أن الشاعر قد توفي في (1308) والشارح الف شرحه هذا اللأشعار بعد هذا التاريخ كما هو مكتوب ايضاً في اوله وآخره والخطب سهل.
ص: 261
(خمس رسائل)
تأليف الاستاذ الكبير والعلّامة التحرير ت
شهاب الدين أحمد بن أحمد بن اسمعيل
الحلواني بلغه اللّه والمسلمين
الأماني ونفع به
آمین
(احداها) قطع اللعاج فى الاجاج
(الثانية) حلاوة الرز فى حل اللغز
(الثالثة) الناغم من الصادح والباغم
(الرابعة) منظومة القطر الشهدى في أوصاف المهدى
(الخامسة) قصيدة الحلواء في مدح بني الزهراء
(حقوق الطبع محفوظة للمؤلف)
(الطبعة الاولى)
بالمطبعة الاميرية ببولاق مصر الحمية
سنة 1308
هجرية
ص: 262
القطر الشهدى فى أوصاف المهدى نظم الاستاذ العلّامة الشيخ الحلواني بشرحه المسمى بالعطر الوردى.
للعالم الفاضل السيّد محمّد البلبيسي أحد مصححى المطبعة الاميرية
ولما اطلع حضرة الناظم حفظه اللّه على هذا الشرح فرظه بقوله
قوله قد لذأى صار لذيذ اشيها وقوله اذ لربه بضم اللام وتشديد الزاى أى قرن به اه_ مصححه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
قد لذلك القطر الشهدى***اذ لربه العطر الوردى
فالعطر أطاب حلاوته***وأفاح به عرف المهدى
وأنار الحق لطالبه***وهدى من أصبح يستهدى
معنی صاف كالروح صفت***فى الجسم الصافي بالزهد
لفظ يتمنى القند حلا***مفا أحلى ذوق القند
عطر بشناه مدراكنا***تهدى للبغية بل تهدى
عطر فى الكون يفوح شذا ***فيفوق الورد على الخدّ
عطر أذكاء البلبيسي***طيب الاطياب أبو الحمد
تفخر الاشراف ذوى الاشرا*** ف على أطراف علا الجدّ
بدر النجباء سنا العلما***ذرا العلياء حمي المجد
مولى حاز الجوزا همما***فلذا أضحى سامى البند
بحر لشطوط مكارمه***ترد الكرماء وتستهدى
والبشر انساب بغرّته***من شمس ذكاه لكي يهدى
حبر الفصول بلاغته***تعنو البلغاء وتستهدى
علم فى العلم له علم***ينسيك علا العلم السعدي
أفق لدراريه تسمو***أبصار بغاة سنا الرشد
كم صحيح واطر باسفرا***بالطبع ونظم من عقد
يلهو بالمشكل يوضحه***فیجي المشكل بالجدّ
بردی ما یعبس مبتسما***با عنتر عبس كم تردی
لازلت لهذا الكون سمّا***فنكا في النعمة بالحمد
ص: 263
حسنى سبط الحسين أو العك_ ص وسبط العبّاس فهو أصيل
السبط بكسر السين وسكون الموحدة قيل ولد الرجل وقيل ولد ولده وقيل ولد بنته كذا في النهاية والمراد أنه من ذرية سيدنا الحسن بن على (رضى اللّه عنهما) فى أكثر الروايات وأصحها واذا قدم، وأنه سبط سيدنا الحسين بن على (رضى اللّه عنهما) أى ابن بنته فقد ورد أنه من ذريته وبذا جمع بعضهم وهو الراجح وقال ابن حجر فى الصواعق روى أبو داود أنه من ولد الحسن وكان سره ترك الحسن الخلافة للّه (عزّ وجلّ) شفقة على الامة فعل اللّه القائم بالخلافة الحق عند شدة الحاجة اليها من ولده ليملأ الأرض عدلا ورواية كونه من ولد الحسين واهية جدا ومع ذلك لا حجة فيه لما زعمته الرافضة أن المهديّ هو أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن العسكريّ وممّا يرد عليهم ما صحّ أن اسم أبي المهديّ يوافق اسم أبي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) واسم أبي محمّد الحجّة لا يوافق ذلك ويرده أيضا قول على كرم اللّه وجه مولد المهديّ بالمدينة ومحمّد الحجّة هذا انما ولد بسر من رأى سنة خمس وخمسين وماتين إلى آخر ما أطال به فى الرد عليهم فانظره وقوله أو العكس أى أنه من ذرية الحسين وسبط الحسن وقيل انه سبط العبّاس عم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وجاء بكل أحاديث في أبي داود وغيره قال ابن حجر ويمكن الجمع أى على تقدير استواء الروايات في الصحة بأنه لا مانع من أن يكون من ذريته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وللعباس فيه ولادة من جهة أن في أمهاته عباسية وأن أباء حسني وأمّه حسينية قال ولعل هذا أقرب ولا مانع من اجتماع ولادة المتعددين في شخص واحد من جهات مختلفة اه وفي حواشي سنن ابن ماجه اختلاف في أن المهدى من بنى الحسن أو من بني الحسين ويمكن أن يكون جامعا بين النسبتين والاظهر أنه من جهة الاب حسني ومن جهة الام حسيني.
ص: 264
(الجزء الاول)
من كتاب غالية المواعظ ومصباح المتعظ وقيس الواعظ للعالم العلّامة الحبر البحر الفهامة خاتمة المحققين والمدققين السيّد الشيخ خير الدين أبي البركات نعمان افندی آلوسي زاده این السيّد الشيخ محمود افندى المفتى ببغداد الشهير بآلوسي زاده نفعنا اللّه به والمسلمين أجمعين آمين
يطلب من مكتبة المثنى بغداد
(الطبعة الأولى).
بالمطبعة المیرية بیولاق مصر الحمية
سنة 1301 هجرية
ص: 265
واختلف في نسبه فقيل من أولاد العبّاس بن عبد المطلب وقيل من أولاد الحسن والاصح أنه من أولاد الحسين قبل وأمّه من أولاد العبّاس
ص: 266
معجم أحاديث الأمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
تأليف ونشر
مؤسسة المعارف الإسلامية
الجزء الرابع
أحاديث الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 267
معجم أحاديث الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) / تأليف ونشر مؤسسة المعارف الإسلامية
قم: بنیاد معارف اسلامی، 1386 / 8ج.
(دوره) 6- 63 - 7777 -964-978 : ISBN
(ج 4) 4 - 67 - 7777 -964-978 :ISBN
فهرستنویسی بر اساس اطلاعات فیبا.
کتابنامه بصورت زیرنویس.
1 - محمّد بن حسن، امام دوازدهم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، 255 ق. - احاديث - فهرستها.
2 - محمّد بن حسن، امام دوازدهم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، 255 ق، احادیث اهل سنت.
الف. هیئت علمی بنیاد معارف اسلامی. ب. عنوان.
6م / 51/35 B 959 / 297
1386
اسم الكتاب...معجم أحاديث الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) / ج 4
تأليف...الهيئة العلميَّة في مؤسسة المعارف الإسلامية
الناشر...مؤسسة المعارف الإسلامية - مسجد جمكران المقدس
الطبعة...الثانية 1428 ه_.ق
المطبعة...عترت
العدد...3000
ISBN ... 4 - 67- 7777 - 964-978
ردمك... 4 - 67- 7777 - 964-978
طبعة جديدة منفحة مع إجراء بعض التعديلات والإضافات
حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية
قم المقدسة - تلفون 7732009 ص ب 718 / 37185
www.maaref islami.com
E-mail : info@maarefislami.com
ص: 268
[771] - إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الأمْرِ فِيهِ شَبَةٌ مِنْ يُوسُفَ ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاءَ، يُصْلِحُ اللّه لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ».
المصادر
غيبة النعماني: ص 166 ب 10 ح 3 - أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد، قال: حدَّثنا محمّد ابن المفضل وسعدان بن إسحاق بن سعيد وأحمد بن الحسين ومحمّد بن أحمد بن الحسن القطواني، جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم الجواليقي، عن يزيد الكناسي، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول:
وفي: ص 233 ب 13 ح 8 - أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، قال: حدَّثنا محمّد ابن المفضّل بن قيس بن رمانة الأشعري وسعدان بن إسحاق بن سعيد وأحمد بن الحسين
ص: 269
ابن عبد الملك ومحمّد بن الحسن القطواني، قالوا جميعاً : حدَّثنا الحسن بن محبوب الزراد، عن هشام بن سالم، عن يزيد الكناسي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): - كما في روايته الأولى، بتفاوت يسير، وفيه: «... لَيْلَة واحدة... يُرِيدُ بالشَّبَه من يوسف الغيبة».
* : كمال الدِّين ج 1 ص 329 ب 32 ح 12 - حدَّثنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس (رضیَ اللّهُ عنهُ) قال: حدَّثنا أبو عمرو الكشي، قال: حدَّثنا محمّد بن مسعود قال: حدَّثنا علي بن محمّد القمّي، عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن أبي أحمد الأزدي، عن ضريس الكناسي، قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : - كما في رواية النعماني الثانية. وفيه: «سُنّةٌ» بدل «شَبَه».
* : إثبات الهداة : ج 3 ص 469 ب 32 ف 5 - 135 - عن كمال الدِّين، وليس فيه: «سَوداء». وفي سنده: (أبي عمر الليثي» بدل «أبو عمرو الكشي)
* : وفي ص 538 ب 32 ف 27 ح 495 - عن رواية النعماني الثانية، بتفاوت يسير، وليس في سنده: «وسعدان بن إسحاق بن سعيد وأحمد بن الحسين بن عبد الملك ومحمّد بن الحسن القطواني».
* : البحار: ج 51 ص 41 - 42 ب 4 - 23 - عن رواية النعماني الأولى.
وفي: ص 218 ب 13 ح 8 - عن كمال الدِّين وأورد عن النعماني بسنده، مثله.
* : منتخب الأثر: ص 300 ف 2 ب 38 - 3 - عن كمال الدِّين، وليس فيه: «ابْنُ أَمَة سَوْدَاء».
وقال: «وروى النعماني في غيبته بسنده عن أبي جعفر نحوه».
ملاحظة: «الظاهر أن كلمة سوداء في نسخة النعماني زائدة حيث اتفقت الروايات على أن أم المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) روميّة أو مغربيّة، وليست سوداء. ولا يبعد أن يكون الشبه المقصود في الحديث مفسّراً بقوله: ابْنُ أمة يُصلحُهُ اللّه في لَيْلَةٍ، فيكون المعنى أنّ فيه شبهاً من يوسف من جهتين بكونه ابن أمة، وبأن اللّه تعالى يحدث تطوّرات سياسية في العالم دفعة واحدة تمهد لبداية أمره وظهوره».
***
ص: 270
[1218] 2 - «بِأَبِي ابْنُ خِيرَةِ الإِمَاءِ ابْنُ النُّوبيَّةِ الطَّيِّبَةِ الفَمِ، المُتَجَبَةِ الرَّحِمِ، وَيْلَهُمْ لَعَنَ اللّه الأَعَيْسَ وَذُرِّيَّتَهُ، صَاحِبَ الْفِتْنَةِ، وَيَقْتُلُهُمْ سِنِينَ وَشُهُوراً وأَيَّاماً، يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيُسقِيهِمْ كَأْساً مُصَبَّرَةٌ، وَهُوَ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ الْمَوْتُورُ بِأَبِيهِ وَجُدِّهِ، صاحِبُ الْغَيْبَةِ يُقَالُ: مَاتَ أَوْ هَلَكَ، أَيَّ وَادٍ
ص: 271
سَلَكَ؟ (قال الرضا) أَفَيَكُونُ هَذَا يَا عَمُ إِلَّا مِنِّي؟ فقلت: صَدَقْت جعلت فداك».
المصادر
* : الكافي: ج 1 ص 322 - 323 ح 14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمّد القاساني جميعاً، عن زكريّا بن يحيى بن النعمان الصيرفي :قال: سمعت علي بن جعفر يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال: واللّه لقد نصر اللّه أبا الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال له الحسن : اي واللّه جعلت فداك لقد بغى عليه إخوته، فقال علي بن جعفر : أي واللّه ونحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جعلت فداك كيف صنعتم فإني لم أحضر كم ؟ قال: قال له إخوته ونحن أيضاً : ما كان فينا أمام قط حائل اللون، فقال لهم الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): هو ابني، قالوا : فإن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد قضى بالقافة، فبيننا وبينك القافة، قال: ابعثوا أنتم إليهم فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم ولتكونوا في بيوتكم. فلما جاؤوهم أقعدونا في البستان واصطف عمومته واخوته وأخواته، وأخذوا الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وألبسوه جية صوف وقلنسوة منها ووضعوا على عنقه مسحاة وقالوا له : ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثمّ جاؤوا بأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقالوا : ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا : ليس له ههنا أب ولكن هذا عم أبيه، وهذا عم أبيه، وهذا عمه، وهذه عمته، وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالوا : هذا أبوه قال علي بن جعفر : فقمت فمصصت ريق أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ قلت له : أشهد أنك إمامي عند اللّه، فبكى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ قال يا عم، ألم تسمع أبي وهو يقول : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
* : الإرشاد: ص 317 - كما في الكافي، بتفاوت بسنده إلى الكليني ثمّ بسنده، وفيه. ... يكون من ولده الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده...».
* : إعلام الورى: ص 330 ف 2 - كما في الإرشاد، عن محمّد بن يعقوب.
* : كشف الغمّة: ج 3 ص 141 - كما في الإرشاد، عن المفيد.
* : حلية الأبرار: ج 2 ص 391 ب 2- كما في الكافي، بتفاوت يسير، عن محمّد بن يعقوب. وفيه ...فمضضت ريق».
ص: 272
* : البحار: ج 50 ص 21 ب 3 7- عن إعلام الورى، والارشاد.
* : منتخب الأثر: ص 172 ف 2 ب 1 ح 95- عن الإرشاد.
ملاحظة : المقصود ب_«إبن خيرة الاماء النوبية : الإمام محمّد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي ورد في صفته أنه يميل إلى السمرة، والمقصود بالطريد الشريد صاحب الغيبة الّذي يكون من ولده الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد وردت الأحاديث من طرق الفريقين أنه شبيه جده النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وورد من طرقنا أن أمّه من الروم أو المغرب».
ص: 273
[1255] 1- «يَا بِشْرُ إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الأَنْصَارِ وَهذِهِ الوِلايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُها خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَأَنْتُمْ ثُقاتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَمُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَةٍ تَسْبِقُ بِمَا شَأْوَ الشَّيعَةِ فِي الْمُوالاة بها: بِسِرٌ أُطلِعُكَ عَلَيْهِ، وَأَنْفِذُكَ في ابتياع أمَةٍ، فكتب كتاباً ملصقاً بخط روميّ ولغة روميّة، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج شستقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً فقال: خُذْهَا وَتَوَجَّهُ بِها إِلى بَغْدَادَ، وَاحْضَرْ مِعْبَرَ الْفُرَاتِ صَحْوَةَ كَذَا، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلى جَانِبكَ زَوارِقُ السَّبَايَا وَبَرَزْنَ الْخَوارِي مِنْهَا، فَسَتُحدِقُ بِهِمْ طَوائِفُ المُبْتَاعِينَ مِنْ وُكَلاءِ قُوَّادِ بَنِي العبّاس وَشَراذِمُ مِنْ فِتْيانِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرِفْ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى الْمُسَمَّى عُمَرَ بْنِ يَزِيدِ النَّخَاسِ عَامَّةَ نَهَارِكَ إِلى أَنْ يُبْرِزَ لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيةٌ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا، لَابِسَةً حَرِيرَتَيْنِ صَفِيقَتَيْنِ، تَمَتَنِعُ مِنَ السُّفُورِ وَلَمْسِ الْمُعْتَرِضِ، وَالانْقِيادِ لِمَنْ يُحَاوِلُ لَمْسَهَا وَيَشْغَلُ نَظَرهُ بِتَأمُّلِ مَكاشفها مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ الرَّقِيقِ، فَيَضْرِبُها النَّخَاسُ فَتَصْرُخُ صَرْخَةٌ رُومِيَّةٌ، فَاعْلَمْ أَنها تَقُولُ : وَاهَتْكَ سِتْرَاهُ، فَيَقُولُ بَعْضُ المُبْتَاعِينَ : عَلَيَّ بِثَلاثِمَائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَادَنِي الْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً، فَتَقُولُ بِالْعَرَبِيَّةِ : لَوْ بَرَزُتَ فِي زَيِّ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مِثْلِ سَرِيرِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لِي فِيكَ
ص: 274
رَغْبَةٌ فَأَشْفِقْ عَلَى مَالِكَ، فَيَقُولُ النَّخّاسُ : فَمَا الحيلَةُ وَلا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ؟ فتَقُولُ الجَارِيَةُ : وَمَا الْعَجَلَهُ وَلا بُدَّ مِن اخْتِيَارِ مُبْتَاعَ يَسْكُنُ قَلْبِي (إِلَيْهِ و). إِلَى أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَى عُمَرِ بْنِ يَزِيدِ النَّخَاسِ وَقُلْ لَهُ : إِنَّ مَعِيَ كِتاباً مُلْصَقاً لِبَعْضِ الأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةٍ رُوميَّةٍ وَخَطٍّ رُومِيٍّ، وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفاهُ وَتُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ، فَنَاوِلها لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أَخْلاقَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيتُهُ، فَأنا وَكِيلُهُ فِي ابْتِياعِها مِنْكَ.
قال بشر بن سليمان النخّشاس : فامتثلت جميع ما حدَّه لي مولاي أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديداً، وقالت لعمر بن يزيد النخّاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرِّجة المغلّظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحّه في ثمنها حتّى استقرَّ الامر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الدنانير في الشستقة الصفراء، فاستوفاه منّي وتسلّمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد فما أخذها القرار حتّى أخرجت كتاب مولاها (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه ؟ قالت : أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك : أنا مليكة بنت يشوعا ابن قيصر ملك الرُّوم، وأمّي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون، أنبتك العجب العجيب، إن جدي قيصر أراد
ص: 275
أن يزوِّجني من ابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرُّهبان ثلاثمائة رجل ومن ذوي الأخطار سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوَّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهو ملكه عرشاً مصوغاً من أصناف الجواهر إلى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقامت الأساقفة عكّفاً ونشرت أسفار الإنجيل تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوّضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخرَّ الصاعد من العرش مغشياً عليه، فتغيّرت ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم.
فقال كبيرهم لجدِّي: أيها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطير جدّي من ذلك تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة : أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا الصلبان وأحضروا أخا هذا المدير العاثر المنكوس جدّه لأزوِّج منه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأوَّل، وتفرَّق الناس وقام جدّي قيصر مغتمّاً ودخل قصره وأرخيت الستور، فأريت في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدِّي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علوّاً وارتفاعاً في الموضع الّذي كان جدي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع فتية وعدَّة من بنيه فيقوم إليه المسيح
ص: 276
فيعتنقه فيقول: يا روح اللّه إني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمّد صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، قال قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وزوَّجني وشهد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشهد بنو محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والحواريّون، فلمّا استيقظت من نومي أشفقت أن أقصَّ هذه الرُّؤيا على أبي وجدِّي مخافة القتل، فكنت أسرُّها في نفسي ولا أبديها لهم، وضرب صدري بمحبة أبي محمّد حتّى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودق شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الرُّوم طبيب إلّا أحضره جدِّي وسأله عن دوائي، فلما برح به اليأس قال: يا قرة عيني فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدُّنيا؟ فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال، وتصدقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح وأمّه لي عافية وشفاء، فلما فعل ذلك جدّي تجلّدت في إظهار الصحة في بدني وتناولت يسيراً من الطعام فسر بذلك جدِّي، وأقبل على إكرام الأُسارى وإعزازهم فرأيت أيضاً بعد أربع ليال كأَنَّ سيّدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان فتقول لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأتعلّق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي،
ص: 277
فقالت لي سيدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ): إنَّ ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة باللّه وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى اللّه تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضا اللّه (عَزَّوَجَلَّ) ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمّد إياك فتقولي: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنَّ - أبي - محمّداً رسول اللّه فلما تكلّمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها فطيبت لي نفسي، وقالت: الآن توقعي زيارة أبي محمّد إيّاك فإنّي منفذته إليك، فانتبهت وأنا أقول واشوقاه إلى لقاء أبي محمّد، فلما كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في منامي فرأيته كأني أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك؟ قال: ما كان تأخيري عنك إلّا لشركك، وإذ قد أسلمت فإنّي زائرك في كل ليلة، إلى أن يجمع اللّه شملنا في العيان، فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.
قال بشر فقلت لها : وكيف وقعت في الأسر؟ فقالت : أخبرني أبو محمّد ليلة من الليالي أنَّ جدّك سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثمّ يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زيِّ الخدم مع عدَّة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين، حتّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحدٌ [بي]. بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطّلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته، وقلت نرجس فقال: اسم الجواري، فقلت : العجب إنك رومية ولسانك عربيٌّ ؟ قالت بلغ
ص: 278
من ولوع جدّي وحمله إياي على تعلّم الآداب أن أوعز إلىَّ إمرأة ترجمان له في الاختلاف إليَّ، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً، وتفيدني العربية حتى استمرَّ عليها لساني واستقام.
قال بشر : فلمّا انكفأت بها إلى سرَّ من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لها : كَيْفَ أَرَاكِ اللّه عِزَّ الإسلام وَذُلَّ النَّصْرانِيَّةِ، وَشَرَفَ أَهْلِ بَيْتِ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؟ قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول اللّه ما أنت أعلم به منّي ؟ قال : فَإِنِّي أريدُ أنْ أُكْرِمَكِ فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكِ عَشَرَةُ آلافِ ِدِرْهَم؟ أمْ بُشْرَى لَكِ فِيها شَرَفُ الأبَدِ؟ قالت: بَلِ الْبُشْرَى قالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): فَأَبْشِرِي بِوَلَدٍ يَمْلِكُ الدُّنْيا شَرْقاً وَغَرْباً وَيَمْلوُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، قَالَتْ: مِمَنْ؟ قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : مِمَّنْ خَطَبَكِ رَسُولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مِنْ لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرٍ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا بِالرُّومِيَّةِ، قَالَتْ: مِنَ الْمَسِيحِ وَوَصِيَّه ؟ قال : فَمِمَّنْ زَوَّجَكِ الْمَسِيحُ وَوَصِيَّهُ؟ قَالَتْ : مِنْ ابْنِكَ أَبِي محمّد ؟ قال: فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ ؟ قَالَتْ: وَهَلْ خَلَوْتُ لَيْلَةٌ مِنْ زِيارَتِهِ إِيَّايَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَسْلَمْتُ فِيهَا عَلَى يَدِ سَيِّدةِ النِّساءِ أُمِّهِ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يَا كَافُورُ ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها: هَا هِيَهْ فَاعْتَنقَتْها طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِها كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلانا: يَا بِنْتَ رَسُولِ اللّه أَخْرِجِيهَا إِلى مَنْزِلِكِ، وَعَلّمِيها الْفَرائِضَ وَالسُّنَنَ، فَإِنَّها زَوْجَةُ أَي محمّد وَأُمُّ الْقَائِمِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)».
ص: 279
المصادر
* : كمال الدِّين: ج 2 ص 417 ب 41 ح 1- حدَّثنا محمّد بن علي بن حاتم النوفلي قال: حدَّثنا أبو العبّاس أحمد بن عيسى الوشّاء البغداديُّ قال: حدَّثنا أحمد بن طاهر القمّي قال: حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن بحر الشيبانيّ قال: وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين، قال: وزرت قبر غریب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمّ انكفأت إلى مدينة السلام متوجّهاً إلى مقابر قريش في وقت قد تضرّمت الهواجر وتوقّدت السمائم، فلما وصلت منها إلى مشهد الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرَّحمة، المحفوفة بحدائق الغفران أكببت عليها بعبرات متقاطرة، وزفرات متتابعة وقد حجب الدمع طرفي عن النظر، فلمّا رقأت العبرة وانقطع النحيب فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه، وتقوَّس منكباه، وثفنت جبهته وراحتاه، وهو يقول لآخر معه عند القبر : يا ابن أخي لقد نال عمّك شرفاً بما حمله السيّدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلّا سلمان، وقد أشرف عّمك على استكمال المدّة وانقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلاً يفضي إليه بسره قلت يا نفس لا يزال العناء والمشقة ينالان منك بإتعابي الخفّ والحافر في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدلُّ على علم جسيم وأثر عظيم، فقلت : أيها الشيخ ومن السيّدان ؟ قال: النجمان المغيبان في الثرى بسر من رأى فقلت : إنّي أقسم بالموالاة وشرف محل هذين السيّدين من الإمامة والوراثة إني خاطب علمهما، وطالب آثارهما، وباذل من نفسي الأيمان المؤكدة على حفظ أسرارهما، قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفّح الروايات منها قال: صدقت أنا بشر بن سليمان النخّاس من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وجارهما بسرّ من رأى قلت : فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما قال كان مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فقّهني في أمر الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتّى كملت معرفتي فيه، فأحسنت الغرق فيما بين الحلال والحرام، فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى وقد مضى هوي من الليل إذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً فإذا أنا
ص: 280
بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدث ابنه أبا محمّد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال:
* : دلائل الإمامة: ص 262 (489 - 488ط ج) - حدَّثنا المفضل محمّد بن عبد عبد اللّه بن المطلب الشيبانيّ سنة خمس وثمانين وثلاثمائة قال: حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن يحيى الذهبي الشيبانيّ قال كما في كمال الدِّين بتفاوت.
* : غيبة الطوسيّ : ص 208 ح 178 - كما في كمال الدِّين بتفاوت بإسناده عن بشر بن سليمان النخاس وفيه «... كتاباً لطيفاً... شقيقه... من فتيان العرب... من العرض... وعلى شبه ملكه... من نسل الحواريّين من ألف سنة... مصنوعاً... على زوال دولة هذا الدين المسيحي... فقام مغتماً فدخل منزل النساء... منبراً من نور... النبي وختنه ووصيه... وروّجني من ابنه منيتهم... فرأيت بعد أربع عشر ليلة... فلا تكلمت... منفذته... بعد أن أتلفت نفسي معالجة حبك سيسير جيشاً..
* : روضة الواعظين: ج 1 ص 252 - كما في كمال الدِّين بتفاوت يسير، مرسلاً.
* : مناقب ابن شهر اشوب: ج 4 ص 440- عن بشر بن سليمان النخاس مختصراً.
* منتخب الأنوار المضيئة ص 51 ف 5- كما في كمال الدِّين عن الشيخ محمّد بن علي بن بابويه.
* نوادر الأخبار: ص 209 - 214 - 1- عن كمال الدِّين.
* : إثبات الهداة : ج 3 ص 363 ب 29 ف 2 ح 17 - عن كمال الدِّين.
* :وفي ص 365 قال: «ورواه الشيخ في الغيبة».
وفي: ص 408 ب 31 ف 1 ح 37- عن كمال الدِّين.
وفي: ص 409 «قال ورواه الشيخ في كتاب الغيبة».
وفي: ص 49 ب 32 ف 5 ح 253 - عن كمال الدِّين مختصراً.
* : حلية الأبرار: ج 5 ص 141 ب 1 ح -1- كما في كمال الدِّين، عن ابن بابويه، ومسند فاطمة.
* : البحار ج 51 ص 6 ب 1 ح 12- عن غيبة الطوسي.
وفي: ص 10 ب 1 ح 12- عن كمال الدِّين.
***
ص: 281
ص: 282
موسوعة الإمام المهديّ (عج)
منتخب الأثر في الإمام الثّاني عشر (عَلَيهِ السَّلَامُ)
سماحة آية اللّه العظمى الشيخ
لطف اللّه الصافي الگلپايگاني
ص: 283
دار المرتضى
طباعة نشر توزيع
بيروت لبنان ص.ب 25/155 الغبيري
تلفاكس: 009611840392
خليوي: 0096170950412
E-mail:mortada14@hotmail.com
جميع حقوق الطبع والاقتباس محفوظة ولا يحق لأي شخص أو مؤسسة طباعة او ترجمة الكتاب أو جزء منه إلا بإذن خطي من المؤلِّف والناشر
DAR AL-MORTADA
Printing - publishing - Distributing Lebanon - Beirut
PO Box: 155/25 Ghobiery
Tel-Fax: 009611840392
Mobile: 0096170950412
E-mail:mortada14@hotmail.com
Printed In Lebanon
الطبعة الثالثة 1429 هجرية 2008 ميلادية
ص: 284
786 - 1- كتاب فضل بن شاذان : حدَّثنا محمّد بن علي بن حمزة بن (1).
ص: 285
ص: 286
ص: 287
الحسين بن عبيد اللّه بن العبّاس بن علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، قال : سمعت أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : قد ولد ولي اللّه، وحجته على عباده وخليفتي من بعدي مختوناً ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين عند طلوع الفجر، وكان أول من غسله رضوان خازن
ص: 288
الجنّة مع جمع من الملائكة المقربين بماء الكوثر والسلسبيل، ثمّ غسلته عمتي حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فسئل محمّد بن علي بن حمزة – (رضي اللّه عنه) - عن أمّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : أمّه مليكة التي يقال لها بعض الايام : سوسن وفي بعضها ريحانة، وكان صيقل ونرجس أيضاً من أسمائها.
787 - (1) - كمال الدِّين : حدَّثنا محمّد بن الحسن بن الوليد - (رضي اللّه عنه) - قال : حدَّثنا محمّد بن يحيى بن يحيى العطار، قال : حدَّثنا أبو عبداللّه الحسين بن رزق اللّه، قال : حدَّثني موسى بن محمّد بن القاسم ابن حمزة بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) قال حدثتني حكيمة بنت محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِمُ السَّلَامُ)، قالت : بعث اليَّ أبو محمّد الحسن بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فقال : يا عمّة اجعلي إفطارك [هذه] الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ اللّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة، وهو حجته في أرضه قالت فقلت :له ومن أمّه ؟ قال لي: نرجس قلت له : جعلني اللّه فداك ما بها أثر فقال : هو ما أقول لك، قالت : فجئت فلمّا سلّمت وجلست جاءت تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي [ وسيّدة
ص: 289
أهلي] كيف أمسيت؟ فقلت : بل أنت سيّدتي وسيّدة أهلي قالت: فأنكرت قولي وقالت ما هذا ياعمّة؟! قالت: فقلت لها : يابنية إنَّ اللّه تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة، قالت: فخجلت واستحيت فلما أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذتُ مضجعي فرقدتُ، فلما أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة، ففرغتُ من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث، ثمّ جلست معقّبة، ثمّ اضطجعت، ثمّ انتبهت فزعة وهي راقدة ثمّ قامت فصلّت ونامت.
قالت حكيمة : وخرجت أتفقد الفجر، فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان وهي نائمة فدخلني الشكوك، فصاح بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المجلس فقال : لا تعجلي ياعمة فهاك الأمر قد قرب قالت فجلست وقراتُ الم السجدة، ويس، فبينما أنا كذلك إذ انتبهت فزعة، فوثبتُ إليها، فقلت : اسم اللّه عليك، ثمّ قلت لها : أتحسين شيئاً؟ قالت : نعم ياعمة فقلت لها اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك، قالت : فاخذتني فترة وأخذتها فترة فانتبهت بحس سيّدي، فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به (عَلَيهِ السَّلَامُ) ساجداً يتلقّى الأرض بمساجده، فضممته إلى فإذا انا به نظيف متنظف فصاح بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هلمي إلي ابني ياعمة ! فجئت به إليه، فوضع يديه تحت البتيه وظهره ووضع قدميه على صدره ثمّ أدلى لسانه في فيه وأمر يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثمّ قال : تكلّم يابنيَّ، فقال : اشهد ان لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمّ صلّى على امير المؤمنين وعلى الأئمّة (عَلَيهِمُ السَّلَامُ)، إلى أن وقف على أبيه ثمّ أحجم، ثمّ قال أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ياعمة ! اذهبي به إلى أمّه ليسلم عليها وائتيني به،
ص: 290
فذهبت به فسلَّم عليها ورددته فوضعته في المجلس، ثمّ قال : ياعمَّة! إذا كان يوم السابع فأتينا ؛ قالت حكيمة : فلمّا أصبحت جئت لاسلّم على أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكشفت الستر لا تفقَّد سيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلم أره فقلتُ: جعلت فداك ما فعل سيّدي ؟ فقال : ياعمة ! استودعناه الّذي استودعته أم موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالت حكيمة: فلما كان في اليوم السابع جئت فسلَّمتُ وجلست، فقال: هلمي إليَّ ابني، فجئت بسيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو في الخرقة، ففعل به كفعلته الأولى، ثمّ أدلى لسانه في فيه كانه يغذيه لبناً أو عسلاً، ثمّ قال : تكلَّم يابني، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وثنّى بالصلاة على محمّد وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين حتّى وقف على أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ تلا هذه الآية : «بسم اللّه الرحمن الرحيم، ونُريد أن ثمن على الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ ونَجْعَلَهُم أَئِمَّةً ونَجْعَلهم الوَارِثِينَ، ونُمَكّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُم مَا كَانُوا يَحذَرُونَ» (1).
قال :موسی سالت عقبة الخادم عن هذه، فقالت : صَدَقَت حكيمة.
ص: 291
792 - (1) - كمال الدِّين : حدَّثنا محمّد بن محمّد بن عصام – (رضي اللّه عنه) - قال : حدَّثنا محمّد بن يعقوب الكليني، قال: حدَّثني علان الرازي، قال: أخبرني بعض أصحابنا انّه لمّا حملت جارية أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : ستحملين ذكراً، واسمه محمّد، وهو القائم من بعدي.
ص: 292
797 - (1)- كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن علي ماجيلويه – (رضي اللّه عنه) - قال : حدَّثنا محمّد بن يحيى العطار، قال حدَّثني أبو علي الخيزراني، عن جارية له كان أهداها لابي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارةً من جعفر فتزوج بها، قال أبو علي: فحدثتني أنها حضرت ولادة السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأنّ اسم أمّ السيّد صقيل، وأنَّ أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حدثها بما يجري على عياله، فسألته أن يدعو اللّه عزوجل لها أن يجعل منيتها قبله، فماتت في حياة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعلى قبرها لوح مكتوب عليه: هذا قبر أم محمّد.
قال أبو علي : وسمعت هذه الجارية تذكر أنه لما ولد السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) رأت له نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأيت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده، ثمّ تطير، فأخبرنا أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك، فضحك ثمّ قال : تلك ملائكة نزلت للتبرّك بهذا المولود، وهي أنصاره إذا خرج.
ص: 293
803 - (1) - کمال الدین : قال : وبهذا الإسناد (يعني الإسناد المذكور في الحديث الثامن من بابنا هذا) عن محمّد بن عثمان العمري - قدّس اللّه روحه - أنَّه قال : ولد السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مختوناً، وسمعت حكيمة تقول : لم يُرَ بأمه دمّ في نفاسها، وهكذا سبيل أمهات الأئمّة (عَلَيهِمُ السَّلَامُ).
ص: 294
804 - (1)- غيبة الشيخ أحمد بن علي الرازي عن محمّد بن علي عن عبد اللّه بن محمّد بن خاقان الدهقان، عن أبي سليمان داود بن غسان البحراني، قال: قرأت على أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي مولد محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين ولد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بسامراء سنة ست وخمسين ومائتين، أمّه : صقيل، ويُكنّى: أبا القاسم، بهذه الكنية أوصى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إنّه قال : اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي لقبه المهديّ، وهو الحجّة. وهو المنتظر، وهو صاحب الزمان.
قال إسماعيل بن علي : دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المرضة التي مات فيها، وأنا عنده إذ قال الخادمه عقيد - وكان الخادم أسود نوبياً قد خدم من قبله علي بن محمّد، وهو ربّي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) - فقال : يا عقيد، اغل لي ماءً بمصطكي، فأغلى له، ثمّ جاءت به صقيل الجارية أمّ الخلف (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلما صار القدح في يديه وهم بشر به فجعلت يده ترتعد حتّى ضرب القدح ثنايا الحسن، فتركه من يده وقال لعقيد : ادخل البيت فإنّك ترى صبياً ساجداً فاتني به، قال أبو سهل : قال
ص: 295
عقيد فدخلت اتحرّى، فإذا أنا بصبيٍّ،ساجد، رافع سبابته نحو السماء، فسلَّمت عليه فأوجز في صلاته، فقلت : إنَّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه، إذ جاءت أمّه صقيل (1) فاخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال أبو سهل : فلما مثل الصبي بين يديه سلَّم وإذا هو درّي اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلَّج الاسنان، فلما رآه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بكي، وقال : ياسيد أهل بيته اسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربي وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده، ثمّ حرك شفتيه ثمّ سقاه، فلما شربه قال : هيِّئوني للصلاة، فطرح في حجره منديل، فوضَّاه الصبي واحدة واحدة، ومسح على رأسه
ص: 296
و قدميه، فقال له أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابشر يابنيَّ، فانت صاحب الزمان، وأنت المهديّ، وانت حجَّة اللّه على ارضه، وأنت ولدي ووصيي وأنا ولدتك، وأنت محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولدك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنت خاتم الأئمّة الطاهرين، وبشر بك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وسماك وكناك بذلك، عهد إلي أبي عن آبائك الطاهرين صلى اللّه على أهل البيت ربنا إنّه حميد مجيد، ومات الحسن بن علي من وقته صلوات اللّه عليهم أجمعين. (1)
ص: 297
806 - (1) - غيبة فضل بن شاذان : حدَّثنا محمّد بن عبد الجبار، قال : دبن عبدالجبار
قلت لسيّدي الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يا ابن رسول اللّه جعلني اللّه فداك أحب أن أعلم من الإمام وحجة اللّه على عباده من بعدك؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن الإمام وحجة اللّه من بعدي ابني، سمي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وكنيَّه، الّذي هو خاتم حجج اللّه، وآخر خلفائه، فقلت : ممن يتولّد يا ابن رسول اللّه؟ قال : من ابنة ابن قيصر ملك الروم ؛ الا
ص: 298
إنّه سيولد فيغيب عن الناس غيبة طويلة، ثمّ يظهر ويقتل الدجّال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فلا يحلّ لاحدٍ أن يسمِّيه أو يكنِّيه قبل خروجه صلوات اللّه عليه (1).
807 - (2) - كمال الدِّين : حدَّثنا محمّد بن علي بن حاتم النوفلي قال : حدَّثنا أبو العبّاس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي قال: حدَّثنا أحمد بن طاهر القمي، قال: حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن بحر الشيباني، قال: وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين، قال: وزرت قبر غریب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمّ انكفات الى مدينة السلام متوجهاً إلى مقابر
ص: 299
قريش، في وقت قد تضرّمت الهواجر، وتوقدت السمائم، فلما وصلت منها إلى مشهد الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة، المحفوفة بحدائق الغفران أكببت عليها بعبرات متقاطرة وزفرات متتابعة وقد حجب الدمع طرفي عن النظر، فلما رقات العبرة، وانقطع النحيب فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه، وتقوس منكباه وثفنت جبهته وراحتاه وهو يقول لآخر معه عند القبر : يا ابن اخي! لقد نال عمّك شرفاً بما حمله السيّدان من غوامض الغيوب، وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلا سلمان، وقد أشرف عمّك على استكمال المدة وانقضاء العمر، وليس يجد في اهل الولاية رجلاً يفضي إليه بسرّه، قلت : يانفس! لايزال العناء والمشقة ينالان منك باتعابي الخف والحافر في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدل على علم جسيم وأثرعظيم، فقلت: أيها الشيخ! ومن السيّدان؟ قال : النجمان المغيبان في الثرى بسرّ من رأى فقلت: إنّي أقسم بالموالاة، وشرف محلّ هذين السيّدين من الإمامة والوراثة إنّي خاطب علمهما، وطالب آثارهما وباذل من نفسي الايمان المؤكدة على حفظ أسرارهما :قال إن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفّح الروايات منها :قال: صدقت أنا بشر بن سليمان النخّاس، من ولد ابي أيوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وجارهما بسر من رأى قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما :قال : كان مولانا ابو الحسن علي بن محمّد العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فقهني في أمر الرقيق فكنت لا ابتاع ولا أبيع إلا بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتّى كملت معرفتي فيه فاحسنت الفرق [فيما] بين الحلال
ص: 300
والحرام. فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسرّ من رأى وقد مضى هويٌّ من الليل إذ قرع الباب قارع، فعدوت مسرعاً فاذا أنا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدّث ابنه أبا محمّد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلمّا جلست قال : يابشر ! إنّك من ولد الانصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، فانتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها شاو الشيعة في الموالاة بها، بس أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمة فكتب كتاباً ملصقاً بخطّ رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه وأخرج شستقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العبّاس وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامة نهارك، إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا لابسة حريرتين صفيقتين تمتنع من السفور ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخاس فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنّها تقول : واهتك ستراه فيقول بعض المبتاعين : علي بثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية : لو برزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملکه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقول النخّاس : فما الحيلة ولابد من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة ولابد من اختيار مبتاع يسكن قلبي [إليه و] إلى أمانته وديانته، فعند ذلك قم الى عمر بن يزيد النخاس وقل له : إن معي كتاباً ملصقاً لبعض الاشراف كتبه بلغةٍ روميّة وخطّ روميّ،
ص: 301
ووصف فيه كرمه ووفاه ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيلا في ابتياعها منك
قال بشر بن سليمان النخاس : فامتثلت جميع ماحده في مولاي أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاءً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد النخاس يعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرجة المغلظة أنّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحه في ثمنها حتّى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الدنانير في الشستقة الصفراء، فاستوفاه مني وتسلّمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد فما أخذها القرار حتّى أخرجت كتاب مولاها (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدها، وتطبقه على جفنها، وتمسحه على بدنها فقلت تعجباً منها : أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟ قالت : أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الانبياء، أعرني سمعك، وفرّغ لي قلبك أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين، تُنسب إلى وصي المسيح شمعون، أنبئك العجب العجيب، إن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الاخطار سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الاجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف وأبرز من بهو ملكه عرشاً مسوغاً [مصوغا –ظ] من أصناف الجواهر إلى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه واحدقت به الصلبان وقامت الأساقفة عكفاً ونشرت أسفار الإنجيل تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض
ص: 302
وتقوّضت الأعمدة فانهارت الى القرار، وخرَّ الصاعد من العرش مغشياً عليه، فتغيرت ألوان الاساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدّي : أيها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطير جدّي من ذلك تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان وأحضروا أخا هذا المدير العاثر المنكوس جدَّه لأزوج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول، وتفرق الناس وقام جدّي قيصر معتماً ودخل قصره وأرخيت الستور، فأريت في تلك الليلة كان المسيح والشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدِّي، ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علوا وارتفاعاً في الموضع الّذي كان جدي نصب فيه عرشه فدخل عليهم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع فتية وعدة من بنيه، فيقوم إليه المسيح فيعتنقه، فيقول: ياروح اللّه إنّي جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأوما بيده إلى أبي محمّد صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون فقال له : قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، قال: قد فعلت فصعد ذلك المنبر وخطب محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وزوجني وشهد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشهد بنو محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والحواريون، فلما استيقظت من نومي أشفقت أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، فكنت أسرها في نفسي ولا أبديها لهم، وضرب صدري بمحبة أبي محمّد حتّى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي، ودق شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب إلا احضره جدّي وسأله عن دوائي، فلما برح به الياس قال : ياقرة
ص: 303
عيني فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا؟ فقلت: ياجدي! أرى أبواب الفرج علي مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الاغلال، وتصدقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح وأمّه لي عافية وشفاء، فلما فعل ذلك جدي تجلّدت في إظهار الصحة في بدني، وتناولت يسيراً من الطعام، فسر بذلك جدي، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزاز هم فرأيت أيضاً بعد اربع ليال كان سيدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان، فتقول لي مريم : هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي فقالت لي سيّدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ) إن ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة باللّه وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى اللّه تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضا اللّه عزّ وجلّ ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمّد إيّاك فتقولي : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن - أبي - محمّداً رسول اللّه فلما تكلّمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها، فطيبت لي نفسي وقالت الآن توقعي زيارة أبي محمّد إيّاك فإنّي منفذه إليك، فانتبهت وأنا أقول واشوقاه إلى لقاء أبي محمّد! فلما كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في منامي فرأيته كاني اقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك ! قال : ما كان تأخيري عنك إلا لشركك، وإذ قد أسلمت فإنّي زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع اللّه شملنا في العيان، فما قطع عنّي زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.
قال :بشر : فقلت لها وكيف وقعت في الاسر؟ فقالت : أخبرني أبو محمّد ليلة من الليالي أن جدك سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا،
ص: 304
ثم يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحدٌ [بي] بأنّي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إيّاك عليه، ولقد سالني الشيخ الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فانكرته وقلت نرجس، فقال : اسم الجواري.
فقلت : العجب ! إنّك روميّة ولسانك عربي؟ قالت بلغ من ولوع جدّي وحمله إيّاي على تعلّم الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمان له في الاختلاف إليَّ، فكانت تقصدني صباحاً ومساء، وتفيدني العربية حتّى استمر عليها لساني واستقام.
قال :بشر : فلما انكفأت بها إلى سرّ من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لها : كيف أراك اللّه عزّ الإسلام وذل النصرانية، وشرف أهل بيت محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؟ قالت : كيف أصف لك يا ابن رسول اللّه ما أنت أعلم به مني ؟ قال : فإني أريد أن أكرمك، فأيما أحب إليك عشرة آلاف درهم، أم بشرى لك فيها شرف الابد؟ قالت بل البشرى قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) فابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً، قالت: تمن؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ممن خطبك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالرومية؟ قالت : من المسيح ووصيه قال: فممن زوجك المسيح ووصيه؟ قالت من ابنك أبي محمّد، قال: فهل تعرفينه؟ قالت وهل خلوت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء أمه؟
فقال أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) يا كافورا ادع لي أختي حكيمة، فلما
ص: 305
دخلت عليه قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها هاهي، فاعتنقتها طويلاً، وسرّت بها كثيراً، فقال لها :مولانا يابنت رسول اللّه أخرجيها إلى منزلك، وعلّميها الفرائض والسنن، فإنّها زوجة أبي محمّد وأمّ القائم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). ويدل عليه بالمطابقة أو الالتزام، وبتفسير سائر الروايات الأحاديث 1 إلى 309، 549،547،545،544،543 إلى 558، 560 إلى 574، 574، 575، 580، 581، 589، 590، 608، 612، 614، 808 إلى 862، 864، 866 إلى 1870، 873، 878، 881 إلى 899.
مضافاً إلى أن مقتضى الاحاديث المتواترة القطعية الدالة على انحصار الخلفاء في ساداتنا الأئمّة الاثني عشر (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) والاحاديث الصحيحة الواردة في أنّ الأرض لا تخلو من حجة، مع اليقين بوفاة الإمام الحسن العسكريّ والد الحجّة (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) هو القطع واليقين بولادة مولانا صاحب الزمان (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 306
572 - (1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قال : ومنها (يعني من خطبته التي ذكر بعضها الرضي (قدّس سرّه)) : فانظروا أهل بيت
ص: 307
نبيّكم، فإن لبدوا فالبدوا، وإن استنصر وكم فانصروهم، فليفرّجنّ اللّه الفتنة برجل منّا أهل البيت، بأبي ابن خيرة الإماء، لا يعطيهم إلّا السيف هرجاً هرجاً موضوعاً على عاتقه ثمانية أشهر حتّى تقول قريش : لوكان هذا من ولد فاطمة، لرحمنا يغريه اللّه ببني أمية حتّى يجعلهم حطاماً ورفاتاً «مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا».
573-(1) - ينابيع المودّة: روى المدائني في كتاب صفِّين، قال: خطب عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد انقضاء أمر النهروان، فذكر طرفاً من الملاحم، وقال ذلك أمر اللّه، وهو كائن وقتاً مريحاً فيا ابن خيرة الإماء، متى تنتظر؟ ابشر بنصر قريب من ربٍّ رحيم، فبأبي وأمّي من عدّة قليلة أسماؤهم في الأرض مجهولة، قد دنا حينئذ ظهورهم، يا عجباً كل العجب بين جمادى ورجب، من جمع اشتاتٍ، وحصد نباتٍ، ومن اصوات بعد أصوات ثمّ قال : سبق القضاء سبق.
قال رجلٌ من أهل البصرة الى رجل من أهل الكوفة في جنبه : أشهد أنَّه كاذب، قال الكوفي : واللّه مانزل عليٌّ من المنبر حتّى فلج الرجل فمات من ليلته.
ولو أردنا استقصاء أخباره عن الغيوب الصادقة التي شاهدوا صدقها عياناً لبلغ كراريس كثيرة، انتهى الشرح.
574 - (2) - كمال الدِّين: حدَّثنا احمد بن زياد بن جعفر الهمداني – (رضي اللّه عنه) - قال : حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن أبي
ص: 308
أحمد محمّد بن زياد الأزدي، قال سالت سيّدي موسى بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عن قول اللّه عزّ وجلّ : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب، فقلت له : ويكون في الأئمّة من يغيب؟ قال : نعم، يغيب عن أبصار الناس شخصه ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره، وهو الثاني عشر منا، يسهل اللّه له كل عسيرٍ، ويذلل له كل صعب، ويُظهر له كنوز الأرض، ويقرب له كل بعيد، ويبير به [ يتبر - خ، يفني به من - خ] كلّ جبار عنيد ويهلك على يده كل شيطان مريد ذلك ابن سيدة الإماء الّذي تخفى على الناس ولادته، ولا يحلّ لهم تسميته حتّى يظهره اللّه عزّ وجلّ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
575 - (1) - كمال الدِّين : حدَّثنا علي بن أحمد بن عمران - رضي اللّه عنه - قال : حدَّثنا محمّد بن عبداللّه الكوفي، قال: حدَّثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير قال سمعت ابا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : إن سنن الانبياء (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منا أهل البيت حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذَّة (2)، قال
ص: 309
أبو بصير : فقلت يا ابن رسول اللّه، ومن القائم منكم أهل البيت؟ فقال : يا أبا بصير هو الخامس من ولد ابني موسى ذلك ابن سيدة الإماء، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون، ثمّ يظهره اللّه عزّ وجلّ فيفتح اللّه على يده مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روح اللّه عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربها، ولا تبقى في الارض بقعة عبد فيها غير اللّه عزّ وجلّ إلّا عُبد اللّه عزّ وجلّ فيها، ويكون الدين كلّه للّه ولو كره المشركون.
576 - (1) - غيبة النعماني: أخبرنا عبدالواحد بن عبداللّه بن يونس قال: حدَّثنا أحمد بن محمّد بن رباح الزهري، قال: حدَّثنا احمد بن علي الحميري قال : حدَّثنا الحكم أخو مشمعلّ الأسدي، قال: حدَّثني عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) «بأبي ابن خيرة الإماء» أهي فاطمة؟ فقال : إنَّ فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) خيرة الحرائر، ذاك المبدح بطنه (2)، المشرب حمرة، رحم اللّه فلاناً.
577 - (3) - غيبة الشيخ: سعد بن عبداللّه، عن محمّد بن عيسى بن :
ص: 310
عبید، عن إسماعيل بن أبان عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: سال عمر بن الخطاب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : أخبرني عن المهديّ ما اسمه؟ فقال: اما اسمه فإنّ حبيبي شهد إلىَّ أن لا أحدِّث باسمه حتّى يبعثه اللّه قال : فاخبرني عن صفته؟ قال: هو شابّ مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه، ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء.
ويدلّ عليه أيضاً الروايات : 539، 553، 554، 568، 651.
ص: 311
ص: 312
موسوعة الامام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
الكتاب الأوّل
تاريخ الغيبة الصغرى
يتكفّل بالبحث والتحليل بأُسلوب جديد وعميق تاريخ الإمامين العسكريّين والإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وسفرائه في غيبته الصغرى
تأليف
محمّد الصدر
دار التعارف المطبوعات
بيوت - لبنان
ص: 313
حقوق الطبع محفوظة
1412 ه_ - 1992 م
دار التعارف للمطبوعات
المكتب : شارع سوريا - بناية درويش - الطابق الثالث
الادارة والمعرض : حارة حريك - المنشية - شارع دكاش - بناية الحسنين
تلفون : 837857 - 823010 - 823685
صندوق البريد : 8601-11 - 643 - 11
ص: 314
يحسن بنا، وقد عرفنا تفاصيل ابيه وجده (عَلَيهَا السَّلَامُ). ان نحمل فكرة كافية عن أمّه الراضية المرضية المجاهدة، كما وردت في التاريخ بشكل عام وفي مصادر الخاصة بشكل خاص.
كانت (رضي اللّه عنها) قبيل حملها بولدها المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) أمّه مملوكة
- 241 - موسوعة الامام المهديّ (16)
ص: 315
جلبت بواسطة الفتح الاسلامي الّذي كان جارياً على قدم وساق في تلك العصور من بعض مدن الكفر إلى سامراء، ودخلت في ملكية بعض أفراد اسرة الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وكانت تسمى في ذلك المجتمع باسماء مختلفة، فهي : ريحانه ونرجس وسوسن وصقيل. وان كان الغالب عليها بين أفراد العائلة : نرجس. ويعود تعدد اسمائها إلى احد أسباب :
السبب الاول: صلة الحب والرحمة بالجارية من قبل مالكها. فهو يناديها بافضل الأسماء لديه واجملها في ذوقه. ولذا كان جملة منها من أسماء الأزهار. لكن لا على أن يكون كل ذلك اسمها الحقيقي.. بل على أساس ان يحتفظ بالاسم الحقيقي في نفسه ويناديها بأي اسم شاء توددا واستلطافا.. وهي تعتاد أن تجيب مالكها عن أي اسم وقع اختياره عليه. واذ تسامع الناس باختلاف النداء زعموا ان لها أسماء كثيرة، ووردنا في التاريخ ذلك.
كذلك كان حال الجواري الحضيات عند مواليهن... ولعله يكون منطبقاً على أم المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
السبب الثاني : ان المجتمع في ذلك الحين، إذ كان يجلب العبد أو الأمة بطريق السبي من البلاد البعيدة التي لا يحمل عنها وعن لغتها أي فكرة محددة... ويكون للمالك حق التصرف فيه، يستخدمه ويبيعه ويشتريه.. ولا يشعر بوجود شخصية هذا العبد أو ارادته، أو أن يكون في مستقبل الدهر علماً من الاعلام.. لكي يجب أن يحدد أسمه
ص: 316
ويرسم معالم شخصيته لكي تبقى واضحة المعالم في اذهان مؤرخيه. بل ان العبد حين يجلب، يعجز العربي عن نطق اسمه الأصلي غالباً، لقيامه على لغة اجنبية لا يقوى على تلفظ كلماتها.. وهو لا يهتم بان يصنع لعبده أو امته أسماً معيناً، وانما حسبه ان يدعوه باللغة العربية بأي لفظ جرى على لسانه.
ومن هنا تكونت عادة في ذلك المجتمع، باسباغ عدة اسماء على العبيد.. فكان ان اخذت اسرة الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذه العادة و اسبغت على هذه الجارية عدة اسماء حتّى اننا رأينا الاسرة اذ وجدت ان اثر الحمل لا يظهر عليها، على ما سنسمع، لم تتحاش عن إسباغ اسم جديد عليها، هو صقيل.
السبب الثالث : انها رضوان اللّه عليها عاشت تخطيطاً خاصاً، في تبديل اسمها بين آونة واخرى، ودعائها بعدة اسماء في وقت واحد أو في اوقات مختلفة.. عاشت ذلك منذ دخلت هذه العائلة الكريمة، لأنها ستصبح أما للمهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وسترى المطاردة والاضطهاد من قبل السلطات وستعيش في السجن مدة من الزمن... اذن فيجب القيام بهذا المخطط تجاهها إمعاناً في الحذر وزيادة في التوقي عليها وعلى ابنها، ولاجل أن يختلط في ذهن السلطات ان صاحبة أي من هذه الاسماء هي المسجونة وأي منها هي الحامل وأي منها هي الوالدة وهكذا... حيث يكون المفهوم لدى السلطات كون الأسماء لنساء كثيرات، ويغفلون عن احتمال تعددها في شخص امرأة واحدة.
ص: 317
وهذا الاحتمال الثالث، هو - بلا شك - الاحتمال الراجح في ام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف).
وإذ نريد ان نعرف أول مالك لهذه الجارية من اسرة الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ).. تواجهنا فرضيتان، باعتبار اختلاف الأخبار الواردة عن ذلك، احداهما : انها كانت ملكاً للامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). وثانيتهما : انها كانت ملكة الحكيمة اخت الهادي (رضى اللّه عنها). ولكل من الفرضيتين خبر وقصة..
الفرضية الاولى : انها دخلت أولاً في ملكية الامام على الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). وهو الّذي قام بتزويجها لابنه العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وذلك : ان الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين يريد ان يحصل على زوجة ابنه : ام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف). يدعو نخاساً من بائعي العبيد موالياً له قد علمه أحكام الرقيق وفقهه في تجارته، يدعى بشر بن سليمان النخاس... يدعوه فيأمره بالسفر من سامراء إلى بغداد ويحدد له الزمان والمكان والبائع، ويصف له الجارية وبعض سلوكها. فمن ذلك : انها تمتنع من السفور ولمس من يحاول لمسها. وإذ يضر بها النخاس، تصرخ بالرومية صرخه. قال الامام : فاعلم انها تقول : واهتك ستراه !.. ومن ذلك : انها تنطق العربية بطلاقة ويعطيه الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) صرة من النقود وكتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية ومختوم مخاتمه الخاص.
ويذهب بشر النخاس إلى بغداد ويشاهد كل ما حدده له الامام، ورآها تدفع عن نفسها المشترين بضراوة، قائلة لأحدهم : لو برزت في
ص: 318
زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت في فيك رغبة.. فاشفق على مالك. فيقول بائعها النخاس : فما الحيلة ولا بد من بيعك. فتقول الجارية : وما العجلة، ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته. وهنا يقوم بشر إلى بائعها ويقدم له الكتاب ويأمره بدفعه إلى الجارية قائلاً : انه لبعض الاشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه. فناولها لتتأمل منه اخلاق صاحبه فان مالت اليه ورضيت به فانا وكيله في ابتياعها منك. وقد جرى كل ذلك بحسب وصف الامام وامره وتخطيطه.
وإذ تقرأ الكتاب، ينقلب منها الحال انقلاباً عجيباً، فتبكي بكاء شديداً، وتقول لبائعها : يعني من صاحب هذا الكتاب، فان امتنعت قتلت نفسي، وتحلف بالايمان المحرجة المغلظة على ذلك. واذ يرى بائعها ذلك يطلب من بشر النخاس ثمناً كبيراً، فتطول المعاملة بينهما حتّى يستقر الثمن على مقدار ما في الصرة التي حملها من الامام، فيعطيه للبائع ويستلم الجارية. ويذهب بها إلى الحجرة التي كان يأوي اليها في بغداد.
وإلى هنا رأينا في هذه الجارية أربعة أوصاف يندر وجود واحد منها فضلا عن المجموع في جارية مسبية حديثة العهد بهذا المجتمع. وكل منها جار على خلاف السلوك الاعتيادي للعبيد، فهي : أولا : تنطق العربية بطلاقة. وثانياً : تمتنع من السفور وتتحاشى يد اللامس. وثالثاً : ترفض أي مشتر يتقدم لشرائها، وتقترح على بائعها أن تعين
ص: 319
هي مشتريها لأجل أن يسكن قلبها إلى امانته. ورابعا : انها رعبت رغبة شديدة بالامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وبكيت وهددت بالانتحار إذا لم يبعها منه. فماذا قرأت فى الكتاب وكيف حصل لها معه هذه الرابطة القوية والرغبة الأكيدة ؟!.
كل ذلك يراقبه بشر النخاس ويعجب منه. وتتولد في ذهنه علامات استفهام كبيرة ! وتتأكد هذه العلامات وضوحاً حين رآها انها بمجرد إن استقر بها المقام في غرفته في بغداد.. اخرجت كتاب الامام (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) من جيبها وصارت تلثمه وتضعه على خدها وتطبقه على جفونها وتمسحه على بدنها. فيقول لها متعجباً منها : اتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟!.
وإذ تجيبه عن سؤاله.. نراها تعطيه بياناً ضافياً، عن تاريخها وأحوالها، يفسر كل تصرفاتها الحالية.. نلخص منه المهم فيا يلي :
انها مليكة بنت يشوعاء بن قيصر ملك الروم. وامها من ولد أحد الحواريين المنتسب إلى وصي المسيح شمعون.
ويحدث في يوم من الأيام ان يحاول جدها القيصر تزويجها من ابن اخيه، فيعقد لذلك أعظم مجالسه ابهة وجلالة واكثرها من حيث عدد الحاضرين وأسخاها من حيث الذهب والجواهر الموزعة على أطراف المكان وعلى العرش الموضوع هناك المهيء للعريس الجديد.. فبينما يصعد ابن اخيه على هذا العرش تتساقط الصلبان وتنهار الاعمدة ويخر الصاعد على العرش مغشياً عليه. ويتشائم القيصر والاساقفة، ويبادره كبير هم قائلاً : ايها الملك اعفنا من ملاقات هذه النحوس الدالة على زوال
ص: 320
هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
وعلى أي حال.. فهي ترى في تلك الليلة فيما يرى النائم انه انعقد في قصر جدها القيصر مجلس متكون من المسيح وشمعون وعدة من الحواريين. ويدخل محمّد صلى اللّه عليه وآله وجماعة معه وعدد من بنيه فيخف المسيح لاستقباله معتنقاً له فيقول له نبي الاسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا روح اللّه اني جنتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكه لابني هذا. تقول : وأو مى بيده إلى ابي محمّد صاحب هذا الكتاب. فنظر المسيح إلى شمعون فقال : قد اتاك الشرف، تصل رحمك برحم رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه قال : قد فعلت فصعدوا ذلك المنبر وخطب محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وزوجني من ابنه.. وشهد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشهد بنو محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والحواريون.
وعلى اثر هذا الحلم يعلق في نفسها حب الامام العسكريّ ابي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، بالرغم من انها تخاف ان تقص هذه الرؤيا على ابيها وجدها مخافة القتل. ثمّ انها تصاب على اثر حرمانها من حبيبها بمرض شديد، ويحضر لها جدها كل الأطباء فلا يفهمون من دائها شيئاً. ويطول بها الداء.. فيقترح عليها جدها ان تقترح عليه شيئاً ترغبه لكي ينفذ لها رغبتها عسى أن تحس بالسعادة في مرضها. فتقول له : يا جدي أرى أبواب الفرج على مغلقة، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من اسارى المسلمين وفككت عنهم الاغلال وتصدقت عليهم ومنيتهم بالخلاص.. رجوت أن يهب المسيح وأمّه في عافية وشفاء. فينفذ لها جدها القيصر رغبتها.. فتتجلد في إظهار الصحة وتتناول يسيراً من
ص: 321
الطعام فيسر جدها بتحسن حالتها ويزيد في اكرام الاسارى واعزازهم.
ثمّ انه يزورها في المنام بعد أربع ليال : مريم بنت عمران وفاطمة بنت محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). فتقوم العذراء بتعريف الزهراء لمليكه قائلة : هذه سيدة النساء أم زوجك ابي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ). وإذ تعرفها مليكة تتعلق بها وتبكي وتشكو اليها امتناع ابي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من زيارتها فتجيبها الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) ان ابني ابي محمّد لا يزورك وانت مشركة باللّه على دين مذهب النصارى. ثمّ تأمرها بأن تشهد الشهادتين، فيدفعها الحب والشوق إلى امتثال هذا الأمر. وتدخل في الاسلام في عالم الرؤيا. واذ تسمع منها الزهراء (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذلك، تضمها إلى صدرها وتعدها بزيارة ابي محمّد لها.
وبعد ذلك يبدأ أبو محمّد بزيارتها كل ليلة، بدون استثناء. قائلاً لها : ما كان تأخيري عنك إلا لشركك، وإذ قد اسلمت فاني زائرك كل ليلة.. إلى أن يجمع اللّه شملنا في العيان.
ثم ان أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يخبرها في بعض زياراته، بان جدها سيجرد جيشاً لقتال المسلمين في موعد حدده لها. وأمرها أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) - وهو يريد ان يخطط لها طريق الاجتماع به في العيان - أمرها ان تتنكر في زي الخدم وتخرج من طريق معين لتلحق بطلائع الجيش الأسلامي ليأسروها وينقلوها إلى بلادهم. ففعلت ذلك حتّى وصلت إلى بشر النخاس. وانكرت في غضون ذلك شخصيتها، ولم تخبر أحداً بانتسابها إلى قيصر الروم، وإذيساً لها مالكها عن اسمها تدعي ان اسمها : نرجس اذن فهي التي
ص: 322
اختارت لنفسها هذا الاسم.
وإذ تنتهي الجارية في قصتها إلى هذا الحد.. يستطيع بشر النخاس ان يفسر كل تصرفاتها، ما عدا معرفتها للغة العربية. فيسألها عن ذلك فتخبره بانه بلغ من ولوع جدها وحمله اياها على تعلم الآدب ان عين لها امرأة ترجمان تزورها صباحا ومساء وتفيدها اللغة العربية حتّى استمر عليها لسانها واستقام.
ويذهب بها بشر النخاس إلى سامراء ويدخلها على الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). فيقول لها : كيف أراك اللّه عز الاسلام وذل النصرانية وشرف أهل بيت محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). قالت : كيف اصف يا ابن رسول اللّه ما أنت أعلم به مني.
ثم يتصدى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لامتحانها وسبر اغوار ايمانها ومعرفة درجة اخلاصها. فانظر كيف يخيرها بين العاجل والآجل.. بين الدنيا والدين.. إذ يقول لها : فاني اريد أن أكرمك : فأيها احب اليك عشرة آلاف درهم أم بشرى لك بها شرف الابد. قالت : بل الشرف. واذ وجدها الامام واعية لموقفها مضحية في سبيله بكل عال ورخيص قال لها : فابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجوراً. قالت: ممن؟. قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) متسائلاً: ممن خطبك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟ - وعين لها الوقت - قالت : من المسيح ووصيه. قال : فممن زوجك المسيح وصيه ؟ قالت من ابنك ابي محمّد. قال : فهل تعرفينه. قالت : فهل خلوت ليلة من
ص: 323
زيارته اياى منذ الليلة التي اسلمت فيها على يد سيدة نساء العالمين، امه. وعندئذ يستدعي الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، اخته حكيمة ويأمرها بأن تأخذ نرجس إلى منزلها وتعلمها أحكام الاسلام. ويقول : فانى قد زوجت ابي محمّد الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).
وأود ان اعلق على هذا الخبر بعدة تعليقات :
التعليق الأول : اننا نستطيع أن نعين تاريخ شراء الجارية وزواج الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بها. فانه كان في زمان الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد أراد ان يزوج ابنه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قبل ان يتوفى عام 254. ليولد من هذه المرأة الجليلة مهدي هذه الامة القائم بدولة الحق. وسياتي ان ولادة المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت بعد وفاة جده الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). فإذا استطعنا ان نعرف انه لم يمر زمان طويل بين زواجها وولادتها، أكثر من المقدار الضروري للحمل والولادة، عرفنا ان زواجها كان في نفس هذا العام : 254.
التعليق الثاني : انه قد يورد على هذا الحديث بعض الاعتراضات التي يمكن الجواب عنها على أصولنا الأعتقادية، ويبقى الجواب عنها عند من لا يؤمن بهذه الأصول معلقاً على التسليم بها. على اننا سنقول اننا غير ملزمين باعتبار هذا الخبر إثباتاً تاريخياً كافياً.
الاعتراض الأول : انه متضمن لعلم الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأمور
ص: 324
غائبة غير منظورة. في حين ان الغيب لا يعلمه إلا اللّه تعالى.
والجواب على ذلك : انه بعد فرض ثبوت امامته، يكون ذلك ممكناً في حقه. ونحن لا ندعي عامه بالغيب مباشرة كعلم اللّه عز وجل. وانما ندعي ان الامام إذا أراد أن يعلم شيئاً اعلمه اللّه تعالى اياه، كما نطقت بذلك بعض الأخبار.
والمصلحة الرئيسية من الناحية الاجتماعية، في ذلك هي ان الامام قائداً لأمة ورئيس لدولة وموكول اليه تطبيق العدل الاسلامي الالهي على البشرية. فاحسن طريق لنجاح عمله وقيادته، من الناحيتين النظرية والعملية معاً، هو ان يكون ملهما مسدداً موفقاً من قبل اللّه تعالى. وكيف لا، وهو منصوب لتطبيق أعلى أهداف الاسلام وممثل لأحد أيام اللّه الكبرى التي اخذها اللّه تعالى بنظر الاعتبار في كونه.
الاعتراض الثاني : ان الايمان بمضمون هذا الحديث، متوقف على الايمان بالاحلام. وهو خرافة من الخرافات
والجواب عن ذلك : يكون باحد أمور ثلاثة :
اولاً : ان ما هو الخرافة، هو الايمان المطلق بصدق جميع الاحلام، وهذا لم يقل به مفكر، ولا هو الّذي ندعيه ولا يتوقف عليه صحة هذا الحديث. وانما الشيء الّذي لا شك فيه هو صحة بعض الاحلام وتحققها في الواقع. وهذا أمر ضروري لمن راجع حوادث الحياة ونظر في الكتب المؤلِّفة في ذلك كدار السلام للحاج ميرزا حسين النوري والاحلام للدكتور على الوردي. وغيرها.
ص: 325
اذن فمن الممكن أن يكون هذا المذكور في الحديث أحد الاحلام المطابقة للواقع، وخاصة بعد ان اتصف بحوادث ومميزات لا تعدو عالم الحياة والعيان. فلو صلحت هذه الرواية للاثبات التاريخي لم تكن هذه الجهة موجبة لضعفها أو الطعن فيها.
ثانيا : ان هناك فكرة تقول : بان رؤية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة المعصومين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المنام لا يمكن أن تكون كاذبة. لأن المنام الكاذب من الشيطان والشيطان لا يمكن أن يتصور بصورة النبي أو الامام. ويستشهد لذلك بما نسب إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من قوله : من رآنا فقد رآنا ويقول الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأحد أصحابه في المنام أيضاً: وأعلم ان كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة (1).
فإذا تمت هذه القاعدة - واللّه العالم بحقيقتها - لم يكن بالامكان ان يقال : بان ذلك الحلم الّذي وجد فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) بما فيهم الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أو هو مستقلاً حين كان يأتيها كل ليلة... حلم كاذب.
ثالثا : اننا غير مضطرين لأن نلتزم من هذا الحديث بحر فيه الرؤيا. بل يمكننا ان نحمله على نحو من الرمزية ونقول : ان أم المهديّ عليه وعليها السلام، كانت وهي في بلادها الأولى كانت ملهمة بشكل غامض بعض خطوط مستقبلها والحنين اليه، بمقدار - بحيث انها حين واجهت هذا المستقبل احبته واخلصت له.
ص: 326
وهذه مصلحة الهية عظيمة، باعتبار ما يعلمه اللّه تعالى من كونها اما للمهدي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وما سوف ترى في سبيل ذلك من الضغط والمطاردة والعذاب. اذن فهي تحتاج إلى الهام خاص - ولو بشكل لا شعوري غامض - يوجب تربيتها وتوجيه عواطفها بالشكل المخلص المؤمن. فانها، لو كانت مجردة عن هذا الالهام وكانت مشتراة من السوق من دون اخلاص سابق وتربية داخلية لأمكن لها ان تجزع من التعذيب فتبوح بأمر ولدها، ويؤدي الحال إلى القاء القبض عليه وقتله. وهو ما لا يريده اللّه تعالى أن يكون.. كيف ؟. وقد ذخره اللّه عز وجل بقدرته الكبرى لمستقبل الاسلام وارساء قواعد الحق.
أما انكار وجود الالهام كحقيقة كونية الهية، تتحقق بارادة اللّه تعالى عند وجود المصلحة.. فهذا تكذيب للقرآن إذ ينسب الالهام إلى النحل قائلاً : واوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثمّ كلي من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك ذللا (1). وينسب عز وجل هذا الالهام ببعض مراتبه إلى الانسان إذ يقول عز من قائل : فمن يرد اللّه ان يهديه يشرح صدره للاسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كانما يصعد في السماء (2).
اذن فلتكن الظاهرة التي احست بها وعاشتها ام المهديّ، شكلا من اشكال الالهام.
ص: 327
الاعتراض الثالث : ان هذا الحديث دال على ان اسلامها وزواجها كان في عالم الرؤيا. وهو مما لا يمكن ان يعترف بشرعيته وقانونيته.
والجواب عليه : ان هذا الحديث وان كان دالا على ذلك، إلا اننا لا ندعي الاكتفاء به بطبيعة الحال. وانما اصبحت مسلمة في عالم اليقظة والعيان... أما حال وجودها في بلادها الاولى بعد ان اعتقدت بصحة الطيف ومطابقته للواقع، فاستيقظت معتقدة للاسلام. أو انها اسلمت حين قالت للامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا ابن رسول اللّه.. فان هذا الوصف متضمن للاعتراف بالاسلام بكل وضوح، أو انها اصبحت مسلمة حين علمتها حكيمة تعاليم الإسلام امتثالاً لامر اخيها (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى أي حال فقد تم اسلامها قبل زواجها من الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
واما ما قد يخطر على البال من انها إذا كانت قد بقيت غير مسلمة فى عالم اليقظة والعيان حتّى حين وصولها إلى سامراء، فكيف زارها الامام أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المنام.. فجوابه : ان هذا كلام من يؤمن بالاحلام.. وأما من لا يؤمن بها لا يعتبر الزيارة في عالم الرؤيا شيئاً يؤخذ بنظر الاعتبار. ومعه فنقول للمؤمن بالاحلام المتكلم بهذا الكلام ان زيارة الامام في المنام يكفي فيها الاسلام في المنام ! وأما لقاء العيان واليقظة فيحتاج إلى اسلام حقيقي في عالم اليقظة.
وأما زواجها، فلم يكن ما وقع منه في المنام كافياً أيضاً، وانما تم بانشاء الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لعقد الزواج حين قال : - كما نطق الحديث - : فإني قد زوجت ابا محمّد الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 328
بعد ان احرز رضاها ورضاه. وهو وليهما وولي المؤمنين.
الاعتراض الرابع : أن هذا الحديث دال على تساقط الصلبان وانهيار الاعمدة، من دون سبب ظاهر. فكيف كان ذلك ؟
والجواب عن ذلك : انه مما لا شك فيه، من الناحية الاسلامية، ان ما يعتقده المسيحيون أصبح بعد بعثة نبي الاسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، باطلاً والمقيم عليه ضالاً مضلاً. وان مقتضي الهداية إلى الصراط المستقيم هو الاهتداء بنور الاسلام والاعتقاد بعقائده والالتزام بعدله.
فمن الممكن القول : ان هذا الّذي حدث، هو معجزة الهية حدثت للتوصل إلى غرضين : احدهما : استنكار بقاء هؤلاء على المسيحية مع امكانهم الدخول في الاسلام ومعرفتهم بوجوده، فان الأولى بمصالحهم ان ان يعتنقوه لا ان يحاربوه ؛ ثانيهما : استنكار زواج هذه الامرأة من ابن عمها، فانها مقدرة في علم اللّه الأزلي لأن تكون زوجة للامام العسكريّ واما للمهدي. لا ان تكون كما يشاء جدها زوجة لأبن اخيه. بحدوث هذه المعجزة يحصل في قلوبهم تشاؤم من حصول هذا الزواج، فلا يقومون به. كما قد أعرضوا عنه فعلاً.
الاعتراض الخامس: ان هذه الرواية تدل على شيئين متنافيين. فبينما ننص في أولها على ان الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الّذي كتب الكتاب الّذي حمله بشر النخاس إلى الجارية... نراها تدل بعد ذلك على ان كاتبه هو الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ). كقولها : وأوما بيده إلى أبي محمّد صاحب هذا الكتاب. وقولها : يعنى على صاحب هذا الكتاب
ص: 329
والجواب عن ذلك : ان الرواية دلت على ان كاتب الكتاب هو الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). إلا انها دلت في عين الوقت ان هذه الجارية كانت تتوهم ان كاتبه هو فتى احلامها وزوج مستقبلها الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وليس بين الأمرين أي تنافي. ولا نعلم ان ما في الكتاب يدل على تحديد شخصية كاتبه حتّى تعرفه بذلك.
اذن فليس شيء من هذه الاعتراضات وارد على هذا الحديث ومضعف الدلالته وما يعرب عنه من حديث وتاريخ. وانما الاعتراض الوحيد الّذي يمكن صدقه هو ان هذا الحديث ضعيف من ناحية اثباته التاريخي باعتبار كونه مجهول الرواة ضعيف السند.
التعليق الثالث : الّذي تعلقه على هذه الرواية :
ان هذه الرواية مهملة من حيث التاريخ. ونحن وان استطعنا ان نعرف وقت شراء الجارية إلا أنه لا يمكن تحديد وقت هذا القتال الّذي وقع بين الروم والمسلمين. ذلك القتال الّذي أصبحت مليكة نتيجة له اسيرة للمسلمين. كما انه لا يمكن تحديد مكانه على وجه التعيين، فان سائر أطراف الدولة الاسلامية كانت مسرحاً لحروب ومناوشات وفتوحات في ذلك العصر. وأغلبها كان بين الروم والمسلمين.
فان لفظ الروم كان يستعمله العرب في ذلك الحين بشكل مجمل واسع المعنى. فانهم كانوا يصطلحون بهذا اللفظ على كل بلاد مسيحية خارج حدود بلاد الاسلام. وهذا معنى شامل لكثير من مناطق الأرض. فهو يشمل سوريا ولبنان وتركيا قبل فتحها الاسلامي، ثمّ
ص: 330
يستمر إلى ما وراءها شمالاً مما هو الآن تحت حكم الاتحاد السوفييتي. وقد دخل قسم منه في الاسلام وبقى الكثير منه مسيحياً إلى حد الآن. كما يمتد هذا اللفظ غرباً ليشمل اوروبا كلها بما فيها اليونان وايطاليا وفرنسا واسبانيا وصقلية وغيرها مما كان معروفاً يومذاك. وكانوا إذا أرادوا التدقيق في التعبير عن أوروبا، قالوا : الفرنجة أو الافرنج، تمييزاً لها عن سائر بلاد الروم. وهو أيضاً لفظ مجمل يشمل كل أقطار اوروبا تقريباً.
لا يستثنى من لفظ الروم، بحسب اصطلاحهم.. من وجه العالم المعروف يومئذٍ، إلا ما كان في شرق بلاد الاسلام : كالهند والصين وما كان في جنوبها كافريقيا.
والصحيح تاريخياً ان الروم هم شعب دولة روما، التي هي الآن عاصمة ايطاليا، وكان الاسم الرسمي للملك عندهم هو القيصر. وهي دولة استطاعت ان تسيطر على رقعة ضخمة من العالم... من حوض البحر الأبيض المتوسط. كالشمال الافريقي واليونان وتركيا وسوريا ولبنان وفلسطين، حتّى كانت تسمى كل هذه المناطق بدولة الروم، ومن هنا وقع الاجمال والاختلاط في معناه لدى الناس في تلك العصور... وحتى كانت العاصمة لهذه الدولة الجبارة هي القسطنطينية، وهي ليست في ايطاليا، وغير قريبة من روما ! وانما تقع في الجزء الاوروبي من تركيا فعلاً. وتسمى اليوم باستانبول. وكان لسقوطها بايدي الجيش الاسلامي من الاهمية و (الاستراتيجية) الشيء الكثير. اذ يعني
ص: 331
انحسار الحكم الرومي عن بلاد الشرق وانكماشه في داخل اوروبا المسيحية.
وعلى أي حال، فانه يمكن ان يفهم من هذه الرواية ان الملك نفسه كان خارجاً مع جيشه للحرب، وهو ما كان يحدث فعلا في الحروب المهمة الواسعة. فبذلك يمكن أن نلتفت إلى الحادثة التي ينقلها التاريخ العام في سنة 249، حيث نزل ملك الروم بنفسه إلى الحرب مع خمسين الفا، وحصل بينه وبين المسلمين قتال شديد، قتل فيها من الفريقين خلق كثير (1). فالمظنون ان هذه هي الحادثة المشار اليها في الحديث.
وكان الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذا العام، عمره سبعة عشر عاماً، يعيش تحت ظل ابيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ أن ام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد أن سبيت في الحرب بقيت عند مالكها حتّى عام 254 حين أراد بيعها، فاشتراها الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليزوجها من ابنه (عَلَيهِ السَّلَامُ). والرواية على أي حال، لا تدل على سرعة بيعها بعد الاسر، وان كان المفهوم منها بشكل عام، هو ذلك. واللّه العالم.
***
الفرضية الثانية : ان المالك لهذه الجارية من اسرة الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو حكيمة اخت الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وهذه فرضية بسيطة ومختصرة، تكفينا في الاثبات التاريخي ان لم تكفنا الفرضية الأولى، ولم نقتنع بمدلول ذلك الخبر. والخبر الوارد في هذه الفرضية يهمل بالكلية التعرض لأصل هذه الجارية أو ترجمة
ص: 332
حياتها أو تاريخ ورودها إلى بلاد الإسلام أو تاريخ شرائها.
وانما يبدأ الحديث انه في يوم من الايام يزور الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمته حكيمة (رضى اللّه عنها)، فيرى جاريتها فيحد النظر اليها. فتقول له : يا سيّدي لعلك هوتها أفارسلها اليك. فينفى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الهوى الجنسي عن نفسه، فانه مناف لمقام الامام وعصمته، ويعطي السبب المنطقي الصحيح لعمله. وذلك انه اجاب عمته قائلا لا يا عمة، ولكني اتعجب منها. فقالت له : وما اعجبك ؟. فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : سيخرج منها ولدكريم على اللّه عز وجل الّذي يملا اللّه به الأرض وعدلاً وقسطا كما ملئت ظلما وجوراً. فقالت له : فارسلها اليك يا سيّدي. فيوقف الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذلك على اذن ابيه، قائلاً : استاذني في ذلك ابي.
قالت : فلبست ثيابي واتيت منزل ابي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فسلمت عليه وجلست. فبدأني وقال : يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني ابي محمّد. قالت : فقلت : يا سيّدي على هذا قصدتك.. ان نستأذنك في ذلك. فقال لي : يا مباركة، ان اللّه تبارك وتعالى أراد أن يشركك في الاجر ويجعل لك في الخير نصيباً.
وتبادر العمة إلى الرجوع إلى منزلها، وتقوم بتزيين نرجس وتهبها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ). وتجمع بينه وبينها في منزلها. فيقيم الامام عندها اياما، حتّى يتوفى والده (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد ايام، فينتقل الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع زوجته إلى دار ابيه (1) .
ص: 333
وهذه الرواية تتفق مع سابقتها على عدة خصائص، منها : ان ام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت جارية مملوكة، وان اسمها نرجس وان زواج الامام العسكريّ كان في حياة ابيه واذنه. ولذا نستطيع ان نعتبر اتفاقها على ذلك اثباتاً تاريخياً كافياً له إلا ان هذه الرواية تعين وقوع الزواج في الأيام الاخيرة من حياة الامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). ولم يكن هذا واضحاً من الرواية السابقة.
وليس على هذه الرواية من اعتراض من الناحية الشكلية، إلا اعتراض واحد، وهو ان الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين زار عمته كيف جاز له ان يحد النظر إلى جاريتها مع انها ليست زوجته ولا مملوكته في ذلك الحين. ويأتي الجواب واضحاً بسيطاً، وهو انه نظر اليها باذن مالكتها. والمالك إذا اذن لشخص في النظر إلى مملوكته جاز للماذون له النظر شرعاً في حدود اذن المالك.
وهذا وان لم يذكر في الرواية إلا انه أخذ مفروض التحقق في الرواية، للتسالم الواضح في المجتمع المسلم على عدم جواز النظر إلى مملوكة الغير إلا باذنه. لذا كان من الواضح في ذهن الراوي ان السامع المسلم سوف يفهم تلقائياً وجود الاذن في النظر... ومن هنا اهمله من سرده من لفظ الرواية.
ص: 334
ص: 335
ومهما يكن من أمر، فالمهم الآن ان نحمل فكرة عما تدلنا عليه الروايات من حوادث ولادة الامام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
ان الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) تزوره عمته حكيمة في يوم من الأيام، وتبقى عنده إلى المساء. وحين تريد ان تنصرف يرجوها الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان تبيت في داره هذه الليلة، فانه سيولد فيها المولود الكريم على اللّه عز وجل، حجة اللّه في أرضه. فتسأله العمة : ومن أمه.؟ فيقول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) : نرجس ! فتنفي العمة أن يكون بنرجس اثر للحمل. فيؤكد لها الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذلك قائلا : هو ما أقول لك فتفحصها العمة جيد أو تقلبها ظهراً لبطن فلا تجد أثر الحمل. فتعود فتخبره تارة اخرى فيبتسم الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويعطيها الحجّة الواضحة والمبرر الالهي الصحيح في ذلك، قائلا : إذا كان وقت الفجر يظهرلك الحبل.. لأن مثلها كمثل أم موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها، لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ). وهذا نظير موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 336
والمعجزة في اخفاء الحمل يكون - في الأرجح - على هذا الترتيب: وهو ان النطفة خلال مدة الحمل تنمو ببطء شديد أو لا تنمو على الاطلاق. ثمّ انها قبل الولادة بوقت قصير قد لا يزيد على دقائق، تنمو بسرعة حتّى يكتمل الجنين، ويكون قابلا للميلاد، في الجو السري
ص: 337
الخاص البعيد عن أعين السلطات.
وبذلك لا يتمكن أحد من الفاحصين حتّى القوابل، خلال المدة الاعتيادية للحمل.. من التعرف على وجوده. فضلا عن مجرد النظر. وذلك : لأن الطب إلى يومنا الحاضر عاجز عن التعرف إلى الحمل في شهره الأول، فكيف بالعصور السابقة عصور الخلافة العبّاسية. فلو يقي الجنين، بارادة اللّه تعالى، على شكله في الشهر الأول طيلة مدة الحمل، لم يتمكن أحد ان يخمن وجود الحمل على الاطلاق، في تلك العصور.
ولا يخفانا أيضا، ما في التوقيت في الفجر، من اهمية خاصة في زيادة الحذر والخفاء، فان هذه العائلة كانت في ذلك الوقت في يقظة. وكل من يتولى السلطة والتجسس يغط في نوم عميق.
ثم ان حكيمة إذ تسمع تأكيد الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، تعود إلى نرجس فتخبرها بما قال وتسألها عن حالها. فتقول نرجس : يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا. ثمّ ان نرجس نامت واشتغلت حكيمة بالصلاة، لكي تؤدي صلاة الليل، وجلست للدعاء عقيب الصلاة، وهي في كل ذلك ترقب نرجس فلا تجد عليها إلا النوم الهادي لا تقلب جنباً عن جنب. وهناك من الأخبار ما يدل على أن نرجس نفسها قامت من نومتها فادت صلاة الليل ثمّ نامت مرة اخرى. وهي لا تحس بشيء.
حتى إذا كان وقت طلوع الفجر، وثبت نرجس من نومها فزعة فضمتها حكيمة إلى صدرها. وقالت لها : اسم اللّه عليك، هل تحسين
ص: 338
بشيء. قالت : نعم يا عمه أقول : نعرف من ذلك ان جنينها قدكبر واكتمل. وتم هذا في دقائق أو أقل. وهذا يفسر لنا وثوبها من نومها فزعة.
وهنا يأمر الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) حكيمة بأن تقرأ عليها سورة الدخان التي تبدأ بقوله تعالى : «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حَم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» ولا يخفى ما في قراءة هذه الآيات من المناسبة لمقتضى الحال.
وحينما يحين وقت الولادة، يحدث نوع من الغموض بين الأمرأتين بحيث لا تطلع حكيمة على نرجس، وقد عبر عن ذلك في بعض الروايات بالفترة.. وهي نوع من الغفلة أو النعاس.. أصابتهما معاً. وعبر عنه في رواية أخرى، بقول حكيمة : حتّى غيبت عني نرجس فلم أرها كأنه ضرب بيني وبينها حجاب. والمعنى المفهوم منها واحد والغرض منه هو عدم الاطلاع على نرجس حين خروج الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 339
ص: 340
موسوعة
الأمام المهديّ
وِلادة
الأمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
في
كُتُبِ الْفَرِيقَيْنِ
نشر الفقاهة
ص: 341
محمود عرفان ولاده الامام المهدى (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) في كتب الفريقين / عرفان محمود
نشر الفقاهة. 1390. 353 ص 1 ISBN: 978 - 964 - 7911 - 93
فهرستنویسی بر اساس اطلاعات فيبا، موضوع: محمّد بن حسن (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
امام دوازدهم 255 ق.میلاد مهدویت احادیث
رده بندی کنگره: 1389 8 و 334 م / 51 BP رده بندی دیویی: 959 - 297
موسوعة
الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) (3)
ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) في كتب الفريقين
تأليف : عرفان محمود
تحقیق: لجنة التحقيق
اشراف : أبو الفضل الإسلامي
موضوع : کلام و تاريخ
الطبعة : الأولى
المطبعة: مؤسسة النشر الاسلامي
الكمية: 1000
صف الحروف : الطالبي
التاريخ : 1432 ه_
«نشر الفقاهة» - قم
شابك : 1 - 93 - 7911 - 964 - 978
ISBN: 978-954-7911-93 - 1
ص: 342
نتناول في هذا الفصل بمعونة اللّه تبارك وتعالى جملة من الروايات الواردة بشأن كيفية وقصة ولادة الإمام المهديّ من الحسن العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وهي مروية في المصادر المعتبرة لقدماء كبار علماء الإمامية أمثال أبي جعفر الطبري الإمامي والفضل بن شاذان المعاصر لولادة المهديّ عجل اللّه فرجه والحسين بن حمدان المعاصر للولادة أيضاً والشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ وغيرهم، ومن هذه الروايات ذوات الأسانيد الصحيحة والعالية - أي قليلة الوسائط بين الراوي الأخير والراوي المباشر للحادثة - كما صرح بذلك المحدّث الخبير آية اللّه النوري في كتابه القيم النجم الثاقب (1).
كما أن هذه الروايات منقولة في كتب عدد من علماء أهل السنة - كما سنرى - وقد تلقاها ناقلوها بالقبول والتأييد، لذلك فهي من مرويات الفريقين أيضاً
ص: 343
ولذلك ولصحة أسانيد جملة من هذه الروايات فهى تشكل دليلاً مستقلاً آخر على ولادة الإمام المهديّ عجَّل اللّه فرجه خاصةً وأنها تتحدّث عن رعاية رعاية إلهية خاصّة في كيفية الولادة وعلامات في الوليد وفيها تصريح واضحٌ بإمامته و مهدويته كما سنشير لذلك فى نهاية الفصل.
نبدأ أولاً بما روي بشأن والدته (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) الّتي عرفنا في الفصل السابق أنها رومية من عائلة قيصر الروم، وقد تحدّثت رواية طويلة عن أسرها من جيش رومي في معركة مع المسلمين وعن هداية إلهية خاصة لنقلها إلى عائلة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإعدادها لحضانة وولادة المهديّ الموعود عجّل اللّه فرجه، وإذا كانت في الرواية بعض الأمور الإعجازية الكاشفة عن التدبير الإلهي المباشر لأمر هذه المرأة فإنّ الاستغراب منها يزول إذا راجعنا القرآن ورأينا أن تدبير اللّه تبارك وتعالى لأمر أم موسى على نبينا و آله وعليه السَّلام قد بلغ مرتبة الإيحاء إليها فيما يرتبط بتوفير الأمور اللازمة لحفظ وليدها، فلا استبعاد أن تقتضي الحكمة الإلهية تكرار طريقة ولادة وحفظ نبيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبأساليب أخرى تناسب اختلاف الظروف، مع وليه الإمام المهديّ عجّل اللّه فرجه وهو المكلف بالمهمة الإصلاحية الكبرى التي تحقق جميع أحلام الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) على الصعيد العالمي.
رواة قصة مجيئها :
وقد روى هذه الرواية مجموعة من العلماء الثقات، أمثال الفضل بن شاذان في كتاب الغيبة، ومحمّد بن هبة اللّه الطرابلسي في كتابه الغيبة، والشيخ الصدوق في كمال الدِّين والشيخ الطوسيّ في كتاب الغيبة، والشيخ الطبري في دلائل
ص: 344
الإمامة (1)، بألفاظ مختلفة ومعاني متقاربة. ننقل هنا رواية الطبري وهو أشمل الروايات، قال (رَحمهُ اللّه):
ص: 345
وقد تناول عدد من العلماء رواية وصول والدة الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) المتقدمة بالبحث والتعليق والإجابة على الاعتراضات التي يمكن أن ترد عليها نختار منها تعليقتين اثنتين من العلماء المجتهدين هما : آية اللّه السيّد محمّد هادي الميلاني وآية اللّه السيّد محمّد الصدر.
تعليقة السيّد الميلاني :
يقول السيّد الميلاني في كتابه «قادتنا كيف نعرفهم ؟» و تحت عنوان : العناية الإلهية في إختيار أمّ الإمام:
وإذ ندقّق النظر في هذه الرواية نجد في هذه الجارية التي أراد اللّه لها أن تكون
ص: 346
أماً للإمام الثاني عشر أربعة أوصاف يندر وجود واحد منها فضلاً عن المجموع في جارية مسبية لا تعرف من الإسلام شيئاً، وهذه الصفات هي :
1 - تنطق العربية جيداً.
2 - تمتنع من السفور، ولا ترضى بأن يلمسها أحد.
3 - لا توافق على بيعها من أي مشتركان، بل تطلب من البائع أن يكون لها حقّ اختيار المشتري حتّى يسكن قلبها إلى أمانته وديانته.
4 - أنها رغبت في الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأصرت على ذلك، وهدّدت بقتل نفسها إن لم يبعها منه.
وأعجب من هذا كله أنها بعد أن يستقر بها المقام في بغداد تخرج كتاب الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وتضعه على خدّها و تمسح به على عينيها، فيستغرب بشر النخّاس من عملها هذا ويقول لها : أتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه ؟!
كلّ هذا وسائر ما ورد في القصة يدلنا على عناية إلهية خاصة في هذا الشأن. حيث يختار اللّه تعالى الوعاء الطاهر للذرية المباركة، فصلوات اللّه عليهم أجمعين
قد يذهب بعض المعاندين إلى التشكيك في هذه الحوادث بنفي وقوع حرب بين المسلمين والمشركين في الأزمنة المعاصرة لولادة المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ). وليس ذلك إلّا لجهلهم بالتاريخ، مضافاً إلى العناد والعداء للحق، فمن المسلم به أن حرباً عظيمة وقعت بين المسلمين والمشركين في الأندلس (وكانت جزء من الروم، في ذلك التاريخ) سنة (251ه_) كان نتيجتها قتل عدد كبير من المشركين وأسر آخرين منهم.
ص: 347
وحيث دلّت الرواية على أن سبي ابنة يشوعا ابن ملك الروم حصل في حياة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهو الّذي بعث بشراً النخاس لشراء الجارية المسبية مع الأوصاف المتقدّمة، وزوجها من ابنه الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإذا علمنا أن وفاة الإمام علي الهادي كانت سنة (254ه_) اتّضح جليّاً التطابق الزمني بين هذه الرواية والتاريخ المذكور.
فمن المحتمل وصول هذه الوجبة من الأسرى إلى بغداد سنة (252ه_) وتزويج الإمام الهادي مليكة (أو نرجس) من ابنه الإمام الحسن العسكريّ في تلك السنة أو بعدها، وولادة المهديّ عجّل اللّه فرجه في (255ه_).
قال ابن الأثير فى الكامل في حوادث سنة (251ه_):
ذكر غزو الفرنج بالأندلس : في هذه السنة سير محمّد بن عبدالرحمن الأموي صاحب الأندلس جيشاً مع ابنه المنذر إلى بلاد المشركين في جمادى الآخرة، فساروا وقصدوا الملّاحة، وكانت أموال لُذريق بناحية ألبة والقلاع، فلمّا عمّ المسلمون بلدهم بالخراب والنهب جمع لذريق عساكره، وسار يريدهم، فالتقوا بموضع يقال له فج المركوين، وبه تعرف هذه الغزاة، فاقتتلوا، فانهزم المشركون إلا أنهم لم يبعدوا واجتمعوا بهضبة بالقرب من موضع المعركة فتبعهم المسلمون وحملوا عليهم، واشتدّ القتال فولّى الفرنج منهزمين لا يلوون على شيء، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
وكانت هذه الوقعة ثاني عشر رجب، وكان عدد ما أخذ من رؤوس المشركين ألفين وأربعمائة واثنين وتسعين رأساً، وكان فتحاً عظيماً وعاد المسلمون (1).
ص: 348
1 - إنّ الواقع التأريخي المدوّن لا يتنافى مع مضمون الرواية فيما يرتبط بانتقال والدة الإمام المهديّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) إلى بلاد المسلمين بل يؤيدها، سواء أخذنا برواية الحرب بين الروم والمسلمين التي نقلها السيّد الميلاني أو التي نقلها السيّد الصدر، وإن كانت رواية السيّد الصدر أكثر رجحاناً لخروج ملك الروم في الحرب المذكورة فيها الأمر الّذي يسهل خروج السيّدة والدة الإمام مع سائر أفراد العائلة المالكة في الجيش الرومي، يُضاف إلى ذلك أنّ عدم خروج الملك
ص: 349
وحاشيته مع الجيش يجعل عليها من الصعب الخروج مع الجيش بسبب الرقابة التى كانت تُفرض على أفراد العائلة الملكية عادةً.
2 - من الملاحظ في هذه الرواية أنها تتحدث عن رعاية إلهية واضحة لهذه السيّدة الجليلة واختيارها لتكون أماً للمهدي الموعود عجّل اللّه فرجه الّذي يحقق اللّه على يديه أحلام الأنبياء جميعاً ويظهر الإسلام على الدين كله فيقيم الدولة الإلهية العادلة فى كلّ الأرض. على ضوء هذا الدور التأريخي الخاص بالإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يمكن أن نفهم سرّ اختيار امرأة رومية بل من بطن عاصمة الروم لتكون أُمّاً لهذا القائد التأريخي المنتظر، ثمّ نفهم سرّ إحاطتها بكلّ هذه الرعاية والإعداد التربوي الخاص لهذه الأمومة.
إن من المعلوم أن الديانة المسيحية هي الديانة السماوية الأولى في العالم من جهة كثرة أتباعها، لذلك فإنّ من الضروري إيجاد عوامل معينة لمناصرة أتباعها للمهدي المنتظر عجل اللّه فرجه عند ظهوره، ولذلك لاحظنا في التخطيط الإلهي لنجاح مهمّة الإمام المهديّ عجّل اللّه فرجه ادّخاره نبيّ اللّه عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) للنزول عند ظهور الإمام المهديّ لكي يصلي خلفه ويكسر الصليب ويرفع النصاري عن انحراف القول بتأليهه ويهديهم لاتّباع خاتم أوصياء نبي الشريعة الخاتمة النبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ويصبح وزيراً للمهدي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) التي صرّحت بذلك الكثير من الأحاديث الشريفة المروية في صحاح أهل السنّة - وقد نقلنا نماذج منها في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة - وكذلك في الأحاديث الشريفة المروية من طرق أهل
ص: 350
البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، يُضاف إلى ذلك إيمان النصارى أنفسهم بعودة المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) في آخر الزمان، وواضحٌ أن الهدف من دور عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو مناصرة المهديّ عجّل اللّه فرجه ليلتحق به أتباع أكبر الديانات بأقل مقدار ممكن من الخسائر والمعارضة وأكبر حجم ممكن من حجج الإقناع والهداية.
وفي إطار هذا التخطيط الإلهي وللّهدف نفسه جاء اختيار والدة المهديّ المنتظر عجّل اللّه فرجه من قلب أصل رومي ومن قلب العاصمة الرومية التي تحظى باحترام خاص لدى النصارى وتضم مقرّ زعامتهم الروحية «الفاتيكان»، إذ أنّ من الواضح أن هذا الاختيار يوجد لدى النصارى إحساساً بانتماء المهديّ المنتظر (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليهم بسبب هذه الوشيجة الناتجة من رومية أُمّه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، ولهذا الإحساس دور مؤثّر ومعروف في المساعدة في استجابتهم لمهمته الإصلاحية الكبرى، يُضاف إلى العوامل الأخرى فهو يبعث حالة التعاطف الفطري مع من ينتمي إليه برحم، وفي حالات زواج الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) النظائر مشابهه في أهدافها لهذا الهدف.
نقطة أخيرة من الضروري الإشارة إليها هنا وهي أن الأصل الرومي لوالدة الإمام المهديّ عجل اللّه فرجه منصوص عليه في أحاديث أخرى غير الرواية المتقدمة.
3 - ورد في بعض الروايات الشريفة ذكر عدة أسماء لوالدة الإمام المهديّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، منها حديث رواه الفضل بن شاذان في كتاب الغيبة، سيأتي نصّه في روايات قصة الولادة لاحقاً وفيه يذكر الإمام العسكريّ ولادة ابنه المهديّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ثمّ يقول : أمّه مليكة يُقال لها بعض الأيام سوسن، وفي بعضها
ص: 351
ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضاً من أسمائها. ويعلّق آية اللّه الشيخ النوري على هذا الحديث بقوله : ومن هذا الخبر يتبين وجه الاختلاف في أسمها سلام اللّه عليها فهي تسمّى بجميع هذه الأسماء الخمسة (1).
وهذا النصّ يفسّر بوضوح اختلاف الروايات في ذكر اسمها لتعدّده في الواقع، فلا يمكن القدح في هذه الروايات بسبب ذلك، إلّا أنّ الأمر المهمّ هنا هو معرفة سبب هذا التعدّد، فالّذي يبدو أن ثمة حكمة خاصة فيما يرتبط بهذه السيّدة الجليلة بحكم كونها ستصبح أماً للإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي كانت السلطات العبّاسية تسعى لمنع ولادته أو مطاردته وقتله بعد ولادته، فجاء التخطيط لإطلاق عدة أسماء عليها وتبديلها بين الحين والآخر للتعمية على السلطات العبّاسية جواسيسها، ولأجل أن يختلط في ذهن السلطان أمر معرفة والدة المهديّ الحقيقية فتتوهّم أنّ تعدد الأسماء يعني تعدّد صاحباتها. وعليه يتضح وهن استناد بعض المنكرين لأمر ولادة الإمام المهديّ عجّل اللّه فرجه على ادّعاء اختلاف الروايات في اسم والدته (2).
وثقة رواية أخرى تكمل مضمون الرواية السابقة وتتحدث عن كيفية انتقال والدة الإمام المهديّ إلى والده الإمام العسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وهي تشتمل على عرض لقصة الولادة وقد رواها الطبري في دلائل الإمامة والشيخ الصدوق في كمال الدین، ننقل هنا رواية الطبري ثمّ ننقل رواية الصدوق ضمن رواياته عن كيفية الولادة.
ص: 352
2 - روى الطبري في دلائل الإمامة قال: أخبرني أبو الحسين محمّد بن هارون قال : حدَّثني أبي قال : حدَّثنا أبو علي محمّد بن همام قال : حدَّثنا جعفر بن محمّد قال : حدَّثنا محمّد بن جعفر عن أبي نعيم عن محمّد بن القاسم العلوي قال : دخلنا جماعة من العلوية على حكيمة بنت محمّد بن علي بن موسى فقالت : جئتم تسألوني عن ميلاد ولی اللّه ؟ قلنا : بلى واللّه.
قالت : كان عندي البارحة وأخبرني بذلك وأنه كانت عندي صبية يقال لها : نرجس وكنت أربيها من بين الجواري ولايلى تربيتها غيري، إذ دخل أبو محمّد عليّ ذات يوم فبقي يلح النظر إليها، فقلت : ياسيّدي هل لك فيها من حاجة ؟ فقال : إنا معشر الأوصياء لسنا ننظر نظر ريبة ولكنّا ننظر تعجّباً أن المولود الكريم على اللّه يكون منها. قالت : قلت : ياسيّدي فأروح بها إليك ؟ قال : استأذني أبي في ذلك.
قصرت إلى أخي، فلما دخلت عليه تبسّم ضاحكاً وقال : يا حكيمة جنت تستأذنيني في أمر الصبية ؟ ابعثي بها إلى أبي محمّد فإن اللّه عزّوجلّ يحبّ أن يشركك في هذا الأمر. فزينتها وبعثت بها إلى أبي محمّد، فكنت بعد ذلك إذا دخلت عليها تقوم فتقبل (فأقبل ظ) رأسها وتقبل يدي وأقبل رجلها وتمدّ يدها الى خفّي لتنزعه فأمنعها من ذلك فأُقبل يدها إجلالاً وإكراماً للمحلّ الّذي أحلّه اللّه فيها، فمكث بعد ذلك إلى أن مضى أخي أبو الحسن فدخلت على أبي محمّد ذات يوم فقال : يا عمّتاه فإنّ المولود الكريم على اللّه ورسوله سيولد ليلتنا هذه، فقلت : ياسيّدي في ليلتنا هذه ؟ قال : نعم.
فقمت إلى الجارية فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها حملاً، فقلت : ياسيّدي ليس بها حمل، فتبسّم ضاحكاً وقال : يا عمتاه إنا معاشر الأوصياء ليس يحمل لنا في
ص: 353
البطون ولكنا نحمل في الجنوب، فلمّا جنّ الليل صرت إليه فأخذ أبو محمّد محرابه فأخذت محرابها فلم يزالا يُحييان الليل وعجزت عن ذلك مرّة أنام ومرّة أُصلي إلى آخر الليل، فسمعتها آخر الليل لما انفتلت من الوتر مسلّمة صاحت : يا جارية الطست فجاءت بالطست فقدّمت إليها فوضعت صبياً كأنه فلقة على ذراعه الأيمن مكتوب «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً» وناغاه ساعة حتّى استهلّ وعطس وذكر الأوصياء قبله حتّى بلغ إلى نفسه ودعا لأوليائه على يده بالفرج، ثمّ وقعت ظلمة بيني وبين أبي محمّد فلم أرّه.
فقلت : يا سيّدي أين الكريم على اللّه ؟ قال : أخذه من هو أحقّ به منكِ، فقمت وانصرفت إلى منزلي فلم أرَه، وبعد أربعين يوماً دخلتُ دار أبي محمّد فإذا أنا بصبيٍّ يدرج في الدار، فلم أرَ وجهاً أحسن من وجهه ولا لغةً أفصح من لغته ولا نغمة أطيب من نغمته فقلت : ياسيّدي من هذا الصبي ؟ ما رأيت أصبح وجهاً ولا أفصح لغة منه ولا أطيب نغمة منه، قال : هذا المولود الكريم على اللّه، قلت : ياسيّدى وله أربعون يوماً وأنا لا أرى منه أمره هذا. قالت : فتبسّم ضاحكاً وقال : يا عمتاه أما علمت أنا معشر الأوصياء ننشأ في الشهر ما ينشأ غيرنا في السنة. فقمت فقبلت رأسه وانصرفت إلى منزلي، ثمّ عدت فلم أرَه.
فقلت : يا سيّدي يا أبا محمّد لست أرى المولود الكريم على اللّه قال : استودعناه مَن استودعته أُمّ موسى، وانصرفت وماكنت أراه إلّا كل أربعين يوماً (1).
ص: 354
توقيت اقتران والّذي المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حياة جدّه (عَلَيهِ السَّلَامُ):
إذاً، يتضح أنّ هذه الرواية مؤيدة للرواية الأولى واتفاقهما يكفي في الإثبات التأريخي لقصة اقتران والّذي الإمام المهديّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) كما تقدم، والتأريخ المستفاد من الرواية الثانية للاقتران المبارك هو الأيام الأخيرة من حياة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أي في سنة (254ه_). ولهذا التأريخ أهمية خاصة، إذ أنّ من المعلوم أن اهتمام السلطة العبّاسية كان منصباً على مراقبة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتضييق عليه لأنّ الإمامة كانت له واهتمام السلطة كان ينصب على زعيم أهل البيت في كل
ص: 355
عصر، لذلك فإن مراقبتها للإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت أقل في حياة أبيه خاصّة وإن الواقع التأريخي يشهد بأن هوية الإمام بعد الإمام الهادي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لم تكن معروفة بل إنّ معظم الأنظار كانت متوجهة إلى العبد الصالح السيّد الجليل محمّد بن علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كخليفة لوالده.
وقد كان الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوليه اهتماماً خاصاً جعل الكثيرين يتوهمون أنه هو الإمام بعد أبيه، والهدف من ذلك صرف الأنظار عن الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) حفظاً لحياته وحفظاً لبقاء نسل الإمامة في بقية اللّه ابن الحسن العسكريّ المهديّ المنتظر عجّل اللّه فرجه، ولذلك لم ينص الإمام الهادي على إمامة ولده العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلّا في الأيّام الأخيرة من حياته الشريفة ولخواصّ أصحابه كما هو مسجّل في التأريخ، حتّى أن بعض الشيعة ظلوا مترددين في إمامته حتّى بعد وفاة أبيه الإمام الهادي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) (1).
ولكن إيجاد هذه الحالة من التردّد كان أهون وأقل ضرراً بالنسبة لحفظ الإسلام - بحفظ استمرار نسل الإمامة - من توجيه الأنظار نحو الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وتعريضه لخطر المراقبة والمضايقة التصفوية من قبل السلطات العبّاسية، ونلاحظ هنا أن السيّد محمّد بن علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد توفّي في حياة أبيه بعد أن توجّهت الأنظار كخليفةٍ له وبملاحظه صغر سنه عند وفاته، لا يستبعد أن تكون وفاته غير طبيعية وبفعل دس السم إليه من قبل السلطات العبّاسية، فتكون شهادته - بناءً على هذا الاحتمال - قرباناً لحفظ حياة أخيه العسكريّ وابنه المهديّ لاحقاً (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) جميعاً.
ص: 356
والأمر نفسه يصدق على الاختلاف في اسم والدته، فهذا الأمر حاصل من عدد من الأئمّة قبله كالإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) الي الّذي اختلف المؤرخون في اسم والدته، وغيره كثير من رجالات الإسلام، دون أن يستدلّ به أحد - حتّى هؤلاء الّذين أنكروا ولادة المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - على إنكار ولادات رجال الإسلام، فلماذا يستدلّون به على إنكار ولادة المهديّ عجّل اللّه فرجه ؟!
على أننا عرفنا في بداية الفصل الخامس أن ثمة حكمة إلهية في تعدّد أسماء والدة الإمام المهديّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ترتبط بدفع شرور السلطات العبّاسية عنها وعن وليدها المرتقب، وأنّ هذه الأسماء المتعدّدة كانت لها جميعاً ولا تعني تعدّد
ص: 357
الشخصيات وأنّ الهدف كان إيهام السلطات العبّاسية بتعدد الشخصيات من خلال تعدّد الأسماء لإخفاء هوية الوالدة الحقيقية للإمام (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).
ص: 358
ص: 359
المعجم الموضوعي
لأحاديث الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
بقلم
علي الكوراني العاملي
الطبعة الثانية 1427
ص: 360
ورد تعبير (ابن خيرة الإماء) عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حق الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي حق جده الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأمّه أمّةٌ نوبية سوداء (رضي اللّه عنها) ولذا كان أسمر شديد السمرة، فاستغلت ذلك السلطة زمن هارون للنيل من الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قبل أن يجبره المأمون أن يكون ولي عهده، وأشاعت أن ولده الوحيد محمّد الجواد ليس ابنه لأنه ليس أبيض مثله ! وجاؤوا بالقافة فحكم القافة بأنه ابنه قنصره اللّه على الكذابين ! (قال عمه علي بن جعفر في قصة حكم القافة وتكذيبهم ادعاء المفترين: فقمت فمصصت ريق أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ قلت له: أشهد أنك إمامي عند اللّه ! فبكى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ قال: يا عم ! ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): بأبي ابن خيرة الإماء، ابن النوبية الطيبة الفم، المنتجبة الرحم، وَيلَهم، لعن اللّه الأعَيبس وذريته صاحب الفتنة، ويقتلهم (ابنه ابن خيرة الإماء) سنين وشهوراً وأياماً يسومهم خفاً ويسقيهم كأساً مصيرة، وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك أي واد سلك؟! أفيكون هذا يا عم إلا مني؟ فقلت: صدقت جعلت فداك). الكافي: 322/1، والإرشاد /317، وإعلام الورى/330 والبحار: 21/50.
فالمهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن خيرة الإماء وجده الجواد ابن خيرة الإماء، والمهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الطريد الشريد صاحب الغيبة، وهو المعني بكلام النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنه المنتقم من خط الضلال الّذي أسسه بنو أمية ومشى عليه بنو الأعيبس أي العبّاس.
ويظهر أن قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): (بأبي ابن خيرة الإماء) كان معروفاً حتّى ادعى بعضهم انطباقه على زيد الشهيد (رَحمهُ اللّه)، ففي النعماني / 229، عن أبي الصباح قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لي: ما وراءك؟ فقلت: سرور من عمك زيد، خرج
ص: 361
يزعم أنه ابن سبية وهو قائم هذه الأمة وأنه ابن خيرة الإماء، فقال: كذب ليس هو كما قال، إن خرج قتل). والبحار: 42/51
أقول: التكذيب هنا لادعاء من ادعى أن زيداً هو المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد وردت أحاديث صحيحة عن الإمام الصادق وغيره من الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في مدح زيد الشهيد وعلو مقامه وأنه دعا إلى مقاومة الظلم وإمامة الرضا من آل محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
ص: 362
كمال الدِّين: 431/2، عن أبي علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارةٌ من جعفر فتزوج بها، قال أبو على: فحدثتني أنها حضرت ولادة السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأن إسم أم السيّد صقيل، وأن أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حدثها بما يجري على عياله فسألته أن يدعو اللّه عز وجل لها أن يجعل منيتها قبله ! فماتت في حياة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و على قبرها لوح مكتوب عليه: هذا قبر
ص: 363
أم محمّد، قال أبو علي وسمعت هذه الجارية تذكر أنه لما ولد السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) رأت له نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأيت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده ثمّ تطير، فأخبرنا أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك فضحك ثمّ قال: تلك الملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود، وهي أنصاره إذا خرج). وثاقب المناقب / 254، والصراط المستقيم: 234/2، وإثبات الهداة: 668/3، وتبصرة الولي / 764، والبحار : 5/51.
***
غيبة الطوسيّ / 147: وروي أن بعض أخوات الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت لها جارية ربتها تسمي نرجس فلما كبرت دخل أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فنظر إليها فقالت له أراك يا سيّدي تنظر إليها؟ فقال: إني ما نظرت إليها إلا متعجباً، أما إن المولود الكريم على اللّه تعالى يكون منها ثمّ أمرها أن تستأذن أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دفعها إليه ففعلت فأمرها بذلك). وروضة الواعظين: 257/2، وثاقب المناقب /84، والعدد القوية /72، وإثبات الهداة: 365/3.
***
كمال الدِّين: 433/2، عن محمّد بن عثمان العمري قدس اللّه روحه أنه قال ولد السيّد مختوناً، وسمعت حكيمة تقول: لم ير بأمه دم من نفاسها وهكذا سبيل أمهات الأئمّة. وعنه حلية الأبرار: 543/2، والبحار: 16/51.
***
المجموعة النفيسة / 200، ابن الخشاب: وحدَّثني الجراح بن سفيان قال: حدَّثني أبو القاسم طاهر بن هارون بن موسى العلوي، عن أبيه هارون، عن أبيه موسى قال: قال سيّدي جعفر بن محمّد: الخلف الصالح من ولدي المهديّ، اسمه محمّد كنيته أبو القاسم، يخرج في آخر الزمان، يقال لأمه صيقل. قال لنا أبو بكر الزارع: وفي رواية أخرى ، بل أمّه حكيمة. وفي رواية أخرى ثالثة: يقال لها: نرجس. ويقال: بل سوسن واللّه أعلم بذلك. يكنى بأبي القاسم، وهو ذو الاسمين: خلف ومحمّد يظهر في آخر الزمان، على رأسه غمامة تظله من الشمس تدور معه حيثما دار، تنادي بصوت فصيح هذا المهدي). وعنه كشف الغمّة : 265/3، وإثبات الهداة: 597/3 و 618،
ص: 364
والبحار : 24/51.
وتقدم بسند صحيح من كشف الحق / 33، أنها كانت تسمى مليكة وفي بعض الأيام سوسن، وفي بعضها ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضاً من أسمائها). وهو يدل على اضطرار الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لتغيير إسمها، ليضيعه على جاسوسات السلطة.
ص: 365
كمال الدِّين: 426/2، عن محمّد بن عبد اللّه الطهوي قال: قصدت حكيمة بنت محمّد بعد مضي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسألها عن الحجّة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها فقالت لي: أجلس فجلست، ثمّ قالت: يا محمّد إن اللّه تبارك وتعالى لا يخلي الأرض من حجة ناطقة أو صامتة، ولم يجعلها في أخوين بعد الحسن والحسين تفضيلاً للحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وتنزيهاً لهما أن يكون في الأرض عديلهما، إلا أن اللّه تبارك وتعالى خص ولد الحسين بالفضل على ولد الحسن (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) كما خص ولد هارون على ولد موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإن كان موسى حجة على هارون والفضل لولده إلى يوم القيامة، ولابد للأمة من حيرة يرتاب فيها المبطلون ويخلص فيها المحقون كي لا يكون للخلق على اللّه حجة. وإن الحيرة لا بد واقعة بعد مضي أبي محمّد الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)! فقلت: يا مولاتي هل كان للحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولد؟ فتبسمت ثمّ قالت: إذا لم يكن للحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عقب فمن الحجّة من بعده وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فقلت: يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟ قالت نعم كانت لي جارية يقال لها: نرجس فزارني ابن أخي فأقبل يحدق النظر إليها فقلت له: يا سيّدي لعلك هويتها فأرسلها إليك؟ فقال لها: لا يا عمة ولكني أتعجب منها فقلت: وما أعجبك؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): سيخرج منها ولد كريم على اللّه عز وجل الّذي يملأ اللّه به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، فقلت:
ص: 366
فأرسلها إليك يا سيّدي؟ فقال: إستأذني في ذلك أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فسلمت وجلست فبدأني (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: يا حكيمة إبعثي نرجس إلى ابني أبي محمّد قالت: فقلت: يا سيّدي على هذا قصدتك على أن أستأذنك في ذلك ، فقال لي: يا مباركة إن اللّه تبارك وتعالى أحب أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً، قالت حكيمة: فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزينتها ووهبتها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و جمعت بينه وبينها في منزلي فأقام عندي أياماً، ثمّ مضى إلى والده (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ووجهت بها معه. قالت حكيمة: فمضى أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجلس أبو محمد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مكان والده وكنت أزوره كما كنت أزور والده، فجاءتني نرجس يوماً تخلع خفي، فقالت يا مولاتي ناوليني خفك فقلت: بل أنت سيدتي ومولاتي واللّه لا أدفع إليك خفي لتخلعيه ولا لتخدميني، بل أنا أخدمك على بصري، فسمع أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذلك فقال: جزاك اللّه يا عمة خيراً، فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لأنصرف فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا، يا عمتا بيتي الليلة عندنا، فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على اللّه عز وجل الّذي يحيي وجل به الأرض بعد موتها فقلت ممن يا سيّدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل ؟ فقال: من نرجس لا من غيرها، قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها أثر حبل فعدت إليه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبرته بما فعلت فتبسم ثمّ قال لي: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لأن مثلها مثل أم موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهذا نظير موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ). قالت حكيمة: فعدت إليها فأخبرتها بما قال وسألتها عن حالها فقالت: يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا، قالت حكيمة فلم أزل أرقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي لاتقلب جنباً إلى جنب، حتّى إذا كان آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة فضممتها إلى صدري وسميت عليها فصاح أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: إقرئي عليها إنا أنزلناه في ليلة القدر، فأقبلت أقرأ عليها وقلت لها:
ص: 367
ما حالك؟ قالت: ظهر الأمر الّذي أخبرك به مولاي فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما أقرأ وسلم علي قالت حكيمة: ففزعت لما سمعت، فصاح بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا تعجبي من أمر اللّه عز وجل إن اللّه تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حجة في أرضه كباراً، فلم يستتم الكلام حتّى غيبت عني نرجس فلم أرها كأنه ضرب بيني وبينها حجاب فعدوت نحو أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأنا صارخة فقال لي: إرجعي يا عمة فإنك ستجديها في مكانها. قالت: فرجعت فلم ألبث أن كشف الغطاء الّذي كان بيني وبينها وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشى بصري وإذا أنا بالصبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ساجداً لوجهه جائياً على ركبتيه رافعاً سبابتيه، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لاشريك له وأن جدي محمّداً رسول اللّه وأن أبي أمير المؤمنين، ثمّ عد إماماً إماماً إلى أن بلغ إلى نفسه. ثمّ قال: اللّهم أنجز لي ما وعدتني وأتمم لي أمري وثبت وطأتي، وأملأ الأرض بي عدلاً وقسطاً. فصاح بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: يا عمة تناوليه وهاتيه، فتناولته وأتيت به نحوه فلما مثلت بين يدي أبيه وهو على يدي سلم على أبيه فتناوله الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) منى وناوله لسانه فشرب منه ثمّ قال: إمضي به إلى أمّه لترضعه ورديه إلى قالت: فتناولته أمّه فأرضعته، فرددته إلى أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) والطير ترفرف على رأسه فصاح بطير منها فقال له أحمله واحفظه ورده إلينا في كل أربعين يوماً، فتناوله الطير وطار به في جو السماء وأتبعه سائر الطير، قسمعت أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: أستودعك اللّه الّذي أودعته أم موسى موسى فبكت نرجس فقال لها: أسكتي فإن الرضاع محرم عليه إلا من ثديك وسيعاد إليك كما رد موسى إلى أمّه وذلك قول اللّه عز وجل: «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أمّه كَيْ تَقَرَّ عَيْنهَا وَلا تَحْزَنَ». قالت حكيمة فقلت: وما هذا الطير؟ قال: هذا روح القدس الموكل بالأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) يوفقهم ويسددهم ويربيهم بالعلم. قالت حكيمة: فلما كان بعد أربعين يوماً رد الغلام ووجه إلى ابن أخي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فدعاني، فدخلت عليه فإذا أنا بالصبي متحرك يمشي بين يديه، فقلت يا سيّدي هذا ابن سنتين؟ فتبسم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ قال:
ص: 368
إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشؤون بخلاف ما ينشؤ غيرهم، وإن الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، وإن الصبي منا ليتكلم في بطن أمّه ويقرأ القرآن ويعبد ربه عز وجل، وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحاً ومساء. قالت حكيمة فلم أزل أرى ذلك الصبي في كل أربعين يوماً إلى أن رأيته رجلاً قبل مضي أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأيام قلائل فلم أعرفه، فقلت لابن أخي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من هذا الّذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال لي: هذا ابن نرجس وهذا خليفتي من بعدي، وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي. قالت حكيمة قم- فمضى أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد ذلك بأيام قلائل، وافترق الناس كما ترى وواللّه إني لأراه صباحاً ومساء وإنه لينبئني عما تسألون عنه فأخبركم وواللّه إني لأريد أن أسأله عن عن الشئ فيبدأني به وإنه ليرد علي الأمر فيخرج إلي منه جوابه من ساعته من غير مسألتي. وقد أخبرني البارحة بمجيئك إلي وأمرني أن أخبرك بالحق. قال محمّد بن عبد اللّه: فواللّه لقد أخبرتني حكيمة بأشياء لم يطلع عليها أحد إلا اللّه عز وجل، فعلمت أن ذلك صدق وعدل من اللّه عز وجل، لأن اللّه عز وجل قد أطلعه على ما لم يطلع عليه أحداً من خلقه).
كمال الدِّين: 498/2: سعد بن عبد اللّه وحدَّثني أبو جعفر المروزي: عن جعفر بن عمرو قال: خرجت إلى العسكر وأم أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحياة، ومعي جماعة فوافينا العسكر فكتب أصحابي يستأذنون في الزيارة من داخل باسم رجل رجل فقلت لا تثبتوا إسمي فإني لا أستأذن فتركوا إسمي فخرج الإذن: أدخلوا ومن أبي أن يستأذن) ومثله غيبة الطوسيّ /208، والخرائج: 1131/3، وعنه إثبات الهداة: 676/3، وعنهما البحار: 293/51، و 334. والمرجح عندي أن أمّه توفيت في حياة أبيه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وأن أمّه في هذه الرواية هي الجارية المؤمنة صقيل التي كانت أمه تسمى باسمها وقد حبسوها مدة. وقد تقدمت بعض أخبارها رحمها اللّه بمناسبتها في الفصول السابقة.
ص: 369
ص: 370
الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
والد الإمام المهديّ الموعود (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
علی الکوراني العاملي
ص: 371
الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)
والد الإمام المهديّ الموعود (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
بقلم
علی الکوراني العاملي
الطبعة الأولى 1435ه_ - 2014م
ص: 372
صحت الرواية عندنا أن اللّه تعالى جعل أم الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) حفيدة قيصر الروم، وأن أمها من ذرية شمعون الصفا وصي عيسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).
وشمعون هو بطرس، الّذي يقول المسيحيون إنه قُتل في روما، وعلى قبره أقيمت كنيسة القديس بطرس ومركز الفاتيكان.
وتقول روايتنا إنه بقي مع قومه في المنطقة، وكان يتنقل بين طبرية وصور وأنطاكية وبابل، واستشهد في هذه المنطقة، لكن لا نعلم أين بالتحديد، ويوجد قبر في جنوب لبنان يسمى شمع، يقال إنه قبره (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وقد سافر بطرس (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى روما مرات، وبقي ذات مرة سنوات، وآمنت على يده زوجة قيصر، لكنه رجع وبقي مع قومه، وليس عندنا رواية عن أولاده ومن بقي منهم في روما وصار من أهلها.
وقد روى في إثبات الهداة (569/3) عن الفضل بن شاذان (رَحمهُ اللّه) في كتابه إثبات الرجعة: (عن محمّد بن عبد الجبار قال: قلت لسيّدي الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا ابن رسول اللّه جعلني اللّه فداك أحب أن أعلم من الإمام وحجة اللّه على عباده من بعدك ؟ فقال: إن الإمام وحجة اللّه من بعدي ابني سميُّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكنيُّه، الّذي هو خاتم حجج اللّه وآخر خلفائه. قلت: ممن هو يا ابن رسول اللّه؟ قال من ابنة ابن قيصر ملك الروم. ألا إنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة، ثمّ يظهر).
ص: 373
أقول : سند الرواية صحيح بامتياز، لأن الفضل بن شاذان الثقة يرويها عن الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بواسطة واحدة، هو محمّد بن عبد الجبار، وهو ثقة
وهذا يدل على أن والدة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) مليكة أو نرجس من ذرية شمعون الصفا، وصي عيسى، سلام اللّه عليهما، وهي تقوي صحة الرواية المفصلة التالية.
الرواية المعتمدة عندنا في قصتها رواها الصدوق (قدّس سِرُّه) في كمال الدِّين (417/2): عن محمّد بن بحر الشيبانيّ قال: وردت كربلا سنة ست وثمانين ومائتين
ص: 374
1. راوي هذه الرواية العالم المؤلِّف الأديب محمّد بن بحر الشيبانيّ (رَحمهُ اللّه)، وقد تقدم توثيقه، وأن الصدوق (رَحمهُ اللّه) استشهد على عقائد المذهب بفقرات من كتبه. أما سيدنا الخوئي (قدّس سِرُّه) قد فطبق منهجه المتشدد، وَضَعَّفَ الرواية ! قال (224/4): (لكن في سند الرواية عدة مجاهيل، على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لا يمكن إثبات وثاقة شخص برواية نفسه). يقصد بذلك قول الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لبشر بن سليمان الأنصاري: فأنتم ثقاتنا أهل البيت. ويقصد أن ذلك لا يثبت وثاقة سليمان، لأنه هو الّذي رواه.
ص: 375
لكنا لا نقول بصحتها بسبب هذه الفقرة بل بسبب رواية محمّد بن عبد الجبار الصحيحة المتقدمة، وبسبب وثاقة الشيباني، وبسبب ارتضاء الصدوق والقميين لها رغم تشددهم. ولأن دواعي الوضع هنا منتفية.
بل يكفينا لتصحيحها رواية ابن عبد الجبار المتقدمة، ومبنى الشيخ الأنصاري الّذي صحح به رواية استشارة عمر لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الفتوحات وإذنه بها. قال (قدّس سِرُّه) في المكاسب (243/2): «والظاهر أن أرض العراق مفتوحة بالإذن كما يكشف عن ذلك ما دل على أنها للمسلمين. وأما غيرها مما فتحت في زمان خلافة الثاني، وهي أغلب ما فتحت، فظاهر بعض الأخبار كون ذلك أيضاً بإذن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأمره، ففي الخصال في أبواب السبعة في باب أن اللّه تعالى يمتحن أوصياء الأنبياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن، وبعد وفاتهم في سبعة مواطن.. الى أن قال: فإن القائم بعد صاحبه، يعني عمر بعد أبي بكر، كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظر في ذلك غيري... ثمّ قال: وفي سند الرواية جماعة تُخرجها عن حد الإعتبار، إلا أن اعتماد القميين عليها وروايتهم لها، مع ما عُرف من حالهم لمن تتبعها من أنهم لا يخرجون في كتبهم رواية في راويها ضعف إلا بعد احتفافها بما يوجب الإعتماد عليها جابرٌ لضعفها في الجملة).
فهذا كافٍ في تصحيح رواية مليكة رضي اللّه عنها. فكيف إذا أضفنا اليه الصحيحة المتقدمة عن محمّد بن الجبار، وهي بنفسها كافية لتصحيحها.
ص: 376
2. تدل رواية مليكة على المستوى العلمي والعقلي الجيد لبشر الأنصاري (رَحمهُ اللّه) لأنه لم يحدث الشيبانيّ حتّى امتحنه واطمأن الى أنه عالم موال (قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفح الروايات منها :قال: صدقت. أنا بشر بن سليمان..).
3. ما وصفته مليكة من سقوط الزينة والصلبان والعريس من المنصة، وتكرار ذلك مع العريس الثاني الّذي أرادوها لها، كان آية ربانية لقيصر ليفهم أن هذا العمل نحسٌ فيتركه، وقد فَهم ذلك وتركه. وقد رأيتُ بعض النواصب يسخر من قصة نرجس (رضي اللّه عنها)، وفي نفس الوقت يؤمن بكرامات لابن تيمية أعظم منها، ويأتمُّ بمن لا يعقل الخطاب والجواب !
4. كانت تسمى مليكة، ونرجس، وسوسن، وريحانة، وصقيل. (كشف الحق / 33). وسبب هذا التعدد أن الخليفة وظف جاسوسات يأتينه بأخبار بيت الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن هي حامل من نسائه. وقد زادت رقابتهم على الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) لما اقترب الأمر من الإمام الثاني عشر، لأنه الموعود (عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي يُنهي دولة الظالمين.
1. اتفقت الروايات على أن وصول نرجس الى الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان محفوفاً بالكرامات، وكذا زواجه بها، وحملها وولادتها الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وقد حفظ اللّه وليه من تجسس الخليفة المشدد، وروت عمته حكيمة بنت الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولادته (عَلَيهِ السَّلَامُ) بروايات متعددة.
ص: 377
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا. قالت حكيمة دخلت على أبي محمّد بعد أربعين يوماً من ولادة صاحب الأمر، فإذا مولانا الصاحب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يمشى في الدار فلم أر لغة أفصح من لغته، فتبسم أبو محمّد: إنا معاشر الأئمّة ننشأ في يوم كما ينشأ غيرنا في السنة. قالت : ثمّ كنت أسأل أبا محمّد عنه بعد ذلك فقال: استودعناه الّذي استودعت أم ولدها).
روى في كمال الدِّين: 431/2: (عن أبي علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارّةً من جعفر فتزوج بها، قال أبو علي : فحدثتني أنها حضرت ولادة السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأن إسم أم السيّد صقيل، وأن أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حدثها بما يجري على عياله فسألته أن يدعو اللّه عز وجل لها أن يجعل منيتها قبله ! فماتت في حياة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعلى قبرها لوح مكتوب عليه: هذا قبر أم محمّد. قال أبو علي: وسمعت هذه الجارية تذكر أنه لما ولد السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) التي رأت له نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأيت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده ثمّ تطير، فأخبرنا أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك فضحك ثمّ قال: تلك الملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود، وهي أنصاره إذا خرج).
أقول: يتضح بهذا الطلب شفافية روح والدة الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعمق مشاعرها، فاختارت أن يميتها اللّه تعالى في حياة زوجها الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنها لا تتحمل وحشية السلطة التي أخبرها بها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأرادت أن تتشرف بصلاته عليها ودفنها بيده، لتكون أمامه في الآخرة.
ص: 378
بُحُوث علميّة في القضيّة المهدويَّة
دراسة تحليليَّة جدیدة
في مَوضُوعَاتِ خَاصَّةٍ بقضيَّةِ الإِمَامِ المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
الجزء الأول
بحوث في شخصيَّةِ الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وَعَصْرِ الغيبة
تأليف
آية ا... الشيخ نجم الدين الطبسي
مراجعة
الشيخ صفاء الدين الخزرجي، الشيخ محسن المحقق
إصدارات مؤسسة الدليل
للدراسات والبحوث العقدية
ص: 379
هويّة الإصدار
اسم الإصدار: بحوثٌ علميةٌ في القضيّة المهدويَّة ج1
المؤلِّف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الإشراف العلميّ: المجلس العلميّ في مؤسسة الدليل
الدعم الفنّيّ: شعبة العلاقات العامّة والإعلام في مؤسّسة الدليل
التقويم اللغويّ: علي گيم
تصميم الغلاف: محمّد حسن آزادگان
الإخراج الفنّيّ: فاضل السوداني
المطبعة: دار الوارث للطباعة والنشر / كربلاء المقدسة
الطبعة: الثانية
سنة النشر: 2019
الناشر: مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقديّة
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنيّة العراقيّة 458 لسنة 2018
حقوق الطبع والنشر محفوظة لدى مؤسّسة الدليل
Al-Daleel Foundation
http://aldaleel-inst.com www.facebook.com/aldaleel.ins
ص: 380
ص: 381
يحاول البعض التشكيك في العقيدة المهدويَّة من خلال التشكيك في بعض ما يرتبط بها من أحداث وتفاصيل من قبيل قضية أم الإمام صاحب العصر (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) السيّدة نرجس وانتقالها من بلاد الروم إلى العراق، والرواية الّتي تتحدّث عن السيّدة نرجس من الروايات الشائعة كثيرًا، وفي البداية سوف ننقل لهذه الرواية من مصادرها الرئيسة، ثمّ نقوم بتحقيقٍ حول شخصَيْن كان لهما دورٌ أساسٌ في نقل هذه القصة، وفي نهاية المطاف نحاول أن نجيب عن بعض الإشكالات السندية والدلالية الّتي قد ترد على هذه الرواية.
ص: 382
إِنَّ أَوّل مَن نقل هذه الرواية هو الشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه) في كتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة)، والظاهر أنَّ نقل الشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه) متقدّمٌ على نقل الآخرين، وقد نقلها بهذا السند : «حدَّثنا محمّد بن عليٍّ النوفليّ، قال: حدَّثنا أبو العبّاس أحمد بن عيسى الوشّاء البغداديّ، قال: حدَّثنا أحمد بن طاهر القمّي، قال: حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن بحر الشيبانيّ...» (1).
إنَّ المصدر الثاني الّذي أورد هذه الرواية هو كتاب (دلائل الإمامة) لمحمّد بن جرير الطبريّ الإماميّ لكن مع تفاوتٍ بين سنده وسند (كمال الدِّين).
يقول الطبريّ: «حدَّثنا المفضّل محمّد بن عبد اللّه بن المطّلب الشيبانيّ سنة خمسٍ وثمانين وثلاثمئةٍ، قال حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن يحيى الذهبيّ الشيبانيّ، قال: وردتُ كربلاء سنة ستٍّ وثمانين ومئتين» (2).
ص: 383
والملاحظ هنا أنَّ تأريخ نقل هذه القصة كما ذكر في (دلائل الإمامة) كان قرابة المئة سنة بعد تأريخ سماع الشيبانيّ هذا الأمر من بشر بن سليمان؛ لذا يأتي هذا السؤال: هل أنَّ محمّد بن يحيى الذهبي الشيبانيّ هو محمّد بن بحرٍ الشيبانيّ نفسه الّذي ورد في كتاب (كمال الدِّين)، أو أنَّهما مختلفان؟ وبعبارة أخرى: هل هما متَّحدان أو ليسا كذلك؟
ثمرة البحث: بناءً على القول باتّحاد الرجلَيْن، وأنَّ هذين الاسمين هما إشارةٌ إلى واحدٍ، فهذا معناه أنَّ الطبريّ قد نقل القصة بواسطة واحدة عن هذا الرجل، وهذا الأمر بعيد؛ لأنّه في هذه الصورة سيكون أحدهما - أي المفضّل أو محمّد بن يحيى - من المعمّرين وهم الّذين عمّروا طويلا جدًّا كما هو حال كثيرٍ من المعمِّرين المعروفين في كتب الرجال والتراجم
طبعًا لا يمكن القطع بعدم الاتحاد بينهما والقول بأنَّ محمّد بن يحيى ليس محمّد بن بحر نفسه الوارد في سند كتاب (كمال الدِّين)، أو أنَّ المفضّل لا يمكن أن ينقل عنه بدون واسطة كيف وهناك أناس كانوا من المعمرين وأدركوا أجيالا عديدة وعاصروا أبناء الأبناء! وكمثال على ذلك نحاول أن نذكر بعضا منهم.
عاشت حُبابة الوالبيّة في حياة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبقيت على قيد الحياة حتّى زمن الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكان عمرها في زمن الإمام الرابع
ص: 384
حوالي 11 عامًا، وقصتها معروفةٌ، إذ رجعت شابّةً بإشارةٍ من الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ بقيت إلى أيام الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعاد شبابها مرّةً ثانيةً بإعجاز منه، ما يعني أنّها عمّرت وعاشت ما يقارب 235 عامًا أو أكثر (1).
ذلك الصحابي الجليل القدر الّذي صحب النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وعمّر إلى زمان الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، كما أن أباه عبد اللّه عاش أكثر من مئتي سنةٍ (2).
كان من أصحاب النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وعمَّر أكثر من مئة عامٍ (3).
وهناك الكثير غيرهم، لا سيما من صحابة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكانوا من المُعمِّرين وتوفّوا عن أعمارٍ طويلةٍ.
ص: 385
والجدير بالذكر هنا هو أنَّ هذا الرجل (الشيباني) لم يذكر في المعمرين ولم يعدّ في الكتب من جملتهم ؛ لذا فمن المحتمل أن يكون هناك أفرادٌ ورواةٌ بين المفضّل محمّد بن عبد اللّه بن المطلب الشيباني، وبين محمّد بن يحيى الذهبي الشيبانيّ قد سقطوا من السند فلم ترد أسماؤهم هنا.
والحقيقة أن المتتبع لا يعثر على أي إشارة إلى أن هناك أسماء رواةٍ قد سقطت من السند.
حينما نراجع كتاب (الغيبة) للنعماني فإنّنا لا نجد أثرًا لهذه الرواية، والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن يُستنتج ضعف هذه الرواية بسبب عدم إيراده لها في كتابه؟
فنقول في الجواب: بالنظر إلى مقدّمة النعمانيّ في كتاب (الغيبة) يُعلم أنّه لم يقصد من وراء تأليف كتابه هذا أن يجمع جميع الروايات الخاصة بالمقام كافةً، فقد صرّح بنفسه بأنَّ الروايات التي أوردها في كتابه لا شيء مقايسةً بتلك التي لم ينقلها، والأمر المسلّم أنَّ النعمانيّ إنّما كان بناؤه على نقل الروايات المتعلقة بموضوع الغَيبة فقط، حيث قال: وقد جمعت في هذا الكتاب ما وفّق اللّه لجمعه من الأحاديث التي رواها الشيوخ عن أمير المؤمنين والأئمّة الصادقين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في الغيبة وغيرها مما سبيله أن يضاف إلى ما روي فيها بحسب ما حضر في الوقت ؛ إذ لم يحضرني جميع ما رويته في ذلك
ص: 386
لبعده عنّي، وأنّ حفظي لم يشمل عليه. والّذي رواه الناس من ذلك أكثر وأعظم ممّا رويته، ويصغر ويقلّ عنه ما عندي» (1).
إنَّ المصدر الثالث الّذي يمكن أن نجد فيه هذه الرواية هو كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسيّ (رَحمهُ اللّه)، إذ تقلت الرواية في هذا الكتاب بشكل دقيق تماما كما نُقلت في كتاب (كمال الدِّين) للشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه)، لكنّ سند کتاب (الغَيْبة) يتفاوت مع سند رواية كتاب (كمال الدِّين) (2).
إنَّ كتاب (روضة الواعظين) لابن فتال النيشابوري (المتوفّى 508 ه_) هو أحد الكتب الّتي نجد فيها هذه الرواية أيضًا، إذ يقول: «أخبرني جماعةٌ...»(3).
ويُلاحظ هنا - في هذا الكتاب - أنّه أورد اسم أبي المفضّل، لكنّه في كتاب (الدلائل) وردّ بعنوان المفضّل، حيث قال: «نقل أبو المفضّل الشيبانيّ عن محمّد بن بحر بن سهل الشيبانيّ....» وبناءً عليه يكون محمّد بن بحر هنا مشتركا مع الرجل في سند (كمال الدِّين)، وهو ينقل القصّة أيضًا عن بشر بن سليمان.
ص: 387
من المصادر الناقلة لهذه الرواية أيضًا هو كتاب (مناقب آل أبي طالب) للعلّامة ابن شهر آشوب (رَحمهُ اللّه) (المتوفّى 588 ه_)، حيث نقل هذه الرواية عن بشر بن سليمان، ثمّ أوردها بشكلٍ مختصرٍ (1).
عبد الكريم النيلي (المتوفّى في القرن التاسع الهجري) في كتاب (منتخب الأنوار المضيئة) نقل هذه الرواية عن كتاب (كمال الدين) للشيخ الصدوق (2).
كذلك في كتاب (حلية الأبرار) للسيّد هاشم البحرانيّ، فقد نقل هذه الرواية بسندين: أحدهما عن مسند فاطمة لمحمّد بن جريرٍ بن جرير الطبريّ وثانيهما عن كتاب (كمال الدِّين) (3).
ص: 388
نقل الشيخ محمّد بن الحسن المعروف بالحرّ العاملي في كتاب (إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات) هذه الرواية في أكثر من موضع لكنّ سندها يرجع إلى ما في (الغيبة) للشيخ الطوسيّ أو إلى (كمال الدِّين) (1).
ذكر هذه الرواية العلّامة محمّد باقر المجلسي في (بحار الأنوار)، ونقلها تارةً عن كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسيّ (رَحمهُ اللّه)، وأخرى عن كتاب (كمال الدِّين) (2).
أمّا في مجال التحقيق السندي لهذه الرواية فنكتفي بتحقيق حال رجُلين مهمَّين ذُكرا في سندها ونستغني عن الأسماء الأخرى؛ حيث إنَّ عمدة الإشكالات متوجّهةً إلى هذين الرجُلَين:
ص: 389
قال السيّد الخوئي (رَحمهُ اللّه): «بشر بن سليمان النخاس: من ولد أبي أيوب الأنصاري، روى الصدوق في (كمال الدِّين)... روايته عن أبي الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما يرجع إلى نرجس أمّ القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، وفيها قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنتم ثقاتنا أهل البيت وإنّي مُزكِّيك ومُشرفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة... لكنّ في سند الرواية عدّة مجاهيل على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لا يمكن إثبات وثاقة شخص برواية نفسه» (1).
وهذا يعني أنّه حتّى لو سلمنا حل الإشكال في محمّد بن بحرٍ وبشر بن سليمان، لكن يبقى أنَّ في طريق الشيخ الطوسيّ (رَحمهُ اللّه) أفرادًا آخرين مجهولين.
كما أنَّ الإمام الخميني (رَحمهُ اللّه) يرى هذا المبنى أيضًا، وحاصله : أنَّ نقل الوثاقة من الراوي نفسه هو سببٌ لسوء الظنّ به. ولهذا نص عبارته (رَحمهُ اللّه) نقلا عن الأستاذ الشيخ جعفر سبحاني: «إذا كان ناقل الوثاقة هو نفس الراوي، فإنّ ذلك يُثير سوء الظنّ؛ حيث قام بنقل مدائحه وفضائله في الملإ الإسلاميّ» (2).
ص: 390
والحاصل : أنَّ للسيّد الخوئيّ (رَحمهُ اللّه) مع إشكالين على السند:
الأوّل: أنَّ في طريق الشيخ الطوسيّ وسنده عدة مجاهيل.
الثاني: أنَّ وثاقة بشرٍ غير محرزةٍ، كيف وهو الراوي لوثاقة نفسه، ولهذا ما يستلزم الدور.
نقل المحقَّق الشيخ محمّدتقي التستري في (قاموس الرجال) كلام الوحيد البهبهانيّ عن بشرٍ، وحاصله أنه من ولد أبي أيّوب الأنصاريّ، وكان من محبّي الإمامين الهادي والعسكريّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وقد أعطاه الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمرًا بشراء أمّ القائم السيّدة نرجس (رضیَ اللّهُ عنهَا)، وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) له: «أنتم ثقاتنا أهل البيت...».
ثمّ يقول التستري بعد نقل هذا المطلب: «الأصل فيما قال خبر الإكمال [ أي كتاب كمال الدِّين ]... إلّا أنَّ صحته غيرُ معلومةٍ؛ حيث إنّ في أخبار أخر أنّ أمّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت وليدة بيت حكيمة بنت الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)» (1).
نحاول هنا أن نوجه هذا السؤال إلى المحقق التستري (رَحمهُ اللّه) فنقول : أنتم لم تقبلوا هذه الرواية، فهل ذلك بسبب وجود روايةٍ ثانيةٍ معارضة فاخترتم ترجيح الرواية الثانية، أو أنّكم حقّقتم سند الرواية الثانية المعارضة؟ وهل
ص: 391
هذه الرواية تصلح لمعارضة الرواية الّتي هي محلّ بحثنا أو لا؟
إنَّ الرواية التي أوردها المحقق التستري (رَحمهُ اللّه) بعنوان المعارض لتلك الرواية، قد وردت في (بحار الأنوار) نقلًا عن كتاب (كمال الدِّين)، حيث ذكر العلّامة المجلسيّ (رَحمهُ اللّه) روايةً عن محمّد بن عبد اللّه المطهريّ جاء فيها: «عن محمّد بن إبراهيم الكوفيّ، عن محمّد بن عبد اللّه المطهّري قال: قصدتُ حكيمة بنت محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ) بعد مضيّ أبي محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ) أسألها عن الحجّة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي فيها فقالت لي اجلس فجلستُ، ثمّ قالت لي: يا محمّد إنَّ اللّه - تبارك وتعالى - لا يخلي الأرض من حجة ناطقة، أو صامتة، ولم يجعلها في أخوين بعد الحسن والحسين؛ تفضيلا للحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وتمييزا لهما أن يكون في الأرض عديلهما، إلّا أنَّ اللّه - تبارك وتعالى - خصَّ ولد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالفضل على ولد الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، كما خصَّ ولد هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) على ولد موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإن كان موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) حجةً على هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والفضل لولده إلى يوم القيامة.
ولا بدَّ للأمّة من حيرة يرتاب فيها المبطلون ويخلص فيها المحقّون ؛ لئلا يكون للناس على اللّه حجّةٌ بعد الرسل، وإنَّ الحيرة لا بدَّ واقعةٌ بعد مضيّ أبي محمّد الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ).
فقلتُ: يا مولاتي، هل كان للحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولد؟
فتبسمت ثمّ قالت: إذا لم يكن للحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عقبٌ فمَن الحجّة من بعده؟ وقد أخبرتك.
فقلتُ : حدّثيني بولادة مولاي وغيبته (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 392
قالت : نعم، كانت لي جاريةٌ يقال لها: نرجس فزارني ابنُ أخي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأقبل يحدّ النظر إليها، فقلت له: يا سيّدي، لعلّك هويتها، فأرسلها إليك؟ فقال: لا يا عمّة لكنّي أتعجب منها! فقلتُ وما أعجبك؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): سيخرج منها ولدٌ كريمٌ على اللّه عزّ وجلّ، الّذي يملأ اللّه به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورًا وظلمًا. فقلتُ: فأرسلها إليك يا سيّدي؟ فقال: استاذني في ذلك أبي.
قالت: فلبست ثيابي واتيت منزل أبي الحسن فسلمت وجلست فبدأني (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: يا حكيمة، ابعثي بنرجس إلى ابني أبي محمّد.
قالت: فقلتُ: يا سيّدي، على هذا قصدتك أن أستاذنك في ذلك. فقال: يا مباركة، إنَّ اللّه - تبارك وتعالى - أحبّ أن يشركك في الأجر، ويجعل لك في الخير نصيباً.
قالت حكيمة فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزيَّنتها ووَهَبْتها لأبي محمّد، وجمعتُ بينه وبينها في منزلي فأقام عندي أيامًا ثمّ مضى إلى والده ووجهت بها معه...». (1)
أقول: وهنا لا بدَّ أن نحدد عمّن جاءتنا هذه الرواية؟
ص: 393
قال البعض: إنّها عن الزهري، والبعض الآخر قال: إنّها عن محمّد بن عبد اللّه الطهويّ، وثالثً اعتقد أنَّ الرواية عن محمّد بن عبد عبد اللّه الظهريّ، ورابعٌ قال: المطهّريّ.
وكيف كان، وأيًّا كان اسم الراوي لها، فلا يوجد ضمن أصحاب الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) شخص بهذه الأسماء المذكورة يسأل السيّدة حكيمة، ثمّ يأخذ عنها لهذه الأجوبة الخاصّة بأمَّ الإمام (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف).
نعم، ذكر شخص بهذا الاسم ضمن أصحاب الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لكنه ليس من أصحاب الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). وبناءً عليه يُردُّ الإشكال على المحقَّق التستريّ؛ لأنَّ الرواية المعارضة لمحل البحث التي يرجِّحها (رَحمهُ اللّه) مخدوشةٌ سندًا كما تبين ذلك، ولكن لا ينافي قبول مضمون الرواية الدالة على ولادة المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وبشهادة حكيمة؛ وذلك لأن هذا المضمون ورد عن حكيمة بطرقٍ متعدّدة لعلها تصل إلى أكثر من اثني عشر طريقًا.
والجدير بالذكر أن المحقق التستريّ (رَحمهُ اللّه) في كتاب (قاموس الرجال) قد أورد في قصّة السيّدة حكيمة أنّه : «اختلف الخبر في أم الحجّة»، ويؤيد هذا الكلام بأنّ أمّ الحجّة كانت خادمةً للسيّدة حكيمة، ثمّ ولأجل إقامة الدليل يقول: «واختلف الخبر في أمّ الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) علم هل كانت من جواريها وأنّها ربتها وأهدتها إلى ابن أخيها العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أو من أُسراء الروم
ص: 394
التي اشتراها الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لابنه؟ والمفهوم من إثبات المسعوديّ (1) أنَّ الأوّل الثبت، حيث اقتصر على خبره ومال الإكمال إلى الثاني، حيث إنّه وإن روى الأوّل إلّا أنّه قال: "ما روي في نرجس أمّ القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، واسمها مليكة بنت يوشعا بن قيصر الملك"، وروى خبره، وهو المفهوم من أخبار عبّر فيها بأنَّ الحجّة ابن سبيّة، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّها أعّم من أن تكون بلا واسطةٍ» (2).
قال عن بشرٍ: «من ولد أبي أيوب الأنصاري مولى أبي الحسن وأبي محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، علمه مولانا أبو الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) شراء الرقيق، وشرَّفه بشراء أمّ مولانا القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، وفيه قوله له: أنتم ثقاتنا أهل البيت وإنّي مزكّيكَ ومُشرّفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة...» (3).
المستفاد من كلام المحقق النمازي (رَحمهُ اللّه) و أنّه يمدح بشر بن سليمان هذا، لكنّه لا يبدي أي ملاحظة أخرى، ومن هنا نفهم نفهم أنَّ النمازي يقبل رواياته وأخباره.
ص: 395
نقل الشيخ محمّد بن إسماعيل الحائريّ في (منتهى المقال) كلام الوحيد البهبهانيّ من دون زيادة أو توضيح أو بيانٍ (1)، ولعلّه أيضًا يقبل الرواية المذكورة عن بشر هذا ويرتضيها.
يقول في (تنقيح المقال) بعد أن ينقل كلام الوحيد البهبهاني: «فالرجل حينئذٍ من الثقات، والعجب من إهمال الجماعة ذكره. إهمال الجماعة ذكره مع ما هو عليه من الرتبة» (2).
هذا هو حاصل كلام الأعلام في الراوي الأول (بشر بن سليمان).
إنَّ هذا الرجل هو الّذي سمع رواية أم الحجّة من بشر بن سليمان ونقلها عنه.
وفي المقام توجد عدة إشكالات ترد عليه أهمّها: أنَّ هذا الشخص هو من الغُلاة، لكنّ المتأخرين لم يقبلوا هذا المعنى للغلو، بل لعله بذلك الوصف تثبت جلالته ومنزلته.
ص: 396
نعم لا بدَّ من البحث عن معنى الغُلوّ، وكيف يتحقق؟ ومتى يكون الغالي غاليًا؟ وبأي معنى أطلقوا تسمية الغُلوّ على الغالي؟
حيث كان الالتزام ببعض العقائد في السابق يُعدّ غلوا مع أنّها اليوم تُعدّ من مسلمات العقائد عندنا بل وأصولها؛ لذا لا بدَّ من توضيح هذا المطلب، وبيان بعض ما يتعلّق به.
قال في مستدركه: «محمّد بن بحر بن سهل الشيباني، كان من المتكلمين، وكان عالمًا بالأخبار فقيها، إلّا أنّه متهمٌّ بالغلق. وله كتبٌ ومصنّفاتٌ تقرب من خمسمئةٍ ؛ ولا تهامه بذلك رمي بالضعف، وقول البعض: إنّه من علماء العامة غلطٌ محضٌ، كما هو واضح مما سيأتي من الأخبار التي تدلّ على حسنه وكماله... وروى الصدوق بسنده عنه، عن أحمد بن مسرور، عن سعد بن عبد اللّه القمّي حديثه المفصّل في تشرفه بلقاء العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وسؤالاته المفصّلة عن مولانا ولي العصر (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، وفيها دلالاتٌ بيّناتٌ على حُسنه وكماله وصحّة عقيدته، بل يظهر ذلك من جميع ما تقدم» (1).
ص: 397
رأي العلّامة المامقانيّ (1) (رَحمهُ اللّه
قال الشيخ الطوسيّ في رجاله إنّ محمّد بن بحر: «يُرمى بالتفويض» (2)، كما أنّه نقل هذا الكلام عن الشيخ الطوسيّ في فهرسته، حيث قال: «محمّد بن بحرٍ الرهنيّ، من أهل سجستان، كان متكلّماً عالمًا بالأخبار فقيها، إلّا أنّه متّهمٌ بالغلوّ. وله نحوٌ من خمسمئة مصنّفٍ ورسالةٍ، وكتبه موجودةُ، أكثرها موجودٌ بخراسان» (3).
وينقل العلّامة المامقانيّ عن النجاشيّ قوله : «قال بعض أصحابنا : إنّه كان في مذهبه ارتفاعٌ وحديثه قريبٌ من السلامة، ولا أدري من أين قيل ذلك ؟!» (4)
ثمّ يذكر المامقانيّ أنَّ العلّامة الحلّى قد أورد اسمه في القسم الثاني من (خلاصة الأقوال) أيضًا حيث قال: «والّذي أراه التوقف في حديثه» (5).
ثمّ يقول المامقاني: «لا شبهة في كون الرجل إماميا، وما عن بعض الفضلاء من أنّه من أعاظم علماء العامة غلطٌ محضٌ، وكيف يلائم كونه
399
ص: 398
عاميًا كونه غالياً؟! ولعلّ منشأ اشتباه البعض ما رآه في كلام الكشّيّ من كلمة "الحنفيَّين" فزعم أنَّ المراد به النسبة إلى مذهب أبي حنيفة، وليس كذلك، بل هو نسبة إلى حنيفة أثال بن لجيم... وإذ قد كان إماميًا نقول: إنَّ صريح الشيخ أنّ القول بالتفويض والغلوّ بالنسبة إليه ليس محقّقا، بل هي تهمةٌ، والظاهر أنَّ منشأ التهمة قول ابن الغضائري، وقد نبَّهنا غير مرّة أنه لا وثوق بتضعيفاته، لا سيّما إذا كان منشؤها الرمي بالغلو، لا سيّما والنجاشيّ أنكر ذلك عليه هنا بقوله : حديثه قريبٌ من السلامة» (1).
ولم أعثر على صاحب التضعيف الّذي عبّروا عنه بكلمة «قيل»، وإذا لم يثبت غلوه، بل كان المظنون حدوثه من روايته في الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بعض ما هو اليوم من ضروريات مذهب الشيعة كما سمعت من الشيخ من كونه عالمًا بالأخبار فقيهًا، وما سمعته من النجاشيّ من كون حديثه قريبا من السلامة مدحًا مُدْرجًا له في الحسان؛ فالأظهر كون الرجل من الحسان دون الضعفاء، واللّه العالم.
ولقد أجاد الحائري (رَحمهُ اللّه) حينما قال: «وليت شعري! إذا كان الرجل بنفسه متكلَّمًا عالمًا فقيهًا، وحديثه قريبًا من السلامة، وكتبه جيّدةٌ مفيدةٌ حسنةٌ، فما معنى الغلوّ الّذي يرى به؟! وليس العجب من غضّ [ابن الغضائري] وكشّ [ الكشّيّ] ؛ لأنّ كافّة علمائنا (رضیَ اللّهُ عنهُم) عدا الصدوق وأضرابه عند
ص: 399
أضرابهما غلاة، لكنّ العجب ممّن يتّبعهما في الطعن والرمي بالغلوّ ! فما في الوجيزة من أنه ضعيفٌ، ضعيفٌ» (1).
يقول السيّد الخوئي (رَحمهُ اللّه) : الرجل وإن لم يثبت ضعفه، فإنا ذكرنا غير مرّة أنَّ الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري لم تثبت نسبته إليه، إلّا أنَّ وثاقته أيضًا غير ثابتة وما ذكره النجاشيّ من أنَّ حديثه قريب من السلامة، يريد به أنّه لا غلوّ في أحاديثه، فلم يثبت حسنه أيضًا. إذن هو مجهول الحال» (2).
هذا حاصل ما أردنا ذكره وإيراده من كلمات الأعلام عن محمّد بن بحرٍ الشيباني، والنتيجة التي يمكن أن نصل إليها بعد النظر في كلمات العلماء هي أنَّ الرجل يُعدُّ من جملة الرواة الحسان ولهذه الاتّهامات حوله ليست صحيحةً، خاصةً إذا اعتمدنا في إثباتها على كلمات ابن الغضائري، والّذي يقوى في نظرنا ونرجّحه هو رأي الحائري (رَحمهُ اللّه).
ص: 400
هذا البحث نحاول أن نذكر جملة من الإشكالات ومن ثمّ نناقشها بما يناسب المقام.
إنَّ قصّة شراء السيّدة نرجس أم الإمام صاحب الزمان (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) قد حدثت بعد عام 242 ه_، والحال أنّه لم تقع في هذه السنة المذكورة وما بعدها أي مناوشةٍ وحرب مهمّةٍ بين المسلمين والروم حتّى تقع السيّدة نرجس أسيرةً بيد المسلمين (1).
ويرد عليه وجود حروب ومناوشات وأسر في ذلك التاريخ وتلك الأيام.
قال الذهبي: «وأقبلت الروم في ثلاثمئة مركب فكبسوا دمياط، وسبوا ستمئة امرأة، وأحرقوا وردّوا مسرعين فحصنها المتوكل. وفي سنة 239 غزا يحيى بن علي الأرمنيّ بلاد الروم حتّى قرب من القسطنطينية، وأحرق ألف قرية، وسبى عشرين ألفًا، وقتل نحو العشرة آلافٍ» (2).
ثم إن ولادة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت عام 212 ه_ أو 214 ه_، وكانت شهادته
ص: 401
عام 254 ه_، وأمّا مدّة إمامته فكانت ثلاثا وثلاثين سنةً، منها عشرون سنةً في سامراء، وهذا ما يدل على أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عام 239 ه_، كان متواجدًا في سامراء، وهو العام الّذي أسر فيه المتوكّل العبّاسي الآلاف من الروم بعد معركة طاحنة بينهم وبين المسلمين.
وقال الذهبيّ في تاريخ الإسلام أيضًا : «أغارت الروم على من بعين زربة...» (1). وفي محلٍّ آخر يقول : «افتتح بغا حصنًا من الروم يقال له: صملّة» (2).
أمّا العظيمي فيقول: «غزا بُغا من طرسوس، ثمّ إلى ملطية، وظفر بطلائع الروم» (3).
إذن هناك شواهد كثيرةً جدًّا على أنَّ حروبًا وصداماتٍ وقعت بين المسلمين والروم في تلك الفترة وما بعدها، والمتتبع لذلك يجد بعض النماذج من تلك الحروب في كثيرٍ من الكتب التاريخيَّة (4).
ص: 402
وبناءً عليه نقول : ليس من الضروري أن يكون المراد بالحرب هنا حربًا شاملةً واسعة النطاق شارك فيها قيصر الروم بشخصه ومعه بعض أعضاء أسرته؛ لأنَّ ما ورد في الرواية هو أنَّ السيّدة نرجس قد رافقت الجنود والمقاتلين متخفّية بلباس الخدم بأمر من الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
هذا الإشكال في الحقيقة هو إشكالٌ فنيٌّ وليس إشكالا علميًّّا، بل نستطيع القول: إنَّ في هذا الإشكال جنبةً تخريبيّةً وإثارةً للتساؤل والتشكيك لا أكثر.
وحاصل هذا الإشكال هو : هل تعلمون لماذا اهتمّ البعض بهذا الخبر ولم يشكلوا على دلالته وقبلوه من دون تردّدٍ؟ لأنّهم أرادوا بواسطة هذا الخبر أن يثبتوا للسيّدة نرجس مقامًا عاليًا من خلال انتسابها إلى نسب شريف ؛ فمن ناحية الأب تنتسب إلى قيصر ملك الروم، وأما من ناحية الأم فهي تنتسب إلى شمعون أحد أصحاب السيّد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وبالتالي ينسبون الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) من طرف الأمِّ والأب معاً إلى عائلتين شريفتين (1).
نقول إنَّ هذا الإشكال والنقد في الحقيقة يرجع على المستشكل نفسه؛ لأنه تحاملٌ على علماء الشيعة؛ إذ وجّه إليهم التهم ونسبهم إلى الأميّة والجهل دون
ص: 403
النظر إلى أصولهم ومبانيهم وبصراحةٍ أنَّ هذا المستشكل قد اتهم علماء الطائفة بأنّهم انتهازيون، وذلك قوله: إنّهم إنّما قبلوا هذه القصّة من أجل مصلحتهم ومصلحة الشيعة من دون النظر إلى الموازين العلميَّة والفنيّة وعليه فإنّنا نقول له: إنّ كلامكم هذا مرفوض جملة وتفصيلا، فإذا كان قصدكم أنَّ نقل مثل هذه القضيّة بتفاصيلها وفي مثل ذلك العصر هي أشبه شيءٍ بالقصص الأسطورية منها إلى الحقيقة والواقع، فنقول في الجواب: إنَّ هذا لا يمكن أن يكون دليلا وسببًا لرفض الرواية، كيف ونحن بحثنا في سندها فلم نجد إشكالًا أساسيًّا فيه، والأوضاع التاريخيَّة لذلك الزمان تشير إلى إمكان وقوع مثل هذه الحادثة وعليه فما المشكلة في أن تكون هذه القصّة قد وقعت فعلا وبجميع تفاصيلها ؟ هذا بالإضافة إلى وجود روايات كثيرة عندنا قد تحدثت عن قضايا أكثر تفصيلا من هذه الرواية.
ثمّ إنَّ هذين الإشكالين هما عمدة الإشكالات، وهناك إشكالاتٌ أخرى قد تعرّضنا لها وللجواب عنها في بحوثنا خارج المهدويَّة (1).
إذا كانت هذه الرواية صحيحةً فلماذا لم ينقلها بعض المعاصرين للشيبانيّ، أمثال : النوبختيّ وابن الخزّاز القمّيّ والكلينيّ والمسعوديّ (2)؟
ص: 404
عدم نقل هؤلاء الأعلام لهذه الرواية ليس دليلا على ضعف سندها أو على عدم اعتبارها نعم، يمكن أن يكون عدم نقل الرواية دليلا على ضعفها فيما إذا كان المقام مقام استقصاء للروايات المعتبرة وإفرازها عن غيرها فيورد الأعلام المعتبر منها ولا ينقلون الضعيف ولكن في هذا المقام ليس كذلك، فطريقة عملهم لم تكن قائمةً على هذا الأساس؛ فالمسعودي في إثبات الوصية - مثلا - قد أورد الأخبار المتعلقة بغيبة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) في أربع صفحات ونصف فقط (1)
إذا قلتم : إنَّ المسعوديّ نفسه قال: «أنا أنقل عن الثقات».
نقول: إنّ هذا القول لا يحلُّ المشكلة؛ لأنه ليس في مورد استقصاء الروايات المعتبرة. ولو فرضنا أنّه كذلك، وأنّ الشيبانيّ خاصّةً قد ضعف الرواية، ففى قباله الكثير من الآراء المعتبرة لعلماء الرجال المخالفة لرأيه.
وربّما يكون هناك سببٌ آخر لعدم نقله لهذه الرواية، وهو احتمال عدم اطلاعه على هذه القصّة؛ وذلك لأنّ الارتباط والتبادل الثقافي في تلك الأزمنة لم يكن سهلا، بل كان ضعيفًا وصعبًا مقارنة بزماننا اليوم، وعليه فاحتمال عدم وقوع هذه الرواية في متناول يده ليس ببعيدٍ.
ص: 405
إنَّ الكشّيّ كان معاصرًا للشيبانيّ، وكان يقول عنه: «الشيبانيّ غالي. واتّهمه النجاشيّ وابن داود بالغلوّ أيضًا. وبناءً عليه يكون سند هذه الرواية غير معتبرِ» (1).
لقد ذكرنا في مقام البحث عن أحوال هذا الرجل وأنَّ المامقانيّ قد نقل عن النجاشيّ ولم ينسب الرأي إلى نفسه بل قال: «قال بعض أصحابنا»؛ لذا فاتّهام الشيبانيّ بالغلوّ ليس رأي النجاشيّ ولا قوله، بل إنَّ النجاشيّ قال
عنه وحديثه قريب من السلامة».
أما قولكم: إنَّ ابن داود قال: «الشيبانيّ غال». فأقول: قد نقله العلّامة الحلّى في القسم الثاني من رجاله (2) وتوقف فيه، وأما ابن داود فاكتفى بنقل
ص: 406
رأى الطوسيّ وابن الغضائري والنجاشيّ فقط. إذن لا يمكن نسبة لهذا الكلام إلى ابن داود هذا بالإضافة إلى أنّ جمعًا من العلماء قد ارتضوا بهذا الرجل وقوّوه وردّوا تهمة الغلوّ عنه، وقد أشرنا إلى بعض كلماتهم في الدفاع عنه.
قال العلّامة المامقانيّ (رَحمهُ اللّه) عن محمّد بن بحر الشيبانيّ هذا: «ممّا يكذّب نسبة الغلوّ إليه أنَّ الصدوق نقل في (كمال الدِّين) عن كتاب الرجل في تفضيل الأنبياء والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) على الملائكة فصلا طويلا، ختامه أنَّ محمّدا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أفضل المخلوقات من الجن والإنس والملائكة، وفيه تصريح بأنّ محمّدا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مخلوقٌ من المخلوقات كغيره بنحو لا يشتبه على من طالعه وتصفّحه، وفيه شهادةً على عدم غلو نحو ما يقوله الغلاة من القدم والحلول فلم يبقَ إلا بمعني المبالغة في تفضيل الحجج على غيرهم وعلوّ رتبتهم، وذلك
ص: 407
اليوم من ضروريات المذهب، فنسبة الغلو الفادح في الراوي غلطٌ بحسب الظاهر، والعلم عند اللّه» (1). ويؤيد كلامه في تفضيل الأئمّة ما روي عن فرات بن إبراهيم قال: «حدَّثني جعفر بن محمّد الفزاريّ، معنعناً عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله : «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبَّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»،...يا خيثمة، سيأتي على الناس زمان لا يعرفون [اللّه] ما هو [و] التوحيد حتّى يكون خروج الدجّال، وحتّى ينزل عيسى بن مريم من السماء ويقتل اللّه الدجال على يده، ويصلّي بهم رجلٌ منا أهل البيت ألا ترى أنَّ عيسى يصلّي خلفنا وهو نبيٍّ؟ ألا ونحن أفضل منه» (2).
أقول: لنا روايات أخرى تؤيد هذه الرواية السابقة عن أمّ الإمام (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف):
-1 عن أبي سعيد عقيصا قال: «لمّا صالح الحسن بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): ويحكم ! ما تدرون ما عملتُ واللّه الّذي عملتُ خيرٌ لشيعتي ممّا طلعت عليه
ص: 408
الشمس أو غربت، ألا تعلمون أنّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدي شباب أهل الجنة بنصٍّ من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليٍّ؟ قالوا: بلى... [إلى أن قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ].. أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعةً لطاغية زمانه إلا القائم الّذي يصلّي روح اللّه عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) خلفه، فإنّ اللّه - عزّ وجل - يخفي ولادته، ويغيِّب شخصه؛ لئلا يكون لأحدٍ في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيدة الإماء، يطيل اللّه عمره في غيبته، ثمّ يظهره بقدرته في صورة شاب دون الأربعين سنةً ؛ ذلك ليعلم أنَّ اللّه على كلّ شيءٍ قدير» (1).
2- عن محمّد بن عبد الجبار، قال: «قلتُ لسيّدي الحسن بن عليٍّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا بن رسول اللّه، جعلني اللّه فداك! أحبُّ أن أعلم من الإمام وحجّة اللّه على عباده من بعدك ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنَّ الإمام وحجّة اللّه من بعدي ابني، سمّي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكنيّه، الّذي هو خاتم حجج اللّه، وآخر خلفائه. قال: ممّن هو يا بن رسول اللّه؟ قال : من ابنة ابن قيصر ملك الروم، إلّا أنّه سيولد ويغيب عن الناس غَيْبةً طويلةً ثمّ يظهر» (2).
ص: 409
إلى هنا قد بينا وأجبنا عن بعض الإشكالات التي وردت على هذه الرواية، وبعد التحقيق والبحث السندي الّذي تعرّضنا له من جهة، وعدم الإشكال الدلالي من جهةٍ ثانيةٍ تبيّن أنَّ هذه الإشكالات غير واردة عليها ؛ لذا لا يمكننا أن نرفض هذه الرواية ونردّها كأنها لم تكن، بل إنَّ احتمال صحّة هذه الرواية وهذه القضية أكبر وأكثر واقعيةً من أخبار وروايات أخرى تحدّثت عن أحوال السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)، بل يصل إلى حد الظنّ بالصدور، واللّه العالم بحقائق الأمور.
ص: 410
جمهورية العراق
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
الجامعة المستنصرية
كلية التربية - قسم التاريخ
الرواية المهدويَّة من خلال كتاب إكمال الدِّين وإتمام النعمة للشيخ الصدوق
ت 381 ه
دراسة تحليلية مقارنة
أطروحة تقدم بها الطالب
أحمد عبد اللّه حميد العلياوي
إلى مجلس كلية التربية - الجامعة المستنصرية وهي جزء من متطلبات نيل درجة الدكتوراه آداب في فلسفة التاريخ الإسلامي
بإشراف
أ. د. سامي حمود الحاج جاسم
144ه_ بغداد 2018م
ص: 411
سنطرح مجمل مضمون قصة والدة الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) ثمّ سنحاول مناقشة فقراتها بعد طرحها بمقاطع منها لطول ورود القصة في الكتاب وقد أفردنا لها مبحثاً خاصاً وذلك لما اكتنف قصتها بعض الغموض يحتاج إلى عدة نقاشات ومقارنتها بما طرحه الصدوق من روايات أو ما تفرد بذكره في كتابه دون غيره.
وأشهر أسمائها المباركة التي عرفت بها وذكرت في أغلب المصادر التاريخيَّة والتي نقلها الشيخ الصدوق في رواياته يذكرها بهذه الأسماء وهي: مليكة (1)، ونرجس (2)، وصقيل (3)، وريحانة (4)، وسوسن (5) (عَلَيهَا السَّلَامُ) (6).
ص: 412
ينقل الصدوق روايته بسندها عن أبي الحسين محمّد بن بحر الشيبانيّ (1) عن بشر بن سليمان (2) النخاس (3)، أحد موالى الإمامين العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وجارهما في مدينة سامراء وقد تفقه على يد الإمام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أمر بيع وشراء الرقيق (4)، فكان لا يبيع ولا يبتاع إلا بأذن الإمام ويقول : حتّى كملت معرفتي فيه فأحسنت الفرق فيما بين الحلال والحرام (5).
ثم يقول أن الإمام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد أرسل يطلبه في احد الليالي / ولما مثل أمامه امتدحه الإمام واخبره انه من ثقاتهم وبعدها أراد منه أن يذهب إلى بغداد ليشتري له جارية، وكتب له كتاباً ملصقاً بخط رومي (6)، وأعطاه مبلغاً قدره مائتان وعشرون دينار وأخبره بصفاتها وملبسها والنخاس الّذي عنده هي وامتناعها عمن يحاول لمسها واحتشامها واخبره
ص: 413
قد اجتمعوا في القصر ونصبوا منبراً فدخل عليهم النبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومعه فتية فيقول : يا روح اللّه إني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكه لابني هذا واوما بيده إلى أبي محمّد... فنظر المسيح إلى شمعون فقال له : قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وزوجني وشهد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشهد بنو محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )... (1).
وبعدها تسترسل بالحديث وتقول أنها أسرت هذه الرؤيا ولم تقصها على احد مخافة القتل وثم أصابها ضعف ومرض بما أصابها بمحبة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد امتنعت عن الطعام وقد احضر لها جدها العديد من الأطباء فعجزوا عنها إلى أن حدثها جدها وقال لها : يا قرة عيني فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا ؟ فقلت : ياجدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح وأمّه لي عافية وشفاء فلما فعل جدي تجلدت في أظهار الصحة في بدني وتناولت يسيراً من الطعام فسر ذلك جدي وأقبل على إكرام الأسرى وإعزازهم ... (2).
ص: 414
ثم تقول بعد أربعة أيام رأت في المنام السيّدة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) ومعها مريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) حتّى خاطبتها وقالت لها : " هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فاتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي فقالت لي سيدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ) إن ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة باللّه (1) وعلى مذهب النصارى وهذه أختي مريم تبرأ إلى اللّه تعالى من دينك فإن ملت الى رضا (عزّوجلّ) ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمّد إياك فتقولي: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن أبي محمّداً رسول اللّه، فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها قطيبت لي نفسي وقالت : الآن توقعي زيارة أبي محمّد إياك فإني منفذته إليك... فلما كانت أليلة القابلة جاءني أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في منامي... قال: ما كان تأخيري عنك إلا لشركك وإذ أسلمت فأني زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع اللّه شملنا في العيان (2).
ثم يسألها بشر عن كيفية وقوعها في الأسر فقالت : " أخبرني أبو محمّد [(عَلَيهِم السَّلَامُ)] ليلة من الليالي أن جدك سيسرب جيوشاً الى قتال المسلمين يوم كذا ثمّ يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم... ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحدٌ بي بأني ابنة ملك الروم... ولقد سألني الشيخ الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت "نرجس عندها يتساءل بشر فقال : العجب انك رومية ولسانك عربي قالت : بلغ من ولع جدي وحمله إياي على تعلم الآداب أن أوعز إلى إمرأة ترجمان له في الاختلاف الي فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية حتّى استمر عليها لساني واستقام (3).
ص: 415
ويقول بشر لما عدت بها إلى سامراء ودخلت على مولانا أبي الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لها : " كيف أراك اللّه (عزّوجلّ) الإسلام وذل النصرانية وشرف أهل بيت محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ قالت : كيف أصف يا ابن رسول اللّه ما أنت أعلم به منّي ؟ قال : فأني أريد أن أكرمك فأيما أحب إليك عشرة آلاف درهم ؟ أم بشرى لك فيها شرف الأبد ؟ قالت البشرى، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً... قالت ممن ؟ قال : (عَلَيهِ السَّلَامُ) ممن خطبك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) له.. قالت : من المسيح ووصيه ؟ قال فممن زوجك المسيح ووصيه، قالت : من ابنك أبي محمّد ؟ قال فهل تعرفينه ؟ قالت : وهل خلوت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء أمّه " بعدها قام الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) باستدعاء السيّدة حكيمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) وقال لها : " ها هيا فاعتنقتها طويلاً وسر بها كثيراً فقال لها مولانا : يا بنت رسول اللّه أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمّد وأم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).
واخرج خبر وثاقة بشر واعتمد الرواية عدد من المصنِّفين بما أوصاه به الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في إيفاده لشراء جارية (2)، بنفس مقالة الشيخ الصدوق والآن سنحاول مناقشة الرواية من عدة جوانب :
وثاقة الرواية من خلال من حدثه بها محمّد بن بحر الشيبانيّ وهو من الثقات المذكورين في كتب الرجال وينقلها له عن بشر سليمان ويعتبر من ثقات الإمامين العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وكونه من المتفقهين على يد الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يكون الأنسب في هذه المهمة وبالرغم من كل ذلك أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يحيط المهمة بشيء من السرية بكتابة الكتاب باللغة
ص: 416
أن ينظر إليها من بعيد وأنها تمتنع من أن يبيعها صاحبها بشتى الطرق فعندها يأمره الإمام إذا وجدها بهذه الصفة فتقدم نحو النخاس واشتريها منه بعد أن تعطيها الكتاب ويقول بشر أنه امتثل إلى الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبكل ما أوصاه به ويقول حتّى بكت الجارية بكاء شديد بعد أن أعطيتها الكتاب وحلفت إلا أن يبيعها له حتّى تم شراؤها بمقدار ما كان معه من المال يعني مائتين وعشرين ديناراً (1).
ويقول بشر بعد أن اشتريتها وذهبت بها إلى حجرتي التي كنت أوي إليها في بغداد فقامت بإخراج الكتاب الّذي أعطيتها لها من الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأخذت تقبله وتمسح به وجهها وبدنها فيقول بشر تعجبت منها فقلت : " أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه ؟ قالت : " بها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء أعرني سمعك وفرغ لي قلبك أنا مليكه بنت يشوعاً (2)، بن قيصر ملك الروم (3). ثمّ بعدها تسرد له قصة طويلة عندما أراد جدها أن يزوجها من أبن أخيه وعمرها ثلاث عشرة سنة بحضور جمع غفير من الناس وأصحاب السلطة فحصل أن ارتج القصر المعد للزواج فتشائم الحاضرون وجدها من هذا الزواج النحس والغي ثمّ أراد أن يزوجها من الثاني فحصل نفس الأمر فتفرق الناس واغتم جدها من الأمر إلى أن تقول أنها رأت في المنام أن المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) والشمعون وصي عيسى (4)،
ص: 417
الرومية حتّى لأيتمكن بشر ولا غيره من الاطلاع على الكتاب ومضمونه ونوع المهمة الا الشخصية المرسل اليها الكتاب وهو عند الصدوق ثقة اذ انه افرد هذا الباب في ذكر ام الإمام القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) برواية واحده ولم يذكر لها عدة طرق كما هو حاصل في أسلوبه في باقي الأبواب أي انه اعتمد على هذا السند للرواية اعتماداً قطعياً، ونلاحظ أن هناك من ينقل هذه الرواية ولا يختلف عنها بشيء كما وردت في الإكمال (1).
ولا يمكن القول ان بشراً أو أن ابن بحر أو حتّى الصدوق في نقله لهم مصلحة في وضع هذا الخبر إلا أنه محاط بشيء من الحذر حفاظا على هذه القضية وحتى سر القضية إن بشر النخاس لم يتحدث به إلا سنة (286 ه_ / 899 م) حينما قصها على ابن بحر الشيبانيّ (2) [ويكفي لهذا سنة واحدة بين زواج السيّدة نرجس من الامام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى ولادتها للامام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) ومن المرجح أن مهمة الشراء والزواج كانت في سنة (254ه_ / 868م ] وهي سنة استشهاد الإمام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3)، قبل ولادة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهذا واضح من خلال الرواية حينما وصلت الى سامراء وامر الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمته تعليمها الفرائض والسنن من ضمن ما قاله لها " فإنها زوجة أبي محمّد وأم القائم". (4)، أي ان بشر تحدث به بعد (32) سنة وقد كان محتفظاً (32) سنة وقد كان محتفظاً بسر تلك الحادثة طوال هذه المدة وقد أعطى السبب في ذلك من خلال ما قاله هو وذلك مما دار حديث بينه وبين محمّد بن بحر الّذي كان يرتحل في طلب العلم، إذ ذكر الصدوق وقلة ابن بحر وهو يستمع احد المشايخ والمقصود منه بشر في مشهد الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) (5) از سمعه يقول لشخص معه : "... يا ابن أخي لقد نال عمك شرفاً ما حمله السيّدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم... وقد اشرف عمك على استكمال المدة وانقضاء العمر وليس يجد من أهل الولاية، رجلا يفضي إليه بسره" (6).
ص: 418
يلاحظ من كلامه أن بشراً النخاس كبر سنه ويخاف على نفسه من الموت فيضيع ما يحمله من خبر وسر وفضيلة السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) واخبار عن الإمامين العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وهو لا يجد من يبوح له بسر هذا الأمر فينقل بمقتضاه إلى مواليهم وعلموا بخيرهم.
وهنا يبادر ابن بحر بطرح سؤاله - على الشيخ : " فقلت أيها الشيخ من السيّدان ؟ فقال : النجمان المغيبان في الثرى بسر من رأى، فقلت : إني اقسم بالموالاة وشرف محل هذين السيّدين من الإمامة والوراثة إني خاطب علمهما وطالب أثارهما وبإذن من نفسي الإيمان المؤكد على حفظ إسرارهما" (1).
الملاحظ هنا أن ابن بحر عندما علم بان هذا الشيخ يحمل إسراراً وأخباراً من الإمامين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حينها يقدم نفسه للشيخ انه من طالب علومهم ويقسم له على ذلك وانه قادر على حفظ أسرارهم ويريد أن يعرف ما عنده من خبر هنا يبادر بشر لاختباره فيقول : " أن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، لما فتش الكتب وتصفح الروايات منها قال : صدقت أنا ببشر بن سليمان النخاس..." لما يحمله من أخبار وكتب تخص الأئمّة، فقال له ابن بحر:" فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما " (2).
هنا أراد بشر النخاس على أن يطمئن أن ابن بحر من الموالين من خلال الإطلاع على ما يحمله من كتب وأخبار تخص الأئمّة وقد تأكد من ذلك وهو بهذا يعتبر كاختبار مفاجئ من دون مناسبة مابين بشر وابن بحر فوجد أنه يحمل من أخبار الأئمّة حينها يصدقه ويسرد له القصة كاملاً، فلو كان بشر النخاس غير صادق لما بادر إلى اختبار ابن بحر ليسرد له الحديث كاملاً خوفه من ضياع ما يحمله من خبر وبهذا لم تذكر الرواية إلا عن طريق ابن بحر ومن بشر مباشرة فمن المحتمل أن الصدوق يعتبره خبراً موثوقاً إذ ليس له طريق آخر إذا لاحظنا أن جميع من نقل هذا الخبر كلهم يرفعون سنده إلى ابن بحر إذا لم يحدث به بشر غيره، وإن الخبر هذا كان في زمن الغيبة الصغرى (899/286
ص: 419
م) لان الغيبة الكبرى وقعت سنة (329ه_ / 940م) (1)، إي أن الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) موجود أي أن بين الخبر والغيبة الكبرى (43) سنة وقد تم نقله إلى إن رواه الصدوق وقت تأليف كتابه فمن المحتمل أن تكون وصلت إلى مسامع الإمام (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) فمن غير المعقول أن يصدر هكذا موضوع حتّى وان قلنا بغير صحته بوجود الإمام ويتم نقله من غير أن يصدر منه شيء بطريقة أو بأخرى لينكر الخبر المفترى على أمّه (عَلَيهَا السَّلَامُ) وحديث جده (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع بشر النخاس إلا أننا لم نجد أي اعتراض تذكره مصادر المتقدمين للإمام (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) أو لمؤلفي تلك المصادر.
اما ضعف الرواية فنجد رأياً واحداً للمحقق الخوني، اذ يقول عن الرواية: في سند الرواية عدة مجاهيل (2) على انك عرفت فيما تقدم أنه لا يمكن إثبات وثاقة شخص برواية نفسه" (3)، ولوجود مجاهيل في الرواية هذا لا يعني نفيها وبنفس الوقت لا يوجد من يطعن أو يجرح بشخصية بشر او الطعن بوجودها من السابقين وقد اعتمد روايته كبار مؤرخي الشيعة وأولهم شيخ المحدثين الصدوق ومن بعده الطوسيّ اعتمدوا على نقل الرواية عن طريق راويها محمّد بن بحر الشيبانيّ (4) وهو من معتمدي رجال الحديث عند الشيعة إذ ترجم للشيباني النجاشيّ والطوسي، وأيضاً ترجم له المحقق الخوئي في رجاله بأنه كثير الأدب والحديث ولم يطعن بوثاقته (5)
ويقول احد المتأخرين : " يكفي في توثيق الشيبانيّ ارتضاء الصدوق... وان دواعي الوضع هنا منتفية" (6)، وبهذا يمكن القول بصحة الرواية من ناحية السند عن
ص: 420
محمّد بن بحر الشيبانيّ كونه لا غبار عليه من قبل مؤرخي الرجال الشيعة وأن من حدثه بها بشر النخاس الّذي تعد وثاقته من باب حفظه للسر حتّى أنه أحس بقرب اجله وكبر سنه فأراد أن يودع سره عند من يحرز وثافته وولائه لحفظها عنه فقصها على الشيبانيّ
قضية محاولة جدها تزويجها من ابن أخ القيصر وما هو سر الضجة وارتجاج القصر أثناء مراسيم التزويج حتّى تشاءم الحاضرون والقيصر من هذا الزواج فمنعوه فهذا الأمر لا يعد من الغرابة بشيء فالتخطيط الرباني وما أراده اللّه لهذا الغرض أن تكون السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) زوجة للإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأما للإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وان هذا ليس بغريب فما حصل لجده رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم ولادته (1)، ممكن أن يكون ويتحقق له، فعن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : " الأئمّة بمنزلة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلا أنهم ليسوا بأنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأما ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (2)، فإرادة اللّه (عزّوجلّ) شاءت ذلك.
ومما قيل بهذا الصدد أن الّذي حدث لعله معجزة إلهية حدثت للتوصل إلى غرضين : أحدهما هو استنكار بقاء هؤلاء على المسيحية مع إمكانهم الدخول في الإسلام ومعرفتهم بوجوده فأن الأولى بمصالحهم أن يعتنقوه لا أن يحاربوه، والثانية : استنكار زواج هذه المرأة فأنها مقدرة في علم اللّه لان تكون زوجة للإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) واماً للمهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) لا ان تكون كما يشاء جدها زوجة لابن أخيه وبحدوث هذه المعجزة يحصل في قلوبهم تشاؤم من حصول الزواج لا يقومون به كما قد أعرضوا عنه فعلاً (3).
ص: 421
ربما سائل يسأل أن الّذي حصل هذا ليس بولادة الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) حتى يرتج القصر وتحصل المعجزات كما حصل في ولادة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإنما حصل هذا عندما اراد القيصر جد نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) تزويجها من ابن أخيه، فالجواب هنا يكون أنها ام المولود الّذي سيأتي بما أراد اللّه لينتصر به لدينه ويتم به رسالة جده رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بما ورد من الإخبار، عن تفسير قوله (عزّوجلّ): «يُرِيدُونَ لِيُطْفِعُوا نُورَ اللّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّه مُتِمُّ نُورِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ» (1)، فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : " بالقائم من آل محمّد (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) حتّى إذا خرج يظهره اللّه على الدين كله حتّى لا يعبد غير اللّه " (2)، في قوله تعالى : «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (3)، سال احد أصحاب الإمام موسى ابن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن معنى هذه الآية فقال: " هو الّذي أمر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هي دين الحق، «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ» قال : يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم..."(4)، وجاء في تفسير الكوفي عن هذه الآية عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : "إذا خرج القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)...." (5)، وعن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : " ذلك يكون عند خروج المهديّ من آل محمّد صلوات اللّه عليه فلا يبقى أحد إلا أقر بمحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسلم. "(6).
ص: 422
وهذا كله بأراده اللّه لإتمام حجته على الخلق بالإمام القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) فلعل الحادثة المذكورة في عرقلة الزواج المراد للسيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) من ضمن التخطيط الإلهي المحدد فإبقائها اللّه لما أراده لها أن تكون زوجة للإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأم الامام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) المؤمل لإقامة الحق ونشر وبسط العدل ومتمماً لرسالة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بحكمة اللّه وقدرته
موضوع الرؤيا (1)، وكيف يمكن الاعتقاد بها بكونها واقعاً مبنياً عليه صحة الرواية والحديث أعلاه، كون نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) قد رأت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المنام وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) ومن معهم فاثبات ذلك يدعونا للنظر بالنص القرآني والأخبار الواردة بهذا الجانب وخاصة من القرآن الكريم نأخذ منها مثالين، قال تعالى : «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعَى قَالَ يا بُنَى إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا تَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّه مِنَ الصَّابِرِينَ» (2)، «إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَى لَا تَقْصُصْ رُحْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيدَاً إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» (3).
من خلال الآيات المباركة أن الرؤيا واردة بالنص القرآني واعتمدت تطبيقها وتحقيقها وخاصة منها أن يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ)، يقص روياه على أبيه حينها يأمره بكتمانها خوفاً عليه من أن تحدق به مخاطر أو أذى من قبل إخوته (4)، ومن جانب آخر هو في قصة
ص: 423
نبي اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورؤيا لذبح ابنه حتّى أقدم على ذبحه بالرغم من كونها رؤيا اي انه يريد أن يطبق ما رأه حينها يجزيه (1)، بعدها يخاطبه اللّه (عزّوجلّ) : «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (2)، ثمّ يقول تعالى : «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم» (3).
ومن خلال ذلك نطرح ثلاثة استنتاجات، أولها أن القرآن الكريم يصرح بأن الرؤيا هي شيء واضح التطبيق وممكن أن يتحقق في الواقع، وثانيها أن القصتين المذكورتين أعلاه وبتفسيرهما ومن قبل اثنين من الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) وقد أعطوا تأوليهما للرؤيا بكونها ستحقق وبواقع عملي كما فعل إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه أراد أن يطبق رؤياه في الواقع حتّى جاء أمر اللّه بالمنع، والثالث أن الرؤيا لايمكن إنكارها وذلك لورود ما يدل عليها في القرآن الكريم.
بقي عندنا كيف يتم معرفة الاعتقاد بالرؤيا من عدمها وهل هي صالحة من اللّه أمّ من الشيطان وذلك لإثبات حجية روايتنا المطروحة من خلال الروايات، روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : " الرؤيا الصالحة من اللّه والحلم من الشيطان..." وقال " من رأني في المنام فقد رأني فإن الشيطان لا يتخيل بي ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزاً من النبوة " وقال: " من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني " (4) وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال:"من رآني في النوم فقد رآني إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي "(5).
ص: 424
من خلال الأحاديث السابقة يمكن أن نرجح عدة استنتاجات منها تشير الأحاديث إلى صدق رؤية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وان الرؤيا صادقة بشهادة الحديث النبوي المبارك وإنها صادقة من اللّه وتعد حجة حسب الحديث وبالتالي أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد أعطى رؤيته بصدق بصورة عامة ولم يخصصها للمسلمين فقد بل قال " من رأني فقد رأني " فتعتبر رؤية السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) جائزة له وقد شملها تفسير الأحاديث، ومن باب آخر أن من يرافق النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشمعون في الرؤيا بشملهم صدق الرؤيا باعتبارهم مرافقين له
ويسال سائل كيف عرفتهم السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) من هم هؤلاء الّذين رأتهم في الرؤيا، فمن المحتمل أنها عرفتهم من خلال محادثتهم في الرؤيا فيما بينهم أو كونها سمعت بهم من أسرى المسلمين والدليل هو إشفاقها على الأسرى وطلبها من جدها إطلاق سراحهم وبهذا يمكن أن نحكم بصدق رؤيتها وكون باقي ما رأته من منامات من رؤية الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) ومريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) والإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) هي أيضا رؤيا صادقة كونهم حاضرين في أولها عند رؤية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وان كل ما قامت به لعلها مأمورة أن تقوم به من إخفاء الرؤية وخروجها مع الجيش حرصاً عليها بعد أن قلنا بصدق الرؤيا وتعتبر بشارة لها وما يدل على ذلك هو زواجها من الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما بعد، أما سر كتمان الرؤية فقد أوضحته هي قولها : " مخافة القتل". (1).
اما قضية إسلامها فأن أسلمنا لقول صدق الرؤية فإن إسلامها قد صح فمن المحتمل أنها أسلمت باليقظة بعد أن عرفت الطريقة أو الشهادة أما من خلال الرؤية أو انه احتمال سمعتها بطريقة أو بأخرى وان قلنا خلاف ذلك فنقول أنها أسلمت بعد أن ذهبت إلى سامراء على يد الإمام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم سلمها لأخته حكيمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) لتعلمها الإحكام والفرائض، بالرغم من أنها أخبرت الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد وصولها لسامراء حينما سأنها عن الإمام الحسن العسكريّ " فهل تعرفينه ؟ قالت : وهل خلوت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النسا [عَلَيهَا السَّلَامُ)] امه. (2)، وهذا ما يثير الشك أنها لها
ص: 425
علم بكل هذا وما سيحصل فيما بعد وأنها حقا مسلمة هو امتناعها من أن يلمسها احد في السوق وتقف محتشمة وتقبيلها للكتاب الّذي أعطاه لها بشر وكأنها تعرف صاحب الكتاب واستغراب بشر من ذلك ولعل تعلمها للعربية قبل ذلك هو لغرض ما أو لأمر خفي عن الناس وهي تعرفه دون غيرها أي أنها مهيأة لهذا الأمر قبل أسرها.
أما روايتها لما حصل لها كله قالته لبشر ولم تحدث به غيره باعتبار ان الإمامين العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لهم علم به وأخبرا حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهُ) بكل ذلك كون الأئمّة يعرفون كل شيء بإذن اللّه، فقد سأل احد أصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الإمام يعلم الغيب ؟ فقال : لا ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه اللّه ذلك " وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : " أعطينا علم ما كان وما هو كائن حتّى تقوم الساعة وقد ورثناه من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وراثة " (1).
وأخبرت بشر بالقصة كلها لتأكدها من وثاقة حمل معه من كتاب لها يرشدها إلى ما تنتظره ولعل الكتاب فيه ما يطمئنها بوثاقة بشر وفيه أمر القدوم معه وفيه الكثير من التفاصيل التي تشير الى ما يجب عليها من فعله وقوله حينها فأخبرته بذلك وخاصة أن بشراً لايفهم ما فيه كونه مكتوباً بلغة رومية، وممكن ان يقال أن السيّدة نرجس بالحكمة الإلهية كان لها إيحاء والهام (2) بمقتضى المصلحة العامة كون أن اللّه يعلم بها انها أم الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وما سوف ترى من ضغط ومطاردة وعذاب فهي تحتاج إلى الهام ولو بشكل خاص يوجب تربيتها وتوجيه عواطفها بالشكل المخلص المؤمن فأنها لو كانت مجردة عن هذا الإلهام وكانت مشتراة من السوق من دون إخلاص سابق وتربية داخلية لامكن لها أن تجزع من التعذيب فتبوح بأمر ولدها ويؤدي الأمر إلى مخاطر عليه وهذا ما لا يريده اللّه أن يكون، قال تعالى في كتابه الكريم : «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجَبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» (3)، سُئل الأمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قوله تعالى: «وَأَوْحَى
ص: 426
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» قال : إلهام" (1)، لذا لا يمكن إنكار وجود الإلهام كحقيقة كونية إلهية تتحقق بإرادة اللّه تعالى عند وجود المصلحة فإنكار الإلهام هو تكذيب للقرآن الكريم (2)
ومن هذا يمكن القول انها (عَلَيهَا السَّلَامُ) ممكن ان يكون حصل لها نوع من الإلهام فالإنسان أكرم على اللّه من سائر مخلوقاته فليس النحل أكرم على اللّه من السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)، الا أنه ما يجهل تفسيره في هذه القصة هو من القيصر المقصود هنا وحتى شمعون لم تعط مصادرنا ما يكفي عنه الا ما ذكرنا في ترجمته سابقاً فيها ومن هي الحرب التي كانت بين المسلمين والروم وهربت فيها حيث أهملت الرواية ذكر أي تاريخ يدل عليها للتمحص أكثر بالرواية إلا أن الرواية مسلم بها بالإجماع والاعتقاد الامامي على الأغلب كما ذكر رواتها سابقاً.
محاولة استنتاج من هو القيصر المقصود في الرواية وسنة شرائها من قبل بشر النخاس، بعد ان اشرنا سابقاً بحسب الرواية أنها أسرت بعد إحدى الحروب الحاصلة بين الروم والمسلمين وأن الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان استشهاده (254ه_ / 868م) (3) بعد الزواج بايام بحسب ما أشارت الرواية أنهم أقاموا أياماً عند السيّدة حكيمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ثمّ مضى أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عهد المعتز العبّاسي (252ه_ /866م – 255 ه_ / 869م) (4)، ومن خلال ذلك يمكن الاستنتاج من الروايات في الحروب هذه الحاصلة في هذه المدة او الأقرب إلى هذا التاريخ ومن هو القيصر المقصود وسنة الشراء في الرواية.
ص: 427
بعد الرجوع للمصادر وملاحظة الحوادث الواقعة والأقرب مابين سنتي (250ه_ 255 ه_ / 864 - 869م)، لم نجد ما يشير إلى وقوع حرب بين الروم والمسلمين خلال هذه المدة، ثمّ رجعنا إلى ما قبل هذه المدة وجدنا أن أقرب الحروب الحاصلة قبل هذه المدة هي مابين ما بين سنتي (248 ه_ - 249ه_ / 862 م - 863م) وقد حصل فيها تبادل أسرى مابين المسلمين والروم لكثرة أعداد الأسرى بين الجانبين (1) وكان الحاكم العبّاسي حينها هو المستعين (52480 / 862 م - 252ه_ / 866م) (2)، وكان الملك الروماني في هذه الحقبة هو القيصر ميخائيل بن تيوفيل إذ يذكر انه تسلم حكم الإمبراطورية الرومانية بعد وفاة والده هو وأمّه سنة (228ه_ 842م) وكان عمره ثماني وعشرين سنة وكانت الحروب بين الروم والمسلمين مستمرة في عهده إلا أنه قتل أمّه سنة (233ه_ / 849م) وبقي يحكم لوحده (3)، أي أنه معاصرة لزمن الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي تسلم الإمامة بعد استشهاد الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مابين سنتي (225ه_ - 254ه_ / 839 م - 868م) (4)، اي ان عملية شراء الجارية كانت خلال حكم ميخائيل إذ انه بدأ يحكم سنة (228ه_ / 842م) ولمدة ثمان وعشرين سنة حتّى قتل سنة (253ه_ / 867 م) (5) اي قبل استشهاد الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (254ه_ / 868م) بسنة واحده (6)، في عصر المعتز العبّاسي (252 ه_ / 866م - (255ه_ / 869م) (7)، وحكم بعد ميخائيل شخص يدعى بسيل الصقلبي /86/255)
ص: 428
وعرف باسم براكنميس من سنة (253ه_ / 1867) وبقي في الحكم عشرين سنة (1)، وعند مراجعة التاريخ في السنين التي حكم فيها هذا القيصر من سنة (253ه_ / 867م) الى سنة ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) لم تحصل حروب بين المسلمين والروم او تبادل اسری (2).
وربما سائل يسأل ان تيوفيل والد ميخائيل هذا أيضاً عاصر الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثلاث سنين (225ه_ - 228ه_ / 839م - 842م) قبل أن يتسلم السلطة ولده ميخائيل بن تيوفيل فاحتمال أن يكون الشراء حصل في هذه السنين، فالجواب هنا انه ليس من المعقول ان السيّدة نرجس بقيت في بيت حكيمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) من سنة (225 ه_/ 839م) أوالسنتين التي بعدها إلى سنة (254 ه_ / 868م) أي ما يقارب الثلاثين سنة فقط لتعلمها الفرائض والسنن وهذا ما لا يحتاج إلى تلك المدة هذا فضلاً أنها كان عمرها ثلاث عشر سنة ونقول مابين سنة الحرب والأسر ثمّ شرائها سنة واحدة يعني (14) سنة فيكون عمرها حين الزواج ازيد من ثلاث وأربعين وهي بهذا تكون حتّى أكبر من زوجها الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لانه استشهد وعمره 28 سنة (3)، فالمرجح أن شراؤها كان في في زمن تلك الحروب التي حصلت في عهد ميخائيل في السنة الأخيرة من حياة جدها القيصر الّذي خاض حروباً كثيرة مع المسلمين في سنة (249ه_ / 863م) ويعد هذا في زمن الإمام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (225ه_ - 254ه_ / 839 م - 868 م) وعصر المستعين العبّاسي (248ه - 862 م / 252ه_ - 866م)، سيما وأن السنين التي تلت عصر ميخائيل لم يكن فيها حروب على الأقل الى سنة ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، فيكون عمرها حين وصلت سامراء (14) سنة وبقائها عند حكيمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) بحدود (6) سنوات إلى وقت زواجها سنة (254ه_ / 868م) وعمرها (20) سنة وهو عمر مقبول للزواج والإنجاب
وربما يقال أن القيصر هو تيوفيل بن ميخائيل بن تيوفيل والّذي كان في عصر المعتز العبّاسي، الا أن هذا القيصر لم تكن في عصره حروب مع المسلمين لانه حكم
ص: 429
بعد سنة (253ه_ / 867م) ولم يبق مدة طويلة في الحكم اذ استولى على الحكم شخص ليس من سلالة العائلة المالكة (1)، والرواية تقول أنها بنت ابن قيصر الروم، فالمرجح هو ميخائيل بن تيوفيل المعاصر للإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومعاصر لحكم المستعين (248ه_ - 620 م / 252ه_ - 866م) الّذي كانت في عصره حروب مع الروم.
ذكر الصدوق رواية اخرى وهي عن السيّدة حكيمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) تقول : " كانت لي جارية يقال لها نرجس فزارني ابن اخي فأقبل يحدق النظر إليها، فقلت له: يا سيّدي لعلك هويتها فأرسلها إليك ؟ فقال لها : لا ياعمة ولكني أتعجب منها، فقلت : وما أعجبك منها ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : سيخرج منها ولد كريم على اللّه (عزّوجلّ) الّذي يملأ اللّه به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، فقلت : فأرسلها إليك يا سيّدي ؟ فقال : استأذني في ذلك أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالت : فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فسلمت وجلست فبدأني وقال : يا حكيمة إبعثي نرجس الى ابني أبي محمّد قالت: فقلت يا سيّدي على هذا قصدتك على أن استأذنك في ذلك فقال لي : يا مباركة إن اللّه تبارك وتعالى أحب أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً، قالت حكيمة : فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزينتها ووهبتها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجمعت بينه وبينها في منزلي فأقام عندي أياماً ثمّ مضى إلى والده (عَلَيهِ السَّلَامُ) ووجهت بها معه. وقالت حكيمة فمضى أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجلس أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مكان والده " (2) وأخرج الرواية هذه عدد من المصنِّفين باختلاف السند والتقارب مع نص الرواية بالمضمون دون الإخلال بالمعنى للرواية (3).
ص: 430
من خلال هذه الرواية يمكن القول أنها تأكيداً على الرواية الأولى بما تم طرحه في نهاية الرواية الأولى فمن يقول أنها جارية لحكيمة وذلك عندما تم حديث الإمام على الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع نرجس بعد أن وصلت الى سامراء حينها استدعى السيّدة حكيمة وقال لها: أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فأنها زوجة أبي محمّد وأم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ)" (1).
وبقيت السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) عندها إلى وقت الزواج ويمكن أن تكون مكتت لمدة طويلة أو قصيرة حتّى تمكنت من تعلم الفرائض الواجبة عليها على يد حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) فهي على هذا الحال بقيت أمانة عند حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) بصفة جارية حتّى عندما تسأل حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) عنها تقول جارية والدليل أن الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عندما زار عمته طلب منها أن تستأذن من أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فذهبت واستأذنت في ذلك بأن ترسلها لولده، هذا من جانب أو أن الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهبها الحكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) كجارية حتّى تهبها للإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما بعد لتكون بمأمن من أي خطر محتمل والاستئذان الّذي حصل هو من باب الطاعة للإمام وأنه هو صاحب التخطيط لهذا الأمر منذ لحظة شراء الجارية حتّى وصولها الى بيت حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) وبدليل ما اخبرها به في الرواية الأولى عندما أمرها بتعليمها الفرائض " فأنها زوجة أبي محمّد وام القائم " أي اعلمها بالسر بغية الحرص والحفاظ عليها إلى وقت الزواج فتقول حكيمة حينها ووهبتها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).
ويذكر المسعودي في مجمل روايته التي ذكرها بنفس الموضوع في خبر الولادة عندما تسأل حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)"ممن يكون هذا المولود يا سيدفقال : من جاريتك نرجس" (3)، وما يدل على أمر الحرص وتأمين سلامتها هو أن الزواج في بيت حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) وبقاء الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وزوجته في بيت عمته أياماً إلى وقت استشهاد الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وآل الأمر له، وهذا هو المرجح في الأمر هو بقاؤها عند حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) بهذه الصفة كجارية، ومن المرجح أن كلا الروايتين صحيحتان
ص: 431
وهذه الرواية تتفق مع الرواية السابقة بعدة أمور منها أن أم الإمام المهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) كانت جارية مملوكة، وأن اسمها نرجس وأن زواج الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان في حياة أبيه وبأذنه ولذا نستطيع أن نعتبر اتفاقهما على ذلك إثباتا تاريخياً كافياً له، إلا أن هذه الرواية تعين وقوع الزواج في الأيام الأخيرة من حياة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يكن هذا واضحاً في الرواية السابقة ولا يوجد اعتراض على الرواية الثانية هو كيف جاز للإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن ينظر إليها وهنا بأنه نظر إليها بأذن مالكتها ويحق للإنسان النظر إلى المرأة التي يريد الزواج منها بحكم ما أقره الشرع إلى ما هو مسموح به (1)، هذا فضلاً عن أن الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إمام معصوم يعرف تكليفه وحدود الشرع ونواهيه وفوق هذا هو معرفته بأنها زوجته المستقبلية وأم الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) ، وليس النظر المقصود به ما هو عند باقي الناس وإنما بتعجب وليس أكثر من ذلك حينما، قال : " سيخرج منها ولد كريم على اللّه (عزّوجلّ): (2).
ومما يذكر في خبر وفاتها ينقل الصدوق ثلاثة أخبار منها ما نقلته إحدى الجواري كانت في دار الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالت : " أن اسم ام السيّد صقيل وأن أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حدثها بما يجري على عياله فسألته أن يدعو اللّه (عزّوجلّ) لها أن يجعل منيتها قبله، فماتت في حياة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعلى قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أم محمّد... (3)، ان هذه الرواية تجهل ذكر تاريخ الوفاة مع وجود روايات أخرى تناقضها ولعل الجارية التي نقلت هذه الحادثة لم تتقن النقل لها أو لم تفهمها أو لماذا لم يكتب على القبر أحد أسمائها للدلالة على قبرها، أو لعل المخاطبة حينها غير ام الإمام بهدف حماية السيّدة نرجس وولدها من أي خطر خلال هذه المدة من خلال نشر خبر يبعد الخطر عنهم والدليل أن هذه الجارية حدثت بهذا الخبر بعد استشهاد زوجها الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟
ص: 432
وفي رواية أخرى ينقل أنها كانت موجودة في نفس الليلة التي استشهد بها الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الثامن من شهر ربيع الأول من سنة مائتين وستّين (1)، في رواية ثالثة أنها كانت على قيد الحياة بعد وفاة الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، بعد أن صلى الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) على والده ودفنه إلى جانب أبيه إلى أن وشى جعفر بن الامام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالموضوع بعد أن امتنع جماعة ينقلون الأموال إلى الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يعلموا بوفاته فامتنعوا من أعطائها لجعفر فأخبر بذلك المعتمد العبّاسي (256ه_ - 279ه_ / 869م - 892م) (2)، حينها أمر بالقبض عليها بحثاً عن الوليد والتي قالت حين أنها حامل ولم تولد بعد لتغطي على حال الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) ووضعت تحت المراقبة مع نساء الخلافة والجواري يتعاهدن أمرها في كل وقت في عهد القاضي ابن أبي الشوارب (3)، إلى أن شغلت العبّاسيين بعض المشاكل التي لاقتهم (4)، وانشغلوا عنها وخرجت من أيديهم (5)، ووردت مثل تلك الرواية في مصادر أخرى (6).
وبهذا يمكن القول بأنها كانت حاضرة وقت استشهاد الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أثناء مدة حكم المعتمد العبّاسي مابين سنتي (256 ه_ - 279ه_ / 869 م - 892م) وان اعتقالها لم يكن قبل وفاة الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فليس من المعقول ان تعتقل ام الإمام في حياته ويبقى ساكتاً أو لم يحتج بطريقه او بأخرى أو لم يحدث بها أصحابه ولم تذكرها المصادر اما بعد
ص: 433
استشهاده فمن الممكن ذلك لأنه من ضمن التخطيط لحماية الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) فهدف السلطة هو القبض عليه بالضغط على والدته وإبداعها الحبس أو المراقبة ويمكن أن نقول انه بعد أن تبين لهم أنها غير حامل اطلق سراحها.
ولم نعثر على ما يدل سنة وفاتها إلا ما أشار إليه الذهبي ليس على وجه التحديد بان صقيل (عَلَيهَا السَّلَامُ) كما يذكرها في الرواية سجنت في زمن المعتضد العبّاسي (279ه _- 289 / 892 م - 901 م) (1)، بعد نيف (2) وعشرين سنة من موت سيدها إلى أن ماتت في دولة المقتدر (295ه_ - 320ه_ / 907م - 932م) (3)، في قصره، ونجد رواية تشير إلى اعتقال جواري وحلائل الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد وفاته الا أن رواتها يذكروها بصورة عامة (4) وقيل أن حبس الجواري كان بوشاية جعفر للتأكد من الحمل ومعرفة من هي التي تحمل ولد أخيه (5) ، ويذكر الأربلي ان اعتقال وحبس الجواري وحلائل الإمام العسكريّ(6) بعد استشهاده بانتظارهم لولده (7)، ولعل السيّدة نرجس من ضمنهن وهذا يعطينا إشارة من المحتمل أنها كانت حية بعد استشهاد الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) الا أنه بقي تاريخ وفاتها مجهولاً في جميع المصادر.
وفي رأي لأحد المتأخرين أن المقصود الأساسي من حجزها ومراقبتها ليس البحث عن جنينها أو انتظار ولادتها ويكفي عدة شهور للتأكد من ذلك وإنما المقصود اضطهادها وعزلها عن المجتمع واحتمال اتصال ولدها بها خلال هذه المدة (8).
ص: 434
هذا كله يعطينا دلالة على أن السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) كانت على قيد الحياة الى ما بعد استشهاد الامام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأنها بقيت تحت المراقبة والاعتقال وبعيدة عن ولدها ومن المحتمل أن هدف السلطة من وضعها تحت المراقبة لعل ولدها (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) يتصل وهذا. كانت تطمح إليه السلطة العبّاسية إلا أن المصادر أغفلت ذكر تاريخ اعتقالها او وفاتها بالتحديد، ولم نجد عند الصدوق خبر يوضح أو يشير الى موضع قبرها (عَلَيهَا السَّلَامُ) الا ما أشار له أنها توفيت في حياة الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر ام محمّد (1).
ولم يرد في الرواية هل ان هذا القبر في سامراء ام خارجها، ومن المرجح أن القبر الّذي في سامراء المجاور لضريحي الأمامین العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) هو قبر السيّدة حديث (عَلَيهَا السَّلَامُ) (2) والدة الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3)، هذا بحسب الرواية التي تقول أن السيّدة حديث (عَلَيهَا السَّلَامُ) ام الامام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أوصت أن تدفن في دار الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولعله حصل خلط في هذا الأمر وذلك لوجود تشابه بين أسماء السيّدة حديث والسيّدة نرجس، إذ من أسماء السيّدة حديث هو سوسن وريحانة كما هي أسماء السيّدة نرجس (4) والّذي يدعونا هي للشك هنا بأنه قبر السيّدة حديث جدة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وليست أمّه نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) وذلك حين ماتت الجدة أم الحسن أمرت أن تدفن في الدار وكان لجعفر اعتراض على الأمر وقال: هي داري لا تدفن فيها، فخرج (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : يا جعفر أدارك هي؟ ثمّ غاب عنه فلم يره
ص: 435
بعد ذلك" (1)، وحسب الروايات لا يوجد أثر لقبرين أحدهما للسيّدة نرجس والآخر للسيّدة حديث بل هناك قبر واحد فقط جوار قبر العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فعلى ضوء وصية الجدة ام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) واحتجاج الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) على جعفر فالمرجح أن القبر المشار إليه هو للسيّدة حديث ام الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) تحت قبة الإمامين العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) بجوار قبر زوجها وولدها، ومن المحتمل أن يكون أن السيّدة نرجس والسيّدة حديث وكذلك السيّدة حكيمة انهن دفن في هذه البقعة المباركة قرب قبر العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) إلا أن معالم أحد قبورهن لم يبرز أو اخفي مع قبر آخر من تلك القبور فصار هذا الخلط بين القبور ولعل قبر السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) اخفي لحكمة ما تتعلق بالإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف).
وقد مال بعض الباحثين الى الرأي القائل بان القبر المنسوب الى السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) الموجود تحت قبة العسكريّين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) هو قبر ام الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أي انه قبر السيّدة حديث (عَلَيهَا السَّلَامُ) استناداً الى وصيتها بان تدفن في الدار (2) وترجح هذا الرأي.
ص: 436
الشيخ حيدر السندي الأحسائي
معارف مهدوية
مطارحاتّ علميّة حول الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)
الجزء الثاني
ص: 437
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 438
تعتمد هذه الشّبهة على وجود اختلاف كبير في أسماء أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنها) ويمكن أن تُبيّن هذه الشّبهة ضمن مقدّمتين، وهما:
الملاحظ للرّوايات والأقوال الموجودة في اسم أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنها) يجدُ خلافاً، وتنقل بعض الروايات في ذلك:
الرواية الأولى: ما نقلها الشيخ الصدوق (قدّس اللّه سِرُّه) في (كمال الدِّين وتمام النّعمة): «عن أبي الحسين محمّد بن بحر الشيبانيّ أنه قال - في وصف حال أم الامام (عَلَيهَا السَّلَامُ): وردت كربلاء سنة ستٍّ وثمانين ومائتين - وساق قصّة طويلةً ترتبط بشراء أمّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، ثمّ قال في بيان ما وقع في طريقه إلى الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) - : فلما أخذها القرار، حتّى أخرجت كتاب مولاها (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جيبها، وهي تلثمه وتضعه على خدّها، وتطبقه على جفنها، وتمسحه على بدنها، فقلتُ تُعجبًا منها: أتلثمين كتابًا ولا تعرفين صاحبه؟ قالت: أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك أنا مليكة بنت يوشعا، بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريّين، تنسب
ص: 439
إلى وصيّ المسيح شمعون» (1)، فهذه الرواية تدلُّ على أنَّ اسمها مليكة.
الرّواية الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس اللّه سِرُّه)- أيضاً - في (كمال الدِّين وتمام النّعمة)، أنَّ السيّدة الجليلة حكيمة بنت الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالت: «بعث إليَّ أبو محمّد الحسن بن علي فقال : يا عمّة، اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا، فإنَّها ليلة النصف من شعبان، فإن اللّه (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) سيظهر في هذه الليلة الحجّة وهو حُجّته في أرضه، قالت: فقلتُ له: ومَن أمّه قال لي: نرجس» (2)، وهذه الرّواية تدلّ على أن اسمها (رضیَ اللّهُ عنها) نرجسٌ.
الرواية الثالثة: ما رواه الشيخ الصّدوق (قدّس اللّه سِرُّه) - أيضاً - في (كمال الدِّين وتمام النّعمة): (حدَّثنا محمّد بن على ماجيلويه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : حدَّثنا محمّد بن يحيى العطار، قال: حدَّثنا أبو علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا أغار جعفر الكذّاب على الدار، جاءته فارّةً من جعفر فتزوج بها، قال أبو علي فحدّثتني أنّها حضرت ولادة السيّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)- أي: ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) -، وأنّ اسم أم السيّد صقيل» (3)، وهذه الرّواية تدلّ على أن اسمها (رضیَ اللّهُ عنها) صقيلٌ.
الرّواية الرّابعة: ما رواه الشيخ الصّدوق (قدّس اللّه سِرُّه)- أيضاً - في (كمال الدِّين وتمام النّعمة): «بسنده عن غياث بن أسيد قال ولد الخلف المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) يوم الجمعة، وأمّه ريحانة، ويقالُ لها نرجس، ويقال صقيل، ويقال سوسن» (4)، وهذه الرواية تدلّ على أنَّ مِن أسمائها (رضیَ اللّهُ عنها) ريحانة وسوسن.
ص: 440
الرواية الخامسة: ما في (كشف الغمّة في معرفة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)) للإربلي: «حدَّثني محمّد بن موسى الطوسي، قال: حدَّثنا أبو مسكين عن بعض أصحاب التواريخ، أن أم المنتظر يقالُ لها حكيمة پ» (1).
وهذه الرواية تدلُّ على أن اسمها (رضیَ اللّهُ عنها) حكيمةٌ.
الرواية السادسة : ما نقله الشهيد الأول (قدّس اللّهُ سِرُّه): «ولد بسرّ من رأى يوم الجمعة ليلاً، وقيل ضُحى الخامس عشر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين أمّه صقيل ، وقيل نرجس، وقيل مريم بنت زيد العلويّة» (2)، ونقل هذه العبارة العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» (3)، وهذه الرّواية تدلّ على أنّه قيل بأنَّ اسمها (رضیَ اللّهُ عنها) مريم.
الرواية السابعة: ما نقله العلّامة المجلسي (قدّس اللّهُ سِرُّه) في (بحار الأنوار): عن ابن خلكان صاحب (وفيات الأعيان) أنّه قال: «هو ثاني عشر الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الإماميّة، المعروف بالحجّة، وهو الّذي تزعم الشّيعة أنَّه المنتظر والقائم المهديّ، وهو صاحب السّرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرةٌ، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزّمان من السّرداب بسرّ من رأى، كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمسٍ وخمسين ومائتين، ولمّا توفي أبوه كان عمرُه خمسَ سنين، واسم أمّه خمط، وقيل نرجس» فهذه الرّواية تدلُّ على أنَّ اسمها (رضیَ اللّهُ عنها) خمط» (4).
وفي هذه الروايات التي نقلتُها أسماءٌ ثمانية.
ص: 441
وجود هذا الاختلاف الكبير في اسم أمّ الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) في الرّوايات والأقوال يدلّ على أنَّ قضية الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) بحسب المعتقد الشيعي قضيّةٌ خرافيّةٌ، فقد قال صاحب هذه الشبهة: «وبعد فإنّ القارئ لهذه الروايات ليكادُ عجبه لا ينتهي أمام هذا الاختلاف الصارخ في اسم أمّ المهديّ، والّذي لا مُبرّر له سوى اضطراب مفتعلي هذه الأكاذيب وتنوّع مشاربهم وتباعد أماكنهم وتخالف غاياتهم»، فالمشكل يرى أنّ هذا الاختلاف الكبير في اسم أمّ الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) يدلُّ على عدم وجود أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنها)، وبالتالي عدم وجود الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) عماله، فليست القضية بحسب نظره إلّا قضيَّة مكذوبةً ومفتعلة.
في مقام التعليق على هذه الشبهة أذكر بعض التّعليقات:
التعليق الأوّل: احتمال تعدّد الأسماء واقعاً.
إنّه لا يوجد أيُّ تنافٍ بين هذه الروايات المتعدّدة في ذكر اسم أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنها) لأنّه من المحتمل أن يكون هذا التعدّد ليس من جهة تعارض الرّوايات وإنّما بسبب أنَّ أسماءها في الواقع مُتعدّدة، فهناك فرق بين أن يكون لها اسم واحدٌ ووقع فيه الاختلاف وبين أن يُقال إنه لها أسماء متعدّدة، وهذه الرّوايات تنقل هذه الأسماء المُتعدّدة، فهذا أمرٌ مُحتمل، وغاية ما في الأمر هو تعدّد الروايات في ذكر الأسماء الثّابتة.
و تعدّد الأسماء ثابت في جملة من الشخصيات التي عرفت بأكثر من اسم ومنها النّبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقد روى القومُ عن جبير بن مطعم قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): لي خمسةُ أسماءٍ: أنا محمّدٌ، وأحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو اللّه بي الكفر، وأنا
ص: 442
الحاشر الّذي يحشر الناس على قدميه، وأنا العاقب» (1).
وأخرجه مسلم في (كتاب الفضائل)(2)، وتوجد بعض الرّوايات التي تدلّ على تعدّد أسماء أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنها)، وبالتالي فلا تكون هذه الروايات والأقوال متنافيةً فيما بينها، لأنَّ أمّ الإمام الحجّة (رضیَ اللّهُ عنها) اسمها مليكة، وسوسن، ونرجس، وصقيل، فلا يوجد أي تناف وتعارض، وتوجد روايات تؤيد هذه المحتمل، ومنها:
الرواية الأولى: ما رواه المحدث الشيخ النوري (قدّس اللّهُ سِرُّه) في كتابه «النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب».
فقد نقل الأقوال في سنة ولادة الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، ورجح أنّها سنة مائتين وخمسة وخمسين، حيثُ قال : «ولكنَّ أقوى الأقوال هو الأول، وذلك للرواية الصّحيحة التي رواها الشيخ الثّقة الجليل أبو محمّد الفضل بن شاذان، الّذي كان موجودًا بعد ولادة الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وتوفي قبل وفاة الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كتابه الغيبة، قال: حدَّثنا محمّد بن حمزة بن الحسن بن عبد اللّه بن العبّاس بن علي بن أبي طالب، قال: سمعت أبا محمّدٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، يقول : قد ولد وليّ اللّه، وحجته على عباده، وخليفتي من بعدي، مختونا ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومئتين عند طلوع الفجر، وكان أوّل من غسله رضوان خازن الجنان، مع جمع من الملائكة المقربين، بماء الكافور والسلسبيل، ثمّ غسلته عمّتي حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ سأله الراوي عن أم صاحب الأمر (رضیَ اللّهُ عنهَا)، فقال : أمّه مليكة، التي يُقال لها بعض الأيام سوسن، وفي بعضها ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضًا من أسمائها» (3).
ص: 443
فهذه الرواية تدلّ على أنَّ كل هذه أسماءٌ لها (رضیَ اللّهُ عنهَا)، وهي تطلق عليها.
الرواية الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق له في «كمال الدِّين وتمام النعمة» - تقدمت فيما سبق - : «بسنده عن غياث بن أسيد قال: ولدَ الخلفُ المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) يوم الجمعة، وأمّه ريحانة، ويقال لها نرجس، ويقال صقيل، ويقال سوسن
إذن، يوجد في بعض الرّوايات ما يدلُّ على احتمال أنَّ لها (رضیَ اللّهُ عنهَا) أكثر من اسم والرّوايات المتعدّدة إنّما اختلفت فيها الأسماء بسبب أنَّ كلَّ مؤرخ إمّا وقف على اسم واحد أو أكثر فنقله، أو هو اكتفى بنقل اسم واحد من أسمائها (رضیَ اللّهُ عنهَا)، ولم يكن بصدد استقراء الجميع.
وقد يطرح هذا السؤال: لماذا يكون للسيّدة الجليلة أم الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنهَا) أكثر من اسم؟
وفي مقام الجواب نقول: إنّه يُحتمل في وجه ذلك أسبابٌ مُتعدّدة، نعرضُ لثلاثة منها:
إنَّ أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنهَا) هي أمّ خليفة اللّه (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، الّذي سيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورًا، فهي أمّ الإنسان الّذي بيده تزول الأنظمة الظالمة، فإذا كانت الدُّولة العبّاسيّة على دراية بهذه الحقيقة كما تدلّ على ذلك جملةٌ من الرّوايات فمن الطبيعي أن القائمين عليها سوف يراقبون الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ويراقبون جواريه حتّى يتخلّصوا من أي مولود يولد له خصوصا مع ظهور العقيدة الإمامية التي تستند إلى وجود اثني عشر إمامًا، وأنَّ آخرهم هو المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، وأنَّ الإمام
ص: 444
العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو الإمام الحادي عشر، فمن الطبيعي أن يحاولوا مراقبة وملاحظة الإمام وبيت الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حتّى يقضوا على الشخص الّذي يعتقد الشيعة أنَّ على يده زوال الأنظمة الجائرة بما في ذلك نظام بني العبّاس، وهذا كما وقع في زمن نبي اللّه موسى (على نبيّنا وآله وعليه أفضل التحيّة والسّلام)، فقد نقلت الروايات أن فرعون كان على دراية بأنَّ زوال حكمه سوف يكون على يد مولود من بني إسرائيل، ولهذا أخذ يذبح أبناءهم ويستحبي نساءهم.
والأمر كذلك وقع في زمن الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولهذا كان زمان الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) زمان تقيّة، وهنا أنقل بعض الروايات التي تبيّن شدة الخوف في زمن الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والتفات بني العبّاس إلى أن عقيدة الشيعة تقوم على أنَّ للإمام العسكريّ ولداً، وهو الّذي يزيل الأنظمة الظالمة، وهذا ما حمل بني العبّاس على مراقبة الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومراقبة جواريه :
الرواية الأولى ما في كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسيّ (قدّس اللّهُ سِرُّه)، حيث ذهبت السيّدة حكيمة (رضیَ اللّهُ عنهَا) بعد ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) إلى حجرة السيّدة نرجس (رضیَ اللّهُ عنهَا)، فلم تجد الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، فبيّنت هذا الأمر وذكرت ما قاله لها الإمام الحسن العسكريّ في ذلك، فقالت (رضیَ اللّهُ عنهَا): «فلمّا كان بعد ثلاث اشتقتُ إلى ولي اللّه، فصرت إليهم، فبدأت بالحجرة التي كانت سوسن فيها، فلم أرَ أثرًا ولا سمعت ذكرًا، فكرهت أن أسأل، فدخلت على أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاستحييت أن أبدأه بالسؤال، فبدأني فقال: هو يا عمّة، في كنف اللّه، وحرزه، وستره، وغيبه حتّى يأذن اللّه له، فإذا غيّب اللّه شخصي وتوفّاني، ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثّقات منهم، وليكن عندك وعندهم مكتومًا، فإنَّ ولي اللّه يغيّبه اللّه عن خلقه، ويحجبه عن عباده، فلا يراه أحد حتّى يقدّم له جبريل
ص: 445
(عَلَيهِ السَّلَامُ) فرسه، ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولاً) (1).
الرواية الثانية: ما رواه الأعلام (2) بسند معتبر عن عبد اللّه بن جعفر الحميريّ، عن محمّد بن عثمان العمريّ أنَّ عبد اللّه سأله: «... فقلت له: أنت رأيت الخلف من أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ فقال : إي واللّه، ورقبته مثل ذا، وأومأ بيديه، فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي هات قلت فالاسم؟ قال: محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك ولا أقول هذا من عندي فليس لي أن أحلل ولا أحرم، ولكن عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد مضى ولم يخلف ولدًا، وقسم ميراثه، وأخذه من لا حق له، وصبر على ذلك وهو ذا عياله يجولون وليس أحد يجسر أن يتعرّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا اللّه وأمسكوا عن ذلك، يقول الحرّ العامليّ (قدّس اللّهُ سِرُّه) معلّقاً على هذه الرواية: «أقول: هذا أوضح دلالة في أنَّ وجه النهي التقيّة والخوف»(3)، أي أنَّ وجه النّهي عن ذكر اسم الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو التقيّة؛ لأنَّ الوضع السياسي في ذلك الزمان كان وضعًا تُحيفًا يُخشى منه على الإمام بقية اللّه (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف).
الرواية الثالثة: ما رواه في (إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات) : «حدَّثنا عبد اللّه بن الحسين بن سعد الكاتب، قال: قال أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : قد وضع بنو أمية وبنو العبّاس سيوفهم علينا لعلّتين: إحداهما؛ أنهم كانوا يعلمون أنه ليس لهم في الخلافة حق، فيخافون من ادعائنا إياها، وتستقرّ في مركزها، وثانيتهما: أنهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أنَّ زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منا، وكانوا لا
ص: 446
يشكّون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإبادة نسله، طمعا منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو قتله، فأبى اللّه أن يكشف أمره لواحد منهم، إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون»(1).
الرواية الرابعة: ما روي في «كمال الدِّين وتمام النعمة» : (قال هشام بن الحكم لشاميّ كان يناظره : كفعل فرعون في قتل أولاد بني إسرائيل للذي قد كان ذاع منهم وانتشر بينهم من كون موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بينهم وهلاك فرعون ومملكته على يده، وكذلك كان فعل نمرود قبله في قتل أولاد رعيّته وأهل مملكته في طلب إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، زمان انتشار الخبر بوقت ولادته، وكون هلاك نمرود وأهل مملكته ودينه على يده، كذلك طاغية زمان وفاة الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والد صاحب الزمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وطلب ولده، والتوكيل بداره و حبس جواريه و انتظاره بهنَّ وضع الحمل الّذي بهنَّ»(2).
فالعبّاسيّون كانوا يعلمون بقضية الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) في عقيدة الشيعة، وأنه ابن الإمام الحسن العسكريّ، ولهذا شدّدوا المراقبة وأرادوا أن يقتلوا الإمام الحسن العسكريّ، أو يقتلوا الجارية التي تحمل له بولد، أو يقتلوا الولد فيما إذا ولد حتّى يقطعوا الطّريق على الشيعة نحو إيجاد ثورة بقيادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) على حكمهم الظّالم والجائر.
الرواية الخامسة: ما رواه الشيخ الصّدوق (قدّس اللّهُ سِرُّه) في (كمال الدِّين وتمام النعمة): قال: حدَّثنا أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سمعت أبا الحسين الحسن بن وجناء، يقول: حدَّثنا أبي، عن
ص: 447
جدَّه أنه كان في دار الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فكبستنا الخيل وفيهم جعفر بن عليٍّ الكذّاب أي: هجمت الخيل على بيت الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وفيهم جعفر الكذاب أخو الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - واشتغلوا بالنّهب والغارة، وكانت همتي في مولاي القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: فإذا أنا به قد أقبل، وخرج عليهم من الباب وأنا أنظر إليه، وهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن ستّ سنين، فلم يره أحدٌ حتّى غاب» (1).
فإذا كان الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولد سنة مائتين وخمس وخمسين، ووالده توفّي في سنة مائتين وستين، فتكون هذه الهجمة والغارة على بيت الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد وقعت بعد سنة من وفاة الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فهم كانوا يشدّدون المراقبة، ويهجمون على بيت الإمام العسكريّ حتّى بعد وفاته بسنة - بحسب هذه الرواية الأمر الّذي يدلُّ على أنَّ الوضع الأمني كان مخيفاً جداً على الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف).
وتوجد روايةٌ تدلُّ على أنَّ جلاوزة بني العبّاس هجموا على بيت الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسحبوا جاريةً له تُكنّى بأم عبد اللّه وخفروها إلى بغداد لتجلس بين يدي السّلطان (2).
وهذا الوضع الأمني يتطلّب أن يقوم الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعدة خطوات للحفاظ على الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، ومن هذه الخطوات أنَّ يُغيّر اسم أمّ الإمام حتّى لا تُطلب، فيقول في وقت من الأوقات: إن هذه الجارية اسمها سوسن، ثمّ يقول في وقت آخر: إن اسمها نرجس، ثمّ يقول في وقت ثالث: إن اسمها صقيل وهكذا حتّى تتعدّد الأسماء، وبتعدد الأسماء لا يتمكن الظالمون من تحديد هويّة وشخصيّة أمّ الإمام، وبالتالي لا يتمكنون من قتلها.
ص: 448
لقد استطاعت السيّدة الجليلة والدة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، ومن خلال تغيير اسمها وتبديله أن تقوم برعاية وكفالة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) على أكمل وجه، ولهذا ورد في زيارتها (رضیَ اللّهُ عنها): (أشهد أنك أحسنت الكفالة، وأدّيت الأمانة، واجتهدت في مرضاة اللّه وصبرت في ذات اللّه وحفظت سرّ اللّه، وحملت وليّ اللّه وبالغت في حفظ حجّة اللّه، ورغبت في وصلة أبناء رسول اللّه، عارفةً بحقهم، مؤمنةً بصدقهم معترفة بمنزلتهم مستبصرةً بأمرهم، مشفقةً عليهم، مؤثرةً هواهم» (1) فهي (رضیَ اللّهُ عنها) بالغت في حفظ ولي اللّه (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)، وكيف تبالغ في حفظ ولي اللّه (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) إذا كانت قد كشفت عن هويتها؟!
ومن المشاهد والمعروف أنَّ من أهم الخطوات العقلانية، للحفاظ على شخص مُعيّن مطلوب ومستهدف؛ إخفاء هويته بجعل اسم آخر مُستعار.
إنَّ شدّة وخطورة الوضع الأمني كما أوضحناه في السبب الأول- تقتضيان الكتمان والتستّر، وهذا ما يجعل المعلومات المتسربة حول الإمام العسكريّ وأمّ الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) معلومات محدودة، فكما أن هذا الوضع جعل رواة الشيعة الأوائل يتكتمون فلا يذكرون اسم الإمام المهديّ وأمّه (عَلَيهَا السَّلَامُ) بصراحة؛ فإنّه قلّة يوجب المعلومات المتدفقة إلى عامة الناس، فلا يصل إلا ذكر أسماء متعددة وأحداث مختلفة غير واضحة، وهذا ما يُفسّر اختلاف بعض الرّوايات المرتبطة بشخصية أمّ الإمام (رضیَ اللّهُ عنها)
ص: 449
كانت أم الإمام الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) جارية، وقد تنقلت عند أكثر من مالك، وفي أكثر من بيت، ففي رواية إن بشر بن سليمان النّخاس وبأمر من الإمام عليّ الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) اشترى أم الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ونقل بشر أن نرجس تعمدت إخفاء هويتها، وقالت لمن اشتراها استما غير اسمها فاسمها مليكة، ولكنها لما انتقلت إلى من باعها إلى بشر وسألها عن اسمها، وأرادت هي أن تخبره عن اسمها، فلم تقل اسمها الأول، وإنّما أخبرته باسم آخر، ففي الرّواية قالت: «وما شعر أحدٌ بي، بأنّي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن إسمي، فأنكرته، وقلتُ: نرجس» (1).
ولعلّه هو الّذي باعها على بشر، أو لعله مالكٌ سابق، فيكون اسمها نرجس إلى أن اشتراها بشرٌ، ثمّ تذكر الرّواية أنه لما جاء بها بشر إلى الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، جعلها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند أخته السيّدة الجليلة حكيمة (رضیَ اللّهُ عنها) فقال أبو الحسن :(عَلَيهِ السَّلَامُ) يا كافور ادعُ لي أختي حكيمة، فلمَّا دخلت عليه، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها: ها هي، فاعتنقتها طويلا، وسُرّت بها كثيرًا، فقال لها :مولانا يا بنت رسول اللّه، أخرجيها إلى منزلك، وعلّميها الفرائض والسنن، فإنّها زوجة أبي محمّد، وأمّ القائم» (2)، ومن المحتمل أنَّ السيّدة الجليلة حكيمة (رضیَ اللّهُ عنها) قد جعلت لها اسماً عندما نقلتها إلى بيتها، ثمّ لمّا انتقلت إلى بيت الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) جعل لها اسما جديدا، وبهذا تكّثرت الأسماء.
ص: 450
وهذا السببُ مُحتملٌ جداً، حيث إنَّ العبيد والجواري تتعدّد أسماؤهم بتعدد البيوت التي ينتقلون إليها، لأنَّ كلّ مالك يريد أن يُطلق اسما مقرباً إليه، فقد يكون هذا هو السبب وراء تعدّد أسماء أمّ الإمام المهديّ (عَلَيهَا السَّلَامُ).
ذكر صاحب هذه الشبّهة أنَّ اختلاف الروايات في تحديد هوية أم الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يدل على أن قضية المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بحسب المعتقد الشيعي خرافةٌ، لأنَّ الاختلاف دليلٌ على عدم صحتها.
وفي مقام التعليق نقول:
لو سلّمنا - وأطبقنا العين عن التعليق الأوّل السابق وقلنا بأنَّ الروايات الواردة في اسم أمّ الإمام المهديّ (عَلَيهَا السَّلَامُ) المتعارضة، فإنّ ذلك لا يضر بأصل المهدويَّة الخاصة التي يعتقد بها الشيعة، ويتضح عدم الضرر إذا التفتنا إلى أمرين :
الأمر الأوّل: قد تقدّم في الفصل الثالث وجود أنواع متعدّدة من الأدلة، وهي بأجمعها تثبت المهدويَّة الخاصة، ومنها: الروايات المتواترة التي تنص على هوية الإمام وولادته، وأنَّه القائم المنتظر (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) ، وهذه الأدلة بأنواعها المتعدّدة تفيد القطع واليقين سواءٌ وجدت روايات تبين اسم أمّ الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أم لم توجد، فوجودُ روايات في اسم أمّ الإمام المهديّ متعارضة لا يوجب رفع اليد عن الأدلّة القطعية؛ إذ هذا التعارض في شأن تفصيليٍّ، وهو اسم أم الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
الأمر الثاني: هو إنّنا لو لاحظنا روايات اسم أمّ الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، نجد فيها مدلولين:
ص: 451
المدلول الأوّل: إنَّ للإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) أماّ قد ولدته.
المدلول الثاني: أن لأم الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنها) اسماً.
ولو سلمنا بوجود تعارض في المدلول الثاني، فهذا لا يسري إلى المدلول الأوّل، ففي المدلول الثاني - وبسبب التعارض - ترفع اليد، ونقول: إنه لم يثبت عندنا اسم خاص، لأمّ الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولكن في المدلول الأوّل المشترك والّذي لا تعارض فيه لا معنى لرفع اليد، بل سيكون هذا المدلول مُعاضداً وداعماً لأدلة العقيدة المهدويَّة الخاصة، والتي منها ولادة الإمام المهديّ، وأنه الإمام بعد الإمام العسكريّ.
ص: 452
ص: 453
الطَّبْعَة الأولى
كافَةِ الحقوق محفوظة وَمُسجّلة 1405 هجرية - 1985 ميلادية
مؤسسة الوفاء
تلفون : 386868 – صَ بَ : 1475 - بيروت - لبنان
ص: 454
وهنا يُناسب أن نذكر شيئاً من ترجمة حياة السيّدة نرجس والدة الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد ذَكَرْنا - فيما مضى - بعض كلمات الأئمّة (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) التي عبرت عن السيّدة نرجس ب_(خيرة الإماء) أو (سيدة الإماء).
والآن - وقبل كلِّ شيء - نذكر أسماءها، فقد ذَكَرَ المحدثون لها ثمانية أسماء : نَرْجِس، سَوْسَن، صَيْقل أو صقيل، حديثة، حكيمة، مليكة، ريحانة، وخَمط.
وأَشْهَرُ أسمائها : نَرْجِسٌ... وكُنيَتُها : أم محمّد.
وقد ذكرنا - في أوائل الكتاب - أن تعدُّد الأسماء لا يَدلُّ على تعددِ المُسَمّى، وذَكَرْنا أَنَّ السيّدة فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) كانت لها أسماء عديدة لأسباب ومناسبات متنوعة، وهكذا الكلام هنا هنا، فإن نرجس : إسم لبعض الأزهار العَطِرة، والخَمْط : نوع من شجر الأراك له حمل وثَمَرٌ يُؤْكَل قال تعالى : «ذَواتي أُكُلٍ خَمطٍ» (1) وسَوْسَن : أيضاً من أنواع الأزاهير ذات الرائحة الطيبة والفوائد الكثيرة المذكورة في كُتُب
ص: 455
الطب، والصقيل : هو الشيء الأملس، فلا مانع من أنْ تسمّى المرأة بأسماء متعدَّدة لمناسبات مختلفة، ولعلّ هناك أسباب وحِكَم ومصالح سياسية أو إجتماعية قد خفيت علينا.
ص: 456
الرؤيا الصادقة حقيقة ثابتة في القرآن والسُنَّة، وإستيعاب هذا البحث يحتاج الى تأليف خاص، كما فعل ذلك شيخنا النوري (عليه الرحمة) في كتابه : (دار السلام) ويمكن أنْ نُلخِّص القول فيما يلي :
ص: 457
لقد ذَكَرَ اللّه تعالى في القرآن الكريم منامات عديدة للأنبياء وغيرهم، فذَكَرَ في سورة الصافات رؤيا النبي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) وفي سورة يوسف تجد أربع منامات أحَدُها ليوسف بن يعقوب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وإثنين للشابين اللذين دخلا معه السجن، ورؤيا للملك يومذاك، وكانت هذه الأحلام والمنامات صادقة، فقد تحقق تأويلها وتعبيرها في الخارج (2).
وفي الأحاديث النبوية وأحاديث أئمة أهل البيت (عَلَيهِمُ السَّلَامُ) تجد كميَّة كثيرة من المنامات والأحلام الصادقة التي تحقق تأويلها وتعبيرها، فلقد رأى رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المنام : أنَّ رجالاً يَنْزُون على منبره نَزْوَ القردة، ويردُّون الناس على أعقابهم القهقرى، فأستوى رسولُ اللّه جالساً والحُزْنُ يُعرَفُ في وجهه، فأتاه جبرئيل بهذه الآية : «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، والشَجَرَةَ المَلعُونَة فِي القُرآنِ، ونُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُم إِلَّا طُغيَانَاً كَبِيرَاً» يعني بني أميَّة (3).
ورأى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) منامات أخرى وفَسَّرَها فكانت كما أخبر بها، تجد التفاصيل في الكتب التي تتحدث عن سيرته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)
والسيّدة فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) رأت أباها رسول اللّه في المنام في
ص: 458
يوم وفاتها، فقال لها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أنتِ الليلة عندي فتُوفِّيَتْ (عَلَيهَا السَّلَامُ) في ذلك اليوم، وكذلك الإمام علي أمير المؤمنين والإمام الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) كلُّ منهما رأى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) في المنام. فأخبر النبي كلا منهما باقتراب شهادته وتعيين يومها.
فالرؤيا الصادقة تُعتبر للإنسان الرائي مُكاشَفَة ومُكالمة ومخابرة من عالم ما وراء الطبيعة، ولقد ثبت في الأحاديث الصحيحة كلام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) حيث قال : «من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثَّل بي» ورُويَ الحديث أيضاً هكذا : «مَن رأنا فقد رآنا».
لقد كانت رؤيا السيّدة نرجس رؤ يا صادقة، بل تُعتبر رؤياها نوعاً من المكاشفة، فقد خَطَبها رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في عالم الرؤيا، وأسْلَمتْ في عالم الرؤيا بعد أنْ لَقّنتها السيّدة فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) كلمة الشهادتين، وكانت السيّدة نرجس ترى الإمام الحسن العسكريّ في منامها في كل ليلة، وأخيراً أخبرها الإمام بأن جدها قيصر ينوي محاربة المسلمين، وأمرها أنْ تجعل نفسها مع الوصائف والخدم وترافق الجيش ليكون ذلك وسيلة لوصولها الى البلاد الإسلامية، ثمّ تحظى بشرف المثول والحضور عند الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
كل هذه الأشياء تعتبر من الأمور الممكنة، وقد وقعت أمثالها بكثرة على مرَّ التاريخ. واختَصَّ اللّه تعالى السيّدة نَرجس بهذا الشرف الأرفع الخالد، بعد أن خلق فيها المؤهلات والمواهب من : نفسية شريفة، وفضائل شخصية، ومزايا جَمَّة، كالحياء والعِفَّة، وقوَّة الشخصية، والإيمان والأصالة
ص: 459
وغيرها، وهذه الفضائل والإمتيازات قد أهَّلتها لتكون والدة لسيِّدنا صاحب الزمان الحجّة بن الحسن، المهديّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فإنَّ الوراثة لها كلُّ الأثر في الطفل... وإلا فما هي الدوافع والدواعي لأن يخطبها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المنام وهي في بلاد الروم ؟؟
أما وَجَدَ الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في البلاد الإسلامية إمرأةً مسلمة يتزوّجها، أو جارية مسلمة يشتريها ؟؟. فلماذا هذه المقدمات الطويلة العريضة، وهذه التشريفات الخاصة العجيبة ؟
من الواضح أننا لا نستطيع الإحاطة والإطِّلاع بصورة مفصَّلة عن حياة السيّدة نرجس من حيث نفسيتها الممتازة وشخصيتها المثالية !
وأمّا الحديث الآخر الّذي يترجم حياة السيّدة نرجس فهو كما يلي :
روى الشيخ الصدوق في (إكمال الدِّين) بأسناده عن محمّد بن عبد اللّه المطهَّري قال : قصدتُ حكيمة بنت محمّد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد مُضي - أي : بعد وفاة - أبي محمّد الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسألها عن الحجّة وما أختلف فيه الناس من الحيرة التي فيها... الى أن يقول : فقلتُ يا مولاتي هل كان للحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَلَد ؟.
فتبسَّمَتْ... ثمّ قالت : إذا لم يكن للحسن عَقِبُ فَمَن الحجّة من بعده ؟ وقد اخبرتُكَ أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)(1).
ص: 460
فقلتُ : يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟.
قالت : نعم. كانت لي جارية يُقال لها (نَرجس)، فزارني إبن أخي، فأقبل يحدق النظر اليها. فقلت له : ياس. سيّدي لعلك هويتها فأرسلها إليك ؟ فقال : لا يا عمَّه، ولكنني اتعجَّب منها. فقلت : وما أعجَبَكَ منها ؟ (1) فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : سيخرج منها وَلَدٌ كريمٌ على اللّه عزَّ وجل، الّذي يملأ اللّه به الأرض عدلاً وقسطاً. فقلت : فأرسلها اليك يا سيّدي ؟ فقال : إستأذني في ذلك أبي.
قالت حكيمة : فلبست ثيابي وأتيتُ منزل أبي الحسن، فسلّمتُ وجلست، فبدأني (عَلَيهِ السَّلَامُ) : وقال : يا حكيمة إبعثي نرجس الى إبني أبي محمّد. فقلت : يا سيّدي على هذا قصدتك : على أن أستأذنك في ذلك فقال : يا مباركة إن اللّه تبارك وتعالى أحبّ أنْ يُشرككِ في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً.
قالت حكيمة : فلم البَثْ أن رجعت الى منزلي وزيّنتُها ووهبتها لأبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجمعتُ بينه وبينها في منزلي، فأقام عندي أيّاماً ثمّ مضى الى والده (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ووجهت بها معه... إلى آخر الحديث» (2).
ص: 461
أقول : هذا الحديث - كما تراه - لا يَذْكُرُ شيئاً من أصل السيّدة نرجس، وترجمة حياتها، سوى أنها كانت جارية للسيّدة حكيمة ورآها الإمام الحسن العسكريّ، ولا يذكر هذا الحديث كيفية وصولها الى سامراء والى السيّدة حكيمة بصورة خاصة. ولقد حاول بعض المعاصرين أن يجمع بين هذين الحديثين فقال : «لقد مرَّ في الحديث السابق أنَّ الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال لأخته حكيمة : يا بنت رسول اللّه خُذيها إلى مَنزِلكِ وعَلِّمِيها الفرائض والسُنَن فإنها زوجة أبي محمّد وأمّ القائم. فكانت نرجس عند حكيمة حتّى إشتهرت ب_(جارية حكيمة) .
فلعلّ الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) رآها في بيت عمَّته بعد ذلك، وجَعَلَ يُحدِق النظر إليها، ولا مانع من ذلك فهي زوجته» إنتهى.
ولكن المشكلة أنَّ كلمات هذا الحديث لا تساعد على هذا التأويل والتوجيه، فقول السيّدة حكيمة : «كانت لي جارية يُقال لها : نرجس» يدل على أن نرجس كانت ملكاً للسيّدة حكيمة، وكذلك قولها : «وَوَهَبْتُها لأبي محمّد» يُنافي كلام الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في الحديث السابق - «فإنَّها زوجة أبي محمّد».
وبعد تضعيف نظرية الجمع والتوجيه يأتي سؤال وهو : كيف جاز للإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يحدق النظر إلى إمرأة لا تحلّ له ؟.
والجواب : يجوز النظر الى جارية الغير إذا أذِنَ مالِكُها ذلك، ومن المستحيل أن ينظر الإمام العسكريّ الى إمرأة لا يحل له النظر اليها لأنه خلاف العصمة... وبعد هذا فإن هذا الحديث الثاني مروي عن محمّد بن عبد اللّه
ص: 462
المطهَّري أو الطهوي، وهو مجهول، ومعنى ذلك ان هذا الخبر ضعيف، والإعتماد على الحديث الأول أولى وأنسب، واللّه العالم.
ص: 463
ص: 464
ص: 465
فارس الزمن الغائب
كمال السيّد
كافة حقوق الطبع محفوظة
ومسجلة للناشر ومكتبة فدك
الناشر :باقيات
الكمية: 1500نسخة
المطبعة: وفا
الطبعة: الأولى
تاريخ الطبع 2008م - 1439 ه_.ق
القطع وعدد الصفحات: رقعي - 284 صفحة
شابك: 5-10-5026-600-978
عنوان الناشر ایران - قم - شارع معلم - رقم 44 تلفون: 7743900
مركز التوزيع : ایران - قم - مجمع الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) - الطابق الأرضي رقم 116،117 - تلفون: 7833624
مکتبة فدك
ص: 466
أميرةٌ فِي بَغداد
ص: 467
في عام 227ه_ - 841م توفي الإمبراطور تيوفثيل أحد أباطرة الأسرة العمورية الحاكمة ليخلفه على العرش ابنه القاصر ميخائيل (6 سنوات) فتألف مجلس للوصاية برئاسة والدة ميخائيل «تيودورا» وخاله «قیصر باراداس».
وانفردت تيودورا بالحكم وخاضت حروباً مدمّرة مع الدولة الإسلامية واستمرت في تربعها على العرش 14 سنة وقد اتهمت بارتكاب مذبحة مروعة بحق الأسرى المسلمين راح ضحيتها 12000 أسير.
وفي عام 856م 242ه_ قام أخوها قيصر باراداس باعتقالها وإجبارها على دخول الدير فأصبح بذلك الإمبراطور الفعلي لدولة الروم.
نحن الآن في عام 867م - 253ه_ حيث قام باسيل المقدوني بالتسلل إلى غرفة نوم قيصر باراداس وقتله، ثمّ خنق ميخائيل الثالث الّذي لم يبلغ الثلاثين من العمر، وبهذه العملية الانقلابية انتهى إلى الأبد حكم الأسرة العمورية.
ص: 468
وقد قام باسيل وهو شخصية انتهازية دموية بتصفية جميع أفراد الأسرة فشتت الأسرة وفرّت بعض الأميرات وتوارين عن الأنظار وخلال فترة التصفيات الدموية اغتيلت الإمبراطورة تيودورا في الدير وهكذا بدأ عهد جديد في إمبراطورية الروم البيزنطيين، هو عهد الأسرة المقدونية.
كانت سياسة المعتز تتركّز في انتهاج سياسة القمع التي قادها والده المتوكل، وقد أصبحت والدته التي عرفت باسم «قبيحة» هي الحاكم الفعلي يعاونها رئيس الوزراء الّذي اعتنق الإسلام مؤخراً «ابن إسرائيل» إضافة إلى شخصيات من حكومة المتوكل
وقد قام المعتز بترقية ضباط الشرطة من غير الأتراك وجعلهم عماد الحرس الخاص.
وقد شنّت الدولة حملة اعتقالات في سامراء وبغداد طالت عشرات العلويين وممن تشم فيهم رائحة الولاء لهم وفي طليعة من اعتقل في بغداد أبو هاشم الجعفري وذلك بأوامر شخصية من المعتز بذريعة أن الخليفة يفكر في إرساله إلى طبرستان شمال إيران للتفاوض مع مؤسس الدولة العلوية هناك «الحسن بن زيد».
ص: 469
وكانت خزانة الدولة عاجزة بسبب الفوضى عن سد نفقات الشرطة والجيش التي بلغت ميزانيتهم 200.000.000 دينار سنوياً وهو ما يساوي إيراد الدولة مدّة عامين!
وقد أدّى توقف صرف المرتبات إلى اندلاع حوادث شغب نفذها عسكريون
وقد لقي الضابط التركي وصيف مصرعه بأيدي الغاضبين، ولكن ابنه صالح بن وصيف استطاع أن يقمع تلك الحركة ما استدعى من المعتز إلى أن يمنحه جميع امتیازات وصلاحيات والده.
وفى تلك الأجواء المشحونة بالقلق والاضطراب سُمع الإمام الهادي يقول: «إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يُظن بأحد سوءً حتّى يُعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه».
كان قد مضى شطر من الليل عندما أرسل الإمام الهادي كافور الخادم إلى منزل بشر بن سليمان النخاس تاجر الرقيق الّذي اكتسب سمعة طيبة في تجارة الرقيق، أنه يعتمد مبادئ
ص: 470
أخلاقية وشرعية دقيقة في هذه التجارة ولا يتورط في أيّة صفقات مشبوهة خاصة بعدما تورطت الدولة في حروب الأطفال داخلية وكان الجيش الحكومي لا يتورع عن سبي والنساء المسلمات!!
كانت رياح كانون تهب في أزقة سامراء والأبواب موصدة ومن بعيد كان يأتي عواء الذئاب ليختلط مع سنابك خيول يمتطيها جنود أتراك.
عندما وصل بشر إلى منزل الإمام لم يكن يعرف دوافع هذا اللقاء قبيل منتصف الليل.
جلس بشر متأدباً في حضرة الإمام الّذي أسرع الشيب إلى رأسه ولحيته رغم أنه لم يبلغ الأربعين بعد.
ابتسم الإمام لضيفه وقال بودِّ.
- يا بشر إنك من ولد الأنصار وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف وأنتم ثقاتنا أهل البيت وأنى مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة بسر أطلعك عليه.
كان الإمام قد أعد رسالة باللغة الرومية فختمها وسلّمه حقيبة صفراء اللون فيها 220 ديناراً وقال:
- خذها وتوجه إلى بغداد إلى معبر الصراة وانتظر قدوم زوارق السبايا.. فإذا رأيت بين الجواري فتاة ترتدي قميصاً
ص: 471
حريرياً وترفض أن تسفر عن وجهها فهي التي أريد.
في صباح اليوم التالي كان بشر في طريقه إلى شارع الخليج حيث ترسو السفن والقوارب القادمة من بغداد أو التي تنتظر المسافرين لنقلهم إلى بغداد.
كانت الشمس قد أشرقت فوق ذرى النخيل على امتداد شاطئ النهر عندما انسابت السفينة تحملها أمواج دجلة وفي الضحى وصلت السفينة «معبر الشماسية» وقد لاحت جذوع النخيل المحترقة في الحرب الأهلية قبل أكثر من عام.
كانت آثار الحرب ما تزال واضحة في ضفاف دجلة وبقايا السور الطويل الّذي كان الخط الدفاعي الأوّل في صد هجوم الجيش التركي القادم من سامراء، كما بدت بعض الدور المهدّمة في معبر الصراة. وقف بشر النخاس ينتظر وقد شعر بالدفء تحت أشعة شمس كانون.
وعلى مقربة من النهر ينهض سوق للرقيق وقد تشكل وفقاً لمتطلبات هذه التجارة فهناك دكة ينادي عليها النخاس ومكان لعرض الفتيات من وراء ستارة شفافة أما إذا كان الرقيق من الغلمان فأنّهم يقفون بالقرب من التاجر.
وبدأت الحركة في السوق مع وصول قوارب تحمل سبايا الاشتباكات الأخيرة مع دولة الروم.
وبدأ أحد النخاسين بإطلاق أولى نداءات البيع.
ص: 472
- حسناء تجيد طهي الطعام وتحسن شيئاً من الغناء وتحفظ أخباراً مليحة.
قال رجل :
- كم عمرها؟
عشرون سنة.
ونادى النخّاس:
- خیزران!
ونهضت فتاة عليها ملامح سكان أرمينيا.
وحضر رجال يبدو عليهم أنهم موظفون في الدولة، كما تجمع شبان جاءوا للنظر فقط.
وقف بشر قرب دكّة عمر بن يزيد النخّاس وهو التاجر المطلوب. كان التاجر قد باع جاريتين وكان ينادي على الثالثة فيما كانت فتاة رابعة تختبئ كانت في السادسة عشرة من العمر.
نادی النخّاس:
- عمرها أربعة عشرة سنة تحسن العربية
صاح شاب متهكماً:
- لكننا لا نرى شيئاً.
أزاح النخّاس الستر جانباً وأراد أن يمسك بردن الفتاة لكنها جذبته وندّت منها صرخة بلغة رومية.
علق شاب آخر :
ص: 473
- كيف تريدنا أن نبتاع هكذا.
لوّح النخّاس بسوطه فتراجعت الفتاة.. آه ما أسوأ أن يباع الإنسان في الأسواق.
وانفضّ الناس بعد عجز النخاس عن بيع الفتاة وهنا تقدم بشر بعد أن رأى أن الفتاة ترفض كل عرض بالشراء من إنسان لا تطمئن إليه قال بشر لتاجر الرقيق :
- أن معي رسالة مختومة لبعض الأشراف كتبها بلغة رومية وخط رومي وهو رجل نبيل فلتقرأ الفتاة الرسالة فإن رضيت فأنا وكيله في إتمام الصفقة.
هزَّ التاجر رأسه موافقاً فناول بشر الرسالة إلى الفتاة فتحت الفتاة الشابة الرسالة وراحت تقرأ وقد تألق وجهها فرحاً ثمّ التفتت إلى التاجر وقالت بعني إلى صاحب الرسالة.
قال التاجر:
- لن أبيعها بأقل من ثلاثمائة دينارا!
هذا ثمن باهض.
صاحت الفتاة
- سأقتل نفسي إذا رفضت!
قال بشر
- أن معي هذه الحقيبة وهي لصاحب الرسالة وفيها مئتان وعشرون ديناراً لا تزيد ولا تنقص.
ص: 474
سكت التاجر لحظات ثمّ قال:
- هاتها.
على بركة اللّه.
وأمضى الرجلان وثيقة البيع.
أما الفتاة فقد قبلت الرسالة ووضعتها على عينيها وكان بشر ينظر إلى ما تفعل متعجباً.
أن ما يره لا يجد له تفسيراً فهذه الفتاة الرومية تقبل رسالة لا تعرف صاحبها فتساءل:
- أتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه ؟!!
سكتت الفتاة ثمّ قالت:
- أعرف أنك أمين وأن من أرسلك قد ائتمنك على سرّ لم يطلع أحداً عليه وأنا أستودعك سراً لم أطلع أحداً عليه!!
وسكتت لحظات وارتدى وجهها وقاراً وألقاً من النور وهي تقول:
أنا «مليكا» بنت يشوعا بن قيصر وأُمّي من ولد الحواريين من ذرية شمعون.
في المركب الشراعي المتّجه صوب سامراء، جلست الفتاة تنظر إلى النخيل وقد غمرته شمس الأصيل بأشعته
ص: 475
الذهبية.
واشتعلت في ذاكرتها تلك الرؤيا العجيبة.. كان عرشاً من نور والسيّد المسيح جالس على العرش يدخل رجل مهيب الطلعة يرتدي زياً عربياً شعره متموج كبحيرة رقراقة ... سوالفه تتلألأ وابتسامة تشرق في وجهه المضيء.. وينهض السيّد المسيح ليعانقه.. أنه أحمد الّذي بشر به الإنجيل.
قال :أحمد يا روح اللّه جئتك خاطياً من وصيّك شمعون ابنته لابني هذا وأوماً إلى فتى أسمر.. عيناه النجلاوان تشعان بالصفاء وابتسم شمعون ومعه الحواريون.. عندما انتبهت وجدت نفسها بين أيدي الراهبات وكان جبينها يلتهب من الحمى وجاء جدها قيصر لزيارتها فقال لها:
- هل تشتهين شيئاً؟
قالت :
- يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة، فلو كشفت العذاب عن أسرى المسلمين وفككت عنهم الأغلال... لرجوت أن يهبني المسيح وأمّه لي الشفاء.
ووعدها الجد بذلك.. وظلت مليكا تحت تأثير الرؤيا وما تزال صورة الفتى العربي الأسمر تتألق في وجدانها.
في مساء اليوم الثالث رأت مليكا حلماً آخر، تمثلت لها السيّدة مريم والى جانبها سيدة وجهها يزهر نوراً، على رأسها
ص: 476
إكليل من أحد عشر كوكباً وقد أشرقت فوق رأسها شمس بهية وقمر منير وتحفها حوريات الجنة.
قالت :مریم
- هذه سيدة النساء... فاطيما..
وتهيأت الفتاة لتعانق سيدة النساء وتهب من نومها تفكر في أمرها!! وكيف مال قلبها إلى أن تتعلم العربية منذ نعومة أظفارها.. عندما سمعت بأن المسلمين الأسرى اختاروا الموت ورفضوا التخلي عن دينهم ومنذ أن رأت تلك الرؤيا وهي تفكر كيف تعبر الحدود لتلتقي فتى الأحلام.
وفيما هي تخطط للالتحاق بالجبهة بذريعة التمريض وقعت حادثة الانقلاب العسكريّ بقيادة باسيل المقدوني الّذي شتت الأسرة العمورية وفي غمرة تلك الفوضى تمكنت أن تحقق فكرتها فالتحقت بالجبهة للتمريض ووقعت في أسر المسلمين فكانت في سهم شيخ مسلم سألها عن اسمها فقالت على الفور :
- نرجس
قال الشیخ:
- أنه اسم يطلق على الجواري. وهكذا أخذت طريقها مع السبايا إلى مدينة بغداد حيث تزدهر تجارة الرقيق بسبب الحروب الداخلية والخارجية.
ص: 477
قبيل الغروب وصل بشر النخاس «محل درب الحصا» حيث تقع دار الإمام الهادي وكانت جارية تتبعه وعيناها تشرقان بالأمل.
احتفى الإمام الهادي بالفتاة التي وصلت على قدر...
كان المنزل تغمره سكينة الغروب.. ولم يكن في منزل الإمام أحد سوى بعض الجواري وكان كافور جالساً قرب الباب الرئيسية وكأنه ينتظر قدوم ضيف كريم.
قال الإمام لكافور:
- أدع لي أختي حكيمة
وانطلق كافور بعد أن نشرت ظلمة الغروب ستائرها الشفافة... جلست الفتاة في حضرة الرجل الّذي بلغ الأربعين وقد غادر بشر المنزل بعد أن ودع الإمام الّذي نظر إليه وكأنه يؤكد عليه أن يبقى كل شيء سراً مستوراً.
وصلت حكيمة لرؤية الفتاة التي اختارها القدر لتكون أمّاً للصبي الموعود، قال الإمام لأخته:
- ها هي!
وهبّت المرأة لتعانق الفتاة وانحنت مليكا فقبلت يد السيّدة المباركة.
ص: 478
قال الإمام للفتاة:
- كيف أراك اللّه عزَّ الإسلام وذل النصرانية؟
قالت الفتاة بأدب:
- كيف أصف لك يا بن رسول اللّه ما أنت أعلم به مني!
قال الإمام وهو يغمرها بنظرات تفيض رحمة وحناناً:
- أريد أن أكرمك.. فأيهما أحب إليك عشرة آلاف درهم؟ أم بشرى لك بشرف الأبد؟
- بل البشرى يا سيّدي!
قال الإمام وهو يبشر بميلاد الطفل الموعود :
- فابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجورا!
أطرقت الفتاة برأسها حياءً وقد تورد وجهها وكأنها تريد أن تعرفه ويطمئن قلبها ثمّ نظرت إليه نظرة تساؤل.
لهذا قال الإمام:
- ممن خطبك رسول اللّه له
والتفت الإمام إلى أخته قائلاً:
- يا بنت رسول اللّه خذيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن ونهضت السيّدة حكيمة مصطحبة معها الفتاة الكريمة التي ستعرف بعدة أسماء: فهي «ريحانة» و «سوسن» ونرجس و «حديثة» أما أسمها الحقيقي «مليكا» فسيبقى
ص: 479
مستوراً مع جذورها وسرها المكنون.
وانتقلت «مليكا» إلى منزل السيّدة حكيمة لتعيش هناك مدّة من الزمن.
* تمرد أحد كبار القادة الأتراك (بغا الشرابي) وفشل الحركة التي انتهت بإلقاء القبض عليه وإعدامه.
* قيام دولة بني طولون في مصر وانفصالها عن الدولة المركزية.
* ثورة في الأندلس.
* قيام الدولة الصفارية وامتداد نفوذها إلى إقليم سيستان وكرمان في إيران.
* تدهور صحة الإمام علي الهادي حزيران سنة 868 جمادي الثانية سنة 254ه_.
كان الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي تجاوز العشرين من عمره في منزل عمته وهناك وقعت عيناه على فتاة يراها لأول مرة فظل ينظر إليها لحظات وكأنه يعرفها من قبل.
وأدركت السيّدة حكيمة أن اللّه سبحانه هو مقلب القلوب وبيده مصائر الخلق من أجل هذا انطلقت لتطلع هذا انطلقت لتطلع أخاها على
ص: 480
رغبة الحسن في الزواج من الفتاة كان قلبها مفعماً بفرحة لا توصف سوف تزف لابن أخيها فتاة طاهرة كأنها قطرة ندى وسيكون ثمرة هذا الزواج صبى تتحقق على يديه آمال البشرية
ما إن دخلت السيّدة حكيمة حتّى بادرها الإمام قائلاً:
- يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمّد
قالت السيّدة :
- يا سيّدي من أجل هذا جئتك أردت أن أستأذنك في ذلك.
قال الإمام
يا مباركة إن اللّه تبارك وتعالى أراد أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً.
وعادت السيّدة حكيمة إلى منزلها لتجهز العروس في إحدى حجرات البيت ليكون عشاً دافئاً لأسرة طاهرة.. أسرة سيكون لها مجد رفيع.
وهكذا جمع اللّه بين قلبين طاهرين ينبضان بالحب والخير لكل الناس.
ورفرفت طيور السعادة في سماء حياتها ولكن رحيل الإمام الهادي، ذلك القلب الكبير المفعم بالسلام نشر الحزن كغيمة داكنة حجبت نور الشمس كان الحسن قد انتقل إلى
ص: 481
منزله ومعه زوجته قبل وفاة والده وسرعان ما تدهورت صحته بشكل خطير وتبادل الناس همسات في الخفاء حول دسّ السم في طعامه وقد واجه الحسن هذه الفاجعة بثبات الجبال.
وكان أخوه محمّد قد توفي في مدينة «بلد» أثناء عودته إلى المدينة المنورة لهذا لم يبق إلى جانبه أحد، لقد بقي وحيداً في مواجهة المحن، أما شقيقه جعفر فقد انصرف إلى مرافقة أصدقاء السوء ولم يكن ليفكر في شيء سوى اللهو.
ولم يكن يوم وفاة الإمام الهادي يوماً عادياً فقد تعطلت الحياة في سامراء، وجاء أخو الخليفة الّذي عرف بالموفق ممثلاً رسمياً عن شخص الخليفة ليقدّم التعازي للإمام الحسن بهذه المناسبة الأليمة.
لقد كان يوم 25 جمادى الثانية يوماً لا ينسى في ذاكرة سامراء.
ص: 482
ص: 483
بانتظار الّذي يأتي
كمال السيّد
كافة حقوق الطبع محفوظة
و مسجلة للناشر ومكتبة فدك
الناشر: باقيات
الكمية: 2000 نسخة
المطبعة: وفا
الطبعة: الأولى
تاريخ الطبع 2008 م - 1439 ه_. ق
القطع وعدد الصفحات: وزيري. 356 صفحة
شابك : 9-12-5126 - 600-978
عنوان الناشر ایران - قم - شارع معلم - رقم 44 تلفون: 7743900
مركز التوزيع : ایران - قم - مجمع الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) - الطابق الأرضي
رقم 117، 116 - تلفون: 7833624
ص: 484
ذكرت لأم المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسماء عديدة من بينها : نرجس، صقيل، ريحانة، سوسن، مريم، ويعود هذا الاختلاف إلى جملة من العوامل :
الأول : تعدّد الجواري اللاتي كن في منزل الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ).
عن حكيمة عمته، قالت : «انتهيت إليه وهو جالس في حصن داره وجواريه حوله فقلت : جعلت فداك يا سيّدي، الخلف ممّن هو ؟
قال : من سوسن» (1).
وفي رواية أخرى : عن حكيمة أيضاً تقول : «دخلت عليه، فقلت له كما أقول، ودعوت كما أدعو، فقال : يا عمّة، أما إن الّذي تدعين اللّه أن يرزقنيه يولد في هذه الليلة.. فاجعلي إفطارك معنا.
فقلت : يا سيّدي، ممّن يكون هذا الولد العظيم ؟
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): من نرجس، يا عمّة» (2).
ص: 485
وهناك روايات أخرى ترد فيها أسماء أخرى وكلها تدلل على أن له جواري عديدات.
الثاني: كما أشير سابقاً أن الظروف التي تحيط ميلاد الإمام كانت خطيرة، فكل المؤشرات كانت تؤكد توجس السلطات من قرب ولادته، ولذا أحاطوا حياة الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالجواسيس، بل تعدّت المراقبة لتشمل كلّ بيوت بني هاشم والقبض على كل صبيّ في المهد.
وبعد التأكيد على هذين العاملين ينبغي القول : إنّ اللّه سبحانه قد قدّر ولادته رغم كلّ الظروف الخانقة، وكانت إرادته الغالبة ولا رادّ لأمره، وهناك مؤشرات لليد الغيبية التي أمدّته بأسباب البقاء :
- لم تظهر على والدته آثار الحمل حتّى ليلة المخاض
لم يذكر الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) اسم والدته لأحد مبالغة في الاحتياط.
لم يشهد الولادة أحد سوى عمة الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) السيّدة حكيمة وبعض الجواري.
وهكذا تمّ أمر اللّه، ففي قلب الظلام من ليلة النصف من شعبان ولد الصبي الموعود في جو يسوده الحذر والكتمان.
وتمرّ الأيام، ولا يشعر أحد بذلك ؛ لهذا ثار جدل حول الموضوع، وأنكر الكثير من أصحاب الإمام موضوع ولادته، كما ثار خلاف لدى المؤمنين حول اسم والدته، فمن قائل أنها نرجس، أو صقيل، أو أنها ريحانة أو سوسن حتّى ان السيّدة حكيمة ولكي يبقى الموضوع خافياً - كانت تقول مرّة إن نرجس هي أمّ المهديّ، ومرّة أخرى تصرّح أنّها سوسن. وبالطبع لا تخفى المصلحة في هذا الاختلاف ودوره في حفظ الصبيّ من الأخطار المحدقة.
عن أحمد بن إبراهيم، قال : دخلت على حكيمة بنت محمّد بن علي
ص: 486
الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في سنة اثنتين وستين ومائتين بالمدينة، فكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها، فسمت لي من تأتم به، ثمّ قالت : فلان بن الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فسمّته.
فقلت لها : جعلني اللّه فداك، معاينة أو خبراً.
فقالت : خبراً عن أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتب به إلى أمه.
فقلت لها : فأين المولود؟
فقالت: مستور.
فقلت : فإلى من تفزع الشيعة ؟
فقالت : إلى الجدة أم أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ).
فقلت : أقتدي بمن وصيته إلى المرأة ؟
فقالت : اقتداء بالحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أوصى إلى أُخته زينب بنت عليّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين بن علي (عَلَيهِم السَّلَامُ) من علم ينسب إلى زينب بنت علي تستّراً على عليّ بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).
ثمّ قالت : إنّكم قوم أصحاب أخبار، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقسم ميراثه وهو في الحياة» (1).
وفي هذه الرواية نجد أن السيّدة حكيمة كتمت شيئاً ونسبت ولادة المهديّ إلى والده الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في حين نراها في رواية أخرى تفصل الموضوع وتكون هي الشاهد الأساس في ولادته، وأنها تحدثت مع المهديّ في صباه أكثر من مرّة. وتقول : «واللّه إني لأراه صباحاً ومساءً، وانه لينبئني عمّا تسألون عنه» (2).
وهناك حادث له دلالته، فقد نشب خلاف في إرث الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين أخيه
ص: 487
وأمُّه، ولا يستبعد أن يكون الحادث قد تمّ بتحريض «جعفر» المعروف بالكذّاب وكان على صلات وثيقة بالسلطة من أجل إثارة خلاف يمكن أن يكون عاملاً في الكشف عن وجود ابن للإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولقد كانت الخلافة العبّاسية تتوجّس من وجود الصبي الّذي سيكون بقاؤه سبباً في زوالها.
يذكر الصدوق في كتابه كمال الدِّين»: «قدمت أمّ أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المدينة واسمها (حديث) حين اتصل بها الخبر إلى «سرّ من رأى»، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إيّاها بميراثه وسعايته بها إلى السلطان، وكشفه ما أمر اللّه عزّ وجلّ بستره، فادعت عند ذلك (صقيل) أّنها حامل، فحملت إلى دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت ويراعينها إلى أن دهمهم أمر الصفاّر وموت عبد اللّه بن يحيى بن خاقان بغتة، وخروجهم من (سرّ من رأى) وأمر صاحب الزنج بالبصرة، وغير ذلك فشغلهم ذلك عنها» (1).
ومن المحتمل أن تكون الأسماء التي وردت حول أمّه تعود إلى جارية واحدة هي أمّه، فمن عادة العرب آنذاك مناداة من يكرمونه بعدة أسماء، وهناك رواية تعضد هذا الاحتمال أوردها الشيخ الصدوق في كتابه «کمال الدین»، بسنده عن غياث أنه قال : «ولد الخلف المهديّ صلوات اللّه عليه يوم الجمعة، وأمّه ريحانة، ويقال لها : نرجس، ويقال لها : صقيل، ويقال لها : سوسن، إلّا أّنه قيل لسبب الحمل صقيل» (2).
وفي الختام : إنّه بالرغم من وجود اختلاف في اسم الأم إلّا أن هذا لا يخدش في أصل الموضوع، فقد تضافرت الروايات والأخبار حول ولادته، خاصّة وقد أكّدت
ص: 488
السيّدة حكيمة ذلك مرات عديدة، وهي امرأة جليلة القدر، موثوقة الرواية، إضافة إلى كثير ممن رأوا الصبيّ فيما بعد في منزل والده.
ص: 489
ص: 490
مقدمة المركز...1
مختصر إثبات الرجعة – الفضل بن شاذان...7
الحديث الحادي عشر : وسُئل الإمام محمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عن أمّه، قال: «وأمّه مليكة...»...9
الغيبة - ابن أبي زينب النعماني...11
[164 / 3]: «... ابن أمة سوداء...»...13
تعليق الشيخ النعماني (رَحمهُ اللّه)...15
[5/265] هامش وما زاد في المطبوع الحجري وبحار الأنوار من زيادة: (ابن ستة وابن خيرة الإماء...)...16
كونه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن سبية، ابن خيرة الإماء / [8/268]: «... ابن أمة سوداء...»... 18
[9/269]: «... بأبي ابن خيرة الإماء...»...19
[ 270/ 10]: «... خرج يزعم أنه ابن سبية...»...19
[11/271]: «بأبي ابن خيرة الإماء»...20
[ 12/272] : «... أو لم تعلموا أنه ابن سبية...»..20.
[345 / 39]: (... ويُستخلف ابن السبية...)...23
كمال الدِّين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: الجزء الأول...25
فممّا رُوي في صحة وفاة الحسن بن علي بن محمّد العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...27
فذكر بعضهنّ أنّ هناك جارية بها حمل...30
[1/204]: «... أمّه جارية اسمها نرجس...»... 31
[ 2/210]: «... من ولد أخي الحسن ابن سيدة الإماء...34
ص: 491
[12/236]: «... ابن أمة سوداء...»...35
كمال الدِّين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: الجزء الثاني...37
[31/272]: «... ذلك ابن سيدة الإماء...»...39
[6/302] «... ذلك ابن سيدة الإماء...»...41
[ 307/ 5] «... ابن سيدة الإماء...»...43
[ 4/338]:... أخبرني بعض أصحابنا أنه لما حملت جارية أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)... 44
[ 1/369] [قصة السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)]...45
[1/370] [رواية في ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...53
[371 / 2] [رواية أخرى في ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...55
[376/ 7] «... وأن اسم أم السيّد صقيل...»...60
[12/381]: «... وأمّه ريحانة، ويُقال لها نرجس...»...61
[13/383]: «... لم يُر بأمه دمّ في نفاسها...»...62
[24/410]: «... ولم يحضره في ذلك الوقت إلّا صقيل الجارية...»... 63
وقال لي عباد في هذا الحديث: (... فادعت عند ذلك صقيل أنها حامل...»... 64
وقال أبو سهل بن نوبخت: قال عقيد الخادم: (...وأمّه صقيل الجارية...»... 65
وحدّث أبو الأديان: (... فقبضوا على صقيل الجارية...)...65
كتاب الغيبة - الشيخ الطوسي...69
178 - [ قصة السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)]...71
204 - [ رواية ولادة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...78
205 - بمثل معنى الحديث الأول إلّا أنّه قال...81
206 - بمثل معنى الحديث الأول إلّا أّنه قال...81
207 - بهذا الحديث...82
ص: 492
208 – (... فدخلت فإذا امرأة أخذها الطلق...)...83
210 - كانت لها جارية ربتها تُسمى: نرجس...87
237 - (... أمّه صقيل، ويكنى أبا القاسم...)...88
قال إسماعيل بن علي : (... ثمّ جاءت به صقيل الجارية...)... 89
ذكر أمر أبي الحسن علي بن محمّد السمري بعد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضیَ اللّهُ عنهُ)، وانقطاع الأعلام به وهم الأبواب... 90
362 – (... وأمّه ريحانة...)... 90
487 – «... بأبي ابن خيرة الإماء»...91
المزار الكبير - أبو عبد اللّه محمّد بن جعفر المشهدي...93
الباب (3): زيارة أمّ القائم (عَلَيهَا السَّلَامُ)...94
مطالب السؤول في مناقب آل الرسول - محمّد بن طلحة الشافعي...97
الباب الثاني عشر: في أبي القاسم (عَلَيهِ السَّلَامُ)...99
(... وأمّه أمّ ولد تسمى صقيل...)...100
منتخب الأنوار المضيئة - السيّد بهاء الدين على النيلي النجفي...101
وأما ما ورد عن أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...103
قال: «... بأبي ابن خيرة الإماء»... 104
وأمّا والدته [قصة السيّدة نرجس]...105
وأما خبر ولادته [حديث ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...116
وبالطريق المذكور : (... حكت لي الحكاية المذكورة بعينها وزادت عليها...)... 120
مختصر كفاية المهتدي - السيّد محمّد مير لوحي الأصفهاني...123
الحديث الثامن والعشرون: المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولد ابنة قيصر ملك الروم......125
الإمام المهديّ في بحار الأنوار - العلّامة المجلسي: الجزء الأول...133
ص: 493
[2 / 2] كمال الدِّين: لمّا حملت جارية أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...135
[3 / 3] كمال الدِّين: [حديث ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...135
[10/10] كمال الدِّين: (... و أنّ أمّ السيّد صقيل...)...138
[12/12]: الغيبة للطوسي: [قصة السيّدة نرجس]...139
[13/13] كمال الدِّين: [قصة السيّدة نرجس]...145
[14/14]: كمال الدِّين : [ حديث ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...147
[15/ 15]: كمال الدِّين: (... وأمّه ريحانة...)...151
[20 / 20]: كمال الدِّين: (... لم يُر بأمّه دم في نفاسها...)...153
[23/23]: كمال الدِّين: (... وهو حجة اللّه في أرضه...)...154
[25/25] الغيبة للطوسي : [ حديث ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]... 155
[26/26] الغيبة للطوسي: [ حديث ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...157
[27/27] الغيبة للطوسي: عن حكيمة بمثل ذلك...158
وفي رواية أخرى: [حديث آخر في ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]... 158
[28/28] الغيبة للطوسي: [ حديث آخر في ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...159
[29/29] الغيبة للطوسي: (... كانت لها جارية ربتها تُسمّى: نرجس...).... 161
[35/35] كشف الغمّة : (... وأمّه أم ولد تُسمّى صقيل...)... 162
[36/36] الإرشاد: (... وأمّه أم ولد يقال لها: نرجس...)...163
[ 37/37] كشف الغمّة: «... يُقال لأمّه صقيل...»...163
وقال ابن خلكان في تاريخه: (... واسم أمّه خمط...)...164
أقول [ العلّامة المجلسي]: رأيت في بعض مؤلفات أصحابنا رواية هذه صورتها: «... فرأيت جارية من جواريهن قد زُيّنت تُسمّى نرجس...»...164
قال الحسين بن حمدان: [ حديث آخر في ولادة القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)]...165
ص: 494
أقول [ العلّامة المجلسى]: وقال الشهيد (رَحمهُ اللّه) في الدروس: (... وأمّه صقيل...)....168
[7/66] الغيبة للطوسى: «... بأبي ابن خيرة الإماء»...169
[82 / 23] الغيبة للنعماني: «... ابن ستّة وابن خيرة الإماء»...171
[24/83]: الغيبة للنعماني: «... من أمة سوداء...»...172
[25/84]: الغيبة للنعماني: «بأبي ابن خيرة الإماء...»... 172
[26/85]: الغيبة للنعماني: «... خرج يزعم أنّه ابن ستّة...»...172
[27/86]: «... لو تعلمون أنّه ابن ستّة»...172
[205/ 4]: المقتضب لابن العيّاش: «بأبي أنت يا أبا ابن خيرة الإماء»... 174
أقول [ (المجلسي (رَحمهُ اللّه)) قال ابن أبي الحديد... «بأبي ابن خيرة الإماء...»...176
[ 227 / 1] كمال الدِّين «... ابن سيدة الإماء...»...177
[265/ 15] كمال الدِّين : «... ذلك ابن سيدة الإماء...»...178
[ 277 / 2] كمال الدِّين: «... ذاك ابن سيدة الإماء...»...180
[13/309] كفاية الأثر : «... لما حملت جارية أبي محمّد...)...182
[319/ 8] كمال الدِّين: «... ابن أمة سوداء...»...183
[332/ 3] الخرائج و الجرائح: (.... دخلت على أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد أربعين يوماً من ولادة نرجس...)...185
ذكر أمر أبي الحسن علي بن محمّد السمري بعد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح وانقطاع الأعلام به وهم الأبواب...186
قال: ولد الخلف... وأمّه ريحانة، ويُقال لها نرجس...186
[14/428] الغيبة للطوسي ولد (عَلَيهِ السَّلَامُ)... وأمّه صقيل...188
قال إسماعيل بن علي : (... ثمّ جاءت صقيل الجارية أم الخلف (عَلَيهِ السَّلَامُ)...)...188
ص: 495
[55/468] كمال الدِّين : (... فوجّه المعتمد خدمه فقبضوا على صقيل الجارية وطالبوها بالصبي...)...191
الإمام المهديّ في بحار الأنوار - الشيخ المجلسي: الجزء الثاني...203
[ 750/ 109] الغيبة للنعماني: (... ويُستخلف ابن الستّة...)...197
[3/817] الاحتجاج : «... ابن سيدة الإماء...»...199
[29/27] كمال الدِّين: «... ابن سيدة الإماء...»...200
عوالم العلوم - الشيخ عبد اللّه البحراني: الجزء الأول...203
2 - أبواب أحوال أمّه / 1 - باب اسم أمّه...205
2 - باب أنّ أمّه (عَلَيهَا السَّلَامُ) سيدة الإماء وخيرة الإماء...209
3 - باب بعض أحوال أمّه (عَلَيهَا السَّلَامُ)، وتزويجها بأبي محمّد الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المنام، ووصولها بخدمته في اليقظة...210
4 - باب زفافها (عَلَيهَا السَّلَامُ)...218
5 - باب ما ورد في وفاتها...219
كشف الحق أو الأربعون - محمّد صادق الخاتون آبادي...223
الحديث الأول فى بيان، ولادته ووالدته (عَلَيهِ السَّلَامُ)...225
الحديث الثاني: إخبار الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ولادة المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...226
إحقاق الحق: الجزء الثالث عشر - السيّد شهاب الدين المرعشى...227
العلّامة الحمويني في فرائد السمطين: «... أمّه جارية اسمها نرجس...»... 229
تاريخ ولادته (عَلَيهِ السَّلَامُ)...231
رواه جماعة من أعلام القوم: كمال الدِّين محمّد بن طلحة في مطالب المسؤول: (... وأمّه أمّ ولد تُسمّى صقيل...)...231
سبط ابن الجوزي في تذكر الخواص: (... أمّه أمّ ولد يقُال لها صقيل...)...233
ص: 496
ابن الصباغ في الفصول المهمة: (... وأمّا أمّه فأمّ ولد يقال لها: نرجس...)...233
العارف عبد الرحمن في مرآة الأسرار : (... أمّه كانت أم ولد اسمها نرجس...)...234
السيّد عباس بن علي المكي في نزهة الجليس: (... واسم أمّه نرجس)...234
نبذة ممّا ورد فيه عن على بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)...236
الأول: ما رواه القوم منهم العلّامة القندوزي في ينابيع المودة) : «... ابن سيدة الإماء...»...236
ملحقات الإحقاق: الجزء التاسع والعشرون - السيّد شهاب الدين المرعشي... 239
ولادة المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونسبه الشريف...241
الشريف علي فكري الحسيني القاهري في أحسن القصص (... وأمّه أم ولد يُقال لها نرجس)...242
الإمام المهديّ عند أهل السنة - مهدي الفقيه إيماني: المجلد الأول...243
تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي...245
ذكره أولاده منهم محمّد الإمام / فصل في ذكر الحجّة المهديّ...246
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان / ابن خلّگان...248
أبو القاسم المنتظر...249
الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) / ابن الصبّاغ...250
وأما أمّه فأمّ ولد يقال لها نرجس خير أمة وقيل اسمها غير ذلك....251
الأئمّة الاثنا عشر / شمس الدين محمّد بن طولون...252
واسم أمّه خمط وقيل نرجس...253
الإمام المهديّ عند أهل السنة - مهدي الفقيه إيماني: المجلد الثاني...255
نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار / الشيخ الشبلنجي...256
فصل ذكر مناقب محمّد بن الحسن الخالص...257
ص: 497
فيض القدير / العلّامة المناوي: الجزء السادس...258
... وأمّا أمّه فاسمها نرجس من أولاد الحواريين...259
العطر الوردي بشرح القطر الشهدي / محمّد البلبيسي بن محمّد ي بن محمّد الشافعي المصري...260
خمس رسائل / أحمد بن إسماعيل الحلواني...262
شرح البلبيسي: (... وللعباس فيه ولادة من جهة أنّ في أمهاته عباسية وأنّ أباه حسني وأمّه حسينية...)... 263
غالية المواعظ ومصباح المتعظ / خير الدين أبي البركات نعمان أفندي آلوسي: الجزء الأول...265
(.... قيل وأمّه من أولاد العبّاس...)...266
معجم أحاديث الإمام المهديّ - مؤسسة المعارف الإسلامية: الجزء الرابع... 267
الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) شبيه يوسف يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ)...269
له [الإمام المهدي] (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) غيبة...271
أم الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) من نسل الحواريين...274
منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر - الشيخ لطف اللّه الصافي: الجزء الثاني... 283
الفصل الأول: في ثبوت ولادته وكيفيتها وتاريخها، وبعض حالات أمّه واسمها (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وفيه 426 حديثاً...285
الفصل الثالث والعشرون في أنه ابن سيدة الإماء وخيرتهن، وفيه (11) حديثاً...307
تاريخ الغيبة الصغرى - السيّد محمّد الصدر...313
أم المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...315
أسباب تعدّد أسماء السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...316
ص: 498
السبب الأول: صلة الحب والرحمة بالجارية من قبل مالكها...316
السبب الثاني: عدم شعور المالك بشخصية العبد، والأمة، عجز نطق المالك عن نطق الاسم الأصلي كونه أجنبياً...316
السبب الثالث: أنها السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) عاشت تخطيطاً خاصاً في تبديل اسمها من آونة لأخرى...317
فرضيّتان في معرفة مالك السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...318
الفرضية الأولى دخولها في ملكية الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أولاً.......318
سرد قصة السيّدة نرجس...318
التعليق الأول: إمكان تعيين تاريخ شراء السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...324
التعليق الثاني: الاعتراض على هذا الخبر...324
الاعتراض الأول: أنّ الإمام الهادي اللّه يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلّا اللّه...324
الجواب: الإمامة والمصلحة تقتضي أن يكون له ملهماً من اللّه... 324
الاعتراض الثاني: الإيمان بالأحلام خرافة من الخرافات...325
الجواب على ذلك بأمور ثلاثة...325
أولاً: الخرافة هي الإيمان بصدق جميع الأحلام...325
ثانياً: رؤية أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في الأحلام لا يمكن أن تكون كاذبة... 326
ثالثاً: عدم الالتزام بحرفية الرؤيا، بل الحمل على الرمزية... 326
الاعتراض الثالث: لا شرعية للإسلام والزواج إذا كانا في الرؤيا... 328
الجواب عليه إسلامها كان إمّا في حال اليقظة أو حين قالت للإمام الهادي» يا ابن رسول أو حين علمتها حكيمة تعاليم الإسلام...328
وأمّا زواجها فقد تم بإنشاء الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لعقد الزواج...328
ص: 499
الاعتراض الرابع: دلالة الحديث على تساقط الصلبان من دون سبب ظاهر....329
الجواب: ما حدث هو معجزة إلهية تستنكر المسيحية وتستنكر زواج السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) من ابن عمّها...329
الاعتراض الخامس: تنافي الحديث في تحديد صاحب الكتاب الّذي حمله بشر النخّاس...329
الجواب: التوهّم أنّ العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو صاحب الكتاب لا ينافي كون أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو من كتب الكتاب...330
الاعتراض الوحيد الّذي يمكن صدقه هو ضعف الحديث من ناحية إثباته التاريخي...330
التعليق الثالث: الرواية مهملة من حيث تاريخ شراء السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...330
الفرضية الثانية: أن مالك السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) هو السيّدة حكيمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)...332
سرد قصة زواج السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) بلسان المصنِّف...333
ولادة الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...335
سرد قصة الولادة بلسان المصنِّف...336
بيان المعجزة في إخفاء الحمل...337
موسوعة الإمام المهديّ - عرفان محمود الجزء 3...341
الفصل الثاني: روايات قصة الولادة / مصادر الروايات...343
قصة مجيء والدة المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) / رواة قصة مجيئها...344
تعلیقتان مهمتان / تعليقة السيّد الميلاني...346
متى وقعت الحرب؟...347
الواقع التاريخي ومضمون الرواية...349
سر اختيار (مليكة) الروميّة أمّاً للمهدي الموعود...350
ص: 500
العلاقة بين هذا الاختيار وصلاة عيسى خلف المهديّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)...350
علّة التعدّد المتعمّد لأسماء أمّ المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)... 351
رواية ثانية مكملة لمضمون الرواية السابقة...352
توقيت اقتران والديّ المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في زمان أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)...355
الاختلاف في اسم والدته...357
المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) - الشيخ علي الكوراني... 359
الإمام المهديّ ابن خيرة الإماء وكذا جده الجواد...361
أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنهُما) فيدة قيصر الروم...363
الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) - الشيخ علي الكوراني...371
الفصل الثاني عشر : زوجة الإمام العسكريّ ووالدة الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...373
حفيدة قيصر الروم...373
كيف جاء اللّه بمليكة إلى الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)374
ملاحظات...375
السيّدة حكيمة تروي ولادة الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...377
طلبت والدة الإمام المهديّ أن تموت قبل زوجها...378
بحوث علمية في القضية المهدويَّة - الشيخ نجم الدين الطبسي...379
الفصل الثالث: تحقيق حول والدة الإمام صاحب الزمان (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)...381
المدخل... 382
تحقيق في المصادر التي نقلت هذه الرواية...383
1 - الشيخ الصدوق/ 2 - ابن جرير الطبري الإمامي...383
نماذج من المعمّرين: أ - حبابة الوالبية...384
ب - جابر بن عبد اللّه الأنصاري / ج_ - عامر بن واثلة...385
ص: 501
إشكال وفائدة...386
3 - الشيخ الطوسيّ / 4 - ابن فتّال النيسابوري...387
5 - ابن شهر آشوب / 6 - عبد الكريم النيلي / 7 - السيّد هاشم البحراني... 388
8 - الحر العاملي/ 9 - العلّامة المجلسي / تحقيق في سند هذه الرواية...389
الأول: بشر بن سليمان النخّاس / 1 - رأي السيّد الخوئي...390
2 - رأي المحقق التستري/ وقفة مع المحقق التستري...391
3 - رأي المحقق النمازي 4 - رأي الشيخ أبي علي الحائري/ 5 - رأي العلّامة الماماقاني...396
الثاني: محمّد بن بحر الشيباني...396
1 - رأي الشيخ النمازي...397
2- رأي العلّامة الماماقاني...398
3- رأي السيّد الخوئي...400
الإشكالات الواردة على هذه الرواية...401
الإشكال الأول: عدم وجود مناوشات وحروب بين الروم والمسلمين...401
الجواب: وجود حروب ومناوشات بين الروم والمسلمين...401
الإشكال الثاني: الاهتمام بالرواية لغرض إثبات المقام للسيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...403
الجواب: المستشكل تحامل على علماء الشيعة ونسبهم إلى الأمية من دون النظر إلى أصولهم ومبانيهم واتّهمهم بالانتهازية...403
الإشكال الثالث : عدم نقل هذه الرواية من المعاصرين للشيباني...404
الجواب: عدم النقل لا يدل على الضعف...405
الإشكال الرابع: اتّهام الكشي والنجاشيّ وابن داود للشيباني بالغلو...406
ص: 502
الجواب النجاشيّ لم ينسب التهمة إلى نفسه، وابن داود اكتفى بنقل رأي الطوسيّ وابن الغضائري والنجاشيّ فقط...406
تأييد العلّامة الماماقاني...407
النتيجة الإشكالات غير واردة على الرواية احتمال صدور الرواية يصل إلى حد الظن بالصدور...410
الرواية المهدويَّة من خلال كتاب إكمال الدِّين وإتمام النعمة - أطروحة الدكتوراه للطالب أحمد عبد اللّه حميد العلياوي...411
المبحث الثاني: السيرة المباركة للسيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) والدة الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)... 412
مناقشة الرواية من عدة جوانب / الجانب الأول وثاقة الرواية....416
الجانب الثاني: ضجة وارتجاج القصر أثناء مراسيم التزويج...421
الجانب الثالث: واقعية رؤيا السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...423
الجانب الرابع: تعيين سنة شراء السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) و تشخيص القيصر...427
الجانب الخامس: رواية أخرى مؤكدة لقصة السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ) البحث حول وفاتها (عَلَيهَا السَّلَامُ)، الكلام حول قبر السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...430
معارف مهدوية - الشيخ حيدر السند الأحسائي: الجزء الثاني...437
أسطورية شخصية أمّ الإمام المهديّ (رضیَ اللّهُ عنهُما)...439
المقدمة :الأولى : تعدّد الأقوال في اسمها (رضیَ اللّهُ عنهُما)...439
المقدمة الثانية: تعدّد الأسماء دال على بطلان القضية المهدويَّة...442
مناقشة الشبهة / التعليق الأول: احتمال تعدّد الأسماء واقعاً...442
سبب تعدد أسماءها (عَلَيهَا السَّلَامُ) / السبب الأول: مراعاة الوضع الأمني...444
السبب الثاني: قلة المعلومات المتوفّرة للرواة...449
السبب الثالث: تعدّد أسماء الجواري لكثرة تنقّلهن...450
ص: 503
التعليق الثاني: الاختلاف في اسم أمّ الإمام المهديّ لا يضر بالقضية المهدويَّة... 451
الإمام المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المهد إلى الظهور - السيّد محمّد كاظم القزويني...453
ترجمة حياة السيّدة نرجس (عَلَيهَا السَّلَامُ)...455
فارس الزمن الغائب - كمال السيّد...465
أميرة في بغداد...467
حادثة في القسطنطينية 227ه_. 841م...468
سامراء 253ه_. 867م...469
في تلك الليلة الخريفية...470
مشاهد من الذاكرة...475
اللقاء...478
حوادث سنة 254ه_. 868م...480
زواج الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) [الإمام العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)]...480
بانتظار الّذي يأتي - كمال السيّد...483
أم المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) / العوامل التي أدّت إلى اختلاف أسمائها...485
الأول: تعدّد الجواري اللاتي كن في منزل الإمام الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)... 485
الثاني: خطورة الظروف المحيطة بميلاد الإمام المهديّ (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)...486
الفهرس... 491
ص: 504
السَّیِّدَة نَرْجِسْ علیها السلام
فِي الكُتُبِ وَالمُصَنَّفَاتِ
الجُزْء الثَانِي
إعْدَادَ وَتَنْظِيمْ
السَيِّدُ مُحَمَّد السَيِّد حُسَّيْنْ الحَكِيْم
إِشْرَاف وَتَقْدِيْم
مَرْکَزُ الْدَرَاسَاتِ الْتَخَصُّصِيَة فِي الإِمَامْ المَهْدِي
محرر الرقمي: محمد علي صادقي قوام آبادي
ص: 1
مَرْکَزُ الْدَرَاسَاتِ الْتَخَصُّصِيَة فِي الإِمَامْ المَهْدِي
اسم الكتاب: السیدة نرجس علیها السلام في الکتب و المصنفات/ ج2
إعداد وتنظيم: السيد محمد السيد حسين الحكيم
اشراف وتقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي علیه السلام
رقم الإصدار : 298
الطبعة : الأولى 1445ه-
عدد النسخ: ...طبعة محدودة
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز العراق - النجف الأشرف
هاتف 07809744474
07816787226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 2
سَیِّدة الإمَاءِ علیها السلام
قراءة جديدة في هويّتها وسيرتها
الشيخ أحمد سلمان
قِسْمِ الشُّؤُون الدينيَّة
شُعْبَةُ البُحُوثِ وَالدِّرَاسَات
ص: 3
قِسْمِ الشُّؤُون الدينيَّة
شُعْبَةُ البُحُوثِ وَالدِّرَاسَات
مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLIrda
LCرقم تصنيف: BP80.N37 S25 2021
المؤلف الشخصي: سلمان، احمد - مؤلف.
العنوان : سيدة الإماء عليها السلام : قراءة جديدة في هويتها وسيرتها/
بيان المسؤولية : تأليف احمد سلمان.
بيانات الطبع : الطبعة الأولى.
بيانات النشر : كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، قسم الشؤون الدينية، شعبة البحوث والدراسات، 1442/2021 للهجرة.
الوصف المادي : 98 صفحة ؛ 24 سم.
سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 851).
سلسلة النشر : (قسم الشؤون الدينية، شعبة البحوث والدراسات؛ 102).
تبصرة ببليوجرافية : يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 95-89).
موضوع شخصي : السيدة نرجس، نرجس بنت يشوعا (عليها السلام) - نقد وتفسير.
موضوع شخصي : الحسن العسكري، الحسن بن علي بن محمد (عليه السلام) الامام الحادي عشر، 260-232 للهجرة - زوجات.
مصطلح موضوعي : الحديث (الشيعة الامامية).
اسم هيئة اضافي : العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، قسم الشؤون الدينية، شعبة البحوث والدراسات. جهة مصدرة.
تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة التصميم والإخراج الفني: علي جبار
ص: 4
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين، وبعد:
لاشك أنّ البحث في أمّهات المعصومين علیهم السلام من البحوث المهمّة المرتبطة ارتباطا وثيقا بسيرة أهل البيت علیهم السلام، فكما وجّه الأعداء أقلامهم المأجورة لتشويه سيرة الأئمّة الطاهرين علیهم السلام، فكذلك الأمر بالنسبة لأمّهاتهم اللواتي نال سيرتهنّ الشيء الكثير من التحريف والتبديل والتلاعب.
ولعلّ السيدة نرجس علیها السلام أمّ إمامنا المهدي علیه السلام من اللواتي يحيط غموض كبير بسيرتها، حيث أنّه اختلف في كلّ ما يتعلّق بشأنها حتّى في حقيقة اسمها، ممّا جعل بعض المخالفين يلحقونها بعداد الشخصيّات المختلقة، بل تجاوز بعضهم حدود الأدب ليصمها بما ينزّه المؤمن لسانه عن ذكره نتيجة بعض الأمور التي نقلت في ما وصلنا من سيرتها.
ص: 5
ومن هنا فإنّ هذا الكتيّب هو محاولة منّي لجمع شتات ما نقلته كتب الحديث والتاريخ والسير عن هذه السيدة الطاهرة علیها السلام وفكّ الغموض الذي أحاط بشخصيّتها بحيث يخرج القارىء بصورة واضحة عن حياتها علیها السلام والأهمّ من هذا دورها في المشروع المهدويّ لاسيما في الغيبة الصغرى لصاحب الزمان علیه السلام.
أحمد سلمان
1 جمادة الأوّل 1442ه-
ص: 6
إذا رجعنا إلى كتب التاريخ والسير والتراجم نجد خلافا كبيرا بينهم في تحديد اسم أم سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، حيث أطلقت عليها كلّ هذه الأسماء:
- نرجس.
- سوسن.
- ريحانة.
- صقيل.
- مليكة.
- خمط.
- حكيمة.
- مريم.
وقد جعل بعضهم هذا الاختلاف إشكالا على أصل القضيّة المهدويّة حيث ذكر أحد المخالفين هذا الاختلاف تحت باب أسماه "تناقضات في حياة مهدي الشيعة المنتظر "(1) قال فيه: من هي أم
ص: 7
المهدي؟ هل هي جارية اسمها نرجس أم جارية اسمها صقيل أم جارية اسمها مليكة أم جارية اسمها خمط أم جارية اسمها حكيمة أم جارية اسمها ريحانة أم سوسن أم هي حرّة اسمها مريم (1)؟
وقال آخر تعليقا على هذا الاختلاف: وكيف يكون موجودا معروفا وهذا الاختلاف في أمّه؟... فتأمّل ركاكة هذا الجواب ومدى التكلّف فيه لعلّه يسعف للخروج من كثير من التناقضات التي تحيط بهذه الشخصيّة (2).
ومن هنا فإنّه لابد لنا من وقفة لبيان حقيقة الأمر:
أوّل نقطة نحتاج الوقوف عندها هو مناقشة ثبوت هذه التسميات، إذ لابدّ من ملاحظة صحّة ثبوتها التاريخي لها حيث أنّ بعض هذه التسميات لا أصل لها البتّة!
فمثلا دعوى أنّ من أسمائها "خمط" انفرد به ابن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان حيث قال: كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولمّا توفي أبوه وقد سبق ذكره كان
ص: 8
عمره خمس سنين، واسم أمه خمط وقيل نرجس، والشيعة يقولون إنّه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه فلم يعد يخرج إليها، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين وعمره يومئذ تسع سنين (1) .
وهذا الرجل لا يؤمن على ما ينقله عن العترة الطاهرة وتاريخ الشيعة حيث ثبت بما لا يدع مجالا للشكّ نصب الرجل وعداؤه لأهل البيت علیهم السلام، ويمكن إثبات هذا الأمر بقرينتين:
الأولى: سرّ تسميته بابن خلكان هو أن الرجل كان كثير الافتخار بأجداده، فيُكثر من قوله: «كان أبي، كان جدي، كان أجدادي»، فكان يقال له: «خَلِّ كان، وتكلم عن نفسك»، إلى أن أصبحت لقباً له.
وقد نقل ذلك ابن العماد الحنبلي في شذراته عن أحد مشايخه: ومن إفاداته أن لفظ ابن خلّكان ضبط على صورة الفعلين خلّ أمر من التخلية وكان الناقصة قال وسببه أنه كان يكثر قول كان والدي كذا كان جدي كذا كان فلان كذا فقيل له خل كان فغلبت عليه (2) .
ولما رجعنا إلى تاريخ الرجل وجدناه برمكيّ النسب، ومن له اطلاع على التاريخ يعلم يقيناً أن البرامكة كانوا أشد الناس عداوة
ص: 9
للعلويين، إذ كانوا اليد الضاربة للدولة العباسية في أوائل تأسيسها، و سبب اعتماد العباسيين عليهم هو فقدانهم للثقة بالعرب والعجم نظراً لتعاطفهم مع العلويين بسبب خيانة العباسيين للعهد الذي كان مبرم بينهم من إعطاء الخلافة للرضا من آل محمد في حال إسقاطهم لدولة بني أمية، وتفرّدهم بالحكم دونهم، فكانوا بمثابة السيف الحاد المسلط على أعداء العباسيين وخصوصاً العلويين.
وعليه فهناك عداء تاريخي متجذّر بين البرامكة وبين العلويين، ولا نشكّ أنّ كلام ابن خلكان ناشیء عن هذا.
أن ابن خلكان كان من عشّاق يزيد بن معاوية وشعره، إذ أنّه ذكر في ترجمة المرزباني: وهو أوّل من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي، واعتنى به، وهو صغير الحجم، يدخل في مقدار ثلاث كراريس ، وقد جمعه من بعده جماعة، وزادوا فيه أشياء كثيرة ليست له، وكنت حفظت جميع ديوان يزيد؛ لشدة غرامي به، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمدينة دمشق، وعرفت صحيحه من المنسوب إليه الذي ليس له، وتتبّعته حتى ظفرت بصاحب كل أبيات، ولولا خوف التطويل لبيَّنت ذلك، وشعر يزيد مع قلَّته في نهاية
ص: 10
الحسن (1) .
وهنا لا بد لنا من طرح عدة تساؤلات:
ماسبب غرام ابن خلكان الشديد بشعر يزيد؟
إن كان حبّه لنفس مضامين الشعر، فهذه طامّة تنبىء عن سوء سريرة ابن خلكان، إذ أن شعر يزيد ليس شعراً في ذكر الله، ولا في الثناء على نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم بل كله فسق و فجور، وليس هناك أفضل من الذهبي في تلخيصه لسيرة يزيد بن معاوية بقوله: وكان ناصبيًّا، فظًّا، غليظاً، جلفاً، يتناول المسكر ، ويفعل المنكر، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره (2).
وإن كان حبّه لهذا الشعر من أجل حبّه ليزيد نفسه فيكفينا هذا مطعناً في هذا الرجل؛ إذ أنّ حبّ يزيد من أقوى الأدلّة على النصب وبغض أهل البيت علیهم السلام، وقد كفانا ابن كثير الدمشقي مؤونة إثبات هذه القضية بقوله: الناس في يزيد بن معاوية أقسام، فمنهم من يحبّه ويتولاه، وهم طائفة من أهل الشام، من النواصب (3).
ص: 11
ومن هنا لا نستبعد أنّ تعداد بعض المؤرّخين لأسمائها هو من باب تمييع القضيّة والتشكيك فيها وما ابن خلّكان إلّا مثال على ذلك.
وأيضا دعوى أنّ اسمها مريم فقد انفرد بهذه التسمية الشهيد الأوّل في دروسه (1) حيث نقل هذه التسمية بصيغة التمريض (قيل)، ولم أجد له سلفا سوى ما ذكره الحسين بن حمدان الخصيبي في كتاب الهداية الكبرى حيث قال: وأمّه صقيل، وقيل: نرجس، ويقال: سوسن، ويقال: مريم ابنة زيد أخت حسن، ومحمد بن زيد الحسيني الداعي بطبرستان وأنّ التشبيه وقع على الجواري أمهات الأولاد، والمشهور والصحيح: نرجس فهذا من دلائله علیه السلام (2).
بل لم أجد من ذكر أنّ للحسن ومحمد الداعيين بطبرستان أختا أصلا لكي يكون هناك زواج ودونك كتب الأنساب بين يديك فقلّبهما كيفما شئت لتعلم حقيقة الأمر، فمن أين نثبت وجود هذه الشخصيّة فضلا عن إثبات زواجها من الإمام العسكري علیه السلام!
علما أنّ هذا القول يخالف الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة التي سنستعرضها لاحقا من كون الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو ابن
ص: 12
أمة وأنّها سيدة الإماء، ووجه المخالفة أنّ مريم بنت زيد علويّة حرّة لا جارية، فتكون المعارضة صريحة بين الطائفتين.
بل حتّى لو لم يكن هناك تعارض في البين ما قبلنا بهذا الخبر لكونها من متفرّدات الحسين بن حمدان الخصيبي زعيم النصيريّة في عصره والذي قال فيه النجاشي رحمه الله: الحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلاني أبو عبد الله كان فاسد المذهب، له كتب، منها: كتاب الإخوان، كتاب المسائل، كتاب تاريخ الأئمّة، كتاب الرسالة تخليط (1) .
كذلك تسميتها ب-"مليكة" فإنّها لم ترد إلّا في رواية نقلها الشيخ الصدوق رضي الله عنه في كمال الدين عرّفت فيها أم الإمام المهدي علیه السلام نفسها بقولها: "أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم" (2)، وثبوت هذه التسمية فرع صحّة هذا الخبر وعليه فسقوط الخبر يقتضي - عدم صحّة هذه التسمية.
فبهذا تعلم أنّ أغلب هذه الأسماء غير ثابتة وبهذا تضيق دائرة الاختلاف على فرض وجودها أصلا.
ص: 13
هل هي أسماء أم ألقاب؟
يمكن أيضا التشكيك في تعدّد أسمائها من جهة أخرى وهو عدم كون ما ذكر أسماء، إذ يظهر أنّ الرواة والمؤرّخين قد خلطوا أو بين الأسماء والألقاب، فالاسم هو أوّل ما يطلق على الإنسان واللقب هو ما يطلق على الإنسان لإفادة رفعة أو ضعة كما قرّر ذلك أهل اللغة.
ولو نظرنا إلى ما قيل أنّه أسماء فإنّنا نجد احتماليّة كونها لقبا واردة جدّا، فسوسن وريحانة ونرجس هي أسماء لبعض الأزهار والنباتات التي تعرف إمّا بجمالها أو بطيب ريحها وهذا يتناسب مع كونها ألقابا لها لا أسماء، بل ورد صريحا ما يدلّ على أنّ بعضها ألقابا، حيث نقل الشيخ الصدوق رضي الله عنه رواية حول سرّ تلقيبها بصقيل، قال: ويقال: صقيل ويقال: سوسن إلا أنّه قيل: لسبب الحمل صقيل (1).
من هنا فإنّه لا مانع من هذا التعدّد إذا قلنا أنّ لها اسما واحدا وأكثر من لقب فالممنوع وجود أكثر من اسم لكن لا يوجد أيّ مانع من تعدّد ألقاب الشخص الواحد، بل من يقرأ كتب التراجم والسير يجد أن هذه سيرة قائمة بين الناس، وبالتالي فالاحتمال الراجح هو أنّ
ص: 14
لها اسما واحدا ومجموعة ألقاب عبّر عنها بالأسماء مسامحة.
عفّة البيت العلوي:
هناك أمر آخر لابدّ أن يؤخذ بعين الاعتبار وهو ما اشتهر به البيت العلوي من عفّة نسائه وشدّة غيرة رجاله على النساء، ومن هنا فلا يتوقّع من رجال هذا البيت الحديث عن نسائه بالتفصيل المملّ أمام عامّة الناس.
ومن هنا نجد اختلافا كبيرا في معرفة زوجات المعصومين علیهم السلام وبناتهم والخلط في أسمائهم وسيرهم كما هو المعروف من خلط المؤرخين بين زينب الكبرى وأم كلثوم بنات أمير المؤمنين علیه السلام، والاختلاف في الفواطم من بنات الإمام الحسين وعددهنّ وغيرها من الاختلاف الكبير في ضبطهنّ.
ومن ينظر إلى الأخبار الواردة في بيان اسم أم الإمام المهدي علیها السلام نجد أنّها وردت على لسان رجال من خارج البيت العلوي الذين نقطع أنّ تحديد اسم أم الإمام علیها السلام هو تخمين لا يقين وحدس لا حسّ.
بل يظهر صريحا ذلك من بعض ما روي في تسميتها من وقوع خلط بين أكثر من شخصيّة في بيت الإمام العسكري علیه السلام، فقد روى الصدوق رضي الله عنه قصّة عن أبي علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها
ص: 15
لأبي محمد علیه السلام فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارّة من جعفر، فتزوّج بها، قال أبو علي: فحدثتني أنها حضرت ولادة السيد علیه السلام، وأنّ اسم أم السيد صقيل، وأن أبا محمد علیه السلام حدثها بما يجري على عياله، فسألته أن يدعوا الله عز وجل لها أن يجعل منيتها قبله، فماتت في حياة أبي محمد علیه السلام وعلى قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أم محمد (1) .
ولا شكّ أنّ الجارية المقصودة ليست أم الإمام المهدي علیها السلام بل هي امرأة أخرى لعلّها كانت في بيت الإمام العسكري علیه السلام والدليل على ذلك إجماع المؤرّخين على أنّ والدة المهدي علیه السلام قد توفيت بعد الإمام العسكري علیه السلام لا قبله كما سيأتينا ذلك تفصيلا.
ومن هنا فإنّ كلّ تسمية لأمّ الإمام المهدي علیه السلام لا تنتهي إلى أحد من داخل البيت العلوي تبقى محلّ تأمّل وإشكال.
يبقى احتمال آخر وهو أنّ اختلاف أسمائها هي تعمية متعمّدة من قبل الإمام العسكري علیه السلام وبقيّة البيت العلوي علیهم السلام لحفظ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف من كيد الأعداء، فكما أخفي حمله وكتم مولده بل حرّم
ص: 16
النطق باسمه الشريف في تلك الحقبة كما هو صريح النصوص الصحيحة، فما المانع أن تكون أمّه علیها السلام قد أخفيت وتعمّد البيت العلوي خلط الأوراق لكي يشتبه الأمر على عامّة الناس لكي لا تتخذ السلطة منها وسيلة ضغط على الإمام العسكري علیه السلام.
وقد رجّح السيد محمد الصدر رحمه الله هذا الجواب في موسوعته فقال: أنّها رضوان الله عليها عاشت تخطيطا خاصّا في تبديل اسمها بين الآونة والأخرى ودعائها بعدّة أسماء في وقت واحد وفي أوقات مختلفة، عاشت ذلك منذ أن دخلت هذه العائلة الكريمة لأنّها ستصبح أمّا للمهدي علیه السلام وسترى المطاردة والاضطهاد من قبل السلطات وستعيش في السجن مدّة من الزمن، إذن يجب القيام بهذا المخطّط تجاها إمعانا في الحذر وزيادة في التوقّي عليها وعلى ابنها ولأجل أن يختلط في ذهن السلطات أنّ صاحبة أيّ من هذه الأسماء هي المسجونة وأيّ منها هي الحامل وأيّ منها هي الوالدة وهكذا...، حيث يكون المفهوم لدى السلطات كون الأسماء لنساء كثيرات ويغفلون عن احتمال تعدّدها في شخص امرأة واحدة، وهذا الاحتمال الثالث هو بلا شكّ الاحتمال الراجح في أم المهدي علیه السلام (1).
ولعلّ هذا ما يرمي إليه المحدّث النوري رضي الله عنه و بعد نقله لخبر
ص: 17
يثبت تعدّد أسمائها: ثم سأله الراوي عن أمّ صاحب الأمر علیه السلام، قال : أمّه مليكة التي يقال لها بعض الأيام سوسن، وفي بعضها ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضاً من أسمائها؛ ومن هذا الخبر يتبين وجه الاختلاف في اسمها سلام الله عليها فهي تسمّى بجميع هذه الأسماء الخمسة (1).
العجب ممّن يشكل على الشيعة بهذا الإشكال ويعتبره تناقضا ومسقطا للعقيدة المهدويّة كيف يغفل عن كون هذا الإشكال واردا عندهم بما هو أشدّ وأعظم من الإشكال المتقدّم:
فأعظم رواة كتب أهل السنّة والجماعة هو أبو هريرة الذي روى بحسب نقل إحصائيّة ابن حزم الظاهري 5374 حديثا (2)، قد اختلف في اسمه اختلافا شنيعا حيث قال النووي: أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث هو أول من كنى بهذه الكنية قيل كان له هرة يلعب بها في صغره فكني بها واختلف في اسمه واسم أبيه على نحو ثلاثين قولا أشهرها وأصحها انه عبد الرحمن بن صخر وبه قطع جماعات من أهل
ص: 18
هذا الفن (1).
وقال ابن عبد البر: اختلفوا في اسم أبي هريرة ، واسم أبيه اختلافا كثيرا، لا يحاط به ولا يضبط في الجاهلية والإسلام، فقال خليفة : ويقال اسم أبي هريرة عبد الله بن عامر، ويقال برير بن عشرقة، ويقال سكين بن دومة، وقال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول : اسم أبي هريرة عبد الله ابن عبد شمس، ويقال : عامر ، وقال : سمعت أحمد بن حنبل يقول: اسم أبي هريرة عبد الله بن عبد شمس، ويقال : عبد نهم بن عامر، ويقال: عبد غنم، ويقال سكين، وذكر محمد بن يحيى الذهلي، عن أحمد بن حنبل مثله سواء، وقال عباس، سمعت يحيى بن معين يقول: اسم أبي هريرة عبد شمس، وقال أبو نعيم: اسم أبي هريرة عبد شمس، وروى سفيان بن حصين عن الزهري، عن المحرر بن أبي هريرة، قال: اسم أبي هريرة عبد عمرو بن عبد غنم، وقال أبو حفص الفلاس: أصحّ شيء عندنا في اسم أبي هريرة عبد عمرو بن عبد غنم، وقال ابن الجارود: اسم أبي هريرة كردوس وروى الفضل بن موسى السّينانى، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة عبد شمس، من الأزد، من دوس، وذكر أبو حاتم الرازيّ، عن الأوسي، عن ابن لهيعة، قال: اسم
ص: 19
أبي هريرة كردوس بن عامر ، وذكر البخاري عن ابن أبي الأسود قال: اسم أبي هريرة عبد شمس، ويقال عبد نهم، أو عبد عمرو، قال أبو عمر: محال أن يكون اسمه في الإسلام عبد شمس، أو عبد عمرو، أو عبد غنم، أو عبد نهم، وهذا إن كان شيء منه فإنما كان في الجاهلية، وأما في الإسلام فاسمه عبد الله أو عبد الرحمن، والله أعلم، على أنّه اختلف في ذلك أيضا اختلافا كثيرا (1).
إنّ ما تقدّم من أجوبة من شأنها قلع إشكال اختلاف الشيعة في اسم أم الإمام المهدي علیها السلام من جذوره ولا يبقي له عين ولا أثر، يبقى الكلام في ترجيح ما هو اسمها الصحيح الثابت لها وهو ما لا يمكن الجزم بأحدها لما تبيّن لك من الوجوه المتقدّمة، لكن يمكننا أن نرجّح كونه (نرجس) لكثرة دورانه في الروايات الواردة عنهم علیهم السلام.
ومن أهمّ النصوص التي يتمسّك بها ما نقله صاحب عيون المعجزات: وقرأت في كتاب الوصايا وغيره بأنّ جماعة من الشيوخ العلماء منهم عسلان الكلابي وموسى بن أحمد الفزاري وأحمد بن جعفر ومحمد بأسانيدهم أنّ حكيمة بنت أبي جعفر عمة أبي محمد علیها السلام
ص: 20
يوما وكنت ادعو الله له أن يرزقه ولدا، فدعوت له كما كنت ادعو فقال: يا عمّة أما أنّه يولد في هذه الليلة، وكانت ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين المولود الذي كنا نتوقعه فاجعلي افطارك عندنا وكانت ليلة الجمعة، قالت حكيمة: ممن يكون هذا المولود يا سيدي؟ فقال: علیه السلام: من نرجس (1).
وهذا الخبر يدلّ على أنّ اسمها الخاص الذي كانت تنادى به في داخل البيت العلوي هو (نرجس)، علما أنّ تعبير المصنّف ب-(وقرأت في كتاب الوصايا وغيره) يدلّ على أنّ هذا الخبر كان متداولا في كتب الأصحاب، ويكفينا الكتاب الذي ذكر اسمه وهو كتاب (الوصايا) للشلمغاني (2) المقتول سنة 322 ه- والذي كان أيام استقامته مقرّبا من سفراء صاحب العصر والزمان علیه السلام، وكفى بهذا شاهدا على ما رجّحناه. وترجيحنا لهذا الاسم لا يعني إلغاء باقي الأسماء لما تقدّم من احتمال كونها ألقابا لها أو أنّها أضيفت لها للتعمية عليها وحمايتها من جور السلطان كما سيأتيك مفصّلا ، ولا مانع من الجمع بين كلّ هذه الأجوبة إذ ليست من باب مانعة الجمع.
ص: 21
من أهمّ الأمور المرتبطة بأمّ الإمام المهدي علیها السلام هو كيفيّة وصولها لبيت العصمة، حيث يرتبط هذا البحث ببينا أصلها وحقيقة وهويتها كما يترتّب عليه إثبات أو نفي لكثير من الأمور الأخرى.
رواية قدومها من البلاد الروم:
إنّ أهمّ وثيقة في المقام هي الرواية التي نقلها الشيخ الصدوق رضي الله عنه في كمال الدين والتي تضمّنت القصّة المفصّلة لوالدة الإمام المهدي علیها السلام وكلّ ما يرتبط بحياتها:
قال الشيخ الصدوق رضي الله عنه: حدثنا محمد بن علي بن حاتم النوفلي، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي، قال: حدثنا أحمد بن طاهر القمى، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر الشيباني،
ص: 22
عند ملاحظة سند هذا الخبر نجد أنّ فيه بعض الأمور التي تقتضي الخدشة فيه وهي:
أوّلا : إنّ الراوي لهذه الحادثة هو (أبو الحسين محمد بن بحر الشيباني) (1)، وبغضّ النظر في الوقت الحالي عن تقييمنا للرجل، إلّا أنّ الغريب فعلا هو أنّ الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381ه- قد نقل عنه الخبر بثلاثة وسائط : (محمد بن علي بن حاتم النوفلي قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي قال : حدثنا أحمد بن طاهر القمي:...) (2) وفي المقابل نجد أنّ الشيخ الطوسي المولود سنة 385ه- والمتوفى سنة 460ه- قد نقل عنه نفس الخبر لكن بواسطتين فقط: (أخبرني جماعة ، عن أبي المفضل الشيباني، ...) (3) !
ص: 23
والذي يزيد الأمر غرابة هو ما نقله الطبري الصغير في دلائل الإمامة حيث قال: (حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر الرهني الشيباني، قال: وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين) (1)، فاللقاء حصل سنة 286 ه-، والذي روى القصة عن صاحب اللقاء حدّث بها سنة 385 ه- أي بعد 100 سنة.
وهذه الهوّة الزمانيّة الكبيرة تؤكّد وجود وسائط ساقطة في السند الذي نقله الشيخ الطوسي والطبري الصغير رضوان الله عليهما، وبهذا يكون نقل الشيخ الصدوق رضي الله عنه أدقّ وأضبط.
وهنا تكمن المشكلة، وهي أنّنا نجهل هويّة هؤلاء الذين نقلوا هذه القصة عن (محمد بن بحر الشيباني)، وحتّى الذين ذكرهم الشيخ الصدوق في سنده (أحمد بن عيسى الوشاء، أحمد بن طاهر القمي) فإنّهما مهملان في كتب الرجال والتراجم ولا يوجد لهما أي ترجمة فضلا عن وجود توثيق لهما، فالطريق إلى صاحب القصّة إمّا ضعيف لوجود مجاهيل فيه أو مرسل لوجود وسائط ساقطة وغير معروفة لدينا.
ثانيا: إنّ مدار هذه القصّة على (بشر بن سليمان النخّاس)
ص: 24
والذي عرّف نفسه في الرواية بأنّه من نسل أبي أيوب الأنصاري، وهذا الرجل لا يوجد له ذكر لا في كتب التاريخ ولا الرجال ولا التراجم البتّة.
بل حتّى راوي الخبر (محمد بن بحر الشيباني) لم يكن يعرفه أو سمع به من قبل، إنّما عرفه بعد أن عرّف بنفسه وصدّق كلامه، فلا طريق لنا لمعرفة هذا الرجل إلّا بتعريفه لنفسه في هذه الرواية!
والذي يزيد استغرابنا أنّه وصف نفسه بأوصاف عظيمة جدّا، حيث يقول عن نفسه: (يا ابن أخي لقد نال عمّك شرفا بما حمّله السيدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلّا سلمان) فهل يكون أحد في أصحاب الأئمة علیهم السلام مثل سلمان المحمدي ولا يعرف عنه أحد شيئا؟!
بل نجد أنّه ذكر أمرا آخر عرّف به نفسه وهو أنّه من نسل أبي أيّوب الأنصاري حيث قال: (صدقت أنا بشر بن سليمان النخّاس من ولد أبي أيوب الأنصاري)، وقد نصّ المؤرّخون على أنّ أبا أيّوب الأنصاري لا عقب له، حيث قال ابن سعد في طبقاته: وكان لأبي أيوب من الولد عبد الرحمن وأمه أم حسن بنت زيد بن ثابت بن الضحاك
ص: 25
من بني مالك بن النجار وقد انقرض ولده فلا نعلم له عقبا (1).
فصحّة هذه القصّة متوقّفة على مدى معرفتنا وتصديقنا لهذا الشخص، هذا على فرض صدق من نقل القصة، وإلّا فمن المحتمل أنّه شخصيّة وهميّة لا وجود لها نسجها خيال القصّاص وأذاعوها بين الناس.
ثالثا: نأتي الآن إلى المصدر الرئيسي للقصّة، فلو استقرأنا الكتب الروائيّة فإنّنا نجد أنّ للقصّة طريقين:
- طريق الشيخ الصدوق رضي الله عنه وهو: محمد بن علي بن حاتم النوفلي قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي قال: حدثنا أحمد بن طاهر القمي قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر الشيباني:... (2).
- طريق الشيخ الطوسي رضي الله عنه وهو: جماعة، عن أبي المفضل الشيباني، عن أبي الحسين محمد بن بحر بن سهل الشيباني الرهني... (3).
والظاهر أنّ كلا الطريقين هما لأحد كتب (محمد بن بحر
ص: 26
الرهني)، يشهد على ذلك أنّ الشيخ الصدوق رضي الله عنه قد نقل عنه رواية في كمال الدين: حدثنا محمد بن علي حاتم النوفلي المعروف بالكرماني قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي قال : حدثنا أحمد بن طاهر القمي قال: حدثنا محمد بن بحر بن سهل الشيباني قال: أخبرنا علي بن الحارث، عن سعيد ابن منصور الجواشني قال أخبرنا أحمد بن علي البديلي قال: أخبرنا أبي، عن سدير الصيرفي قال : دخلت أنا والمفضل بن عمر... (1).
ونفس هذه الرواية نقلها الشيخ الطوسي بسنده الأوّل الذي ذكرناه: أخبرني جماعة، عن أبي المفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن المطلب رحمه الله قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر بن سهل الشيباني الرهني قال: أخبرنا علي بن الحارث، عن سعد بن المنصور الجواشني قال: أخبرنا أحمد بن علي البديلي قال : أخبرني أبي، عن سدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر... (2).
وعليه فلا بدّ من تحقيق حال هذا الرجل الذي يعتبر مدار هذه القصّة وقطب رحاها بل كان طرفا فيها، إذ أنّه هو الوحيد الذي التقى ب- (بشر النخّاس) وعرّفه ما جرى بينه وبين الإمامين العسكريين علیهما السلام
ص: 27
والسيدة الطاهرة نرجس علیها السلام.
قال النجاشي رحمه الله في الفهرست: محمد بن بحر الرهني أبو الحسين الشيباني ساكن نرماشير من أرض كرمان، قال بعض أصحابنا: إنّه كان في مذهبه ارتفاع، وحديثه قريب من السلامة، ولا أدري من أين قيل ذلك؛ له كتب، منها: كتاب البدع، كتاب البقاع، كتاب التقوى، كتاب الاتباع وترك المراء في القران، كتاب البرهان، كتاب الأول والعشرة، كتاب المتعة، كتاب القلائد، فيه كلام على مسائل الخلاف التي بيننا وبين المخالفين؛ قال لنا أبو العباس أحمد بن علي بن العباس بن نوح: حدّثنا محمد بن بحر بسائر كتبه ورواياته (1).
وكلام الشيخ يثبت أنّ الرجل كان موضع التهمة بالغلو من بعض الأصحاب، ولعلّ تعبيره ببعض الأصحاب إشارة لابن الغضائري الذي قال في حقّه: ضعيف في مذهبه ارتفاع (2).
إلّا أنّ الشيخ رحمه الله دافع عنه بقوله (وحديثه قريب من السلامة ولا أدري من أين قيل ذلك؟)، وقد استظهر بعضهم من هذه العبارة توثيق النجاشي، لكن يمكن أن يجاب بأمور:
ص: 28
أوّلا: إنّ دفاع النجاشي رحمه الله عن (الرهني) مبنيّ على الحدس لا الحسّ، فهذا التعبير (حديثه قريب من السلامة) يدلّ على أنّ رفض تهمته بالغلو مردّه إلى تقييم رواياته لا إلى مخالطة الرجل مباشرة أو النقل عن الذين عاشروه.
ثانيا: الظاهر أنّ كتب (الرهني) لم تكن متداولة في بغداد، ويشهد بذلك قول شيخ الطائفة رضي الله عنه: (وله نحو من خمسمائة مصنف ورسالة، وكتبه موجودة، أكثرها موجود بخراسان) (1)؛ فهذا النقل يجعلنا نشكّ في فعليّة اطلاع النجاشي على تراث الرجل لكي يتسنّى له تبرئته ممّا نسب إليه.
ثالثا: عندنا شهادة حسيّة تبيّن لنا حقيقة هذا الرجل وهو ما ذكره الكشّي رحمه الله في رجاله: قال أبو عمر ومحمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي: وحدّثني أبو الحسن محمد بن بحر الكرماني الرهني الترماشيري قال: وكان من الغلاة الحنقين (2) .
وقال في مورد آخر: محمد بن بحر هذا غال، وفضالة ليس من رجال يعقوب، وهذا الحديث مزاد فيه مغيّر عن وجهه (3).
ص: 29
وهذه الشهادة دليل مهمّ يثبت لنا أنّ الرجال من الغلاة، بل بتعبير الكشّي رحمه الله من الحنقين منهم، والأمر الآخر الأهم هو أنّ ظاهر كلامه ينبیء الرجل كان يستحلّ التلاعب بالروايات بالزيادة والنقيصة.
وعندنا نصّ آخر من شأنه أن يكون مؤيّدا يعرّفنا لما تقدّم من حال الرجل، وهو ما نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء عن ابن شهر آشوب قدس الله روحه: كان لقنا حافظا يذاكر بثمانية آلاف حديث غير أنه كثّر حفظه وتتبّع الغرائب فعمر ومن طلب غرائب الحديث كذب (1).
وهذه الشهادة لها واقع محسوس يمكن درکه بسبر روايات الرجل وتقييمها، حيث أنّ جلّ ما وصل بين أيدينا من روايات (محمد بن بحر الرهني) في كتب الخاصّة هي محلّ إشكال واستغراب:
فمن رواياته ما نقله الكشّي رحمه الله: عن فضيل الرسان، قال : قيل لأبي عبد الله علیه السلام أنّ زرارة يدّعي أنّه أخذ عليك الاستطاعة؟ قال: لهم عقرا كيف أصنع بهم، وهذا المرادي بين يدي وقد أريته وهو أعمى بين السماء والأرض فشكّ وأضمر أنّي ساحر، فقلت: اللّٰهُمَّ لو لم
ص: 30
تكن جهنم إلّا اسكرجة لوسعها آل أعين بن سنسن، قيل: فحمران؟ قال حمران ليس منهم (1).
وهذه الرواية واضحة البطلان، ففيها الطعن الشديد على خيرة أصحاب الأئمة عليهم السلام ك- (أبي بصير المرادي) و (آل أعين) بل والشهادة عليهم أنّهم من أهل النار !!!
واقتبس الشيخ الصدوق رضوان الله عليه مقاطع طويلة من كتاب الرهني المسمى (من قول مفضلوا الأنبياء والرسل والأئمة والحجج صلوات الله عليهم أجمعين على الملائكة) ثم عقّب عليها بما يدلّ على توقّفه رحمه الله في روايات الرجل، قال في علل الشرائع: قال مصنف هذا الكتاب: إنما أردت أن تكون هذه الحكاية في هذا الكتاب ، وليس قولي في إبليس انه كان من الملائكة ، بل كان من الجن إلّا أنه كان يعبد الله بين الملائكة، وهاروت و ماروت ملكان، وليس قولي فيهما قول أهل الحشو ، بل كانا عندي معصومين ومعنى هذه الآية: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ) إنما هو، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، وقد أخرجت في ذلك خبرا مسندا في
ص: 31
كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام (1).
وكلامه رضي الله عنه صريح في أنّ الرجل من الحشوية، وأنّ ما يذكره مخالف للأخبار المسندة عن أهل البيت عليهم السلام.
والرواية الأخرى التي نقلها عنه الصدوق رضي الله عنه في كتاب كمال الدين (2)، هي رواية طويلة ذكرت لقاء سعد بن عبد الله الأشعري رضي الله عنه بالإمام العسكري عليه السلام وابنه الحجة عليه السلام، وقد أطبق المتقدّمون والمتأخّرون على ردّها، حتى قال النجاشي رحمه الله: ولقي مولانا أبا محمد عليه السلام، ورأيت بعض أصحابنا يضعّفون لقاءه لأبي محمد عليه السلام ويقولون هذه حكاية موضوعة عليه (3).
وعلّق السيد الخوئي قدس سره تدل على الرواية في معجمه بقوله: حكاية لقاء سعد أبا محمد عليه السلام، رواها الصدوق في كمال الدين الباب في ذكر من شاهد القائم - عجل الله تعالى فرجه الشريف - ورآه وكلمه، الحديث 22، عن محمد بن علي بن محمد بن حاتم النوفلي المعروف بالكرماني، قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي، قال : حدثنا أحمد بن طاهر القمي، قال : حدثنا محمد بن بحر بن سهل
ص: 32
الشيباني، قال:...؛ وهذه الرواية ضعيفة السند جدا فإن محمد بن بحر بن سهل الشيباني لم يوثق وهو متهم بالغلو، وغيره من رجال سند الرواية مجاهيل، على أنها قد اشتملت على أمرين لا يمكن تصديقهما (1).
ولا تسلم تقريبا من رواياته إلّا خبر ندبة الإمام الصادق عليه السلام لولده المهدي عليه السلام الذي رواه الشيخ الصدوق رضي الله عنه في كمال الدين (2) وشيخ الطائفة الطوسي رضي الله عنه في الغيبة (3).
ومن هنا نعلم أنّ هذا الرجل كان متّهما بالغلوّ في أوساط الشيعة، وأنّه لم يكن ضبطا بل كان ينقل كلّ شيء ويتتبّع الغرائب كما تقدّم، والذي يظهر أنّ كتبه كانت متداولة بين الغلاة ولذلك فلا يبعد أنّهم تلاعبوا بها وحرّفوا فيها.
وبهذا يتبيّن لك أنّ سند هذا الخبر معلول من أوّله لآخره، ونعم ما قاله السيد الخوئي قدس سره تعليقا على نفس هذا السند في رواية أخرى: وهذه الرواية ضعيفة السند جدا فإن محمد بن بحر بن سهل الشيباني
ص: 33
لم يوثق وهو متهم بالغلو، وغيره من رجال سند الرواية مجاهيل (1).
لا تنتهي الإشكالات على هذا الخبر في الجانب السنديّ فقط، بل تشمل متنه حيث نجد أنّه قد تضمّن أمورا من شأنه توهين الخبر والمنع من الركون إليه:
الأمر الأوّل: أنّ نرجساً علیها السلام عرّفت نفسها في هذا الخبر بأنّها (مليكة بنت يوشع بن قيصر الروم) أي أنّها حفيدة ملك الروم في ذلك الزمن وكان عمرها 13 سنة، ومن هنا فإنّه يمكننا بالربط بين هذه الخيوط تحديد شخصيّة جدّها إمبراطور الروم:
فبحسب الرواية فإنّ هذه الأحداث حصلت في حياة الإمام الهادي علیه السلام أي تقريبا قبل سنة 254ه-، فلو قمنا بتحويل هذا التاريخ الهجري إلى التاريخ الميلادي سيكون إطار الأحداث ما قبل سنة 868م، وبالرجوع إلى تاريخ الدولة البيزنطية وإلى أسماء أباطرتها، نجد أنّ الشخص المقصود هو: ميخائيل الثالث الذي حكم من 842م إلى 867م.
وهذا الإمبراطور لا يمكن أن يكون هو المقصود إذ أنّ والده
ص: 34
المسمّى ثيوفيلوس توفّي في سنة 842م، وكان هو صغيرا لا يصلح للحكم، فتولّت أمّه أمور البلاد نيابة عنه، قال ابن كثير: وفيها - 227ه- - توفي ملك الروم توفيل بن ميخائيل، وكان مدة ملكه ثنتي عشرة سنة، فملكت الروم بعده امرأته تدورة، وكان ابنها ميخائيل بن توفيل صغيرا (1).
فمن كان في سنة 227ه- صغيرًا لا يمكنه الحكم، كيف يصبح جدّاً بعد أقلّ من 25 سنة، بل له حفيدة تبلغ من العمر 13 سنة؟
والأمر الآخر هو ما ذُكر في الرواية من أنّه أراد تزويج حفيدته (مليكة) من أحد أبناء إخوته (إنّ جدي قيصر- أراد أن يزوّجني من ابن أخيه)، والحال أنّ الملك توفيل أو ثيوفيلوس لم يكن له أبناء إلّا ميخائيل الذي كان صغيرا جدّا! ولو كان له أبناء أصغر منه، لرجعنا للإشكال الأوّل وهو إمكانية وجود أبناء في سنّ الزواج لهذا الأخ المزعوم؟
فلا يوجد إمبراطور للروم بهذه المواصفات المذكورة في هذه الرواية في تلك الفترة الزمنيّة.
نعم، احتمل بعضهم (2) أنّ المقصود ليس امبراطور الروم بل
ص: 35
وزيره والمدير الفعلي لشؤون الحكم وهو بارداس الذي لقّب بالفعل بقيصر كما ذكرت كتب التاريخ ذلك (1)، إلّا أنّ هذا الاحتمال يسقط بملاحظة ما ورد في متن الرواية من تعريف نرجس علیها السلام بأنّها: (مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم) إذ التعبير بالملك يقطع المجال أمام صرف قيصر إلى برادس الذي لم يكن ملكا في يوم من الأيّام بل كان تحت الإمبراطور ميخائيل الثالث، بل يفتح المجال أمام احتمال آخر وهو أنّ واضع هذه الرواية لم يكن يميّز بين الملك والقيصر ومن هنا توهّم أنّ بارداس كان ملك للروم.
الأمر الثاني: لو تنزّلنا وقبلنا بوجود هذا الإمبراطور، فإنّه تبقى عندنا مشكلة أخرى: وهي أنّ الرواية تحدّثت عن حرب حصلت بين المسلمين والروم: (أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أنّ جدّك سيسرب جيوشا إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثم يتبعهم).
ولو رجعنا إلى كتب التاريخ فإنّنا لا نجد قتالا حصل بين الطرفين في تلك الحقبة، بل نقل التاريخ حصول صفقة فداء للأسرى بين المسلمين والروم في عصره، قال غريغريوس الملطي: في سنة إحدى وثلثين ومائتين كان الفداء بين المسلمين والروم على يد خاقان خادم الرشيد، واجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يوم من
ص: 36
طرسوس ، وأمر الواثق خاقان خادم الرشيد أن يمتحن أسارى المسلمين، فمن قال: القرآن مخلوق وأنّ الله لا يرى في الآخرة فودي به وأعطي دينارا، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم، فلمّا كان في يوم عاشوراء أتت الروم ومن معهم من الأسارى، وكان الأمر بين الطائفتين فكان المسلمون يطلقون الأسير فيطلق الروم أسيرا فيلتقيان في وسط الجسر، فإذا وصل الأسير إلى المسلمين كبّروا وإذا وصل الرومي إلى الروم صاحوا: (كرياليسون) حتّى فرغوا فكان عدّة أسارى المسلمين أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسا والنساء والصبيان ثمانمائة، وأهل ذمة المسلمين مائة نفس (1).
وهذا يدلّ على أنّ عصر - ميخائيل الثالث كان عصر - سلام ومهادنة بين الطرفين، والحروب الطاحنة التي تشير إليها الرواية كانت في عهد والده ثيوفيلوس بن ميخائيل وتجدّد القتال في عهد من جاء بعد ميخائيل الثالث، أمّا في الفترة التي يفترض فيها حصول الحرب وهي الممتدّة من 250 إلى 254، فلم أجد نقلا تاريخيا يثبت حصول مثل قتال بين الروم والمسلمين، ولا أظنّ أنّ حربا مثل هذه يعرض المؤرّخون عن حكايتها إذ كلّ مقتضيات النقل موجودة.
ص: 37
وقد احتمل بعضهم (1) أنّ الحرب المقصودة هي التي وقعت في سنة 249ه- بين المسلمين والروم والتي وثّق ابن كثير بعض أحداثها إذ يقول: ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين في يوم الجمعة للنصف من رجب التقى جمع من المسلمين وخلق من الروم بالقرب من ملطية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، قتل من الفريقين خلق كثير، وقتل أمير المسلمين عمر بن عبيد الله بن الأقطع، وقتل معه ألفا رجل من المسلمين، وكذلك قتل علي بن يحيى الأرمني، وكان أميرا في طائفة من المسلمين أيضا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد كان هذان الأميران من أكبر أنصار الإسلام (2).
إلّا أنّ هناك ما يفسد هذا الاحتمال وهي تفاصيل هذه المعركة التي نقلها الطبري في تاريخ حيث قال: فمما كان فيها من ذلك غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنا ومطامير، واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم، فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له أرز من مرج الأسقف، فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم
ص: 38
خمسون ألفا، فقتل عمر وألفا رجل من المسلمين، وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب (1).
والمهمّ في هذا النصّ هو أنّ الروم قد هزموا المسلمين بعد أن أحاطوا بهم من كلّ جانب بل وقتلوا قادتهم وعادة الحروب أن يسبي المنتصر المنهزم لا العكس، فكيف تسبى هذه المرأة الروميّة مع أنّ جيش بلادها هو المنتصر على جيوش المسلمين الذين أبيدوا كما يظهر من النصين!
الأمر الثالث: ورد في الرواية أنّها روميّة وأنّ الذي اشتراها هو الإمام الهادي علیه السلام وأنّه اشتراها لابنه الإمام العسكري علیه السلام بل وبلّغها بأنّها ستكون أمّ الإمام المهدي علیه السلام، وكلّ هذه الجزئيات تخالف ما ورد من طوائف أخرى من الروايات المتعدّدة المخارج تخالف ما تقدّم مخالفة صريحة:
- فعندنا طائفة من الروايات تدلّ على أنّها نوبيّة.
- وطائفة أخرى تدلّ على أنّها ولدت في البيت العلوي.
- وأخرى تدلّ على أنّها كان ملكا لحكيمة علیها السلام.
- وأخرى تدلّ على أنّ حكيمة وهبتها للإمام العسكري علیه السلام.
ص: 39
فهل من المنطق أن تردّ كلّ هذه الروايات على تعدّد مصادرها وكثرة طرقها واختلاف مخارجها لأجل رواية (الرهني) التي فيها ما فيها من الضعف والوهن؟!
نكتفي بهذه الأمور الثلاثة وإن كانت هناك نقاط أخرى يمكن الخدشة فيها، لكن أعرضنا عنها لكي لا يطول المقام ويتحوّل كلّ الكتاب إلى مناقشة لهذه الرواية دون غيرها.
بناء على ما تقدّم فإنّ رواية قدوم أمّ الإمام المهدي علیه السلام من بلاد الروم تعاني من عدّة مشاكل في السند والمتن تمنع من الاعتماد عليها والركون إليها، بل الذي أكاد أجزم به أنّ هذه القصّة هي من نسج خيال تيّار الغلو في ذلك الزمن، ومن يقرأ الأدبيات الفارسية كالقصص والأساطير التي نسجت حول شخصية (ملحمة شيرين وفرهاد) يجد تقاربا كبيرا بين القصّتين ممّا يوحي بأنّ الواضع كان في بيئة فارسية، وهذا ما يتناسب مع ما نقلناه سابقا حول البيئة التي عاش فيها (الرهني) وانتشار كتبه بخراسان.
ومن يقرأ بعض فقرات الخبر لا يشكّ في ذلك (ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه فما أخذها القرار حتى أخرجت
ص: 40
كتاب مولاها علیه السلام من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدّها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها / جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك / هل خلوت ليلة من زيارته إياي)، فإنّ هذه التعابير تتلاءم كثيرا مع القصص الغرامية المنتشرة في الأدب الفارسي (1).
والعجيب أنّه قد رويت قصّة مطابقة لها في كيفية وصول شاه زنان بنت يزدجرد للإمام الحسين علیه السلام نقلها العلامة المجلسي- رضي الله عنه في بحاره: ويروى أنّها ماتت في نفاسها به، وإنّما اختارت الحسين علیه السلام لأنّها رأت فاطمة علیها السلام وأسلمت قبل أن يأخذها عسكر المسلمين، ولها قصة وهي أنّها قالت: رأيت في النوم قبل ورود عسكر المسلمين كأنّ محمدا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم دخل دارنا وقعد مع الحسين علیه السلام وخطبني له وزوّجني منه، فلما أصبحت كان ذلك يؤثر في قلبي وما كان لي خاطر غير هذا، فلما كان في الليلة الثانية رأيت فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد أتتني وعرضت علي الإسلام فأسلمت ثم قالت: إنّ الغلبة تكون للمسلمين، وإنّك تصلين عن قريب إلى ابني الحسين سالمة لا يصيبك بسوء أحد قالت: وكان من الحال أني خرجت إلى المدينة ما مسّ يدي
ص: 41
انسان (1)!
قد يعترض بأنّ الشيخ الصدوق رضي الله عنه قد نقلها في كتابه واعتمد عليها، فكيف يحكم عليها بأنّها من نسج الوضّاع أو الغلاة؟!
والجواب:
أوّلا : لا يوجد أيّ دليل على أنّ الشيخ الصدوق قد تحرّى الصحة في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) واعتمد على خصوص الأخبار المعتبرة، وما ذكره بعضهم من أنّ اسم الباب (ما روى في نرجس أم القائم عليهما السلام واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر -الملك) كاشف عن اعتماده على الخبر غير تام، لاحتمال كون التبويب من النساخ كما هو معلوم عند أهل هذا الفن.
ثانيا: تقدّم أن الشيخ الصدوق رضي الله عنه قد انتقد مرويات هذا الرجل وأنّه من الحشوية، حيث قال في علل الشرائع: قال مصنف هذا الكتاب: إنما أردت أن تكون هذه الحكاية في هذا الكتاب ، وليس قولي في إبليس إنه كان من الملائكة ، بل كان من الجن إلا أنه كان
ص: 42
يعبد الله بين الملائكة، وهاروت وماروت ملكان، وليس قولي فيهما قول أهل الحشو، بل كانا عندي معصومين ومعنى هذه الآية: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) إنما هو، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، وقد أخرجت في ذلك خبرا مسندا في كتاب عيون أخبار الرضا علیه السلام (1).
فكيف يمكن أن يعتمد عليه؟
ثالثا: الأهمّ من كلّ ما تقدّم أنّ الشيخ الصدوق رضي الله عنه قد روى روايات متعارضة في حقّ السيدة الطاهرة علیها السلام، ولا يمكن أن يكون معتقدا بصحّتها بأجمعها.
فرواية (الرهني) تدلّ على أنّ الإمام العسكري علیه السلام كان يعرف بأمر نرجس علیها السلام منذ البداية واشتراها له أبوه الإمام الهادي علیه السلام لأجل هذا الأمر، وفي المقابل عندنا رواية أخرى بعدها بوريقات تذكر قصّة أخرى:
فقد روى الصدوق رضي الله عنه في كمال الدين بسنده عن حكيمة علیها السلام: كانت لي جارية يقال لها: نرجس فزارني ابن أخي فأقبل يحدق النظر
ص: 43
إليها، فقلت له: يا سيدي لعلك هويتها فأرسلها إليك؟ فقال لها: لا يا عمة ولكنّي أتعجب منها، فقلت: وما أعجبك منها؟ فقال علیه السلام: سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جوراً وظلماً، فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي؟ فقال: استأذني في ذلك أبي علیه السلام، قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن علیه السلام، فسلّمت وجلست، فبدأني علیه السلام وقال: يا حكيمة، ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمد، قالت: فقلت: يا سيدي على هذا قصدتك على أن أستأذنك في ذلك، فقال لي: يا مباركة إنّ الله تبارك وتعالى أحب أن يشركك الأجر ويجعل لك في الخير نصيبا، قالت حكيمة: فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزيّنتها ووهبتها لأبي محمد علیه السلام (1).
والرواية صريحة في أنّ الجارية هي لحكيمة لا للإمام الهادي علیه السلام ويشهد بذلك قولها (كانت لي جارية يقال لها: نرجس) والأصرح منه قولها (ووهبتها لأبي محمد علیه السلام)، وهذه تعارض رواية (محمد بن بحر الرهني) بل وتسقطها رأسا، فلو كان الصدوق رضي الله عنه معتقداً بصحّة الخبر الأوّل لما روى مثل هذا الخبر الذي يكذّبه، أو علّق بما يرفع التنافي بين الخبرين.
ص: 44
أصلها علیها السلام
من الأمور التي تحتاج منّا وقفة مطوّلة هو البحث عن أصل هذه السيدة الطاهرة علیها السلام، حيث اختلفت نسبتها إلى أربعة مناطق مختلفة وهي:
روميّة.
سنديّة.
مغربيّة.
نوبيّة.
وسنناقش هذه النسب تباعا في هذا الفصل:
أنّها علیها السلام روميّة:
تبيّن لك من الفصل السابق سقوط الخبر الطويل في قصّة وصول السيدة الطاهرة علیها السلام إلى بيت العصمة والطهارة، وهذا ما يفتح الباب أمام سؤال آخر لا يقلّ أهمّية عن سابقه وهو: هل كانت أمّ الإمام علیه السلام روميّة بالفعل أم لا؟
ص: 45
بسقوط رواية ابن بحر المتقدّمة يسقط أشهر دليل على روميّتها، إلّا أنّه توجد بعض الأمور الأخرى التي استدلّ لها على كونها كذلك واعتبرت بمثابة الشواهد على صحّة الرواية المزبورة، وهي:
ما روي عن الفضل بن شاذان رضي الله عنه في كتابه إثبات الرجعة: حدثنا محمد بن عبد الجبار، قال: قلت لسيدي الحسن بن علي: يا ابن رسول الله -جعلني الله فداك- أحبّ أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ قال علیه السلام: إنّ الإمام والحجة بعدي ابني، سميّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكنيه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه؛ قال: ممن هو يا ابن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، إلا أنه سيولد فيغيب عن الناس غيبة طويلة، ثم يظهر ويقتل الدجال، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، فلا يحلّ لأحد أن يسمّيه باسمه أو يكنيه بكنيته قبل خروجه صلوات الله عليه (1).
والرواية صريحة الدلالة في أنّ أم الإمام المهدي علیه السلام هي ابنة ابن قيصر ملك الروم فلا كلام فيها من هذه الجهة، وإنّما الكلام في البحث الصدوري لهذه الرواية حيث توجد عدّة أمور تمنعنا من الاعتماد عليها والركون إليها:
ص: 46
أوّلا: إنّ كتاب "إثبات الرجعة" للفضل بن شاذان النيشابوري لم يصل إلينا فيما وصلنا من كتب وإنّما وصلتنا بعض أحاديثه مفرّقة في بعض مصنّفات الأصحاب، وهذا الحديث قد نقله الحرّ العاملي رحمه الله في "إثبات الهداة" (1) والميرلوحي الأصفهاني رحمه الله في "كفاية المهتدي" (2) والكلام كلّ الكلام في النسخة الواصلة إليهما من هذا الكتاب إذ يظهر للمتبّع الخبير عدم شهرة الكتاب قبل القرن الحادي عشر إذ لم ينقل تقريبا أحد عنه، أضف إلى هذا أنّ الحرّ العاملي رحمه الله قد صرّح بأنّ النسخة التي وصلت له كانت "وجادة"، قال: هذا ما وجدناه منقولا من رسالة إثبات الرجعة للفضل بن شاذان بخطّ بعض فضلاء المحدّثين (3).
وكذلك الميرلوحي الذي لا نعرف أيّ شيء عن نسخته الواصلة إليه سوى ما ذكره من حيازته لنسخة من كتاب "الغيبة" دون أن يذكر طريقة تحصيلها أو أيّ تفاصيل مفيدة في المقام، ومن هنا فإنّ أوّل مشكلة تواجهنا هي عدم الوثوق بصحّة النسخة التي نقل منها هذا الخبر.
ص: 47
ثانيا: إنّ ممّا يضعف الوثوق بهذه النسخة هو عدم مطابقتها مع أحاديث الفضل بن شاذان رضي الله عنه الموجودة في الكتب الأخرى، وهذا ما يجعلنا أمام سؤال مشروع وهو: إذا كانت هذه النسخة هي للكتاب المعروف بين المتقدّمين فلماذا لا نجد هذه الروايات في كتبهم رغم كثرة نقلهم عن الفضل بن شاذان رضي الله عنه؟
بل العجيب أنّ روايات هذه النسخة متقنة وأسانيدها في غاية الصحّة والاعتبار، فهل من المعقول أن يعرض عنها كبار محدّثي الطائفة وينقلون كتبا أقلّ علوّا في الإسناد وأدنى صحّة؟
ثالثا: الأمر الأخير هو نفس هذه الرواية التي يستدلّ بها على قضيّة أمّ الإمام المهدي علیه السلام، فإنّها من رواية محمد بن عبد الجبار كما تبيّن لك، وقد قلّبت كتب الحديث والرجال والتراجم فلم أجد أيّ رواية للفضل عن "محمد بن عبد الجبّار"، وهذا ما يجعلنا نشكّ أكثر في صحّة النسخة الموجودة بين أيدينا!
فإذن لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية للعلل المتقدّمة...
ما روي من زيارة للسيدة الطاهرة نرجس علیها السلام والتي فيها: السلام على والدة الامام والمودعة أسرار الملك العلّا، والحاملة لأشرف الأنام، السلام عليك أيتها الصديقة المرضية، السلام عليك
ص: 48
يا شبيهة أم موسى وابنة حواري عيسى، السلام عليك أيتها التقيّة النقيّة، السلام عليك أيتها الرضيّة المرضيّة، السلام عليك أيتها المنعوتة في الإنجيل، المخطوبة من روح الله الأمين، ومن رغب في وصلتها محمد سيد المرسلين، و المستودعة أسرار رب العالمين، السلام عليك وعلى آبائك الحواريين، السلام عليك وعلى بعلك وولدك، السلام عليك وعلى روحك وبدنك الطاهر (1).
وقد كفانا المشهدي رحمه الله مؤونة إطالة المناقشة في هذه الزيارة حيث قال في مطلعها: زيارة أم القائم علیها السلام أملاها عليّ رجل من البحرين سمعته يزور بها (2)؛ وهذا نصّ في أنّ الزيارة ليست مأثورة عن أحد من المعصومين علیهم السلام بل هي من إنشاء رجل مجهول نسبه الشيخ المشهدي رحمه الله إلى بلاد البحرين، ولعلّه صاغ هذه الزيارة على الرواية المشهورة كما يحصل اليوم من نظم بعض الزيارات لبعض أبناء المعصومين علیهم السلام بناء على روايات وردت فيهم.
بهذا يتبيّن لك أنّه لا دليل على كون أمّ الإمام المهدي علیها السلام كانت روميّة، فكلّ ما تمسّكوا به لا يصل أن يستدل به على هذه الدعوى والتي أصبحت أشهر من نار على علم، وكما يقال: ربّ مشهور لا
ص: 49
أصل له.
حاول بعضهم نسبة أم الإمام المهدي علیها السلام إلى بلاد السند، واستدلّ على ذلك بما رواه الحسين بن حمدان الخصيبي بأسانيده عن حكيمة بنت الجواد علیه السلام أنّها تدخل على أبي محمد علیه السلام فتدعو له أن يرزقه الله ولدا، وأنّها قالت: دخلت عليه فقلت له كما كنت أقول ودعوت له كما كنت أدعو فقال: يا عمة، أما الذي تدعين إلى الله أن يرزقنيه يولد في هذه الليلة - وكانت ليلة الجمعة لثمان ليال خلت من شهر شعبان سنة سبع وخمسين ومائتين من الهجرة- فاجعلي إفطارك عندنا، فقالت: يا سيدي ما يكون هذا الولد العظيم؟ قال: إلى نرجس يا عمة، قالت: يا سيدي ما في جواريك أحبّ إلي منها، فقمت ودخلت عليها ففعلت كما كانت تفعله فخاطبتني بالسندية فخاطبتها بمثلها، وانكببت على يديها فقبلتها، فقالت: فديتك، فقلت لها: بل أنا فداءك وجميع العالمين، فأنكرت ذلك منّي، فقلت: تنكرين ما فعلت فان الله سيهب لك بهذه الليلة سيدا في الدنيا و الآخرة وهو فرج المؤمنين فاستحيت مني (1).
ص: 50
وموضع الشاهد فيها هو قولها (ففعلت كما كانت تفعله فخاطبتني بالسنديّة) إذ يفهم من هذا المقطع أنّ لسانها علیها السلام هو لسان سندي، وهذا ما يقرّب كونها من بلاد السند.
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأمور:
الأوّل: نقل الشيخ الصدوق رضي الله عنه وشيخ الطائفة الطوسي رضي الله عنه هذه الرواية خالية من هذه العبارة التي هي موضع الشاهد، وبالتالي فإنّنا أمام زيادة في تفرّد بها (الخصيبي) دون غيره، وقد تقرّر في محلّه أنّ الزيادة لا تقبل إلّا إذا كانت من ثقة ضبط ولم يكن لها معارض وكلّ هذا مفقود في المقام.
فالخصيبي قد طعن فيه كلّ من ترجم له بفساد مذهبه ووجود تخليط في كتبه (1)، بل يكفي المتتبّع الخبير المقارنة بين رواياته وبين روايات الثقات الأثبات ليرى التفاوت الكبير.
الثاني: إنّ هذه الفقرة تحديدا خلت منها جلّ مخطوطات الكتاب كما نصّ على ذلك بعض محقّقيه (2)، وبمراجعة بعض المخطوطات المتوفّرة بين أيدينا تبيّن أنّ كلمة (بالسنديّة) مصحّفة من كلمة (بالسيادة)، وهذا ما يدلّ عليه سياق الكلام بل ما تدلّ عليه
ص: 51
رواية الشيخ الصدوق والطوسي والتي فيها: فلما سلمت وجلست جاءت تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت؟ فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي، قالت: فأنكرت قولي وقالت: ما هذا يا عمة؟ قالت: فقلت لها: يا بنية إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيدا في الدنيا والآخرة قالت: فخجلت واستحت (1).
فالمراد من (خاطبتني بالسيادة) أنّها قالت للسيدة حكيمة علیها السلام "يا سيدتي" فأجابتها بمثلها أي قالت لها: "أنت سيدتي وسيدة أهلي" كما هو مبيّن في نصّ الحديث، بل يكفي أن ننظر لنفس خبر (الخصيبي) لنعلم أنّ السياق يدلّ على هذا المعنى.
الثالث: لو سلّمنا بوجود هذا اللفظ فإنّه لا ملازمة بين التكلّم بالسنديّة وبين كون الإنسان سنديّا إذ ربّما يكون قد تعلّم اللسان من هنا أو من هناك، ويكفيك أنّ الخبر قد أشار إلى تكلّم حكيمة بنت الجواد علیها السلام بالسنديّة، فهل يلتزم المستدلّ بأنّها سنديّة؟
فلا يمكن التمسّك بهذه الرواية لا من جهة ثبوت اللفظ ولا من جهة دلالته، وعليه فلا دليل على أنّها علیها السلام سنديّة.
ص: 52
ذكر بعض المعاصرين (1) حفظهم الله وجود احتمال يقضي- بكون السيدة نرجس علیها السلام من بلاد المغرب، قال: الظاهر أن كلمة سوداء في نسخة النعماني زائدة حيث اتفقت الروايات على أن أم المهدي علیه السلام رومية أو مغربية، وليست سوداء (2).
وقد بحث في كتب الخاصّة عن رواية تشير إلى هذا المعنى فلم أظفر بشيء، ثم انتقلت إلى كتب العامّة فلم أجد فيها ما يدلّ على ما ذكره الشيخ حفظه الله (3) ، وغاية ما وقعت عليه هو وجود بعض الأخبار عندهم تفيد خروج الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف من بلاد المغرب.
وقد نقل هذا الرأي القرطبي صاحب التذكرة إذ يقول: تقدم من حديث أم سلمة وأبي هريرة أن المهدي يبايع بين الركن والمقام، وظاهر أنه لم يبايع وليس كذلك، فإنه روي من حديث ابن مسعود وغيره من الصحابة أنه يخرج في آخر الزمان من المغرب الأقصى يمشي النصر بين يديه أربعين ميلاً راياته بيض وصفر فيها رقوم فيها اسم
ص: 53
الله الأعظم مكتوب: فلا تهزم له راية، وقيام هذه الرايات وانبعاثها من ساحل البحر بموضع يقال له ماسنة من قبل المغرب (1).
ولو قبلنا هذه الأحاديث فإنّ خروجه علیه السلام من المغرب لا يعني أنّ أمّه مغربيّة.
بقي بحث كونها علیها السلام نوبيّة حيث يمكن إقامة الدليل على هذه النسبة بعدّة طوائف من الروايات، بعضها بمثابة الدليل التام الصريح على المدّعى، والبعض الآخر هي مؤيّدات للموضوع:
أمّا الدليل فهو ما رواه الشيخ الكليني رضي الله عنه في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني جميعا، عن زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي... قال علي بن جعفر : فقمت فمصصت ريق أبي جعفر علیه السلام ثم قلت له : أشهد أنك إمامي عند الله، فبكى الرضا علیه السلام، ثم قال : يا عم ! ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبية الطيبة الفم، المنتجبة الرحم، ويلهم لعن الله الأعيبس وذريته، صاحب الفتنة، ويقتلهم سنين وشهورا وأياما يسومهم خسفا ويسقيهم كأسا مصبرة، وهو الطريد الشريد الموتور
ص: 54
بأبيه وجده صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك، أي واد سلك؟! أفيكون هذا يا عمّ إلّا مني، فقلت: صدقت جعلت فداك (1).
وموضع الشاهد في الخبر هو قوله: "بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبيّة"، حيث أنّ الحديث هنا ليس حول الإمام الجواد علیه السلام بل حول الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بقرينة قوله: "وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجدّه صاحب الغيبة"، وهذه الصفات خاصّة بخاتم الأوصياء ولا يمكن حملها على غيره.
كذلك التعبير ب-"خيرة الإماء" فإنّه قد ورد في روايات أخرى في حقّ أمّ الإمام المهدي علیه السلام دون غيرها، فقد روي عن أمير المؤمنين
علیه السلام: بأبي ابن خير الإماء -يعني القائم علیه السلام من ولده علیه السلام- ، يسومهم خسفا، ويسقيهم بكأس مصبرة، ولا يعطيهم إلّا السيف هرجا (2).
ومن هنا فإنّ المولى المازندراني رحمه الله ذهب إلى أنّ الأمة النوبيّة هي أمّ الصاحب عجّل الله فرجه حيث قال تعليقا على الحديث: قوله (ابن خيرة الإماء) المراد به صاحب الزمان علیه السلام لا محمّد بن علي الجواد لأن ضمير هو في قوله «وهو الطريد» راجع إلى الابن وهو بيان لحال الصاحب قطعا، قوله (ابن النوبية) النوبة بالضم بلاد واسعة للسودان
ص: 55
بجنب الصعيد ومنها بلاد الحبشة، والنوبة أيضاً جبل من السودان والنسبة إليها نوبي ونوبية (1).
وقد ذهب العلّامة المجلسي-رحمه الله إلى أنّ المقصود هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إلّا أنّ نسبته للنوبية هي نسبة مجازيّة، فالأمة النوبيّة هي أمّ الإمام الجواد علیه السلام وبالتالي هي أم للإمام المهدي علیه السلام بالواسطة، قال: والمراد بابن خيرة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف والمراد بخيرة الإماء أم الجواد علیه السلام فإنّها أمّه بواسطة لأنّ أمّه بلا واسطة كانت بنت قيصر - ولم تكن نوبيّة (2).
وكلامه رضي الله عنه مخالف لظاهر النصّ فإنّ إسناد الشيء بالواسطة هو نحو من أنحاء المجاز الذي يفتقر إلى القرينة لرفع اليد عن الظاهر، فإن قيل أنّ العلامة المجلسي رضي الله عنه قد ذكر قرينته على ذلك وهو ما دلّ على أنّ أم الإمام المهدي علیها السلام روميّة، قلنا إنّ ما دلّ على كونها روميّة قد تمّت مناقشته بحيث لا يمكن اعتماده كقرينة للتصرّف في ظاهر النصّ.
نعم، قد يشكل على هذا الاستدلال بأنّ موضع الشاهد في الرواية محلّ إشكال إذ إنّ الشيخ المفيد رضي الله عنه قد روى هذا الخبر في كتاب
ص: 56
الإرشاد مع تفاوت في اللفظ يغيّر المعنى تمام حيث قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعا عن زكريا بن يحيی بن النعمان قال: سمعت علي بن جعفر بن محمد يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال في حديثه: لقد نصر الله أبا الحسن الرضا علیه السلام لما بغى عليه إخوته وعمومته، وذكر حديثا طويلا حتى انتهى إلى قوله : فقمت وقبضت على يد أبي جعفر محمد بن علي الرضا علیه السلام وقلت له: أشهد أنك إمام عند الله، فبكى الرضا علیه السلام ثم قال: "يا عمّ، ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: بأبي ابن خيرة الإماء النوبيّة الطيّبة، يكون من ولده الطريد الشريد، الموتور بأبيه وجدّه، صاحب الغيبة، فيقال: مات أو هلك أي واد سلك؟" فقلت: صدقت جعلت فداك (1).
فهذا النقل يبيّن أنّ ابن النوبيّة هو الإمام الجواد علیه السلام أمّا الطريد الشريد صاحب الغيبة فهو ابنه المهدي علیه السلام وبالتالي يحسم النزاع في الرواية المتقدّمة فلا تصلح دليلا على المدّعى!
والجواب هو أنّ هذا النقل لا يصلح لضرب الرواية المتقدّمة وذلك لأنّ الشيخ المفيد رضي الله عنه قد نصّ على أنّه نقل الرواية عن كتاب
ص: 57
الكافي للكليني رضي الله عنه كما يظهر ذلك من السند، وبمراجعة كلّ مخطوطات الكافي الواصلة إلينا فإنّنا لم نجد أيّ اختلاف بينها بل كلّها متطابقة على النقل المتقدّم للرواية، والذي يظهر أنّ السبب في اختلاف النقل هو أنّ الشيخ المفيد رضي الله عنه قد نقل الرواية بالمعنى لا باللفظ يشهد على ذلك قوله: وذكر حديثا طويلا حتى انتهى إلى قول... (1).
أمّا الطائفة المؤيّدة فمنها ما ورد من أنّ الإمام المهدي علیه السلام هو ابن (أمة سوداء)، والروايات في هذا الباب كثيرة:
فمنها ما رواه النعماني رضي الله عنه في غيبته: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: حدثنا محمد بن المفضل بن قيس بن رمانة الأشعري وسعدان بن إسحاق بن سعيد وأحمد بن الحسين بن عبد الملك ومحمد بن الحسن القطواني، قالوا جميعا: حدثنا الحسن بن محبوب الزراد، عن هشام بن سالم، عن يزيد الكناسي، قال: سمعت أبا جعفر الباقر علیه السلام يقول: إنّ صاحب هذا الأمر فيه شبه من يوسف، ابن أمة سوداء، يصلح الله له أمره في ليلة (2).
والخبر يشير إلى حقيقة واحدة وهي أنّ أمّ صاحب الأمر علیه السلام
ص: 58
ستكون أمة سوداء، وهذا الأمر هو بمثابة المعارض الصريح للرواية التي تشير بأنّها روميّة إذ لم نسمع أنّ في الروم سودا ، كما أنّها تعطينا تصوّرا مبدئيّا عن بلاد هذه المرأة العظيمة إذ كان مصدر العبيد السود في تلك الأزمان القارة الإفريقيّة وتحديدا بلاد الحبشة وبلاد النوبة أي مثلث السودان وأثيوبيا وإريتريا.
والعجيب من بعض المعاصرين (1) إنكاره لوجود لفظ سوداء في الرواية حيث قال: الظاهر أن كلمة سوداء في نسخة النعماني زائدة حيث اتفقت الروايات على أنّ أم المهدي علیها السلام روميّة أو مغربيّة، وليست سوداء (2).
وهذا الكلام يدفع بأمور:
أوّلا: إنّ كلّ نسخ كتاب "الغيبة" للنعماني متطابقة على نقل الرواية بلفظ (أمة سوداء) ولم نجد نسخة واحدة قد سقطت منها لفظة (سوداء)، وبالتالي فما ذكره صاحب الإشكال لا يعدو كونه تخمينا لا واقع له.
ثانيا: صرّح النعماني رضي الله عنه في نهاية الباب لما يدلّ على تسليمه بصحّة هذه الطائفة من الروايات التي تذكر بصراحة أنّها علیها السلام أمة
ص: 59
سوداء حيث قال: فاعتبروا يا أولي الأبصار الناظرة بنور الهدى، والقلوب السليمة من العمى، المشرقة بالإيمان والضياء بهذا القول قول الإمامين الباقر والصادق علیهما السلام في الغيبة، وما في القائم علیه السلام من سنن الأنبياء علیهم السلام من الاستتار والخوف، وأنّه ابن أمة سوداء يصلح الله له أمره في ليلة (1).
وهذا ما يؤكّد لنا صحّة لفظة (سوداء) في هذه الرواية بما لا يدع مجالا للشكّ.
ثالثا: لقد وردت هذه الرواية في مصدر آخر وبسند آخر، فقد روى الشيخ الصدوق رضي الله عنه في كماله، قال: حدّثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس رضي الله عنه قال: حدثنا أبو عمرو الكشي- قال: حدثنا محمد بن مسعود قال: حدثنا علي بن محمد القمي، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن أبي أحمد الأزدي، عن ضريس الكناسي قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : إنّ صاحب هذا الأمر فيه سنّة من يوسف ابن أمة سوداء، يصلح الله عز وجل أمره في ليلة واحدة (2) .
وهذا الخبر يقطع النزاع في هذه الطائفة من الروايات بحيث لا
ص: 60
يبقى مجال للشكّ في أنّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف كان ابن أمة سوداء، وهذا ما يؤكّد صحّة الرواية المتقدّمة من أنّها علیها السلام امرأة من بلاد النوبة.
ومن الأخبار المؤيّدة ما ورد من أنّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف كان أسمر اللون:
فقد روى الشيخ الطوسي رضي الله عنه في غيبته بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر علیه السلام قال: المهدي رجل من ولد فاطمة وهو رجل آدم (1).
وروى السيد ابن طاووس رضي الله عنه بسنده عن الإمام الكاظم علیه السلام: ذلك المهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله قال بابي المنبدح البطن المقرون الحاجبين أحمش الساقين بعيد ما بين المنكبين أسمر اللون يعتاده مع سمرته صفرة من سهر الليل بابي من ليله يرعى النجوم ساجدا وراكعا بابي من لا يأخذه في الله لومة لائم مصباح الدجى بابي القائم بأمر الله (2).
بل ورد في وصف من رآه التأكيد على سمرة لونه، ففي خبر أبي الاديان: فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفنا فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم
ص: 61
بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخّر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر، وقد أربد وجهه واصفر (1).
وليس المقصود من السمرة في الأحاديث السحنة العربيّة المعهودة إذ إنّ هذه الصفة متعارفة بين العرب، بل يقصد بذلك سمرة خاصّة خصوصا مع التعبير عنه بأنّه آدم والأدمة هي شدّة السمرة كما هو معروف في كتب اللغة.
وهذه الطائفة ليست دليلا مستقلّا كما قدّمنا بل هي مؤيّدة لما سبق إذ الأنسب بمن كانت أمّه نوبيّة أن يكون هذا لونه بخلاف من كانت أمّه روميّة فإنّ لون بشرته سيكون أقرب للبياض إن لم يكن كذلك بالفعل.
ويمكن التأييد برواية يعقوب الضرّاب والتي تشعر بوجود خالة للإمام المهدي علیه السلام سمراء اللون، فقد روى الشيخ الطوسي رضي الله عنه في غيبته بسنده عن يعقوب بن يوسف الضرّاب الغساني - في منصرفه من إصفهان - قال: حججت في سنة إحدى وثمانين ومائتين وكنت مع قوم مخالفين من أهل بلدنا، فلما قدمنا مكة تقدم بعضهم فاكترى
ص: 62
لنا دارا في زقاق بين سوق الليل وهي دار خديجة علیها السلام تسمى دار الرضا علیه السلام، وفيها عجوز سمراء فسألتها - لما وقفت على أنها دار الرضا علیه السلام- ما تكونين من أصحاب هذه الدار؟ ولم سمیت دار الرضا؟ فقالت: أنا من مواليهم وهذه دار الرضا علي بن موسى علیه السلام أسكنيها الحسن بن علي علیهما السلام، فإنّي كنت من خدمه، فلما سمعت ذلك منها آنست بها وأسررت الأمر عن رفقائي المخالفين، فكنت إذا انصرفت من الطواف بالليل أنام معهم في رواق في الدار ونغلق الباب ونلقي خلف الباب حجرا كبيرا كنا ندير خلف الباب، فرأيت غير ليلة ضوء السراج في الرواق الذي كنا فيه شبيها بضوء المشعل، ورأيت الباب قد انفتح ولا أرى أحدا فتحه من أهل الدار، ورأيت رجلا ربعة أسمر إلى الصفرة ما هو قليل اللحم، في وجهه سجادة عليه قميصان وازار رقيق قد تقنع به وفي رجله نعل طاق فصعد إلى الغرفة في الدار حيث كانت العجوز تسكن،...، فلما رأيت هذه الأسباب ضرب على قلبي ووقعت في قلبي فتنة فتلطفت العجوز وأحببت أن أقف على خبر الرجل، فقلت لها : يا فلانة إني أحب أن أسألك وأفاوضك من غير حضور من معي فلا أقدر عليه، فأنا أحب إذا رأيتني في الدار وحدي أن تنزلي إلي لأسألك عن أمر، فقالت لي مسرعة: وأنا أريد أن أسرّ إليك شيئا فلم يتهيأ لي ذلك من أجل من معك، فقلت ما أردت أن تقولي؟ فقالت:
ص: 63
يقول لك- ولم تذكر أحدا - لا تخاشن أصحابك وشركاءك ولا تلاحهم، فإنهم أعداؤك ودارهم، فقلت لها: من يقول؟ فقالت: أنا أقول، فلم أجسر لما دخل قلبي من الهيبة أن أراجعها، فقلت أي أصحابي تعنين؟ فظننت أنها تعني رفقائي الذين كانوا حجاجا معي قالت: شركاؤك الذين في بلدك وفي الدار معك، وكان جرى بيني وبين الذين معي في الدار عنت في الدين، فسعوا بي حتى هربت واستترت بذلك السبب فوقفت على أنها عنت أولئك، فقلت لها: ما تكونين أنت من الرضا؟ فقالت كنت خادمة للحسن بن علي علیهما السلام، فلما استيقنت ذلك قلت: لأسألنها عن الغائب علیه السلام، فقلت: بالله عليك رأيته بعينك، فقالت: يا أخي لم أره بعيني فإنّي خرجت وأختي حبلى وبشرني الحسن بن علي علیهما السلام بأني سوف أراه في آخر عمري، وقال لي: تكونين له كما كنت لي (1).
فقولها: (يا أخي لم أره بعيني فإنّي خرجت وأختي حبلى) مشعر بأنّ هذه الأخت هي أمّ الإمام المهدي علیه السلام، إذ كيف تكون إمرأة أجنبيّة حبلى في بيت الإمام العسكري علیه السلام؟ وما علاقة حملها بسؤال يعقوب الضرّاب حول الغائب علیه السلام؟!
فبهذه الطوائف المختلفة من الروايات يمكن الإطمئنان بأنّ
ص: 64
أم مولانا الإمام المهدي علیها السلام هي أمة سوداء من بلاد النوبة.
إنّ مقتضى ما تقدّم من مناقشة للأدلّة المختلفة فإنّ المرجّح هو كون أمّ الإمام المهدي علیها السلام أمة من بلاد النوبة، بل ما تقدّم يعطينا دليل إضافيّ على عدم صحّة الرواية التي قدّمنا ذكرها والتي ثبت لك يقينا مخالفتها للأحاديث الكثيرة عن أهل بيت العصمة علیهم السلام.
وبالتالي فيمكن أن نترقّى في ما ذكرناه في أوّل هذا الباب وندّعي قيام الدليل على عدم كون أمّ الإمام المهدي علیه السلام روميّة كما اشتهر وشاع بين الناس في هذه الأعصار، ومن هنا فإنّ سؤالا آخر سيفرضه علينا البحث وهو: كيف وصلت هذه النوبيّة الطاهرة علیها السلام إلى بيت أهل العصمة والطهارة علیهم السلام؟!
ص: 65
كيف وصلت علیها السلام إلى بيت العصمة؟
الأمر الآخر الذي يترتّب عليه سقوط رواية (الرهني) المتقدّمة هو كون أم الإمام المهدي علیها السلام قد وصلت إلى بيت العصمة بعد رحلة سبي طويلة جدّا، وبالتالي فإنّ الكلام الآن لابدّ أن ينصبّ حول جواب هذا السؤال الذي أضحى بمثابة فراغ في سيرته علیها السلام وهو: كيف وصلت هذه الطاهرة إلى البيت العلوي؟
هل كانت مملوكة للإمام الهادي علیه السلام:؟
أهمّ نقطة يمكن أن ننطلق بها في بحث هذه الجزئيّة هو بحث من هو مالك أمّ الإمام المهدي علیه السلام بعد الفراغ من كونها أمة مملوكة كما نطقت بذلك الروايات الكثيرة، وقد نصّت رواية (الرهني) التي تم الحديث عنها على أنّ الذي اشتراها هو الإمام الهادي علیه السلام، في حين أنّها تعارض طائفة أخرى من الروايات أخرى تنصّ صراحة على أنّها كانت ملكا لحكيمة بنت الإمام الجواد علیه السلام:
فقد نقل الشيخ الصدوق رضي الله عنه رواية طويلة عن حكيمة علیها السلام تجيب فيها عمّن سألها عن الحجّة علیه السلام: يا مولاتي هل كان للحسن علیه السلام ولد؟ فتبسمت ثم قالت: إذا لم يكن للحسن علیه السلام عقب فمن الحجة
ص: 66
من بعده وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين علیهما السلام، فقلت: يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته علیه السلام، قالت: نعم كانت لي جارية، يقال لها: نرجس فزارني ابن أخي فأقبل يحدق النظر إليها، فقلت له : يا سيدي لعلك هويتها فأرسلها إليك؟ فقال لها: لا يا عمة ولكني أتعجب منها، فقلت: وما أعجبك منها؟ فقال علیه السلام: سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي؟ فقال: استأذني في ذلك علیه السلام، قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن علیه السلام: فسلمت وجلست، فبدأني علیه السلام، وقال: يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمد، قالت: فقلت: يا سيدي على هذا قصدتك على أن أستأذنك في ذلك، فقال لي: يا مباركة إن الله تبارك وتعالى أحبّ أن يشركك الأجر ويجعل لك في الخير نصيبا، قالت حكيمة : فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزيّنتها ووهبتها لأبي محمد علیه السلام وجمعت بينه وبينها في منزلي فأقام عندي أياما، ثم مضى إلى والده علیه السلام ووجهت بها معه (1).
وروى الشيخ الطوسي من هذا الخبر مرسلا: وروي أنّ بعض أخوات أبي الحسن علیه السلام كانت لها جارية ربّتها تسمى نرجس فلما
ص: 67
كبرت دخل أبو محمد علیه السلام فنظر إليها فقالت له: أراك يا سيدي تنظر إليها؟ فقال : إني ما نظرت إليها إلا متعجبا، أما إن المولود الكريم على الله تعالى يكون منها ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن علیه السلام في دفعها إليه ففعلت فأمرها بذلك (1).
وقد يشكل على هذه الرواية بأمرين:
- أولهما: ما تضمّنته من نظر الإمام العسكري علیه السلام لنرجس علیها السلام، إذ كيف يتصوّر صدور مثل هذا الأمر من الإمام علیه السلام؟ - ثانيهما: معارضة هذه الرواية لما ورد في الأخبار الأخرى الصحيحة من جهل حكيمة علیها السلام بهويّة أمّ القائم علیها السلام.
ويمكن دفع الإشكالين بالتالي:
أمّا الأوّل فيمكن دفعه بملاحظة أنّ نرجسا علیها السلام كانت أمة لا حرّة، ومن المعلوم أنّ الأمة يجوز أن ينظر إليها الإنسان بل أن يلمسها ويواقعها إذا كان بإذن مالكها، فكذلك الأمر هنا إذ يظهر من السياق رضا المالكة بذلك الأمر غاية ما في الأمر أنّه لم يصرّح به لفظا لكونه من الأمور البديهيّة إذ لا يمكن أن يصدر مثل هذا من فضلاء الناس فضلا عن شخصيّة بحجة الإمام العسكري علیه السلام.
ص: 68
ونعم ما أجاب به السيد محمد الصدر رحمه الله إذ قال: ويأتي الجواب واضحاً بسيطاً وهو أنّه نظر إليها بإذن مالكتها، والمالك إذا أذن لشخص في النظر إلى مملوكته جاز للمأذون له النظر شرعاً في حدود إذن المالك، وهذا وإن لم يذكر في الرواية إلّا أنّه أخذ مفروض التحقّق في الرواية للتسالم الواضح في المجتمع المسلم على عدم جواز النظر إلى مملوكة الغير إلّا بإذنه، لذا كان من الواضح في ذهن الراوي أنّ السامع المسلم سوف يفهم تلقائيا وجود الإذن في النظر ومن هنا أهمله من سرده من لفظ الرواية (1).
أمّا الإشكال الثاني، فالجواب عليه موجود في نفس هذه الرواية إذ موضع الشاهد فيها هو سؤال حكيمة علیها السلام عن هويّة أم المهدي علیه السلام حيث لازم السؤال هو الجهل بها، إلّا أنّ سبب هذا الاستفسار هو عدم ظهور آثار الحمل عليها كما نصّت هي بنفسها على ذلك، فكان سؤالها من باب التأكّد ورفع التعجّب.
فقد ورد فيها: فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لانصرف فقال علیه السلام: لا يا عمتا بيتي الليلة عندنا فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عز وجل الذي يحي الله عز وجل به الأرض بعد موتها ، فقلت: ممن يا سيدي
ص: 69
ولست أرى بنرجس شيئا من أثر الحبل؟ فقال: من نرجس لا من غيرها، قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهرا لبطن فلم أر بها أثر حبل، فعدت إليه علیه السلام فأخبرته بما فعلت، فتبسم ثم قال لي: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لان مثلها مثل أم موسى علیه السلام لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها ، لان فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى علیه السلام، وهذا نظير موسى (1).
نعم، يبقى الكلام في سند هذه الرواية واشتمالها على مجاهيل بحيث لا يمكن الركون إليها، إلّا أنّ هذا الأمر يمكن دفعه بملاحظة الأخبار الأخرى التي ستأتي ستأتيك تباعا:
فقد روى صاحب دلائل الإمامة: وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون ، قال: حدثني أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو علي محمد بن همام ، قال: حدثنا جعفر بن محمد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن أبي نعيم، عن محمد بن القاسم العلوي، قال: دخلنا جماعة من العلوية على حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى علیهم السلام، فقالت: جئتم تسألونني عن ميلاد ولي الله؟ قلنا: بلى والله، قالت: كان عندي البارحة، وأخبرني بذلك، وإنّه كانت عندي صبية يقال لها نرجس وكنت أربيها
ص: 70
من بين الجواري، ولا يلي تربيتها غيري (1).
ونقل صاحب إثبات الوصيّة خبرا آخرا بأسانيد مختلفة يدلّ على نفس المضمون: وروى جماعة من الشيوخ العلماء: منهم علان الكلابي، وموسى بن محمد الغازي وأحمد بن جعفر بأسانيدهم، أنّ حكيمة بنت أبي جعفر علیه السلام عمّة أبي محمد علیه السلام كانت تدخل إلى أبي محمد علیه السلام فتدعو له أن يرزقه الله ولدا، وأنّها قالت: دخلت عليه يوما فدعوت له كما كنت أدعو، فقال لي: يا عمّة، أما أنّه يولد لي في هذه الليلة وكانت ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين المولود الذي كنا نتوقعه، فاجعلي افطارك عندنا، وكانت ليلة الجمعة، فقلت له: ممّن يكون هذا المولود يا سيدي، قال: من جاريتك نرجس (2).
وهذه الرواية صريحة جدّا في كونها جارية لحكيمة علیها السلام والأهمّ من هذا إشارة صاحب "إثبات الوصيّة" إلى استفاضة هذا الخبر ممّا يعني وجود روايات أخرى في المقام، وهذا ما يجعلنا نسلّما بما رواه الخصيبي في هدايته حيث لم يكتف بذكر استفاضة الخبر بل نقله مفصّلا مع ذكر أسانيده كاملة، قال: حدثني هارون بن مسلم بن
ص: 71
سعدان البصري، ومحمد بن أحمد بن مطهر البغدادي، وأحمد بن إسحاق وسهل بن زياد الآدمي، وعبد الله بن جعفر الحميري، وأحمد بن أبي عبد الله البرقي، وصالح بن محمد الهمداني، وجعفر بن إبراهيم بن نوح، وداود بن عامر الأشعري القمي، وأحمد بن محمد الخصيبي، وإبراهيم بن الخصيب، ومحمد بن علي البشري، ومحمد بن عبد الله اليقطيني البغدادي، وأحمد بن محمد النيسابوري، وأحمد بن عبد الله بن مهران الأنباري ، وأحمد بن محمد الصيرفي، وعلي بن بلال، ومحمد بن أبي الصهباني، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وعلي بن عبيد الله الحسني، ومحمد بن إسماعيل الحسيني، وأبو الحسین محمد بن یحیی الفارسي، وأحمد بن سندول ، والعباس اللبان، وعلي بن صالح، وعبد الحميد بن محمد، ومحمد بن يحيى الخرقي، ومحمد بن علي بن عبيد الله الحسني، وابن عاصم الكوفي، وأحمد بن محمد الحجال، وعسكر مولى أبي جعفر التاسع، والزيان مولى الرضى، وحمزة مولى أبي جعفر التاسع، وعيسى بن مهدي الجوهري، والحسن بن إبراهيم، وأحمد بن إسماعيل، ومحمد بن ميمون الخراساني، ومحمد بن خلف، وأحمد بن حسان، وعلي بن أحمد الصائغ، والحسن بن مسعود الفراتي ، وأحمد بن حيان العجلي، والحسن بن مالك، وأحمد بن محمد بن أبي قرنة، وجعفر بن أحمد القصير البصري، وعلي بن الصابوني، وأبو
ص: 72
الحسن علي بن بشر، والحسن البلخي، وأحمد بن صالح ، والحسين بن عتاب، وعبد الله بن عبد الباري، وأحمد بن داود القمي، ومحمد بن عبد الله، وطالب بن حاتم بن طالب، والحسن بن محمد بن مسعود بن سعد، وأحمد بن ماران، وأبو بكر الصفار، ومحمد بن موسى القمي، وعتاب بن محمد الديلمي، وأحمد بن مالك القمي ، وأبو بكر الجواري، وعبد الله جميعا وشتى كانوا بأجمعهم مجاورين الإمامين عن سيدنا أبي الحسن وأبي محمد علیهما السلام... قال أبو محمد علیه السلام: إنّي أدخلت عماتي في داري فرأيت جارية من جواريهن قد زيّنت تسمّى نرجس فنظرت إليها نظرا أطلته، فقالت عمتي حكيمة: أراك يا سيدي تنظر إلى هذه الجارية نظرا شديدا، فقلت: يا عمّة ما نظري إليها إلّا أتعجب مما لله فيها من إرادته وخيرته، فقالت: يا سيدي أحسبك تريدها، قلت: بلى فأمرتها تستأذن لي أبي علي بن محمد علیهم السلام في تسليمها إلي ففعلت فأمرها علیه السلام بذلك، فجاءتني بها؛ قال الحسين بن حمدان حدثني من زاد في أسماء من حدثني من هؤلاء الرجال الذين أسميهم وهم غيلان الكلابي، وموسى بن محمد الرازي، وأحمد بن جعفر الطوسي عن حكيمة ابنة محمد بن علي الرضا علیهم السلام ... (1).
ص: 73
بالرجوع إلى أقدم المصادر الموجودة عندنا فإنّنا نجد أنفسنا أمام حقيقة أخرى واضحة وجليّة وهي أنّ أمّ الإمام المهدي علیها السلام قد ولدت في البيت العلوي وتحديدا في بيت حكيمة علیها السلام لا أنّها اشتريت من سوق النخاسة، يدلّ على ذلك:
ما ذكره صاحب كتاب "إثبات الوصيّة": روى لنا الثقات من مشايخنا أنّ بعض أخوات أبي الحسن علي بن محمد علیه السلام كانت لها جارية ولدت في بيتها وربّتها تسمّى نرجس (1) .
وقيمة هذا النقل تكمن في أمور:
أوّلا: أنّ المسعودي توفي سنة 346 ه- أي بعد أقلّ من 100 سنة من مولد الصاحب عجل الله فرجه، وأدرك الغيبة الصغرى، بل كان يعيش ببغداد حيث تواجد السفراء قدس الله أرواحهم الطاهرة، وعليه فنقله سيكون أوثق وأدقّ من نقل مثل الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي وغيرهم لتأخرهم الزماني وبعد بعضهم المكاني (2).
ص: 74
ثانيا: نقل هذه القضية بواسطة واحدة ولم يكتف بهذا أشار إلى استفاضة النقل، إذ أنّه عبّر ب-(مشايخنا) أي أنّ أقلّهم ثلاثة أشخاص، ولاشكّ أنّ طبقة مشايخ المسعودي قد أدركوا هذه الحادثة وشهدوها.
ثالثا: الأهمّ ممّا تقدّم أنّه وثّق واسطته في النقل ولم يسكت عنهم، فهم وإن كانت أعيانهم مجهولة بالنسبة إلينا، إلّا أنّ حالهم معلوم بناء على توثيق المسعودي لهم.
ما ذكره صاحب كتاب "عيون المعجزات" حيث نقل نفس الرواية مع تفاوت مفيد في المقام، قال في صفحة 127: قرأت في كتب كثيرة بروايات كثيرة صحيحة أنّه كان لحكيمة بنت أبي جعفر محمد بن علي علیه السلام جارية ولدت في بيتها وربّتها، وكانت تسمّى نرجس، فلمّا كبرت دخل أبو محمد فنظر إليها، فقالت له عمّته حكيمة: أراك يا سيدي تنظر إليها، فقال علیه السلام: إنّي ما نظرت إليها متعجبا، أما أنّ المولود الكريم على الله يكون منها، ثم أمرها ان تستأذن أبا الحسن أباه علیه السلام في دفعها إليه فقلت: فأمرها بذلك (1).
وهذا النقل أضاف على ما تقدّم أمرين:
ص: 75
أوّلا: أنّ المحدّث حسين بن عبد الوهاب رحمه الله المعاصر للشريف المرتضى رضي الله عنه نصّ على صحّة الروايات التي نقلت هذا المضمون وهو ولادة نرجس علیها السلام في بيت حكيمة، وسواء قلنا أنّ مراده الصحّة بلحاظ وثاقة الرواة أو بلحاظة الوثوق في المروي، فإنّ هذا المقدار يكفي للإثبات التاريخي.
ثانيا: أنّه نصّ على استفاضة الخبر في كتب الأصحاب حيث قال: (قرأت في كتب كثيرة)، وهذا يدلّ على أنّ القضية كانت مشهورة وكانت مثبتتة في كتب الأصحاب التي وقعت بين يديه.
فبالجمع بين هاذين النقلين نصل إلى أنّ ولادة أمّ الإمام المهدي علیها السلام في بيت السيدة نرجس كانت أمرا مشهورا ومعروفا ومستفيضا بين الأصحاب في الغيبة الصغرى.
من الأمور التي يمكن الاستناد إليها لترجيح ما قلناه هو مناسبته لحال أمّ الإمام علیها السلام إذ إنّ تعطينا تصوّرا يليق بشأنها:
- ولدت على الإسلام.
- تربّت في بيت الوحي.
- أدّبتها حكيمة بنت الجواد علیها السلام.
ص: 76
- لم يمسسها رجل ولم تنكشف على أحد من قبل.
بخلاف رواية الرهني التي لو قبلنا بها فإنّنا سنقع أمام عدّة أمور قد لا تناسب شأن الإمامة:
- ولدت على الشرك
- تربّت في بلاط طاغية
- تملّكها نخّاس
- حديثة عهد بالإسلام
فهل تتناسب هذه الأمور مع أم خاتم الأوصياء علیه السلام الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا؟
تبيّن لك ممّا تقدّم أنّ أمّ الإمام المهدي علیها السلام هي جارية نوبيّة ولدت في بيت حكيمة بنت الإمام الجواد علیها السلام وتولّت هي تربيتها وتأديبها إلى أن وهبتها للإمام العسكري علیه السلام- بناء على طلب منه- في حياة أبيه الإمام الهادي علیه السلام، ولم يعلم أحد بحملها سوى في الليلة الأخيرة والتي بزغ فيها نور الله في أرضه.
وبعد هذا العرض يكون قد اتضح لك أيضا سقوط رواية (الرهني) التي ناقشناها في الفصول السابقة والتي تخالف كلّ هذه
ص: 77
الروايات الصحيحة الصريحة بحيث يمكن أن نقطع بكونها من تأليف القصّاصين في ذلك الزمان.
ص: 78
لا شكّ أنّ لأمهات المعصومين علیهم السلام مكانة ومقاما خاصّا عند الله جلّ جلاله، فقد اصطفاهنّ لحمل حججه على عباده وأمنائه في بلاده ومثل هذه الأمانة لا تكون إلّا لمن خلص وأخلص فاستخلصه الله واجتباه عن بقيّة خلقه.
وفي هذا الفصل سنذكر كيف تحدّث أهل البيت علیهم السلام عن أمّ قائمهم علیه السلام:
ما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:
روى ثقة الإسلام الكليني رضي الله عنه بسنده: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبية الطيبة الفم، المنتجبة الرحم، ويلهم لعن الله الأعيبس وذريته، صاحب الفتنة، ويقتلهم سنين وشهورا وأياما يسومهم خسفا ويسقيهم كأسا مصبرة، وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك، أي واد
ص: 79
سلك؟! أفيكون هذا يا عمّ إلّا مني، فقلت: صدقت جعلت فداك (1).
روى النعماني في غيبته بسنده عن الحارث الأعور الهمداني، قال أمير المؤمنين علیه السلام: بأبي ابن خير الإماء - يعني القائم علیه السلام من ولده- يسومهم خسفا، ويسقيهم بكأس مصبّرة، ولا يعطيهم إلا السيف هرجا، فعند ذلك تتمنى فجرة قريش لو أن لها مفاداة من الدنيا وما فيها ليغفر لها لا نكف عنهم حتى يرضى الله (2).
وفي خبر آخر نقله الجوهري مسندا عن ابن أبي جحيفة السوائي - من سواءة بن عامر - والحرث بن عبد الله الجارثي الهمداني، والحرث بن شرب كلّ حدّثنا أنّهم كانوا عند علي بن أبي طالب علیه السلام فكان إذا قبل ابنه الحسن علیه السلام يقول: مرحبا يا بن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإذا أقبل الحسين يقول: بأبي أنت وأمي يا أبا ابن خير الإماء، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما بالك تقول هذا للحسن وتقول هذا للحسين ؟ ومن ابن خيرة الإماء؟ فقال: ذلك الفقيد الطريد الشريد: محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي
ص: 80
بن الحسين علیهم السلام هذا ووضع يده على رأس الحسين علیه السلام (1).
ما ورد عن الإمام الحسن علیه السلام:
روى الشيخ الصدوق رضي الله عنه بسنده: لما صالح الحسن بن علي علیهما السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال علیه السلام: ويحكم ما تدرون ما عملت والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت،...، أما علمتم أنه ما منا أحد إلّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلّا القائم الذي يصلي روح الله عیسی بن مريم علیه السلام خلفه، فإن الله عز وجل يخفي ولادته، ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة ، ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير (2).
ما ورد عن الإمام الباقر علیه السلام:
روى الشيخ الطوسي رضي الله عنه في غيبته: عن جابر الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : سأل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين علیه السلام
ص: 81
فقال : أخبرني عن المهدي ما اسمه؟ فقال : أما اسمه فإن حبيبي شهد إلي أن لا أحدث باسمه حتى يبعثه الله، قال: فأخبرني عن صفته؟ قال: هو شاب مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء (1). وقد روي في خبر آخر عنه علیه السلام تأكيده أنّ المقصودة بهذا الحديث هي أمّ المهدي علیها السلام، حيث روى النعماني بسنده إلى عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر علیه السلام: قول أمير المؤمنين علیه السلام: "بأبي ابن خيرة الإماء" أهي فاطمة علیها السلام؟ فقال : إن فاطمة علیها السلام خيرة الحرائر، ذاك المبدح بطنه، المشرب حمرة، رحم الله فلانا (2).
روى الشيخ الصدوق رضي الله عنه بسنده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: إنّ سنن الأنبياء علیهم السلام بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منّا أهل البيت حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، قال أبو بصير: فقلت: يا ابن رسول الله، ومن القائم منكم أهل البيت؟ فقال: يا أبا بصير هو الخامس من ولد ابني موسى، ذلك ابن سيدة الإماء، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون، ثم يظهره الله عز وجل
ص: 82
فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روح الله عيسى بن مريم علیه السلام فيصلى خلفه وتشرق الأرض بنور ربها، ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله عز وجل إلّا عبد الله فيها، ويكون الدين كله لله ولو كره المشركون (1).
روى الشيخ الصدوق رضي الله عنه بسنده عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي قال: سألت سيدي موسى بن جعفر علیهما السلام عن قول الله عز وجل: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) ، فقال علیه السلام: النعمة الظاهرة الإمام الظاهر والباطنة الامام الغائب، فقلت له: ويكون في الأئمة من يغيب؟ قال: نعم يغيب عن أبصار الناس شخصه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره، وهو الثاني عشر منا، يسهل الله له كل عسير، ويذلل له كلّ صعب، ويظهر له كنوز الأرض، ويقرب له كل بعيد، ويبیر به کل جبار عنيد ويهلك على يده كل شيطان مريد، ذلك ابن سيدة الإماء الذي تخفى على الناس ولادته، ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره الله عز وجل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما (2).
ص: 83
ونقل المحدّث النوري عن يونس بن عبد الرحمن قال: دخلت على موسی بن جعفر علیه السلام، فقلت: يا بن رسول الله، أنت القائم بالحق؟ فقال: أنا القائم بالحق، ولكن القائم الذي يطهّر الأرض من أعداء الله ويملؤها عدلا كما ملئت جورا، هو الخامس من ولدي إلى أن قال: وهو الثاني عشر منّا يسهل الله تعالى له كل عسر، ويذلّل له كل صعب، ويظهر له كنوز الأرض، ويقرب عليه كل بعيد، ويبیر به کل جبار عنيد، ويهلك على يده كل شيطان مريد، ذلك ابن سيدة الإماء، الذي تخفى على الناس ولادته، ولا يحل لهم تسميته، حتى يظهره الله، فیملأ به الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما (1).
روى الشيخ الصدوق رضي الله عنه بسنده: عن الحسين بن خالد قال: قال علي بن موسى الرضا علیهما السلام: لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية، فقيل له: يا ابن رسول الله إلى متى؟ قال: إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا فقيل له: يا ابن رسول الله ومن القائم منكم أهل البيت؟ قال الرابع من ولدي
ص: 84
ابن سيدة الإماء، يطهر الله به الأرض من كل جور، ويقدسها من كل ظلم (1).
نختم بما ورد عن السيدة الطاهرة حكيمة علیها السلام التي نقلت لنا ما حدث في بيت الإمام العسكري علیه السلام، حيث صدرت منها أمور تبيّن لنا مكانة أم الإمام المهدي علیه السلام عند العترة الطاهرة:
فقد ورد في رواية الصدوق رضي الله عنه التي سبق نقلها عنها علیها السلام: قالت: بعث إلي أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام فقال: يا عمة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان فإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة وهو حجته في أرضه، قالت: فقلت له: ومن أمه؟ قال لي: نرجس، قلت له: جعلني الله فداك ما بها أثر ، فقال: هو ما أقول لك ، قالت : فجئت ، فلما سلمت وجلست جاءت تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت؟ فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي، قالت: فأنكرت قولي وقالت: ما هذا يا عمة؟ قالت: فقلت لها: يا بنية إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيدا في الدنيا والآخرة قالت: فخجلت
ص: 85
واستحت (1).
وفي لفظ آخر قالت حكيمة : فمضى أبو الحسن علیه السلام وجلس أبو محمد علیه السلام مكان والده وكنت أزوره كما كنت أزور والده فجاءتني نرجس يوما تخلع خفي، فقالت: يا مولاتي ناوليني خفك، فقلت: بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا أدفع إليك خفي لتخلعيه ولا لتخدميني بل أنا أخدمك على بصري (2).
إنّ ملاحظة الروايات المتقدّمة تجعلنا نصل إلى هذه الاستنتاجات المهمّة التي يمكن تلخيصها في هذه النقاط :
أوّلا: لم يرد في حقّ إمرأة من أهل البيت علیهم السلام مثل هذا الكمّ الهائل من الروايات المادحة إلّا سيدة نساء فاطمة الزهراء علیها السلام التي لا تدانيها أيّ إمرأة من النساء، فرغم جلالة قدر بقيّة نساء أهل بيت النبوّة إلّا أنّنا لم نجد فيهنّ مثل هذا العدد من الروايات، وهذه الكثرة بمثابة المنبّه الكمّي الذي يعطينا انطباعا حول اهتمام أهل بيت النبوّة بهذه المرأة الطاهرة علیها السلام.
ص: 86
ثانيا: إنّ الروايات المتقدّمة قد ركّزت على صفة واحدة وهي كونها خير الإماء أو سيدة الإماء على اختلاف التعابير، وتكرار هذا الوصف من أكثر من إمام مع اختلاف أزمانهم ظاهر في إطلاق الخيريّة بالنسبة إليها، فهي أفضل من كلّ أمة مطلقا، فكما أنّ الزهراء علیها السلام هي سيدة نساء العالمين، فنرجس علیها السلام هي سيّدة إماء العالمين بما يشمل كلّ الإماء حتى هاجر أمّ إسماعيل علیها السلام.
ثالثا: إنّ الأوصاف التي ذكرها النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم في حقّها تجعلنا نقف طويلا عند هذه الشخصيّة فهي:
- الطيبة الفم
- المنتجبة الرحم.
وهاتان الصفتان تشيران إلى أهمّ مزيّة تميّز عن سائر النساء إذ ليس المقصود من طيب الفم هو كون المرأة "رشوفا" فهذه صفة تشترك فيها كثير من النساء بل الظاهر هو ما أشار إليه المولى المازندراني رضي الله عنه من كون المقصود هو: خلوصه من كلمة اللغو والشرك (1)، وليس المقصود من انتجاب الرحم كونها ولودا بل الظاهر أنّ المراد هو انتجاب رحمها واختياره من الله لهذه المهمّة العظيمة.
ص: 87
وبهذا يتبيّن لك لماذا عبّرت حكيمة علیها السلام عن نرجس علیها السلام بسيّدتي وسيّدة أهلي، إذ قد فهمت هذه الجليلة علیها السلام من الأحاديث التي سمعتها من المعصومين علیهم السلام عظمة هذه المرأة عند الله ورفعة مقامها بحيث فضّلت على كبار نساء أهل بيت العصمة علیهم السلام، ومن هنا نجد أنّ هذه العلويّة بنت الإمام وأخت الإمام وعمّة الإمام تنحني لتقبيل يد هذه الأمة الطاهرة التي رفع الله شأنها في الدنيا والآخرة، ولعلّ هناك كثيرا من الروايات الأخرى التي لم تصلنا والتي تبيّن عظمة شأنها علیها السلام.
ص: 88
بقي الكلام في أهمّ وأخطر بحث يمكن أن تطرّق له في هذا الكتاب وهو مصيرها علیها السلام بعد ولادتها لصاحب العصر والزمان علیه السلام، فعادة يغفل عن هذا الموضوع نتيجة تداخل الأحداث المهمّة المرتبطة بحياة الإمامين الهمامين علیهما السلام.
والسؤال هو ما الذي جرى بعد ذلك:
وفاتها في حياة الإمام العسكري علیه السلام:
ذهب بعضهم إلى أنّ السيدة الطاهرة علیها السلام قد توفيت في حياة الإمام العسكري علیه السلام، وقد استند إلى رواية ذكرها الشيخ الصدوق رضي الله عنه في كمال الدين، قال: حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثني أبو علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمد علیه السلام فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارة من جعفر، فتزوج بها، قال أبو علي: فحدّثتني أنّها حضرت ولادة السيد علیه السلام، و أنّ اسم أمّ السيد صقيل، وأنّ أبا محمد علیه السلام حدّثها بما يجري على عياله، فسألته أن يدعوا الله عز وجل لها أن
ص: 89
يجعل منيّتها قبله، فماتت في حياة أبي محمد علیه السلام و على قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أم محمد (1).
أقول: من الصعب جدّا البناء على هذه الرواية والاستناد عليها في مثل هذه القضيّة والسبب في ذلك أمور:
الأوّل: جهالة (أبي على الخيزراني) إذ لا ذكر لهذا الرجل في كتاب التراجم والفهارس والتاريخ فهو بالنسبة إلينا مجهول العين والحال، وليست له رواية في كتب الأصحاب سوى هذه الرواية التي هي محلّ الإشكال.
الثاني: جهالة هذه الجارية التي تحدّث عنها الخيزراني فقد زعمت أنّها حضرت الولادة وسمعت ما يدور بين الإمام العسكري علیه السلام وأمّ الإمام المهدي علیها السلام وحضورها عند غارة جعفر الكذّاب وتمكّنها من الفرار...، كلّ هذه الأمور تقتضي معروفيّتها عند الخواصّ بل حتى عند السلطة التي كانت قد جعلت رقابة خاصّة على كلّ نساء بيت الإمام علیه السلام كما سيأتينا مفصّلا.
الثالث: لو تجاوزنا هذه الإشكالات فإنّنا نبقى أمام إشكاليّة أخرى أعمق وهو احتمال أنّ ترويج هذه القصّة كان الغرض منه
ص: 90
التغطية على أمّ الإمام المهدي علیها السلام وحمايتها من كيد الأعادي إذ ستأتيك الأخبار الكثيرة على أنّها كانت حيّة بعد شهادة الإمام العسكري علیه السلام وكانت لها مواجهة مع السلطة، ومثل هذا الخبر لا يصلح لمعارضة ما سيأتي من تسالم بين الطائفة حول حياتها وبالتالي فالأولى هو حمله على أنّ ما أخبر به الخيزراني هو للتغطية على السيدة الطاهرة نرجس علیها السلام.
وهو أمر شبه متسالم بين الطائفة بل بين المؤرّخين إذ ذكروا أحداث ما بعد رحيل الإمام العسكري علیه السلام وما جرى عليها من مصائب علیها السلام وأرسلوها إرسال المسلّمات ويكفينا أن نذكر ما نقله النجاشي رحمه الله في ترجمة محمد بن علي بن حمزة العباسي حيث قال: محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب علیه السلام أبو عبد الله، ثقة، عين في الحديث، صحيح الاعتقاد، له رواية عن أبي الحسن وأبي محمد علیهما السلام، واتصال مكاتبة، وفي داره حصلت أم صاحب الأمر علیه السلام بعد وفاة الحسن علیه السلام (1).
وكلامه صريح في أنّها علیها السلام قد امتدّ عمرها بعد الإمام العسكري
ص: 91
علیه السلام بل وحصلت أحداث استوجبت انتقالها لبيت هذا العلوي الثقة حماية لها.
والأهمّ من كلام النجاشي رحمه الله هو ما نقله الشيخ الصدوق رضي الله عنه في كمال الدين من حضورها علیها السلام وفاة الإمام العسكري علیه السلام وبقائها بعده، حيث قال: ووجدت مثبتا في بعض الكتب المصنّفة في التواريخ ولم أسمعه إلّا عن محمد بن الحسين بن عباد أنّه قال: مات أبو محمد الحسن بن علي علیهما السلام يوم جمعة مع صلاة الغداة، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتبا كثيرة إلى المدينة، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة، ولم يحضره في ذلك الوقت إلّا صقيل الجارية، وعقيد الخادم ومن علم الله عز وجل غيرهما، قال عقيد: فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي فجئنا به إليه فقال: أبدأ بالصلاة هيئوني فجئنا به وبسطنا في حجره المنديل فأخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه وذراعيه مرة مرة ومسح على رأسه وقدميه مسحا وصلّى صلاة الصبح على فراشه وأخذ القدح ليشرب فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد فأخذت صقيل القدح من يده، ومضى من ساعته صلوات الله عليه ودفن في داره بسرّ- من رأى إلى جانب أبيه صلوات الله عليهما فصار إلى كرامة الله جل جلاله وقد
ص: 92
کمل عمره تسعا وعشرين سنة (1).
وتكمن قيمة كلامه في جانبين:
الجانب الأوّل نصّه على شهرة هذا النصّ في الكتب التاريخيّة المتقدّمة عليه أي في زمن الغيبة الصغرى كما هو معلوم، بالإضافة إلى سماعه الحادثة من محمد بن الحسين بن عباد.
الجانب الثاني هو أنّ الشيخ الصدوق رضي الله عنه هو الناقل لخبر الخيزراني المتضمّن موتها علیها السلام في حياة الإمام العسكري علیه السلام وهذا يمنع من دعوى تبنّيه للخبر الأوّل فيسقط ما ادّعاه بعضهم من كونه مرجّحا لنظريّة موتها ودفنها علیها السلام مبكّراً.
أضف إلى ما تقدّم الأحداث الكثيرة التي أثبتها المؤرّخون والتي ذكرت ما جرى عليها علیها السلام بعد رحيل الإمام العسكري علیه السلام والتي تنفي بالملازمة وفاتها المبكّرة.
المشهور الذي لا مرية فيه هو بقاء السيدة نرجس علیها السلام حيّة بعد وفاة الإمام العسكري علیه السلام، ووجود رواية واحدة تخالف هذا المشهور التاريخي لا يضرّ به ولو كانت معتبرة، فكيف وحال الرواية المخالفة
ص: 93
كما تبيّن لك؟!
ص: 94
بعد أن ثبت بقاء أم مولانا الإمام المهدي علیها السلام بعد الإمام العسكري علیه السلام، نأتي إلى أهمّ جانب في حياة هذه الطاهرة علیها السلام وهو جهادها في الغيبة الصغرى وحفظها لإمام زمانها علیه السلام.
ولبيان حقيقة ما جرى لابدّ أن نستعرض الأحداث من بدایتها:
شهادة الإمام العسكري علیه السلام:
أوّل حديث مهمّ هو شهادة الإمام العسكري علیه السلام بسمّ الغدر العبّاسي حيث أنّها علیها السلام كانت معه في لحظاته الأخيرة كما في رواية الشيخ الصدوق رضي الله عنه: مات أبو محمد الحسن بن علي علیهما السلام يوم جمعة مع صلاة الغداة، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتبا كثيرة إلى المدينة، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة، ولم يحضره في ذلك الوقت إلّا صقيل الجارية، وعقيد الخادم ومن علم الله عز وجل غيرهما، قال عقيد: فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي فجئنا به إليه فقال: أبدء بالصلاة هيئوني فجئنا به وبسطنا
ص: 95
في حجره المنديل فأخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه و ذراعيه مرة مرة ومسح على رأسه وقدميه مسحا وصلّى صلاة الصبح على فراشه وأخذ القدح ليشرب فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد فأخذت صقيل القدح من يده، ومضى من ساعته صلوات الله عليه ودفن في داره بسرّ من رأى إلى جانب أبيه صلوات الله عليهما فصار إلى كرامة الله جل جلاله وقد كمل عمره تسعا وعشرين سنة (1).
والمهمّ في هذه الرواية أنّها ذكرت عدم وجود غيرها علیها السلام بجوار مولانا الإمام العسكري علیه السلام سوى "عقيد الخادم" والإمام المهدي علیه السلام، وهذا ما يؤكّد شدّة قربها من الإمام العسكري علیها السلام، دون غيرها من النساء من أهل بيته، بل يوحي لأنّ الإمام علیه السلام بصدد إعدادها لمهمّة أخرى لا تقلّ أهميّة عن سابقاتها، يشهد على ذلك أنّ الإمام علیه السلام كان عالما بوفاته ولذلك أبعد أغلب أهل الدار حتى أمّه ولم يبق إلّا السيدة نرجس علیها السلام.
فقد روی صاحب "إثبات الوصيّة" عن أحمد بن مصقلة قال: دخلت على أبي محمد علیه السلام فقال لي: يا أحمد ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والارتياب؟ فقلت: لما ورد الكتاب بخبر مولد سيدنا علیه السلام لم يبق منّا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلّا قال
ص: 96
بالحق، قال علیه السلام: أما علمتم أنّ الأرض لا تخلوا من حجة الله، ثم أمر أبو محمد علیه السلام والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومائتين وعرفها ما يناله في سنة ستين، ثم سلّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إلى القائم الصاحب علیه السلام، وخرجت أم أبي محمد علیه السلام إلى مكة، وقبض أبو محمد علیه السلام في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين ودفن بسر- من رأى إلى جانب أبيه أبي الحسن علیه السلام وكان من مولده إلى وقت مصيبته علیه السلام تسع وعشرون سنة (1).
لا يمكن فهم ما جرى في تلك الحقبة دون معرفة ما صنعه جعفر الكذّاب ببيت الإمام والعصمة، حيث يظهر أنّه كان على علاقة وطيدة بالبلاط العباسي في ذلك الزمن، وكان يمهّد بالتعاون معهم إلى السيطرة على مقاليد الإمامة وتسنّم الزعامة العامّة للشيعة في ذلك الزمن.
وقد بدأ العمل على الانقلاب من حياة الإمام العسكري علیه السلام حيث أشارت بعض الكتب التاريخيّة إلى نشوء تيّار كامل موال لجعفر الكذّاب، وقد وثّق القاضي النعمان وجود هذا التيّار بقوله: فقال قوم
ص: 97
منهم بولاية جعفر بن علي، وأنكروا إمامة الحسن في حياته، وقالوا: قد امتحناه فلم نجد عنده علما، ولما أن مات ولم يدع ولدا احتجوا بعد ذلك، وقالوا: لا يكون الإمام إماما إلّا وله خلف وعقب (1).
وقد كانت اللحظة المناسبة للاستحواذ على الزعامة بادّعاء الإمامة هي وفاة الإمام العسكري علیه السلام إذ لم يكن له ولد ظاهر بحيث يتصدّى للإمامة من بعد وبالتالي فإنّ الغلبة ستكون للتيّار الذي قال بإمامة جعفر الكذّاب حيث أنّ عدم وجود العقب دليل على بطلان إمامة العسكري علیه السلام!
ومن هنا كان الإعلان الرسمي لتصدّي جعفر الكذّاب للإمامة هو صلاته على أخيه الإمام العسكري علیه السلام، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان حيث ظهر الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وأفسد هذا المشهد عندما تقدّم وصلّى على أبيه وكشف الأمر أمام الناس.
فقد روى الشيخ الصدوق رضي الله عنه عن أبي الأديان خبرا طويلا فيه: وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي علیه السلام فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعة من حوله
ص: 98
يعزّونه ويهنّونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الامام فقد بطلت الإمامة، لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدّمت فعزّيت وهنّيت فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كفّن أخوك فقم وصلّ علي، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمّان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة، فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفّنا، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلمّا همّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخّر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر وقد أربدّ وجهه واصفر؛ فتقدّم الصبي وصلّى عليه ودفن إلى جانب قبر أبيه علیهما السلام ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي-: هذه بيّنتان بقي الهميان، ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنقيم الحجة عليه؟ فقال: والله ما رأيته قط ولا أعرفه، فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي علیهما السلام فعرفوا موته فقالوا: فمن نعزّي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي، فسلّموا عليه وعزّوه وهنّوه وقالوا: إن معنا كتبا ومالا، فتقول ممن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منا أن نعلم
ص: 99
الغيب؟ قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وفلان وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجّه بك لأخذ ذلك هو الإمام (1).
سقطت الخطّة العبّاسية بظهور هذا الغلام للإمام العسكري علیه السلام والذي كان أمره مخفيّا على عامّة الناس، فما كان من جعفر الكذّاب إلّا أن بادر بإبلاغ وليّ نعمته المعتمد العبّاسي بهذا الأمر بل وحرّضه على التخلّص من الغلام، ومن هنا كانت الغارة الأولى على بيت الإمام العسكري علیه السلام.
نقل الشيخ الصدوق رضي الله عنه: فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلا بها لتغطي حال الصبي فسلّمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين (2).
وفي نصّ آخر: قدمت أم أبي محمد علیه السلام من المدينة واسمها
ص: 100
"حديث" حين اتصل بها الخبر إلى سر من رأى فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إياها بميراثه وسعايته بها إلى السلطان وكشفه ما أمر الله عز وجل بستره، فادعت عند ذلك صقيل أنّها حامل فحملت إلى دار المعتمد فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت، ويراعون إلى أن دهمهم أمر الصفّار وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة ، وخروجهم من سر من رأى وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك فشغلهم ذلك عنها (1).
وهنا تظهر أوّل مهمّة حقيقيّة قامت بها هذه السيّدة الطاهرة علیها السلام فحين كبست بيت بني العباس بيتها واعتقلوها ادّعت أنّ في بطنها حمل، وذلك لأمرين:
أوّلهما إخفاء أمر الغلام الذي يريد زبانية بني العباس الخلاص منه إذ من الصعب أن يصدّقوا رواية جعفر الكذّاب بوجود ولد للإمام العسكري علیه السلام مع كلّ الرقابة المشدّدة التي كانت قد ضربت على ذلك البيت.
ثانيهما عدم ترك المجال لجعفر الكذاب ليتم له أمر الإمامة،
ص: 101
فمع عدم وجود ولد للإمام العسكري علیه السلام فإنّ الجميع سيقبل دعواه دون أيّ فحص أو تأمّل، أمّا مع وجود مدّع آخر فإنّ الأمر سيكون مختلفا إذ سيسعى الجميع للفحص وكشف حقيقة الأمر وهذا ما لا يصبّ في مصلحة جعفر الكذّاب فهو رجل قد تعوّد على الفسق والفجور وسينكشف أمره سريعا.
وبحسب هذا النص فإنّ مدّة سجنها امتدّت إلى ما بعد وفاة عبيد الله بن يحيى بن خاقان الذي توفي كما ذكر المؤرّخون سنة 263ه- وبالتالي تكون قد قضت 3 سنوات في سجن بني العبّاس!
بل ورد ما يدلّ على استمرار الحبس لأكثر من هذه المدّة حيث نقل ابن حزم في فصله نصّا يفيد بأنّ السجن دام سبع سنوات، قال: ادعت الحمل بعد الحسن بن علي سيدها فوقف ميراثه لذلك سبع سنين ونازعهل في لك أخوه جعفر ابن علي وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة وتعصب لجعفر آخرون ثم انفش ذلك الحمل وبطل أخذ الميراث جعفر أخوه وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين (1).
يظهر أنّ خروج السيدة نرجس علیها السلام لم يكن بإرادة البلاط
ص: 102
العباسي، بل لعلّ الأمر كان هروبا من سجنهم كما يلوح من العبارات التي نقلها الشيخ الصدوق رضي الله عنه مثل (فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم / فشغلهم ذلك عنها) خصوصا وأنّ ابن حزم أشار إلى وجود متعاونين معها من داخل البلاط العباسي إذ يقول: وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة (1).
وقد أشارت نصوص الشيخ الصدوق رضي الله عنه إلى الظروف التي ساهمت في تمكّنها من الهرب حيث نقل مجموعة من الاحداث السيسيّة اجسيمة التي أثّرت على قوّة الدولة العباسية وسيطرتها على زمام الأمور والتي منها:
- اشتداد ثورة الزنج
- قيام ليث بن يعقوب الصفار
- موت عبيد الله بن يحيى بن الخاقان
ومن هنا دخلت هذه السيدة الطاهرة علیها السلام في مرحلة التخفّي خوفا من الاعتقال ولهذا لم ترجع إلى بيت الإمام العسكري علیه السلام بل كان قدرها أن تجول في الأرض هربا من عيون العباسيين، وقد ورد ما يدلّ على حالها في هذه الفترة:
ص: 103
فقد روى الشيخ الكليني رضي الله عنه بسنده عن أحمد بن إسحاق قوله: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك- الاسم-، ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أن أحلّل ولا أحرّم، ولكن عنه علیه السلام، فإنّ الأمر عند السلطان، أنّ أبا محمد مضى ولم يخلف ولدا وقسّم ميراثه وأخذه من لا حقّ له فيه، وهوذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرّف إليهم أو ينيلهم شيئا، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك (1).
فالذي يظهر أنّ جعفر الكذّاب قد تملّك كلّ ميراث أخيه الإمام العسكري علیه السلام بحيث لم يبق لأسرته الكريمة أيّ موضع يستقرّون فيه، وبالتالي فبعد خروج السيدة الطاهرة نرجس علیها السلام من سجنها لم ترجع لبيتها بل بدأت التنقل بين بيوت كبار الشيعة في العراق.
البيت الأوّل الذي استقرّت فيه الطاهرة علیها السلام هو بيت محمد بن علي بن حمزة العبّاسي حيث ترجم له النجاشي رحمه الله في فهرسته وأشار إلى بقائها علیها السلام في بيته فقال: محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب علیه السلام أبو عبد الله، ثقة، عين في الحديث، صحيح الاعتقاد، له رواية عن أبي الحسن وأبي محمد علیهما السلام،
ص: 104
واتصال مكاتبة، وفي داره حصلت أم صاحب الأمر علیه السلام بعد وفاة الحسن علیه السلام (1).
وقد نقل المؤرّخون في ترجمته أنّه توفّي في سنة 287ه-، منهم المرزباني الذي ترجم له بقوله: شاعر راوية عالم يروي كثيراً من أخبار أهله وبني عمه ولقي جماعة من شيوخنا وحدّثونا عنه، وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين (2).
والظاهر أنّها علیها السلام قد خرجت من هذا البيت بعد وفاة صاحبه رضي الله عنه ولعلّه لعدم وجود من يقوم بكفالتها خصوصا وأنّها مطاردة من السلطات العبّاسية، والذي يثبت هذا هو أنّ ابن حزم قد نقل أنّها علیها السلام قد اعتقلت بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها أي بالضرورة قبل سنة 290 ه- بل قبل 289 ه- لكونها اعتقلت في أيام المعتضد والذي مات في هذا التاريخ، وكان اعتقالها في بيت الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب العباسي المعروف (3).
فبالجمع بين هذه الأمور يمكن أن نستنتج أنّ السيدة نرجس علیها السلام قد خرجت من بيت محمد بن علي بن حمزة رضي الله عنه وانتقلت إلى
ص: 105
بيت النوبختي وبقيت فيه قرابة السنة أو أكثر بقليل ثم اعتقلت منه وسجنت للمرّة الثانية.
كما تبيّن لك ممّا تقدّم فإنّ السيدة الطاهرة نرجس علیها السلام قد سجنت للمرّة الثانية، وقد نقل لنا ابن حزم نتفا من أحداث هذا السجن حيث قال في فصله:
وزادت فتنة الروافض بصقيل هذه ودعواها إلى أن حبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها وقد عيّر بها أنّها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب فوجدت فيه وحملت إلى قصر- المعتضد فبقيت هنالك إلى أن ماتت في القصر في أيام المقتدر (1).
وهذا النص فيه عدّة نقاط جديرة بالوقوف عندها:
الأوّل: أنّ السيدة الطاهرة علیها السلام قد استقرّ بها المقام ببيت الحسن بن جعفر النوبختي الذي كان كاتبا عند العبّاسيين ولا نستبعد أنّ هذا التدبير كان من جهة السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي رضي الله عنه الذي كان في تلك الأيام يعمل تحت إمرة السفير الثاني محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه، فقد كان من بني نوبخت وكان يعمل مرتديا
ص: 106
رداء التقيّة بحيث كانت محلّ ثقة عند الجميع.
الثاني: يظهر أنّ معرفة العباسيين بمكان السيدة نرجس علیها السلام كان عن طريق وشاية حصلت في البلاط العباسي، يفهم ذلك من قوله (وقد عيّر بها أنّها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب فوجدت فيه)، فتعبيره ب-"فوجدت فيه" كاشف عن جهلهم المسبق بوجودها هنا، ولم ينقل لنا التاريخ مصير النوبختي.
الثالث: الأمر المهمّ هنا هو نوع السجن الذي سجنت فيه هذه المرّة، إذ نقل لنا ابن حزم أنّها سجنت في قصر الخليفة لا في سجن عامّة الناس (فيه وحملت إلى قصر المعتضد فبقيت هنالك)، وهذا يكشف عن خطورة القضيّة المهدويّة في نظر العباسيين في تلك الأيّام وحرصهم على إجهاض المشروع المهدوي.
الرابع: يمكن من خلال هذا النص أيضا تحديد مدّة سجنها، فقد تقدّم من النصوص السابقة أنّ بداية سجنها كان بين سنة 287 و 288ه-، وبقيت في هذا السجن إلى أن ماتت في أيّام المقتدر الذي تولّى الخلافة سنة 295ه-، فيكون الحدّ الأدنى للمدّة التي سجنتها 7 سنوات فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!
ص: 107
يبقى الكلام في صدر كلام ابن حزم وهو قوله (وزادت فتنة الرافضة بصقيل هذه ودعواها) إذ يظهر أنّه كانت لها حركة في الأوساط الشيعيّة في تلك الفترة أي بعد أكثر من 20 سنة من شهادة الإمام العسكري علیه السلام، وهذا ما يجعلنا أمام سؤال محيّر فعلا وهو: ماذا كان دورها علیها السلام في هذه الفترة؟
وهنا عندنا ثلاثة احتمالات:
أوّلها هو أنّ السيدة نرجس علیها السلام كانت قد هربت من سجن العبّاسيين في الأحداث التي تمّ ذكرها سابقا وبقيت على قائمة المطلوبين لدى السلطات، وقد جدّوا في طلبها في زمن في الخليفة المعتضد بسبب تشدّده في أمر أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم (1)، ولعلّ تركيزهم على هذه السيدة الطاهرة هو من باب جعلها ورقة الضغط على الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف لكي يسهل اعتقاله.
ثانيها: أن تكون السيدة نرجس علیها السلام قد غابت عن الساحة العامّة طيلة هذه الفترة الطويلة، ورجعت إلى واجهة الأحداث نتيجة حصول أحداث قادحة مثل كثرة مدّعي السفارة في زمن محمد بن
ص: 108
عثمان العمري رضي الله عنه بحيث كان في ظهورها وإظهارها التأييد له تقوية لجانبه ضدّ المدّعين وجمعا لكلمة شيعة أهل البيت علیهم السلام.
ثالثها: هو أنّها لم تختف أصلا عن واجهة الأحداث بل كان لها نشاط سرّي تقوم بها خلف الكواليس إذ لا نمنع من كونها حلقة وصل بين الإمام علیه السلام وبين غيره من الناس حتّى ولو كان الحديث عن مثل العمري وابنه!
نعم لا دليل عندنا على الاحتمال الأوّل والثاني ولكن هناك قرائن قد تكون مرجّحة للاحتمال الثالث، فبقراءة النصوص الموجودة بين أيدينا نجد أنّنا أمام شبكة نسائيّة سريّة ذات نشاط بالغ الأهميّة موازية للنشاط السفراء الأربعة:
فمن هؤلاء حكيمة عمّة الإمام العسكري علیه السلام والتي كانت تقوم بتثبيت وجود خلف لابن أخيها علیه السلام ولذلك كان يقصدها كلّ شاكّ ومرتاب في الأمر، وقد تقدّم ذكر شيء من رواياتها وأخبارها فلا حاجة للتكرار.
ومن هؤلاء أمّ أبي محمد علیهما السلام جدّة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف والتي نصّت الروايات صريحا على وجود دور لها في الغيبة الصغرى، فقد نقل الشيح الصدوق رضي الله عنه بسنده عن أحمد بن إبراهيم قال: دخلت على حكيمة
ص: 109
بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن العسكري علیهم السلام في سنة اثنين وثمانين بالمدينة، فكلمتها من وراء الحجاب وسألتها عن دينها فسمّت لي من تأتم به، ثم قالت: فلان بن الحسن علیه السلام فسمّته، فقلت لها: جعلني الله فداك معاينة أو خبرا ؟ فقالت : خبرا عن أبي محمد علیه السلام كتب به إلى أمه، فقلت لها: فأين المولود ؟ فقالت: مستور، فقلت: فإلى من تفزع الشيعة؟ فقالت: إلى الجدّة أم أبي محمد علیه السلام فقلت لها: أقتدي بمن وصيّته إلى المرأة؟ فقالت: اقتداء بالحسين بن علي بن أبي طالب علیهما السلام إنّ الحسين بن علي علیهما السلام أوصى إلى أخته زينب بنت علي بن أبي طالب علیه السلام في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم ينسب إلي زينب بنت على تسترا على علي بن الحسين (1).
ومن هؤلاء العجوز التي يظهر أنّها كانت خالة الإمام المنتظر علیه السلام، فقد روى الشيخ رضي الله عنه في الغيبة بسنده عن يعقوب بن يوسف الضراب الغساني - في منصرفه من إصفهان - قال : حججت في سنة إحدى وثمانين ومائتين وكنت مع قوم مخالفين من أهل بلدنا، فلما قدمنا مكة تقدم بعضهم فاكترى لنا دارا في زقاق بين سوق الليل، وهي دار خديجة علیها السلام تسمى دار الرضا علیه السلام، وفيها عجوز سمراء فسألتها: لما وقفت على أنها دار الرضا علیها السلام ما تكونين من أصحاب
ص: 110
هذه الدار؟ ولم سميت دار الرضا؟ فقالت: أنا من مواليهم وهذه دار الرضا علي بن موسى علیهما السلام، أسكنيها الحسن بن علي علیهما السلام فإنّي كنت من خدمه؛ فلما سمعت ذلك منها آنست بها وأسررت الأمر عن رفقائي المخالفين، فكنت إذا انصرفت من الطواف بالليل أنام معهم في رواق في الدار، ونغلق الباب ونلقي خلف الباب حجرا كبيرا كنا ندير خلف الباب، فرأيت غير ليلة ضوء السراج في الرواق الذي كنا فيه شبيها بضوء المشعل، ورأيت الباب قد انفتح ولا أرى أحدا فتحه من أهل الدار، ورأيت رجلا ربعة أسمر إلى الصفرة ما هو قليل اللحم، في وجهه سجادة عليه قميصان وإزار رقيق قد تقنّع به وفي رجله نعل طاق فصعد إلى الغرفة في الدار حيث كانت العجوز تسكن، وكانت تقول لنا: إنّ في الغرفة ابنة لا تدع أحدا يصعد إليها، فكنت أرى الضوء الذي رأيته يضيء في الرواق على الدرجة عند صعود الرجل إلى الغرفة التي يصعدها، ثم أراه في الغرفة من غير أن أرى السراج بعينه،...، فلما رأيت هذه الأسباب ضرب على قلبي ووقعت في قلبي فتنة فتلطفت العجوز وأحببت أن أقف على خبر الرجل، فقلت لها: يا فلانة إني أحب أن أسألك وأفاوضك من غير حضور من معي فلا أقدر عليه، فأنا أحب إذا رأيتني في الدار وحدي أن تنزلي إلي لأسألك عن أمر، فقالت لي مسرعة: وأنا أريد أن أسرّ إليك شيئا فلم يتهيأ لي
ص: 111
ذلك من أجل من معك، فقلت ما أردت أن تقولي؟ فقالت: يقول لك - ولم تذكر أحدا - لا تخاشن أصحابك وشركاءك ولا تلاحهم، فإنهم أعداؤك ودارهم، فقلت لها: من يقول؟ فقالت: أنا أقول، فلم أجسر لما دخل قلبي من الهيبة أن أراجعها، فقلت أي أصحابي تعنين؟ فظننت أنها تعني رفقائي الذين كانوا حجاجا معي قالت: شركاؤك الذين في بلدك وفي الدار معك، وكان جرى بيني وبين الذين معي في الدار عنت في الدين، فسعوا بي حتى هربت واستترت بذلك السبب فوقفت على أنها عنت أولئك، فقلت لها ما تكونين أنت من الرضا؟ فقالت كنت خادمة للحسن بن علي علیه السلام، فلما استيقنت ذلك قلت: لأسألنّها عن الغائب علیه السلام، فقلت: بالله عليك رأيته بعينك، فقالت: يا أخي لم أره بعيني فإني خرجت وأختي حبلى وبشرني الحسن بن علي علیهما السلام بأني سوف أراه في آخر عمري، وقال لي : تكونين له كما كنت لي،...، وكنت أفتح الباب وأخرج على أثر الضوء وأنا أراه - أعني الضوء - ولا أرى أحد حتى يدخل المسجد، وأرى جماعة من الرجال من بلدان شتى يأتون باب هذه الدار، فبعضهم يدفعون إلى العجوز رقاعا معهم، ورأيت العجوز قد دفعت إليهم كذلك الرقاع فيكلمونها وتكلمهم ولا أفهم عنهم، ورأيت منهم في منصرفنا جماعة في طريقي إلى أن قدمت
ص: 112
بغداد (1) .
والذي يظهر من مجموع النصوص أنّ العمري وابنه كانا معروفين بارتباطهما بالعترة الطاهرة خصوصا وأنّ جعفر الكذّاب قد باح بكلّ أسرار شبكة الوكلاء التي كانت تحت يد الإمام العسكري علیه السلام، فكان البدل هو إيجاد شبكة أخرى للوكلاء يمكن أن تكون حلقة وصل مع بقيّة القواعد الشعبيّة فكان دور النسوة وعلى رأسهم السيدة الطاهرة نرجس علیهما السلام، وأحتمل كثيرا أنّ الوشاية بها كانت من أحد الوكلاء المنقلبين على محمد بن عثمان العمري الذين كان محلّ ثقة عند الجميع ولكن للأسف الشديد لا توجد عندنا معطيات كافية.
نعم قد يكون عندنا ما يؤيّد هذا التحليل وهو اختيار السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي حيث نقل الشيخ الطوسي رضي الله عنه أنّه لم يكن يعرف بأيّ خصوصيّة بين وكلاء الناحية المقدّسة:
فقد روى رضي الله عنه بسنده عن جعفر بن أحمد بن متيل: كان محمد بن عثمان أبو جعفر العمري رضي الله عنه له من يتصرف له ببغداد نحو من عشرة أنفس وأبو القاسم بن روح رضي الله عنه فيهم، وكلّهم كانوا أخص به من أبي القاسم بن روح حتّى أنّه كان إذا احتاج إلى حاجة أو إلى سبب
ص: 113
ينجزه على يد غيره لما لم يكن له تلك الخصوصية، فلما كان وقت مضي أبي جعفر رضي الله عنه وقع الاختيار عليه وكانت الوصية إليه (1).
وقال: قال مشايخنا: كنا لا نشك أنه إن كانت كائنة من أمر أبي جعفر لا يقوم مقامه إلّا جعفر بن أحمد بن متيل أو أبوه لما رأينا من الخصوصية به وكثرة كينونته في منزله، حتى بلغ أنّه كان في آخر عمره لا يأكل طعاما إلّا ما أصلح في منزل جعفر بن أحمد بن متيل وأبيه بسبب وقع له، وكان طعامه الذي يأكله في منزل جعفر وأبيه، وكان أصحابنا لا يشكّون إن كانت حادثة لم تكن الوصيّة إلّا إليه من الخصوصية به، فلما كان عند ذلك ووقع الاختيار على أبي القاسم سلّموا ولم ينكروا، وكانوا معه وبين يديه كما كانوا مع أبي جعفر رضي الله عنه، ولم يزل جعفر بن أحمد بن متيل في جملة أبي القاسم رضي الله عنه وبين يديه كتصرّفه بين يدي أبي جعفر العمري إلى أن مات رضي الله عنه، فكل من طعن على أبي القاسم فقد طعن على أبي جعفر، وطعن على الحجة صلوات الله عليه (2).
والسبب في اختيار الحسين بن روح في ظلّ ما قدّمناه من تحليل هو عدم اشتهار تشيّع الرجل بين أهل العراق لكونه كان بارعا في
ص: 114
الاتقاء:
فقد نقل الشيخ الطوسي رضي الله عنه عن أبي عبد الله بن غالب حمو أبي الحسن بن أبي الطيب قال: ما رأيت من هو أعقل من الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، ولعهدي به يوما في دار ابن يسار، وكان له محل عند السيد والمقتدر عظيم، وكانت العامة أيضا تعظّمه، وكان أبو القاسم يحضر تقية وخوفا؛ وعهدي به وقد تناظر اثنان، فزعم واحد أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثم عمر ثم علي، وقال الآخر: بل علي أفضل من عمر فزاد الكلام بينهما، فقال أبو القاسم رضي الله عنه: الذي اجتمعت الصحابة عليه هو تقديم الصديق ثم بعده الفاروق ثم بعده عثمان ذو النورين ثم علي الوصي وأصحاب الحديث على ذلك وهو الصحيح عندنا، فبقي من حضر المجلس متعجّبا من هذا القول، وكان العامة الحضور يرفعونه على رؤسهم وكثر الدعاء له والطعن على من يرميه بالرفض (1).
ونقل عنه رضي الله عنه ما هو أعظم ممّا تقدّم: بلغ الشيخ أبا القاسم رضي الله عنه أن بوابا كان له على الباب الأول قد لعن معاوية وشتمه، فأمر بطرده وصرفه عن خدمته ، فبقي مدة طويلة يسأل في أمره فلا والله ما
ص: 115
رده إلى خدمته، وأخذه بعض الأهل فشغله معه كل ذلك للتقية (1).
فغياب هذا الجهاز النسائي والذي على رأسه السيدة الطاهرة نرجس علیها السلام جعل الوضع يستوجب سفيرا له خصوصيّات أخرى أهمّها مقبوليّته عند جميع الأطراف وعدم كونه محلّ شكّ أو ريب عند القواعد الشعبيّة المختلفة.
ص: 116
بعد هذه الجولة القصيرة في بحر التاريخ والسير يمكن تلخيص أهمّ النتائج التي وصلنا لها في رؤوس أقلام:
أوّلا: إنّ اختلاف الروايات الواردة في تسمية أمّ الإمام المهدي علیه السلام لا يعتبر إشكالات في تحديد هويّة هذه المرأة، بل هو أمر يمكن أن يفسّر بعدّة وجوه تمّ ذكرها تفصيلا.
ثانيا: لا صحّة للقصة المشهورة التي تنصّ على قدوم السيدة نرجس علیها السلام من بلاد الروم، وقد ذكرنا عدّة إشكالات على هذه الرواية سندا ومتنا وبالتالي فلا تبقى لها أيّ قيمة علميّة.
ثالثا: إنّ الروايات الواردة عن العترة الطاهرة علیهم السلام تثبت أنّ السيدة نرجس علیها السلام كانت جارية نوبية ولدت في بيت السيدة حكيمة علیها السلام وهي التي تولّت تربيتها وتأديبها لتكون قرينة للإمام العسكري علیه السلام أمّا لإمام العصر والزمان علیه السلام.
رابعا: امتدّت حياة السيدة نرجس علیها السلام بعد الإمام العسكري علیه السلام وقد تعرّضت لصنوف من الاضطهاد العبّاسي حيث سجنت أكثر من مرّة بل ماتت في سجنها في قصر خلفاء بني العبّاس.
خامسا: يظهر من بعض الإشارات الموجودة في النصوص
ص: 117
التاريخيّة أنّه كان لها دور كبير في هذه الفترة إلّا أنّ المعلومات المتوفّرة عندنا لا تكشف حقيقة الأمر لقلّة النصوص الواردة في هذا المجال.
هذا ما وصلنا له بعد هذه الجولة ونسأل الله أن نكون قد أعطينا هذه الشخصيّة العظيمة جزءا من حقّها وأن يرزقنا في الدنيا زيارتها وفي الآخرة شفاعتها إنّه حميد مجيد.
ص: 118
قراءة نقدية
لكتاب سيدة الاماء
محمد الشيخ حسن آل بیریک
ص: 119
قراءة نقدية
لكتاب سيدة الاماء
الطبعة الأولى
1445ه-
محمد الشیخ حسن آل بیریک
ص: 120
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والصلاةُ والسلامُ عَلَى أشْرَفِ الأَنْبياءِ والمرْسَلين حَبيبِ إِله العَالمين أبي القاسِم محَمدٍ وأهل بَيْتِه الطيبين الطاهِرين، واللعْنُ الدائِمُ عَلى أعْدائِهِم أجمعين، أما بَعد:...
من الأمور التي اهتم بها المؤرخون والباحثون والمتكلمون هي شخصية مولاتنا نرجس أم الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف، فألّفت فيها تأليفات متعددة، حتى انتشر في الآونة الأخيرة كتاب بعنوان (سيدة الإماء)، فيه يناقش الكاتب عدّة أمور حول والدة إمام العصر والزمان الحجة بن الحسن عجل الله تعالی فرجه الشریف، وقد تعرض فيه إلى عدة من المسائل المهمة من قبيل شبهة أهل الخلاف في تعدد أسمائها، ثم خصص الجزء الأكبر في الكتاب حول بيان أصل أم الإمام الحجة علیها السلام، ثم ختم الكتاب بالحديث عن بعض ما خُصت به من كلمات أهل البيت علیهم السلام وكذلك بعض ما واجهته من الأذى علیها السلام.
وقد تعرض الكاتب في الجزء الأكبر من كتابه إلى مناقشة الرواية المشهورة في أصل أم الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف من أنها علیها السلام قدمت من بلاد الروم، وقد بينت الرواية - وهي رواية طويلة - الأحداث التي تتعلق بها إلى أن وصلت إلى دار الإمام أبي الحسن الهادي علیه السلام و من ثم تكفلت السيدة حكيمة علیها السلام بشؤونها. وقد حكم الكاتب بأن هذه الرواية لا يمكن قبولها بل هي من المخترعات والمكذوبات، وَقدّم ملاحظات سندية ومتنية على هذه الرواية، ولأجل تلك الملاحظات رفض الرواية ومال إلى كون السيدة علیها السلام نوبية وقد وُلدت في دار السيدة حكيمة علیها السلام.
ص: 121
ولنا على هذا الكتاب عدّة ملاحظات لابد من تسليط الضوء عليها، وذلك لأمرين:
الأوّل: إِنَّ البحثَ عن الشخصيات التاريخية ليس ترفاً فكرياً، بل يحملُ معنى عميقاً. فهناكَ مجموعة من الشخصيات التاريخية التي ترتبط بقضايا عقائدية أو فكرية، وهذه الارتباطات تلعب دوراً حيوياً في تشكيل وجدان الناس، فإن قضايا التاريخ تمثل وسيلة فعالة للتأثير على آراء الناس وتغيير تصوّراتهم تجاه مختلف القضايا.
في الحقيقة يمكن أن يكون للشخصيات التاريخية تأثير كبير على العامة، سواءً كان التأثير إيجابياً أو سلبياً. فعندما يتم طرح قضية تاريخية تتعلق بشخصية معينة، يمكن للناس أن تتفاعل بشكل كبير مع هذه القضية، فإذا تم تشويه صورة تلك الشخصية في السجل التاريخي، فقد يتبع ذلك تقليل الاهتمام بها وتقديم تقييم سلبي عنها، والعكس بالعكس.
فالاهتمام بالشخصيات التاريخية ليس مقتصراً على المجال الثقافي فقط، بل يمتد إلى الجوانب العقائدية والفكرية، وإن توثيق ودراسة حياة الشخصيات التاريخية يمكن أن يسهم في فهم أعمق للتطورات الاجتماعية والثقافية والدينية عبر العصور.
باختصار، الشخصيات التاريخية لها تأثير كبير على العقائد والأفكار، والتفاعل مع قصصهم يمكن أن يكون طريقة ذات أثر لإحداث تغيير – إيجابي أو سلبي – في النفس والمجتمع.
ص: 122
الثاني: إِنَّ السيدةَ نرجس علیها السلام والدة إمام العصر والزمان الحجة بن الحسن عجل الله تعالی فرجه الشریف من الشخصيات المهمة التي كثر الحديث حولها قديماً وحديثاً، والحديث عنها وإن كان تاريخياً إلا أنه لابد وأن ينتهي إلى ما يتعلق بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف وما يرتبط بالإمامة من جهات متعددة.
فهناك قضيةٌ لطالما حاولَ أهل الخلاف استغلالها حول أم الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف ألا وهي تعدد أسمائها علیها السلام، حيث أرادوا أن يجعلوا تعدد الأسماء من جهة، والأخبار المختلفة في أنها حرة أم أمة من جهة أخرى، من الكواشف عن عدم وجود هذه الشخصية من الأساس، ويلزم منه انتفاء الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية، و انتفاؤه يقضي ببطلان عقيدة الشيعة القائلة بلابدية وجود إمام في كل زمان، وقس على هذا جملة من القضايا التاريخية التي ترتبط بالسيدة نرجس علیها السلام، من قبيل منشئها وأصلها وغير ذلك مما يتعلق بتاريخها، والذي يمكن أن يكون له مساسٌ بالعقيدة المهدوية من جانبٍ من الجوانب.
وقد ورد عن أهل البيت علیهم السلام في كلماتهم عن الغيبة ومحْنَتِها أنَّ الآخرين ينبزون المؤمنينَ، بل إن بعض الذين يدعون الإيمان هم أول من يُظهر الانحراف، ويشهد لذلك قول الإمام الصادق علیه السلام: «لَيَغِيبَنَّ عَنْكُمْ صَاحِبُ هَذَا الْأمْرِ ولَيَخْمُلَنَّ هَذَا حَتَّى يُقَالَ مَاتَ هَلَكَ فِي أَيِّ وَادٍ سَلَكَ ولَتُكْفَؤُنَّ كَمَا تُكْفَأُ السَّفِينَةُ فِي أمْوَاجِ الْبَحْرِ لا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَهُ وكَتَبَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ وأَيَّدَهُ بِرُوحِ مِنْه»، وقال علیه السلام: «إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أنْ يَقُومَ». قَالَ: قُلْتُ: ولِمَ؟
قَالَ: «يَخَافُ» وأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلى بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، وهُوَ الْمُنْتَظَرُ، وهُوَ الَّذِي
ص: 123
يُشَكُّ فِي وِلَادَتِهِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَاتَ أَبُوهُ بِلَا خَلَفٍ؛ ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَمْلٌ؛ ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ؛ وهُوَ الْمُنْتَظَرُ، غَيْرَ أنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - يُحِبُّ أنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ يَا زُرَارَةُ.
قَالَ: قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذلِكَ الزَّمَانَ أَيَّ شَيْءٍ أَعْمَلُ؟
قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، إِذَا أَدْرَكْتَ ذلِكَ الزَّمَانَ، فَادْعُ بِهذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ؛ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ؛ فَإِنَّكَ إنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي) (1).
ولذا أقدم بين أيديكم هذه القراءة النقدية المتواضعة التي تناقش الكاتب فيما ذكره، وسأتعرض إلى ما يتعلق بالجزء الأكبر من الكتاب، وهو ما يتعلق بالرواية المشهورة والملاحظات التي سجلها والنتيجة التي وصل إليها، هذا وإن كان لدينا بعض الملاحظات على ما قدمه لمعالجة شبهة تعدد الأسماء وغير ذلك من المواطن، إلا أن الأهم هو ما يتعلق بهذه النقطة.
وقد قسمتُ هذه القراءة إلى أقسام:
- القسم الأول: مدخل .
- القسم الثاني: مناقشة الملاحظات السندية.
- القسم الثالث: مناقشة الملاحظات المتنية .
ص: 124
القسم الرابع: مناقشة حكم الكاتب النهائي على رواية الرهني.
القسم الخامس: مناقشة النتيجة التي توصل لها الكاتب.
القسم السادس: استفهامات.
وأخيراً خاتمة.
التنبيه الأول: قد يجد القارئ بعض النقاط التي تكررت في طيات الكتاب؛ ولكن هذا لأن الكاتب قد كرر بعض المطالب في أكثر من موطن، فاستدعى ذلك التكرار بمقدار ما، وقد حاولت تجنب ذلك قدر المستطاع، إلا أنَّ المناقشة تفصيلية تقتضي الوقوف عند كل نقطة ناقشها الكاتب.
التنبيه الثاني: لم أخصص قسماً لمناقشة منهجية الكاتب في التعامل مع النصوص، وما هي الآلية التي يتبعها في قبول بعض النصوص ورفض البعض الآخر، وإنما جعلتها منثورة في البين.
التنبيه الثالث: سيلاحظ القارئ العزيز أن هناك بعض القضايا التي تُناقَش هي قضايا فرعية، ففي بعض الموارد قد لا تختلف النتيجة كثيراً عمّا ذهب إليه الكاتب، ولكن بما أن الكاتب قد اعتمد على مقدمات خاطئة رأيتُ أن أبين وَهن هذه المقدمات، وأن دعوى التحقيق والقراءة الجديدة هي دعوى جزافية مجانبة للمنهج العلمي.
ص: 125
وهذه السطور لم تكن لتُكتَب لولا جُهود بعض الإخوة وتشجيعهم، فإن لهم الدور الأكبر في هذا، ونظراً لكثرة من شارك في الكتاب من إبداء تعليق أو تصحيح أو إضافة وخوفي من ترك بعضها تركتُ ذكر الأسماء جميعاً ، فشكر الله لهم هذه الجهود وهي - إن شاء الله - تحت نظر المولى صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، وها أنا أرفع يدي التوسل والضراعة لمولاي كهف اللاجئين ومرجع السائلين أمير المؤمنين علیه السلام الذي أنا بجواره، فإني أستجير به وأسأل المدد منه، ومن سيدي ومولاي صاحب العصر وناموس الدهر الحجة بن الحسن عجل الله تعالی فرجه الشریف، وأن يتقبل مني ومن الإخوة هذا القليل، ليكون ذخراً ليوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
محمد الشيخ حسن آل مبيريك
النجف الأشرف
9/ ربيع الأول/ 1445ه-
ص: 126
القسم الأول: مدخل
إن عملية نقد الأخبار التاريخية من المسائل التي جُوبهت بنظرتين: نظرة القبول ونظرة الرفض. وكلا النظرتين لا يمكن قبولهما بإطلاقهما؛ وذلك لأن الأخبار التاريخية فيها المسلّم به الذي لا مجال للشك به كوجود النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وأنه مدفون في المدينة ونحو ذلك، وفيها ما هو موضوعٌ مبثوث في صفحات التاريخ وهذا منه الكثير.
فالنقد لا يطال كلّ الأخبار التاريخية بل بعضها، و عملية النقد للتاريخ تكون بأحد طريقين:
(1) نقد ذوقي: وهو ما لا يعتمد على أُسس نقدية وضوابط علمية، بل يكون لمجرد استحسانات واستبعادات ذوقية شخصية، كأن يقول قائل بأن الصديقة الزهراء علیها السلام لم تتعرض لأي ظلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وذلك لِما كان لها من مكانة في قلوب المسلمين، فلا يُتصور أن يتم الاعتداء عليها ولا يعترض أحد؟! فإنَّ هذا النقد مرتجل لا قيمة له، وأشباه هذا النموذج نماذج كثيرة في واقعة الطف وسيرة المعصومين وأمهاتهم علیهم السلام.
(2) نقد علمي: وهو المبني على الأسس والضوابط العلمية، وهذا النحو من النقد لنا فيه مسيس الحاجة لِما طال سيرة أهل البيت علیهم السلام من التحريف والتشويه
ص: 127
المتعمد وبأساليب مختلفة كأن تُسلب عنهم كل فضيلة، وتنفي عنهم كل كمال، وقد يضعون الأحاديث لإضفاء صبغة شرعية على أعداء أهل البيت علیهم السلام، ويكفي لإثبات ذلك ما كتبه معاوية لعماله حيث قال: (فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله) (1).
إذن هناك كَمٌّ كبير من الأخبار إما المحرفة أو المسيئة لأهل البيت علیهم السلام وغير ذلك، وتمييز ذلك كلّه لا يمكن أن يكون إلا من خلال منهج علمي واضح مبني على أسس صحيحة وإلا صار الأمر فوضى، وكما يقول الشاعر:
تحتشدُ الأقلام فيها كما ٭٭٭ يختلط الحابلُ بالنابلِ
فحينئذٍ لا بد من اتخاذ المنهج العلمي لنقد القضايا التاريخية، وأشير فيه إلى أمرين:
ص: 128
المنهج العلمي للنقد عبارة عن سبر الفكرة المنقودة، وعرضها على ضوابط العلم العامَّة والخاصَّة، وما يتعلَّق بالطبيعة العلمية للفكرة.
فهنا عندنا شيئان:
(1) ضوابط العلم العامَّة والخاصة: فهناك قواعد عامة تدخل في كل علم، وقد تعرضت إليها بعض العلوم كعلم المنطق، فإنه لا يخلو علم من قواعد المنطق، ولهذا يسمونه ب- (خادم العلوم). وهناك قواعد خاصَّة بكل علم، كقواعد الرياضيات فإنها خاصة بالرياضيات، وقواعد الفيزياء فإنها خاصة بالفيزياء، وقواعد النحو، وقواعد الأصول، وقواعد الفقه وهكذا.
(2) الطبيعة العلمية للفكرة: فكل فكرة لا تخرج عن طبيعة معينة، فقد تكون فكرة رياضية أو فيزيائية أو تاريخية أو نحوية أو فقهية أو غير ذلك.
وعليه فعند نقد فكرة ما لا بد من عرضها على القواعد العامَّة والخاصَّة، وما يتعلق بطبيعة الفكرة.
(1) سعة الاطلاع والتتبع.
إن الناقد لابُد أن يكون ذا اطلاع واسع وكبير، فمن كان ذا اطلاع بسيط وتتبع بسيط لا يمكن أن يبت في نقد قضية من القضايا، فإن الذي لا يتتبع تتبعاً كافياً تبقى المسألة عنده في حيّز الضبابية فلا يمكن أن يصل من خلالها إلى خفايا الواقع،
ص: 129
فمثلا لا يصح من الناقد الذي يريد أن يبحث عن قضية تاريخية لها ارتباط بالتاريخ البيزنطي أن يقتصر على ما ذُكر في كتب التاريخ العربية، أو بما ذُكر في الويكيبيديا.
فعدم التتبع والاستقراء الكافي لا يعطي المبرر لشخص غير متتبع أن يقوم برمي بعض الأحداث بالكذب، أو يقوم بنفي بعض الشخصيات أو نفي ذريتها، أو نفي تتلمذ لبعض الشخصيات على يد بعض الأئمة علیهم السلام، أو أن يقوم برمي بعض الأعلام بالاعتزال وبعض آخر بأنه شافعي وهكذا، وهو في كلِّ ذلك معتمد على نص وجده في كتاب واحد أو كتابين مكتفياً بهما، ولا دراية له بنصوص أخرى تنقض مدّعاه.
وكذلك لابد من التتبع الكافي لأجل الاستبعاد أو التقريب لبعض القضايا، فإن التتبع كما أنه يساهم في كشف الواقع المجهول فهو أيضاً يساهم في تقريب بعض الأحداث التي يتمُّ استبعادها، أو استبعاد بعض الأحداث التي يتمُّ تقريبها وذلك من خلال الاطلاع على الأشباه والنظائر.
(2) القدرة على تحليل الأحداث وتأليفها مع بعضها البعض.
لابُد أن تكون عند الناقد القابلية والقدرة على تحليل القضايا وربط بعضها ببعض، فمثلاً لما نأتي إلى قضية تاريخية فإن القضايا التاريخية لا يمكن أن تقتطعها من سياقها الزماني - كما سيتضح لك في بعض مناقشات هذا الكتاب - وإلا أدى ذلك لفهم خاطئ لها، فهنا لابد لكي تفهم بعض القضايا التاريخیة أن تحلل السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي والديني للحدث حتى تضمن الفهم الدقيق للأحداث، فالناقد يحتاج إلى الموهبة ويحتاج إلى الخبرة والممارسة الطويلة للعلم
ص: 130
الذي يُراد نقده.
وبعد اتضاح ما تلوناه عليك أذكر - بعون الله تعالى - نموذجاً من النماذج التي يتضح فيها عدم توظيف الكاتب للمنهج العلمي، وخلو يده عن التتبع الكافي، والتحليل للأحداث، وهذا النموذج أجعله كمدخل للدخول في المناقشة الأساسية، وعليه فقس.
تعرض الكاتب في كتابين من كتبه (1) لشخصية (ابن خلكان)، وذكر في كتابه (سيدة الإماء) أن ابن خلكان قد تفرد في ذكر اسم (خمط)، والذي ظهر للكاتب من ذكر ابن خلكان لهذا الاسم هو إرادة تمييع قضية الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف والتشكيك فيها، وقد ناقش الكاتب ثبوت هذا الاسم لها علیها السلام بمناقشتين:
- المناقشة الأولى: أن اسم (خمط) من متفردات ابن خلكان.
- المناقشة الثانية: أن (ابن خلكان) رجلٌ لا يؤتمن فيما ينقله عن العترة الطاهرة وتاريخ الشيعة لنصبه، وقد أقام قرينتين لإثبات نصبه.
وسنُركز الحديث على القرينتين اللتين أقامهما لإثبات نصبه، ولا يُفهم من هذا أننا ندافع هنا عن ابن خلكان.
سر تسميته بابن خلكان هو أن الرجل كان كثير الافتخار بأجداده، فيكثر من
ص: 131
قوله : (كان أبي، كان جدي، كان أجدادي)، فكان يُقال له: (خلِّ كان، وتكلم عن نفسك) إلى أن أصبحت لقباً له، وقد نقل ذلك ابن عماد الحنبلي في شذراته.
ولما رجعنا إلى تاريخ الرجل وجدناه برمكي النسب، ومن له اطلاع على التاريخ يعلم يقيناً أن البرامكة كانوا أشد الناس عداوة للعلويين، إذ كانوا اليد الضاربة للدولة العباسية ..... فكانوا السيف الحاد المسلط على أعداء العباسيين وخصوصاً العلويين.
وعليه فهناك عداء تاريخي متجذر بين البرامكة وبين العلويين، ولا نشك أن کلام ابن خلكان ناشئ عن هذا . (1)
» التعليق:
قرينة الكاتب تعتمد على مقدمتين اثنتين:
- المقدمة الأولى: أن ابن خلكان ممن يتفاخر بأجداده حتى سُمي ب- (ابن خلكان).
- المقدمة الثانية: هؤلاء الأجداد كانوا من أعداء أهل البيت علیهم السلام.
- النتيجة: لو كان محباً لأهل البيت علیهم السلام ومبغضاً لأعدائهم لما تفاخر بأعداء أهل البيت علیهم السلام ولو كانوا أجداده.
» المناقشة:
وكلامنا مع الكاتب في المقدمة الأولى، فقد اعتمد في إثبات نصب ابن خلكان على أنه سُمي به لأنه كان يتفاخر بأجداده الذين هم أعداء العلويين، وهذا يبتني
ص: 132
على أمرين:
- الأول: انحصار المراد من (خلكان) في المعنى الذي ذكره.
- الثاني: أن المسمى بهذا الاسم هو صاحب الوفيات.
وفي كلا الأمرين نظر:
أما الأول: فقد ذكروا في سبب التسمية بهذا الاسم أقوالاً:
القول الأول: أنها مركبة من كلمتين.
أي أن كلمة (خلكان) نفسها مركبة من (خل) و (كان)، وهذا القول ذكره جملة ممن كتب حول هذا الاسم فقيل: (وجه تسمية جدّه خَلِّكان به بناء على ضبطه الأوّل أنّه افتخر يوما في مجلس كان له على بعض قرنائه بمفاخر آبائه الّذين هم آل البرامكة الوزراء المشهورون فقيل له في ذلك: خلّ كان. بمعنى: دع كان أبي كذا. وجدّي كذا، ونسبي كذا، وحدّثنا عمّا يكون في نفسك الآن) (1).
وهذا القول نفس ما يشير إليه الكاتب من سبب التسمية باختلاف في نسبة الكلمة لمن، وقد نُقل عن أحد الأدباء نفس هذا التفسير إلا أنه ذكر أن منشأ التسمية هو أن ابن خلكان حين سئل عن نسبه، (قال: خلّ كان، يعني اسأل عن الرجل ودعك من السؤال عن آبائه وأجداده) (2).
ص: 133
القول الثاني: أنها نسبة إلى قرية تُسمى (خَلْكان).
ذكر هذا القول جملة ممن تعرض لابن خلكان، ومن ضمن من نقل هذا المعنى المصدر الذي اعتمده الكاتب في ذكر سبب تسمية (خلكان) بهذا الاسم ألا وهو أبو الفلاح ابن العماد الحنبلي في شذراته حيث قال: (قال ابن شهبة قال الإسنوي: خلّكان: قرية من عمل إربل) (1).
وقد نقل ذلك ابن المستوفي (ت 637 ه-) - وهو أسبق زماناً من صاحب وفيات الأعيان- في كتابه (تاريخ اربل)، وذلك في ترجمة (عمر بن خلكان (2)) فقال: (هو أبو حفص عمر بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، من قرية معروفة بجده منسوبة إليه على طريق النسبة الكردية) (3)، وعلق سامي الصقار - محقق الكتاب- عليه بهذا: (ورد في «الفوائد البهية» (4)، أن عبد القادر العيدروس نقل في «النوع السافر في أخبار القرن العاشر» عن قطب الدين المكي أنه قال أن لفظ (خلكان) ضبط على صورة الفعلين «خل» أمر من خلى أي ترك، و «كان»، وأن سبب تسميته بذلك أنه كان كثيراً يقول: (كان والدي كذا، كان والدي كذا) فقيل «خل كان». ثم قال: (ورأيت من ضبطه بسكون اللام والباقي على حاله).
وفي «طبقات الشافعية» لابن شهبة (5) أن (خلكان) قرية من عمل إربل،
ص: 134
وعلق على ذلك المحقق الجبوري بقوله بأن القرية لا زالت موجودة في قضاء رانية التابعة للواء السليماني (وهو وهم من الاسنوي - على حد قول ابن شهبة - وإنما هو اسم لبعض أجداده . اه- . ويبدو أن الصحيح هو ما ذكره ابن المستوفي - وهو الاربلي العريق - من أن النسبة هي إلى قرية معروفة بجده منسوبة إليه على طريق النسبة الكردية. والظاهر أن أحد أجداده كان يُدعى (خل) وهو اسم معروف، فنُسبت إليه القرية وصارت «خلكان».
هذا ووجد عشيرة كردية تسمى (خالكاني) مؤلفة من 400 أسرة وهي نصف رحالة، قادمة بالأصل من منطقة راوندوز (وهي من أعمال إربل) وتسكن حالياً غربي بحيرة قوجحصار (هي دنيسر) وفقاً لما ذكر أمين زكي (تاريخ الكرد (1) ) (2) .
وذكر محمود الأرناؤوط في تحقيقه على شذرات ابن العماد الحنبلي فقال: (وعلّق محقّقه - أي محقق كتاب الإسنوي - الدكتور عبد الله الجبّوري بقوله: أقول: وما زالت هذه القرية التي يقترن باسمها اسم المؤرخ العظيم قاضي القضاة ابن خلّكان إلى الآن، وهي كذلك قرية، وتقع في (جناران) - مرزا - رستم، التابعة إلى قضاء رانية، من محافظة السليمانية في شمال العراق. أفادنيه الأخوان الصديقان: العميد الأستاذ الفاضل عبد الرحمن التكريتي، والأستاذ صادق التكريتي قائم مقام قضاء بغداد. انتهى .
قلت: وسألت عن ذلك صديقي الأديب الدكتور خالد قوطرش الكرديّ- وهو ممن يتقن الكردية ويلم بالفارسية - فقال: يقال بأن «ابن خلكان» ينسب
ص: 135
إلى قرية «خلكان» بفتح الخاء وسكون اللام وفتح الكاف، قرية تقع الآن في شمال العراق، وعليه فإن الصواب أن يقال «ابن خَلْكان») (1) .
ومن خلال ما كُتب في بيان سبب تسمية (خلكان) وجدتُ أن بعضهم أشار إلى أن (ابن خلكان) صاحب «وفيات الأعيان» هو الذي كان يُفاخر بنسبه وأجداده فقيل له ما قيل، وقد تَفرد بذلك قطب الدين الحنفي (2) صاحب «طبقات الحنفية» على ما نَقل عنه العيدروس في كتابه «النور السافر عن أخبار القرن العاشر» فقال: (وَمن إفادات الشَّيْخ قطب الدّين أن لفظ (ابن خلكان) ضبط على صُورَة الْفِعْلَيْنِ، خل أمراً من (خلي) أي ترك فعل مَاض وَكَانَ النَّاقِصَة، وسبب تسميته بذلك أنه كان يكثر أن يقول كان والدي كذا، وكان جدي كذا فإنه من البرامكة، فقيل خل كان) (3).
وهذا وإن كان بدواً يظهر منه أنه يعني أن (ابن خلكان) نفسه هو من کان يتفاخر إلا أن الذي يتأمل يجد أن هذا النقل لا يختلف عن التعليلات السابقة إلا في النسبة، والظاهر أن هذه النسبة التي ذُكرت خطأ إما من الناقل أو من المنقول عنه، فاسم (خلكان) أسبق من صاحب كتاب «وفيات الأعيان» فقد كان يذكره في كتبه ففي مقدمة كتابه «وفيات الأعيان» يقول: (يقول الفقير إلى رحمة الله تعالى شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، الشافعي..) (4)،
ص: 136
وكذا تجد في ضبط اسم أحد أعمامه ك- (عمر بن إبراهيم بن خلكان) مثلاً، فتسمية (خلکان) ليست له، ولو كان هو المتفاخر بأجداده لكان الأنسب أن يكون اسمه هو (خلكان) لا أن يُعرف ب- (ابن خلكان).
وأما ما نقله صاحب كتاب «شذرات الذهب» فظاهره أنه نقل عن «النور السافر» ولكنه ختم قوله بشيء يؤيد ما ذكرناه للتو فقد قال: (فقيل له (خلّ كان) فغلبت عليه) (1)، فالذي كان من حقه أن يغلب على اسمه هو (خلكان) لا (ابن خلكان) كما أسلفنا.
ولو تنزلنا وقلنا بأن المتفاخر بآبائه البرامكة هو صاحب الوفيات، فإن هذا لا يثبت المدعى، وهو نصبه لأهل البيت علیهم السلام؛ لأن النصب هو إظهار العداوة والبغض لهم علیهم السلام، ومجرد التفاخر بأجداده وإن كانوا أعداء للعلويين لا يثبت النصب، بل إن مجرد عدائهم للعلويين لا يثبت نصبهم أنفسهم فضلاً عنه هو، لأن النصب أخص منه.
على أنه يمكن أن يقال بأن العداء منهم لخصوص من كان يخرج بالسيف، وليس لمطلق العلويين بما فيهم الأئمة علیهم السلام.
» النتيجة:
إن (خلكان) ليس لفظاً خاصاً بصاحب كتاب «وفيات الأعيان» بل هو أسبق منه، وقد ورد في تعليل وروده قولان، وعلى كلا القولين تسقط القرينة الأولى التي ذكرها الكاتب، فلا يمكن الاستفادة منها في إثبات نصب الرجل ليُرتَّب على ذلك
ص: 137
ما استفاده الكاتب من أن هذا الاسم من مخترعات ابن خلكان لأنه أراد بذلك تمييع قضية الإمام المهدي علیه السلام بسبب نصبه.
إن ابن خلكان كان من عشاق يزيد بن معاوية وشعره، إذ أنه ذكر في ترجمة المرزباني: وهو أوّل من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي، واعتنى به، وهو صغير الحجم، يدخل في مقدار ثلاث كراريس، وقد جمعه من بعده جماعة، وزادوا فيه أشياء كثيرة ليست له، وكنت حفظت جميع ديوان يزيد، لشدة غرامي به، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمدينة دمشق، وعرفت صحيحه من المنسوب إليه الذي ليس له، وتتبعته حتى ظفرت بصاحب كل أبيات، ولولا خوف التطويل لبينت ذلك، وشعر يزيد مع قلته في نهاية الحُسْن.
وهنا لابد لنا من طرح عدة تساؤلات: ما سبب غرام ابن خلكان الشديد بشعر یزید؟
إن كان حبه لنفس مضامين الشعر، فهذه طامة تنبئ عن سوء سريرة ابن خلكان، إذ أن شعر يزيد ليس شعراً في ذكر الله، ولا في الثناء على نبيه صلی الله علیه و آله و سلم، بل كله فسق وفجور، وليس هناك أفضل من الذهبي في تلخيص لسيرة يزيد بن معاوية ....
وإن كان حبه لهذا الشعر من أجل حبه ليزيد نفسه، فيكفينا هذا مطعناً في هذا الرجل، إذ أن حب يزيد من أقوى الأدلة على النصب وبغض أهل البيت علیهم السلام، وقد كفافنا ابن كثير الدمشقي مؤونة إثبات هذه القضية بقوله: (الناس في يزيد بن
ص: 138
معاوية أقسام ....) (1). انتهى.
» التعليق:
قرينة الكاتب تعتمد على مقدمتين اثنتين:
- المقدمة الأولى: أن ابن خلكان من عشاق يزيد بن معاوية.
- المقدمة الثانية (مطوية): أن كل من كان يعشق يزيد فهو من النواصب.
- النتيجة: أن ابن خلكان من النواصب.
» المناقشة:
وكلامنا مع الكاتب في المقدمة الأولى، وقد استدل عليها بما ذكره في ترجمة المرزباني من أنه كان شديد الغرام بشعر يزيد، وأنه وصف شعره بأنه في نهاية الحسن، ثم ذكر احتمالين في شدة غرامه بشعر يزيد، الأول: لما في شعر يزيد من مضامين، والثاني: لعشقه ليزيد.
وكلامه باطل من وجهين:
الأول: أنه إنما يتم هذا الكلام لو كان غرامه بشعر يزيد من جهة حبه له، ولكنه غير متعين، لوجود احتمال آخر ذكره هذا الكاتب وهو حبه لمضامين شعر يزيد، فإنه وإن كانت مضامين شعر يزيد لا تذكر بالله عز وجل ولا تربط بأهل البيت علیهم السلام بل ولو كانت مليئة بالفسق والفحش والمجون فإن ذلك لن يكون كاشفاً إلا عن خبث سريرة، ولا ملازمة بين إثبات فساده وإثباته النصب لأهل البيت علیهم السلام.
الثاني: أن المنقول من كلام ابن خلكان ظاهر في أنه مغرم بالشعر باعتبار أنه في
ص: 139
نهاية الحسْن (1) ، لا أنه بسبب كونه شعر يزيد، حتى يتوهم أن غرامه به لعشقه يزيد.
» النتيجة:
لو كان الكلام في حفظه لشعر يزيد فقط لما كان دالاً على نصبه ولا على خبثه، ولكن الذي قاله عن نفسه من أنه شديد الغرام بشعره، وكان مولعاً به حتى حفظه، وتتبعه تتبعا عرف به صاحب كل أبيات فيه، وعرف صحيحه من المنسوب له ، كاشف عن خبث الرجل وانحرافه عن أهل البيت علیهم السلام، فلو كان يزيد الملعون قاتل أهله وعشيرته وسابي نسائهم وفاعلاً فيهم ما فعله في الحسين وأهله وأصحابه ونسائه فهل تراه يغرم بشعره هذا الغرام العجيب الغريب؟!
فهذا الغرام وإن لم يكن دالاً على نصبه، لأن النصب يعتبر في تحققه أمور ليست متحققة بهذا الغرام ، إلا أن هذا الغرام كاشف عن خبث هذا الخبيث.
ولكن هذا لا يعني أننا نوافق الكاتب في أن ذكره لاسم خمط كان بغرض تمييع قضية الإمام المهدي علیه السلام، وأن هذا ناشئ من نصبه المستفاد من القرينتين أعلاه، فإن هذا لا دليل عليه، وما ذكر لا يصلح أن يكون كذلك.
بعد هذا يتضح للقارئ أن الكاتب لا يمارس حتى الضوابط العامة للبحث، فلا المنهج العلمي، ولا التتبع الكافي، ولا التحليل الجيد، وستجد هذا منثوراً في طيات الكتاب كما سترى قريباً.
ص: 140
هنالك عدّة أقوال تبينُ أصلَ أُمِّ الإمامِ علیها السلام من أنها رومية أو سندية أو مغربية أو نوبية أو غير ذلك، وقَد نَقل الكاتب الرواية المشهورة في وُصولها إلى بيت العصمة والطهارة علیهم السلام والتي نقلها جُملة من الأعلام -وسيأتي التفصيل - ثم سَجّل عليها عدّة ملاحظات، وهنا أُريد أن أقف مع تلك الملاحظات.
و في هذه النقطة أَذكرُ أمرين:
1. كتاب كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق (ت 381ه-).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْوَشَّاءِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ الْقُمِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ:...
2. كتاب دلائل الإمامة، الطبري الصغير (بعد 411 ه-).
حَدَّثَنَا أبُو الْمُفَضَّل مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللهِ بْنِ الْمُطَّلِبِ الشَّيْبَانِيُّ سَنَةَ خَمْسٍ وثَمَانِينَ
ص: 141
وثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ الرُّهْنِيُّ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ:...
3. كتاب الغيبة، الشيخ الطوسي (ت 460 ه-).
أخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي الْمُفَضَّلِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَحْرِ بْنِ سَهْلِ الشَّيْبَانِيِّ الرُّهْنِي قَالَ: قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَّاسُ وَهُوَ مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أحَدُ مَوَالِي أَبِي الْحَسَنِ وأَبِي مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم وجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى: ...
والعلماء جيلاً بعد جيل قد نقلوها في كتبهم مما يُشعر باهتمامهم بهذه الرواية، وإليك أسماء بعض من نقلها:
الصورة
ص: 142
الصورة
ص: 143
الصورة
وقد اعتبر الرواية أو مضمونها جملة من الأعلام ، بل وصححها آخرون، فمثلاً:
الشيخ المفيد رحمه الله قد نقل زيارة لها (1) متضمنة لنفس معاني الرواية، وهذه الزيارة وإن كنّا لا نقطع أنها واردة عن المعصوم (2) إلا أنها كاشفة لا أقل عن قبول الشيخ لمضامينها.
وقد نقل الزيارة أيضاً جمع من العلماء من بعده، ومنهم الشيخ ابن المشهدي رحمه الله (3)، والشهيد الأول رحمه الله (4) وغيرهم من العلماء.
وقال الشيخ الطبرسي رحمه الله: (وكانت أم المهدي علیه السلام أم ولد، اسمها نرجس
ص: 144
وهي بنت ليشوعا بن قيصر ملك الروم من أولاد الحواريين من قبل الإمام، وكان اسمها عند أبيها مليكة، ولها قصة عجيبة لا يسعها هذا الكتاب) (1)، وهذا واضح في اعتباره لها ولو في الجملة.
وقال الشيخ عباس القمي رحمه الله قبل نقله الخبر: (روی ابن بابويه والشيخ الطوسي بأسانيد معتبرة عن محمد بن بحر بن سهل الشيباني أنّه قال: قال بشر بن سليمان النخّاس... إلخ) (2)، فعبر عن الأسانيد بأنها أسانيد معتبرة.
وقال الشيخ لطف الله الصافي قدس سره معلقاً على الرواية: (ويظهر ممّا عنون به الباب -[أي الشيخ الصدوق] - أيضاً اعتماده واستدلاله على ما كان مشهوراً في عصره من اسم أمّه علیه السلام ونسبها بهذا الحديث،... و إلّا فلا ينبغي لمثله أن يعتمد على رواية غير موثّقة، لا يعرف رواتها بالوثاقة في مثل هذا الأمر المعتنى به عند الخاصّ والعامّ، فالمظنون بل المقطوع اطمئنانه بصحّة الرواية وصدق رواتها، و لو تنزّلنا عن ذلك فلا محيص عن القول باطمئنانه بصدورها بواسطة بعض القرائن و الأمارات المعتبرة التي يجبر بها ضعف الراوي، و يقطع بها بصحّتها) (3)
وقد خصصت الثلاثة أعلاه بالذكر باعتبار أن من جاء بعدهم نقلها عنهم، والكاتب اعتمد على أولئك الثلاثة.
ص: 145
هناك فروق متعددة للرواية في المصادر الثلاثة، وهذا الاختلاف هو اختلاف بسيط، وفي الغالب يرجع إلى النساخ.
وسأقتصر على ذكر الأهم من الفروق، وأما الاختلاف في تقديم وتأخير أو في تذكير وتأنيث وغيرها من الفروق غير المخلة بين النصين وسأغض الطرف عنها وإلا استوجب ذلك التطويل بلا ثمرة.
الأصل: رواية كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق رحمه الله.
الهامش: د: رواية دلائل الإمامة للشيخ الطبري الصغير الإمامي رحمه الله،غ: رواية الغيبة للشيخ الطوسي رحمه الله.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِمِ اَلنَّوْفَلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو اَلْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى اَلْوَشَّاءِ اَلْبَغْدَادِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرِ اَلْقُمِّيُّ قَالَ (1): حَدَّثَنَا أَبُو اَلْحُسَيْن مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ اَلشَّيْبَانِيُّ قَالَ: وَرَدْتُ كَرْبَلاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَ ثَمَانِينَ وَ مِائَتَيْنِ قَالَ وَزُرْتُ قَبْرَ غَرِيبٍ رَسُولِ الله صلى الله عليه و آله و سلم ثُمَّ انْكَفَأتُ إِلَى مَدِينَةِ اَلسَّلَامِ مُتَوَجِّهاً إِلَى مَقَابِرِ قُرَيْشٍ فِي وَقْتِ قَدْ تَضَرَّمَتِ اَلْهَوَاجِرُ وَتَوَقَّدَتِ اَلسَّمَائِمُ فَلَمَّا وَصَلْتُ مِنْهَا إِلَى مَشْهَدٍ اَلْكَاظِمِ علیه السلام واسْتَنْشَقْتُ نَسِيمَ تُرْبَتِهِ اَلْمَغْمُورَةِ مِنَ اَلرَّحْمَةِ اَلْمَحْفُوفَةِ بِحَدَائِقِ اَلْغُفْرَانِ أَكْبَبْتُ عَلَيْهَا
ص: 146
بِعَبَرَاتٍ مُتَقَاطِرَةٍ وَ زَفَرَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ - وَ قَدْ حَجَبَ اَلدَّمْعُ طَرْفِي عَنِ اَلنَّظَرِ فَلَمَّا رَقَأَتِ اَلْعَبْرَةُ وانْقَطَعَ اَلنَّحِيبُ فَتَحْتُ بَصَرِي فَإِذَا أَنَا بِشَيْخِ قَدِ انْحَنَى صُلْبُهُ وَ تَقَوَّسَ مَنْكِبَاهُ وَ ثَفِنَتْ جَبْهَتُهُ وَرَاحَتَاهُ وَ هُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَهُ عِنْدَ اَلْقَبْرِ: يَا ابْنَ أَخِي لَقَدْ نَالَ عَمُّكَ شَرَفًا بِمَا حَمَّلَهُ اَلسَّيِّدَانِ مِنْ غَوَامِضِ اَلْغُيُوبِ وَشَرَائِفِ اَلْعُلُومِ اَلَّتِي لَمْ يَحْمِلْ (1) مثْلَهَا إِلَّا سَلْمَانُ وَقَدْ أَشْرَفَ عَمُّكَ عَلَى اسْتِكْمَالِ اَلْمُدَّةِ وانْقِضَاءِ اَلْعُمُرِ وَلَيْسَ يَجِدُ فِي أَهْلِ اَلْوَلَايَةِ رَجُلاً يُفضِي إِلَيْهِ بِسِّرِه قُلْتُ يَا نَفْسُ لَا يَزَالُ اَلْعَنَاءُ وَاَلْمَشَقَّةُ يَنَالَانِ مِنْكِ بِإِتْعَابِيَ اَلْخُفَّ وَاَلْحَافِرَ فِي طَلَبِ اَلْعِلْمِ وَقَدْ قَرَعَ سَمْعِي مِنْ هَذَا اَلشَّيْخِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ جَسِيمِ وَأَثَرِ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا اَلشَّيْخُ وَمَنِ اَلسَّيِّدَانِ؟ قَالَ: اَلنَّجْمَانِ اَلْمُغَيَّبَانِ فِي اَلثَّرَى بِسُرَّ مَنْ رَأَى فَقُلْتُ: إِنِّي أُقْسِمُ بِالْمُوَالَاةِ (2) وَشَرَفِ مَحَلِّ هَذَيْنِ اَلسَّيِّدَيْنِ مِنَ اَلْإِمَامَةِ وَاَلْورَاثَةِ إِنِّي خَاطِبٌ عِلْمَهُمَا وَطَالِبٌ آثَارَهُمَا وَ بَاذِلٌ مِنْ نَفْسِيَ اَلْأَيمَانَ اَلْمُؤَكَّدَةَ عَلَى حِفْظِ أَسْرَارِهِمَا. قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَحْضِرْ مَا صَحِبَكَ مِنَ اَلْآثَار عَنْ نَقَلَةِ أَخْبَارِهِمْ.
فَلَمَّا فَتَّشَ (3) اَلْكُتُبَ وَتَصَفَّحَ اَلرِّوَايَاتِ مِنْهَا قَالَ: صَدَقْتَ أَنَا بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ اَلنَّخَّاسُ مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ أَحَدُ مَوَالِي أَبِي اَلْحَسَنِ وَ أَبِي مُحَمَّدٍ علیهما السلام وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى. قُلْتُ: فَأَكْرِمْ أَخَاكَ بِبَعْضٍ مَا شَاهَدْتَ مِنْ آثَارِهِمَا. قَالَ: كَانَ مَوْلَانَا أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْعَسْكَرِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَّهَنِي فِي أَمْرِ اَلرَّقِيقِ
ص: 147
فَكُنْتُ لَا أبْتَاعُ وَ لَا أَبيعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَاجْتَنَبْتُ بِذَلِكَ مَوَارِدَ اَلشُّبُهَاتِ حَتَّى كَمَلَتْ مَعْرِفَتِي فِيهِ فَأَحْسَنْتُ اَلْفَرْقَ فِيمَا بَيْنَ اَلْحَلَالِ وَ اَلْحَرَامِ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلِي بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَقَدْ مَضَى هَوَى مِنَ اَللَّيْلِ إِذْ قَرَعَ اَلْبَابَ قَارِعٌ فَعَدَوْتُ مُسْرِعاً فَإِذَا أَنَا بِكَافُورٍ اَلْخَادِمِ رَسُولِ مَوْلَانَا أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام يَدْعُونِي إِلَيْهِ فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ اِبْنَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ وَأَخْتَهُ حَكِيمَةَ مِنْ وَرَاءِ اَلسِّتْرِ فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ: يَا بشْرُ إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ اَلْأَنْصَارِ وَهَذِهِ اَلْوَلَايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ فَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَ مُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَة تَسْبِقُ بِهَا شَأَوُ (1) اَلشِّيعَةِ (2) فِي اَلْمُوَالَاةِ بِهَا بِسِرِّ أُطْلِعُكَ عَلَيْهِ وَأُنْفِذُكَ فِي ابْتِيَاعِ أَمَةٍ (3) فَكَتَبَ كِتَاباً مُلْصَقاً (4) بِخَطٍّ رُومِيٍّ وَلُغَةٍ رُومِيَّةٍ وَطَبَعَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ وَأَخْرَجَ شستقة (5) [شِقَّةً] صَفْرَاءَ فِيهَا مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ دِينَاراً فَقَالَ خُذْهَا وَتَوَجَّهْ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ واحْضُرْ مَعْبَرَ اَلْفُرَاتِ (6) ضَحْوَةَ
ص: 148
كَذَا فَإِذَا وَصَلَتْ إلَى جَانِبِكَ زَوَارقُ اَلسَّبَايَا وَبَرْزَنُ (1) اَلْجَوَارِي مِنْهَا فَسَتَحْدِقُ بِهِمْ طَوَائِفُ اَلْمُبْتَاعِينَ مِنْ وُكَلَاءِ قُوَّادِ بَنِي اَلْعَبَّاسِ وَشَرَاذِمُ مِنْ فِتْيَانِ اَلْعِرَاقِ (2) فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرِفْ مِنَ اَلْبُعْدِ عَلَى اَلْمُسَمَّى عُمَرَ بْنَ يَزِيدَ اَلنَّخَّاسَ عَامَّةَ نَهَارِكَ إِلَى أَنْ يُبْرزَ لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا لابِسَةً حَرِيرَتَيْنِ صَفِيقَتَيْنِ تَمْتَنِعُ مِنَ اَلسُّفُورِ (3) وَلَمْسِ اَلْمُعْتَرِضِ (4) وَ اَلاِنْقِيَادِ لِمَنْ يُحَاولُ لَمْسَهَا وَيَشْغَلُ نَظَرَهُ بِتَأَمُّلِ مَكَاشِفِهَا مِنْ وَرَاءِ اَلسِّتْرِ اَلرَّقِيقِ فَيَضْرِبُهَا اَلنَّخَّاسُ فَتَصْرَخُ صَرْخَةً رُومِيَّةً فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ وَا هَتْكَ سِتْرَاهْ فَيَقُولُ بَعْضُ اَلْمُبْتَاعِينَ عَلَيَّ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَادَنِي اَلْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً فَتَقُولُ بِالْعَرَبِيَّةِ لَوْ بَرَزْتَ فِي زِيِّ سُلَيْمَانَ وَ عَلَى مِثْلِ سَرِيرِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لِي فِيكَ رَغْبَةٌ فَاشْفَقْ عَلَى مَالِكَ فَيَقُولُ اَلنَّخَّاسُ فَمَا اَلْحِيلَةُ وَ لَا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ فَتَقُولُ اَلْجَارِيَةُ وَمَا اَلْعَجَلَةُ وَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِيَارِ مُبْتَاعِ يَسْكُنُ قَلْبِي إِلَيْهِ وَإِلَى أَمَانَتِهِ وَ دِيَانَتِهِ (5) فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ اَلنَّخَّاسِ وَقُلْ لَهُ إِنَّ مَعِي كِتَاباً مُلْصَقاً (6) لِبَعْضِ اَلْأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةِ رُومِيَّةٍ وَخَطَّ رُومِيٍّ وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ فَنَاوِلْهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أَخْلَاقَ صَاحِبِهِ فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ فَأَنَا وَكِيلُهُ فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ.
ص: 149
قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ اَلنَّخَّاسُ فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لِي مَوْلَايَ أَبُو اَلْحَسَنِ علیه السلام فِي أَمْرِ اَلْجَارِيَةِ فَلَمَّا نَظَرَتْ فِي اَلْكِتَابِ بَكَتْ بُكَاءً شَدِيداً وَقَالَتْ لِعُمَرَ بْن يَزِيدَ اَلنَّخَّاسِ بِعْنِي مِنْ صَاحِبِ هَذَا اَلْكِتَابِ، وَحَلَفَتْ بِالْمُحَرِّجَةِ اَلْمُغَلَّظَةِ (1) إِنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا مِنْهُ قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَمَا زِلْتُ أُشَاحُّهُ فِي ثَمَنِهَا حَتَّى اسْتَقَرَّ اَلأَمْرُ فِيهِ (2) عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ أَصْحَبَنِيهِ مَوْلَايَ علیه السلام مِنَ اَلدَّنَانِيرِ فِي الشستقة [اَلشِّقَّةِ] اَلصَّفْرَاءِ فَاسْتَوْفَاهُ مِنِّي وَتَسَلَّمْتُ مِنْهُ اَلْجَارِيَةَ ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً وانْصَرَفْتُ بِهَا إلَى حُجْرَتِيَ اَلَّتِي كُنْتُ آوِي إِلَيْهَا بِبَغْدَادَ، فَمَا أَخَذَهَا اَلْقَرَارُ حَتَّى أَخْرَجَتْ كتَابَ مَوْلَاهَا علیه السلام مِنْ جَيْبهَا (3) وَهِيَ تَلْثِمُهُ (4) وَتَضَعُهُ عَلَى خَدِّهَا وَتُطْبِقُهُ عَلَى جَفْنِهَا وَتَمْسَحُهُ عَلَى بَدَنِهَا، فَقُلْتُ تَعَجُّباً مِنْهَا: أَتَلْثِمِينَ كِتَاباً وَلَا تَعْرِفِينَ صَاحِبَهُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا اَلْعَاجِزُ اَلضَّعِيفُ اَلْمَعْرِفَةِ بِمَحَلِّ أَوْلَادِ اَلْأَنْبِيَاءِ أَعِرْنِي سَمْعَكَ وَفَرِّغْ لِي قَلْبَكَ أَنَا مُلَيْكَةُ بِنْتُ يَشُوعَا (5) بْنِ قَيْصَرَ مَلِكِ اَلرُّومِ، وَأَمِّي مِنْ وُلْدِ اَلْحَوَارِيِّينَ تُنْسَبُ إِلَى وَصِيِّ اَلْمَسِيحِ شَمْعُونَ أُنَبِّئُكَ اَلْعَجَبَ اَلْعَجِيبَ، إِنَّ جَدِّي قَيْصَرَ أرَادَ أَنْ يُزَوِّجَنِي مِنِ ابْن أَخِيهِ وَأَنَا مِنْ بَنَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَجَمَعَ فِي قَصْرِهِ مِنْ نَسْلِ اَلْحَوَارِيِّينَ وَمِنَ اَلْقِسِّيسِينَ والرُّهْبَانِ ثَلَاثَمِائَة رَجُلٍ وَمِنْ ذَوِي اَلْأَخْطَارِ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ (6) وَجَمَعَ مِنْ أَمَرَاءِ اَلْأَجْنَادِ وَقُوَّادِ اَلْعَسَاكِرِ وَنُقَبَاءِ
ص: 150
اَلْجُيُوشِ وَمُلُوكِ اَلْعَشَائِرِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَأَبْرَزَ مِنْ بَهْوِ مُلْكِهِ عَرْشاً مَسُوغاً (1) مِنْ أَصْنَافِ اَلْجَوَاهِرِ إِلَى صَحْنِ اَلْقَصْرِ فَرَفَعَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ مِرْقَاةً، فَلَمَّا صَعِدَ ابْنُ أَخِيهِ وَأَحْدَقَتْ بِهِ اَلصُّلْبَانُ وَقَامَتِ اَلْأَسَاقِفَةُ عُكَّفاً (2) وَنُشِرَتْ أَسْفَارُ اَلْإِنْجِيلِ تَسَافَلَت اَلصُّلْبَانُ مِنَ اَلْأَعَالِي فَلَصِقَتْ بِالْأَرْضِ وَتَقَوَّضَتِ اَلْأَعْمِدَةُ (3) فَانْهَارَتْ إِلَى اَلْقَرَارِ وَخَرَّ اَلصَّاعِدُ مِنَ اَلْعَرْشِ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ (4) فَتَغَيَّرَتْ أَلوَانُ اَلْأَسَاقِفَةِ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ فَقَالَ كَبِيرُهُمْ لِجَدِّي: أَيُّهَا اَلْمَلِكُ أَعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ اَلنُّحُوسِ اَلدَّالَّةِ عَلَى زَوَالِ هَذَا اَلدِّينِ المَسِيحِيِّ والْمَذْهَبِ اَلْمَلَكَانِيِّ. فَتَطَيَّرَ جَدِّي مِنْ ذَلِكَ تَطَيُّراً شَدِيداً وَقَالَ لِلْأَسَاقِفَةِ أقِيمُوا هَذِهِ اَلْأَعْمِدَةَ وارْفَعُوا اَلصُّلْبَانَ وَأَحْضِرُوا أَخَا هَذَا اَلْمُدْبَرِ اَلْعَاثِرِ (5) اَلْمَنْكُوسِ جَدُّهُ لِأُزَوِّجَ مِنْهُ هَذِهِ اَلصَّبِيَّةَ فَيُدْفَعَ نُحُوسُهُ عَنْكُمْ بِسُعُودِهِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ حَدَثَ عَلَى اَلثَّانِي مَا حَدَثَ عَلَى اَلْأَوَّلِ وَتَفَرَّقَ اَلنَّاسُ وَقَامَ جَدِّي قَيْصَرُ مُغْتَمّاً وَدَخَلَ قَصْرَهُ (6) وَأُرْخِيَتِ اَلسُّتُورُ فَأُرِيتُ فِي تِلْكَ اَللَّيْلَةِ كَأَنَّ اَلْمَسِيحَ وَالشَّمْعُونَ (7) وَعِدَّةً مِنَ اَلْحَوَارِيِّینَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي قَصْرِ جَدِّي وَنَصَبُوا فِيهِ مِنْبَراً يُبَارِي اَلسَّمَاءَ عُلُوّاً وارْتِفَاعاً فِي اَلْمَوْضِعِ اَلَّذِي كَانَ جَدِّي نَصَبَ فِيهِ عَرْشَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله و سلم مَعَ فِتْيَةٍ (8) وَعِدَّةٍ مِنْ بَنِيهِ
ص: 151
فَيَقُومُ إِلَيْهِ اَلْمَسِيحُ فَيَعْتَنِقُهُ فَيَقُولُ: يَا رُوحَ الله إِنِّي جِئْتُكَ خَاطِباً مِنْ وَصِيِّكَ شَمْعُونَ فَتَاتَهُ مُلَيْكَةَ (1) لابْنِي هَذَا. وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ صَاحِبِ هَذَا اَلْکِتَابِ (2)
فَنَظَرَ اَلْمَسِيحُ إِلَى شَمْعُونَ فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَتَاكَ اَلشَّرَفُ فَصِلْ رَحِمَكَ بِرَحِمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه و آله و سلم. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فَصَعِدَ ذَلكَ اَلْمِنْبَرَ وَخَطَبَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله و سلم وَزَوَّجَنِي (3) وَشَهِدَ اَلْمَسِيحُ علیه السلام وَشَهِدَ بَنُو مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم وَاَلْحَوَارِیُّونَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي أشْفَقْتُ أَنْ أَقُصَّ هَذِهِ اَلرُّؤْيَا عَلَى أَبِي وَجَدِّي مَخَافَةَ اَلْقَتْلِ فَكُنْتُ أُسِرُّهَا فِي نَفْسِي وَلَا أُبْدِيهَا لَهُمْ وَضَرَبَ صَدْرِي بِمَحَبَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ حَتَّى اِمْتَنَعْتُ مِنَ اَلطَّعَامِ وَاَلشَّرَابِ وَضَعُفَتْ نَفْسِي وَدَقَّ شَخْصِي وَمَرِضْتُ مَرَضاً شَدِيداً فَمَا بَقِيَ مِنْ مَدَائِنِ اَلرُّومِ طَبِيبٌ إِلَّا أَحْضَرَهُ جَدِّي وَسَأَلَهُ عَنْ دَوَائِي، فَلَمَّا بَرَّحَ بِهِ اَلْيَأسُ قَالَ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي فَهَلْ تَخْطُرُ بِبَالِكَ شَهْوَةٌ فَأُزَوِّدَكِهَا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا؟ فَقُلْتُ: يَا جَدِّي أَرَى أَبْوَابَ اَلْفَرَجِ عَلَيَّ مُغْلَقَةً فَلَوْ كَشَفْتَ اَلْعَذَاب عَمَّنْ فِي سِجْنِكَ مِنْ أُسَارَى اَلْمُسْلِمِينَ وَفَكَكْتَ عَنْهُمُ اَلْأَغْلَالَ، وَتَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ وَمَنَنْتَهُمْ بِالْخَلَاصِ لَرَجَوْتُ أَنْ يَهَبَ اَلْمَسِيحُ وَأُمُّهُ لِي عَافِيَةً وَشِفَاءً.
فَلَمَّا فَعَلَ ذلكَ جَدِّي تَجَلَّدْتُ فِي إِظْهَارِ اَلصِّحَّةِ فِي بَدَنِي وَتَنَاوَلْتُ يَسِيراً مِنَ اَلطَّعَامِ فَسُرِّ بِذَلِكَ جَدِّي وَأَقْبَلَ عَلَى إِكْرَامِ اَلْأَسَارَى [وَ] إِعْزَازِهِمْ فَرَأَيْتُ أَيْضاً بَعْدَ أَرْبَعِ لَيَالِ (4) كَأَنَّ سَيِّدَةَ اَلنِّسَاءِ قَدْ زَارَتْنِي وَمَعَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَأَلْفُ وَصِيفَةٍ مِنْ
ص: 152
وَصَائِفِ اَلْجِنَانِ فَتَقُولُ لِي مَرْيَمُ : هَذِهِ سَيِّدَةُ اَلنِّسَاءِ أُمُّ زَوْجِكِ أَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام فَأَتَعَلَّقُ بِهَا وَأَبْكِي وَأَشْكُو إِلَيْهَا اِمْتِنَاعَ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ زِيَارَتِي، فَقَالَتْ لِي سَيِّدَةُ اَلنِّسَاءِ علیها السلام: إِنَّ اِبْنِي أَبَا مُحَمَّدٍ لَا يَزُورُكِ وَأَنْتِ مُشْرِكَةٌ بِاللهِ وَعَلَى مَذْهَبِ اَلنَّصَارَى، وَهَذِهِ أُخْتِي مَرْیَمُ تَبَرَّأَ إِلَى الله تَعَالَى مِنْ دِينِكِ فَإِنْ مِلْتِ إِلَى رِضَا الله عَزَّ وَجَلَّ وَرِضَا اَلْمَسِيحِ وَمَرْيَمَ عَنْكِ وَزِيَارَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكَ فَتَقُولِي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمَّداً رَسُولُ الله.
فَلَمَّا تَكَلَّمْتُ بِهَذِهِ اَلْكَلِمَةِ ضَمَّتْنِي سَيِّدَةُ اَلنِّسَاءِ إِلَى صَدْرِهَا فَطَيَّبَتْ لِي نَفْسِي وَقَالَتِ اَلْآنَ تَوَقَّعِي زيَارَةَ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكِ فَإِنِّي مُنْفِذتهُ إِلَيْكِ فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا أقولُ وَا شَوْقَاهْ إِلَى لِقَاءِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَتِ اَللَّيْلَةُ اَلْقَابِلَةُ جَاءَنِي أَبُو مُحَمَّدِ (1) علیه السلام فِي مَنَامِي فَرَأَيْتُهُ كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ جَفَوْتَنِي (2) يَا حَبِيبِي بَعْدَ أَنْ شَغَلْتَ قَلْبِي بِجَوَامِعِ حُبِّكَ. قَالَ: مَا كَانَ تَأْخِيرِي عَنْكِ إِلَّا لِشِرْكِكِ وَإِذْ قَدْ أَسْلَمْتِ فَإِنِّي زَائِرُكِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللهُ شَمْلَنَا فِي اَلْعَيَانِ. فَمَا قَطَعَ عَنِّي زِيَارَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى هَذِهِ اَلْغَايَةِ.
قَالَ بشْرٌ : فَقُلْتُ لَهَا وَكَيْفَ وَقَعْتِ فِي اَلْأَسْرِ (3)؟ فَقَالَتْ أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَيْلَةً مِنَ اَللَّيَالِي أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرِّبُ (4) جُيُوشاً إِلَى قِتَالِ اَلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا ثُمَّ يَتْبَعُهُمْ فَعَلَيْكِ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ (5) مُتَنَكِّرَةً فِي زِيِّ اَلْخَدَمِ مَعَ عِدَّةٍ مِنَ اَلْوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا. فَفَعَلْتُ
ص: 153
فَوَقَعَتْ عَلَيْنَا طَلَائِعُ اَلْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَمَا شَاهَدْتَ وَمَا شَعَرَ أَحَدٌ بِي بِأَنِّي اِبْنَةُ مَلِكِ اَلرُّومِ إِلَى هَذِهِ اَلْغَايَةِ سِوَاكَ وَذَلِكَ بِاِطِّلَاعِي إِيَّاكَ عَلَيْهِ وَقَدْ سَأَلَنِي اَلشَّيْخُ اَلَّذِي وَقَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهْمِ (1) اَلْغَنِيمَةِ عَنِ اسْمِي فَأَنْكَرْتُهُ وَقُلْتُ نَرْجسُ، فَقَال: اسْمُ اَلْجَوَارِي
فَقُلْتُ: اَلْعَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَبِّيٌّ. قَالَتْ: بَلَغَ مِنْ وُلُوعِ جَدِّي وَحَمْلِهِ (2) إِيَّايَ عَلَى تَعَلُّمِ اَلْآدَابِ أَنْ أَوْعَزَ إِلَيَّ امْرَأَةَ تَرْجُمَانٍ لَهُ فِي اَلْاِخْتِلَافِ إِلَيَّ فَكَانَتْ تَقْصِدُنِي صَبَاحاً وَمَسَاءً وَتُفِيدُنِي اَلْعَرَبِيَّةَ حَتَّى اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا لِسَانِي واسْتَقَامَ .
قَالَ بِشْرٌ: فَلَمَّا انْكَفَأْتُ بهَا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأى دَخَلْتُ عَلَى مَوْلَانَا أَبِي اَلْحَسَنِ اَلْعَسْكَرِيِّ علیه السلام فَقَالَ لَهَا كَيْفَ أَرَاكِ اللهُ عِزَّ اَلْإِسْلَامِ وَذُلَّ اَلنَّصْرَانِيَّةِ وَشَرَفَ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم؟ قَالَتْ: كَيْفَ أَصِفُ لَكَ يَا ابْنَ رَسُول الله مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. قَالَ: فَإِنِّي أُرِيدُ (3) أَنْ أُكْرِمَكِ فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَمْ بُشْرَى لَكِ فِيهَا شَرَفُ الأَبَدِ؟ قَالَتْ: بَلِ اَلْبُشْرَى (4). قَالَ علیه السلام: فَأَبْشِرِي بِوَلَدٍ يَمْلِكُ اَلدُّنْيَا شَرْقاً وَغَرْباً وَيَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً. قَالَتْ: مِمَّنْ؟ قَالَ علیه السلام: مِمَّنْ خَطَبَكِ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم لَهُ مِنْ لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا بِالرُّومِيَّةِ. قَالَتْ: مِنَ اَلْمَسِيحِ وَوَصِيِّهِ قَالَ: فَمِمَّنْ زَوَّجَكِ اَلْمَسِيحُ وَوَصِيُّهُ؟ قَالَتْ: مِنِ (5) ابْنِكَ
ص: 154
أَبِي مُحَمَّدٍ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ قَالَتْ: وَهَلْ خَلَوْتُ لَيْلَةً مِنْ زِيَارَتِهِ إِيَّايَ مُنْذُ اَللَّيْلَةِ اَلَّتِي أَسْلَمْتُ فِيهَا عَلَى یَدِ سَيِّدَةِ اَلنِّسَاءِ أَمِّهِ. فَقَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ علیه السلام: يَا كَافُورُ ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ علیه السلام لَهَا: هَا هِيَ. فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ الله أَخْرِجِيهَا إلَى مَنْزِلِكِ (1) وَعَلِّمِيهَا اَلْفَرَائِضَ وَاَلسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ اَلْقَائِمِ علیه السلام. (2)
سَجّلَ الكاتب عدة ملاحظات سندية على الرواية، وسأذكرُ الملاحظةَ بحسب تسلسله مع التعليق عليها تباعاً:
«إن الراوي لهذه الحادثة هو (أبو الحسين محمد بن بحر الشيباني، وبغض النظر في الوقت الحالي عن تقييمنا للرجل، إلّا أنّ الغريب فعلا هو أنّ الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381ه- قد نقل عنه الخبر بثلاثة وسائط، وفي المقابل نجد أنّ الشيخ الطوسي المولود سنة 385ه- والمتوفى سنة 460ه- قد نقل عنه نفس الخبر لكن بواسطتين فقط، والذي يزيد الأمر غرابة هو ما نقله الطبري الصغير في دلائل الإمامة حيث قال: حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر الرهني الشيباني، قال: وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين)، فاللقاء حصل سنة 286ه- ، والذي روى
ص: 155
القصة عن صاحب اللقاء حدّث بها سنة 385 ه- أي بعد 100 سنة. وهذه الهوة الزمانية الكبيرة تؤكد وجود وسائط ساقطة في السند الذي نقله الشيخ الطوسي والطبري الصغير رضي الله عنهما، وبهذا يكون نقل الشيخ الصدوق له أدق وأضبط.
وهنا تكمن المشكلة، وهي أننا نجهل هوية هؤلاء الذين نقلوا هذه القصة عن محمد بن بحر الشيباني، وحتى الذين ذكرهم الشيخ الصدوق في سنده (أحمد بن عيسى الوشاء، أحمد بن طاهر القمي) فإنّهما مهملان في كتب الرجال والتراجم ولا يوجد لهما أي ترجمة فضلاً عن وجود توثيق لهما، فالطريق إلى صاحب القصة إما ضعيف لوجود مجاهيل فيه أو مرسل لوجود وسائط ساقطة وغير معروفة لدينا» (1).
- خلاصة الملاحظة: الخبر ضعيف إما لوجود مجاهيل أو للإرسال، فهذا القدح الأول في هذه الرواية.
» التعليق:
أولاً: إنَّ سند الحديث الذي ذكره الشيخ الصدوق (ت 381ه-) لا يمكن التسليم بضعفه لوجود مجاهيل، فالشيخ الصدوق رحمه الله قد حدّث عن (محمد بن بحر الشيباني) بوسائط ثلاث، أما النوفلي فهو أستاذ الشيخ الصدوق رحمه الله وقد ترضى عليه (2) والاثنان الآخران وإن كنّا لا نعلم - حالياً- عنهما الكثير، لكن كما أفاد الشيخ لطف الله الصافي قدس سره في هذا الشأن :(الظاهر معرفته بحالهما واعتماده عليهما، وذلك لأنّه لم يرو في هذا الباب الذي هو من الأبواب المهمّة من كتابه إلّا حديثاً واحداً، وهو ما رواه عن شيخه محمد بن علي بن حاتم النوفلي، عن أبي
ص: 156
العباس أحمد بن عيسى الوشّاء البغدادي، عن أحمد بن طاهر، بل يظهر من ذلك كمال وثاقتهما عنده، واعتماده على صدقهما وأمانتهما، ويظهر ممّا عنون به الباب أيضا اعتماده واستدلاله على ما كان مشهوراً في عصره من اسم أمّه علیه السلام ونسبها بهذا الحديث، فالرجلان كانا معلومي الحال عنده بالصدق والأمانة، وإلّا فلا ينبغي لمثله أن يعتمد على رواية غير موثّقة، لا يعرف رواتها بالوثاقة في مثل هذا الأمر المعتنى به عند الخاصّ والعامّ، فالمظنون بل المقطوع اطمئنانه بصحّة الرواية وصدق رواتها، و لو تنزّلنا عن ذلك فلا محيص عن القول باطمئنانه بصدورها بواسطة بعض القرائن والأمارات المعتبرة التي يجبر بها ضعف الراوي، ويقطع بها بصحّتها، وإلّا فيسأل: ما فائدة عقد باب في كتاب مثل «كمال الدين» للاحتجاج برواية واحدة لا يحتجّ بها ولا يعتمد عليها مؤلّف الكتاب لجهله بأحوال رجالها؟ وما معنى عنوان الباب بمضمونها؟ وكيف يقبل صدور ذلك من الصدوق قدس سره؟ ألم يصنّف كتابه «كمال الدين» لرفع الحيرة والشبهة والاستدلال على وجود الحجة؟ فهل هذه الرواية إذا كان مؤلّف الكتاب لا يعتمد عليها تزيد الشبهة والحيرة أو ترفعها؟) (1).
ثانياً: كما تم التعرض إلى سند الشيخ الصدوق رحمه الله فلابد من التعرض إلى سند الشيخ الطبري الصغير والشيخ الطوسي رَحِمَهُمَا اٝللهُ فقد حدّثا عن (محمد بن بحر الشيباني) من خلال أبي المفضل الشيباني، وهذا الرجل يمكن أن يغمز فيه من جهة أنَّ ابن الغضائري يترك ما انفرد به (2)، والصحيح أنَّ لهذه العبارة احتمالين:
ص: 157
- الاحتمال الأول: أن يكون مراده من الترك هو ترك الرواية عنه، فما انفرد به أبو المفضل الشيباني ترك روايته ابن الغضائري، وما لم ينفرد له لم يترك روايته، فلابد أن تكون الرواية التي نتحدث فيها رواية لم ينفرد أبو المفضل بها؛ والذي يثبت ذلك أن الشيخ الطوسي رحمه الله لما حَدَّثَ عن أبي المفضل الشيباني قال: (أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي الْمُفَضَّلِ الشَّيْبَانِيِّ..) ، وهذه الجماعة قد ذكرها رحمه الله في جملة من الموارد وكان من ضمنها ابن الغضائري، فمثلاً:
في التهذيب: جملة من الروايات التي عن الكليني كانت تمر بطريقه، فقد قال الشيخ رحمه الله: (وأخبرنا به أيضا الحسين بن عبيد الله [ابن الغضائري] عن أبي غالب أحمد بن محمد الزراري وأبي محمد هارون بن موسى التلعكبري وأبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، وأبي عبد الله أحمد ابن أبي رافع الصيمري، وأبي المفضل الشيباني، وغيرهم كلهم عن محمد بن يعقوب الكليني) (1) .
وفي الأمالي قال: (أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ [ابن الغضائري]، وَ أَحْمَدُ بْنُ عُبْدُونٍ، وَأَبُو طَالِبِ بْنُ غرور [عَزْوَرٍ]، وَأَبُو الْحَسَنِ الصَّقَّالُ، وَأَبُو عَلِيِّ الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُشْنَاسِ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُفَضَّلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُطَّلِبِ الشَّيْبَانِي) (2) وغير هذه الموارد.
وأكد المحقق الحلي رحمه الله هذا الأمر لما سُئل عن عدة الشيخ عندما يقول: (عدّة من أصحابنا عن أبي المفضّل)، فأجاب رحمه الله: (الذي وصل إِليَّ في ذلك
ص: 158
ووجدته بخطّ بعض الفضلاء أنّ الجماعة الذين هم طريق الشيخ رحمه الله تعالى إلى أبي المفضّل منهم أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله [ابن الغضائري]، وأبو علي محمد بن إسماعيل بن أشناس، وأبو طالب بن غرور، واسم أبي المفضّل محمّد بن عبد الله بن المطّلب الشيباني) (1) ، وما دام ابن الغضائري هو أحد أفراد الجماعة، وقد التزم أن لا يروي ما انفرد به الشيباني، فهذا يؤكد أن هذه الرواية لیست مما انفرد به، وإلا لما رواها عنه، فيمكن حينها الوثوق بروايته.
- الاحتمال الثاني: أن مراده من الترك هو ترك العمل بروايته لا ترك أصل الرواية عنه، والنتيجة لن تختلف كثيراً عن الاحتمال السابق أيضاً إذ أن ابن الغضائري جعل الضابطة في العمل بروايته هو عدم التفرد، فإذا علمنا بأنه لم ينفرد بهذا الخبر - حيث أورده الشيخ عن جماعة وأحدهم ابن الغضائري، كما أنَّ الشيخ الصدوق أورد الرواية بطريق لا يمر بأبي المفضل الشيباني- فحينئذ لا وجه لتركه هنا.
وأما ما ذكره الشيخ النجاشي في رجاله عندما قال بأن أبا المفضل كان ثبتاً ثم خلط، وقال: أنَّهُ رأى جُلَّ أصحابنا يغمزونه ويضعفونه، فلا يدل على اعتقاده بضعفه وعدم وثاقته مطلقاً، وإن قلتَ أنه توقف عن الرواية عنه، فنقول: أن النجاشي لقاه وسمع منه وإنما توقف عن الرواية عنه بالمباشرة ولم يتوقف عن الرواية عنه بالواسطة (2) ، ولعل ما دعا الشيخ لترك الرواية عنه بالمباشرة هو تخليطه دون ما هو بالواسطة، إذ الرواية المباشرة تكون بعد التخليط، بينما ما
ص: 159
يرويه عنه بالواسطة هو ما قد حدّث به قبل تخليطه، ولذا ينبغي التفصيل في قبول رواياته في قبول بين ما كان منها قبل التخليط وما كان بعده ، ونقول أن هذه الرواية قد تحملها عن الرهني في بادئ أمره - وسيتضح ذلك من (ثالثاً)- أي قبل تخليطه ، بل ويعضد هذا النقل عن الرهني لهذه الرواية هو ما نقله الشيخ الصدوق قدس سره بسند آخر لا يمر بأبي المفضل الشيباني.
هذا كلّه مع التسليم بثبوت تهمة التخليط فيه، وإلا فإن بعض الأعلام قد تنظر في ذلك كالسيد البروجردي قدس سره فقال في ترجمته: (وروى عنه جماعة من العامة والخاصة، وحكى أنه ناقش العامة في حديثٍ عن أحمد بن محمد بن عيسى بن العراد الكبير سماعاً عنه في سنة 310ه- ، فكذبوه وقالوا مات ابن العراد الكبير قبل ذلك، وأبطلوا رواياته.
وقال النجاشي: رأيت جُل أصحابنا يغمزونه ويضعفونه انتهى، فكأنه كان تضعيفه والغمز عليه سرى من العامة إليهم، أو اطلعوا على أمر آخر، وما ذكره العامة لا يوجب ضعفاً لاحتمال السهو في مثل هذه الخصوصيات والله العالم.) (1)
والشيخ عباس القمي رحمه الله لما جاء إلى رواية الرهني قال: (روى ابن بابويه والشيخ الطوسي بأسانيد معتبرة عن محمد بن بحر بن سهل ... إلخ) وأحد رواة هذا السند المعتبر عند الشيخ عباس القمي هو أبو المفضل الشيباني (2).
ص: 160
ثالثاً: إن سند الرواية الذي ذكره الطوسي والطبري رَحِمَهُمَا اٝللهُ لا يمكن التسليم بإرساله بناء على ما ذكرَ الكاتب، إذ الراوي لهذه الحادثة هو ( أبو الحسين محمد بن بحر الشيباني) الذي عاش في فترة الغيبة الصغرى (1)، وقد ذُكر أنه توفي ما قبل سنة 330ه- (2) أو سنة 340ه- (3) ، فبالتالي أن ينقل الطبري الصغير عنه سنة 385ه- بواسطة واحدة - وهو أبو المفضل الشيباني - لهو أمر طبيعي، فأبو المفضل الشيباني كان يتحمّل الحديث في سنة 304ه- (4) وما بعدها في بغداد (5)، فعلى ما ذُكر من تاريخ وفاة (محمد بن بحر الشيباني) و تحمّل أبي المفضل الشيباني للرواية فإن اللقاء متيسر وبسهولة، بل هناك - مع التنازل عن بعض السنين- على أقل تقدير 20 سنة حتى يلتقي أبو المفضل بمحمد بن بحر ويُحدّث عنه (6)، فإن محمد بن بحر كان من المعمرين (7)، وقد ذُكر أن أبا المفضل كان يتنقل بشكل كبير لأخذ الحديث (8).
ص: 161
إذن دعوى وجود هوة زمانية لا نستطيع الجزم بها بحيث يتسنى للكاتب أن يدعي وجود وسائط ساقطة في سند الطبري الصغير فلا يصغى إليها، والكلام كذلك بالنسبة للشيخ الطوسي حيث بينه وبين أبي المفضل الشيباني واسطة، وهذه لا تمنع أن يحدث الطوسي المولود سنة 385ه- عن أبي المفضل الشيباني المتوفى سنة 387ه- (1) بواسطة واحدة كما لا يخفى.
رابعاً: إن تعدد الوسائط لا يعني بالضرورة عدم المعاصرة واختلاف الطبقة الكبير، كما أراد أن يشير الكاتب، بل قد يُحدَّثُ عن شخصٍ مُعاصرٍ للمُحدّثِ بواسطتين أو ثلاثِ وسائط، وسبَبُ ذلك ليس إلا عدم حدوث لقاء بينهما، إما لعَدم القدرة على الوصول له ، أو وجود عارضٍ يمنع من التواصل معه، أو التوقف من النقل عن بعض الشخصيات بالمباشرة لما حولها من الكلام، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا في زماننا واضح، فإنه قد يحدَّثُ عن عالم أو مرجع بحديث لكن بوسائط، وهذه الوسائط ليست لعدم مُعاصرِة الوسائط بعضها مع بعض، بل لعدم حصول فرصة للمحدِّثِ على أن يأخذَ الحديث من المحدَّث عَنه مباشرة، وقد يُحدِّثُ عن شخصٍ بوسائط لعدم رغبة المتحدث أن ينقل عن المحَدَّثِ عنه بالمباشرة لغاية في نفسه، فالخلاصة ليس تعدد الوسائط يعني بالضرورة تعدد الطبقات فتنتفي المعاصرة، والعجيب من الكاتب إذ هو يناقض نفسه، فبعد أن ادعى وجود وسائط ساقطة وهوّة زمانية كبيرة نجده يقول فيما بعد بصفحات بعد أن تعرض
ص: 162
إلى السند من كتاب الشيخ الصدوق رحمه الله والشيخ الطوسي رحمه الله قال: (والظاهر أن كلا الطريقين هما لأحد كتب (محمد بن بحر الرهني)، يشهد على ذلك أن الشيخ الصدوق نقل رواية في كمال الدين:..... ونفس هذه الرواية نقلها الشيخ الطوسي بسنده الأول الذي ذكرناه: ....) (1).
فتارة يدّعي الكاتب لزوم وجود هوة زمانية باعتبار أن الوسائط ثلاث بين الشيخ الصدوق والرهني، وواسطة بين الطبري والرهني، وواسطتين بين الطوسي والرهني. وتارة يقول أنهما أخذا الحديث من أحد كتب الرهني، والرواة عن الرهني صدروا كلامهم عنه ب-(حدثنا) (2)، فتأمل !!
خامساً: لو سلمنا بأن الرواية ضعيفة السند لوجود مجاهيل أو للإرسال المزعومين فلا نسلم بضرورة سقوط الرواية عن الاعتبار، فإن جملة من الأعلام يذهبون إلى أن المدار في حجية الأخبار هو الوثوق بصدوره لا وثاقة المخبر، ومن هؤلاء الأعلام:
الميرزا النوري رحمه الله حيث قال: (هذا خبرٌ [خَبرُ تعلم الاسم الأعظم] محفوف بقرائن الصدق فيكون حجةً، فإن الخبر المحفوف بالقرائن - وإن ضعف - يكون حجة بالاتفاق، بل أقوى من الصحيح الخالي عن القرائن) (3).
ص: 163
ومنهم: السيد السيستاني دام ظله فقد أفاد في أكثر من مورد من أن الصحيح القدمائي الحجة، هو الخبر الموثوق به (1)، وقد اعتمده دام ظله فقال: (فالخبر الموثوق بصدوره ولو بلحاظ احتفافه بالقرائن، أو الموثوق بصحة مضمونه حجة) (2).
ومنهم: السيد الهاشمي قدس سره حيث قال: (هذا تمام الكلام في الأصول العملية، و به يتم الكلام في الدليل السادس من الأدلة التي ذكرها الشيخ لحجية خبر الواحد، واستنتج منها أن الخبر الموثوق به حجة، يعني ما هو صحيح عند القدماء، واحتمال الخلاف فيه ملغی، ونحن نقول به) (3).
بل إن جملة من الأعلام يرون أن الروايات ضعيفة السند إذا كان مشهور المتقدمين قد تلقاها بالقبول والعمل بها فإن تلك الشهرة جابرة للضعف، وفي قبال هذا إذا كانت هناك روايات صحيحة السند قد أعرض عنها مشهور المتقدمين مع قربهم من زمان الأئمة علیهم السلام فإن هذه الشهرة تكون موهنة للخبر الصحيح، ومن كلمات الأعلام - وهي كثيرة- في هذا الصدد:
ما ذكره السيد البروجردي قدس سره حيث قال : (ما اشتهر بينهم خصوصاً بين المتأخرين منهم، بل استقر بينهم من أن الشهرة جابرة لضعف السند مطلقاً وإن كانوا لم يستندوا في ذلك إلى تلك الرواية فإنه يصير معناها حينئذ أن المشهور المطابق
ص: 164
للخبر لا ريب فيه، وهذا لا فرق فيه بين الاستناد وعدمه) (1).
ومنها: ما أكده السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره من أن مذهب المشهور هو التعويل على الشهرة: (فإن بنينا على ما بنى عليه المشهور من أن الرواية بلغت من الصحة ما بلغت إذا أعرض عنها المشهور سقطت عن الاعتبار، فلا مناص من الأخذ بالطائفة الأولى الدالة على .... وذلك لإعراض الأصحاب عن الطائفة الثانية ولم ينسب العمل بها إلى أحد من أصحابنا، وحيث إن الإعراض يُوجِبُ سقوطَ الرواية عن الاعتبار، فتبقى الطائفة الأولى من غير معارض) (2) .
ومنها: ما أفاده المحقق العراقي قدس سره حيث قال: (بناء على ما هو المعروف في زماننا هذا - المحرر في الأصول - من كون مدار الحجية على الخبر الموثوق الصدور، فتقل فائدة الرجال جداً لمكان حصول الوثوق بصدور الخبر باتكال المشهور عليه، وإن كان بحسب القواعد الرجالية في منتهى درجة الضعف، كما إن إعراضهم عنه يوجب وهناً فيه وإن كان جميع رجال إسناده عدولاً، لكشف إعراضهم عنه- مع كونه بين أظهرهم -عن وجود خلل فيه يوجب سلب الوثوق بصدوره ، ولذا اشتهر أن الخبر كلما ازداد صحةً واعتباراً ازداد بإعراض الأصحاب عنه ضعفاً و انكساراً) (3) .
إذن الخبر قد يكون ضعيفاً سنداً ولكنه معتبر؛ لأن العمدة وفق هذا المسلك
ص: 165
على الوثاقة بصدوره من خلال الشهرة أو احتفافه بالقرائن أو غير ذلك (1).
» الخلاصة:
نخلص إلى أن هناك طريقين للرواية عن (محمد بن بحر الشيباني)، الطريق الأول هو طريق الشيخ الصدوق رحمه الله، والطريق الثاني هو طريق الطبري والطوسي رَحِمَهُمَا اٝللهُ. وإن المعتبر في الخبر عند المشهور هو الوثوق بالصدور خصوصاً في القضايا التاريخية، وسيأتي مزيد إيضاح في ذلك، فتابع.
«إن مدار هذه القصة على (بشر بن سليمان النخاس)، والذي عرّف نفسه في الرواية بأنه من نسل أبي أيوب الأنصاري، وهذا الرجل لا يوجد له ذكر لا في كتب التاريخ ولا الرجال ولا التراجم البتة. بل حتى راوي الخبر (محمد بن بحر الشيباني) لم يكن يعرفه أو سمع به من قبل، إنما عرفه بعد أن عرّف بنفسه وصدق كلامه، فلا طريق لنا لمعرفة هذا الرجل إلا بتعريفه لنفسه في هذه الرواية! والذي يزيد استغرابنا أنه وصف نفسه بأوصاف عظيمة جداً، حيث يقول عن نفسه: (يا ابن أخي لقد نال عمك شرفاً بما حمله السيدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلّا سلمان)، فهل يكون أحد في أصحاب الأئمة عليهم السلام مثل سلمان المحمدي ولا يعرف عنه أحد شيئا ؟!
ص: 166
بل نجد أنه ذكر أمراً آخر عرف به نفسه وهو أنه من نسل أبي أيوب الأنصاري حيث قال: (صدقت أنا بشر بن سليمان النخاس من ولد أبي أيوب الأنصاري)، وقد نص المؤرخون على أن أبا أيوب الأنصاري لا عقب له، حيث قال ابن سعد في طبقاته: وكان لأبي أيوب من الولد عبد الرحمن وأمه أم حسن بنت زيد بن ثابت بن الضحاك من بني مالك بن النجار وقد انقرض ولده فلا نعلم له عقبا) .... إلخ».
» التعليق:
أولاً: صحيح أن كثيراً ممن كتب في علم الرجال لم يذكر بشر بن سليمان النخاس، ولكن ذكره السيد محسن الأمين في كتابه (أعيان الشيعة) (1)، وذكره الرجالي المعروف العلامة المامقاني قدس سره في كتابه (تنقيح المقال) فقال فيه: (فالرجل حينئذ من الثقات. والعجب من إهمال الجماعة ذكره مع ما هو عليه من الرتبة) (2)، أما لماذا لم يذكره الكثير فلعله لعدم كونه من الرواة فهو لم يكن يحدث أحداً، وفي رواية الرهني نفسها بيان للسبب حيث قال: (قَدْ أَشْرَفَ عَمُّكَ عَلَى اسْتِكْمَالِ اَلْمُدَّةِ وانْقِضَاءِ اَلْعُمُرِ وَلَيْسَ يَجِدُ فِي أَهْلِ اَلْوَلَايَةِ رَجُلاً يُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ) فهو لم يجد - وهو في آخر عمره - من يُفضي إليه بروايات أهل البيت علیهم السلام.
وقد يَستشكلُ المستشكل على اعتماد المدح الذي وُصف به بشر في الرواية بأن هذا من تزكية المرءِ نَفسه، وفرع ثبوت الرواية نفسها التي وردت فيها التزكية، وقد علّق الشيخ محيي الدين المامقاني قدس سره قائلاً: (إن ثبت أن المُترجَم شرّفه الإمام
ص: 167
علیه السلام بشراء والدة الحجة المنتظر علیه السلام فوثاقته مسلّمة) (1)، فنحن هنا أمام احتمالين: احتمال الكذب واحتمال الصدق. فإن كان صادقاً فقد ثبتت وثاقته، وإن كان الكذب فضعفه، ولكن مع كذبه ليس بالضرورة أن يحكم على كلّ الرواية بالكذب.
وبعبارة أخرى، ليس بالضرورة أن كل ما في الرواية من معلومات تكون هذه المعلومات كاذبة، فقد تكون في الرواية جزئيات صحيحة وجزئيات غير صحيحة، فعلى ذلك قد نجد روايات أخرى تعضد بعض هذه المعلومات فيصح لنا الأخذ بها أو ببعضها، كما في خبر ابن شاذان الآتي.
ثانياً: قال الكاتب: (كيف لشخصية مثل شخصية سلمان المحمدي لا يعرف عنها أحدٌ شيئاً بما فيهم الراوي (محمد بن بحر الشيباني)، فلم يكن يعرفه أو سمع به من قبل، إنما عَرفه بعد أن عرّف بنفسه وصدّق كلامه) (2)، ويرد على هذا :
1. من الممكن أن يكون كشخصية سلمان المحمدي لا يلزم أن يكون معروفاً لدى الجميع، وكذلك عندنا من الأنبياء مَنْ حتى أخوته لم يعرفوه وهم الذين عاشوا معه في الصغر كيوسف علیه السلام، ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (3)، ولم يعرفوه إلا بعد أن أخبرهم.
2. إنَّ الراوي لم يقل أني لم أسمع به من قبل، فهذه دعوى لا دليل عليها. نعم، رآه ولم يعرفه ولا غرابة، فهو كرؤية أخوة يوسف لأخيهم ولم يعرفوه، بل هذا كرؤية أي رجل سمعت بذكره ولم تر وجهه وخصوصاً في ذلك الزمان إذ لا
ص: 168
صور ولا غيرها.
ولما عرّف بشر بنفسه لم يُنكر عليه الرهني، ولم ينكر أن لأبي أيوب عقباً، هذا مع الإشارة إلى أن الرهني له كتاب (نحل العرب) وفيه «يتحدث عن تشتت العرب في مختلف البلاد الإسلامية، ويذكر أيّها من الشيعة وأيها من السنة ..» (1).
ثالثاً: إن الكاتب بحث حول الرجل من جهة أنه من نسل أبي أيوب الأنصاري، فوصلَ إلى نتيجة أنَّ أبا أيوب الأنصاري لم يكن له عقب، مستنداً في ذلك إلى كلام ابن سعد في الطبقات، ولكن هنا أمرين لابُد من الالتفات إليهما:
الأمر الأول: أن ابن السعد في الطبقات لم يجزم بعدم وجود عقب لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه بل عبّر بهذا التعبير: «وكان لأبي أيوب من الولد عبد الرحمن وأمه أم حسن بنت زيد بن ثابت بن الضحاك من بني مالك بن النجار، وقد انقرض ولده فلا نعلم له عقبا» (2)، فابن سعد كان تعبيره دقيقاً حيث قال: (لا نعلم له عقبا)، فهو على حد عِلمه لا يعرفُ له عقباً لا أن أبا أيوب ليس له عقب أو أن ولده عبد الرحمن لم يُعقب وبالتالي انقطع نسل أبي أيوب، وكأن حال ابن سعد يتمثل ب- (لو كان لبان)؛ لخصوصية صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وتفاخر الذراري - عادة - بالانتساب لشخصية كانت لها مواقف مشرفة مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلا أنه لم يجزم بأن عقبه
انقرض ولم يبقَ منهم بقية.
ومن خلال التتبع في كتب التاريخ والحديث تبين أن أبا أيوب كان له عقب
ص: 169
منهم: (خالد (1)، عبد الله (2)، عبد الرحمن، مالك (3)، محمد (4)، عميرة (5)، عفراء (6)) وعقبُه لهم عَقبٌ، فعبد الرحمن -مثلا- له ولد ذكره ابن حبان في كتابه (الثقات)، فقال ما نصه: «سعد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ الْمدنِي يَرْوِي عَن جدته أم أَبِيه بنت سعد بْن الرّبيع وَكَانَت تَحت زيد بْن ثَابت لَهَا صُحْبَة رَوَى عَنْهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق» (7)، وكذلك البقية لمن يراجع المصادر التي ذكرت في الهامش.
والمتأمل في أسلوب ابن سعد في الطبقات في نفيه للعقب يجده أنه في الغالب يجزم بعدم وجود عقب، ولم يرد تعبير مثل هذا التعبير - (فلا نعلم له عقباً) - في حق أحد غير أبي أيوب (8)، فمثلا يقول: «وقد انقرض وُلدَ أبي حُذَيْفة فلم يبق منهم أحد. وانقرض وُلدَ أبيه عُتْبة بْن ربيعة جميعاً إلّا وُلدَ المغيرة بْن عِمْرَانَ بْن عاصم بْن الْوَلِيد بْن عُتْبة بْن ربيعة فإنهم بِالشَّامِ» (9)، «عُبَيْد بْن زَيْد بْن عامر بْن العجلان
ص: 170
بْن عَمْرو بْن عامر بْن زريق شهِدَ بدْرًا وأحدًا وتُوُفِّي وليس له عقب. وقد انقرض أيضاً وُلدَ عَمْرو بْن عامر بْن زريق إلّا وُلدَ رافع بْن مالك فقد بقي منهم قوم كثير. وبقي من وُلد النُّعمان بْن عامر واحد أو اثنان. ستة عشر رجلاً»، فعدوله عن ما يقارن عليه تعبيره في هذه الموارد إلى تعبير آخر، وهو (فلا نعلم له عقباً) يكشف عن عدم جزمه بنفي ذرية أبي أيوب الأنصاري.
الأمر الثاني: إننا من خلال البحث والتتبع وجدنا مجموعة من الوثائق التي تؤكد أن نسل أبي أيوب باقٍ على مر السنوات وإلى يومنا هذا، وهنا أذكر وثائق ثلاث (1):
٭ الوثيقة الأولى: كتاب الاستبصار في نسبة الصحابة من الأنصار، لابن قدامة المقدسي (ت620ه-).
ذكر في ترجمة أبي أيوب الأنصاري عدة من أحواله، إلى أن قال آخر الترجمة: (وتوفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين، وله عقب) (2)، وذكر محقق الكتاب في الهامش أيضاً: (ومن عقبه شيخ الإسلام، أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جعفر بن مصور، الأنصاري، الهروي الذي توفي 433 ه- ، وكان مشهوراً بالعلم، وله تصانيف كثيرة (3)) (4)، وقد ذَكر ترجمة أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، جلال الدين السيوطي، والحافظ الذهبي، ونصوا
ص: 171
جميعاً أنه من ذرية أبي أيوب الأنصاري (1).
٭ الوثيقة الثانية: الرحلة العلية إلى منطقة توات، للشيخ محمد بلعالم (ت 1430ه-) (2) .
ذَكَرَ في كتابه هذا تحت عنوان (لمحة نذكر فيها ما تحصلنا عليه من الشجرات النسبية لبعض القبائل المنتسبة للأصول النبوية والصحابية ممن تقدم ذكرهم في هذا البحث)، فجاء إلى شجرة الأنصار فقال: « 5 . شجرة الأنصار أولاد المنوفي ومن معهم هي كما يلي منقولة من خط السيد مولاي أحمد بن مولاي عبدالله البريشي: محمد الأمين بن محمد عبد الكريم الملقب بالمغيلي بن محمد عبدالله الملقب بالمنفوي.... بن سيدي عبيدة بن أبي وقاص بن سيدي أبي أيوب الأنصاري لطف الله به أمين» (3).
وهنا نجد أن اسم (أبي وقاص) يظهر منه أنه هو ابن أبي أيوب، نعم لا ندري هل هو (عبد الرحمن) أم غيره من أخوته.
٭ الوثيقة الثالثة: تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد، محمد آل عبد القادر الأنصاري الأحسائي (4).
ص: 172
ذكر فيه تحت عنوان (ذكر أعلام القرن الثاني عشر والثالث عشر من أهل الأحساء)، وأول ما صدر الباب صدره في ترجمة (الشيخ أحمد بن عبدالله عبد القادر)، فقال هو: (الشيخ أحمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالقادر بن محمد بن حمد بن علي، وهو الجد الخامس لمؤلف هذا التاريخ من ذرية أبي أيوب الأنصاري، الصحابي الجليل، وأبو أيوب اسمه خالد زيد بن كليب [بن] ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار ....) (1).
فهذه وثائق ثلاث وهناك غيرها، تؤكد كلها على أن أبا أيوب كانت له ذرية، وذريته متوزعة، بل وموجودة إلى يومنا هذا لا كما ادعى الكاتب معتمداً على كلام ابن سعد الذي لا يؤيد مطلبه بالبيان الذي بيناه.
رابعاً: أن الرواية نصت على أن (بشر) من ذرية أبي أيوب الأنصاري، ومفردة (ذرية) قد تشمل أولاده من الذكور وأولاده من الإناث كما في قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)) (2) فجعل نبي الله عيسى علیه السلام من ذرية نبي الله إبراهيم علیه السلام وهو لم يتصل به إلا من خلال الأم (3)، وأبو أيوب نفسه قد
ص: 173
ذُكر أن بعض أولاد بناته نُسبوا إليه، فمثلا: (أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس بن جابر الأنصاري المدني (1)) عرف ب-(أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري لكونه سبط أبي أيوب، أمه عمرة ابنة أبي أيوب) (2)، فلعل بشراً كان من ذُرية أبي أيوب من جهة الإناث.
قال الكاتب: «وعليه لابد من تحقيق حال هذا الرجل - محمد بن بحر الرهني- الذي يعتبر مدار هذه القصة وقطب رحاها بل كان طرفاً فيها، إذا إنه هو الوحيد الذي التقى ب-(بشر النخاس)، وعرفه بما جرى بينه وبين الإمامين العسكريين علیهما السلام، والسيدة الطاهرة نرجس علیها السلام، فالحديث لا بد أن يمر من خلال هذا الرجل»، وما ذكره الكاتب عبارة عن عدة أمورٍ أوجزها، ثم أذكر التعليق عليها :
الأمر الأول: أن النجاشي دافع عن الرهني بكلام يثبت أن الرجل كان موضع تهمة، واستظهار النجاشي لا يفيد وثاقته بل الكاتب يشكك في فعلية اطلاع النجاشي على كتب الرهني بحيث يمكن للنجاشي تبرئَة الرهني مما نُسب إليه من الغلو، وذلك لأن النجاشي في بغداد وكتب الرهني متداولة في خراسان ، ويشهد لهذا قول الشيخ الطوسي رحمه الله: (وله نحو من خمسمائة مصنف ورسالة، وكتبه موجودة، أكثرها موجود بخراسان).
- الأمر الثاني: كلام الشيخ الكشي فيه حيث قال: (قال أبو عمر ومحمد بن عمر بن
ص: 174
عبدالعزيز الكشي: وحدّثني أبو الحسن بن بحر الكرماني الرهني الترماشيري، قال: (وكان من الغلاة الحنقين) ، وفي مورد آخر (محمد بن بحر هذا غال، وفضالة ليس من رجال يعقوب، وهذا الحديث مزاد فيه مغير عن وجهه)، والكشي معاصر للرهني؛ فتكون شهادته حسية لا حدسية وقد قال عنه بأنه كان من الغلاة.
- الأمر الثالث: إن شهادة الكشي لها واقع محسوس يمكن درکه بسبر روايات الرجل وتقييمها، فهي محل إشكال واستغراب، كروايته التي فيها قدح في زرارة. حتى أن الشيخ الصدوق رحمه الله «اقتبس مقاطع طويلة من كتاب الرهني المسمى ب-(من قول مفضلي الأنبياء والرسل والأئمة والحجج صلوات الله عليهم أجمعين على الملائكة)، ثم عَقب عليها بما يدل على توقفه رحمه الله في روايات الرجل، بل إن كلام الشيخ الصدوق رحمه الله صريح في أن الرجل من الحشوية وأن ما يذكره مخالف للأخبار المسندة عن أهل البيت علیهم السلام». وكذلك عندنا «الرواية الأخرى - أي التي عن محمد بن بحر الرهني - والتي نقلها الصدوق رحمه الله في كتابه كمال الدين هي رواية طويلة ذكرت لقاء سعد بن عبدالله الأشعري بالإمام العسكري علیه السلام وابنه الحجة علیه السلام، وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على ردها، حتى قال النجاشي رحمه الله: ولقي مولانا أبا محمد علیه السلام، ورأيت بعض أصحابنا يضعفون لقاءه لأبي محمد ويقولون هذه حكاية موضوعة عليه». وإن سند هذا الخبر معلول من أوله لآخره، ونِعم ما قاله السيد الخوئي قدس سره تعليقاً على نفس هذا السند في رواية أخرى: وهذه الرواية ضعيفة السند جداً، فإن محمد بن بحر بن سهل الشيباني لم يوثق وهو
ص: 175
متهم بالغلو، وغيره من رجال سند الرواية مجاهيل».
» التعليق:
أولاً: إن التشكيك في فعلية اطلاع الشيخ النجاشي من خلال كلام الشيخ الطوسي غير دقيق؛ لأن عبارة الشيخ الطوسي رحمه الله هكذا: (خمسمائة مصنف ورسالة وكتبه موجودة أكثرها ببلاد خراسان) (1)، وهذه العبارة غاية ما تفيد أنَّ أكثر كتب الرهني موجودة في خراسان، ولو كان لعبارة (أكثرها في خراسان) مفهوم فإن مفهومها أن غير الأكثر خارج خراسان، وغير الأكثر يصدق على وجود القليل والكثير خارج خراسان، ونحن هنا نتكلم عن ( 500 كتاب)، فلو فرضنا أن 400 في خراسان، ووصل منها 100 إلى بغداد، فإن هذا المقدار يصحح التبرئة.
ثم إنَّ من يرجع لكلام النجاشي في ترجمة الرهني (قال بعض أصحابنا: إنه كان في مذهبه ارتفاع. وحديثه قريب من السلامة ولا أدري من أين قيل ذلك. له كتب منها: كتاب البدع، كتاب البقاع، كتاب التقوى، كتاب الاتباع وترك المراء في القرآن، كتاب البرهان، كتاب الأول والعشرة، كتاب المتعة، كتاب القلائد فيه كلام على مسائل الخلاف التي بيننا وبين المخالفين. قال لنا أبو العباس أحمد بن علي بن العباس بن نوح: حدثنا محمد بن بحر بسائر كتبه ورواياته) (2)، لا يخفى عليه أن الشيخ النجاشي له معرفة بعناوين كتب الرهني، وله طريق إليها، بل واطلاع على بعضها.
بالإضافة إلى ذلك أن ما حكاه الشيخ النجاشي عن أستاذه أبي العباس يفيد في
ص: 176
تقوية الرواية التي نناقش فيها، فإن لازم ما حكاه النجاشي أن أستاذه أبا العباس مطلع على رواية الرهني، ومع كونه من النقاد المتشددين (1) في الحديث وقد أخذ الشيخ النجاشي عنه إلا أنه ومع هذا قال بأن حديثه قريب من السلامة.
ثانياً: ذَكَرَ الكاتِبُ أن الكشي أقرب عهداً بالرهني من النجاشي فيكون توصيفه أدق، ولكن هذا ليس تامّاً، فإن هناك بعض الشخصيات لا يتضح حالها في زمانها بل بعده لاجتماع تمام الأدلة والقرائن، وقرب العهد لا يعتبر من المرجحات لتقديم قول بعض الرجاليين على بعض كما أكد ذلك الأعلام، ومن هؤلاء السيد الخوئي قدس سره كما حكى عنه السيد السيستاني دام ظله في إحدى المناقشات إذ قال: (أنه أيده الله [أي السيد الخوئي قدس سره] لم يعتبر في سائر الموارد قرب العهد من المرجحات) (2) ، وأكد هذا المعنى السيد محمد رضا السيستاني - دامت بركاته - فقال: (إن قرب العهد من الراوي لا يعتبر من المرجحات لتقديم قول بعض الرجاليين على بعض، ولم يسبق منه قدس سره [أي السيد الخوئي قدس سره] أن التزم بمثل ذلك في الموارد الأخرى .) (3).
ثالثاً: إن المراد من الغلو هو الاعتقاد في الأئمة بالربوبية أو النبوة أو الاعتقاد بكفاية محبتهم عن أداء الفرائض واجتناب الكبائر. وإن حاول جماعة من المتأخرين أن يبين أن الغلو عند المتقدمين يختلف عن ما ذكرناه، كما نوه عليه السيد محمد رضا السيستاني - حفظه الله - فيما نصه: « يتداول في كلمات الرجاليين كالكشي والشيخ
ص: 177
والنجاشي وابن الغضائري توصيف العديد من الرواة بأنهم من الغلاة، وبنى غير واحد من المتأخرين على أن المراد بالغلو عندهم هو ما يعم الاعتقاد في الأئمة علیهم السلام بالمقامات العالية، واستشهدوا لذلك بما حكاه الصدوق عن شيخه ابن الوليد من أن أول درجة في الغلو هو نفي السهو عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم.
ولكن الصحيح - كما نبّه عليه المحقق التستري (طاب ثراه) - أن المقصود به هو الاعتقاد في الأئمة علیهم السلام بالربوبية أو النبوة أو الاعتقاد بكفاية محبتهم عن أداء الفرائض واجتناب الكبائر. ويشهد لهذا عدد من الروايات وجملة من كلمات الأصحاب..» (1). ثم قال بعد سرد الشواهد: فهذه النصوص والكلمات تشير بوضوح إلى أنه كان معنى الغلو عند المتقدمين هو الاعتقاد في الأئمة علیهم السلام بالربوبية ونحو ذلك أو الاعتقاد بكفاية معرفتهم علیهم السلام وعدم الحاجة إلى الإتيان بالصلاة والصيام ولا غيرهما من الفرائض، وأيضاً عدم الضير في ممارسة المحرمات حتى ما يمسّ العِرض والشرف!
وأما ما تقدم من أن ابن الوليد كان يعدّ نفي السهو عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أول درجة في الغلو، فهو لا يقتضي كون الغلو في كلمات الآخرين بالمعنى المتقدم.» (2)، فالغلو كما ذكرناه.
ويمكن دفعه من خلال أحاديث المحدث الخالية من التخليط والأباطيل كما أفاد ذلك أيضاً السيد محمد رضا السيستاني -حفظه الله - حيث قال: (ولذلك يُلاحظ أن النجاشي ذكر في ترجمة محمد بن بحر الرهني (قال بعض أصحابنا: إنه
ص: 178
كان في مذهبه ارتفاع) ثم عقّب عليه بقوله (وحديثه قريب من السلامة)، وذكر ابن الغضائري في ترجمة أحمد بن الحسين بن سعيد (قال القميون كان غالياً) وعقّب عليه بقوله (وحديثه في ما رأيته سالم)، وقال في ترجمة الحسين بن شاذويه (زعم القميون أنه كان غالياً) وعقّب عليه بقوله (ورأيت له كتاباً في الصلاة سديداً) ونحو ما ذكر موارد أخرى وكلها تشهد بأنه كان من المفروغ عنه عندهم منافاة الغلو للوثاقة ولذلك إذا اتّهم أحدهم بالغلوّ ولكن وُجد أن ما رواه من الأحاديث خالٍ من التخليط والأباطيل عُدّ ذلك مؤشّراً إلى عدم صحة اتهامه بالغلوّ) (1).
وعلى ذلك فحين نأتي للكلام عن الرهني فإن تهمة الغلو لابُد من دفعها عنه، لأن الأعلام نظروا في كتبه المتعددة ولم يروا فيها ما يقتضي الغلو، بل هي خالية من التخليط والأباطيل، والأعلام مدحوها أو أخذوا منها، فمن ذلك:
1. كتاب القلائد، يقول النجاشي: (فيه كلام على مسائل الخلاف التي بيننا وبين المخالفين) (2)، وقال العلامة: «منها كتاب (القلائد) فيه كلام على مسائل الخلاف التي بيننا وبين المخالفين. وجدت بخط السيد السعيد صفي الدين محمد بن معد: هذا الكتاب عندي وقع إليّ من خراسان، وهو كتاب جيد مفيد وفيه غرائب. ورأيت مجلداً فيه كتاب النكاح حسن بالغ في معناه، ورأيت أجزاء مقطعة وعليها خطه إجازة لبعض من قرأ الكتاب عليه يتضمن الفقه والخلاف والوفاق...) (3).
2. مقدمات علم القرآن، وقد نقل منه السيد ابن طاووس في كتابه (سعد
ص: 179
السعود) في عدة من الموارد، فقال: « فصل فيما نذكره من الجزء الأول من مقدمات علم القرآن تصنيف محمّد بن بحر الرهني في معنى اختلاف القرآن» (1)، وفي مورد آخر: «فصل فيما نذكره عن محمّد بن بحر الرهني من الجزء الثاني من مقدمات علم القرآن من التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الأمصار» (2)، وغير ذلك من المنقولات في هذا الكتاب، كحديث الثقلين وبيان للرهني حوله، وغير ذلك، وذكره العلامة الحلي أيضاً (3).
3. الفروق بين الأباطيل والحقوق (4): وقد ذكر الشيخ الصدوق في علله ما نصه: «قال محمد بن علي مصنف هذا الكتاب قد ذكر محمد بن بحر الشيباني رضي الله عنه في كتابه المعروف بكتاب الفروق بين الأباطيل والحقوق في معنى موادعة الحسن بن علي بن أبي طالب علیه السلام لمعاوية فذكر سؤال سائل عن تفسير حديث يوسف بن مازن الراشي في هذا المعنى والجواب عنه» (5).
بل بعض الكتب تكشف بعناوينها عن إماميته وعقيدته السليمة، ومن ذلك:
1 - إثبات الإمامة (6).
ص: 180
2. الرد على من أنكر الاثني عشر ومعجزاتهم (1) .
3. الفرق بين الآل والأمة (2).
4. كتاب الحجة في إبطاء القائم علیه السلام (3).
5. كتاب الاتباع وترك المراء في القرآن (4).
6. المبسوط في الصلاة (5).
7. التكليف والتوظيف (6).
7. الطلاق (7).
9. المناسك (8).
وغير ذلك من الكتب التي تكفي عناوينها للاستدلال بها على إيمانه وعدم غلوه، وإن لم نطلع عليها (9)، وهذا مستخدم كثيراً عند أهل المعرفة، فيثبتون قِدم بعض المعتقدات بعناوين كتب لأصحاب الأئمة علیهم السلام مع أنه لم يصل إلينا شيء منها، ويدفعون سبق العامة في علم الأصول - مثلاً - بذلك، بل الكاتب نفسه
ص: 181
وظف ذلك في مناسبات مختلفة (1).
رابعاً: إن الكاتب لم يقبل ما صنعه النجاشي حينما قال: (قال بعض أصحابنا: إنه كان في مذهبه ارتفاع، وحديثه قريب من السلامة)، وهو يريد أن يطبق نفس ما صنعه بسبر روايات الرهني، فأراد أن يطعن فيه لإيراده لروايةٍ فيها طعن في زرارة، ولكنه ليس الوحيد الذي أورد رواية في قدح زرارة، كما أن إيرادها لا يعني عدم موثوقية قائليها، فإنها قد تصدر تقية، ولذلك يعلق بعض الفقهاء على هذه الروايات كالسيد الخوئي قدس سره بتعاليق متعددة (2)، وفي آخرها قال: «والجواب عن هذه الروايات: أنه لم يثبت صدور أكثرها من المعصوم علیه السلام، من جهة ضعف أسنادها. وأما ما ثبت صدوره، فلا بد من حمله على التقية وأنه - سلام الله عليه - إنما عاب زرارة لا لبيان أمر واقع، بل شفقة عليه واهتماماً بشأنه. وقد دلت على ذلك - مضافاً إلى ما عرفت من الروايات المستفيضة في مدح زرارة المطمأن بصدورها إجمالاً من المعصوم علیه السلام - صحيحة عبد الله بن زرارة المتقدمة في الروايات المادحة
ص: 182
فإنها قد دلت بصراحة على أن الإمام علیه السلام إنما عاب زرارة دفاعاً منه علیه السلام عنه و حفظا له من أذى الأعداء، وقد قال علیه السلام: إنه أحب الناس إليه وأحب أصحاب أبيه إليه حياً وميتاً) (1).
إذن ليسَ كل من أورد رواية في قدح أحد الخلّص استوجب الطعن في نفسه، وإلا لزم ذلك الطعن في الشيخ الكشي والنجاشي والطوسي وغيرهم إذ أوردوا رواية في زرارة وقد علق عليها السيد الخوئي قدس سره قائلاً: (أقول: لا يكاد ينقضي تعجبي كيف يذكر الكشي والشيخ هذه الرواية التافهة الساقطة غير المناسبة لمقام زرارة وجلالته والمقطوع فسادها ولا سيما أن رواة الرواية بأجمعهم مجاهيل) (2)، ومع ذلك السيد الخوئي قدس سره يجُلُّ هؤلاء الكبار رحمهم الله.
خامساً: حريٌ بالقارئ الالتفات إلى عدّة أمور تتعلق بالرهني وبمقاله (3) المسمى ب- (من قول مفضلي الأنبياء والرسل والأئمة والحجج صلوات الله عليهم أجمعين على الملائكة) حتى يتضح له عدم صحة ما ذكره الكاتب من أن الشيخ الصدوق وصف الرهني بالحشوي:
الأمر الأول: إن الرهني - من خلال ما نقله الصدوق في كتابه (علل الشرائع) - نقل أقوال طرفين مع حججهم، وهما: الطرف الأول وهم القائلون بتفضيل
ص: 183
الأنبياء والرسل والأئمة والحجج على الملائكة، والطرف الثاني هم القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء والرسل والأئمة والحجج.
والطرف الأول على قسمين:
- الأول: يعتقد بأن هاروت وماروت وإبليس من الملائكة، وهم عصاة.
- الثاني: يعتقد بأن هاروت وماروت ملكان، ولم يعصيا، وإبليس من الجن لا من الملائكة.
والرهني من القائلين بتفضيل الأنبياء والرسل والأئمة والحجج على الملائكة، لكن من أي القسمين هو فليس بظاهر.
الأمر الثاني: إنَّ الشيخ الصدوق رحمه الله لما كان من القائلين بتفضيل الأنبياء والرسل والحجج على الملائكة احتاج إلى أن يبين من أي قسم هو، فلم يعلق كثيراً على هذه المحاورة المنقولة إلا بما يتعلق بعدم تبنيه للقول بأن إبليس وهاروت وماروت ملائكة يعصون الله، فقال: (قال مصنف هذا الكتاب: إنما أردت أن تكون هذه الحكاية في هذا الكتاب وليس قولي في إبليس أنه كان من الملائكة بل (كانَ مِنَ الْجِنِّ) (1) إلا أنه كان يعبد الله بين الملائكة، وهاروت وماروت ملكان وليس قولي فیهما قول أهل الحشو بل كانا عندي معصومين، ومعنى هذه الآية ﴿وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (2) إنما هو ﴿وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) وعلى (ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ببابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ) (3) وقد أخرجت
ص: 184
في ذلك خبراً مسنداً في كتاب عيون أخبار الرضا علیه السلام)، وليس قوله (حكاية) يعني تضعيفاً، بل لدفع توهم قد يحصل لوضع الشيخ هذه المحاورة بين أبواب كانت في صدد ذكر العلل، فالمتأمل يجد الأبواب السابقة تحت عنوان (باب العلة التي ...) وهكذا التي بعدها، فلزم التنويه عن سبب إيراد هذه الحكاية في البين، لا ما ادعاه الكاتب من أن الشيخ الصدوق كلامه صريح في أن الرجل من الحشوية ولذا عبر بالحكاية!!
الأمر الثالث: أن الكاتب لَمْ يبين ما هو مراد الشيخ الصدوق رحمه الله من مفردة (حشو) فالحشوية، فإنه مصطلح استخدم عند المسلمين قديماً وحديثاً، ولم يكن يطلق ويُراد به معنى واحد، فأي المعاني يُريد الشيخ رحمه الله، فمثلاً تجد أن الشيخ المفيد رحمه الله قال: (فليس يجوز عندنا وعند الحشوية المجيزين عليه السهو أن يَكذب النبي صلی الله علیه و آله و سلم متعمداً ولا ساهيا) (1)، ولا يخفى على أحد أن الشيخ الصدوق وشيخه ابن الوليد من الذاهبين إلى القول بسهو النبي صلی الله علیه و آله و سلم، بل وعدّوا أول درجات الغلو هو نفي السهو عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم فهل يعني هذا أن الشيخ المفيد رحمه الله يرى أن الشيخ الصدوق وشيخه رحمهما الله من الحشوية بحيث لا يوثق بهم؟! لا، فلهذه المفردة استعمالاتٍ مختلفة، "ومعرفة المراد من كلمة (الحشوية) تبتني على القرائن الحافة بالكلام في كل مقام" (2).
ص: 185
الأمر الرابع: أن الشيخ الصدوق كان يترحم ويترضى على محمد بن بحر الرهني، فقد افتتح باباً في كتابه العلل بهذه العبارة (18 باب ما ذكره محمد بن بحر الشيباني المعروف بالرهني رحمه الله في كتابه من قول مفضلو الأنبياء والرسل والأئمة والحجج صلوات الله عليهم أجمعين على الملائكة)، فهنا الملاحظ أن الشيخ الصدوق ترحم عليه، وفي مورد آخر قد ترضى عليه فقال: «قال محمد بن علي مصنف هذا الكتاب قد ذكر محمد بن بحر الشيباني رضي الله عنه في كتابه المعروف بكتاب الفروق بين الأباطيل و الحقوق...» (1)، وللأعلام كلام حول ترضي وترحم الشيخ الصدوق على أحدٍ، فبعضهم استفاد أن كليهما لا يفيدان الوثاقة والمدح (2)، ومنهم من ذهب إلى أنهما يفيدان حُسن الرجل أو وثاقته، وهناك من ذهب إلى أن الترحم لا يفيد مدحاً ولكن الترضي يفيد ذلك، وهنا دعني أنقل لك مقالتين من مقالات الأعلام:
٭ المقالة الأولى: مقالة الوحيد البهبهاني رحمه الله .
عد الوحيد البهبهاني الترحم والترضي من أمارات الحسن حيث قال: «ومنها - من أمارات الوثاقة والمدح - ذِكر الجليلِ شخصاً مترضياً أو مترحماً عليه، وغير خفي حسن ذلك الشخص، بل جلالته» (3).
ص: 186
٭ المقالة الثاني: مقالة السيد محمد رضا السيستاني – دامت برکاته - .
«يتداول الترحم- أي قول: رحمه الله - والترضي - أي قول: رضي الله عنه - في كلمات الماضين بالنسبة إلى المشايخ وغيرهم من الرواة وأمثالهم، وقد اختلف في إفادتهما للمدح وعدمه. أما الترحم فالصحيح وفاقاً للسيد الأستاذ قدس سره[أي السيد الخوئي] أنه لا يفيد المدح، فإن طلب الرحمة من الله تعالى للغير - وإن لم يكن من الصالحين - أمر متداول على ألسنة المتشرعة، ولا يكاد يستفاد منه - حتى مع الإكثار منه - إلا كون المترحم له موضع عطف وعناية المترحم.
قال المحقق التستري (طاب ثراه) - ونعم ما قال - قد يترحم الإنسان على من كان معه خلّة وصداقة أو كان له عليه حق وشفقة، أو كان ذا كمال ومعرفة وإن لم يكن ثقة في الديانة.
قال النجاشي في أحمد بن محمد الجوهري: (رأيت هذا الشيخ وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً ورأيت شيوخنا يضعفونه فلم أروِ عنه شيئاً وتجنبته، وكان من أهل العلم والأدب القوي وطيب الشعر وحسن الخط، رحمه الله وسامحه). وأما الترضي فالصحيح أنه يدل على الجلالة التي هي فوق مستوى الوثاقة»
ثم ختم المبحث بعد بيان المستند بقوله: «والحاصل: أن الترضي ليس محض دعاء - كما قيل - بل يدل على التعظيم والتبجيل، فليتدبر» (1).
وهذا الذي ذهب إليه أغلب الرجاليين من أن الترحم أو الترضي يفيدان المدح
ص: 187
و خصوصا الترضي، وعلى فرض عدم دلالته على التوثيق صراحة، فلا أقل هو كاشف عن الحسن (1).
فالرهني على هذا إن لم يُصر إلى وثاقته فإنه قد يقال بحسنه لا أقل، وهذا ما ذكره الرجالي العلامة المامقاني في تنقيح المقال حيث قال: «كان ما سمعته من الشّيخ من كونه -[أي الرهني] - عالماً بالأخبار فقيهاً و ما سمعته من النجاشي من كون حديثه قريباً من السّلامة مدحاً مُدرجاً له في الحسان فالأظهر كون الرّجل من الحسان دون الضعفاء، والله العالم.
ولقد أجاد الحائري حيث قال ليت شعري إذا كان الرّجل بنفسه متكلما عالماً فقيهاً وحديثه قريباً من السّلامة، وكتبه جيّدة مفيدة حسنة فما معنى الغلوّ الّذى یرمی به وليس العجب من ابن الغضائري والكشي لأنّ كافة علمائنا رضوان الله عليهم من عدى الصّدوق رحمه الله وأضرابه عند أضرابهما غلاة لكن العجب ممّن يتبعهما في الطّعن والرمي بالغلوّ فما في الوجيزة من أنّه ضعيف هذا انتهى كلام الحائري.
وأقول ممّا يكذب نسبة الغلوّ إليه أنّ الصّدوق رحمه الله نقل في إكمال الدّين عن كتاب الرّجل في تفضيل الأنبياء والأئمّة صلوات الله عليهم على الملائكة فصلاً طويلاً ختامه أن محمداً صلی الله علیه و آله و سلم أفضل المخلوقات من الجن والإنس والملائكة، وفيه تصريح بأن محمداً صلی الله علیه و آله و سلم مخلوق من المخلوقات كغيره بنحو لا يشتبه على من طالعه وتصفّحه، وفيه شهادة على عدم غلوّه نحو ما يقوله الغلاة من القدم والحلول فلم
ص: 188
يبقَ إلا بمعنى المبالغة في تفضيل الحجج على غيرهم وعلو رتبتهم، وذلك اليوم من ضروريات المذهب، فنسبة الغلوّ القادح في الراوي إلى الرّجل غلط بحسب الظّاهر والعلم عند الله تعالى» (1)
سادساً: لن أعلق كثيراً على الرواية الأخرى التي علّق عليها بقوله (وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على ردها)، إلا على شيئين:
الشيء الأول: إن ادعاء إطباق المتقدمين والمتأخرين على ردها يكذبه كلام بعض الأعلام والأفذاذ في هذا، وإليك بعض الأقوال في هذا فتأمله:
- القول الأول: العلامة المجلسي رحمه الله قال حول هذه الرواية: (أقول: قال النجاشي بعد توثيق سعد والحكم بجلالته لقي مولانا أبا محمد علیه السلام ورأيت بعض أصحابنا يضعفون لقاءه لأبي محمد علیه السلام ويقولون هذه حكاية موضوعة عليه. أقول: الصدوق أعرف بصدق الأخبار والوثوق عليها من ذلك البعض الذي لا يعرف حاله ورد الأخبار التي تشهد متونها بصحتها بمحض الظن والوهم مع إدراك سعد زمانه وإمكان ملاقاة سعد له علیه السلام إذ كان وفاته بعد وفاته علیه السلام بأربعين سنة تقريباً ليس إلا للإزراء بالأخبار وعدم الوثوق بالأخيار والتقصير في معرفة شأن الأئمة الأطهار، إذ وجدنا أن الأخبار المشتملة على المعجزات الغريبة إذا وصل إليهم فهم إما يقدحون فيها أو في راويها بل ليس جرم أكثر المقدوحين من أصحاب الرجال إلا نقل مثل تلك الأخبار) (2)
ص: 189
- القول الثاني: الشيخ محمد إسماعيل المازندراني الحائري (1) ووافقه العلامة المامقاني على ذلك، وسأنقل كلام الشيخ المامقاني بطوله: (قد سمعت من النجاشي رحمه الله أنّه قال: رأيت بعض أصحابنا يضعّفون لقاءه- يعني لقاء سعد بن عبد الله هذا - لأبي محمّد علیه السلام، ويقولون: هذه حكاية موضوعة عليه، والله أعلم. وسمعت من العلّامة نقل ذلك عن النجاشي. وعلّق (2) الشهيد الثاني رحمه الله على قوله: حكاية موضوعة .. إلى آخر قوله: ذكرها الصدوق رحمه الله في إكمال الدين (3)، وأمارات الوضع عليها لائحة. انتهى.
و يعارضه ما ذكره المجلسي الأوّل - على ما نقله سبطه الوحيد رحمه الله (4)- وهو: أنّ الصدوق رحمه الله حكم بصحة الرواية، وكذا الشيخ رحمه الله، والخبر وإن كان من الآحاد، لكن لمّا تضمّن الحكم بالمغيّبات - و قد حصلت - نعلم أنّه من المعصوم .. إلى أن قال: علامة الوضع إن كان الإخبار بالمغيّبات، ففيه ما لا يخفى. وكيف، و فيه من الفوائد الجمّة ما يدلّ على صحته؟ . انتهى (5).
ص: 190
و قال ولده قدّس سرّهما في البحار (1) - بعد نقل الرواية، ونقل كلام النجاشي، ما لفظه -: «أقول: الصدوق رحمه الله أعرف بصدق الأخبار والوثوق عليها من ذلك البعض الذي لا يعرف حاله. وردّ لأخبار (2) التي تشهد متونها بصحتها [والطعن] (3) بمحض الظنّ والوهم- مع إدراك سعد زمانه علیه السلام وإمكان ملاقاته له علیه السلام أربعين سنة تقريبا (4)- ليس إلّا للإزراء بالأخبار، وعدم الوثوق بالأخيار، والتقصير في معرفة شأن الأئمّة الأطهار علیهم السلام؛ إذ وجدنا أنّ الأخبار المشتملة على المعجزات الغريبة إذا وصلت (5) إليهم، فهم إمّا يقدحون (6) فيها، أو في راويها، بل ليس جرم أكثر المقدوحين من أصحاب الرجال إلّا نقل مثل تلك الأخبار. انتهى»
وأقول: إنّ تحقيق حال هذه الحكاية يحتاج إلى نقلها، وهي وإن كانت طويلة يخرج بنقلها الكتاب عن وضعه، إلّا أنّ لقاءه وعدم لقائه أمر مهمّ؛ لأنّه بناء على عدم لقائه يكون ما يروي عنه عن أبي محمّد علیه السلام كذباً أو مرسلاً، فيلزمنا نقل الحكاية، وتذييلها بما قيل فيها، وما ينبغي أن يقال.
ص: 191
فنقول : قد روى الصدوق رحمه الله في إكمال الدين (1).... إلخ" حتى انتهى من نقل الرواية وعقب بعدها ب-: و أقول: انظر - يرحمك الله تعالى - إلى هذا الخبر الشريف، المتضمّن لفقرات تنادي بأعلى صوتها بصدورها من مصدر الإمامة، مثل الجواب المبهت للذي كفر في قضيّة إسلام الشيخين، الذي لا يهتدي إليه إلّا المطّلع على حقائق المطالب، ومثل الاستدلال لعدم ثبوت حق اختيار الإمام لغير الله سبحانه بالبرهان الملزم لكل كفار عنيد، وما أدري ما الذي أراده الشهيد الثاني رحمه الله من ظهور أمارات الوضع عليه، وكلّما أجهدت الفكر وكررت النظر فيه، طالباً أمارة تدلّ على وضعه، لم أجد إلّا ما ذكره ولد ولده في تعليقه على منهج أستاذه، والسيّد الداماد في رواشحه (2)، ومرجعه إلى أمرين:
- الأوّل: تضمّنه أنّ العسكري علیه السلام كان يكتب، والحجة- عجل الله تعالى فرجه و جعلنا من كلّ مكروه فداه- كان يشغله عن الكتابة، ويقبض على أصابعه،
ص: 192
وكان العسكري علیه السلام يلهيه بالرمانة من ذهب التي كانت بين يديه علیه السلام (1).
فإن أراد هذا، فهو عجيب إلى الغاية؛ ضرورة أنّ الأئمّة علیهم السلام لهم حالات في الصغر والكبر كحال سائر الصغار والكبار من البشر، يرتكبونها لأجل أن لا يخلو الجهّال فيهم، كما لا يخفى على الخبير البصير، ولذا ترى أنّهم مع هذه الارتكابات غلت فيهم فرقة، وما هذه القضيّة من الحجة إلّا نحو إبطاء الحسين علیه السلام [في الكلام] وتكرير النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لأجله التكبير، ونحو بكائه في المهد، وهز جبرئيل المهد، وإنشاده في ذلك الأشعار التي عرفتها المخدرات في الأستار، ونحو لعبه مع الصبيان، وفراره من يدي النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، واتباع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم إيّاه من هاهنا إلى هاهنا، ونحو ركوبه على ظهر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وهو في السجود .. و غير ذلك ممّا لا يقبل الإنكار والجحود.
- الثاني: ما تضمّنه من تفسير: (كهيعص) (2)، بأنّ الكاف: كربلاء .. إلى آخره (3). و هذا كسابقه عجيب أيضاً، ألم يعثر على الأخبار الناطقة بأنّ للقرآن ظهراً وبطنا، ولبطنه بطناً .. إلى سبعة أبطن، أو سبعين بطناً، سيما الحروف المقطعة في أوائل السور، مثل: ألم، المر، ألمص، حم، حم عسق، ق، ن .. وغير ذلك؛ فإنّها لا ظاهر لها، فلا بدّ وأن يكون تفسيرها من البطون ..؟! ألم يعثر على التفاسير
ص: 193
الواردة عنهم علیهم السلام في جملة من الآيات مثل: ما ورد (1) في تفسير: حم عسق (2)، من أنّ حم (3) حتم، و«ع» عذاب، و «س» سنون كسني يوسف، و«ق» قذف وخسف يكون في آخر الزمان بالسفياني وأصحابه.
و ما ورد (4) في تفسير: (ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ) (5) من أنّهم بنو أمية.
و ما ورد (6) في تفسير: (طه) (7) من أنّه طهارة أهل البيت علیهم السلام من الرجس.
و ما ورد (8) في تفسير: ﴿وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (9) (النجم) : النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، و (الشجر): علي علیه السلام.
و ما ورد (10) في تفسير: (وَ الْفَجْرِ) (11) من أنّه القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، واللّيالي العشر: الأئمة علیهم السلام، أوّلهم: الحسن علیه السلام، وآخرهم: الحسن علیه السلام، (و الشفع): فاطمة علیها السلام و علي علیه السلام، (و الوتر): ابنه الحسين علیه السلام (12).
ص: 194
وما ورد (1) في تفسير: (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (2) من أنّ الليل دولة تسري إلى دولة القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف.
[وورد (3) في تفسير: (وَالشَّمْسِ) أنّ الشمس أمير المؤمنين علیه السلام وَضُحاها قيام القائم علیه السلام] (4) (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (5) الحسنان، (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) (6) قيام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (7) حبتر (8) ودولته، (وَ السَّماءِ وَ ما بَناها) (9) هو النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم.
وما ورد (10) في تفسير: ﴿إِنَّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ) (11) من أنّ العنكبوت: الحمير ... و أمثال ذلك من البطون الكثيرة؟! أيجوز في عقلك أن یکون كل ذلك موضوعاً؟! حاشا .. وكلا!
مضافا إلى أنّ (كهيعص) ليس محكماً نعرف تفسيره الظاهري حتى نحكم
ص: 195
ببطلان ما يخالف ظاهره (1)، و لم يصل إلينا أيضا عنهم علیهم السلام في تفسيره ما يخالف هذا التفسير حتى نحكم بصحّة ذاك وبطلان هذا. نعم؛ في تفسير القمي (2) أنّ (كهيعص) أسماء الله مقطّعة .. أي الله (الكافي) (الهادي) (العالم) (الصادق) ذي الآيات العظام؛ لكن لم يتبيّن ترجيحه على هذا.
و بالجملة؛ فقول الشهيد الثاني رحمه الله: إنّ أمارات الوضع على الرواية لائحة ..!
من الغرائب، ولو أبدله بقوله: أمارات تدلّ على صحتها، لكان أولى) (3) انتهى كلام الشيخ المامقاني رحمه الله.
وبعد نقل كلام بعض الأعلام تجد أن ما ادعاه الكاتب ليس في محله من إطباق المتقدمين والمتأخرين على ردها كما اتضح لك (4).
ص: 196
الشيء الثاني: أن ما نقله من كلام السيد الخوئي قدس سره يريد الكاتب به الطعن في (محمد بن بحر الرهني)، والحال أنه لا يختلف عما ذُكر سابقاً في حال الرهني، فالسيد قال في شأنه: (لم يُوثق وهو متهم بالغلو)، والسيد لم يُثبت تهمة الغلو فيه- كما صنع الكاتب- فغاية ما يُقال أن الرهني مجهول عند السيد قدس سره، وقد تقدم الكلام في هذا فراجع.
سابعاً: إن الرواية القُمية تتميز بعدة مميزات، منها التشدد العام، ويدلنا على ذلك ما ورد من الطعن على (أحمد بن محمد بن خالد البرقي) حتى أنه طُرد من قم، وأيضاً ما ورد في غيره من الطعن (1)، وكذلك استثناءات كتاب (نوادر الحكمة)، إذ: (تكلم القميون فيه بالرد، فأكثروا واستثنوا من كتاب نوادر الحكمة ما رواه) (2)، وتفصيل ذلك في محله.
وأيضاً أن الرواية القميّة لها ميزة مخصوصة عند السفراء رضي الله عنهم فقد أنفذ الحسين بن روح النوبختي رضي الله عنه (السفير الثالث) إلى القميين كتاب التأديب وقال لهم: (انْظُرُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَانْظُرُوا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُكُمْ. فَكَتَبُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ كُلَّهُ صَحِيحٌ وَمَا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ إِلَّا قَوْلُهُ [فِي] الصَّاعِ فِي الْفِطْرَةِ نِصْفُ صَاعِ مِنْ طَعَامِ وَالطَّعَامُ عِنْدَنَا مِثْلُ الشَّعِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ) (3)
وهناك رأي مهم يشير إليه بعض العلماء الأفذاذ كالشيخ الأنصاري قدس سره
ص: 197
يتناسب مع ما نحن فيه، وهو أن الرواية وإن كان في سندها جماعة تُخرجها عن حد الاعتبار، إلا "أن اعتماد القميين عليها وروايتهم لها مع ما عرف من حالهم لمن تتبعها من أنهم لا يثبتون في كتبهم رواية في راويها ضعف إلا بعد احتفافها بما يوجب الاعتماد عليها جابر لضعفها في الجملة" (1)، والشيخ الصدوق قد نقلها، بل وعنون الباب بهذا العنوان (باب ما روي في نرجس أم القائم علیه السلام واسمها مليكة بن يشوعا بن قيصر الملك) مما يكشف عن اعتماده عليها (2).
ثامناً: الواضح من تعامل الكاتب مع الرواية على أنها كلام تاريخي كما في ملاحظاته المتنية – ستأتي- فهو يبني على أن هذا خبر تاريخي وهو كذلك، فإذا كان الأمر كذلك «فإنَّ محاكمة الحدث التاريخي بضعف سنده لهي على خلاف المنهج العلمي، إذ إنَّ أدوات التحقيق التاريخي تختلف عن أدوات التحقيق في القضايا الفقهية والعقدية، ففي الوقت الذي يتكئ فيه الفقيه على قوة السند - كما هو المنهج الذائع في العصر الأخير- لإثبات الحكم الشرعي، فإنَّ المؤرِّخ يعتمد لإثبات الحدث التاريخي منهج جمع القرائن، ولا يدور مدار السند صحةً وضعفاً.
وبالتالي فإذا جاءتنا رواية في أحد الكتب المعتبرة، ولم تتضمن محذوراً يمنع من قبول مضمونها، وكان المصدر من الكتب المتقدمة، ومؤلّفه من الأعلام المعروفين بالضبط والأمانة، فإنَّ كل هذه القرائن مما تكفي لاعتماد الرواية بحسب المنهج
ص: 198
التاريخي ، والبحث السندي حينئذٍ لا وجه له» (1)، وللسيد محمد سعيد الحكيم قدس سره بيانات مختلفة حول هذا، نقتبس منها اقتباسين:
- الاقتباس الأول: (لا يفترض في التاريخ أن يعتمد على اليقينيات ولا على الحجج الشرعية، وإلا لم يبقَ تاريخ، بل أحسن ما يتوقَّع أن يعتمد على الوثوق والاطمئنان)، ثم يقول: (أما أنَّ التاريخ لا يعتمد على اليقينيات ولا الحجج الشرعية فهو من البديهيات، فإنَّ اليقينيات في التاريخ غالباً أصول الوقائع المتواترة إجمالاً، كهجرة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وحروبه المشهورة، وحادثة السقيفة، وحروب أمير المؤمنين علیه السلام ومقتله، ونهضة الحسين علیه السلام، ونحوها على إجمالها، والتفاصيل ليست إلا في روايات متناثرة لا يتقيّد المؤرخون في إثباتها بالتواتر الموجب لليقين، ولا بالسند الذي يبلغ مرتبة الحجية الشرعية، وتكمن الحقيقة في تلك الروايات المتناثرة المتنافرة إجمالاً من دون أن تتميّز بسند حجّة) (2)، فالاعتماد إذن في الأخبار التاريخية على الوثوق والاطمئنان بالخبر، لا اليقين والقطع.
- الاقتباس الثاني: (فالأحاديث التي لم تشتمل على شرائط الحجية المصحّحة للفتوى في الأحكام الشرعية قد توجب الاطمئنان بلحاظ بعض القرائن، منها: تعدّد تلك الأخبار ودعم بعضها البعض، ومنها: ذكرها في كتب أهل التثبت والتمحيص ممن يحترمون أنفسهم وكتبهم، ومنها: ذكرها في كتب المخالفين
ص: 199
إذا كانت مخالفة لخطهم، إذ ليس من شأنهم أن يذكروا ما يخالف خطهم لولا وضوحه عندهم وفرضه عليهم بحقيقته، إلى غير ذلك من القرائن التي يدركها الباحث المنصف) (1)
إذن إذا كان الخبر التاريخي يدور مدار الوثوق والاطمئنان فإن تحصيله يكون من خلال ملاحظة بعض القرائن، ومن جملتها ما ذكره قدس سره وأضاف عليها في مورد آخر فقال: (لما كانت غالب روايات المقاتل مراسيل فالركون إليها إنَّما يكون بسبب سمو شخصية مؤلف المقتل في العلم والوثاقة وحسن الاختيار، كمقتل الشيخ الصدوق في أماليه، واللهوف لابن طاووس، ومثير الأحزان لابن نما، إلى غير ذلك) (2)، فسمو الناقل ومعروفيته بالعلم والوثاقة وحسن الاختيار كافية لاعتماد تلك المنقولات.
ص: 200
الكاتب لم يكتفِ بما سجله في سند الرواية من ملاحظات فسجل ملاحظات متنية أيضاً، وهي في المقام أهم من الملاحظات السندية، وأشار إلى أن الخبر يتضمن أموراً من شأنها توهين الخبر بل وتمنع من الركون إليه.
وهنا سأقدم بمقدمات ثم سأسرد الملاحظات التي سَجلها الكاتب على المتن، ومن ثَمَّ سأقوم بالتعليق عليها.
طريق معرفة التاريخ يختلف باختلاف الغاية له، فلو كانت الغاية هي المعرفة الإجمالية فإن تحقيقها يكفي بالاطلاع اليسير على بعض المصادر لتحصيلها، وأما لو كانت الغاية تفصيلية دقيقة فإن هذا لا يمكن سبره بمراجعة كتابين أو مراجعة الويكيبيديا فقط دون تفتيش أكثر في المصادر.
وتاريخ الدولة البيزنطية ليس بخارج عن هذا أيضاً، فلو أردنا معرفة إجمالية عن بعض حكام تلك الفترة لكفتنا مطالعة سريعة لبعض المصادر أو حتى الويكيبيديا، لكن هذا لن يعطيك الدقة والتفصيل، فالوقوف على تلك القراءة الإجمالية لا يُمكن أن يُكتفى بها للوصول إلى نتيجة للبت في بعض القضايا الحساسة، فالاختلاف
ص: 201
في التاريخ البيزنطي كبير، وخذ الأسماء والمقامات مثالاً لذلك، فقد كانت كثيرة ومختلفة، فمثلاً (الإمبراطور) كان الأقدمون من العرب يسمونه (الهَيْباط) (1)، وكذا تجد أن لفظة (روم) لها اختلاف عند العرب عنها عند الروم أنفسهم، فالروم عند العرب قبل الإسلام وبعده هم الرومان وخلفاؤهم البيزنطيون، والبيزنطيون عند أنفسهم روم؛ أي رومان (2)، وهذا التفريق -كما نص بعض المتخصصين- لم يدركه بعض المؤرخين المعروفين (3).
الحقبة التي نتحدثُ عنها وتتناسب مع الأحداث هي من سنة (842-868م) والتي توافق (228 - 254ه-) بحيث يكون فيها الإمام الهادي علیه السلام موجوداً، إذ أنَّ كاتب الكتاب كما تشير الرواية هو الإمام الهادي علیه السلام، وولادة الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف كانت في سنة (255ه-) أو (256ه-).
وهنا عندما نتحدث عن إمبراطورية الروم فإن الإمبراطورية المعنِية والمناسبة هي الإمبراطورية البيزنطية لا بقية الإمبراطوريات التي لم يكن بعضها قد تأسس بعد أو لم تكن تدين بالنصرانية، وهو مخالف للمعطيات التي وردت في الرواية. بالتالي ففي هذه الحقبة الزمانية يكون لدينا إمبراطوران، أحدهما ميخائيل الثالث
ص: 202
الذي حكم من (842 - 867م) وبمقتله انتهت الأسرة العمورية في الدولة البيزنطية، ثم بدأت فترة المقدونية البيزنطية على يد باسل الأول (باسليوس) في (867م) وهو الإمبراطور الآخر في هذه الفترة إلى (886م) (1).
إذن كعنوان إمبراطور عام لدينا اثنان، وهما المناسبان أن تكون هذه الأحداث في زمانهما.
٭ الملاحظة الأولى: عدم وجود إمبراطور تتناسب معه الأوصاف.
قال الكاتب: «أن السيدة نرجس علیها السلام عرّفت نفسها في هذا الخبر (مليكة بنت يشوعا بن قيصر الروم) أي أنها حفيدة ملك الروم في ذلك الزمن وكان عمرها 13 سنة، ومن هنا فإنه بتتبع هذه الخيوط وجد أن الإمبراطور المعني في ذلك الزمان وهو (ميخائيل الثالث)، ولا يمكن أن يكون هو المعني فلا يمكن أن يكون له أحفاد حيث كان صغيراً وقت استلامه الحكم، ثم أن جدها – أي القيصر - أراد أن يزوجها من ابن أخيه، والحال أن ملك التوفيل أو ثيوفيلوس - والد ميخائيل الثالث- لم يكن له أبناء إلا ميخائيل الذي كان صغيراً، ولو كان له أولاد بقينا مع الإشكال السابق وهو عدم إمكانية وجود أحفاد له في هذه الفترة الوجيزة.
نعم احتمل بعضهم أن المقصود ليس إمبراطور الروم بل وزيره والمدير الفعلي لشؤون الحكم وهو بارداس الذي لُقب بالفعل بقيصر، إلا أن هذا الاحتمال يسقط بملاحظة ما ورد في متن الرواية من تعريف نرجس علیها السلام بأنها: (مليكة بنت يشوعا
ص: 203
بن قيصر ملك الروم)، إذ التعبير بالملك يقطع المجال أمام صرف قيصر إلى بارداس الذي لم يكن ملكاً في يوم من الأيام بل كان تحت الإمبراطور ميخائيل الثالث، بل يفتح المجال أمام احتمال آخر، وهو أن واضع هذه الرواية لم يكن يميز بين الملك والقيصر ومن هنا توهم أن بارداس كان ملك الروم» (1).
» التعليق (2):
الكاتب ذكر ثلاثة احتمالات:
1. أن قيصر ملك الروم هو ميخائيل الثالث، وهو بعيد، إذ أنه لصغر سنه لا يمكن أن يكون جدّاً، كما أنه لا إخوة له.
2. أن قيصر ملك الروم هو بارداس، وهو بعيد؛ لأنه لم يكن ملكاً يوماً من الأيام، بل هو تحت الامبراطور ميخائيل الثالث.
3. أن راوي الرواية لم يكن يميز بين الملك والقيصر فالرواية تكون ضعيفة بل موضوعة. (3)
ونحن لا نسلم بانحصار الاحتمالات في ما ذكره الكاتب بل يمكن احتمال رابع وخامس ، وهما كالآتي:
الاحتمال الأول: أن كلمة (قيصر ملك الروم) فيها إضافة بين (قيصر) و (ملك)، فيكون القيصر شخصاً، وهو بارداس، والملك شخصاً آخر وهو الامبراطور میخائيل الثالث، و على هذا لا مانع من أن يكون بارداس هو المعني، بل هو المتعين
ص: 204
كما سيأتي.
الاحتمال الثاني: أن (قيصر) و (ملك الروم) واحدٌ وهو بارداس، ولكن (قيصر ملك الروم) مغاير عن الامبراطور، وهذا يحتاج إلى توضيح أمرين:
الأمر الأول: في بيان الفرق بين (القيصر) و (الإمبراطور).
من يقرأ في تاريخ الدولة البيزنطية والمعاجم البيزنطية يجد أن هناك فرقاً بين الإمبراطور والقيصر، وهذه مراتب مختلفة، بل وتتغير المهام والوظائف وتتفاوت بتغير الحيثيات، ولذا فإن جملة ممن تعرض لهذه الفترة من الباحثين والكُتاب خلط بين هذه الرتب فجاء إلى الفترة الزمانية المحددة أعلاه، فنظر إلى أن هذه الفترة أغلبها تتناسب مع فترة ميخائيل الثالث (228 - 254ه-)، والحال أن عمر مخيائيل الثالث لما قُتل لا يتجاوز عمر (30 سنة)، فكيف يكون جَدّاً بل وله حفيدة يبلغ عمرها (13 سنة)!! مما انتهى به أن يجعل هذا قرينة على وضع الرواية - كما صنع الكاتب هنا - والحال أن هذه المراتب مختلفة عندهم، بل أنك تجد عندهم حتى البطريق الخصي أعلى مرتبة من البطريق العادي، وكان للخصيان ثمانية ألقاب ولهم شاراتهم الخاصة (1)، وكذلك الأمر بالنسبة لمراتب المُلْك.
ففي عهد الإمبراطور قسطنطين الأول حمل أبناؤه لقب قياصرة، ولما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، شرقي وغربي، صار عندنا الرومان في روما، والبيزنطيون في القسطنطينية، فمن ترأس القسم الغربي صار اسمه (قيصر)، ومن ترأس القسم الشرقي صار اسمه (إمبراطور) ، وقد مرت عدة تغيرات في استعمال
ص: 205
هذين اللقبين حتى صار لقب قيصر يُمكن أن يمنحه الإمبراطور لمن يخلفه تحت ظروف معينة (1).
من هنا يُمكن أن نقرب الصورة بهذا التقريب:
- (الإمبراطور): هو أعلى الهرم، والمراد منه ملك الملوك (2)، وما يؤيد هذا المعنى ما كان من مراسلات بين ألفنس بن سانشس والمعتمد العباسي، حيث إن هناك مراسلة جرت بينهما، فكتب ألفنس كتاباً وصدره بهذا الخطاب: (من الأنبيطور (3) ذي الملتين الملك المفضل أذفنش بن شانجه إلى المعتمد بالله سدد الله آراءه وبصره مقاصد الرشاد. سلام عليك) فرد عليه المعتمد بكتاب و صدره بهذا: (من الملك المصور بفضل الله المعتمد على الله محمد بن المعتضد بالله أبي عمرو بن عباد إلى أذفنش بن شانجه الذي لقب نفسه بملك الملوك وسماها بذي الملتين قطع الله بدعواه. سلام على من اتبع الهدى) (4)، فهو قد عرف نفسه بالإمبراطور فرد عليه بأنك تسمي نفسك بملك الملوك! إذن هذه المفردة يُراد بها ملك الملوك.
ص: 206
- (قيصر): وهو لقب يطلق على خصوص من يكون مرشحاً لأن يصبح الامبراطور (1)، وذَكر بعضٌ آخر أن (قيصر) هو اللقب الأعلى لأبناء الإمبراطور، ولكن حدثت بعض الاستثناءات لبعض القياصرة، وفي الحقبة التي نحن بصدد الحديث عنها كان الاستثناء هو بارداس (Bardas) خالُ الإمبراطور ميخائيل الثالث (2).
إذن يتضح من خلال هذا أن الإمبراطور البيزنطي لأغلب هذه الحقبة هو ميخائيل الثالث، وكثيرٌ من الكُتَّاب يتعجل نتيجة عدم التمييز بين هذه الرتب فيظن أن القيصر والإمبراطور شَخْصٌ واحِدٌ، وقد صرح بعض الباحثين أن كثيراً من المؤرخين لم يكونوا يستخدمون مفردة (قيصر ملك الروم) استعمالاً صحيحاً، بل لم يكن المؤرخون العرب متفقين على استخدامهم لهذه المفردة، فاليعقوبي وخليفة بن خياط وابن كثير وغيرهم يستخدمون لقب (قيصر ملك الروم) للإشارة إلى الإمبراطور البيزنطي، وكذلك استخدم الطهراني هذا اللقب للإشارة إلى الإمبراطور البيزنطي .... وأما ابن الأثير وابن الجوزي فيستخدمانه على وجهين، تارة للإشارة إلى قيصر روما وتارة أخرى إلى الإمبراطور البيزنطي.
ص: 207
وأخيراً ورد هذا اللقب عند المسعودي وحاجي خليفة ليشيرا به وبصورة صحيحة إلى قيصر الرومان (1).
وبعد بيان الفرق نقول: إن حصر الكاتب الاحتمالات في ثلاثة غير تامٍ، فبالتالي يسقط استبعاده لبارداس عن أن يكون جدّاً للسيدة نرجس علیها السلام .
وعلى الرغم من عدم بقاء الكلام الذي بنى عليه الكاتب استبعاده إلا أنني سأستعرض بعض الأمور التي تتعلق بشخصية القيصر في تلك الفترة وهو (بارداس)، وذاك للإشارة إلى بعض القرائن التي تبين أن هذه الشخصية قريبة جداً مما ذكر في وصف القيصر كما في الرواية الواردة.
الأمر الثاني: في استعراض موجز لسيرة القيصر بارداس Bardas.
حينما توفي ثيوفيل (842م) - والد ميخائيل الثالث - لم يكن ابنه ووريثه في الحكم ميخائيل الثالث قد تجاوز السادسة من عمره، فتولت أمه ثيودورا الوصاية عليه، وتألف مجلس لمساعدتها، ويتألف المجلس من أخوين لها و هما بارداس وبتروناس، وخالها سيرجوا نكبتياتس، ومن أقرب الناس إليها تيوكتستوس (2)، فهؤلاء جميعاً كانوا أصحاب سلطة. وكانت ثيودورا تدير ملف الحكم هذه الفترة لمدة أربعة عشرة سنة (842-856م) وقد عُرفت بالإمبراطورة، وفي هذه الفترة نشب خلاف داخل المجلس بين بارداس و تيوكتستوس، فقد قام الثاني بالتسلط على مقاليد الأمور وتوجيه سياسة الإمبراطورية بعد أن أبعد منافسه بارداس وأصبح
ص: 208
بذلك المستشار الوحيد للإمبراطورة، ووصل الحال بثيودورا أنها كانت تتحكم حتى في حياة الإمبراطور الشخصية (1)، وأقرت عبادة الأيقونات التي كانت محاربة من قبل زوجها سابقاً.
ثمَّ بعد فترة من الزمن وبعد بلوغ ميخائيل الثالث سن الرشد (856م)، قام كبير الحجاب بإقناع الإمبراطور بإرجاع بارداس إلى القصر، وبالفعل أرجعه ووقف معه، وقام بإخراج والدة الإمبراطور، وأصبح هو المساعد للإمبراطور، وكان له دور فعال جداً في تلك الفترة، ونتيجة ما قام به صار يترقى في المناصب عاماً بعد عام، ثم في عام (862م) تم إعلانه قيصراً (2)، وقد كانت الحكومة في (856- 866م) تحت سيطرة بارداس ويظهر من خلال بعض المؤرخين أنه كان مؤهلاً لأن يحكم العرش، وقد كان له أولاد وأخ في السلطة، أما الأخ فهو بتروناس، وقد كان جنرالاً توفي في سنة (865م)، وأما الأولاد فأحدهما يُسمى (أغناطيوس) وقد كان ذا منصب، والآخر لم يذكر اسمه. وله ابنتان، الأولى (إيرينا) والأخرى لم يعرف اسمها (3)، وكان ابن بارداس من زوجته الأولى متزوجاً في سنة 857م، وسلم منصباً في 858م، وأما الآخر (أغناطيوس) قيل أنه كان مراهقاً في تلك الفترة. وقد
ص: 209
قُتل بارداس في سنة 866م على يد باسل الأول بمساعدة ميخائيل الثالث (1).
وينقل المؤرخون أن العشر سنوات من حكم بارداس كانت هي الأفضل في كل تاريخ الدولة البيزنطية (2) وقد أثنى المؤرخون في العصور الوسطى وكذلك المعاصرون على إنجازاته العظيمة، ومنها نهضة العلم والمعارف في زمنه إذ كان محباً للأدب والدراسات العلمية، وقد كان قبله ثيوفيلوس مهتماً بإرجاع التفوق الفكري للقسطنطينية على العالم الشرقي وصار يحث على تعلم اللغات، فقام بارداس بتتميم هذا المشروع بتأسيسه لمدرسة ماغنورا المشهورة، وقام بجمع العلماء وأصحاب العقول. وكانت أيضاً من بين إنجازاته أنه انتصر في سلسلة من الحملات العسكرية على الحدود الشرقية، وغير ذلك من الأعمال والمهارات والمواهب التي كان يملكها ولا ينكرها حتى أعداؤه. وعلى الرغم مما كان له من إنجازات إلا أنه كان له أعداء داخل البلاط ومنهم البطريرك . (3)
ص: 210
إشارة: بعد هذا العرض الموجز جداً لسيرة بارداس نجد عدّة أمور تؤكد ما ورد في الرواية التي وردت حول السيدة نرجس علیها السلام، ومن جملة تلك الأمور:
1. أن القيصر بارداس كان صاحب السلطة الأول في الدولة، وهذا يتناسب لأن يكون هو الآمر الناهي، وهو شخصية لها حضورها على الصعيد العسكري أيضاً، وهو الذي يحرك الجيش كيفما شاء، وهذا يشترك مع ما ورد في الرواية من أن (قيصر ملك الروم) كان قد أمر بما أمر وكان الجميع ينصاع له، ثم أن الرواية بينت أنه سيسير جيشاً، ومن موجز سيرته يظهر أن الكلمة كلمته وهو صاحب حملات عسكرية على العالم الشرقي.
2. أن القيصر بارداس كان له اهتمام بالعلوم والمعرفة، فقد بنى المدارس والمعاهد وجلب العلماء من مختلف البلدان، وهذا يفسر معرفة السيدة نرجس علیها السلام للغة العربية وهو كما ذكر في الرواية: (قَالَ بِشْرٌ : فَقُلْتُ لَهَا: اَلْعَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَبِّيٌّ! قَالَتْ: بَلَغَ مِنْ وُلُوعِ جَدِّي وحُبِّهِ إِيَّايَ عَلَى تَعَلُّمِ اَلْآدَابِ، أَنْ أَوْعَزَ إِلَي امْرَأَةٍ تَرْجُمَانٍ لَهُ، فِي اَلْاِخْتِلَافِ إِلَيَّ، فَكَانَتْ تَقْصُدُنِي صَبَاحاً وَمَسَاءً وَتُفِيدُنِي اَلْعَرَبِيَّةَ، حَتَّى اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا لِسَانِي، واسْتَقَامَ).
3. أن القيصر بارداس له ولد وكان متزوجاً في 857م.
وغير ذلك من القرائن الكثيرة التي جَمعتها والتي يمكن أن تَجد ما يلتقي معها في التاريخ البزنطي وتتناسب مع ما ذُكر في هذه الرواية.
ص: 211
٭ الملاحظة الثانية: عدم وجود حرب كما في الرواية، وكانت فترة سلام.
قال الكاتب: «أن الرواية تحدثت عن حرب حصلت بين المسلمين والروم (أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أن جدك سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثم يتبعهم)، ولو رجعنا إلى كتب التاريخ فإننا لا نجد قتالاً حصل بين الطرفين في تلك الحقبة، بل نقل التاريخ حصول صفقة فداء للأسرى بين المسلمين والروم كان عدة أسارى المسلمين أربعة آلاف وأربعمئة وستين نفساً، والنساء والصبيان ثمانمئة، وأهل ذمة والمسلمين مئة نفس، وهذا في أيام الواثق، ويدل هذا على أن عصر ميخائيل الثالث كان عصر سلام ومهادنة، وتجدد القتال في عهد من جاء بعد ميخائيل، أما الفترة التي يفترض فيها حصول الحرب وهي الممتدة من 250 ه- إلى 254ه- ، فلم أجد نقلاً تاريخياً يثبت حصول مثل هذا القتال بين الروم والمسلمين، ولا أظن أن حرباً من قبيل هذه الحرب يعرض المؤرخون عن حكايتها إذ كل مقتضيات النقل موجودة».
وهذه الملاحظة مبنية على مقدمات ثلاث:
- المقدمة الأولى: الرواية نصت على تسيير جيوش لقتال المسلمين.
- المقدمة الثانية: عصر ميخائل الثالث كان عصر سلام.
- المقدمة الثالثة: لم يجد نقلاً تاريخياً يثبت حصول حرب في تلك الحقبة، ومقتضيات النقل موجودة.
- النتيجة: هي تعارض ما في الرواية مع النصوص التاريخية المدونة، فبالتالي تكون قرينة على وضع الرواية.
ص: 212
» التعليق:
إنَّ الكلام فعلاً في المقدمة الثانية والثالثة، فنحن لا نُسلم بهما البتة، وإليك بيان ذلك:
مناقشة المقدمة الثانية والثالثة:
لقد استدل الكاتب على أن عصر ميخائيل الثالث كان عصر سلام بمقدمتين:
المقدمة الأولى: حصول الفداء بين المسلمين والروم بعدد كبير في تلك الفترة.
- المقدمة الثانية (المطوية): حصول الفداء وبهذا العدد الكبير يعني حصول سلام ومهادنة بين الطرفين.
- النتيجة: أن تلك الفترة كانت فترة سلام ومهادنة بين الطرفين.
ولكن المقدمة الأولى هنا والنتيجة تبعاً لها لا يُمكن التسليم بها لأمرين:
الأمر الأول: أن المقدمة الأولى أعم من المدعى، فحصول فداء في فترة معينة قد تعني صلحاً ومهادنة في تلك الفترة، لكن لا يعني ذلك أن كل الفترة كانت فترة صلح ومهادنة، فهل طوال 25 سنة - فترة حكم ميخائيل الثالث- كانت صلحاً؟! مع أنَّ الحادثة التي ذكرها كانت بداية حكم ميخائيل الثالث باعتبار أن الواثق حكم في هذه المدة (842 - 847 م / 227 - 232ه-) ، وكلامنا في فترة متأخرة من حكم ميخائيل الثالث.
الأمر الثاني: إنَّ التاريخ قد سجل الكثير من الحروب التي وقَعت في عهد ميخائيل الثالث مما يعني أن فترة الصلح المدعاة لم تدم إلى آخر فترة ميخائيل (1)،
ص: 213
وإليك عشراً من هذه الحروب:
1. في سنة 242ه- - 856م:
وفيها خرجت الروم من ناحية سميساط بعد خروج عليّ بن يحيى الأرمنيّ من الصائفة، حتّى قاربوا آمد، وخرجوا من الثغور والجزريّة فانتهبوا، وأسروا نحواً من عشرة آلاف، وكان دخولهم من ناحية أرين (1) قرية قريباس (2) ثمّ رجعوا فخرج قريباس، وعمر بن عبد الله الأقطع، وقوم من المتطوّعة في آثارهم، فلم يلحقوهم، فكتب المتوكّل إلى عليّ بن يحيى الأرمنيّ أن يسير إلى بلادهم شاتيا. (3)
2. في سنة 245ه- - 859م:
وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا، وسبوا، وأسروا خلقاً كثيراً (4)، وغزا عليُّ بن يحيى الأرمنيُّ الصائفة، ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها،
ص: 214
فبعث إليهم ملك الروم بطريقا يضمن لكلّ رجل منهم ألف دينار (1) على أن يسلّموا إليه لؤلؤة، فأصعدوا البطريق إليهم، ثمّ أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلّموا لؤلؤة والبطريق إلى بلكاجور (2)، فسيّره إلى المتوكّل فبذل ملك الروم في فدائه ألف مسلم. (3)
3. في سنة 246ه- - 860م:
وفيها غزا عمرو بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة عشر ألف رأس، وغزا قريباس، وأخرج خمسة آلاف رأس، و غزا الفضل بن قارن بحراً في عشرين مركبا، فافتتح حصن أنطاكية، وغزا بلكاجور، فغنم، وسبى. وغزا عليُّ بن يحيى الأرمنيُّ، فأخرج خمسة آلاف رأس، ومن الدوابّ، والرَّمك، والحمير نحوا من عشرة آلاف رأس.
وفيها كان الفداء على يد عليّ بن يحيى الأرمنيّ، ففودي بألفين وثلاثمائة وسبعة وستّين نفسا (4).
4. في سنة 248ه- - 862م:
في هذه السنة أغزى المنتصر وصيفا التركيّ إلى بلاد الروم، فأمر المنتصر بإحضار وصيف، فلمّا حضر قال له: قد أتانا عن طاغية الروم أنّه أقبل يريد الثغر، وهذا أمر
ص: 215
لا يمكن الإمساك عنه، ولست آمنه أن يهلك كلّ ما مرّ به من بلاد الإسلام، ويقتل ويسبي، فإمّا شخصت أنت، وإمّا شخصت أنا. ولمّا سار وصيف كتب إليه المنتصر يأمره بالمقام بالثَّغر أربع سنين يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأتيه رأيه. وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيماً بالثغر الشامي، فدخل بلاد الروم، فافتتح حصن فرورية. (1)
5. في سنة 249ه- - 863م:
في هذه السنة غزا جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصناً، ومطامير، واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المسير إلى بلاد الروم، فأذن له، فسار في خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع عظيم من الروم بمرج الأسقفّ، فحاربه محاربة شديدة قتل فيها من الفريقين خلق كثير .
ثمّ أحاطت به الروم، وهم خمسون ألفاً، وقتل عمر و ممّن معه ألفان من المسلمين في منتصف رجب، فلمّا قتل عمر بن عبيد الله خرج الروم إلى الثغور الجزريّة، وكلبوا عليها وعلى أموال المسلمين وحرمهم، فبلغ ذلك عليَّ بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميّافارقين في جماعة من أهلها ومن أهل السلسلة، فنفر إليهم، فقتل في نحو من أربع مائة رجل وذلك في شهر رمضان. (2)
وقد ولَّى المستعين علي بن يحيى الأرمني أرمينية في هذه السنة، وكان أمرها قد اضطرب، فصار إلى ميافارقين وأغارت الروم وتوسطت بلاد المسلمين فاجتمع
ص: 216
قوم من أهل ذلك البلد إلى علي بن يحيى فكلموه في لقاء الروم، ورفعوه فخرج معهم، فلقي عسكر الروم فقاتل قتالاً شديداً، فقُتل وأخذ الروم بدنه، وعدوه فتحاً عظيماً لما كان قد أشجاهم. (1)
6. في سنة 250ه- - 864م:
فيها وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين من كابل، وغزا الصائفة فيها بلكاجور (2).
7. في سنة 251ه- - 865م:
وفيها كانت لبلكاجور غزوة فتح - فيما ذكر - فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين. (3)
8. في سنة 252ه- - 866م:
وفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين سار خفاجة إلى سرقوسة، ثمّ إلى جبل النار، فأتاه رسل أهل طبرمين يطلبون الأمان، فأرسل إليهم امرأته وولده في ذلك، فتمّ الأمر، ثمّ غدروا، فأرسل خفاجة محمّداً في جيش (4) إليها، ففتحها وسبى أهلها. (5)
ص: 217
9. في سنة 253ه- - 867م:
وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين سار خفاجة من بلرم إلى مدينة سرقوسة وقطانية، وخرّب بلادها، وأهلك زروعها (1) وعاد، وسارت سراياه إلى أرض صقلّيّة، فغنموا غنائم كثيرة. (2)
10. في سنة 254ه- - 868م:
وفي سنة أربع وخمسين ومائتين سار خفاجة في العشرين من ربيع الأوّل، وسيّر ابنه محمّدا على الحرّاقات، وسيّر سريّة إلى سرقوسة فغنموا، وأتاهم الخبر أنّ بطريقاً قد سار من القسطنطينيّة في جمع كثير، فوصل إلى صقلّيّة، فلقيه جمع من المسلمين فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم الروم، وقتل منهم خلق كثير، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة، ورحل (3) خفاجة إلى سرقوسة فأفسد زرعها، وغنم منها، وعاد (4) إلى بلرم، وسيّر ابنه محمّداً في البحر، مستهلّ رجب، إلى المدينة غيطة (5)، فحصرها، و بثّ العساكر في نواحيها، فغنم وشحن مراكبه بالغنائم، وانصرف إلى بلرم في شوّال. (6)
وهناك حروب قبل هذه السنوات وبعدها، مما يؤكد أن فترة السلام المدعاة غير
ص: 218
صحيحة، بل الحقبة التي نتحدث عنها كان القتال فيها مستمراً.
الأمر الثالث: إنَّ الكاتب ذكر حرباً رُجّح كونها المقصودة في الرواية، ولكنه منعها لأنَّ النصر فيها للبيزنطيين، ولكن تسليمه بوقوع الحرب -سواء انتصر فيها المسلمون أم خسروا- يدفع إشكاله السابق -بأنَّ الفترة فترة سلام.
ثم إنَّ الرواية لم تنص أصلاً على أنَّ النصر كان للمسلمين، وهذا هو نص الرواية: (فَقَالَتْ أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَيْلَةً مِنَ اَللَّيَالِي أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرِّبُ جُيُوشاً إِلَى قِتَالِ اَلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا ثُمَّ يَتْبَعُهُمْ فَعَلَيْكِ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ مُتَنَكِّرَةً فِي زِيِّ اَلْخَدَمِ مَعَ عِدَّةٍ مِنَ اَلْوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا فَفَعَلْتُ فَوَقَعَتْ عَلَيْنَا طَلَائِعُ اَلْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَمَا شَاهَدْتَ وَمَا شَعَرَ أَحَدٌ بِي بِأَنِّي اِبْنَةُ مَلِكِ اَلرُّومِ)
ووقوع الأسر لا يلزم منه حرب كبرى، فقد يكون الأسر نتيجة مناوشات أو سرايا، وكذا لا يلزم منه الانتصار الكامل في الحرب، فقد يقع الأسر حتى في حرب لم يكن النصر حليف الطرف الخاسر، ونص الرواية لا يفيد أن الأسر كان بعد المعركة النهائية أو بعد انتهائها، غاية ما يفيد أنها علیها السلام لما خرجت مع الوصائف في طريق معين خرجت عليهم طلائع المسلمين.
ومن هنا يظهر أنَّ المقدمة الثانية والثالثة التي قامت عليهما هذه الملاحظة لم تتما فعليه تسقط هذه الملاحظة.
ص: 219
٭ الملاحظة الثالثة: معارضة رواية الرهني بروايات أخرى.
قال الكاتب: «ورد في الرواية أنها رومية وأن الذي اشتراها هو الإمام الهادي علیه السلام وأنه اشتراها لابنه الإمام العسكري علیه السلام بل وبلّغها بأنها ستكون أُم الإمام المهدي علیه السلام وكل هذه الجزئيات تخالف ما ورد من طوائف أخرى من الروايات المتعددة المخارج تخالف ما تقدم مخالفة صريحة:
٭ طائفة من الروايات تدل على أنها نوبية.
٭ طائفة أخرى تدل على أنها ولدت في البيت العلوي.
٭ وأخرى تدل على أنها كانت ملكاً الحكيمة علیها السلام.
وأخرى تدل على أن حكيمة وهبتها للإمام العسكري علیه السلام.
فهل من المنطق أن تردّ كل هذه الروايات على تعدد مصادرها واختلاف مخارجها لأجل رواية الرهني التي فيها ما فيها من الضعف والوهن؟!» (1)
فالدعوى تبتني على:
- المقدمة الأولى: إنَّ طائفة من الروايات تخالف الجزئيات المذكورة في رواية الرهني.
- المقدمة الثانية: إنه عند التعارض يصار إلى التساقط أو الترجيح.
- المقدمة الثالثة: إنَّ رواية الرهني مليئة بالضعف والوهن، فلا تصلح للمعارضة.
- النتيجة: تُقدم تلك الروايات على رواية الرهني ولا يمكن قبولها.
ص: 220
» المناقشة:
والمناقشة فعلاً في المقدمتين الأولى والثالثة:
النقاش في المقدمة الثالثة:
وأبدأ النقاش بهذه المقدمة باعتبار أنَّ الكاتب قد فرغ وسلّم من كون رواية الرهني مليئة بالضعف والوهن وحينها لا تصلح إلى المعارضة، ولكن هذا الأمر مدفوع من خلال ما تقدم عَرضُه، فالملاحظات التي سجلها الكاتب قد تم نقاشها، وحينها لا يبقى للضعف والوهن المدعى وجه فنبقى نحن والمقدمة الأولى.
النقاش في المقدمة الأولى:
وقد ادعى الكاتب وجود طوائف من الروايات تتعارض مع رواية الرهني، ولكن الواقع أن بعض ما ادعاه لا ربط له بأصل المطلب هنا، أو معارض بروايات أخرى - غير رواية الرهني - وفي بعض آخر فإنَّ جهة التعارض محل تأمل وغير ذلك، وإليك بيان ذلك:
1. طائفة من الروايات تدل على أنها نوبية.
ادعى الكاتب وجود طائفة من الروايات التي تدل على أنها نوبية، بينما ليس عندنا ولا رواية تُصرح بأن أم الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف نوبية، ولم يذهب إلى هذا أيُّ من علمائنا الذي بحثوا سيرة أهل البيت علیهم السلام، وأما ما ذهب إليه الكاتب من خلال الرواية المروية عن علي بن جعفر رضي الله عنه مع الإمام الرضا علیه السلام فهي بعيدة عن المدعى وسيتضح ذلك عند مناقشة النتيجة التي أراد الخروج بها. ولو سُلِّمَ بها فإنها ستكون معارضة برواية الرهني، وكذلك بصحيحة ابن شاذان: (حدثنا محمّد بن عبد الجبار
ص: 221
قال: قلت لسيدي الحسن بن علي علیه السلام يا ابن رسول الله -جعلني الله فداك- أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك ؟ فقال علیه السلام: إن الإمام وحجة من بعدي ابني سميّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكنيّه الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه، قال: ممن هو یا ابن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم ألا إنه سیولد و يغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر .... إلخ) (1)، وهذه الصحيحة تؤكد ما ورد في رواية الرهني.
2. طائفة أخرى تدل على أنها ولدت في البيت العلوي.
ومستند هذا قول نقله صاحب كتاب (إثبات الوصية): (روى لنا الثقات من مشايخنا أن بعض أخوات أبي الحسن علیه السلام علي بن محمد علیه السلام كانت لها جارية ولدت في بيتها وربّتها تسمّى نرجس فلما كبرت وعبلت دخل أبو محمّد علیه السلام فنظر إليها فأعجبته...) (2)، وكذلك ما ذكره صاحب كتاب (عيون المعجزات) حيث قال: (قرأت في كتب كثيرة بروايات كثيرة صحيحة، أنه كان لحكيمة بنت أبي جعفر محمد بن علي علیهم السلام جارية ولدت في بيتها وربتها، وكانت تسمى نرجس، فلما كبرت دخل أبو محمد فنظر إليها...إلخ) (3)، والظاهر أن الثاني اعتمد على الأول. وهذه الأقوال معارضة بروايات عديدة تؤكد أن أم الإمام علیها السلام كانت سبية:
منها : ما نقله النعماني في الغيبة عن أحمد بن محمد بن سعيد المعروف ب- (ابن
ص: 222
عقدة) (1) قال: (حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبَلَةَ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ علیه السلام فَقَالَ لِي: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقُلْتُ: سُرُورٌ مِنْ عَمِّكَ زَيْدِ خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ سَبِيَّةٍ، وَهُوَ قَائِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، فَقَالَ: كَذَبَ لَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، إِنْ خَرَجَ قُتِلَ) (2)، فظاهر أن هناك ارتكازاً في الأذهان حتى عند الزيدية من أن إحدى الصفات في القائم بالأمر هي أنه ابن سبية، وزيد الشهيد كان ابن سبية لذلك كانوا يعتقدون بأن زيداً هو القائم، فيما نرى أنها لا تنطبق عليه كما هو واضح.
ومنها: ما نقله النعماني في الغيبة عن بسنده إلى ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ علیه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي، هَلْ صَاحَبَكَ أحَدٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: أكُنْتُمْ تَتَكَلَّمُون؟ قُلْتُ: نَعَمْ، صَحِبَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُغِيرِيَّةِ (3). قَالَ: فَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قُلْتُ: كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ
ص: 223
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ هُوَ الْقَائِمُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْمَهُ اسْمُ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم وَاسْمَ أَبِيهِ اسْمُ أَبِ النَّبِيِّ، فَقُلْتُ لَهُ فِي الْجَوَابِ إِنْ كُنْتَ تَأْخُذُ بِالْأَسْمَاءِ فَهُوَ ذَا فِي وُلْدِ الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ لِي إِنَّ هَذَا ابْنُ أَمَةٍ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَليٍّ، وَهَذَا ابْنُ مَهِيرَةٍ (1) يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ علیه السلام: فَمَا رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟ فَقُلْتُ: مَا كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ ابْنُ سَبِيَّةٍ يَعْنِي الْقَائِمَ علیه السلام (2).
ص: 224
وغير هذه الرواية من الروايات التي تؤكد أن الإمام علیه السلام ابن سبية، وكان ذلك هو المرتكز في الأذهان حتى قبل ولادته علیه السلام.
3. الطائفة الأخيرة تدل على أنها ملك للسيدة حكيمة علیها السلام وقد وهبتها الإمام العسكري علیه السلام.
وهذه الطائفة هي ما ورد في رواية أوردها الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه (كمال الدين)، وکان من ضمن الرواية هذا المقطع: (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي فَأَقْبَلَ يَحْدِقُ النَّظَرَ إِلَيْهَا فَقُلْتُ لَهُ يَا سَيِّدِي لَعَلَّكَ هَوِيتَهَا فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ ... قَالَتْ حَكِيمَةُ فَلَمْ ألبَثْ أَنْ رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَزَيَّنْتُهَا وَوَهَبْتُهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام وَجَمَعْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي مَنْزِلِي فَأَقَامَ عِنْدِي أَيَّاماً ثُمَّ مَضَى إِلَى وَالِدِهِ....) (1)، وهذه الرواية تعارضها مع رواية الرهني غير مستقر، ولا أقل يمكن أن نقول إن صحيحة ابن شاذان تؤكد أنها رومية ابنة قيصر ملك الروم، وأما كون حكيمة تملكتها أم لم تتملكها فذاك شيء آخر، وسيأتي منا معالجة هذه الإشكالية قريباً.
ص: 225
إنَّ الكاتب قد حكم على رواية قدوم أم الإمام المهدي علیها السلام من بلاد الروم بأنها من نسج الخيال لما قدمه من مشاكل في السند والمتن تمنع من الاعتماد عليها والركون إليها، وأضاف هنا شيئاً لم يذكره سابقاً وهو أن هذه الرواية تتقارب كثيراً مع أسطورة نُسجت حول شخصية (شيرين و فرهاد)، وهذا يتناسب مع بيئة الرهني التي عاش فيها، وكذلك خلفيته الأدبية.
ثم أشار إلى أنها تتشابه كثيراً مع قصة مطابقة لها وهي قصة وصول شاه زنان بنت يزدجرد للإمام الحسين علیه السلام، والتي رواها العلامة المجلسي رحمه الله في بحاره.
الخلاصة:
1. رواية الرهني تعاني من مشاكل سندية ومتنية، وهي أقرب لأن تكون من نسج الخيال.
2. رواية الرهني تتقارب كثيراً مع أساطير ملحمة (شيرين و فرهاد).
3. تتشابه كثيراً مع قصة وصول (شاه زنان بنت يزدجرد) للإمام الحسين علیه السلام التي نقلها العلامة المجلسي رحمه الله.
ص: 226
» التعليق:
هنا عدة أمور:
الأمر الأول: اندفاع المشاكل السندية والمتنية.
دعوى أن الرواية تعاني من مشاكل سندية ومتنية قد تم دفعها في القسمين السابقين، فتقريبها لأن تكون من نسج الخيال مدفوع بما بُين سابقاً، بل لمن يتتبع القضية بشكل أكبر يتعجب من كون الرواية تتوافق مع التاريخ البيزنطي الداخلي المنقول بشكل كبير جداً، وهذه المناقشة منّا ليست مبنية على التوسع وإنما هي مقصورة فقط على ما أورده الكاتب من إشكاليات، وإلا فإنَّ ما يمكن أن يجده الباحث من توافق كبير جداً.
والتعليق على هذا الأمر سيكون ببيان عدة أشياء:
ليست هناك حاجة ماسة إلى عرض هذا الموجز لدفع هذا التوهم، ولكن مع ذلك سأسرد شيئاً من هذه الأسطورة فقط ليتحقق قارئ هذه السطور من هذه الدعوى.
في أواخر القرن السادس الميلادي كان هناك أحد ملوك الفرس - أي قبل الفتح الإسلامي - يُدعى (خسرو)، وكانت له زوجة تُدعى (شيرين)، ويتفق أغلب المؤرخين على أصل الحكاية، وقد تداول الرواة هذه الحكاية إلى أن نظمها الشاعر الفارسي فردوسي صاحب ملحمة الشهنامة (940 - 1020 م) وقد كتب فيها
ص: 227
أيضا الشاعر الآذري كنجوي ملحمة شعرية بعنوان (خسرو وشيرين)، وقد كتبها أيضا الشاعر الأوزبكي نوفوي في عام 1484 م، بعنوان (فرهاد وشيرين)، وكذلك ألف المستشرق علييف كتاباً بعنوان (خسرو وشيرين في آداب شعوب الشرق)، وفي العصر الحديث ألف الشاعر والمسرحي التركي ناظم حكمت مسرحية بعنوان (حكاية حب، أو فرهاد وشيرين)، وفي أذربيجان ألف الشاعر فورغوف مسرحية بعنوان (فرهاد و شيرين)، وغير هؤلاء أيضا ممن كتب حول هذه الأسطورة.
و استقى الشاهنامة معلوماتها من الكتب التاريخية التي عنيت بتاريخ الدولة الساسانية، وكذلك مما يتردد على ألسنة العامة والخاصة متصلاً بهذه القصة، وقد ألبسها الفردوسي ثوباً حماسياً يتفق والهدف الأسمى الذي ألف من أجله الشاهنامة.
أما نظامي الكنجوي (ت 608 ه- على الغالب) فقد عالج القصة بطريقة مختلفة وإن اعتمد على نفس المراجع التي اعتمد عليها الفردوسي، فقد أخضعها لخياله الخصب ولفكره الرومانتيكي ولقدرته على الإبداع والخلق القصصي، فجاءت قصته أكثر تفصيلاً وأوسع مجالاً من قصة الفردوسي، كما أضفى عليها حلة من العاطفة ليبعدها عن الجو الحماسي الذي يقلل من قيمتها كعلاقات إنسانية سامية.
وهذه القصة في منظومة نظامي تدور على ثلاثة أشخاص:
٭ خسرو - كسرى: وهو شخصية تاريخية حقيقية تولى عرش الدولة الساسانية فترة من الزمن.
٭ شيرين: فتاة أرمنية وولية العهد في إحدى الولايات الأرمنية، وهي شخصية حقيقية .
ص: 228
٭ فرهاد: مهندس بارع تولی شق قناة بنفسه بين هضاب الجبال التي تفصل بين مراعي الملك الإيراني والقصر الذي أقامت فيه شيرين من المراعي إلى القصر، وهذه شخصية خيالية ليس لها وجود في الحقيقة.
ملخص القصة كما جاءت في منظومة نظامي:
رأى خسرو أنه يحب فتاة جميلة تُدعى شيرين، وأنها تعيش في بلاد الأرمن والمتاخمة لحدود دياره، وبدأ حبها في قلبه دون أن يراها، ونفس الشعور تولد لدى شيرين، إذ أحبت خسرو دون أن تراه، وتمنى كلُّ حبيبٍ أن يلتقي بحبيبه، فتوجهت شيرين نحو المدائن - عاصمة الساسانيين - كما توجه خسرو نحو بردع - عاصمة الأرمن - وحدث أن التقى العاشقان في الطريق حول بحيرة، ولكنهما لم يتحادثا لأنهما لم يتعارفا، وإن شعر كل منهما بعاطفة قوية تجذبه صوب الطرف الآخر.
لما وصل كل منهما إلى وجهته لم يجد كل منهما الآخر، فانتظرت شيرين مَقدمَ خسرو، وأمرت ببناء قصر لها في منطقة كرمنشاهان لتقيم فيه حتى يعود حبيبها، ولكن خسرو كان على خلاف مع أبيه حيث اتهمه الوشاة بالعمل على عزل والده واغتصاب العرش. أخيراً أرسل خسرو لشيرين رسالة يدعوها إلى العودة إلى بلاد الأرمن حتى يتم لقاء العاشقين هناك فسارعت شيرين بالعودة.
بعد فترة من اللقاء لامت شيرين خسرو على تركه دیاره وحثته على العودة لاستعادة مكانته هناك مما أغضبه منها، وسافر إلى قيصر الروم الذي أحسن وفادته وزوجه من ابنته مريم، وأقسم خسرو ألا يتزوج سواها. وهنا اعترى العلاقة بين خسرو وشيرين نوع من الفتور والغيوم.
ص: 229
لم يمض وقت طويل حتى علم خسرو بنبأ وفاة أبيه فتوجه بمساعدة جيش قيصر الروم نحو بلاد فارس واستطاع أن يعتلي عرش الدولة الساسانية.
هنا فكرت شيرين في الذهاب إليه على الرغم من وجود زوجته المسيحية مريم، وسافرت فعلاً إلى كرمنشاهان واستقرت في قصرها، وبدأ كل من العاشق والعاشقة يحاولان الاتصال ولكن بنوع من التحفظ والكتمان وذلك لوجود زوجة خسرو كحائل يقف بين العاشِقَين.
ظل الحالُ كذلك إلى أن وقع أحد المهندسين البارعين ويُدعى فرهاد في حب شيرين، وكانَ يمر كل يوم من أمام قصرها لعله يحظى بنظرةٍ منها، ولتكتحل عيناه برؤية محياها الجميل، وكانت شيرين تفكر في ذلك الوقت في طريقة تنقل بها اللبن من المراعي إلى القصر عبر الجبال، فعرضَت الأمر على فرهاد، الذي استمع إليها وهو في غيبوبة العشق، فوافقها على ما اقترحته من ضرورة شق قناة بين الجبال.
علم خسرو بهذا الاتفاق ولم يعترض عليه، ظنا منه أن فرهاد لن يقوى على حفر هذه القناة، بل إن خسرو شجع فرهاد على حفرها واعتبر شق القناة هو المهر الذي يقدمه ليتزوج شيرين. بعد فترة من العمل الشاق اقترب فرهاد من الانتهاء من شق القناة، وهنا فكر خسرو في مكيدة يقضي بها على فرهاد، فأرسل إليه من يخبره بأن شيرين ماتت منذ فترة، وأنه لم يشأ أن يخبره قبل ذلك حتى لا يسيطر عليه الحزن، وهنا ألقى فرهاد بنفسه منتحراً من فوق الجبل، حيث إن الهدف الذي يسعى إلى وصاله قد ودع الدنيا، فعليه أن يموت فقد ينعم بوصالها في الحياة الآخرة.
وهكذا نجحت حيلة خسرو للتخلص من غريمه، وخلا له الجو مرة أخرى
ص: 230
لكي يحاول وصال عشقه مع شيرين وبخاصة أن زوجته مريم توفيت في هذا الوقت، فذهب يعرض على شيرين حبه، ولكنها بطبيعة الأنثى تمنعت وتدللت، مما أغضبه، وجعله يسارع بالزواج من فتاة إصفهانية اسمها شكر (أي السكر) مما أغضب شيرين مرة أخرى، وندمت على أنها صدته وتدللت عليه .
وبعد طول صد و هجران استطاع الحبيبان خسرو وشيرين أن يلتقيا وينعما بالوصال والزواج، وعاشا فترة من الهدوء والاستقرار العاطفي ولكن هذا الهدوء لم يستمر طويلاً ، إذ استطاع المغرضون تأليب ابن خسرو ضد أبيه فقتله، وطمع هذا الابن في الاقتران بزوجة أبيه شيرين، فوافقت على شرط أن يسمح لها حضور جنازة زوجها، وأن تنزل معه إلى القبر لتُلقي عليه النظرة الأخيرة قبل أن يوارى التراب، وتم لها ما أرادت، وهناك استلت سكيناً كانت تخفيها داخل ملابسها وطعنت نفسها وماتت بجواره، مُنهية بذلك قصة حُبٍ ما زالت تتردد بين الإيرانيين حتى اليوم (1).
لقد ذكر الكاتب أن الرواية - أي رواية الرهني- تتقارب كثيراً مع أسطورة (شيرين وفرهاد)، وهذا يعني أنه يرمي إلى الأسطورة التي ذكرها نظامي الكنجوي، (ت 608ه- على الغالب) في القرن السادس الهجري لأنها هي الأسطورة التي خُلقت فيها شخصية (فرهاد) (2) من قبل نظامي، وهذه الأسطورة بهذا النحو
ص: 231
جاءت بعد الرواية التي نتحدث عنها بما لا يقل عن قرنين من الزمان، فإن كان هناك انتحال لحادثة معينة فالأولى أن تكون هذه الأسطورة هي التي أخذت من رواية الرهني لا العكس. ثم لو أنه أراد الأسطورة بما هي أي (خسرو وشيرين)، فإن الأسبق في نظمها وإشاعتها وإلباسها ثوبا حماسياً حتى صارت أسطورة هو الفردوسي في (الشاهنامة) (1)، والفردوسي قد وُلد في (940 م - 329ه-)، أي أن الرواية قد حُدِّثَ بها قبل ولادة الفردوسي حتى، فإن كان هناك ثمة تقارب فاللاحق هو الذي يأخذ من السابق لا العكس.
مضافاً لما ذكرناه من أن الرواية أسبق من أسطورة (شيرين وفرهاد) فإننا لا نجد لا في الأسطورة - وخصوصاً ما صاغه النظامي (2)- ولا القصة الحقيقية خيوطَ تشابهٍ بين الرواية والأسطورة، وهو واضح للقارئ فلا نحتاج إلى مزيد بيان.
الخلاصة:
نجد أن دعوى التقارب الكبير بين رواية الرهني مع أسطورة (ملحمة شيرين و فرهاد) دعوى غير صحيحة، ولا نجد لذكرها وجهاً غير أن هذه الأسطورة تُعد أشهر أسطورة ملحمية في بلاد فارس والكاتب أراد أن يربط الرهني واهتمامه بالأدب وانتشار كتبه في خراسان بهذه الأسطورة بنحوٍ عجيبٍ غير علمي!!
ص: 232
إن تشابه التاريخ مع أسطورة ما لا يلزم منه كذب التاريخ. إذ من الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون هو عدم التفريق بين الأسطورة والخرافة، فيجعلون الأسطورة تساوي الخرافة وبالتالي تكون هذه القضية مكذوبة بتمامها. بينما الباحثون والكتاب في الميثولوجيا أكدوا على وجود فروق رئيسة بين الأسطورة والخرافة، وتناول ذلك كله هنا يخرج عن المقصد، لذلك سأعرض موجزاً وأحيل إلى مصادر لمن أراد الاستزادة (1).
٭ الفرق بين الأسطورة والخرافة (2).
إن مادة الأسطورة هي الحدث التاريخي، فهي تدور حول حدث تاريخي، سواء كان من صنع الإنسان أو الطبيعة أو غير ذلك، ولا يُسمى هذا الحدث حدثاً إلا إذا كان له تأثير حقيقي في مجرى الحياة البشرية، والأسطورة هي القصة الشعرية التاريخية المصفوفة زجلاً أو شعراً، وهي موضوعة في قالب ذي إيقاع شعري يتضمن الحدث المراد تأريخه، وتضاف إليه إضافات لم تذكر في التاريخ فتكون هذه الإضافات خيالية غير واقعية، ومنها ما كان غرضه التعليم أو الوعظ أو العلم أو تخليد الصالحين والأبطال وغير ذلك.
ص: 233
أما الخرافة فهي سرد من نسيج الخيال ولا علاقة لها بالواقع ولا بأي حدث واقعي، ولذلك قال بعضهم: «نستطيع أن نقول إن الحكاية الخرافية لا تعتمد الحدث أساساً لها، وإنما تعتمد البطل» والخرافة قد تنسج لغايات أخلاقية أو توجيهية كالحث على التزام وغير ذلك.
إذن الأسطورة تشترك مع الخرافة في جهة وتختلف معها في جهة، أما جهة الاشتراك فهي أن كليهما يحتوي على الإضافات والمحسنات والزيادات، فقد تصاغ كنص روائي أو تصاغ كشعر واستعمال المحسنات اللفظية لإيصال الرسالة والغاية من الأسطورة أو الخرافة، وتكون سهلة التداول والحفظ. وأما جهة الاختلاف والافتراق فإن الخرافة قائمة على خيال في خيال، وأما الأسطورة فإن المادة الأساسية لها التاريخ ثم تضاف إليها المحسنات والزيادات.
بعد أن اتضح أن الأسطورة ليست كلها كذباً بل هي قائمة على الحدث التاريخي مع زيادات، لذا فإن كثيراً من الباحثين عدّ الأسطورة مصدراً من مصادر التاريخ، ومن هنا قال بعضهم: «وعلى كل حال ستبقى الأسطورة أحد مصادر الاستدلال في البحث التاريخي وإن لم تكن هي التاريخ» (1)، وقال آخر: «هناك علاقة ثنائية بين الأسطورة والتاريخ تسمح ببعض الخيال في الوصف التاريخي، كما تسمح ببعض الواقعية في الوصف الأسطوري» ومن هنا شرع جملة من الباحثين في العالم الشرقي وفي العالم الغربي لتقعيد منهجية وبيان وسائل مختلفة لاستخلاص المادة التاريخية من الملاحم والأساطير، بل وطبقوها على بعض الأساطير ك- (ملحمة جلجامش)
ص: 234
(1)، وما نحن فيه أيضاً، وقد وردت أسطورة مشهورة تشابه أحداثها الأحداث التي وردت في رواية الرهني، وهي ملحمة تُعرف ب-(ديجينيس اكريتيس)، وسأعرضها كما عرضها من اختص في هذا المجال.
٭ الملحمة اليونانية الأشهر (ديجينيس اكريتيس).
ظهرت ملحمة بيزنطية فائقة الشهرة في القرن العاشر الميلادي، وقد حظيت باهتمام واسع من قبل الباحثين والدارسين، وهذه الملحمة كُتبت في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي (2).
موجز مختصر جداً لهذه الملحمة:
في القرن التاسع الميلادي ولدت أميرة جميلة بيزنطية تُدعى (إيرين) أي السلام بالإغريقية، وقد تنبأ العرافون بأن أميراً عربياً سيخطفها بعد أن يترك دينه ليصير على دينها ليحظى بالزواج منها، فقد شغفته حباً. كلما تقدمت في العمر ازدادت
ص: 235
جمالاً حتى صار القمر يخجل من جمالها، ولما بلغت سن الثانية عشرة أبصرت لوحة للحب متمثلة في صورة صبي يضرب بسهمه، وأخبرتها إحدى وصيفاتها بأن هذا الصبي كان قوياً، مسلحاً بسهامه وبالنار، وكان سيد العبيد، يحمل بين يديه الأوراق والحبر مسجلاً أسماء ضحاياه من العشاق، فضحكت الأميرة وقالت: أنا لست خائفة منه!!
نامت تلك الأميرة في تلك الليلة فتمثل لها الحب في منامها، وكان قد أرهقها وهي تتوسل الرحمة منه حتى جلست فزعة من نومها. في يوم من الأيام حينما كان أبوها مسافراً في مهمة أو منفياً، خرجت إيرين مع خادماتها ووصيفاتها إلى الريف للتنزه، ويا للصدف، حيث كان هناك ثمة أمير عربي اسمه موصور، كان أميراً لبلاد الشام (1)، فخطفها هي ووصيفاتها.
ثم يُذكر في القسم الثاني من الملحمة أن أمها كانت قد تأثرت تأثيراً شديداً لفقدها فقد كانت البنت الوحيدة بين خمسة أبناء، فصارت تلتاع من أسى الغياب والفراق.
ثم ذهب الإخوة استجابة لنداء الأم واستغاثتها للقاء الأمير العربي، وبذلوا قصارى جهدهم لإرجاعها إلى أمها المكلومة. لما رأى الأمير جهدهم وإصرارهم ولباقتهم في الكلام حيث كان يجيد لغة الروم، ثم بعد كلام ومبارزة وسجال طويل قال: إنني لم أهزم في حرب خضتها قط ولكني أنهزم الآن لجمال أختكم، وإني أطلب
ص: 236
الزواج منها حتى لو تطلب أن أترك ديني وأعتنق المسيحية. كل ذلك حتى يُصبح زوجاً شرعياً لها.
عقدوا السلام وعادوا للديار بسلام، فرحبت زوجة القائد بعودة أولادها بصحبة أختهم، وفرحت بذلك، ثم تزوج الأمير بالأميرة، إلى أن رزقا بطفل سمي بباسيل وكما سمي أيضا ب- (ديجينيس) لأنه وُلد من عرقين، فقد اتحد العرق العربي والرومي، وسُمي أكريتيس حتى يجلب السلام إلى الحدود.
علمت أم الأمير بما صنعه ولدها فبعثت له رسالة عتاب شديدة اللهجة، وقد تأثر الأمير لهذه الرسالة فأخبر حبيبته بذلك، فقررت الرحيل معه على مضض، وأخبرت إخوتها عن نية الأمير.
خاض الأمير ومن معه معركة ميئوس منها بعد أن شق لهم الطريق عبر القوات الرومانية التي حاصرتهم، وفي طريق عودته ظهر أسد مكشراً عن أنيابه وشاهراً لبراثنه فقام الأمير بقتله وأخذ أنيابه وبراثنه هدية للأمير الصغير باسيل. عند عودة الأمير التقى مرة أخرى بمعشوقته إيرين فأغمي عليهما من فرط الفرح.
خاتمة (1): كبر ديجينيس ونشر السلام على الحدود، فاستدعاه الإمبراطور وعينه رئيس الأساقفة ومنح امتيازات الملك وغير ذلك من المزايا.
الإشارة الأولى: إنَّ هذه الملحمة ظهرت بعد رواية بشر بن سليمان للرهني،
ص: 237
وفي هذه الملحمة تشابه كبير مع الرواية، وهي تُعد أسطورة من الأساطير البيزنطية المشهورة التي ترتبط بتلك الحقبة، نعم تحتاج إلى دراسة شاملة ليتضح ما هو أسطورة وما هو تاريخي.
الإشارة الثانية: إنَّ الملحمة نفسها قد تعرضت إلى شخصية باسيل وقد كان الإمبراطور الفعلي في تلك الحقبة هو باسيل المقدوني الذي كان السبب في إبعاد جد ديجينيس وإخراجه عن الإمبراطورية.
الإشارة الثالثة: أن المؤرخ البلجيكي هنري جريجوار تحقق من المعركة التي عُنيت وقد خاضها الأمير بالجيش الرومي فقال: إن هذه تتناسب مع معركة عمر بن عبيد الله الأقطع أمير ملطية. وقد هزم فيها وقتل على يد القائد الروماني بتروناس (1).
الإشارة الرابعة: إنّ الرؤيا والمنام وكلام العرافين حول اختطاف الأميرة مشابه بنحوٍ ما لما ورد في رواية بشر بن سليمان للرهني.
الخلاصة: يمكننا القول أيضا إنَّ هذه الأسطورة تتضمن تاريخاً، وهناك ملامح واضحة ذُكرت في التاريخ وتتوافق مع رواية الرهني، بل إنَّ هذه الملحمة يمكن أن تدفع مقالة القائلين كيف لأميرة تختطف أو تُفقد ولا يكون لها ذِكرٌ ولا يعرفُ عنها أحد، فبتأمل بسيط يُقال إن الفترة التي نتحدث عنها صاحبت فترة انتهاء الدولة العمورية ونهوض المقدونية، ومن الطبيعي أن الدولة الأولى لا تشيع خبر فقدان الأميرة لكي لا يظفر بها أعداؤهم ويتخذوها ورقة ضغط ضدهم، وأما الدولة
ص: 238
الثانية فلن تهتم لأميرة من الأسرة الحاكمة السابقة، نعم يبقى ما قد يتناقل داخلياً، فيمكن أن يُدعى أن قضيتها قد ظهرت بعد فترة من الزمن على شكل أسطورة قام كُتابها بإظهار البطولة والفضل للبيزنطيين على العرب، كما هي عادة هذا النوع من الملاحم.
ص: 239
شاه زنان بنت يزدجرد هي زوجة سيد الشهداء الحسين علیه السلام ووالدة الإمام زين العابدين علیه السلام ولهذا أشار أبو الأسود الدؤلي في قوله:
وإِنَّ غُلاماً بَيْنَ كِسْرَى وهَاشِمٍ ٭٭٭ لَأَكْرَمُ مَنْ نِیطَتْ عَلَيْهِ التَّمَائِم (1)
وقد ذُكر في زمان وصولها وكيفية ذلك عدّة روايات وأقوال، وأشهر تلك الأقوال هو ما اعتمده الشيخ المفيد والشيخ الطبرسي وابن الفتال النيشابوري - رَحِمَهُم اللهُ- وغيرهم (2) من أنها جيء بها في زمن أمير المؤمنين علیه السلام بعد واقعة الجمل لما وَلَّى حُرَيْثَ بْنَ جَابِرِ الْحَنَفِيَّ جَانِبَاً مِنَ الْمَشْرِقِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنْتَيْ يَزْدَجَرْدَ بْنِ شَهْريَارَ بْنِ كِسْرَى، فَنَحَلَ ابْنَهُ الْحُسَيْنَ علیه السلام شَاهْ زَنَانَ مِنْهُمَا فَأَوْلَدَهَا زَيْنَ الْعَابِدِينَ علیه السلام وَنَحَلَ الْأُخْرَى مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرِ فَوَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ (3) .
ص: 240
وأمّا الرواية التي يشير لها الكاتب فهي ما نقله العلامة المجلسي رحمه الله عن الخرائج، وهنا لا بُد أن ننقل الرواية:
رُويَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: لَمَّا قَدِمَتِ ابْنَةُ يَزْدَجَرْدَ بْن شَهْريَارَ آخِرِ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَخَاتَمِتِهِمْ عَلَى عُمَرَ وَأُدْخِلَتِ الْمَدِينَةَ اسْتَشْرَفَتْ لَهَا عَذَارَى الْمَدِينَةِ وَأَشْرَقَ الْمَجْلِسُ بِضَوْءِ وَجْهِهَا وَرَأَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ: آهْ بِيرُوزْ بَادْ هُرْمُزَ . فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ: شَتَمَتْنِي هَذِهِ الْعِلْجَةُ، وَهَمَّ بِهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ علیه السلام: لَيْسَ لَكَ إِنْكَارٌ عَلَى مَا لَا تَعْلَمُهُ. فَأَمَرَ أَنْ يُنَادِيَ عَلَيْهَا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام- لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ وَإِنْ كُنَّ كَافِرَاتٍ وَلَكِنِ اعْرِضِ عَلَيْهَا أنْ تَخْتَارَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَتَزَوَّجَ مِنْهُ وَتَحْسُبَ صَدَاقَهَا عَلَيْهِ مِنْ عَطَائِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ الثَّمَنِ. فَقَالَ عُمَرُ: أفْعَلُ. وَعَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ تَخْتَارَ فَجَالَتْ فَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى مَنْكِبِ الْحُسَيْنِ علیه السلام فَقَالَ: چه نام داری اى كنيزك؟ يَعْنِي مَا اسْمُكِ يَا صَبِيَّةُ قَالَتْ: جَهَانْشَاهُ. فَقَالَ: بَلْ شَهْرَ بَانُوَيْهِ. قَالَتْ: تِلْكَ أُخْتِي. قَالَ: راست گفتى. أَيْ صَدَقْتِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ: احْتَفِظْ بِهَا وَأَحْسِنْ إِلَيْهَا فَسَتَلِدُ لَكَ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ بَعْدَكَ وَهِيَ أُمُّ الْأَوْصِيَاءِ الذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ. فَوَلَدَتْ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ زَيْنَ الْعَابِدِينَ علیه السلام.
وَيُرْوَى أَنَّهَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا بِهِ وَإِنَّمَا اخْتَارَتِ الْحُسَيْنَ علیه السلام لِأنَّهَا رَأتْ فَاطِمَةَ علیها السلام وَأَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ يَأْخُدَهَا عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهَا قِصَّةٌ وَهِيَ أَنَّهَا قَالَتْ رَأَيْتُ فِي النَّوْم قَبْلَ وُرُودِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و آله و سلم دَخَلَ دَارَنَا وَ قَعَدَ مَعَ الْحُسَيْنِ علیه السلام وَخَطَبَنِي لَهُ وَزَوَّجَنِي مِنْهُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ كَانَ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِي وَمَا كَانَ لِي خَاطِرٌ غَيْرُ هَذَا، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ رَأَيْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم قَدْ
ص: 241
أَتَتْنِي وَعَرَضَتْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ الْغَلَبَةَ تَكُونُ لِلْمُسلِمِينَ وَإِنَّكِ تَصِلِينَ عَنْ قَرِيبٍ إِلَى ابْنِي الْحُسَيْنِ سَالِمَةً لَا يُصِيبُكِ بِسُوءٍ أحَدٌ، قَالَتْ: وَكَانَ مِنَ الْحَالِ أَنِّي خَرَجْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ مَا مَسَّ يَدِي إِنْسَانٌ (1).
هذه هي الرواية التي عناها الكاتب فيما نقله العلامة المجلسي عن الخرائج، وهنا عدة أمور:
الأول: أن الشيخ المجلسي يظهر منه أنه لم يعتمد الرواية التي تنص على الإتيان بالسيدة شاه زنان في زمن عمر، بل علّق على هذه الجزئية بقوله: ثم إن هذا الخبر-[الذي يُفيد بأنها جيء بها في زمن عمر] يخالف الخبر السابق - [أي أنها جيء بها في زمن عثمان] وذاك أقرب إلى الصواب؛ إذ أَسرُ أولاد يزدجرد الظاهر أنه كان بعد قتله أو استئصاله وذلك كان في زمن عثمان، وإن أمكن أن يكون بعد فتح القادسية أو نهاوند أخذ بعض أولاده هناك لكنه بعيد، وأيضا لا ريب في أن تولد علي بن الحسين علیه السلام منها كان في أيام خلافة أمير المؤمنين علیه السلام ولم يولد منها غيره كما نُقل، وكون الزواج في زمن عمر وعدم تولد ولد منها إلا بعد أكثر من عشرين سنة بعيد، ولا يبعد أن يكون عمر في هذه الرواية تصحيف عثمان (2)، والله يعلم (3).
وأيده على هذا السيد المقرم رحمه الله فقال: و احتمال شيخنا المجلسي في البحار التصحيف في لفظ عمر عن عثمان قريب ومع ذلك فقد جزم بصحة ما في
ص: 242
(الإرشاد) لما قلناه من عدم الخلاف في سنة ولادة السجاد علیه السلام في ثمان وثلاثين للهجرة ومساعدة الاعتبار عليه (1).
الثاني: أن الجزئية التي تذكر رؤيا السيدة ليست من ضمن الرواية المنقولة عن جابر عن أبي جعفر الباقر علیه السلام بل هي كلام مستقل بهذا النحو:
الصورة
فهنا قد ذكر أولاً الرواية عن جابر عن أبي جعفر الباقر علیه السلام، ثم رواية أخرى مرسلة لم يُذكر فيها السند ولا عمن رويت، ثم قصة أيضاً مرسلة لم يُذكر مصدرها، فليست هي من أصل الرواية المروية عن الباقر علیه السلام، وهذا القول لا نعلم زمانه
ص: 243
وقائله، فإذا كان صاحب الخرائج هو أول ذاكر (1) له فإنه بعد الشيخ الصدوق رحمه الله وبالتالي فلا يتجه الادعاء في المقام بأن قضية السيدة نرجس علیها السلام قد أُخذت من هذه الجزئية من الرواية.
الثالث: إن تكرر الحدث في موردين أو شخصين بصورة متشابهة مما لا مانع منه. ولا يلزم من ذلك التشابه صدق أحد الموردين وكذب الآخر، وهذا نجده في سيرة أهل البيت علیهم السلام فمثلاً رواية حرق دار الإمام الصادق علیه السلام في زمن المنصور الدوانيقي، وكذلك رواية حرق دار الإمام الرضا علیه السلام في زمن هارون الرشيد على يد عيسى الجلودي، والتأثر الذي كان من الإمامين علیهما السلام، فهل يعني هذا كذب الأولى أو الثانية؟!
وكذلك رواية ورود العباس علیه السلام للمشرعة وعدم شربه الماء، وصدور ذلك من بعض أصحاب الحسين علیه السلام بل ومن أصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه فهل يعني كذب أحدهما بالضرورة؟! قطعاً لا، إذ الأحداث قد تتكرر، وكما قال القرآن الكريم (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) (2)، وكما جاء في المأثور عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم: (تُؤْخَذُونَ كَمَا أُخِذَتِ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ، ذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، وَ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَ بَاعاً بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَداً مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ.) (3) ولعل التشابه المدعى بسبب أن هذا هو حال السيدات من أمهات الأئمة علیهم السلام. ثم إن المطابقة المدعاة
ص: 244
لا تتجاوز حتى عُشْرَ الرواية، فنقاط التشابه هي أن كلتيهما ابنتا ملك من الملوك، وأنهما رَأَتا السيدة الزهراء علیها السلام في المنام، وأن هناك حرباً ستكون بين المسلمين والطرف الآخر وهذا هو الطريق لوصولها إلى بيت الرسالة، وأن الإمام قد شغفها حُبّاً حتى صارت لا تطيق الانتظار حتى تلقاه، وأما بقية الأحداث فمختلفة تماماً، من قبيل محاولة تزويجها، وحفل الزفاف، والأحداث التي جرت في حفل الزفاف، وحادثة المرض، والأسرى بين المسلمين والروم، وقضية أسرها، والابتياع من سوق النخاسين بل أصل كيفية الوصول مختلفة، وغير ذلك من الحيثيات المختلفة، فدعوى التطابق هي دعوى جزافية.
ص: 245
ذكر الكاتب أمراً أسماه بالوهم وأراد معالجته ودفعه، وحاصله أن الشيخ الصدوق رحمه الله قد نقل رواية الرهني في كتابه واعتمد عليها، فكيف يُحكم عليها بأنها من نسج الوضاع أو الغلاة؟! فأجاب عن هذا بأمور ثلاثة:
أولا: لا يوجد دليل على أن الشيخ الصدوق رحمه الله قد تحرى الصحة في كتابه (كمال الدين)، واعتمد على خصوص الأخبار المعتبرة، وما ذكره بعضهم من أن اسم الباب (ما روى في نرجس أم القائم علیها السلام واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الملك) كاشف عن اعتماده على الخبر غير تام، لاحتمال كون التبويب من النساخ.
ثانياً: إنَّ الشيخ الصدوق رحمه الله قد انتقد مرويات الرجل وأنه من الحشوية كما مر سابقاً.
ثالثاً: إنَّ الشيخ الصدوق رحمه الله قد روی روایات متعارضة في حق السيدة الطاهرة علیها السلام، فلا يمكن أن يكون معتقداً بصحتها بأجمعها، فرواية الرهني تدل على أن الإمام العسكري علیه السلام يعرف بأمر نرجس منذ البداية واشتراها له أبوه الإمام الهادي علیه السلام لأجل هذا الأمر، وفي مقابلها رواية تذكر أن حكيمة تقول (كانت لي جارية يقال لها نرجس ...)، فالرواية صريحة في أن الجارية لحكيمة لا للإمام الهادي علیه السلام، والأصرح أنها قالت: (ووهبتها لأبي محمد علیه السلام)، فهذه تعارض رواية الرهني وتُسقطها رأساً، فلو كان الصدوق معتقداً بصحة الخبر الأول لما روى مثل
ص: 246
هذا الخبر الذي يكذبه أو لعلّق بما يرفع التنافي بين الخبرين.
» التعليق:
إنَّ هذا الجواب يحتوي على وهم لا أنه يدفع الوهم، وإليك بيان ذلك:
أولاً: من يُلاحظ كتاب الشيخ الصدوق رحمه الله لا يجد فيه أنه صرّح باعتماده على الأخبار المعتبرة (1)، ولكن لا بُد من الالتفات إلى غاية تأليف الكتاب التي لأجلها كتبه الشيخ رحمه الله، فقد صرح في مقدمة الكتاب بهذا: (إن الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا أني لما قضيت وطري من زيارة علي بن موسى الرضا علیه السلام رجعت إلى نيسابور وأقمت بها فوجدت أكثر المختلفين إليّ (2) من الشيعة قد حيرتهم الغيبة ودخلت عليهم في أمر القائم علیه السلام الشبهة وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقاييس فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلى الحق وردهم إلى الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبي والأئمة علیهم السلام، حتى ورد إلينا من بخارا شيخ من أهل الفضل والعلم والنباهة ببلد قم طالما تمنيت لقاءه واشتقت إلى مشاهدته لدينه وسديد رأيه واستقامة طريقته وهو الشيخ نجم الدين أبو سعيد محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد بن علي بن الصلت القمي أدام الله توفيقه، وكان أبي يروي عن جده محمد بن أحمد بن علي بن الصلت قدس الله روحه ويصف علمه وعمله وزهده وفضله وعبادته، وكان أحمد بن محمد بن عيسى في فضله وجلالته يروي عن أبي طالب عبدالله بن الصلت القمي رضي الله عنه وبقي (3) حتى لقيه محمد بن الحسن
ص: 247
الصفار وروى عنه، فلما أظفرني الله تعالى ذكره بهذا الشيخ الذي هو من أهل هذا البيت الرفيع شكرت الله تعالى ذكره على ما يسر لي من لقائه وأكرمني به من إخائه و حباني به من وده وصفائه، فبينا هو يحدثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيين كلاماً في القائم علیه السلام قد حيره وشككه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره، فذكرت له فصولاً في إثبات كونه علیه السلام [حقاً] ورويت له أخباراً في غيبته عن النبي والأئمة علیهم السلام سكنت إليها نفسه وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشك والارتياب والشبهة، وتلقى ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم، وسألني أن أصنف له في هذا المعنى كتابا فأجبته إلى ملتمسه ووعدته جمع ما أبتغي إذا سهل الله لي العود إلى مستقري ووطني بالري....) (1).
أي أن الهدف الرئيس للشيخ الصدوق رحمه الله لكتابة هذا الكتاب هو رفع الحيرة التي انتابت الشيعة حول ما يتعلق بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف، فهل من المناسب مع هذه الغاية والهدف أن يقوم الشيخ الصدوق رحمه الله بجمع الأخبار دون تأملٍ فيها؟! ألن يكون ذكر روايتين بينهما تعارض أدعى إلى تأكيد الشبهة في النفس، فهل يا ترى الشيخ الصدوق ينقض غرضه بنفسه ؟!! فالصحيح أنه في كتابه (كمال الدين) لم يكن بصدد جمع الروايات فقط، بل كان يتفحصها، وإليك هاهنا شاهداً على ذلك:
ذكر الشيخ الصدوق هذا الخبر وهو: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ
ص: 248
الْأزْدِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سَيِّدِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً (1) فَقَالَ علیه السلام: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الْإِمَامُ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنَةُ الْإمَامُ الْغَائِبُ. فَقُلْتُ لَهُ: وَيَكُونُ فِي الْأَئِمَّةِ مَنْ يَغِيبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ شَخْصُهُ وَلَا يَغِيبُ عَن قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَّا يُسَهِّلُ اللهُ لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ وَيُذَلِّلُ لَهُ كُلَّ صَعْبٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ كُنُوزَ الْأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ لَهُ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُبِيرُ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (2)، وَيُهْلِكُ عَلَى يَدِهِ كُلَّ شَيْطَاٍ مَرِيدٍ ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ الَّذِي تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ تَسْمِيَتُهُ حَتَّی يُظْهِرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً .
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه لم أسمع هذا الحديث إلا من أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه بهمدان عند منصرفي من حج بيت الله الحرام، وكان رجلاً ثقة ديناً فاضلاً، رحمة الله عليه ورضوانه) (3)
فمع أن الرواية ليس فيها شيء ومع ذلك فقد عقب الشيخ الصدوق رحمه الله بهذا التعقيب، وهذا يكشف عن اهتمام الشيخ الصدوق بما ينقل، ولذا قال الشيخ يوسف البحراني رحمه الله عن منهجية الشيخ الصدوق رحمه الله: (ولا يخفى على العارف بطريقة الصدوق قدس سره في جملة كتبه ومصنفاته أنه لا يذكر من الأخبار إلا ما يعتمده ويحكم بصحته متناً وسنداً ويُفتي به، وإذا أورد خبراً بخلاف ذلك ذيّله بما يشعر بالطعن
ص: 249
في سنده أو دلالته، ونبه على عدم قوله بمضمونه، وهذه طريقته المألوفة وسجيته المعروفة. وهذا المعنى وإن كان لم يُصرح به إلا في صدر كتابه (من لا يحضره الفقيه) إلا أن المتتبع لكلامه في كتبه والواقف على طريقته لا يخفى عليه صحة ما ذكرناه) (1).
وقد ذكر السيد السيستاني دام ظله: إنَّ الشيعة في زمن الغيبة كانوا في حيرة، والغيبة كانت مسماة بالحيرة عندهم، وعلماؤنا كانوا بصدد تصحيح الغيبة، وقد صنف جمع منهم كتاب الغيبة، إلا أن غرض كل واحد منهم يختلف عن الآخر، فكتاب إكمال الدين للصدوق ألّف في إثبات الغيبة في قبال الزيدية، فبما أن قم كانت قريبة على طبرستان، وفي طبرستان كان أئمة الزيدية، فكانوا يعترضون على الشيعة، فألف الصدوق هذا الكتاب لدفع اعتراضات الزيدية، وهذا واضح لمن راجع كتاب الإكمال من أوله إلى آخره... (2).
وإن قوله الشيخ الصدوق قدس سره: (وسألني أن أصنف له في هذا المعنى كتابا فأجبته إلى ملتمسه) بعد قوله: (وتلقى ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة) ظاهر في اعتماده الآثار الصحيحة في تصنيفه، ولا أقل في إشعاره بذلك.
ثانياً: أن احتمال ذكر العنوان في كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) هو من النساخ احتمال ممكن لا يُقال بمنعه واستحالته، ولكن لكي يكون هذا الاحتمال ذا قيمة فإنه يستدعي من الكاتب أن يذكر مخطوطة لم يرد فيها هذا التبويب ليكونَ أدعم لقوله، وأما باب الاحتمال والإمكان فهو مفتوح على مصراعيه. ولقد قمت بمراجعة
ص: 250
الصورة
(1) بين يدي أكثر من عشر مخطوطات وكلها اتفقت على هذا.
ص: 251
الصورة
ص: 252
الصورة
ص: 253
الصورة
ص: 254
فهل من المعقول أن نقرب احتمال أن يكون وضع اسم الباب من النساخ دون العثور حتى على نسخة واحدة تدعم هذا الاحتمال؟!! خصوصاً مع الالتفات إلى أن منهج الشيخ الصدوق - رحمه الله - في سائر كتبه على تبويب كتبه.
إن قيل: نعم إنَّ الشيخ الصدوق يبوب في سائر كتبه ولكن نفس ألفاظ الباب يحتمل أن تكون من النساخ فلا تدل على اعتماده عليها، ويدعم ذلك أنَّ الشيخ الصدوق قد أورد رواية بعدها تعارضها.
قلت: إنَّ باب الاحتمال باب واسع، وحتى يكون للاحتمال وجهٌ لابُد من إيراد ما يُقرّبه، وكيف للنساخ أن يتفقوا في ألفاظ عنوان الباب بهذا النحو ؟! ثم إننا نجد أن الشيخ الصدوق رحمه الله لَمْ يذكر في الباب الذي يتعلق بذكر روايات أم الإمام الحجة علیها السلام إلا هذه الرواية، فعن أي شيء يكشف هذا؟! وأما ما ادعي من وجود رواية تناقض هذه الرواية قد ذكرها الشيخ بعدها ببعض الأوراق فإنها لم تكن في نفس الباب أو لا، ولا نسلم بوجود التعارض المدعى بينهما كما سيأتي بيانه قريباً.
ثالثاً: إِنَّ ادعاء أن الشيخ الصدوق رحمه الله قد وصف الرهني بأنه من الحشوية ليس دقيقاً، بل وجدنا أن الشيخ الصدوق رحمه الله قد ترحمَ عليه بل وترضى، وقد أوضحنا كلَّ ذلك عند التعرض للملاحظات السندية سابقاً فلا نعيد.
رابعاً: أما ما يتعلق بإيراد الشيخ الصدوق رحمه الله لرواية تعارض رواية الرهني، فهنا عدة أمور:
- الأول: أشرنا سابقاً إلى أن الشيخ الصدوق لم يُورد في الباب الحادي والأربعين المختص بأم الإمام الحجة علیها السلام إلا هذه الرواية وعنون الباب ب- (باب ما روي
ص: 255
في نرجس أم القائم علیها السلام واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الملك) كما بيناه، والرواية المدعاة أنها تُنافي الخبر هذا هي في الباب الثاني والأربعين المختص بذكر ما يتعلق بولادة الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف.
- الثاني: إِنَّ دعوى التنافي والتعارض لتضمن الخبر الثاني مثل هذه العبائر عن لسان السيدة حكيمة علیها السلام: (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِس)، (وَوَهَبْتُهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام) غير تامة، ودعوى: أنَّ الشيخ الصدوق رحمه الله لو كانَ معتقداً بصحة الخبر الأول لما روى مثل هذا الخبر الذي يكذبه، أو لعلق بما يرفع التنافي بين الخبرين، لا تؤيد المدعى بل العكس، إذ لو كان الشيخ الصدوق يرى التعارض والتنافي بين الخبرين لعلق بما يرفع التنافي، ولما لم يعلق كشف ذلك عن أنه لا يرى التنافي بين الخبرين، ولذا لم يورد في باب أم الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف إلا تلك الرواية، كما أنه أخرج هذين الخبرين في بابين متواليين ولم يعلق عليهما ممّا ظاهره جمعهما وعدم التنافي بينها (1).
وأما وجه الجمع فإنه بالنظر إلى آخر الخبر الثاني نجد هذا التعبير: «يَا كَافُورُ ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ علیه السلام لَهَا هَا هِيَهْ فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ الله أَخْرِجِيهَا إلَى مَنْزِلِكِ وَعَلِّمِيهَا اَلْفَرَائِضَ وَاَلسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ اَلْقَائِمِ علیها السلام» فالإمام علیه السلام أمرها أن تُخرجها إلى منزلها، والهدف من ذلك لتبقى معها فترة من الزمن، فتتكفل بأمورها وشؤونها، وبقاؤها مدة من الزمن عند السيدة حكيمة علیها السلام كافٍ لأن تُعرف بأنها جارية لدى السيدة حكيمة علیها السلام، ثم جرى الأمر كما في الخبر الثاني.
ص: 256
إن قلت: ورد في قول حكيمة (وَهَبْتُهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام) وهذا كاشف عن أنَّ الجارية لها ولهذا وهبتها لأبي محمد العسكري علیه السلام.
قلتُ:
كجواب أول : لقد ورد عند أهل اللغة (أَوهَبَ لك الشيءَ: أَعدَّه) (1) وهذا مناسب للسياق في الرواية الثانية (فَلَمْ أَلْبَثْ أنْ رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَزَيَّنْتُهَا وَوَهَبْتُهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام وَجَمَعْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي مَنْزِلِي فَأَقَامَ عِنْدِي أيَّاماً...) فهي هيأت وزينت وأعدت، وكل ذلك في دارها علیه السلام، وبقاء السيدة نرجس علیها السلام ومعيشتها في دار السيدة حكيمة علیها السلام هو المناسب للتقية وخصوصاً في مثل ذلك الزمن وتلك الظروف المحيطة بالإمامين العسكريین علیهما السلام والطلب لإمام العصر عجل الله تعالی فرجه الشریف، والإجمال كافٍ في المقام.
وكجواب ثانٍ: إن الكاتب جعل كلمة السيدة حكيمة علیها السلام (وَهَبْتُهَا) في أنها صريحة في الدلالة على الملكية، ولكن نقول أن عندنا في المقام احتمالين:
الاحتمال الأول: أن تكون الهبة منها علیها السلام بمقتضى ملكيتها المباشرة، فبالتالي يكون قولها للإمام العسكري علیه السلام (فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: اسْتَأَذِنِي فِي ذَلِكَ أَبِي علیه السلام، قَالَتْ فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ مَنْزِلَ أَبِي الحَسَن علیه السلام فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْجتُ فَبَدَأَنِي علیه السلام وَ قَالَ يَا حَكِيمَةُ ابْعَثِي نَرْجِسَ إِلَى ابْنِي أَبِي مُحَمَّد) (2)، فإن هذا المورد شبيه بالزواج، وإن مثل هذه الموارد فإن الأدب يقضي بالاستئذان من الأب وجعله في الصورة، ولعل هذا ما يُريده الكاتب.
ص: 257
الاحتمال الثاني: أن تكون الهبة منها علیها السلام لا بمقتضى ملكيتها المباشرة، بل هبة وكيل عن موكله؛ ففي الرواية قالت حكيمة علیها السلام: (كَانَتْ لي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي...) إلى أن قالت: (فَأَرْسِلُهَا إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: اسْتَأْذِنِي فِي ذَلِكَ أَبِي علیه السلام، قَالَتْ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ مَنْزِلَ أَبِي الْحَسَن علیه السلام فَسَلَّمْتُ وَ جَلَسْجتُ فَبَدَأَنِي علیه السلام وَ قَالَ يَا حَكِيمَةُ ابْعَثِي نَرْجِسَ إِلَى ابْنِي أَبِي مُحَمَّد) (1)، حينها يكون استئذانها في هبة السيدة نرجس علیها السلام من الإمام الهادي علیه السلام وطلب الإمام العسكري علیه السلام منها ذلك لأن هذه الجارية ليست ملكاً لها بل هي ملك للإمام الهادي علیه السلام، وفي مثل هذه الموارد لابُد من الرجوع إلى الموكل.
فهنا عندنا احتمالان، ولا وجود لمرجح بينهما فتكون القضية مجملة بالنسبة لهذا التعبير.
بعد هذا كلّه اتضح لنا أن ما ادعي وروده من ملاحظات سندية أو متنية غير تام ومدفوع عن الرواية المشهورة التي اعتمدها علماء الطائفة على مر السنين.
ص: 258
لقد ذكر الكاتب - بعد أن قدم محاولته في تفنيد رواية الرهني- عدّة أقوال في بيان أصلها، أي أنه بعد الهدم أراد البناء، إذ إنه بعد أن هدم- حسب ما يتصور - الرأي المشهور عند الإمامية كان عليه أن يقدم البديل، فذكر أن أم الحجة - علیها السلام- قد نُسبت إلى أربعة مناطق: الرومية والسندية والمغربية (1)، والنوبية. أما الثلاثة
ص: 259
الأولى فلم يقبل أَيًّا منها، ومال إلى كونها نوبية.
وفي هذا القسم لا يستحق القولان- مع التسامح في تسميتها بالقولين- (سندية ومغربية) أن يُركز عليهما بأكثر مما ذُكر في الحاشية، لذا سنقتصر على ما ذهب إليه من كونها نوبية وأنها وُلدت في بيت السيدة حكيمة علیها السلام، وكذلك محاولته لاستبعاد كونها رومية حتى بالروايات المعضِدة غير رواية الرهني.
المحطة الأولى: في استعراض رأي الكاتب في البناء على أن أصلها نوبية ومناقشته.
ادعى الكاتب وجود طائفة من الروايات تؤكد هذا المدعى، بعضها بمثابة الدليل الصريح على المدعى، والبعض الآخر مؤيد لهذا البعض الصريح.
الدليل الصريح:
ما رواه الشيخ الكليني في الكافي عن عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ و عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ جَمِيعاً، عَنْ زَكَرِيَّا بْن يَحْيَى بْنِ النُّعْمَانِ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرٍ يُحَدِّثُ الْحَسَنَ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: .... قَالَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ: فَقُمْتُ فَمَصَصْتُ رِيقَ أَبِي جَعْفَر علیه السلام، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ إمَامِي عِنْدَ الله. فَبَكَى الرّضَا علیه السلام، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمِّ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَبِي وهُوَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم : بِأَبِي ابن خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، ابْن النُّوبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ الْفَمِ، الْمُنْتَجَبَةِ الرَّحِمِ، ويْلَهُمْ لَعَنَ اللَّهُ الْأُعَيْبِسَ وذُرِّيَّتَهُ صَاحِبَ الْفِتْنَةِ، وَيَقْتُلُهُمْ سِنِينَ وشُهُوراً وأيَّاماً، يَسُومُهُمْ خَسْفاً، ويَسْقِيهِمْ
ص: 260
كَأساً مُصَبَّرَةً، وهُوَ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ، الْمَوْتُورُ بِأَبِيهِ وجَدِّهِ، صَاحِبُ الْغَيْبَةِ، يُقَالُ: مَاتَ أوْ هَلَكَ، أيَّ وادٍ سَلَكَ، أَفَيَكُونُ هٰذَا يَا عَمِّ إِلَّا مِنِّي؟». فَقُلْتُ: صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ. (1)
٭ دعوى الكاتب، تتمثل في أمور ثلاثة
الأمر الأول: أن الحديث في هذه الرواية ليس عن الإمام الجواد علیه السلام بل حول الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، بقرينة قوله : (وهُوَ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ، الْمَوْتُورُ بِأَبِيهِ وجَدِّهِ، صَاحِبُ الْغَيْبَةِ) فهذا وصف خاتم الأوصياء ولا يمكن حمله على غيره، وأن (خيرة الإماء) تعبير ورد في روايات أخرى في حق أم الإمام المهدي علیها السلام دون غيرها.
الأمر الثاني: إنَّ المولى المازندراني قد أيّد هذا فقال: (ابن خيرة الإماء) أي صاحب الزمان لا محمد بن علي الجواد علیه السلام؛ لأن الضمير في قوله (وهو الطريد) راجع إلى الابن وهو بيان الصاحب قطعاً. وأما كلام المجلسي من أن النسبة هي نسبة مجازية أي بالوساطة فهو خلاف الظاهر، وهو نحو من أنحاء المجاز ويفتقر إلى قرينة لرفع اليد عن الظاهر، وإن قيلَ أنَّ قرينة ذلك الروايات الدالة على أن أم الإمام رومية فإنه قد تمت مناقشتها بحيث لا يمكن اعتمادها.
الأمر الثالث: أن ما ورد في نسخة المفيد حيث قال: (أَخْبَرَنِي أبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ أبِيهِ وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ جَمِيعاً عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ يُحَدِّثُ الحَسَنَ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: لَقَدْ نَصَرَ الله أبَا الْحَسَنِ
ص: 261
الرِّضَا علیه السلام لَمَّا بَغَى عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ وَعُمُومَتُهُ وَذَكَرَ حَدِيثاً طَوِيلاً حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ فَقُمْتُ وَقَبَضْتُ عَلَى يَدِ أبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا علیه السلام وَقُلْتُ لَهُ أَشْهَدُ أَنَّكَ إِمَامٌ عِنْدَ الله فَبَكَى الرِّضَا علیه السلام ثُمَّ قَالَ: يَا عَمِّ أَلَمْ تَسْمَعْ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم بِأبِي ابن خِيَرَةِ الْإِمَاءِ النُّوبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ يَكُونُ مِنْ وُلْدِهِ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ الْمَوْتُورُ بِأَبِيهِ وَجَدِّهِ صَاحِبُ الْغَيْبَةِ، فَيُقَالُ مَاتَ أوْ هَلَكَ أيَّ وَادٍ سَلَكَ فَقُلْتُ صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِدَاك) فهذا النقل وإن كان يبين أن ابن النوبية هو الإمام الجواد علیه السلام وأما الشريد فهو صاحب الغيبة الذي هو من ولد الجواد علیه السلام، لكن لا يصلح لضرب الرواية المتقدمة وذلك لأن الشيخ المفيد قد نصَّ على أنه نقل الرواية عن كتاب الكافي للكليني كما يظهر ذلك من السند، وبمراجعة كل مخطوطات الكافي الواصلة إلينا فإننا لم نجد أي اختلاف بينها، بل كلّها متطابقة على النقل المتقدم للرواية، والذي يظهر أن السبب في اختلاف النقل هو أن الشيخ المفيد قد نقل الرواية بالمعنى لا باللفظ، ويشهد على ذلك قوله: (وذكر حديثاً طويلاً حتى انتهى إلى قول ....) .
» التعليق:
أولاً: سأنقل الرواية كاملة غير مقتصر على محل الشاهد، وإليك نصها: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أبِيهِ وعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ جَمِيعاً، عَنْ زَكَرِيَّا بْن يَحْيَى بْنِ النُّعْمَانِ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرٍ يُحَدِّثُ الْحَسَنَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: وَ الله، لَقَدْ نَصَرَ الله أبَا الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: إِي والله، جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَقَدْ بَغى عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ: إِي والله، ونَحْنُ عُمُومَتُهُ بَغَيْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كَيْفَ صَنَعْتُمْ ، فَإِنِّي لَمْ أحْضُرْكُمْ؟ قَالَ: قَالَ لَهُ
ص: 262
إخْوَتُهُ ونَحْنُ أَيْضاً: مَا كَانَ فِينَا إِمَامٌ قَطُّ حَائِلَ اللَّوْنِ، فَقَالَ لَهُمُ الرِّضَا علیه السلام: «هُوَ ابْنِي». قَالُوا: فَإِنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه و آله و سلم قَدْ قَضى بِالْقَافَةِ، فَبَيْنَنَا وبَيْنَكَ الْقَافَةُ، قَالَ: «ابْعَثُوا أنْتُمْ إِلَيْهِمْ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا، ولَا تُعْلِمُوهُمْ لِمَا دَعَوْتُمُوهُمْ، ولْتَكُونُوا فِي بُيُوتِكُمْ».
فَلَمَّا جَاؤُوا أَقْعَدُونَا فِي الْبُسْتَانِ، واصْطَفَّ عُمُومَتُهُ وإخْوَتُهُ وأَخَوَاتُهُ، وأَخَذُوا الرِّضَا علیه السلام وأَلْبَسُوهُ جُبَّةَ صُوفٍ وقَلَنْسُوَةً مِنْهَا، ووضَعُوا عَلى عُنُقِهِ مِسْحَاةً، وقَالُوا لَهُ: ادْخُلِ الْبُسْتَانَ كَأَنَّكَ تَعْمَلُ فِيهِ، ثُمَّ جَاؤُوا بِأبِي جَعْفَرٍ علیه السلام، فَقَالُوا: ألحِقُوا هذَا الْغُلَامَ بِأبِيهِ، فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ هَاهُنَا أبٌ، ولكِنَّ هذَا عَمُّ أبِيهِ، وهذَا عَمُّ أبِيهِ، وهذَا عَمُّهُ، وَهذِهِ عَمَّتُهُ، وإِنْ يَكُنْ لَهُ هَاهُنَا أَبٌ، فَهُوَ صَاحِبُ البُسْتَانِ؛ فَإِنَّ قَدَمَيْهِ وقَدَمَيْهِ وَاحِدَةٌ، فَلَمَّا رَجَعَ أبُو الْحَسَنِ علیه السلام، قَالُوا: هَذَا أَبُوهُ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ: فَقُمْتُ فَمَصَصْتُ رِيقَ أبِي جَعْفَرٍ علیه السلام، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ إِمَامِي عِنْدَ الله، فَبَكَى الرِّضَا علیه السلام، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمِّ، ألمْ تَسْمَعْ أبي وهُوَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم: بِأَبِي ابن خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، ابْن النُّوبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ الْفَمِ، الْمُنْتَجَبَةِ الرَّحِمِ، ويْلَهُمْ لَعَنَ اللَّهُ الْأُعَيْبِسَ وذُرِّيَّتَهُ صَاحِبَ الْفِتْنَةِ، وَيَقْتُلُهُمْ سِنِينَ وشُهُوراً وأيَّاماً، يَسُومُهُمْ خَسْفاً، ويَسْقِيهِمْ كَأساً مُصَبَّرَةً، وهُوَ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ، الْمَوْتُورُ بِأَبِيهِ وجَدِّهِ، صَاحِبُ الْغَيْبَةِ، يُقَالُ مَاتَ أوْ هَلَكَ، أيَّ وادٍ سَلَكَ، أَفَيَكُونُ هذَا يَا عَمِّ إِلَّا مِنِّي؟». فَقُلْتُ : صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ) (1).
ثانياً: واضح أن هذه الرواية تتحدث عن تبعات حادثة تتعلق بالإمام الرضا
ص: 263
علیه السلام والإمام الجواد علیه السلام وهي قضية إمامة الإمام الرضا علیه السلام وقد أثارها الواقفة بعد شهادة الإمام الكاظم علیه السلام، وهذه الشبهة استمرت فترة من الزمن وكان من أهم الأمور التي وُجهت لإمامنا الرضا علیه السلام أن من صفات الإمام أن لا يكون عقيماً وأنت لا عقب لك «فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَدْ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ وَلَيْسَ لَكَ وَلَدٌ، فَقَالَ: يَا عُقْبَةَ بْنِ جَعْفَرٍ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ لا يَمُوتُ حَتَّى يَرَى وَلَدَهُ مِنْ بَعْدِهِ» (1)، وغيرها الكثير من الروايات في هذا الصدد، ومن جملة الروايات هذه الرواية التي جعلها الكاتب الأساس في تحديد كون أمِّ الإمام نوبية والتي لا يخفى أن سياقها من أولها لآخرها عن إثبات انتساب الإمام الجواد علیه السلام للإمام الرضا علیه السلام و أن أمه نقية طاهرة صلوات الله وسلامه عليها، وأم الإمام الجواد علیه السلام كما هو معروف أنها كانت نوبية، ومن هنا لما قال علي بن جعفر رضي الله عنه كلمته: (فَقُمْتُ فَمَصَصْتُ رِيقَ أبِي جَعْفَرٍ علیه السلام، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ إِمَامِي عِنْدَ الله) حينها جاء العتاب من الإمام الرضا علیه السلام فقال له: (يَا عَمِّ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَبِي وهُوَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم بِأَبِي ابن خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، ابن النُّوبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ الْفَمِ، الْمُنْتَجَبَةِ الرَّحِمِ....) فإلى هنا لا يُمكن صَرفُ (النوبية) إلى غير السيدة سبيكة أُمِّ الإمام الجواد علیها السلام، إذ المقام يأبى غير هذا.
ثالثاً: أن كلام المولى المازندراني لم يكن في صدد تعيين النوبية بل في صدد تعيين (ابن)، وإليك نص كلامه: قوله (ابن خيرة الاماء) المراد به صاحب الزمان علیه السلام لا محمد بن علي الجواد لأن ضمير هو في قوله «وهو الطريد» راجع إلى الابن وهو
ص: 264
بيان لحال الصاحب قطعا (1). فالابن بسبب هذه القرينة هو الإمام المهدي علیه السلام، أما (النوبية) فلم يتحدث عنها، ولعله يمكن الاستفادة من تصريحه بهذا (المراد به صاحب الزمان علیه السلام لا محمد بن علي الجواد) أن المعني بالأساس في هذه الرواية هو الإمام الجواد علیه السلام والنوبية هي أمه علیها السلام وهذا ما يستدعيه المقام، لكن وجود القرينة اللفظية التي تبين حال الصاحب تحتم عليه أن يصرف مفردة (ابن) إلى صاحب عجل الله تعالی فرجه الشریف، وأما النوبية فلا يحتاج إلى أن يتصرف فيها بشيء لأنه يمكن أن يكون ابناً ولو بالواسطة، وبهذا يكون قريباً إلى ما ذهب إليه المجلسي رحمه الله حیث قال: والمراد بابن خيرة الإماء المهدي علیه السلام، والمراد بخيرة الإماء أم الجواد علیه السلام فإنها أمه بواسطة لأن أُمه بلا واسطة كانت بنت قيصر ولم تكن نوبية، فضمير يقتلهم راجع إلى الابن (2). والروايات التي نصت أنها رومية كافية أيضاً للقرينية، ودعوى عدم الاعتماد نوقشت بمقدار فيما يتعلق برواية الرهني وسيأتي كذلك عند التعرض لصحيحة ابن شاذان.
رابعاً: أن المناسب للواقع ومقام النص في هذه الرواية أن يكون المعني بابن خيرة الإماء النوبية هو الإمام الجواد علیه السلام ويؤكد هذا ما أورده الشيخ المفيد والشيخ الطبرسي رحمهما الله، فقد أوردا نفس الرواية عن الشيخ الكليني رحمه الله باختلاف يسير يدفع أي تكلف في المقام، وهي بهذه الصيغة: (لَقَدْ نَصَرَ الله أبَا الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام لَمَّا بَغَى عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ وَعُمُومَتُهُ وَذَكَرَ حَدِيثاً طَوِيلاً حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: فَقُمْتُ وَقَبَضْتُ عَلَى يَدِ أبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا علیه السلام وَقُلْتُ لَهُ أَشْهَدُ أَنَّكَ إِمَامٌ عِنْدَ
ص: 265
الله. فَبَكَى الرِّضَا علیه السلام ثُمَّ قَالَ يَا عَمِّ أَلَمْ تَسْمَعْ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم بِأبِي ابن خِيَرَةِ الْإِمَاءِ النُّوبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ يَكُونُ مِنْ وُلْدِهِ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ الْمَوْتُورُ بِأَبِيهِ وَجَدِّهِ صَاحِبُ الْغَيْبَةِ فَيُقَالُ مَاتَ أوْ هَلَكَ أيَّ وَادٍ سَلَكَ فَقُلْتُ صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِدَاك) (1)
وواضح من خلال هذا النص (ابن خيرة الإماء) هو الإمام الجواد علیه السلام و (خيرة الإماء النوبية) هي أمه علیها السلام، ثم ذَكر النبي صلی الله علیه و آله و سلم ماذا يكون من صلبه، فإن من صلبه الصاحب (يكون من وُلده الطريد الشريد...) أي أن هذا إمام وسلسلة الأئمة تمر من خلاله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا مستقيم مع اللسان والسياق بلا تكلف أبداً ، والشيخ المفيد كان قريباً من عصر الشيخ الكليني، بل نص السيد السيستاني دام ظله (على أن هناك قرائن قطعية تدل على أن نسخ الكافي التي وُجدت عند النعماني والصدوق والشيخ كانت أكمل وأصح من النسخ الموجودة بأيدينا، ويوجد في التهذيب روايات عديدة منقولة عن الكليني لا أثر لها في الكافي (2)) (3)
وقد كُتب كتاب بعنوان (مستدرك الكافي) وفيه ذكرت بعض الروايات التي نقلت عن الكليني ولم تُذكر في الكافي أو ذكرت على شكل قول مرسل ولم يرد سندها، ومن هذا القبيل فيما يتناسب مع ما نحن فيه إنه في (بَابُ مَوْلِدِ الصَّاحِبِ علیه السلام) قد بدأه بقولِه (وُلِدَ علیه السلام لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن) (4)
ص: 266
بينما الشيخ الصدوق رحمه الله قد نقل هذا القول عن الكليني مسنداً، فقال : (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامِ رحمه الله قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: وُلِدَ الصَّاحِبُ علیه السلام لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةً خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْن) (1).
خامساً: ذكر الكاتب أن الشيخ المفيد رحمه الله نقلها بالمعنى لا باللفظ، وإذا كان كذلك فهذا أدعى لقبول نقل الشيخ المفيد رحمه الله؛ لأن النقل بالمعنى هو عبارة عن نقل تمام ما أفاده الكلام بعبارة أخرى من دون زيادة ولا نقيصة في شيء من أجزاء الكلام ومدلوله (2)، وأكد بعض الأعلام أن المروي على تقدير كونه منقولاً باللفظ أو بما يرادفه أو ترجمته و لو بلغة أخرى يكون حجة مع وثاقة الناقل؛ لأن احتمال الاشتباه في الترجمة أو الإتيان بغير المرادف مدفوع بسيرة العقلاء الجارية على الاعتناء بأخبار الثقات حتى في مثل هذه الموارد، بخلاف ما إذا كان المنقول مضمون الكلام وحاصله، فإنه لا يخلو من إظهار الرأي في كلام الغير، ولذا لو كان المخبر بالمضمون ثقة كمال الثقة لم يكن اعتبار قوله إلا من باب حجية الرأي، وإليك بعض كلمات الأعلام في ذلك:
فقد أفاد السيد الخوئي قدس سره بما نصه: (إنّ ناقل الرواية: تارةً ينقلها بألفاظها الصادرة عن المنقول عنه، واُخرى بترجمتها بلغة اُخرى غير لغة المروي عنه، وثالثة بمعناها كما هو المتعارف بين الرواة خصوصاً في الأحاديث الطوال التي يعسر حفظ ألفاظها عادة، ورابعة بمضمونها كما هو المرسوم بين الفقهاء في مرحلة الإفتاء.
أما غير القسم الأخير فلا شبهة في شمول أدلّة اعتبار الخبر له كما هو واضح.
ص: 267
وأمّا القسم الأخير فلا تشمله تلك الأدلّة قطعاً، لانحصارها في الأخبار الحسّية ورأي الفقيه من الاُمور الحدسية، فلا يكون حجّة لغيره ولغير مقلّديه كما حقّق في علم الاُصول) (1).
وأفاد الشيخ التبريزي قدس سره ما نصه: (أن المروى على تقدير كونه منقولاً باللفظ أو بما يرادفه أو ترجمته و لو بلغة أخرى يكون النقل مع ثقة الناقل حجة، لأن احتمال الاشتباه في الترجمة أو الإتيان بغير المرادف مدفوع بسيرة العقلاء الجارية في الاعتناء بأخبار الثقات حتى في مثل هذه الموارد، بخلاف ما إذا كان المنقول مضمون الكلام و حاصله، فإنه لا يخلو من إظهار الرأي في كلام الغير، و لذا لو كان المخبر بالمضمون ثقة كمال الثقة لم يكن اعتبار قوله الا من باب حجية الرأي) (2).
والمتأمل في كلام الشيخ المفيد رحمه الله يجده قد نقلها مختصراً، وليس الشيخ المفيد رَجُلاً عادياً، والمنصف لا يجد شيئاً في نقله ليس موجوداً في تلك الرواية إلا هذه الجزئية، بل وهي جُزْئية مُهمة يستقيم بها الفهم؛ ولذا فإنَّ جُملة من الأعلام قد اعتمدوا على "نسخة الإرشاد بدعوى أنها التي يستقيم بها فهم المراد دون حاجة إلى تأويل" (3) ، وللمزيد من كلمات الأعلام راجع المصادر المثبتة في الهامش (4).
سادساً: لماذا نجد الكاتب قد غيّب المنهج السندي والتدقيق المتني في هذه
ص: 268
الرواية؟! فإننا إذا أردنا أن نلزمه بما ألزم به نفسه ونطبق موازينه هنا فإن هذه الرواية محل نقاش بين الفقهاء باعتبار اشتمالها على مسألة فقهية وهي (حكم القيافة)، فحين نأتي مثلاً إلى سيد الأساطين الخوئي قدس سره نجده قد علق على هذه الرواية بالتالي: (يرد على الرواية وجوه:
- الأول: أنها ضعيفة السند.
- الثاني: أنها مخالفة لضرورة المذهب، فإنها اشتملت على عرض أخوات الإمام وعماته على القافة، وهو حرام لا يصدر من الإمام علیه السلام. وتوهم أن ذلك من جهة الاضطرار وهو يبيح المحظورات توهم فاسد، إذ لم تتوقف معرفة بنوة الجواد للرضا علیهما السلام على إحضار النساء.
- الثالث: أن الجماعة الذين بغوا على الرضا علیه السلام لينفوا بنوة الجواد علیه السلام عنه لو كانوا معتقدين بإمامة الرضا علیه السلام لما احتاجوا إلى القافة بعد إخباره بالبنوة) (1).
فهنا إذا كان السيد الخوئي قدس سره يرى أن هذه الرواية مخالفة لضروريات المذهب، فَلِمَ غاب كلامه قدس سره عن الكاتب وغاب المنهج السندي والتدقيق المتني؟!
وكذلك السيد محمد صادق الروحاني قدس سره قال: (ولكن يرد على الخبر - مضافاً إلى ضعف سنده لزكريا - إن إخوة الرضا علیه السلام وعمومته إن لم يكونوا قائلين بإمامته علیه السلام فما فائدة الرجوع إلى القافة لإثبات بنوة الجواد علیه السلام وإن كانوا قائلين بإمامته لما احتاجوا إليهم بعد إخباره ببنوته) (2)
إذن إذا كانت هذه الرواية هي العمدة في القول بأن السيدة نرجس علیها السلام نوبية،
ص: 269
فهذا القول لا عبرة به، باعتبار أن هذه الرواية لا تدل عليه كما بُيّن، وبالتالي فإنَّ التعرض للروايات الأخرى التي جعلها الكاتب بمثابة المعضدة للدليل الصريح لا حاجة له كما لا يخفى على أهل العلم إلا أنني سأتعرض لها لإكمال النقاش.
ص: 270
الروايات المؤيدة التي ادعاها الكاتب:
أورد الكاتب عدّة روايات وقد جعلها بمثابة الروايات المؤيدة لكون السيدة نرجس علیها السلام نوبية، وسأتعرض إلى بعضها:
٭ الرواية الأولى:
ما رواه النعماني في غيبته: (أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ ابْنُ عُقْدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ بْنِ قَيْسِ بْنِ رُمَّانَةَ الْأَشْعَرِيُّ وَسَعْدَانُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَوَانِيُّ قَالُوا جَمِيعاً: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبِ الزَّرَّادُ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ يَزِيدَ الْكُنَاسِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ علیه السلام يَقُولُ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ يُوسُفَ (1) ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاءَ يُصْلِحُ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَة) (2)، فالخبر يُشير إلى أن أم الإمام ستكون أمة سوداء، وهذا الأمر هو بمثابة المعارض الصريح للرواية التي تُشير بأنها روميّة، فلم يُسمع بأن في الروم سوداً، وبالتالي فإنها تعطينا تصوراً عن بلاد السيدة نرجس علیها السلام.
» التعليق:
أولاً: إنَّ أهل البيت علیهم السلام هم أهل الفصاحة والبلاغة، وعليه فأن يرد تعبير (ابن أمة سوداء) في مثل هذا المورد مع قضية (يصلح الله عز وجل له أمره في ليلة واحدة) يدعو للتأمل في بلاغته لا سيما مع النظر إلى أمرين:
ص: 271
- الأول: كثرة الروايات التي ورد فيها تشبيه الصاحب عجل الله تعالی فرجه الشریف بنبي الله يوسف علیه السلام وهي تركز على قضية الإصلاح في ليلة واحدة أو الظلم الذي نزل بيوسف أو الغيبة، ومنها ما أورده الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن أبي عبدالله الحسين علیه السلام أنه قال: (فِي التَّاسِعِ مِنْ وُلْدِي سُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ علیه السلام وَهُوَ قَائِمُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.) (1).
وكذلك ما أورده علي ابن بابويه القمي (والد الشيخ الصدوق) رحمه الله بسنده عن أبي بصير قال: (سَمِعْتُ أبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: فِي صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ أَرْبَعَةُ سُنَنٍ مِنْ أرْبَعَةِ أنْبِيَاءَ: سُنَّةٌ مِنْ مُوسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم، فَأَمَّا مِنْ مُوسَى: فَخَائِفٌ يَتَرَقَّبُ، وَأَمَّا مِنْ يُوسُفَ: فَالسِّجْنُ (2)، وَ أمَّا مِنْ عِيسَى: فَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ، وَلَمْ يَمُتْ، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدِ صلی الله علیه و آله و سلم: فَالسَّيْفُ) (3)، وكما نرى فإنها خالية من تعبير (أمة سوداء) الذي لا يتضح ربطه بالصاحب والنبي يوسف علیهما السلام، إذ لم أقف على نقل يُفيد أن أم النبي يوسف علیه السلام كانت أمَة سوداء.
- الثاني: أورد الشيخ الصدوق في (كمال الدين وتمام النعمة) رواية شبيهة لها، وقد خلت جملة من النسخ من هذه العبارة - التي هي محل الكلام- وهذا نص عبارته:
ص: 272
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوس رضي الله عنه قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِ والْكَشِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُمِّيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أبِي أَحْمَدَ الْأَزْدِيِّ عَنْ ضُرَيْسِ الْکُنَاسِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ يُصْلِحُ الله عَزَّ وَجَلَّ أمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ) (1)، وهذه صورة من إحدى المخطوطات:
الصورة
وأكد هذا المعنى الشيخ لطف الله الصافي قدس سره معلقاً على هذه الرواية فقال: (هذه الجملة غير موجودة في نسخة كمال الدين المترجمة بالفارسية ونسخة طبع النجف سنة 1389 (2)، هذا مضافاً إلى أنّ شبهه من يوسف الغيبة والسجن، وعلى هذا لا يبعد احتمال الزيادة في الحديث، والله أعلم) (3).
وكذلك أكده السيد محمد صادق الروحاني في استفتاء قُدم له قدس سره، وهذا نصه وجوابه: (هل هنالك نصوص تفيد أنّ الإمام المهدي ابن أمَة، أي أنّه أسمر البشرة، وذلك ليكون فتنة تميّز الصادق عن الزائف؟
جواب:
باسمه جلت أسمائه، هنالك لدينا بعض الروايات التي تصف الإمام علیه السلام بأنّه
ص: 273
ابن أمَة، وقد جاء في بعض النسخ وصف أمّه علیها السلام بالسوداء، ولكنّها زيادة لم ترد في النسخ الأُخرى الأكثر اعتماداً، ممّا يوجب وهنها وعدم اعتبارها ...) (1).
٭ الرواية الثانية:
مجموعة من الروايات التي ورد فيها أن الإمام المهدي علیه السلام كان أسمر اللون، ومنها ما نقله الشيخ الطوسي رحمه الله بسنده عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَر علیه السلام قَالَ: (الْمَهْدِيُ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ وَهُوَ رَجُلٌ آدَمُ) (2)، وما رواه السيد ابن طاووس بسنده عن الإمام الكاظم علیه السلام: (بِأبِي الْمُنْبَدِحُ [المنفدح] الْبَطِنِ، الْمَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ، أحْمَشُ السَّاقَيْنِ بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، أَسْمَرُ اللَّوْنِ يَعْتَادُهُ مَعَ سُمْرَتِهِ صُفْرَةٌ مِنْ سَهَرِ اللَّيْلِ، بِأَبِي مَنْ لَيْلَهُ يَرْعَى النُّجُومَ سَاجِداً وَرَاكِعاً، بِأبِي مَنْ لَا يَأْخُذُهُ فِي الله لَوْمَةُ لَائِمٍ، مِصْبَاحُ الدُّجَى، بِأبِي الْقَائِمُ بِأَمْرِ الله) (3)، وغيرها من الروايات التي تصب في هذا المعنى (4).
» التعليق:
أولاً: إنَّ هذه الروايات التي تشير إلى سمرة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف معارضة بروايات أخرى ومنها ما أورده الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده (عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
ص: 274
الْبَاقِرِ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ علیه السلام قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَخْرُجُ رَجُلٌ من وُلدِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَبْيَضُ اللَّوْنِ مُشْرَبٌ بالحُمْرَةِ مُبْدَحُ الْبَطْنِ عَريضُ الْفَخِذَيْنِ عَظِيمٌ مُشَاسُ الْمَنْكِبَيْنِ بِظَهْرِهِ شَامَتَانِ شَامَةٌ عَلَى لَوْنِ جِلْدِهِ وَشَامَةٌ عَلَى شِبْهِ شَامَةِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم لَهُ اسْمَانِ اسْمٌ يَخْفَى وَاسْمٌ يَعْلُنُ، فَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى فَأَحْمَدُ وَأَمَّا الَّذِي يَعْلُنُ فَمُحَمَّدٌ، إِذَا هَزَّ رَايَتَهُ أَضَاءَ لَهَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُؤُوسِ الْعِبَادِ فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا صَارَ قَلْبُهُ أشَدَّ مِنْ زُبَرِ الْحَدِيد...) (1).
ثانياً: كما أشار الكاتب أن هذه الروايات - التي تشير إلى اللون- ليست دليلاً مستقلاً، فإنه سواء ثبت كون الإمام علیه السلام أسمرَ أم أبيضَ فإن ذلك لن يُقرب كون أمه رومية أو نوبية أو غير ذلك، بل حتى في شأن السيدة نرجس علیها السلام أيضاً فالكلام هو الكلام، نعم قد تُعطي احتمالاً أكبر ولكن المسألة لو نظرنا لها من ناحية بايولوجية فإنها خاضعة لقانون الوراثة، وعواملُ الوراثةِ لِأَنْ يكونَ الإمامُ أسمرَ موجودة، فقد سبق أن أم الإمام الجواد علیه السلام نوبية، ولأن يكون أبيضَ موجودة أيضاً.
وهناك مسائل تكررت على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من هذا القبيل، فعَنْ أبِي جَعْفَرٍ علیه السلام، قَالَ: «أتى رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَسُولَ الله صلی الله علیه و آله و سلم، فَقَالَ: هذِهِ ابْنَةُ عَمِّي وَامْرَأَتِي، لا أعْلَمُ إِلَّا خَيْراً، وَقَدْ أتَتْنِي بِوَلَدٍ شَدِيدِ السَّوَادِ، مُنْتَشِرِ الْمَنْخِرَيْنِ، جَعْدٍ، قَطَطٍ، أفْطَسِ (2) الْأنْفِ، لا أعْرِفُ شِبْهَهُ فِي أخْوَالِي، وَلَا فِي أَجْدَادِي. فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: مَا
ص: 275
تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّاً مَا أَقْعَدْتُ مَقْعَدَهُ مِنِّي مُنْذُ مَلَكَنِي أحَداً غَيْرَهُ» قَالَ: «فَنَكَسَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم بِرَأسِهِ مَلِيّاً، ثُمَّ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: يَا هذَا، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أحَدٍ إِلَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عِرْقاً (1)، كُلُّهَا تَضْرِبُ فِي النَّسَبِ، فَإذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، اضْطَرَبَتْ تِلْكَ الْعُرُوقُ تَسْألُ (2) الله الشَّبَهَ لَهَا، فَهذَا مِنْ تِلْكَ الْعُرُوقِ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْهَا أَجْدَادُكَ، وَلَا أجْدَادُ أجْدَادِكَ، خُذْ إِلَيْكَ ابْنَكَ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: فَرَّجْتَ عَنِّي يَا رَسُولَ الله» (3).
أخيراً: إنَّ ما يُلفت النظر هنا هو غياب التدقيق السندي عند الكاتب أيضاً، بعد أن كان يطبقه في الأبواب السابقة، فالباء تجر حيث يريد ولا تجر حيث لا يريد.
٭ الرواية الثالثة:
رواية يعقوب الضراب والتي تُشعر بوجود خالة للإمام المهدي علیه السلام سمراء اللون، وهو ما نقله الشيخ الطوسي رحمه الله في غيبته بسنده عن يعقوب بن يوسف الضراب - وهي رواية طويلة أنقل منها المهم - قال: (حَجَجْتُ فِي سَنَةِ إِحْدَى
ص: 276
وثَمَانِين وَمِائَتَيْنِ وَكُنْتُ مَعَ قَوْمٍ مُخَالِفِينَ مِنْ أهْلِ بَلَدِنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ تَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ فَاكْتَرَى لَنَا دَاراً فِي زُقَاقٍ بَيْنَ سُوقِ اللَّيْلِ، وَهِيَ دَارُ خَدِيجَةَ علیها السلام تُسَمَّى دَارَ الرِّضَا علیه السلام وَفِيهَا عَجُوزٌ سَمْرَاءُ فَسَأَلْتُهَا لَمَّا وَقَفْتُ عَلَى أَنَّهَا دَارُ الرِّضَا علیه السلام مَا تَكُونِينَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّارِ وَ لِمَ سُمِّيَتْ دَارَ الرِّضَا؟ فَقَالَتْ: أَنَا مِنْ مَوَالِيهِمْ وَهَذِهِ دَارُ الرِّضَا علیه السلام عَلِيِّ بْنِ مُوسَى علیه السلام أسكنيها [ أسْكَنَنِيهَا] (1) الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ علیه السلام فَإِنِّي كُنْتُ مِنْ خَدَمِهِ)
إلى أن قال: (فَقُلْتُ لَهَا مَا تَكُونِينَ أَنْتِ مِنَ الرِّضَا؟ فَقَالَتْ كُنْتُ خَادِمَةً لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ علیه السلام، فَلَمَّا اسْتَيْقَنْتُ ذَلِكَ قُلْتُ لَأَسْأَلَنَّهَا عَنِ الْغَائِب علیه السلام، فَقُلْتُ بِالله عَلَيْكِ رَأيْته بِعَيْنِكِ؟ فَقَالَتْ: يَا أَخِي لَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي فَإِنِّي خَرَجْتُ وَأُخْتِي حُبْلَى وَبَشَّرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ علیه السلام بِأَنِّي سَوْفَ أَرَاهُ فِي آخِرِ عُمُرِي، وَقَالَ لِي تَكُونِينَ لَهُ كَمَا كُنْتِ لِي) (2).
فقولها: (فَقَالَتْ يَا أَخِي لَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي فَإِنِّي خَرَجْتُ وَأُخْتِي حُبْلَى) مشعر بأن هذه الأخت هي أم الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إذ كيف تكون امرأة أجنبية حبلى في بيت الإمام العسكري علیه السلام؟ وما علاقة حملها بسؤال يعقوب الضراب حول الغائب؟!
» التعليق:
وهذا المؤيد أغرب من سابقيه، وأذكر فيه أموراً:
الأول: إذا أردت أن أطبق نفس مبدأ المستشكل فإنها معارضة لا مؤيدة، إذ أنَّ
ص: 277
الضراب قد نص على أن المرأة العجوز التي رآها سمراء وليست سوداء، بينما يلزم أن يكون السواد بالنسبة للكاتب هو السواد الفاقع ليناسب كونها نوبية.
الثاني: أن الأخوّة المذكورة في كلمتها (فَإِنِّي خَرَجْتُ وَأُخْتِي حُبْلَى) كما يحتمل أن تكون أخوة نسبية حقيقية يمكن أن تكون مجازية، ويظهر من العبائر أن المرأة تستخدم هذه التعبيرات ولذا قالت للرجل (يَا أخِي لَمْ أرَهُ بِعَيْنِي) فهل نقول أنه أخوها أيضاً؟! ثم إن الأخوة تطلق لمجرد الاشتراك، ونقاط الاشتراك بينها وبين الجارية التي تتحدث عنها متعددة ولكن من أبرزها وأميزها أنهما كانتا - على فرض الصحة - في دار أبي محمد الحسن العسكري علیه السلام.
الثالث: لا ملازمة بين كون الأخت سمراء وأن تكون أختها سمراء أيضاً، وأسباب ذلك كثيرة، كأن تكون هذه المرأة بنتاً لأم ولد مثلاً، وغير ذلك من الأسباب التي تقدم بعضها.
الرابع: أن حمل السيدة نرجس علیها السلام كان مخفياً عن كل أحد، حتى السيدة حكيمة علیها السلام على جلالة وعظم قدرها، لم تعلم به إلا في ليلة ولادته عجل الله تعالی فرجه الشریف كما مر في نصوص كثيرة سابقة، فلو كانت هي أم الإمام فكيف اطلعت هذه المرأة على حملها بينما من كان معها لم يطلع على أمرها؟!
إذن الروايات التي ادعي تأييدها لكون السيدة نرجس علیها السلام سمراء هناك ما هو معارض لها، ومع التنزل فإن عوامل الوراثة مؤثرة كما بُينَت في علم الأحياء، فنخلص إلى هنا إلى أنه لا يمكن الاطمئنان البتة بكون أم الإمام علیه السلام نوبية.
ص: 278
المحطة الثانية: في استعراض رأي الكاتب في البناء على أنها وُلدت في بيت السيدة حكيمة علیها السلام ومناقشته.
بعد أن انتهى الكاتب من البناء على كون السيدة نرجس علیها السلام نوبية فإن هنا تساؤلاً يطرح نفسه حول كيفية وصولها إلى بيت العصمة والطهارة، وفي مقام الجواب عن هذا السؤال انتهى الكاتب إلى أن السيدة نرجس علیها السلام كانت أمَة للسيدة حكيمة علیها السلام وقد وُلدت في دارها، وهذا معارض لرواية الرهني التي تنص على كون السيدة نرجس علیها السلام رومية وهي حفيدة قيصر الروم كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وهنا سنقوم باستعراض ما بنى عليه الكاتب والتعليق عليها تباعاً. إنَّ الكاتب جعل الحديث حول السيدة نرجس علیها السلام في مرحلتين:
وفي هذه المرحلة استعرض مجموعة من الروايات التي ورد فيها التعبير ب- (كانت لي جارية يُقال لها نرجس)، وهي:
٭ الرواية الأولى:
ما أورده الشيخ الصدوق رحمه الله في رواية طويلة بسنده إلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله الطُّهَوِيِّ قَالَ: قَصَدْتُ حَكِيمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ علیه السلام بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام أَسْأَلُهَا عَنِ الْحُجَّةِ وَمَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا فَقَالَتْ لِي اجْلِسْ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ نَاطِقَةٍ أوْ صَامِتَة.... هَلْ كَانَ لِلْحَسَنِ علیه السلام وَلَدٌ؟ فَتَبَسَّمَتْ ثُمَّ قَالَتْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَسَنِ علیه السلام عَقِبٌ فَمَنِ الْحُجَّةُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا إِمَامَةَ لِأَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ علیه السلام فَقُلْتُ
ص: 279
يَا سَيِّدَتِي حَدِّثِينِي بِوِلَادَةِ مَوْلَايَ وَغَيْبَتِهِ علیه السلام قَالَتْ: نَعَمْ كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ فَزَارَنِي ابْنُ أخِي فَأَقْبَلَ يَحْدِقُ النَّظَرَ إِلَيْهَا فَقُلْتُ لَهُ يَا سَيِّدِي لَعَلَّكَ هَوِيتَهَا فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ فَقَالَ لَهَا لَا يَا عَمَّةِ وَلَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْهَا، فَقُلْتُ وَمَا أَعْجَبَكَ مِنْهَا فَقَالَ علیه السلام سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَدٌ كَريمٌ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي يَمْلَأُ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً (1).
٭ الرواية الثانية:
ما أورده الشيخ الطوسي رحمه الله مرسلاً - ولعلها نفس رواية الشيخ الصدوق- فقال: (وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَخَوَاتِ أبِي الْحَسَنِ علیه السلام كَانَتْ لَهَا جَارِیَةٌ رَبَّتْهَا تُسَمَّى نَرْجِسَ فَلَمَّا كَبِرَتْ دَخَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ علیه السلام فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ أَرَاكَ يَا سَيّدِي تَنْظُرُ إِلَيْهَا فَقَالَ إِنِّي مَا نَظَرْتُ إِلَيْهَا إِلَّا مُتَعَجِّباً، أمَا إِنَّ الْمَوْلُودَ الْكَرِيمَ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَكُونُ مِنْهَا، ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ فَفَعَلَتْ فَأَمَرَهَا بِذَلِك) (2).
ولضعف السند في الروايتين السابقتين أورد روايات أخرى لدفع هذا الضعف.
٭ الرواية الثالثة:
رواية الطبري الصغير بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ، قَالَ: (دَخَلْنَا جَمَاعَةً مِنَ الْعَلَوِيَّةِ عَلَى حَكِيمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْن عَلِيِّ بْنِ مُوسَى علیهم السلام، فَقَالَتْ: جِئْتُمْ تَسْأَلُونَنِي عَنْ مِيلَادِ وَلِيِّ الله؟ قُلْنَا: بَلَى و الله. قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي الْبَارِحَةَ، وأخْبَرَنِي بِذَلِكَ، وَإِنَّهُ كَانَتْ عِنْدِي صَبِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا (نَرْجِسُ) وَكُنْتُ أُرَبِّيهَا مِنْ بَيْنِ الْجَوَارِي، وَلَا يَلِي تَرْبِيَتَهَا
ص: 280
غَيْرِي ...) (1).
٭ الرواية الرابعة:
إثبات الوصية قال: وروى جماعة من الشيوخ العلماء؛ منهم علان الكلابي وموسى بن محمد الغازي وأحمد بن جعفر بن محمد بأسانيدهم أن حكيمة بنت أبي جعفر علیه السلام عمّة أبي محمّد علیه السلام كانت تدخل إلى أبي محمّد فتدعو له أن يرزقه الله ولداً وأنها قالت: دخلت عليه يوماً فدعوت له كما كنت أدعو. فقال لي: يا عمّة أما إنّه يولد في هذه الليلة- وكانت ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين - المولود الذي كنّا نتوقعه، فاجعلي إفطارك عندنا- وكانت ليلة الجمعة- فقلت له: ممّن يكون هذا المولود يا سيدي؟ فقال: من جاريتك نرجس. قالت: ولم يكن في الجواري أحبّ إليّ منها ولا أخف على قلبي وكنت إذا دخلت الدار تتلقاني وتُقبّل يدي وتنزع خفي بيدها... (2).
فهذه هي عمدة الأخبار التي اعتمدها الكاتب والتي وردت فيها هذه التعابير (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ) ، (كَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ رَبَّتْهَا تُسَمَّى نَرْجِسَ) ، (من جاريتك نرجس) ، فهذه كلها تُبين أن الجارية للسيدة حكيمة علیها السلام.
» التعليق:
أولاً: هنا مقدمة لا بُد من جعلها نصب العين حين قراءة حقبة الإمامين العسكريين علیهما السلام ألا وهي شدّة التقية في تلك الفترة، فإن تلك الفترة كانت صعبة
ص: 281
جداً على الإمامين علیهما السلام وأهلهم ، فمثلاً في زمان الإمام الهادي علیه السلام بلغ التضييق على العلويين إلى حدٍّ قاسٍ جداً، فقد بلغ الحال في أيام المتوكل أن «القميص يكون بين جماعة من العلويّات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ ينزعنه ويجلسن على مغازلهنّ عواري حواسر» (1)، ووصل الأمر بأن يأمر الإمام علیه السلام أصحابه بعدم السلام والإشارة عليه في توقيع خرج عنه، فقال فيه: «ألَا لَا يُسَلِّمَنَّ عَلَيَّ أحَدٌ وَلَا يُشِيرُ إِلَىَّ بِيَدِهِ وَلَا يُومِىءُ أحَدُكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَأْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ» (2)، و عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَلْخِيِّ قَالَ: أَصْبَحْتُ يَوْماً فَجَلَسْتُ فِي شَارع الْغَنَمِ فَإِذَا بِأبِي مُحَمَّدٍ قَدْ أقْبَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ دَارَ الْعَامَّةِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي تَرَى إِنْ صِحْتُ أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا حُجَّهُ اللَّه عَلَيْكُمْ فَاعْرِفُوهُ يَقْتُلُونِّي، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي أَوْمَأ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ عَلَيَّ فِيهِ أنِ اسْكُت وَرَأَيْتُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَقُولُ إِنَّمَا هُوَ الْكِتْمَانُ أوِ الْقَتْلُ فَاتَّقِ الله عَلَى نَفْسِكَ» (3)
وكان التواصل مع الإمام علیه السلام لصعوبته يتم عن طريق بعض أصحابه الذين امتهنوا بعض المهن حتى يسهل عليهم طرق باب دار الإمام علیه السلام كعثمان بن سعيد العمري رضي الله عنه المعروف ب- (السفير الأول)، فقد كان يعرف بالسّمان؛ ويقال له السّمان لأنه كان يتجر في السَّمْن تغطية على الأمر، وَكَانَ الشِّيعَةُ إِذَا حَمَلُوا إِلَى أبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَمْلُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ أنْفَذُوا إِلَى أَبِي عَمْرٍو فَيَجْعَلُهُ فِي جِرَابِ السَّمْنِ وَزِقَاقِهِ وَيَحْمِلُهُ إِلَى أبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام تَقِيَّةً وَخَوْفاً (4)، ويظهر أن الأعداء كانوا يطلبون الصاحب عجل الله تعالی فرجه الشریف، حتى ورد عن الإمام العسكري علیه السلام بعد أن وُلد صاحب
ص: 282
الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف، فقال: (زَعَمَتِ الظَّلَمَةُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَنِي لِيَقْطَعُوا هَذَا النَّسْلَ كَيْفَ رَأَوْا قُدْرَةَ الْقَادِر؟!) (1)، ولما قاموا بدس السم إلى الإمام علیه السلام صار العباسيون في اضطراب لأنهم لم يعرفوا الصاحب ولا أمه، وهل ولد أم لا، فبعث المعتمد خَمْسَة مِنْ خَدَمِه وكُلُّهُمْ مِنْ ثِقَاتِهِ وَخَاصَّتِهِ فِيهِمْ نِحْرِير (2) وَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ دَارِ الْحَسَنِ وَتَعَرُّفِ خَبَرِهِ وَحَالِهِ، وَبَعَثَ إِلَى نَفَرٍ مِنَ الْمُتَطَبِّبِينَ فَأَمَرَهُمْ بِالاخْتِلَافِ إِلَيْهِ وَتَعَهُّدِهِ صَبَاحَ مَسَاء، وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي تبين مراقبة الإمام علیه السلام والتضييق عليه.
إذن الفترة التي نتحدث عنها هي فترة صعبة جداً، فلا يمكن الحديث عن أحوال الإمام العسكري علیه السلام من زواج وشراء جارية وغير ذلك بهذه السهولة، وكذلك أحوال الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وما يتعلق بأمه وبقية شؤونه فإن الخطر محدق بأهل البيت علیهم السلام وبمن يعلم من شيعتهم ببعض الخصوصيات، فالتقية قد بلغت مبلغاً عظيماً، وكان الأصحاب العلماء الأتقياء يُدركون ذلك كأبي سهل النوبختي الذي كان وجهاً من وجوه وكبار آل نوبخت، ومن المبرزين والعلماء الأفذاذ المتكلمين، وكان بعض الأصحاب لا يشكون في أن السفارة بعد محمد بن عثمان ستؤول إليه، ففوجئوا بأن السفارة صارت إلى الحسين بن روح، فَسُئل أبو سهل عن ذلك، «فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ صَارَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحِ
ص: 283
دُونَكَ. فَقَالَ: هُمْ أعْلَمُ وَمَا اخْتَارُوهُ وَلَكِنْ أنَا رَجُلٌ ألقَى الْخُصُومَ وَ أُنَاظِرُهُمْ وَلَوْ عَلِمْتُ بِمَكانِهِ كَمَا عَلِمَ أبُو الْقَاسِمِ وَضَغَطَتْنِي الْحُجَّةُ عَلَى مَكَانِهِ لَعَلِّي كُنْتُ أدُلُّ عَلَى مَكَانِهِ وَأبُو الْقَاسِمِ فَلَوْ كَانَتِ الْحُجَّةُ تَحْتَ ذَيْلِهِ وَقُرِّضَ بِالْمَقَارِيضِ مَا كَشَفَ الذَّيْلَ عَنْهُ أوْ كَمَا قَالَ (1).
ثانياً: أن عبارة (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ) ، (كَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ رَبَّتْهَا تُسَمَّى نَرْجِسَ)، يمكن أن يحتمل فيها عدّة معانٍ ، منها: أن الجارية هي للسيدة حكيمة وملك لها، وهذا ما ذهب إليه الكاتب، ومنها: أن الجارية كانت في بيت السيدة حكيمة علیها السلام وبقاؤها لفترة في دار السيدة حكيمة علیها السلام كاف لأن تقول ويُقال إن لديها جارية، وهذا الاحتمال يعضده ما أخبرت به السيدة حكيمة علیها السلام بعض العلويين حينما سألوها عن الصاحب فأجابت: (وَإِنَّهُ كَانَتْ عِنْدِي صَبِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا (نَرْجِسُ) وَكُنْتُ أُرَبِّيهَا مِنْ بَيْنِ الْجَوَارِي، وَلَا يَلِي تَرْبِيَتَهَا غَيْرِي)، فإن هذه العندية أعم من التملك وعدم التملك، ولكن يرجح عدم التملك بمرجحين:
- الأول: أنها لما قالت: (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ) تحدثت عن دفعها لأبي محمد العسكري علیه السلام ولكن ما كانت أن تفعل ذلك إلا بالإذن من الإمام الهادي علیه السلام فإذا كانت الجارية جاريتها فلماذا كانت لتحتاج الإذن؟! (قَالَتْ فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وأتَيْتُ مَنْزِلَ أبِي الْحَسَن علیه السلام فَسَلَّمْتُ وجَلَسْتُ فَبَدَأنِي علیه السلام وَقَالَ يَا حَكِيمَةُ ابْعَثِي نَرْجِسَ إِلَى ابْنِي أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي عَلَى هَذَا قَصَدْتُكَ عَلَى أنْ أسْتَأذِنَكَ فِي ذَلِك) (2) ثم إن التكملة تُظهر أن الإمام علیه السلام على
ص: 284
اطلاع تام بأمر هذه الجارية.
- الثاني: ما ورد في آخر خبر الرهني (يَا كَافُورُ ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ علیه السلام لَهَا هَا هِيَهْ، فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ الله أَخْرِجِيهَا إلَى مَنْزِلِكِ وَعَلِّمِيهَا اَلْفَرَائِضَ وَاَلسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ اَلْقَائِمِ علیهم السلام) فالإمام الهادي علیه السلام أمرها أن تُخرجها إلى منزلها، فتبقى معها فترة من الزمن، فتتكفل بأمورها وشؤونها من جهة، والأنسب للتقية من جهة ثانية، وبقاؤها مدة من الزمن عند السيدة حكيمة علیها السلام كافٍ لأن تُعرف بأنها جارية لدى السيدة حكيمة علیها السلام، ثم جرى الأمر كما في الخبر الثاني.
ثالثاً: أن عبارة (من جاريتك نرجس) لا تدل على أن الجارية كانت ملكاً للسيدة حكيمة علیها السلام إذ الإضافة تصح لأدنى ملابسة، فمما ظهر من عدة موارد أن السيدة حكيمة علیها السلام هي التي تولت شؤونها، منها (وَكُنْتُ أُرَبِّيهَا مِنْ بَيْنِ الْجَوَارِي، وَلَا يَلِي تَرْبِيَتَهَا غَيْرِي) وفي خبر الرهني (يَا كَافُورُ ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ علیه السلام لَهَا هَا هِيَهْ، فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ الله أَخْرِجِيهَا إلَى مَنْزِلِكِ وَعَلِّمِيهَا اَلْفَرَائِضَ وَاَلسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ اَلْقَائِمِ علیها السلام) وهذا يصحح هذه الإضافة، وكذلك يمكن تصور أن هذه الإضافة من باب تنزيل السيدة حكيمة علیها السلام منزلة المالك اعتزازاً بها وإكراماً لها، وهذا من قبيل كلام العرب للضيف (البيت بيتك) لإظهار مكانة الضيف عند المضيّف وأشباهها، وهذا مستعمل حتى في عرفنا اليوم، وما كان هذا التعبير إلا لخصوصية السيدة حكيمة علیها السلام وإظهار الاعتزاز بها، وأن لها مكانة خاصة وتشريفاً خاصاً، فأي
ص: 285
شرف هو ذلك الشرف بأن تتولى امرأة أمر أم الصاحب علیه السلام، وقد ورد عن الإمام الهادي علیه السلام ما يشير لهذا المعنى حيث قال لها: (يَا مُبَارَكَةُ إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَبَّ أنْ يُشْرِكَكِ فِي الْأجْرِ وَيَجْعَلَ لَكِ فِي الْخَيْرِ نَصِيباً) (1)، وأي شرف كهذا الشرف؟!
تعرض الكاتب إلى نقلين اثنين استفاد منهما أن السيدة نرجس علیها السلام، وُلدت في دار السيدة حكيمة علیها السلام، وهما:
- النقل الأول: ما أورده صاحب كتاب دلائل الإمامة (روى لنا الثقات من مشايخنا أن بعض أخوات أبي الحسن علیه السلام علي بن محمد علیه السلام كانت لها جارية ولدت في بيتها وربّتها تسمّى نرجس فلما كبرت وعبلت دخل أبو محمّد علیه السلام فنظر إليها فأعجبته ....) (2) .
- النقل الثاني: ما أورده حسين بن عبد الوهاب (صاحب كتاب عيون المعجزات)، قال: (قرأت في كتب كثيرة بروايات كثيرة صحيحة، أنه كان لحكيمة بنت أبي جعفر محمد بن علي علیها السلام جارية ولدت في بيتها وربتها، وكانت تسمى نرجس، فلما كبرت دخل أبو محمد فنظر إليها فقالت له عمته حكيمة: أراك يا سيدي تنظر إليها ....) (3).
ص: 286
» التعليق:
أولاً: هذه الأقوال معارضة بروايات عديدة تؤكد أن أم الإمام علیها السلام سبية، وقد تقدم ذكرها ولكن أعيدها هنا:
منها: ما نقله النعماني في الغيبة عن أحمد بن محمد بن سعيد المعروف ب- (ابن عقدة) (1) قال: (حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ علیه السلام فَقَالَ لِي مَا وَرَاءَكَ فَقُلْتُ سُرُورٌ مِنْ عَمِّكَ زَيْدِ خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ سَبِيَّةٍ وَهُوَ قَائِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، فَقَالَ كَذَبَ لَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ إِنْ خَرَجَ قُتِلَ) (2) ويظهر منها أن هناك ارتكازاً في الأذهان حتى عند الزيدية من أن إحدى الصفات في القائم بالأمر هي أنه ابن سبية، وزيد الشهيد كان ابن سبية لذلك يعتقدون بأن زيداً هو القائم، فيما لا نرى أنها تنطبق عليه كما هو واضح.
منها: ما نقله النعماني في الغيبة بسنده إلى ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَازِمٍ
ص: 287
قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْكُوفَةِ فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ علیه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي هَلْ صَاحَبَكَ أحَدٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: أكُنْتُمْ تَتَكَلَّمُون؟ قُلْتُ: نَعَمْ صَحِبَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُغِيرِيَّةِ (1) قَالَ: فَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قُلْتُ: كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ هُوَ الْقَائِمُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْمَهُ اسْمُ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم وَاسْمَ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي النَّبِيِّ فَقُلْتُ لَهُ فِي الْجَوَابِ إِنْ كُنْتَ تَأْخُذُ بِالْأَسْمَاءِ فَهُوَ ذَا فِي وُلْدِ الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ لِي إِنَّ هَذَا ابْنُ أَمَةٍ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَليٍّ، وَهَذَا ابْنُ مَهِيرَةٍ (2) يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ علیه السلام: فَمَا رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟ فَقُلْتُ مَا كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَوَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ ابْنُ سَبِيَّةٍ يَعْنِي الْقَائِمَ علیه السلام (3).
وأسند أيضاً أنّه قيل للباقر علیه السلام - في قول أمير المؤمنين علیه السلام: بِأبِي ابن خِيَرَةِ الإِمَاءِ أهِيَ هِيَ فَاطِمَةُ علیها السلام فَقَالَ إِن فَاطِمَةَ علیها السلام خِيَرَةُ الْحَرَائِرِ) (4)، وواضح أن الإماء لسن من الحرائر، ومن هنا استفاد النعماني أنها سبية ولهذا أدرجها في هذا الباب تحت عنوان (كونه علیه السلام ابن سبية ابن خيرة الإماء).
وهنالك غير هذه الرواية من الروايات التي تؤكد أن الإمام علیه السلام ابن سبية، بل
ص: 288
وهو المعلوم والمرتكز في الأذهان - من بيان أُولي العصمة- في صفات المهديّ القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، و على الرغم من ذلك فإن الكاتب لم يتعرض إلى أيِّ من هذه الروايات والتي عقد لها النعماني في كتابه (الغيبة) فصلاً تحت عنوان (كونه علیه السلام ابن سبية ابن خيرة الإماء).
ثانياً: إنَّ تلك الروايات معارضة مع صحيحة الفضل بن شاذان حيث قال: (حدثنا محمّد بن عبد الجبار قال: قلت لسيدي الحسن بن علي علیه السلام يا ابن رسول الله - جعلني الله فداك- أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ فقال علیه السلام: إن الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكنيّه الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه، قال: ممن هو يا ابن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن قیصر ملك الروم ألا إنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر .... إلخ) (1) فهي تنص على أن السيدة نرجس رومية، مما يعني أنها لم تولد في دار السيدة حكيمة علیها السلام.
ثالثاً: يبعد هذا النحو من الاطلاع على ولادة السيدة نرجس علیها السلام في بيت السيدة حكيمة علیها السلام، فإنَّ صاحب كتاب (إثبات الوصية) ينقل أن الثقات حدثوه بهذا الأمر، مما يعني أن الثقات عندهم اطلاع على هذا الأمر، والحال أن الظرف الزماني كان يقتضي التقية، فيبعد اطلاع بعض المشايخ في ذلك الوقت على بعض خصوصيات البيت العلوي في الوقت الذي كان بعض الأصحاب لا يعرفون
ص: 289
الإمام علیه السلام، بل حتى بعض أفراد البيت العلوي كما شهد بذلك خبر مُحَمَّد بْن يَحْيى و غَيْرِهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَفْطَسُ: أَنَّهُمْ حَضَرُوا - يَوْمَ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ - بَابَ أَبِي الْحَسَنِ علیه السلام يُعَزُّونَهُ، وقَدْ بُسِطَ لَهُ فِي صَحْنِ دَارِهِ والنَّاسُ جُلُوسٌ حَوْلَهُ - فَقَالُوا: قَدَّرْنَا أَنْ يَكُونَ حَوْلَهُ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ وبَنِي هَاشِمٍ وقُرَيْشٍ مِائَةٌ وخَمْسُونَ رَجُلاً سِوى مَوَالِيهِ وسَائِرِ النَّاسِ - إِذْ نَظَرَ (1) إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ علیه السلام قَدْ جَاءَ مَشْقُوقَ الْجَيْبِ حَتّى قَامَ عَنْ يَمِينِهِ، وَنَحْنُ لا نَعْرِفُهُ، فَسَأَلْنَا عَنْهُ، فَقِيلَ: هذَا الْحَسَنُ ابْنُهُ - وَقَدَّرْنَا لَهُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ عِشْرِينَ سَنَةً أَو أرْجَحَ - فَيَوْمَئِذٍ عَرَفْنَاهُ، وعَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ، وأَقَامَهُ مَقَامَهُ) (2)، فرغم أنَّ هؤلاء من العلويين إلا أنهم لم يكونوا يعرفون الإمام الحسن العسكري علیه السلام، وأما آخرون فلم يعرفوه إلا بعد شهادة الإمام الهادي علیه السلام كما في الرواية (3)، وولادة الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف لم تكن ببعيدة زماناً عن شهادة جده الإمام الهادي علیه السلام.
رابعاً: أن نقل صاحب كتاب (إثبات الوصية) وكذا (عيون المعجزات) هو نقل بالمضمون، وهو لا يخلو من إظهار الرأي في كلام الغير كما مر بيان الفرق بينه وبين النقل بالمعنى (4)، وللأسف لم يتعين عمّن نقلا، فلعله - وهو الظاهر - أنه نفس
ص: 290
الخبر الذي أورده الشيخ الصدوق رحمه الله في كمال الدين بإسناده عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله الطُّهَوِيِّ قَالَ: قَصَدْتُ حَكِيمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ علیه السلام بَعْدَ مُضِيِّ أبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام أسْأَلُهَا عَنِ الْحُجَّة .... قَالَتْ نَعَمْ كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي فَأَقْبَلَ يَحْدِقُ النَّظَرَ إِلَيْهَا فَقُلْتُ لَهُ يَا سَيِّدِي لَعَلَّكَ هَوِيتَهَا فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ فَقَالَ لَهَا لَا يَا عَمَّةِ وَلَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْهَا فَقُلْتُ وَمَا أَعْجَبَكَ مِنْهَا؟ فَقَالَ علیه السلام: سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَدٌ كَريمٌ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي يَمْلَأُ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً فَقُلْتُ فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي فَقَالَ اسْتَأْذِنِي فِي ذَلِكَ أَبِي علیه السلام. قَالَتْ فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ مَنْزِلَ أَبِي الْحَسَن...) (1)، وهذا الخبر قد خلا من عبارة (ولدت في بيتها)، فمع المعارضة لجملة من الروايات والاحتمال الكبير بأن هذا نقل المضمون لنفس خبر الصدوق رحمه الله، فحينها لا يمكن التعويل على هذه المفردة (2).
رواية الرهني وتؤكد عليها، وللتوضيح هناك روايتان للفضل بن شاذان لا رواية واحدة، إحداهما تؤكد أن السيدة نرجس علیها السلام رومية، والأخرى تؤكد على اسم من أسمائها والذي لم يرد إلا في رواية الرهني وهو اسم مليكة وهذه لم يتعرض لها الكاتب، أما الأولى فقد تعرّض لها راداً لها، وعليه فلا بُد حينئذ من التعرض لملاحظاته على الرواية ومناقشتها، ويتم ذلك بخطوات ثلاث:
٭ الرواية الأولى:
(حدثنا محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب علیه السلام، قال: سمعت أبا محمد علیه السلام يقول: قد وُلد ولي الله وحجته على عباده وخليفتي من بعدي مختوناً ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين عند طلوع الفجر، وكان أول من غسله رضوان خازن الجنان مع جمع من الملائكة المقربين بماء الكوثر والسلسبيل، ثم غسلته عمتي حكيمة بنت محمد بن علي الرضا علیهم السلام. فسئل محمد بن علي بن حمزة عن أمه علیه السلام، قال أمه مليكة التي يقال لها في بعض الأيام: سوسن، وفي بعضها: ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضا من أسمائها) (1).
والراوي لهذه الرواية من العلويين من نسل أبي الفضل العباس علیه السلام وهو من الثقات، قال عنه النجاشي: (ثقة، عين في الحديث، صحيح الاعتقاد، له رواية عن
ص: 292
أبي الحسن وأبي محمد علیهما السلام، واتصال مكاتبة، وفي داره حصلت أم صاحب الأمر علیه السلام بعد وفاة الحسن علیه السلام) (1)، وهذه الرواية تؤكد على أمر لم يرد إلا في رواية الرهني وهو أن اسمها (مليكة)، وعرفت بنرجس أيضاً، فتكون مُعضِدَة لها .
٭ الرواية الثانية:
(حَدثنا محمّد بن عبد الجبار، قالَ: قُلتُ لسيدي الحسنِ بن علي علیه السلام يا ابنَ رسولِ الله - جَعلني اللهُ فداكَ - أُحِبّ أَن أعلمَ مَن الإمام وحُجة اللهِ عَلى عِباده مِنْ بَعدِك؟ قَالَ علیه السلام: إنّ الإمامَ والحُجّة بَعدي ابني، سميّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و كنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه. قال: ممن هو يا ابن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، ألا إنه سيولد فيغيب عن الناس غيبة طويلة، ثم يظهر ويقتل الدجال، فيملأ الأرضَ قسطاً وعدلا كما مُلئت جوراً وظلماً، فلا يحلّ لأحد أن يسميه باسمه أو يكنّيه بكنيته قبل خروجه صلوات الله عليه) (2).
فالرواية صريحة بأن السيدة نرجس علیها السلام هي ابنة ابن قيصر ملك الروم، ولا إشكالية عند الكاتب من هذه الجهة، سوى إشكاله الصدوري كما سيتبين قريباً.
والروايتان قد وردتا عن الفضل بن شاذان في أربعة مصادر (3):
ص: 293
1. كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (فارسي) (1)، للسيد محمد مير لوحي رحمه الله (ت بعد 1083ه-).
2. إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، للشيخ الحر العاملي رحمه الله (ت 1104ه-).
3. كشف الحق (فارسي) (2)، للسيد مير محمد صادق آبادي، رحمه الله (ت 1272ه-).
4 . النجم الثاقب (فارسي) (3)، الميرزا حسين النوري الطبرسي رحمه الله (ت 1320ه-).
ليست للكاتب إشكالية في الرواة الواقعين في سند الرواية، بل إشكاليته في أصل النسخة الواصلة إلينا من كتاب الفضل بن شاذان المعروف ب- (إثبات الرجعة)، وما ذكره يدور مدار عدم الوثوق بصحة هذه النسخة، فهنا أمور ثلاثة:
- الأول: كتاب (إثبات الرجعة) للفضل بن شاذان لم يصل إلينا، والذي وصل لنا أحاديث مفرقة في كتب بعض الأصحاب، فهذا الحديث نقله الحر العاملي في إثبات الهداة، والمير لوحي الأصفهاني في كفاية المهتدي، ولا يمكن الوثوق بالنسخة الواصلة إليهما لعدم شهرته قبل القرن الحادي عشر، والشيخ الحر العاملي صرح بأن نسخته كانت وجادة، وأما المير لوحي فلا يُعرف شيء عن
ص: 294
نسخته الواصلة سوى ما ذكره من حيازته لنسخة من كتاب (الغيبة)، دون بيان طرق تحصيلها.
- الثاني: عدم مطابقة النسخة الواصلة إلينا من (إثبات الرجعة) مع أحاديث الفضل بن شاذان الموجودة في الكتب الأخرى، فإذا كانت هذه النسخة معروفة عند المتقدمين لماذا لا يحدثون في كتبهم عنها؟! على الرغم من أن روايات النسخة متقنة وأسانيدها في غاية الصحة والاعتبار.
- الثالث: أننا لا نجد في الكتب الأخرى أي رواية للفضل بن شاذان عن محمد بن عبدالجبار - راوي الخبر الثاني أعلاه- فهذا يجعلك في شك وريبة في صحة النسخة الموجود بين أيدينا.
ولهذه الأمور الثلاثة لم يعتمد هذه الرواية.
» التعليق:
أولاً: إذا كانت مُشكلة الكاتب أن كتاب (إثبات الرجعة) للفضل بن شاذان قد وصل بالوجادة، فلماذا نجدْه قد عوّل على كتابين كليهما قد وصلا بالوجادة؟! والحال أنَّ الميزان يجب أن يكون واحداً، فإن كتاب (إثبات الوصية) و (عيون المعجزات) قد وصلا بالوجادة، بل مع زيادة أن كلا الكتابين مختلف في مؤلفه، وإليك قول بعض الأعلام في ذلك:
كلام العلامة المجلسي رحمه الله في (عيون المعجزات): وقد ذكر ذلك في معرض الحديث عن كتب للسيد المرتضى علم الهدى أبي القاسم علي بن الحسين الموسوي رحمه الله فقال: (وكتاب «عيون المعجزات» يُنسب إليه، ولم يَثبت عندي إلا أنه كِتابٌ لطيف، عندنا منه نسخة قديمة ولعلّه مِن مؤلفات بعض قدماء المحدثين، يروي
ص: 295
عن أبي علي محمد بن هشام وعن محمد بن علي بن إبراهيم) (1)، فهو وجادة ومختلف في مؤلفه.
سماحة الشيخ مسلم الداوري - دامت بركاته- في (إثبات الوصية): (والطريق إلى الكتاب غير معلوم، ولم يتعرض له النجاشي، أو الشيخ، ولم تحرز شهرة الكتاب) (2)، وقد شكك سماحة السيد موسى الزنجاني دام ظله في نسبة كتاب (إثبات الوصية) للمسعودي صاحب (مروج الذهب) (3).
فنحن الآن أمام كتابين اعتمد عليهما الكاتب وكلا الكتابين قد وصلا بالوجادة، وما أورده على (إثبات الرجعة) يَردُ عليهما، فإن أول ظهور لكتاب (إثبات الوصية) منسوباً للمسعودي كان في القرن الحادي عشر الهجري على يد العلامة المجلسي، ولكن الغريب أن العلامة المجلسي لم ينقل في موسوعته الضخمة عن هذا الكتاب إلا في مواضع يسيرة جداً لا تتجاوز عدد أصابع اليد (4)، على الرغم من أن الكتاب مشحون بالأخبار عن أهل البيت علیهم السلام (5).
إذن ما أشكل به الكاتب قد مارسه، فإنه قد اعتمد على كتاب (إثبات الوصية) مع أنَّ الوجادة التي جعلها الكاتب قدحاً في الاعتماد على كتاب (إثبات الرجعة) للفضل بن شاذان قد غضَّ الطرف عنها في كتابين وعوّل على قول تفردا به، فهل
ص: 296
يرفع يديه عن الكتابين الآن؟!
ثانياً: أن كون الكتاب واصلاً بالوجادة لا يمنع من الاعتماد عليه، فإن "كثيراً من النسخ الواصلة إلى المتأخرين من تأليفات المتقدمين كأكثر كتب الصدوق والمفيد والمرتضى والشيخ، فضلاً عن كتب من تقدمهم كالجعفريات، ومسائل علي بن جعفر، والمحاسن للبرقي وغيرها لم يصل إلى العلامة المجلسي وصاحب الوسائل و من تأخر عنهم بطريق السماع أو القراءة أو المناولة أو نحوها طبقة بعد طبقة إلى أن ينتهي إلى مؤلف الكتاب، بل وصل في الغالب بطريق الوجادة حيث كان يعثر على نسخة - أو أزيد - من كتاب فيتم الاعتماد عليها والنقل عنها وتداولها واستنساخها، وربما تصبح هي النسخة الأم لعشرات النسخ اللاحقة، ويخرج الكتاب عن كونه نادر الوجود إلى كتاب شائع النسخ متداوله (1).
وبالجملة: إن مجرد كون نسخة الكتاب قد وصلت إلى المتأخرين بطريق الوجادة، وكونها مصدّرة باسم شخص أو أشخاص غير موثقين لا يكون مانعاً من الاعتماد عليها، نعم لا بد من توفر قرائن و شواهد كافية تورث الوثوق بصحتها (2).
ثالثاً: لقد كفانا التعليق على هذه الملاحظات سماحة السيد محمد رضا السيستاني- دامت بركاته - فقال معلقاً على النسخة المتداولة من كتاب (الفضل بن شاذان)
ص: 297
بشكل عام، وعلى رواية (محمد بن عبد الجبار) بشكل خاص، ما هذا نصه:
(كتاب إثبات الرجعة من مؤلفات (الفضل بن شاذان) أحد أجلة أصحابنا الفقهاء والمتكلمين، كما نصّ على ذلك النجاشي والشيخ (قدس سرهما) (1).
وهذا الكتاب لم تصل نسخته إلى المحدث النوري رحمه الله، ولكن الملاحظ أنه أورد عمّا سمّاه بكتاب (الغيبة) للفضل بن شاذان عدّة روايات، منها ما رواه (2) بسنده عن محمد بن عبد الجبار أنه قال: قلت لسيدي الحسن بن علي علیهما السلام: يا ابن رسول الله - جعلت فداك - أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ قال: «إن الإمام والحجة بعدي ابني سمي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و كنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه..».
وهذه الرواية قد أخرج صدرها الحر العاملي رحمه الله (3) عن الفضل بن شاذان في كتاب إثبات الرجعة.
ومصدر المحدّث النوري رحمه الله هو كتاب (كفاية المهتدي) للسيد محمد مير لوحي السبزواري الذي كان من علماء أصفهان المعاصرين للعلامة المجلسي، وكان عنده العديد من الكتب المخطوطة، ومنها كتاب (إثبات الرجعة) للفضل بن شاذان وكتاب الجامع للبزنطي، ولكنه لم يسمح للعلامة المجلسي رحمه الله بالاطلاع عليها والنقل عنها في موسوعة البحار، وقد تلفت تلك المخطوطات - مع الأسف - ولم
ص: 298
تصل إلى أيدي المتأخرين.
ولكن الملاحظ أنه أدرج في كتابه (كفاية المهتدي) -الذي هو بالفارسية -عدداً من روايات الفضل بن شاذان في (إثبات الرجعة)، وهذا الكتاب ترجم إلى العربية بعنوان (مختصر كفاية المهتدي) وهو يتضمن الرواية المذكورة، ولكن ورد في النسخة المطبوعة منه (محمد بن زيد الجبار) (1)، وهو تصحيف، والصحيح (محمد بن عبد الجبار) كما أورده المحدث النوري رحمه الله.
ومهما يكن، فإن ما سماه المحدّث النوري بكتاب (الغيبة) لابن شاذان هو كتاب (إثبات الرجعة) الذي حكى عنه السيد محمد مير لوحي السبزواري، ولم تكن نسخة هذا الكتاب عند المحدث النوري رحمه الله- كما تقدم - وإنما حكى عنه بواسطة كتاب (كفاية المهتدي) كما صرح بذلك في كتابه (النجم الثاقب) (2).
وأما الحر العاملي فمصدره فيما حكاه عن (إثبات الرجعة) هو ما وصل إليه من مختصر هذا الكتاب، وتوجد نسخة منه في مكتبة السيد الحكيم قدس سره في النجف الأشرف، ولكن يظهر بمراجعتها أن ما ورد فيها ليس سوى ما ذكر في كتاب (كفاية المهتدي) عن الفضل بن شاذان في (إثبات الرجعة) فهو منتزع من الكتاب المذكور، ولم يطلع صاحبه على أصل كتاب ابن شاذان ليقوم باختصاره.
وقد تحصل مما تقدّم: أن مصدر الرواية المتقدّمة هو النسخة التي وصلت إلى السيد مير لوحي السبزواري مما سمّاه ب- (إثبات الرجعة) لابن شاذان، ولا تتوفر
ص: 299
معلومات عن تلك النسخة تؤكد أنها بالفعل نسخة صحيحة من كتاب الفضل. ولكن الملاحظ أن أسانيد الروايات التي أوردها عنه في (كفاية المهتدي) تناسب أن تكون من مروياته، حيث إنها تبدأ بأسماء مشايخه، نعم تمّ الابتداء في بعضها بمن هو في طبقته - وهي الطبقة السابعة - وإن كان أقدم منه بعض الشيء كمحمد بن عبد الجبار المذكور - وهو محمد بن أبي الصهبان القمي، الثقة الجليل - ولكن هذا لا يضر، فإن نقل راوٍ عن آخر وهما من طبقة واحدة مما يقع أحياناً، ولا سيما بالنسبة إلى بعض القضايا التي تحظى بأهمية خاصة، كما في مورد الرواية المذكورة.
وفي ضوء ذلك وملاحظة سائر الشواهد والقرائن ربما يحصل الاطمئنان بكون ما وصل إلى السيد مير لوحي السبزواري كان بالفعل نسخة من كتاب (إثبات الرجعة) لابن شاذان، فتكون الرواية المذكورة معتبرة ويمكن الاعتماد عليها) (1)، انتهى كلامه دامت برکاته.
إذن يُمكن الاطمئنان بالنسخة الواصلة إلى السيد مير لوحي السبزواري، وبهذا تكون رواية الفضل بن شاذان عن محمد بن عبد الجبار معتبرة ويمكن الاعتماد عليها (2)، وهذه الرواية تؤكد أن السيدة نرجس علیها السلام ابنة ابن قيصر ملك الروم، وبهذا تؤكد وتعضد شيئاً مما ورد في رواية الرهني، والرواية الأخرى أيضاً حالها كحال هذه الرواية، فهي مما وصل للسيد مير لوحي السبزواري، وهي تذكر اسم (مليكة)، فتعضد رواية الرهني من هذه الجهة أيضاً.
ص: 300
من الأمور التي جعلها الكاتب مرجّحات لما ذكره من قول هو مناسبته لحال أم الإمام علیها السلام، إذ إنها تعطي- بحسب رأيه - صورة تليق بشأنها:
- أنها ولدت على الإسلام.
- تربت في بيت الوحي.
- أدبتها حكيمة بنت الجواد.
- لم يمسها رجل ولم تنكشف على أحد قبل.
بخلاف رواية الرهني، حيث يقول الكاتب أن قبولها يعني الوقوع أمام عدّة عقبات لا تناسب شأن الإمامة:
- أنها ولدت على الشرك.
- تربت في بلاط الطاغية.
- تملكها نخاس.
- حديثة عهد بالإسلام.
وهذه الأمور يراها الكاتب أنها لا تتناسب مع أم خاتم الأوصياء علیه السلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
» التعليق:
ولي أن أعلق على هذه المحطة بثلاثة أشياء:
الأول: لا بُد من التفريق بين ثبوت كون أم الإمام علیها السلام رومية وبين رواية
ص: 301
الرهني وثبوتها، فهنا مغالطة يجب أن لا تُمرر، فقد ذكرنا أننا لو تنزلنا وقلنا بأن الرواية فيها كذب فإن هذا لا يعني أن الرواية بتمامها كاذبة في كل الجزئيات، وكون أم الإمام علیها السلام (رومية) ليس متوقفاً فقط على رواية الرهني، فنحن عندنا رواية الرهني وعندنا رواية الفضل بن شاذان أيضاً، ولذا قلنا إن إحدى روايتي ابن شاذان تدل على المطلوب وهي لها قيمتها واعتبارها، ومن جهةٍ أخرى فإن كلتيهما تُعضِدان رواية الرهني في بعض الجزئيات.
الثاني: أن وجود بعض العقبات بدواً لا يعني أن الرواية لا قيمة لها، وما جُعل عقبات لا يمكن قبوله خصوصاً مع النظر إلى لوازمه؛ فإن ما جعله عقبات يرد أيضاً على بقية أمهات الأئمة علیهم السلام، فبعضهن جواري وقد اشترين من سوق النخاسة، فلا أدري أنجعل هذا مطعناً في أمهات الأئمة علیهم السلام؟!! فماذا يَقول عن أم الإمام زين العابدين علیه السلام، والإمام الكاظم علیه السلام، والإمام الرضا علیه السلام والإمام الجواد علیه السلام وهكذا بقية الأئمة من بعده؟! فما يجيب به هناك يُجابُ به هنا، فنحن نَرى أن أمهات الأئمة وإن كانت الظروف لوصولهن لبيت الرسالة صعبة إلا أن كلمات أهل البيت علیهم السلام تؤكد أن أم المعصوم تعيش تحت الحراسة والرعاية الإلهية من البدء، بحيث يوكل الله تعالى أملاكاً تحرسها وتدرأ عنها شوائب الأقذار، فقد ورد عن إمامنا الصادق علیه السلام أنه قال: (حَمِيدَةُ مُصَفَّاةٌ مِنَ الْأَدْنَاسِ كَسَبِيكَةِ الذَّهَبِ، مَا زَالَتِ الْأَمْلَاكُ تَحْرُسُهَا حَتّى أُدِّيَتْ إِلَيَّ؛ كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ لِي وَالْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِي) (1)، فهذا شأن أمهات الأئمة، والسبي ما هو إلا طريق لوصولها إلى بيت الرسالة والله يُوكل بها من يحفظها.
ص: 302
ونظيره حفظ نساء الحسين علیه السلام وأهل بيته من توابع السبي والتعرض إليهن، فإنه كما ورد في وداع سيد الشهداء الحسين علیه السلام الأخير، أنه قال: (استعدوا للبلاء واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعلُ عاقبة أمركم إلى خير..) (1)، فإن بلاء السبي أمر واقع (شاء الله أن يراهن سبايا)، والسباة الأجلاف كانوا لا يتورعون عن شيء فإن جلهم قد شارك في واقعة الحرة، وبحسب ما ذكره بعض المؤرخين أن 1000 امرأة بكر حملت بالزنا (2) - والعياذ بالله - سوى الثيبات، وسوى من لم يحملن من الأبكار، فكم المجموع الواقعي؟!
أما نساء الحسين علیه السلام فكان حالهنّ كما أخبر الحسين علیه السلام: (واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعلُ عاقبة أمركم إلى خير)، وكذلك الحال أيضاً بالنسبة لأمهات الأئمة علیهم السلام.
ص: 303
الثالث: أن ما ذكره من ميّزات في القول الذي رجحه من قبيل:
إنها تربت في بيت الوحي بحيث أدبتها حكيمة علیها السلام: لا تخالفه رواية الرهني بل تؤكد عليه، وبضم الرواية الأخرى التي ذكرها الصدوق رحمه الله ازداد تأكيد المعنى، فإن في رواية الرهني أنَّ الإمام الهادي علیه السلام أوكل أمر السيدة نرجس علیها السلام إلى السيدة حكيمة علیها السلام «فَقَالَ لَهَا مَوْلانَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ أخْرِجِيهَا إِلَى مَنْزِلِكِ وَ عَلِّمِيهَا الْفَرَائِضَ وَ السُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ الْقَائِمِ علیه السلام» حتى عُرفت بأنها جارية السيدة حكيمة علیها السلام، وأما ما ذكره من قبيل تربيها في بيت طاغية فإن ذلك لا يضرها، ولك في امرأة فرعون خير مثال على ذلك حتى صارت من النساء الكاملات، وجعلها الله مثلاً للذين آمنوا (1).
وأما أنها لم يمسها رجل ولم تنكشف على أحد: فإنَّ رواية الرهني ليس فيها دلالة على أنها كانت تنكشف على أحد، بل الرواية تؤكد على عفافها، فمن جهة اللباس كانت تلبس ثوباً هكذا وصفه: (لابِسَةً حَرِيرَتَيْنِ صَفِيقَتَيْنِ تَمْتَنِعُ مِنَ اَلسُّفُورِ وَلَمْسِ اَلْمُعْتَرِضِ)، والثوب الصفيق هو خلاف الرقيق، أي الغليظ، وقد ورد في خبر أمير المؤمنين علیه السلام المعروف ب- (حديث الأربعمئة)، قال: (عَلَيْكُمْ بِالصَّفِيقِ مِنَ الثِّيَابِ فَإِنَّ مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُه) (2)، وعلى هذا تسالمت كلمات الفقهاء (3)، بل
ص: 304
يفهم من كلام بعضهم أن الصفيق لغلظته يحجب الروائح (1)، ولذا كان النخاس- لأنها كانت تتعفف - يَضْرِبُهَا فَتَصْرَخُ صَرْخَةً رُومِيَّةً فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ وَا هَتْكَ سِتْرَاهْ فَيَقُولُ بَعْضُ المُبْتَاعِينَ عَلَيَّ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَادَنِي الْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَة".
إذن هذه الإشكالية التي ذكرها الكاتب من أن ما تبناه من قول لا يشتمل على عقبات بينما الأخرى تشتمل على عقبات فعليها يُرجح الأولى على الثانية غيرُ كافٍ، و نحن قد ذكرنا أن أصل نسبتها إلى الروم ليس متوقفاً على خبر الرهني، فإن كانت بعض الجزئيات لا تُقبل لا يعني عدم كونها رومية، وقضية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في الأساس مليئة بالعقبات من أولها لآخرها، ولا شك أن التعتيم الذي طال ولادة الإمام علیه السلام لم يكن منحصراً بولادته فقط بل انجر إلى أمه علیها السلام.
ص: 305
هناك بعض الاستفهامات - أو الإشكالات- التي قد تخطر في بعض الأذهان فيما يرتبط ببعض جهات البحث، وقد وجدنا من الأفضل التطرق إلى بعضها:
لماذا الدفاع عن كون السيدة نرجس علیها السلام رومية؟ ألا يكون لها فضل إلا إذا انتسبت إلى السلاطين أو إلى نسب شريف، فتكون منتسبة من جهة إلى قيصر الروم، ومن جهة أخرى إلى المسيح علیه السلام فتكون بالتالي من عائلتين كريمتين؟
» الجواب:
إن كون السيدة نرجس علیها السلام الرومية أو غير ذلك ليس هو الذي يرفع المرء ويضعه بل ولن يمس جلالة مقامها وقدرها، والدين الإسلامي لا يرفع إنساناً أو يضعه لنسبه، فإن ميزان التفاضل بين الناس قائمٌ على التقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ) (1)، وانتخابها لأن تكون أمّا لإمام الزمان كاشفٌ بالإن عن أنها لعلى قدرٍ عظیم، فَليست المسألة مسألة نسب.
وإنما المسألة مسألة بحث علمي، فإن أي بحثٍ يُريد أن يغير تاريخاً معيناً إذا كان غير مبنيٍ على مقدمات صحيحة ومنهجية واضحة فإنه يُناقش ويعلق عليه،
ص: 306
وهذا - كما هو واضح- لا علاقة له بمسألة النسب الكريم وغيره، وتتأكد ضرورة البحث والرد لما أشرنا إليه في بدء البحث من أن مسألة السيدة نرجس علیها السلام في بعض جوانبها وإن كانت تاريخية، ويظهر منها الارتباط بالنسب، إلا أنَّ لها مساساً بمسألة عقائدية، وهي ما يرتبط بإمام الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، ومن أفضل سُبل بَذرِ التشكيك في قلوب المؤمنين هو التاريخ، فلا يُمكن أن يُترك الأمر الذي اشتهر عند الطائفة لقرون فقط لأجل بحثٍ صُبغ بأنه جاء بنتائج جديدة.
ص: 307
إذا كانت رواية الرهني معتبرة عند المتقدمين، فلماذا لم ينقلها المعاصرون لمحمد بن بحر الشيباني، كالشيخ الكليني والمسعودي والنعماني وغيرهم من الأصحاب؟ وكذلك الكلام بالنسبة لرواية الفضل بن شاذان؟
» الجواب:
إنَّ هذا الاستفهام مبتنٍ على مغالطة، وهي أن هؤلاء الأعلام رَحِمَهُم اللهُ قد رووا كل الروايات التي وقعت بين أيديهم، وهو غير صحيح كما سيأتي، ويمكن دفعه بالالتفات إلى أمرين:
الأول: إنَّ عدم نقل أمثال الشيخ الكليني والمسعودي والنعماني وأضرابهم من الأصحاب لا يمكن أن يُتخذ كدليل على ضعف السند أو عدم الاعتبار لهذه الرواية، نعم - على بعض المباني - لو أن أحدهم وصلته الرواية ومع ذلك أعرض عنها فإن ذلك قد يكون خادشاً في اعتبارها، وفي مثل موردنا لا يُمكن أن تُدعى مثل هذه الدعوى في جملة من الأعلام المعاصرين للرهني أو القريبين من عصره، إذ أنَّ الشيخ الصدوق رحمه الله قد نقل الرواية بل وأفردها في الباب المختص بالحديث عن السيدة نرجس علیها السلام، وكذا الشيخ الطوسي رحمه الله، وغيرهما من الأعلام، وهكذا هو الكلام في رواية الفضل بن شاذان.
الثاني: إنَّ محمد بن بحر الرهني عاش في خراسان، وكانت أكثر كتبه فيها، وسكن أيضاً في كرمان، وعلى الرغم من معاصرته للكليني والمسعودي إلا أن الظاهر أنهما لم يلتقيا بالرهني، فالكليني مثلاً على الرغم من مجيئه للري ومكوثه في قم لفترة من
ص: 308
الزمن ثم مجيئه لبغداد إلا أننا لا نَجد للشيباني ذكراً في الكافي مثلاً، أما المسعودي فقَدْ نَشأ في بغداد وأقام بِها، وكان رحالةً في طلب العلم والاستكشاف، فجاب البلدان شرقها وغربها، فمن العراق إلى فارس إلى بلاد السند ومن ثم الهند، إلى عمان واليمن ثم إلى حلب ودمشق وغير ذلك الكثير من المناطق، حتى انتهى الأمر به إلى أن توفي في مصر سنة (345ه-) أو (346ه-)، فهو رجل كثير الترحال، وقد عاش مدة من عمره بين المخالفين حتى ظُنَّ أنه منهم، بل ذهب بعض المحققين إلى أن المسعودي كان عامياً متشيعاً، وبعض آخر من المحققين إلى أن هناك شخصيتين بهذا الاسم (1).
أما النعماني فقد كفانا الجواب في مقدمة كتابه (الغيبة)، حيث قال: (وقد جمعت في هذا الكتاب ما وفق الله جمعه من الأحاديث التي رواها الشيوخ عن أمير المؤمنين والأئمة الصادقين علیهم السلام في الغيبة وغيرها مما سبيله أن ينضاف إلى ما روي فيها بحسب ما حضر في الوقت إذ لم يحضرني جميع ما رويته في ذلك لبعده عني وأن حفظي لم يشمل عليه والذي رواه الناس من ذلك أكثر وأعظم مما رويته ويصغر ويقل عنه ما عندي) (2)، وكلامه صريح في أن هناك روايات كثيرة عنده لم يتعرض لها.
وأما الفضل بن شاذان فقد توفي سنة 260ه- ، وذُكر أنه صنف 180 مصنفاً، فليس بالضرورة أن يقف هؤلاء الأجلاء على هذه الرواية، بل ليس بين أيدينا ما
ص: 309
يقول بأن الأجلاء كالشيخ الكليني وغيره قد أخذوا ميثاقاً بإيراد كل ما يجدوه في الجوامع الأولية في جواميعهم التي بأيدينا؟!
وقد أكد السيد البروجردي قدس سره خريت هذه الصناعة مراراً وتكراراً على أن الأصحاب لم يستقصوا تمام الأخبار المأثورة عن الأئمة علیهم السلام، بل بعض الأخبار كان موجوداً في الجوامع الأولية، ولم يكن منقولاً في الجوامع الأربعة الثانوية، وذكر عدّة بيانات تؤكد هذا المعنى:
منها قوله: (فإن قلت: لو كان في المسألة نص فلم لم يودعوها في جوامعهم؟
قلت: قد أشرنا مراراً إلى أن بناء مثل الكليني والشيخ والصدوق قدس سرهم لم يكن على إيداع جميع ما وجدوه في الجوامع الأولية في جوامعهم التي بأيدينا، ولعل المتتبع في فقه الشيعة الإمامية يعثر على أكثر من خمسمائة مسألة أفتى فيها المشايخ طراً بفتوى يستكشف بسببها وجود النص فيها مع عدم كونه مذكورا في جوامعهم التي ألفوها لضبط الأحاديث.
ويشهد لذلك وجود أخبار كثيرة في جامع مع عدم ذكرها في جامع آخر. ولعل الوجه في ذلك أن بناءهم لم يكن على نقل جميع ما يجدونه في الجوامع الأولية، بل على نقل خصوص ما كان لهم طريق مسلسل إلى رواتها.
وبالجملة لا ينبغي لأحد أن يرتاب في أن الجوامع الأولية التي ألفها الطبقة السادسة من أصحابنا كانت مشتملة على أخبار كثيرة لم يودعها المشايخ الثلاثة في الجوامع الأربعة التي بأيدينا. ولا يخفى أن المحقق والعلامة قدس سرهما أيضا قد عثرا على هذه النكتة، ولذلك تراهما في نظائر هذه المسألة يعتمدان على فتوى
ص: 310
الأقدمين ويستكشفان بذلك وجود النص) (1)
ومنها قوله: (وربّما يتعجب من ذلك من لا يقف على الحال، و لكن ليس هناك موضع للتعجب بعد ما قلنا مكرراً: من أن الجوامع الأربعة الموجودة بأيدينا لم يستقصوا تمام الروايات الواردة عن المعصومين علیهم السلام، و الحال أن صاحب الجوامع الأولية في عصر الرضا علیه السلام المعروفة بالأصول الأربع مائة رواها، وأقوى شاهد على عدم استقصائهم هو أن من راجع هذه الأصول الأربعة يرى خلوّ الفقيه والكافي من روايات كثيرة جمعها في التهذيب، وكذا وصل كتاب نوادر محمد بن عیسی بید المحقق الحلّي، والحال أنّه لم يكن عند المشايخ المتقدمين على هذا المحقق) (2)
ص: 311
أن المشتهر عند الشيعة أن اسم أم الإمام علیها السلام هو (نرجس)، ولكن إذا كانت رواية الرهني معتمدة كان يجب أن ينتشر اسم (مليكة)، ويُلتزم به.
» الجواب:
أولاً: أن رواية الرهني نفسها ذكرت الاسمين، فهي اسمها (مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم)، وأيضاً: (وَقَدْ سَأَلَنِي الشَّيْخُ الَّذِي وَقَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ عَنِ اسْمِي فَأَنْكَرْتُهُ وَقُلْتُ نَرْجِس).
ثانياً: إنَّ رواية الفضل بن شاذان تؤكد أن الاسمين لها علیها السلام، قال: (حدثنا محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب علیه السلام، قال: سمعت أبا محمد علیه السلام يقول: قد وُلد ولي الله وحجته على عباده وخليفتي من بعدي مختونا ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين عند طلوع الفجر، وكان أول من غسله رضوان خازن الجنان مع جمع من الملائكة المقربين بماء الكوثر والسلسبيل، ثم غسلته عمتي حكيمة بنت محمد بن علي الرضا علیهم السلام. فسئل محمد بن علي بن حمزة عن أمه علیه السلام، قال: أمه مليكة التي يقال لها في بعض الأيام: سوسن، وفي بعضها: ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضاً من أسمائها) (1).
ص: 312
ذكر السيد الخوئي قدس سره أن الفضل بن شاذان روى عن الرضا علیه السلام بينما محمد بن عبد الجبار المعني هنا هو المعروف ب- ( محمد ابن أبي الصهبان) وهو من أصحاب العسكري علیه السلام فكيف يروي من كان من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام عمن هو من أصحاب الإمام العسكري علیه السلام وبينهما على أقل التقادير طبقتان، والطبقة تعادل سبعين سنة على الأقل، فلو قلنا بأن الفضل بن شاذان كان من المعمرين، وافترضنا أنه حدّث عن الرضا علیه السلام وعمره 18 سنة فإنه يلزم من ذلك أن يكون عمر الفضل بن شاذان يوم روى عن محمد بن عبد الجبار عن 159 سنة تقريباً، وهذا مستحيل، مما يعني أن في السند قلباً، وهذا خير شاهد للتشكيك في كون النسخة الواصلة للشيخ الحر العاملي والسيد مير اللوحي هي فعلاً نسخة من (إثبات الرجعة) للفضل بن شاذان.
» الجواب:
أولاً: إن النتيجة التي توصل لها المستفهم- استحالة رواية الفضل بن شاذان عن محمد بن عبد الجبار للعمر الكبير - نتيجةٌ غير صحيحة، فشهادة الإمام الرضا علیه السلام في سنة (203ه-) على ما هو مشهور، والإمام العسكري علیه السلام في سنة (260ه-)، فلو أن الفضل بن شاذان كان سنة ( 200ه-) عمره 30 سنة لا 18 سنة، فإلى شهادة الإمام العسكري علیه السلام يكون عمره 90 سنة، فأين هو المستحيل في الأمر حتى يُصار إلى القول بوجود القلب في السند؟! ثم إلى التشكيك في نسخة كتاب (إثبات الرجعة) الواصل للشيخ الحر العاملي والسيد مير اللوحي السبزواري رحمهما الله.
ص: 313
ثانياً: إن الطبقة عبارة عن جماعة من الرواة اشتركوا في السن ولقاء المشايخ، وتستفاد معرفتها من تكرار النظر ومراجعة الأسانيد، والتأمل فيها حيث ترد الأسماء مفصلة ومجملة ، والذي يظهر لي أن الكلام في الاستفهام مبني على تقسيمات قديمة للرواة، والأساس في هذه التقسيمات هو التقدير دون الضبط والتحديد، وقد اعتمدت على المتوسط في المدة الزمنية التي يمكن أن يُحدث فيها الراوي فذهبوا إلى 70 سنة أو 75 سنة، وقد عمد السيد البروجردي قدس سره إلى استحداث منهجية جديدة لعدم صلاحية المنهجيات السابقة، فخلص فيها إلى ذكر أن مدة الطبقة تتراوح بين خمس وثلاثين إلى أربعين عاماً (1)، ومن هنا يظهر الاشتباه بتحديد الطبقة ب- (70 سنة) وبالتالي ضربها في (2)، فتكون (140 سنة) وعلى ضوئها عمره لما تلقى الحديث.
ثالثاً: إنَّ السيد الخوئي قدس سره وإن اختار أن الفضل بن شاذان من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام إلا أنه قال: (وظاهر النجاشي حيث خص والد الفضل بروايته عن الجواد علیه السلام، وعلى قول عن الرضا علیه السلام، عدم رواية الفضل عن الرضا علیه السلام، وهو أيضا ظاهر الشيخ حيث إنه لم يعد الفضل من أصحاب الرضا علیه السلام، ولا من أصحاب الجواد علیه السلام، ولكن الظاهر أن ما ذكره الصدوق هو الصحيح) (2)، ولسماحة السيد السيستاني دام ظله كلام طويل الذيل في هذا، أنقله بتمامه:
- الملاحظة الأولى: أن الشيخ والنجاشي ذكرا هذه الرسالة - [أي رسالة العلل]- من مؤلفات الفضل ولم ينبها على أنها رواية عن الإمام علیه السلام- [أي الإمام
ص: 314
الرضا علیه السلام]- مع أن من عادتها التنبيه على ذلك في نظائرها. والصدوق أيضاً عند نقله للرسالة ابتداء أسندها إلى الفضل ثم ذكر السند المزبور الذي يدل على أنها رواية.
- الملاحظة الثانية: أن الفضل لم يكن من رواة الإمام الرضا علیه السلام بل لم يدرك محضره الشريف، ومقتضى ما نقله ابن قتيبة هنا أن الفضل أدرك محضر الإمام كثيراً وأنه سمع هذه الأمور منه المرة بعدة المرة، والشيء بعد الشيء، وهذا غير صحيح قطعاً. وذلك لأنه عُدّ في فهارس الرجال من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري علیهما السلام، ولو تم ما نقله ابن قتيبة لعدوه من أصحاب الرضا علیه السلام مع أنه لم يُعد من أصحاب الجواد علیه السلام أيضاً. بل ظاهر كلماتهم أن أباه شاذان كان من أصحاب الجواد علیه السلام، قالوا: وقيل أنه -أي شاذان - روى عن الرضا علیه السلام.
قال السيد الخوئي أيده الله: (وظاهر النجاشي حيث خص والد الفضل بروايته عن الجواد علیه السلام، وعلى قول عن الرضا علیه السلام، عدم رواية الفضل عن الرضا علیه السلام، وهو أيضا ظاهر الشيخ حيث إنه لم يعد الفضل من أصحاب الرضا علیه السلام، ولا من أصحاب الجواد علیه السلام، ولكن الظاهر أن ما ذكره الصدوق هو الصحيح وذلك لقرب عهده وطريقه إلى الفضل ويؤكد ذلك أن والد الفضل روى عن أبي الحسن الأول علیه السلام فلا بعد في رواية الفضل نفسه عن الرضا علیه السلام. فقد روى محمد بن يعقوب عن الحسين بن محمد الاشعري عن معلى بن محمد بن جمهور عن شاذان عن أبي الحسن موسى علیه السلام)
وهنا عدة نقاط يجب أن تلاحظ:
ص: 315
1. أنه أيده الله لم يعتبر في سائر الموارد قرب العهد من المرجحات كما اعتبره منها في هذا المقام فنراه يدفع توثيق ابن قولويه (بناءً على توثيق من في أسانيد المزار) بتضعيف النجاشي والشيخ مع أنه أقرب عهداً وهو من معاصري الصدوق تقريباً. والصدوق ليس قريب العهد من الفضل في نفسه وإنما هو أقرب عهد من الشيخ والنجاشي.
2. أنه اعتمد في الجواب على طريق الصدوق إلى الفضل، وهذا الطريق هو الذي يصفه بعد أسطر بالضعف وسيأتي بيان ضعفه.
3. أنه أكد ما ذكر برواية شاذان عن موسى بن جعفر علیه السلام. ويرد ذلك:
أولاً: إن من الممكن أن يكون شاذان في أوائل شبابه قد رأى الامام الكاظم علیه السلام في أواخر عهده الشريف، ويكون الفضل قد ولد في أواخر حياة أبيه كما قد يؤيده شاهد سيأتي ذكره، وعليه فتكون المدة بين ملاقاة شاذان للكاظم علیه السلام وبين ولادة فضل فضلاً عن بلوغه ورشده عشرات السنين فلا يبعد عدم معاصرته للجواد علیه السلام أيضاً.
ثانياً: أن المذكور في الفهارس أن شاذان روى عن الجواد علیه السلام. وقيل: روى عن الرضا علیه السلام فكيف يصدق ما نقله عن الكاظم علیه السلام.
ثالثاً: أن سند الرواية التي استشهد بها ضعيف جداً كما ذكره المجلسي في (مرآة العقول)، فمعلی بن محمد مضطرب الحديث والمذهب كما قال النجاشي، ومحمد بن جمهور ضعيف في الحديث فاسد المذهب وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها كما قال النجاشي، وقال ابن الغضائري محمد بن الحسن بن جمهور أبو عبد الله
ص: 316
العمي غال فاسد الحديث لا يكتب حديثه، رأيت له شعراً يحلل فيه محرمات الله عز وجل) (1)، انتهى النقل عن السيد السيستاني دام ظله.
فرواية الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام محل تأمل، والظاهر الخلط بينه وبين أبيه في الرواية عن الإمام الرضا علیه السلام.
رابعاً: مما ذكره السيد الخوئي قدس سره عمن روى الفضل بن شاذان ومحمد بن عبد الجبار فالظاهر أن محمد بن عبد الجبار مشارك للفضل في الطبقة، وبهذا صرح السيد البروجردي قدس سره من أنهما من الطبقة السابعة (2)، فإننا نجد أن محمد بن عبد الجبار قد روى عمن روى عنه الفضل بن شاذان، وإليك نماذج كما ذكرها السيد قدس سره:
الفضل بن شاذان روى عن: الرضا علیه السلام، وعن أبي ثابت، وابن أبي عمير (ورواياته عنه تبلغ ثلاثمائة وأربعة وأربعين مورداً)، وحماد، وحماد بن عيسى (ورواياته عنه تبلغ مائة مورد)، وصفوان (ورواياته عنه تبلغ مائة وأحد عشر مورداً)، وصفوان بن يحيى (ورواياته عنه تبلغ مائة وتسعة وثمانين مورداً)، وعبد الله بن جبلة، وعبد الله بن الوليد العدني صاحب سفيان، ومحمد بن أبي عمير، ومحمد بن سنان، ومحمد بن يحيى، ويونس. (3)
ومحمد بن عبد الجبار روى عن: أبي محمد علیه السلام والعسكري علیه السلام، وعن أبي جميلة، وأبي عبد الله البرقي، وأبي القاسم، وأبي القاسم الكوفي، وأبي محمد الأنصاري،
ص: 317
وأبي محمد الدهلي، وأبي محمد الذهلي، وابن أبي عمير، وابن أبي نجران، وابن فضال (ورواياته عنه تبلغ ستين موردا)، وابن محبوب، وأحمد بن النضر، وإسحاق، وإسماعيل بن سهل، والحسن بن الحسين، والحسن بن الحسين اللؤلؤي، والحسن بن علي، والحسن بن علي بن فضال، وسيف بن عميرة، وصفوان (ورواياته عنه تبلغ تسعة وثلاثمائة مورد)، وصفوان بن يحيى (ورواياته عنه تبلغ ثلاثمائة وسبعة عشر مورداً)، والعباس، والعباس بن معروف، وعبد الرحمن بن أبي نجران، وعبد الرحمن بن حماد، وعبد الله بن جبلة، وعبد الله بن الصلت أبي طالب، وعبد الله بن محمد، وعبد الله الحجال، وعبيد الله الدهقان، وعلي بن إسحاق، وعلي بن حديد، وعلي بن مهزيار، وعلي بن النعمان، ومحمد بن أبي عمير، ومحمد بن إسماعيل، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، ومحمد بن حسان، و محمد بن خالد بن سالم، ومحمد بن سنان، ومحمد بن يحيى، ومنصور بن حازم، والنضر بن شعيب، والحجال) (1).
وقد روى الكشي بسنده عن سَهْل بْن بَحْر اَلْفَارِسِي، قَالَ: (سَمِعْتُ الْفَضْلَ بْنَ شَاذَانَ آخرَ عَهْدي بِهِ، يَقُولُ: أنَا خَلَفٌ لِمَنْ مَضَى، أَدْرَكْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أبِي عُمَيْرٍ وصَفْوَانَ بْنَ يَحْيَى وغَيْرَهُمَا، وَحَمَلْتُ عَنْهُمْ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَمَضَى هِشَامُ بْنُ اَلْحَكَمِ رحمه الله وكَانَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رحمه الله خَلَفَهُ كَانَ يَرُدُّ عَلَى اَلْمُخَالِفِينَ. ثُمَّ مَضَى يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ولَمْ يُخَلِّفْ خَلَفاً غَيْرَ اَلسَّكَّاكِ، فَرَدَّ عَلَى اَلْمُخَالِفِينَ حَتَّى مَضَى رَحِمَهُ اللهُ، وَأَنَا خَلَفٌ لَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ رَحِمَهُمُ اللهُ) (2)، وعقب السيد السيستاني دام ظله بما نصه: ولو كان الفضل قد أدرك الرضا علیه السلام لكان الأولى أن يمدح نفسه بإدراكه
ص: 318
فإن وفاته علیه السلام قبل وفاة ابن أبي عمير وصفوان، فإدراكه له علیه السلام أهم من جهتين، وكان ينبغي أيضاً أن يقول وحملت عنهم منذ ستين بل خمس وستين سنة لأن هذا الكلام صدر عنه في أواخر أيامه كما هو ظاهر الخبر، ووفاته في سنة مائتين وستين ووفاة الامام علیه السلام في سنة 201 أو 202 أو 203 على اختلاف الأخبار، فلو كان قد أدركه لكان قد أدركه أيام رشده وكماله فيكون قد حمل العلم أكثر من ستين سنة.
ثم إنه يظهر من هذا الخبر أنه لم يدرك يونس بن عبد الرحمن المتوفى سنة 208ه- وقد كان أبوه من تلامذة يونس وهو أهم ممن افتخر بإدراكهم وأقدم منهم فلو كان قد أدركه لافتخر به لسبقه وعظمته والذي لم يدرك يونس فمن البعيد أنه أدرك الإمام الرضا علیه السلام (1).
ص: 319
إنَّ رواية الرهني قد تكون كذبة من الرهني أو مُصدّقاً لكذبة أخبر بها بشر بن سليمان النخاس، والأخير رجل لم يُعرف عنه شيء غير ما ذُكر في الرواية، وتوافق ما ورد في الرواية مع ما ورد في التاريخ البيزنطي قد يكون مرجعه لاطلاع هذا الشخص على بعض القضايا الخاصة في الروم، كأن يكون رومياً قريباً من البلاط، أو كان أسيراً في الروم لفترة من الزمن، أو غير ذلك من الاحتمالات، فقام بنسجها وحبكها بهذه الكيفية، فبالتالي لا يكون توافق ما ورد في الرواية مع التاريخ البيزنطي مؤيداً .
» الجواب:
أولا: تقدم ذِكر أن الرهني رُمي بالغلو على تأمل في هذا، فلا نعيد، ولكن لم يُرمَ بالكذب والوضع.
ثانياً: أن بشراً وإن لم يرد في حقه شيء فإن بعض ما ورد في الرواية يكشف عن نوع من التفقه أو صدق الامتثال للإمام علیه السلام، فمثلاً تعبيره: (قُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسِ وَقُلْ لَهُ إِنَّ مَعِي كِتَاباً مُلْصَقاً لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةٍ رُومِيَّةٍ وَخَطٍّ رُومِيٍّ وَوَصَفَ فيه كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ فَنَاوِلْهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أخْلَاقَ صَاحِبِهِ فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ فَأَنَا وَكِيلُهُ فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ. قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَّاسُ: فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لِي مَوْلَايَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام) فيؤيد ما ورد في صدر الرواية من أن الإمام قد فقهه في بعض بعض أبواب الفقه، فأن يقوم هذا الرجل بمثل هذا النسج فيكون مطلعاً على خصوصيات دار الإمام علیه السلام وذكر الأسماء، وكذا اطلاعه
ص: 320
على تاريخ الروم الداخلي والخارجي بذكر الأسماء والتفاصيل، وكذا ذكر أمور مختلفة تبين جانب تفقهٍ عنده، وكل ذلك يذكره بشكل يتقاطع مع معطيات تاريخية لهو أمرٌ يبعّد احتمال كذبه.
ثالثاً: لا يمكن تمرير الكذبة إن لم يكن هناك استعدادٌ لقبولها، فلو قلنا بأن الرواية كاذبة إلا أنها في الواقع تكشف عن وجود اعتقاد بكون أم الإمام علیها السلام رومية وأن اسمها مليكة، وتؤكد على هذا روايتا الفضل بن شاذان المعتبرتان، فلو كان هناك كذب حينها سيكون في بعض التفاصيل لا أصلَ كونها رومية، وابنة ابن قيصر ملك الروم.
ص: 321
قد اتضح من خلال ما تقدم أن دعوى وجود روايات أخرى لأصل السيدة نرجس علیها السلام هي دعوى مجانبة للصواب، ويبقى ما اشتهر بين العلماء منذ القدم من أنها علیها السلام رومية هو القول الذي لا شائبة تشوبه، وأما القول بأنها نوبية فهو قول لا أساس له ولا يبتني حتى على رواية.
ولا ينبغي أن يكون هاجس الإتيان بالجديد معميّاً على الباحثين الطريق الصحيح في التعامل مع القضايا، عقائدية كانت أو تاريخية، وكما أسلفنا في عدّة مواطن فإنَّ هذا البحث وإن كان في ظاهره تاريخياً إلا أنه يرتبط بالجانب العقائدي شئنا أم أبينا.
وأما دعوى أن باب البحث العلمي مفتوح على مصراعيه، فهذه ليست كلية بحيث يؤول الأمر إلى إحداث إرباك في أوساط المؤمنين مُبَرَّراً كُلُ ذلك بأن هذا بحثٌ علمي والغاية لا تبرر الوسيلة!!
فإن البحث العلمي له أسسه وضوابطه ومنهجيته، ويجب أن لا يُستخف بالتراث الذي بين أيدينا، فقد بذل الأعلام أعمارهم وأنفسهم في سبيل حفظ تراث محمد وآله الطاهرين، وبذلوا جهوداً مضنية لتنقية التراث حتى يصل إلينا صافياً، ومنذ انتهاء زمان الحضور وابتداء زمن الغيبة قد أصبحت مسؤوليتهم أكبر، وصار لهم دورٌ كبيرٌ في حفظ الدين ودفع الشبهات عن المؤمنين، وقد شمروا عن سواعد الجد والاشتغال، فقاموا بجمع الروايات المتناثرة بما وسعهم، وقاموا أيضاً بتمحيص الروايات وغربلتها، حتى تجد أمثال الشيخ الكليني يبذل العمر
ص: 322
الطويل الجمع كتابه الكافي، والظاهر أن هذا العمر لم يكن فقط للجمع بل لأنه رحمه الله كان يبذل الجهد في تنقيتها بما وسعه نظره وجهده، وكان علماؤنا يبذلون الجهد لدفع الشبهات عن قلوب المؤمنين كالشيخ الصدوق رحمه الله، فإنك تجده قد صرح في كتابه (كمال الدين) أنه لم يصنفه إلا لطروء الشبهة على قلوب بعض المؤمنين فانبرى وصنف هذا الكتاب ليدفع به تلك الشبهات عنهم، فعلماء مدرسة أهل البيت علیهم السلام يرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، ويمنعونهم عن الخروج على ضعفاء الشيعة، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته، كما ورد عن الصادق علیه السلام.
وأخيراً لا يُفهم من كلامنا أننا نرفض أي عملية تصحيح للمسيرة العلمية، بل نحن مع هذه المسيرة لكن بشرط اتباع منهج صحيح وواضح.
أسأل الله أن تكون هذه الكتابة نافعة لإخوتي المؤمنين، ولا ندّعي العصمة فإن العصمة لأهلها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
من أحب إرسال ملاحظة أو نقد أو غير ذلك فيمكنه ذلك عبر البريد
mohammedalmubaireek@gmail.com
ص: 323
1. AEastern Roman Empire. J. Bury
2. Byzantium: the imperial centuries, A.D. 610-1071. Jenkins, Romilly James Heald
3. Caesar Bardas and the accusation of an illicit affair. Hadi TAGHAVI Ehsan ROOHI
4. History-of-the-Byzantine-State. George Ostrogorsky
5. Oxford Dictionary of Byzantium. Oxford University
6. THE CAMBRIDGE MEDIEVAL HISTORY
7. The History of the Byzantine Empire
8. The Imperial Administrative System in the ninth Century. J. Bury (1927). Published for the British Academy. London1911
ص: 324
مليكة الروم
قراءة أصيلة في هويتها وسيرتها
حسن يوسف بن نخي
ص: 325
٭ الكتاب: مليكة الروم قراءة أصيلة في هويتها وسيرتها
٭ تأليف: الشيخ حسن يوسف بن نخي
٭ مراجعة وتدقيق: الشيخ حسين زكي الصالح
٭ الغلاف: تاج ذهبي مهدى إلى ضريح السيدة نرجس علیها السلام في سامراء مرصع بالماس والياقوت والزبرجد والدر والزفير والزمرد، وفي ذؤابته فيروزة بيضاء نادرة منقوش عليها (يا قائم آل محمد).
وهو من عمل النقاش السيد حيدر أبو السيوف في الكاظمية المقدسة.
٭ ظهر الغلاف: الآثار الباقية من معالم الدولة الإسلامية في سامراء، ومعالم الروم في القسطنطينية وقت الحادثة.
الطبعة الأولى
ذى الحجة 1444ه-
ص: 326
الفصل الأول
اللوازم الفاسدة - ثمرات هامة
أهمية البحث
بعد التسالم على كون والدة الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف تنتسب إلى قيصر الروم من جهة الأب، وتنتسب إلى وصي عيسى شمعون من جهة الأم فإن لهذا البحث ثمرات هامة، وللتشكيك به لوازم فاسدة؛ لذا فإننا في هذا الفصل سنسلط الضوء على أهمية البحث وفوائده، وفي الفصول التالية نناقش ما ورد من روايات وأخبار بهذا الخصوص.
***
ص: 327
من الملفت للنظر أن أطروحة إنكار انتساب السيدة نرجس علیها السلام إلى قيصر الروم تزامن معها أطروحة من المخالفين في التشكيك بأصل ولادة الإمام صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف؛ بنفس الأدلة والمقدمات، ولكن الأهداف المعلنة والنتائج مختلفة.
بالضبط مثل نظرية انتحال الشعر الجاهلي، حيث قدم الأديب المصري طه حسين نظرية مشابهة لما قدمه المستشرق البريطاني مرجليوث بأن الشعر الجاهلي أكذوبة، وقد اختُلق في عصور متأخرة ونسب إلى الجاهلية. ومن لوازم هذا القول أن العرب لم يكونوا متفوقين أدبيّاً، فلا معنى لتحدي القرآن العرب أن يأتوا بسورة من مثله، وعليه يبطل القول بإعجاز القرآن!
بغض النظر عن كون هدف طه حسين علمياً صِرفاً أو غير ذلك، فإن طرحه البحث استدعى الرد السريع خصوصاً مع تزامنه مع طرح مرجليوث، فإن من لوازم البحثين التشكيك بإعجاز القرآن، وإن لم يصرح طه حسين بذلك.
الأمر مختلف تماما ما لو شكك أحد نقاد الأدب في الشعر الأندلسي زاعماً أنه كُتب في بغداد مثلا لا الأندلس، وافترض نظرية وهمية بهذا الخصوص، إذ لا لوازم عقائدية تترتب عليه ولا عدو يترصد موقفنا من الأدب الأندلسي فعلا! فلا ضرورة للتصدي السريع سوى البحث العلمي.
وبتعبير آخر إن طرح طه حسين وإن كان ظاهره بحثاً أدبيّاً لكن حين
ص: 328
ترتبت عليه جملة من اللوازم الفاسدة مما له مساس بالعقيدة تحتم ردّ دعواه وإبطال زعمه بالأدلة القاطعة منبهين على خطورة ما ادعاه، فحوكم البحث الأدبي بتشدد عقدي، لأن الخصم اليهودي أو النصراني يبحث عن ثغرة من هذا النوع ولا يبحث عن ثغرة في الأدب الأندلسي.
وما نحن فيه من التشكيك بهوية والدة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف من هذا القبيل؛ وقد التبس الأمر عند البعض فتوهم أمراً آخر في هويتها علیها السلام واستعجل ونشر ما توصل إليه من نتائج لا أظنها تعدت دائرة البحث في موسوعة ويكبيديا!
لابد من التنبه إلى ما يُثار في ساحة المخالفين اليوم من أن الشيعة وبعد أكثر من ألف سنة لا زالت شخصية إمامهم محاطة بالغموض ما يعني أنها محض خرافة، الشيعة لا يعرفون إن كانت أمّ إمامهم من السند أو المغرب أو الروم أو النوبة؟ ابتيعت من سوق النخاسة أو ولدت في دار السيدة حكيمة؟ اسمها نرجس أو مليكة أو خمط أو صقيل أو سوسن؟
وهكذا تتكرر الأسئلة، رغم أن الأجوبة واضحة، فهويتها علیها السلام معلومة وهي من نسل قيصر الروم وهذا ما ورد بالسند الصحيح، وغير ذلك لم يرد بسند صحيح ولا ضعيف أصلا! وأسماؤها متعددة كما هو شائع عند الإماء في ذلك العصر متعارف عند كثير من الناس إلى يومنا هذا.
خروج شخص من الوسط الشيعي يروّج لهذا الطرح لا يخدم إلا أعداء المذهب، وليس من الصحيح أن يقول القائل لا يهمنا أيّاً كانت هي؛ المهم أنها أم
ص: 329
إمامنا علیه السلام ولها مكانتها! نحن لا ننكر أن لها مكانتها بأي حال من الأحوال إذ اختارها الله وعاء لإمامنا المنتظر أرواحنا فداه، لكن ليس من الحكمة الاكتفاء بهذا القول مع وجود حملة تشكيك في أصل وجودها علیها السلام.
إن تشكيك الأعداء بأصل وجودها يعيدهم إلى دائرة اتهامنا بالأساطير والخرافة ثم إنكار ولادة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، فهل يكون كل ذلك برضا وقبول منا رغم مخالفته لما ثبت في رواياتنا؟ وهل يجوز لنا احترام الرأي الباطل المبني على تخرصات تضعف عقائد الناس، وأن نستخف بالحقائق والمسلمات؟! إنه هذيان علمي لا علاقة له بأدب الحوار أصلا!
ثم إن مما طرح من المخالفين أو من المحسوبين على المذهب -سواء بغرض الإساءة إلى السيدة نرجس علیها السلام، أو لمجرد المناقشة وتسقيط الرواية- أن اعتماد خبر مسير السيدة نرجس من الروم إلى بغداد ثم إلى سامراء يلزم منه عدة أمور فاسدة وهي: نشأتها في بلاط حاكم فاسد، وولادتها على غير الإسلام، ثم حداثة عهدها بالإسلام، وانتقالها في ملك النخاسين! وأن هذه الخصال لا تليق بشأن والدة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، فهذا مما يلزم الرد عليه لأن التسليم به أو غض النظر عنه أنكى وأشد!
أما قولهم: بأن حياتها في بيت طاغية وحاكم جائر انتقاص لحقها لا يليق بشأن أم المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف؛ فما هو إلا محاولة لاستدرار عواطف العامة، فهذي آسيا بنت مزاحم ما ضرها أن عاشت في بيت فرعون، حتى كملت حين لم يكمل من النساء إلا قليل، ولا أظن قيصر الروم النصراني أشد كفراً من فرعون موسى
ص: 330
القائل أنا ربكم الأعلى! بل هو فضل وشرف أن يكمل الإنسان رغم شدة الظروف وحرجيتها فيختار الصواب ويعيش مؤمنا بين أعتى الخلق حتى صارت آسيا بنت مزاحم ضرة خديجة بنت خويلد في الجنة (1)، فياله من شرف!
فإن سلمنا بكون قولهم منقصة فهذا يلزم انتقاص والدة الإمام زين العابدين علیه السلام، ويلزم انتقاص صفية بنت حيي بن أخطب زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم (2)، وهذا ما لا يقبله أحد لكنه لازم كلامهم على كل حال!
أما قولهم: أنها ولدت (3) على غير الإسلام وتأخرت في إسلامها؛ وما في هذا من النقص أن تتنبه فتاة بعمر الثالثة عشر من عمرها إلى بطلان النصرانية وتهتدي إلى الإسلام؟ أليس هذا عين الفضل والكمال؟ أم أن القائل لا يرى المسلم
ص: 331
إلا من ولد لأم مسلمة كما ترى اليهود أن اليهودي ليس إلا من ولد لأم يهودية ؟!
رأت الحق فاتبعته وخرجت إلى دار الإمامة لتلحق بإمامها، تركت الدنيا وقصورها لتعيش في إقامة جبرية بين سجن وتشريد، واعتقال واقتحام مسلِّمة في كل ما جرى لإمام زمانها علیه السلام ثم يعاب عليها ذلك؟!
لعمري ما في هذه الإنشائيات التي سردوها منقصة، سوى تغرير العوام باسم الثقافة، ولا نرى في حديثهم سوى جهالات واقتطاع كلام وخيانات علمية!
أما اعتراضهم على انتقالها في سوق النخاسة، فلعمري إن كانت هذه الأمور منقصة فإنها تسري على كل أبناء الجواري من الأنبياء والأئمة والصالحين والخلفاء وغيرهم ممن انتقلت أمهاتهم بأيدي النخاسين؟
هل يقولون ذلك في نبي الله إسماعيل علیه السلام لأن أمه جارية (1)انتقلت في أيدي أسيادها حتى صارت تحت إبراهيم علیه السلام؟ إن هذا القول راجع لنزعة جاهلية
ص: 332
بعيدة عن الإسلام الذي شرّف المؤمن بإيمانه لا بحسبه ولا بإنسانيته، إنما العقيدة والعمل! لا أدري كيف يتحدث هؤلاء باسم الدين لنبذ ما جاء به الإسلام من قيم وأخلاق!
ثم إن الابتلاءات سُنّة تسبق بلوغ المراتب العليا؛ هذا يوسف الصديق نبي حكم مصر وخضعت له الرقاب وما كان يقع ذلك دون أن يُلقى في غيابت الجب ثم يباع بثمن بخس (1)، ثم يبتلى بالسجن، وغير ذلك من محن مر بها حتى صار بعدها عزيز مصر، وذاك أبوه إبراهيم ما كان ليبلغ الإمامة حتى يُبتلى بكلمات، ومثل ذلك كثير مطرّد في سِيرِ الأولياء؛ فما الضير أن تُختبر ابنة القيصر بذلك، قبل أن يؤذن لها بأن تكون وعاءً لولي الله الأعظم؟ فتختار السبي بنفسها تقطع الفرات بزورق بعد أن غادرت قصور القسطنطينية بزي الخدم، حتى تبلغ بغداد لتباع في سوق النخاسة، كل ذلك يسبق الإذن لها بأن تكون أمّاً لإمامنا الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف، و لك أن تقول شاء الله أن يراها كذلك قبل أن تنال هذا الشرف!
لعمري لا أقرأ في قولهم غفلة عما أقول، غير أني أراه تعريضاً بأمهات الأئمة علیهم السلام! فوالدة الإمام زين العابدين علیه السلام سُبيت من بلاد فارس، ووالدة الإمام الكاظم علیه السلام سُبيت من بلاد البربر، ووالدة الإمام الرضا علیه السلام سُبيت من مدينة مرسية (2) وجاء بها نخاس مغربي إلى الحجاز، ووالدة إمامنا الجواد علیه السلام جارية نوبية
ص: 333
من صعيد مصر، ووالدة إمامنا الهادي علیه السلام جارية مغربية، ووالدة الإمام العسكري علیه السلام جارية أيضاً. وكل ما قيل في السيدة نرجس علیها السلام يرد في سائر أمهات الأئمة علیهم السلام، وهو مقصودهم لا غفر الله لهم.
وإنه لما بلغ بنا المقام إلى هنا فإنه من المناسب ذكر ما روي في الكافي من أن الإمام أبا جعفر الباقر علیه السلام لما اشترى السيدة حميدة المصفاة علیها السلام لولده الإمام جعفر الصادق علیه السلام قال لها: أخبريني أبكر أنتِ أم ثيب؟ قالت: بكر. قال علیه السلام: وكيف، ولا يقع في أيدي النخاسين شيء إلا أفسدوه؟! فأخبرته أنه كان يحرسها رجل (1) أبيض الرأس واللحية علیه السلام. (2) وورد عن الصادق علیه السلام في شأنها أيضاً: حميدة مصفاةٌ من الأدناس، كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أُدّيت إلي؛ كرامة من الله لي والحجة من بعدي. (3)
وكذلك روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن علي بن ميثم (4) عن أمه: أن السيدة
ص: 334
نجمة والدة إمامنا الرضا علیه السلام كانت بكراً حين اشتُريت. (1)
وقريب منه ما قاله إمامنا الهادي علیه السلام في والدته السيدة سمانة: أمي عارفة بحقي، وهي من أهل الجنة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبار عنيد، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام، ولا تتخلف عن أمهات الصديقين والصالحين. (2)
وقريب منه ما قاله إمامنا الهادي علیه السلام في والدة الإمام العسكري علیه السلام السيدة سليل، قال علیه السلام: سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس. (3)
وكل ذلك مؤيد بما جاء في الزيارة المباركة (4): السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةَ الْهُدَىٰ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ التَّقْوَىٰ... لَمْ تَزَالُوا بِعَيْنِ اللهِ يَنْسَخُكُمْ مِنْ أَصْلَابِ كُلِّ مُطَهَّرٍ، وَيَنْقُلُكُمْ مِنْ أَرْحَامِ الْمُطَهَّرَاتِ، لَمْ تُدَنِّسْكُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلاءُ.
وإنما جئت بهذه الروايات ردّاً على تعريضهم لا غفر الله لهم بأمهات الأئمة علیهم السلام فإنهن طاهرات لا يختلفن عن أمهات الصديقين مكلوءات محروسات بعين الله، وإن انتخاب الباري عزوجل لهذه النسوة من بين نساء الأرض شرف ما بعده
ص: 335
شرف، لا يضره سبي واسترقاق، وهبة أو بيع في سوق نخاسة، فإن الله حارسهن من كل شيطان مارد.
هذا ما لزم التنويه به من لوازم فاسدة تعقب قبول هذه الأطروحات والتشكيكات في انتساب السيدة نرجس علیها السلام لقيصر الروم.
وأضيف على ذلك أن هذا التشكيك هو فصل من فصول حملة التشكيك بالموروث الأصيل، وهذا التشكيك يختلف عن المناقشات المتعارفة في الأوساط العلمية، بل هي حملة مؤداها الأخير العبث بهوية المذهب، فالمشروع لو نظرت إليه عن كثب وجدت نتائجه رد تراثنا الروائي، والتكذيب بتاريخنا، والاستخفاف بمقدساتنا، والتنكر لشعائرنا، وتقويض أسس منظومة التدين في الوسط الإيماني.
والسكوت يفتح باب التمادي، كالمؤدب يضرب الصبي ضرباً مبرحا ليكتب (ألف) على أنه إن فعل وكتبها توقف عن ضربه، والصبي يتحمل الضرب ولا يكتب! يُسأل الصبي عن ذلك: اكتب الألف و انج بنفسك من هذا الضرب المبرح! فيجيب: إن كتبت الألف، طالبني بالباء، إنه يريدها عن آخرها حتى الياء، وإن زعم أن مراده الألف وحسب! قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
***
ص: 336
من الخصال الثابتة في المخلص الذي تترقبه اليهود وتعتقد به النصارى أن يكون داودي النسب، كما أن الثابت في مهدي الإسلام أنه علیه السلام هاشمي النسب من ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومن ولد فاطمة صلی الله علیه و آله و سلم.
وقد روت العامة أيضاً أن المهدي الموعود لونه عربي جسمه إسرائيلي، وهذا منسجم مع كون والدته من نسل شمعون أي من بني إسرائيل، فإن فيه عرقاً من بني إسرائيل.
وهذه الخصال مجتمعة في مولانا بقية الله الأعظم عجل الله تعالی فرجه الشریف، حسب ما ورد في قضية السيدة نرجس علیها السلام برواية الصدوق رحمه الله لأنه لأبيه العسكري علیه السلام من ولد فاطمة علیها السلام، ولأمه السيدة نرجس علیها السلام فإنه من نسل شمعون، أي من ذرية داود.
والمعلوم أن النسب يثبت عند اليهود والنصارى من جهة الأم كما يثبت من جهة الأب، بل عند اليهود الانتساب عن طريق الأم أولى، أما النصارى فلا حيلة لهم في تعيين نسب مخلصهم إلا عن طريق أمه السيدة مريم.
لا أظن أن اجتماع هذه الخصال في مهدينا عجل الله تعالی فرجه الشریف تحققت عن طريق الصدفة، بل إن الاعتقاد به يفك معضلة النصارى وما اعتقدوه في عيسى علیه السلام، لأن عيسى لم يكن داوديّاً، فنسبوه إلى داود عن طريق خطيب مريم العذراء يوسف النجار حسب عقيدتهم، فهو ابنه وفق السجلات الرسمية حسب قولهم لا ابنه واقعاً.
والواضح أن هذا الانتساب لا اعتبار له، فلا يصلح أن يكون عيسى ابن
ص: 337
مريم هو المخلص حسب معتقد النصارى، لأن أمه هارونية النسب لا داودية، وأشار إلى ذلك القرآن ليحاججهم بقوله: ﴿يَا أُختَ هَارُونَ)! (1)
وهنا يأتي دور الباحث في الأديان أن يجمع ما قيل بشأن المهدي (أو المسيا أو المسيح أو الماشيح على اختلاف التسميات). وقد ذكر لي أحد الفضلاء (2) أنه عرض هذا الأمر على أحد النصارى فأخذ القول بمجامع قلبه، ورأى في ذلك باباً للتأمل لمراجعة عقيدته، ثم إنه استعان برسام أيقونات ليرسم له الفكرة (3).
***
ص: 338
في النقد الأدبي الحديث فضلا عن المدارس النقدية، فإن هناك نظريات ومناهج متعددة يتم من خلالها دراسة النصوص الأدبية: مناهج نفسية واجتماعية، وربما أنثروبولوجية وغيرها. والذي يهمنا المنهج التاريخي في نقد وتحليل النصوص الأدبية.
يقول أحد فلاسفة القرن العشرين: إنه لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه الرواية التاريخية؛ لسبب بسيط وهو أن كل رواية لا بد أن تكون تاريخية! وغاية ما هنالك أنها إذا كانت تدور عن القديم فهي تتصل بالتاريخ القديم، أما إذا كانت تدور في الوقت الراهن فإنها تتصل بالتاريخ المعاصر، وليس من حق الأدب أن لا يكون تاريخيّاً.
الناقد يحلل الفنون على اختلافها، شعراً كانت أو نثراً، لوحة فنية كانت أو هندسة معمارية، بل أي نوع من أنواع الفنون يمكن تحليلها وفق نظريات النقد الحديث.
والنقد التاريخي محل اهتمامنا يأخذ من حوادث التاريخ وسيلة لتفسير الأدب، ومن الأدب وسيلة لفهم التاريخ! لأن النص ثمرة الأديب، والأديب ثمرة لثقافته، وثقافته إفراز للبيئة التي يعيشها، وبيئته جزء من تاريخ مجتمعه.
هكذا يمكن أن تفهم لماذا كثر المجون في شعر العصر العباسي، واختلف الشعر الجاهلي عن الأندلسي، فهذا يبكي على الأطلال وذاك يصف الطبيعة، وهذا
ص: 339
خشن في مفرداته وهناك لا تجد أثراً للبداوة، عند التأمل تجد الفارق شاسعاً بين التاريخ الجاهلي والعباسي والأندلسي، حين تعرف الظروف والمعطيات وكيف عاش هؤلاء، ستعلم لماذا كتب كل منهم ما كتب.
هذه البداية الواضحة عند عامة الدارسين، أما ما يجدر أن يبحث فيه هنا بعد دراسة وتمعن واطلاع على الأدب الإغريقي والتاريخ البيزنطي (1)، والربط بينه وبين ما رواه الصدوق رحمه الله في كمال الدين، فهو ما يرتبط بالحقبة الزمنية محل البحث، أي القرن التاسع الميلادي وما يقرب منه.
من أشهر الملاحم اليونانية ملحمة (ديجينيس اكريتيس) وهي فائقة الشهرة، لا يسع المطلع على الثقافة البيزنطية أن لا يمر عليها، بل قيل أن ملحمة ذات صبغة تاريخية في العصور الوسطى لم تحظ بالدراسة كما حظيت هذه الملحمة! كتبت في القرن العاشر الميلادي، وإذا كانت العرب تضرب مثلا فتقول: أشهر من قفا نبكِ؛ فإن على البيزنطيين أن يضربوا مثلا: أشهر من ديجينيس اكريتيس!
تدور قصتها حول أميرة بيزنطية اسمها إيرين (وتعني: السلام بالإغريقية) عاشت في القصور وحولها الخدم والحشم، تنبأ العرافون أنها ستختطف من أمير عربي، ولما بلغت الثانية عشر من عمرها، بدأ قلبها يتعلق بشخص رأته في منامها وطلبت منه أن يرحمها لتصل إليه! فأخبرت بذلك إحدى وصائفها حين استيقظت.
ص: 340
وفي يوم ما حينما كان أبوها مسافراً خارج المدينة، خرجت مع خادماتها ووصيفاتها إلى الريف للتنزه، فاختطفها هناك الأمير العربي منصور، وتزوجها، وأنجبت له ديجينيس أكريتيس.
وسمي (ديجينيس) لأنه ولد من عرقين مختلفين: عربي ورمي، وسمي (أكريتيس) لأن مهمته جلب السلام بين المسلمين والروم.
وحين كبر ديجينيس (ابن الأمير العربي والأميرة الرومية) واستطاع نشر السلام على الحدود الإسلامية الرومية استدعاه الامبراطور وقلّده رتبة بطريق، ومنحه امتيازات الملك وغير ذلك من مزايا.
ثم إن ديجينيس هذا له اسم آخر في القصة وهو باسيل، وهو اسم الامبراطور الفعلي الذي كان يحكم بيزنطة في السنوات المقاربة لتأليف الملحمة، كما أنه كشخصية وردت في الملحمة فإنه الذي نفى جد ديجينيس وأخرجه عن الإمبراطورية!
والأسطورة طويلة جداً، فيها تفاصيل كثيرة لا يمكن فهمها دون دراسة شاملة، لكن عدة أمور واضحة تقوي احتمال ارتباط الأسطورة بالواقع، منها أنه أشير فيها إلى أحداث واقعية كمعركة عمر بن عبيد الله الأقطع على الحدود الرومية، وهي ضمن معارك وقعت في فترة غياب السيدة نرجس علیها السلام عن القسطنطينية فعلا، وكانت المعركة قريبة من حصن معروف على الثغور اسمه حصن منصور لا يبعد أن اختيار الاسم للأمير العربي مرتبط فعلا بمعاني النصرة وبموقع المعركة التاريخي.
ص: 341
كما يلاحظ أن الامبراطور باسيل المقدوني تاريخيّاً هو الذي قضى على وجود الجد المحتمل للسيدة نرجس علیها السلام وتضمُّنُ الأسطورة إشارة إلى هذا المعنى ليس محض صدفة.
كما أن رؤى السيدة نرجس علیها السلام ومناماتها الواردة في كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق رحمه الله ورد شبيهه في الأسطورة الإغريقية وأن هذه الأميرة كانت تحدث بها وصائفها!
كما أن تنبأ العرافين بأن يكون لهذه الفتاة مستقبل مع أمير عربي ينسجم مع ما رواه الصدوق رحمه الله من اهتمام جدها الخاص بها!
ويمكن التأمل في موقف هرقل عند سقوط الشام بأيدي المسلمين وخروجه من الشام إلى القسطنطينية، فإنه لما وصل إلى سميساط (1) التفت منها نحو بيت المقدس وقال: عليكِ السلام يا سوريّة سلاما لا اجتماع بعده، إلا أن أسلم عليك تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفا حتى يولد المولود المشؤوم ويا ليته لا يولد، ما أحلى فعله وأمر عاقبته على الروم (2)!
أي أن ربط الأسطورة بثقافة الروم وتنبؤات العرافين وما ورثوه من فكرة
ص: 342
المخلص والمولود الذي يولد في آخر الزمان، وبين ما ورد في التاريخ سيكون أوضح بعد الدراسة التاريخية الدقيقة لظروف النص وما روي عن منامات رآها القيصر في تلك الفترة كل ذلك يؤكد أن ثمة حالة وعناية خاصة كانت في بيزنطة تجاه قصة هذه الأميرة.
إننا هنا لا ننقد النص اليوناني وندرسه على نحو التفصيل! ولكننا نشير إلى ما يمكن للناقد الأدبي أن يدرسه دراسة دقيقة، فالأساطير خيالات تنشأ من الواقع وتعاد صياغتها أدبيّاً بما يراه الأديب مناسباً، وعلى الباحث أن يعيش النص وظروفه، الأسماء المستعارة ورمزيتها، ثم ينظر في الفكر المسيحي واعتقاده بالإلهامات والمنامات وقول العرافين، وإلى أي حد يبني معتقداته في ذلك، ثم يصرف وقته وجهده لمعرفة الحقائق، فإن كان كما نتصور أن له ربطاً بما فيه فبها، وإن لم يكن له ربط فإن الدليل عندنا تام بغير هذه الأدبيات.
***
ص: 343
الفصل الثاني
القول الثابت ابنة قيصر الروم - أسماؤها الرومية تؤكد أصلها - احتمالات لا اعتبار لها
الإمام الجواد ابن النوبية الطيبة - الظروف الحرجة والتقية
الروايات الواردة
إن الروايات الواردة في والدة إمامنا الحجة عجل الله فرجه الشريف تؤكد أنها علیها السلام من نسل قيصر الروم، وقد يُتوهم من بعض الروايات وكلمات العلماء خلاف ذلك؛ وسنأتي خلال هذا الفصل على بيان بطلان هذا التوهم، والرد على ما قيل ومناقشته علميّاً، ومن الله التوفيق.
***
ص: 344
هذا هو القول القول المعتمد عند علمائنا وقد جرت الطائفة على العمل به ووردت فيه روايات متعددة يمكن الاعتماد عليها:
٭ الأولى: الخبر المفصل الذي أورده الشيخ الصدوق في كمال الدين تحت عنوان: (باب ما روي في نرجس أم القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الملك)، ورواه أيضاً الطبري رحمه الله في دلائل الإمامة، والطوسي رحمه الله في الغيبة بسند مختلف، ورواه أيضاً الطرابلسي رحمه الله والطبرسي رحمه الله (حكى ذلك عنهم السيد مير لوحي رحمه الله في كفاية المهتدي).
٭ الثانية: ما رواه الثقة الفضل بن شاذان رحمه الله، عن الثقة محمد بن عبد الجبار رحمه الله ونص الرواية:
قال: قلت لسيّدي الحسن بن علي علیه السلام: يا ابن رسول الله! جعلني الله فداك، أحبّ أن أعلم من الإمام وحجّة الله على عباده من بعدك؟ قال علیه السلام: إنّ الإمام والحجّة الله من بعدي ابني، سميّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكنيّه، الّذي هو خاتم حجج الله، وآخر خلفائه. فقلت: ممّن یتولّد يا ابن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن (1) قيصر ملك الروم؛ ألا إنّه سيولد فيغيب عن الناس غيبة طويلة، ثمّ يظهر ...
ص: 345
٭ الثالثة: ما رواه الثقة الفضل بن شاذان رحمه الله أيضاً عن الثقة محمّد بن علي بن حمزة بن الحسين بن عبيد الله بن العبّاس بن أمير المؤمنين علیه السلام. ونص الرواية:
قال: سمعت أبا محمّد علیه السلام يقول: قد ولد ولي الله، وحجّته على عباده، وخليفتي من بعدي، مختونا ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين عند طلوع الفجر، وكان أوّل من غسله رضوان خازن الجنّة مع جمع من الملائكة المقرّبين بماء الكوثر والسلسبيل، ثمّ غسلته عمّتي حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا عليهما السلام.
فسئل محمّد بن عليّ بن حمزة رضي الله عنه عن أمّه علیه السلام، قال: أمّه مليكة، الّتي يقال لها بعض الأيام: سوسن، وفي بعضها: ريحانة، وكان صيقل ونرجس أيضا من أسمائها.
***
أما الرواية الأولى فتأتي مناقشتها والكلام فيها مفصلا في الفصلين الثالث والرابع من هذا الكتاب، أما الرواية الثانية والثالثة فصحيحتا السند، وهما مرويتان في كتاب إثبات الرجعة للفضل بن شاذان رحمه الله (المتوفى سنة 260ه-). ونُقلت عن كتاب الرجعة للفضل بن شاذان في أربعة مصادر مهمة، وهي:
(1) كفاية المهتدي لمعرفة المهدي، للسيد محمد مير لوحي رحمه الله المتوفى بعد سنة 1083ه-، وقد كانت بيده رحمه الله نسخة من كتاب الفضل بن شاذان ينقل عنها مباشرة وهي نسخة معتمدة.
ص: 346
(2) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، للشيخ الحر العاملي رحمه الله المتوفى سنة 1104ه-، (نقل رواية محمد بن عبد الجبار)، وقد كانت بيد الحر العاملي رحمه الله نسخة مختصرة من كتاب الفضل بن شاذان، وهي موجودة بخط يده رحمه الله في مخطوطات مكتبة السيد الحكيم قدس سره في النجف الأشرف، ويبدو أن الحر اعتمد على نسخة المير لوحي.
(3) الأربعون، للسيد مير محمد صادق الخاتون آبادي رحمه الله المتوفى سنة 1272ه-، والظاهر أن نسخة كتاب الفضل بن شاذان وصلت إليه فنقل عنها مباشرة. (1)
(4) النجم الثاقب، للمحدث الميرزا حسين النوري الطبرسي رحمه الله المتوفى سنة 1263ه-، ولعله نقل ما رواه عن كتاب كفاية المهتدي للمير لوحي.
كما تعرض لهذا البحث سماحة السيد محمد رضا السيستاني حفظه الله في القبسات (2) ورأى اعتبار رواية محمد بن عبد الجبار المصرح فيها بكون السيدة نرجس من نسل قيصر الروم وإمكان الاعتماد عليها، بعد تصحيح طريق الحر رحمه الله إلى كتاب الفضل بن شاذان رحمه الله.
وعليه تكون الروايتان الثانية والثالثة صحيحتا السند، ولا ينبغي الشك
ص: 347
في ذلك بعد تصحيح الطريق إلى كتاب الفضل بن شاذان رحمه الله. ولا أجد مزيد حاجة للتفصيل في هذه الجزئية ما يضطرنا للدخول في بحوث رجالية وإنما لابد من فهم دلالات هذه الروايات.
أما رواية محمد بن عبد الجبار فصريحة في كون والدة الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف من نسل قيصر الروم، وهو كافٍ في إثبات المطلوب.
أما رواية محمد بن علي حفيد أبي الفضل العباس علیه السلام تذكر أن والدة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف هي مليكة، ومليكة اسم لم يُذكر إلا في الرواية المفصلة (أعني رواية بشر النخاس) التي نسبت السيدة نرجس علیها السلام إلى القيصر، وهذا شاهد ومؤكد على صحة رواية بشر النخاس التي فصّلت مجيء السيدة نرجس علیها السلام من الروم إلى سامراء، أي أن الخبر الذي ينص على أن اسم والدة الإمام (مليكة) يدل بالدلالة الالتزامية على كونها من نسل قيصر الروم، وافتراض الصدفة في تشابه الأسماء أو التواطئ على الكذب افتراض غير عقلائي؛ لذا فإن تطابق قولين بهذه الكيفية يورث اليقين.
ويستفاد من الروايات ومن السياق التاريخي ومن أحوال الرواة أن الفضل بن شاذان كان يعيش بعيداً عن الإمام العسكري علیه السلام إما لكونه وكيلا مكلفّاً بمهمة في نيشابور أو لأي مانع من وصوله إلى الإمام؛ لذلك لم يكن يرو مباشرة عنه ولا عن أبيه الهادي علیه السلام وهذا يُفهم من الظرف الحرج الذي مرت به الطائفة آنذاك ومن شدة التقية والاضطراب الأمني والملاحقات المتكررة.
ص: 348
إن حكام الجور منذ عهد إمامنا موسى بن جعفر علیه السلام استطاعوا بشتی السبل والوسائل أن يعزلوا الشيعة عن أئمتهم، فما كان متاحاً لأبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وهشام بن سالم وسائر الأصحاب رضوان الله عليهم لم يعد متاحاً لمن بعدهم، فالإمام موسى بن جعفر علیه السلام أودع في السجن عدة سنوات، والإمام الرضا علیه السلام عزل عن شيعته في قصر المأمون، والإمام الجواد علیه السلام عزل عن شيعته في قصر المأمون فترة، وفترة في قصر المعتصم، أما الإمام الهادي والعسكري علیهما السلام فقد عزلا عن الشيعة أيضا بين الإقامة الجبرية والسجون؛ حتى أن بورق البوشنجاني رحمه الله خرج من بلده (هراة) قاصدا الحج فمر في طريقه على بغداد فالتقى بمحمد بن عيسى العبيدي رحمه الله فرآه مع جملة من الشيعة مغتمين محزونين، فسألهم عن السبب، فقالوا له: إن أبا محمد علیه السلام قد حبس، ولما عاد من الحج مر بالعبيدي أيضا وقد انجلى عنه الهم، فسأله عن ذلك فأخبره بأنه أفرج عن الإمام علیه السلام، ثم إن الراوي مر على سر من رأى وتمكن من لقاء الإمام هناك. (1)
إن هذا الاضطراب عند الشيعة في سائر البقاع وتطلعهم إلى أخبار الإمام وعدم تيسر الوصول إليه دائماً حالة عامة كانت عند أجلة أصحابنا رضوان الله عليهم، وسيرة الإمام العسكري علیه السلام واضحة في ذلك، فلا تجد في تفاصيل حياته اختلاطا مباشرا إلا مع خاصة أصحابه، أما البقية فكان يتواصل معهم بالمكاتبة أو عن طريق الوكلاء.
ص: 349
وهذا ما يبين الوجه في أن يروي الشيخ الطاعن في السن القديم في الولاء والصحبة لأهل هذا البيت علیهم السلام عمّن هو دونه في السن؛ إن الفضل بن شاذان لم یکن قريباً من الإمام العسكري علیه السلام بل كان في نيشابور يتطلع إلى أخبار ولادة الخلف عجل الله تعالی فرجه الشریف فيسأل عن ذلك من يتمكن حتى جمع الأخبار وكتب كتابه في الغيبة.
إن المؤكد أن الفضل بن شاذان أدرك الرضا علیه السلام وتوفي قبيل استشهاد الإمام العسكري علیه السلام لكن الأخبار لم تذكر لنا شيئا عن تواصله المباشر مع الإمامين العسكريين علیهما السلام لما تقدم من علل، فكان متوجِّهاً أن يتطلع إلى أكثر الأخبار خطراً وأهمية ممن هو قريب من الإمام علیه السلام کمحمّد بن علي بن حمزة بن الحسين بن عبيد الله بن العبّاس بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، الذي ورد أن السيدة نرجس علیها السلام أقامت في داره بعد شهادة الإمام العسكري علیه السلام.
مضافاً إلى هذه الروايات، وما سيأتي من قرائن متفرقة في مطاوي البحث، فإن تسالم علمائنا على مر العصور على هذا المعنى يزيد في القلب يقينا، ويكفيك للاطمئنان ما ورد في زيارتها علیها السلام، التي ذكرها الشيخ المفيد (المتوفى 413ه-) (1)، وابن المشهدي (المتوفى 594ه-) (2)، والسيد ابن طاووس (المتوفى 664ه-) (3)
ص: 350
والشهيد الأول (المتوفى 786ه-) (1) والعلامة المجلسي (المتوفى 1111ه-) (2) رَحِمَهُمُ اللهُ، وأوردها بعدهم المحدث الشيخ عباس القمي رحمه الله في مفاتيح الجنان قائلا: ثم تزور مليكة الدنيا والآخرة أم القائم علیه السلام. ومما جاء في زيارتها:
السلام على والدة الإمام والمودعة أسرار الملك العلام، والحاملة لأشرف الأنام، السلام عليك أيتها الصديقة المرضية، السلام عليك يا شبيهة أم موسى، وابنة حواري عيسى، السلام عليك أيتها التقية النقية، السلام عليك أيتها الرضية المرضية. السلام عليك أيتها المنعوتة في الإنجيل، المخطوبة من روح الله الأمين، ومن رغب في وصلتها محمد سيد المرسلين، والمستودعة أسرار رب العالمين، السلام عليك وعلى آبائك الحواريين، السلام عليك وعلى بعلك وولدك، السلام عليك وعلى روحك وبدنك الطاهر.
هذا شيء مما تعاهده أساطين الطائفة من المحدثين والأصوليين، وهو كافٍ وتام، وبإيراد المزيد من الأقوال يطول المقام. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ علیه السلام: عَلَيْكَ بِالتِّلَاد (3) وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثٍ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا أَمَانَ وَلَا ذِمَّةً وَلَا مِيثَاقَ. (4)
***
ص: 351
من القرائن اللطيفة المؤكدة على أنها علیها السلام من أصل رومي ما ذُكر من أسمائها المباركة؛ مليكة ونرجس.
أما مليكة فهو اسم سرياني، والسريانية لغة الطقوس العبادية عند النصارى، وقد ذكرت المعاجم السريانية هذا الاسم بصيغة ملكو (1)، ومعناه نفس المعنى العربي، فالسريانية والعربية لغتان من أسرة اللغات السامية التي تشمل العبرية والآرامية أيضا.
ويظهر أن هذا الاسم اسم ديني مرتبط بالمذهب الرائج في القسطنطينة آنذاك وهو المذهب الملكاني وهو من أهم مذاهب النصارى يومها، فالتسمية بمليكة في القسطنطينية أشبه بمن يسمي نفسه (إسلام) أو (مسلم) في بلادنا.
كما أنه من الطبيعي في ثقافة النصارى تعدد الأسماء، لكن يتميزون عن العرب باختيار اسم ديني فضلا عن الاسم الرسمي، لتقريب الفكرة، فإن بابا الفاتيكان اليوم يعرف باسم البابا فرنسيس، لكن هذا الاسم سمي به حين تقلد المنصب تأسيّاً بأحد القديسين، وإنما اسمه الأصلي خورخي.
وفي التاريخ البيزنطي شاعت هذه الظاهرة عند شخصيات كثيرة، على سبيل المثال فإن الإمبراطور قسطنطين الأول له بنت تعرف باسم قنسطنطينا، ولها
ص: 352
اسم آخر وهو القديسة كونستانزا، والإمبراطور فلافيوس زينون كان اسمه الأصلي تاراسيكوديسا، وتجد هذا الأمر مطردّاً في تاريخ النصارى.
لذلك ذكرت الرواية المفصلة التي رواها الشيخ الصدوق رحمه الله اسمين عن لسان السيدة نرجس علیها السلام، أحدهما (مليكة) والآخر (نرجس) (1)، واسم مليكة لم يكن شائعاً عند العرب، ويحتمل كونه - بما تقدم من بيان - اسماً دينيّاً للسيدة علیها السلام.
أما اسم نرجس فهو اسم يوناني، وهو نبات معروف طيب الرائحة، تكتب باليونانية: vápKIooos وتنطق: narkissos وانتقل إلى العربية من الفارسية، وتنطق بالفارسية: نَرگِس . (2)
وفي الرواية أنها علیها السلام اختارت اسم نرجس على البديهة حين أرادت إخفاء هويتها وانتسابها إلى أسرة القيصر، ويكون من المناسب لأصلها الرومي أن تختار
ص: 353
اسماً روميّاً تعرف به الجواري لتخفي هويتها.
ولا يمكن أن يكون اختيارها هذين الاسمين محض مصادفة من الراوي جعلته يبتكر اسماً سريانيّاً غير معروف في الأوساط العربية، واسم فتاة أصله يوناني، بما يكون مناسباً لثقافة أميرة بيزنطية!
ثم إن هذين الاسمين وردا في رواية الشيخ الصدوق رحمه الله وفي رواية الفضل بن شاذان عن محمّد بن عليّ بن حمزة، هل يتصور أن تقع مصادفة من هذا النوع حيث لا مجال للقول بأن أحدهما أخذ اسم مليكة من الآخر.
وهل كان الفضل بن شاذان يعلم أن اسم مليكة ذو أصل سرياني جذره اللغوي مثل جذر مذهب حكام بيزنطة الملكانيين (Melkite) وعليه يكون من المناسب أن ينسب للسيدة علیها السلام اسما يليق بابنة القيصر، فيروي هذا الاسم عن محمد بن علي بن حمزة، ويروي كونها ابنة القيصر عن محمد بن عبد الجبار رَحِمَهُمُ اللهُ .
إن تعيين هذه الأسماء للسيدة علیها السلام قرينة قوية على صدق القول بأنها من نسل قيصر الروم، لأن المدلس إن أراد وضع اسم ديني لامرأة نصرانية فإنه سينتخب اسما مشهوراً مثل ماريا! أما اسم مليكة وتكراره في أكثر من رواية وانسجامه مع الأصل البيزنطي للسيدة علیها السلام فإنه لا يمكن أن يصدر من وضّاع يكون بهذه الدقة والمعرفة! ثم تقع المصادفة على وضاع آخر يضع نفس الاسم! الأول يرويه الشيخ الصدوق بسنده عن الرهني عن بشر النخاس، والثاني يرويه الفضل بن شاذان عن محمد بن علي بن حمزة! بربك أي مصادفة في الوضع
ص: 354
والتلفيق تقع في مثل هذه المعطيات!
وأعجب من ذلك اتفاق اسم نرجس مع ما رواه جابر الأنصاري (1) أنه رأى عند الصديقة الزهراء علیها السلام صحيفة بيضاء من در فيها أسماء الأئمة علیهم السلام وفيها: أبو القاسم محمد الحسن هو حجه الله القائم أمه جاريه اسمها نرجس.
***
ص: 355
في الحقيقة لا يوجد خلاف معتد به بخصوص شخصية السيدة نرجس والدة مولانا بقية الله الأعظم عجل الله تعالی فرجه الشریف و تحديد أصلها. غير أن البعض طرح احتمالات للمناقشة - وتكثير الاحتمالات في كثير من الأحيان أمر غير حسن لأنه يخلق حالة شكٍّ في النفوس، ويصوّر المسألة كأنها مسألة خلافية جدلية- وحين التدقيق في الاحتمالات نجدها مجرد افتراضات لا قائل بها، ولا يمكن قبول شيء منها حسب الموازين العلمية.
والاحتمالات المفترضة في المسألة هي:
٭ الأول: أن والدة الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف من بلاد السند، ومستند هذا القول خبر وولادة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف المروي في الهداية الكبرى (1) وفيه تقول السيدة حكيمة أن السيدة نرجس خاطبتها بالسِّندية. وعليه فإنها صاحبة لسان سِندي فهي من بلاد السِّند.
والعجيب أن من ابتكر هذا الاحتمال أجاب عن نفسه بأن عبارة السندية غير موجودة في مخطوطات الهداية الكبرى أصلا والموجود فيها أنها خاطبتها بالسيادة، وهو المتناسب مع ما رواه الشيخ الطوسي والصدوق رَحِمَهُمُ الله بألفاظ أخرى.
ثم إننا نتساءل أن عبارة مجملة لا تحمل الدلالة على أن السيدة نرجس علیها السلام
ص: 356
من بلاد السِّند، وردت مصحفّة مطبوعة بالخطأ في كتاب محل جدل علمي بين الأعلام، معارضة بما ورد في الكتب المعتبرة، كيف يمكن أن تشكل احتمالا لما نحن فيه!
مجرد خطأ مطبعي واضح، وافتراضه احتمالا مدعاة للريبة!
٭ الثاني: أنها علیها السلام من المغرب، وهذا لم يقل به أحد أيضاً، غير أن سماحة الشيخ علي الكوراني حفظه الله ذكر ذلك في بعض كتبه (1) قائلا: (...حيث اتفقت الروايات على أن أم المهدي عليه السلام رومية أو مغربية).
كان من السهل التواصل مع سماحة الشيخ حفظه الله وسؤاله عن ذلك، فأخبرني أن مقصوده من كونها مغربية أنها من جهة الغرب لا من الشرق، وليس المقصود أنها من البربر أو بلاد المغرب المعروفة. وإن كان ثمة ملاحظة على العبارة فإنه على طريقة سبكها لا على محتواها، فإن الروم تطلق ويراد منها أحياناً عدة من بلاد الغرب كالدولة البيزنطية والدولة الرومانية، وما ذلك إلا لتسامح بعض الكتاب في تدوين الاسم خصوصا وأن الروم تغيرت عاصمتهم عبر القرون والسنوات، فالإشارة إلى الأعم من كونها علیها السلام من بيزنطة أو روما بالإشارة إلى غرب الأرض أمرٌ مناسب، لكنه غير دقيق، والشيخ جاء بهذا الوصف استطراداً في مقام نفي كونها علیها السلام أمة سوداء لا في مقام تحديد أصل السيدة علیها السلام من أي بلد على نحو الدقة.
ص: 357
وخلاصة الأمر أن أحداً لم يقل بأن والدة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف من بلاد المغرب، فكونها مغربية لا يعد - علميّاً - من الاحتمالات لا القوية ولا الضعيفة!.
٭ الثالث: أنها علیها السلام من النوبة، ولم يرد في ذلك أية رواية ولم يقل به أحد من علمائنا الذين كتبوا في سيرة الأئمة علیهم السلام ومستند القائل بذلك ما روي في السيدة خيزران النوبية علیها السلام والدة الإمام الجواد علیه السلام! (1)
٭ الرابع: وهناك قول بأن أم الإمام هي مريم بنت زيد العلوية أخت الحسن بن زيد الداعي بطبرستان، أشار إليه الخصيبي في الهداية الكبرى (2) وأشار إليه الشهيد الأول رحمه الله (3) أيضاً؛ لكنهما لم يقبلاه ولم يقولا به؛ أما الخصيبي فقد صرّح بأن الصحيح أنها نرجس، وأما الشهيد الأول فقد جاء بهذا القول على نحو التضعيف، وأورد زيارتها في مزاره (4) بما يؤكد كونها من نسل قيصر الروم المذكورة في رواية بشر النخاس.
وأول من أشار لهذا القول هو الخصيبي وعنه أخذه الشهيد الأول وغيره،
ص: 358
وكلهم ذكروه على نحو التضعيف، ولا يُعلم من أين جاء به الخصيبي وهو واضح البطلان مخالف للثابت من كونه عجل الله تعالی فرجه الشریف ابن أمة الموصوفة بسيدة الإماء، ولا يعرف وجه هذا القول، ولا يعرف قائله أصلا، ومستنده واضح الضعف (1).
هذا كل ما ذكر كاحتمال في المسألة، والواضح أن لا شيء منها يصلح لتشكيل قناعة عند القارئ المحترم، ويبقى القول بأنها من نسل قيصر الروم هو الثابت بما لا مزيد عليه؛ لصحة الرواية سنداً، وانسجامها تماما مع ما ذكر في التاريخ البيزنطي وسيأتي تفصيل ذلك.
***
ص: 359
الإمام الجواد علیه السلام ابن النوبية الطيبة
السيدة خيزران النوبية رضوان الله عليها من صعيد مصر من قرية اسمها مريس، وهي نوبية مريسية، وتسمى سبيكة وريحانة ودرة، وسماها الرضا علیه السلام خيزران، وهي من أهل بيت مارية القبطية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم (1).
وقد وردت في مدحها عدة روايات؛ منها ما ورد أن الإمام موسى بن جعفر علیه السلام لم يدركها ولكنه أثنى عليها وأمر بإبلاغها سلامه (2)، وترتبط ببحثنا روايتان إحداهما عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأخرى عن الرضا علیه السلام يأتي الكلام عن الروايتين بعد بيان الظرف الذي عاشه إمامنا الرضا علیه السلام.
عاش مولانا ثامن الحجج الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام مرحلة عصيبة بسبب فتنة الواقفة لعنهم الله. وزعماء الواقفة مجموعة من أصحاب الإمام الكاظم علیه السلام انحرفوا عن الجادة بعد أن كان فيهم الثقاة ورواة الحديث والعلماء وبعضهم كان من وكلاء الإمام علیه السلام، وبعد استشهاد الإمام الكاظم علیه السلام أنكروا إمامة الرضا علیه السلام.
وظاهرة الوقف ليست الأولى في الوسط الشيعي فقد وقف بعضٌ على الباقر علیه السلام وبعضٌ على الصادق علیه السلام ونشأت فرق الباقرية والناووسية (3) غير أنها
ص: 360
فرق سرعان ما اندثرت ولم تترك أثرها على الوسط الشيعي لأن شبهاتهم كانت ناشئة عن جهل، لكن الجديد في الأمر أن الذين وقفوا على موسى بن جعفر علیه السلام كانت شبهاتهم ناشئة عن مكر وشيطنة ولم تصدر من جهلاء لا حظ لهم في العلم؛ لذا فإن فتنتهم أربكت الوسط الشيعي عند الطبقة الأولى من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام فضلا عن غيرهم.
وإحدى شبهات الواقفة كانت مبنية على قواعد ثابتة عند الشيعة، وهي أن الإمامة بعد الحسن والحسين علیهما السلام لا تكون في أخوين وإنما تكون في الأبناء، والرضا علیه السلام شارف عمره على الخمسين ولم يرزق بولد، وهو كآبائه مهدد بالقتل في أي وقت، ومن ليس له ولد لن يكون إماماً؛ وعليه تبطل إمامة الرضا علیه السلام كما زعم أصحاب الوقف.
تجد هذه الشبهة في عدة موارد عند مطالعتك لكتب السيرة، تارة في معاجز الإمام الرضا علیه السلام وإنبائه عن الغيب، وأخرى في النص على الإمام الجواد علیه السلام، وثالثة ضمن الحديث عن أحوال الواقفة.
ومن جملة ما ورد في هذا الشأن ما عن الحسين بن يسار (1) قال: استأذنت
ص: 361
أنا والحسين بن قياما (1) على الرضا علیه السلام في صريا فأذن لنا، فقال: افرغوا من حاجتكم. فقال له الحسين: تخلو الارض من أن يكون فيها إمام؟ فقال علیه السلام: لا. قال: فيكون فيها اثنان؟ قال علیه السلام: لا؛ إلا وأحدهما صامت لا يتكلم. قال: فقد علمت أنك لست بإمام! قال علیه السلام: ومن أين علمت؟ قال: إنه ليس لك ولد؛ وإنما هي في العقب! قال: فقال علیه السلام له: فوالله لا تمضي الأيام والليالي حتى يولد لي ذكر من صلبي، يقوم مثل مقامي، يحق الحق ويمحق الباطل. (2)
وبقيت هذه الشبهة محل ابتلاء للمؤمنين يؤيد ذلك ما روي عن البزنطي (3) أنه قَالَ: قال لي ابن النجاشي: من الإمام بعد صاحبِك؟ فأشتهي أن تسأله حتى أعلم. قال البزنطي: فدخلتُ على الرضا علیه السلام فأخبرته، قال: فقال لي: الإمامُ ابني، ثم قال: هل يتجرّأ أحدٌ أن يقول ابني وليس له ولد؟ (4)
وعن ابن بزيع (5)، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام أنه سئل أو قيل له أتكون الإمامة في عم أو خال؟ فقال: لا. فقال: في أخ؟ قال: لا. قال: ففي من؟ قال: في
ص: 362
ولدي. وهو يومئذ لا ولد له. (1)
وعن عقبة بن جعفر قال: قلت لأبي الحسن الرضا علیه السلام: قد بلغْتَ ما بلغْتَ وليس لك ولد، فقال: يا عقبة إن صاحب هذا الأمر لا يموت حتى يرى خلفه من بعده. (2)
وأيضا روي عن صفوان بن يحيى (3) رضوان الله عليه قال: قلت للرضا علیه السلام: قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول يهب الله لي غلاما، فقد وهب الله لك، وأقر عيوننا، فلا أرانا الله يومك؛ فإن كان كون فإلى مَن؟ فأشار بيدِه إلى أبي جعفر علیه السلام وهو قائم بين يديه .. الخبر (4).
ويستفاد من عبارة صفوان (قد كنا نسألك) أن ثمة حالة عامة في الوسط الشيعي وهي السؤال عن الخلف بعد الرضا علیه السلام، وأن المؤمنين كانوا يترقبون خبر ولادة إمامنا أبي جعفر الثاني محمد الجواد علیه السلام.
لذا فإن ولادته سلام الله عليه كانت سببا في دفع شبهة خطيرة من شبهات الواقفة وتثبيت قلوب المؤمنين وهذه إحدى بركات الإمام الجواد علیه السلام، وهي إحدى المعاني المستفادة من الرواية الواردة عن الرضا في ولده الجواد علیه السلام:
ص: 363
هَذَا الْمَوْلُودُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ مَوْلُودٌ أَعْظَمُ بَرَكَةً عَلَى شِيعَتِنَا مِنْهُ. (1)
وكان في إمامنا الجواد سمرة شديدة باعتبار أن أمه من النوبة، حتى أن الإمام الرضا علیه السلام قال فيه: قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قدست أم ولدته، قد خلقت طاهرة مطهرة. (2)
والمعلوم أن النبي موسى على نبينا وآله وعليه السلام كان شديد السمرة (3)، فهذا وجه من وجوه الشبه، إلا أن هذه الهيئة لم تعهد في الأئمة علیهم السلام وهذا ما جرّأ الواقفة لعنهم الله (4) على التجاسر على والدة الإمام علیه السلام وهذا وجه من وجوه الشبه بين إمامنا الجواد علیه السلام وعيسى بن مريم علیه السلام، وقرينة ذلك براءة أمهاتهم من كل شك وتهمة وريبة، لذا يقول فيها الإمام الرضا علیه السلام قدست أم ولدته قد خلقت طاهرة مطهرة؛ لا يعتريها شك ولا ريب، كما أن مريم العذراء
ص: 364
طاهرة من كل تهمة وكل ما قيل فيها.
وهذه إحدى المصائب التي مرت على إمامنا الرضا علیه السلام حتى اضطر الإمام علیه السلام على أن يقبل بعرض الإمام الجواد علیه السلام على القافة (1)، دفعا للريب والشك. وفى هذا السياق جاءت الرواية المفصلة في الكافي الشريف، ونص الرواية كما أوردها ثقة الإسلام الكليني رضوان الله عليه:
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ وعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ الْقَاسَانِيِّ جَمِيعاً، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى بْنِ النُّعْمَانِ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرٍ (2) يُحَدِّثُ الْحَسَنَ بْنَ الحُسَيْنِ
ص: 365
بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (1)، فَقَالَ: وَاللهِ، لَقَدْ نَصَرَ اللهُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: إِي واللهِ، جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَقَدْ بَغى عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ : إِي واللهِ، ونَحْنُ عُمُومَتُهُ بَغَيْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كَيْفَ صَنَعْتُمْ ، فَإِنِّي لَمْ أحْضُرْكُمْ؟ قَالَ: قَالَ لَهُ إخْوَتُهُ ونَحْنُ أَيْضاً:
ص: 366
مَا كَانَ فِينَا إِمَامٌ قَطُّ حَائِلَ اللَّوْنِ (1)، فَقَالَ لَهُمُ الرِّضَا علیه السلام: هُوَ ابْنِي.
قَالُوا: فَإِنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه و آله و سلم قَدْ قَضى بِالْقَافَةِ (2)، فَبَيْنَنَا وبَيْنَكَ الْقَافَةُ، قَالَ: ابْعَثُوا أنْتُمْ إِلَيْهِمْ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا، ولَا تُعْلِمُوهُمْ لِمَا دَعَوْتُمُوهُمْ، ولْتَكُونُوا فِي بُيُوتِكُمْ.
فَلَمَّا جَاؤُوا أَقْعَدُونَا فِي الْبُسْتَانِ، واصْطَفَّ عُمُومَتُهُ وإخْوَتُهُ وأَخَوَاتُهُ (3)،
ص: 367
وأَخَذُوا الرِّضَا علیه السلام وأَلْبَسُوهُ جُبَّةَ صُوفٍ وقَلَنْسُوَةً مِنْهَا، ووضَعُوا عَلى عُنُقِهِ مِسْحَاةً، وقَالُوا لَهُ: ادْخُلِ الْبُسْتَانَ كَأَنَّكَ تَعْمَلُ فِيهِ.
ثُمَّ جَاؤُوا بِأبِي جَعْفَرٍ علیه السلام، فَقَالُوا: ألحِقُوا هذَا الْغُلَامَ بِأبِيهِ. فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ هَاهُنَا أبٌ، ولكِنَّ هذَا عَمُّ أبِيهِ، وهذَا عَمُّ أبِيهِ، وهذَا عَمُّهُ، وَهذِهِ عَمَّتُهُ، وإِنْ يَكُنْ لَهُ هَاهُنَا أَبٌ، فَهُوَ صَاحِبُ البُسْتَانِ؛ فَإِنَّ قَدَمَيْهِ وقَدَمَيْهِ وَاحِدَةٌ.
فَلَمَّا رَجَعَ أبُو الْحَسَنِ علیه السلام، قَالُوا: هَذَا أَبُوهُ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ: فَقُمْتُ فَمَصَصْتُ رِيقَ أبِي جَعْفَرٍ علیه السلام، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ إِمَامِي عِنْدَ الله، فَبَكَى الرِّضَا علیه السلام، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمِّ، ألمْ تَسْمَعْ أبي وهُوَ
ص: 368
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و آله و سلم: بِأَبِي ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ، ابْنُ النُّوبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ الْفَمِ، الْمُنْتَجَبَةِ الرَّحِمِ، ويْلَهُمْ لَعَنَ اللَّهُ الْأُعَيْبِسَ وذُرِّيَّتَهُ صَاحِبَ الْفِتْنَةِ، وَيَقْتُلُهُمْ سِنِينَ وشُهُوراً وأيَّاماً، يَسُومُهُمْ خَسْفاً، ويَسْقِيهِمْ كَأساً مُصَبَّرَةً، وهُوَ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ، الْمَوْتُورُ بِأَبِيهِ وجَدِّهِ، صَاحِبُ الْغَيْبَةِ، يُقَالُ: مَاتَ أوْ هَلَكَ، أيَّ وادٍ سَلَكَ، أَفَيَكُونُ هذَا يَا عَمِّ إِلَّا مِنِّي؟ فَقُلْتُ: صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ. (1) تم الخبر
وهذا الخبر هو عمدة ما جيء به كدليل على أن والدة الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف نوبية لا رومية، والاستدلال به كما ترى من الوهن والضعف!
وقبل التعليق على الخبر لابد من الإشارة إلى أن الفقهاء بحثوا هذه الرواية في المكاسب المحرمة ضمن بحثهم في حكم القيافة، وبينما نقلها الشيخ الأعظم قدس سره للتيمن باعتبارها فضيلة لإمامنا الجواد علیه السلام، رأى السيد الخوئي قدس سره (2) ضعفها وعدم صلاحيتها للاستدلال، وهي رواية محل بحث وأخذ ورد في كتب الاستنباط الفقهي، وليس هذا محل كلامنا وإنما نتحدث وفق الموازين التاريخية.
ولكن على الرغم من ذلك فإن من حاكم روايات كون والدة الإمام صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف رومية فردّها وأنكرها محتجا بضعفها كان أولى - وفق موازينه- أن يرد هذه الرواية ولا يقبل منها شيئا، غير أنه هناك أخذ يُضعّف على الظن
ص: 369
والتهمة، وهنا يقبل دون تدقيق في سند ومتن ودلالة، وهذا مما يزيد الأمر ريبة!
على كل حال فنقول في حديثنا حول سياق الرواية التاريخي، فإنها وردت في سياق تبرئة السيدة الطاهرة والدة الإمام الجواد علیه السلام وبعدما ثبت بحكم القافة براءتها واطمأنت قلوب الحاضرين عاتب الإمام الرضا علیه السلام عمه علي بن جعفر، وجاء بحديث نبوي يذكر فيه فضل السيدة الطاهرة خيزران النوبية ووصف النبي صلی الله علیه و آله و سلم لها بأنها خيرة الإماء النوبية الطيبة...
إلى هذه الفقرة كان الكلام واضحاً في أي سياق، فالنوبية الطيبة هنا هي السيدة خيزران والدة الإمام الجواد علیه السلام، أما ابن النوبية من هو؟ إما أن يكون الابن المباشر، أو حفيدها (الابن بالواسطة).
يظهر من السياق أن الكلام في حفيدها الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف وهو ما استظهره الشيخ المازندراني رحمه الله في شرح الكافي حيث قال: المراد به صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف لا محمد بن على الجواد علیه السلام لأن ضمير هو في قوله: (وهو الطريد) راجع إلى الابن وهو بيان لحال الصاحب قطعا (1).
كما أن العلامة المجلسي رحمه الله لم يتردد في كون النوبية هي والدة الإمام الجواد علیه السلام فهو واضح وإنما التردد في عود الضمير عليه أو على صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف، حيث قال رحمه الله في مرآة العقول: والمراد بابن خيرة الإمام المهدي علیه السلام والمراد بخيرة الإماء أم الجواد علیه السلام، فإنها أمه بواسطة لأن أمه بلا واسطة كانت بنت قيصر ولم
ص: 370
تكن نوبية، فضمير يقتلهم راجع إلى الابن، وقيل: المراد به الجواد علیه السلام وضمير يقتلهم راجع إلى الله تعالى أو مبهم يفسره قوله: وهو الطريد، والقتل في الرجعة، لتشفي قلوب الأئمة والمؤمنين. (1)
وقال الشيخ علي سبط الشهيد الثاني رَحِمَهُمُ اللهُ في تعليقه على الرواية: و (ابن خيرة الإماء النوبية) الجواد علیه السلام، وهو المناسب للواقع ومقام النص . (2)
فالمؤكد على كل حال أن خيرة الإماء النوبية في هذه الرواية هي السيدة خيزران علیها السلام والدة الإمام الجواد علیه السلام، ولا احتمال ثانٍ في البين أصلا، وإنما الكلام في المقصود من ابنها إن كان الابن المباشر أو الابن بالواسطة.
ويؤيد القول بأن المقصود هو الابن المباشر أي الإمام الجواد علیه السلام لا صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف أن الشيخ المفيد رحمه الله نقل الرواية بزيادة بسيطة؛ روى رحمه الله حين وصل إلى هذا الموضع: (بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيبة، يكون من ولده الطريد الشريد الموتور بأبيه ..) (3)، والشيخ رضوان الله عليه روى الخبر عن أبي القاسم جعفر بن محمد رحمه الله عن الكليني رحمه الله، أي أن الشيخ المفيد رحمه الله لم ينقل الرواية من نسخة الكافي التي عندنا، بل نقلها رواية عن شيخه أبي القاسم ابن قولويه رحمه الله، فلعل العبارة موجودة في الرواية لكنها سقطت من نسخة الكافي
ص: 371
المتداولة بيننا، ولم تسقط من نسخة الشيخ المفيد.
وعلى نسخة الشيخ المفيد رحمه الله اعتمد المرجع الراحل الشيخ لطف الله الصافي قدس سره حيث قال في تعليقه على الرواية: المراد بها أمّ الإمام محمّد بن عليّ الرضا علیه السلام كانت نوبيّة يقال لها سبيكة، وليس المراد بابن خيرة الإماء النوبيّة مولانا المهدي علیه السلام كما قاله صاحب الوافي (1)، فقال: (يعني به المهدي صاحب الزمان صلوات الله عليه، كأنّه انتسبه إلى جدّته أم أبي جعفر الثاني علیه السلام...) وإنّما ذهب إلى ذلك اعتماداً على نسخة الكافي، والظاهر أنّه سقط عنها قوله: (يكون من ولده الطريد الشريد). والاعتماد على نسخة الإرشاد التي يستقيم بها فهم المراد من دون حاجة الى التأويل. انتهى كلام الشيخ الصافي قدس سره . (2)
ولو قيل بأنها أضيفت كشرح من الشيخ المفيد، فلا ينبغي الاستهانة بشرحه قدس سره فإن له اعتباره العلمي، مضافاً إلى أن الشيخ الكليني رحمه الله أوردها في باب النص على إمامة الجواد علیه السلام وهذه كلها مؤكدات على فهم الأعلام للرواية، فمن أين جيء بهذا الفهم لا أدري؟! والأمر أوضح من أن يُسهب في بيانه، وأنت ترى وضوح المطلب عند علمائنا وتسالمهم على أن والدة إمامنا صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف
ص: 372
كانت من نسل قيصر الروم.
وإن لم يكن القول كما يقول علماؤنا فما الربط بين حادثة القافة وبين صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف؟ إلا كون والدة الإمام الجواد علیه السلام من خيرة النساء منزهة عن كل ريبة كمريم العذراء وماريا القبطية.
ثم إنه بعد هذا البيان بات واضحا أن الاستدلال بهذه الرواية على كون والدة الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف نوبية لا أصل له ولا يصدر من صاحب ذائقة سليمة في فهم النصوص، وعلى هذا فلا قيمة للقرائن التي جاءت مؤيدة لهذا المطلب فلا داعي للإسهاب في مناقشتها؛ لكننا نعلق بإيجاز على ما قيل، فقد جيء بقرينتين:
القرينة الأولى: ما ورد بكون الإمام سلام الله عليه أسمر البشرة، وهذا لا يُعتمد عليه لأنه معارض بكونه أبيض البشرة، ونقل جملة من الروايات في شمائله عجل الله تعالی فرجه الشریف المحدث النوري في كتابه النجم الثاقب بعنوان: (الباب الثالث: في شمة من أوصاف وشمائل الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وبعض خصائصه)، كما تعرض غيره من العلماء لشمائل إمامنا صاحب الأمر أرواحنا فداه.
فلابد من التأمل في الروايات وتوجيهها لفك هذا التعارض وفق القواعد العلمية، ثم إن ذلك لو ثبت فإنه لا يفيد في شيء من المدعى، فكون الإمام أسمر اللون أو أبيض فإنه لا يعني أن الأم المباشرة نوبية! بل هي صفات متوارثة يأخذها من الآباء والأمهات القريب والبعيد منهم، ثم إن السمرة لون لا يختص بالنوبة كي يلزم أن تكون الأم المباشرة نوبية!
ص: 373
القرينة الثانية: ما ورد في غيبة النعماني وكمال الدين (1) بأن الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف ابن أمة سوداء، وهو على المناقشة في سنده، قد يناقش في متنه، فالخبر هو: عن أبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ علیه السلام: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ شَبَةٌ مِنْ يُوسُفَ، ابْنُ أَمَةٍ سَوْدَاءَ، يُصْلِحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
والمناقشة في المتن أن يوسف على نبينا وآله وعليه السلام لم يكن ابن أمة سوداء، بل قيل بأن ثُلثَ الحُسْنِ كان في أمه راحيل (2) فليس هذا وجه شبه بالنبي يوسف! إلا أن يقال أن الشبه من يوسف غير مذكور في الرواية بل هي خصلة جديدة وإخبار ثانٍ وثالث، لكن ذلك يثير ريبة في بلاغة النص وانسجام سياقه؛ لأن عبارة: (يصلح الله أمره في ليلة واحدة) وجه شبه بالنبي يوسف ورد في روايات أخرى. روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن سيد الشهداء الْحُسَيْن بْن عَلِىٍّ علیهما السلام أنه قال: في التَّاسِع مِنْ وُلْدِي سُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهُوَ قَائِمُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ (3).
وذلك أن النبي يوسف كان في السجن غائباً وبسبب رؤيا الملك وتعبيره لها تغيرت أموره حتى صار عزيز مصر، وكذلك موسى بن عمران خرج ليقتبس لأهله نارا فرجع إليهم وهو رسول نبي فأصلح الله تبارك وتعالى أمر عبده ونبيه
ص: 374
موسى في ليلة. وكذا يفعل الله تعالى بالقائم عجل الله تعالی فرجه الشریف يصلح الله أمره في ليلة كما أصلح الله أمر يوسف وموسى، ويخرجه من الحيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور.
فإحدى وجوه الشبه الواضحة والمنصوص عليها في الروايات بين النبي يوسف وإمامنا المنتظر أرواحنا فداه أن الله تبارك وتعالى يصلح أمره في ليلة؛ لكن توسط عبارة (ابن أمة سوداء) في سياق الكلام مخل ببلاغة النص فلا هو وجه شبه يناسب الإمام ولا هو اعتراض نافع في المقام، ويبدو أنها مقحمة في وسط الرواية، خصوصا وأن بعض مخطوطات كمال الدين وتمام النعمة – بعد المراجعة والتثبت - خلت من هذه العبارة (1)، أما المطبوع اليوم فقد اختلفت النسخ منها ما خلت من هذه الزيادة، ومنها ما أثبتتها، والظاهر أن إثبات الزيادة وقع اعتمادا على ما ورد في غيبة النعماني.
أما غيبة النعماني فما يثير الريب في روايته - بعد ما تقدم من إرباك النص وعدم انسجامه مع سائر الروايات التي تذكر سنن الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف بالأنبياء - أن الراوي الذي نقل منه الشيخ النعماني الخبر هو ابن عقدة، وابن عقدة ثقة، لكنه زيدي منحرف فاسد العقيدة يرى أن صاحب الأمر هو زيد بن علي بن الحسين علیه السلام، وزيد أمه سندية، وإقحام هذه العبارة في وسط الرواية منسجم مع معتقد الزيدية،
ص: 375
لذلك تجد الإمام الزيدي المنصور بالله عبد الله بن حمزة (1) احتج بهذا الخبر، وأن هذا الوصف لا ينطبق على الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.
ومن المعلوم أن علماءنا حين قسّموا الأسانيد المعتبرة إلى: صحيحة وموثقة وحسنة (2)، لم يكن ذلك عبثاً منهم؛ فإن فائدة هذا التقسيم تظهر في مثل هذه الموارد.
وإن التعارض بين ما ثبت من أن أم صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف رومية، وبين ما جاء هنا بأنه ابن أمة سوداء من وجوهه المحتملة: زيادة ابن عقدة هذه العبارة على النص الشريف، بقرينة أن ما ورد في بعض مخطوطات كمال الدين للشيخ الصدوق رحمه الله - المروية بطريق عبد الواحد بن محمد بن عبدوس لا ابن عقدة -خلت من هذه الزيادة النشاز في الرواية، وهذا ما يزيد الأمر ريبة واضطراباً!
هذا مضافاً إلى أن النعماني رحمه الله روى في الغيبة عن ابن عقدة بسنده عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ علیه السلام فَقَالَ لِي مَا وَرَاءَكَ؟ فَقُلْتُ سُرُورٌ مِنْ عَمِّكَ زَيْدٍ، خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ سَبِيَّةٍ، وَهُوَ قَائِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ ابْنُ خِيَرَةِ الْإِمَاءِ... (الخبر) (3). وموضع الشاهد أن هناك خصلة في زيد الشهيد أنه كان ابن
ص: 376
سبية، وهذه الخصلة مُبَشَّرٌ بها لقائم بالأمر (1)، يرى الزيدية انطباقها على زيد، فيما نرى أنها لا تنطبق عليه فهو ليس ابن خيرة الإماء وأن القائم بالأمر لا يجب أن يقتل ويستشهد بل يفتح الله على يديه.
إن ابن عقدة على وثاقته يبقى منحرف العقيدة غير مؤتمن على الدين يرى ابن الأمة المسبية السندية السوداء زيد بن علي علیه السلام أحق بالأمر، ولا ينبغي تصديقه في مواضع الريب.
وهذا نظير ما كان يصدر من بعض ثقاة الواقفة لعنهم الله؛ كزرعة بن محمد الحضرمي، الذي وصفه النجاشي بأنه ثقة (2)، لكن صدر منه الكذب في بعض موارد التهمة، من ذلك ما ورد عن الحسن بن قياما الصيرفي قال: سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام فقلت: جعلت فداك ما فعل أبوك؟ قال علیه السلام: مضى كما مضى آباؤه علیهم السلام. قلت: فكيف أصنع بحديث حدثني به زرعة بن محمد الحضرمي عن سماعة بن مهران أن أبا عبد الله علیه السلام قال: إن ابني هذا فيه شبه من خمسة أنبياء: يحسد کما حسد یوسف علیه السلام ويغيب كما غاب يونس علیه السلام وذكر ثلاثة أخر؟
قال علیه السلام: كذب زرعة، ليس هكذا حديث سماعة! إنما قال: صاحب هذا
ص: 377
الأمر - يعني القائم - فيه شبه من خمسة أنبياء، ولم يقل ابني. (1)
وخلاصة القول أن عبارة (ابن أمة سوداء) لا يمكن الجزم بأنها من كلام المعصوم، والقرائن تؤكد زيادتها على النص. قال المرجع الراحل الشيخ لطف الله الصافي قدس سره: هذه الجملة (ابن أمة سوداء) غير موجودة في نسخة كمال الدين المترجمة بالفارسية ونسخة طبع النجف سنة 1389 ه- ص 320، راجع: ج 1 ص 445، هذا مضافا إلى أنّ شبهه من يوسف الغيبة والسجن، وعلى هذا لا يبعد احتمال الزيادة في الحديث، والله أعلم. (2)
فإن أبيت إلا قبول خبر ابن عقدة المعارَض بما ثبت في أحوال والدة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف فعليك أن توجه العبارة بما لا يخالف الثابت الصريح في رواياتنا، كتوجيه العلامة المجلسي حيث قال رحمه الله: قوله علیه السلام: ابن أمة سوداء، يخالف كثيرا من الأخبار التي وردت في وصف أمه عليه السلام ظاهرا؛ إلا أن يحمل على الأم بالواسطة أو المربية. (3)
وعليه فلا وجه للقول بأن والدة الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف نوبية، فلا دليل يساعد عليه، ولا هو قول مذكور في كتب علمائنا الأعلام ليتبناه معاصر ويقويه!
***
ص: 378
أقام الإمام العسكري علیه السلام في داره بسامراء في تقية شديدة، حتى أن جماعة من الشيعة بل من بني هاشم ما كانوا عارفين بأن للإمام الهادي علیه السلام ولداً اسمه الحسن علیه السلام بل كانوا يظنون أن الإمامة بعد أبي الحسن الهادي علیه السلام في ولده السيد محمد المعروف بسبع الدجيل سلام الله عليه.
فقد روى الكليني رحمه الله أن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسن الأفطس حضروا دار الإمام الهادي علیه السلام يعزونه في وفاة ولده السيد محمد سب الدجيل وكان في الدار ما يقارب مئة وخمسين رجلا من بني هاشم سوى مواليه وسائر الناس، فدخل الإمام الحسن العسكري علیه السلام مشقوق الجيب، ولم يكن يعرفه الحاضرون في ذلك المجلس، وهذا في سنة (252ه-) أي قبل شهادة الإمام الهادي علیه السلام بسنتين، وعمر الإمام العسكري آنذاك ما يقارب العشرين سنة، وجماعة من بني هاشم لم يكونوا رأوا الحسن العسكري علیه السلام ولا سمعوا عنه، فضلا عن سائر الناس. (1)
أما عامة المؤمنين فمنهم من لم يكن يعرف الإمام حتى رآه يصلي على جنازة أبيه الهادي علیهما السلام كعبد الله بن محمد الأصفهاني الذي سأل أبا الحسن الهادي علیه السلام عن الخلف من بعده فلم يخبره ولكن أعطاه العلامة وهي أنه يصلي على جنازته، فكانت أول مرة يعرف ولداً للإمام بهذا الوصف حين رآه يصلي على
ص: 379
الجنازة. (1)
ومع هذا التكتيم الشديد تجد الكثير من الغموض في سيرته، فنحن نعلم أنه هاجر إلى سامراء لكننا لا نعلم إن كان صحب أباه في سفره (2) حين أشخصه المتوكل أم لحق به متأخّراً؟! فلا نعلم مدة مقامه في سامراء، ولا نعرف تفاصيل حياته لأن خاصة أصحابه ما كانوا في جواره بل كان علیه السلام معزولا عنهم، وذلك بسبب الضغط العباسي من جهة، ومن جهة لرغبة الإمام علیه السلام بتهيئة الشيعة للغيبة، فتغيرت سبل التواصل مع الشيعة حتى كثر الاعتماد على الوكلاء، كما أن صدقات الإمام ومبرّاته وخيراته توزع عن طريق الوكلاء لا كما كان يفعل الإمام زين العابدين علیه السلام يحمل الجراب على ظهره ويطوف على بيوت المدينة. حتى أن عقيقة الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف ما وزعت بشكل مباشر بل وزعت على بيوت الشيعة عن طريق الوكلاء، كما أن توجيهات الإمام وأوامره للشيعة أكثرها كانت تصل بالمكاتبات.
ثم إننا لا نعرف على وجه الدقة من كان يعش معه في البيت من أهل بيته؟ ومن هم حلقات الوصل بين الإمام علیه السلام وبني عمومته؟ وكيف كانت تصل
ص: 380
رسائل الإمام علیه السلام وكتبه للشيعة في ظل هذه الرقابة الشديد؟ حتى أن أحمد بن إسحاق رحمه الله (1) دخل على الإمام علیه السلام فطلب منه أن يكتب له بخطه، كي يعرف خطه إذا ورد عليه، فأراه الإمام علیه السلام خطه، وقال له: يا أحمد إن الخط سيختلف عليك من بين القلم الغليظ إلى القلم الدقيق فلا تشكن (2).
فإذا عرفت الشدة والرقابة حول دار الإمام فاعلم أنه سجن عدة مرات: في سجن صالح بن وصيف، وسجن نحرير أو يحيى بن قتيبة، وكان السجن الأخير سجن علي بن جرين خرج منه قبيل شهادته بأيام. (3)
مضافاً إلى ذلك فإن العباسيين عرفوا بوضوح مهدي آل محمد صلوات الله عليهم وأنه الثاني عشر وهو من ولد الحسن العسكري علیه السلام، فلا هو محمد بن عبد الله المحض ولا غيره، وصار الخلاص منه ضروريّاً، ما زاد في الأمر تقية، وكما ورد: عن الصادق علیه السلام: كُلَّمَا تَقَارَبَ هَذَا الْأَمْرُ كَانَ أَشَدَّ لِلتَّقِيَّةِ (4)، فيلاحظ أن أعمار الأئمة علیهم السلام بعد الإمام الكاظم علیه السلام صارت أقصر لاستعجال الطغاة بقرار اغتيال الإمام المعصوم علیه السلام قبل أن يولد الخلف الحجة علیه السلام ما حداهم على كبس دار
ص: 381
الإمام العسكري علیه السلام فوراً بعد وفاته صلوات الله عليه وعلى آبائه.
أضف إلى تلك العوامل تزامن الظرف مع الصراع الإسلامي البيزنطي (1) والمناوشات العسكرية بينهما خصوصاً بعد معركة عمورية (223ه-/ 838م)، حيث كانت الدولة الإسلامية في صراع مستمر مع الدولة البيزنطية وكان بين المسلمين والروم رسل وتبادل أسرى وشدة ولين، ومفاوضات مستمرة طوال هذه الفترات.
كل ذلك وأكثر كان سبباً للتعتيم على خصوصيات حياة الإمام علیه السلام وزوجاته وما يدور في بيته حتى تتم الأمور كما أراد الله وفق الأسباب الطبيعية من ولادة الإمام إلى غيبته عجل الله فرجه الشريف.
وإلا ما هي العواقب لو صار معلوما عند عامة الناس أن ابنة القيصر تعيش في بيت الإمام العسكري علیه السلام؟ لا يوجد عاقل يسمح بإذاعة هذا السر الخطير، الذي قد يجعل دار الإمام تكبس فوراً وتعتقل السيدة لتكون ورقة مفاوضات أمنية مع الإمبراطورية البيزنطية، فالخصم لا يبالي بسجن الإمام علیه السلام كرارا ومرارا ولا يضع حرمة لأحد فكيف يمكن التصريح بهذا الأمر لعامة الناس؟
وهذا ما يبرر عدم ذياع الخبر وإبلاغه إلا لنزر يسير من أصحاب
ص: 382
الإمام علیه السلام، فيكتمه بشر بن سليمان النخاس أكثر من ثلاثين سنة!
وهذا ما يجعلنا نفهم بعض كلمات السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد علیه السلام التي كانت حاضرة عند ولادة الخلف عجل الله تعالی فرجه الشریف وردت على نحو التقية لدفع الخطر عن الإمام المعصوم علیه السلام وأهله بيته.
منها هذه الرواية: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ، قَالَ: دَخَلْنَا جَمَاعَةً مِنَ الْعَلَوِيَّةِ عَلَى حَكِيمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْن عَلِيِّ بْنِ مُوسَى علیهم السلام، فَقَالَتْ: جِئْتُمْ تَسْأَلُونَنِي عَنْ مِيلَادِ وَلِيِّ الله؟ قُلْنَا: بَلَى وَ اللهِ. قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي الْبَارِحَةَ، وأخْبَرَنِي بِذَلِكَ. وَإِنَّهُ كَانَتْ عِنْدِي صَبِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ وَكُنْتُ أُرَبِّيهَا مِنْ بَيْنِ الْجَوَارِي، وَلَا يَلِي تَرْبِيَتَهَا غَيْرِي، إِذْ دَخَلَ أَبُو مُحَمَّدِ علیه السلام عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَبَقِيَ يُلِحُّ النَّظَرَ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، هَلْ لَكَ فِيهَا مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَ علیه السلام: إِنَّا مَعْشَرَ الْأَوْصِيَاءِ لَسْنَا نَنْظُرُ نَظَرَ رِيبَةٍ، وَلَكِنَّا نَنْظُرُ تَعَجُّباً؛ أَنَّ الْمَوْلُودَ الْكَرِيمَ عَلَى الله يَكُونُ مِنْهَا.
قَالَتْ: قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، فَأَرُوحُ بِهَا إِلَيْكَ؟ قَالَ علیه السلام: اسْتَأْذِنِي أَبِي فِي ذَلِكِ. فَصِرْتُ إِلَى أَخِي علیه السلام، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ ضَاحِكاً، وَقَالَ: يَا حَكِيمَةُ، جِئْتِ تَسْتَأْذِنِينِي فِي أَمْرِ الصَّبِيَّةِ، ابْعَثِي بِهَا إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُشْرِكَكِ فِي هَذَا الْأَمْرِ.
قالت: فَزَيَّنْتُهَا وَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى أَبي مُحَمَّدِ علیه السلام، فَكُنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْهَا تَقُومُ فَتُقَبِّلُ جَبْهَتِي فَأَقَبِّلُ رَأْسَهَا، وَتُقَبِّلُ يَدِي فَأَقَبِّلُ رِجْلَهَا، وَتَمَدُّ يَدَهَا إِلَى خُفِّي لِتَنْزِعَهُ فَأَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ، فَأَقَبِّلُ يَدَهَا إِجْلَالًا وَإِكْرَاماً لِلْمَحَلَّ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ
ص: 383
تَعَالَى فِيهَا ... (1) والخبر طويل فيها تفصيل ولادة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف لكننا اقتطعنا منه موضع الشاهد.
والمهم في الرواية أن السيدة حكيمة علیها السلام لم تصرّح للراوي مع أنه علوي كيف صارت الجارية في بيتها، وإنما اكتفت بذكر اسمها وأنها كانت عندها وأنها تعهدت تربيتها.
وهذه الفقرة متناسبة مع ما ورد في الخبر المفصل المشهور الذي رواه بشر النخاس في كيفية وصول السيدة من قصر القيصر في الروم إلى دار الإمام العسكري علیه السلام حيث أمره الإمام الهادي علیه السلام بشرائها، فلما اشتراها وجاء بها إلى داره علیه السلام، قال أَبُو الْحَسَنِ الهادي علیه السلام: (يَا كَافُورُ ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ. قَالَ علیه السلام لَهَا: هَا هِيَهْ، فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ الله أَخْرِجِيهَا إلَى مَنْزِلِكِ وَعَلِّمِيهَا اَلْفَرَائِضَ وَاَلسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ اَلْقَائِمِ) (2).
ففي الرواية الأولى تذكر السيدة حكيمة أن لها جارية تعهدت بتربيتها ثم بعثتها للإمام العسكري علیه السلام، والرواية الثانية تذكر أن الجارية التي جاءت من الروم واشتراها الإمام الهادي علیه السلام عن طريق بشر النخاس صارت عند السيدة
ص: 384
حكيمة علیها السلام لتعلمها الفرائض والأحكام وبعد ذلك تذهب إلى بيت الإمام العسكري علیه السلام.
والرواية لا تقول بأن السيدة نرجس علیها السلام كانت جارية السيدة حكيمة علیها السلام، بل كانت في دارها، ولو كانت جاريتها فما معنى أن تستأذن الإمام الهادي علیه السلام لتبعثها إلى الإمام العسكري علیه السلام؟ ثم إن إمامنا الهادي علیه السلام كما هو واضح من صريح الرواية كان عالماً مسبقاً بخبر الجارية في بيت السيدة حكيمة علیها السلام لأن السيدة حكيمة حين جاءت لتستأذن في أن تبعث الجارية للإمام العسكري علیه السلام ابتدأها الإمام الهادي علیه السلام قائلا: جِئْتِ تَسْتَأْذِنِينِي فِي أَمْرِ الصَّبِيَّةِ، ابْعَثِي بِهَا إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (1).
وهو واضح في أن الإمام الهادي علیه السلام كان على اطلاع تام بشؤون الجارية المقصودة وأن الأمر ليس غائبا عن ذهنه، ولم يكن عفويّاً وليد الساعة! كل ذلك واضح بصريح الرواية.
وهل لهذا تفسير غير أنها جاريته التي أمر السيدة حكيمة أن تتعهد بتربيتها وتعليمها الفرائض فإذا أتمت ذلك بعثتها إلى إمامنا العسكري علیه السلام، ثم إنها لما أتمت ذلك ودخلت على إمامنا الهادي علیه السلام عرف ما في نفسها وأمرها أن تبعث الجارية إليه.
ص: 385
واضح أنها ليست جارية مجهولة عندهم، بل هي المعهودة المعروفة التي اصطفيت من بين نساء الأرض لتكون أمّاً لإمامنا الخلف عجل الله تعالی فرجه الشریف، والتي كان بيت الإمام يترقب وصولها حتى يسّر الله لها ذلك.
لا يوجد تعارض بين الروايتين، بل بينهما أشد الانسجام، غير أن ظروف التقية تقتضي كتمان خبر وصولها من الروم إلى سامراء فجاءت رواية السيدة حكيمة علیها السلام دون تصريح بذلك، أما رواية بشر النخاس فهي تصرح بهذه التفاصيل، لكنها ما أذيعت إلا بعد ولادة الخلف عجل الله تعالی فرجه الشریف بأكثر من ثلاثين سنة.
وعليه فإن هذه الطائفة من الروايات التي تذكر أن السيدة حكيمة تكفلت برعاية برعاية السيدة نرجس علیها السلام وأنها هي التي أوصلتها إلى الإمام العسكري علیه السلام تصلح أن تكون مؤيداً لما ورد في خبر بشر النخاس.
إن الراوي -حتى وإن لم يكن ثقة- لا يستطيع أن يبتكر كل كذبة! هناك جزئيات ودقائق غائبة عن عامة الناس ويصعب الوصول إليها فكيف يتصور أن نخاساً يكذب ويأتي بتفصيل انتقال جارية من الإمام الهادي إلى أخته إلى ابنه علیهم السلام! هذا بعيد جدّاً، وإن الذي رواه الطبري في دلائل الإمامة والصدوق في كمال الدين والطوسي في الغيبة وغيرهم كلها مؤيدات لخبر بشر النخاس المفصِّل لقصة مجيء ابنة قيصر الروم، لأن علمه بتفصيل ما جرى داخل البيت شاهد على أنه بالفعل قد اختص بهذا الشرف.
لقد مرّت على الطائفة ظروف حرجة شديدة لا يمكن أن يفهم حقيقتها
ص: 386
من نشأ في مجتمعه رغِداً آمنا لم يخش ترويع طاغية وسجن وتشريد وقتل واعتقال بتهمة المحبة لآل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم . فهذا سُجن لأنه رأى في المنام أنه يزور الرضا علیه السلام وذاك ضاع ثلاث من أولاده في السجون لأنه أقام مأتم سيد الشهداء علیه السلام ولا يعلم في أي مقبرة جماعية غيبّوا عن الأنظار! وأشد من ذلك وأقسى مرّ على الطائفة ... هذا ما يجعل الأئمة علیهم السلام يؤكدون على التقية وكتمان الأسرار بكثرة، حتى أفرد الكليني رحمه الله عدة أبواب لهذا الموضوع في أصول الكافي بعنوان: (باب التقية) و (باب الكتمان) و (باب الإذاعة)، و (باب في ترك دعاء الناس)، سوى ما أورده متفرقاً في الكافي، فضلا عما أورده المجلسي وغيره من المحدثين رَحِمَهُمُ اللهُ في هذا الموضوع حتى عدَّت التقية علامة من علامات التشيع.
منها ما ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ علیه السلام قَالَ: مَا قَتَلَنَا مَنْ أَذَاعَ حَدِيثَنَا قَتْلَ خَطَإٍ وَلَكِنْ قَتَلَنَا قَتْلَ عَمْدِ. (1) وعنه علیه السلام: رَحِمَ اللهُ عَبْداً اجْتَرَّ مَوَدَّةَ النَّاسِ إِلَى نَفْسِهِ حَدِّثُوهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ وَ اسْتُرُوا عَنْهُمْ مَا يُنْكِرُونَ. (2) والأحاديث في ذلك كثيرة.
ثم لا يخفى عليك أن الأسرار في الأخبار ليست مطلقة، فالسر يكون سرّاً اليوم ولا يكون سرّاً غدا، من ذلك ما تقدم من أن خلافة أبي محمد العسكري علیه السلام لأبيه الهادي علیه السلام كانت سرّاً مكتوما فترة من الزمان، ولكنها لا يمكن أن يكون سرّاً إلى اليوم! والأمثلة في ذلك كثيرة، فلا ينبغي الإسهاب فيها لوضوح المطلب.
ص: 387
ومن ذلك تفهم العلة في كتمان بشر بن سليمان النخاس خبر السيدة نرجس علیها السلام حتى سنة (286ه-) أي بعد ولادة مولانا بقية الله الأعظم عجل الله تعالی فرجه الشریف بأكثر من ثلاثين سنة، ولم يذعه إلا خشية ضياعه قبل وفاته رحمه الله. ثم إنه لا يظهر أن محمد بن بحر الرهني أذاع الحديث فور سماعه من بشر النخاس.
وهذا يعني أن نسب السيدة نرجس علیها السلام كان من الأسرار ولم يكن ذائعاً بين الأصحاب فضلا عن عامة الناس إلى فترة طويلة من الغيبة الصغرى، وهذا شأن كثير من الأسرار التي تغيب عن المؤمنين سنين متمادية، ثم يذيع خبرها متأخرّاً كموضع قبر أمير المؤمنين علیه السلام فإنه كان مخفيّاً (1)، فإن جل الأصحاب قبل ذلك لم يكونوا عارفين بموضع القبر الشريف.
وكل موضوع يكون من الأسرار أول الأمر لا يمكن أن نتوقع ذياعه بين
ص: 388
المؤمنين على نحو السرعة، خصوصاً أنه يلزم السفر والتنقل بين البلدان لسماع الأخبار والتدقيق فيها ما يقتضي تطاولا في الأزمان.
وهذا يفسر أن المسعودي صاحب إثبات الوصية (1) لم يكن يعرف هذا
ص: 389
الخبر، لأن المسعودي فرغ من كتاب إثبات الوصية سنة (332ه-) (1) فإن المسعودي ولد في العراق، ونشأ في بغداد وأقام بها زمانا، وبمصر أكثر، ورحل في طلب العلم إلى أقصى البلاد فطاف فارس وكرمان سنة 309ه-، وفي السنة التالية قصد الهند ثم عطف إلى كنباية فصيمور فسرنديب ومن هناك ركب البحر إلى بلاد الصين وطاف البحر الهندي إلى مداغسكر وعاد إلى عمان، ورحل رحلة أخرى سنة 314ه- إلى ما وراء أذربيجان وجرجان ثم إلى الشام و فلسطين. وفي سنة 332ه- جاء إلى أنطاكية والثغور الشامية إلى دمشق واستقر أخيرا بمصر ونزل الفسطاط سنة 345ه-، وتوفي فيها (2)، ثم اعلم أن المسعودي عاش شطراً طويلا من عمره بين المخالفين حتى ظن البعض أنه منهم.
أما محمد بن بحر الرهني (راوي الخبر الذي سمع القضية مفصلة من بشر النخاس) فرغم أنه عاصر المسعودي إلا أنه عاش في خراسان، قال شيخ الطائفة رحمه الله في محمد بن بحر الرهني: (وله نحو من خمس مائة مصنف ورسالة، وكتبه موجودة أكثرها ببلاد خراسان، فمن كتبه كتاب الفرق بين الآل والأمة،
ص: 390
وكتاب القلائد) (1)، وقال النجاشي رحمه الله: (أبو الحسين الشيباني ساكن نرماشير من أرض كرمان). (2)
فكيف للمسعودي أن يعرف الخبر ويسمعه من الرهني؟ أم كيف له أن يأخذه من كتب الفضل بن شاذان النيسابوري؟ وكل ذلك بعيد المنال عنه فكيف يأتي المقيم بأنطاكيا سنة 332ه- (3) بالأخبار من خراسان؟ وأخبارهم لما تذع بعد؟!
ولكن المسعودي بلغه الخبر الذي فيه أن السيدة نرجس نشأت في بيت السيدة حكيمة علیها السلام، وقد نقله في إثبات الوصية بالمضمون (4) لا بالنص، وذكر في أن
ص: 391
السيدة نرجس ولدت في دار السيدة حكيمة، والنقل بالمضمون ليس بحجة.
قال المسعودي في إثبات الوصية: (روى لنا الثقات من مشايخنا أن بعض أخوات أبي الحسن علي بن محمد علیهما السلام كانت لها جارية ولدت في بيتها وربّتها تسمّى نرجس فلما كبرت وعبلت (1) دخل أبو محمّد علیه السلام فنظر إليها فأعجبته فقالت عمّته: أراك تنظر إليها؟ فقال صلّى الله عليه: إني ما نظرت إليها إلّا متعجبا! أما ان المولود الكريم على الله جل وعلا يكون منها. ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن في دفعها إليه، ففعلت، فأمرها بذلك.) (2) والاشتباه في هذا النقل واضح، فإنه يلزم من ولادتها في بيت السيدة حكيمة علیها السلام أن تكون والدة الإمام علیه السلام مولدة لا سبية (3)، وكونه ابن سبية أمر مسلّم (4).
وأنت ترى أن المسعودي نقل مضمون الخبر المتقدم الذي رواه الطبري في دلائل الإمامة أن السيدة حكيمة حدّثت محمد بن القاسم العلوي مع جماعة من العلوية: (وَإِنَّهُ كَانَتْ عِنْدِي صَبِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ وَكُنْتُ أُرَبِّيهَا مِنْ بَيْنِ الْجَوَارِي،
ص: 392
وَلَا يَلِي تَرْبِيَتَهَا غَيْرِي، إِذْ دَخَلَ أَبو مُحَمَّدِ علیه السلام) (1)، وهو شبيه الذي رواه الصدوق أن السيدة حكيمة علیها السلام حدثت محمد بن عبد الله الطهوي: (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي..) (2) وهو مثل الذي رواه الطوسي في الغيبة (3) . فإنه لا يظهر أن المسعودي بلغه خبر مختلف عن هذه الأخبار غير أنه نقل الخبر بالمضمون كما ترى ولم ينقله بالنص، ولأن المسعودي لم يطلع على خبر الرهني عن بشر النخاس الذي اطلع عليه الصدوق والطوسي والطبري (صاحب دلائل الإمامة) فالتبس عليه الفهم، وتوهم أن تربية السيدة حكيمة للسيدة نرجس يعني أنها ولدت في بيتها. (4)
ولعمري هذا ما يؤكد الشدة في كتمان الحديث والتزام الرواة بحفظه، فإن الأخبار لم تبلغنا اليوم إلا بمشقة، وإنّ الذي هو بين أيدينا اليوم لم يكن بين يدي كثير من الشيعة، لا أقول المسعودي فحسب، بل خُلّص أصحاب الأئمة علیهم السلام ومن أدرك العسكري علیه السلام وبلغه خبر ولادة الخلف عجل الله تعالی فرجه الشریف قد يكون حرم هذا الخبر ولم
ص: 393
يبلغه هذا السر، وليس الأمر منحصراً بالمسعودي!
إن كون المسعودي أقرب لزمن النص يجعله أقرب لمعرفة الواقع من جهة، ومن جهة أخرى يكون أبعد عن الواقع! أما قربه فهو في الأخبار الذائعة المشهورة التي يعرفها الجميع، أما بُعده عن الواقع فهو في الأسرار المكتومة التي لم تظهر إلا في أزمنة متأخرة؛ الأمر أشبه بالأخبار العسكرية اليوم، فالأحداث العامة من انفجارات وقتل ونحو ذلك فإن المعاصر لها أقرب للواقع، وأما الأسرار الحربية فإن الأجيال اللاحقة التي تتمكن من الاطلاع على الوثائق قد يتسنى لها معرفتها، ونحن فيما نحن فيه من الأسرار التي لم تكن لتذاع في وقتها.
وخلاصة القول أن الأخبار التي ذكرت بأن السيدة حكيمة علیها السلام تكفلت بتربية السيدة نرجس علیها السلام وأنها نشأت في بيتها كلها مؤكدات تثبت صدق رواية بشر النخاس وقضية مجيء حفيدة القيصر إلى دار الإمام الهادي علیه السلام لتتزوج الإمام العسكري علیه السلام بعد أن تتكفل السيدة حكيمة علیها السلام بتعليمها الفرائض والسنن، ثم تنتظر إذن الإمام الهادي علیه السلام في أن تبعثها للإمام العسكري علیه السلام.
***
ص: 394
الثقافة الإسلامية تغزو بيزنطة - أبو أيوب الأنصاري - شمعون الصفا - المذهب الملكاني
الأسرة الحاكمة في القرن التاسع - الألقاب والمناصب الرسمية - القيصر باراداس
الصراعات الداخلية والخارجية - المرأة في الحضارة البيزنطية - في الأدب البيزنطي - الزفاف المنحوس
الزلزال وخطبة الأسقف الأعظم - العفو عن أسارى المسلمين - حرب المسلمين والروم
الرواية الشيعية والتاريخ البيزنطي
لقد تقدمت المناقشات المثبتة بأن والدة مولانا الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف هي السيدة مليكة حفيدة قيصر الروم، والتي من أسمائها نرجس وسوسن وريحانة وصقيل. وقد ذكرنا جملة من القرائن منها صحة أسانيد الروايات الدالة على ذلك وخلوّها من الروايات المعارضة ونحو ذلك من أدلة بما يناسب المقام.
وفي هذا الفصل سنبحث عن دليل أشد اعتباراً من الأسانيد الصحاح، وهو انسجام المتن المروي في كتبنا مع ما ورد في التاريخ البيزنطي، بكيفية لا يمكن فيها اتهام راويي الخبر محمد بن بحر الرهني، أو بشر النخاس بالكذب، فإن ما احتواه الخبر من مداقة وتوافق مع مجريات الأحداث في بيزنطة لا تصدر من أي إنسان سكن خراسان أو بغداد وخطر في باله رسم حبكة خيالية بهذه الصورة!
ص: 395
لابد لراوي الخبر أن تكون له صلة مباشرة في القصور البيزنطية من الداخل، وصلة مباشرة في بيت الإمام العسكري علیه السلام، وإحاطة بجملة من الأحداث السياسية المتداخلة، ليكمل الحبكة! وغير ذلك فإن أي إنسان لن يتمكن من حبك كذبة بهذا الإتقان! لذا فإن متن الرواية يكفي للقول باعتبارها.
ولابد من التنبيه على أننا نتحدث عن ظروف القرن التاسع الميلادي والثالث الهجري، ولأن الأحداث تضبط تارة بالتاريخ الهجري وأخرى بالميلادي اقتضى التقديم بمقارنة بعض تواريخ أباطرة الدولة العمورية:
٭ أول أباطرة الدولة العمورية: ميخائيل الثاني، عاصر المأمون والمعتصم. وحكم بيزنطة (820 - 829 للميلاد)، ويوافق (205 - 214 للهجرة).
٭ الإمبراطور الثاني: ثيوفيلوس (1) بن ميخائيل، عاصر المعتصم العباسي. وحكم بيزنطة (829 - 842 للميلاد)، ويوافق (205 - 228 للهجرة). وتوفي في نفس سنة وفاة المعتصم العباسي.
٭ الإمبراطور الثالث: ميخائيل (2) الثالث بن ثيوفيلوس، عاصر الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز. تسنم المنصب (842 - 867للميلاد)، ويوافق (228 - 253 للهجرة). وكان عمره سنتين، لكنه لم يحكم أبداً.
٭ منذ بداية حكم ميخائيل الثالث تولت الوصاية على الإمبراطور أمه
ص: 396
ثيودورا (1)، وكانت وصية على العرش أربع عشرة سنة (أي لغاية: 856 للميلاد)، (ويوافق 242 للهجرة).
٭ في سنة (856 - 866 للميلاد)، ويوافق (242 - 252 للهجرة)، تولى شؤون الإمبراطورية القيصر باراداس، وكانت طوع أمره عشر سنين.
٭ ثم إن باسيل (2) المقدوني اغتال القيصر باراداس سنة 866م، وجلس مجلسه، ثم اغتال الإمبراطور سنة 867م وأصبح هو الإمبراطور.
٭ كانت نهاية الدولة العمورية (867 للميلاد) ويوافق (253 للهجرة) على يد باسيل المقدوني، وبداية الدولة المقدونية.
لابد للجمع بين الرواية الشيعية وما ورد في التاريخ البيزنطي من تقاطع المعلومات والربط بينها، وهذا ما سيجعل أبواب هذا الفصل تبدو للوهلة الأولى متباينة وتجد في البيان غرابة فلا تستوحش، فإننا ننقل تارة ما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله وأخرى عن المؤرخ البيزنطي جنسيوس، وتارة نتحدث عن المعتصم العباسي وأخرى عن الإمبراطور ثيوفيلوس، وتارة نأتي على ذكر سوق النخاسة في بغداد، وأخرى نأتي على ذكر كاتدرائية آياصوفيا في إسطنبول... ثم ستجد المطالب مترابطة أشد الترابط، وهو ما سيأتي ومن الله التوفيق.
***
ص: 397
لقد جئنا بهذه الصورة من صور تاريخ الحضارات لأن رواية الشيخ الصدوق رحمه الله ذكرت أن السيدة نرجس علیها السلام كانت قد تعلمت العربية في بيزنطة قبل تنكرها بزي الخدم وخروجها من قصر جدها القيصر. وإن هذا المشهد التاريخي منسجم مع طبيعة الحضارة في القرن التاسع الميلادي، فإن العلوم الإسلامية قد بلغت ذروتها وكان لزاما على سائر الأمم أن تتعلم الحضارات المتقدمة أو الموازية، كما تفعل الأمم اليوم، فإن أبناء الملوك يتعلمون فيما يتعلمون (1) لغات الأمم المتقدمة.
ثم إن النصارى قد اطلعوا على القرآن ودرسوه وعلموا ما فيه وما احتواه من مناقشات لعقائد النصارى، ورغم أن يوحنا الدمشقي (749م - 132ه-) كان ترجم بعض آيات القرآن في عصر الدولة الأموية إلى اليونانية إلا أنها لا تعد ترجمة كاملة للقرآن وإنما مجرد مناقشات لبعض العقائد الإسلامية، أما أول ترجمة
ص: 398
فعلية للقرآن فإنها ترجع إلى القرن التاسع الميلادي، وقد ترجم إلى اليونانية، وكان ذلك في فترة النهضة الثقافية وتأسيس الجامعات والمدارس في القسطنطينية، وهذه تعتبر أقدم ترجمة كاملة للقرآن الكريم إلى لغة غير العربية، وهي التي كانت بين يدي نيقتاس البيزنطي (1). ثم إن الأوضاع الداخلية عندهم حين اضطربت في صراع الأيقونات - في نفس الحقبة التاريخية التي نحن فيها- بثوا في أوساط المسلمين فتنة خلق القرآن؛ وذلك ما لم يكن بوسعهم لولا الدراسة الكاملة للقرآن والحضارة الإسلامية.
وأضف إلى ذلك فإنه وفي نهاية القرن السابع الميلادي مع الفتوحات الإسلامية بدأت اللغة العربية تحل محل السريانية في بعض بلاد النصارى، لاسيما عند النصارى الملكانيين (2)، كما نشطت حركة الترجمة اليونانية العربية فترجم يوحنا بن البطريق كتب أرسطو وبطليمس وأفلاطون، وغير ذلك من أنشطة ترجمة
ص: 399
حيوية في ذلك العصر (1).
وحين يصل المؤرخون إلى ذكر ترجمة الأسقف الأعظم فوتيوس (2) يتحدثون عن أهم مؤلفاته الميريوبيبلون (أو: المكتبة) وهو مصنف يصف مائتين وتسعة وسبعين من الكتب اليونانية، مع تحليل لمضموناتها، واقتباس نصوص طويلة منها، ويناقشون إن كان لهذا المصنَّف صلة بعملية التبادل الثقافي بين الدولة الإسلامية والبيزنطية، سيما أنه تزامن تصنيف هذا الكتاب مع رحلته إلى بغداد في سفارة رسمية من بيزنطة إلى بغداد (3)، كما يحكي لنا التاريخ عن وفود إسلامية إلى القسطنطينية ضمن عملية التبادل الثقافي الإسلامي البيزنطي في تلك الحقبة (4).
أي أن النهضة العلمية في بغداد واكبها تبادل ثقافي واسع، وتأثر من الطرفين كلٌّ بالآخر، وكان من أدوات هذا التبادل أسرى الحروب، خصوصاً أن بعض أسرى الروم أسلموا في البلاد الإسلامية، كما تنصر بعض أسرى المسلمين،
ص: 400
فكانت هذه إحدى وجوه التبادل الثقافي بين الحضارتين (1).
والخلاصة أنه كان متعارفاً في ذلك العصر أن على المتعلم والمثقف في بلاد الروم دراسة العربية، كما على المثقف والمتعلم العربي أن يدرس الإغريقية وعلومها، فإن العرب كانوا رواد حضارة كبرى وما كان لهم أن يبنوا حضارتهم دون اطلاع على نتاج حضارات الأمم الأخرى.
وأما الروم فإنها ترى في العرب خصماً متمكنا قويّاً متقدماً علميّاً وعسكريّاً، يمتلك موقعاً جغرافيّاً حساساً يتوسط حضارات الشرق والغرب، ما جعله يجمع ما تشتت من موروثات ثقافية ويترجمها إلى العربية، وإن الكتب والمصنفات التي جمعها المنصور الدوانيقي في قصره حتى ضاق القصر دعا هارون إلى بناء بيت الحكمة كمكتبة ضخمة امتلأت خزائنها بالمصنفات العلمية في مختلف العلوم حتى شكلت رافداً علميّاً متفوقاً في ذلك العصر.
أي أن المتعلم أينما كان لم يكن بوسعه تجاوز الموروث العلمي العربي، فكان من الطبيعي انتشار العربية في المؤسسات العلمية البيزنطية، سيما مع النهضة العلمية التي شهدها عصر ميخائيل الثالث بإدارة خاله القيصر باراداس.
بناء على هذه المقدمات سيكون الوجه واضحاً في ما رواه بشر النخاس عن لسان السيدة نرجس علیها السلام أنها قالت: بلغ من ولوع جدي وحمله إياي على تعلم
ص: 401
الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمان له في الاختلاف إلي، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً، وتفيدني العربية حتى استمر عليها لساني واستقام.
***
ص: 402
وذكروا أن لأبي أيوب من الولد: محمد، وعبد الله، ومالك، وخالد، وعبد الرحمن، وعميرة، وعمرة، وعفراء أبناء أبي أيوب الأنصاري (1). وذريته
ص: 403
معروفة، قال ابن عبد البر : ولأبي أيوب عقب (1)؛ ومن ذريته العلماء ورواة الحديث ذكرتهم كتب الرجال والتراجم، وماتزال ذريته موجودة إلى يومنا هذا (2).
وإنما جئنا بهذا التقديم لأن بعض المشككين كذّبوا الخبر لأن راويه المباشر هو: (بشر بن سليمان النخاس من ذرية أبي أيوب الأنصاري)، وقال من كذّب الخبر أن أبا أيوب لا ذرية له وهذا الراوي مجهول فكيف تقبل روايته؟! معتمداً في ذلك على قول ابن سعد في الطبقات بأن نسله انقرض حيث قال: وقد انقرض ولده فلا نعلم له عقبا. (3)
وكان جديراً أن يُنسب الخطأ لابن سعد صاحب الطبقات فإنه هو من لا يعلم عقب أبي أيوب رحمه الله وهذه كتب الحديث مليئة بأسماء ذريته من رواة الحديث، فإن قوله واضح البطلان لا وجه للاعتماد عليه!
ثم إنني لا أرى مصادفة في أن يُنتَخب رجل من ولد هذا الصحابي الجليل
ص: 404
في هذه المهمة فإن الإمام الهادي علیه السلام حين اختاره بيّن العلة في انتخابه؛ قائلا: يَا بِشْرُ إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الْأَنْصَارِ وَهَذِهِ الْوَلَايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَمُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَةٍ تَسْبِقُ بِهَا شَأْوَ الشِّيعَةِ فِي المُوَالاةِ بِهَا؛ بِسِرِّ أَطَّلِعُكَ عَلَيْهِ وَأُنْفِذُكَ فِي ابْتِيَاعِ أُمَةٍ.. إلى آخر ما رواه الصدوق رحمه الله في كمال الدين.
والذي أراه أن وجود قبر أبي أيوب في القسطنطينية قريباً من قصور الأباطرة والقياصرة له دور في انتخاب رجل من وُلده يكون وسيطاً في هذا الشأن؛ لأن قبره (1) الذي كانت الروم تتعاهده وتستسقي به إذا أصابهم القحط هو النافذة الوحيدة من هذه البلاد للراغب إلى بلوغ بلاد الإسلام، أي أن فتاة تعيش وسط قصور بيزنطة تركت النصرانية سرّاً وهي راغبة بمغادرة بلادها لتلحق بالإمام من ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لن يكون لها خيار لتخرج من أجواء النصارى في قلب بلادهم سوى هذا المزار، فلعل لهذا ربطا بأن يحظى أحد ولده بهذا الشرف (2).
***
ص: 405
القديس بطرس كما تسميه النصارى، ويسمى أيضاً سمعان وبيتر وكيفا، والمشهور عند المسلمين شمعون بن حمون، من ذرية نبي الله داود. وهو وصي نبي الله عيسى بن مريم على نبينا وآله وعليه السلام (1).
روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ضمن حديث: فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُ (أي عيسى بن مريم) أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ نُورَ اللَّهِ وَحِكْمَتَهُ وَعِلْمَ كِتَابِهِ شَمْعُونَ بْنَ حَمُّونَ الصَّفَا خَلِيفَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَلَمْ يَزَلْ شَمْعُونُ يَقُومُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْتَذِي بِجَمِيعِ مَقَالِ عِيسَى علیه السلام فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُجَاهِدُ الْكُفَّارَ فَمَنْ أَطَاعَهُ وَآمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ كَانَ مُؤْمِناً وَمَنْ جَحَدَهُ وَعَصَاهُ كَانَ
ص: 406
كَافِراً... الخبر (1)
وذكر المسعودي رحمه الله في إثبات الوصية (2) أنه قام شمعون علیه السلام بأمر الله جل وعز وكان يفعل فعل المسيح يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ومعه الشيعة الصديقون فمن آمن به كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا ومن شك فيه كان ضالّا، ووجّه شمعون علیه السلام بالحواريين الى البلدان يدعون الناس وكان المسيح علیه السلام وشمعون لا يبعثان إلى الروم بأحد إلّا قتل.
ثم إن النصاری اختلفوا بعد عيسى بن مريم في شمعون، وأكثرهم جحدوا حقه ولم يتبعوه، روى الشيخ الطبرسي رحمه الله في الاحتجاج عن أمير المؤمنين علیه السلام: .. وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ؛ فِرْقَةً إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِرْقَةً فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ بِالْجَنَّةِ وَهِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ شَمْعُونَ الصَّفَا وَصِيَّ عِيسَى علیه السلام.. الخبر (3)
وكان شمعون أكبر من عيسى بعشر سنين، كان عيسى بن مريم لما رفع ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكان شمعون يومها ابن ثلاث وأربعين سنة. وبعد محاولة قتل عيسى علیه السلام ورفعه إلى السماء صار شمعون تحت مراقبة السلطة الدينية
ص: 407
اليهودية، والرومانية من ورائها (1).
وقد استشهد رضوان الله عليه في الليلة التي استشهد فيها أمير المؤمنين علیه السلام، ومما ورد في ذلك أن هشام بن عبد الملك أشخص إمامنا الباقر علیه السلام إلى الشام فكان مما قال: يا أبا جعفر أشخصناك لنَسْألك عن مسألةٍ لم يصلح أنْ يسألك عنها غَيري، ولا أعلم في الأرض خَلْقاً ينبغي أنْ يعرف أو عرف هذه المسألة إن كان إلّا واحداً... إلى أن قال هشام: أخبرني عن اللَّيلة الّتي قُتِل فيها عليُّ بن أبي طالب بما استدلَّ به الغائب عن المصر الَّذي قُتل فيه على قتله؟ وما العَّلامة فيه للنّاس؟ فإن علمتَ ذلك وأجبتَ، فأخبرني هَلْ كان تلك العَلامة لغير عليٍّ في قَتلِه؟ (2) فقال له الإمام الباقر علیه السلام: يا أمير المؤمنين إنّه لمّا كان تلك اللّيلة الّتي قُتِلَ فيها أمير المؤمنين علیه السلام لم يرفع عن وجه الأرض حَجَرٌ إِلّا وُجِدَ تحته دَمٌ عَبيط حتّى
ص: 408
طلع الفَجر، وكذلك كانت الليلة الَّتي قتل فيها هارون أخو موسى، وكذلك كانتِ اللَّيلة التي قتل فيها يوشع بن نون، وكذلك كانتِ الليلة التي رفع فيها عيسى بن مَريم إلى السّماء، وكذلك كانتِ اللَّيلة الَّتي قتل فيها شَمعون بن حمون الصّفا، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب، وكذلك كانتِ اللَّيلة الَّتي قتل فيها الحسين بن عليٍّ .. الخبر (1)
وبعد بيان شيء من فضل شمعون الصفا لابد من الإشارة إلى ذريته المباركة فإننا إنما عقدنا هذا الباب لهذا الغرض حيث إن السيدة نرجس علیها السلام نسبت نفسها إلى شمعون الصفا من جهة الأم.
روى المسعودي رحمه الله في إثبات الوصية (2) ما ملخصه: أنه لما حضرت شمعون الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله والحكمة وجميع مواريث الأنبياء يحيى بن زكريا ففعل وأوصى وسلّم إليه ومضى. وقام يحيى بن زكريا بأمر الله عز وجل، فلما أراد الله عز وجل أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يجعل الإمامة في ولد شمعون فأحضر ولد شمعون والحواريين من أصحاب عيسى وأمرهم باتباع منذر بن شمعون والتصديق لما يأتي به. وقام منذر بن شمعون بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون إلى أن حضرته الوفاة وأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه سلمه بن منذر فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه. وقام سلمة بن منذر بأمر الله
ص: 409
جل وعز واتبعه المؤمنون إلى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه برزة فأحضره وأوصى إليه. وقام برزة بن سلمة بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون إلى أن حضرته الوفاة، فأوحى الله إليه أن يستودع ويوصي إلى أبي بن برزة ويستودعه النور والحكمة ففعل. وقام أبي بن برزة بأمر الله جل وتقدّس وتبعه المؤمنون إلى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه دوس فأحضره وسلّم إليه. وقام دوس بن أبي بأمر الله جل وعلا وتبعه المؤمنون إلى أن حضرته الوفاة وأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته أسيد فأحضره وأوصى إليه . وقام أسيد بن دوس بأمر الله جل وعزّ وتبعه المؤمنون إلى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته هوف فأحضره وأوصى إليه. وقام هوف بأمر الله جل وعز وتبعه المؤمنون فلما حضرته الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع ما في يديه ابنه يحيى بن هوف فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه. وقام يحيى بن هوف عليه وعلى من تقدّمه السلام من النبيّين والأوصياء والأئمة أجمعين بأمر الله جل جلاله الى أن حضرته الوفاة.
ويؤيد ما ذكره المسعودي في ذرية شمعون ما رواه الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والشيخ أبو القاسم الخزاز رحمه الله عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال في ضمن حديث مفصل: .. وَأَوْصَى عِيسَى إِلَى شَمْعُونَ بْن حَمونَ الصَّفَا، وَأَوْصَى شَمْعُونُ إلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَأَوْصَى يَحْيَى إِلَى مُنْذِرِ، وَأَوْصَى مُنْذِرٌ إِلَى سُلَيْمَةَ، وَأَوْصَى
ص: 410
سُلَيْمَةُ إِلَى بُرْدَةَ .. الخبر (1)
ثم إن إغفال ذرية شمعون في تراث النصارى ليس أمراً عفويّاً فإنهم انحرفوا عن وصي عيسى واتبعوا بولس الذي نصّر النصارى، فكان جديراً أن تُغيّب ذرية شمعون، إلا أن ذريته باقية أدرك بعضهم أمير المؤمنين علیه السلام في منصرفه من صفين (2)، ومن هذه الذرية والدة إمامنا الخلف عجل الله تعالی فرجه الشریف التي تنتسب إلى شمعون من جهة الأم.
ورغم ذلك فقد أشارت الأناجيل أن شمعون كان متزوجاً وله ولد، جاء في إنجيل متى: وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ بُطْرُسَ، رَأَى حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً، فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى (3). أي أن شمعون (بطرس) كان متزوجاً وله حماة.
وجاء في رسائل بطرس: تُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ الَّتِي فِي بَابِلَ المُخْتَارَةُ مَعَكُمْ، وَمَرْقُسُ ابْنِي (4). ولكن البعض أوّلها بأن مرقس مدين لبطرس في مسيحيته أو لعلاقة إنسانية وشخصية بينهما (5).
ومرقس هذا معروف بمرقس البشير صاحب الإنجيل الثاني من
ص: 411
الأناجيل الأربعة في العهد الجديد، وكونه يلقب بالبشير يناسب أن يكون له أخ يلقب بالمنذر كما جاء في الرواية.
على كل حال فإن ما أورده النصارى في مسألة ذرية شمعون ليس حجة علينا وإنما هو حجة عليهم فالمسألة ليست مسلّمة عندهم، وإنكار بعضهم زواج بطرس (شمعون) وإنكار أن يكون له ولد لا يعنينا فإننا نتهمهم بأن ذلك راجع إلى أمرين، الأول سلوك عبادي مرتبط بالرهبانية وترك التزويج، والثاني وهو الأهم جحدهم الحق شمعون وذريته، لذلك يكون من الطبيعي تغييب هذه الذرية من الأوصياء.
ثم إنه لا يخفى أن جملة من النصارى يفترون على شمعون الصفا وينسبون له أنه أول من قال بأن عيسى هو ابن الله، وشمعون بريء من هذه الفرية والحق أن الذي نصّر النصارى هو بولس لعنه الله، ولكن يهمنا في هذا المقام التنويه بالموقع الخاص لشمعون الصفا في الوجدان المسيحي.
إن شمعون يلقب عند النصارى بالصخرة (الصفا، بيتر، بطرس، كلها مرادفات للصخرة) وذلك أن شمعون حين قال حسب زعمهم للمسيح: (أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ) (1)، قال له المسيح علیه السلام: (أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا) (2)، وذكروا في شأنه أنه هو المكلف
ص: 412
برعاية النصارى بعد المسيح حيث أوصاه قائلا: (ارْعَ خِرَافِي) و (ارْعَ غَنَمِي) (1)
وغير ذلك مما يدل على موقعه الخاص في الوجدان المسيحي وتعلق النصارى به - حسب الظاهر، وإلا فقد انقلبوا عليه وعلى الأوصياء من ذريته واتبعوا بولس-، تجد ذلك في الأيقونات والتماثيل التي تنصب تمجيداً له. ومن شواهد هذا الموقع في وجدان النصارى قضية ترتبط ببحثنا عن قرب.
وهي أن القيصر باراداس -وهو القيصر المعاصر لحادثة السيدة نرجس علیها السلام- كان على خلاف مع أسقف القسطنطينية أغناطيوس، فكان سبباً في عزله وتعيين فوتيوس بديلا عنه، صاحَب هذا الأمر جدل واسع في القسطنطينية، ومن ذلك رؤيا رآها باراداس، وحاصلها أنه رأى في المنام: أنه وبمعية الإمبراطور میخائیل قد دخلا كنيسة آياصوفيا، وشاهد شمعون جالسا على العرش وبجانبه يقف شخصان مميزان. وقد جثا أغناطيوس البكاّء على قدمي شمعون متضرعا إليه راجيا إياه غارقا في بكائه، فشاركه شمعون بالنحيب والعويل، وعندما انتهى أغناطيوس من نقل معاناته الشديدة وشكايته على القيصر بارداس، التفت شمعون إلى الشخص الواقف على يمينه ملوحا بالخنجر الصغير معلنا حكمه على الملأ: أمسكوا بارداس - مبغض الرب- خارجا في الفناء الأمامي وقطعوه إربا إربا. ثم أعلن شمعون أن الإمبراطور ميخائيل سيتلقى ذات المصير المأساوي
ص: 413
لخاله القيصر (1).
لا شك أن القيصر باراداس رأى شمعون الصفا في منامه قبيل وفاته فإن كثيراً من مصادر التاريخ البيزنطي روت هذا الخبر، لكننا لا نعلم دقة ما نقل فيه من تفاصيل وإن كان بالفعل سبب غضب شمعون على باراداس هو شكاية أغناطيوس أو أن الأمر مختلف. لقد قتل القيصر بعد هذه الحادثة بفترة يسيرة ثم آلت الأمور إلى أعدائه، وقد كتب التاريخ أعداءه أتباع أغناطيوس.
مهما يكن من شك أو دقة في النقل فإن المهم أن نلتفت إلى أن النصراني إذا أراد أن يأتي بشخصية مهمة في المنام تشير إلى حادثة محورية في المجتمع فإن الشخصية المناسبة لذلك هو شمعون الصفا، فإن له موقعه الخاص في الوجدان المسيحي.
إن راوي الخبر مهما حاول الكذب والتلفيق فإن نخاسّاً يعيش في بغداد لا يتمكن من حبك حادثة منسجمة مع الذهنية المسيحية الخاصة التي لا يعرفها إلا نصراني يعيش في بيزنطة أو باحث متخصص في الفكر المسيحي. من أين عرف راوي خبر تزويج السيدة نرجس علیها السلام بالإمام العسكري علیه السلام هذه المكانة الخاصة لشمعون في الفكر المسيحي فتؤخذ بتوجيهاته وإرشاداته من عالم الرؤيا ثم تترك أثرها البالغ وترتب عليها سائر الآثار؟ ومن أين علم أن أميرة تعيش في قصر
ص: 414
يمكنها أن تتخلى عن قصرها وتختار السبي كالجواري في زي الخدم تقطع الفرات بزورق لتصل إلى سوق النخاسة ببغداد معتمدة على رؤيا رأتها وأن شخصاً وعدها في عالم الرؤيا أنه سيتزوجها؟ هذا الإيمان العجيب بالمنامات والتجليات والإلهامات في الفكر المسيحي لا يعرفه كل أحد!
منام للقيصر وآخر لحفيدته؛ وهناك أم المسيح توحي ترنيمة الميلاد (1) من على منبر آياصوفيا (2)، وقد اعتقد البيزنطيون أن العذراء تقيم معهم في القسطنطينية من خلال أيقوناتها وتحميهم من شرور الشياطين، وانتشرت قصص معجزاتها، منها قصة تشير بعطف العذراء وحرصها على شعب مدينتها، ومؤداها أن فتاة مسها الشيطان لسبع سنوات، ومن خلال أيقونة العذراء تجسدت لها العذراء في رؤيا وقالت لها: إنني موجودة في القسطنطينية وأستطيع أن أصطحبك إلى كنيستي المقدسة كى أطهرك وأشفيك، لكنني أخشى أن تصاب أمك بحزن شديد إذا استيقظت ووجدت سريرك فارغاً، لذا سأعالجك وأنتِ في فراشك (3).
ص: 415
أما عمانوئيل عم ثيودورا كان لاأيقونيّاً متعصبّاً فمرض مرضاً شديداً طويلا بسبب سوء معتقده كاد يقضي عليه لولا صلوات الكنيسة حتى قام من مرضه فصار أيقونيّاً متحمساً، وكان اعتقاد الناس في القرن التاسع أن ما لاقوه من هزائم سابقة عقاب من الله بسبب تحطيم الأيقونات والصور (1).
وكانت الأحلام والرؤى هي التي توجه الأحداث وترشدها، فإن لاوون الخامس رأى في منامه أن ميخائيل العموري سيقتله، وامتنع يوحنا الثاني عن تتويج ابنه الأكبر بسبب أحد الأحلام، وحدث ذات مرة أن أم يوحنا کانتاکوزينوس كانت واقفة ذات ليلة في الشرفة بمنزلها الريفي تشهد طلوع القمر فحذرها شخص كالأشباح بأن ابنها في خطر (2).
إن سبك حادثة السيدة نرجس علیها السلام من الراوي بهذا التفصيل المتلائم مع الفكر المسيحي؛ تُخطب من شمعون الصفا فيزوجها، وتأمرها العذراء بدخول الإسلام في عالم الرؤيا، فتقبل كل ذلك، وتبذل كل ما تستطيع حتى تحقق ما رأته في منامها، كل ذلك أمارة على صدق المتن حتى مع فرض جهالة الراوي، فإن امتلاء الخبر بقرائن الصدق في كل سطر منه يدعو للوثوق بصحته، وتأتيك أمارات الصدق تباعاً بحوله تعالى.
***
ص: 416
وهذا كله من خصائص الروم ودقائق معتقداتهم وما تبنته الملوك والأباطرة، والأساقفة من أتباعهم، وما لا يحيط بتفصيله عامة الناس لا في ذلك الزمن ولا هذا الزمن (1)، وما جئنا بهذا التفصيل إلا لأنه شاهد على صدق بشر بن سلیمان النخاس ودقة نقله، فمن أين عرف تمسك ملوك بيزنطة في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي بالملكانية، ورجوعهم عن انحرافات بعض من
ص: 417
سبقهم (1) تمسّكاً بقرارات المجامع المسكونية القديمة، فتكون حادثة تسافل الصلبان في قصر القيصر نذير شؤم بزوال الملكانية التي عادوا إلى التمسك بتفاصيلها توّاً؟!
فإن الراوي حين أورد خبر السيدة نرجس علیها السلام و ما جرى في قصر القيصر حين عزم جدها على تزويجها من ابن أخيه، ذكر تسافل الصلبان وتقوض الأعمدة، ثم قال فيما حكاه عن السيدة نرجس علیها السلام في وصف الحدث: فَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُ الْأَسَاقِفَةِ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ فَقَالَ كَبِيرُهُمْ لِجَدِّي أَيُّهَا الْمَلِكُ أَعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ النُّحُوسِ الدَّالَّةِ عَلَى زَوَالِ هَذَا الدِّينِ الْمَسِيحِيّ وَالْمَذْهَبِ الملكاني.
وقد اكتفينا بالتفصيل فيما يرتبط بالمذهب الملكاني لغموض العبارة عند عامة الناس وتوهمهم أن ما ورد في الرواية محض وصف لتعظيم النصرانية، وإنما هي من الدقة بمكان، بما يتناسب مع أحوال ملوك بيزنطة ومعتقداتهم، وما لا يتصور صدورها من قصصي كذاب، أو نخاس كعامة نخاسي بغداد!
ثم إنهم يعتقدون في الصليب أشد الاعتقاد، به ثبات دينهم، و به نصرهم، وبه بقاؤهم، هو شعارهم في كل مكان، وإليه تشير صلواتهم. جاء في رسائل
ص: 418
بولس: فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ (1). وما تسافلُ الصلبان والأعمدة في الحادثة وتعقيب كبير الأساقفة على ذلك إلا شاهد انسجام الأحداث مع معتقدات النصارى، سيما إذا عرفت أن كبير الأساقفة آنذاك (فوتيوس) يعد من فلاسفة عصره لا مجرد راهب، ومن المناسب لشأنه أن يصدر منه مثل هذا التعقيب.
***
ص: 419
الروم اصطلاح أطلقه العرب على أكثر من دولة وحضارة قامت على مر السنين، لكن المهم النظر إلى ما أطلقوه على عنوانين، الأول: إمبراطورية الرومان في روما أي في إيطاليا، وهم مسيحيو الغرب، وأحياناً يطلق عليهم في المصادر العربية: الفرنجة. أما العنوان الثاني: إمبراطورية الروم في بيزنطة أي في القسطنطينية، أي في إسطنبول من تركيا اليوم، وهم مسيحيو الشرق. ويطلق الكُتّاب على الإمبراطوريتين مصطلحي الروم والرومان، ولكن الغالب إطلاق الرومان على مسيحيي روما في الغرب، والروم على مسيحيي بيزنطة في الشرق (1). كما أن هاتين الإمبراطوريتين كانتا واحدة في الأصل، ثم انفصلتا.
في الحقبة الزمنية التي ندرسها كانت قوة النصارى آنذاك عند دولة الروم في بيزنطة، وكان وجود إمبراطورية الرومان أقل حظوة في التاريخ الإسلامي من الروم لضعف دولتهم، نعم تجد مثلا ذكراً لشارلمان إمبراطور الرومان الفرنجة أيام هارون الرشيد، وقد تجد ذكراً لأباطرة الرومان ضمن قراءة الأحداث في الأندلس، لكن ذلك مع قرينته، أما إذا خلا الكلام من القرينة فالأصل أن يراد دولة الروم في بيزنطة، بدءاً من هرقل الذي كاتبه النبي صلی الله علیه و آله و سلم ودعاه إلى الإسلام، إلى ميخائيل الثالث المعاصر للحقبة الزمنية التي نحن فيها، إلى قسطنطين الحادي
ص: 420
عشر الذي سقطت معه الإمبراطورية.
أي أن ثقل النصارى ومركز قوتهم في تلك الفترة كان في الشرق، وهذا ما جعلنا نرجح أن يكون المقصود من عبارة (ابنة ابن قيصر الروم) أن يكون قيصر الروم هنا في بيزنطة لا في روما، هذا بعد الاستبعاد المبكر للاحتمالات الضعيفة في بلغاريا وروسيا لأنها احتمالات بعيدة تاريخيّاً (1)، فروسيا لم يكن فيها قيصر آنذاك، وبلغاريا كانت وثنية والرواية تشير إلى أن مذهب القيصر كان النصرانية.
وبعد هذه المقدمة لابد من معرفة شيء من تاريخ الأسرة الحاكمة في بيزنطة آنذاك لنعرف بالضبط نحن في أي ظرف زمني نتحدث، فنقول: بعد سقوط الأسرة الأيسورية (820م - 205ه-) استلمت الحكم الأسرة العمورية لغاية سنة (867م - 253ه-)، ثم آل الحكم إلى الأسرة المقدونية (2).
وحَكَم بيزنطة هذه الفترة ثلاث أباطرة، وهم: ميخائيل الثاني، ثم ابنه
ص: 421
ثيوفليوس، ثم ابنه ميخائيل الثالث، ولا يعنينا دراسة تاريخ بيزنطة كاملا، ولا كل ما يخص الأسرة العمورية، وإنما نسلط الضوء على الحقبة الزمنية محل البحث دون غيرها.
خلّف ثيوفليوس عند وفاته سنة 842م خمس بنات وولداً واحداً، كان هذا الولد هو الإمبراطور الوريث للعرش، غير أنه لم يكن بالغاً بل كان ابن سنتين (1)، فكانت أمه الإمبراطورة ثيودورا هي الوصية على العرش يعاونها على ذلك مجلس وصاية فيه السياسي ثيوكتيستوس وأخواها باراداس وبتروناس. ولما بلغ الإمبراطور سن الرشد حدثت تغيرات في مجلس الوصاية فاغتيل ثيوكتيستوس سنة 855م، وعزلت ثيودورا أم الإمبراطور عن السلطة وأودعت مع بناتها في الدير سنة 856م وبقيت فيه حتى ماتت (2)، وصار باراداس الحاكم الفعلي في الإمبراطورية لمدة عشر سنين برضا وقبول من الإمبراطور الشاب، وبعد
ص: 422
هذه السنوات تبدل رأي الإمبراطور في خاله ومال قلبه إلى باسيل المقدوني، ودبّر باسيل عملية اغتيال باراداس سنة 866م، ثم صار باسيل المقدوني هو الآمر الناهي، وظلّ الإمبراطور مشغولا بملذاته في الشرب والسكر ومتابعة سباق الخيول وغيرها من شؤون الدنيا التي عرف بها حتى لقب بميخائيل السكير (1).
الملاحظ في حقبة ميخائيل الثالث رغم طولها أن الإمبراطور لم يحكم الإمبراطورية قط! وإنما كان يدير الأمور غيره طوال فترة ملكه (2)، كما تعتبر هذه الحقبة الزمنية مرحلة حيوية في التاريخ البيزنطي صحبتها نهضة علمية داخلية، ونقلة ثقافية عقائدية في الفكر النصراني، وعودة المعارك البيزنطية الإسلامية بقوة، والبدء بحملات تنصير البلغار، حتى أنها كانت الطريق لدخول بيزنطة عصرها الذهبي، وكان القيصر باراداس رائد نهضة بيزنطة في تلك الحقبة (3).
ص: 423
من الالتباسات الواضحة عند كثير من الباحثين خلطهم بين لقب (القيصر) و (الإمبراطور) وبناؤهم على أنهما لقب واحد، والحقيقة أنهما يشيران إلى أكثر من منصب، ولهما دلالتهما الخاصة، والوارد عندنا في قضية السيدة نرجس علیها السلام أنها من نسل القيصر لا من نسل الإمبراطور، ورَدُّ الرواية بناء على أن الإمبراطور لم يكن له أحفاد آنذاك ناشئ عن قصور في مطالعة التاريخ البيزنطي.
وقد عنت كثير من الكتب بتفصيل هذه الألقاب وذكر الفوارق بينها ودلالتها، ثم إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأماكن، فإننا يجب أن نعرف دلالات الألقاب في نفس الظرف الذي وردت فيه الرواية، كما لو تحدثنا اليوم عن دلالة المناصب الرسمية في الدول، مثل الملك والأمير ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة ورئيس البرلمان وغيرها، فإنها مناصب قد تجتمع في شخص واحد في بعض الدول فيكون الأمير هو نفسه رئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة، وقد تفترق في دول أخرى فيشغل كل منصب شخص معين لوحده، كما أن نفس المسمى قد يكون له وظيفة تشريفية في بلد ما لا أهمية عملية لها في إدارة البلاد، وقد يكون نفسه المتصرف بكل شيء في بلد آخر، كمنصب الملك فإنه يختلف من بلد إلى آخر، بل قد تتفاوت الصلاحيات في نفس البلد من زمان إلى آخر، فلا يكون لرئيس الجمهورية الأثر السياسي المهم اليوم، وكان له كامل الهيمنة والسلطنة السياسية بالأمس في نفس البلد مثلا.
ص: 424
هي ظروف تتغير وتتفاوت بتغير الحيثيات، فلا يقاس ظرف اليوم بظرف الأمس ونحن نتحدث في غضون سنين محدودة عشناها وشهدناها فما بالك بإمبراطورية امتد حكمها قرونا طويلة؟ إنه من الطبيعي أن يكون الإمبراطور يوما لا دور له في إدارة البلد، وفي ظرف آخر يكون هو المتصرف في كل شيء، وفي ظرف ما يكون الإمبراطور هو القيصر نفسه، وفي آخر يكونان منصبين مختلفين.
وبعيداً عن الإطالة؛ من الشواهد اللطيفة على وجود فرق في هذه المناصب ما دونّه كليترولوجيون فيلويوس (1) في وصف مآدب الطعام الرسمية في البلاط الإمبراطوري أنه كانت هناك ست شخصيات رئيسة تشارك الامبراطور طعامه ويجلسون على ميمنته وميسرته على المائدة وهم على التوالي: بطريرك القسطنطينية، ثم القيصر، ثم النوبليسيموس (الأكثر نبلا)، ثم القربلاط، ثم البازيليوباتور (والد الإمبراطور) ! وأخيراً البطريقة الزوستى . (2)
هذا فضلا عن سائر المدعويين للمآدب، كما أن بعض المناصب التي تدعى إلى الموائد قد لا تكون موجودة في حقبات زمنية أخرى كوالد الإمبراطور، وإنما فيلويوس وثّق مرحلة عمله في البلاط فذكر الشخصيات الموجودة، وهذا
ص: 425
التعداد للمناصب ليس مطرّداً في كل موائد أباطرة الروم، إلا أننا أشرنا إلى هذه الشخصيات لنوضح أن القيصر هو الشخصية الثانية من المدعوين للمأدبة، يسبقه رئيس السلطة الدينية الأسقف الأعظم (البطريك) . وهذا يؤكد أن القيصر ليس هو الإمبراطور كما يتسامح كتاب المعاجم في تدوين هذه المعلومة.
والحقيقة أن هذا الخطأ راجع إلى عدم المداقة في التعامل، فإن باحثاً غير مسلم لو قرأ التاريخ الإسلامي ووصف الخليفة بأنه رئيس سلطة القضاء في الدولة الإسلامية، لكان صادقاً لو أنه تحدث عن زمن خلافة أمير المؤمنين علیه السلام وسيكون مخطئا لو أنه تحدث عن زمن خلافة المعتصم العباسي!
والذي يظهر أن جذر هذا الالتباس في فهم معنى القيصر يعود إلى الخلط بين دلالة هذا اللقب عند الرومان في روما، وعند البيزنطينين في القسطنطينية، فإن الإمبراطور الروماني كان يحمل لقب القيصر زيادة على لقبه الإمبراطوري.
وبعد هذا التفريق فإنه لابد من التنويه على أن التسميات: قيصر وقربلاط ولغثيط (1) قد تكون لأشخاص متعددين وقد تجتمع في شخص واحد وذلك باختلاف العصور، فمثلا فإن القيصر باراداس حاز على لقب (kouropalates) قربلاط (2) ، وهذا اللقب في حقبة ميخائيل الثالث كان يحمله القيصر نفسه فلا فرق، فيما حمل ثيوكتيستوس لقب لغثيط فقط.
ص: 426
وقد تعرضت التواريخ إلى وصف مهام أبرز موظفي الدولة، فذكروا أن أهمهم على الإطلاق اللغثيط وهو بمثابة وزير الخارجية ومستشار الإمبراطور والمشرف على الخزانة الإمبراطورية، ورئيس دار الإنشاء الإمبراطورية، والمشرف على ميدان السباق، وفي بعض الأحيان كان يُعَيَّن قائداً للأسطول البيزنطي، وكان القربلاط يحمل رتبة قيصر (نائب الإمبراطور)، وعلى ذلك لبس تاجاً بدون صليب. (1)
والحقيقة أن أهم خصلة يجب توفرها في القيصر كونه مؤهلا لوراثة العرش الإمبراطوري تحت ظرف معين، فكان يمنح الأباطرة هذا اللقب لأبنائهم غالباً، وقد يمنح لغيرهم، كما منحه ثيوفليوس لزوج ابنته (2) ومنحه ميخائيل الثالث لخاله باراداس (3)، أي أن القيصر قد يكون مجرد ولي عهد، وقد يكون هو اللغثيط ووزير الخزانة والقائد العام للقوات المسلحة وغيرها من مناصب، كالقيصر باراداس الذي ذكر وا له كل هذه المهام.
هذا بالنسبة للقيصر أما الإمبراطور فهو رأس الهرم في الدولة، وهو الذي ينصّب سائر موظفي الدولة في مناصبهم، لكنه عمليّاً قد لا يمارس من
ص: 427
الصلاحيات إلا القليل كالتي ترتبط بالتشريفات وشؤون البلاط، وقد يمارس كل شيء بنفسه فيتجول في الأسواق يرعى شؤون الرعية، ويخرج إلى الحروب بنفسه ليشرف على المعارك، وهو على كل حال نائب المسيح (1) قد اختير من قبل الرب (2)، وهو ظل الله في الأرض (3)، وهو نصف إله ورب القصر (4)، أما الحاكم الحقيقي للقسطنطينية هو المسيح نفسه، لذلك نجد في صور المسيح وتماثيله ما يصوره ملكا متوجا يرتدي رداء الإمبراطور. وكان يوضع إلى جانب عرش الإمبراطور عرش آخر خال هو عرش الملك الحق وهو المسيح، وربما وضعت عليه أيقونة مقدسة أو إنجيلٌ مفتوح. (5)
ثم إن الإمبراطور قد يمنح هذا اللقب لبعض أفراد عائلته، كولي العهد ووريث العرش، وربما يمنحه لزوجته وغيرهم، وربما طبعت صورة الإمبراطور الصغير إلى جانب أبيه على العملة، فيكون الإمبراطور الأكبر هو الأتقراطور الحاكم الفرد المانع المعطي لكل فئات الشعب وهو رأس الهرم والسلطة والمحور الرئيس الذي تدور عليه شؤون البلاد. (6)
ص: 428
وقريب من وصف الإمبراطور وصف آخر شاع في الدولة البيزنطية، وهو البازيليوس، ومعناه الملك باليونانية، وهذا هو لقب الإمبراطور الحاكم فعلا، ولقب من سيعتلي سدة العرش من بعده يشتركان فيه. (1)
ومن أهم المناصب في بيزنطة أيضاً: البطريك (2) وهو الأسقف الأعظم الذي يتولى رئاسة الكنيسة، وفي الغالب يكون الشخصية الثانية في الإمبراطورية (3).
يقول المسعودي في وصف البطريك ووظيفته: وهو ملك الدين والقيم به، كما أن الملك صاحب السيف، فهو صاحب كرسي القسطنطينية إلى هذا الوقت المؤرخ به كتابنا (4) وصاحب الكرسي هو شريك الملك ليس يساوى الملك في الخلق أحد إلا هو، ولا يُكفِّر (5) الملك إلا له، وإذا جلس الملك جلس على كرسي من ذهب وجلس البطريرك على كرسي من حديد فما كان من نفقات الحرب وجباية الخراج وإعطاء الجند فهو إلى الملك، وما كان من أموال الأحباس والوقوف لنفقات الكنائس والديرة والأساقفة والرهبان وما أشبه ذلك من أمر دينهم فهو
ص: 429
إلى البطريرك، وله في كل بند (1) عامل مثل عامل الملك، والبطريرك لا يأكل اللحم ولا يطأ النساء ولا يتقلد السيف ولا يركب الخيل وإذا أراد أن يركب ركب حمارا وحول رجليه على جانب مثل ركوب النساء. (2)
وهناك لقب آخر لابد من الإشارة إليه وهو البطريق، وهو لقب شرفي وليس وظيفة ويعني النبيل أو الشريف، وهو من الألقاب الإمبراطورية الرفيعة جداً، والتي يحمل صاحبها شارة عبارة ألواح صولجان محفورة من العاج، وهذا اللقب يمنح لكبار رجال الدولة غالباً، وقد يمنح لغيرهم (3)، وهو يعادل لقب أمير عند العرب (4).
ص: 430
إلى هنا تنتهي حاجتنا في بيان معاني بعض الألقاب البيزنطية، وهناك مؤلفات صنفت في هذا الموضوع غير أننا نقلنا موضع الحاجة ومن أراد التفاصيل فليرجع إلى المصادر.
والذي يهمنا في المقام أن الذي ورد في رواية الشيخ الصدوق رحمه الله أن السيدة نرجس علیها السلام كانت ابنة القيصر لا ابنة الإمبراطور، وقد تبين الفرق. ومن المهم أيضاً التنبه على أن القيصر أو ولي العهد أو الإمبراطور الصغير قد يوصف بالملك، وأن وصف الملك غير مختص برأس الهرم في بيزنطة، وسيأتي بيان ذلك، ويأتي استخدامهم وصف الملك للسيد المسيح والإمبراطور ولولي عهده، ولبطريك الكنيسة باعتباره ملك الدين، كما يوصف الزوج والزوجة بأنهما ملوك الأسرة، وغير ذلك من تعابير متعارفة في الموروث البيزنطي يعادلها في الوصف العربي (أمير) أو (شيخ) أو (إمام)، فإن العرب تصف القادة وأمراء القبائل وكبار رجالات الدولة ورجال الدين بأوصاف مثل هذه ولا تستخدم وصف الملك إلا لرأس السلطة في الأنظمة الملكية دون سائر أنظمة الحكم. ويأتي المزيد من البيان في تحقيق دقة الأوصاف الواردة في الرواية.
***
ص: 431
باراداس هو القيصر المهيمن على إمبراطورية الروم في بيزنطية مدة عشر سنوات من (856 - 866 للميلاد)، ويوافق (242 - 252 للهجرة) وذلك إبان حكم ابن أخته الإمبراطور ميخائيل الثالث، وكان مجلس الوصاية على الإمبراطور الطفل يتكون من عدة شخصيات منها ثيودورا وأخواها باراداس وبتروناس، وهم من عائلة نبيلة ذات أصل أرمني (1)من بافلاجونيا (2)، كان أبوهم قائداً عسكريّاً (3)، إلا أن معرفة تفاصيل أنساب العائلات البيزنطية الكبرى من الأمور العسيرة، فإنه لم يكن من عادة البيزنطيين حفظ الأنساب (4)، خلافا لعادة العرب في الاهتمام بالأنساب لاسيما أنساب الأشراف.
وأشار التاريخ البيزنطي إلى أبناء باراداس، فأما أحدهم فكانت وظيفته مرتبطة بالتعليم في بيزنطة، وكان الثاني قائدا عسكريا في أووربا (5) ، كما كان له أولاد آخرون من زوجتين طلق إحداهما. وذكر التاريخ أن أحد أولاد باراداس توفي وبقيت أرملته تعيش في بيت عمها القيصر باراداس والد زوجها (6) .
ص: 432
فيما كان أخوه بتروناس القائد العسكري في الشرق في القسم الغربي من آسيا الصغرى وقام بعدة حملات ضد العرب (1)، وكان لبتروناس أولاد منهم مارينوس الذي منح منصباً إداريّاً في الدولة (2) .
ثم إنه لم يكن من المهم تاريخيّاً تدوين أسماء جميع أبناء الأباطرة والقياصرة، كما هو شأن العرب أيضاً إذ لا يفصلون في ذكر أسماء أبناء الخلفاء (3) فضلا عن الوزراء وعامة القادة، فالتاريخ عادة يذكر المبرزين منهم ممن تقلد منصباً مهما أو كان له موقف بارز في التاريخ دون سائر الأبناء.
أما بالنسبة لشخصية القيصر باراداس فإنه كان مهمشاً في بداية تولي الإمبراطور ميخائيل الثالث لمنصبه، حتى تمكن من التخلص من السياسي ثيوكتيستوس، ثم التخلص من الإمبراطورة ثيودورا (أخته، وزوجة الإمبراطور
ص: 433
السابق ثيوفيلوس، ووالدة الإمبراطور الحالي ميخائيل) وعزلها مع بناتها في دير، ثم إنه صار الآمر الناهي في الإمبراطورية، بتفويض من الإمبراطور الشاب ميخائيل الثالث، وحاز على منصب القيصر منذ ذلك الوقت (1).
وقد روى الطبري خبراً تاريخيّاً في أحداث سنة 246ه- (الموافق 860م) حول فداء أسرى المسلمين عن نصر بن الأزهر الشيعي وكان رسول المتوكل إلى ملك الروم في أمر الفداء، أنه قال: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي فجرت بيني وبين خال الملك (بطرناس) المناظرة وهو القيم بشأن الملك... إلى أن قال: وانقطع الأمر بيني وبينهم في الفداء على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي، وكانوا أكثر من ألف قليلا، وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين منهم عشرون امرأة معهن عشرة من الصبيان، فأجابوني إلى المحالفة فاستحلفت خاله، فحلف عن ميخائيل، فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه: نعم. ولم أسمعه يتكلم بكلمة منذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها؛ إنما يقول الترجمان وهو يسمع فيقول برأسه نعم أو لا، وليس
ص: 434
يتكلم ، وخاله المدبر أمره (1).
والشاهد في الرواية ما رآه رسول الخليفة من أن خال الإمبراطور هو المدبر لشؤون الدولة وليس للإمبراطور رأي، لكن الملفت أنه عبّر عن خاله ببطرناس ولم يسمه باراداس.
لا شك أننا نعاني خللا في التعريب وعدم دقة وتفاوت في نقل الأسماء، فهذه ثيودورا أم الإمبراطور يعرّبها ابن خلدون باسم ندوره! وفعلا قد أشار الباحثون (2) إلى أن بطرناس معرب باراداس، وليس المقصود منه بتروناس لأن مهام بتروناس لا ترتبط تاريخيّاً باستقبال السفراء وإنما هذا الدور يعنى به باراداس القيصر، كما أن العرب عارفون عن قرب بالقائد العسكري بتروناس الذي واجههم عسكريّاً عدة مرات وكان ينبغي ذكر وصفه عند اللقاء به، غير أن نصر بن الأزهر ذكر الوصف المناسب للقيصر في كونه المدير لشؤون الملك.
على أي حال فإنه من الواضح أن شؤون الدولة على إطلاقها كانت بيد باراداس، وأنه كان الحاكم الفعلي للإمبراطورية لا ميخائيل، لذلك فإنه من المناسب وصفه بملك الروم، كما وصف المؤرخون ثيودورا أخت باراداس بأنها
ص: 435
ملكة الروم (1)، والحقيقة أنها ليست ملكة وإنما كانت وصية على عرش الإمبراطور، ولما كانت متصرفة في كل شؤون الإمبراطورية صح نسبة هذا الوصف لها، فكذلك يصح نسبة هذا الوصف إلى القيصر باراداس، وقد تقدم أن البازيليوس (مرادف الملك) يطلق على الإمبراطور وعلى المخول بارتقاء سدة العرش بعد الإمبراطور، وهذه الصفة تنطبق على القيصر باراداس أيضاً.
أي أننا الآن نتحدث عن قيصر الروم الرسمي، والملك الفعلي للإمبراطورية برضا وإمضاء وتعيين الإمبراطور الشاب ميخائيل الثالث، والقيصر المذكور قاد الإمبراطورية إلى نهضة مهمة، كانت مفصلية في التاريخ البيزنطي كاملا.
وأهم ما يذكر في سيرته وما يميز مرحلته تاريخيّاً عن سائر مراحل الإمبراطورية هو اهتمامه البالغ في المؤسسات العلمية، لأن الإمبراطورية مرت في فترة ظلام في القرن السابع الميلادي وسيطرة الكنيسة على المؤسسات العلمية،
ص: 436
كان ذلك في فترة التشدد الديني وحرب تحطيم الأيقونات (1)، بل كانت جامعة أثينا مغلقة منذ القرن السادس الميلادي انتصاراً للكنيسة والتشدد الديني! (2) أما القرن السابع فكان أشد القرون عقماً في تاريخ الفكر البيزنطي (3)، أما القرن الثامن فلم يكن مختلفاً كثيراً، وأبرز علمائه يوحنا الدمشقي، ولكنه تفرغ للدفاع عن المسيحية (4)، والأمر استمر إلى بداية الأسرة العمورية، حتى ذكروا أن ميخائيل الثاني الإمبراطور نفسه لم يكن يحسن القراءة والكتابة (5)!
عمليّاً لم تبدأ النهضة الثقافية إلا في القرن التاسع الميلادي على يد القيصر باراداس وإليه يعود الفضل في إحياء جامعة القسطنطينية فإنه استدعى أعلم علماء زمانه وجمعهم في مدرسة الماغنوارا لتدريس اللغة والفلسفة والهندسة والفلك واشتد عطفه على الجامعة فتردد إليها واحتك بأساتذتها وحضهم على السير في سبيل العلم، ومضى في عمله غير مبال بتشدد الكنيسة وإنما نفخ في عاصمة روما روحا علمية مهدت السبيل لوثبة القرن العاشر (6)، بل نجده تدخل في تنظيم
ص: 437
الكنيسة وكانت له اليد الطولى في عزل البطريك أغناطيوس وتعيين فوتيوس بطريكا للقسطنطينية، وكان فوتيوس محبّاً للعلم صديقا للرياضي الشهير ليو (1).
وقد ضمت الجامعة أهم علماء العصر كفوتيوس وليو الرياضي (2)، وهما شخصیتان مهمتان علميّاً، أما فوتيوس فهو الذي كان قد ترأس سفارة إلى بغداد (3)، أما ليو (4) الرياضي فهو الذي سعى المأمون حثيثاً أن يأتي به إلى بغداد ولم يتمكن، وعرض مقابل ذلك الصلح الدائم مع القسطنطينية وألف قطعة ذهب، لكن الإمبراطور ثيوفيلوس كان قد رفض ذلك لأنه كان يرى أن ليو الرياضي سر لا ينبغي أن يطلع عليه المسلمون (5).
ولما آلت الأمور إلى باراداس سخّر كل إمكانيات الإمبراطورية لخدمة هؤلاء العلماء، وقد عمد إلى تدبير كل الاحتياجات المالية اللازمة لشؤون جامعة القسطنطينية (الماغنوارا) (6).
تعتبر هذه المرحلة هي مرحلة النهضة في الدولة البيزنطية، لاسيما في مجال التعليم، ويعتبر القيصر باراداس رائد هذه النهضة، الذي أجمعت المصادر على
ص: 438
محبته للعلم.
بهذا التعريف الموجز لشخصية القيصر يتبين مدى انطباق المواصفات على جد السيدة نرجس علیها السلام، من أنه كان محبّاً للعلم في وقت لم يكن الاهتمام بالعلم حالة مطردة في سلوك القياصرة، وكان هو القيصر والقائد العام للقوات المسلحة في الإمبراطورية، وكان هو الحاكم الفعلي، أي أنه بالفعل كان القيصر وملك الروم كما وصفته الرواية.
ثم إن باراداس كان له أولاد متزوجون، وكان له أخ له أولاد في سن الزواج، ثم إن كون أحد أبناء باراداس قائداً عسكريّاً يقضي غالب وقته في الحروب يستلزم أن يتعلق الجد بأبناء ولده تعلقّاً خاصّاً ويتعهد بتربيتهم.
كل هذه المعطيات التاريخية منسجمة ومنطبقة مع الخبر الوارد في كمال الدين للشيخ الصدوق رحمه الله، وهي شاهد صدق يضاف إلى ما تقدم من شواهد.
ثم إن كبير الأساقفة الذي ينبغي أن يكون هو الشخصية الثانية في الإمبراطورية بدا أكثر تواضعاً أمام القيصر ما يوحي بأن القيصر كان فعلا هو الشخصية الأولى في الإمبراطورية، وما يؤكد أن للقيصر فضلا خاصّاً على هذا البطريك (كبير الأساقفة)، ولأن كبير الأساقفة آنذاك كان فوتيوس فإن التاريخ ينص على أن لتعيينه في هذا المنصب الفضل الكامل لباراداس.
***
ص: 439
بالتزامن مع هذه الأوضاع الداخلية هناك علاقات خارجية للإمبراطورية البيزنطية لابد من الإشارة إليها، ففي هذه المرحلة -مرحلة حكم ميخائيل الثالث - دخلت الإمبراطورية في صراع مع الروس استغلالا من الروس لصراعات البيزنطيين الداخلية والخارجية، كما دخلت بيزنطة في صراع مع البلغار انتهى بانتصار البيزنطيين وتنصير البلغار وهذا ما عزز موقف بطريك القسطنطينية فوتيوس وأكسبه مشروعية أكبر، كما كانت هناك صراعات مع المسلمين الأغالبة في جزيرة صقلية، وهناك حملات بيزنطية على جزيرة كريت اليونانية التي كانت تحت يد مسلمي الأندلس، وصراعات متكررة مع مسلمي
ص: 440
مصر في دمياط.
أما العلاقة مع الدولة العباسية فإنها عادت إلى الاضطراب بالفعل، وأعادت الدولة البيزنطية ترتيب صفوفها، واهتمت بتدعيم التحصينات في آسيا الصغرى، وتم إعادة بناء تحصينات أنقرة التي دمرها المعتصم العباسي من قبل وتم تقوية دفاعات نيقيه (1).
لقد وقعت في هذه الفترة عدة معارك مع المسلمين سواء في الثغور الإسلامية مع الدولة العباسية أو في جهة مصر أو في جزيرة كريت، وكانت فترة حيوية من الناحية العسكرية فتحت الباب لحروب العصر المقدوني مع المسلمين في القرن العاشر.
لقد دخلت الإمبراطورية في هذه الفترة في سياسة جديدة من جميع النواحي داخليّاً وخارجيّاً، جعلتها تعيد ترتيب الأوراق، كان أبرزها القرار العقائدي الخطير بالعودة إلى تقديس الصور وما صحبه من جدل عقائدي عام، وإن الفكر المسيحي يقدس الغيب والرموز والإشارات، كما أن فوتيوس منذ استلم منصب الأسقف الأعظم (البطريك) عادت الصراعات الداخلية جميعها إلى الازدهار من مسألة الطبيعة والطبيعتين إلى مسألة الأيقونات (2).
لذلك فإن تسافل الصلبان والأعمدة وسقوط العرش (في حفل زفاف
ص: 441
حفيدة القيصر) أربكت الأسقف الأعظم (فوتيوس) وقتها، واستشعر أنها نحوس دالة على زوال هذا المذهب الملكاني، المذهب الذي يقدس الأيقونات.
مسألة الأيقونات في ظاهرها مجرد صور تعلق، ولكنها في الواقع تحمل بعداً فنيّاً وبعداً عقائديّاً ، أما البعد الفني فيتجلى أثناء مراسم الحفل الذي عقد في قصر القيصر بالإبداع الفني في تصميم العرش المسوغ من أصناف الجواهر؛ فبيئة تعظيم الأيقونات بيئة حاضنة لأصحاب الفنون.
أما الجانب العقائدي، فقد كان مذهب تحطيم الصور في أساسه مسألة تدخل تحت علم طبيعة المسيح وتصويرها؛ وهل يعد من الوثنية عبادة صورة له؟ وكان من اليسير إثبات أن لاهوت تحطيم الصور إما أن يكون لاهوتا مونوفيزيا يؤمن بوحدة طبيعة المسيح أو نسطوريا (1).
والحقيقة أن الانتصار للأيقونات انتصار لمجمع خلقيدونية المسكوني، أي أنه انتصار للملكانية، وكان تسافل الصلبان والرجة الحاصلة في القصر نذير شؤم ونحوس دالة على زوال المذهب الملكاني، فتوقف لذلك الأسقف الأعظم فوتيوس، لذلك صرّح بعبارة: أيها الملك اعفنا عن ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
ثم إن الترتيب الرسمي للمناصب في الإمبراطورية يقتضي أن يكون الأسقف ثاني رجل في الدولة بعد الإمبراطور، ولكن لما كان لباراداس كامل
ص: 442
الفضل في تعيين فوتيوس في منصبه، ولما كان باراداس الحاكم الفعلي للبلاد ظهر الأسقف الأعظم في سياق الحادثة أقل من القيصر وأكثر تأدبّاً في الحديث معه.
لقد كان للحوادث الكونية أثرٌ في تفسير الأحداث، وذلك يتجلى عند الأيقونيين أكثر من غيرهم، وهذه الهزة في قصر القيصر تشبه زلزلة أخرى وقعت في القسطنطينية في القرن الثامن في عهد الإمبراطور ليو، حين أراد تحطيم الأيقونات واعترض الناس عليه، وحدث وقتها زلزال، فخطب في الناس يعظهم بأن الزلزال غضب بسبب تقديس هذه الأيقونات التي يجب أن تزال (1)، والأيقونيون بطبيعة الحال أكثر اعتقاداً من اللا أيقونيين بعلاقة الحوادث الطبيعية بذنوب الناس، لذا فإن هذه الزلزلة في قصر القيصر كانت نذير شؤم تهدد بزوال المذهب من أصله.
ثم إن الخلاف المحتدم حول منصب الأسقف الأعظم يستدعي قلقا من استغلال هذه الحوادث للحرب على القيصر وأتباعه، وكل ذلك يورث حالة تشاؤم ورغبة في الاعفاء عن الاستمرار في حفل الزفاف.
هذا بالنسبة للصراعات الداخلية، أما بالنسبة للصراعات الخارجية فإن الحروب كانت مستمرة وكثيرة بين المسلمين، وإن حملة إعادة تقديس الأيقونات صحبها إعادة تنظيم للأسطول البحري، وإعادة ترتيب لصفوف الجيش البيزنطي، لذلك سجّل التاريخ عدة معارك على الثغور الإسلامية البيزنطية، ومن
ص: 443
ثم آلاف الأسرى والسبايا، فعمليات الفداء وتبادل الأسرى.
ومن الجهل توهم أن الصراعات الإسلامية البيزنطية منحصرة في معركة مؤتة واليرموك وعمورية! فإن العلاقة بين الدولتين كانت مضطربة في أكثر الأحيان، والثغور الإسلامية البيزنطية لا تهدأ إلا في فترات يسيرة.
كما أن معارك المسلمين والروم لا تنحصر بثغور الدولة العباسية، وإنما الحرب مع المسلمين قد تكون مع مسلمي الأندلس في جزيرة كريت، أو مع الأغالبة في جزيرة صقلية، أو مع المصريين في دمياط، والأرجح أنها تكون في ثغور بني العباس.
وأيّاً كان موضع المعركة، فإن المعارك حين تنتهي ينتج عنها أسر وسبايا، يتم نقلهم بين البلدان حتى يستقر الرأي على بيعهم في أسواق النخاسة، وليس بعيداً أن يسترق العبد في جزيرة صقلية ويباع في أسواق بغداد، أو ربما أسر في ثغور أرمينية وبيع في أسواق مصر، فإن منشأ الأسر لا يمنع إمكانية انتقال العبد وبيعه في مختلف أسواق النخاسة، هكذا كانت الحياة سابقاً.
نحن نرى بوضوح انسجام ظروف المرحلة التاريخية مع الأحداث الواردة في رواية الشيخ الصدوق رحمه الله سواء نظرنا إلى أحداث التاريخ نظرة إجمالية من بُعد حول الصراعات الداخلية والخارجية، أو نظرنا إلى تفاصيل الأحداث عن قرب، فكلما خطونا خطوة في تنقيب الأحداث نجد تطابقا دقيقا بينها.
***
ص: 444
ونحن بعد اقتطاف هذه المعطيات من تاريخ الحضارة البيزنطية المفصل نجد أن كل ما ورد عن المرأة البيزنطية متطابق تماماً مع ما أورده بشر بن سليمان النخاس في وصف ابنة قيصر الروم! فإن السيدة نرجس علیها السلام في الرواية تمتنع من السفور وتجزع لأي محاولة نظر إليها، وإن جدها القيصر كان قد أوعز إلى امرأة أن تعلمها الآداب فكانت تختلف إليها .
وأشارت الرواية إلى أن سن السيدة علیها السلام وقت زفافها في بيزنطة كان آنذاك ثلاث عشرة سنة، وكان القيصر هو المتكفل بشؤون الزفاف كما هو المرسوم في بيزنطة، وكان هو صاحب الرأي تماما في الرواية، فهو الذي قرر تزويج ابنته وتكفل بالزواج، ثم عزم على تزويجها ثانية من عريس آخر، وهذا يناسب الأحكام والأعراف في بيزنطة.
كل ذلك متطابق بشكل دقيق مع معطيات التاريخ البيزنطي، ومن أين
ص: 445
لشخص يريد ابتكار حكاية بهذه التفاصيل أن يعلم كل ذلك؟ أين له أن يعرف أن فتيات الطبقة الحاكمة كن يجلسن في القصور ويتلقين التعليم الخصوصي؟ وكيف لعربي حجازي يعيش في بغداد أن يعرف أن أسر البنات هم من من كان يتكفل بمصاريف الزفاف؟
أليست كل هذه التفاصيل دليل صدق الرواية وأن اجتماعها بهذا الانسجام والانضباط لا يصدر من كاذب؟!
***
ص: 446
تعرضنا في الفصل الأول إلى أكثر الملاحم الأدبية البيزنطية شهرة، وهي ملحمة ديجينيس، وأشرنا إلى أهمية التعاطي معها بقواعد النقد التاريخي، لمعرفة ما إذا كان لها ربط بالفعل بما نحن فيه.
لكن من القضايا المهمة أيضاً في الأدب البيزنطي مما له صلة ببحثنا اهتمام البيزنطيين بأدب الرسالة، فذكروا أن أوفر فروع الأدب النثري البيزنطي هو كثرة الرسائل، ما يعكس تلهف البيزنطي عليها وعنايته بها، كما تظهر بأحسن الصور موهبتهم في التعبير العملي عن الذات (1)، فالقارئ للأدب البيزنطي يستطيع تقسيمه إلى قسمين، أدب الرسالة، والآداب الأخرى، ولسنا نُعنى هنا بسرد أشهر المراسلات، ولكن يهمنا فقط التنويه بأهمية أدب الرسالة عند البيزنطيين.
هي ثقافة مجتمع يجب أن تفهم كما هي، فكما أن الأدب العربي القديم ينقسم إلى شعر عمودي وآداب أخرى (الرسائل والخطب وسجع الكهان والمقامات وغيرها من فنون) ما لو اجتمعت بمختلف العصور ووضعت في كفة لرجحت كفة الشعر العمودي عليها مجتمعة، فإن ثقافة البيزنطيين وآدابهم تتميز بأدب الرسالة.
وعليه فإن شخصاً لو أراد استعطاف قلب العربي واستمالته فأفضل وسيلة خطاب كانت هي الشعر، في الاستجداء من الملوك وبث الحماسة في
ص: 447
الحروب والرثاء والعتاب والنصح والموعظة، العربي يأنس بالشعر في كل شيء حتى تحولت المتون العلمية إلى منظومات شعرية!
أما في الأدب البيزنطي فإن النموذج الذي يقابل الشعر عند العرب هو الرسالة، تكتب لجميع الأغراض؛ فكانت رسائل البيزنطيين تشمل الأباطرة والبطارقة والأساقفة ورجال السياسة وعامة الناس؛ منها رسائل حكومية سياسية، ومنها دينية كنسية، ومنها رسائل تعزية، أو نصح وخواطر شخصية، ومنها أخوية ودية حميمية، تكتب كمطولات أو رسائل قصيرة، بحيث يظهر أدب الرسالة في أحسن الصور موهبة عند البيزنطي في التعبير العملي عن الذات، وكما ظهر إبداعهم الأدبي في الرسالة ظهر ضعفهم الأدبي في سائر فنون الأدب كالشعر فأكثر شعرهم فج ساذج (1).
ونحن نقرأ في الرواية أن الإمام الهادي علیه السلام (كتب كتاباً بخط رومي ولغة رومية)، ما يوحي بأن الراوي رأى اهتماماً من الإمام علیه السلام في كيفية كتابة الكتاب فکرر المعاني بألفاظ أخرى.
ثم إن السيدة علیها السلام لما قرأت الكتاب أظهرت اهتماماً بالغاً به؛ من بكائها وتقبيلها الكتاب ووضعه على عينيها؛ قد يبدو الأمر للوهلة الأولى طبيعيّاً، لكن عند التأمل تجد كيفية توجيه الخطاب من الإمام علیه السلام وكيفية استجابتها للرسالة أمراً ملفتا ينم عن إحاطة الإمام علیه السلام بثقافات الأمم، وينم عن طبيعة رومية في
ص: 448
كيفية الاستجابة للرسالة.
هذه الصورة لم ترد في قضايا سائر أمهات الأئمة علیهم السلام؛ أما سيد الشهداء علیه السلام فلما أراد خطبة السيدة شهربانو علیها السلام فإنها اختارته في قصة مفصلة (1)
وكذلك وردت تفاصيل قصة شراء السيدة حميدة المصفاة علیها السلام والدة الإمام الكاظم علیه السلام ولم يرد فيها شيء من هذا القبيل، وقد ورد أيضاً خبر شراء السيدة نجمة علیها السلام والدة الإمام الرضا علیه السلام، وقد ورد شراء السيدة خيزران علیها السلام والدة الإمام الجواد علیه السلام وكل تلك الأخبار ليس فيها شيء من هذا القبيل، رغم وجود تفاصيل دقيقة في كثير من الروايات، من وجود ملك يحرس والدة الإمام الكاظم علیه السلام (2)، والنخاس الذي جاء بالسيدة نجمة والدة الإمام الرضا علیه السلام مر على امرأة من أهل الكتاب فأخبرته أن هذه الجارية تكون عند خير أهل الأرض وتلد منه غلاما ما يولد بشرق الأرض ولا غربها مثله (3)، والإمام الكاظم علیه السلام يوصي ولده الرضا علیه السلام أن يبلغ والدة الإمام الجواد علیه السلام سلامه (4).
ص: 449
نحن نجد لكل قصة من قصص انتقال أمهات الأئمة علیهم السلام تفصيلها الخاص، وقصة ابنة قيصر الروم ليست حكاية متشابهة مثلا مع حكاية السيدة شهربانو كما توهم البعض، فالإمام علیه السلام العارف بكل لسان ولغة يتعامل في كل ظرف وفق الصواب وما تقتضيه المصلحة؛ قد يخاطب ابنة يزدجرد بالفارسية مباشرة (1)، فالفارسي يعتز بقوميته ولغته ويأنس كثيراً بمخاطبته بها، أما البيزنطي
فطبيعته مختلفة؛ كانت القومية والعنصرية فكرة غريبة في بيزنطة، كان مجتمعهم مسكونيّاً (يعني عالميّاً)، حتى امتزجت الدماء؛ الأرمن والرومان والعرب والإغريق، وحَكَم الإمبراطورية ملوكٌ من مختلف الأطياف، فكانت حضارة تضم العالم المتحضر بأكمله (2)، البيزنطي مختلف عن الفارسي، البيزنطي يأنس بالرسائل والمكاتبات. وهنا تجد وجهاً وجيهاً في مخاطبة الإمام علیه السلام ابنة القيصر في كتاب بالرومية محكم الخط واللغة.
جاء في عيون أخبار الرضا علیه السلام عن أبي الصلت قال: كان الرضا علیه السلام يكلم الناس بلغاتهم، وكان والله أفصح الناس وأعلمهم بكل لسان ولغة.
فقلت له يوما: يا ابن رسول الله إني لأعجب من معرفتك بهذه اللغات
ص: 450
على اختلافها!
فقال : يا أبا الصلت أنا حجة الله على خلقه وما كان الله ليتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم؛ أوما بلغك قول أمير المؤمنين علیه السلام: أوتينا فصل الخطاب؟! فهل فصل الخطاب إلا معرفة اللغات (1).
***
ص: 451
تُحدِّث السيدة نرجس علیها السلام في الرواية عن تفاصيل حفل الزفاف مع ابن أخي القيصر وكيف أن الحفل انتهى إلى كارثة ولم يتم، فتقول علیها السلام: (أنبئك العجبَ العجاب؛ إن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه - وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة - فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهو ملكه عرشاً مسوغا من أصناف الجواهر إلى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة. فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقام الأساقفة عكفّاً ونشرت أسفار الإنجيل تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض وتقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخرّ الصاعد من العرش مغشيّاً عليه؛ فتغيرت ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدي: أيها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطيّر جدي من ذلك تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان وأحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جده، لأزوج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده. فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول. وتفرّق الناس، وقام جدي قيصر مغتمّاً، ودخل قصره، وأرخيت الستور).
في هذه الفقرة صورة متكاملة لزفاف ملكي في قلب عاصمة بيزنطة،
ص: 452
شهده آلاف الحضور ولا يجرأ واحدٌ منهم على إذاعة خبره، لا في حياة القيصر ولا بعد وفاته، اللهم إلا تلميحاً وذلك- فضلا عن الخوف من سطوة القيصر - لأن فيها تضعيفاً للدين النصراني، ومثل هذه الحوادث وإن تسرّبت لمن عاصر هذه الحقبة إلا أن تدوينها وتوثيقها التاريخي أمر غير متيسر.
ص: 453
هذا والتفاصيل في رواية الشيخ الصدوق رحمه الله كلها تشير إلى طقس نصراني أرثوذوكسي بيزنطي دقيق، يليق بزفاف ملكي استثنائي لحفيدة القيصر، من تقدم الزوج في مراسيم الزفاف إلى ارتقائه العرش في حالة ملكية، إلى قيام الأساقفة عكفا، فإنهم في تلك الحالة المقدسة يمضون في مراسمهم الخاصة يتلون
ص: 454
صلوات الإكليل المقدس، ويطوف بعضهم حول المذبح مع البخور في مراسيم لاهوتية متأملين حضور الرب في الحفل، ولا تخلو يد كل راهب من صليب يحمله، والصلبان تملأ المكان المقدس.
ثم إن المراقي الأربعين لبلوغ العرش ليست جزافاً فإنه – وكما تقدم- لكل شيء في الفكر المسيحي رمزيته، والأربعون للترقي تناسب الفكر المسيحي فإن المسيح صعد إلى الهيكل بعد أربعين يوماً من ولادته، وبعد تعميده صام أربعين يوماً، وحصلت قيامته بعد أربعين ساعة من دفنه، وصعد إلى السماء بعد عيد الفصح بأربعين يوماً.
والأربعون (1) - في الفكر المسيحي - هو رقم عشرة مكررا أربع مرات، أي أنه يشير إلى المشارق والمغارب والشمال والجنوب، أي أنه يشير إلى كل شيء والعالم اللامتناهي، كما يشير في نفس الوقت إلى الصليب، ورقم العشرة يشير إلى الكمال العددي ومن مضاعفاته تتكون جميع الأعداد الكبيرة كالمائة والألف وهكذا (2).
وهكذا يقال بأن المسيح في صومه الأربعين صام أربعين يوماً من أجل المسكونة كلها، وفي بقائه أربعين يوماً على الأرض بعد قيامته فإن ذلك لأجل حياة المسكونة كلها، ومرادنا أن القيصر حين نصب أربعين مرقاة لوصول ابن أخيه إلى
ص: 455
عرش الزفاف أشار إلى علاقة زوجية دائمة لامتناهية ذات سلطان شامل لكل شيء.
كما أن استضافة ثلاثمائة من نسل الحواريين والرهبان والقساوسة ليس اعتباطاً، فلعل ذلك تيمنا بالرهبان الذين اشتركوا في مجمع نيقيه المسكوني الأول وأمضوا عقائد المسيحية الملكانية.
وهناك وجه آخر لمعرفة فلسفة أعداد ضيوف الحفل، ولابد من كتابة الأعداد الإغريقية (1) القديمة وما يقابلها بالعربي، ثم التعليق عليها:
الصورة
ومن بين كل هذه الرموز اختيرت أرقام محددة: ثلاثمائة من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان، وسبعمائة رجل من ذوي الأخطار، وأربعة
ص: 456
آلاف من أمراء الأجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر (1).
والثلاثمائة بالإغريقية تكتب (T) وهي علامة الصليب، والسبعمائة تكتب (Ψ) وهي إما شمعدان يحمل ثلاثة شموع أو صليب يحمل ثلاثة شموع، وأما الشموع فهي تستخدم في مناسبات متعددة كالتناول والعماد والإكليل، وعند إيقاده تقال صلوات خاصة، ويستخدم في الكنائس شمع العسل إشارة إلى وجوب التحلي بالفضائل كالنحلة التي تجتهد في جمع العسل من زهور كثيرة وبساتين متعددة، والشمعدان يرمز إلى ملائكة القيامة، أما الصليب بثلاثة شموع فإنه الذي يستعمله الكاهن في صلاة افتوني ناي نان، يشير بحمله صليباً ذا ثلاثة شموع إلى أن الذي كان على الصليب هو نور العالم، وهو واحد من الثالوث المقدس؛ نور من نور (2)، والأربعة آلاف تكتب (Δ,) والمثلث رمز الثالوث المقدس، أي إله واحد في ثلاثة أقانيم.
لا يبدو أن اختيار أعداد حضور حفل الزفاف كان جزافاً، فكل شيء مقصود في الفكر المسيحي، ولا ينبغي أن تقرأ الرموز في التراث المسيحي كما نقرأها في تراثنا، الرمزية عندهم ترجع إلى فكر ومبدأ أن الفن والحس غرضه التسامي على المادة لبلوغ حالة روحانية، وعلى ذلك فإنك ترى الأيقونات البيزنطية ثنائية الأبعاد، ليس لكون فن الرسم متأخرّاً، وإنما انطلاقاً من مبدأ أن
ص: 457
بُعد الأيقونة الثالث هو عمق أو علو روحانية صاحب الأيقونة (1).
ولتأنس أكثر بهذا التعاطي مع الأعداد إليك شرح بعض النصوص الواردة في العهد القديم من الكتاب المقدس (2)، جاء فيه ضمن خبر حكاية قتال القاضي جدعون للمديانيين: فَقَالَ الرَّبُّ لجِدْعُونَ: بِالثَّلَاثِمِئَةِ الرَّجُل الَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ وَ أَدْفَعُ الْمِدْيَانِيِّينَ لِیَدِكَ، وَأَمَّا سَائِرُ الشَّعْبِ فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ.
جاء في تفسير الكتاب المقدس ما نصه: (ويرى القديس أغسطينوس أن رقم 300 يشير إلى الصليب، لأن حرف (T) الذي يحمل شكل الصليب يشير إلى رقم 300 في اليونانية. ويقدم لنا القديس أمبروسيوس ذات التفسير إذ يقول: اختار جدعون 300 رجلاً للمعركة لكي يظهر أن العالم كان يجب أن يتحرر من هجمات العدو الخطيرة بسر الصليب، لا خلال الجماهير الغفيرة، فإن حرف (T) في اليونانية يستخدم لرقم 300 ويحمل شكل الصليب) (3).
وقعة حادثة قتال جدعون للمديانيين قبل ميلاد المسيح مع ذلك فإن مفسري الإنجيل يرون اختيار الثلاثمائة رجل إشارة إلى الصليب، قد يكون غريباً على من يقرأ نصوص النصارى بذهنية عربية أن يجد ربطاً بين هذه الرموز والأعداد، غير أن العقل النصراني يختلف في تعاطيه للأمور، إنهم يرون الكنيسة
ص: 458
ذات وجود مادي يقوم بأعمدة، تعبر عن الكنيسة المعنوية التي تمثل النصرانية ككل وأعمدتها الرسل وتلامذة بولس ونحو ذلك؛ لذلك فإن عدد الأعمدة في الكنائس لا يتوقف على قول المهندس المعماري، بل على الرؤية اللاهوتية للأسقف أو الكاهن الذي يقرر أن هذه الكنيسة يجب أن تتقوم بعدد معين من الأعمدة، وربما امتلأ المبنى أعمدة لا تحمل سقفا ولا ترفع شيئاً، ولكنما العمود يراد في نفسه!
إذا تمت قراءة الحدث بالذهنية البيزنطية، وتكاملت الصورة المقدسة في الفكر المسيحي؛ الصليب، الأعمدة، العرش، تلاوة الصلوات ونشر أسفار الإنجيل وعكوف الأساقفة، المراقي نحو العرش، التيمن بالأعداد والرموز، مباركة الرب وحضوره ساعة الإكليل المقدس... قبل أن يتم كل ذلك يتزلزل قصر القيصر وتتسافل الأعمدة والصلبان والعرش ويخر العريس مغشيّاً عليه! كانت آية كونية أربكت الأساقفة فتغيرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ورأوها نذیر زوال الدين من رأسه!
نحن أمام نص نصراني بيزنطي محكم لا يحسن سبكه وضبطه إلا مقيم في وسط القصر مراقب للحدث يعيشه لحظة بلحظة، فإن انسجام الأحداث وترابطها ودقة رموزها بمكان لا يحتمل الوضع والتلفيق.
هل يمكن لنخاس يقيم في بغداد أن يختلق حكاية من هذا النوع، يفترض حدثاً يتزلزل له القصر ثم تتساقط الأعمدة فيأمر القيصر بنصبها، فتنصب من ساعتها وتعود الأمور كما كانت؟ من أين سيخطر في الذهن العربي أن العمود
ص: 459
ينصب وسط القصر لا ليحمل شيئاً، فإذا سقط العمود لا ينهار القصر وإنما يعاود الأساقفة نصبه؟ ومن أين علم أن الأساقفة هم من يقيم الأعمدة لا الخدم والحشم؟!
كل هذه الأحداث تجعل كبير الأساقفة يفسر الموقف على أنه نحوس تلاحق الحفل وتؤذن بزوال المذهب الملكاني، بل النصرانية من رأس! ثم إن اهتزاز الصلبان ينذر بغزو وسبي (1) وهو ما لا يجرأ كبير الأساقفة على التصريح به أمام القيصر، لكن أخذته الرِّعدة وطلب الاستعفاء وإلغاء هذا الحفل.
ترى هل كان للأزمات الداخلية علاقة بتطير كبير الأساقفة؟ لقد تسنم الأسقف الأعظم (بطريك القسطنطينية) منصبه جرّاء خلاف شخصي بين القيصر والإمبراطور من طرف، وبين البطريك السابق من طرف آخر، ما أدى بالقيصر أن يعزل البطريك السابق (أغناطيوس) وينصب بطريكا جديدا (فوتيوس)، ما قاد إلى شقاق في الكنيسة البيزنطية، وكان أتباع أغناطيوس يظنون عزله سبباً لكل نحس يلاحق القسطنطينية.
ولعل سبب تطير الأسقف ما حل في عهد باراداس من الرجوع إلى عبادة الأيقونات، والانقلاب على الواقع البيزنطي، وما كان يراه اللاأيقونيون ضرباً من الوثنية، وقد سبق أن وقع زلزال في القسطنطينية إبان تحريم عبادة الأيقونات فنسب ذلك إلى ما كان يقع من الأيقونيين في بيزنطة وأن الغضب سيحل على
ص: 460
الشعب إن استمر في تقديسه للأيقونات. (1)
ولكنني لا أرى تطير كبير الأساقفة يرجع إلى هذين العاملين، فإن العودة إلى الأيقونية هي عودة إلى الملكانية التي أقرها مجمع نيقيه ومجمع خلقيدونية المسكوني، وكان كبير الأساقفة متطيّراً مما ينذر بزوال المذهب الملكاني، كما أن النحوس في الرواية راجعة إلى الزفاف ولا ترجع إلى كبير الأساقفة، ولو كانت النحوس راجعة إلى الخلاف على منصب الأسقف الأعظم لترك الأسقف منصبه بنفسه ولا علاقة للإعفاء من حفل الزفاف بذلك.
وإنما تطير كبير الأساقفة لنفس هذا الزفاف، وهذا ما بث في نفسه الخوف، فإن المعطيات توحي بأن القيصر كان مهتمّاً بحفيدته، يرجو لها مستقبلا خاصّاً، ويظن في ذريتها الملك والسلطان (2)، فأحب القيصر أن لا يخرج هذا الملك عن أسرته، فعمد إلى زواج الأقارب، وزواج الأقارب محرم في بيزنطة، لكن الملوك تجاهلوا هذا الحكم!
إن زواج الأقارب على قسمين، قسم منه يعد من ضمن السفاح المحرم
ص: 461
كالارتباط بالأخوات والعمات والخالات ونحوهم، ومنه ما يعد محرمّاً لكنه ليس من السفاح والزنا. والقرابات التي تحرم هي قرابة الدم (1)، وقرابة التبني (2)، وقرابة المصاهرة (3)، وقرابة المعمودية (4).
وكلامنا فعلا في قرابة الدم، فإن الحكم القائم آنذاك في بيزنطة مبني على حرمة التزاوج من ذوي الرحم إلى سبع درجات (5)، ولكن مع ذلك فإن كثيراً من الأسر الملكية والعوائل النبيلة في بيزنطة كانت لا تبالي بهذا الحكم ولا تطبقه خشية
ص: 462
ضياع أموالها وجاهها إلى عوائل غريبة، وكان من الصعب على الكنيسة إجبار الأباطرة على تطبيق هذا الحكم. بل تمرد بعض أباطرة بيزنطة (الإمبراطور أركاديوس) في مطلع القرن الخامس الميلادي على ما أقرته المجامع الكنسية من تحريم زواج أبناء العم وأباحه، كما أن الإمبراطور (جيستيان الأول) بعد قرابة قرن من الزمن أقر هذا الحكم أيضاً واستمرت إباحة زواج أبناء العم إلى القرن السابع الميلادي في مجمع ترولو المسكوني حيث أعيد تحريمه . (1)
إن التمرد على ما تقره المجامع المسكونية تمرد على الملكانية، ونذير شؤم تكرر صدوره من أباطرة سابقين غير مبالين بهذا الحكم، منهم هرقل مثلا، الذي تزوج ابنة أخته فكانت نذير شؤوم على الإمبراطورية، وكان الناس يعتقدون أنها سبب لسخط الله على الروم، وكان رغم ذلك لا يبالي بقول الناس بل كان يصحبها في حروبه (2)، حتى انهزم على أيدي المسلمين في الشام.
وكان هرقل لا يبالي بنصائح بطريك القسطنطينية مصرّاً على معارضة توجيهات الكنيسة، وتوالت الانتكاسات في الإمبراطورية وسقطت مصر والشام من أيديهم بسبب الغضب الإلهي لزواج هرقل الذي أجبر الكنيسة على مباركته! (3)
ص: 463
من هنا نعود إلى نص الرواية وكيف رأى كبير الأساقفة أن زواج ابنة القيصر من ابن أخيه نذير شؤم على الإمبراطورية وهو سلوك تكرر من ملوك بيزنطة مرارا في تعديهم على قوانين الكنيسة بحكم مناصبهم وقدرتهم ما يضطر الكنيسة إلى مباركة هذه الزيجات رغما عنها وهي غير راضية تراها نذير شؤم ونحس على النصرانية لأنها عصيان لقرارات المجامع المسكونية التي يفترض أنها تمثل الملكانية والنصرانية الحقة.
أما القيصر فقد حاول تغيير اتجاه كبير الأساقفة وأشار إلى أن النحوسة لیست في نفس الزواج وإنما النحوسة في شخص العريس غير المؤهل ليتزوج من حفيدة القيصر! فلما عاود الكرة تبين أن النحوس لا تعود إلى أحد أبناء أخي القيصر، فاغتم القيصر لذلك ودخل قصره.
وبعد كل هذا العجب العجاب فإنه لا ينبغي للسيدة الطاهرة علیها السلام أن تظن في نفسها أنها سبب للنحوس، فرأت تلك الليلة فيما يرى النائم المسيح ووصيه شمعون والحواريين في قصر جدها وقد نصب منبر يباري السماء علوّاً، وأقبل عند ذلك سيد الخلائق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ليخطبها إلى مولانا أبي محمد العسكري علیه السلام فهي مصطفاة لتكون زوجاً له علیه السلام، ولذلك اضطربت الأرض وتزلزل القصر ولم يتم شيء مما عزموا عليه، فإنها مذخورة لتكون والدة الخلف عجل الله تعالی فرجه الشریف.
***
ص: 464
أشارت الحادثة المفصلة لزفاف السيدة نرجس علیها السلام في قصر القيصر الذي تحول إلى كارثة ولم يتم منه شيء إلى وقوع هزة في القصر، والحادثة فعلا لا تشير إلى زلزال كبير سبب هلعا ودماراً شاملا تهاوت له البيوت وخلّف آلاف القتلى ونحو ذلك، فإن كل ما ذكر أن الصلبان تسافلت على إثره وتقوضت الأعمدة وسقط العريس مغشيّاً عليه، فلم يتفرق الناس وإنما تطيروا لذلك، فأعيد تنظيم الحفل ورفع ما تسافل، فتكررت الهزة مرة أخرى، فتفرق الناس متطيرين من الحدث لا لأجل دمار شامل.
والحقيقة أن القسطنطينية منطقة زلازل، والزلازل بهذا المستوى متكررة عندهم اعتادوا عليها وإنما أكثر ما كان مربكا في الحفل تسافل الصلبان فإنه يدل على الكثير من الآلام والمخاطر ويعني اهتزاز الإيمان والردة في النصرانية، بل ينذر بوقوع غزو و سبي! (1) وهو ما جلب مخاوف كبير الأساقفة، تلك الساعة.
ومع ذلك فإنه وبالرجوع إلى المصادر وجدنا عدة زلازل وثقها التاريخ وقعت في القسطنطينية في فترة هيمنة القيصر باراداس عليها (2)، وأشارت المصادر
ص: 465
إلى تواريخ بعض الهزات كسنة 860 م، و 862م وغيرها، وبعض الزلازل ذكرت في نفس الحقبة دون تعيين تاريخها المحدد. (1)
والذي نرجحه أن الزلزال الذي وقع في قصر القيصر كان ضمن سلسلة زلازل سنة 859م (أي: 245ه-) (2) وذلك لعدة قرائن تنسجم مع سياق الرواية، كالعفو عن مجموعة من أسارى المسلمين في وقت يعقب هذا الزلزال، فإن السيدة نرجس علیها السلام كانت طلبت من جدها القيصر عقيب الزلزال أن يخفف عن أسرى المسلمين ويمن عليهم بالخلاص، ومن القرائن أيضاً أن القيصر باراداس خرج لحرب المسلمين بعد هذا الزلزال (3)، ومن القرائن أيضاً أن الرواية ذكرت أن السيدة نرجس علیها السلام كانت وقت الزلزال من بنات ثلاث عشرة سنة، وكان عمر
ص: 466
الإمام العسكري علیه السلام في تلك السنة أربع عشرة سنة (1) أو نحو ذلك، وهذه أعمار مناسبة للزواج لهما علیهما السلام فيكون زواجهما بعد الحادثة بفترة يسيرة أمرا معقولا.
وأما زلزال سنة 859م فهو واحد من أعظم الزلازل في تاريخ البشرية كان مركزه أنطاكيا وتبعد ما يقارب 900كم عن القسطنطينية وهو عبارة عن سلسلة زلازل عمت الدنيا شرقًا وغرباً، كان أشدها في أنطاكيا قتل فيها خلق كثير وسقط منها ألف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجاً، وسمعوا أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها وتقطع جبلها الأقرع (وهو جبل ضخم مطل على البحر الأبيض المتوسط) وسقط في وسط البحر، وهاج البحر ذلك اليوم وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب! (2)
لقد صرّح المؤرخون أن هذه الزلازل عمت الدنيا، كما أنه من الطبيعي جيولوجيا أن تصل هزاته الارتدادية إلى القسطنطينية لوقوعها في مناطق صدوع الأناضول (فالق الأناضول).
يجب أن يكون واضحاً أن الطبري وابن الأثير وغيرهم يصعب عليهم
ص: 467
توثيق هزة ارتدادية وقعت في عاصمة الروم، فالحوادث التي توثق خارج الدولة الإسلامية هي الحوادث العظمى في الغالب، كهلاك ملك وهزيمة في معركة كبرى، لذلك لابد من الرجوع إلى التواريخ البيزنطية للبحث عن حدث مشابه، لكنه أيضاً يندر توثيق هزة ارتدادية عادية، لذلك لابد من البحث عن القرائن.
ومما عثرنا عليه من قرائن ما ذكرته المصادر البيزنطيية عن وصول غبرة عظيمة على القسطنطينية بلون الدم سقطت من الجنة (1) على أسطح البيوت في السنوات الأولى لسيطرة القيصر باراداس على الإمبراطورية (2).
إن الكارثة التي حلت على سواحل البحر الأبيض المتوسط من تقطع الجبل الأقرع وانهيار جزء منه في البحر ما سبب ارتفاعا في الغبار والدخان قد
ص: 468
يكون هو نفس السبب في هبوب هذه الغبرة العظيمة التي يوثقها التاريخ، فإن الحدثين متشابهان وزلازل الأناضول ترتبط بزلازل البحر الأبيض المتوسط سيما مع هذه الكارثة العظمى التي حلت في البحر، كلها احتمالات تؤيد أن الرواية العربية والبيزنطية تتحدثان عن كارثة واحدة ترجع إلى زلزال واحد.
ومن المؤيدات القوية جدّاً التي تورث الاطمئنان بذلك ما ذكرته كتب الزلازل الأجنبية عن وقوع زلزال في القسطنطينية في السنة التالية لتولي فوتيوس منصبه (1) ، ورغم أنه زلزال لم يخلّف أضرارا إلا أنه كان مصدر قلق عام دون ذكر سبب القلق! غير أن الأسقف الأعظم (فوتيوس) خرج في خطاب عجيب غريب بعد هذا الزلزال وصعد بنفسه المنبر وقال مستنهضا الناس: لم تهتز الأرض بسبب تكاثر الخطايا وإنما بسبب فائض المياه. (2)
ص: 469
وهذا النص المهم في التاريخ البيزنطي يكشف عن عدة أمور يجدر التوقف عندها، أولها أن التاريخ هنا يوثق هزة من الناحية الجيولوجية تعتبر هزة عادية لم تخلف أضرارا عظيمة، وتوثيق ذلك أمر غير معهود في كتب الزلازل، لكن هذا التوثيق هنا يرجع إلى أن الهزة كانت مصدر قلق عام في العاصمة لم تذكر التواريخ سبيه!
ومما يمكن استلهامه من النص أن هناك هزات أرضية وقعت في بيزنطة صاحبها فيضان للمياه واضطراب في حركة البحر، وهذا متوافق مع تحطم الجبل الأقرع في البحر الأبيض المتوسط واختفاء بعض الأنهار كما ورد في المصادر العربية، أي أن هذه الرواية البيزنطية تورث مزيداً من الاطمئنان بأن الحادثة واحدة، وأن هزات ارتدادية واضطراباً في البحر وغبرة عظيمة أصابت القسطنطينية في نفس وقت زلزال أنطاكيا.
ومن المهم التأمل أيضاً في كلمة كبير الأساقفة فوتيوس، حيث أرجع سبب الزلازل المتوالية إلى أمر جيولوجي طبيعي، وهو خطاب غير متوقع من بطريك كان عليه أن يعظ الناس ويتهمهم بأن ذنوبهم هي سبب البلاء، ثم يدعوهم إلى الصلاة والتوبة! يظهر أن البطريك كان في موقف الدفاع عن نفسه أو عن القيصر ليدفع تهمة احتمل أن توجه ضدهما تلك الليلة!
وقد تقدم أن السلطات في بيزنطة كانت ترجع الزلازل إلى ذنوب الناس، كالزلزال الذي وقع مع حملة تحطيم الأيقونات حين اعترض الأيقونيون على
ص: 470
تحطيهما فاهتزت الأرض فاتهمتهم السلطات بأنهم سبب البلاء والغضب الإلهي. إنه من الغريب فعلا أن تخطب السلطة بعد زلزال يقع في العاصمة وتبرء الناس وترجعه لسبب جيولجي صرف، ويوثق خطاب البطريك في التاريخ البيزنطي ويدوّن ضمن مواعظه!
ثم إن هذا الخبر لا يشير إلى زلازل مدمرة، وإنما يشير إلى زلازل متكررة في ليلة واحدة، وبالضبط هذا ما أشارت إليه رواية الشيخ الصدوق رحمه الله عند تعرضه لخبر الزفاف، حيث تكررت الآية مرتين في حفل واحد.
وهذه قرائن تورث مزيداً من الاطمئنان برواية بشر بن سليمان النخاس، لمجيئها في سياق منضبط متوالي الأحداث، فإذا اجتمعت أورثت يقينا بوقوع الحادثة؛ نحن نتعامل مع الحادثة كتعامل رجال الأدلة الجنائية في الحوادث، يجمعون قرائن متفرقة صغيرة، قد لا تكفي كل قرينة إذا وجدت مستقلة للجزم بالنتائج، لكن مع اجتماع القرائن المتفرقة فإن العاقل لا يستطيع تخطئة النتائج!
***
ص: 471
من الأخبار التاريخية الملفتة ما أورده الطبري (1) في أحداث سنة خمس وأربعين ومائتين، حيث ذكر: وبعث ملك الروم فيها بأسرى من المسلمين وبعث يسأل المفاداة بمن عنده وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولا إلى المتوكل شيخ يدعى أطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلا من أسرى المسلمين أهداهم میخائیل بن توفيل ملك الروم إلى المتوكل وكان قدومه عليه الخمس بقين من صفر من هذه السنة (2).
وقبل التعليق على الرواية فإن عبارة الطبري (أهداهم ميخائيل بن توفيل) قد لا تكون دقيقة، فإن الطبري قد يكون دقيقاً في نقل الحدث من عاصمة الخلافة الإسلامية، في تحديد موعد وصول الأسرى وعددهم، أما دقته في تحديد صاحب الهدية إن كان ميخائيل الإمبراطور أو القيصر باراداس فهذا يمكن المناقشة فيه.
وكيف كان فإن المؤكد وصول هذا العدد من الأسرى ابتداءً من صاحب الروم إلى بلاد المسلمين دون مقابل، وهذا غريب ملفت للنظر مثير للاستغراب.
إن امبراطورية عظمى تعيش في نزاع وحروب مستمرة مع المسلمين بأي وجه تبادر في العفو عن هذا العدد من الأسارى؟ وأسرى الحروب على مر
ص: 472
العصور ورقة مفاوضات يُتّجر بها لنيل المكتسبات وجلب المنافع.
لا أجد تفسيراً لهذه المبادرة إلا ربطها برواية الشيخ الصدوق رحمه الله، فإن السيدة نرجس علیها السلام تنقل مجريات الأحداث في قصور الحكم آنذاك وما جرى عقيب أحداث حفل الزفاف من ابن أخي القيصر الذي توقف ولم يتم، تقول علیها السلام:
(حتى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودق شخصي، ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي وسأله عن دوائي، فلما برّح به اليأس، قال: يا قرة عيني فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكِها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدقت عليهم، ومننتهم بالخلاص، لرجوت أن يهب المسيح وأمه لي عافية وشفاءً، فلما فعل ذلك جدي تجلدت في إظهار الصحة في بدني وتناولت يسيراً من الطعام، فسر بذلك جدي وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم)
فإن الخبر يشير إلى أن جدها القيصر استجاب لطلبها في إعزاز أسارى المسلمين والمنِّ عليهم بالخلاص، وأن جدها فعل ذلك، والواضح أنه لم يمنن على جميعهم بالخلاص وإنما منّ على بعضهم وأكرم الباقين وأعزهم، وبعث يسأل الفداء ليفرج عن الباقين.
وما يؤكد الربط بين الأمرين أنه لم يكن من دأب سلاطين الروم في تلك الحقبة الزمنية الرفق بالمسلمين، بل كان شأنهم اضطهاد المسلمين وظلمهم، وإن صدر شيء من الرفق فإنه لاستمالتهم وتنصيرهم لا حبّاً فيهم. ويكفيك في بيان
ص: 473
حال المسلمين في سجون الروم ما وصفه أبو فراس الحمداني في قصائده الرومية، وكان مما قال:
أُقَلّبُ طَرْفَي بين خِلٍّ مُكَبَّلِ ٭٭٭ وبين صَفِیٍّ بالحديدِ مُصَفَّدِ
ودونك ما حدّث به التاريخ من أن الإمبراطورة ثيودورا والدة ميخائيل الثالث أجبرت عام 855م - 241ه- ما يقرب من ستة آلاف من الأسرى المسلمين على التحول إلى المسيحية. وإلى جانب التنصير تعرض العرب للتعذيب على يد البيزنطيين، فقد تعرض أهل مدينة زبطرة في منطقة الثغور الإسلامية للأسر على يد الإمبراطور ثيوفيلوس في عام 837م - 222ه-، فقام بسمل أعينهم وقطع آذانهم وجدع أنوفهم (1).
نعم لو تتبعت التاريخ لوجدت مشاهد شفقة ورحمة من حكام الروم تجاه أسرى المسلمين لكنها ترجع في منتهى المطاف إلى مصالح الروم، منها مثلا تلطف الإمبراطور ببعض الأسارى ودعوتهم على موائد الطعام في البلاط الإمبراطوري أيام أعياد النصارى كعيد الميلاد المجيد، ومنها دعوة بعض الأسارى للتفرج على سباقات الخيل للترفيه، وذلك يرجع إلى غايات وأهداف غير اللطف والشفقة بالمسلمين، منها إبراز قوة الإمبراطورية وعظمة القصور وفخامة الموائد -يقال إن إحدى تلك الموائد كانت لسليمان بن داود مرصعة بالدر والياقوت، والثانية لداود
ص: 474
مرصعة أيضاً، والثالثة مائدة قارون، والرابعة مائدة قسطنطين الملك- فمظهر المائدة وحجمها وفخامتها وعدد الضيوف وهندامهم كلها توحي بقوة النصرانية والإمبراطورية، كما أن إكرام الأسرى بهذه الكيفية في الإطعام المصحوب بأناشيد عيد الميلاد المجيد ورفع الصلبان حول الموائد ثم إعطاء أسرى المسلمين شيئا من المال يعد نوعا من التبشير بالنصرانية، وهو من أسمى أغراض النصارى (1).
والدليل على أن الشفقة والرحمة بالأسارى لم تكن غرض الحكام في امبراطورية الروم وإنما كان الغرض دعوتهم إلى التنصر ما ذكر في التواريخ من تنصير كثير من أسرى المسلمين وقد تقدمت الإشارة إلى موقف ثيودورا من الأسرى. وما ذكر من اضطرار أهالي المصيصة وطرسوس إلى التنصر، وإجبار الأسرى على القتال دفاعا عن العاصمة كما أنه يشترط على المسلم المقيم في بيزنطة - من غير الأسرى، كالتجار - إذا أراد الزواج من بيزنطية أن يتنصر، كما أن التنصر كان شرطاً في الإعفاء من الضرائب (2) .
و مما يؤكد ذلك أيضاً ما ذكره البشاري حيث قال في وصف القسطنطينية: ولا يسكن دار البلاط من المسلمين الا وجيه في إجراء وتعاهد وتنزّه، وسائر الأسارى من عامّة المسلمين يستعبدون ويستعملون في الصنائع (3).
ص: 475
وهناك غرض آخر من الشفقة على المسلمين وهو المقايضة مقابل مصالح أخرى، فإن للنصارى رعايا في بلاد المسلمين، ولابد من مراعاة ذلك ومسايسة دولة الخلافة، وإن المسلمين لما دفنوا أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وخافوا أن ينبش قبره في القسطنطينية، هددوا إن وقع شيء من ذلك لما أبقوا كنيسة في بلاد المسلمين.
ومن الأمثلة أيضاً ما ذكروه في شأن مسجد القسطنطينية، وهو أنّ السجناء المسلمين في القسطنطينية المهمّين احتُجزوا في مساكن خاصّة، وخصّص هؤلاء المساجين جزءاً من هذه المساكن لغرض العبادة. وبعد فترةٍ من الزمن، تحوّل المصلّى إلى مسجدٍ بطبيعة الأمر، فكان التجّار والمسافرون والسجناء والمنفيّون يؤدون صلواتهم في هذا المصلى (1) .
ص: 476
ومن الطبيعي أن الإمبراطورية تخشى على مصالح النصارى في مختلف أراضي المسلمين وترجو بقاء دور عبادتهم، فإن ذلك يدعو إلى إتاحة المجال بهذا المقدار للسماح للنصارى المقيمين في بلاد المسلمين بأداء طقوسهم العبادية، كما أن المصالح التجارية مع تجار المسلمين تقتضي مثل ذلك.
أي أن هذا النوع من التسامح مع المسلمين يرجع في حقيقته إلى رغبة ملك الروم بكسب مصلحة تعود عليه وعلى النصارى، ولا يرجع الأمر إلى غرض التسامح فإن المتتبع لأحوال أباطرة تلك الحقبة وما فيها من ظروف وعداء وحروب بين المسلمين يعلم أن التعامل مع الأسارى كان مبنيّاً على المصالح.
فالأمر من الوضوح بمكان أنه لا مورد للشفقة على المسلمين بين قوم متعصبين للنصرانية يعذبون المسلمين ويستعبدونهم وأن أي فعل يصدر منهم ويظهر منه الشفقة لا يكون إلا لمصلحة النصارى، إما بغرض تنصير المسلمين، أو مقايضة بمصالح أخرى.
بتعبير آخر فإن الأسرى يبقون في السجون معذبين، فإما أن يتم تنصيرهم أو استعبادهم وتكليفهم بالمهام الشاقة، وإذا بقي الأسير في السجن مصرّاً على
ص: 477
حاله فإنه يتحمل الأذى والتعذيب حتى يحين موعد الفداء - ومن المشهورات حكاية أبي فراس الحمداني ورومياته في السجون، حتى خرج في فداء شهر رجب من سنة 355 ه- (1)- ، كما أن استمرار بقاء الأسرى في البلدين دون إمكانية توطينهم واستعبادهم يشكل عبئا على الدولتين، ومن جانب آخر فإنه يضعف ثقة الشعوب بقدرة الحكام على استرجاع المفقودين من أبنائهم، وكل ذلك عوامل تشجع على عمليات تبادل الأسرى.
وعلى كل حال فإن هذا هو الأصل في منهج الدول في علاقاتها الدبلوماسية وتعاملها بين أسرى دول الضد لاسيما إذا كانت المضادة راجعة إلى سبب ديني وسياسي، فإن هذا هو السلوك المتوقع وأي مبادرة عفو غير مسبوقة بمقدمات ولا ملحوقة بطلب مقابل تكون مثارا للاستغراب، وإلا فإن العفو عن الأسرى عادة يكون بمبدأ تبادل الأسرى لا بمبدأ الهدية المجانية! (2)
فيبقى العفو عن عشرات الأسرى من ملك الروم دون مقابل مورد تساؤل لا تجد له جواباً إلا إذا ربطته بما أخبرت به السيدة نرجس علیها السلام.
وقد تكررت على مر العقود في العلاقة بين الدولة العباسية والدولة
ص: 478
البيزنطية عمليات الفداء وتبادل الأسرى (1)، منها ما كان في سنة 189ه- ، و 192ه- في خلافة هارون الرشيد، ومنها ما كان في سنة 231ه- في خلافة الواثق، ومنها ما كان في سنة 241ه-، و 246ه- في خلافة المتوكل، ومنها ما كان في سنة 253ه- في خلافة المعتز، ووقع غيرها من عمليات فداء في هذه الحقبة لكنها كانت أقل شهرة وأقل عدداً.
وكان الفداء يقع على نهر اللامس (2) ؛ لأنه يتميز بموقع جغرافي يفصل بين مدينة طرسوس التابعة للخلافة العباسية، وسلوقية التابعة للدولة البيزنطية، وكان المسلمون يصِلون إلى النهر برّاً، ويأتيه البيزنطيون عن طريق البحر، وكان النهر يشكل حاجزاً طبيعيّاً يمنع الاصطدام حال وقوع خلاف، كما يسهل النهر عملية التبادل فيجعلها عملية منضبطة بحيث لا يتيسر الهرب للأسرى قبل إتمام مجريات الفداء. (3)
ص: 479
وكان الفداء يستمر عدة أيام في هدنة متفق عليها مسبقاً، يشهده كبار القادة من الطرفين، وعامة الناس المترقبين للإفراج عن الأسارى، ويعقد على النهر جسرين، يقف المسلمون على جانبه الشرقي والروم على جانبه الغربي، يرسل المسلمون روميّاً على الجسر ويرسل الروم مسلماً على الجسر، فيصير كل منهما إلى قومهم حتى يكتمل الفداء (1)، وباقي الأسارى يفتدون بالمال (2).
على غير هذه العادة المطردة في الأفدية يأتي فداء سنة 246ه- بتنازل سخي من ملك الروم حيث يقدّم لخليفة المسلمين ضعف العدد، فيعفو المسلمون عن أكثر من ألف نصراني، وعفى النصارى عن أكثر من ألفي مسلم، وكانت الضابطة يومذاك أن يعفو المسلمون عن كل من عندهم ويعفو النصارى عن كل من عندهم.
وكانت مجريات هذا الفداء غريبة دوّنها الطبري بالتفصيل في تاريخه (3)، وحاصل مجريات الفداء أن صاحب الروم بعث إلى المتوكل العباسي يطلب الفداء بين الأسرى في سنة 245ه-، فبعث إليه المتوكل نصر بن الأزهر سفيراً ومعه هدايا ثمينة نحو ألف من نافجة مسك وثياب وحرير وزعفران وكثير طرائف - وهذا
ص: 480
رسم متعارف في السفارات من حمل التحف والهدايا لإبراز قوة الدولة - فلما وصل نصر بن الأزهر سفير المتوكل إلى القسطنطينية أراد دخول البلاط بسيفه و خنجره وقلنسوته وسواده (1)، فأبوا أن يدخلوه بهذه الصورة فأراد الانصراف من البلاط، فأرجعوه من الطريق وسمحوا له بالدخول!
ثم إن الامبراطور ميخائيل كان جالساً على سرير العرش وحوله البطارقة قيام، وقبل الإمبراطور هدايا المتوكل، ثم هيّأ لسفير المتوكل منزلا بقربه فنزل فيه نصر بن الأزهر السفير فترة المفاوضات.
وحسم أمر المفاوضات على أن يعطي النصارى جميع من عندهم وكانوا أكثر من ألفين، ويعطي المسلمون جميع من عندهم وكانوا أكثر من ألف، ووافق على هذه المفاوضات خال الإمبراطور وحلف يمينا على ذلك، هذا والإمبراطور ساكت لا يتكلم بشيء والأمور كلها بيد خاله.
يقول نصر بن الأزهر (سفير الخليفة المسلم) بعد أن حلف خال الإمبراطور: فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك، فهل هذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه: نعم. ولم أسمعه يتكلم بكلمة منذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه: نعم أو لا، وليس يتكلم؛ وخاله المدبر أمره.
ثم إن نصر بن الأزهر خرج من القسطنطينية بالأسرى بأحسن حال،
ص: 481
وتوجهوا إلى موضع الفداء، فأطلق أسرى المسلمين دفعة واحدة، وأسرى النصارى دفعة واحدة، خلافاً لسائر الأفدية من إطلاق الأسرى واحداً بواحد. وكان الفداء قد وقع في شهر صفر وقيل جمادى الأولى من سنة 246ه-.
وتجلت في هذا الفداء صورة غريبة من تنازل صاحب الروم، وهي أن قوماً من أسرى المسلمين عنده كانوا تنصروا ، ولكن ملك الروم لم يقبل تنصرهم، وإنما أمرهم باتباع سفير المتوكل والتوجه إلى موضع الفداء، فإذا وصلوا هناك وتم الفداء وأرادوا الدخول في النصرانية قبل منهم التنصر! ولم يبق في بلاد الروم من أسرى المسلمين أحد إلا وأطلق في هذا الفداء.
وستتضح الصورة أكثر مع ترتيب الأحداث وربطها بالزلزال والغارة على سميساط، وهي كالآتي:
٭ وقع الزلزال مطلع سنة 245ه- (الموافق: شهر إبريل 859م)، ويتوقع أن موعد زفاف السيدة نرجس علیها السلام مع ابن أخي القيصر كان في ذلك الوقت. فمرضت علیها السلام وطلبت من جدها القيصر أن يخفف عن أسارى المسلمين ويمن عليهم بالخلاص.
٭ وصل سبع وسبعون أسيراً هدية من ملك الروم إلى خليفة المسلمين في سامراء في 25 من شهر صفر 245ه- (الموافق: مطلع شهر يونيو 859م)، وطلب ملك الروم بعدها الفداء والتخفيف عن أسرى المسلمين.
٭ خرج إمبراطور الروم مع القيصر إلى حامية سميساط للغارة على
ص: 482
المسلمين هناك في صيف سنة 245ه- - 859م ، وفي هذه الحادثة يحتمل أن السيدة نرجس علیها السلام فقدت من معسكر الروم، كما فر جيش الروم بقياداته إلى القسطنطينية. (1)
٭ وصل مبعوث المتوكل إلى القسطنطينية استجابة لطلب ملك الروم في إجراء الفداء، ثم اتفق على الفداء بعد مفاوضات تأخرت أربعة أشهر، وتم الفداء في سنة 246 ه- - 860 م. وكانت شؤون هذا الفداء كلها بيد خال الإمبراطور، وقد تنازل كثيراً أثناء الفداء، فرضي أن يفتدى كل أسرى المسلمين بكل أسرى النصارى، وحتى من تنصر من المسلمين فإنه يرجع إلى قومه في الفداء فإن أحب الرجوع إلى القسطنطينية فليرجع بعد إتمام الفداء، وكانت طريقة الفداء أن يطلق جميع أسرى المسلمين دفعة واحدة كما يطلق جميع أسرى النصارى دفعة واحدة.
تُرى من كان من النصارى في أسرى المسلمين يجعل خال الإمبراطور يقبل بكل هذا التنازل؟ لماذا يرضى بأن يسلم ضعف العدد للمسلمين؟ هل احتمل أن حفيدته المفقودة موجودة في أسرى المسلمين وخشي التصريح بهذا الأمر فقرر إرجاع جميع من يمكن إرجاعه من الأسرى لعله يجد بغيته؟
من المؤكد أن القيصر لا يستطيع التصريح بهذا الأمر علناً فهو سر ينبغي أن لا يذاع عسكريّاً حتى لا يكون ورقة مساومة، ثم إنه لا يعلم إن كانت سبيت إلى بغداد، أو بقيت في سميساط أو قتلت أو جرى غير ذلك عليها؟ المؤكد أنه
ص: 483
فقدها من قصره (1).
في الحقيقة نحن أمام تطابق وانسجام بين خبر الشيخ الصدوق رحمه الله وسائر معطيات التاريخ، ولا يمكن لمنصف أن يقرأ الرواية ويطلع على التاريخ البيزنطي ثم يدعي وجود اضطراب في متن الرواية! هذا كلام لا يصدر من واع ومثقف!
***
ص: 484
سجل التاريخ خلال هذه الفترة عدة معارك بين المسلمين والروم، ولتحديد التاريخ بشكل دقيق، فإن الإمام صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف قد ولد في سنة 255ه- - 869م، فلابد من متابعة المعارك بين المسلمين والروم خلال الفترة السابقة لولادة الإمام علیه السلام بعدة سنوات، والحقيقة أن هذه الفترة مليئة بالمعارك ولكننا نضع الاحتمالات القريبة، ونستبعد بقية الاحتمالات (1).
ص: 485
والذي يغلب عليه الظن بل يطمأن بصحته أن أسر السيدة نرجس علیها السلام وقع بعد غارة الروم على حامية سميساط (1) في سنة 245ه- - 859م لعدة قرائن، بعضها في نفس أحداث المعركة، وبعضها خارجة عنها متوافقة مع تسلسل الأحداث التاريخي.
وقبل الحديث عن المعركة ينبغي التعريف بحامية سميساط؛ أما الحامية
ص: 486
فهي مجموعة من القوات العسكرية أو الجيوش تتمركز في منطقة معينة لتكون المقر الرئيسي لها؛ باصطلاح اليوم: قاعدة عسكرية، ويتم تأسيس هذه الحامية لأغراض متعددة دفاعية وهجومية تختلف باختلاف اعتبارات المناطق وظروفها.
أما سميساط فإنها تقع في منطقة ثغور ولذلك فإنها تتبع إداريّاً -ضمن منظومة الدولة الإسلامية- إلى والي الثغور، فيكون هو حاكم المنطقة وأمير الحامية. والثغور أقرب المناطق الحدودية للعدو تتمركز فيها الجنود والمجاهدون والمتطوعون وليس مقامهم مقام استقرار ولكن من أجل الفتوحات وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، ويتقاضون رواتبهم جراء هذه الوظيفة.
والمناطق العامرة التي تسبق الثغور تسمى العواصم، سميت بالعواصم لأنها تمد الثغور بالجنود عند الحاجة، فهي تمنع وتعصم سائر أراضي الدولة الإسلامية من أي غزو وتجبر أي ضعف في مواقع الثغور (1)؛ أي أن العواصم التي تكون عامرة اليوم كانت بالأمس ثغراً عسكريّاً، والثغر العسكري يرجى أن يكون عاصمة في الغد ليعقبه ثغر، وهكذا تتوسع رقعة الدولة الإسلامية.
وللعواصم أمراء وولاة كسائر الولايات لكن لها اعتباراتها الاستراتيجية في تنظيم الدولة باعتبارها الأقرب إلى الحدود البيزنطية، أما الثغور جهة الدولة
ص: 487
البيزنطية فإنها تنقسم إلى ثغور شامية وجزرية (1) (نسبة إلى شبه الجزيرة العربية)، ولها أمراؤها وحكامها، ولكن الحكم هناك عسكري لا مدني خلافا للعواصم وسائر ولايات الدولة.
وتقع سميساط على الفرات الأعلى، وحولها جبال كثيرة، وفيها قلعة حصينة (2) يقال أن بناءها قديم يرجع إلى زمن إبراهيم خليل الله علیه السلام بناها ملك ذلك العصر (3)، وهي ثغر إسلامي من ثغور الجزيرة يخضع لإمرة قائد ثغر ملطية (4)، وثغر ملطية هو الثغر الأقرب إلى الروم يومذاك، ومنه يتم تنظيم الغزوات
ص: 488
والصوائف والشواتي وسائر الحملات العسكرية الهجومية والدفاعية.
وتسمى سميساط اليوم مدينة سامسات (1) وهي تابعة في جغرافيا اليوم إلى تركيا، وكانت في فترة من الزمن تتبع أرمينية الصغرى (2)، ودخلت ضمن ثغور الدولة الإسلامية بعد معركة اليرموك مع التوسع الإسلامي جهة الشام.
غزت الروم هذا الثغر مرارا متعددة منذ الفتح الإسلامي لها، ومن تلك الغزوات ما وقع سنة 245ه- - 859م، حيث غارت الروم عليها وقتلوا من المسلمين وأسروا منهم خلقاً كثيراً (3).
وكان على قيادة جيش الروم يومذاك الإمبراطور ميخائيل الثالث والقيصر باراداس (4)، وكان هذا الظهور العسكري للإمبراطور هو أول ظهور له في ساحة المعارك وكان خروجه بإشراف القيصر باراداس (5)، أي أن القيصر هو من
ص: 489
قاد الجيوش فعلا وهو من سيّرها أما الإمبراطور فكانت تجربته العسكرية الأولى وهو لايزال في ريعان شبابه، وقد أعدوا العدة بإحكام لهذا الهجوم وزودوا المدينة بكل التعزيزات اللازمة كي يضمنوا قاعدة قوية لإنجاح الحملة (1).
ورغم أن قوة الروم كانت لها الغلبة وكانت تحاصر حامية المسلمين ثلاثة أيام، إلا أنه وبسبب انشغال قيادات الدولة البيزنطية في قداس يوم الأحد استطاع المسلمون اقتحام معسكر الروم، وقد كان انتصاراً ساحقاً، استولوا فيه على خيمة الإمبراطور وكل متعلقاته، وأما الإمبراطور فإنه نجى بأعجوبة (2)!
ص: 490
وقيل أن عدداً كبيراً من جنود الروم أسروا في هذه الحملة على يد القائد الصقلبي قاريباس (1).
ويجدر التنبيه على قضية مهمة: أن تفاصيل الهزيمة التي لحقت بالإمبراطور لم يتعرض لها الطبري وغيره من مؤرخي العرب، ويظهر أنها لم تكن هزيمة تامة بالاصطلاح العسكري وإنها مجرد غارة مباغتة من جيش المسلمين كردة فعل حربية على معسكر الإمبراطور.
إن المعايير العسكرية في النصر والهزيمة نسبية، لا يوجد انتصار مطلق في الحرب أو هزيمة مطلقة، وإنما يكون انتصاراً تصحبه خسائر في الأرواح والأموال وغيرها؛ قد يخرج الجيش منتصراً وإن كان قد مني ببعض الهزائم أثناء القتال (2)، فإن الحرب كر وفر، وصولات وجولات، يقتل فيها الرجال وتستباح الأموال،
ص: 491
ويغنم كل من الطرفين شيئا، قد يخرج المنهزم بالغنائم كما يفعل ذلك المنتصر.
إذا علمت ذلك فاعلم أنه وقع الجدل في أحداث هذه المعركة بالذات، ولماذا عرض الطبري جانب النصر للروم وعرض مؤرخو بيزنطة جانب الهزيمة (1)، والواقع أن كلّاً من المؤرخين يروي الأحداث من الزاوية التي بلغته، ولعل المسلمين لم يكونوا عارفين بوجود القيصر والإمبراطور في المعسكر أصلا وظنوا أنهم اقتحموا مقر أحد القادة فلم يدونوا في تواريخهم القديمة هذه الجزئية، أما التواريخ البيزنطية فإنها كانت تعرف ذلك فدوّنته (2).
وعلى كل حال فإن المرجحات التي جعلتنا نستقرب احتمال كون المعركة المقصودة في رواية الشيخ الصدوق رحمه الله هذه المعركة، ما ورد عن لسان السيدة نرجس علیها السلام أن جدها القيصر سرّب جيوشاً لقتال المسلمين، وهذا مما امتازت به
ص: 492
هذه المعركة بأن القيصر قاد الجيوش وخرج معهم، أما بقية الحروب فهناك احتمال خروج القيصر معهم لكنه غير مؤكد.
ثم إنه جاء في رواية الشيخ الصدوق رحمه الله أن كتائب المسلمين وقعت على معسكر القيصر فأسرت السيدة نرجس علیها السلام وقتها، وهذا أيضاً مما ورد في التواريخ البيزنطية من اقتحام المسلمين معسكر الروم أثناء انشغالهم بقداس يوم الأحد، والرواية البيزنطية لا تصرح بنصر تام للمسلمين وإنما هجوم مباغت لهم، يناسب عبارة الرواية من وقوع طلائع المسلمين عليهم.
هذه المرجحات التي في نفس المعركة، أما من خارجها فأولها توقيت المعركة وكونه في صيف سنة 859م أي بعد الزلزال الذي احتملنا وقوعه وقت الحادثة.
وأيضاً بعد العفو عن مجموعة من أسارى المسلمين المنسجم مع طلب السيدة نرجس علیها السلام من جدها المن على أسارى المسلمين والتخفيف عنهم، ثم طلب الفداء وتبادل الأسرى.
وتوقيت المعركة أيضاً قبل إتمام تبادل الأسرى العجيب الذي تنازل فيه صاحب الروم إلى أبعد الحدود وعفى عن ضعف عدد أسراه في بلاد المسلمين ليرجع كل الأسرى والمفقودين من الروم إلى بلادهم ما يشير إلى وجود أسرى يعنيهم أمره يرغب بإرجاعهم بأي ثمن.
كما أن موقع المعركة في سميساط يتناسب مع أسرها عن طريق الفرات؛
ص: 493
فإن مجرى الفرات كما ذكره القلقشندي: فأوّله من شماليّ مدينة أرزن الروم وشرقيها، وأرزن هذه آخر حدّ بلاد الروم من جهة الشرق؛ ثم يأخذ إلى قرب ملطية ثم إلى سميساط (1)، ثم يأخذ مشرّقا ويتجاوز قلعة الرّوم ويمرّ مع جانبها من شماليها وشرقيها؛ ثم يسير إلى البيرة، ويمرّ من جنوبيها، ثم يمرّ مشرّقا حتّى يتجاوز بالس وقلعة جعبر ويتجاوزها إلى الرّقّة؛ ثم يمرّ مشرّقا ويتجاوز الرّحبة من شمالها ويسير إلى عانة ثم إلى هيت، ثم يسير إلى الكوفة. فإذا جاوز نهر كوثي بستة فراسخ انقسم نصفين، ومرّ الجنوبيّ منهما إلى الكوفة ويجاوزها ويصبّ في البطائح. ويمرّ القسم الآخر وهو أعظمهما ويعرف بنهر سورا، ويمرّ بإزاء قصر ابن هبيرة، ويتجاوزه إلى مدينة بابل القديمة، ويتفرّع منه عدّة أنهر ويمرّ عموده إلى النيل ويسمّى من بعد النيل نهر الصّراة؛ ثم يتجاوز النيل ويصب في دجلة (2).
والصراة نهر متفرع من الفرات يدخل بغداد ويصب في دجلة، تمر فيه السفن حتى تبلغ قنطرة في آخره فلا تتجاوزها السفن، ويتم إنزال حمولتها هناك. (3)
وفي الرواية أن الإمام الهادي علیه السلام أمر بشر بن سليمان النخاس أن يتوجه إلى معبر الصراة في بغداد يترقب وصول زوارق السبايا. لذا فقد يكون موقع
ص: 494
المعركة في سميساط قرينة على أنها هي المقصودة في الرواية.
هذه قرائن مما يورث الاطمئنان أن المعركة المقصودة هي هذه المعركة الواقعة سنة 245ه- - 859م، غير أننا لا نستطيع الجزم ببطلان سائر الاحتمالات (1).
***
ص: 495
الفصل الرابع
اعتبار الرواية - متن الرواية
التعليق على رواية الشيخ الصدوق
بعد ما تقدم من بيان خلال الفصول السابقة فقد باتت الصورة واضحة من انسجام رواية الشيخ الصدوق رحمه الله مع التاريخ ، ولا وجه لتكذيب الرواية.
ولكن لتنظيم الكلام مرة أخرى فإننا ندرج نص الرواية هنا كاملا، ونعلق عليها بالهوامش بما ذكره التاريخ وما كان موافقاً لنص الرواية؛ ولكننا لن نشير إلى المصادر هنا، لأن ما نذكره قد تقدم شرحه في الفصول السابقة بالتفصيل، وما نريد بهذا الفصل إلا تنظيم المطالب مرة أخرى لتكون الصورة أكثر وضوحاً.
وقبل ذلك لابد من مناقشة موجزة لمصادر الرواية المفصلة ومدى اعتبارها سنداً ومتنا، أما إثبات أصل كونها من نسل قيصر الروم فقد ناقشناه في الفصل الثاني.
***
ص: 496
أهم المصادر الأولية التي بين أيدينا للرواية المفصلة بأسانيدها المتعددة في خبر وصول السيدة نرجس علیها السلام إلى دار الإمام العسكري، هي:
٭ الأول: في كمال الدين للشيخ الصدوق (المتوفى 381ه-)، عن محمد بن علي بن حاتم النوفلي، عن أبي العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي، عن أحمد بن طاهر القمي، عن أبي الحسين محمد بن بحر الشيباني، عن بشر بن سليمان النخاس. (1)
٭ الثاني: في دلائل الإمامة للشيخ أبي جعفر الطبري (من علماء القرن الرابع (2))، عن أبي المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني، عن أبي الحسين محمد بن بحر الرهني الشيباني عن بشر بن سليمان النخاس. (3)
٭ الثالث: في الغيبة للشيخ الطوسي (المتوفى 460 ه-)، عن جماعة، عن أبي المفضل الشيباني، عن أبي الحسين محمد بن بحر الشيباني الرهني، عن بشر بن سليمان النخاس. (4)
ص: 497
٭ الرابع والخامس: ما رواه الشيخ الطبرسي (1) والشيخ الطرابلسي (2) في هذه الحادثة، غير أن كتبهم التي نقلت منها الرواية مفقودة اليوم، وحكى ذلك عنهم السيد محمد مير لوحي (3)، ثم قال رحمه الله: وغيرهم كثير جدا من علماء الإمامية
ص: 498
رضي الله عنهم جميعاً، في كتبهم بعبارات مختلفة ومعان متفقة. (1)
٭ مضافاً إلى هذه المصادر فقد أورد جملة من المحدثين هذه الرواية في كتبهم المعتبرة، منهم: الفتال النيشابوري، وابن شهر اشوب، والسيد هاشم البحراني، والحر العاملي، والعلامة المجلسي، وغيرهم رضوان الله عليهم . (2)
فهذه شواهد تؤيد اعتماد العلماء هذه القضية، لكن لما كان مرجع إيرادهم الرواية الطرق المتقدمة، فإننا نناقش الأسانيد التي أوردها الصدوق والطبري والطوسي، وما حكاه السيد مير لوحي عن الطبرسي والطرابلسي رَحِمَهُمُ اللهُ، ولابد في مناقشة الأسانيد من تقسيم الكلام إلى مرحلتين:
٭ الأولى: مناقشة رجال السند الذين سبقوا محمد بن بحر الرهني.
٭ الثانية: مناقشة حال محمد بن بحر الرهني، وبشر بن سليمان النخاس.
مع التنبيه إلى أننا لا نرغب باستيفاء المناقشة فلا نرى حال الكتاب يستدعي ذلك، وليس البناء في البحث التاريخي على المداقة في الأسانيد.
***
ص: 499
وأما كلامنا في المرحلة الأولى (مناقشة رجال السند قبل محمد بن بحر الرهني) فنقول معقبين على الروايات الثلاث:
٭ أما ما رواه الشيخ الصدوق، فإن المناقشة الآن في: (محمد بن علي بن حاتم النوفلي، وأبي العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي، وأحمد بن طاهر القمي).
أما النوفلي فهو من مشايخ الصدوق روى عنه في عدة موارد وقد ترضى عليه (1)، وهذا يكفي في توثيقه، فضلا عما سيأتي، أما بقية رجال السند (أحمد بن عيسى الوشاء) و (أحمد بن طاهر القمي)، فالطريق إلى توثيقهم ما أفاده المرجع الراحل الشيخ لطف الله الصافي قدس سره ضمن مناقشته لأحوال بعض الرواة في كتابه منتخب الأثر.
قال رحمه الله: أما أحمد بن عيسى الوشّاء البغدادي أبو العباس، وشيخه أحمد ابن طاهر القمّي، فأسند إليهما الصدوق أيضا في (كمال الدين) في الجزء الثاني (باب 41 باب ما روي في نرجس أمّ القائم علیهما السلام واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الملك)، والظاهر معرفته بحالها واعتماده عليهما، وذلك لأنه لم يرو في هذا الباب الذي هو من الأبواب المهمّة من كتابه إلّا حديثا واحدا، وهو ما رواه عن شيخه محمد بن علي بن حاتم النوفلي، عن أبي العباس أحمد بن عيسى الوشّاء البغدادي، عن أحمد ابن طاهر، بل يظهر من ذلك كمال وثاقتهما عنده، واعتماده
ص: 500
على صدقهما وأمانتهما، ويظهر ممّا عنون به الباب أيضا اعتماده واستدلاله على ما كان مشهورا في عصره من اسم أمّه علیه السلام ونسبها بهذا الحديث، فالرجلان كانا معلومي الحال عنده بالصدق والأمانة، وإلّا فلا ينبغي لمثله أن يعتمد على رواية غير موثّقة، لا يعرف رواتها بالوثاقة في مثل هذا الأمر المعتنى به عند الخاصّ والعامّ، فالمظنون بل المقطوع اطمئنانه بصحّة الرواية وصدق رواتها، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا محيص عن القول باطمئنانه بصدورها بواسطة بعض القرائن والأمارات المعتبرة التي يجبر بها ضعف الراوي، ويقطع بها بصحّتها، وإلّا فيسأل: ما فائدة عقد باب في كتاب مثل (كمال الدين) للاحتجاج برواية واحدة لا يحتجّ بها ولا يعتمد عليها مؤلّف الكتاب لجهله بأحوال رجالها؟ وما معنى عنوان الباب بمضمونها؟ وكيف يقبل صدور ذلك من الصدوق رحمه الله؟ ألم يصنّف كتابه (كمال الدين) لرفع الحيرة والشبهة والاستدلال على وجود الحجة؟ (1) فهل هذه الرواية إذا كان مؤلّف الكتاب لا يعتمد عليها تزيد الشبهة والحيرة أو ترفعها؟ (2) انتهى كلامه عطّر الله مرقده.
لقد صحح المرجع الراحل الشيخ الصافي قدس سره رجال السند معتمدًا على
ص: 501
كيفية إيراد الشيخ الصدوق رحمه الله للرواية، حيث استظهر كمال وثاقة رجال الخبر عند الشيخ الصدوق، ومن ثَمّ اكتفى بهذا على عدّهم رواة ثقاة يعتمد عليهم في تصحيح أسانيد روايات أخرى، فالرواية على مبنى الشيخ الصافي رحمه الله معتبرة الإسناد.
٭ أما طريق الطبري رحمه الله، فالكلام في راو واحد وهو أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني.
أدرك الطبري رحمه الله محمد بن عبد الله الشيباني وروى عنه (1)، ومحمد بن عبد الله الشيباني يروي مباشرة عن محمد بن بحر الرهني الشيباني عن بشر النخاس.
وأبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني يصفه النجاشي بأنه كان ثبتا في أول أمره ثم خلط (2)، ووصفه الشيخ الطوسي بأنه كثير الرواية حسن الحفظ (3)، والحقيقة أن الذي يهمنا اعتبار روايته في أول أمره؛ لأنه روى عن الرهني، والرهني توفي قبل سنة 330ه- (4)، وكان الرهني من المعمرين، وأبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني كان قد تلقى الحديث سنة 304 ه- (5)، وتوفي سنة 385ه- (6)،
ص: 502
وعلى ذلك فلن يتسنى لأبي المفضل الشيباني تحمل الحديث عن الرهني إلا في بادئ أمره؛ لأن الرهني توفي مبكرّاً بالنسبة إليه فلا يسعه تحمل الحديث عنه متأخرّاً، وتهمة التخليط - إن صحت - متأخرة عن وقت تحمله هذه الرواية.
قال شيخ الطائفة: وأما ما ترويه الغلاة والمتهمون والمضعفون وغير هؤلاء، فما يختص الغلاة بروايته (1)، فإن كانوا ممن عرف لهم حال استقامة وحال غلو، عمل بما رووه في حال الاستقامة، وترك ما رووه في حال خطئهم، ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد ابن أبي زينب في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه... فأما ما يرويه (الغلاة) في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كل حال. (2)
فإن أشد ما يقال في هذه السند أن أبا المفضل الشيباني خلط في آخر عمره، وهذا لا يضر في قبول روايته هنا، كما يتميز هذا السند بقصره واتصاله ما يزيده قوة واعتباراً، وقد توهم البعض أن فيها إرسالا أو سقطاً، وهو محض توهم منشؤه الغفلة عن كون الرهني معمراً.
٭ أما طريق الشيخ الطوسي رحمه الله، فإنه عن جماعة، عن أبي المفضل الشيباني.
والكلام في أبي المفضل الشيباني عين الكلام المتقدم في سند الطبري، لكن
ص: 503
الكلام هنا في لفظة (جماعة) في سند الشيخ رحمه الله، لذا نورد كامل عبارته السابقة كما وردت في الفهرست، قال رحمه الله: (محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني، يكنى أبا المفضل، كثير الرواية، حسن الحفظ، غير أنه ضعفه جماعة من أصحابنا. له كتاب الولادات الطيبة الطاهرة، وله كتاب الفرائض، وله كتاب المزار، وغير ذلك، أخبرنا بجميع كتبه ورواياته عنه جماعة من أصحابنا). وظاهر عبارة الشيخ اعتماده على أخبار أبي المفضل الشيباني رغم تضعيف جماعة من الأصحاب له، ثم إن الشيخ أجل وأعلى قدراً من أن يعتمد على جماعة من أصحابه وليس فيهم ثقة يقبل حديثه (1)!
هذا مضافاً إلى أن جماعة الشيخ الطوسي التي تروي عن أبي المفضل الشيباني أسماؤهم معلومة، منهم أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله المعروف بابن الغضائري (2)، وفي هذا مزيد اعتبار للخبر، وبيان ذلك:
أن الشيخ ابن الغضائري رحمه الله قال في ترجمة أبي المفضل الشيباني: محمّد بن
ص: 504
عبد الله بن محمّد بن المطّلب، الشيباني، أبو المفضّل. وضّاع، كثير المناكير، رأيت كتبه، وفيها الأسانيد من دون المتون، والمتون من دون الأسانيد، وأرى ترك ما ينفرد به. (1)
وقد تقدم كلام النجاشي بأنه كان ثبتاً أول أمره ثم خلط، فيبدو أن التضعيف هنا من ابن الغضائري لِما كان في عاقبته من التخليط ، وكيف كان فالمهم أن ابن الغضائري رحمه الله صرّح بأنه يرى ترك ما تفرد به أبو المفضل الشيباني، وهذا يلزم أن ابن الغضائري لا يرى هذا الخبر من المناكير وأنه خبر خالٍ من التهمة.
هذا إذا كان مقصود الشيخ ابن الغضائري من عبارة (أرى ترك ما ينفرد به) أنه يترك رواية ما ينفرد به أبو المفضل الشيباني. ولعل هذا الاستظهار من عبارة ابن الغضائري هو ما أشار إليه المحقق التستري رحمه الله في قاموس الرجال، حيث قال: والتحقيق ما قاله النجاشي من حصول الخلط له أخيرا وثبته أوّلا وصحّة ما رواه مشايخ الشيخ والنجاشي عنه، وقد أكثر الأوّل في أماليه عنه (2).
أما إذا كان مقصود ابن الغضائري من ذلك أنه قد ينفرد بالرواية عنه ولكنه يرى ترك العمل بما ينفرد به أبو المفضل فإن النتيجة لن تختلف هنا؛ وذلك لأن ابن الغضائري روى عن أبي المفضل الشيباني عدة أخبار معتبرة، وروى عنه أيضاً كتاب الكافي وروى عنه الصحيفة السجادية، وغير ذلك ما يعني أن روايات
ص: 505
أبي المفضل الشيباني ليست كلها مردودة فهذا ما لا يمكن افتراضه أصلا فضلا عن القول به! ولابد من وجود ما هو معتبر من مرويات أبي المفضل؛ وضابطة التعامل مع مرويات أبي المفضل ترك العمل بما ينفرد به، فإذا علمت أنه لم ينفرد بخبر مجيء السيدة نرجس علیها السلام من الروم إلى سامراء لأنه خبر موافق لما رواه الشيخ الصدوق بطريق آخر، فإنه لا وجه لترك ما رواه هنا.
٭ هذا فضلا عن هذه الطرق فقد حكى السيد مير لوحي في كفاية المهتدي طرقاً أخرى لنفس الخبر، حيث قال:
(وليعلم أنه بسبب طولانية حديث والدة صاحب الأمر علیه السلام الماجدة فإننا نقتصر في هذا المقام على ترجمته (1) رعاية للاختصار. روى الفضل بن شاذان وابن بابويه والشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي والشيخ الطرابلسي وغيرهم كثير جدّاً من علماء الإمامية رضي الله عنهم جميعاً في كتبهم بعبارات مختلفة ومعان متفقة...) (2).
ص: 506
والطرق التي أشار إليها المير لوحي ولم تصل إلينا، هي ما عن الشيخ الطرابلسي والشيخ الطبرسي.
فإذا اجتمعت هذه الأسانيد المذكورة والمحكية عن علمائنا وكلها تورد نفس التفاصيل، فإنه يلزم العلم بأن الرهني قد حدّث بهذا الخبر، ويمكن القول بأنه قد صح عن الرهني أنه حدّث بهذا الخبر، إذ من الممتنع تواطؤ هؤلاء الرواة على الكذب مورِدين نفس التفاصيل بنفس الكيفية.
والحاصل أنه لا ينبغي الشك بصحة الطريق إلى محمد بن بحر الرهني، وإنما الكلام فيه وفيمن بعده، وهو ما سيأتي بحوله تعالى.
***
وأما الكلام في المرحلة الثانية من مناقشة السند؛ أعني حال محمد بن بحر الرهني الشيباني، وحال بشر بن سليمان النخاس، فنقول:
٭ أما محمد بن بحر الرهني الشيباني:
فقد ذكره الشيخ الطوسي رحمه الله في الفهرست قائلا: (محمد بن بحر الرهني من أهل سجستان، كان متكلما عالما بالأخبار فقيها إلا أنه متهم بالغلو، وله نحو من خمس مائة مصنف ورسالة، وكتبه موجودة أكثرها موجود بخراسان ببلاد خراسان، فمن كتبه كتاب الفرق بين الآل والأمة، وكتاب القلائد) (1).
ص: 507
وقال النجاشي: (محمد بن بحر الرهني أبو الحسين الشيباني ساكن نرماشير من أرض كرمان. قال بعض أصحابنا: إنه كان في مذهبه ارتفاع، وحديثه قريب من السلامة. ولا أدري من أين قيل ذلك) (1).
وأنت ترى في كلامهم مدحا له ولفقهه وعلمه و لحديثه، غير أن ثمة تهمة في الغلو، لا يدرى ما منشؤها (2)، ولا يمكن الاعتماد عليها لتضعيفه، إذا الغلو - على فرض ثبوته- لا يلزم ضعف رواياته، كما أن صريح النجاشي أن حديثه قريب من السلامة.
ثم إن ههانا وجهاً في تبرئته من الغلو، وهو ما ذكر في ترجمته من أن له كتباً في الفقه، مثل: كتاب الطلاق، وكتاب المبسوط في الصلاة، وكتاب المناسك (3)، وما حكاه العلامة رحمه الله في ترجمته، حيث قال: (له كتب منها كتاب القلائد فيه كلام على مسائل الخلاف التي بيننا وبين المخالفين. وجدت بخط السيد السعيد صفي الدين محمد بن معد: هذا الكتاب عندي وقع إلي من خراسان، وهو كتاب جيد مفيد وفيه غرائب. ورأيت مجلدا فيه كتاب النكاح حسن بالغ في معناه، ورأيت أجزاء
ص: 508
مقطعة وعليها خطه إجازة لبعض من قرأ الكتاب عليه يتضمن الفقه والخلاف والوفاق. وظاهر الحال أن المجلد الذي يتضمن النكاح يكون أحد كتب هذا الكتاب الذي الاجزاء المذكورة منه) (1).
وكان الغلاة يقولون بسقوط التكاليف، وترك الصلاة والصوم والحج (2)، كما ذُكر أيضاً أن الأصحاب كانوا يمتحنون الغلاة في أوقات الصلاة (3).
ومن ذلك ما روي أن محمد بن أورمة رحمه الله طعن عليه بالغلو، فدُس إليه من يفتك به ويقتله، فوجدوه يصلي أول الليل إلى آخره، فتوقفوا عنه! (4) إذ لا تجتمع الصلاة مع الغلو في شخص واحد.
والحاصل أن الغلو المهم في البحث عن وثاقة الراوي ليس اختلافنا في عقيدة ما مع الغالي، فإن كثيراً من المؤمنين قد يكون في عقيدتهم غلوّاً أو تقصيراً بما
ص: 509
لا يخرجهم عن الدين، وإحرازُ سلامة كل تفاصيل معتقدات الرواة أمر لا مدخلية له بتوثيق الراوي، ولم يقل به أحد! نعم يشير الرجاليون إلى بعض عقائد الراوي عادة كما يشيرون إلى صفاته الأخرى التي تعرّف شخصيته فإن ذلك نافع في دراسة مروياته.
روى الكليني رحمه الله (1) أن ابن أبي عمير رحمه الله كان يقول بأن الدنيا كلها للإمام علیه السلام على جهة الملك وأنه أولى بها من الذين في أيديهم، وكان هشام بن الحكم رحمه الله يقول بأن ما في أيدي الناس للناس إلا ما حكم الله به للإمام من الفيء والخمس والمغنم فذلك له، واختلفوا في ذلك وغضب ابن أبي عمير لذلك على هشام! وعلى هذا فإن ابن أبي عمير يرى هشاماً مقصّراً، ويرى هشام في مذهب ابن أبي عمير غلوّاً وارتفاعاً؛ فهل يلزم تضعيف أحدهما؟ المقطوع به أن اختلافهما رضي الله عنهما لا يُخل بوثاقتهما، وليس هذا هو الغلو المضعِّف للراوي، فإن ثبت أو لم يثبت فإنه لا يضر من جهة التوثيق والتضعيف (2).
والظاهر من كلمات المتقدمين أنهم لم يتفقوا في معنى الغلو (3).
قال العلامة المجلسي رحمه الله: اعلم أن الغلو في النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام إنما
ص: 510
يكون بالقول بألوهيتهم أو بكونهم شركاء الله تعالى في المعبودية أو في الخلق والرزق أو أن الله تعالى حل فيهم أو اتحد بهم، أو أنهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى أو بالقول في الأئمة: أنهم كانوا أنبياء أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي. والقول بكل منها إلحاد وكفر وخروج عن الدين كما دلت عليه الأدلة العقلية والآيات والأخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أن الأئمة علیهم السلام: تبرؤوا منهم وحكموا بكفرهم وأمروا بقتلهم، وإن قرع سمعك شيء من الأخبار الموهمة لشيء من ذلك فهي إما مأوّلة أو هي من مفتريات الغلاة. ولكن أفرط بعض المتكلمين والمحدثين في الغلو لقصورهم عن معرفة الأئمة علیهم السلام: وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتى قال بعضهم: من الغلو نفي السهو عنهم أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك، مع أنه قد ورد في أخبار كثيرة لا تقولوا فينا ربا وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وورد أن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، وورد: لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله وغير ذلك مما مر وسيأتي.
فلابد للمؤمن المتدين أن لا يبادر برد ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين
ص: 511
أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة كما مر في باب التسليم وغيره. (1)
وقال الشيخ الأعظم رحمه الله: وأمّا الغلاة، فلا إشكال في كفرهم؛ بناءً على تفسيرهم بمن يعتقد ربوبيّة أمير المؤمنين علیه السلام أو أحد الأئمة علیهم السلام، لا ما اصطلح عليه بعضٌ: من تجاوز الحدّ الذي هم عليه صلوات الله عليهم. ومن هذا القبيل ما يطعن القميّون في الرجل كثيراً ويرمونه بالغلوّ، ولذا حكى الصدوق قدس سره عن شيخه ابن الوليد قدس سره أن أوّل درجةٍ في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم. (2)
والحاصل أن للغلو عدة معانٍ لكن المهم في البحث معرفة الغالي إن كان يرى سقوط التكاليف (3)، فيترك الصلاة والصيام، فإنه حينئذٍ لا يتورع عن الكذب، فيخل ذلك بوثاقته.
وقد صرّح علماؤنا بفقاهة الرهني وعلمه بالأخبار، وبأن حديثه قريب من السلامة، كما ثبت أن له كتباً في الفقه والأحكام ما ينفي عنه الغلو المضعِف للوثاقة. فضلا عن كل ذلك فقد استظهر الشيخ النمازي حسنه وكماله وصحة عقيدته (4). ومن أدلة توثيقه ترحم الشيخ الصدوق عليه في علل الشرايع (5)،
ص: 512
وترضيه عليه (1)، والترضي على الراوي من أمارات توثيقه (2) ويبدو أن هذا كافٍ في قبول روايته في مثل ما نحن فيه على الأقل.
٭ أما بشر بن سليمان النخاس رحمه الله:
فقد قال الوحيد البهبهاني في التعليقة: (هو من ولد أبي أيّوب الأنصاريّ،
ص: 513
أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد علیهما السلام، هو الّذي أمره أبو الحسن علیه السلام بشراء أمّ القائم. وقال علیه السلام فيه: أنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة.) (1).
وقد نقل الشيخ المامقاني رحمه الله كلام الوحيد البهبهاني رحمه الله، ثم قال: (فالرجل حينئذ من الثقات، والعجب من إهمال الجماعة ذكره مع ما هو عليه من الرتبة) (2).
ثم إن دقة النقل في الخبر وما تقدم من قرائن تثبت انسجامه مع أخبار إمبراطورية الروم بما لا يتصور صدوره من كذاب ملفق للأخبار دليل على صدق الراوي ووثاقته، هذا مضافاً إلى تزكيته لنفسه فإنها -هنا - دليل جلالة قدره، خلافا للأصل الغالب في أن تزكية الراوي لنفسه لا اعتبار لها (3)، ففي مطاوي الخبر المفصل شواهد صحة التزكية، فإنه- فضلا عن دقة الخبر بكل حيثياته - قد ادعى أمراً مهمّاً، وهو قوله: (كان مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري علیه السلام فقهني في أمر الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه فاجتنبت بذلك موارد الشبهات، حتى كملت معرفتي فيه، فأحسنتُ الفرق فيما بين الحلال والحرام).
ثم قال في سرده للخبر أن الإمام الهادي علیه السلام أمره أن يتوجه إلى عمر بن
ص: 514
يزيد النخاس في سوق نخاسة بغداد، يقول له: (إن معي كتابا ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك. قال بشر بن سليمان النخاس: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن علیه السلام في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديداً، وقال لعمر بن يزيد النخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب...)
وموضع الشاهد من الخبر عبارتي: (فأنا وكيله في ابتياعها منك)، و(بعني من صاحب هذا الكتاب)، فإن المداقة في ألفاظ الوكالة شأن لنخبة المتفقهين في أحكام الحلال والحرام، وإن عامة المتشرعة - فضلا عن العوام- لا يدققون في مثل هذه الموارد على كون البيع بالأصالة أو الوكالة، وهذا الأسلوب لا يكون إلا من متفقه مدقق في الحلال والحرام، يتحرى الاحتياط ويتوخى موارد الشبهات.
فكان ما خرج من فلتات لسانه شاهداً على صدق مدعاه من فقاهة وامتثال لأوامر الإمام علیه السلام، لأن الراوي بطبيعة الحال حين ينقل حادثة بهذا الطول يقتصر على المواضع المهمة لا كل التفاصيل، وتدقيقه في هذا الموضع ملفت.
إنك إذا تأملت قضايا شراء جواري الأئمة علیهم السلام السابقة لهذه القضية، لا تجد فيها لفظة الوكالة، رغم أن الراوي يخرج وكيلا عن الإمام بأمره وبأمواله ليشتري جارية معينة للإمام علیه السلام، لكن الراوي يُغفِل هذه الجزئية.
قال الراوي في خبر شراء السيدة حميدة المصفاة علیها السلام حين بلوغه إلى النخاس: (فقلنا: بكم تبيعنا هذه المتماثلة؟ قال: بسبعين دينارا. قلنا: أحسِن. قال:
ص: 515
لا أنقص من سبعين دينارا. قلنا له: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها) (1). وأنت ترى هنا تعبير الراوي (تبيعنا) و (نشتريها)، ولم يشر الراوي إلى أن الشراء كان بالوكالة عن غيره، وتجد الراوي يقايض البائع على البيع بجهالة الثمن (2)، وهذا شائع في العرف راجع إلى عدم المداقة في المعاملات.
ولو أردنا تعداد الأمثلة لطال الكلام، ودونك السلوك العملي للمجتمع فإن هذه المداقة نادرة في المعاملات راجعة إلى تفقه وتوخٍّ للشبهات؛ وهنا تنبيه لطيف دقيق مناسب للمقام بأن لتأكيد الراوي على كونه وكيلا لوازم فقهية مهمة ذكرت في مطاوي بحوث الفقهاء (3)، وهي أنه هل يشترط في صحة البيع تعيين طرفي العقد (الموجِب والقابل)، وفي ذلك شِقّان؛ إما أن يكون لشخصها دخل في مراد الموجِب أو القابل أو لا يكون.
وذلك يختلف باختلاف العقود وظروفها، فإن ذلك مراد في عقود النكاح مثلا، كما يراد أيضاً إذا كان للبائع أو المشتري خصوصية لها مدخلية في المعاملة، كما نرى في أصحاب التجارات الخاصة فإنهم يتبايعون فيما بينهم بأقل مما يبيعون لغيرهم، وترى ذلك في ذوي الأرحام والعلق الاجتماعية فإنهم يبيعون للمقربين بأقل من غيرهم تقديراً للرحم أو أي علقة محترمة. فلو أن شخصاً أراد شراء
ص: 516
سلعة من ذي رحم فإنه قد يشتريها بنصف السعر إكراما للرحم، ولو جاءه غيره لباع بسعرها المتعارف، كما أن بعض التجار قد لا يبيع سلعة معينة- كخاتم أو مسبحة - إلا لمن يستحقها، فإذا جاء من لا يستحق لم يبع وإن كان في ذلك خسارة له، اعتزازاً بالسلعة، ونحوها من سلوكيات في التجارة أمثلتها لا تحصر كلها تعود إلى أن يكون لطرفي العقد مدخلية في البيع والشراء، وهنا يرد الكلام... أنه لو اشترى من له هذه الخصوصية لكن بالوكالة عن غيره، أي أن شخصاً اشترى من ابن عمه داراً بالوكالة عن غيره، فباعه ابن عمه بأدنى من الثمن المتعارف إكراما للرحم، ثم تبيّن لاحقا أن الرجل اشترى بالوكالة لا بالأصالة، فإن البيع هنا لا يخلو عن شبهة، لأن قصد البائع كان لذي الرحم لا لغيره.
هذا كله إذا لم يشهد الحال بوجود شرط ارتكازي: بأني أبيع بهذا الثمن لك لا لغيرك، فحينها تكون الشبهة أوضح في التشكيك بصحة البيع.
وفضلا عن شائبة الحرمة الوضعية واحتمال بطلان البيع فإن هذه المعاملة لا تخلو عن شائبة غش وحرمة تكليفية!
وبشر بن سليمان النخاس بصفته نخاساً يشتري من نخاس، فإن ثمن البيع قد يختلف عما لو اشترى بالنيابة عن رجل من الأشراف، فكان التنبيه على الشراء بالوكالة أوفق وأقرب للاحتياط، وهو تنبه والتفات دقيق لا يصدر إلا من محتاط متفقه في الأحكام لا من محتاطي العوام، وهو شاهد صدقه في مدعاه في مبدئ كلامه بأن الإمام علیه السلام فقهه في أمر الرقيق، وأنه كان يجتنب موارد الشبهات، وأنه قد أحسن الفرق فيما بين الحلال والحرام! وكل هذه الشواهد قرائن على وثاقِة
ص: 517
الرجل وصدقِه و اعتمادِ روايته رحمه الله.
ومن التزكيات الواردة بشأنه أيضاً ما ذكره محمد بن بحر الرهني حين رأى فيه سيماء العبادة حيث قال في وصفه أنه شيخ تقوّس منكباه، وثفنت جبهته وراحتاه. ووجود أثر العبادة وحسن الظاهر عليه أدعى لتصديقه فضلا عن اقترانها بأمارات الصدق في كلامه.
مضافاً إلى إن تهمة الكذب بدعواه التشيع بعيدة عنه، فلا مقتضي له في ظل ظروف العصر العباسي من مطاردة وملاحقة لأتباع أهل البيت علیهم السلام ما يورث الخوف في قلوبهم ويدعوهم إلى التخفي، فالحال يقتضي كتمان الانتماء إلى أهل البيت علیهم السلام وهو ما كان منه فعلا بادئ الأمر، ولم يبح بانتمائه إلا بعد وثوق واطمئنان، ثم حدّث بحديث مفصل يذكر فيها معلومات دقيقة في قصور الروم، وتفاصيل سريّة جرت داخل بيت الإمام علیه السلام، كلها مؤيدة ومعتضدة بروايات أخرى، وغيرها من المعلومات مما لا يمكن لكاذب أن يطلع عليها.
***
وحاصل الكلام وخلاصة البحث في سند الرواية أنه لا ينبغي الشك باعتبار الطريق إلى الرهني بعدة قرائن أهمها توافق الروايات وتطابقها- على اختلاف أسانيدها - ما يورث اليقين والعلم بأن الرهني حدّث بهذا الخبر.
وأما الرهني فيكفي في توثيقه ترضي الشيخ الصدوق عليه، وأما بشر النخاس فدليل وثاقته ما ثبت في مطاوي كلامه من صدق دعواه بفقاهته واجتنابه
ص: 518
موارد الشبهات بكيفية لا تصدر إلا من متفقه. مضافاً إلى ما أخبر به الرهني من ظهور سيماء الصالحين عليه، ومن إدعائه التمسك بأهل البيت علیهم السلام دون داع للكذب أو مصلحة تقتضي ذلك وإنما يعرّض نفسه للخطر بهذه الدعوة.
هذا فضلا عن بقية القرائن التي تثبت اعتبار سند الرواية ككلمات الرجاليين المتقدمة.
يضاف إلى ذلك كلام الشيخ الأعظم قدس سره في المكاسب في بحث الأرض المفتوحة عنوة بعد إيراده رواية عن خصال الشيخ الصدوق رحمه الله، قال قدس سره: وفي سند الرواية جماعة تخرجها عن حد الاعتبار إلا أن اعتماد القميين عليها وروايتهم لها مع ما عرف من حالهم لمن تتبعها من أنهم لا يثبتون في كتبهم رواية في راويها ضعف إلا بعد احتفافها بما يوجب الاعتماد عليها جابر لضعفها في الجملة. (1)
فضلا عن ذلك فإن اعتضاد الرواية بصحيحة محمد بن عبد الجبار بأن والدة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف من نسل قيصر الروم، وما حدّث به محمد بن علي بن حمزة من أن اسمها مليكة بما يوافق رواية الشيخ الصدوق، يخرجها عن كونها خبر آحاد إلى خبر مستفيض و مشهور (2) .
ص: 519
والإنصاف -رغم ذلك- أن الكلام قابل للنقض والإبرام، وتصحيح الرواية على بعض المباني لا يلزم صحتها على جميع المباني، وما كان قرينة على اعتبار سندها عند الشيخ الصافي قدس سره ليس شرطاً أن يكون قرينة على ذلك عند غيره من الفقهاء. وتعبير الشيخ عباس القمي رحمه الله عن سندي الصدوق والطوسي في هذا الخبر بأنها أسانيد معتبرة (1) وإن أورث القناعة عند البعض إلا أن ثمة مساحة للمناقشة فلا يحق مصادرة اجتهاد الطرف الآخر في مناقشة السند.
ولكن المتتبع يرى رغم ذلك أن هذا الخبر بالقياس إلى نظائره في أخبار ولادات الأئمة علیهم السلام مثل خبر: (بأبي ابن النوبية الطيبة)، ونحوه في أخبار السيرة، من أكثر الأخبار اعتباراً، فإن ضعف سنده غير واضح والأقرب صحته.
ثم إن اللازم بعد وضوح إمكانية تصحيح السند أنه لا يجوز الاستخفاف بالرواية، فعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرِ علیه السلام يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أَوْرَعُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ وَأَكْتَمُهُمْ (2) لِحَدِيثِنَا، وَإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالاً وَأَمْقَتَهُمْ لَلَّذِي إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَقْبَلْهُ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وَجَحَدَهُ وَكَفَّرَ مَنْ دَانَ بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الْحَدِيثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ وَإِلَيْنَا أُسْنِدَ فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجاً عَنْ وَلَايَتِنَا (3).
***
ص: 520
هذا كله؛ وإن كان قبول الرواية التاريخية لا يعتمد على صحة الأسانيد (1)
ص: 521
ووثاقة رجالها بالدرجة الأولى خلافا للأخبار الفقهية.
إن أدنى اشتباه في نقل الرواية الفقهية - حتى لو كان بزيادة حرف أو خطأ في ضبط وإعراب- قد يؤدي إلى تغيير المعنى ومنه الخطأ في الفتوى، ما يلزم بذلك مداقةً في رجال السند ومعرفة أحوالهم ومقدار ضبطهم وفقاهتهم، وهذا يختلف عن الخبر التاريخي فلا يستدعي هذه الدرجة من المداقة - ما لم يلزم منه استنباط حكم فقهي-، وعمل العرف على هذا في المجتمع، فإن الناس لا يدققون حرفيّاً في تلقي الحوادث والأخبار، بينما في تلقي الأحكام الشرعية (أو تفاصيل المراسيم
ص: 522
والقوانين المدنية) فإن الناس قد لا يقبلون نقل الثقاة - فضلا عن غيرهم - ما لم يحرزوا الضبط والدقة في نقل الفتوى وحيثيات الحكم الشرعي أو القانون المدني.
على ذلك فإنه يبنى على قبول الرواية التاريخية وفق عدة اعتبارات؛ منها ورودها في مصادر معتبرة وانسجامها مع بقية التاريخ عموماً، ما يؤدي إلى قبول الخبر إجمالا، ومع المحاكمة التدريجية للنص التاريخي يتبين مدى دقة تفاصيل الخبر، وإمكان قبول كل عباراته أو قبوله قبولا إجماليّاً، وهذا يختلف باختلاف النصوص وحيثياتها، فإنه يكثر في التاريخ قبول بعض جزئيات الرواية، وردّ جزئيات أخرى، بالضبط كالمتعارف في قبول الأخبار المنقولة في المجتمع مثل تفاصيل حادثة تفجير قبة العسكريين علیهما السلام؛ فإن السامع يقبل أولّاً العناوين الرئيسة والإجمالية (وقوع عملية تفجير أدت إلى انهيار القبة الشريفة)، ثم يتدرج في قبول التفاصيل الأخرى ( تعيين الجاني، وعدد الإصابات...).
على سبيل المثال ولتقريب الصورة في الأخبار التاريخية وإمكان قبول جزء من الخبر وردِّ بعضه - وفق الموازين - فإنه ذكر بعض المتعصبين أن يزيد لعنه الله لم یکن راضياً بقتل سيد الشهداء علیه السلام وأنه أكرم السبايا لما وردوا عليه، وإنما القتل كان باجتهاد من ابن زياد لعنه الله (1).
والحقيقة أن هذا الخبر ليس بكاذب تماماً، فإن ابن زياد بالفعل أمر بقتل الحسين علیه السلام ولكن بإذن من يزيد، وكذلك فإن يزيد بن معاوية أكرم السبايا لما
ص: 523
وردوا عليه بالفعل لكن ليس في بادئ الأمر، ولا لعدم رضاه بفعل ابن زياد، وإنما لأنه خاف الفتنة نهاية الأمر لكثرة المعترضين على فعله سواء داخل بيته من نسائه أو خارج بيته من الصحابة والوجهاء والأشراف وعامة الناس فإنه أظهر عدم رضاه بفعل ابن زیاد.
فإنك ترى أن الكاذب حين حاول تبرئة يزيد بن معاوية لم يأت بأخباره من العدم، بل جاء بأخبار صحيحة وحرّف فيها.
أي أن الخبر التاريخي -حتى المكذوب منه - يحمل في كثير من الأحيان جانباً صادقاً من التاريخ، وأن الأكاذيب لا تستحدث من العدم دائماً، وأن التعامل مع الخبر التاريخي يشمل مساحة رمادية لا بيضاء ولا سوداء، وإنما وسطية تحمل جانباً من الصدق وجانباً من الكذب.
هذا إذا كان راوي الخبر كاذباً أو غير ثقة أو متعصّباً معانداً، أما إذا كانت تهمة الكذب بعيدة عن راوي الخبر - حتى لو كان مجهولا- فإن احتمالية الصدق فيه تتزايد تدريجيّاً سيما إذا وثق بنقله الأكابر، فضلا عن انسجام ما رواه مع أحداث التاريخ، وانسجامه مع العقائد الصحيحة وغيرها من عناصر تدعو إلى تصديق الخبر.
ثم إن الخبر - حتى لو كان ضعيف السند- قد يحوي مضامين من الدقة والضبط ما لا يتصور فيه الكذب ويكون أدعى لقبول الخبر بنسبة أكبر.
هذا فضلا عما إذا وردت مؤيدات تاريخية للخبر بأسانيد صحاح تجعله
ص: 524
أكثر وثوقاً واعتبارا، ثم أضف إلى ذلك تلقي العلماء للخبر بالقبول وإيرادهم إياه في كتبهم اطمئنانا له.
كل ذلك (متن الرواية وورودها في المصادر المعتبرة وتلقي العلماء لها بالقبول، واعتبار سندها، ووجود المؤيدات لها في أخبارنا الصحاح والتاريخ الإنساني وتاريخ الحضارات عموما) مؤيدات وقرائن ستصب في النهاية إلى اعتماد رواية بشر النخاس بتفاصيلها التي رواها الشيخ الصدوق رحمه الله وكلها مؤكدات على صدق الراوي وضبطه، فإنه يصعب على الإنسان إذا لم يكن دقيقاً ضابطاً لأموره أن ينقل المعلومات بهذه التفاصيل والدقة.
هذا، وليس وراء عبادان قرية، ولا يردّ ما نقول منصف!
***
ص: 525
قال أبو جعفرٍ محمدُ بن عليّ بنِ بابَوَيْه القُمّي المعروفُ بالشيخ الصدوق رحمه الله (1) في كمال الدين: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِم النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْوَشَّاءِ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرِ الْقُمِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: وَرَدْتُ كَرْبَلَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمانِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: وَزُرْتُ قَبْرَ غَرِيبٍ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ انْكَفَأْتُ إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ (2) مُتَوَجِّهاً إِلَى مَقَابِرِ قُرَيْشٍ (3) فِي وَقْتِ قَدْ تَضَرَّمَتِ الْهَوَاجِرُ (4) وَتَوَقَّدَتِ السَّمَائِمُ (5)، فَلَمَّا وَصَلْتُ مِنْهَا إِلَى مَشْهَدِ الْكَاظِمِ علیه السلام وَاسْتَنْشَقْتُ نَسِيمَ تُرْبَتِهِ الْمَغْمُورَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ، الْمَحْفُوفَةِ بِحَدَائِقِ الْغُفْرَانِ، أَكْبَيْتُ عَلَيْهَا بِعَبَرَاتٍ مُتَقَاطِرَةِ
ص: 526
وَزَفَرَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَقَدْ حَجَبَ الدَّمْعُ طَرْفِي عَنِ النَّظَرِ، فَلَمَّا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَانْقَطَعَ النَّحِيبُ، فَتَحْتُ بَصَرِي فَإِذَا أَنَا بِشَيْخِ قَدِ انْحَنَى صُلْبُهُ (1) وَتَقَوَّسَ مَنْكِبَاهُ (2)، وَثَفِنَتْ (3) جَبْهَتُهُ وَرَاحَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَهُ عِنْدَ الْقَبْرِ: يَا ابْنَ أَخِي لَقَدْ نَالَ عَمُّكَ شَرَفاً بِمَا حَمَّلَهُ السَّيِّدَانِ مِنْ غَوَامِضِ الْغُيُوبِ وَشَرَائِفِ الْعُلُومِ الَّتِي لَمْ يَحْمِلْ مِثْلَهَا إِلَّا سَلْمَانُ (4)، وَقَدْ أَشْرَفَ عَمُّكَ عَلَى اسْتِكْمَالِ الْمُدَّةِ وَانْقِضَاءِ الْعُمُرِ وَلَيْسَ يَجِدُ
ص: 527
فِي أَهْل الْوَلَايَةِ رَجُلاً يُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ!
قُلْتُ: يَا نَفْسُ لَا يَزَالُ الْعَنَاءُ وَالْمَشَقَّةُ يَنَالَانِ مِنْكِ بإتْعَابيَ الْخُفَّ وَالْحَافِرَ (1) فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَرَعَ سَمْعِي مِنْ هَذَا الشَّيْخِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ جَسِيمٍ وَأَثَرِ عَظِيمٍ. فَقُلْتُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، وَمَنِ السَّيِّدَانِ؟ قَالَ: النَّجْمَانِ الْمُغَيَّبَانِ فِي الثَّرَى بِسُرَّ مَنْ رَأَى (2).
فَقُلْتُ: إِنِّي أُقْسِمُ بِالْمُوَالاةِ وَشَرَفِ مَحَلِّ هَذَيْنِ السَّيِّدَيْنِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالْوِرَاثَةِ إِنِّي خَاطِبٌ عِلْمَهُمَا وَطَالِبٌ آثَارَهُمَا وَبَاذِلٌ مِنْ نَفْسِيَ الْأَيْمَانَ المُؤَكَّدَةَ عَلَى حِفْظِ أَسْرَارِهِمَا (3).
قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَحْضِرْ مَا صَحِبَكَ مِنَ الْآثَارِ عَنْ نَقَلَةٍ أَخْبَارِهِمْ (4). فَلَمَّا فَتَّشَ الْكُتُبَ وَتَصَفَّحَ الرِّوَايَاتِ مِنْهَا. قَالَ: صَدَقْتَ (5)، أَنَا بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَاسُ مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ (6) أَحَدُ مَوَالِي أَبِي الْحَسَنِ وأَبِي
ص: 528
مُحَمَّدٍ علیهما السلام وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى.
قُلْتُ: فَأَكْرِمْ أَخَاكَ بِبَعْضٍ مَا شَاهَدْتَ مِنْ آثَارِهِمَا.
قَالَ: كَانَ مَوْلَانَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَسْكَرِيُّ علیه السلام فَقَّهَنِي فِي أَمْرِ الرَّقِيقِ (1) فَكُنْتُ لَا أَبْتَاعُ وَلَا أَبِيعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَاجْتَنَبْتُ بِذَلِكَ مَوَارِدَ الشُّبُهَاتِ، حَتَّى كَمَلَتْ مَعْرِفَتِي فِيهِ، فَأَحْسَنْتُ الْفَرْقَ فِيمَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ (2).
فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلِي بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَقَدْ مَضَى هَوَى مِنَ اللَّيْلِ (3) إِذْ قَرَعَ الْبَابَ قَارِعٌ، فَعَدَوْتُ مُسْرِعاً فَإِذَا أَنَا بِكَافُورٍ الْخَادِمِ (4) رَسُولِ مَوْلَانَا أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ علیهم السلام يَدْعُونِي إِلَيْهِ، فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ اِبْنَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ وَأَخْتَهُ حَكِيمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ.
فَلَمَّا جَلَسْتُ، قَالَ علیه السلام: يَا بشْرُ إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الْأَنْصَارِ وَهَذِهِ الْوَلَايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَ مُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَة تَسْبِقُ بِهَا شَأَوَ الشِّيعَةِ (5) فِي الْمُوَالَاةِ بِهَا، بِسِرِّ أُطْلِعُكَ عَلَيْهِ وَأُنْفِذُكَ فِي ابْتِيَاعِ
ص: 529
أَمَةٍ (1). فَكَتَبَ كِتَاباً مُلَطّفَاً (2) بِخَطٍّ رُومِيٍّ وَلُغَةِ رُومِيَّةِ وَطَبَعَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ وَأَخْرَجَ شِقّة صَفْرَاءَ (3) فِيهَا مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ دِينَاراً.
فَقَالَ: خُذْهَا وَتَوَجَّهْ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ وَاحْضُرْ مَعْبَرَ الْصّرَاة (4)ضَحْوَةَ كَذَا، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى جَانِبِكَ زَوَارِقُ السَّبَايَا وَبَرْزَنَ الْجَوَارِي مِنْهَا فَسَتَحْدِقُ بهمْ طَوَائِفُ الْمُبْتَاعِينَ مِنْ وُكَلَاءِ قُوَّادِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَشَرَاذِمُ مِنْ فِتْيَانِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرِفْ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى الْمُسَمَّى عُمَرَ بْنَ يَزِيدَ النَّخَّاسَ عَامَّةَ نَهَارِكَ، إِلَى أَنْ يُبْرِزَ
ص: 530
لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا: (1) لابِسَةً حَرِيرَتَيْنِ صَفِيقَتَيْنِ (2) تَمْتَنِعُ مِنَ السُّفُورِ (3) وَلَمْسِ الْمُعْتَرِضِ (4) وَ الاِنْقِيَادِ لِمَنْ يُحَاولُ لَمْسَهَا وَيَشْغَلُ نَظَرَهُ بِتَأَمُّلِ مَكَاشِفِهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ الرَّقِيقِ (5)، فَيَضْرِبُهَا النَّخَّاسُ فَتَصْرَخُ صَرْخَةً رُومِيَّةً، فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ وَا هَتْكَ سِتْرَاهْ (6).
فَيَقُولُ بَعْضُ الْمُبْتَاعِينَ عَلَيَّ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَادَنِي الْعَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً، فَتَقُولُ بِالْعَرَبِيَّةِ: لَوْ بَرَزْتَ فِي زِيِّ سُلَيْمَانَ وَ عَلَى مِثْلِ سَرِيرِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لِي فِيكَ رَغْبَةٌ فَاشْفَقْ عَلَى مَالِكَ! فَيَقُولُ اَلنَّخَّاسُ: فَمَا الْحِيلَةُ وَ لَا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ؟ فَتَقُولُ الْجَارِيَةُ: وَمَا الْعَجَلَةُ؟ وَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِيَارِ مُبْتَاعِ يَسْكُنُ قَلْبِي إِلَيْهِ وَإِلَى أَمَانَتِهِ وَ دِيَانَتِهِ.
ص: 531
فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسِ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ مَعِي كِتَاباً مُلْصَقاً (1) لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةِ رُومِيَّةٍ وَخَطَّ رُومِيٍّ وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ فَنَاوِلْهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أَخْلَاقَ صَاحِبِهِ فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ فَأَنَا وَكِيلُهُ (2) فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ.
قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَّاسُ: فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لِي مَوْلَايَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام فِي أَمْرِ الْجَارِيَةِ فَلَمَّا نَظَرَتْ فِي الْكِتَابِ بَكَتْ بُكَاءً شَدِيداً، وَقَالَتْ لِعُمَرَ بْن يَزِيدَ النَّخَّاسِ: بِعْنِي مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ (3) وَحَلَفَتْ بِالْمُحَرِّجَةِ الْمُغَلَّظَةِ (4) إِنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا مِنْهُ قَتَلَتْ نَفْسَهَا. فَمَازِلْتُ أُشَاحُّهُ (5) فِي ثَمَنِهَا حَتَّى اسْتَقَرَّ الأَمْرُ فِيهِ عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ أَصْحَبَنِيهِ مَوْلَايَ علیه السلام مِنَ الدَّنَانِيرِ فِي الشِّقَّةِ الصَّفْرَاءِ (6)، فَاسْتَوْفَاهُ مِنِّي وَتَسَلَّمْتُ مِنْهُ الْجَارِيَةَ ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً. وانْصَرَفْتُ بِهَا إلَى حُجْرَتِيَ
ص: 532
الَّتِي كُنْتُ آوِي إِلَيْهَا بِبَغْدَادَ. (1)
فَمَا أَخَذَهَا الْقَرَارُ حَتَّى أَخْرَجَتْ كتَابَ مَوْلَاهَا علیه السلام مِنْ جَيْبهَا وَهِيَ تَلْثِمُهُ وَتَضَعُهُ عَلَى خَدِّهَا وَتُطْبِقُهُ عَلَى جَفْنِهَا وَتَمْسَحُهُ عَلَى بَدَنِهَا. فَقُلْتُ تَعَجُّباً مِنْهَا: أَتَلْثِمِينَ كِتَاباً وَلَا تَعْرِفِينَ صَاحِبَهُ؟!
قَالَتْ: أَيُّهَا الْعَاجِزُ الضَّعِيفُ الْمَعْرِفَةِ بِمَحَلِّ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ! أَعِرْنِي سَمْعَكَ وَفَرِّغْ لِي قَلْبَكَ؛ أَنَا مُلَيْكَةُ (2) بِنْتُ يَشُوعَا بْنِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ (3) وَأَمِّي مِنْ وُلْدِ الْحَوَارِيِّينَ تُنْسَبُ إِلَى وَصِيِّ الْمَسِيحِ شَمْعُونَ (4).
ص: 533
أُنَبِّئُكَ الْعَجَبَ الْعَجِيبَ إِنَّ جَدِّي قَيْصَرَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَنِي مِنِ ابْنِ أَخِيهِ (1) وَأَنَا مِنْ بَنَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً (2).
فَجَمَعَ فِي قَصْرِهِ مِنْ نَسْلِ الْحَوَارِيِّينَ وَمِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَمِنْ ذَوِي الْأَخْطَارِ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَمَعَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَقُوَّادِ الْعَسَاكِرِ وَنُقَبَاءِ الْجُيُوشِ وَمُلُوكِ الْعَشَائِرِ (3) أَرْبَعَةَ آلَافٍ (4).
وَأَبْرَزَ مِنْ بَهْوِ (5) مُلْكِهِ عَرْشاً مَسُوعاً مِنْ أَصْنَافِ الْجَوَاهِرِ (6) إِلَى صَحْنِ الْقَصْرِ فَرَفَعَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ مِرْقَاةً (7) .
فَلَمَّا صَعِدَ ابْنُ أَخِيهِ وَأَحْدَقَتْ بِهِ الصُّلْبَانُ وَقَامَتِ الْأَسَاقِفَةُ عُكَّفاً وَنُشِرَتْ
ص: 534
أَسْفَارُ الْإِنْجِيلِ (1) تَسَافَلَتِ الصُّلْبَانُ (2) مِنَ الْأَعَالِي فَلَصِقَتْ بِالْأَرْضِ وَتَقَوَّضَتِ الْأَعْمِدَةُ (3) فَانْهَارَتْ إِلَى الْقَرَارِ (4) وَخَرَّ الصَّاعِدُ مِنَ الْعَرْشِ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، فَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُ الْأَسَاقِفَةِ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ (5).
فَقَالَ كَبِيرُهُمْ (6) لِجَدِّي: أَيُّهَا الْمَلِكُ اعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ النُّحُوسِ (7) الدَّالَّةِ عَلَى زَوَالِ هَذَا الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ وَالْمَذْهَبِ الْمِلكَانِيِ (8).
فَتَطَيَّرَ جَدِّى مِنْ ذَلِكَ تَطَیُّراً شَدِيداً، وَقَالَ لِلْأَسَاقِفَةِ: أَقِيمُوا هَذِهِ الْأَعْمِدَةَ
ص: 535
وَارْفَعُوا الصُّلْبَانَ (1) وَأَحْضِرُوا أَخَا هَذَا الْمُدْبَرِ الْعَاثِرِ الْمَنْكُوسِ جَدُّهُ (2) لِأُزَوِّجَ مِنْهُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ فَيُدْفَعَ نُحُوسُهُ عَنْكُمْ بِسُعُودِهِ (3).
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ حَدَثَ عَلَى الثَّانِي مَا حَدَثَ عَلَى الْأَوَّلِ! (4) وَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَقَامَ جَدِّي قَيْصَرُ مُغْتَمّاً وَدَخَلَ قَصْرَهُ (5)، وَأُرْخِيَتِ السُّتُورُ.
فَأُرِيتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ (6) كَأَنَّ الْمَسِيحَ وَالشَّمْعُونَ وَعِدَّةً مِنَ الْحَوَارِيِّینَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي قَصْرِ جَدِّي، وَنَصَبُوا فِيهِ مِنْبَراً يُبَارِي السَّمَاءَ عُلُوّاً وارْتِفَاعاً فِي الْمَوْضِعِ
ص: 536
الَّذِي كَانَ جَدِّي نَصَبَ فِيهِ عَرْشَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله و سلم مَعَ فِتْيَةٍ (1) وَعِدَّةٍ مِنْ بَنِيهِ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ الْمَسِيحُ فَيَعْتَنِقُهُ (2) .فَيَقُولُ (3) : يَا رُوحَ الله إِنِّي جِئْتُكَ خَاطِباً مِنْ وَصِيِّكَ شَمْعُونَ فَتَاتَهُ مُلَيْكَةَ لابْنِي هَذَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ ابن (4) صَاحِبِ هَذَا الْکِتَابِ.
فَنَظَرَ الْمَسِيحُ إِلَى شَمْعُونَ فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَتَاكَ الشَّرَفُ؛ فَصِلْ رَحِمَكَ بِرَحِمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه و آله و سلم. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
فَصَعِدَ ذَلكَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله و سلم وَزَوَّجَنِي (5) وَشَهِدَ الْمَسِيحُ علیه السلام وَشَهِدَ بَنُو مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم وَالْحَوَارِیُّونَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي أشْفَقْتُ أَنْ أَقُصَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى أَبِي وَجَدِّي مَخَافَةَ الْقَتْلِ، فَكُنْتُ أُسِرُّهَا فِي نَفْسِي وَلَا أُبْدِيهَا لَهُمْ.
وَضَرَبَ صَدْرِي بِمَحَبَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام حَتَّى امْتَنَعْتُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَضَعُفَتْ نَفْسِي وَدَقَّ شَخْصِي وَمَرِضْتُ مَرَضاً شَدِيداً، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَدَائِنِ الرُّومِ طَبِيبٌ إِلَّا أَحْضَرَهُ جَدِّي وَسَأَلَهُ عَنْ دَوَائِي.
فَلَمَّا بَرَّحَ بِهِ الْيَأسُ (6)، قَالَ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، فَهَلْ تَخْطُرُ بِبَالِكَ شَهْوَةٌ فَأُزَوِّدَكِهَا
ص: 537
في هَذِهِ الدُّنْيَا؟
فَقُلْتُ: يَا جَدِّي أَرَى أَبْوَابَ الْفَرَجِ عَلَيَّ مُغْلَقَةً فَلَوْ كَشَفْتَ الْعَذَابَ عَمَّنْ فِي سِجْنِكَ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَفَكَكْتَ عَنْهُمُ الْأَغْلَالَ وَتَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ وَمَنَنْتَهُمْ بِالْخَلَاصِ لَرَجَوْتُ أَنْ يَهَبَ الْمَسِيحُ وَأُمُّهُ (1) لِي عَافِيَةً وَشِفَاءً.
فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَدِّي (2) تَجَلَّدْتُ فِي إِظْهَارِ الصِّحَّةِ فِي بَدَنِي وَتَنَاوَلْتُ يَسِيراً مِنَ الطَّعَامِ فَسرَّ بِذَلِكَ جَدِّي، وَأَقْبَلَ عَلَى إِكْرَامِ الْأَسَارَى إِعْزَازِهِمْ. فَرَأَيْتُ أَيْضاً بَعْدَ أَرْبَعِ لَيَالٍ (3) كَأَنَّ سَيِّدَةَ النِّسَاءِ قَدْ زَارَتْنِي وَمَعَهَا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ (4) وَأَلْفُ وَصِيفَةٍ مِنْ وَصَائِفِ الْجِنَانِ، فَتَقُولُ لِي مَرْيَمُ: هَذِهِ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ أُمُّ زَوْجِكِ أَبِي مُحَمَّدِ علیه السلام، فَأَتَعَلَّقُ بِهَا وَأَبْكِي وَأَشْكُو إِلَيْهَا امْتِنَاعَ أَبِي مُحَمَّد علیه السلام مِنْ زِيَارَتِي.
فَقَالَتْ لي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ علیها السلام: إِنَّ ابْنِي أَبَا مُحَمَّدٍ لَا يَزُورُكِ وَأَنْتِ مُشْرِكَةٌ بالله
ص: 538
وَعَلَى مَذْهَبِ النَّصَارَى (1)، وَهَذِهِ أُخْتِي مَرْيَمُ تَبَرَّأَ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ دِينِكِ، فَإِنْ مِلْتِ إِلَى رِضَا الله عَزَّ وَجَلَّ وَرِضَا الْمَسِيحِ وَمَرْيَمَ عَنْكِ، وَزِيَارَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكِ، فَتَقُولِي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّه.
فَلَمَّا تَكَلَّمْتُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ (2) ضَمَّتْنِي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ إِلَى صَدْرِهَا فَطَیَّبَتْ لِي نَفْسِي، وَقَالَتِ: الْآنَ تَوَقَّعِي زِيَارَةَ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكِ، فَإِنِّي مُنْفِذَتهُ إِلَيْكِ. فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا أَقُولُ وَا شَوْقَاهْ إِلَى لِقَاءِ أَبِي مُحَمَّدٍ.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْقَابِلَةُ جَاءَنِي أَبُو مُحَمَّدِ علیه السلام فِي مَنَامِي فَرَأَيْتُهُ كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: جَفَوْتَنِي يَا حَبِيبِي بَعْدَ أَنْ شَغَلْتَ قَلْبِي بِجَوَامِعِ حُبِّكَ (3). قَالَ: مَا كَانَ تَأْخِيرِي
ص: 539
عَنْكِ إِلَّا لِشِرْكِكِ، وَإِذْ قَدْ أَسْلَمْتِ فَإِنِّي زَائِرُكِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ شَمْلَنَا فِي الْعَيَانِ. فَما قَطَعَ عَنِّي زِيَارَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
قَالَ بشْرٌ: فَقُلْتُ لَهَا وَكَيْفَ وَقَعْتِ فِي الْأَسْرِ؟
فَقَالَتْ أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدِ علیه السلام لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرِّبُ (1) جُيُوشاً إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا، ثُمَّ يَتْبَعُهُمْ (2) فَعَلَيْكِ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ مُتَنَكِّرَةً فِي زِيِّ الْخَدَمِ مَعَ عِدَّةِ مِنَ الْوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا، فَفَعَلْتُ. فَوَقَعَتْ عَلَيْنَا طَلَائِعُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَمَا شَاهَدْتَ.
وَمَا شَعَرَ أَحَدٌ بِي بِأَنِّي ابْنَةُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ سِوَاكَ وَذَلِكَ بإطلاعِي إِيَّاكَ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَأَلَنِي الشَّيْخُ الَّذِي وَقَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهْمِ الْغَنِيمَةِ عَنِ اسْمِي فَأَنْكَرْتُهُ، وَقُلْتُ: نَرْجِسُ (3) . فَقَالَ: اسْمُ الْجَوَارِي!
ص: 540
فَقُلْتُ: الْعَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَبِيٌّ! قَالَتْ: بَلَغَ مِنْ وُلُوعٍ جَدِّي وَحَمْلِهِ إِيَّايَ عَلَى تَعَلُّمِ الْآدَابِ (1) أَنْ أَوْعَزَ إِلَيَّ امْرَأَةَ تَرْجُمَانِ (2) لَهُ فِي الاِخْتِلَافِ إِلَيَّ (3)، فَكَانَتْ تَقْصِدُنِي صَبَاحاً وَمَسَاءً (4) وَتُفِيدُنِي الْعَرَبِيَّةَ حَتَّى اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا لِسَانِي وَاسْتَقَامَ (5).
قَالَ بِشْرٌ: فَلَمَّا انْكَفَأْتُ بِهَا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى (6)، دَخَلْت عَلَى مَوْلَانَا أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ علیه السلام. فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ أَرَاكِ اللهُ عِزَّ الْإِسْلَامِ وَذُلَّ النَّصْرَانِيَّةِ وَشَرَفَ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدِ صلی الله علیه و آله و سلم؟ قَالَتْ: كَيْفَ أَصِفُ لَكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه مَا أَنْتَ
ص: 541
أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي! (1)
قَالَ علیه السلام: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَكْرِمَكِ؛ فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكِ: عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَمْ بُشْرَى لَكِ فِيهَا شَرَفُ الْأَبَدِ؟ قَالَتْ علیها السلام: بَل الْبُشْرَى.
قَالَ علیه السلام: فَأَبْشِرِي بِوَلَدِ يَمْلِكُ الدُّنْيَا شَرْقاً وَغَرْباً وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً (2).
قَالَتْ: مِمَّنْ؟ قَالَ علیه السلام: مِمَّنْ خَطَبَكِ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم لَهُ مِنْ لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرٍ كَذَا مِنْ سَنَةٍ كَذَا بِالرُّومِيَّةِ! قَالَتْ: مِنَ الْمَسِيحِ وَوَصِيِّهِ! قَالَ علیه السلام: فَمِمَّنْ زَوَّجَكِ الْمَسِيحُ وَوَصِيُّهُ؟ قَالَتْ: مِنِ ابْنِكَ أَبِي مُحَمَّدِ علیه السلام.
قَالَ علیه السلام: فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ قَالَتْ: وَهَلْ خَلَوْتُ لَيْلَةً مِنْ زِيَارَتِهِ إِيَّايَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَسْلَمْتُ فِيهَا عَلَى يَدِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ أُمِّهِ؟
فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام: يَا كَافُورُ ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ علیه السلام لَهَا: هَا هِيَهْ (3). فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بهَا كَثِيراً.
ص: 542
فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ الله أَخْرِجِيهَا إِلَى مَنْزِلِكِ وَعَلِّمِيهَا الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ (1)؛ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ الْقَائِمِ علیه السلام (2) .
***
ص: 543
خاتمة القول
قرائن أخرى - حياة السيدة نرجس علیها السلام بعد الإمام العسكري
فضائلها ومناقبها - ختام المطاف
کلمات موجزة في نهاية المطاف
ولِمن سِوَى عَيْنيك يا ابنَ مَليكةٍ ٭٭٭ تُفنى النّفوسُ حرامُها وحلالُها
وجَميلةٌ لُقياكَ غيرَ مُسالمٍ ٭٭٭ والخيلُ يَعثرُ بالقنا تِصهالُها
هو مِن دمٍ أو مِن دمٍ قسطالُها ٭٭٭ ما عاد يُجدي في العِدى إمهالُها
***
ص: 544
كان السعي في هذا البحث إلى إثبات رجوع السيدة نرجس علیها السلام إلى قيصر الروم، ولكننا لم نستوفِ البحث وإنما اكتفينا بهذا المقدار إذ وجدنا فيه الكفاية، وإلا فهناك قرائن أخرى من المناسب السعي في التحقق من نتائجها.
مثلا: ما ذكره الخصيبي في الهداية الكبرى بهذا النص: (وجعفر الكذاب هو جعفر بن علي بن محمد بن على بن موسى بن جعفر الصادق، وهو المعروف بزِقِّ خمرٍ، وهو الذي سعى بجارية أخيه الحسن بن علي إلى السلطان وقال له: إن أخي قد توفي ولم يكن له ولد، وإنما خلّف حملاً في بطن جاريته نرجس، وأخذت هي وورداس الكتابية جاريتا الحسن بن علي من داره في سوق العطش، وحبستا سنتين فلم يصحّ على نرجس ما ادعى عليها ولا غيرها فأطلقتا) (1).
وبغض النظر عن اعتبار الكتاب ورواياته، فإن اسم ورداس هو الأقرب إلى باراداس حسب طريقة القدماء في التعريب؛ لذلك فإن هذا الخبر- على ما فيه - يحمل ملاكا كملاك التواتر؛ إذ يمتنع عادة التواطئ على مثل هذه الكذبة.
ومن المهم التنبيه على أن جعفراً بن الإمام الهادي علیه السلام من البعيد جدّاً أن يعرف الجواري بعينهن، والتفريق بين نرجس وورداس قد يرجع إلى اشتباهه في الأسماء، فإن محض وجود هذا الاسم الغريب في بيت الإمام علیه السلام أمر ملفت.
كما تعرض بعض الباحثين إلى جانب مهم في هذه الرواية، وهو أن هذا
ص: 545
الاسم ليس عربيّاً وإنما هو اسم بيزنطي ذو جذور أرمنية، ثم ساق الشواهد على أن من عادة البيزنطيين تلقيب الشخص باسم جده إذا كان الجد- القريب أو البعيد - معروفاً وأنه من الطبيعي أن فتاة تلّقب باسم جدها لكونه من عليّة القوم. (1)
وقد خطر بالبال أمر آخر وهو أن في الرواية تصحيفاً أو اشتباهاً في النسخ وأن المقصود نرجس ابنة ورداس الكتابية، وهذا ما دعاني إلى البحث في مخطوطات الهداية الكبرى، لكن تبين أن بعض المخطوطات خلت من هذا الخبر أصلا واحتوته مخطوطات أخرى، ولا أدري إن كان الخبر من إيراد الخصيبي أو ألحقه غيره بالكتاب، وهو في كل الأحوال شاهد ومؤيد مهم، ولابد من التحقيق في مصدر الخبر للوصول إلى نتائج أكثر اعتبار.
***
ص: 546
قال المرجع الراحل الشيخ لطف الله الصافي قدس سره في منتخب الأثر:
اعلم أنّه اختلفت الروايات في نهاية حال أمّ الإمام علیه السلام، ففي بعضها أنّها حصلت بعد وفاة الإمام أبي محمّد العسكري علیه السلام في دار محمّد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس بن مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام (وصفوه بأنّه ثقة عين في الحديث، صحيح الاعتقاد، له كتاب)، وفي بعضها أنّها طلبت من الإمام أبي محمّد علیه السلام أن يدعو لها بالموت قبل وفاته علیه السلام فاستجيب دعاؤه، وفي بعضها أنّها كانت حاضرة عند وفاة الإمام علیه السلام (و هو هذا الخبر) (1)، وفي بعضها أنّها هاجرت إلى مكّة المكرّمة في حياة الإمام عليه السلام مع ابنه الحجّة علیهما السلام، بأمر الإمام أبي محمّد علیه السلام.
وكما ترى أكثر هذه الروايات قد دلّ على حياتها بعد الإمام علیه السلام، والظاهر الأرجح حياتها بعد وفاة الإمام أبي محمّد علیه السلام، والشاهد على ذلك وقوع قبرها خلف قبر الإمام أبي محمّد علیه السلام.
وعلى كلّ حال لا يضرّ مثل هذه الاختلافات ما نحن بصدده، فإنّ اعتمادنا في هذا الكتاب (2) على ما تواترت به الأحاديث أو استفاضت به في الأقلّ
ص: 547
دون أخبار الآحاد، فالأخبار يؤيّد بعضها بعضا فيما اتّفقت عليه. ولا يخفى عليك أنّ مثل هذه الاختلافات الفرعيّة قد وقعت في تواريخ السائرين من الأئمّة والأنبياء ورجالات التاريخ، وكيفيات وقوع الحوادث المهمّة المقطوع بأصلها عند الكلّ دون أن يصير ذلك سببا للشكّ في أصل وجود الأشخاص، وأحوالهم المعلومة، والحوادث التاريخيّة المشهورة.
هذا مضافا إلى أنّ الظروف والأحوال الّتي كان عصر الإمام أبي محمّد علیه السلام إلى بعد وفاته محفوفا بها ربّما تقتضي خفاء مثل هذه الامور الجزئيّة . (1)
انتهى كلامه نور الله ضريحه في جوار سيد الشهداء علیه السلام، وفي كلامه قدس سره التمام والكفاية.
وقد ورد في زيارته المباركة: اَلسَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلى بَعْلِكِ وَوَلَدِكِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلى رُوحِكِ وَبَدَنِكِ الطَّاهِرِ، اَشْهَدُ اَنَّكِ أَحْسَنْتِ الْكَفالَةَ، وأدَّيْتِ الأمانَةَ، وَاجْتَهَدْتِ في مَرْضاتِ اللهِ، وَصَبَرْتِ في ذاتِ الله، وَحَفِظْتِ سِرَّ اللهِ، وَحَمَلْتِ وَلِيَّ اللهِ، وَبالَغْتِ في حِفْظِ حُجَّةِ اللهِ ...
وهذه العبارات في الزيارة تؤيد بقاءها بعد شهادة الإمام العسكري علیه السلام وتحمّلها جملة من المصائب والمحن، سيما مع ما ورد من أن دار الإمام العسكري علیه السلام كبست بعد شهادته علیه السلام وقد غارت الخيل على الدار وانتهب ما
ص: 548
فيها (1)، وما ذكره النجاشي في ترجمة محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب علیه السلام أن والدة صاحب الأمر علیه السلام حصلت في داره بعد وفاة الإمام الحسن العسكري علیه السلام (2)، وما ورد من أن المعتمد لعنه الله وجّه بخدمه فقبضوا عليها علیها السلام بعد شهادة الإمام العسكري علیه السلام وطالبوها بولدها أرواحنا فداه، فادعت حبلا بها لتغطي حال الصبي (3)، وأنه لعنه الله جعل نساءه ونساء أخيه الموفق العباسي ونساء القاضي أبي الشوارب ونساء خدمهم يتعاهدن أمرها ليستبين إن كان فيها أثر حمل (4).
***
ص: 549
وردت في فضلها روايات كثيرة متفرقة في الكتب، لعل الزيارة المباركة جمعت كثيراً من الأوصاف التي تدل على فضلها في نفسها وفي حسبها ونسبها، منها أنها من نسل الحواريين، وأنها شبيهة أم موسى، وأنها مستودعٌ للأسرار.
ووصفت في الزيارة بأنها تقية نقية وصديقة مرضية، وفي الزيارة إشارة إلى تضحيتها، من رغبتها في صلة أبناء رسول الله وما استلزمه ذلك من سبي وتحمل المتاعب حتى تصل إلى دار الإمام علیه السلام وتؤدي وظيفتها، إلى تضحيتها بعد وفاة الإمام علیه السلام في حفظ حجة الله عجل الله تعالی فرجه الشریف وما لزمه ذلك من ملاحقة وسجن.
وهذه المعاني واردة متفرقة في الروايات، كما أن من فضائلها ما ورد في خبر ولادتها من إجلال السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد علیه السلام وتعظيمها لها (1)، ومخاطبتها لها بالسيادة (2)، ووصفها إياها بأنها سيدة نساء هذا العالم (3)، وأن الإمام العسكري علیه السلام أمر السيدة حكيمة علیها السلام ساعة ولادة مولانا بقية الله عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد أن صلى على آبائه الطاهرين أن تأخذه ليسلم على أمه (4).
ص: 550
ووُصفت سلام الله عليها في جملة من الروايات بأنها سيدة الإماء (1) وخيرة الإماء (2)؛ وللتبرك ننقل رواية وردت عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي المجتبى علیه السلام، وهي رواية واردة في سياق اعتراض بعض أصحابه على مصالحته لمعاوية، فيجيبهم الإمام الحسن علیه السلام ويذكر فضل صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف ويشير إلى والدته علیها السلام بأنها سيدة الإماء، والرواية هي:
عَنْ أَبي سَعِيدٍ عَقِيصَا (3) قَال: لما صالح الحسنُ علیه السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته فقال علیه السلام: ويحكم ما تدرون ما عملتُ؟ واللهِ الذي عملتُ خيرٌ لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أنني إمامكم مفترض الطاعة عليكم، وأحدُ سيدي شبابِ أهل الجنة بنص رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم علي؟ قالوا: بلى!
قال علیه السلام: أما علمتم أن الخضر علیه السلام لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران علیه السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمةً وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منا أحدٌ إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي روح الله عيسى ابن مريم علیه السلام
ص: 551
خلفه؟ فإن الله عزوجل لا يخفي ولادته ويُغيّب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج؛ ذلك التاسع من وُلد أخي الحسين علیه السلام، ابن سيدة الإماء، يطيل الله عُمرَه في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليُعلم أن الله على كل شيء قدير. (1)
والظاهر أن هذه الفضيلة ثابتة لها علیها السلام كما هي ثابتة لغيرها من أمهات الأئمة علیهم السلام، أي أنها خير الإماء بالإضافة إلى نساء زمانها. فقد ورد هذا المعنى في والدة الإمام الجواد علیه السلام (2)، ووالدة الإمام الكاظم علیه السلام (3)، وقريب منه ما روي في والدة الإمام زين العابدين علیه السلام (4). وبتعبير آخر فإن هذه الفضيلة متفرعة على كبرى كلية من أن أمهات الأئمة خير نساء زمانهن من النساء اللاتي يصح زواج الإمام المعصوم علیه السلام منهن.
***
ص: 552
إنه قد ثبت بما لا مزيد عليه انتساب السيدة نرجس علیها السلام إلى قيصر الروم، وحيث كان الغرض من البحث استيفاء هذا المطلب فقد أوجزنا في بيان سائر المطالب ولم نفصل، وكان من المناسب التفصيل في بيان فضائلها وشرح عبارات زياراتها علیهما السلام وذكر شيء من كرامتها، وقد عاق عن ذلك القصور وضيق المقام، فنسأل الله التوفيق لكل خير.
ومما ينبغي التذكير به في نهاية المطاف ضرورة حفظ التراث وعدم الاستخفاف به فإنه مما بذل علماؤنا الجهد لحفظه وتنقيحه، فنقلوا الثابت واهتموا به، حتى أوصلوا لنا الموروث نقيّاً عذبا صافياً، ولسنا اليوم ندافع عن الرواية الرسمية لقضية أم الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف من زمن الصدوق إلى اليوم فحسب، بل نخوض الصراع في خرزة من مسبحة، إذا سقطت وانحلت المسبحة لم يبق شيء! ومن السذاجة التعامل مع تضعيف صغريات الموروث الشيعي على أنها آراء تاريخية فحسب، وإنما لازمها إبطال كبرى كلية في نقاء الموروث الشيعي ونقاء المذهب.
أي أن نتاج هذه المعركة - التي هذا البحث أحد فصولها- إما تشكيك المؤمنين بكل الموروث الديني وبناء حالة رائجة من الشك، أو تثبيت قلوب المؤمنين!
ليس الباب مفتوحاً على مصراعيه للنقد والمناقشة حتى يؤول الأمر إلى
ص: 553
إرباك الساحة الإيمانية عقائديّاً وإن كان بغطاء تاريخي! إنها ليست جزئية كسر ضلع الزهراء علیها السلام، وتحديد موطن السيدة نرجس علیها السلام، ووصول السبايا إلى كربلاء يوم الأربعين أو بعده؛ وإنما هي كليات جور الغاصبين وتثبيت أحقية الأمير علیه السلام، وأصل ثبوت ولادة الصاحب عجل الله تعالی فرجه الشریف بنسب معروف واضح لا يعتريه شك، وتمام مظلومية سيد الشهداء علیه السلام والتفجع على مصابه.
وليست القضية مناقشة علمية في معذّرية (1) التعبد بجميع الأديان، وعدم ثبوت حد الردة، وإنما المسألة دعوة إلى الإلحاد واللادينية، والقبول بالتحرر و الإباحية والشذوذ دون حساب ولا عقاب فإذا كان منكر وجود الله لا يستحق عقاباً في الدنيا فمن عساه يستحق إذن؟!
والمسألة أيضا ليست في رجحان قراءة دعاء الافتتاح في شهر رمضان المبارك، والمواظبة على أدعية شهر رجب، وإنما هي في محاربة البرنامج العبادي والسلوك المقرّب إلى الله بما أمر الشرع سواء استحباباً أو رجاء؛ ما يخلق حالة غلظة وبعد عن الله وعن التدين وإن كان باسم العلم.
ولیست هي مناقشة في عدم الحاجة إلى التقليد في زمن الغيبة ووجوب التفقه في الدين عيناً وإنما هي معركة حول اتصال علماء المذهب وعقائده من زمن المعصوم إلى اليوم أو انقطاع الطائفة قرونا متطاولة وضلالها طوال هذه الفترات؛ وهل الطائفة على معتقد واحد من زمن سلمان وأبي ذر ، وميثم التمار وأبي ثمامة
ص: 554
الصائدي، وأبي بصير ومحمد بن مسلم، وابن أبي عمير وصفوان، وزكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن، وأبي هاشم الجعفري وعثمان بن سعيد العمري، والشيخ الكليني والصدوق والمفيد والطوسي، والمحقق الحلي والعلّامة، والشهيدين، والشيخ الأعظم، والآخوند والميرزا النائيني والسيد اليزدي رَحِمَهُمُ اللهُ إلى مراجعنا اليوم؟ أهذا دينٌ واحدٌ، أم نحن كغيرنا الذين مر مذهبهم بمعتقدات وتغيرات فلا هم اليوم هم بعقيدتهم الأمس، ولا هم هنا بعقيدتهم هناك، ولا دينهم كدينهم؟! نحن مثلهم؟ أم ديننا ثابت على مر العصور وما فقهاؤنا إلا امتداد لرواة الحديث؟
هذه المعارك الحقيقية ولا يستخفنكم داعية وعي تفجر الجهل من جوانبه!
وما الوعي واليقظة إلا تثبيت قلوب المؤمنين ورد الضلالات والجهالات، قال علیه السلام: الرَّاوِيَةُ حَدِيثِنَا يَشُدُّ بِهِ قُلُوبَ شِيعَتِنَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ عَابِدِ. (1)
***
ص: 555
الملاحق
الصور والوثائق - مصادر الكتاب - فهرس المحتويات
الوثائق والمصادر والفهارس
أحلنا في أكثر من مورد أثناء البحث إلى الوثائق الملحقة، وسندرجها هنا ونشير إلى مصادرها، والوثائق عبارة عن: رسومات مقتبسة من مصادر مهمة في التاريخ البيزنطي، وصور أخرى تمت الإشارة إليها في مطاوي البحث، وبعض الخرائط المهمة، وبعض نسخ المخطوطات.
ثم سندرج قائمة المصادر التي اعتمدنا عليها، علماً أننا حاولنا قدر الإمكان الاكتفاء بالمصادر العربية فإن لم نجد المعلومة في مصدر عربي أشرنا إلى مصدر أجنبي.
ویليه فهرس المحتويات.
***
ص: 556
الصورة
نسخة من مخطوطة كمال الدين وتمام النعمة في مكتبة السيد الحكيم قدس سره في النجف الأشرف، وليس فيها عبارة (ابن أمة سوداء).
ص: 557
الصورة
نسخة من مخطوطة كتاب تاج الأئمة للشيخ الطبرسي رحمه الله ذكر فيها بأن والدة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف هي السيدة نرجس علیها السلام ابنة القيصر وأن من أسمائها مليكة.
ص: 558
سيدة الإماء علیها السلام قراءة جديدة في هويتها وسيرتها - الشيخ أحمد سلمان ...3
مقدمة ... 5
تسميتها علیها السلام ... 7
هل هذه التسميات ثابتة؟ ... 8
هل أسماء أم ألقاب؟ ... 14
عفة البيت العلوي ... 15
التعمية المتعمّدة ... 16
عجباً لكم ... 18
خاتمة ... 20
قصتها علیها السلام ... 22
وقفة سندية مع الخبر ... 23
وقفة مع متن الخبر ... 34
الحكم النهائي على الرواية ... 40
دفع وهم ... 42
أصلها علیها السلام/ أنّها علیها السلام رومية ... 45
أنّها علیها السلام سنديّة ... 50
أنّها علیها السلام مغربية ... 53
أنّها علیها السلام نوبية ... 54
النتيجة النهائية ... 65
ص: 559
ولدت في بيتها ... 74
قرائن أخرى ... 76
واكتملت الصورة ... 77
مقامها عند أهل البيت علیهم السلام / ما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... 79
ما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام ... 80
ما ورد عن الإمام الحسن علیه السلام / ما ورد عن الإمام الباقر علیه السلام ... 81
ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام ... 82
ما ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام ... 83
ما ورد عن الإمام الرضا علیه السلام ... 84
ما ورد عن حكيمة بنت الجواد علیها السلام ... 85
زبدة المقال ... 86
وفاتها / وفاتها في حياة الإمام العسكري علیه السلام ... 89
بقاؤها بعد وفاة الإمام العسكري علیه السلام ... 91
زبدة المقال ... 93
جهادها علیها السلام / شهادة الإمام العسكري علیه السلام ... 95
خطة الانقلاب العباسية ... 97
المواجهة مع الكذّاب ... 100
فترة التخفّي ... 102
إلى السجن العباسي! ... 106
لماذا هذا السجن؟ ... 108
نتائج البحث ... 117
ص: 560
قراءة نقدية لكتاب سيدة الإماء - محمد الشيخ حسن آل بيريك ... 119
تمهید ... 121
تنبيهات ... 125
القسم الأول: مدخل / عملية النقد للتاريخ طريقتين / الأولى: نقد ذوقي ... 127
الثانية: نقد علمي ... 127
الأمر الأول: ماهية المنهج العلمي للنقد ... 129
الأمر الثاني: ما يحتاج إليه في النقد العلمي الصحيح ... 129
أهلية الكاتب للتعامل مع القضايا التاريخية، ابن خلكان أنموذجاً ... 131
القرينة الأولى ... 131
القرينة الثانية ... 138
القسم الثاني: مناقشة الملاحظات السندية ... 141
النقطة الأولى في ذكر المصادر التي ذكرت رواية قدومها من بلاد الروم ... 141
الأمر الأول: في ذكر الأسناد من المصادر الثلاثة الأولى ... 141
الأمر الثاني: في ذكر نص الرواية مع الفروقات بين المصادر الثلاثة ... 146
النقطة الثانية: في بيان الملاحظات السندية والتعليق عليها ... 155
الملاحظة الأولى: الضعف والإرسال في أسناد الرواية ... 155
الملاحظة الثانية: مجهولية بشر، ولا عقب لأبي أيوب الأنصاري ... 166
الوثيقة الأولى: كتاب الاستبصار في نسبة الصحابة من الأنصار ... 171
الوثيقة الثانية: الرحلة العلية إلى منطقة توات ... 172
الوثيقة الثالثة: تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد ... 172
الملاحظة الثالثة: محمد بن بحر، موصوف بالغلو وأنه من الحشوية ... 174
ص: 561
المقالة الأولى: مقالة الوحيد البهبهاني ... 186
المقالة الثانية: مقالة السيد محمد رضا السيستانی - دامت برکاته - ... 187
القسم الثالث: مناقشة الملاحظات المتنية ... 201
النقطة الأولى: مقدمات بين يدي البحث ... 201
المقدمة الأولى: ضرورة التتبع الجيد للتاريخ ... 201
المقدمة الثانية: تحديد الحقبة المناسبة للبحث ... 202
النقطة الثانية: في بيان الملاحظات المتنية والتعليق عليها ... 203
الملاحظة الأولى: عدم وجود إمبراطور تتناسب معه الأوصاف ... 203
الملاحظة الثانية: عدم وجود حرب كما في الرواية، وكانت فترة سلام ... 212
الملاحظة الثالثة: معارضة رواية الرهني بروايات أخرى ... 220
المناقشة ... 221
النقاش في المقدمة الثالثة / النقاش في المقدمة الأولى ... 221
القسم الرابع: حكم الكاتب النهائي على رواية الرهني / الخلاصة ... 226
التعليق / الأمر الأول: اندفاع المشاكل السندية والمتنية ... 227
الأمر الثاني: التقارب مع أسطورة (شيرين و فرهاد) ... 227
الشيء الأول: في عرض موجز لأسطورة (شيرين و فرهاد) ... 227
الشيء الثاني: في التعليق حول تقارب الأسطورة مع الرواية من عدمه ... 231
الشيء الثالث: الثنائية بين الأسطورة والتاريخ ... 233
الفرق بين الأسطورة والخرافة ... 233
استفادة التاريخ من الأسطورة ... 234
ص: 562
الملحمة اليونانية الأشهر (ديجينيس اكريتيس) ... 235
إشارات ... 237
الأمر الثالث: الشبه مع وصول (شاه زنان بنت يزدجرد) للإمام الحسين ... 240
رواية العلامة المجلسي في بحار الأنوار ... 241
وهمٌ في دفْع الوهم ... 246
التعليق ... 247
القسم الخامس: مناقشة الكاتب فيما تبناه من أصل أم الإمام الحجة ... 259
المحطة الأولى: في استعراض رأي الكاتب في البناء على أن أصلها نوبية ... 260
التعليق ... 262
الروايات المؤيدة التي ادعاها الكاتب / الرواية الأولى ... 271
الرواية الثانية: ... 274
الرواية الثالثة: ... 276
المحطة الثانية: رأي الكاتب في أنها وُلدت في بيت السيدة حكيمة ... 279
المرحلة الأولى: إثبات كون السيدة نرجس مِلكاً للسيدة حكيمة ... 279
الرواية الأولى ... 279
الرواية الثانية / الرواية الثالثة ... 280
الرواية الرابعة / التعليق ... 281
المرحلة الثانية: إثبات أن السيدة نرجس وُلدت في بيت السيدة حكيمة ... 286
التعليق ... 287
المحطة الثالثة: في مناقشة الكاتب في رد رواية الفضل بن شاذان ... 291
الخطوة الأولى: استعراض روايتي الفضل بن شاذان ... 292
ص: 563
الرواية الأولى / الرواية الثانية ... 293
الخطوة الثانية: بيان موانع الكاتب من اعتماد رواية الفضل بن شاذان ... 294
التعليق ... 295
المحطة الرابعة: مناقشة القرائن الأخرى التي جعلها الكاتب مرجحة ... 301
التعليق ... 301
القسم السادس: استفهامات ... 306
الاستفهام الأول ... 306
الاستفهام الثاني ... 308
الاستفهام الثالث ... 312
الاستفهام الرابع ... 313
الاستفهام الخامس ... 320
الخاتمة ... 322
المراجع الإنجليزية ... 324
مليكة الروم - حسن يوسف بن نخي ... 325
الفصل الأول: اللوازم الفاسدة - ثمرات مهمة / أهمية البحث ... 327
اللوازم الفاسدة ... 328
مهدي الأديان أو المخلص ... 337
النقد التاريخي للأدب البيزنطي ... 339
الفصل الثاني: القول الثابت ابنة قيصر الروم / الروايات الواردة ... 344
القول الثابت ابن قيصر الروم ... 345
أسماؤها الرومية تؤكّد أصلها ... 352
احتمالات لا اعتبار لها ... 356
ص: 564
الإمام الجواد ابن النوبية الطيبة الفم ... 360
الظروف الحرجة والتقية ... 379
الفصل الثالث / الرواية الشيعية والتاريخ البيزنطي ... 395
شمعون الصفا ... 406
الأسرة الحاكمة في القرن التاسع ... 420
الألقاب والمناصب الرسمية ... 424
القيصر باراداس ... 432
الصراعات الداخلية والخارجية ... 447
الزفاف المنحوس ... 452
الزلزال وخطبة الأسقف الأعظم ... 465
العفو عن أسارى المسلمين ... 472
حرب المسلمين والروم ... 485
الفصل الرابع / التعليق على رواية الشيخ الصدوق ... 496
اعتبار الرواية ... 497
متن الرواية ... 526
خاتمة القول / كلمات موجزة في نهاية المطاف ... 544
قرائن أخرى ... 545
حياة السيدة نرجس علیها السلام بعد الإمام العسكري علیه السلام ... 547
فضائلها ومناقبها علیها السلام ... 550
ختام المطاف ... 553
الملاحق/ الوثائق والمصادر ... 556
الفهرس ... 559
ص: 565
السیدة نرجس (عليها السلام)
في الكتب والمُصَنَفَاتِ
الجزء الثالث
إعْدَادَ وَتَنظيم
السيد محمد السيد حسين الحكيم
إشراف وتقديم
مرکز الدراسات التخصصية الأمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
محرر الرقمي: محمد مبین روزبهاني
ص: 1
مرکز الدراسات التخصصية الأمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
اسم الكتاب: ... لسيدة نرجس في الكتب والمصنفات / ج 3
إعداد وتنظيم: ... السيد محمد السيد حسين الحكيم
اشراف وتقديم: ... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
رقم الإصدار : ... 299
الطبعة: ... الأولى 1445ه_
عدد النسخ: ... طبعة محدودة
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق - النجف الأشرف
هاتف: 07809744474
07816282226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 2
ص: 3
* الكتاب : السيدة نرجس عليها السلام مدرسة الأجيال
* المؤلف : السيد مرتضى الشيرازي
* الناشر : مركز الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) للتحقيق والنشر
* الطبعة : الأولى 1418 ه_ 1997م. بيروت - لبنان
* مكتبة جنان الغدير الكويت بنيد القار - ت : 2560442 - ص.ب 11389
ص: 4
ص: 5
*المستودعة أسرار رب العالمين(1)
تستوقفنا في زيارة السيدة نرجس (عليها السلام)، عبارة ذات دلالة عميقة جدا، عندما نقرأ (السلام على والدة الإمام والمودعة أسرار الملك العلام)(2) و: (المستودعة أسرار رب العالمين)(3).
ويا لها من مكرمة لو وزنت بها الجبال الشوامخ لرجحت عليها ولو قيست بها السماوات و الأرض لوسعتها وزادت عليها بما لا يعلمه الا (الله والراسخون في العلم)(4).
انها عليها السلام (أمينة الرب) وما اسماها من مرتبة وأخطرها من منزلة، وليست (المؤتمنة) على سر الهي واحد فقط بل انها (المودعة أسرار الملك العلام) و(المستودعة أسرار رب العالمين).
وإذا لاحظنا ان (الجمع المضاف) يفيد العموم والشمول الا فيما خرج بالدليل(5) لازدادت هاتان الجملتان اشراقا وبهاء وسناء وبريقا
ص: 6
ولتضاعفت في عقولنا المعرفة بالمكانة المثالية الكبرى التي تحتلها السيدة نرجس عليها السلام في منظومة ماكان وما سيكون وما هو كائن.
واننا لنجد عبارة أخرى في وصفها سلام الله عليها: (وحفظت سر الله)(1) ولربما استشعرنا منها ان المراد ب_ "سر الله" هو الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الا ان تينك العبارتين السابقين قد تأبيان عن هذا التخصيص - وان كان هو بحد ذاته منقبة عظمى لا تثمن - بل هما ظاهرتان في الشمول والعموم للكثير الكثير من الأسرار فدقق، خاصة إذا لاحظنا الفرق بين عبارة (حفظت) وعبارتي (المودعة.. المستودعة).
هذا ولنا ان نستشعر دلالة أخرى ذات أهمية بالغة من الجملتين السابقتين:
فإذا كانت كلمات المعصومين (عليهم السلام) توزن كالذهب بالمثاقيل بل هي أغلى وأسمى من ان تقايس حتى بنادر الجواهر ويتيمة الدرر ، و إذا كانت كل كلمة (توزن) بدقة لامتناهية وتنتخب بحكمة وتستخدم على معرفة تامة بكافة الدلالات المطابقية والتضمنية والالتزامية، وحتى الملازمات والملزومات والملابسات وحتى الإيقاعات و" الجرس والظلال" التي تحملها كل كلمة..
ص: 7
إذا كان الأمر كذلك فاننا نستشعر بوضوح هذه الدلالة الخطيرة فهي عليها السلام (المودعة أسرار الملك العلام) ويا لها من إضافة دقيقة : إضافة (أسرار) إلى (الملك العلام) انها إذن أسرار ترتبط ب_: (ملكوت الله) وهو (الملك العلام) وتتأكد الدلالة اكثر عندما نلاحظ الفقرة الأخرى: (المستودعة أسرار رب العالمين) وعندما نلاحظ ما لكلمة (رب) بما هي هي ثم بما هي مضافة إلى (العالمين) من دلالات كبرى.
وستتضح الدلالتان اكثر عند ما نقرأ :(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) وقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)(1).
وسنكتشف عمق تلك الدلالات أكثر فاكثر وسنصاب بدهشة اكبر واكبر، عندما نرى ذات العبارة المستخدمة في التعريف بالسيدة ترجس (عليها السلام) قد استخدمت في التعريف بالإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) إذ نقراً في الزيارة الثانية الواردة بعد زيارة آل ياسين (السلام عليك يا حافظ أسرار رب العالمين)(2).!!.
ص: 8
واننا(1) إذا تأملنا النقاط السابقة في مبحث (الاختيار الإلهي)(2)، ولاحظنا سلسلة المواصفات النموذجية التي تحلت بها السيدة نرجس (عليها السلام)- كما سنشير لذلك لاحقا إنشاء الله - زال عنا بعض الاستغراب.
وإذا ما تأملنا في موقف السيدة حكيمة - أخت الإمام الهادي (علیه السّلام)- وذلك الإجلال والاكبار الفريد الذي خصت به السيدة نرجس حتى انها صرحت لها، بحضور الإمام العسكري (علیه السّلام) بأن عليها(3) ان تخدم السيدة نرجس (عليها السلام) ولها(4) المنة عليها بذلك أيضا، كما صرحت أيضا بأنها سيدتها(5) ولم يكتف الإمام العسكري (علیه السّلام) ب_(تقرير) ذلك فحسب، بل انه عندما سمع من عمته السيدة حكيمة هذه الكلمات قال لها: جزاك الله يا عمة.
هذا الحدث قد سبق ولادة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بسويعات.
[وإليك هذا المقطع التاريخي كما تروايه السيدة حكيمة (عليها السلام) بنفسها، قالت (فجئت - اي إلى دار الإمام العسكري (علیه السّلام)- فلما سلمت وجلست جاءت (نرجس) تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي
ص: 9
وسيدة أهلي كيف أمسيت ؟ فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي، فأنكرت قولي: وقالت ما هذا يا عمة؟
وفي رواية أخرى: فجاءتني نرجس تخلع خفي فقالت: يا مولاتي ناوليني خفك ، فقلت : بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا ادفع إليك خفي لتخلعيه ولا لتخدميني بل انا اخدمك على بصري، فسمع ابو محمد (علیه السّلام)ذلك فقال جزاك الله - يا عمة - خيرا(1).
بل اننا نجد فوق ذلك في التاريخ، فلقد انكبت السيدة حكيمة (عليها السلام) على يدي السيدة نرجس (عليها السلام) تقبلهما! فها هي السيدة حكيمة (عليها السلام) تصرخ قائلة : (فقلت: يا سيدي الإمام العسكري عليه السلام - فمن يكون هذا الولد العظيم ؟.
فقال لي (علیه السّلام): من نرجس يا عمة.
فقلت له: يا سيدي ما في جواريك احب إلي منها، وقمت و دخلت إليها وكنت إذا دخلت فعلت بي كما تفعل - أي كعادتها في احترامي - فانكببتُ على يديها فقبلتها ومنعتها ما كانت تفعله، فخاطبتني بالسيادة فخاطبتها بمثلها)(2).
ص: 10
ونواصل الإستماع الحديث السيدة حكيمة عليها السلام بشغف ودهشة حيث تقول: (فقالت - أي السيدة نرجس : فديتك، فقلت لها: انا فداك وجميع العالمين!، فأنكرت ذلك، فقلت لها: لا تنكرين ما فعلت...)(1).
وإذا لاحظنا المكانة السامية جدا التي كانت تمتلكها السيدة حكيمة عليها السلام، ولاحظنا هذا الإجلال الفريد الذي تعاملت على ضوئه مع السيدة نرجس عليها السلام منذ ليلة 15 شعبان زالت عنا بعض آثار تلك الدهشة، فلقد كانت السيدة حكيمة بعد شهادة الإمام العسكري (علیه السّلام)هي إحدى السفراء القلائل جداً بين الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وبين الناس وكانت منزلتها وعظمتها وجلالتها وقدرها كالنور على شاهق الطور - كما صرح به العلامة المجلس رضوان الله تعالى عليه في مزار البحار - وكانت هي التي عهد إليها الإمام (علیه السّلام) بتربية السيدة نرجس عند حلولها دار الإمام وهي في حوالي الرابعة عشر من العمر، ومع كل ذلك تقول للسيدة نرجس (بل أنت سيدتي وسيدة أهلي)، (بل أنت سيدتي ومولاتي)، (بل انا اخدمك على بصري)، و(انا فداك وجميع العالمين)].
ص: 11
ص: 12
*زلزال في القصر الملكي(1)
لشد ما اقلقت أسرتها، نرجس!.
انها تضمر يوما بعد يوم، وتصفر، وتمتنع من تناول الطعام والشراب، وتعاني من مرض مجهول، وتبدو سابحة في آفاق بعيدة ... وبعيدة، وكأنها تعيش في عالم آخر.
وتزداد دواعي القلق والاضطراب، ويتحول نهار أعضاء الأسرة المالكة بالروم إلى ظلام، ويعجز كافة أطباء بلاد الروم عن العثور على حل لهذا اللغز الغريب؟.
ماذا دهی الحبيبة نرجس؟ .
انها سيدة القصر الملكي، وهي الفتاة المدللة، وهي الشابة الطيبة، وهي التي يحبها الجميع محبة صادقة، فهي رغم كل مظاهر العظمة والثراء والملوكية: حلوة الحديث، لطيفة المعشر ، متحلية بخلق رفيع وتواضع جم، ويالها من صفات تندر ان تجتمع في شابة ثرية!.
[لنرجع قليلا إلى الوراء ولنستمع إليها تحدثنا مباشرة عن تلك الأحداث المثيرة:
ص: 13
(ان جدي قيصر اراد ان يزوجني من ابن اخيه، وانا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاثمائة ،رجل، ومن ذوي الاخطار – أي الشخصيات الاجتماعية والاقتصادية البارزة - وجمع من أمراء الاجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وابرز من بهو ملكه (اي قاعة الاستقبال) عرشا مصنوعا من أصناف الجواهر، إلى صحن القصر، فرفعه فوق أربعين مرقاة.
فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقامت الاساقفة عكفا ونشرت أسفار الإنجيل، تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض وتقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخر الصاعد من العرش مغشيا عليه! فتغيرت الوان الاساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدي: أيها الملك اغض من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
فتطير جدي من ذلك تطيرا شديدا وقال للاساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان واحضروا أخا هذا المدير العاثر المنكوس جده (إي تعيس الحظ) لأزوج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.
فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول وتفرق الناس وقام جدي قيصر مغتما ودخل قصره وارخيت الستور...)] .
ص: 14
[وتستوقفنا هنا نقاط عديدة:
أ: ف_(يد الغيب) تمتد لتتدخل اعجازيا مرتين متتاليتين لإجهاض المخطط البشري، إعدادا لتنجز الوعد الإلهي الصادق الذي قدر للبشرية وللعالم اجمع، غدا مشرقا سعيدا علي يد وليد السيدة نرجس منقذ البشرية الأعظم!.
ب : وكان إجهاض " ذلك المخطط البشري" فريدا من نوعه ومتميزا، فلقد (تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض و تقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار وخر الصاعد من العرش مغشيا عليه) انه إنذار الهى وحجة دامغة عبر مشهد إعجازي رهيب يرمز إلى ان هذه الفتاة في دائرة الضوء الازلي غير خاضعة للقرار البشري، بل ان ما خطته لها يد الغيب هو أمر آخر من نمط آخر وبشكل لا يتصور .. وكان ما حدث تجسيدا لارادة الله تعالى وأمره الغالب.
ج: وكما (خر الصاعد من العرش مغشيا عليه) منقذا بذلك مستقبل السيدة نرجس (عليها السلام) كذلك (تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض) كرمز للمعادلة الكونية القادمة والمستقبل (الديانة المسيحية المحرفة) في آفاق غير منظورة ..
ص: 15
انها إرهاصات كونية تلقى إشاراتها بوضوح الاساقفة الذين كانوا على علم بطريقة التعامل الغيبي مع الأحداث الكبرى ، التي ترتبط برسل السماء وخلفاء الاله على وجه الأرض: (أيها الملك أغض من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال الدين المسيحي والمذهب الملكاني).
فكما غاضت بحيرة ساوة واطفأت نيران فارس و تقدمت شرفات ایوان کسری(1) کرمز لإشراق شمس خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم)، كذلك (تساقطت الصلبان من الاعالي فلصقت بالأرض وتفوضت الأعمدة وخر الصاعد وخر الصاعد من العرش العرش مغشيا عليه) كرمز لظهور خاتم الأوصياء (عجل الله تعالى فرجه).
د : ولنا ان نستكشف من تلكم الأحداث طريقة الإمبراطور الرومي ومنهجه في الحكم وفي التعامل مع الأحداث والاشخاص أيضا، فهو يقوم بمخطط احتواء (نسل الحواريين) ويستعين في تركيز دعائم عرشه ب_(الرهبان والقسيسين) وهو إلى ذلك - كاضرابه من الملوك والقياصرة - يعتمد في ترويض الشعب والسيطرة عليه على أسلوب (عرض العضلات) وعلى تشكيلة متنوعة ومبهرة من مظاهر
ص: 16
البذخ والثراء وكل ما يمكن ان يسحر أعين الناس ويسيطر على عقولهم.
ثم هو بعد ذلك وبرغم النذر الإلهية والحجج الدامغة، يعاند الحق ويكافح ضده ويصر رغم تلك (الإرهاصات) ورغم حديث كبير الأساقفة، على تزويج السيدة نرجس ويقوم بالتجربة الخطرة للمرة الثانية!.
وعند ما يجد ذاته عاجزة عن معارضة القدر الإلهي (يقوم مغتما) بدل ان يبدأ البحث الجاد عن الحقيقة وبدل ان يخضع لها ويسلس لها القياد.
ثم اننا نجده - قبل ذلك - يتعامل مع الاشخاص وكأنهم عبيد، فحتى حفيدته الحبيبة إليه إلى اقصى الحدود عليها ان تخضع لإرادته المطلقة في القرار المصيري الذي يرتبط بحياتها هي المستقبلية دون استشارة منها او السؤال عن رأيها ورغباتها، فهو يفرض الرأي فرضا ويحدد الزوج والوقت وطريقة الزواج، وبقرارات مرتجلة وليدة لحظات قليلة : (...واحضروا أخا هذا المدبر العاثر المعكوس جده ..)].
ص: 17
لقد انتخب الإمام الهادي عليه السلام لتنفيذ تلك المهمة السرية جدا والخطيرة جدا، رجلا تجمعت فيه مواصفات نموذجية:
فهو من الناحية الأسرية والتاريخية: ذلك الشخص الذي حملت أسرته أباً عن جد وسام الموالاة لآل بيت الرسول الأطهار (عليها السلام) حتى يصل الأمر إلى أبي أيوب الأنصاري الصحابي الجليل، وتكفي في الاشارة بعمق وتواصل واستمرارية تلك الموالاة شهادة الإمام الهادي (علیه السّلام): (يا بشر انك من ولد الأنصار ، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف)(1).
وهو من الناحية الشخصية:
أ: ذلك الشخص الخبير والفقيه في مجال اختصاصه ، وهو الذي خضع لاشراف تربوي - فقهي مباشر من حجة الله على الأرض: (كان مولانا أبو الحسن الهادي (علیه السّلام) فقهي في علم الرقيق... فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كملت معرفتي فيه وأحسنت الفرق بين الحلال والحرام).
ص: 18
ب: وهو ذلك الشخص المطيع ، الملتزم اشد الالتزام بالتعاليم وبالحدود التي يرسمها له الإمام الهادي عليه السلام: (فكنت لا ابتاع ولا أبيع الا بإذنه) و: (فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (علیه السّلام) في أمر الجارية) بل انه هو ذلك الذي يتحفظ حتى من الوقوع في الشبهات: (فاجتنب بذلك موارد الشبهات)(1).
ج: وهو ذلك الشخص الامين، الثقة، المعتمد، كما يصرح الإمام (علیه السّلام) به، بل كل سلسلة آبائه كانت كذلك: (وانتم ثقاتنا أهلو البيت)(2).
د : وهو ذلك الشخص الكتوم، الحافظ للأسرار، ولذلك أنتخبه الإمام عليه السلام لهذه المهمة، وصرح له ب_: (واني مزكيك ومشرفك بستر اطلعك عليه)(3).
ه_ : وهو الكفوء والذكي في طريقة التعامل: (فما زلت أشلحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان اصحبنيه مولاي عليه السلام من الدنانير) وقد قام بدوره خیر قیام فاشترى الجارية، دون ان يعرف من هو؟ ولمن يشتري؟ ثم استطاع ان يحافظ على الطابع
ص: 19
السري للمهمة فترة وجوده في بغداد حتى أوصل الأمانة إلى سامراء سالما ولذلك كله فقد خصه الإمام (بفضيلة يسبق بما سائر الشيعة).
فرحمك الله يا بشر بن سليمان، وأعطاك من الدرجات اسناها،ومن الخيرات اسماها، فلقد كنت الجندي النموذجي، و لقد كنت صاحب السعادة الكبرى، حيث حظيت بخدمة الإمام الهادي (علیه السّلام) وخدمة الإمام العسكري (علیه السّلام) وحيث حظيت بشرف الائتمان -لفترة من الزمن - على والدة صاحب الزمان وخليفة الرحمن وإمام الأنس والجان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ...] .
ص: 20
[ومما يلفت النظر: الطابع السري الذي لف القضية باجمعها :
أ : فالإمام الهادي (علیه السّلام) يرسل خادمه الشخصي بعد ان يمضي هوي من الليل متجنبا بذلك أعين الرقابة ورصد الجواسيس.
ب : ثم يؤكد الإمام (علیه السّلام) رغم كل الثقة المتوافرة في بشر، على الطابع السري للقضية، ويصرح بان الأمر : (سر اطلعك عليه)(1) دون غيرك.
ج : ثم يأمره ب_ (الاشراف عن بعد) على (عمر بن يزيد النخاس) عامة النهار، محذرا اياه من الاختلاط بسائر الزبائن، ومن تعرضه للأضواء فترة اطول من الزمن، بل عليه ان يتحرك في ساعة الصفر فقط.
د: ثم يبرمج الإمام الكل (علیه السّلام) الأمر بحيث لا يعرف حتى النخاس الجهة التي تريد شراء الجارية، بل انه (بعض الأشراف) ولا غير مع ايهام يبعد التفكير عن أي انتساب للإمام (عليه السلام) فهو قد كتبه (بلغة
ص: 21
رومية وخط رومي) وهو قد (وصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه) ثم: (فناولها لتتأمل منه اخلاق صاحبه فان مالت إليه ورضيته فانا وكيله في ابتياعها منك).
فرغم ان هنالك اتفاقا تاريخيا وقدرا الهيا محتما ورؤيا صادقة ومعرفة غيبية بمجريات الأمور وحوادث المستقبل الا أن الصيغة التي طرحت بها القضية كانت صيغة عادية ليس فيها أي طابع إثارة أو أية إشارة مريبة تكشف عن الموقع الإستراتيجي الهام الذي تحتله هذه الجارية وعن شمس سماء الكون التي ستطل عبر هذه النافذة...].
ص: 22
بعد رحلة السفر الشاقة، وبعد عناء الهجرة ومرارة الأسر، ها هي سيدتنا نرجس (عليها السلام) تصل - بعد طول انتظار - إلى دار الإمام الهادي (علیه السّلام) وفي أول لقاء بين الأميرة .. الأسيرة، وبين والد زوجها المترقب يجري الحوار التالي:
- : كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية (إشارة إلى انتصار جيوش المسلمين على جيش قيصر ملك الروم وجد السيدة نرجس) وشرف أهل بيت محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)؟.
- : كيف اصف لك، يا ابن رسول الله، ما أنت اعلم به مني؟.
- : فاني أريد ان اكرمك، فأي احب إليك : عشرة آلاف دينار؟ أم بشرى لك بشرف الأبد؟.
- : بل البشرى.
- : فأبشري بولد يملك الدنيا شرقا وغربا ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملأت ظلما وجورا.
- : ممن؟.
ص: 23
- : ممن خطبك رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم له، ليلة كذا، من شهر كذا، من سنة كذا، (بالتاريخ الرومي)؟.
- : من المسيح ووصيه..
- : ممن زوجك المسيح ووصيه؟.
- : من ابنك أبي محمد (الإمام العسكري (علیه السّلام)).
- : هل تعرفينه؟.
- : وهل خلوت ليلة من زيارته أياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء : أمه(1).
ص: 24
[تشدنا في هذا الحوار نقاط مضيئة كثيرة، سنشير إلى بعضها اشارة عابرة:
فالإمام الهادي (علیه السّلام) يريد ان يركز في الاذهان حقيقة أيمانها العميق بالإسلام، وتبرأها عن ديانة جدها وابيها: النصرانية، فها هو يبتدأ بالسؤال _ كتجاهل العارف(1)- : كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية وشرف أهل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)؟.
وها هي ذي تجيب اجابة تتزاوج فيها المعرفة بالادب، فتكشف عن ادب جم، ومعرفة عميقة بمكانة آل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) : (كيف اصف لك، يا ابن رسول الله، ما أنت اعرف به مني)؟.
والعبارة دقيقة فهي تشير إلى انه (علیه السّلام) اعرف بنفسها منها، وتصرح بانه اعرف ب_(رؤيتها) ونظرتها لتلك الحقائق، منها(2).
ص: 25
ثم ها هو الإمام (علیه السّلام) يكشف لنا عن سموها الروحي وعلو همتها، عبر سؤال آخر يوجهه إليها: (فاني أريد ان اكرمك فاي احب إليك؟ عشرة آلاف دينار ؟ أم بشرى لك بشرف الأبد)؟.
وعشرة آلاف دينار مبلغ ضخم جدا في مقاييس ذلك الزمن ، الا انها عليها السلام ترجح - ودونما أدنى تردد - الكفة الأخرى، ذات الطابع المعنوي، فتقول: (بل البشرى).
وإذا دققنا النظر ، عرفنا ان الذي يقع في الكفة المقابلة هو مجرد (البشري) لا غير، فليس (مدلول) البشرى هو الذي وقع في الكفة المقابلة، بل (البشرى) بذاتها(1).
وبعد ذلك نجدها تتساءل: (ممن)؟
انه تساؤل يهدف إلى تحول (علم اليقين) إلى (عين اليقين)، فهو كطلب إبراهيم (علیه السّلام) (ارني كيف تحيي الموتى قال او لم تؤمن قبل بلى ولكن ليطمئن قلبي)(2) وتكشف عن ذلك بوضوح اجابتها اللاحقة (من ابنك أبي محمد)، فليتأمل.
ص: 26
والحوار يستمر مقصودا منه مقصودا منه تكريس سلسلة من الحقائق التاريخية وتقرير وتأكيد صدق تلك المكاشفة الخالدة (التي حدثت لها بعد الإجهاض الغيبي لمشروع تزويجها من ابن أخيه وتساقط الصلبان...)(1) وصحة كل تلك الرؤى والاحلام التي شاهدت فيها الإمام العسكري (عليه السلام) ذلك ان كل ذلك يكون عندئذ قد حظى ب_(تقرير) الإمام المعصوم (علیه السّلام) وكفى بها شهادة واكبر بها من سعادة].
ص: 27
[وعن الأحداث التي سبقت اقتران السيدة نرجس (عليها السلام) بالإمام العسكري (علیه السّلام) الي وعن اللمسات الأخيرة لذلك الفجر السعيد، تحدثنا السيدة حكيمة قائلة:
(... كانت لي جارية يقال لها نرجس فزارني ابن أخي (الإمام العسكري (علیه السّلام)) فأقبل يحدق النظر فيها، فقلت له: يا سيدي لعلك هويتها فارسلها إليك؟.
فقال (علیه السّلام): لا يا عمة، ولكن أتعجب منها (أي: أرى فيها شيئاً عجيباً).
فقلت : وما أعجبك منها؟.
فقال (علیه السّلام): سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل، الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً.
فقلت: فارسلها إليك يا سيدي؟
فقال (علیه السّلام): استأذني في ذلك أبي.
قالت حكيمة فلبست ثيابي واتيت منزل أبي الحسن (علیه السّلام) فسلمت وجلست، فبدأني عليه السلام وقال: يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمد.
ص: 28
فقلت: يا سيدي على هذا قصدتك، على ان استأذنك في ذلك.
فقال (علیه السّلام): يا مباركة ان الله تبارك وتعالى احب ان يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً.
قالت حكيمة: فلم البث ان رجعت إلى منزلي، وزينتها ووهبتها لابي محمد عليه السلام، وجمعت بينه وبينها في مترلي، فأقام عندي أياماً ، ثم مضى إلى والده (علیه السّلام) ووجهت بها معه(1)).
ونقتبس ههنا بعض الفقرات مسلطين عليها بعض الأضواء:
فلربما يتسائل القاري الكريم عن : (فأقبل يحدق النظر إليها) فكيف يمكن ان يقوم الإمام العسكري (علیه السّلام) بذلك ؟
والجواب واضح، فان من الثابت شرعاً:
أ: ان الإنسان يحق له ان ينظر إلى المرأة التي يريد الزواج منها ويتفحصها بنظراته(2).
ص: 29
ب: ان الامة يحل النظر إليها وحتى شتى الاستمتاعات بها عبر (التحليل) من المالك(1). ومن الواضح وجود (اذن فحوى) في هذا المقام او الاذن الصريح من الإمام الهادي (علیه السّلام) لابنه الإمام العسكري (علیه السّلام).
ج: ويحق للمرء(2) أن ينظر إلى ما اعتادت الإماء إظهاره من بدنهن نظرة عادية.
د: إضافة إلى عدم وجود دليل على التحديق في الأكثر من الوجه، اذ لعلها عليها السلام كانت متقنعة لم يظهر منها الا وجهها المبارك والمشهور جواز النظر إلى الوجه والكفين نظرة عادية(3).
ص: 30
ثم يلفتنا في هذا المقطع التاريخي ذلك الأدب النموذجي، فالإمام العسكري (علیه السّلام) عند ما تعرض عليه عمته حكيمة: ارسال السيدة نرجس إليه (للزواج منها، أو عبر تحليلها ،له او عبر هبتها له) يجيب الإمام (علیه السّلام) قائلا: (استأذني في ذلك ابي) فعلى الرغم ان الرجل له الحق شرعا في ان يتزوج وليس رضا الوالد شرطا(1) الا ان الإمام (علیه السّلام) يطلب منها أن تستأذن والده عليه السلام في ذلك.
ثم ان (الحياء) يصده عن ان يباشر بطلب ذلك من ابيه مباشرة، فيطلب من عمته حين ذاك العرض ان تستأذن اباه في ذلك.
و (للحياء) قيمة كبرى في الشريعة الإسلامية(2)، ولذا ورد في وصف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (كان اشد حياءً من العذراء في خدرها)(3)..
انه عليه السلام نموذج الخلق الرفيع السامي، ومظهر من مظاهر طهارة النفس وسلامتها وسموها، ويذكرنا ذلك ب_(حياء) الإمام
ص: 31
أمير المؤمنين على (علیه السّلام) من طلب يد السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)].
[و بعد ذلك ننتقل الى نقطة أخرى جديرة بالالتفات، فان تسلسل الأحداث التاريخية اشار لنا:
بان السيدة نرجس عليها السلام قد تعرضت للأسر وهي في بلاد الحرب، ثم اشتراها مبعوث الإمام عليه السلام بثمن باهض، بعدها انتقلت الى دار الإمام الهادي (علیه السّلام) فدار السيدة حكيمة أخت الإمام الهادي (علیه السّلام)].
ومهما تكن البواعث النبيلة الكامنة وراء عملية (الأسر) هذه، ذلك انها القت بنفسها في وثائق الأسر امتثالا لأمر الإمام العسكري (علیه السّلام) اذ كانت هي الطريقة الوحيدة العملية للوصول الى سامراء، فانه حسب الشريعة الإسلامية وحسب الشرائع السماوية الاخرى وحسب التقاليد والاعراف السائدة في ذلك اليوم عند كافة.
ص: 32
الشعوب والامم، تعد (الأسيرة من ديار الحرب) مملوكة وذلك حسب شروط مذكورة في الفقه(1).
وكما اباح الله للرجل ان يتمتع بالمرأة عبر صيغة عقد لا تعدو كلمات قلائل، كذلك اباح له ان يتمتع بها عبر عملية الأسر بشرائطها الخاصة، وليس في ذلك ادنى غضاضة - شرعيا - حسب الديانات السماوية وحسب أعراف عالم ذلك اليوم أيضا، قال الله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين)(2).
ولقد كانت أمهات عدد من الأنبياء العظام والائمة المعصومين (عليهم السلام) من الإماء(3).
ص: 33
ولكن .. ورغم كل ذلك، فقد شاءت الإرادة الالهية ان تحيط تلك المرأة المهاجرة بهالة من التقديس والكرامة وان تمنحها مزيدا من الإجلال والاكبار.
وهكذا كان...
[ففي الخطوة الأولى نجد السيدة حكيمة (تهب) السيدة نرجس و (تهديها) للإمام العسكري (علیه السّلام) كما صرحت بذلك في المقطع السابق: (فلم البث ان رجعت الى ،مترلي وزينتها ووهبتها لأبي محمد العسكري (علیه السّلام))(1).
وفي الخطوة الثانية: نجد الإمام العسكري (علیه السّلام) يقوم ب_ (عتقها) وتحريرها.
وفي الخطوة الثالثة: يعقد قرانه عليها وتتم عملية الزواج المبارك.
والذي يدل على هاتين الخطوتين الأخيرتين: تصريح الإمام الهادي عليه السلام حيث خاطب عمته السيدة حكيمة قائلا : (يا بنت رسول الله أخرجيها - أي السيدة نرجس - الى منزلك وعلمي الفرائض والسنن فانها زوجة ابي محمد وأم القائم)(2).
وهذه الرواية صريحة بان العلاقة كانت علاقة الزوجية بينهما عليها السلام وهي دالة بالدلالة الالتزامية - وان شئت فقل: بدلالة
ص: 34
الاقتضاء (وهي ما يتوقف صحة او صدق الكلام عليه) او فقل: بالبرهان الإني اذ الزواج معلول بنحو العلة المعدة للعتق - على عملية العتق سابقة على عملية الزواج الميمون.
ذلك ان من الواضح ان (الامة) لا يطلق عليها (زوجة) بل هما قسيمان كما يظهر بوضوح من الاية الكريمة: (الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)(1)...
وإطلاق عبارة (الامة) او (الجارية) - على السيدة نرجس عليها السلام - في بعض الروايات على فرض كونه بعد مرحلة الزواج هذه انما هو بلحاظ ما كان ذلك ان إطلاق المشتق على ما مضى بلحاظ حال التلبس حقيقة ولا بذلك اللحاظ مجاز(2).
وما اغرب حركة التاريخ وتقلبات الزمن ...
فقد كانت السيدة نرجس - ريحانة، حتى الامس القريب سيدة الإمبراطورية الرومانية، واذا بنا نجدها في ملابس تنكرية مهاجرة نحو بلاد بعيدة بعيدة لتقع أسيرة في أيدي طلائع جيوش المسلمين.
ثم ها هي تعرض في الأسواق ك__(أمة) لتنتقل بعدها الى دار السيدة حكيمة لفترة من الزمن، ثم تبلغ القمة في مدارج السعادة
ص: 35
والكمال حيث تتزوج حجة الله على الأرض، وتنجب قائم آل محمد (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
انها حركة متواصلة من زهرة الحياة الدنيا نحو مدارج عام القدس ومراقي الكمال والبهاء والجلال].
وفي منزل الإمام العسكري (علیه السّلام) تشدنا الى السيدة (عليها السلام) ملاحظات عديدة اشرنا الى العديد منها في مواضع شتى من هذا الكتاب وسنشير ههنا الى واحدة منها:
وهي تلك التشكيلة المتنوعة من (الأسماء) التي أطلقت عليها، فماذا وراء ذلك؟
هذا ماسنشير إليه في البحث القادم باذنه تعالى .
ص: 36
*ماذا وراء التسميات المتكثرة ؟(1)
[مما يلفت نظر الباحث: ان السيدة والدة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) كانت تحمل أسماء عديدة، قاربت العشرة أسماء!
فلقد كان اسمها الحقيقي (مليكة) واذا بنا نجدها تسمى بأسماء عديدة أخرى منها: نرجس، ريحانة، سوسن، خمط، سبيكة، حديثة، حكيمة، صقيل او صيقل، ومريم!
فلماذا كل تلك التسميات؟
ربما يعود السبب الى "الظرف الامني" الذين كانت تعيشه السيدة نرجس (عليها السلام) فلقد كانت الظروف بالغة الحساسية، وكانت السلطات متخوفة اشد التخوف من الوليد المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الذي سيقمع الله على يديه جبابرة الكفر وعتاة الطغاة، وكانت الأعين ترصد كل حركة في بيت الإمام (علیه السّلام) وكان وضع نساء وجواري الإمام العسكري (علیه السّلام) ادق وأخطر، وكان أي تردد لذكر السيدة نرجس بالذات واية اشارة تدل على مكانتها وأهميتها ومتزلتها سيعرضها بالذات لخطر مضاعف ولرقابة أشد.
ص: 37
وهكذا كانت التسميات المتعددة.
ولربما كان كل جمع او عدد من الأفراد يعرفها باسم معين دون سائر الاسماء، فكان الحضور الحقيقي والدائم لتلك الجوهرة النادرة قد غطي بستار من تشكيلة متنوعة من الأسماء التي تؤمن اقل قدر ممكن من تداول اسمها الحقيقي الذي سيثير مزيدا من الشبهات لو تكرر بشكل متزايد.
والذي يؤيد هذه الملاحظة: ان السيدة نرجس (عليها السلام) كانت تحمل فيما تحمل:
اسم عمة الإمام العسكري (علیه السّلام) (حكيمة).
واسم والدة الإمام العسكري (علیه السّلام) (حديث)(1) و (سوسن)(2).
واسم والدة الإمام الجواد (علیه السّلام) (سبيكة)(3) و(ريحانة)(4) وكل ذلك يؤمن تغطية جيدة لها عليها السلام.
ص: 38
ويؤيد ذلك أيضا حالة التكتم الشديد على اسم الإمام الحجة عليه السلام، فكما قال النائب الأول للإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف): (اذا وقع الاسم وقع الطلب فالله الله اتقوا الله وامسكوا عن ذلك)(1).
فرعاية للإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وتكتما على ولادته كان لابد من عدم ذكر اسمه ابدا، بل ربما تحريم(2) ذكر اسمه أيضا كما في العديد من الروايات(3).
ص: 39
وكان لابد أيضاً من التغطية على ولادته وعلى والدته أيضاً، ولربما للسبب نفسه كان لأمهات الأئمة الرضا(1) والجواد(2) والهادي(3) والعسكري(4) (عليهم افضل الصلاة والسلام) أيضاً عدد من الأسماء، حيث ان الطغاة كانوا يتوقعون ان يكون من إحداهن الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
ويؤيد ذلك أيضاً: انها (عليها السلام) سمت هي بنفسها نفسها ب_(نرجس) وهو اسم متداول للجواري كي تستر على النخاسين وجمهرة الناس من المشترين وغيرهم اصلها الحقيقي، كما تصرح هي الله عليها قائلة: (ولقد سألني الشيخ - الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة - عن اسمي، فانكرته وقلت نرجس، فقال: اسم الجواري)(5).
ص: 40
وهكذا نكتشف ان ظروف التقية واحترازاً من الأعين الراصدة والآذان المرهفة لعملاء بني العباس، وصوناً لتلك الجوهرة القدسیة، وتشتيتاً لتمركز الحواس وخلطاً للاوراق، واعفاءاً لاي اثر صارخ، وتضييعاً لمعالم تكشف عن الترابط بين هذه المرأة وذلك الوليد، كل ذلك كان هو السبب الكامن وراء سلسلة من الخطوات الحذرة والاحتياطات الاحترازية التي ربما كان منها تعددية الأسماء ورمزيتها(1).
ص: 41
وكما تدخلت السماء اعجازياً ل_(اخفاء) حمل أم موسى به (علیه السّلام) رغم الرقابة الصارمة، كذلك تدخلت العناية الإلهية غيبياً ل_(اخفاء) حمل السيدة نرجس ب_(امام العصر) (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فلم تظهر عليها أية من علامات الحمل ورغم انقضاء عدة أشهر(1) ورغم الخبرة الكبيرة التي كانت تمتلكها النساء اللاتي تفرغن لاستكشاف ذلك!.
[بل اننا نجد انه وحتى في ليلة النصف من شعبان عام 255 ه_ وهي ليلة ميلاد الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، نجد ان "حمل" السيدة نرجس (عليها السلام) بالإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لا يترك ادنى اثر ، بل أي اثر على الإطلاق، حتى ان السيدة حكيمة تتساءل من الإمام العسكري (علیه السّلام) في تلك الليلة: (ومن أمه)؟
فيقول (علیه السّلام): (نرجس).
فتقول ربما مستغربة (جعلني الله فداك ما بها اثر).
فيقول (علیه السّلام): (هو ما اقول لك)(2).
ص: 42
وفي رواية أخرى:
فقلت: ممن يا سيدي، ولست اری بنرجس شيئاً من اثر الحبل؟ فقال (علیه السّلام): من نرجس لا من غيرها .
قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها اثر حبل، فعدت إليه فأخبرته بما فعلت فتبسم (علیه السّلام) ثم قال لي : اذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لان مثلها مثل أم موسى(1) لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بما احد الى وقت ولادتها ...).
بل وحتى قبيل الفجر وقبيل (مولد النور) بقليل أيضاً ...]
واننا عندما نقرأ في زيارتها عليها السلام: السلام عليك يا شبيهة أم موسى (علیه السّلام)(2) ، وعندما نجد هذا التشبيه في الروايات: (مثلها مثل أم موسى)(3) - كما سبق - ونتأمل عبارة (شبيهة أم موسى) و(مثلها مثل أم موسى) ونستند الى إطلاقها الاحوالي(4) والى القرائن المقامية المكتنفة بالمقام نكتشف ان "الشبه" و"المثلية" لم تكن في "الإخفاء الاعجازي للحمل" فقط.
ص: 43
بل تتعداه الى المشابهة في "الضغط النفسي الهائل" الذي تحملته كلتا المرأتين إثر الرقابة الصارمة، وخوفاً من احتمال انكشاف الأمر بما قارن ذلك من ملابسات الرقابة والحجز، وصبراً على الأذى في ذات الله ثم المشابهة في الربط على القلب وبعث الطمأنينة في النفس، وكذلك في الاعتصام بحالة الكتمان المطلق للسر الكبير الذي قلما كان بمقدور امرأة ان تمنع نفسها من البوح به ولأشهر طويلة! وفي جهات أخرى أيضاً.
وعدد من هذه النقاط صرح به او اشار إليه القرآن الكريم حين يقول: (واصبح فؤاد أم موسى فارغاً ان كادت لتبدي به لولا ان ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين)(1).
ومن قبل: (ولا تخافي ولا تحزني)(2).
ومن بعد: (كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم ان وعد الله (حق)(3).
[وقد صرح الإمام العسكري (علیه السّلام) بعدد من اوجه الشبه هذه في قوله مخاطباً السيدة حكيمة (عليها السلام): (يا عمة رديه - أي الإمام
ص: 44
المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في الساعه الأولى لولادته الى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم ان وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون(1).
ويقول الإمام العسكري (علیه السّلام) (لان مثلها - أي السيدة نرجس - مثل أم موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد الى وقت ولادتها، لان فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى وهذا نظير موسى)(2).
ويقول (علیه السّلام) أيضاً، مخاطباً السيدة نرجس عند ما رأها تبكي؛ (اسكني فان الرضاع محرم عليه الا من ثديك وسيعاد إليك كما ردّ موسى الى أمه وذلك قوله عز وجل: فرددناه الى أمه كي تقر عينها ولا تحزن)(3)] .
كما أشارت إليه زيارتها عليها السلام (أشهد أنك ... اجتهدت مرضاة الله، وصبرت في ذات الله وحفظت سر الله ... وبالغت في حفظ ولي الله)(4).
وهنالك اوجه شبه عديدة أخرى بين السيدتين، منها:
ص: 45
اضطرار كلتا السيدتين ل_(فراق الوليدين) منذ السويعات الأولى للولادة – كما سنرى - واللطف الإلهي الذي حظيت به كلتاهما بعد ذلك الوعد الإلهي باعادة موسى الى أمه: (انا رادوه إليك...)(1) وبانجاز الوعد: (فرددناه الى أمه كي تقر عينها ولا تحزن)(2) وكذلك الوعد الإلهي باعادة الإمام المهدي الى أمه ثم انجاز الوعد - كما سنرى لاحقاً انشاء الله-.
ص: 46
[ويكفي الآن ان نشير الى ان ثمة لمسات غيبية ونفحات ربانية قد شملت السيدة نرجس (عليها السلام) كان لبعضها ابعاد اخرى لا يمكن لنا التوصل الى كنهها :
أ : فقد (غابت السيدة نرجس من أمام ناظري السيدة حكيمة فترة قصيرة من الزمن: (فلم يستتم الكلام - اي الإمام العسكري (علیه السّلام)- حتى غيبت عني نرجس فلم أرها، كأنه ضرب بيني وبينها حجاب)(1).
فما الذي حدث يا ترى؟.
من المحتمل أن تكون السيدة والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) قد (نقلت) اعجازيا الى عالم آخر، عالم يسمو فوق مدارك البشرية، ويرقى فوق خواجز المادة، كمرحلة من مراحل الصقل والتطهير والتكامل، وكبند من بنود ذلك (العطاء الإلهي غير المجذوذ).
ويؤيد هذا الاحتمال قول الإمام العسكري (علیه السّلام) عندما شاهد عمته تعدو نحوه صارخة من دهشة ما حدث: (ارجعي يا عمة فإنك
ص: 47
ستجدينها في مكانها)، اذ يظهر منه: انها لم تكن في مكانها من قبل، فتأمل.
ومن الواضح ان (مقاييس) العوالم الأخرى لا تتطابق مع (مقاييسنا) المعهودة، فبالنسبة (للزمن) - مثلا - وحسب نظرية انیشتاین، فانه نظرا لنسبية الزمن، قد تعادل 8 أيام من أيام الكرة الأرضية 4 ملايين سنة من السنين لركاب سفينة فضائية انطلقت من الأرض بسرعة دون سرعة النور - بسرعة معينة حددها -.
وذلك، ربما يفسر مسلسل الاحداث الضخم جدا الذي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه، مع أنه عند ما رجع الى داره - بعد الإسراء - كانت لا تزال حلقة الباب تتحرك !!
وهذا يعني ان تلك الجولة الشاملة في السماوات وفي ملك- ملكوت الله تعالى وفي الجنة وعلى مقربة من النار و ...، لم تستغرق، في معادلتنا الزمنية، الا لحظات فقط !!
واذا كانت السيدة نرجس (عليها السلام) قد نقلت في ذلك الفاصل الزمني القصير الى عالم آخر فربما كانت معادلة الزمن - في مسيرتها التكاملية - من هذا القبيل.
وهذا المبحث هو - حاليا - مجرد احتمال قد يستند الى ظاهر كلام الامام المنقول سابقا والله العالم.
ص: 48
ويمكن الالتزام بالاحتمال الآخر وهو : ان ما حدث كان حجابا غيبيا اسدل ، بين المرأتين العظيمتين، في لحظات الولادة تلك.. لماذا؟.
ربما لما يقرب مما ذكر.
ب: كما تستقطب انتباهنا لفتة اخرى هامة جدا، فقد ذكرت السيدة حكيمة عليها السلام قائلة: (فرجعت فلم البث ان كشف الحجاب الذي كان بيني وبينها، واذا انا بها وعليها من اثر النور ما غشى بصري).
اية طاقة نورانية هذه ؟
واية اشعاعات ربانية؟
وما السر الكامن وراء ذلك النور الذي يغشي البصر؟
وهل هو نور مادي خارق ام انه نور ميتافيزيقي؟
كل ذلك مما يستدعي التدبر والتفكير والتحقيق.
وبعد كل ذلك، علينا ان نتدبر في الدلالة العميقة التي تحملها كلمة الامام العسكري (علیه السّلام) مخاطبا عمته السيدة حكيمة : اقرئي عليها (انا انزلناه في ليلة القدر)(1) وهذا مما يحتاج الى مبحث مستقل مستوعب].
ص: 49
ص: 50
ليس من السهل أبداً على المرأة ان تعيش وسط أسرة ترفع راية المعارضة - جيلا بعد جيل - للحكومات الجائرة ..
انها حينذاك تعيش الخوف والرعب والحرمان والقلق، وحتى المطاردة والملاحقة، وتشهد بعينها جلاوزة السلطان يقتحمون الدار بوحشية، ليختطفوا أباها أو زوجها أو أخاها أو أحد أفراد الأسرة، ولمدة مجهولة !
واذا كانت المعارضة تتصدى ل_(إمبراطورية جبارة تحكم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية) فان تلك المعاني ستكون عندئذ أقسى وقعاً واعمق أثرا وابعد غوراً ، واذا كان (أعمدة الأسرة) وكبارها وسلدتها قد تعرضوا على مر التاريخ ولما يقارب القرنين من الزمن لعمليات التصفية الجسدية والاغتيال بالسم والسجن في ظلم المطامير، ولصنوف من العذاب والحرمان فان من الطبيعي ان يكون (جو الرعب) المحيط بتلك الأسرة والظروف المحيطة بها اشد واشد واقسي وأمر.
ص: 51
فكيف اذا كان كل ذلك يتم في أجواء ما هو أسوأ من أجواء القرون الوسطى؟ حيث لا دولة منافسة تضغط ولا (مجلة) تفضح، ولا إذاعة تدافع، ولا منظمات حقوق الإنسان!!
ص: 52
[ولكي نتحسس عمق المأساة وندرك بعمق اكثر، مدى صعوبة وخطورة الأجواء التي عايشتها السيدة نرجس (عليها السلام) والعواصف السياسية والأمنية الرهيبة التي كانت تحيط بأسرة الإمام (علیه السّلام) وتهدد السيدة نرجس (عليها السلام) بالذات، نتيجة كونها في طليعة من كانت تشير اليها أصابع اتمام السلطات، لابد لكي نعرف ذلك بعمق، من ان نتوقف قليلاً لنسلط الأضواء على الجو السياسي الضاغط والوضع الأمني الخطير الذي كان يحاصر بيت الإمامة وأسرة الإمام (علیه السّلام) من كل جانب، والذي كان سهم السيدة النرجس (عليها السلام) فيه هو الأوفراذ كانت تعاني معاناة مضاعفة.
فهي تعاني اولاً: تموجات الضغط السياسي والخطر الأمني المحدق بزوجها الإمام العسكري (علیه السّلام) وابنها الإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وهي تعاني ثانياً: معاناة مباشرة وفي الصميم بالنسبة لها شخصياً .
وتكشف لنا إشارات تاريخية سريعة عن جانب من كل ذلك:
ص: 53
أ : فالإمام العسكري (علیه السّلام) يبعث برسالة الى أصحابه يوصيهم بها وصية تحذيرية مؤكدة قائلاً: (الا لا يسلمن علي أحد، ولا يشير الي بيده ولا يومئ، فانكم لا تؤمنون على أنفسكم)(1).
ب : ويقول الإمام العسكري (علیه السّلام) موجهاً الخطاب ل_: داود بن الأسود، وهو واحد من وسائطه السرية ممن كان يحمل رسائل الإمام الخاصة بطريقة بالغة السرية(2): (... واذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإياك ان تجاوب من يشتمنا، أو تعرفه من أنت فإننا ببلد سوء ومصر سوء سوء...)(3).
ج : ولقد عانى الإمامان الهادي والعسكري (عليهما السلام) اشد العناء من (الإقامة الجبرية) في سامراء، حيث فرضت على الإمام الهادي (علیه السّلام)- ومعه أعضاء أسرته - الإقامة بها لمدة تقارب العشرين عاما ! كان يخضع فيها الى رقابة مستمرة!.
د : ولقد كان الوضع السياسي والأمني من الخطورة بحيث أخفى الإمام الهادي (علیه السّلام) إمامة الإمام العسكري (علیه السّلام) بل حتى نسبته اليه أيضا حتى على كثير من العلويين!.
ومما يدل على ذلك حادثة وفاة ابن الإمام الهادي (علیه السّلام) المسمى ب: محمد، حيث حضر حوالي المائة والخمسين رجلا من آل
ص: 54
أبي طالب وبني هاشم، منزل الإمام لتعزيته، وعند ما دخل الإمام العسكري (علیه السّلام) على والده مشقوق الجيب وكان ذلك في أواخر حياة الإمام الهادي (علیه السّلام) سأل من كان هنالك عنه ! وعن كان هنالك عنه ! وعن نسبته للإمام الهادي (علیه السّلام)(1).
ه_: وقد يكون لأجل ذلك أيضاً عدم تصريح الإمام الهادي (علیه السّلام) بإمامة الإمام العسكري (علیه السّلام) للبعض وذلك في قضية مذكورة في التاريخ، حيث أعطى البعض علامة تدل . بعد وفاته . على الإمام من بعده قائلاً: (صاحبكم بعدي الذي يصلي علي) قال الراوي: ولم نعرف أبا محمد (العسكري) قبل ذلك(2)!.
و : ولقد سجن الإمام العسكري (علیه السّلام) مراراً عديدة، فكان فترة في سجن صالح بن وصيف، الذي كان قد وكل بالإمام رجلين من شر خلق الله، كما يصرح صالح من وصيف نفسه بذلك، فتحولا بتأثير من الإمام (علیه السّلام) عابدين صالحين(3)!
كما سجن في سجن النحرير الذي كان (يضيق عليه ويؤذيه)(4). و سجن (علیه السّلام) عند علي بن نارمش وكان (أنصب الناس وأشدهم على آل ابي طالب) لكن هذا الآخر أضحى - بعد ان عاشر الإمام
ص: 55
قليلاً - لا يرفع بصره للإمام إجلالاً وإعظاماً له!. وأضحى من أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس في الإمام قولاً(1) . كما سنة سجن 260 ه_ عند علي بن جرين(2).
ز: وقد تعرض الكثير من أصحاب الإمام (علیه السّلام) ومن ذوي قرابته للسجن والتعذيب وحتى القتل(3).
ح : وكانت (عيون) السلطات وجواسيس الخليفة، تضيق الخناق على الإمام (علیه السّلام) وأسرته وأصحابه بشكل مزعج، بل لقد تعدت الأمر الى رقابة مفضوحة صارخة وتجاوز (الخليفة) الحد .. فها هو يأمر
عند ما بلغه خبر مرض الإمام (علیه السّلام) - خمسة من جواسيسه بالمكوث في دار الإمام نفسها، ثم بعث عشرة آخرين (بعث بهم الى دار الحسن (علیه السّلام) وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً ...)(4).
ط : ولقد كبست قوات الخليفة العباسي دار الإمام العسكري (علیه السّلام) مراراً عديدة، وقامت بتفتيشها بكل دقة ووقاحة، تارة لاعتقاله (علیه السّلام) ومن ثم قتله، وأخرى للقبض على زوجته الحبلى ...(5).
ص: 56
ي : وقد قام طغاة بني العباس بمحاولات عديدة للقضاء على الإمام العسكري (علیه السّلام)، وقد خططوا لذلك، وتم إعداد السيناريو المطلوب مرارا عديدة، الا ان يد الغيب تدخلت لتنقذ حياته (علیه السّلام) اعجازيا.
فها هو (المستعين العباسي يأمر حاجبه بإخراج الإمام (علیه السّلام) من سامراء، ليقتله في الطريق المتجه للكوفة(1).
وها هو مرة أخرى يخطط لقتله (علیه السّلام) ب_ (بغلة) شموس شرسة(2).
وهذا هو (المهتدي بالله)، كان قد (صحح العزم على قتل أبي محمد العسكري (علیه السّلام))(3).
وهذا هو (المعتمد العباسي) يلقي بالإمام (علیه السّلام) في بركة السباع ويتركه وسط الأسود المفترسة ثلاثة أيام كاملة(4).
يقول الإمام العسكري (علیه السّلام) حين ولد الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف):
(زعم الظلمة انهم يقتلونني، ليقطعوا هذا النسل، فكيف رأوا قدرة القادر(5))؟.
ص: 57
في هذه الاجواء وفي مثل هذه الظروف، عاشت السيدة نرجس(عليها السلام) ترى أية حياة هذه وأية أعصاب حديدية بل وفولاذية تستطيع تحمل كل هذا العناء؟] .
نعم .. في مثل هذه الظروف التحقت .. السيدة نرجس- ريحانة، بأسرة الإمام الهادي (علیه السّلام) وتزوجت من الإمام العسكري (علیه السّلام) وحملت بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ولم تكتف سلام عليها بدور (المتفرج)، ولا بنوع من المشاركة الوجدانية ولا ببعض المساهمة العملية بل انها حملت على أكتافها - وهي في مقتبل العمر - مسئولية ثقيلة جدا يعجز عن حملها عمالقة الرجال، بل اضطلعت بدور رئيسي واستراتيجي كاد ان يكون فريدا، من بين كل أعضاء الأسرة، فكانت في الصبر والصمود مثالية، وفي الاستقامة ومواصلة المسيرة نموذجية، وفي (الكتمان والمحافظة على الأسرار) ممن لا يشق لها غبار، وفي (التضحية) المثال الأعلى(1) ومن مصاديق قوله تعالى: (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بأن لهم الجنة)(2).
كما كانت في (امتلاك المقدرة على التعامل مع الأحداث والأشخاص وحتى السلطات) حكيمة ورائعة - كما تكشف الأحداث عن ذلك - .
ص: 58
فلقد كانت السلطات تعيش هاجس الخوف الكبير وتستشعر - رغم ما تملكه من جيوش وسلطة تغطي اكثر الكرة الأرضية - (قلقا بالغا) من (الوليد المنتظر) و (القائم بالسيف) المبشر به على لسان رسول الإسلام (صلی الله علیه و آله و سلم) وسائر الأنبياء العظام (عليهم السلام)، والمحدد حسب متواتر الروايات بانه الثاني عشر من آل البيت وابن الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) بالضبط، وكانت السلطات العباسية على علم بذلك.
وكما كان فرعون يعلم بأن نبيا يسمى موسى (علیه السّلام) سيولد في فترة زمنية محددة على ما أنبأه (المنجمون) كذلك كان العباسيون يعلمون بأن إماماً يسمى باسم الرسول الأعظم، ويلقب ب_"المهدي" سيولد في فترة زمنية محددة.
وكما كان فرعون يتخوف من النبي موسى (علیه السّلام) كان العباسيون يتخوفون من الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
وكما كان فرعون يعشق " الرئاسة " الى حد العبادة، كان العباسيون..
ص: 59
وكما كان فرعون ينكر الحقيقة ويمقتها وهو عالم بها علم اليقين، كان العباسيون كذلك ممن (جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)(1).
ولذلك وعلى ضوئه قام العباسيون بنفس الخطوة التي قام بها ،فرعون فقد وضعوا الأرصاد والعيون والجواسيس لإستكشاف أية إشارة تنم عن "الوليد المنتظر" ومن ثم القضاء عليه وهو في (المهد) بل وحتى وهو حمل في رحم أم أمه !! .
ص: 60
وهكذا خضعت دار الإمام العسكري (علیه السّلام) للرقابة المشددة المضاعفة، وتعرضت نساء الأسرة لرصد مكثف، وكانت السيدة نرجس (عليها السلام) ذات السهم الأوفر من الرقابة الصارمة، فقد سلطت عليها الأضواء بصورة مكثفة ومزعجة، بل تطور الأمر الى اعتقال مهذب و حضاري! لها حيث اعتقلت(1) ونقلت قسرا - وبطريقة الشنق الحريري! - الى إحدى البيوت ولمدة طويلة خضعت لرقابة دائمة ولربما على مدار الساعة من قبل نساء قيضن خصيصا للاضطلاع بهذه المهمة الخطيرة!..
نعم اعتقلت وهي حبلى وأودعت غياهب السجن(2)...
ولكن لماذا كان (الاعتقال مهذبا وحضاريا)؟ .
لعل السبب كان يعود الى التخوف من ملك الروم(3) والتخوف أيضا من مخاطر انتفاضة شعبية ضد أي تحرك سلطوي حاد وعنيف
ص: 61
تجاه زوجة الإمام العسكري (علیه السّلام) بما كان يملكه من مكانة شعبية كبيرة ، بل حتى داخل اجنحة الأسرة المالكة.
[والشواهد على ذلك كثيرة منها : ما حدث بعد وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) حيث (عطلت الأسواق وركب بنو هاشم والقواد "اي قادة الجيش" والكتاب وسائر الناس الى جنازته فكانت سرمن راى - وهي حينذاك عاصمة العباسيين - يومئذ شبيها بالقيامة، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان الى ابي عيد عيسى بن المتوكل فأمره بالصلاة عليه(1)...)] .
فكان في (الاعتقال المهذب) جمعا بين الأمرين .
ويمكننا ان نتصور "الحالة النفسية" لامرأة تربت في بيت الملوكية ثم صاهرت بيت الإمامة الربانية وهي حبيسة سجينة، بعيدا عن أسرتها وبيتها خائفة اشد الخوف على الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، تعيش فترة طويلة في المعتقل تحت رقابة صارمة لا ترحم...
ص: 62
[لقد تألفت السيدة (نرجس - مريم) في بعد آخر هو في غاية الأهمية، بعد يفتقده اكثر الناس، ويعجز عن تحمل وطأته - في بعض درجاته - حتى عمالقة الرجال..
إنه بعد "التحلي بالصمت والكتمان" و"المحافظة على الأسرار ذات الخطورة الكبرى" وما اكثر الحركات التي نسفت، والثورات التي أجهضت على مر التاريخ نتيجة عدم التحكم الكبير في ميل الإنسان بطبعه ل_(الثرثرة)! ونتيجة (الإذاعة) .... فها هو الإنسان (الثائر) يطمئن الى صديقه وها هو المفكر الحركي يثرثر ل_(زوجته)... وهكذا تتواصل الحلقات لتبلغ مسامع السلطات!!.
ويكفي لكي نعرف مدى خطورة ذلك، ومدى الأثر التخريبي الذي ألحقته (الإذاعة) بمسيرة أهل بيت الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، يكفي ان نستمع الى الرواية التالية عن الإمام الصادق (علیه السّلام) : (... فوالله لقد قرب هذا الأمر فأذعتموه فاخره الله)(1).
ويقول الإمام الباقر (علیه السّلام): (ولو ان العلماء أي الأئمة عليهم السلام - وجدوا من يحدثونه ويكتم سرهم لحدثوا ولبثوا الحكمة،
ص: 63
ولكن قد ابتلاكم الله عز وجل بالإذاعة وأنتم قوم تحبوننا بقلوبكم، ويخالف ذلك فعلكم ... ما لكم لا تملكون أنفسكم ؟...)(1).
وسر " الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) " هو من أعظم الأسرار وأخطرها على الإطلاق، فمن ذا الذي يتحمل هذا السر ويعتصم مع ذلك بالكتمان المطلق؟.
ان الغالبية شبه المطلقة لم تكن تتحمل حتى معرفة الاسم،و لم تكن تتحلى بالمقدرة حتى على كتمان ذلك - وهو من ابسط الدرجات - فكيف بالمراتب الأسمى والدرجات العليا؟.
ويكفى لمعرفة ذلك: الاستماع الى الرواية التالية:
يقول ابو عبد الله الصالحي : سألني أصحابنا بعد مضي أبي محمد العسكري (علیه السّلام) ان اسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: (ان دللتهم على الاسم أذاعوه، وان عرفوا المكان دلوا عليه)(2). وذلك رغم الروايات العديدة الدالة على (ملعون ملعون من سماني في محفل من الناس)(3).
واذا عرفنا ذلك عرفنا مدى عظمة السيدة (نرجس - سوسن)، ومقدرتها الهائلة على تحمل ذلك السر الكبير .. الكبير، والخطير
ص: 64
الخطير، ومعرفتها لا تقتصر على الاسم والمكان فحسب بل تتجاوزها بالكثير الكثير ... (1)] .
وبعد كل ذلك نجد الميزتين التاليتين تتلألأن بين مواصفات السيدة نرجس عليها السلام.
فلقد ورد في زيارتها: (اشهد أنك أحسنت الكفالة، واديت الأمانة)(2).
ويا لها من شهادة وما أعظمها سعادة، وما أخطرها من (أمانة).
ان أحدنا ليؤتمن على بعض المال فيخون، واذا لم يخن في الأموال خان في ما هو أعظم منها، فكم من عظيم خان (الأمة) و (اعظم) الخيانة خيانة الأمة)(3) وان الإنسان - الا من عصمه الله - هو ذلك الذي وصفه تعالى بقوله: (انا عرضنا الأمانة على السماوات
ص: 65
والأرض والجبال فابين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا)(1).
واذا علمنا ان (بلعم بن باعورا) الذي آتاه الله تعالى الاسم الأعظم قد سقط في هذا الامتحان(2)، واذا كان (الزبير بن العوام) الذي كان سيفه سيفا طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد فشل في معترك الابتلاء الإلهي واذا كان فطاحل الواقفية وامثال الشلمغاني(3)- ممن كانوا من أبرز وكلاء المعصومين (عليهم السلام) - قد انتهى بهم المطاف الى الصفر المطلق في سجلات أعمالهم وملفات حياتهم وامتحانهم.
اذا علمنا كل ذلك علمنا مذى صعوبة الامتحان الإلهي وخطورته وعلمنا ان المقدرة على تمزيق شباك الشيطان وتحدي محمل الشهوات والأهواء المودعة في الإنسان ومواجهة كافة تسويلات النفس الأمارة بالسوء(4) وعدم الإستسلام لها، وتحدي زهرة الحياة الدنيا
ص: 66
وزخرفها وزبرجها وزينتها، ومن ثم (النجاح في الامتحان الإلهي الكبير) هو أسمى الأمنيات، وهو الشرف الكبير والمجد الخالد.
و كان امتحان السيدة (نرجس - ملكية) صعبا غاية الصعوبة خطيرا غاية الخطورة، فقد أودعت أعظم أمانة تحملها - أو نظائرها - قلائل فقط على مر تاريخ البشرية، لقد أودعت (سر الله الأعظم، وحجة الله على كافة الأنام، والوسيط بين رب العالمين وسائر المخلوقات على الإطلاق) وما أعظمها من وديعة وما أخطرها من مسؤولية.
واذا كان (النجاح في الامتحان) ذا درجات ومراتب، فانها عليها السلام نالت الدرجة العليا والمرتبة الأسمى ومن ثم حصلت على الشهادة المثلى) فلقد (أحسنت الكفالة، وأدت الأمانة)(1).
وبذلك (توجت) سلسلة نجاحاتها التاريخية في كافة الامتحانات الإلهية الكبرى التي مرت بها:
فقد نجحت في امتحان ان تبقى طاهرة، نزيهة، بل و(قديسة) في خضم عالم الملوكية، وزخارف الحياة المادية التي فتحت عينيها عليها.
ونجحت في اتخاذها القرار المصيري ب_(الهجرة)، وفي مفارقة الأهل والأحبة، وفي تعريض نفسها للأسر.
ص: 67
كما نجحت في تسلق مدارج الكمال بسرعة نموذجية منذ ان دخلت بيت الإمام الهادي (علیه السّلام).
وكما نجحت أيضا في ثلاثة من أخطر الامتحانات الإلهية التي يمكن لبشر ان يمر بها، حيث (استودعت أسرار رب العالمين) و(قامت "بتكفل" حجة الله على الخلق أجمعين) ومن ثم فقد (أدت الأمانة لأهلها) حتى كانت الشهادة لها ب_ (اجتهدت اجتهدت في مرضاة الله، صبرت على الأذى في ذات الله، حفظت سر الله، بالغت في حفظ حجة الله، أحسنت الكفالة وأديت الأمانة، مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدية بالصالحين، رضي الله عنك وأرضاك و ..)(1) اشرف وسام، وأهنا عطاء، واجمل قلادة، وأحلى شهادة ..
ومن المحتمل ان تكون (الأمانة) التي (تحملتها) ثم (أدتها) السيدة نرجس عليها السلام هي من قبيل الأمانة التي أودعت للسيدة زينب الكبرى عليها السلام بعد استشهاد الإمام الحسين (علیه السّلام) ولفترة من الزمن ريثما تسلمها الإمام السجاد (علیه السّلام)فتأمل .
فكانت صاحبة (العصمة الصغرى) كما ذهب الى ذلك -بالنسبة الى السيدة زينب - العديد العديد من العلماء.
فتكون - على هذا الاحتمال - هنالك أمانة كبرى سلمها الإمام الهادي (علیه السّلام) أو الإمام العسكري (علیه السّلام) للسيدة نرجس، وريثما
ص: 68
تسلمها للإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ولربما كانت أمانة شفوية او ودائع النبوة التي كان يتوارثها نبي عن نبي، ثم إمام عن إمام أو أدوار عملية شديدة السرية، أو ما يقرب من ذلك...
وهذا ما يستشعر من كلمة (أديت الأمانة) مع انه ربما يقال: بالاستبعاد البدوي لان يكون المراد ب_(الأمانة) نفس (الإمام الحجة) اذ تؤديه لمن؟ .
وربما يعضد هذا الاحتمال - وأؤكد انه مجرد احتمال و الأمر بحاجة الى تحقيق - بعض الحوادث التاريخية التي تشير الى (إيداع الإمام الصادق (علیه السّلام) او غيره من الأئمة) لعدد من أهم (الوثائق السرية) - او الودائع النبوية - في فترات زمنية معينة كان يحتمل فيها مداهمة دار الإمام وتفتيشها، لبعض الثقات.
ويؤيد هذا الاحتمال، بل ربما يدل عليه الفقرة السابقة التي تم الحديث عنها سابقا: (المودعة أسرار الملك العلام) و (المستودعة أسرار رب العالمين)(1) فلعل المراد من الأمانة التي ادتها (عليها السلام) هي تلك (الأسرار) التي (أودعت) عندها ريثما تسلمها لأهلها، وعملية الايداع هذه يمكن ان تكون عبر واحد من المعصومين (عليها السلام) كما سبق او بطريقة الإلهام أو ما أشبه ذلك والله العالم.
ص: 69
واخيراً..
فلقد كانت السيدة نرجس (عليها السلام) في اضطلاعها بتلك الادوار - وبمهام عديدة أشرنا لها في جوانب من الكتاب - قد اشبهت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) في كثير من الجوانب والجهات:
فقد تخلت عن مركزها الحساس ضمن دائرة الأسرة المالكة لتلك الإمبراطورية، لصالح الإمامة، كما تخلت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) عن "مركزها الاجتماعي الخطير ضمن دائرة المجتمع المكي الأرستقراطي" لصالح الرسالة .
وقد تخلت السيدة نرجس (عليها السلام) عن "حياة البذخ والثراء" كما تخلت السيدة خديجة (عليها السلام) عن ثرواتها الطائلة.
وقد رغبت في وصلة أبناء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كما رغبت السيدة خديجة في وصلة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكانت (الرغبة متبادلة بين الطرفين) في كلتا المرأتين.
وكما رغب الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) في الزواج بخديجة (عليها السلام) حيث رغبت به، كذلك رغب صلى الله عليه و آله وسلم في زواج حفيده:
ص: 70
الإمام العسكري (علیه السّلام) بالسيدة نرجس فقد (رغب في وصلتها محمد سيد المرسلين)(1).
وقد تحملت الحصار السياسي والضغط الاجتماعي، كما تحملت السيدة خديجة (عليها السلام) كل ذلك.
وعايشت مخاطر قتل الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) كما عايشت السيدة خديجة (عليها السلام) مخاطر اغتيال النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم).
وعانت من متاعب ومصائب (الحجز) و(الحصار) كما عانت السيدة خديجة من حصار (شعب إبي طالب) الرهيب.
وآثرت هوى أبناء رسول الله على هواها - كما ورد في زيارتها(2)- اكبر الإيثار، كما آثرت السيدة خديجة هوى رسول الله على هواها اكبر الإيثار.
وقد (بالغت في حفظ حجة الله)(3) كما بالغت السيدة خديجة (عليها السلام) في حفظ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).
وقد (حفظت سر الله) و(صبرت على الأذى في ذات الله)(4) كما قامت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) بكل تلك المهام والادوار من قبل(5).
ص: 71
فكانت عليها السلام بكل ذلك تعتبر امتداداً تاريخياً لذات المسيرة التاريخية الكبرى، التي بدأتها ام المؤمنين السيدة خديجة الكبرى عليها سلام الله.
وكانت عليها السلام(1) أيضاً امتداداً تاريخياً لذات المسيرة الجهادية الجبارة التي اضطلعت بأداء أدوارها الرئيسية السيدة زينب الكبرى سلام الله عليها:
فكما تعرضت السيدة زينب (للأس) كذلك كانت السيدة نرجس في الجوهر والمضمون، وان اختلفت طريقة (الأسر) وهيكليته(2).
وكما ظلت السيدة زينب (عليها السلام) طوال فترة الأسر متماسكة النفس، رابطة الجأش، قمة في الصمود والاستقامة، نموذجاً أسمى للشموخ والعظمة والجلال، كذلك كانت السيدة نرجس = حكيمة.
وكما قامت السيدة زينب (عليها السلام) بواحد من اكبر المهام الاستراتيجية الكبرى على مر التاريخ عند ما حافظت - وبشجاعة وحكمة فريدة - على حياة الإمام السجاد (علیه السّلام) في الحادثة الشهيرة في مجلس ابن زياد، كذلك قامت السيدة نرجس عليها السلام
ص: 72
(الحفاظ) على حياة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) عبر التحلى بكتمان لا نظير له، وبصمود نفسي جبار، وبحكمة فريدة في طريقة التعامل مع الأعداء لتضليلهم....
ص: 73
تستوقفنا في حياة السيدة نرجس (عليها السلام) احداث ذات دلالة كبيرة جدا، رغم الحجم الصغير جدا الذي احتلته من صفحات التاريخ، وهي أحداث ودروس وفضائل تصلح ان تكون لن لنا نعم الدليل والمرشد والمصباح المنير في مسالك الحياة:
صلاة في السحر
[ففي الشهر الأخير من الحمل، وفي الليلة الأخيرة - وهي اصعب ليلة تمر على المرأة الحامل - تقوم صلوات الله عليها، اواخر الليل، وفي وقت السحر ل_(تسبغ الوضوء) - واسباغ الوضوء اجراء الماء مع الغلبة لا كمسح الدهن(1)- ثم بعد ذلك تنطلق لتغرق في مناجاة طويلة مع خالق الكون عبر ركعات صلاة الليل، حتى اذا بلغت ركعة الوتر - وهي الركعة الحادية عشرة - كان الفجر الأول قد أوشك ان ينبلج ، وهذا التاريخ يحدثنا :
ص: 74
تقول السيدة حكيمة - عمة الإمام العسكري (علیه السّلام)- وهي شاهد العيان الوحيد الذي عايش السيدة نرجس ليلة (مولد النور) لحظة بلحظة:
(فوثبت سوسن - أي السيدة نرجس - فزعة، وخرجت وأسبغت الوضوء، ثم عادت فصلت صلاة الليل حتى بلغت الوتر، فوقع في قلبي ان الفجر قد قرب فقمت لأنظر، فاذا بالفجر الأول قد طلع...)(1).
انها ساعات اشراقة شمس حياة جديدة، وما أجدرها بأن تحاط بهالة روحانية ربانية سامية، وبان تندمج وتصهر في بوقعة الارتباط بعالم القدس والملكوت.
ص: 75
وننتقل بعدها الى درس جديد:
ففي لحظات الولادة وهي (عليها السلام) تعاني آلام المخاض ووضع الحمل، وفي قمة الألم وهي (تجد أمرا شديدا) على حد تعبيرها (عليها السلام) فتمسك بكف قابلتها - السيدة حكيمة عمة الإمام العسكري (علیه السّلام)- وها هي تغمز كفها غمزة شديدة وتأن ولا تنسى في تلك اللحظات الصعبة والألم يعتصر كيانها بأكملته ان تهتف - وهي تحس بالوليد المنتظر ينسل من أحشائها - بشهادة ان لا اله الله..(1)
انها القمة في الفناء في الله وتفويض الأمر اليه والتسليم لأمره جل وعلا (لا اله الا الله) انها اللحظات التي تكشف عن أعماق المخزون الفكري وعن شحنات مراكز اللاوعي والوعي الباطن، وعن مدى عمق الرابطة بين الإنسان والرب في الأعماق السحيقة من النفس، وكما يقول الحكماء وعلماء النفس فان الإنسان يخضع في المنعطفات الكبرى واللحظات الخطيرة لنداء خفي يمتد الى أعماق ذاته ومجاهيل شخصيته، وهو الذي يسير دفة حياة الإنسان آنئذ وهو
ص: 76
الذي يكشف عن جوهرة الإنسان وعن كنه حقيقة أحاسيسه ومشاعره لتطفو على السطح على شكل كلمات أو إشارات او قرارات ومواقف آنية حاسمة.]
ص: 77
*عفاف وشجاعة وصمود:(1)
[ويستوقفنا أيضا : عفافها وحياؤها وشدة تسترها واحتشامها وصمودها وشجاعتها...
فرغم أن (الأسيرة) في أعراف ذلك الزمن قليلة الاحتشام، بل ربملم حاول الكثير منهن إبراز مفاتنهن كيما يصطدن اثرى المشترين واكثرهم أرستقراطية.
ورغم ان الأعراف تقضي للبائع بالحق في إبراز بعض ملامح او مفاتن الجارية، وتقضي للمشتري بالحق في استعراض المظاهر العامة، بل ربما حتى لمس جسد الأمة المعروضة للبيع(2) الا ان السيدة نرجس (عليها السلام) ترفض باباء حتى من ان تقع الأعين عليها.
فهي عليها السلام (تمتنع من السفور ومن العرض) وتمتنع من الانقياد لمن يحاول ان يشغل نظره بتأملها(3) وتدفع الضريبة والثمن
ص: 78
غاليا فتنهال عليها ضربات النخاس، الا انها لا تستسلم بل تستنجد صارخة (واهتك ستراه)(1).
ثم هي بعد ذلك صابرة، وصامدة، ومتحدية أيضا!.
فعندما يحاول احد المبتاعين (أي المشترين) ان يتملكها رغم كل شيء، فيدفع ثمنا أعلى بكثير من الثمن الذي يطمح به النخاس كي يبيعها له دون تردد تجيب متحدية: (لو برزت في زي سليمان بن داود وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فاش- فق على مالك)(2)!.
انها أوقعت بنفسها في وثائق الأسر لهدف محدد، وبتخطيط الإمام العسكري (علیه السّلام) فهي تنتظر مبعوث الإمام (علیه السّلام) كي ينقذها من هذا الكي الوضع ويبتاعها من النخاس ليذهب بها الى دار حجة الله على الأرض.
فهي أذن على بصيرة من أمرها، وهي أيضا تمتلك من العزم الراسخ، ما تستطيع به ان تتحدى شوامخ الجبال.
وهكذا نجدها تواجه النخاس بكل قوة، وتهدده أيضا بانه ان لم يبعها ل_(بشر بن سليمان)- مبعوث الإمام العسكري (علیه السّلام)- فانها ستقتل نفسها وتحلف له على ذلك بالأيمان المغلظة(3)!!.
ص: 79
وهو تهديد ذو فعالية كبيرة لا يبقى معه للنخاس خيار الا ان يخضع اذ أنها لو نفذت التهديد فانه سيفقد ثروة طائلة وربما سيتعرض لمؤاخذة ولاحراجات كثيرة...
وهي عليها السلام: بصيرة وعالمة بمستقبل حياتها، وبما قدره خالق الكون لها، فليس ذلك الوعيد منها الا إنذارا ولا غير!].
ص: 80
[لقد تميزت السيدة نرجس (عليها السلام) بشغف كبير ورغبة جارفة نحو (العلم والثقافة والآداب) منذ نعومة أظفارها..
فعلى الرغم من ان غالب النساء في تلك العصور كن يعشن مرحلة ما تحت الصفر في الثقافة والتعليم.
وعلى الرغم من ان الأطفال لا اشق عليهم من الدراسة المنظمة خاصة اذا كانوا من عوائل مرفهة قد تفتحت لها آفاق شتى الألعلب، فكيف اذا كانت بنتا مدللة لواحد من اكثر ملوك الأرض جاها وثراء وبرجوازية.
على الرغم من كل ذلك نجد السيدة ملكية = نرجس (عليها السلام) منذ طفولتها تلتزم اكبر الالتزام بالبرنامج التثقيفي الذي برمجه لها جدها قيصر ملك الروم فها هي تتعلم مختلف (الآداب) وها هي تلتزم بالدراسة صباحا ومساءً عند امرأة خبيرة ترجمانة كان من مهامها تعليمها اللغة العربية، حتى أضحت السيدة نرجس تتكلم بلغة الضاد بطلاقة وفصاحة أيضا ولما تبلغ الثالثة عشرة من العمر(1)!.
ص: 81
وفي الحوار الذي دار بينها (عليها السلام) وبين (بشر بن سلميان) اكبر الدليل على أنها - وهي ابنة 13 سنة – كانت تتحدث باللغة العربية بجودة وتتقن قواعد الفصاحة والبلاغة أيضا(1).
إضافة الى تصريحها عليها السلام بذلك حيث تقول: (حتى استمر عليها - أي على العربية - لساني واستقام)(2) .
وبعد ذلك: وعندما تحل بدارة القدس ومتزل الإمامة، ومنذ اللحظات الأولى لوفود الزائرة .. المهاجرة، نجد الإمام الهادي (علیه السّلام) يستدعي السيدة حكيمة - وهي ذات العقل الراجح والعلم الغزير النافع - ويعهد اليها بمهمة تعليم (الأميرة الأسيرة) شرائع الإسلام، قائلا: (يا بنت رسول الله خذيها الى مترلك وعلميها الفرائض والسنن فانها زوجة أبي محمد وأم القائم عليهما السلام).
ولنا ان نستكشف من هذا التعليل: (فانها زوجة أبي محمد وأم القائم عليهما السلام) الدرجة الرفيعة التي ينبغي ان تبلغها السيدة نرجس (عليها السلام) في مراحل تعلمها للفرائض والسنن وحتى تتناسب مع متزلتها كزوجة لحجة الله على الأرض وكوالدة لخاتم الأوصياء وسيد الأكوان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)].
ص: 82
ص: 83
*القيادة والمسئولية(1)
على نوعية (القيادة) تدور رحى الشقاوة أو السعادة.
و (نمط القائد) هو الذي يحدد مسيرة الأمة ويقودها نحو مدارج الكمال او مستنقعات الرذيلة والضلال.
الا ان (القائد) بدوره لا يمكن ان يعيش في فراغ، أو ان يصول بيد جذاء، فهو (كالعقل) تماماً بحاجة الى (اذرع) وأعضاء وانصار وأجناد .
واذا كان الجهل مخيماً على جمهرة الناس واذا كانت (الشهرات) واللذائذ الحسية المادية (من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة)(2) هي التي تسير دفة حياتهم الفردية والاجتماعية، واذا كان التفكير الأناني والمصلحي الضيق هو سيد الموقف وهو الإله الذي يعبد من دون الله ، واذا كانت الرذائل الأخلاقية (كالجبن، والخوف، والحسد، والتباغض والتحارب والتفرقة، والمكر والخداع و ...) هي الهواء الذي يستنشقه الناس وهو الماء وهو الروح السارية في أعماق وجودهم ومناهج حياتهم، فان من الطبيعي ان يفرز كل ذلك (قيادة شيطانية مستبدة طاغية تتخذ مال الله دولاً وعباده
ص: 84
خولاً)(1) اذ (كيف ما تكونوا يولى عليكم) وهذه القيادة الشيطانية تفرز بدورها مزيداً من الشرائق الخانقة وتقود (الشعب) اكثر فاكثر نحو مستنقعات الرذيلة والانحطاط، وتدقع بعجلة الأمة وبسرعة متزايدة نحو الأعماق السحيقة.
وهنا.. تتضاعف بشكل خطير مسؤولية: الأذرع والأعضاء والجنود والأنصار الذين (نذروا) أنفسهم للتصدي (للقيادة الشيطانية) والدفاع عن (القيادة الربانية).
ص: 85
وكلما كان عدد هؤلاء اقل، كان عليهم ان يتحملوا أعباء اكثر، وان يحاربوا على عدة جبهات في وقت واحد:
أ: فهناك معركة مع (الأهواء والشهوا)ت التي تلهبها الغرائز والنفس الأمارة بالسوء، وتزيدها تأججاً شباك قوى الطاغوت المعدة خصيصاً لاصطياد (جنود القيادة الرسالية) عبر سلسلة ذهبية براقة من الاغراءات.
ب: وهناك معركة اخرى ضد (الخوف من الحرمان، والملاحقة والاضطهاد) الذي يواجه جموع الثائرين.
ج: وهناك معركة ثالثة لإزاحة ظلمات (الجهل) الذي يلف الناس ويقضي على الحقيقة ويسدل الستائر والحجب على واقع (القيادة الرحمانية).
د: ومعركة رابعة ضد (الناصحين الجبناء) و (الأصدقاء - الأعداء).
ه_: واخيراً المعركة مع قوى الطاغوت مباشرة، ووجهاً لوجه.
وفي كل معركة من هذه المعارك نجد - على مر التاريخ - كثيراً من جنود الحق، قد سقطوا صرعى (الأهواء) أو (الخوف) أو (الضغط الاجتماعي) أو (النصيحة الأخوية) أو غير ذلك.
ص: 86
وقل من صمدوا طوال حياتهم إزاء كل هاتيك الأعاصير.
وكان (السر الكبير) وراء هذا الانتصار الصعب، يكمن في (الاسلحة) التي امتلكوها وطوروها على مر الزمن، وفي (المناقبيات) التي ما فتئوا يرعونها ويغذونها وبشكل متواصل.
وكان (الموقع الخطير) و (الخندق الأول) الذي احتلته أم خاتم الأوصياء (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يجعلها في الرعيل الأول بل في طليعة الرعيل الأول الذي تعرض لهاتيك الأعاصير، وكانت (الأسلحة) التي تمتلكها و(المواصفات والمناقبيات) التي تتحلى بها، هي التي أهلتها لأن تخرج من تلك الغمرات شامخة ظافرة منتصرة ...
ص: 87
ولنا ان نتساءل الآن بشغف ورغبة لا تضارع، عن تلك (الأسلحة) وهاتيك المواصفات، علنا ننهل من ذلك المنهل العذب ونقتدي بتلك المرأة.. الأنموذج، والحقيقة.. الحلم .
*1: سلاح المعرفة(1)
أ: سلاح المعرفة و (عدة) الاستبصار، ليس هنالك شيء من المبالغة في الحديث القائل: (نوم العالم أفضل من عبادة الجاهل)(2).
ذلك ان العلم والمعرفة نور يضيء الدرب، ويكشف عن وجه الحق، ويكشف عن زيف الباطل وعن (تلبيس إبليس) وعن ذلك القناص الذي شرع أسلحته ل_(اصطياد) المستضعفين : المستضعفين فكريا وعلميا وثقافيا.
ص: 88
ان (المعرفة) تهب المرء روح الطمأنينة ومضاء العزم عند ما تكشف له عظيم الأجر وخطير الوزر (فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون)(1).
وعندما تكشف (العواقب المرة والنتائج الحلوة) لكل من أتباع طريق الهدى ومسارب الضلال في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهي التي تكشف (الداء) وتفصح عن (الدواء) وهي التي تعصم المرء على حسب مراتبها وبعونه تعالى - من اقتراف الخطيئة أو ارتكاب الفاحشة، اذ هي التي ترسم أمامه بدقة - مثلا - صورة الحياة الدنيا، لتريه بوضوح أنها (جيفة وطلابها كلاب)(2)! وأنها (تغر وتضر وتمر)(3) وأنها (لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد)(4) وتكشف.. وتكشف .. وتكشف...
ومعرفة (القيادة الربانية) - بحقوقها ومواقفها ومناهجها ومكانتها - تكفل كل ذلك، وفوق ذلك. فليس بعد ذلك مما يصعب على الفهم تقبل ما ورد في شأن زيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها
ص: 89
السلام) ومن قبلها الأئمة الأطهار (عليهم السلام) - (من زارها عارفا بحقها وجبت له الجنة)(1).
وكانت (مليكة الدنيا والآخرة) قد اتسمت هذه السمة وتميزت بهذه المكرمة وتحلت بهذه الصفة، بشكل لا يشق له غبار، ولذلك كله ورد في زيارتها نعتها ب_(الصديقة)(2) وبأنها (عارفة بحق أبناء رسول الله) - كما سيأتي بعد قليل انشاء الله-.
ومن الواضح لدينا عند استكشاف ذلك ان نراها سلام الله عليها مالكة لأهم سلاح يواجه به الإنسان كافة التحديات والصعاب والعقبات والأخطار التي تواجه مسيرة (المجاهدين في سبيل الله) .
ص: 90
فان (المعرفة) تمنح الإنسان - إضافة الى ما سبق - : الرضا بما يقدمه من عطاء عندما تتجلى له عظمة الهدف وسمو المقصد، وتمنحه الصبر على ما يلاقيه من أذى عند ما يرى عظيم المذخور له من الأجر، وتمنحه (الاجتهاد) في المحافظة على (الودائع) و(الأمانة) وفي بذل النفس والنفيس للدفاع عن (خليفة الله في الأرض) وفي زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) نجد العبارات الثلاثة التالية ببريقها الأخاذ ومعانيها الدقيقة تفصح عن هذه الفضيلة السامية:
(... أشهد أنك ... بالغت في حفظ حجة الله ورغبت في وصلة أبناء رسول الله، عارفة بحقهم ... معترفة بمنزلتهم، مستبصرة بأمرهم ..).
وما أعظم (حق) آل رسول الله عليهم السلام ؟!.
وما أجل (مترلتهم)؟!.
وما أصعب (أمرهم)؟!.
وما أسمى وأجمل أن (يعرف) الإنسان حقهم علينا وعلى كافة الخلائق و (يعترف). بمترلتهم عند الله تعالى وفي منظومة عالم الإمكان كلها و(يستبصر) بأمرهم،
ص: 91
ليس كل من يعلم ويعرف (مؤمنا) .
وليس كل مؤمن (راسخ الإيمان).
وليس الراسخون في الايمان بمنأى عن مخاطر (الانقلاب على الأعقاب)(1) و(سوء العاقبة).
فهنالك من يعلم، الا انه لا يعقد القلب على ما يعلم، فيكون من الذين (جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)(2) أو لم يكن ابوجهل وأبو لهب أشبه (يعلم) بنبوة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) رغم أنه كان يجحدها؟ .
ومن والم يكن فرعون يعلم بنبوة موسى (علیه السّلام) ومن قبل ألوهية الرب ومع ذلك كان يجحد؟
وألم يكن الطغاة يعلمون مكانة الأئمة عليهم السلام ويجحدونها في الوقت ذاته؟
فالعلم اذن غير الإيمان وليس كل عالم (مؤمنا).
وهنا لك (المؤمن) الذي لم يشرب الايمان قلبه، ولم يخالط لحمه ودمه، فتراه يشك عند اول شبهة ويميل مع كل ريح!.
ص: 92
وهنالك الراسخون الذين زلت بهم الأقدام فهووا الى الحضيض بعد ان بلغوا مرتبة قل لبشر ان يبلغها ك_(الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان)(1).
وسجل حياة السيدة نرجس - "مريم" (عليها السلام) يكشف لنام عن إيمان أصيل راسخ نموذجي مستقر طوال سنين الحياة.
وهذا ما تحدثنا عنه في بعض الفصول السابقة بشيء من الإسهاب.
وكان من الطبيعي ان يستطيع من يملك سلاحي (المعرفة والايمان) من ان يواجه بصلابة وبنجاح ايضا : المعارك الخمسة الكبرى - السابقة الذكر - والتي يمر بها في معترك الحياة.
وكان من الطبيعي أيضا ان نحتاج الى مراتب أعلى فأعلى من (المعرفة والإيمان) كلما ازدادت ضراوة تلك المعارك، وكلما احتل الفرد موقعا متقدما في ساحة المواجهة.
وذلك أيضا يكشف اكثر فاكثر عن مكانة السيدة " نرجس = سبيكة " (عليها السلام) وعظمتها وعمق إيمانها ومعرفتها.
كما قد أسلفنا الحديث عن كل ذلك، وكفاها شهادة موجزة وبليغة ان يرد في زيارتها (عليها السلام) (اشهد أنك ... مؤمنة بصدقهم ...)(2).
ص: 93
وكفى في الشهادة أيضا على عمق معرفتها وإيمانها أن تكون: (المودعة أسرار الملك العلام) و (المستودعة أسرار رب العالمين) وأن تكون الموصوفة ب_(الصديقة، الرضية، المرضية) وبأنها: (راضية، تقية، نقية، زكية) ثم ب_ (فرضي الله عنك وأرضاك و جعل الجنة مترلك ومأواك، فلقد أولاك من الخيرات ما أولاك وأعطاك من الشرف ما به أغناك، فهناك الله بما منحك من الكرامة وأمرأك)(1).
خاصة اذا ما لاحظنا ان عددا من هذه الصفات هي ذات الصفات الذي ذكرت للصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها وصلواته وتحياته وبركاته.
وربما يوفقنا عن بحث هذه الصفات بشكل مستقل بأذنه تعالى .
ص: 94
*3 : الشحنة العاطفية(1)
عند ما تعضد (العاطفة الجياشة) سلاح المعرفة، وعند ما يقترن (الإيمان بالهدف) ب_(المحبة الصادقة)..
عند ذلك :
يبلغ المرء القمة العليا في (العطاء دون حساب) وتتمخض عن ذلك اروع (الملاحم) وستسجل عندئذ صفحات التاريخ نماذج خالدة لأنماط نادرة من (التضحية) وبكل شيء.
وعندما نتصفح سجل حياة والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) نجدها تتموج بالعاطفة المشبوبة والمحبة الصادقة لآل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد تزاوجت في شخصيتها المثالية: المعرفة الربانية والإيمان الراسخ، بعاطفة جياشة ومحبة متأججة، طبعت بصماتها على مواقفها الاجتماعية وممارساتها الفردية في كل ما يمت لآل الرسول الأطهار (عليها السلام) بصلة، فكان من الطبيعي بعدها أن تكون (سلام الله عليها) مؤثرة لهوى آل البيت على هواها، و لرغباتهم على رغباتها، وأن توصف بأنها كانت: (مشفقة عليهم، مؤثرة لهواهم)(2).
ص: 95
[و سنجد ونحن نتصفح التاريخ، اول إشارة في سجل حياتها تنم عن تلك المحبة المتجذرة العميقة واللاهبة أيضا لآل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) عند ما نستمع اليها (عليها السلام) وهي تحكي جانبا من صفحات حياتها المشرقة، فها هي سلام الله عليها تقول - وهي في الثالثة عشر من العمر :
(... وضرب صدري بمحبة أبي محمد - أي الإمام العسكري (علیه السّلام) وهو زوجها المستقبلي، وكان ذلك إثر الرؤيا الصادقة التي رأتها وهي لا تزال في قصر جدها قيصر ملك الروم - حتى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودق شخصي ومرضت مرضا شديدا، فما بقي في مدائن الروم طبيب الا أحضره جدي وسأله عن دوائي، فلما برح به اليأس قال: يا قرة عيني هل تشتهين شيئا ؟...)(1).
وهذه المحبة الصادقة والعاطفة الجياشة سيلمسها الإنسان وهو يتصفح تاريخ حياتها : كهالة مقدسة تحيط بكل كيانها وتؤطر مسيرة حياتها، بل وتذلل عليها كل صعب، وتيسر عليها كل عسير، وسنجدها تبذل الغالي والنفيس وبرغبة ولهفة وشوق في طريق تلك المحبة الربانية والصادقة.
ص: 96
فهي تتخلى طوعا وبإصرار أيضا عن حياتها الذهبية وعن بذخ الملوكية وشتى لذائذ الحياة المادية، في إمبراطورية جدها: قيصر ملك الروم، لتتنكر بملابس الخدم(1) ثم تعرض نفسها للوقوع في الأسر، ثم وهي تتحمل مشاق الأسفار وأخطارها، وهي تواجه مجاهيل المستقبل في هذه الرحلة الشائكة ...
بل ان تلك المحبة الصادقة، وذلك الإيمان العميق، وتلك العواطف الإنسانية الملائكية - السامية التي كانت تزهر وضاءة في سماء روحها وفي ملكوت كيانها وعقلها ونفسها، تجاه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وآلني الأطهار (عليها السلام)، أورقت وأزهرت وأثمرت وأينعت لتبعث فيها - وهي لا تزال في مقتبل العمر وسنين المراهقة - ذلك الإحساس العميق بالمسؤولية تجاه كل من يمت الى نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله و سلم) بصلة، وكل من يحمل شرف الانتساب الى الدين الإسلامي الحنيف، وان كان غريبا عنها، مجهولا لديها، جملة وتفصيلا، فأضحت سلام الله عليها تتألم بآلام اتباع الرسالة وتفرح بأفراحهم، ثم نجدها تنتهز الفرص للدفاع عن المظلومين وإنقاذهم من براثن الظالمين.]
ص: 97
[وهكذا نجدها - وكنموذج يحمل في طياته أسمى الدلائل - تخطط لإنقاذ أسرى الجيش الإسلامي الذين كانوا محتجزين عند الروم، يرسفون في الحديد والأغلال.
و لم تجد حفيدة ملك الروم المحببة والمعززة افضل من استخدام سلاح العاطفة طريقا لإنقاذ أسرى المسلمين.
وهكذا نجدها (تستثمر) مرضها الخطير الذي عجز عن علاجه شتى أطباء الروم - كما سبق - والذي اقلق جدها قيصر الى درجة كبيرة نجدها تستثمره لحمل جدها ملك الروم على إطلاق سراج من في بلاده من اسارى المسلمين، ولنستمع اليها تحدثنا عن هذا المقطع التاريخي الفريد قائلة:
(... فقلت: يا جدي، أرى أبواب الفرج علي مغلقة، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من اسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومننت عليهم بالخلاص، لرجوت ان يهب المسيح وامه لي عافية وشفاءا. فلما فعل ذلك جدي تجلدت في
ص: 98
إظهار الصحة في بدني وتناولت يسيرا من الطعام، فسر بذلك جدي واقبل على إكرام الاسارى وإعزازهم ...)(1).
لم يكن الطلب عاديا، اذ انها (عليها السلام) لم تتحدث عن أسير أو أسيرين و لم تطالب بالحد الأدنى وهو فك الأغلال او رفع التعذيب فقط، بل طالبت بالحد الأعلى وهو إطلاق سراح أسرى المسلمين جميعا دفعة واحدة، مستعينة بدغدغة عواطف جدها نحوها وقلقه الشديد عليها، ومحركة فيه في ذات الوقت العرق الديني والأحاسيس الروحانية: (الرجوت ان يهب المسيح وأمه لي عافية وشفاءا).
وكان لها سلام الله عليها ما أرادت ! .
ويتضح لنا مدى أهمية مبادرتها (عليها السلام) تلك، عند ما نعلم ان الروم كانوا في حالة الاعداد للحرب مع المسلمين، وان الأسارى كانوا يعدون رهينة يستفاد منهم في الضغط على المسلمين، وحملهم على إطلاق من بأيديهم من الأسارى قبال ذلك، زد على ذلك ما كان يتضمنه إطلاق سراح الأسرى من المخاطر على أمن البلاد(2).
ومع كل ذلك طالبت السيدة بإطلاق سراح الجميع وبدون استثناء، ثم استخدمت سلاح (الحكمة) لتحمل جدها قيصر على إكرامهم وإعزازهم أيضا، وكما تقول هي و كما تقول هي عليها السلام: (فلما فعل
ص: 99
جدي ذلك، تجلدت في إظهار الصحة في بدني وتناولت يسيرا من الطعام، فسر بذلك جدي واقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم).
ولنا ان نستكشف من هذا الحدث وطريقة معاملتها مع الموقف مزيجا رائعا من المواصفات النموذجية:
فهي عليها السلام تتألق بعاطفتها الجياشة ورأفتها وغيرتها وحميتها على جنود الإسلام وهي تشرف بحكمتها على طريقة إدارة القضية وفي تلك (الهمة العالية) التي ميزت نمط الطلب وحجمه ومستواه أيضا.
ثم وبعد هذه الجولة السريعة في تسليط الأضواء على دينك الحديثين يمكننا ان نستكشف الكثير من الدروس والعبر، وان نلمس عمق ولائها لآل بيت الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وشدة محبتها لهم (عليها السلام) و مدى توهج عواطفها النبيلة نحوهم عندما نتأمل العديد من مواقفها وتصرفاتها بعد الهجرة وهي تعيش متفيئة بظلال الدوحة النبوية منذ أن حلت ب_(دارة القدس) تلك ...] .
ص: 100
ومن هنا، وعبر معرفة العوامل الثلاثة الرئيسية الكامنة وراء تلك الإرادة الجبارة، وذلك الصمود الراسخ الذي كان يزهر في حياة السيدة نرجس (عليها السلام) ويميزها ويسمو بها فوق ذرى المجد الشامخ وهي :
أ : سلاح المعرفة.
ب : الإيمان الراسخ .
ج : الشحنة العاطفي .
من كل ذلك واستنادا الى قاعدة (تعرف الأشياء بأضدادها)(1)، نكتشف السر في البرود النسبي الذي يتحكم في حياة بعض المؤمنين او بعض العلماء تجاه ما يجري وتجاه الأخطار المحدقة بمدرسة آل البيت عليهم السلام، ونعرف أيضا السبب الكامن وراء حالة (اللامبالاة) التي تغلف الحياة العملية للكثيرين عندما يتعرض قلم مسموم ولسان حاقد، لبعض المفاهيم او الرؤى الدينية، او حتى عند ما يتناول واحدا من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالنقد والتجريح - لا سمح الله -.
ص: 101
ان بعضنا يتفجر غيظا ويثور كالبركان عند ما يتعرض له كاتب بالنقد والتجر والتجريح في طيات كتاب او على صفحات جريدة، ولا يهدأ له بال حتى يرد الصاع صاعين ويشهر بصاحبه في كل مجلس، ولأسابيع أو أشهر، وبمناسبة ودون مناسبة، وتراه يقيم الدنيا ولا يقعدها اذا ما (سجن) ابوه او اخوه او ابنه، ولكنه في نفس الوقت وعندما تبلغ مسامعه أنباء (اعتقال) لواحد من كبار العلماء أو مضايقات متلاحقة لعدد من كبار مراجع التقليد العظام، لا يزيد عندها على بعض (التأفف المهذب) أو (الحوقلة)(1) فقط !
وتجده أيضا في ذات الوقت يرى ويشهد عشرات الكتب والبحوث التي تتعرض بالنقد الجارح والهجوم الصارخ على مذهب أهل البيت (عليها السلام) وهو كقطعة من الجليد معتك الجليد معتكف في داره، او غاد وراجع الى معمله ومتجره ومدرسته، ككل يوم مضى وككل يوم آت(2)..!.
وذلك قد يعني ان (الشفقة) على مذهب آل البيت (عليهم السلام) وان (محبة) آل الرسول صلى الله عليه وآله ربما لم تبلغ
ص: 102
شغاف قلبه و لم تشرب أعماق كيانه و لم تصبح هاجسه الذي يعشعش في أعماق كيانه، وان ذلك الإيمان وتلك المعرفة قد تكون (سطحية) وليست بالتي تستند الى ينبوع ثر من العواطف الجياشة والى دوحة وارفة من المحبة المتجذرة.
وهذا ما أشار اليه أمير المؤمنين (علیه السّلام) عند ما قال: (.. وانتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون)(1).
وان (اشراب) الشفقة على المذهب والمحبة بال الرسول (صلى الله عليه وآله) أعماق الجنان وثنايا القلب وزوايا الفؤاد - كما كانت سيدتنا عليها السلام - یهبنا القوة على مواجهة الأعاصير والاصرار على الاستمرار، والعزم المتصاعد أبدا على التحدي والتصدي والعطاء .
وعملية (الاشراب) هذه تتم عبر الإيحاء الذاتي، وعبر التضرع الى الله تعالى، كي يتفضل علينا بفضله العميم بذلك، وعبر توطين النفس على كل ذلك ف_(إرادة الإنسان فوق التحديات).
وتتم أيضا عبر التروي والتدبر والتأمل في الأحاديث الواردة في فضائل أهل البيت (عليها السلام) ومكارم أخلاقهم وعظيم ما لهم من الفضل على البشرية جمعاء، وعبر دراسة الوقائع التفصيلية تجاه نماذج نادرة من أمثال والدة الإمام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بعطائها وهجرتها وصمودها
ص: 103
وإيثارها، و ...، حتى تتعطش النفس كي تنهل من ذلك المنهل، وتتأسى بتلك الأسوة الربانية الصالحة.
*4: القمة في الإيثار(1)
لقد كانت السيدة نرجس (عليها السلام): (مشفقة على آل البيت) (مؤثرة هواهم).
وما اعظم تلك الشفقة ! .
وما اسماها !.
وما أحلاها !.
الشفقة على أولياء الله وخلفائه وحملة كتابه وورثة أنبيائه وحججه على خلقه.
ثم ما أعظم ذلك الإيثار ؟!.
وما أغلاه وما أصعبه ؟!
انه لمما تعجز عن حمله عمالقة الرجال وشوامخ الجبال..
ان تؤثر (هوى) آل البيت على (هواها) ... وهوى آل البيت هو (الرسالة) و هوى آل البيت هو (الهداية)، وهوى آل البيت هو هوى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)..
ص: 104
وهكذا كانت والدة الإمام، لقد ضحت بما تهويه النفس وتميل اليه لصالح ما يهويه العقل والضمير والوجدان، ولما يميل اليه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ويأمر به الرب الجليل.
و (هوى النفس) هو كافة ملذاتها وشهواتها، واية تضحية اعظم من هذه التضحية ؟!
انها تضحية يهون عندها ان تشد على خصرك حزام متفجوات ثم تلقي بنفسك أمام دبابة أو شاحنة قادمة، لتتحول الى أشلاء ودماء سابحة في الفضاء و .. ان كل ذلك عظيم، الا انه لا يعدو (الجهاد الأصغر) فحسب.
اما الجهاد الأكبر فهو ان تسحق شهوات النفس وتصرعها في شتى الميادين(1)...
النفس التي تشدك شدا عنيفا ومتواصلا للنوم والبطالة والترهة والسياحة والتمتع بلذائذ الطعام وبزهرة الحياة الدنيا: بالأولاد والأهل والعشيرة.
ص: 105
النفس التي تشدك الى ترجيح حياة الدعة والاستقرار على حياة الهجرة والجلاء، والى السباحة مع التيار بدل الجهر بالحق بعزم وإصرار .
الى التنعم بعطف الأبوة وحنان الام وسائر أعضاء الأسرة، بدل التشرد والغربة.
والى الالتذاذ بمشهد أبنائك، وأنجالك يحومون حواليك. ثم وهم يبنون حياة زوجية سعيدة وينجبون لك أحفادا وأسباطا و ... بدل ان تقدمهم - وبملأ ارادتك - قرابين على مذابح الحق، وشهداء في طريق الرب .
ان جهاد الزوجة والأم وهي تسمح لزوجها أو ابنها، بل وهي تدفعه للنضال والجهاد ورفع راية المعارضة حتى السجن او الشهادة، لهو اعظم من جهاد الزوج والابن:
انها عاطفية وهو عقلاني.
انها ريحانة(1) وهو الجلمود.
انها ضعيفة بحاجة الى حماية ورعاية مستمرة و هو القوي والقائم بالنفس.
ص: 106
وأخيرا انه يعاني آلام السجن الا انها تعاني آلاما اكبر واكبر، فما اصعب ان يسجن الابن او الزوج على الأم أو الزوجة، وما أبض مسؤولية المرأة في غياب الزوج في ادارة البيت وتربية الأطفال وتسلمين المعاش وملأ الخلأ العاطفي الذي يخلفه سجن الاب على الأطفال بلو ومواجهة تشكيلة متنوعة من الشكايات والمضايقات والمشاكسات والهمز واللمز الذي يواجه به أفراد من المجتمع ومن الأسرة ذاتها أيضا، الزوجة الصامدة.
وبعدها كثيرا ما يستشهد الرجل وتبقى المرأة لسنوات طوال، وربما لعشرات السنين تواجه بمفردها أعاصير الحياة ومرارة المآسي والمشكلات.
وما اجدر المجتمع بأن يشمل ام الشهيد وزوجته برعايته وعنايته، وما اجدر ذوي الضمير الحر بان يفتحوا قلوبهم قبل أحضانهم للأسوة المهاجرة، وما اجدر الناس بان يحتضنوا عوائل السجناء في سبيل الله، او المهجرين او المهاجرين أو المشردين ويملئوا الفراغ الذي خلفته هجرة رب الأسرة او اعتقاله او مطاردته .
ثم ما اجدر المرأة المسلمة بان تطبع مسيرة حياة حفيدة حواري عيسى (علیه السّلام) وزوجة الإمام العسكري (علیه السّلام) وأم الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في أعماق كيانها وزوايا قلبها وصحائف وجودها ووجدانها، وتتخذ منها أسوة وقدوة صالحة وأنموذجا أسمى للهجرة والعطاء والجهاد.
ص: 107
وستجد عندئذ الكثير الكثير من الدروس والعبر في حياتها الحافلة، وهي تعيش داخل القصر الملكي أميرة وسيدة، كونها حفيدة ملك الروم.
ثم وهي (مهاجرة) في سبيل الله ، تلك الهجرة الخطيرة الصعبة.
ثم وهي زوجة للإمام العسكري (علیه السّلام) حيث تعيش - بحكم موقف أسرتها المعارض للطاغوت - اسوء الظروف السياسية والأمنية.
ثم ام وهي حامل بالإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
ثم وهي محجوزة او مسجونة بأمر الطاغوت.
ثم وهي تعاني مخاوف وأخطار ملاحقة ابنها الوليد ملاحقة شرسة عنيفة.
وكذلك وهي تواجه في زمن الإمام العسكري (علیه السّلام) نفسه إخفاء واختفاء الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وفلذة كبدها الازهر بما صاحب ذلك من مضايقات سياسية وفتن فكرية واضطرابات عائلية واجتماعية و..
وستجد امامها عندئذ مدرسة متكاملة من العواطف الربانية ومن شتى معاني الولاء والوفاء والصفاء، ومن المحبة والإشفاق والإيثار والعطاء، وستجد عندها افضل بلسم الجراحها الغائرة ودموعها الحائرة ...
ص: 108
*5 : العزم والمضاء(1)
يقول سيد الموحدين (علیه السّلام): (لا تجعلوا علمكم جهلا، ويقينكم شكا، اذا علمتم فاعملوا، واذا تيقنتم فاقدموا)(2).
وقال سبحانه وتعالى من قبل: (والذين جاهدوا فينا لنهدين سبلنا وان الله لمع المتقين)(3).
وقال عز وجل: (وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا)(4).
وتلك القواعد هي من أهم أسرار النجاح، ومن أهم ضمانات استمراريته أيضا.
وكانت تلك القواعد من أهم ما تميزت به والدة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) طوال مسيرة حياتها الحافلة، وكان ذلك من العوامل الكامنة وراء انتصاراتها المتلاحقة في المعارك الضارية الدائرة على جبهات النفس والمجتمع والسلطات - كما سبقت الإشارة الى العديد من النماذج -.
ص: 109
ان الكثيرين يتعامل مع (العلم) تعامله مع (الجهل) ويواجه (اليقين) كما يواجه (الشك)، في حياته الفردية أو العائلية أو الاجتماعية او الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.
فالذي يعلم ب_: (درهم من ربا اعظم عند الله من سبعين زينة كلها بذات محرم عند بيت الله الحرام)(1).
و: (يا ايها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا اضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون)(2) ثم بعد ذلك يتعامل بالربا و(ينتفخ به) أيضا، فانه هو ذلك الذي سحق (علمه) تحت الأقدام وحول علمه جهلا ويقينه شكا.
والذي يعلم بان: (الساكت عن الحق شيطان اخرس).
و: (من أعان على المؤمن بشطر كلمة لقي الله عزوجل يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمتي)(3).
و: (اذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فقولوا بئس العلماء وبئس الملوك واذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فقولوا نعم العلماء ونعم
ص: 110
الملوك)(1).
من يعلم كل ذلك ثم يسكت عن الجهر بالحق والتشهير بالباطل، او يعين الظالم - ولو بالتوظف في إحدى دوائر الدولة - او تراه يراود الظلمة ويهادنهم فانه - حسب تلك الأحاديث - قد جعل علمه جهلا ويقينه شكا، فتجرد علمه من العمل وتعرى يقينه من الأقدام، وان (العلم مقرون بالعمل) فمن علم عمل (والعلم يهتف بالعمل فان أجابه والا ارتحل).
والذي يعلم ب_(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا)(2).
و: (ان الدار الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون)(3).
و: (من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه)(4).
و: (من يتق الله يجعل له من امره يسرا)(5).
و: (الدنيا تغر وتضر وتمر)(6).
ص: 111
و: (عبدي اطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون).
ثم نجده بعد ذلك يستبد ويستأثر ويتكبر ويستعلي، أو تراه مغرورا بالدنيا غارقا في ملذاتها، مشدودا الى شهواتها، او الف شيء وشيء، فان هذا الأنموذج من الناس هو كذلك الذي أنذر بهجوم عدة أسود مفترسة على قريته، ثم تراه يخرج الى الأزقة شامخا برأسه الى السماء، مترنما بأغنية حالمة!
او كمن شاهد جيش العدو وهو يزلزل ارجاء البلدة بدباباته وطائراته ومشاته، ثم يمضي بثقة واعتلاء ليكمل بحوثه في الجيولوجيا أو في الميتافيزيق!!.
ان المؤمن هو ذلك الذي علم وآمن فعمل، أيقن فاقدم، ثم لم يترك لوساوس الشيطان، ولا لهمسات الخلان، ولا للنفس الأمارة بالسوء، ولا لبهارج وزخارف الحياة، مجالا لزعزعة إرادته وفل عزيمته وتثبيط همته.
وعندئذ يكون من الذين حملوا هذا الوسام الرباني: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(1) فتفتح له عندئذ آفاق جديدة، وتلفه العناية الربانية، ويرتقى سريعا في مدارج الكمال، وستنزل عليه
ص: 112
السكينة وتهبط عليه صنوف لا تتصور من الرحمة الإلهية، فان الحسنات بعضها آخذ بعنق الآخر كما ورد في الحديث.
وسيكون كما قال تعالى: (وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا)(1).
وكذلك كانت السيدة نرجس عليها السلام.
فقد انطلقت عن بصيرة، وجاهدت على ضوء ما علمت وواصلت كما تيقنت فاذا كان هنالك من يعلم ثم هو كقطعة صخر أو جليد، او يتيقن ثم هو ساكن كصخر في واد او كصغر الى الشمال، او كان هنالك من يعمل على غير بصيرة ويمضي وهو على شك، فانها صلوات الله عليها علمت وعملت وتيقنت فأقدمت، وكانت كما جاء في زيارتها (... واشهد انك مضيت على بصيرة من أمرك ...)(2) .
وهكذا كانت الشهادة لها ب_: (اشهد انك قد أحسنت الكفالة وأديت الأمانة واجتهدت في مرضاة الله وصبرت في ذات الله و حفظت سر الله وحملت ولي الله وبالغت في حفظ حجة الله ورغبت في وصلة أبناء رسول الله ...)(3).
ص: 113
وهكذا كان حيث وصفت ب_(الصديقة الرضية المرضية التقية النقية الراضية الزكية)(1).
وما أسمى درجة الصديقين؟!.
وما أعلا شأن من أضحى راضيا بقضاء الله وقدره، مرضيا في أرضه وسمائه، زكيا نقيا نقيا ؟!
ص: 114
ولكي نعرف مدى قيمة ذلك (المضاء) و(العزم) الغريب الذي تحلت به السيدة نرجس - ملكية (عليها السلام) لا بد من أن نلقى نظرة على جانب من الظرف الاجتماعي.. السياسي الذي كان يحيط ببيت النبوة واسرة الامامة والإمام العسكري (علیه السّلام) والإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بالذات، حيث كانت المعاناة كانت المعاناة من الأصدقاء كما كانت من الأعداء، وكانت المعاناة أيضا من عامة الناس كما كانت من السلطات.
وكان الحسد هو من الأسباب الرئيسية في معاداة الإمام (علیه السّلام) من قبل السلطات وربما حتى من قبل أفراد الأسرة.
وتكفينا الرواية التالية لمعرفة مدى خطورة هذه المعاداة وشدة تأثيراتها السلبية، وهي تشير أيضا الى واحد من أسباب التكتم الشديد على ولادة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
وهي تفصح عن المعاناة التي كانت تعايشها السيدة نرجس عليها السلام كونها زوجة الإمام العسكري (علیه السّلام) واحدى المحتملات الرئيسية - لدى العديد - لأمومة الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) كما كشف عداد الزمن عن كونها هي بالذات الأم ولا غير كما تكشف عن ذلك العزم الراسخ الذي كانت تتحلى به السيدة ام الإمام الحجة
ص: 115
(عجل الله تعالى فرجه الشريف) متحدية كل تلك الظروف بصمود لا نظير له:
فأبو خالد الكابلي في حواره مع الإمام الباقر (علیه السّلام) يقول: ... أريد ان تسميه - أي الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) - لي حتى اعرفه باسمه.
فقال - أي الإمام الباقر (علیه السّلام) -: سألتني والله يا ابا خالد عن سؤال مجهد ولقد سألتني عن امر ما لو كنت محدثا به أحدا لحدثتك ولقد سألتني عن امر لو ان بني فاطمة عرفوه حرصوا على ان يقطعوه بضعة بضعة)!(1).
وعلى الرغم من الحرص الشديد على إخفاء امر الوليد المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فان مجرد احتمال البعض لولادته سبب تأجج نار الحسد وتفجر الأضغان في القلوب وعلى صفحات الوجوه وأطراف الجوارح.
كل ذلك زائدا الحسد الشخصي تجاه الإمام العسكري (علیه السّلام) نفسه !
ص: 116
وقد استدعى الخليفة العباسي الإمام العسكري (علیه السّلام) يوما فشق ذلك على الإمام وتحذر من (أن يكون قد سعى به اليه بعض من يحسده ...)(1).
وما أصعب الحياة في ظل هذه الظروف وما أشقها، خاصة على النساء - وهن ذات حساسية عالية ومشاعر رقيقة وعواطف ساخنة - وهن يعشن معاناة رب الأسرة و مخاطر عديدة تواجههن بالذات إثر ذلك !).
ص: 117
ان اتخاذ (الأسوة الصالحة)، والتفكير الدائم بها، وتحولها الى هاجس يومي، يعيش مع الإنسان لحظة بلحظة وخطوة بخطوة، ويتجسد امام ناظري الإنسان ويملأ قلبه وسمعه وبصره، هو من أهم (الأسلحة) التي تكفل للإنسان المقدرة الأسمى على مواصلة مسیرته النضالية الصعبة وعلى الاستمرار في برنامجه الجهادي الخطير.
وان دراسة سريعة لحياة السيدة نرجس (عليها السلام) تكشف عن انها (عليها السلام) كانت قد أشربت أعماق كيانها معادلة الأسوة فاضحت لا تبصر غير الإمام العسكري (علیه السّلام) و لا تفكر الا في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، ولذلك فقد ورد في مواصفاتها: (مقتدية بالصالحين)(1).
وهكذا نجد ان السيدة نرجس عليها السلام قد تأست في شى مراحل حياتها بالقمم السامية في الصلاح السداد، والتضحية والجهاد، فأضحت - بدورها - الأسوة المثلى والقدوة العليا للأجيال اللاحقة ..
لقد تأست السيدة (عليها السلام) بابي طالب (علیه السّلام) عم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) و كافله، حيث بسط حمايته على ابن أخيه ووقاه من الاخطار
ص: 118
والمشاكسات من قبل علية القوم وسفلتهم حتى قال (صلی الله علیه و آله و سلم): (بني الإسلام على ثلاث سيف علي ومال خديجة وحماية أبي طالب)
فكانت الحماية السياسية والاجتماعية من نصيب أبي طالب (علیه السّلام)، وكان الدعم الاقتصادي من سهم خديجة (عليها السلام)، وكانت القوة العسكرية الضاربة من مهام علي ابن أبي طالب (علیه السّلام)، وان كان لكل منهم دور في البعدين الآخرين بشكل أو بآخر.
وقد أشرنا في فصول سابقة الى نماذج من حمايتها(1) الاجتماعية والأمنية النموذجية للإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وتعرضها لشتى الأخطار والمضايقات وهي تحافظ على (حياة) الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لفترات طويلة .
كما تأست (عليها السلام) بالسيدة خديجة (عليها السلام) وبالسيدة مريم (عليها السلام)وبالسيدة زينب (عليها السلام) وبأم موسى (عليها السلام) وبيوسف الصديق ال ، كما تحدثنا عن كل ذلك في فصول سابقة.
فاصبحت بذلك الوريث والوارث المعنوي لكل أولئك - على حسب الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بها عليها السلام - فقد ورثت (المنهج) و(المعرفة) و(الإيمان) و(العزم والمضاء) و(الصمود والمواصلة) و(التضحية والإيثار) و ... من كل أولئك عليهم افضل الصلاة والسلام .
ص: 119
ان القدوة الصالحة هو ذلك التجسيد الحقيقي للوجود المثالي، وهو ذلك المنار الذي يلهمك الإيمان والإخلاص والصبر والصمود، ويمدك بذخيرة لا تنفذ من الشهامة والفتوة وبشحنات متدفقة العزم والمضاء والقوة والعطاء، وهكذا نجد القرآن الكريم مليئا بنماذج من القدوات الصالحة(1) وشواهد من القدوات الطالحة على مر التاريخ، قال تعالى : (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل(2) واذا عرفنا ان الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) هو ممن يوصيه الباري جل وعلا بالتأسي والإقتداء ب_(اولو العزم من الرسل)(3)، عرفنا المكانة الكبرى التي تحتلها الأسوة والقدوة في حياة الأفراد والقادة والأمم على حد سواء، وعرفنا أيضا سرا آخر من أسرار الانتصارات الساحقة التي حظيت بها السيدة نرجس (عليها السلام) في تلك المعارك المصيرية.
ص: 120
الدائرة على عدة جبهات، وحق لنا ان نهتف باسمها هي الأخرى سيدة ورائدة وأسوة وقدوة، وهي التي قامت بكل ما قامت به، إحرازا لرضا الله تعالى و (محبة) في أهل البيت (عليهم السلام) لا غير(1).
ص: 121
ص: 122
لقد نالت السيدة أم الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) سلسلة من المنح الربانية، بعد ان نذرت نفسها - بما للكلمة من معنى الله تعالى وخلفائه على خليقته، فقد عوضها الله سبحانه وتعالى عن كل ذلك ب_ (عطاء غير محذوذ) في الدنيا والآخرة.
والبحوث التالية هي إشارة سريعة لبعض تلك المنح الربانية:
ورضوان من الله اكبر(1)
لقد تبوأت السيدة نرجس (عليها السلام) قمة المجد وذورة الشرف عندما نالت رضوان الله تعالى ذلك الرضوان الذي عده الباري جل وعلا في كتابه الحكيم (اكبر)(2) من كافة ألوان النعيم الأبدي في جنات الخلد وقد ورد في زيارتها (عليها السلام) الشهادة لها بذلك(3).
وليس نيل رضى الله بالأمر الهين اليسير، ذلك انه يتطلب مناقبيات ومواصفات استثنائية ونفسية رفيعة، وسلوكاً متميزاً، من الإخلاص
ص: 123
في النية والتمحض في ذات الله تعالى، الى الخلق السامي، الى الجود بالنفس والنفيس في طريق ذات الشوكة..
وما اروع تجلي تلك المواصفات في السيدة والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فنالت بذلك رضوان رب العالمين الذي لا تخفى عليه خلجات النفس ولا شوارد الخواطر ولا اكبر من ذلك ولا اصغر.
وبما انه جل وعلا ليس محلاً للحوادث ولا عرضة لصفات حادثة متغيرة كالرضا والسخط والحب والبغض ونظائرها، لذلك فان إطلاق هذه الصفات عليه تعالى في الآيات والروايات يراد بها اقرب المجازات وهو شتى الآثار بل أسمى الآثار العملية الناجمة عن تلك الصفات أو ما أشبه(1).
ف (رضا الله) يعنى : إعطاؤه تعالى كافة أنواع النعيم أو أسمى أنماط النعيم المقيم للمرضي عنه. و (سخطه) يعني: العكس تماماً، وهكذا وهلم جراً كما فصل الحديث عنه في علم الكلام - ف_ (رضي الله عنك)(2) أذن تكشف الكثير الكثير جداً.
ص: 124
لقد أعطى الله رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى ارضاه، كما وعده بذلك في محكم كتابه الكريم: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)(1).
وقد أعطى سبحانه وتعالى والدة آخر أوصيائه حتى أرضاها أيضاً، كما ورد في زيارتها (عليها السلام): (فرضي الله عنك وأرضاك)(2).
وما اعظم هذا العطاء من الفياض المطلق، اللامتناهي، القادر الجواد، الذي بيده خزائن الغيب والشهود، والذي لا يزداد على كثرة العطاء الاجودا وكرماً، ومن الطبيعي ان تكون للعطاء الإلهي - ذلك العطاء اللامتناهي بنحو اللامتناهي اللايقفي - درجات تختلف باختلاف "القابل" وعلى حسب عظمته الذاتية وتضحياته العملية وان كانت بأجمعها تشترك في أنها (مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)(3).
واذا لاحظنا ان طموحات الإنسان لامتناهية، وآفاق الخيال البشري لا تقف عند حد، وان سعة عالم الخيال وآفاق التفكير
ص: 125
والتعقل وإمتداداته عند البعض النادر من عمالقة الفلاسفة وجهابذة العلماء يبلغ حدا غير قابل للتصور لعامة الناس.
اذا لاحظنا ذلك استكشفنا المغزى الرهيب الهائل الذي تحمله جملة (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)(1).
ولقد ورد التصريح في زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) ببعض ذلك العطاء الإلهي، نذكرها كإشارة عابرة :
(لقد أولاك من الخيرات ما أولاك، وأعطاك من الشرف ما به أغناك، فهناك الله بما منحك من الكرامة وأمراك.. وجعل الجنة مقولك ومأواك)(2).
وما اعمق دلالة (الخيرات) و (الشرف) و (الكرامة) و(الأغناء الإلهي)، وما أعذب كلمة (هناك) و (أمراك) وقد تعرضنا لذكر مصاديق أخرى من العطاء الإلهي سابقا - او لاحقا - فلا حاجة بنا الى التكرار.
وان (إرضاء) الله سبحانه وتعالى للنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ولأوصيائه عليهم السلام او للسيدة نرجس (عليها السلام) وصالح المؤمنين - استنباطا من الدلالة الالتزامية لقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)(3)
ص: 126
ومن التصريح بذلك في زيارتها (عليها السلام) (فرضي الله عنك وأرضاك)(1) ومن المعرفة بفياضة الخالق عز وجل وجوده وكرمه ولطفه و فضله وغير ذلك : يعني: شمولية الفيض الإلهي بحيث يلف الإنسان بذاته في شتى أبعاده الحسية والعقلية والمادية والمعنوية و بحيث یعم كافة (من يرضى المؤمن ويبتهج) بالإحسان اليه واعطائه وارضائه أيضا، أي كافة من يهتم الإنسان بأمره أو يمت اليه بصلة .. وهذا بدوره ينقلنا الى معادلة (الشفاعة).
ص: 127
*الشفاعة بوابة رحمة(1)
الشفاعة: عطاء الهي اولا، وفضل رباني ثانيا، وقاعدة انطلاق وحلقة وصل بين عامة الناس وصالح أولياء الله تعالى، وهي حبل الله المتين الرابط بين الأمة والإمامة، والقاعدة والقيادة ثالثا .
فهي عطاء الهي وكرامة فضلى منه جل وعلا ل_(أوليائه الصالحين) الذين "كانوا الله فكان الله لهم"، كانوا حيث أمر فكان حيث رجوا، أحبوه فأطاعوه واحبهم فاستجاب لهم (عبدي اطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون).
وهي فضل رباني، ومن مظاهر رحمة الله الواسعة، ومن تجليات جوده وكرمه، فكما جعل الله (التوبة)، حتى عن كبائر الذنوب بوابة غفرانه، وكما كان وجود النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في حد ذاته طاردا للبلاء ودافعا للعذاب (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ...)(2) ، كذلك
ص: 128
جعل الشفاعة بوابة رحمة، فبها يغفر الله الذنوب ويرفع الدرجات ويضاعف العطاء.
وهي الى كل ذلك حلقة وصل بين الأمة والإمامة والحبل المتين الذي شد الله به القاعدة بالقيادة.
فهي (اي الشفاعة) تدعيم لمركز القيادة، وتكريس لمكانة أولياء الله الصالحين في المجتمع.
وهي (طريق الرجعة) الذي فتحه الله لمن كانت له (أرضية العودة) و (صلاحية الشفاعة) وان لم يسعفه عمله كما ينبغي، ف_ (لا يشفعون الا لمن ارتضى)(1).
وقد منح الله سبحانه والدة الإمام المنتظر عليها السلام (مرتبة الشفاعة) وفي درجات سامية أيضا، وهذه المنحة الربانية إكرام الهي لها بما أطاعت الله ونذرت نفسها للدين القويم وجاهدت في سبيل الله لا تخاف لومة لائم، وفارقت الأهل والأحبة في رضى الله و...
وهذه المنحة هي إكرام رباني لها مرة أخرى باعتبارها والدة آخر خلفاء الله على الأرض، بل في الخليقة على الإطلاق، فإكرامها إكرام له عليه السلام وعجل الله تعالى فرجه الشريف.
ص: 129
ثم ان هذا المنحة تكريس لمكانتها عليها السلام، ولكافة المواصفات والمناقبيات التي تجسدت فيها فهي - بما انها الشفيعة الى الله تعالى تشدنا اليها وتجعل آمالنا معلقة بها لحوائج دنيانا وأخرانا معا، وان من الثابت في علم النفس ان الإنسان يميل لا شعوريا الى تقمص شخصية من يحس بأنه مفتاح فلاحه وسر نجاحه، أو من يأمل فيه أن يقوده الى آماله وأمنياته .. اي ان مواصفات (الشفيع الى الله) ومناقبياته لابد وان تترك بصماتها على شخصية الإنسان الذي آمن بالشفاعة وعرف (الشفعاء الى الله).
ف_(الشفاعة) إذن فكرة حيوية، وهي طريق مشرع نحو التكامل، وهي بعد ذلك سلاح مشهر بوجه إبليس، وبلسم شاف لسرطان (اليأس) الذي يعشعش في وجود المذنبين والذي يقطع عليهم طريق العودة ويطفي شمعة الأمل فلا يجدون أمامهم إلا مزيدا من التلوث بالخطايا والآثام.
قال تعالى: (انه لا يأس من روح الله الا القوم الكافرون)(1).
ص: 130
ولذلك كله نجد زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) تركز في أو اخرها على قضية (الشفاعة)، بل إنك تطلب من الله تعالى في هذه الزيارة ان يدخلك في شفاعتها وان يوفقك لكي تنال ذلك ؟!
ولنقرأ معا الجملتين القصيرتين التاليتين المتضمنتين لهذا المغزى الكبير الكبير: (... ولا تحرمني شفاعتها وشفاعة ولدها ...) و (... وادخلني في شفاعة ولدها وشفاعتها ...)(1).
وتتجلى لنا الأهمية الكبرى للشفاعة عند ما نلاحظ ان (الشفاعة) لا تنحصر في عالم الآخرة فحسب بل تشمل الحوائج الدنيوية أيضل ، كما تشهد لذلك (فلسفة الشفاعة) التي أشرنا اليها باختصار في هذا المبحث وكما تدل على ذلك الأدلة النقلية أيضا، ومنها ما نقرأه في زيارة الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عند سرداب الغيبة : (... لتكون شفيعا عند ربك وربي والى آبائك وموالي في حسن التوفيق بي وإسباغ النعمة علي وسوق الإحسان الي(2).
وهذا المفهوم تركزه وتؤكده أكثر فأكثر عبارة أخرى وردت في زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) حيث نقرأ : (... فصل على محمد وآل محمد وانفعني بزيارتها ...)(3) والمنفعة هذه تشمل المنافع الدنيوية
ص: 131
والأخروية المادية والمعنوية المباشرة وعبر الواسطة و ... استنادا الى الإطلاق الاحوالي والازماني وكون حذف المتعلق مفيدا للعموم(1).
كما تؤكد ذلك المفهوم أيضا فقرة أخرى وردت في الزيارة: (... وبقبر أم وليك لذت) ومن الواضح ان الاحتماء واللواذ بقبرها عليها السلام لا تختص بمصيبة او داهية او حاجة معينة.
فهي عليها السلام الملاذ للدنيا والآخرة وفي كافة الجهات أيضا، ومن اللطيف الالفات الى روعة استخدام الكنية في هذه الفقرة فهي عليها السلام (أم وليك) يا رب فيكف لا تخفر ذمتها وكيف لا تجير من احتمى بها ؟!
ص: 132
ولقد كان من آثار ذلك الرضى الإلهي (لسان صدق في الآخرين)(1) الذي منحه الله تعالى للسيدة والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) على مر القرون والاعصار وفي تعاقب الأجيال ...
ولكي ندرك مدى أهمية هذا العطاء الرباني نقرأ معا دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث قال: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)(2) ذلك ان لسان الصدق يعني الذكر الحسن والثناء العط والوصف بجميل الصفات والأقوال، الذي يمنحه الله للإنسان فيسمو الى مستوى (القدوة الحسنة والأسوة الصالحة) فيكون المرء بذكره الحسن منارا ومشعلا ومرشدا للخليقة على مر الاعصار، فيكون بعد وفاته كحال حياته داعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا، فيزداد علوا وسموا وارتفاعا ودرجات وهو في ذلك العالم الآخر.
ف_(لسان الصدق) هو تلك (الصدقة الجارية) الى ماشاء الله وما اسماها من مكرمة يمنحها الله لصالح عباده.
وبذلك تعرف أيضا ان هذا الطلب لم يكن منبعثا عن الرغبة في الذكر الحسن بما هو ذكر حسن وبعنوان الموضوعية، ولم يكن نابعا
ص: 133
عن حب الذات او الأنانية أبدا، بل انها السبيل الشارعة للهداية والإرشاد والطريق المهيع للتكامل والازدياد، وكما منحها الله تعالى لسان الصدق ودرجة الشفاعة في الآخرة فقد فرض لها (حمى) و (زمرة) في الدنيا والآخرة أيضا(1).
ص: 134
*عطاء آخر في عالم الآخرة(1)
ونقرأ في زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) : (... واذا توفيتني فاحشرني في زمرتها ...) (... وارزقني مرافقتها وأحشرني معها ومع ولدها ... )(2).
ف_ (مرافقة السيدة عليها السلام) رزق الهي، ونعمة من نعم الآخرة، يمن بها الله جل وعلا على صالحي عباده، لذلك كان المحبذ - وحسب هذه الزيارة واشباهها . هذه الزيارة واشباهها - ان يطلب الإنسان من الله ان يرزقه ذلك، وستأتي الإشارة اليه.
ثم انه جل وعلا منح السيدة والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أعطية أخرى، فاقر لها (زمرة) و(حمى)..
فكما ان سماح الحكومات - في عالم الدنيا لشخصية ما بأن تؤسس حزبا أو جمعية امتياز بحد ذاته أولا ومواقع قوة ووسيلة ثانيا، وهو مما تترتب عليه سلسلة من الحقوق والامتيازات ثالثا، كذلك(3).
ص: 135
أقر سبحانه وتعالى في عالم الاخرة لأوليائه الصالحين : (زمرا) وجماعات و (حمى) وحقوقا كثيرة تترتب على ذلك.
وكان من إحدى آثار (الدخول في زمرة الصالحين): ضمان الدخول الى الجنة!!
وما أعظمها من أعطية وأجلها من منحة ؟!.
ويمكن لنا ان نستنبط من هذه الزيارة ومن روايات أخرى عديدة: بعض "مشاهد" شاهد يوم القيامة، يوم العرض الإلهي الكبير، فالذي يبدو أن في عالم المحشر: (تكتلات)(1) و (تجمعات) عديدة! وربما يظهر أن هذه الاجتماعات والتجمعات متسلسلة تسلسلا هرميا فللنبي موسى (علیه السّلام) أمة، وللنبي عيسى (علیه السّلام) أمة، وللرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أمته أيضا وهكذا.
ثم أن هنالك (دوائر) عديدة وكثيرة تدخل تحت (حماية) هذا
الولي الصالح أو تشملها شفاعة ذلك الإمام أو العالم أو المؤمن وهنالك من يدخل في شفاعته (فئام) من الناس، وهنالك من تتسع دائرته أكثر أو تقل عن ذلك، وهنالك الذي (لا يشفع له) الا بعد مداقة في الحساب وبعد فترة طويلة وهنالك الذي يشفع له بسرعة ويسر(2) حسب الحكمة الإلهية في مختلف تلك الموارد(3).
ص: 136
واننا نجد في زيارة السيدة نرجس عليها السلام التصريح بأن لها (زمرة) وللإمام الحجة (علیه السّلام) لزمرة اكبر وللرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) الزمرة الكبرى التي تشمل كافة المعصومين أيضا، اذ نقرأ في الزيارات(1): (... اسأل الله ان يرينا فيكم السرور والفرج وأن يجمعنا وأياكم في زمرة جدكم محمد صلى الله عليه وآله)(2).
وفي زيارة الإمام الحسين (علیه السّلام): (يا سيدي ومولاي أدخلني في حزبك وزمرتك)(3).
وفي وداع الإمام الرضا (علیه السّلام) نقرأ (... واحشرني معه وفي حزبه)(4).
بل ان الناس حتى وهم في الطريق الى الجنة او وهم متجهون نحو النار، قد جعلهم الله زمرا وفرقا، قال تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم
ص: 137
الى الجنة زمرا)(1) وقال سبحانه: (وسيق الذين كفروا الى جهنم زمرا)(2).
ربما تكون الفلسفة في معادلة (الزمر) هذه، هي قاعدة التجانس والسنخية التي تراعى في كل مجموعة متماثلة أو متقاربة في الأفكار والاعمال والولاء فتحشر معا وتنتظم تحت راية واحدة في الموقف، ثم في الحركة نحو الجنة أو النار ، وهذا المبحث مفصل وسنتحدث عنه في مقال مستقل إنشاء الله تعالى عقليا وتصويريا وعلى ضوء الأحاديث والروايات ضمن كتيب او كتاب عن (مشاهد من يوم الحشر الأكبر)(3).
وبعد كل ذلك فان (مرافقة أولياء الله الصالحين) في الدنيا والآخرة لها القيمة الكبرى، ولذلك يقول جل وعلا: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)(4) وهكذا فان الرب جل وعلا (يثيب) على اطاعته واطاعة رسوله، بأن يتفضل عليهم ب_(المعية)
ص: 138
للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم يؤكد ذلك الفضل موضحا أهميته ب_(وحسن أولئك رفيقا) .
ومن الأكيد ان هذه المرافقة منشأ الخيرات والبركات والرحمة
المتواصلة الإلهية إضافة الى الآثار المباشرة الناجمة عن مصاحبة أولياء الله وأنبيائه، واذا كانت مرافقة (العالم) أو (السياسي) أو (الأديب) أو (الأمير) أو أي شخص كان له شأن خطير، مادي او معنوي، في الدنيا، ذات أثر بالغ في تكاملية (الإنسان) أو في تحقيق عدد من طموحاته أو (تمشية) جانب من أموره فان هذه (المرافقة) ستكون ذات فوائد وآثار لا تعد ولا تحصى عند ما تكون مع أعلى قمم البشرية مكانة وشموخا وسموا وكمالا باعتبارها وعدا إلهيا وثوابا ربانيا على إطاعة الله سبحانه ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وبذلك نعرف قيمة الدعاء الوارد في زيارتها (عليها السلام): (وارزقني مرافقتها)(1).
ص: 139
[تستوقفنا في زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) مقاطع كثيرة، ولنا أن نستنبط منها حقائق هامة في جوانب عقائدية وأخلاقية وفكرية وغيرها .
ولقد اقتبسنا في هذا الكتاب من هذه الزيارة، محاولين قدر الامكان ان نطعم كل مبحث بإحدى فقراتها، فأضحت لالي، وجواهر ودرر منثورة على امتداد الكتاب وبقيت هنا عدة نقاط ترتبط بالجانب السندي للزيارة وتأملات حول الطابع العام للزيارة وبعض النقاط الهامة سنشير اليها باذنه تعالى .]
[فتوثيق(1) الرواية (صحتها، أو وثاقتها، أو حسنها، على الاصطلاح المعروف في علم الدراية وعلم الرجال) وكذلك توثيق اي نقل الحدث تاريخي معين يتم عبر إحدى الطرق التالية:
ص: 140
1 : عبر توثيق رجال سند الرواية والاطمئنان بصدق كلام وبجهة الكلام أيضاً .
2 : أو عبر الشهرة الروائية أو عبر الشهرة الفتوائية - فيما تضمن حكماً شرعياً -.
3 : أو عبر القرائن - المقالية أو المقامية - المكتنفة بالرواية أو الحادثة التاريخية، سواء كانت تلك القرائن خارجية أم داخلية : كقوة المضمون مثلاً.
فالعديد من خطب أو كلمات (نهج البلاغة) يمكن الاطمئنان بصحته وبصدوره من الإمام (علیه السّلام) والاستناد إليه شرعاً عبر الاستناد الى قوة المضمون، وان لم تتصل حلقات الاسناد أو لم يكن الرواة قد توفرت فيهم شرائط الوثاقة فرضاً .
وكذلك يمكن الاستناد - في عدد من الروايات المتضمنة للتطرق لثواب الهي على عمل معين - الى قاعدة (التسامح في ادلة السنن) التي وضع أساسها الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) في رواية (من بلغه)(1).
ص: 141
وهنالك مسالة أخرى جديرة بالالتفات ذلك ان مستند الحجية في (الإسناد) و(الظواهر) و(الجهة) هو بناء العقلاء، وفي القضايا التاريخية فان (بناء العقلاء) لا يتحدد ضمن الشرائط الرجالية ولا يتأطر بها عادة.
وبعبارة اخرى: فان الشرائط التي اعتبرت في علمي الدراية والرجال لصحة او وثاقه او حسن الرواية هي فيما اذا كان الحديث او الرواية يتضمن حكماً شرعياً الزامياً يراد إثباته بهذا الإسناد، وفي غير ذلك فاننا نجد (بناء العقلاء) على الاعتماد على النقل التاريخي ولو كان راويه غير مستجمع للشرائط الرجالية - الا ما خرج بالدليل - وذلك جار في كل الأمم والملل وفي شتى الحوادث التاريخية، وعلى ذلك جرت سيرتهم، بل وسيرة المتشرعة أيضاً.
ص: 142
وبالنسبة لزيارة السيدة نرجس (عليها السلام) فان الفحص ان أوصلنا الى العثور على سند متصل لتلك الرواية فبها، وان أوصلنا الى العثور على سند لكلي تلك الزيارة - أي دل على ورود هذه النصوص أو شبهها لكلي من كان على شاكلتها، كالسيدة فاطمة بنت أسد عليها السلام التي تشاكل زيارتها زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) - فكذلك أيضا بلحاظ القرائن المقامية والمقالية الأخرى المحتفة بها والدالة على سمو مكانتها، والتي أشير اليها في جوانب عديدة من هذا الكتاب.
وان لم يتم هذا ولا ذاك، فان اعتضاد الزيارة بقوة المضمون ومطابقة مضامينها للقرائن المقامية والمقالية، وما ذكر في قضية الأحداث التاريخية، ربما يصلح شاهدا عرفيا يستكشف عنه صدور فقرات تلك الزيارة او مضامينها من مصادرها المعتبرة، والا فانها يمكن ان تعتبر من المؤيدات، او يقال: انها نقلت تيمنا وتبركا، وبرجاء المطلوبية، كما يقرأها بعض المتدينين كذلك، فتأمل.
والأمر بحاجة الى تتبع وتأمل ولا املك الآن اي مصدر رجالي او درائي ولا اي كتاب دعاء (باستثناء مفاتيح الجنان) ارجع اليه والله المستعان .]
ص: 143
زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) كبقية الزيارات تفيض بالتركيز الكبير على قضيتين أساسيتين:
1: فهي من جهة تركز على العلاقة الرابطة بين الولي الصالح وبين الرب، وكذا بين الزائر والمزور، فهناك مجموعة من المثل والمواصفات والقيم المتجسدة فيمن يزار والتي تربط الزائر بالمزور والمقصد النهائي، بين الخالق والمخلوق والوسطاء الربانيين، وهي بذلك تقوم بعملية مزدوجة بالغة الروعة فهي اولا تقوم بالتعريف بالصورة المشرقة لاولياء الله الصالحين مجهزة بذلك على كل مجادلات التحريف ومخططات التشويه والتلويث التي حاولتها عن عمد أيدي الجبابرة وأبواقهم وعملاؤهم الذين كانوا يشنون أقسى الحروب السياسية والإعلامية والعسكرية ضد المعصومين (عليها السلام) وأبنائهم وذويهم و يرتبط بهم، وهي تقوم ثانيا بعملية نفسية .. تربوية، مضاعفة عبر دفع المرء - وبطريقة ذكية غير مباشرة وعبر استثارة فطرة الإنسان المنطوية على تقديس العظماء ومحاولة (تقمص) شخصياتهم والاحتذاء بهم - ل_: الاتصاف بتلك المواصفات المثالية وترجمت ها في حياته العملية وممارساته اليومية، الفردية منها والاجتماعية.
ص: 144
ثم هي - أي هذه الزيارة وساير الزيارات - تصب كل ذلك في قوس الصعود المتجه نحو رب الأرباب واله العالمين، فتخلع عليه إطارا ودثارا من (الطريقية) نحو الإله العلى الكبير(1).
2: وهي من جهة ثانية تقوم ب_(توجيه) الإنسان نحو استكشاف مفاتيح الفلاح وأسرار السعادة والنجاح، فهي التي (تعلمه) الحاجات الإستراتيجية التي ينبغي عليه ان يطلبها من الباري جل وعلا، وترشده الى (مواطن الخلا) و (مكامن الضعف) التي عليه ان يمد الى الله يديه ضارعا مبتهلا كي يمنحه من فضله (الغنى) ویهبه من لطفه (الكمال).
ففي زيارة أبي الفضل (علیه السّلام) - كمثال - نجد الجهتين تتألقان ببريق مشرق أخاذ :
أ: (... اشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخل النبي صلى الله عليه وآله المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله وعن أمير المؤمنين وعن فاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت واعنت فنعم عقبى الدار، لعن الله من قتلك، ولعن الله من جهل حقك واستخف بحرمتك ولعن الله من حال بينك وبين ماء الفرات، اشهد أنك قتلت مظلوما وان الله منجز
ص: 145
لكم ما وعدكم، جئتك يا ابن أمير المؤمنين وافدا اليكم وقلبي مسلم لكم وتابع، وانا لكم تابع ونصرتي لكم معدة حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين فمعكم معكم لا مع عدوكم اني مؤمن بكم و (بآبائكم بإيابكم من المؤمنين وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين، قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن(1)).
ثم تدخل الروضة وتلصق نفسك بالضريح الشريف وتقول: (السلام عليك ايها العبد الصالح المطيع الله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين واشهد أنك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله... اشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية الجهود ...)(2).
ب: ثم تدعو بعد صلاة الزيارة وتقول:
(اللهم صل على محمد وآل محمد ولا تدع لي في هذا المكان المكرم والمشهد المعظم ذنبا إلا غفرته، ولاهما الا فرجته، ولا مرضا الا شفيته، ولا عيبا الا سترته، ولا رزقا الا بسطته، ولا خوفا الا آمنته، ولا شملا الا جمعته، ولا غائبا الا حفظته وأدنيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضا ولي فيها صلاح الا قضيتها يا ارحم الراحمين)(3).
ص: 146
(... فأسألك ان تصلي على محمد وآله الطاهرين وان تجعل رزقي بهم دارا وعيشي بهم قارا وزيارتي بهم مقبولة وحياتي بهم طيبة وادرجني إدراج المكرمين واجعلني ممن ينقلب من زيارة مشاهد أحبائك مفلحا منجحا قد استوجب غفران الذنوب وستر العيوب وكشف الكروب انك أهل التقوى وأهل المغفرة)(1).
وفي زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) - وتقرب منها زيارة السيدة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) والدة الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)-(2):
أ: (... السلام على والدة الإمام والمودعة أسرار الملك العلام والحاملة لأشرف الأنام، السلام عليك أيتها الصديقة المرضية السلام عليك أيتها التقية النقية .. السلام عليك أيتها الرضية المرضية .. السلام عليك وعلى آبائك الحواريين.. السلام عليك وعلى بعلك وولدك اشهد انك أحسنت الكفالة وأديت الأمانة واجتهدت في مرضاة الله وصبرت في ذات الله وحفظ و حفظت سر وحملت ولي الله وبالغت في حفظ حجة الله ورغبت في وصلة أبناء رسول الله، عارفة بحقهم مؤمنة بصدقهم معترفة بمنزلتهم مستبصرة بأمرهم مشفقة عليهم مؤثرة هواهم، واشهد انك مضيت على بصيرة
ص: 147
من أمرك مقتدية بالصالحين، راضية مرضية تقية نقية زكية، فرضي الله عنك وأرضاك ...)(1).
ب: (اللهم إياك اعتمدت، ولرضاك طلبت، وبأوليائك إليك توسلت، وعلى غفرانك وحلمك اتكلت، وبك اعتصمت، وبقبر أم وليك لذت، فصل على محمد وآل محمد وانفعي بزيارتها وثبتني على محبتها و لا تحرمني شفاعتها وشفاعة ولدها .. اللهم اني أتوجه إليك بالأئمة الطاهرين وأتوسل إليك بالحجج الميامين من آل طه ويس، أن تصلي على محمد وآل محمد الطيبين، وان تجعلني من المطمئنين الفائزين الفرحين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واجعلني ممن قبلت سعيه ويسرت امره وكشفت ضره وآمنت خوفه اللهم بحق محمد وآل محمد صل على محمد وآل محمد ولا تجعله آخر العهد من زيارتها...)(2).
ص: 148
*ثبتني اللهم على محبتها(1)
(النعم الإلهية) عطاء رباني والعطاء الإلهي في استمراريته مشروط بشروط وخاضع لعدد من الضوابط البسيطة جدا والهامة جدا ومن تلك العوامل : شكر الله تعالى على تلك النعم.
ومنها أيضا : الابتهال الى الله تعالى كي يتفضل بالإبقاء كما تفضل بالابتداء(2).
و (محبة أهل البيت عليهم السلام) من أهم النعم الإلهية على الإطلاق، بل هو الطلب الأساسي و (الأجر) الوحيد الذي طلبه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) من الأمة إزاء جهوده الجبارة واتعابه الهائل كلها : (قل لا أسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى)(3) وهذا (الاجر) هو في الحقيقة عائد لنا ولصالحنا نحن (قل ما سألتكم من اجر فهو لكم)(4) اي أن (الثمن) و(المثمن) كلاهما عائدان لنا! وهذا من أعظم فضل الله تعالى، ولذلك نجد في زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) كالزيارات الأخرى: التضرع الى الله تعالى في ذلك، فاننا نقرأ في
ص: 149
زيارة السيدة (عليها السلام) : ( ... فصل على محمد وآل محمد ...وثبتني على محبتها ...)(1).
وسنستشعر أهمية هذا الدعاء ونظائره اكثر عند ما نتذكر الأحاديث الواردة في أن (الإيمان) منه مستقر ومنه مستودع(2) قال تعالى: (فمستقر ومستودع)(3) وما أغلى هذه الأمانة والوديعة الإلهية، وما أخطر أعدائها من شياطين الجن والإنس وما افتك شباكهم، ولذلك أيضا كان التركيز في الادعية والزيارات على طلب التثبيت على المحبة والإيمان وعلى حسن العاقبة.
ص: 150
وبعد ذلك نجد في زيارة السيدة (عليها السلام) دعاء آخر له دلالته الكبرى أيضا وهو : (... ولا تجعله آخر العهد من زيارتها ...)(1). لماذا ؟
لان مزارات المعصومين (عليهم السلام و أولياء الله الصالحين وزياراتهم هي (عامل تواصل) و (رمز ولاء) و(ينبوع عطاء) وهي تجسيد عملي للإيمان القلبي ونوع تحل للمحبة والإقتداء، على الجوارح والأركان واللسان وهي أيضا (ملتقى أولياء الله) و (معهد صقل النفوس وتهذيبها) و(مدرسة التكامل الفكري والعملي أيضا) .
وهي كذلك مهبط الرحمة الربانية ومختلف الملائكة، ومظان استجابة الدعوات الضارعة.
وهي ايضا المغتسل البارد والشراب الطهور.
وهي أيضا بوابة عالم الآخرة، والعين الناضرة، والجسر الواصل بين الخلائق والخالق.
وهي الطريق المعبد للسيطرة على شهوات الجسد والانطلاق الى آفاق الملكوت وعوالم اللاهوت.
فهي المسير وهى المصير .
ص: 151
وهي الدليل وهي الدلالة.
وهي الروح وهي الروح.
وهي اللب وهي الشكل .
وهي الملاذ وبها المعاذ.
وهي الجمال وهي الكمال.
انها: حضيرة القدس (الربوي) وقوس الصعود، ورمز الخلود ...(1).
ص: 152
ص: 153
[في مثل هذا الظرف وفي هذا المنعطف الخطير، كان للسيدة نرجس = مليكة (عليها السلام) موقف فريد يكشف عن حكمة بالغة وشجاعة نادرة.
فعند ما رأت السلطات جادة في البحث عن الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وكان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) اذ ذاك في الخامسة من العمر، مستوراً عن الأعين، مخفيا عن السلطات أمره وأمر ولادته - وعند ما رأت الضغط يطال منازل كثيرة والشيعة في كرب وضيق وفي معرض المداهمات الهمجية في كل حين.
عند ذلك أعلنت السيدة نرجس انها حامل !!.
فاعتقلت على الفور !!.
ولكن لماذا ؟.
وكيف؟.
لقد كان الصبي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في الخامسة من العمر، الا ان التكتم الشديد على ولادته كان قد أخفى على السلطات أمره وحتى على كثير من أقارب الإمام، فلم يكن يعلم انه قد ولد أم لا، واين هو على تقدير ولادته، الا ان السلطات (كانت شديدة الطلب له، جادة
ص: 154
مجتهدة في البحث عن أمره، لما شاع من مذهب الشيعة الامامية فيه، وعرف من انتظار هم له)(1).
لكن ولان (الإمام العسكري (علیه السّلام) كان قد أخفى مولده وستر أمره) لذلك (لم يظهر ولده في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته)(2).
وكان لذلك : ان أعلنت السيدة نرجس (عليها السلام) أنها حامل...
لقد استهدفت تضليل السلطات، وصرف الأنظار عن ذلك الوليد، الحجة، المترقب، المستتر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وهكذا تركت للسلطة ان تتوهم أنه لم يولد بعد وانها هي الحامل به !! وبذلك تم الحصول على أمرين هامين:
أ: تخفيف الضغط على الشيعة والحيلولة دون كبس دورهم وتفتيشها بحثا عن الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بدرجة معينة.
ب: توفير حماية عملية نسبية للإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إثر توهم انه لايزال حملا، مما يخفف من حدة عمليات التفتيش والصد والرقابة.
ولننصت الى شذرات تاريخية تكشف لنا عن ذلك :
ص: 155
(... فوجه المعتمد - الخليفة العباسي - بخدمة فقبضوا على صقيل الجارية، وهي السيدة نرجس (عليها السلام) وكان من اسمائها صقيل كما سبق، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلا بها لتغطي حال الصبي ...)(1).
(... فادعت صقيل عند ذلك انها حامل...)(2).]
ص: 156
[وهكذا .. القي القبض على السيدة نرجس (عليها السلام) و (حملت الى دار المعتمد - الخليفة العباسي - فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوارب، يتعاهدن أمرها في كل وقت ويراعون)(1).
انها رقابة استثنائية وحصار مؤلم، ومضايقات وإزعاج على مدار الساعة تتصدى لها خمس جهات ؟!.
أ : نساء المعتمد.
ب : وخدمه .
ج : نساء الموفق.
د : وخدمه.
ه_ : نساء القاضي ابن أبي الشوارب .
والذي يظهر بوضوح ان (ازمة ثقة) كانت تعشعش داخل أجنحة السلطة، اذ لماذا تتصدى خمسة جهات للسيدة نرجس (عليها السلام) وتخضع الرقابة على مدار الساعة من قبل كل تلك الجموع !؟ .
ص: 157
وقد تحملت السيدة (عليها السلام) كل ذلك العناء صابرة، صامدة، ومغتبطة أيضا.
أليست قد ضللت السلطات ووفرت الحماية لولي الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ؟!
و يا له من شرف وما أسماها من أمنية : ان يكون الإنسان جنة واقية ودرعا حصينة لصاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؟!
وقد ظلت السيدة أم الإمام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) محتجزة في تلك الدار خاضعة لذلك التفتيش والحصار الى (ان دهمهم - اي السلطات العباسية - أمر الصغار، وموت عبيد الله بن يحيي بن خاقان، بغتة، وخروجهم من سر من رأى وأمر صاحب الزنج وغير ذلك، فشغلهم ذلك عن الجارية فخرجت عن أيديهم والحمد لله رب العالمين)(1).
ومع ذلك (لم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل، ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين لهم بطلان الحبل)(2).]
ص: 158
*في نهاية المطاف(1)
كي تتكامل الصورة عن حياة السيدة والدة الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لابد منالقيام ب_:
أ : رسم تصويري دقيق عن حياة البذخ والترف داخل الأسرة المالكة، وطريقة التعامل في البلاط الملكي، والوضع العام للإمبراطورية الرومية - استنادا في كل ذلك الى المصادر التاريخية -، ومن ثم موقع السيدة (عليها السلام) من كل ذلك.
ب: لوحة توصيفية عن ظروف (الأسر والهجرة) والمخاطر المحدقة بهذه الهجرة الخطرة، وموقع (الأسيرة) وطريقه التعامل معها في تلك الفترة الزمنية الحساسة.
ج: دراسة دقيقة للظروف السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها آل بيت الرسول الأعظم (عليها السلام) عند ما حلت السيدة (عليها السلام) بساحتهم، مرورا بفترة الحمل، ثم الولادة، ثم الفترة الزمنية التي عاشتها السيدة بعد ولادته (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وبعد شهادة الإمام العسكري (علیه السّلام).
د: تموجات هجرة السيدة (عليها السلام) على والدها ملك الروم وسائر أعضاء الأسرة المالكية، ثم هل كانت هنالك علاقة بينها وبين آل
ص: 159
الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من جهة وبين العائلة المالكة طوال الفترة اللاحقة ؟! وما هي التأثيرات الاجتماعية - الثقافية التي تركتها وصلتها بآل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) على الشعب الرومي، وهذا المبحث بحاجة الى استقراء موسع لشتى المصادر التاريخية الإسلامية والرومية عل بعضها يلق- شعاع ضوء على ذلك.
ولكي تتحول دراسة حياة السيدة (عليها السلام) الى منهج كمال ومسار حياة والى دليل ومرشد متوهج أبدا لا بد من(1):
أ: عقد مؤتمرات دورية تعني بالبحث عن شتى جوانب حياة السيدة (عليها السلام).
ب: تخصيص يوم من أيام السنة لتجديد ذكراها، يكون باسمها (عليها السلام) أو تخصيص أسبوع باسم أسبوع (المرأة) أو (الأم) - مثلا - لإحياء ذكراها وذكرى عدد آخر من عظيمات النساء.
ج : التزام الخطباء الأفاضل بالحديث عنها وعن سيرتها وهجرتها وجهادها ومكارم أخلاقها... في أيام من شهري شعبان ورمضان المبارك، وفي عدد من أيام الجمعة أو ما أشبه، وكذلك تعهد الكتاب والشعراء والأدباء بالكتابة حولها والحديث عنها .
د: تسمية الأولاد، والمؤسسات الدينية، والمعاهد العلمية، والبرامج التربوية باسمها عليها السلام - على تنوع تسمياتها.
ص: 160
المیرزا الشیخ علي طراد العاملي
ص: 161
دار الولاء
لصناعة النشر
الرويس شارع الرويس بيروت - لبنان
Mob: 00961 3 689 496 | TeleFax: 00961 1 545 133 info@daralwalaa.com
I daralwalaa@yahoo.com P.O. Box: 307/25 | www.daralwalaa.com
ISBN 978-614-420-729-1
القول الجلي في والدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
المؤلف: الميرزا الشيخ علي طراد العاملي.
الناشر: دار الولاء لصناعة النشر.
الطبعة: الأولى بيروت لبنان 1443ه_ / 2022م.
تنفيذ طباعي
eight
www.Beightproduction.com 1 00961 3 017 565
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
ص: 162
لم يصلنا الكثير عن حياة السيدة نرجس والدة خاتم الأوصياء الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، لا من حيث ولادتها ونشأتها في بيت والدها ملك الروم، ولا من حيث حياتها في منزل الإمامين الهادي والعسكري (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، ولا حتى بعد وفاة الإمام العسكري (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
غير أنّ ما وصلنا من شذرات وإلماحات عن حياتها، وقصة انتقالها من بلاد الروم ووصولها إلى سامراء، وبيت الإمام الهادي (علیه السّلام) بالتحديد، يشير إلى أنّ في الأمر سرًا لله هو بالغه. وهذا القليل ممّا وصلنا يعطي صورة واضحةً عن ذلك اليقين الثابت الذي كانت تعيشه تلك السيدة الجليلة، وعن قرارها الحاسم، وعزمها الذي كانت تتحلى به، والذي جعلها تخوض المخاطر، وتدفع بنفسها في خضم المعارك،
ص: 163
لتؤخذ أسيرة كمرحلة من مراحل خطتها في تحقيق الهدف الأسمى، الذي سعت إليه، امتثالا لتلك الرؤيا العجيبة، التي رأتها في منامها والتي كان إيمانها بها راسخًا كرسوخ الجبال، لم تزعزعه رياح الشكوك ولا أعاصير الظنون .
والسرّ الذي لم يُكشف النقاب عنه حتى الآن هو حياتها بعد وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) ، واتصالها بوليدها الذي لم يكن قد تجاوز سنواته الخمس، ومحافظتها على سرّه، رغم ملاحقة السلطة العباسية لها، وتضييقها عليها، لمعرفة أي شيء عن وليدها الإمام المهدي (علیه السّلام).
فقد عانت الكثير من جلاوزة بني العباس، وعلى الرغم من ذلك صمدت ولم تبح بالسرّ، وظلّت كذلك حتى اجتباها الله صابرةً محتسبةً.
لقد كانت حياة تلك السيدة الصابرة، الحازمة سرًا، وستبقى بالتأكيد سرًّا، إلى أن يأذن الله لوليه الحجّة المنتظر، بالإفصاح عنه يوم خروجه واستتباب الأمر له.
ص: 164
فالسيدة نرجس هي تلك المرأة الجليلة التي استنشقت عبق الولاية العلوية، فخفق قلبها بحبهم، و«هوى» فؤادُها إليهم، فكانت مصداقا لقوله تعالى ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: 37] ، أي لآل محمد صلوات الله عليهم الذين هم ابراهیم، فسارت على خطاهم، لتحقق تلك الرؤيا التي غرست في روحها هدي الولاية، فتبعتها بقلب مطمئن؛ حيث شاءت إرادة الله عز وجل أن تنتقل إلى أشرف وأطهر البيوتات الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا ، هذه البيوت - بيوت آل محمد - التي أذن الله أن يذكر ويرفع فيها اسمه، فتغذت من عقيدتهم واستهدت بنورهم، واقتبست من نهجهم ونذرت نفسها لهم، وتخلت عن حياة القصور وملذات الدنيا في سبيل الله ، فآثرت حياة الخلد على الحياة الفانية، والترف والأهل والبلاد، وتركت دينها وعشيرتها وتحملت عناء الأسر والذل، وقامت على بصيرة من أمرها ويقين من إمامها، واستجابة لنداء ربها، الذي اختارها من بين نساء الأرض، لتنال شرف الدهر وتكون أما لإمام العصر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وخاتم الأوصياء، وآخر الأولياء.
ص: 165
لقد اتخذت هذه السيدة الطاهرة من مدرسة عيسى (علیه السّلام)، إنموذجًا للتواضع مع حزم في لين، وقوة في دين، وصبر في يقين واقتبست من نور هدایته؛ حيث أنار لها طريق السائحين، فتأست به في سياحته، التي وصفه بها سيد المرسلين (صلی الله علیه و آله و سلم): «من أراد أن ينظر إلى عيسى في سياحته»(1).
وأي سياحة أفضل من التي تكون في سبيل رضا الإله، وامتثالا لأمره، وإنفاذاً لمشيئته، فساحت في بلاده وتحملت كل تلك الصعوبات من مشاق السفر والأسر والذل من أجل أن تلتحق بركب فاطمة (سلام الله علیها)، وتتشرف بالانتساب إليها والاقتران بولدها الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام)، ليثمر هذا الاقتران إمام الزمان ومخلص البشرية من الظلم والعدوان، الذي بشرت به الأنبياء، وتحدثت عنه كتب السماء، بأنه سيُظهر إسلام السلام، وينشر رحمة العلّام، وعدل الرحمن، والبركة والإنعام.
ص: 166
فإلى أوليائها عكفت همتها و شدت رحالها، ولبت نداء فطرتها، وأيقنت بأن الذي جاء به عیسی هو عند هؤلاء الأولياء، فهم ورثة عيسى (علیه السّلام) وإبراهيم وموسى وكل الأنبياء.
فكانت مدرسة لأجيالنا ، لشبابنا، لمجاهدينا، بما قامت به من خوض اللجج، وتعريض نفسها للقتل والأسر من أجل حياة العزة والنجاة، لأن العزة الحقيقية هي أن تنطوي تحت لوائهم وكنفهم، وتسلم أمرها لهم صلوات الله عليهم. ونعم ما أجاد به ابن العرندس في قصيدته الغراء : فذلي بكم عزّ وفقري بكم غنى *** وعسري بكم يسر وكسري بكم جبر
فكانت مثالاً يُقتدى به في الحكمة والفضيلة والدين والصدق والإخلاص.
لقد جسّدت أروع مثال للمرأة المؤمنة، التي تُنير الطريق لفتياتنا، فكانت مدرسةً يتعلمون منها كيف يلتحقون بركاب آل محمد في أيام العسرة، وكيف يختارون طريق نجاتهم، ويحددون مصير ارتباطهم بأولياء الله، ولمن يسلّمن أنفسهن ومصيرهن.
ص: 167
إنها مدرسة كتمان السر، ومستودع السر المستتر، سر آل محمد (علیهم السّلام). فقد نهلت صبرًا من صبرهم وسكينةٌ من ربهم .
فما هو سر ارتباط هذه السيدة العظيمة بهذا البيت العلوي؟ وما سر هذه الصياغة الربانية التي شاءت أن تجمع النسب العيسوي بالنسب المحمدي؟ لتكون خاتمة هذا المخطط الرباني بعودة نبي الله عيسى (علیه السّلام)، ليصلي خلف الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)ويحقق معه الوعد الإلهي.
ونحن ؛ إذ نحاول إلقاء الضوء على بعض المفاصل الأساسية من حياتها، لا ندعي بذلك إحاطة كاملةً، وإنّما سنحاول التدليل على اليسير من قيمتها وأهميتها وصلابة موقفها وإيمانها الراسخ، الأمر الذي أهلها لتقوم بذلك الدور التاريخي الذي قامت به في الحفاظ على ولي الله وحجّته على عباده، مولانا صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وقرّب ظهوره، وجعلنا ممن ينصرونه ويتنعمون في أيام دولته، إما بالشهادة، وإمّا بالحياة مسرورين به وبأيامه.
الميرزا علي طراد العاملي
معركة - 15 شعبان - 1443ه_
ص: 168
هي زوجة الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) ووالدة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
وهي بنت يشوعا ، حفيدة قيصر ملك الروم، ويرجع نسبها من أمها إلى شمعون الصفا، وصي النبي عيسى (علیه السّلام)، وخاصة حواريه(1).
ولدت السيدة نرجس قبل عام (240ه_) ، أي في نهاية القرن التاسع الميلادي.
ص: 169
عرفت السيدة نرجس بعدة أسماء منها: مليكة، وريحانة، وسوسن، وصقيل، ومريم(1)، وحكيمة، وسبيكة، وخمط(2).
وكان اسمها قبل الأسر مليكة، فلما أُسرت سمت نفسها نرجس، وأخفت الاسم السابق لأنه من أسماء الملوك، ولما حملت بولدها سُمِّيت صقيل، وحين ولدت وليدها ، كُنيت به «أمّ محمد».
وقد ورد عن محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، قال : السلام سمعت أبا محمد (علیه السّلام)، يقول : «قد ولد ولي الله وحجته على عباده وخليفتي من بعدي مختونا ليلة
ص: 170
النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين، عند طلوع الفجر، وكان أول من غسله رضوان خازن الجنان، مع جمع من الملائكة المقربين بماء الكوثر والسلسبيل، ثم غسلته عمتي حكيمة بنت محمد بن على الرضا (علیه السّلام) فسئل محمد بن علي بن حمزة عن أمه (علیه السّلام)، قال : أمه مليكة، التي يقال لها في بعض الأيام: سوسن، وفي بعضها: ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضًا من أسمائها»(1).
ولكن أشهر أسمائها (نرجس)، وقد قال المسعودي : «والظاهر أنه اسمها الحقيقي هو نرجس»(2).
وقال صاحب كتاب الدرر البهية: «إنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ولد في النصف من شعبان سنة 255ه_، وأمه نرجس ..»(3).
ص: 171
وقال صاحب كتاب (نزهة الجليس)، تحت عنوان ترجمة الإمام المهدي أبي القاسم بن الحسن العسكري: «ولما توفي أبوه وقد تقدم ذكره كان عمره خمس سنين واسم أمه نرجس»(1).
وكانت هذه الأسماء المتعددة لها بقصد من الإمام (علیه السّلام)، نظرًا للتضييق الشديد من السلطة العباسية أنذاك، ومراقبتها المستمرة على أهل بيت الإمام العسكري (علیه السّلام)، وذلك حتى يظن من يسمع بها أن في البيت إماءً عديدة، ولا يخطر في باله أنها هي التي ستلد حجة الله على خلقه.
نرجس: نبت من الرياحين، وهو من الفصيلة النرجسيَّة، ومنه أنواع تُزْرَعُ لجمال زهره وطيب رائحته، وزهرتُه تشبه بها الأعين.
سوسن : نباتٌ مِنْ فَصيلَةِ السَّوْسَنِيَّاتِ ، طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ، أَنْواعُهُ كَثيرَةٌ جَميلَةُ اللَّوْنِ، بَنَفْسَجِيَّةٌ وَبَيْضاءُ وَصَفْراءُ، مِنْهُ ما هُوَ زِراعِيَّ، تُسْتَخْرَجُ مِنْ جُذورِهِ مَوادُّ طِبّيَّةٌ.
ص: 172
مليكة: أي الملكة، المالكة، التامة الخلقة.
ريحانة: نوع من النبات طيب الرائحة وكل نبت طيب الرائحة يسمونه ريحانة.
مريم : يُقال في بلاد الأندلس أنه ضرب من النبات، وهو الأقحوان على الحقيقة وهو الكافورية عند أهل المغرب وفي رائحتها ثقل.
صقيل : امْرَأَةٌ صَقِيلَةٌ مِنَ الأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ مَا يُحَاكِي صُورَةَ الشَّمْسِ. وإنّما سمّيت صقيلا ، لما اعتراها من النور والجلاء بسبب الحمل المنوّر كما ذكر المحدث القمّي (رحمه الله علیه): أنّ أمّ الإمام الثاني عشر الحجّة بن الحسن صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، هي مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمّها من ولد الحواريين تنسب إلى شمعون وصي المسيح (علیه السّلام)، ولما أسرت سمت نفسها نرجس، لئلا يعرفها الشيخ الذي وقعت إليه، ولما اعتراها من النور والجلاء بسبب الحمل المنوّر سمّيت صقيلا(1).
ص: 173
اختلف العلماء في أصل السيدة نرجس على خمسة أقوال:
القول الأول : أنّ أصلها رومية سبية وهذا ما ذهب إليه المشهور.
القول الثاني: أنها ولدت في بيت السيدة حكيمة.
القول الثالث : أن أصلها سندية.
القول الرابع : أنها نوبية سوداء من شمال السودان.
القول الخامس : أنها عربية واسمها مريم بنت زيد العلوية.
ص: 174
ما دل على أنها سبية وأصلها من بلاد الروم؛ وبالتالي، تكون قد ولدت هناك.
وهذا هو الرأي المشهور، وهو أن اسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم(1)، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها :
- عن الفضل بن شاذان (رحمه الله علیه)، عن محمد بن عبد الجبار، قال: قلت لسيدي الحسن بن علي (علیه السّلام):
ص: 175
يا بن رسول الله جعلني الله فداك : أحب أن أعلم مَن الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ فقال: إنّ الإمام وحجة الله من بعدي ابني سمي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكنيه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه.
قلت ممن هو يا بن رسول الله ؟ قال : من ابنة ابن قيصر ملك الروم، ألا إنّه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة، ثم يظهر»(1).
ودلالة هذه الرواية واضحة وجلية، على أن والدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، هي ابنة قيصر ملك الروم.
أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا القاسم بن محمد بن الحسن بن حازم، قال: حدثنا عبيس بن هشام، عن عبد الله بن جبلة، عن علي بن أبي المغيرة، عن أبي الصباح، قال: «دخلت على أبي عبد الله (علیه السّلام)، فقال لي : ما وراءك؟
ص: 176
فقلت: سرور من عمك زيد، خرج يزعم أنه ابن سبية، وهو قائم هذه الأمة، وأنه ابن خيرة الإماء.
فقال : كذب، ليس هو كما قال، إن خرج قتل»(1).
إن عبارة (سرور من عمك زيد خرج يزعم أنه ابن سبية، وهو قائم هذه الأمة، وأنه ابن خيرة الإماء)، تكشف أنّ المتعارف عند أصحاب الإمام الصادق (علیه السّلام)، أن والدة الإمام المهدي (قائم هذه الأمة) هي سبيَّة، والإمام الصادق (علیه السّلام) نفى أن يكون زيد بن علي هو القائم وأكد أنه ابن سبية، وأنه إن خرج سوف يقتل، وهذا مفهومه، أنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لو خرج لا يُقتل ؛ بل سينتصر.
- أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا علي بن الحسن التيملي، قال : حدثنا محمد وأحمد ابنا الحسن، عن أبيهما، عن ثعلبة بن ميمون، عن يزيد بن أبي حازم، قال: «خرجت من الكوفة، فلما
ص: 177
قدمت المدينة دخلت على أبي عبد الله (علیه السّلام)، فسلمت عليه، فسألني: هل صاحبك أحد؟ فقلت : نعم.
فقال : أكنتم تتكلمون؟
قال : فما كان يقول ؟
قلت: كان يزعم أن محمد بن عبد الله بن الحسن هو القائم، والدليل على ذلك أن اسمه اسم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) واسم أبيه اسم أبي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقلت له في الجواب : إن كنت تأخذ بالأسماء فهو ذا في ولد الحسين (علیه السّلام) محمد بن عبد الله بن علي، فقال لي : إن هذا ابن أمة يعني محمد بن عبد الله بن علي، وهذا ابن مهيرة يعني محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، فقال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): فما رددت عليه؟
فقلت : ما كان عندي شيء أرد عليه. فقال لي (على نحو الاستفهام الانكاري): أولم تعلموا أنه ابن سبية؟»(1).
يفهم من هذا الكلام أن القائم من آل محمد (علیه السّلام) هو ابن سبية، وهذا هو الرأي المعروف والمشهور.
ص: 178
نقل صاحب البحار عدة روايات، وصفت الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بأنه ابن ستة، ولكن بعد التحقيق والتدقيق، لم نجد كلمة (ستة) في المصدر الأساسي، وإنما (سبية)، فيحتمل قويًّا أن يكون هناك تصحيف بالنقاط من كلمة سبية إلى ستة، هذا بالإضافة إلى أنه لا معنى لكلمة ابن ستة في المقام ؛ وعليه، فإنّ هذه الروايات تعضد القول الأول.
- ورد عن الحسين بن أيوب، عن عبد الله الخثعمي عن محمد بن عبد الله، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر (علیه السّلام)، أو أبو عبد الله (علیه السّلام)- الشك من ابن عصام -: «يا أبا محمد بالقائم علامتان: شامة في رأسه وداء الحزاز برأسه، وشامة بين كتفيه، من جانبه الأيسر تحت كتفيه ورقة مثل ورقة الآس ابن ستة (هكذا) وابن خيرة الإماء»(1).
ص: 179
هذه الرواية رواها الصدوق والطوسي والطبري وغيرهم، ذكرت تفاصيل منام وسبي السيدة نرجس (عليها السلام). ولكن بعد التحقيق، وجدنا أنّ أول من نقل هذه الرواية هو الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة)، وكل من أوردها جاء من بعده، كالشيخ الطوسي في كتاب الغيبة، ومن ثم الطبري في دلائل الإمامة، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين وابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب. لذلك، نحن نكتفي بنقل رواية الصدوق (قدس سره).
- حدثنا محمد بن علي بن حاتم النوفلي، قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء البغدادي، قال: حدثنا أحمد بن طاهر القمي، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر الشيباني، قال: وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين..(1).
ص: 180
من الناحية السندية، فقد اتهم بعض الرجاليين الشيباني بالغلو.
قال فيه الكشي : حدثني أبو الحسن (كذا) محمد بن بحر الكرماني الرهني (الدهني) النرماشيري، قال:
ص: 181
وكان من الغلاة الحنقين (المغتاظ). وقال أيضًا: محمد بن بحر هذا غال(1).
وقال فيه ابن الغضائري: مُحَمَّدُ بنُ بَحْر، الرُهَنيُّ، الشَّيْبانيُّ، أبو الحُسَيْن، النَّرْماشيري ضَعِيفٌ، في مذهبِهِ ارتفاع(2).
قال عنه الطوسي : محمد بن بحر الرهني، من أهل سجستان، كان متكلما عالمًا بالأخبار فقيها ، إلّا أنه متهم بالغلو.
وله نحو من خمسمائة مصنف ورسالة، وكتبه موجودة، أكثرها موجود بخراسان، فمن كتبه: كتاب الفرق بين الآل والأمة، وكتاب القلائد(3).
أقول : إن كان تضعيف الشيباني من قبل بعض الرجاليين من ناحية الغلو فقط، فهذا حال أغلب
ص: 182
القميين في ذلك الزمن، وعند التدقيق فيما بقي من مصنفاته، يتبيّن أنّ الاتهام ناشئ عمّا نقل عنه الصدوق في تفضيله الأنبياء والأئمة على الملائكة،- كما هو ظاهر في الرسالة التي أوردها الشيخ الصدوق في العلل ؛ - وعليه، يكون هذا من بديهيات معتقداتنا من (أنّ أهل البيت أفضل من الملائكة)، فإذا كان التضعيف من هذه الناحية فقط، فهذا لا يؤدي إلى ضعف في الراوي ويصح الاعتماد عليه.
وقد عبر السيد الخوئي (قدس سره) حول هذا النوع من الغلو بقوله : «والغلو بهذا المعنى الأخير مما لا محذور فيه ؛ بل لا مناص عن الالتزام به في الجملة»(1).
أما النجاشي فقد نزه الرجل عن الغلو بقوله: «قال بعض أصحابنا : إنه كان في مذهبه ارتفاع وحديثه قريب من السلامة، ولا أدري من أين قيل ذلك»(2).
وهذا يعني أنّ النجاشي لم يقبل الغلق بحق الرُّهني
ص: 183
وحكى ابن طاووس في (سعد السعود) عن محمّد بن بحر الرهني - الذي هو من أعاظم علماء الإمامية في بيان الاختلاف في المصاحف -... وقال في الهامش: محمد بن بحر بن سهل الرهني أبو الحسين الشيباني ساكن ترماشيز من أرض كرمان، له تصانيف كثيرة نحو خمسمائة مصنّف، كان من أكابر الإماميّة في القرن الرابع، وهو من مشايخ أبي العباس بن نوح السيرافي المتوفى (408ه_)(1).
أقول : يمكن تصحيح رواية الشيباني بتوثيق الصدوق والقميين لها، وممن تبنى صحة هذا المبنى وكان متساهلا بالنقل عن القميين الشيخ الأنصاري (قدس سره).
وذلك كما صرح في كتاب المكاسب بقوله : «... إلا أن اعتماد القميين عليها - الرواية محل بحثه - وروايتهم لها، مع ما عُرف من حالهم لمن تتبعها من أنهم لا يخرجون في راويها ضعف إلا كتبهم رواية .
ص: 184
بعد احتفافها بما يوجب الاعتماد عليها، جابر لضعفها في الجملة»(1).
ولو سلمنا بعدم قبول هذا المبنى، فإن ذهاب مشهور العلماء إلى هذه الرواية، واعتضادها بصحيحة عبد الجبار المتقدمة، وما دل من روايات على أنها سبية كما تقدم يورث عندنا الطمأنينة والوثوق بصدورها عن المعصوم (علیه السّلام)، وإن لم نقل بحجيتها ، لا أقل من كونها مؤيدة لما تقدم من روايات دلت على أنها رومية وسبية.
أورد البعض(2) إشكالا على رواية الرؤيا للسيدة نرجس التي رواها الشيباني وأوردها الشيخ الصدوق في كتابه كمال الدين، وهو أنه لم تقع معركة بين العباسيين والبيزنطيين بعد سنة (242ه_) ، وأنّ التاريخ الإسلامي لم يسجل بعد عام 242ه_ أو 856م، معركة بين الروم والمسلمين في العصر العباسي(3).
ص: 185
ويرد عليه: أن هناك أحداثًا تاريخيةً ثبت فيها وقوع معارك واشتباكات حصلت بين الروم والمسلمين في ما بین سنة 242ه_ و 255ه_، وهذا مذكور وموثق في التاريخ الإسلامي وغيره، نذكر منها :
وهي حين خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد، ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهبوا عدة قرى، وأسروا حوالي عشرة آلاف إنسان، وكان دخولهم من ناحية أبريق، قرية قربياس، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع، وقوم من المتطوعة في أثرهم فلم يلحقوا منهم أحدًا، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيا(1).
ص: 186
أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحوا من خمسمائة وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يوما، فبعث ملك الروم إليهم بطريقا يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلؤة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة، وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له: لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور...، وقيل: إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا : نقتلك، فقال : أنتم أعلم، وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين(1).
وذلك عندما غزا عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة. أخرج سبعة آلاف رأس وفي غزوة قربياس، أخرج
ص: 187
خمسة آلاف رأس، وكذلك عندما غزا الفضل بن قارن بحرًا في عشرين مركبًا، فافتتح حصن أنطاكية، وغزوة بلكاجور فغنم وسبى(1).
وذلك عندما غزا الصائفة وصيف، وكان مقيمًا بالثغر الشامي حتى ورد عليه موت المنتصر، ثم دخل بلاد الروم، فافتتح حصنًا يقال له فروريه، وعقد المستعين فيها لا و تامش على مصر والمغرب، واتخذه وزيرًا(2).
وذلك عندما غزا جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنًا ومطامير، واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المسير إلى ناحية من بلاد الروم، فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية(3)، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له : أرز من مرج الأسقف،
ص: 188
فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفا، فقتل عمر وألف رجل من المسلمين، وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب.
ذكر أن الروم لما قتلت عمر بن عبيد الله، خرجوا إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين بها، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم في جماعة من أهل ميافارقين والسلسلة، فقتل نحوًا من أربعمائة رجل، وذلك في شهر رمضان(1).
ويمكن ترجيح هذه المعركة وتقديمها على غيرها من المعارك، وذلك لحضور ملك الروم في هذه المعركة، مما يقوي احتمال أنها أسرت هناك قرب نهر الفرات صلوات الله عليها، وهذا ما يتطابق مع رواية الشيباني المتقدمة(2).
ص: 189
حينما وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين، كان وجه بهما إليه من كابل وغزا الصائفة فيها بلكاجور(1).
كانت لبلكاجور غزوة فتح - فيما ذكر - فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين کتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين(2).
سار خفاجة إلى سرقوسة، ثم إلى جبل النار، فأتاه رسل أهل طبرمين يطلبون الأمان، فأرسل إليهم امرأته
ص: 190
وولده في ذلك، فتم الأمر، ثم غدروا، فأرسل خفاجة محمدا في جيش إليها، ففتحها وسبى أهلها(1).
سار خفاجة من بلرم إلى مدينة سرقوسة وقطانية، وخرب بلادها، وأهلك زروعها، وعاد وسارت سراياه إلى أرض صقلية، فغنموا غنائم كثيرة(2).
سار خفاجة في العشرين من ربيع الأول، وسير ابنه محمدا على الحراقات، وسيّر سرية إلى سرقوسة، فغنموا وأتاهم الخبر أن بطريقا قد سار من القسطنطينية في جمع كثير، فوصل إلى صقلية، فلقيه جمع من المسلمين فاقتتلوا قتالاً شديدًا، فانهزم الروم وقتل منهم خلق كثير وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة(3).
ص: 191
وجاء في كتاب العرب والروم، وكتاب الإمبراطورية البيزنطية وكريت الإسلامية، أن الدولة البيزنطية المحاددة المجاورة للدولة العباسية، شهدت عدة معارك مع المسلمين مما أدى إلى وقوع أسرى بين الطرفين، ومعلوم أن مكان تبادل الأسرى في زمن (ثيوفيلس العموري)، و(تيدورا و بارادس) كان في منطقة حدود الصراع في آسيا الصغرى، وهي قرب مدينة عمورية شمال الإسكندرونة وجنوب غرب أنقرة عاصمة تركيا حاليا ؛ حيث كانت المعارك هناك.
والمعلوم في تاريخ الدولة البيزنطية، أن القيصر (بارداس) أعاد الحرب مع العباسيين وانتصر عليهم عدة مرات، فقد كانت جبهة المواجهة ساخنة حتى لما بعد (سنة 867م).
ونورد في ما يلي بعض النقاط التاريخية للاستفادة منها في تأييد رواية منام السيدة نرجس :
1 - توفي الإمبراطور ثيوفيل في 20 يناير 842م الموافق (29 ربيع الأول 227 ه_)، وقبل موته بأسبوعين مات خصمه الخليفة المعتصم العباسي.
ص: 192
وولد تيفوئيل في العمورية، التي سقطت في قبضة الجيش الإسلامي سنة 223ه_ 837م.
2 - خلف ميشيل (وعُرف أيضًا باسم ميخائيل الثالث) أباه ثيوفيل وكان عمره ست سنين حين مات أبوه، فأوصى الإمبراطور الراحل في آخر أيامه أن تسند الوصاية إلى أم ميشيل (تيودورا) وأن يعينها مجلس مؤلف من شقيقها برداس، وبتروناس، وخالها سر جيوس نكتياتيس، نكتياتيس، وصديقها اللغيثيت تيوكتيستوس الذي استغل مكانته عند تيودورا واستحوذ على السلطة.
3 - وبعد أربعة عشر عامًا من وصاية الأم تيودورا وتوليها الحكم، شنت خلالها حروبًا عنيفة ضد الدولة الإسلامية، وأقدمت على ارتكاب مذبحة مروعة بحق الأسرى المسلمين راح ضحيتها 12000 مسلم في عام 856م.
ولما بلغ الإمبراطور ميخائيل الثالث (ميشيل) سن الرشد، بدأ يضيق على والدته التي حرمته من ممارسة شؤون الحكم، ولم تكتفي بذلك؛ بل أخذت تتدخل في حياته الشخصية. وقد ازداد ضيقه نتيجة لتحريض خاله بارداس، الذي رغب هو الآخر في التخلص من
ص: 193
منافسة تيوكتيستوس بعد أن انفرد بالسلطة وحده. إضافة إلى ذلك أن الإمبراطور ميخائيل الثالث لم ينجب وريثًا، ومن ثم فقد طمع القيصر بارداس في أن يرث العرش الإمبراطوري. فقام باعتقالها وأجبرها على دخول الدير، وتوفيت بعد ذلك في سنة 867م أي في سنة الانقلاب العسكري بقيادة باسيل المقدوني.
أصبح القيصر بارداس هو الحاكم الفعلي للإمبراطورية آنذاك.
وقد أتيحت الفرصة لبارداس للسيطرة على الحكم، وتصريف شؤون الإمبراطورية لمدة عشر سنوات، وتحديدًا منذ سنة (856م - 242ه_ إلى 866م - 252ه_)، أظهر خلالها كفاءة ممتازة، وقوةً ونشاطا كبيرين ما أدى إلى حصوله على لقب قيصر.
وفي عامي 864 و 865 ، غزا قائد العرب بلكاجور صائفتين غنموا فيهما، وأخذوا في الثانية منهما في مايو عام 865م حصنًا كان يحوي مؤونة كثيرة وأسروا كثيرًا من أشراف الروم.
وفي عام 866م (252ه_) ، أغار مسلمو كريت على جزيرة صغيرة تدعى نيون بالقرب من آتوس وأسروا
ص: 194
بعض سكانها، ثم عاودوا الإغارة عليها مرة أخرى بعد فترة وجيزة.
وهكذا، وجدت الإمبراطورية البيزنطية نفسها أمام عدو قوي، وأصبح من الضروري القيام بعمل إيجابي لوضع حد لهذه الغارات المتكررة على مملكتها. ولتحقيق ذلك أخذ القيصر بارداس في إعداد حملة على كريت تولى الإشراف عليها بنفسه.
ولكن ظروفًا استجدت على مسرح الأحداث، وانتهى أمرها بالفشل، بسبب المؤامرة التي تزعمها باسيل المقدوني والتي انتهت باغتيال القيصر بارداس.
وبمقتل القيصر بارداس، واغتيال ميخائيل الثالث وبسبب مؤامرات باسيل، انتهى حكم الأسرة العمورية وتم تأسيس أسرة جديدة هي الأسرة المقدونية بقيادة باسيل المقدوني، التي تربعت على العرش البيزنطي ما يقرب من قرنين من الزمن(1).
ص: 195
وعليه، فإنّ مقتل القيصر بارداس أدى إلى تشتت وتشرد الأسرة العمورية من بعده، فمن المحتمل أسر السيدة نرجس حينها، خصوصًا أن ظهورها كان في عام ذلك الانقلاب العسكري، وفي الفترة نفسها التي شهدت اشتباكات ضارية مع المسلمين؛ وبالتالي، إنّ هذه المعلومات تتوافق ومفاد رواية السيدة نرجس التي أوردها بشر النحاس: «فقلت لها: وكيف وقعت في الأسر؟ فقالت : أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي (في الرؤيا) أن جدَّك سيسرب جيوشًا إلى قتال المسلمين يوم كذا ثم يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي عدة الخدم، مع من الوصائف من طريق كذا، ففعلت، فوقعت علينا طلائع المسلمين، حتّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحد بي بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك بإطلاعي إياك عليه. وقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته».
وهذا ما يقوي احتمال أنّ القيصر بارداس كان ممن غزا المسلمين.
وفي هذا السياق، أحببت أن أذكر كلاما للكاتب
ص: 196
كمال السيد من كتابه الإمام المهدي (علیه السّلام) نظرة في التاريخ ورؤية للمستقبل.
حيث قال فيه : «.. قدرها أن ترافق طلائع الجيش الرومي ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء... وعلى الحدود وقعت اشتباكات محدودة هزمت فيها طلائع الروم، ووقعت مليكة في أسر المسلمين، فكانت في سهم شيخ مسلم سألها عن اسمها ، فقالت على الفور: نرجس.
... وفي تلك الظروف العاصفة، وصلت الفتاة مليكة بغداد وتسمت باسم نرجس، إمعانا في إخفاء هويتها... فهل كانت أميرة من أميرات الأسرة العمورية التي انتهى حكمها بعد الانقلاب العسكري؟
إنّ المؤشرات التاريخية لتلك الحقبة العاصفة تؤكد وجود قدر ما، ساق تلك الفتاة لتكون زوجة لإنسان كامل، وأما للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
... لقد أحيا بارداس جامعة القسطنطينيه التي أنشئت في عام 849م، وعين فيها أساتذه لتعليم الآداب واللغة والفلك وغيرها، وهذا ما ذكره التاريخ، لهذا نجد في رواية السيده نرجس : بلغ من ولوع جدّي وحمله إيَّاي على تعلّم الآداب أن أوعز إلى امرأة
ص: 197
ترجمان له في الاختلاف إليّ، فكانت تقصدني صباحًا ومساءً وتفيدني العربية حتى استمر عليها لساني واستقام.
وتابع كمال السيد كلامه بقوله :
استلم (بارداس) لقب القيصرية في نفس سنة بلوغ السيدة مليكة سن (13)، أي سنة (861م) أو قبلها بسنة بناءً على قول من قال إن ولادتها سنة (849م).
ويقول أيضًا : إنّ جوّ الروايات التي أشارت إلى هذا الموضوع، يوحي بأن الإمام الهادي قام بذلك يُعيد انتهاء الحرب الأهلية (251 - 252ه_)، ومن المحتمل أن يكون ذلك بين عامي 253 - 254ه_، أي في الوقت الذي استأنفت فيه بغداد حياتها العادية من جديد بعد حرب أهلية مدمرة»(1).
إنّ ما يعزز كلامنا ويؤيده، ما ورد في كتاب تاريخ ملوك الدولة البيزنطية من قسطنطين حتى باليولوجوس
ص: 198
الجزء الأول(1)، أنه في سنة (867) ميلادية، فُقدت ابنة الملك وأربعة من وصيفاتها، وحارسها الشخصي الأمين (بتراوس)، خلال الفوضى التي عمت البلاد نتيجة لغياب الملك في حروبه، وكان الاعتقاد السائد أنها غرقت في الفرات أو أن المسلمين أسروها وضاعت جهود الملك كلها في العثور على ابنته.
ومنها ما ذكر عن وجود حفيدة للقيصر (بارداس) اسمها (أليسا)، وهي كلمة فينيقية تعني (زهرة النرجس) أو السوسن، وهذه الحفيدة فقدت على نهر الفرات أثناء المعارك، وكان الشعراء يبكون عليها، وأحدثت صلوات في الكنيسة لندبتها، والدعاء لها، وهذا نص الصلاة: «نرجس يا سوسنة الأودية وعبق الزهور، يا سليلة التاج ومجد الصفا، منك يخرج غصن إلياس، قضيب من جذعه، وغصن من أصوله، من بين عينيك يخرج نور الشعوب وقرة أعينهم الجالسون على الأرض أشرق عليهم نورك، ففرحت الأمم وتعاظم لها
ص: 199
الفرح كما يفرح الحصادون، يا ابنة الصفا وفخر مدينة السرور، منك سيورق الغصن وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا قديرًا، رئيس السلام، يحمل صولجان أبيك ويجلس على كرسي مجده»(1).
وذكر النص المسيحي الثاني - في صلاة مدائحية للسيدة مريم بنت عمران (علیه السّلام)- فقرة تذكر القديسة التي ستلد منقذ العالم بعصا الغضب الإلهي، وقد جاء فيها : «وساقها قدرها إلى مدينة السرور، على شاطئ أويفرات لتضع وليدها الذي سيسافر مع الماء عبر بئر الحياة، حتّى إذا رأى أخاه نازلا من الملكوت على أجنحة الكروبيم عندها سيسوقا العالم بعصا من الغضب، وويل للأمة الملعونة من غضبهم، أعداؤه صخرهم باعهم والرب سلمهم»(2).
وعليه، إنّ هذين النّصين إذا ثبتا فإنهما يقويان احتمال انطباق هذه القصة على السيدة نرجس (عليها السلام)
ص: 200
والدة إمامنا (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وأنها هي القديسة المفقودة من قصور القسطنطينية، والله العالم.
وبالتالي، فإن ما ذكر من إشكالات على أنه لم يكن هناك حروب بين الروم والعباسيين في زمن أسر السيدة مليكة، مردود بالتاريخ الإسلامي والمسيحي كما تقدم.
إنّ أهم المؤرخين والمحدثين الشيعة الإمامية، كالكليني والمسعودي والقمي والنوبختي لم ينقلوا لنا هذه الرواية في كتبهم.
إنّ عدم نقل المحدثين والمؤرخين كالكليني، والمسعودي لهذه الرواية، لا يعني أنها مكذوبة أو غير موجودة. وهناك روايات عديدة ثبتت من خلال الكتب المعتبرة ، لم ينقلها الكليني ولا المسعودي ولا غيرهم، ومع ذلك كانت حجة يؤخذ بها، ويعتمد عليها ؛ إذ إنه من المحتمل عدم وصول الرواية إليهم، كي ينقلوها.
وحتى مع احتمال وصول الرواية إليهم، فإنّ الكليني قد اهتم في كتابه بنقل الأصول والفروع.
ص: 201
أما سعد بن عبد الله الأشعري القمي، فقد كان من علماء الكلام، ونقل في كتابه كلامًا عن الاعتقادات والفرق، وعليه، إنّ كتابه ليس كتاب حديث كما هو حال كتاب الشيخ الصدوق (كمال الدين وتمام النعمة) الذي وردت رواية منام السيدة نرجس فيه.
وأما بالنسبة للمسعودي، فهو مؤرخ، وعدم ذكره لرواية مجيء السيدة نرجس من بلاد الروم ليس دليلا على عدم وجودها.
ص: 202
بعد أن بيّنا القول الأول - الذي هو رأي المشهور في نسب السيدة نرجس (عليها السلام)- بأنها سبية وأصلها من بلاد الروم وبالتالي، تكون قد ولدت هناك، ننتقل إلى بيان القول الثاني، وهو أنّ السيدة نرجس وُلدت في بيت السيدة حكيمة عمة الإمام العسكري (علیه السّلام).
لعل أول من ذهب إلى هذا القول، هو علي بن الحسين المسعودي، صاحب مروج الذهب في كتابه إثبات الوصية لعلي بن أبي طالب (علیه السّلام)؛ حيث قال : روى لنا الثقات من مشايخنا أنّ بعض أخوات أبي الحسن (علیه السّلام) علي بن محمد (علیه السّلام)، كانت لها جارية، ولدت في بيتها وربّتها، تسمّى نرجس، فلما كبرت وعبلت دخل أبو محمد (علیه السّلام) فنظر إليها فأعجبته، فقالت عمّته: أراك تنظر إليها؟ فقال (علیه السّلام): إني ما
ص: 203
نظرت إليها إلّا ،متعجبا أما إنّ المولود الكريم على الله (جل وعلا) يكون منها. ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن في دفعها إليه، ففعلت، فأمرها بذلك(1).
وممن ذكر هذا القول، حسين بن عبد الوهاب (من علماء القرن الخامس) في كتابه عيون المعجزات؛ حيث ذكر نص المسعودي نفسه(2).
أقول: إن روایة المسعودي ضعیفة بالإرسال مرتین، مرة بقوله الثقات من مشايخنا ؛ إذ لم يحددهم، ومرة بقوله : بعض أخوات أبي الحسن، ولم يحدد أيهن أيضًا. ولعل المسعودي فهم منهم هذا بعد أن اختلط عليهم الأمر واشتبهت أسماء الجواري عليهم، فقد تكون المولودة في بيت حكيمة إحدى جواريها غير السيدة نرجس، واشتبه الناقل بأنها نرجس (عليها السلام).
كذلك، إنّ ما ذكره (حسين بن عبد الوهاب) لا
ص: 204
يمكن الركون إليه، لأنه نقل عن المسعودي، ومما يقوي هذا الاحتمال، أنّ الشيخ الطوسي في غيبته قد روى ألفاظ هذه الرواية نفسها، لكن من دون ذكر أن أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) قد ولدت في بيت السيدة حكيمة ؛ إذ قال : «وروي أن بعض أخوات أبي الحسن (علیه السّلام) كانت لها جارية ربّتها تسمى نرجس، (ولم يقل ولدت في بيتها) فلما كبرت دخل أبو محمد (علیه السّلام) فنظر إليها ، فقالت له : أراك يا سيدي تنظر إليها ؟ فقال : إني ما نظرت إليها إلا متعجبًا، أما إنّ المولود الكريم على الله تعالى يكون منها، ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن (علیه السّلام) في دفعها إليه، ففعلت فأمرها بذلك.»(1) .
وبغض النظر عن ضعف رواية الطوسي بالإرسال، فهي بهذا النقل لم تقل إنها ولدت في بيت حكيمة، وإنما قالت : إنّ السيدة حكيمة قد ربّتها في بيتها. وعليه، لا تنافي بين هذه الرواية، ورواية القول الأول من أنها سبية وجاءت من بلاد الروم؛ بل إنها قد تكون
ص: 205
وصلت سبية إلى بيت السيدة حكيمة، التي تولت تربيتها وتعليمها، ويتوافق ابتعاد السيدة نرجس عن بيت الإمام العسكري (علیه السّلام)، لأسباب أمنية تمويهية على السلطة العباسية، ويؤيد لما ورد في رواية بشر النخاس : «... فقال أبو الحسن (علیه السّلام): يا كافور ادع لي أختي حكيمة، فلما دخلت عليه قال (علیه السّلام) لها: ها هي فاعتنقتها طويلًا وسرت بها كثيرًا ، فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (علیه السّلام)».
وما يؤيد ما ذكرناه، أن الشيخ الصدوق روى بسند ينتهي إلى محمد بن عبد الله الطهوي ما يلي: «قصدت حكيمة بنت محمد (علیه السّلام)... قالت : نعم كانت لي جارية يقال لها : نرجس فزارني ابن أخي... فقلت : فأرسلها إليك يا سيدي؟ فقال: استأذني في ذلك أبي (علیه السّلام)..»(1).
وهذه الرواية تدل على أن السيدة نرجس (عليها السلام)،
ص: 206
كانت في بيت السيدة حكيمة، وهي لا تصرح بالولادة في بيتها. لذلك، فإنّ ما رواه المسعودي من أنها ولدت في بيت السيدة حكيمة، لا يمكن الاعتماد عليه، الضعف الرواية بالإرسال أو لاشتباه الناقل بأنها السيدة نرجس (عليها السلام) فاختلط عليه الأمر. فقد تكون المولودة في بيت حكيمة إحدى جواريها غير السيدة نرجس (عليها السلام).
ص: 207
ذهب البعض إلى أنّ السيدة نرجس من بلاد السند(1). وهذا ما أورده الخصيبي في كتابه الهداية الكبرى؛ حيث جاء فيه: قال الحسين بن حمدان الخصيبي، حدثني من زاد في أسماء من حدثني من هؤلاء الرجال، الذين أسميهم وهم غيلان الكلابي، وموسى بن محمد الرازي، وأحمد بن جعفر الطوسي، عن حكيمة ابنة محمد بن علي الرضا (علیه السّلام)، قال : كانت تدخل على أبي محمد (علیه السّلام) فتدعو له أن يرزقه الله ولدًا، وأنها قالت: دخلت عليه، فقلت له كما كنت أقول، ودعوت له كما كنت أدعو، فقال: يا
ص: 208
عمة، أما الذي تدعين إلى الله أن يرزقنيه يولد في هذه الليلة، وكانت ليلة الجمعة لثمان ليال خلت من شهر شعبان سنة سبع وخمسين ومائتين من الهجرة، فاجعلي إفطارك عندنا. فقالت: يا سيدي ما يكون هذا الولد العظيم؟ قال : إليّ نرجس يا عمة. قالت: يا سيدي ما في جواريك أحب إلي منها، فقمت ودخلت عليها، ففعلت كما كانت تفعله، فخاطبتني بالسندية، فخاطبتها بمثلها وانكببت على يديها فقبلتها ...»(1).
وموضع الاستدلال هو هذه الفقرة من الرواية (فخاطبتني بالسندية فخاطبتها بمثلها)، وهي إشارة إلى أن لسانها لسان سندي ؛ إذن هي من بلاد السند.
ويرد عليهم :
أولا : من الناحية السَّنَدية: أنّ الرواية في غاية الضعف، والخصيبي قد طعَنَ فيه كل من ترجم له بفساد مذهبه ووجود تخليط في كتبه.
ص: 209
قال عنه النجاشي : الحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلاني أبو عبد الله كان فاسد المذهب. له كتب منها : كتاب الإخوان، كتاب المسائل، كتاب تاريخ الأئمة، كتاب الرسالة تخليط(1).
وقال ابن الغضائري : الحُسَيْنُ بنُ حَمْدان، الخصيني، الجُنْبُلائي، أبو عَبْدِ الله ، كَذَّابٌ، فاسِدُ المُذْهَب، صاحب مقالة مَلْعُونة، لا يُلْتَفَتُ إليه(2).
ثانيًا : أنّ كلمة (بالسندية) الواردة في الرواية أعلاه، قد تكون مصحفة من كلمة (بالسيادة)، وهذا ما ذهب إليه من حقق له كتابه، وهو (شوقي الحداد) في تحقيقه لكتاب الهداية الكبرى للخصيبي؛ حيث قال: فالمراد من (خاطبتني بالسيادة) أي إنها قالت للسيدة حكيمة (علیه السّلام): يا سيدتي .
وهذا موافق لما ورد في روايتي الشيخ الصدوق
ص: 210
والشيخ الطوسي ؛ حيث جاء فيهما : «... قالت: - أي السيدة حكيمة -: فجئت فلما سلمت وجلست جاءت تنزع خُفّي، وقالت لي: يا سيدتي [وسيدة أهلي] كيف أمسيت؟ فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي، قالت: فأنكرت قولي، وقالت: ما هذا يا عمة؟ قالت: فقلت لها: يا بنية، إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلامًا سيدًا فى الدنيا والآخرة. قالت: فخجلت واستحيت...»(1).
ثالثًا : هب أننا سلمنا بصحة الرواية وأنها ليست مصحفة، فمن قال : إنّ تكلمها بالسندية معناه أنها من بلاد السند؟!! فكم وكم من متكلم باللغة الإنكليزية والفرنسية مع أنه عربي الأصل، ولماذا لم تنسبوا إلى الأئمة الأطهار السندية أو الهندية مع أنهم كانوا يتكلمون بجميع اللغات؟! بل لا نذهب بعيدًا ، فلماذا لم تنسبوا إلى السيدة حكيمة أنها سندية وهي التي أجابتها بالسندية كما في نص
ص: 211
رواية الخصيبي (فخاطبتني بالسندية فخاطبتها بمثلها)؟! وإنما من المسلّم كونها عربية.
وعليه، فلا يمكن التمسك بهذه الرواية لا من الناحية السندية ولا الدلالية، فالقول بأنها سندية الأصل ساقط، ولا يؤخذ به.
ص: 212
ذهب إلى هذا القول : المحقق التستري في كتابه القاموس (63/12)؛ حيث قال : والظاهر أصحيّة القول الأول، وأصحيّة خبره.
كذلك رأى الشيخ أحمد سلمان في كتابه سيدة الإماء، أن المرجح هو كون أُمّ الإمام المهدي (علیه السّلام) أُمَةٌ من بلاد النوبة ..(1).
ونحن - بدورنا - نستعرض ما ورد من روايات في هذا المقام، ونناقشها.
- أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن
ص: 213
محمد ابن یعقوب، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعا، عن زكريا بن يحيى بن النعمان، قال: «سمعت علي بن جعفر بن محمد يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال في حديثه لقد نصر الله أبا الحسن الرضا (علیه السّلام) لما بغى عليه إخوته وعمومته، وذكر حديثًا طويلًا حتى انتهى إلى قوله: فقمت وقبضت على يد أبي جعفر محمد بن علي الرضا (علیه السّلام)، وقلت له : أشهد أنك إمام عند الله، فبكى الرضا (علیه السّلام) ثم قال : يا عم ألم تسمع أبي وهو يقول : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيبة، يكون من ولده الطريد الشريد، الموتور بأبيه وجده، صاحب الغيبة، فيقال: مات أو هلك، أي واد سلك؟ فقلت : صدقت ، جعلت فداك»(1).
ص: 214
والرواية ضعيفة لجهالة زكريا بن يحيى ؛ فلا يمكن الاعتماد عليها في المقام(1).
حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس رضي الله عنه، قال : حدثنا أبو عمرو الكشي، قال: حدثنا محمد بن مسعود، قال: حدثنا علي بن محمد القمي،
عن محمد بن أحمد بن يحيى، بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن أبي أحمد الأزدي، عن ضريس الكناسي، قال: «سمعت أبا جعفر (علیه السّلام) يقول : إنّ صاحب هذا الأمر فيه سُنّة من يوسف ابن أمة سوداء، يصلح الله عز وجل أمره في ليلة واحدة»(2).
وهذه الرواية ضعيفة أيضًا ؛ لجهالة (علي بن محمد القمي) الذي لم يوثق.
ص: 215
أخبرنا أحمد بن محمد بن سعید، قال: حدثنا محمد بن المفضل وسعدان بن إسحاق بن سعيد وأحمد بن الحسين، ومحمد بن أحمد بن الحسن القطواني، جميعًا، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم الجواليقي، عن يزيد الكناسي، قال:
«سمعت أبا جعفر الباقر (علیه السّلام) يقول : إنّ صاحب هذا الأمر فيه شبه من يوسف، ابن أمة سوداء، يصلح الله له أمره في ليلة»(1).
وهذه الرواية أضعف من سابقتيها ؛ لكثرة المجاهيل فيها، وهم: محمد بن الفضل، وسعدان بن إسحاق، ومحمد بن أحمد بن الحسن القطواني، ويزيد الكناسي(2).
فمن الناحية السندية، قد ثبت ضعف هذه الروايات التي تصف الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، بأنه ابن أمة سوداء.
ص: 216
وقد علّق الشيخ الكوراني على هذه الروايات بقوله : «أقول : كلمة (سوداء) في نسخة النعماني لا تصح ؛ لأن أم يوسف ليست سوداء وأم الإمام المهدي (علیه السّلام) ليست سوداء، فقد اتفقت الروايات على أنها رومية! فشبهه بيوسف (علیه السّلام) من جهة كونه ابن أمة وبأن الله يصلح أمره في ليلة، أي كما أرى فرعون المنام فكان ذلك سبب نجاة يوسف وحكمه، فكذلك يحدث تطورات في العالم في ليلة تمهد لبداية أمر المهدي (علیه السّلام) وظهوره(1).
وقال في كتابه معجم أحاديث الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف): «الظاهر أنّ كلمة سوداء في نسخة النعماني زائدة؛ حيث اتفقت الروايات على أنّ أمّ المهدي (علیه السّلام) رومية أو مغربية وليست سوداء»(2).
وقال أيضًا في موضع آخر : «المقصود بابن خيرة
ص: 217
الإماء النوبية : الإمام محمد الجواد الذي ورد في صفته أنه يميل إلى السمرة. والمقصود بالطريد الشريد صاحب الغيبة الذي يكون من ولده، الإمام المهدي (علیه السّلام)، وقد وردت الأحاديث من طرق الفريقين أنه شبيه جده النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وورد من طرقنا أن أمه من الروم أو المغرب»(1).
أقول : إن قول الشيخ الكوراني: «وورد من طرقنا أنّ أمه من الروم أو المغرب، أو اتفقت الروايات على أنّ أمّ المهدي (علیه السّلام) رومية أو مغربية»، يحتاج إلى تدقيق وتحقيق، فإنني لم أعثر - بحسب تتبعي للروايات - على رواية أو قول، يُثبت أنّ أمّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، هي مغربية، لا من روايات الشيعة ولا من روايات السنة، فمن أين جاء بعبارة «اتفقت الروايات»؟!!!.
وذهب العلامة المجلسي إلى تضعيف القول بأن أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أمة سوداء، بقوله: «بیان قوله (علیه السّلام): «ابن أَمَة سوداء»، يخالف كثيرًا من الأخبار
ص: 218
التي وردت في وصف أمه (علیه السّلام) ظاهرًا، إلا أن يحملعلى الأم بالواسطة أو المربية»(1).
أي إنّ المقصود بالنوبية الطيبة، هي أم الإمام الجواد (علیه السّلام). أما المقصود بالابن، فإما أن يكون الإمام الجواد (علیه السّلام) ، وهو الابن المباشر، وإما أن يكون الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وهو الابن بواسطة؛ حيث تعتبر أم الإمام الجواد (علیه السّلام) أما للقائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بالواسطة وهي جدته.
أقول : يمكن أن نوافق العلامة المجلسي في حمل الأم على الأم بالواسطة كالجدة، وهذا قد نجد له مثيلا عند العرف، ولكن حمل أمهات الأئمة بالخصوص على الأم المربيّة بعيد في المقام، لما لهن من خصوصيات اختصصن بها في روايات أهل البيت (علیهم السّلام): كالاصطفاء والأرحام المطهرة وغير ذلك.
والخلاصة : أنّ حمل الكلام عن والدة الإمام المهدي - في بعض الروايات - على أنه ابن أمة سوداء
ص: 219
قول ضعيف، كما تقدم في أسانيد الروايات الناقلة لهذا الحديث، وقد تحمل على الأم بالواسطة كما ذهب العلامة المجلسي، وقد يكون (القول بالنوبية) لأجل التعمية على العباسيين نظرا لكثرة أسمائها (عليها السلام)، وهذا احتمال وجيه يمكن أن نستنتجه من خلال السِّرّيّة التي كانت محيطة بحياة السيدة نرجس وولدها الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، حفاظًا على إتمام هذا المشروع الإلهي.
ص: 220
إن مريم هذه هي بنت زيد العلوية، وهي أخت محمد بن زيد والحسن بن زيد الداعي بطبرستان، وهما من المدينة المنورة، فيكون أصلها وولادتها في المدينة المنورة، وهذا الرأي هو أضعف من سابقيه.
إنّ أول من تعرض لهذا القول - حسب تتبعي - هو الخصيبي في كتابه (الهداية الكبرى) المتوفى سنة (334ه_)، الذي ذكر ذلك وضعفه، وذكر أن الصحيح في اسم السيدة هو (نرجس)، قال: «وأُمه صقيل وقيل : نرجس، ويقال: سوسن، ويقال: مريم ابنة زيد أخت حسن ومحمد بن زيد الحسيني الداعي
ص: 221
بطبرستان، وإن التشبيه وقع على الجواري أُمّهات الأولاد والمشهور الصحيح: نرجس...»(1).
وممن نقل هذا القول بعد الخصيبي، الشهيد الأول في كتاب الدروس حيث ذكر ما نصه: «أُمه صقيل، وقيل : نرجس، وقيل: مريم بنت زيد العلوية»(2).
كذلك، إن الذين نقلوا هذا الحديث بعد الشهيد الأول ضعفوه بلفظة (قيل)، ونلاحظ أن هذا القول لم يرد في روايات المعصومين (علیهم السّلام). هذا بالإضافة إلى أننا لم نعثر - بحسب تتبعنا للمصادر - على أنّ لزيد بنتا بهذا الاسم. وعليه، يكون هذا القول هو أضعف الأقوال.
والأرجح عندنا ؛ بل المتعين، هو أن والدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هي رومية سبية حسب المشهور لدى علمائنا ؛ وبالتالي، يكون ما ورد لدى البعض من أنها
ص: 222
نوبية أو مغربية أو غير ذلك هو اشتباه منهم؛ إذ إنّ البعض خلطوا بين أمهات بعض الأئمة (علیهم السّلام) ووالدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
ص: 223
القول الأول : المشهور هو أنها من بلاد الروم، وهو القول الراجح لصحيحة عبد الجبار المتقدمة، والروايات الدالة على أنه ابن سبية.
القول الثاني: هو كونها ولدت في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام)، فيأتي في المرتبة الثانية لتضعيفه بالإرسال كما ذكرنا .
القول الثالث: أنها سندية، وهو قول ضعيف لا أصل له.
القول الرابع: أنها من النوبة (السودان)، وقد تقدم ضعف أسانيد روايات هذا القول ومناقشته.
القول الخامس : أنها مريم بنت زيد العلوية، وأنها
ص: 224
من المدينة، لا يمكن الذهاب إليه؛ لما تقدم من إشكالات عليه.
ص: 225
عاشت السيدة نرجس محنة أهل البيت (علیهم السّلام) في مواجهة عداء العباسيين لهم، واضطهادهم والتضييق عليهم، فنالت نصيبها من جور السلطة العباسية المستبدة وظلمها، بعد أن عزم بنو العباس على محو الإمامة، بقتل أي مولود يولد للإمام العسكري (علیه السّلام)، فكثفت السلطة من المراقبة الصارمة، والتضييق على بيت الإمام (علیه السّلام)، ورصد كل حركة فيه، ودست الجواسيس، وبعث المعتمد العباسي من يكشف عن دار الإمام، وكانت نرجس حاملًا بالإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فأخفى الله سبحانه وتعالى حملها، كما أخفى حمل أم موسى، ولم يظهر عليها أي مظهر من مظاهر الحمل، حتى ولدت الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
ص: 226
إن أمهات المعصومين (علیهم السّلام)، لهنّ مكانة خاصة عند الله سبحانه وتعالى، خصوصًا أنهنّ المصطفيات لحمل خليفة الله في أرضه، وحجّته على عباده، وهذا ما أشارت إليه روايات الأدعية الواردة عن الأئمة (علیهم السّلام): «أشهد أنك كنت نورًا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة».
ومما يدل على علوّ منزلة والدة إمامنا المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وسمو رفعتها، ما ورد في أحاديث أهل البيت (علیهم السّلام) من نعتها تارة بخيرة الإماء، وأخرى بسيدة الإماء.
نعتها بخيرة الإماء :
- ورد عن الحارث الهمداني، أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال: «بأبي ابن خيرة الإماء - يعني القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- يسومُهم خسفًا، ويسقيهم بكأس مصبّرة، ولا يعطيهم إلا السيف هرجا .. لا يكف عنهم حتى يرضى الله»(1).
ص: 227
وروى جماعة - كانوا عند علي بن أبي طالب (علیه السّلام)- أنه كان إذا أقبل ابنه الحسن (علیه السّلام)، يقول : مرحبا يا بن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإذا أقبل الحسين يقول بأبي أنت : وأمي يا أبا ابن خيرة الإماء... قالوا له: ومن ابن خيرة الإماء ؟ فقال : ذلك الفقيد الطريد الشريد، محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (علیهم السّلام)، هذا ووضع يده على رأس الحسين (علیه السّلام)(1).
- عن عبد الرحيم القصير، قال : قلت لأبي جعفر الباقر (علیه السّلام): قول أمير المؤمنين (علیه السّلام): «بأبي ابن خيرة الإماء، أهي فاطمة (عليها السلام)؟ فقال : إنّ فاطمة (عليها السلام) خيرة الحرائر، ذاك - أي الإمام المهدي - المبدح بطنه، المشرب حمرة ..»(2).
- عن جابر الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السّلام) يقول : «سأل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فقال : أخبرني عن المهدي، ما اسمه؟ فقال: أما اسمه
ص: 228
فإن حبيبي (علیه السّلام) عهد إلي ألا أحدث به حتى يبعثه الله. قال: فأخبرني عن صفته؟ قال: هو شاب مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه، ويعلو نور وجهه سواد شعر لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء»(1).
- عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني جميعا عن زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي ، قال : سمعت علي بن جعفر يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال : (والله لقد نصر الله أبا الحسن الرضا (علیه السّلام)، فقال له الحسن : إي والله، جعلت فداك، لقد بغى عليه إخوته، فقال علي بن جعفر... فقمت فمصصت ريق أبي جعفر (الإمام الجواد) (علیه السّلام)، ثم قلت له : أشهد أنك إمامي عند الله ، فبكى الرضا (علیه السّلام)، ثم قال : يا عم! ألم تسمع أبي وهو يقول : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): بأبي ابن خيرة الإماء ..»(2).
ص: 229
وجاء في كتاب المقتضب لابن العياش، قال: حدثني الشيخ الثقة أبو الحسين بن عبد الصمد بن علي في سنة خمس وثمانين ومائتين عند عبيد بن كثير، عن نوح بن دراج، عن يحيى، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي جحيفة والحارث بن عبد الله الهمداني، والحارث بن شرب، كُل حدثنا : أنهم كانوا عند علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فكان إذا أقبل ابنه الحسن يقول : «مرحبا يا بن رسول الله، وإذا أقبل الحسين يقول : بأبي أنت يا أبا ابن خيرة الإماء، فقيل: يا أمير المؤمنين ما بالك؟ تقول هذا للحسن وهذا للحسين؟ ومن ابن خيرة الإماء؟ فقال : ذاك الفقيد الطريد الشريد محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين. هذا ووضع يده على رأس الحسين (علیه السّلام)(1).
ص: 230
هناك روايات وصفت السيدة نرجس (علیهما السّلام) بسيدة الإماء، كما ورد عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي، قال: «سألت سيدي موسى بن جعفر (علیه السّلام)، عن قول الله عز وجل : ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، فقال (علیه السّلام): النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب، فقلت له: ويكون في الأئمة من يغيب؟ قال: نعم، يغيب عن أبصار الناس شخصه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره، وهو الثاني عشر منّا، يُسهل الله له كل عسير، ويُذلل له كل صعب، ويُظهر له كنوز الأرض، ويُقرب له كل بعيد، ويُبير به کل جبار عنيد، ويهلك على يده كل شيطان مريد، ذلك ابن سيدة الإماء الذي تخفى على الناس ولادته، ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره الله عز وجل، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا»(1).
ص: 231
- عن أبي سعيد عقيصا، قال: لمّا صالح الحسن بن علي (علیه السّلام)، معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس... فلامه بعضهم على بيعته، فقال (علیه السّلام): «ويحكم، ما تدرون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أنّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم... أما علمتم أنّه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلّا القائم الذي يصلي روح الله عيسى بن مريم خلفه؟ فإنّ الله عزّ وجلّ يخفي ولادته، ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة. إذا خرج ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثمّ يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون أربعين سنة ؛ ذلك ليعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير»(1).
- عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول : «إنّ سنن الأنبياء (علیهم السّلام) بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منا أهل البيت، حذو النعل بالنعل
ص: 232
والقذة بالقذة. قال أبو بصير : فقلت: يا بن رسول الله، ومن القائم منكم أهل البيت؟ فقال: يا أبا بصير هو الخامس من ولد ابني موسى، ذلك ابن سيدة الإماء،
يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون، ثم يظهره الله عز وجل، فيفتح على يديه مشارق الأرض ومغاربها وينزل روح الله عيسى بن مريم (علیه السّلام)، فیصلي خلفه وتشرق الأرض بنور ربها ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله عز وجل، إلا عبد الله فيها، ويكون الدين كله لله، ولو كره المشركون ..»(1).
- حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد، قال: «قال علي بن موسى الرضا (علیه السّلام): لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية.
فقيل له: يا بن رسول الله إلى متى؟ قال : إلى يوم
ص: 233
الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا ، فقيل له: يا بن رسول الله ومن القائم منكم أهل البيت؟ قال: الرابع من ولدي ابن سيدة الإماء، يطهر الله به الأرض من كل جور، ويقدسها من كل ظلم، [وهو] الذي يشك الناس في ولادته، وهو صاحب الغيبة قبل خروجه...»(1).
ص: 234
روي عن عبدِ اللهِ بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : سمعته يقول: «في القائم (علیه السّلام) سُنةٌ من موسى بن عمران (علیه السّلام)، فقلت : وما سُنتُه من موسى بن عمران؟ قالَ: خفاء مولدِه، وغيبته عن قومه، فقُلتُ : وكم غابَ موسى عن أهله وقومه ؟ فقالَ : ثماني وعشرين سنة»(1).
ويُمكنُ أن نقرب وجه الشبه بينَ أم النبي موسى (علیه السّلام) وأم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) من خلال عدة وجوه:
إنّ الظروف العصيبة التي رافقت أم النبي
ص: 235
موسی (علیه السّلام)، قبل ولادتها له شبيهة بالظروف التي مرت بها والدة الإمام المهدي (علیه السّلام) قبل ولادتها له (علیه السّلام).
فإنّ فرعون وجنوده تجبروا في أرض مصر وقهروا أهلها وقتلوهم وأذلوهم وفرّقوهم شيعًا، واستعبدوهم حتى يقرّوا له بالعُبُودية، وعاثوا في الأرض ظلمًا وفسادًا كما صرح بذلك القرآن الكريم ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُم وَيَسْتَحْي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص : 4] حيث إفساده في الأرض بقتله من لا يستحق القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره في الأرض على أهلها، واستضعافه لهم، فكان المستضعفون منهم يترقبون وينتظرون بفارغ الصبر ظهور ذلك المُخلّص والمنقذ الذي ينجيهم من ظلم فرعون وأتباعه.
كذلك الحال في زمن حكم خلفاء بني العباس، فقد عانى الإمامان العسكريان (علیه السّلام)، الكثير من ظلم طغاة بني العباس (المتوكل والمعتز والمهتدي والمعتمد)، الذين وضعوهما تحت الرقابة المشددة والإقامة
ص: 236
الجبرية، في سامراء، مدينة العسكر، ومقرّ الخليفة ؛ ليكونا قريبين منهم، وتحت أنظارهم، ولم يكتف هؤلاء الطغاة بالتضييق على الإمامين (علیه السّلام) فقط، وإنما امتد الظلم والجور ليطال عموم شيعتهما ومحبّيهما ؛ إذ عمد هؤلاء السلاطين إلى قتل وتشريد وحبس الكثيرين منهم، وبلغت درجة الضغط والتضييق على الإمام (علیه السّلام) وشيعته إلى درجةٍ اضطر معها الإمام (علیه السّلام) إلى أن يتصرّف بطريقة أمنية؛ حيث أخرج توقيعا إلى شيعته جاء فيه: «ألا لا يُسلّمنّ عليّ أحدٌ ، ولا يُشِرْ إليَّ بيده ، ولا يومى، فإنّكم لا تأمنون على أنفسكم»(1).
وهذا ما يكشفُ عن القلق والخوف الذي كانَ يُراوِدُ حكام بني العباس من ولادةِ ذلك المُنقذ المنتظر(علیه السّلام).
وعلیه، يكون ما حصل في زمن أم نبي الله (علیه السّلام)- من تشديد وترهيب وتخويف مارسه فرعون وجنوده بحق بني إسرائيل - شبيها بما فعله بنو العباس مع الإمامين العسكريين ومع والدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
ص: 237
إن إخفاء ولادةِ النبي موسى (علیه السّلام)، والإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، هو مخطط ربّاني للحفاظ على وليه وخليفته من جور السلاطين، ومكرهم المعد مسبقا لقتل أي مولود يهدد سلطانهم ويعاكس حكمهم، فكانت الظروف القاسية التي رافقت النبي موسى (علیه السّلام) وأمه حين ولادته، شبيهة بالظروف التي مرت بها السيدة نرجس (عليها السلام) حين ولادتها الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
فقد كان الطاغية فرعون في زمان النبي موسى (علیه السّلام) يراقب ولادات النساء، ويقتل الذكور منهم خوفًا من ولادة ذلك المولود الذي يهدد عرشه ويبطل سلطانه وينشر الدين الإلهي الجديد، (كما رأى ذلك في منامه).
فلما حملت أم موسى، كتمت أمرها عن جميع الناس، ولم يطلع على حملها أحد من خلق الله ، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي ولد فيها موسى بعث فرعون إلى القوابل وأمرهن أن يفتشن النساء تفتيشًا لم يفتشنه قبل ذلك، وحملت أم موسى فلم ينتأ بطنها،
ص: 238
ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها، فكانت القوابل لا يتعرضن لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها موسی (علیه السّلام)، ولدته أمه ولا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطلع عليها أحد إلّا أخته مريم (وقيل كليمة).
وهكذا الحال بالنسبة إلى السيدة نرجس (عليها السلام)، فقد كانت الأخبار تصل إلى مسامع الخليفة، بأن الشيعة يعتقدون أن الإمام المهدي سيكون من ذرية الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام)، ومع علم الإمام أن الخليفة مُصر على قطع تواصل امتداد الإمامة؛ وبالتالي، قطع الذرية، حرص الإمام على التكتّم على ولادة ولده، الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وعدم الإعلان عنها، إلا لبعض الخواص من شيعته.
وتشير الروايات إلى أنّ الخليفة العباسي المعتمد، لما سمع بمرض الإمام العسكري (علیه السّلام)، أرسل إليه الأطباء مع عدد عدد من القضاة ومن يعتمد عليهم كي يراقبوا الإمام عن كثب وما يجري في داره. وبعد استشهاد الإمام ووفاته، فتشوا البيت بدقة، وفحصوا الجاريات اللواتي كن يخدمن في بيت الإمام بواسطة (القابلات)، واستمروا في البحث والتفتيش عن خلف
ص: 239
للإمام مدّة سنتين، إلى أن يئسوا وكفوا عن الملاحقة والمتابعة.
وهكذا، كانت ولادة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في سنة 255ه_، في ظروف تشبه ولادة النبي موسى (علیه السّلام)؛ حيث كان يسعى الحاكم العباسي لاغتياله.
إنّ أم موسى اضطرت إلى فراق وليدها ساعة ،ولادته، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: ﴿وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص : 7] ، وقيل: : كتمته أمه ثلاثة أشهر، ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك، فلما خافت عليه، عملت له تابوتاً مطبقاً ومهدت له فيه، ثم ألقته في البحر ليلا ، كما أمرها الله تعالى.
كذلك الأمر بالنسبة لوالدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ حيث فارقت وليدها حين ولادته. ففي الرواية عن الإمام العسكري (علیه السّلام)، أنّه قال للسيدة حكيمة: «يا عمّة، إذا كان اليوم السابع فأتينا.
قالت السيّدة حكيمة: فلما أصبحت جئت لأسلّم
ص: 240
على أبي محمد ، وكشفت الستر لأتفقد سیدي - الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- فلم أره ، فقلت له: جعلت
فداك، ما فعل سيدي؟
فقال: يا عمّة، استودعناه الذي استودعته أمّ موسى (علیه السّلام)»(1).
قال تعالى في شأن أم موسى : ﴿فَرَدَدْنَهُ إِلَى أُتِهِ كَى نَفَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَن وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص : 13].
وفي الرواية، قالت السيدة حكيمة : «وغمرتنا طيور ،خضر فنظر أبو محمّد (الإمام العسكري) إلى طائر منها فدعاه، فقال له: خذه واحفظه حتى يأذن الله فيه، فإنّ الله بالغ أمره.
قالت السيّدة حكيمة : قلت لأبي محمد: ما هذا الطائر، وما هذه الطيور ؟ قال هذا جبرئيل، وهذه ملائكة الرحمة».
ص: 241
ثمّ قال: «يا عمّة ؛ ردّيه إلى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن، ولتعلم أن وعد الله حق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فرددته إلى أُمّه»(1).
ص: 242
شهدت السيدة نرجس وفاة زوجها الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) مسموما من قبل المعتمد العباسي عام (260ه_)، فدبَّ في قلبها الحزن الشديد، والأسى العظيم ؛ إذ فقدت السند الذي كانت تلجأ إليه وجبل الصبر الذي تتكيء عليه عند مواجهة الصعاب.
وبعد شهادة الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) سنة 260ه_ ، قبض المعتمد العباسي على السيدة نرجس، وكان ذلك بسبب وشاية جعفر أخ الإمام العسكري (علیه السّلام)؛ حيث أخبر السلطات العباسية بوجود ولد للإمام العسكري (علیه السّلام)، مما أدى إلى سجن السيدة نرجس مع حريم الخليفة العباسي المعتمد ؛ حيث وضعوها تحت الرقابة المشددة مدة تزيد عن السنة،
ص: 243
وطالبها المعتمد بالمهدي فأنكرته، وادّعت أنها حامل لتموّه الأمر عليهم(1)، مما دعا الخليفة العباسي إلى نقلها إلى داره، وأحاطها بمجموعة من الجواري والنساء، وبقيت السيدة نرجس تحت الإقامة الإجبارية، وهم ينتظرون أن تضع جنينها الذي ادعته؛ إيهامًا منها للسلطة العباسية، كي تغضّ النظر عن مولودها الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، إلى أن حدثت اضطرابات خطيرة في الدولة، وفتن متعددة شغلت السلطات عنها فنسوا أمرها، فاستطاعت الخلاص منهم، وتقول بعض المصادر(2) : إنها التجأت إلى دار أحد الشيعة الثقات وهو (الحسن بن جعفر النوبختي).
وبعد موت المعتمد ومجي ء المعتضد سنة 279ه_، - الذي كان متشددًا على أهل البيت وشيعتهم كالمتوكل - علم بوجود السيدة نرجس في دار
ص: 244
الحسن بن جعفر النوبختي، فألقى القبض عليها مرة أخرى، وحملها إلى قصره، وحبست هناك حتى وافتها المنية في أيام المقتدر العباسي.
وهكذا عاشت السيدة نرجس المحن الشديدة، وتحمّلت السجن في بيوت الظالمين، وقاست ألوان العذاب من بطش العباسيين، في سبيل حفظ ولدها، تمهيدًا لتحقيق الوعد الإلهي الذي سيتحقق على يدي المهدي من آل محمد (عجل الله تعالی فرجه الشریف). ولم تتمكن ممارساتهم الوحشية، وطول حبسهم لها من حملها على الاعتراف بمكانه، أو بوجوده.
وهكذا، واجهت ممارسات العباسيين بشجاعة وصلابة ويقين وكانت من الصابرات المحتسبات.
ص: 245
لم تُحدّد المصادر تاريخ وفاة السيدة نرجس، ولكن هناك من ذهب إلى أنها توفيت (صلوات الله عليها) في حياة الإمام العسكري (علیه السّلام) بعد أن أخبرها بما يجري السلام على عياله من بعده، فسألته أن يدعو لها الله عزّ وجَلّ أن يجعل منيّتها قبل منيّته، فتوفیت صلوات الله عليها في حياة أبي محمد العسكري (صلوات الله عليه)(1).
وهذا ما أورده الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين) الذي جاء فيه : «حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، قال: حدثني أبو علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمد (علیه السّلام)، فلما أغار جعفر الكذاب
ص: 246
على الدار، جاءته فارّة من جعفر فتزوج بها. قال أبو علي : فحدّثتني أنّها: حضرت ولادة السيد (علیه السّلام)، وأن اسم أم السيد صقيل (أي السيدة نرجس)، وأنّ أبا محمد (علیه السّلام) حدثها بما يجري على عياله، فسألته أن
علم يدعو الله عزّ وجل لها أن يجعل منيتها قبله، فماتت في حياة أبي محمد (علیه السّلام) وعلى قبرها لوح مكتوب عليه «هذا قبر أم محمد». قال أبو علي: وسمعت هذه الجارية تذكر أنّه لما ولد السيد (علیه السّلام)، رأت له نورا ساطعًا قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأت طيورا بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده ثمّ تطير، فأخبرنا أبو محمد (علیه السّلام) بذلك فضحك، ثمّ قال: تلك الملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود، وهي أنصاره إذا خرج»(1).
أقول : مع غضّ النظر عن سند هذه الرواية، فإنّ هناك رواية تشير إلى أنّ الجارية صقيل [نرجس] كانت حاضرةً وقت وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام)، مع عقيد
ص: 247
الخادم، رواها الصدوق (رحمه الله علیه)، عن محمد بن الحسين بن عباد، ورواها الشيخ الطوسي (رحمه الله علیه)، عن إسماعيل بن علي النوبختي مع بعض الاختلاف، وهناك رواية تذكر أنّهُ قبض عليها من قبل المعتمد العبّاسي بعد أن ادّعت الحمل، وليس في هذه الروايات ذكر لوفاتها.
- عن محمد بن الحسين بن عباد، أنّه قال: «مات أبو محمد الحسن بن علي (علیه السّلام)، يوم جمعة مع صلاة الغداة، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتبا كثيرة إلى المدينة، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة، ولم يحضر في ذلك الوقت إلّا صقيل الجارية (نرجس) ، وعقيد الخادم ومن علم الله عزّ وجلّ غيرهما، قال عقيد: فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي، فجئنا به إليه، فقال: أبدأ بالصلاة هيئوني، فجئنا به وبسطنا في حجره المنديل فأخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه و ذراعيه مرة مرة، ومسح على رأسه وقدميه مسحًا وصلّى صلاة الصبح على فراشه وأخذ القدح ليشرب، فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد، فأخذت صقيل القدح من يده، ومضى من
ص: 248
ساعته (صلوات الله عليه)، ودُفِنَ في داره بسُرَّ من رأى إلى جانب أبيه صلوات الله عليهما، فصار إلى كرامة الله جلّ جلاله وقد كمل عمره تسعًا وعشرين سنة.
قال: وقال لي عباد في هذا الحديث : قدمت أم أبي محمد (علیه السّلام) من المدينة واسمها (حديث) حين اتصل بها الخبر إلى سُرَّ من رأى، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إياها بميراثه وسعايته بها إلى السلطان وكشفه ما أمر الله عزّ وجلّ بستره، فادعت عند ذلك صقيل (نرجس) أنها حامل، فحملت إلى دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت، ويراعون إلى أن دهمهم أمر الصغار وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتةً، وخروجهم من سُرَّ من رأى وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك، فشغلهم ذلك عنها»(1).
- وفي خبر أحمد بن علي الرازي، عن محمد بن
ص: 249
علي، عن عبد الله بن محمد بن خاقان الدهقان، عن أبي سليمان داد بن غسان البحراني، قال: قرأت على أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي، قال: «مولد محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي الرّضا بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين... بسامراء سنة ست وخمسين ومائتين، أمه صقيل ويكنى أبا القاسم، وبهذه أوصى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ إذ قال: «اسمه کاسمي وكنيته كنيتي»، لقبه المهدي، وهو الحجّة، وهو المنتظر، وهو صاحب الزمان (علیه السّلام). قال إسماعيل بن علي: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (علیه السّلام) في المرضة التي مات فيها وأنا عنده؛ إذْ قال لخادمه عقيد - وكان الخادم أسود نوبيًا، قد خدم من قبله علي بن محمد وهو ربي الحسن (علیه السّلام) -: یا عقيد، إغل لي ماء بالمصطكي، فأغلى له ثم جاءت به صقيل الجارية أم الخلف (علیه السّلام). فلما صار القدح في يديه وهم بشربه، جعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن (علیه السّلام)، فتركه من يده، وقال لعقيد: ادخُل البيت، فإنّك ترى صبيا ساجدًا، فأتني به. قال أبو
ص: 250
سهل : قال عقيد: فدخلت أتحرّى، فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلّمْتُ عليه، فأوجز في صلاته، فقلت: إن سيدي يأمرك بالخروج إليه ؛ إذ جاءت أمه صقيل، فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن (علیه السّلام)»(1).
ونحن بدورنا، نرى أنها توفيت بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام)، كما أشارت الروايتان أعلاه، وذكرتا تفاصيل وأحداثًا حصلت معها حين وفاة الإمام (عله السّلام) وبعده، منها حضورها حين وفاة الإمام (علیه السّلام)، وقيامها بخدمته حين احتضاره، ثم قيام الخليفة العباسي بحبسها. وكان ادعاؤُها أنّها حامل تغطية منها على ولدها المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وغيرها من تفاصيل وأحداث.
وهذا ما ذهب إليه النجاشي من أنّها تُوُفِّيتْ بعد
ص: 251
الإمام العسكري (علیه السّلام)، وبقيت في دار أحد أصحاب الإمام المعروف بمحمد بن علي بن حمزة(1).
وأما مدفنها، ففي حرم العسكريين (علیه السّلام) في مدينة سامراء بالعراق؛ حيث دُفنت خلف قبر الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) بمسافة قليلة(2).
ص: 252
ورد في زيارتها (علیه السّلام):
اَلسَّلامُ عَلى رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله و سلم) الصَّادِقِ الأمين، السَّلامُ عَلى مَوْلانا أميرِ الْمُؤْمِنِينَ ، اَلسَّلامُ عَلَى الأَئِمَّةِ الطَّاهِرينَ الْحُجَجِ الْمَيامينِ، اَلسَّلامُ عَلَى وَالِدَةِ الإمامِ وَالْمُودَعَةِ أسْرَارَ الْمَلِكِ الْعَلّامِ، وَالْحامِلَةِ لأَشْرَفِ الأنامِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِّيقَةُ الْمَرضِيَّةُ ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا شَبيهَةً أمّ مُوسى وَابْنَةَ حَوارِيِّ عيسى، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ أيتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَّةُ الْمَرْضِيَّةُ ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المَنْعُوتَةُ فِي الإِنْجِيلِ المَخْطُوبَةُ مِنْ رُوحِ الله الأمينِ، وَمَنْ رَغِبَ في وُصْلَتِها مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَالْمُسْتَوْدَعَةُ أَسْرَارَ رَبِّ الْعالَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلى آبائِكِ الْحَوارِيِّينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلى بَعْلِكِ وَوَلَدِكِ،
ص: 253
اَلسَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلى رُوحِكِ وَبَدَنِكِ الطَّاهِرِ ، أَشْهَدُ أَنَّكِ أَحْسَنْتِ الْكَفالَةَ، وَأدَّيْتِ الأمانَةَ، وَاجْتَهَدْتِ في مَرْضاتِ اللهِ ، وَصَبَرْتِ في ذاتِ اللهِ، وَحَفِظْتِ سِرَّ اللَّهِ، وَحَمَلْتِ وَلِيُّ اللهِ ، وَبالَغَتِ فى حِفْظِ حُجَّةِ اللهِ، وَرَغِبْتِ في وُصْلَةِ أَبْناءِ رَسُولِ اللهِ عارِفَةٌ بِحَقِّهِمْ، مُؤْمِنَةٌ بِصِدْقِهِمْ، مُعْتَرِفَةٌ بِمَنْزِلَتِهِمْ ، مُسْتَبْصِرَةً بِأَمْرِهِمْ، مُشْفِقَةٌ عَلَيْهِمْ، مُؤثِرَةً هَواهُمْ ، وَأشْهَدُ أنَّكِ مَضَيْتِ عَلى بَصِيرَة مِنْ أَمْرِكِ مُقْتَدِيَةٌ بِالصَّالِحينَ، راضِيَةً مَرْضِيَّةٌ تَقِيَّةٌ نَقِيَّةٌ زَكِيَّةٌ ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْكِ وَأَرْضاكِ، وَجَعَلَ الجَنَّةَ مَنْزِلَكِ وَمَأواكِ فَلَقَدْ أَوْلاكِ مِنَ الْخَيْراتِ ما أَوْلاكِ، وَأَعْطَاكِ مِنَ الشَّرَفِ ما بِهِ وأغْناكِ، فَهَنّاكِ اللهُ بِما مَنَحَكِ مِنَ الْكَرامَةِ وَأَمْرَاكِ.
ثم ترفع رأسك وتقول :
اَللّهُمَّ إِيَّاكَ اعْتَمَدْتُ ، وَلِرِضاكَ طَلَبْتُ، وَبِأوْلِيائِكَ إِلَيْكَ تَوَسَّلْتُ، وَعَلى غُفْرانِكَ وَحِلْمِكَ اتَّكَلْتُ، وَبِكَ اعْتَصَمْتُ ، وَبِقَبْرِ أُم وَلِيِّكَ لُذْتُ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَانْفَعْني بِزِيارَتِها ، وَثَبِّتْني عَلى مَحَبَّتِها، وَلا
ص: 254
تَحْرِمْنِي شَفاعَتَها، وَشَفاعَةَ وَلَدِها ، وَارْزُقْني مُرافَقَتَها، وَاحْشُرْني مَعَها وَمَعَ وَلَدِها كَما وَفَّقْتَنِي لِزِيارَةِ وَلَدِها وَزِيارَتِها ، اَللّهُمَّ إنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِالأَئِمَّةِ الطَّاهِرينَ، وَأَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِالْحُجَجِ الْمَيامِينِ مِنْ آلِ طه ويس، أنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد الطَّيِّبينَ، وَأنْ تَجْعَلَنى مِنَ الْمُطْمَئِنّينَ الْفائِزينَ الْفَرِحِينَ الْمُسْتَبْشِرِينَ، الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاجْعَلْني مِمَّنْ قَبِلْتَ سَعْيَهُ، وَيَسَّرْتَ أمْرَهُ، وَكَشَفْتَ ضُرَّهُ، وَآمَنْتَ خَوْفَهُ، اَللّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَلا تَجْعَلُهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ زِيارَتي إيَّاها، وَارزُقْني الْعَوْدَ إِلَيْها أَبَدًا ما أبْقَيْتَني ، وَإِذا تَوَفَّيْتَني فَاحْشُرْني في زُمْرَتِها ، وَأدْخِلْني فِي شَفاعَةِ وَلَدِها وَشَفَاعَتِها ، وَاغْفِرْ لي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَآتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا بِرَحْمَتِكَ عَذابَ النّارِ، وَاَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ يا ساداتي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.
أقول: إن هذه الزيارة الواردة في كتب الأدعية - وإن لم يكن ثمة دليل على أنها واردة عن المعصوم -
ص: 255
قد تضمنت في طياتها معاني عظيمة، وكلمات رفيعة، تدلّ على علو منزلة السيدة نرجس (عليها السلام)؛ وبالتالي، لا إشكال في زيارتها بها طالما أنه ليس فيها ما يتعارض مع روايات المعصومين (علیهم السّلام)، الذين بينوا لنا فضلها ومقاماتها.
بل إنّ (المشهدي) الذي روى هذه الزيارة في كتابه المزار(1)، قال في مطلعها: زيارة أم القائم (عليها السلام) أملاها عليّ رجل من البحرين سمعته يزور بها ؛ وعليه، فإنّ ناقل هذه الزيارة رجل بحريني، وليست واردة عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام).
ص: 256
إنّ هذه السيدة العظيمة، تُرجى شفاعتها يوم القيامة، لما لها من مكانة ومنزلة عند الله تعالى، وعند أوصيائه المرضيين (علیهم السّلام)، ولما تمتلكه من مواصفات إيمانية عالية، وهناك الكثير من الكرامات والنذورات التي تروى على ألسنة الناس للسيدة نرجس (عليها السلام)، غير أن المقام هنا لا يتسع لتتبعها واستقصائها؛ وعليه، سأقتصر على نقل بعض منها.
خفاء حملها صلوات الله عليها :
جاء في الأثر أن حكيمة بنت أبي جعفر محمد الجواد (علیه السّلام)، قالت : «بعث إلي أبو محمد الحسن بن علي (علیه السّلام)فقال: يا عمّة، اجعلي إفطارك الليلة عندنا، فإنها ليلة النصف من شعبان، فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة (علیه السّلام)، وهو حجّته في أرضه.
ص: 257
قالت: فقلت له: ومن أمه؟
قال لي: نرجس؟
قلت له : والله (جعلني الله فداك) ما بها أثرُ (الحمل).
فقال : هو ما أقولُ لك.
إلى قولها ...
قالت: فقلت لها : يا بنيّة إنّ الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلامًا سيدًا في الدنيا والآخرة، فخجلت واستحت.
فلمّا أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة وأخذت مضجعي، فرقدت، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة، ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليست بها حادثة، ثم جلست معقبة، ثم اضطجعت، ثم انتبهت فزعة وهي راقدة، ثم قامت وصلت ونامت.
قالت السيدة حكيمة (علیه السّلام): وخرجت أتفقد الفجر : وإذا بالفجر الأول كذنَبِ السرحان وهي نائمة.
قالت السيدة حكيمة (علیه السّلام): فدخلتني الشكوك.
ص: 258
فصاح بي أبو محمد (علیه السّلام) من المجلس، فقال: لا تعجلي يا عمّة، فهاكِ الأمر قد قرب.
وقالت: فجلست، فقرأت (ألم السجدة ويس) فبينما أنا كذلك ؛ إذ انتبهت فزعة، فوثبت إليها فقلت : اسم الله عليك، ثم قلت لها: تحسّين شيئًا ؟
قالت: نعم يا عمّة.
فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك، فهو ما قلْتُ لك.
قالت السيدة حكيمة (علیه السّلام): ثم أخذتني فترة وأخذتها فترة، فتنبهت بحس سيدي، فكشفت الثوب عنه، فإذا أنا به (علیه السّلام) ساجدًا على أرض يتلقى بمساجده، فضممته
إلي ، فإذا أنا به (علیه السّلام) نظيف منظف»(1).
ص: 259
- نقل في أحوال الميرزا محمّد تقي الشيرازي (قدس سره)، أن مرض الطاعون قد أصاب مدينة سامراء، وأخذ من أهلها مأخذا عظيمًا؛ بحيث إنّ أهالي الموتى عجزوا عن دفن موتاهم، فأصبحوا يأتون بهم، ويتركونهم في الشوارع آنذاك.
وفي شدّة المحنة، جاء الميرزا محمّد تقي الشيرازي إلى منزل السيّد محمّد الفشاركي (قدس سره) الذي كان في منزله مع كوكبة من العلماء، فدار البحث حول الوباء الذي يهدد حياة الجميع. وبينما هم على ذلك، وإذا بالميرزا الشيرازي يلتفت إليهم قائلا : إذا أصدرت حكمًا ، فهل هو نافذ أم لا؟!
فردّ الجميع : نعم، إنّه نافذ ويجب إجراؤه.
فقال الميرزا : إنّي أصدرت حكمًا على جميع الشيعة القاطنين في سامراء أن يقرأوا زيارة عاشوراء من اليوم إلى عشرة أيام، ويهدوا ثوابها إلى روح السيّدة نرجس سلام الله عليها، والدة الإمام
ص: 260
الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ليبتعد عنهم البلاء. فأبلغ الحاضرون حكمه ذاك إلى جميع الشيعة.
فشرع الموالون بقراءة الزيارة، وإذا بالطاعون يرتفع عنهم منذ قراءتهم للزيارة، بينما بقي غيرهم يموتون كالعادة، حتى تجلّى الأمر للجميع.
فسأل بعض أتباع المذاهب الأخرى أبناء الشيعة في سامراء عن سبب ارتفاع الطاعون عنهم، فأخبروهم بالحال فشرعوا بقراءة الزيارة وإهدائها إلى السيّدة نرجس (عليها السلام)، فرفع البلاء عن الجميع(1).
ص: 261
قال الشيخ أحمد الهمامي: يُنقل عن أحد أولياء الله في كربلاء، وهو مرجع كبير، أنه قال : وقعت في شدّة ومصيبة، فالتجأت إلى الله عز وجل بهذه السيدة الجليلة - أي السيدة نرجس صلوات الله عليها ، وقلت : يا إلهي إن قضيت حاجتي، سأصلي صلاة مئة ركعة أو ألف ركعة وسأختم القرآن، وأهدي ثواب هذه الصلاة وهذه الختمة إلى السيدة نرجس.
يقول: ولم تمر ساعات إلّا وفرّج الله عني هذه المصيبة، وأنا أعلم علم اليقين بأن هذه السيدة طلبت من ولدها الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أن يقضي حاجتي.
أحد الخطباء نقل هذه الحادثة على المنابر ، يقول : فأتيت في اليوم الثاني، فقام أحد الجالسين، وقال لي: سماحة الشيخ، لقد قضيت حاجتي ببركة السيدة نرجس.
ص: 262
تقول إحدى المؤمنات: بعد إنجابي ابني الأول، كنت دائمًا أسقط الجنين وهو ابن شهرين عند حملي حتى تكرر معي الإجهاض ثلاث مرات، ولم يكن هناك سبب، حتى الطبيبة كانت تتعجب من ذلك، رغم أني ممنوعة عن الحركة.
ذات يوم، كنت أشاهد التلفاز على قناة الأنوار الفضائية وأستمع لمحاضرة عن السيدة نرجس (عليها السلام)، وأنها تقضي حوائج الشيعة بقراءة سورة يس وإهدائها لروحها الطاهرة، وأنها والسيدة أم البنين (عليها السلام) لا تردّانِ حاجة محتاج.
فخطر في ذهني أن أنذر لها (علیه السّلام) نذرا، فقلت: يا سيدتي إن رزقني الله بنتا ببركتك سوف أسميها نرجس وكنت أبكي بشدة وكلي أمل بأن أرى طفلة تنور حياتي.
فلما جن الليل، وتوسدت فراشي، رأيت كأني جالسة قرب باب الغرفة وهناك سيدة محتشمة جدًا أعطتني تفاحة خضراء، وقالت لي : هذه التي تُريدينها .
أكلتُ نصف التفاحة وأعدت النصف الآخر،
ص: 263
فقالت: لا تخافي، كُليها كلّها؛ لأنها علمت ما في نفسي بأني كنت خائفة.
استيقظت من النوم وأخبرت زوجي والفرحة تغمرني، وأخبرت صديقة لي كان عندها علم بتفسير الأحلام، فقالت: بعد ست إشارات ستحملين.
أخبرت زوجي وهو بالكاد يصدقني، مع أنه هو أيضًا يشتاق لطفلة، وأخبرت أهلي بأن السيدة نرجس (عليها السلام) أعطتني مرادي.
وبالفعل، بعد ستة أيام أحسست بالحمل، وبعد فترة ذهبت للكشف بالأشعة، وقلت لهم : أظنها بنتا.
وفعلا أنجبت بنتا ببركة السيدة نرجس (عليها السلام).
ص: 264
لا بد من الإشارة إلى الدور الكبير الذي أدته السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (علیه السّلام)- ولو بإطلالة عابرة - مع السيدة نرجس (عليها السلام).
السيدة حكيمة هي من سيدات أهل البيت، وهي بنت الإمام موسى الكاظم (علیه السّلام)، وأخت الإمام الرضا (علیه السّلام)، وأختها السيدة فاطمة المعصومة المدفونة في قم المقدسة.
أما والدتها فتدعى سمانة المغربية(1).
عاصرت السيدة حكيمة أربعة من الأئمة المعصومين وكانت لها مكانة سامية عندهم؛ حيث كلّفها الإمام الهادي أمر تعليم الفرائض وأحكام الشريعة للسيدة نرجس والدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)،
ص: 265
وقامت بدورها المبارك على أتم وجه. وقد كانت من رُواة الحديث، وأحاديثها موثوقة عند الشيعة؛ إذ عدّها البرقي من رواة الحديث عن أخيها الإمام الرضا (علیه السّلام)، وروى عنها محمد بن جحرش. ووصفت بأنها عالمة جليلة ومن ربات العبادة والصلاح.
كانت السيدة حكيمة أول من استقبلت السيدة نرجس عند وصولها إلى البيت العلوي؛ حيث استدعاها الإمام الهادي (علیه السّلام)لتلتقي بها، وطلب منها أن تأخذها معها إلى بيتها لتعلّمها الفرائض والسنن وأحكام الدين.
بقيت السيدة نرجس في بيت السيدة حكيمة، حتى انتقلت إلى بيت الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام)، وقد جمعت بين السيدتين مودة خاصة ؛ حتى صارت نرجس أحبّ جواري الإمام إلى قلبها، وكانت تعاملها باحترام فائق منذ أن علمت أنها ستكون أما لخاتم الأوصياء (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ومن معالم احترامها لها، أنها كانت ترفض أن تقوم بخدمتها، كما تفعل الجواري مع
ص: 266
السادة، وكانت تخاطبها (بسيدتي)، وأما السيدة نرجس فكانت تجيبها : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
ذكرت المصادر (نقلا عن السيدة حكيمة) أحداث تزويج الإمام العسكري بالسيدة نرجس (عليها السلام)، وولادة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ حيث كانت حكيمة حاضرة عند ولادته في بيت الإمام العسكري بطلب منه ، وقيل : إنها أول من احتضن المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) إثر ولادته، واستمرت علاقتها بها في حياة الإمام العسكري وبعدها. وقد نقل الشيخ الصدوق، أنها كانت ترى الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- بشكل مستمر - طوال (خلال) الغيبة الصغرى، وكانت ممن يربط الشيعة به؛ حيث تأخذ أسئلتهم، وتأتي بالجواب لهم من الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)(1).
وقيل : إن بعض التوقيعات صدرت على يدها من الناحية المقدسة(2).
وقد رُويت عن حكيمة أخبار عدة: منها أخبار
ص: 267
تزویج الإمام العسكري (علیه السّلام) بالسيدة نرجس (عليها السلام)، وولادة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)(1).
ومنها حرز الإمام الجواد (علیه السّلام)(2).
ومن أهم ما روته السيدة حكيمة عن الإمام العسكري (علیه السّلام)، إشارته إلى الإمام القائم بعده؛ حيث ذكرت أن العسكري (علیه السّلام) قال لها : «هذا ابن نرجس، وهو خليفتي من بعدي، وعن قليل تفقدونني ؛ فاسمعي له، وأطيعي»(3).
ويذكر أنها عاشت زمنا طويلا، وقال البعض: إنّ حكيمة توفيت سنة 274 هجرية(4).
و دفنت في حرم الإمامين العسكريين (علیهم السّلام)(5).
ص: 268
السيد حيدر العذاري
دار الفضائل
ص: 269
اسم الكتاب : أجوبة أهل البيت (علیهم السّلام) عن المسائل المهدوية
إعداد: السيد حيدر العذاري
الناشر: دار الفضائل
سنة الطبع : 1435 ه_ - 2014م
عدد النسخ: 1000 نسخة
حقوق النشر محفوظة للناشر
ص: 270
* مقتضب الأثر: ص : 31 - قال ومما حدثني به هذا الشيخ الثقة أبو الحسين عبد الصمد بن علي وأخرجه إلي من أصل كتابه وتاريخه في سنة خمس وثمانين ومائتين سماعة من عبيد بن كثير أبي سعد العامري قال: حدثني نوح بن دراج، عن يحيى بن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن أبي جحيفة السوائي من سواءة بن عامر، والحرث بن عبدالله الحارثي الهمداني، والحرث بن شرب، كل حدثنا أنهم كانوا عند علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فكان إذا أقبل ابنه الحسن (علیه السّلام) يقول : مرحبا يابن رسول الله، وإذا أقبل الحسين يقول: بأبي أنت وأمي يا ابن خيرة الإماء.
فقيل له: يا أمير المؤمنين ما بالك تقول هذا للحسن وتقول هذا للحسين؟ ومن ابن خيرة الإماء؟
فقال (علیه السّلام): ذاك الفقيد الطريد الشريد محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين هذا، ووضع يده على رأس الحسين (علیه السّلام)(1).
ص: 271
قلت : متى يكون؟
قال (علیه السّلام): إذا سارت الركبان ببيعة الغلام، فعند ذلك يرفع كل ذي صيصية لواء، فانتظروا الفرج(1).
* أحمد بن علي الحميري قال : حدثنا الحكم أخو مشمعل الأسدي قال : حدثني عبد الرحيم القصير قال قلت لأبي جعفر (علیه السّلام): قول أمير المؤمنين (علیه السّلام) بأبي ابن خيرة الإماء، أهى فاطمة (عليها السلام)؟
فقال (علیه السّلام): ان فاطمة (عليها السلام) خيرة الحرائر. ذاك المبدح بطنه، المشرب حمرة، رحم الله فلانا(2).
ص: 272
تأليف السيد ابو القاسة الديباجي
ص: 273
حقوق الطبع محفوظة للمؤلّف
هوية الكتاب
اسم الكتاب : الإمام المهدي (علیه السّلام) ... الحقيقة المنتظرة
المؤلف : السيد أبو القاسم الديباجي
الناشر: المؤلّف
الإخراج الفني : عباس الشهرستاني
الطبعة : الأولى 1416ه_
المطبعة : ستاره
الكمية: 500
ص: 274
حقاً أننا لا يسعنا ان نلج في غمار ولادة امامنا المنتظر (علیه السّلام) الا من بعد أن نتأمل في بعض التدبيرات الالهية الموصلة الى هذه الولادة المباركة، ومنها كيفية زواج أبيه الإمام العسكري (علیه السّلام) بامه الشريفة النسب، والرفيعة الشأن، والتي قادتها التدبيرات السماوية لأن تتشرف بحمل وولادة وريث الأنبياء والاوصياء ، وولي الله تعالى في أرضه، ومقيم حكمه، ومنفّذ ارادته .
نعم، تذكر الروايات المختلفة بانها رومية الاصل تدعى بالاضافة الى نرجس - أشهر اسمائها والذي عُرفت به - بأسماء اخرى كسوسن ، وريحانة ، وصقيلة ، ومليكة .
كما ان المصادر المختلفة تذكر بان هذه السيدة الجليلة لم تكن مغمورة مجهولة ، بل كانت رفيعة النسب، وجليلة الاصل، حيث كانت واحدة من ابناء الملوك ، وكان أبوها - ويدعى يشوعا - ابناً لقيصر الروم ، بل وان امها كانت من ولد شمعون الصفا .
وتضيف هذه المصادر بأن جدها القيصر حاول تزويجها من ابن اخيه ، وهي لم تزل في الثالثة عشر من عمرها، بيد أن المشيئة الربانية التي قدرت لهذه المرأة الطاهرة ان تكون زوجة لإمام معصوم، وأم لإمام معصوم أيضاً حالت دون وقوع هذا الامر واتمامه .
وتضيف الروايات بأن هذه السيدة الطاهرة رأت فى منامها آنذاك بأنّ مجلساً كان منعقداً في بيت جدها كان يضم المسيح (علیه السّلام) وشمعون
ص: 275
وجماعة من الحواريين، ثم لم يلبثوا ان دخل عليهم جماعة يعلوهم النور ، وتحيطهم الهيبة والوقار ، عرفت انهم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن عمه ووصيه علي بن أبي طالب (علیه السّلام) ، وابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعدة من أبنائهم، يرافقهم شاب بهي الطلعة عرفت أنَّه الإمام العسكري (علیه السّلام) .
تقول نرجس: فتقدّم المسيح (علیه السّلام) اليه فاعتنقه، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): يا روح الله اني جنتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده الى أبي محمد.
فنظر المسيح الى شمعون وقال له : قد أتاك الشرح فصل رحمك برحم آل محمد ، قال : قد فعلت.
تضيف نرجس : فصعد ذلك المنبر فخطب محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وزوجني من ابنه ، وشهد المسيح (علیه السّلام) وشهد أبناء محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والحواريون .
وتشاء الارادة الالهية أن تخرج نرجس في جيش جدها القاصد لحرب المسلمين ، وتقع في أسرهم، وتعرض للبيع في سوق النخاسة في بغداد .
وفي ذلك الوقت كان الامام الهادي (علیه السّلام) قد أرسل بشر بن سلیمان لشرائها هناك، فاشتراها وقدم بها الى سامراء حيث يقيم الإمام (علیه السّلام).
فدفعها الامام (علیه السّلام) الى اخته حكيمة طالباً منها تعليمها الاسلام وعقيدته المباركة، تمهيدا لتزويجها من ولده الامام العسكري (علیه السّلام) .
فوجدتها حكيمة صالحة عابدة ناسكة انهمكت بشوق في التعلم والتزود من هذه العلوم المباركة النقية من أمنائه وحملته، فكانت خير
ص: 276
مجسد فعلي لما تعلمته ، وبهرت من عرفها برفيع سلوكها ، ودمائة اخلاقها حتى نالت حب جميع من تعامل معها واحاط بها.
ثم لم تلبث هذه المرأة الشريفة الرفيعة النسب ان زوجت من الإمام العسكري (علیه السّلام) لتكون وعاء طاهراً لحمل الإمام الموعود، والذي خفي حمله حتى على أكثر - ان لم يكن جميع - النساء القريبات منها، وتلك مشيئة ربانية وارادة الهية .
نعم، لقد كانت تلك المرأة الصالحة خير مؤتمن على هذه الامانة الثمينة ، فأوصلتها كما ينبغي وأدت الدور العظيم المناط بها، وتتقلد الوسام الذي تحسدها عليه جميع نساء العالمين.
واختلف في وقت وفاتها، فقيل بانها قبل وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام)، وقيل بعده .
وقبرها الى جوار مرقد زوجها (علیه السّلام) ، في مدينة سامراء في أرض العراق مع الإمام الهادي (علیه السّلام).
* * * * *
ص: 277
ص: 278
يَتَضَمَنُ المُنَاسَبَاتِ وَالإحْدَاثِ المَهَدَونَةِ بِحَسَب الأَشْهُرِ وَالسَّنين
السيّد محمد القبانچي الشيخ ياسر الصَّالِحَى
مركز الدراسات التخصصية الأمام المهدي
ص: 279
مركز الدراسات التخصصية الأمام المهدي
اسم الكتاب: ... التقويم المهدوي
تأليف: ... السيد محمد القبانجي - الشيخ ياسر الصالحي
تقديم ونشر: ... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (علیه السّلام)
رقم الإصدار: ... 140
الطبعة: ... الثانية 1442ه_
عدد النسخ: ... (طبعة محدودة)
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق النجف الأشرف
هاتف: 07809744474 - 07816787226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 280
سنة (263ه_): وفاة ابن خاقان والذي بسبب موته أفرج عن أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف):
قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء)(1) : (ابن خاقان، الوزير الكبير، أبو الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان التركي ثمّ البغدادي، وزر للمتوكل وللمعتمد، وجرت له أمور ، وقد نفاه المستعين إلى برقة، ثمّ قَدِمَ بغداد بعد خمس سنين، ثمّ وزر سنة ست وخمسين...).
وقال ابن النجار البغدادي في ذيل تاريخ بغداد)(2): (... دخل إلى الميدان في داره يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وستين ومائتين
ص: 281
يضرب بالصوالحة، فصدمه على ثلاث ساعات من النهار خادمه رشیق فسقط من دابته وبادره غلمانه فحملوه، فما نطق بحرف حتّى مات بعد ثلاث ساعات من صدمته والناس في صلاة الجمعة).
قال الصدوق (رحمه الله علیه) في (كمال الدين): قال محمد بن الحسين بن عباد: وقال لي عباد في هذا الحديث: قَدِمَت أُمُّ أبي محمد (علیه السّلام) من المدينة واسمها (حديث)(1) حين اتصل بها الخبر إلى سُرَّ من رأى، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إيَّاها بميراثه وسعايته بها إلى السلطان وكشفه ما أمر الله (عزوجل) بستره، فادَّعت عند ذلك صقيل أنّها حامل، فحُمِلَت إلى دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفّق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت ويراعون إلى أن دهمهم أمر الصفار(2) وموت عبيد
ص: 282
الله بن يحيى بن خاقان بغتةً، وخروجهم من سُرَّ من رأى وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك فشغلهم ذلك عنها(1).
وراجع ما ذُكِرَ في (23 / صفر/ (260ه_) تحت عنوان: (إرسال أبي الأديان من قبل الإمام العسكري (علیه السّلام) في مهمة...).
ص: 283
1 - سنة (254ه_) : انعقاد النطفة الطاهرة المطهرة للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، وبداية حمل أمه نرجس به (عجل الله تعالی فرجه الشریف):
روى الصدوق (رحمه الله علیه) عن محمد بن محمد بن عصام (رضی الله عنه)، قال : حدثنا محمد ابن يعقوب الكليني، قال: حدثني علان الرازي، قال: أخبرني بعض أصحابنا أنه لما حملت جارية أبي محمد (علیه السّلام)، قال : «ستحملين ذكراً، واسمه محمد، وهو القائم من بعدي»(1).
ورواه الخزاز (رحمه الله علیه) عن محمد بن عبد الله الشيباني، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن علان الرازي، عن بعض أصحابنا(2).
ص: 284
سنة (114ه_): مجيء جابر الأنصاري عند احتضار الإمام الباقر (علیه السّلام) ونقله لحديث الصحيفة الفاطمية وفيها أسماء الأئمة مع أُمهاتهم وخاتمهم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وأنه سيدة الإماء:
روى الصدوق (رحمه الله علیه) عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضی الله عنه)، قال : حدثنا الحسن بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عمرو سعيد بن محمد بن نصر القطان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد السلمي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمّد بن سعيد بن محمد، قال حدثنا العباس بن أبي عمرو، عن صدقة بن أبي موسى، عن أبي نضرة، قال: لما احتضر أبو جعفر محمد بن علي الباقر (علیهما السّلام) عند الوفاة دعا بابنه الصادق (علیه السّلام) ، فعهد إليه عهداً، فقال له أخوه زيد بن علي بن الحسين(1): لو امتثلت في تمثال الحسن والحسين (علیهما السّلام) لرجوت أن
ص: 285
لا تكون أتيت منكراً(1)، فقال : «يا أبا الحسن، إنَّ الأمانات ليست بالتمثال، ولا العهود بالرسوم، وإنما هي أمور سابقة عن حُجَج الله تبارك وتعالى»، ثم دعا بجابر بن عبد الله فقال له: يا جابر، حدثنا بما عاينت في الصحيفة»، فقال له :جابر: نعم يا أبا جعفر، دخلت على مولاتي فاطمة (عليها السلام) لأهنها بمولود الحسن علیه السّلام)، فإذا هي بصحيفة بيدها من دُرَّة بيضاء، فقلت: يا سيدة النسوان ما هذه الصحيفة التي أراها معكِ ؟ قالت: «فيها أسماء الأئمة من ولدي»، فقلت لها ناوليني لأنظر فيها، قالت: يا جابر ، لولا النهي أفعل لكنه بي أن يمسَّها إلَّا نبي أو وصي نبي أو أهل بيت نبي، ولكنه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها». قال جابر: فقرأت فإذا فيها:
(أبو القاسم محمّد بن عبد الله المصطفى، أُمه آمنة بنت وهب. أبو الحسن علي بن أبي طالب المرتضى، أُمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. أبو محمّد الحسن بن علي البر. أبو عبد الله الحسين بن علي التقي، فاطمة بنت محمد . أبو محمد علي بن الحسين العدل، أُمه شهربانويه بنت يزدجرد ابن شاهنشاه أبو جعفر محمد بن علي الباقر، أُمه أُمُّ عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، أُمه أم فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر. أبو إبراهيم موسى بن جعفر الثقة،
ص: 286
أمه جارية اسمها حميدة. أبو الحسن علي بن موسى الرضا، أنه جارية اسمها نجمة. أبو جعفر محمد بن علي الزكي، أنه جارية اسمها خيزران. أبو الحسن علي بن محمد الأمين، أمه جارية اسمها سوسن. أبو محمد الحسن بن علي الرفيق، أنه جارية اسمها سمانة وتكنى بأم الحسن. أبو القاسم محمد بن الحسن، هو حجة الله تعالى على خلقه القائم، أنه جارية اسمها نرجس (صلوات الله عليهم أجمعين))(1).
ص: 287
قال أحمد بن عيَّاش الجوهري في (مقتضب الأثر): ومما حدثني به هذا الشيخ الثقة أبو الحسين عبد الصمد بن علي وأخرجه إلي من أصل كتابه وتاريخه في سنة خمس وثمانين ومأتين سماعه من عبيد بن كثير أبي سعد العامري، قال: حدثني نوح بن دراج، عن يحيى بن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن أبي
ص: 288
جحيفة السوائي - من سواءة بن عامر -، والحرث بن عبد الله الحارثي الهمداني، والحرث بن شرب، كل حدثنا : إنَّهم كانوا عند علي بن أبي طالب (علیه السّلام) فكان إذا أقبل ابنه الحسن (علیه السّلام) يقول: «مرحباً يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)»، وإذا أقبل الحسين يقول: «بأبي أنت وأمي يا أبا ابن خير الإماء»، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما بالك تقول هذا للحسن وتقول هذا للحسين؟ ومن ابن خيرة الإماء؟ فقال: «ذلك الفقيد الطريد الشريد محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (علیهم السّلام) هذا - ووضع يده على رأس الحسين -»(1).
وما جرى عليها من محاولة زواجها إلى أسرها وبيعها ومن ثَم زواجها بالإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) يرويها بشر بن سليمان النحاس إلى محمد بن بحر الشيباني في مقابر قريش:
ص: 289
ص: 290
تطبيق المعايير العلمية لنقد الحديث
على ما اختلف وتعارض
من أحاديث المهدي بكتب الفريقين
ص: 291
اختلفت الأحاديث الواردة بكتب الشيعة في خصوص تسمية أُمّ الإمام المهدي (علیه السّلام) بین عدة أسماء ، أشهرها ثلاثة ، وهي بحسب شهرتها :
1 - نرجس .
2 - صقيل .
3 - سوسن .
وقد استخدم هذا الاختلاف عند بعض المسلمين لإنكار ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام). خصوصاً مع ورود بعض الأحاديث المختلفة في تحديد زمن الولادة ؛ هذا ، مع وجود حديث يبين شهادة جعفر ابن الإمام الهادي (علیه السّلام) على ان أخاه الإمام العسكري (علیه السّلام) مات ولم يعقب ولداً ، وإذا انضاف إلى هذا لاختلاف الاختلاف الحاصل في تحديد زمان الغيبة - كما في اليسير من الأحاديث - فقد يُتصوّر منها عدم اتفاق كتب الشيعة على شيء معيّن !!
ولهذا فمن الضروري التعرّض لهذه الأمور في مثل هذه الدراسة ما دامت القضية المبحوثة إسلامية في الصميم كما أثبتتها الصفحات المتقدمة لمى أننا سنقتصر بالكلام على بيان دلالتها للاختصار أيضاً، فنقول :
إن الاختلاف في تحديد اسم أُمّ الإمام المهدي مع الاختلافات الأخرى زمن الولادة، أو شهادة جعفر على عدمها ، أو الاختلاف في وقت الغيبة ؛ كلها اختلافات جانبية غير متكافئة ولا متساوية بنفي الولادة إطلاقاً بل على عكس من ذلك تماماً ، إذ يمكن أن تعدّ هذه الاختلافات نفسها دليلاً مضاداً يتمسك به المستشرقون على نفي وجود المهدي وعدهم مسألة ظهوره في
ص: 292
آخر الزمان من أساطير المسلمين وخرافاتهم !!
ذلك لأنها من قبيل الاختلاف الحاصل في تحديد صفات شيء موجود ، وليس من قبيل الاختلافات في نفي وجود ذلك الشيء نفسه .
أمّا عن الاختلاف الحاصل في تحديد اسم الأُم ، فلا يمكن عقلاً وشرعاً التذرّع به على به على نفي وجود الإمام المهدي ؛ لحصول مثل هذا الاختلاف مع غيره في كتب الشيعة أيضاً ، وهو مما لا يسع العاقل إنكاره ، فالإمام الكاظم (علیه السّلام) ابن الإمام جعفر الصادق (علیه السّلام) اختلفت الأحاديث في تسمية أمه بین (حميدة) وبين (نباتة) ، ولا أحد يستطيع القول بأن الإمام موسى الكاظم (علیه السّلام) لم يولد لهذا الاختلاف البسيط ، والذي يمكن رفعه على طبق ما هو معمول به عند تعارض الأخبار واختلافها. ومنها الأخذ بالأشهر وترك الشاذ النادر .
على أن الأشهر في سائر كتب الحديث الشيعية أن اسم أمّ الإمام الكاظم هو (حميدة) .
كما أن المشهور شهرة واسعة في أحاديثهم أيضاً أنّ اسم أُمّ الإمام المهديّ هو (نرجس) ، والأخذ بالمشهور في مقابل مقابل الشاذ هو المعمول به بلا خلاف عند الفريقين .
أما عن الاختلاف الحاصل في تحديد زمن الولادة، فلا يصح أيضاً كدليل على نفي الولادة، ولو صح مثل هذا على هذا لما بقي من أئمّة المسلمين وعظماء الإسلام أحد إلا وقد تطرّق الشك إلى ولادته ، وهل هو قد وُلد حقاً ؟ أو أنّ ولادته قصة حبكت ولم يضبط حبكها جيداً ؟!
ألم ينصُّ المؤرّخون على الاختلاف في زمن ولادة نبينا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ما بين يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، وما بين ثماني ليال خلون من شهر ربيع الأول ؟!
ألم تختلف الأحاديث في بيان زمان ولادة سيدة النساء فاطمة الزهراء
ص: 293
البتول (عليها السلام) اختلافاً شاسعاً في أكثر كتب الحديث والتاريخ معاً ؟! فقد أوصل عمرها بعض المؤرّخين إلى ثمان وثلاثين سنة بينما استقر بعضهم على نصف هذا العدد من السنين .
وكذلك الحال في اختلاف الأحاديث في زمن ولادة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (علیه السّلام) بين اليوم الثالث عشر من رجب ، وبين اليوم الثالث والعشرين منه .
وكذلك مع الإمام الحسن (علیه السّلام)، فالمشهور في ولادته أنها كانت بالمدينة المنوّرة يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة ، ولكن الشيخ المفيد (رحمه الله علیه) يرى أنّها في سنة ثلاث من الهجرة .
وكذلك مع الإمام السبط الشهيد (علیه السّلام) ففي بعض الأحاديث أنه ولد (علیه السّلام) بالمدينة آخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: يوم الخميس ثالث عشر شهر رمضان ، وقال الشيخ المفيد : إنه (علیه السّلام) ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع(1).
ومن هنا يتضح أن مثل هذا الاختلاف قد حصل في ولادة أصحاب الكساء (علیهم السّلام)، بما في ذلك ولادة نبينا محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهل تعاقل بعد هذا يصح عنده أن يكون الاختلاف في زمن الولادة دليلاً على نفي وقوعها ؟!
هذا ، والمشهور في ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) بكتب الحديث هو في الخامس عشر من شعبان سنة 255ه_، وهي الرواية المعتمدة لا عند الشيعة فحسب ، إنما عند أكثر المؤرّخين من أهل السنة أيضاً كما بيّناه مفصلاً في كتابنا «دفاع عن الكافي»(2).
ص: 294
عِند الامام الصادق (علیه السّلام)
السيد امير هاشم العميدي
تقديم وتحقيق : مركز الدراسات التخصصية الأمام المهدى
ص: 295
مركز الدراسات التخصصية الأمام المهدى (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
اسم الكتاب: ... غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) غيبة الإمام المهدي عند الإمام الصادق (علیه السّلام)
تأليف : ... السيد ثامر العميدي
نشر: ... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) / في مركز الرسالة
رقم الإصدار: ... 273
الطبعة: ... الأولى 1444ه_
عدد النسخ: ... طبعة محدودة
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق- النجف الأشرف
هاتف: 07809744474 - 078167872260
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 296
11 - وَعَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قَالَ سَيّدِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: اَخْلَفُ الصَّالِحُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ المَهْدِيُّ، اِسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَكُنْيَتُه أَبو الْقَاسِمِ، يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يُقَالُ لِأُمِّهِ : صَقِيلٌ»(1).
*أقول: صقيل، ونرجس، وسوسن، كلُّها أسماء لمسمَّى واحد، وهو الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وقد ورد الأثر الصحيح في ذلك، وهذا الحديث نقله الإربلي (رحمه الله علیه) من كتاب ابن الخشَّاب المسمَّى (تاريخ مواليد ووفيات أهل لبيت (علیهم السّلام))، وابن الخشاب من معاصري الإمام من معاصري الإمام العسكري (علیه السّلام)، ويروي الكليني (رحمه الله علیه) عنه بالواسطة، وهو من مشايخ علي بن إبراهيم بن هاشم القمي المتوفّى في الغيبة الصغرى.
ص: 297
الفصل الأوّل: شبهة الكيسانية بمهدوية محمد بن الحنفية (رضی الله عنه).
الفصل الثاني: شبهة مهدويَّة عمر بن عبد العزيز الأموي المرواني.
الفصل الثالث: شبهة مهدويَّة محمّد بن عبد الله الحسني.
الفصل الرابع: دعوى مهدوية المهدي العباسي.
الفصل الخامس: موقف الإمام الصادق (علیه السّلام) من المهدويات الأخرى.
الفصل السادس: دور الإمام الصادق (علیه السّلام) في ردَّ الشُّبهات الأُخرى.
ص: 298
بيّن الإمام الصادق (علیه السّلام) الاختلاف الحاصل بين هوية الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وهوية (المهدي الحسني)، في اسم الأب، والكنية، والنسب، مع الاختلاف في اسم الأم، وأصلها.
والمعروف في اسم الحسني مدَّعي المهدوية، أنَّه محمد بن عبد الله بن الحسن المثنَّى ، ابن الإمام الحسن السبط ابن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (علیهما السّلام).
ويكنى: أبا عبد الله.
وأُمه: هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب(1).
وبناء على ذلك:
فإنَّ اسم أبيه: (عبد الله).
ص: 299
وكنيته: (أبو عبد الله).
وأصله: (حسني).
واسم أُمه: (هند)، وهي امرأة عربية، قرشيّة، حرّة.
وقد بيّن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنَّ هذه الأمور الأربعة في هوية (المهدي الحسني)، تخالف تماماً هوية الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، كالآتي:
ص: 300
أما عن الاختلاف في اسم الأم، فهو أوضح من نار على علم، وأين اسم (هند) من اسم (نرجس)؟ ويقال لها (عليها السلام): (صقيل)، كما مر عن الإمام الصادق في بيان هوية الإمام المهدي (عليها السلام)، من باب تسمية الشيء ببعض صفاته، ولهذا تعددت أسماؤها لجمال خَلْقها وخُلقها (سلام الله عليها).
وأما الاختلاف في نسب الأُمّ، فإنَّ أُمَّ محمّد بن عبد الله بن الحسن، هي: هند بنت أبي عبيدة.
وأُمُّها: قريبة بنت يزيد بن عبد الله بن وهب.
أُمُّها: خديجة بنت محمّد بن طليب بن أزهر بن عبد عوف.
وأُمُّها: أُمُّ مسلم بنت عبد الرحمن بن أزهر بن عبد عوف.
وأُمُّها: قدة بنت عرفجة بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
وأُمُّها: الدنيبة بنت عبد عوف بن عبد الحرث بن زهرة.
وأمها: بنت العداء بن هرم بن رواحة.
وأمها: رزا بنت وهب بن ثعلبة بن وائلة من بني فهر. وأُمُّها: من بني الأحمر بن الحرث بن عبد مناف بن كنانة(1).
فهو إذن من جهة الأُمهات لم تلده إلَّا عربيَّة قرشيّة في جميع أُمهاته وجداته، ولهذا يقال له: (صريح قريش)(2).
ص: 301
بينما يُعَدُّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) من جهة الأُم ابن خيرة الإماء كما مر في أحاديث الهوية عن الإمام الصادق (علیه السّلام)، وفي روايات أُخرى عنه (علیه السّلام) أنه ابن سيدة الإماء.
ومن طريف ما يُروى في الردّ على مهدويَّة الحسني من هذه الجهة، ما عن ابن أبي حازم في قصَّة من احتج عليه من أنصار محمّد بن عبد الله بن الحسن المثنى - وكانوا من المغيريَّة أصحاب المغيرة بن سعيد الكذاب - بأنَّ محمّداً هذا ابن مُهَيْرَة، أي: عربيَّة حرَّة محضة، فجاء إلى الإمام الصادق (علیه السّلام) وأخبره باحتجاجهم، فأجابه (علیه السّلام) بقوله : «أَوَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ - يعني الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ابْنُ سَبيَّة ؟»(1).
لعل من أبرز نتائج الثقافة المهدوية التي بثّها الإمام الصادق (علیه السّلام) في ذلك الحين تنصُّل قادة المعارضة الحسنية للسلطة العبّاسيّة من دعوى المهدوية جملة وتفصيلاً، بما في ذلك عبد الله بن الحسن الذي رجاها في ابنه محمّد، وكذلك محمد نفسه الذي ادعاها كما مرَّ.
فقد روى يحيى بن مساور، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، قال: (لما حُبِسَ أبي – عبد الله بن الحسن - وأهل بيته، جاء محمّد بن عبد الله إلى أُمِّي، فقال : يا أُمّ يحيى، أدخلي على أبي السجن، وقولي له: يقول لك محمّد بأنَّه يُقْتَل رجل من آل محمّد - يعني بذلك نفسه - خير من أنْ يُقتل بضعة عشر رجلاً. قالت: فأتيته، فدخلت عليه السجن، فإذا هو متكئ على برذعة، في رجله سلسلة، قالت: فجزعت من ذلك، فقال: مهلاً يا أُمَّ يحيى، فلا تجزعي، فما بتُ
ص: 302
ليلة مثلها، قالت: فأبلغته قول محمد، قالت: فاستوى جالساً، ثمّ قال: حفظ الله محمداً، لا ولكن قولي له فليأخذ في الأرض مذهباً، فوالله ما يحتج عند الله غداً إِلَّا أنَّا خُلقنا وفينا من يطلب هذا الأمر)(1).
وروى ابن الأثير ما خلاصته : أنَّ المنصور العباسي لما حبس بني الحسن في المدينة وصيَّرهم بعد رجوعه من الحج إلى الربذة كان محمد وإبراهيم يأتيانه كهيأة الأعراب فيتشاوران مع أبيهما ، وأنه قال لهما : (إن منعكما أبو جعفر – يعني المنصور - أن تعيشا كريمين، فلا يمنعكما أن تموتا كريمين)(2).
وهذه الكلمات تكاد تنطق بتحول عقيدة الأب في ابنه، وتنازل الابن نفسه عن دعوى المهدوية وتنصله منها.
أما قول محمّد لأبيه في رواية أخيه يحيى، فيكشف دوران أمره بين تسليم نفسه للقتل مقابل الإفراج عن أبيه وباقي الحسنيين، أو التضحية بها وبأهل بيته المسجونين، وكلاها يُعبّر عن تبخّر ذلك الوهم الكبير في مَنْ يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلِئَت ظلما وجوراً.
وأما أبوه عبد الله فقد آثر لهما - برواية ابن الأثير - مصارع الكرام على العيش بذل الاستسلام، ولو كان يعتقد مهدويّة ابنه محمد كما كان قبل دخوله السجن لأخذ بروع محمد ابنه وطمأنه على حياته ومستقبل مهدويّته بأنّها أعظم من أن تزول على يد الدوانيقي المخذول، ولقال له: يا بُنَيَّ، عجل بالظهور، فإِنَّ
ص: 303
روح الله عيسى بن مريم (علیه السّلام) سينزل لنصرتك، وسيُصلّي خلفك، حتّى تكون مشارق الأرض ومغاربها من ملكك.
بفضل هذه التوعية أيضاً أنكر آخرون أن يكون محمد بن عبد الله هو المهدي.
منهم: جد محمد بن عبد الله لأُمه مروان بن محمد، الذي أثر فيه حديث الإمام الصادق المهدي. في بيان هوية الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، والذي لا بد وأن يكون قد وصل إلى أسماعه.
ويدلُّ عليه ما قاله أبو العباس الفلسطي، قال: (قلت لمروان بن محمد: جدّ محمد بن عبد الله ؛ فإنَّه - يعني ابن عبد الله - يدَّعي هذا الأمر ويتسمَّى بالمهدي! فقال: ما لي وله؟ ما هو به، ولا من أبيه، وإنَّه لابن أم ولد)(1)، يعني ابن سبية.
ص: 304
ص: 305
مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
اسم الكتاب: المصلح العالمي من النظرية إلى التطبيق
المؤلف: السيد نذير يحيى الحسني
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة الأولى : 1424ه_ . 2003م
الطبعة الثانية: 1424ه_ . 2004م
عدد النسخ: 1000 نسخة
WWW.ANHAJAT ORG
حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة
1424 ه_ - 2004م
ص: 306
وردت أحاديث كثيرة تشيد بهذه المرأة في التراث الشيعي، كشفت عن مقامها وعفتها وطهارتها ونقائها، ومن هذا الاحاديث ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) عندما ذكر المهدي قال: «يابن خيرة الإماء، متى تنتظر؟ ابشر بنصر قريب من رب رحيم»(1).
ووصفها الإمام الصادق (علیه السّلام) بسيدة الإماء، فقال أبو بصير: قلت لأبي عبد الله: يا بن رسول الله، من القائم منكم أهل البيت ؟ فقال «يا أبا بصير هو الخامس من ولد ابني موسى ذلك ابن سيدة الإماء يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون ثم يظهره الله عزوجل فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها»(2).
وروي عن الامام أبي عبد الله (علیه السّلام) أنه قال: «بالقائم علامتان: شامة في رأسه وشامة بين كتفيه مثل ورقه الآس ابن سبية وابن خيرة الإماء»(3).
فهذه الأحاديث وغيرها صرّحت بمكانة هذه المرأة وصفاتها، واختلف في داخل الدائرة الشيعية عن اسم هذه المرأة بين خمسة أسماء:
ص: 307
1 - سوسن(1).
2 - ریحانه(2).
3- نرجس(3).
4 - صقيل(4).
5 - خمط(5).
ولكن المشهور بين الأعلام أن اسمها نرجس وأما في التراث السني لم نجد من صرّح باسم أم المهدي، ولم يُترقب من ذلك التراث التصريح به لأنهم آمنوا بالمهدي الموعود ولم يؤمنوا بالمهدي الموجود والمولود سابقاً.
وحاول بعض المشككين أن ينفذ إلى نظرية المصلح العالمي والمهدي الموعود عند الشيعة من من الاختلاف الحاصل في اسم أم الامام (علیه السّلام) ومن دخل إلى التاريخ بهذا المبنى فلا يبقى له من أئمة المسلمين وعظماء الإسلام أحد(6) لأن الكثير من الشخصيات الاسلامية والتي لها شهره واسعة اختلف في أسماء آبائهم وأمهاتهم و تاريخ ولاداتهم ووفياتهم ونكتفي بذكر شاهد واحد على ذلك، هو الاختلاف في اسم أم الإمام الكاظم (علیه السّلام) بين حميدة وهو المشهور وبين نباتة(7).
وهل يجرؤ أحد أن يشكك في وجود الإمام الكاظم تبعاً للتشكيك في أسم امه؟
ص: 308
تأليف
المرحوم الخطيب الشيخ محمد رضا الحكيمى «قدس الله روحه»
راجعه و رتبه
محمد جواد الحكيمى
مؤسسة مَدْيَن
للطباعة والنشر والتوزيع
قم - ایران
ص: 309
مؤسسة مدين
للطباعة والنشر والتوزيع
قم. ایران: شارع -ارم - بناية القدس الهاتف 717878 . فکس 713699
المختصر في الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
المرحوم الخطيب الشيخ محمد رضا الحكيمى (قدس سره)
راجعه و رتبه محمد جواد الحکیمی
الطبعة الأولى
1415 ه_ ق 1995م
صف الحروف : مؤسسة القلم للكمبيوتر
مطبعة النهضة
الكمية 1000
كافة الحقوق محفوظة و مسجلة
ص: 310
مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمها من ولد الحواريين، تُنسب إلى شمعون وصيّ المسيح (علیه السّلام)، ولما أسرت، سمت نفسها «نرجس» لئلا يعرفها الشّيخ الذي وقعت إليه اعتراه من النور والجلاء بسبب الحمل المنوّر سميت «صقيلا»، (صيقلا - ظ)، وهى أم ولد تسمّى «صيقل» وقيل: «حكيمة» وقيل غير ذلك.
ص: 311
أقول: وفي غيبة الشيخ (رحمه الله علیه) ، عن جماعة، عن أبي المفضل، محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني، عن محمد بن بحر بن سهل الشيباني، عن بشير بن سليمان النخاس، قال: أتاني كافور الخادم، ثم ساق الحديث مثله هذا.
وليعلم أنّ صورة السند في نسختين عندي من كتاب كمال الدين محمّد بن يحيى الشيباني، وكذا في غيبة البحار والعوالم نقلاً عنه وهو سهو من المستنسخين، وإنما الصحيح محمد بن بحر بالباء الموحدة، ثم الحاء ثم الراء المهملتان، كما في غيبة الشيخ (رحمه الله علیه).
ثم إنَّ الواقع في جميع الروايات التي مضى بعضها ويأتي - إن شاء الله بعض آخر من إسم بنت الجواد (علیه السّلام) «حكيمة» بالكاف بعد الحاء. والمشهور بين النّاس «حليمة» باللام مكان الكاف. وهو الواقع في بعض المواضع النادرة ولعله الأصح بقرينة ما ورد في أخبارنا عن المعصومين (علیهم السّلام). من كراهة تسمية المولود بالحكيم بالكاف وتاء التأنيث لا تغيّر لحكمهم، ويمكن أن يكون ما بالكاف لقباً لها، لقب بها لكونها مطلعة على أسرار الحكمة، كما لقبت فاطمة المدفونة بقم، أخت الرضا (علیه السّلام) بالمعصومة» والله أعلم(1).
ص: 312
تأليف العلامة الشيخ ابراهيم الأميني
ترجمة كمال السيد
ص: 313
اميني ، إبراهيم ، 1304 -
حوارات حول المنقذ / تأليف إبراهيم الاميني؛ ترجمة كمال السيد .- قم: مؤسسة أنصاریان، 1421=2000.
[320] ص.
العنوان الأصلي: دادگستر جهان.
عربی
کتابنامه : ص . [317-320]؛ همچنین به صورت زیرنویس.
شابک: 225-438-964 ISBN: 964-438-225-0
1. مهدویت 2. محمد بن حسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، امام دوازدهم، 255ق. - .
الف. سید، کمال، 1336 - ، مترجم. ب. عنوان
78520437 الف BP224/4 297/462
اسم الكتاب: حوارات حول المنقذ
المؤلف: إبراهيم الاميني
المترجم: كمال السيد
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر - قم
الطبعة الثانية: 1421 - 1379
المطبعة صدر - قم
الكمية: 2000 نسخة
عدد الصفحات: 320 ص
حجم الغلاف: متوسط
ردمك (شابك) 9 - 226 - 438 - 964
جميع حقوق الطبع محفوظة و مسجلة للناشر
مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر
جمهورية إيران الإسلامية - قم - شارع الشهداء - فرع 22 ص ب : 187
ص: 314
جلال : ما كان اسم والدته ؟
نبيه : ذكرت لأمه اسماء عديدة منها: نرجس، صقيل، ريحانة، سوسن، حكيمة، مريم، ويعود هذا الاختلاف إلى جملة من العوامل:
الأول : تعدّد الجواري اللاتي كن في منزل الإمام الحسن.
عن حكيمة عمته قالت: انتهيت إليه وهو جالس في صحن اره وجواريه حوله فقلت : جعلت فداك يا سيدي، الخلف ممّن هو ؟ قال : من سوسن(1).
وفي رواية أُخرى عن حكيمة أيضاً تقول: دخلت عليه فقلت له كما أقول ودعوت كما أدعو ، فقال : يا عمّة أما أن الذي تدعين الله أن يرزقنيه يولد في هذه الليلة.. فاجعلي إفطارك معنا. فقلت: ياسيدي ممّن يكون هذا الولد العظيم ؟ فقال (عليه السلام) : من نرجس يا عمّة(2).
وهناك روايات أخرى ترد فيها اسماء أخرى وكلها تدلل على ان له جواري عديدات.
ص: 315
الثاني : كما أشير سابقاً أن الظروف التي تحيط ميلاد الإمام كانت خطيرة. فكل المؤشرات كانت تؤكّد توجس السلطات من قرب ولادته ولذا أحاطوا حياة الإمام الحسن بالجواسيس بل تعدت المراقبة لتشمل كل بيوت بني هاشم والقبض على كل صبي في المهد.
وبعد التأكيد على هذين العاملين ينبغي القول : ان الله سبحانه قد قدر ولادته رغم كل الظروف الخانقة وكانت إرادته الغالبة ولا راد لأمره. وهناك مؤشرات لليد الغيبية التي أمدته بأسباب البقاء:
- لم تظهر على والدته آثار الحمل حتى ليلة المخاض.
- لم يذكر الإمام الحسن اسم والدته لأحد مبالغة في الاحتياط.
- لم يشهد الولادة أحد سوى عمة الامام الحسن السيدة حكيمة وبعض الجواري.
وهكذا تمّ أمر الله، ففي قلب الظلام من ليلة النصف من شعبان ولد الصبي الموعود في جو يسوده الحذر والكتمان.
وتمر الأيام، ولا يشعر أحد بذلك : لهذا ثار جدل حول الموضوع، وأنكر الكثير من أصحاب الإمام موضوع ولادته، كما ثار خلاف لدى المؤمنين حول اسم والدته ، فمن قائل أنها نرجس، أو صقيل، أو أنها ريحانة أو سوسن حتى ان السيدة حكيمة - ولكي يبقى الموضوع خافياً - كانت تقول مرة أن نرجس هي أم المهدي ومرة أخرى تصرح أنها سوسن. وبالطبع لا تخفى المصلحة في هذا الاختلاف ودوره في حفظ الصبي من الأخطار المحدقة.
عن أحمد بن ابراهيم قال دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا في
ص: 316
سنة اثنتين وستين ومائتين بالمدينة فكلمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها قسمت لي من تأتم به ثم قالت: فلان بن الحسن فسمته ، فقلت لها : جعلني الله فداك معاينة أو خبراً، فقالت: خبراً عن ابي محمد كتب به الى امه فقلت لها : فأين المولود فقالت: مستور، فقلت: فإلى من تفزع الشيعة ؟ فقالت : إلى الجدة ام ابي محمد فقلت : اقتدى في وصيته الى المرأة ؟ فقالت : اقتداء بالحسين بن علي بن أبي طالب ان الحسين أوصى الى اخته زينب بنت علي في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم ينسب الى زينب بنت علي تستراً على علي بن الحسين، ثم :قالت انكم قوم اصحاب اخبار اما رويتم ان التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه وهو في الحياة(1).
وفي هذه الرواية نجد ان السيدة حكيمة كتمت شيئاً ونسبت ولادة المهدي إلى والدة الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام) في حين نراها في رواية أخرى تفصل الموضوع وتكون هي الشاهد الأساس في ولادته وأنها تحدثت مع المهدي في صباه أكثر من مرة. وتقول: والله اني لأراه صباحاً ومساءً وانه لينبؤني عما تسألوني(2).
وهناك حادث له دلالته ، فقد نشب خلاف في إرث الإمام الحسن بين أخيه وأمه، ولا يستبعد أن يكون الحادث قد تم بتحريض «جعفر» المعروف بالكذاب وكان على صلات وثيقة بالسلطة من أجل إثارة خلاف يمكن أن يكون عاملاً في الكشف عن وجود ابن للإمام الحسن العسكري، ولقد كانت الخلافة العباسية
ص: 317
تتوجس من وجود الصبي الذي سيكون بقاؤه سبباً في زوالها .
يذكر الصدوق في كتابه كمال الدين قدمت ام ابي محمد واسمها (حديث) حين اتصل بها الخبر الى «سرّ من رأى» فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته اياها بميراثه وسعایته بها الى السلطان وكشف ما امر الله عز وجل. فادعت عند ذلك (صقيل) انها حامل فحملت الى دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه ونساء الموفق وخدمه ونساء القاضي ابن ابي الشوارب يتعاهدون أمرها في كل وقت ويراعونه الى ان ادهمهم امر الصفار وموت عبد الله بن يحيى ابن خاقان بغتة وخروجهم من (سر من رأى) وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك فشغلهم ذلك عنها(1).
ومن المحتمل أن تكون الأسماء التي وردت حول أمه تعود إلى جارية واحدة هي أمه فمن عادة العرب آنذاك مناداة من يكرمونه بعدة أسماء، وهناك رواية ، تعضد هذا الاحتمال أوردها الشيخ الصدوق في كتابه كمال الدين، بسنده عن غياث انه قال : ولد الخلف المهدي صلوات الله عليه يوم الجمعة وامه ريحانة ويقال لها نرجس ويقال لها صقيل ويقال لها سوسن الا انه قيل لسبب الحمل صقيل(2).
وفي ختام حديثي أقول انه بالرغم من وجود اختلاف في اسم الأم إلا أن هذا لا يخدش في أصل الموضوع، فقد تضافرت الروايات والأخبار حول ولادته. خاصة وقد أكدت السيدة حكيمة ذلك مرات عديدة وهي امرأة جليلة القدر موثوقة الرواية إضافة إلى كثير ممن رأوا الصبي فيما بعد في منزل والده.
ص: 318
تعريب: انور الرصافي
ص: 319
دروس في تاريخ عصر الغيبة / تأليف مسعود پورسید آقایی ... [و دیگران]؛ تعریب انور الرصافي: [1] المركز العالمي للدراسات الإسلامية، مكتب التخطيط و تدوين المناهج الدراسية - قم المركز العالمي للدراسات الإسلامية 1428 ق. - 1385.
219 ص - (مكتب التخطيط و تدوين المناهج الدراسية؛ 82)
15000 ریال ISBN: 978-964-8961-88-1
عنوان اصلی: تاریخ عصر غیبت: نگاهی تحلیلی به عصر غیبت امام دوازدهم (عجل الله تعالى فرجه الشريف). فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیپا.
عربی.
کتابنامه: ص[215] - 219: | 215 - 219 همچنین به صورت زیرنویس.
1. محمد بن حسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، امام دوازدهم، 255 ق - غیبت 2. مهدویت -- انتظار. 3. عباسیان -- تاریخ. 4. کشورهای اسلامی -- تاريخ - 132 - 656 5. نواب اربعه 6. شیعه -- تاریخ. الف. پور سید آقائی مسعود 1338 - .. ب. رصافی، انور، 1342 - ، مترجم. ج. مرکز جهانی علوم اسلامی دفتر برنامه ریزی و تدوین متون درسی. د. عنوان: تاریخ عصر غیبت: نگاهی تحلیلی به عصر غیبت امام دوازدهم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
2043 ت / 4 / 224/BP 462 / 297
دروس في تاريخ عصر الغيبة
تألیف: مسعود پور سید، آقانی، محمد رضا جباري، حسن عاشوري، والسيد منذر الحكيم
تعريب: أنور الرصافي
الطبعة الأولى: 1428 ق / 1386ش
الناشر: منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية
المطبعة: توحيد الشعر: 15000 ريال • عدد الطبع : 2000
حقوق الطبع محفوظة للناشر.
التوزيع:
قم، شارع بهار، قرب هتل الزهرا (عليها السلام)، منشورات المركز العالمي للدراسات الاسلامية
هاتف - فکس: 0217749875
www.eshraaq.com
E-mail: public-relations@Qomicis.com
ص: 320
وردت روايات كثيرة بشأن اسم أمه، فذهب المسعودي إلى أن أمه جارية تدعى نرجس(1)، وذكر الشهيد الأول أنها مريم بنت زيد العلوية الفاضلة(2)، وقال الشيخ الطوسي (وفق إحدى الروايات) إن اسمها ريحانة وأضاف: وقيل نرجس وصيقل (صقيل)، وسوسن(3)، وذكر الشيخ المفيد اسم نرجس فحسب(4)، وقد ورد في رواية أن حكيمة عمّة الإمام العسكري ذكرت ذلك الاسم(5)، وذهب بعض المحققين إلى أنه من الممكن أن يكون اسمها نرجس، وأما سائر الأسماء ما خلا صقيل(6) فقد اطلقتها عليها حكيمة بنت الإمام الجواد (علیه السّلام)؛ إذ كان العرف السائد في ذلك الزمان هو إطلاق أسامي متعددة على الجواري ترحيباً بهنَّ(7)، يشار إلى أن نرجس وريحانة وسوسن أسماء أزهار، وقد ورد عن الشيخ الصدوق رواية تعضد هذا الاحتمال، حيث روی بسنده عن
ص: 321
غياث بن أسيد، قال: ولد الخلف المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يوم الجمعة، وأمه ريحانة، ويقال لها نرجس، ويقال: صقيل، ويقال: سوسن، إلا أنه قيل لسبب الحمل صقيل(1) إنما سمي صيقلاً أو صقيلاً لما اعتراه من النور والجلاء بسبب الحمل المنور.
وللسيد الشهيد محمد الصدر تحليل جامع وقيم حول سبب تعدد أسمائها في كتابه.(2) وثمة أقوال أخرى حول انتساب أم الإمام الثاني عشر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فقد ذكر الشيخ الصدوق طبقاً لرواية أنها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الروم، وأمها من نسل شمعون أحد حواريي المسيح (علیه السّلام)، وقد وقعت أسيرة بيد القوات الإسلامية، وتم استرقاقها حتى ، إشتراها رسول الإمام الهادي (علیه السّلام)، كجارية من سوق النخاسين في بغداد وأرسلت إلى الإمام في سامراء.(3)
وجاء في الكافي إن أم القائم جارية نوبية والنوبة بلاد واسعة للسودان(4)
وقد روى النعماني والصدوق أخبار أخرى دالة على أن أُم القائم جارية سوداء(5).
وقد روى الشيخ الطوسي رواية(6) رجحها بعض المحققين(7)، حيث ورد فيها أنه كان الحكيمة جارية، فلما زارها الإمام وقع (علیه السّلام) نظره على تلك الجارية، فقال: «سيخرج منها ولد كريم على الله عزّ وجلّ»(8).
وبغض النظر عن كل ما قيل فإن النقطة البالغة الأهمية هي أنها كانت من العظمة
ص: 322
والرفعة بمكان ، حتى أصبحت أُماً لصاحب الزمان ، وكانت حكيمة (هي عمة الإمام العسكري و عقيلة البيت الهاشمي) تخاطبها بقولها «أنت سيدتي وسيدة أهلي»، وبقولها «بل أخدمك على بصري»(1) وقد اعتبرها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)(2)وأمير المؤمنين (علیه السّلام)(3) والصادقين (علیهم السّلام)(4) أنها خيرة الإماء وأفضلهن.
وفي الختام نرى من المناسب أن ننقل رواية على لسان حكيمة عمّة الإمام العسكري تتضمن تقريراً مفصلاً حول ولادة الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
وقد اشتهرت هذه الرواية بالوثاقة منذ زمن المسعودي المتوفى (346ه_).(5)
روى الشيخ الصدوق عن حكيمة بنت الإمام الجواد (علیه السّلام) أنها قالت:
بعث إلي أبو محمد الحسن بن علي (علیه السّلام)، فقال : يا عمّة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإن الله تبارك وتعالى سيُظهر في هذه الليلة الحجّة، وهو حجته في أرضه، قالت: فقلت له: ومن أمه؟ قال لي: نرجس، قلت له: جعلني الله فداك ما بها أثر، فقال: هو ما أقول لك قالت: فجئت فلما سلمت و جلست جاءت تنزع خفي، وقالت لي: ياسيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت؟ فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي قالت: فأنكرت قولي وقالت: ما هذا يا عمة؟ قالت: فقلت لها: يا بنية إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة قالت: فخجلت واستحيت، فلما أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي، وهي نائمة ليس بها
ص: 323
حادث، ثم جلست معقبة، ثم اضطجعت، ثم انتبهت فزعة وهي راقدة، ثم قامت فصلت و نامت.
قالت حكيمة وخرجت اتفقد الفجر فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان، وهي نائمة فدخلني الشكوك، فصاح بي أبو محمد (علیه السّلام) من المجلس، فقال: لا تعجلي يا عمة، فهاك الأمر قد قرب، قالت: فجلست وقرأت الم السجدة، ويس، فبينما أنا كذلك إذ انتبهت فزعة فوثبت إليها، فقلت: اسم الله عليك، ثم قلت لها: أتحسين شيئاً؟ قالت: نعم يا عمة، فقلت لها: أجمعي نفسك وأجمعي قلبك، فهو ما قلت لك، قالت: فأخذتني فترة وأخذتها فترة فانتبهت بحس سيدي فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به (علیه السّلام) ساجداً يتلقى الأرض بمساجده فضممته إلي، فإذا أنا به نظيف متنظف فصاح بي أبو محمد (علیه السّلام) هلمي إلي ابني يا عمة، فجئت به إليه فوضع يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثم قال: تكلم يابني، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم صلى على أمير المؤمنين و على الأئمة (علیهم السّلام) إلى أن وقف على أبيه، ثم أحجم
ثم قال أبو محمد : يا عمّة أذهبي به إلى أمه ليسلم عليها وأتني به، فذهبت به فسلّم عليها ورددته فوضعته في المجلس، ثم قال: ياعمة إذا كان يوم السابع فأتينا، قالت حكيمة فلما أصبحت جئت لأسلم على أبي محمد (علیه السّلام) وكشفت الستر لا تفقد سيدي (علیه السّلام) فلم أره، فقلت: جعلت فداك ما فعل سيدي؟ فقال: يا عمة استودعناه الذي استودعته أم موسى موسى (علیه السّلام).
قالت حكيمة: فلما كان في اليوم السابع جنت فسلمت وجلست، فقال: هلمي إليّ ابني فجئت بسيدي (علیه السّلام)، وهو في الخرقة ففعل به كفعلته الأولى، ثم أدلى لسانه في فيه كأنّه يغذيه لبناً أو عسلاً، ثم قال: تكلم يابني، فقال: اشهد ان لا اله الا الله وثنى بالصلاة على محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلي أمير المؤمنين وعلى الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين حتى وقف على أبيه (علیه السّلام) ثم تلا هذه الآية: ﴿بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَن
ص: 324
نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَبِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَرِثِينَ وَ تُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِى فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُما مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾(1).(2)
ص: 325
ص: 326
بحث حول مدعي الإمامة واليمانية
وحول الخلافة بعد الحجة القائم (عليه السلام)
وبيان المنهج الصحيح
طالب الحق
ص: 327
ص: 328
المعروف بأنّ السيدة نرجس(1) بيضاء اللون، لأنّها من بلاد الروم.. ولكن ورد عن الإمام الباقر (علیه السّلام)بأنها سوداء اللون، فيقول الأنصار بأنَّ هذه المرأة السوداء هي أم أحمد الحسن..
الغيبة للنعماني/ باب 13/ ح 8/ ص 228:
.. عن يزيد الكناسي قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السّلام): يقول: (إنّ صاحب هذا الأمر فيه شبة من يوسف (فيه سنة من يوسف في كمال الدين/ ج)،
ابن امة سوداء،
يصلح الله (عزوجل) له أمره في ليلة واحدة).
أقول يمكن تفسير السواد بوجهين أو احتمالين:
* إن الجملة صادرة عن الإمام (علیه السّلام)، بنحو التقية، لأنه (علیه السّلام): يعلم مستقبلاً أن العباسيين سوف يقومون بتفتيش بيت الإمام العسكري (علیه السّلام) بين مدة وأخرى بحثاً عن امرأة حامل .. فتكون المراقبة للنساء السوداوات وليس للسيدة نرجس (عليها السلام).
* المعروف في لغة العرب أن زوجة الأب يُطلق عليها (أم) وإنّ الأمة التي تقوم بتربية الطفل تسمى كذلك (أم).. فقد رُوي عن زرارة عن أحدهما (عليها السلام)؟ قال: (إنّ علي بن الحسين (عليها السلام) تزوج أم ولد عمه الحسن (عليها السلام)، وزوج أمه مولاه...)(2)، أي زوج الجارية التي ربتة بعدما ماتت أمه (علیه السّلام).
فيُحتمل أنّ (أمة سوداء) هي الجارية التي أوكلت للعناية بالإمام الحجة (علیه السّلام)، بعد وفاة أمه.. فقد ورد أن أم الإمام المهدي (علیه السّلام) ماتت في حياة الإمام العسكري (علیه السّلام):
كمال الدين للصدوق/ ج 2 / باب 42 / ح7 /ص 431:
حدثنا محمد بن علي ماجيلويه (رضی الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثني أبو علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمد (علیه السّلام) فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارةً من جعفر، فتزوج بها. قال أبو علي: فحدثتني أنها حضرت ولادة السيد (علیه السّلام)، وأن اسم أم السيد صقيل، وأن أبا محمد (علیه السّلام) حدثها بما يجري على عياله، فسألته أن يدعوا الله (عزوجل) لها أن يجعل منيتها قبله، فماتت في حياة أبي محمد (علیه السّلام) وعلى قبرها لوح مكتوب عليه: هذا قبر أم محمد. قال أبو علي: وسمعت هذه الجارية تذكر أنّه لما ولد السيد (علیه السّلام)، رأت لها نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده ثم تطير ، فأخبرنا أبا محمد (علیه السّلام) بذلك فضحك ثم قال: تلك ملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود وهي أنصاره إذا خرج.
ص: 329
ومما يدل على أنّ هذه الرواية تخص الإمام الحجة المهدي (علیه السّلام) ثلاثة أمور:
.1 الرواية تقول (ابن امة) ولا يوجد إماء في الوقت الحاضر كي نطبق الرواية على أحمد الحسن.. . ولكن قد تقول بأن المعنى هو أنّها (أمة الله عز وجل).. أقول بل إنّ المعصوم (علیه السّلام): في هذه الموارد يقصد المعنى المعروف آنذاك أي امرأة مملوكة (جارية)... فعن عبد الرحيم القصير قال:
قلتُ لأبي جعفر (علیه السّلام) قول أمير المؤمنين (علیه السّلام) (بابي ابن خيرة الإماء) أهي فاطمة (عليها السلام)؟ فقال: إنّ فاطمة (عليها السلام): خيرة الحرائر ذاك المبدح بطنه المشرب حمرة رحم الله فلاناً)(1).
والمعروف بأنّ (ابن خيرة الإماء) هو الإمام الحجة المهدي (علیه السّلام)، ففي البحار عن كتاب المقتضب:
كتاب المقتضب لابن العياش قال: حدثني الشيخ الثقة أبو الحسين بن عبد الصمد بن علي في سنة خمس وثمانين ومائتين عند عبيد بن كثير عن نوح بن دراج عن يحيى عن الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي جحيفة والحارث بن عبد الله الهمداني والحارث بن شرب كل حدثنا :
أنّهم كانوا عند علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فكان إذا أقبل ابنه الحسن يقول مرحباً بابن رسول الله، ع وإذا أقبل الحسين يقول بأبي أنت يا أبا ابن خيرة الإماء. فقيل يا أمير المؤمنين ما بالك تقول هذا للحسن وهذا للحسين ومن ابن خيرة الإماء، فقال: ذاك الفقيد الطريد الشريد م ح م د بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين هذا ووضع يده على رأس الحسين (علیه السّلام). بحار الأنوار/ ج 51/ كتاب الغيبة / ص 110
2. الإمام المهدي (علیه السّلام) هو الذي (فيه شبة من يوسف).. وهي على سبيل المشابهة في الغيبة لا على سبيل المُماثلة الحقيقية لأنّ غيبة يوسف (علیه السّلام) كانت محدودة وهي مختلفة عن غيبة الحجة (علیه السّلام) التي امتدت قرون متتالية .. فقد روى أبو بصير عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال:
(في القائم شبه من يوسف، قلت وما هو، قال: الحيرة والغيبة)(2).
نعم ورد عن الباقر (علیه السّلام): (.. وسُنّة من يوسف ... وأمّا من يوسف فالسجن)(3)، ولكن الإمام المهدي (علیه السّلام) لم يُسجن في الحبس، ولكنه في معنى المسجون لأنه بحيث لا يُوصل إليه ولا يُعرف شخصه على التعيين فكانه مسجون.. ودليل ذلك قول الإمام الحسين (علیه السّلام) بأنّ المهدي التاسع من ولده (علیه السّلام) هو الذي فيه سُنَّة من يوسف:
(في التاسع من ولدي سنة من يوسف وسُنّه من عيسى وهو قائمنا يُصلح الله أمره في ليلة واحدة)(4).
ص: 330
ولكنّ العجيب أنّ أحمد الحسن يربط الرواية بالأحلام والرؤى، فيقول في كتابه (إضاءات من دعوات المرسلين - ج3):
(وإذا عرفنا أن يوسف في زمن ظهور الإمام المهدي (علیه السّلام) هو وصيه (اليماني)، فقولهم: أن فيه سنَّة من يوسف وهي السجن، قطعاً ليست في الإمام المهدي (علیه السّلام)، لأنه لا يُسجن كما هو معروف، بل هي في المهدي الأول (اليماني)، إذن فلابد أن تتكرر مع المهدي الأول قصة يوسف (علیه السّلام) (بل وقصص الأنبياء والأئمة)، فتكون الرؤيا محوراً أساسياً لإثبات حقه، كما كانت محوراً أساسياً لإثبات حق يوسف (علیه السّلام).
3 . الإمام المهدي التاسع من ولد الحسين (علیه السّلام) هو الذي (يصلح الله (عزوجل) له أمره في ليلة واحدة):
* أسند إلى الصادق إلى الباقر إلى أبيه قول الحسين (علیه السّلام):
في التاسع من ولدي سُنّة من يوسف وسُنّه من عيسى وهو قائمنا يصلح الله أمرة في ليلة واحدة)(1).
* وروي عن الصادق (علیه السّلام) أنه قال لبعض أصحابه:
(كن لما لا ترجوا أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران (علیه السّلام) خرج ليقتبس لأهله ناراً فرجع إليهم وهو رسول نبي فأصلح الله (تبارك وتعالى) أمر عبده ونبيه موسى (علیه السّلام)، في ليلة، وهكذا ع يفعل الله (تبارك وتعالى) بالقائم الثاني عشر من الائمة (علیهم السّلام): يصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر نبيه موسى (علیه السّلام) ويخرجه من الحيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور)(2).
* وعن عبد العظيم الحسني وقد أراد أن يسأل الإمام محمد بن علي الجواد (علیه السّلام) عن القائم أهو المهدي أو غيره، فابتدائه فقال له:
(يا أبا القاسم إن القائم منا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته ويُطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) بالنبوة وخصنا بالإمامة إنه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً، وإن الله (تبارك وتعالى) ليصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر كليمه موسى (علیه السّلام) إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسول نبي، ثم قال (علیه السّلام): أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج)(3).
والعجيب أنّ أحد الأنصار في منتدياتهم(4) يقول بأنّ الذي يُصلح الله أمره في ليلة واحدة هو أحمد الحسن لا الإمام المهدي (علیه السّلام) .. بينما الإمام الحسين والصادق والجواد عليهم السلام يقولون بأنّ الذي يُصلح الله أمره في ليلة هو الحجة بن الحسن المهدي (علیه السّلام).
ص: 331
ونحن سواء علمنا معنى (يصلح الله أمره في ليلة) أو لم تعلم عقولنا القاصرة هذا المعنى، فإنّ أئمتنا (علیه السّلام) أكدوا لنا بأنّ الذي يصلح الله أمره في ليلة هو الإمام المهدي (علیه السّلام) لا غيره.. ولعلّ معناها هو الخروج من الحيرة والغيبة، فعن الصادق (علیه السّلام).
(كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران (علیه السّلام) خرج يقتبس لأهله ناراً، فرجع إليهم وهو رسول نبي، فأصلح الله (تبارك وتعالى) أمر عبده ونبيه موسى (علیه السّلام) في ليلة، وهكذا يفعل الله (تبارك وتعالى) بالقائم الثاني عشر من الأئمة (علیهم السّلام): يُصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر نبيه موسى (علیه السّلام)، ويُخرجه من الخيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور)(1).
فالإمام المهدي (علیه السّلام) يُقبل كالشهاب الثاقب، ولعل سرعة تحرك الإمام المهدي (علیه السّلام) تستند إلى أن الله تعالى يُهيئ له أمره ومستلزمات نجاح حركته التغييرية العظمى بسرعة مدهشة (في ليلة).
ص: 332
السيد
شبيب الخرسان
اصدار
وحدة النشر الثقافي
في شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية
ص: 333
جميع الحقوق محفوظة
للعتبة الحسينية المقدسة
الطبعة الأولى
1438ه_ - 2017م
الأماني العامة
المقدسة
العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة
قسم الشؤون الفكرية والثقافية - هاتف: 326499
www.imamhussain-lib.com
E-mail:info@imamhussain-lib.com
السيد محمد السيد حسين الحكيم
ص: 334
وقد ورد في رواية أن حكيمة عمة الإمام العسكري عليه السلام ذكرت أن اسم أم الإمام هو نرجس(1) وذهب بعض المحققين إلى أنه قد يكون اسمها نرجس، وأما سائر الأسماء ما خلا صقيل(2) فقد أطلقتها عليها حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام. إذ كان العرف السائد في ذلك الزمان هو إطلاق أسماء متعددة على الجواري ترحيباً بهن، وقد ورد عن الشيخ الصدوق رواية تعضد هذا الاحتمال حيث روى بسنده عن غياث بن أسيد قال : ولد الخلف المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يوم الجمعة وأمه ريحانة ويقال لها: نرجس ويقال: صقيل، ويقال: سوسن، إلا أنه قيل لسبب الحمل صقيل(3) إنما سميت صيقلاً أو صقيلاً لما اعتراها من النور والجلاء بسبب الحمل المنور.
والصقيل: بمعنى الجلاء وحسب ما أفاده السيد محمد الصدر فإن اسرة الإمام عليه السلام لما شاهدوا آثار الحمل لا تظهر على هذه الجارية، اختاروا اسم صقيل لها
ص: 336
إلى جانب أسماء الازهار كنرجس وسوسن وريحانة(1).
وورد في رواية أخرى أنّه بسبب الحمل قيل صقيل(2)، قال المحقق المجلسي إنما سميت صيقلاً أو صقيلاً لما اعتراها من النور والجلاء بسبب الحمل المنور يقال : صقل السيف وغيره أي جلاه فهو صقيل...(3).
ومهما كان الاسم فإن نرجس كانت ذات رفعة وعظمة لأنّها أصبحت أماً لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهي بنت يشوعا الذي ينتهي نسبه إلى قيصر ملك الروم، وأمها ينتهي نسبها إلى شمعون أحد حواريي المسيح عليه السلام وكانت حكيمة وهي أخت الإمام الهادي عليه السلام تخاطبها بقولها: (ياسيدتي وسيدة أهلي)(4)، وتعد حكيمة نفسها خادمة لها بقولها: (بل أخدمك على بصري)(5)، وقد اعتبرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم(6) وأمير المؤمنين عليه السلام(7)،
ص: 337
والصادقون عليهما السلام(1) إنّها خيرة الإماء وأفضلهن.
شاهدت السيدة نرجس في الروم أحلاماً عجيبة ففي إحدى المرات رأت في المنام نبي الإسلام الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والسيد المسيح عيسى عليه السلام وقد زوجاها من الإمام الحسن العسكري عليه السلام وفي حلم آخر شاهدت أمراً غريباً آخر وهو قد أسلمت بدعوة كريمة من فاطمة الزهراء عليه السلام لكنها كتمت إسلامها عن أسرتها ومن يحيط بها حتى نشبت المعارك بين المسلمين والروم وقاد قيصر الروم الجيش بنفسه إلى جبهات القتال، ورأت نرجس في النوم من يأمرها أن تتخفى مع سائر إمائها وخدمها وتسير مع فئة المقاتلين التي تتحرك نحو الحدود ونفذت ما رأته بدقة ولما وصلوا إلى الحدود أسروا جميعاً من بعض طلائع المسلمين ومن دون أن يعرف المسلمون أن فيهم من أعضاء أسرة قيصر الروم فقد حمل المسلمون الأسرى
ص: 338
إلى بغداد وقد جرت هذه الحادثة في آواخر مرحلة إمامة الإمام العاشر الهادي عليه السلام عندما أمر المتوكل العباسي في عام 235 هجري بحمل الإمام الهادي عليه السلام من المدينة إلى سامراء وقد كانت ولادة الإمام العسكري في المدينة الطيبة عام 232 وفي هذه الفترات كانت حروب قائمة بين الجيش الإسلامي والروم الشرقية أو بيزنطية (وهي تركيا الحالية) والروم القريبة (إيطاليا) ومستعمراتها وخاصة في الأعوام : 240، 244 ، 247 ، 248 ، 249 ، 253 ، فقد حدثت حروب بين القوى الإسلامية والروم الشرقية خلالها تم تبادل الأسرى بين الطرفين(1).
فقد حدثت حرب بين المسلمين والروم عام 247 هجري وخلالها ظفر المسلمون بغنائم كثيرة وفي عام 248 هجري حارب (بلكاجور) قائد المسلمين الروم ونتيجة لهذه الحرب وقع كثير من أشراف الروم في أسر المسلمين(2)، ويقول ابن أثير في حوادث عام 249 وقعت حرب بين المسلمين بقيادة عمر بن عبدالله الأقطع وجعفر بن علي الصائقة وبين الروم وقد اشترك القيصر نفسه في هذه الحرب. فإذا كانت والدة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف قد اندست بين أشراف
ص: 339
الروم وتم أسرها فإن ذلك يصادف العام الثالث عشر من مجيء الإمام الهادي عليه السلام إلى سامراء، وكان للإمام العسكري عليه السلام حينذاك ستة عشر عاماً.. وجاء مبعوث من الإمام الهادي عليه السلام يحمل رسالة منه مكتوبة باللغة الرومية وسلمها إلى (نرجس) في بغداد واشتراها من بائع الإماء وجاء بها إلى الإمام الهادي عليه السلام في سامراء وعندئذ قام الإمام بتذكيرها بتلك الأحلام التي كانت قد رأتها من قبل وبشرها بأنّها ستصبح زوجة للإمام الحادي عشر وأما لولد سوف يسيطر على كل العالم ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً، ثم إن الإمام الهادي عليه السلام أسند شؤون (نرجس) الى أخته الجليلة (حكيمة) لتعلمها الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية وهكذا وبعد مدة من الزمن أصبحت نرجس زوجة للإمام الحسن العسكري عليه السلام(1).
ومَن يقرأ قصة السيدة نرجس في بدايتها وما تسرد فيها من أحلام يمكن أن يراوده الشك لكن بعد تذكير الإمام الهادي بأحلامها فهي دليل على صحة تلك الأحلام التي تحققت فيما بعد أن بشرها الإمام عليه السلام بتزويجها من الإمام الحسن العسكري وتحققت
ص: 340
البشرى وتم الزواج المبارك وأنجبت الولد الميمون الذي سيكون قائداً العالم ليملأ الأرض قسطا وعدلاً.
هذا كله ناهيك عن ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين والصادقين عليهم السلام: (إنها خيرة الإماء وأفضلها)، وبما أنّها بنت ملوك، فالأسباب الأخرى لصيرورة المرأة أمة مدفوعة، فيكون الرأي القائل بأنّها واقعة بالأسر أقرب، ويؤيده ابن أثير في الحروب التي وقعت بين المسلمين والروم، كما ينقلها نازيليق في كتابه العرب والروم.
وقد استجاب الله تعالى دعاء حكيمة فكان من عادتها أنها كلما زارت الإمام العسكري عليه السلام كانت تدعو الله أن يرزقه ولداً وهي تقول: دخلت فقلت له كما أقول ودعوت كما أدعو، فقال: يا عمه أما أن الذي تدعين الله أن يرزقنيه يولد في هذه الليلة(1).
إن هؤلاء أهل بيت زقوا العلم زقاً فعلمهم من علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فهذه شهادة منه على ولادة الإمام الحجة المنتظر وفي شهادة السيدة الحكيمة (باعتبارها القابلة المأذونة بمصطلح اليوم) كفاية في ذلك(2).
ص: 341
ص: 342
ولادته - غيبته - سفراؤه - علامات الظهور - أصحابه - كيف ينتصر - مدة حكمه - سكناه - زواجه - أولاده - ما بعد المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
السيد عباس علي الموسوي
وان الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم)
ص: 343
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
الطبعة الأولى
143ه_ - 2012م
وار الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم): طباعة - نشر - توزيع
حارة حريك - شارع القسيس - خلف البلدية - ص.ب.: 11/8601 بيروت - لبنان هاتف: 03/814294 - تلفاكس: 01/541930 - E-mail: daralrasool@hotmail.com :
ص: 344
لا شك أن أمهات الأنبياء والأئمة (علیهم السّلام) في أرقى درجات الإيمان والتقوى؛ لأنهنَّ أوعية لأطهر الناس وأكثرهم قرباً من الله. فإن العقول السليمة تأبي قبول الطيب والطاهر في وعاء نجس يحمل الرجز لأن ذلك له أثر على الطيب نفسه، وهذا ما اعترف به العلم الحديث، فضلا عن الدين الذي يحكم بسراية النجاسة وانتقالها من شيء إلى آخر بالملامسة والاتصال..
من هنا نعرف، على وجه اليقين، أن أم الإمام المهدي كانت في غاية الطهر والإيمان وإن كانت أمَةً إشتراها الإمام الهادي وأعتقها وزوجها لولده الإمام العسكري فأنجبت له الإمام المهدي المنتظر....
لأمّ الإمام المهدي أسماء أهمها «نرجس» وهو الأكثر شهرة و«صقيل» و «سوسن» و «مليكة» و «ريحانة»، وهذا التعدد للأسماء جاء مقصوداً وهادفا من أجل أن لا تنكشف أم المهدي وتتعين بشخصها مما يجعلها هدفاً للسلطة، أو تشكّل المعرفة بها خطراً على المهدي نفسه. وهذا المعنى يمكن إدراكه والوقوف عليه من خلال ما جرى بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، وكيف تولّت السلطة تفتيش بيته بدقة وبحثت عن أولاده ومَنْ يكون الخلف له والوارث لتركته، حتى أبقت تحت الرقابة وفي الإقامة القسرية نساءه كي تتيقن بأنهنّ لسن حوامل ولا أولاد لهن...
كان لأمّ الإمام المهدي نسب يتصل بوصي المسيح - شمعون - وكانت على جانب عظيم من العقل والطهر والعفة والاستقامة، فإنها أسلمت وتعلمت الفرائض والسنن ثم تزوجها الإمام العسكري وأنجبت الإمام المهدي الذي يملأ الدنيا قسطا وعدلا بعدما تملا ظلما وجورا...
ص: 345
ص: 346
الإِمَامُ المَهْدِي عَلَيْهِ السَّلام مِنَ الغَيْبَةِ حَتى الظهور
تأليف السيد محمد عَلَى الحِلو
اصدار
قسم الشؤون الفكرية والثقافية
في العتبة الحسينية المقدسية
ص: 347
جميع الحقوق محفوظة
للعتبة الحسينية المقدسة
الطبعة الأولى
1432 ه_ - 2011م
الأمانة العامة
المقدسة
العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة
قسم الشؤون الفكرية والثقافية - هاتف : 326499
Web: www.imamhussain-lib.com
E-mail: info@imamhussain-lib.com
ص: 348
ولا نغفل موقف السيدة العظيمة أم الإمام المهدي عليه السلام في خضم الأحداث خصوصاً في البداية الحرجة للغيبة الصغرى، فهي مع حرصها البالغ وحذرها الشديد على ولدها الإمام المهدي فقد قدمت مثالا في الصبر والصمود وكتمان السر
ص: 349
على وجوده الشريف بالرغم من تعرضها من مضايقات النظام ووضعها تحت الإقامة الجبرية مع نساء المعتمد ونساء الموقف ونساء القاضي ابن أبي شوارب بعد أن ادعت أنّ بما حملا تمويها على ولادة الإمام المهدي عليه السلام، وتلقى النظام هذه الدعوة بالقبول والتدقيق لتبعد السيدة نرجس عيون رقابة النظام عن ولدها المهدي وقد تحملت محنة النظام بكل صبر وجلادة ولم تبح بسر الولادة، ولعل ذلك من خصائص السيدة النرجس لتصطفى إلى تلك المهمة الإلهية كما اصطفى سبحانه السيدة مريم من أجل الحفاظ على مولودها عيسى عليه السلام، إلا أن الأحداث السياسية الهائجة في البلاد اشغلت النظام عن مراقبة السيدة نرجس فقد سنحت فرصة الأحداث الساخنة ان تخرج السيدة النرجس من بين أيدي النظام وقادة العباسيين مشغولون بالتصدي الحركة الزنج التي هددت كيان الدولة العباسية سنة 258 فضلاً عن حركة يعقوب بن الليث الصفار الذي اقترب من العاصمة العباسية، كما أن موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير العباسيين بصورة مفاجئة سنة 256 وموت ابن أبي الشوارب الذي كانت نساءه موكلات بمراقبة السيدة نرجس حيث توفي سنة 261 فأربك النظام وزعزع من امكانية سيطرته على كل اطراف الدولة، فكانت هذه الأحداث سببا في امكانية خروج الاقامة الجبرية المفروض دون علم الدولة بذلك، وهكذا خاضت السيدة نرجس من السيدة نرجس شوطا اخر من الجهاد والصمود حفاظا على ولدها الموعود.
ص: 350
محمد باقر الأميني
دار النبلاء
ص: 351
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1425ه_ - 2004م
دار النبلاء بيروت - لبنان
حارة حريك - ص 11/8601 - هاتف: 03/814294 خليوي
ص: 352
مضت أيام على ولادة ابن «ريحانة»(1) الوحيد، وكانت الزوجة الوفية للإمام الهمام والأم الحنونة للإمام المهدي (علیه السّلام)، تقضي أوقاتاً سعيداً في كنف زوجها وابنها وتستفيد من معنويتهما. ولكن من جهة أخرى اشتعلت الفتن والضغوط والإيذاءات والسجون المكررة والتهديدات على الإمام العسكري (علیه السّلام) حيث سلب منه الراحة ومن أهل بيته (علیهم السّلام). وهذا طبيعي لمحبي الإله ان يذوقوا المشقات دائمة والراحة والتنعيم ليست طريقة العشاق. وفي أحد الأيام
ص: 353
حدث الإمام زوجته الوفية بما سيحدث لها من مصائب ومشاكل وغيبة ابنها المهدي والضغوط التي سوف يحمله عليهم وعلى شيعتهم الخلفاء وكذلك أخبرها عن شهادته قريباً. ولكن «ريحانة» لم تتحمل ما سمعته من زوجها عن شهادته وغيبة ابنه ، فهي لم تكن ضعيفة امام المصائب التي أعملها بني العباس ولكن تحمل المصائب في جنب الإمام العسكري كان سهلاً ولكن ماذا بعد شهادته؟؟ فتمنت الموت والراحة من قفص الدنيا ومصائبها. فما قيمة الروح والحياة وما يغني حبها للحياة بعد فقد الحبيب؟
فاخبرت زوجها عن امنيتها وطلبت منه أن يدعو الله ليعجل وفاتها وقد نقل ذلك أحد أقرباء الإمام قائلاً:
«... أن أبا محمد حدثها (صيقل)(1) بما يجري على عياله، فسألته أن يدعو الله عز وجل لها يعجل منيتها قبله ، فماتت في حياة أبي محمد (علیه السّلام)(2) ولكن توجد اقوال أخرى )2 حول تاريخ وفاة هذه السيدة الجليلة وسوف نشير الى بعض منها:
1 - كانت نرجس على قيد الحياة حين وفاة الإمام
ص: 354
العسكري (260ه_) وقد حضرت فوق رأسه حين احتضاره.
عن أبي سهل قال:
«.... تشرفت بزيارة الإمام العسكري (علیه السّلام) وهو مريض بمرضه الذي انتهى إلى وفاته فقال لخادمه عقيد(1): أثتني بماءٍ لكي أغلى المصطكي(2)، فأتت صقيل أم الإمام الحجة بذلك الماء وخدمت الإمام (علیه السّلام)»(3).
2 - قبض على نرجس بعد وفاة الإمام وزجّ بها في السجن، يقول أبو الأديان: أرسل المعتمد العباسي جواسيسه للقبض على صيقل (جارية الإمام العسكري (علیه السّلام)) لتريهم الطفل، ولكنها انكرت وجوده وقالت أنها حامل لتصرفهم عن ما اعتقدوه. فحملت إلى دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت،
ص: 355
ويراعون إلى أن أدهمهم أمر الصغار وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتةً او خروجهم من سر من رأى وأمر صاحب الزنج(1) بالبصرة وغير ذلك فشغلهم ذلك عنها(2).
3 - القول الآخر في وفاة نرجس هو أنها توفيت في فترة حكم المقتدر العباسي (295 الی 317 ق).
ذكر الذهبي عن ابن حزام:
«حبس المعتضد العباسي (279 - 287 ق) صيقلاً بعد وفاة زوجها في القصر وجعلها تحت مراقبته إلى ان توفيت في عهد خلافة المقتدر العباسي»(3) ولكن بما أن كلام ابن حزام يخلو من الدليل والإعتبار فنحن نرد هذا القول والأرجح في تاريخ وفاة نرجس هو ما جاء من القول الصريح في من وفاة نرجس قبل شهادة الإمام العسكري (علیه السّلام)(4) لأنها إذا
ص: 356
كانت على قيد الحياة حين وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) (260ه_) لجأ ذكرها فى خبر هجرة أم الإمام العسكري (علیه السّلام) إلى مكة في عام (259) وأخذها الإمام المهدي (علیه السّلام) معها(1) أو حضورها في ذلك الوقت معهما.
وأخيراً، أنطفأت شمعة حياة نرجس ريحانة آل شمعون والمهاجرة من قصر قيصر إلى حجرة الإمام العسكري (علیه السّلام) حيث فضلت الحياة المعنوية الزاهرة بذكر الله ومرافقه أولياءه على زخارف القصر وترف القيصر، وزادتها فخراً على مفاخرها النسبيه أن تكون زوجة للإمام العسكري و أماً للإمام المنتظر. دفنت ريحانة آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) عند قبر
ص: 357
الإمام الهادي (علیه السّلام) في سامراء وقد قال أحد خدام الإمام العسكري واصحابه:
«يوجد على قبرها لوح مكتوب عليه: هذا قبر أم محمد (علیهم السّلام)(1)دفن في هذا المكان الشريف في عام 260 ق جثمان الإمام العسكري (علیه السّلام) الطاهر ودفنت بعده السيدة حكيمة عمة الإمام(2).
أصبحت هذه البقعة الطاهرة على مر التاريخ مأمناً وملجأ لمحبين أهل البيت وأصحابهم ومنتظري الإمام الحجة (علیه السّلام). رزقنا الله وإياكم زيارة تلك التربة الطاهرة .
ص: 358
نرجس آل محمد
أم الإمام المهدى
عجل الله فرجه الشريف
خادمة المنبر الحسيني الحاجة : فاطمة على الجعفر
ص: 359
حقوق الطبع محفوظة
دولة الكويت
الطبعة الأولى
1430 ه_ - 2009م -
ص: 360
* اسمها ونسبها: نرجس ابنة يشوعاً بن قيصر ، إمبراطور الروم، وتنتمي من جهة الأم إلى شمعون، وصي السيد المسيح (علیه السّلام).
* ولادتها : وُلدت في عاصمة الإمبراطورية الرومية، وذلك قبل عام (240ه_).
* أخبارها: هاجرت متنكرة مع عدد من وصائفها من مسقط رأسها، وتعرضت للأسر حتى وفدت إلى دار الإمام الهادي (علیه السّلام) في سامراء في العراق.
تكفلت بتربيتها السيدة حكيمة (رضوان الله عليها) ابنة الإمام الجواد (علیه السّلام).
ثم تزوجت من الإمام العسكري (علیه السّلام) وهي في مقتبل العمر وربيع الشباب.
ولدت من الإمام العسكري (علیه السّلام) الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) في ظروف شديدة السرية.
وقد ألقي القبض عليها، فوضعت تحت الرقابة الصارمة لفترات طويلة خوفاً من أن تلد الإمام المنتظر (علیه السّلام) ظنا منهم أنها لم تلده بعد
ص: 361
وقد ولدته (علیه السّلام) في سَحَر (15) شعبان، وذلك عام (255ه_).
* أسماؤها : تنوعت أسماؤها وتعددت نظراً للظرف السياسي والأمني الدقيق الذي كانت تعيشه آنذاك، فكان من أسمائها : نرجس، مريم، حكيمة، صقيل، سبيكة، سوسن، حديثة، ريحانه، خمط، لكن اسمها الحقيقي هو: مليكة.
* صفاتها: تميزت نرجس بصفات متعددة، منها : الشجاعة، والحكمة، والصمود، والكتمان، والمثالية.
*وفاتها : توفيت نرجس (رضوان الله عليها) بعد وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام)، ولم يُحدِّد لنا التاريخ الزمن الدقيق لوفاتها (رضوان الله عليها).
مع العلم أن الإمام العسكري (علیه السّلام) قد توفي مقتولا بالسم في سنة (260ه_).
* معنى كلمة (نرجس) : هي زهرة من الفصيلة النرجسية المؤنثة تزرع لجمال زهرها وطيب رائحتها وهي نوع من أنواع الرياحين المعروفة وأوراقها تشبه ورق الكراث إلا إنها أرق وأصغر وله ساق رقيق ليس عليها ورق طولها أكثر من الشبر تقريباً وعليها أتواج بيضاء مستديرة الشكل شبيهة بالكؤوس، علما إن كلمة (نرجس) العربية هي مستعرب زهر (نركش) بالفارسية والواحدة نرجسة.
ص: 362
جاء في شهادة السيدة حكيمة بولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) غيبت عني نرجس فلم أرها كأنه ضرب بيني وبينها حجاب (وفي رواية: ثم أخذتني فترة، وأخذتها فترة).
كلمة فترة التي ذكرتها السيدة حكيمة أو كلمة "السبات" وأمثالها فهي تشير إلى حالة نفيسة تَعرُض نادراً لبعض الأفراد في حالات خاصة ولحظات محدودة وهي حالة تشبه فقدان الوعي سريعة وفي مدة قصيرة تتعطل خلالها المشاعر ويتصور الإنسان أنه على وشك الإغماء فيحاول أن يتغلب على تلك الحالة ويحافظ على مشاعره كالإنسان الذي يغلب عليه النوم وهو يحاول أن لا ينام
وهذه الحالة يعجز القلم عن وصفها تعتري الإنسان في حالة التوجه القوي إلى الله تعالى أو في حالة الاتصال بعالم الأرواح او الروحانيات
ص: 363
وإنما يفهم هذا الكلام أهل المعنى الروحانيين الذين تكثر اتصالاتهم بعوالم ما وراء الطبيعة.
استولت حالة "الفترة" أو "السبات" على السيدة حكيمة في اللحظات والثواني التي سبقت ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام)وانفصاله عن بطن أمه وشعرت السيدة نرجس بنفس الحالة في نفس تلك اللحظات.
ومن الواضح أن لحظة ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) وانتقاله إلى هذا العالم لحظة رهيبة تتجلى فيه القدسية والنورانية والروحانية ويغشى النور الباهر القوي السيدة نرجس بحيث لا يمكن رؤيتها في تلك اللحظة.
تقول السيدة حكيمة فلم ألبث أن كشف الحجاب الذي بيني وبينها وإذا عليها من النور ما غشى بصري كانت السيدة نرجس (عليها السلام) مغمورة بنور لا يشبه نور الدنيا ولم تستطع أن تراها السيدة حكيمة لهذا السبب ومن الطبيعي أن هذه الحالة تورث في الإنسان الذعر والذهول والدهشة فلا عجب إذا خرجت السيدة حكيمة وهي صارخة من جراء حالتها النفسية المريعة ولفقدان السيدة نرجس (عليها السلام).
ص: 364
الطموح هو إمتلاك الحافز لبلوغ القوَّة.
ينبغي على العاقل اللبيب ألا يقنع بما عليه حاله، بل يتطلع إلى معالي الأمور ويعمل على تغيير حاله إلى ما هو أرقى وأسمى وأنفع وهذا ما يسمى ب_(الطموح)
يُستعمل الطموح أحياناً للوصول إلى مثالية شخص يعتبر كقدوة و في أحيان أخرى يتطوّر إلى علاقة وثيقة التطرّفية في تاريخ البشر العديد من الأمثلة لأناس كانوا طموحين جداً للأفضل
فهناك بعض الأشخاص أو الأفراد من بدايات حياتهم يبدو عليهم النبوغ ونوع من القدرات الخاصة فالسيدة حكيمة (عليها السلام) كانت تتوسم في السيدة نرجس إنها أمرأة غير عادية، وإنها مؤهلة أن تكون أماً لهذا الإمام الذي يخلص الأرض وأهلها من الجور بالرغم من أنها كانت جارية لكنها كانت تخاطبها بهذا التعبير «إنا فداك وجميع العالمين»
ص: 365
واحيانا تقول لها (أنت سيدتي وسيدة أهلي أو سيدتي ومولاتي).
وبحق فالسيدة نرجس (عليها السلام) أمرأة جليلة القدر ومتميزة بمكانتها العاليه عند الله عز وجل فهي صديقة طاهرة تقية نقيه رضية مرضية وقد ورد في زيارتها ما يدل على علو شأنها ..«السلام عليك أيتها المنعوتة في الإنجيل، المخطوبة من روح الله الأمين، ومن رغب في وصلتها محمد سيد المرسلين، والمستودعة أسرار ربّ العالمين».
* طموح السيدة نرجس العمل (عليها السلام):
كان للسيدة نرجس (عليها السلام) طموحا جادا في الوصول الى حقيقة ما رأته فى منامها مدركة بأنه لم يكن مجرد خيال إنما هو بلوغ المقامات العالية بالتقرب إلى أهل بيت العصمة والرسالة (قرب الانوار محمد وآله الأطهار (صلی الله علیه و آله و سلم)) فقد كانت رؤياها الأولى هي مشاهدة لمبدأ الأنوار وأعظمها وهو رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد رأته يطلب وصالها فكيف لا تطمح أن تصل وتصل لذلك استمرت (عليها السلام) على حالة من الشوق واللهفة والترقب للوصول الى
ص: 366
حقيقة ذلك النور الى أن وصلت الى بيوتهم التي لا يدخلها الا من نال الاذن منهم بلى فقد وصلت ودخلت وصارت أما لمهديهم أقول يا سيدتى يا نرجس هنيأ لك طموحك وهنياً لك بلوغك مناك فأنت قدوة لنا في الطموح في نصرة ولي أمرنا فأعينينا على ذلك بحق ابنك المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف):
فكنت على دربهم تبحثين *** وها انت في فلكهم دائرة
ففي لحج البحر هم ملجا *** سفين نجاة بنا سائرة
للشاعر جعفر الجعفر
ص: 367
الجهاد : قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه.
كانت السيدة نرجس (عليها السلام) جليلة القدر ومتميزة علي بمكانة عالية عند الله عزوجل، فهي إمراة مجاهدة تحملت الكثير الكثير من أجل ولي الله الأعظم وقد ورد في زيارتها ما يدل على جهادها أشهد أنك أحسنت الكفالة، وأديت الأمانة، واجتهدت في مرضات الله، وصبرت في ذات الله، وحفظت سرّ الله وحملت وليّ الله وبالغت في حفظ حجة الله ورغبت في وصلة أبناء رسول الله، عارفة بحقهم، مؤمنة بصدقهم، معترفة بمنزلتهم، مستبصرة بأمرهم، مشفقة عليهم، مؤثرة هواهم.
* جهاد السيدة نرجس (عليها السلام):
لم تصل السيدة نرجس (عليها السلام) الى ما وصلت اليه الا بعد اختبارات وتضحيات عظيمة وكان اختبارها شبيه باختبار الانبياء فنبي الله ابراهيم (علیه السّلام) لم
ص: 368
يصل إلى مقام الإمامة إلا بعد أن رأى أنه يذبح أبنه إسماعيل فامتثل لأمر الجليل وتقبل منه وفداه بذبح عظيم ورفع إبراهيم إلى مقام الإمامة وكذلك جميع الأنبياء في اختباراتهم أما السيدة الجليلة نرجس (عليها السلام) فقد كان اختبارها من نمط آخر فقد كان اختبارها وتضحيتها بترك الجاه والسلطان الدنيوي حتى يتم الوصال مع السلطان الأعظم سلطان الإنس والجان، فجاءها النداء في عالم الرؤيا من الإمام العسكري (علیه السّلام) بأن تخرج بلباس الخدم والجواري فظاهرا كانت هذه وسيله للهروب بان تلبس هذا اللباس ولكن باطن الأمر أنه لا يمكن الوصال الحقيقي مع سلطان الأكوان إلا لمن تجلبب بلباس الذل والخضوع والمسكنة (طأطأ كل شريف لشرفكم وذل كل شيء لكم) الزيارة الجامعة الكبيرة
تركت قياصرة الأولين *** وجئت قياصرة الآخرة
أولئك فخر الاله الذي *** تباهى بهم أدهرا غابرة
فكل الملائك حتى الملوك *** قياصرة دونهم قاصرة
للشاعر جعفر الجعفر
ص: 369
ص: 370
بقول مرزوق رجاء الشريمي (ام عمار)
ص: 371
العشق المهدوي
بتول مرزوق رجاء الشريمي
الرافد للمطبوعات
الاخراج الفني : ضياء الخفاف
الطبعة الأولى
1435 ه_ - 2014م
isbn: 978-600-6593-16-6
ص: 372
هي السيدة نرجس حفيدة قيصر ملك الروم، وأمها ينتهي نسبها إلى شمعون، وهو أحد أوصياء السيد المسيح (علیه السّلام).
ص: 373
ومن أسمائها: نرجس، وسوسن، وحكيمة، وصقيل، وخمط ، وريحانة.
وفي قصة مطولة رأت السيدة نرجس في منامها رؤية عظيمة، وكأن السيد المسيح وشمعون وعدد من الحواريون قد اجتمعوا في قصر جدها شمعون، فدخل عليهم خاتم الأنبياء محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) مع فتية من بنيه، فاعتنقه المسيح ورحب به، فتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لخطبة السيدة نرجس لابنه أبي له محمد العسكري. وعندما أفاقت ت من ذلك الحلم الوردي، دخل في قلبها عشق للنبي وأهل بيته، وخاصة لأبي محمد (علیه السّلام) ولشدة حبها وعشقها امتنعت عن . الطعام والشراب ومرضت مرضا شديدا حتى عجز الأطباء من شفائها، ولم تشف إلا عندما حقق لها والدها ما طلبته من التفريج عن أسرى المسلمين.
وبعد بضع ليال رأت أيضاً في منامها رؤية أخرى بأن سيّدة نساء الأولين والآخرين فاطمة الزهراء عليها السلام قد زارتها في بيتها ومعها مريم ابنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنة، فعندما عرفت أنها السيدة الزهراء عانقتها وشكت لها امتناع أبي محمد من زيارتها، فأوصتها السيدة الزهراء بان تعتنق الدين الإسلامي، فتشهدت الشهادتين ودخلت في الإسلام. وبعد أن أسلمت زارها الإمام العسكري في منامها وأخبرها بما سيجري عليها من حوادث، إلى أن تصل إليه ويجمع الله شملهما، ويُخرج الله منها ولد كريم على الله عز وجل يملأ الأرض قسطاً وعدلا.
لقد كانت هذه الرؤيا للسيدة نرجس رؤيا صادقة، وهي بمثابة المكاشفة والإخبار من عالم ما وراء الطبيعة لهذه السيّدة الجليلة بأنها ستكون وعاء للمعشوق الإلهي بقية الله الأعظم الحجة بن الحسن .
ص: 374
وتحققت الرؤية، وأصبح الحلم حقيقة، حيث أخذت السيدة نرجس أسيرة في حرب وقعت بين المسلمين والروم، وعُرضت للبيع مع باقى الأسيرات من قومها، وكان الإمام الهادي (علیه السّلام) يعلم عن قصة أسرها وأنها ستكون أماً لحفيده المنتظر، لهذا كان ينتظر قدومها إلى داره، فأرسل إليها مولاه بشر النخاس ليبتاعها، فاشتراها بشر وجاء بها إلى مولانا الإمام الهادي، فطلب الإمام من أخته حكيمة أن تعلمها الفرائض وأخبرها بأنها زوجة ابنة الإمام العسكري وأم القائم (علیه السّلام).
عرفت هذه السيدة الزكية بعفتها وطهارتها ورفيع شأنها، وكانت السيدة نرجس تُعامل بكل احترام وإجلال وحفاوة من قبل الإمامين الهادي والعسكري، وأيضا من قبل السيدة حكيمة عليها السلام، حيث قالت لها: «أنت سيدتي وسيدة أهلي». وقد أثنى عليها العديد من الأئمة (علیهم السّلام)، ومنهم الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) عندما خطب بعد حرب النهروان، فتحدث عن الملاحم فذكر خروج الإمام المهدي فقال: (يا بن خيرة الإماء، متى تنتظر؟ أبشر بنصر قريب من رب رحيم)(1).
وكذلك الإمام الصادق (علیه السّلام) حيث قال: (بالقائم علامتان: شامة في رأسه، وشامة بين كتفيه مثل ورقة الآس ابن سبية وابن خيرة الإماء)(2) فالسلام عليها يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تبعث حية.
ص: 375
ص: 376
تأليف
السیده السهیری
تقدیم
العلامة الاية الله جعفر سبحاني
الأميرة
ص: 377
جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى
1438 ه_ - 2007م
لطباعة والتاثير و التوزيع
بيروت - لبنات
خليوي : 03/94616 - 03/115425 - تلفاكس : 01/276408
http://www.Dar-ALamira.com
email:info@dar-alamira.com
ص: 378
إنها نرجس بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم(1)، ولها أسماء كثيرة وهي: مليكة، سوسن، حكيمة مریم، ریحانه، صقيل وو...
وأمها من ولد الحواريين، تُنسب إلى شمعون وصي المسيح (علیه السّلام).
سارت مع جيش أبيها متنكرة في زي الخدم مع عدة من وصائفها ليداوين الجرحى في حرب من الحروب مع المسلمين في جنوبي شرقي أوربا فصادفتهن طلائع جيش المسلمين بعد هزيمة جيش العدو، فأخذن أسيرات وما أحس أحد بأنها بنت قيصر.
وعندما عرضت للبيع مع السبايا غيرت إسمها وقالت: إسمي نرجس لأنه اسم تتسمى به الجواري. وكان والدها قد علّمها لغات مختلفة من جملتها اللغة العربية التي استمر لسانها عليها وألفتها واستقام لها جيداً... وكان ذلك في أيام الإمام الهادي (علیه السّلام)، فكلف أحد أصحابه وهو مولاه الذي يُدعى بشر بن سليمان النخاس بشرائها حين وصلت إليه قصتها وعرف بإبائها أن تباع لمن عرضوا عليها، لأنه كان يعلم أنها مرصودة لولده، فتم ذلك واشتراها صاحبه وأحضرها إليه، فكلف خادمه أن يستدعي له أخته السيدة حكيمة، فجاءت فقال لها: ها هي، فخذيها وعلميها الفرائض فإنها زوجة ابني أبي، محمد وأم القائم (علیه السّلام).
ص: 379
فهل فكر امرؤ بقول الهادي (علیه السّلام). ها هي؟
فمن المؤكد أن الإنسان لا يفكر بهذه السرعة ليعلم المقصود منها هي تدل على أن أُم القائم (علیه السّلام) كانت معروفة في بيت الهادي (علیه السّلام) بذاتها وصفاتها، وكانت منتظره والبيت كله على موعد معها. يعني إنها ليست غريبة على سمع الهادي (علیه السّلام) ولا على سمع أخته وأهل بيته، لأنها ليست كل سبية تباع وتشترى.
نعم إنها لكذلك، يعرفها أهل البيت، ويعرف الإمام العاشر كامل قصتها وظروف وصولها إلى بيته بعهد معهود متوارث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكانت هذه الفتاة الشريفة قد رأت في منامها - وهي في بيت أبيها - أن النبي محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) قد جاء إلى بيتها مع ابنته الزهراء (عليها السلام) وجلس إلى عيسى بن مريم وجلست الزهراء إلى مريم بنت عمران الله ثم خطبها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من المسيح لولده الحسن العسكري (علیه السّلام)، ثم رأت كأن الزهراء (عليها السلام) الأرتها صورة العسكري (علیه السّلام) وعرفتها قدره وعلمتها كيف تصل إليه(1).
فأفاقت من هذا الحلم الذهبي الذي أخذ بمجامع قلبها وأنار طريق حياتها وخلع عليها بهجة وأملاً عظيماً، أفاقت لتتدبر أمر وصولها إلى خاطبها العظيم كما علمتها سيدتها الزهراء (عليها السلام)، وهكذا كان.
ص: 380
وكان أن وصلت إلى بغداد مع السبايا، وعُرض عليها من عُرض فرفضت أن تباع لأحد حتى تلفت رسالة الهادي (علیه السّلام) فعرفت صاحبها(1).
ص: 381
ص: 382
اشكاليات المنهج والخطاب
تأليف
الشيخ نزيه محى الدين
ص: 383
مركز الدراسات التخصصية
في الإمام المهدي (علیه السّلام)
النجف الأشرف _ شارع السور _ قرب جبل الحويش
هاتف: 218318 و 372011، النقال: 07804754535
ص. ب 588
www.m-mahdi com
m-mahdi @m-mahdi. com
الحداثوية والقضية المهدوية
الشيخ نزيه محيي الدین
تقديم
مركز الدراسات التخصصية
في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
الطبعة الأولى: 1429ه_
رقم الإصدار: 100
عدد النسخ: 3000
النجف الأشرف
جميع الحقوق محفوظة للمركز
ص: 384
هذه الحال لا تدع أي مجال للشك، ولكن بعض أصحاب المذاهب والأهواء - الذين لا تعنيهم الحقيقة العلمية، بقدر ما يعنيهم التشكيك - شككوا في ولادة الإمام (علیه السّلام)؛ لأنه كان نائباً عنه يستلم أموال الإمام ويسلمها إليه؟ وكأن هذه الحال تهمة، بدخول المال في القضية وشككوا فيه؛ لأن الإمام العسكري (علیه السّلام) لم يتزوج، ونسوا بأن
ص: 385
المهدي (علیه السّلام) ابن سرية، وليس ابن زوجة! وكأن المشككين جاءوا من جزر الواق واق، فلا يعرفون أن ابن الأمة ابن شرعي، وأن العديد من أئمة الشيعة هم أبناء إماء، مثل الإمام زين العابدين، والكاظم، والجواد (علیهم السّلام)، وشككوا ؛ لأن الإمام نفى أمام محضر الجواسيس وجود ولد له، وكأنهم ينتظرون من الإمام أن يقدم بقية الله الأعظم (علیه السّلام) إلى جلاوزة الشيطان؛ ليقضوا عليه!! ومن الطبيعي والمنطقي - تماماً - أن ينفي الإمام (علیه السّلام) ولده، في مورد الاجتماع العام، وفي وجود الجواسيس، وقد استدلوا على عدم الولادة بعدم ذكر لعبه مع الأطفال في الشارع، وهذا استدلال عجيب صادر عن عقل قاصر، لا يدرك حجم المسألة، وقد كرره من لا يستطيع أن يثبت أي حقيقة تاريخية، بما فيه ولادته من أبيه (علیه السّلام) بموجب معاييره، فهل يستطيعون إثبات لعب الأنبياء مع الصبيان، أو لعب النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أو لعب الأئمة؟ بل هل يستطيعون إثبات روايات لعب معاوية، وعبد الملك بن مروان، وأبي حنيفة والشافعي في الشوارع مع الصبيان؟ على أن حال الإمام المهدي (علیه السّلام)مختلف تماماً، لما وكل به من أمر السماء، وللشأن الذي هو عليه، ناهيك عن ضرورة إخفاءه هذه الضرورة التاريخية التي أرادها الله - تعالى - قبل أن يطبقها الإمام العسكري على ولده المبارك.
كما استدلوا على عدم ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) باختلاف أسماء اُمّه، فهي ذات عدة أسماء، وعليه فالإمام المهدي (علیه السّلام) غير مولود!! وقد نسي هؤلاء السطحيون أن السبية تأخذ اسماً جديداً عند كل نخاس، وعند كل مالك. وهي كبقية السبي لها اسمها الذي سماها به أبواها،
ص: 386
وأسمائها التي سماها بها النخاسون، واسمها الذي سماها به الإمام العسكري (علیه السّلام)، فما المشكلة في تعدد أسماء أمةٍ تباع في الأسواق كبقية الإماء؟
ص: 387
ص: 388
أو نمائح الهدية والدين الله من كان مسلماً ومار بابيا .
الشيخ محمد جواد البلاغي تصحيح: واعداد السيد محمد علي الحكيم
دار المحجة البيضاء
ص: 389
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
2003م - 1424ه_
حارة حريك - شارع الشيخ راغب حرب - قرب نادي السلطان
ص.ب: 5479 / 14 - هاتف: 03/287179 - تلفاكس : 01/552847
E-mail:almahajja@terra.net.lb
ص: 390
ص: 391
ما تقدّم متعدّداً في الأحاديث المتقدّمة من أن القائم المهدي صلوات الله عليه هو ابن أمة وابن سيّدة الإماء ، كما في الحديث 5 و 23 و 24 و 27 و 47 و 57 و 72 و 73 و 85 و 91 و 94 و 97 ، وكما ذكر ابن أبي الحديد أنه وردت به آثار كثيرة(1)، وبه قال أصحابنا.
وتذكر هنا زيادة على تلك الأحاديث أحاديث أخر تقوم بها الحجّة البالغة :
111 - فقد أسند النعماني في كتاب «الغيبة»، عن الباقر (علیه السّلام) أو الصادق (علیه السّلام)- والشك من أحد الرواة - لقوله (علیه السّلام)أحد الرواة - قوله (علیه السّلام) في صفة المهدي أنه «ابن سبية ، وأبن خيرة الإماء»(2).
يعني أنّها أمة مجلوبة بالسبي ، وهي خيرة الإماء .
ص: 392
112 - وأسند أيضاً عن الصادق (علیه السّلام) في خطبة خطبها وذكر فيها القائم المهديّ ، فقال في آخر صفته : «ابن سبية ، ابن خيرة الإماء»(1).
113 - وأسند أيضاً أنه قيل للباقر (علیه السّلام)- في قول أمير المؤمنين (علیه السّلام): بأبي ابن خيرة الإماء - : أهي فاطمة ؟
فقال (علیه السّلام): إن فاطمة (عليها السلام) هي خيرة الحرائر(2).
114 - وأسند أيضاً أنه قيل للصادق (علیه السّلام): إنّ عمّك زيداً خرج يزعم أنه ابن سبيّة ، وأنّه قائم هذه الأمة ، وأنه ابن خيرة الإماء ؟!
فقال (علیه السّلام): ليس كما قال ، إن خرج خارج قتل قبل قائم هذه الأمة ، وإنّه - يعني القائم (علیه السّلام)- ابن خيرة الإماء(3) .
* بيان : وهذا الحديث يدل على إن المعلوم عند الناس - من بيان أولى العصمة - في صفات المهدي القائم كونه ابن سبية.
115 - ويدل عليه أيضاً ما أسنده النعماني عن أبي حازم، أنّ الصادق (علیه السّلام) قال له في شأن القائم المهديّ : أَولم تعلموا أنه ابن سبية ؟ !(4).
116 - وأسند أيضاً عن الحارث الهمداني ، أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال
ص: 393
في ذكر المهدي : بأبي ابن خيرة الإماء(1).
117 - وأسند الشيخ الطوسي في كتاب «الغيبة» أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) ذكر لعمر صفات القائم المهدي ثمّ قال : بأبي ابن خيرة الإماء(2).
فهذه الأحاديث - مع ما تقدّم - تسعة عشر حديثاً ، تدل على إن المهدي (علیه السّلام) ابن أمة سبيّة هي سيّدة الإماء وخيرتهنّ .
إذا عرفت هذا فكيف إذاً يكون (علي محمد) هو المهدي المنتظر القائم من آل محمّد ؟! مع أن أُمّه العلوية خديجة ، أخت الميرزا علي التاجر ، من عائلة من السادات معروفة !!
وكيف تُقبل دعواه أنّه القائم المهدي المنتظر الموعود به من آل محمد ؟!
ولعلّك تقول : إن هذه الأحاديث والأحاديث المتقدمة - في بيان المانع الثاني - أخبار آحاد لم تبلغ التواتر .
فنقول : إن القدر المشترك بين هذه الأحاديث متواتر ، وهو أن المهديّ هو ابن الحسن العسكري، وأُمّه أمة سبيّة ، ولو لم يكن من المتواتر لكان من المتضافر المستفيض الذي يفيد القطع ، إذ قد روته الأئمة.
العلماء الأثبات من الشيعة والسنة ممّن قربت عصورهم من عصور وكيف تحيد عما تواترت وتضافرت به الأحاديث الصحاح والمعتبرة ؟! والحال أن مقتداك (الباب) قد تشبّث وأعتمد في دعواه ودعوته على حديث مرسل تفرد بروايته العياشي عن الباقر (علیه السّلام)، وهو
ص: 394
حديث أبي لبيد المخزومي ، وأستقر عند قوله : ﴿المَر﴾(1).
أنظر إلى ما ذكره في «البيان» بعد قوله : »فاعلم بأن ما نزل في القرآن كله قد نزل في البسملة» ودع عنك الغلط في حسابه ، والخبط والإدماج في تلفيقه !
ص: 395
ص: 396
في خطب الإمام علي ورسائله وأحاديثه
الشيخ مهدي حمد الفتلاوي
دار الهادي
ص: 397
الطبعة الأولى
جميع حقوق الطبع والنشر والترجمة محفوظة للمؤلف
2001م - 1421ه_
إصدارات
مركز وارث الأنبياء
للتوثيق والدراسات الإسلامية
ت : 687024 / 03
ص.ب 14 / 24
لبنان - بيروت
الإصدار . رقم 7
دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
هاتف: 21/550487 - 03/896329 - فاكس: 541119 25/286 غبيري - بيروت - لبنان
Tel:03/896329-01/550487 - Fax: 541199-P. O. Box: 295/25 Ghobeiry-Beirut-Lebanon E-Mail: daralhadi daralhadi.com URL: http://www.daralhadi.com
ص: 398
25 - عن كتاب صفين للمدائني قال خطب علي (علیه السّلام) بعد انقضاء أمر النّهروان فذكر طرفا من الملاحم وقال : (ذَلِكَ أمرُ اللهِ وَهُوَ كَائِنٌ وَقتاً مريحاً ، فَيا ابنَ خَيرَةِ الإماءِ مَتَى تَنتَظِرُ أَبْشِر بِنصِرٍ قَرِيبٍ مِن رَبِّ رَحيم فَبِأَبِي وأُمِّي مِن عِدَّةٍ قليلةٍ أسمَاؤُهُم فِي الأرض مجهولةٌ قَد دَانَ حِينَئِذٍ ظُهُورُهُم، يَا عَجَباً كُلَّ العَجَبِ بينَ جَمادَي وَرَجَب، مِن جمع شتاتٍ وَحصدِ نَباتٍ وَمِن أصواتٍ بَعدَ أصوَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: سَبَقَ القَضَاءُ سَبَقَ)(1).
قال رجل من أهل البصرة لرجل من أهل الكوفة في جنبه: أشهد أنه كاذب، قال الكوفي: والله ما نزل علي من المنبر حتى فُلِجَ الرجل فمات من ليلته.
26 - عن الحكم بن عبد الرحيم القصير قال: قلت لأبي جعفر (علیه السّلام) قول أمير المؤمنين (علیه السّلام): (بأبي ابنُ خِيرَةِ الإماء أهِيَ فَاطِمَةُ ؟ قال : إِنَّ فَاطِمَةَ عليها السلامُ خِيرَةُ الحَرائِرِ قال: [ذاك] المُبدِحُ بَطنُهُ المُشرَبُ حُمَرةٌ رَحِمَ الله فُلاناً)(2).
27 - عن إسماعيل بن منصور الزبالي قال : سمعت شيخاً - باذرعات - قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال : سمعت علياً (علیه السّلام) يقول على منبر الكوفة: (كأني بابن حميدة قد ملأهَا عَدلاً وقسطاً كما مُلِئَت ظُلماً وجَورَاً، فقام إليه رجلٌ فقال : أهو مِنكَ أو من غيرك ؟ فقال : لا بل هُو رَجُلٌ مِنّي)(3).
ص: 399
ص: 400
المصلح الأعظم
تأليف
باقر شریف القرشي
تَحَقِيقَ
مهدي باقر القرشي
ص: 401
الأمام المنتظر
المُصلِح الأعظم
باقر شریف القرشي
الناشر: مجمع الذخائر الاسلامية
المطبعة: شريعت
الطبعة الأولى: 1427 ه_ ق / 1385 ه_ ش
عدد النسخ: 2000 نسخة
شابك
ISBN 964 - 8589-89-5 5 - 89 - 8589 - 964
حقوق الطبع محفوظة للمؤلّف
ص: 402
أُمّ الإمام المنتظر (علیه السّلام) فيرجع نسبها إلى أعظم شخصية في الروم - حسبما صرّح
ص: 403
به بعض الرواة - فهي بنت (يشوع) الذي ينتهي نسبه إلى قيصر ملك الروم ، كما أنّ أُمِّها ينتهي نسبها إلى (شمعون) الذي هو أحد أوصياء السيد المسيح ومن حواریه(1).
وكانت هذه السيدة الزكية من سيّدات نساء المسلمين في عنّتها وإيمانها وطهارتها ، ويكفيها سموّاً وفخراً أنها كانت وعاءً لأعظم مصلح اجتماعي في التاريخ بعد أجداده العظام.
وكانت تُقابل في بيت زوجها الإمام الحسن (علیه السّلام) بمنتهى الحفاوة والتكريم ؛ وذلك لما تتمتع به من سموّ الذات، ومحاسن الصفات ، كما كانت السيدة الجليلة عمة الإمام تجلّها وتعظَّمها ، فقد أحاطها الإمام علماً بأنّ الإمام المنتظر سيكون منها(2).
5 - خمط(1).
وإنما سمّيت بهذا الاسم لأنها قد اعتراها النور والجلاء بسبب حملها بالإمام المهدي (علیه السّلام)(2)
وأثرت عن أئمة الهدى (علیهم السّلام) كوكبة من الأحاديث في الثناء على هذه السيدة الزكية والإشادة بها ، ومن بينها هذه الأخبار:
1 - خطب الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بعد انتهائه من حرب الخوارج في (النهروان) ، وقد أدلى في خطابه ببعض الملاحم ، وعرض (علیه السّلام) موضوع خروج المهدي (علیه السّلام)، وقد أثنى على السيّدة الكريمة أُمه ، قال :
«يابْنَ خِيْرَةِ الْإِمَاءِ ، مَتَى تُنْتَظَرُ ؟ أَبْشِرْ بِنَصْرِ قَرِيبٍ مِنْ رَبِّ رَحِيمٍ»(3).
2 - روى أبو بصير ، قال : «قلت لأبي عبد الله : يابن رسول الله ، من القائم منكم أهل البيت ؟
فقال : يا أبا بصير ، هُوَ الْخامِسُ مِنْ وِلْدِ ابْني مُوسى ، ذلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ ، يَعْيِبُ غَيْبَةٌ يَرْتابُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ مَشارِقَ الْأَرْضِ ومغاربها ...»(4).
3 - روى محمّد بن عصام بسنده عن أبي بصير، عن الإمام أبي جعفر - أو الإمام
ص: 405
أبي عبد الله (علیهما السّلام)- أنه قال :
«بِالْقائِم عَلامَتانِ: شَامَةٌ فِي رَأْسِهِ، وَشَامَةٌ بَيْنَ كِنْفَيْهِ مِثْلُ وَرَقَةِ الْآسِ ، ابْنُ سَبِيةٍ وَابْنُ خِيْرَةِ الإماء»(1).
وكثير من أمثال هذه الأحاديث قد أثرت عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)، وهي تشيد بمكانة هذه السيدة الكريمة ، ولا يضر بسمو منزلتها أنها أمة ، فقد هدم الإسلام الحواجز بين البشر ، واعتبر التمايز بالتقوى وطاعة الله تعالى لا بغيرها.
ص: 406
الشيخ إبراهيم خازم العاملي
عجل الله فرجه
ص: 407
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى: 1426 هجرية قمرية
الطبعة الثانية : 1428 هجرية قمرية
حارة حريك - شارع الشيخ راغب حرب - قرب نادي السلطان
ص.ب : 5479 / 14 - هاتف: 03/287179 - تلفاكس : 01/552847
E-mail:almahajja@terra.net.lb
www.daralmahaja.com
info@daralmahaja.com
ص: 408
وفيه خبر وصولها للعسكري صلوات الله عليه
جملة من أحوال أمه
عجل الله فرجه
لقد مر في أثناء حديث حمله ووضعه - عجل الله فرجه - مر الكثير من أحوال وصفات أمه السيدة نرجس (عليها السلام)، وعلاوة على ذلك سوف نتطرق إلى جملة من أحوالها بحسب ما دل التواتر التاريخي والروائي.
فقد دلت الأدلة أنها بنت ابن قيصر ملك الروم، وروى ذلك الفضل شاذان في في كتابه الغيبة بسنده إلى الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري (علیه السّلام)، وذلك في جوابه لمن سأله ، قال (علیه السّلام):
إن الإمام من بعدي إبني سمي رسول الله وَكَيْتُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي هو خاتم حجج الله، وآخر خلفائه.
فقال السائل - وهو محمد بن عبد الجبار من مشيخة الفضل بن شاذان - قال للإمام العسكري (علیه السّلام): ممن هو يا ابن رسول الله ؟
قال (علیه السّلام): من ابنة ابن قيصر الروم ... الخبر(1).
وقد جاء المؤرخون والمحدثون بكثير من الثناء على السيدة نرجس (عليها السلام) وذلك عن لسان الأئمة (علیهم السّلام)، ودلت على ذلك جملة من الأخبار .
ص: 409
منها: ما رواه المحدث القندوزي في كتابه ينابيع المودة من أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) بعد انتهائه من حربه ضد الخوارج في معركة النهروان خطب (علیه السّلام) خطبة ذكر فيها القائم عجل الله فرجه، وكان من جملة ما خاطب علي (علیه السّلام) به حفيده الحجة عجل الله فرجه، قال (علیه السّلام):
يا بن خيرة الإماء، متى تنتظر؟ ... الخبر.
أقول: ولا يخفى ما في كلمته (علیه السّلام) هذه من إظهار رفعة درجة السيدة نرجس (عليها السلام) وعلو شأنها بين الإماء ومعلوم أن أكثر من إمام معصوم من الأئمة (علیهم السّلام) لو كانت أمهاتهم من الإماء، فكأنه (علیه السّلام) فضل أم المهدي - عجل الله فرجه على أمهات بعض الأئمة (علیهم السّلام)، ممن ولدوا من إماء، فعلي (علیه السّلام) لم يقل : يابن من هي من خيرة الإماء، بل جعلها (علیه السّلام) خيرتهم على الإطلاق في كلامه (علیه السّلام)، وفيه ما فيه من الدلالة على تقديمها على أمهات بعض الأئمة (علیهم السّلام) ممن ولدوا من إماء على تفصيل ما ذكره أرباب السير.
منها: ما رواه شيخنا الثقة الصدوق في كتابه كمال الدين وتمام النعمة بسنده إلى أبي بصير، عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السّلام) ذكر (علیه السّلام) القائم - عجل الله فرجه - فقال (علیه السّلام) في الإشارة إليه عجل الله فرجه : ذلك ابن سيدة الإماء.
وقد روى نظير هذا الخبر في كتاب الغيبة للنعماني بسنده عن أبي بصير عنهم(علیهم السّلام).
وأما بالنسبة لإسم أبيها (علیهم السّلام) فقد ذكر جماعة من المؤرخين والمحدثين أن إسمه يشوع وقيل : يشوعا ولعله خطأ في التصحيف وذكروا أن نسبها (علیه السّلام) لجهة جدها لأمها ينتهي إلى شمعون، وشمعون هذا من أوصياء عيسى (علیه السّلام)(1)، وهو جدها الأعلى (علیهم السّلام)، وشمعون هذا كان من
ص: 410
الحواريين الذين قالوا لعيسى (علیه السّلام) كما حكاه القرآن الكريم قالوا : ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَا مُسْلِمُونَ﴾(1)، وقيل : إنها بنت قيصر ملك الروم، ولكن خبر بشر بن سليمان النخاس الآتي يدل بوضوح على أنها حفيدته وليست ابنته، إلا أللهم إذا تسامحنا في إطلاق لفظة البنت على الحفيدة وهو ممكن.
ومن جملة أحوال السيدة نرجس (عليها السلام) ذكرها عن جماعة من الأئمة (علیهم السّلام) في المؤرخين والمحدثين بأوصاف عديدة علاوة على مديح حقها ومن هذه الأوصاف وصفت بالعفة والإيمان والنقاء والطهارة وهذا مجموع ما استقرأناه من كلماتهم، ويكفيها فخراً أنها حملت في بطنها حجة الله - عجل الله فرجه - الذي يظهر الله به دين محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) على الدين کله .
وكان الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري (علیه السّلام) يتشدد في إكرامها، وكذا كانت السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (علیه السّلام) تتشرف بخدمتها لما علمت من أن آخر الحجج سيخرج من نسلها (علیه السّلام)(2).
وبالعودة للحديث عن اسمها (علیه السّلام)نقول : لقد وقع فيه خلاف بين لا الأخبار والتواريخ، وذكر لها عدة أسماء، ولا مانع من أن تكون لها أسماء متعددة جمعاً بين كل ما ذكر وقد ذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار رواية عن صاحب كتاب مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، ذكر رواية أن إسمها سوسن، وكذا روى العلامة في بحار الأنوار تسميتها بريحانة، وأما ابن خلكان في وفيات الأعيان فقد ذكر إسمها نرجس، وكذا الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد، وأما صاحب كتاب مرآة الزمان فقد ذكر فيه أن من أسمائها صقيل وكذا ذكر أن إسمها خمط ورواه العلامة المجلسي في بحار الأنوار وذكره صاحب مرآة الزمان كذلك، وقالوا بأن علة تسميتها بخمط هو أنها اعتراها النور عند حملها بالحجة عجل الله فرجه وفي خبر
ص: 411
رواه الفضل بن شاذان يظهر كونها تسمى مليكة ، وكذا يظهر فيه – أي الخبر - أنها كانت تعرف بأسماء متعددة، فقد روى الفضل بن شاذان في كتابه الغيبة، بسنده إلى الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري (علیه السّلام) في جوابه لمن سأله عن اسم أم القائم عجل الله فرجه، قال (علیه السّلام):
أمه مليكة التي يقال لها بعض الأيام: سوسن، وفي بعضها : ريحانة، وكان صقيل ونرجس أيضاً من أسمائها .
أقول: وقد ذكر لها المؤرخون هذه الأسماء جميعاً، والبعض ذكر صيقل بدل من صقيل مما يوحى بوجود إسم آخر لها، ولعله من خطأ المصحفين وعلى كل حال فهي مشتهرة بإسم نرجس، وتعرف بين الفرس بنرجس خاتون (عليها السلام)، ولم يقع خلاف بين المؤرخين والمحدثين من أنها سليلة ملك الروم.
ص: 412
الحلقة الثانية
حميد عبد الجليل الوائلي
ص: 413
مرکز الدراسات التخصصیة الأمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
اسم الكتاب: ... دروس استدلالية في العقيدة المهدوية - الحلقة الثانية
تأليف: ... حميد عبد الجليل الوائلي
تقديم: ... مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
رقم الإصدار: ... 256
الطبعة : ... الأولى 1442ه_
عدد النسخ: ... 1000
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
العراق - النجف الأشرف
هاتف: 07809744474 - 07816787226
www.m-mahdi.com
info@m-mahdi.com
ص: 414
ذكر عدد من المخالفين(1) أنَّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لم يُولد، لأنَّه (اختُلِفَ في اسم الجارية التي قالوا: إنَّها ولدته، فقال بعضهم: إن اسمها نرجس، وقيل: إِنَّ صقيل أو صيقل، وقيل: حكيمة، وقيل غير ذلك ...)، ولازم هذا الاختلاف عدم ولادته.
وإذا كان اسم الأُم مختلفاً فيه فليست شخصية حقيقية، وبالتالي المهدي لا أمّ له.
الجواب عنها:
1 - الشبهة قائمة على أساس قاعدة لا نعرف أساساً لها، وحاصلها أنَّ تعدد أسماء شخص دليل على وهميَّته، وعهدة هكذا قاعدة على مدعيها.
2 - أنَّ تعدُّد الأسماء لا يدلُّ على وهمية الشخص، بل أهميته في أغلب الأحيان، فبعض الأشخاص يأخذ عدة أسماء تبعاً لأهميته عند الآخرين.
3 - أنَّ هذا التعدد وليد البيئات المتعددة التي عاشتها السيدة أُمُّ
ص: 415
الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فكونها عاشت في كنف أهلها المسيحيين سُمّيت مليكة، وعندما كانت جارية تُباع سُمّيت باسم آخر، وعندما انتقلت إلى بيت زوجها سُمّيت باسم ثالث، وعندما ظهر عليها الحمل سُمّيت برابع، وهكذا.
4 - أنَّ هذه القاعدة لا يلتزم بها الخصم، فالنبي محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) له أسماء متعددة، وأفرد له في موسوعات الحديث فصولاً في أسمائه (صلی الله علیه و آله و سلم) كما في (زاد المعاد) ، قال: (فصل في أسمائه (صلی الله علیه و آله و سلم)، منها : محمد أحمد، المتوكل، الماحي، الحاشر، العاقب، المقفي، الأمين...)(1).
فكثرة الأسماء دالة على عظم المسمّى لا على وهميته، كما في الذات المقدَّسة لله تعالى والنبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) وغيرهما من العظماء.
وهناك الكثير من الشخصيَّات الإسلامية لها أسماء متعدّدة، ولم يقل أحد إنهم خرافة.
* * *
ص: 416
عبد الرحيم مبارك
ص: 417
مبارك. عبدالرحيم. 1322 -
في رحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) / عبدالرحيم مبارك.- مشهد: مجمع البحوث الإسلامية.
14236ق. = 1383ش.
ISBN 964-444-684-4
358 ص.
عربی.
فهرستنویسی بر اساس اطلاعات فیپا
کتابنامه: به صورت زیرنویس.
1. محمد بن حسن امام دوازدهم. 255 ق.
2. محمد بن حسن امام دوازدهم، 255 ق -- احادیث 3. مهدویت. الف. بنیاد پژوهشهای اسلامی. ب. عنوان.
Bp 51 / م2 ت9 297/959
کتابخانه ملی ایران 21857 - 83م
في رحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
عبدالرحيم مبارك
الطبعة الأولى : 1426ق. / 1383ش
2000 نسخة
الثمن 22500 ريال
الطباعة: مؤسسة الطبع والنشر التابعة للأستانة الرضوية المقدسة
حقوق الطبع محفوظة للناشر
مراكز التوزيع
مجمع البحوث الإسلامية ، الهاتف والفاكس (مشهد) 2230803 ، (قم) 7733029
ص. ب 366 - 91735
شركة به نشر (مشهد) الهاتف 7 - 8511136 ، الفاكس 8515560
Web Site: www.islamic-rf.org E-mail: info@islamic-rf.org
ص: 418
أم الإمام المهدي (علیه السّلام)
هي السيّدة نرجس بنت يشوعا بن قيصر ، اشتراها الإمام الهادي (علیه السّلام) بعد أن أسرها المسلمون(1)، ثم أوكل (علیه السّلام)أمرها إلى أخته حكيمة ، فبقيت عندها إلى أن زوجها من ابنه الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) في قصة طويلة ذكر تفاصيلها علماء الشيعة(2).
وقد ورد ذكر والدة الإمام المهدي (علیه السّلام) في روايات الأئمة (علیهم السّلام)، فوصفوها بأنها «سيّدة الإماء» و «خيرة الإماء». ولا ريب أن هذه السيّدة الجليلة التي اختارها الله تبارك وتعالى لتكون وعاءً لخاتم الأوصياء لجديرة بالتكريم والاحترام الكبيرين ، ولهذا نجد السيدة حكيمة - لما أخبرها أخوها الإمام الهادي (علیه السّلام) بأن نرجس ستكون والدة الإمام المهدي (علیه السّلام) - : قالت لها نرجس: يا سيدتي وسيدة أهلي ، كيف أمسيت ؟ بقولها : بل أنتِ سيدتي وسيّدة أهلي، ثمّ أخبرتها بأن الله تعالى سيهب لها غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة(3).
ص: 419
- روى ابن أبي الحديد المعتزلى خطبة خطب بها على (علیه السّلام) بعد انقضاء أمر النهروان، جاء فيها :
فانظُروا أهل بيت نبيكم ، فإن لَبَدوا فالبدوا ، وإن استنصر وكم فانصروهم ، فليفرّجن الله الفتنة برجلٍ منا أهل البيت بأبي ابن خيرة الإماء ، لا يُعطيهم إلا السيف هرجاً هرجاً ، موضوعاً على عاتقه ثمانية أشهر ، حتى تقول قريش : لو كان هذا من ولد فاطمة لَرَحِمَنا ! يُغريه الله ببني أمية حتى يجعلهم حُطاماً ورفاتاً ، ﴿ومَلمُونِينَ أينما ثقفوا أُخِذوا وقتلوا تقتيلاً * سُنّةَ اللهِ فِى الذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللهِ تبديلاً(1)﴾(2).
- سئل أمير المؤمنين (علیه السّلام) عن صفة المهدى (علیه السّلام)، فقال : هو شاب مربوع حَسَن الوجه حَسَن الشَّعر، يسيل شعره على منكبيه، ونور وجهه يعلو سواد لحيته وشعره ، بأبي ابن خيرة الإماء(3).
سيّدة الإماء
-روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول : إن سنَن الأنبياء - بما وقع بهم من الغيبات - حادثة في القائم منا أهل البيت، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. قال أبو بصير : يا ابن رسول الله ، ومن القائم منكم أهل البيت ؟ فقال : يا أبا بصير ، هو الخامس من ولد ابني موسى ذلك ابن سيدة الإماء ، يغيب غيبةٌ يرتاب فيها المبطلون، ثمّ يُظهره الله عزوجل ، فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها ، ويَنزِل روح الله عيسى ابن مريم (علیه السّلام) فيصلي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربها ، ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله عزّوجل إلا عبد الله فيها ، ويكون الدين كله لله ولو
ص: 420
كره المشركون(1).
- روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي بصير، أنه سأل الإمام الصادق (علیه السّلام) (فى حدیث) : يا ابن رسول الله ، ومن القائم منكم أهل البيت ؟ فقال : يا أبا بصير ، هو الخامس من ولد موسى ، ذلك ابن سيدة الإماء(2).
- روى الشيخ الصدوق بإسناده عن الحسين بن خالد ، قال : قال علي بن موسى الرضا (علیه السّلام): لا دين لمن لا ورع له ، ولا إيمان لمن لا تقيّة له إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية ، فقيل له : يا ابن رسول الله ، إلى متى ؟ قال : ﴿إلى يَومِ الوَقتِ المَعلُوم﴾، وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت ، فمن ترك التقيّة قبل خروج قائمنا فليس منا . فقيل له : يا ابن رسول الله ، ومن القائم منكم أهل البيت ؟ قال : الرابع من ولدي ، ابن سيّدة الإماء ، يطهر الله به الأرض من كلّ جور، ويقدّسها من كلّ ظلم ، وهو الذي يشك الناس في ولادته ، وهو صاحب الغيبة قبل خروجه ، فإذا خرج أشرقت الأرض بنوره ، ووضع ميزان العدل بين الناس فلا يظلم أحد أحداً ، وهو الذي تُطوى له الأرض ولا يكون له ظلّ ، وهو الذي ينادي منادٍ من السماء يسمعه جميع أهل الأرض بالدعاء إليه يقول : ألا إن حجة الله قد ظهر عند بيت الله فاتبعوه ، فإنّ الحق معه وفيه . وهو قول الله عز وجل : ﴿إِن نَشَأْ نُنَزِّلْ عَليهِم من السَّماءِ آيةً فَظَلَّتْ أعناقهم لها خاضعين(3)﴾(4).
- روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي ، قال : سألت سيدي موسى بن جعفر (علیه السّلام) عن قول الله عزّوجل : ﴿وأَسْبَغَ عَليكُم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وبَاطِنَةً﴾(5)، فقال (علیه السّلام): النعمة الظاهرة الإمام الظاهر والباطنة الإمام الغائب . فقلت له : ويكون في الأئمة من يغيب ؟ قال:
ص: 421
نعم ، يغيب عن أبصار الناس شخصه ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره ، وهو الثاني عشر منا، يسهل الله له كل عسير ، ويذلل له كلّ صعب ، ويُظهر له كنوز الأرض ، ويُقرب له كلّ بعيد ، ويُبير به كلّ جبار عنيد ، ويُهلك على يده كلّ شيطان مريد .
ذلك ابن سيّدة الإماء ، الذي تخفى على الناس ولادته ، ولا يحلّ لهم تسميته ، حتّى يُظهره الله عزوجل فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً(1) .
ص: 422
تأليف الأستاذ عبد الرزاقت شاكر البدري الشافعي السامرائي أمين مكتبة سامراء القامة
ص: 423
طبع في لبنان
جميع الحقوق
محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
1438ه_ 2017م
الحجة في إثبات الحجة
تأليفة
الأستاذ عبد الرزاق شاكر البدري الشافي السامرائي
دار القارئ الجماعية والنشر والتوري
E-mail: dar.alkani2012@gmail.com
ص: 424
امامي حديقة شذية عطره من مصادر التاريخ تذكر اسم والدة الإمام المهدي (علیه السّلام) فمنها ما يتفق ويجزم بإسمها الحقيقي : ومنها ما يختلف ولنورد النصوص لتتجلى لنا الحقيقة وبعدئذ نبدي رأينا لأننا اهل الدار وصاحب الدار ادرى بالذي فيها .
فقد جاء (في كتاب منتخب الأثر)(1) قال : كانت أمه مليكة التي يقال لها بعض الأيام سوسن وفي بعضها ريحانه، وكان صقيل ونرجس أيضا من أسمائها، ثم قال المحدث النوري ومن هذا الخبر يظهر وجه الأختلاف في اسم أمه المعظمة وأنّها تسمى بكل واحد من هذه الأسماء الخمسة.
وقال المفيد في الإرشاد(2) وأمه أم ولد يقال لها نرجس، وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة (وأما أمه فأم ولد يقال لها نرجس خير أمة وقيل اسمها غير ذلك .
ص: 425
وقال ابن خلكان ص 316 316 ج 3 (واسم أمه خمط وقيل نرجس وقال مؤرخ دمشق شمس الدين محمد بن طولون (اسم امه خمط وقيل نرجس).
وقال الطبسي في كتابه (ذرائع البيان في عوارض اللسان)(1) ولد (علیه السّلام) في سنة خمس وخمسين ومائتين من الهجرة ليلة النصف من شعبان من بطن المكرمة (نرجس) ملكة الدنيا والأخرة .
وقال في كتاب (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول)(2) لأبن طلحة الشافعي وأمّه أم ولد يقال لها سوسن، وقال السيد محمد صديق حسن القنوجي البخاري رحمه الله في كتابه (الأذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة)(3) وقال في اللوامع : ولم نقف على اسم أمّ المهدي بعد الفحص والتتبع. انتهى.
وقال في حاشية الجزء الأول ص 285 من كتاب (الملل والنحل) للأمام ابي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (وأمه نرجس أو ريحانه: أو صقيل، أو سوسن).
وقال الشبلنجي الشافعي في كتابه (نور الأبصار)(4) (أمه أم ولد يقال لها نرجس، وقيل صقيل ، وقيل سوسن) اما الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها فأن اسمها الحقيقي هي (نرجس) وانها أم ولد وقد ربتها السيدة حكيمة خاتون عمة الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام).
ص: 426
مجلة علمية تخصصية نصف سنوية تصدر عد مركز الدراسات التخصصية في الامام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
في هذا العدد:
التوقيعات المهدوية وإشكالية عدم الصدور - الشيخ كاظم القره غولي
رسالة في حديث سلسلة الذهب برواية الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
بطرق محدثي أهل السنة والجماعة - السيد محمود المقدس الغريفي
أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في حقيقة ثابتة - الشيخ نزيه محي الدين
توثيقات المستشرقين الألمان للقضية المهدوية دراسة تحليلية نقدية
د. حسن جاسم محمد حسين الخاقاني
الشرط المفقود جابر الناصري
دراسة مقارنة للوضع الاقتصادي بين الغيبة والظهور - الشيخ ماهر الحجاج
المستقبل وعلاقته بالإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- د. عامر عبد زيد الوائلي
الحركات المهدوية في التاريخ الإسلامي - الشيخ أسامة العتابي
المنقذ في الأديان - نور ناجح حسين
السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي - دراسة في سيرته ودوره الديني
ساجد صباح العسكري
ص: 427
ص: 428
الشيخ نزيه محيي الدين
قضية أُم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وعدم تحقيقها جيداً، جعل الأعداء يدندنون ،حولها، ويدعون بأن هذه المرأة لا وجود لها، وقصتها خرافية، وأن القصة مدانة داخلياً، ويتوصلون من خلال (عدم العثور على الأب لأم الإمام عليها وعليه السلام) بأن الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أصلاً غير موجود وهو خرافة وما شابه ذلك من الانزلاقات عديمة العلم والأخلاق، والمصيبة أن هذه الدعاوى اعتقد فيها ضعفاء الشيعة أمثال (أحمد الكاتب) .
لهذا قمنا بهذا التحقيق لإثبات صدق الرواية الشيعية، وأنه ليس بمستبعد ثبوتها كما ستراه في طيات هذا البحث.
ومن خلال عمل جداول بيانات وترتيب الأزمان والأماكن لنجد الحل لهذه القصة ونرفع الغموض، ولنحصل:
:أولاً على الإمكانية الفعلية بلا إشكالات.
وثانياً لنحاول أن نجد الأب أو الجد المحتمل لأم إمامنا (عليها السلام)، لنعرف القصة بالشكل الصحيح.
فلهذا بحثنا المسألة من مبدأ الشك في كل معلومة، والانتقال إلى إثباتها.
ص: 429
أرقام ذات أهمية بالغة في هذا البحث:
1 - ولادة الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام): (232 ه_ = 846م).
2- ولادة السيدة نرجم ة نرجس (عليها السلام) (مستفاد من رواية بشر بالاستنباط): (234ه_ = 848م).
3- بلغت السيدة نرجس (عليها السلام) سن 13 (246 - 247 ه_ = 861م).
4 - وصول السيدة نرجس (عليها السلام) البغداد: (251 ه_ = 865م).
5- ولادة الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف): (15 شعبان 255ه_ = 28 يوليو تموز 869م).
6 - وفاة الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام): (8 ربيع الأول 260 ه_ = 31 ديسمبر 873م).
نبدأ بذكر الرواية الصحيحة السند عن الإمام العسكري (علیه السّلام) عن هوية أم الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
عن الفضل بن شاذان (رحمه الله علیه)، عن محمد بن عبد الجبار قال: قلت لسيدي الحسن بن علي (علیه السّلام): يا بن رسول الله جعلني الله فداك أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ فقال: «إن الإمام وحجة الله من بعدي ابني سمي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكنيه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه». قلت: ممن هو يا بن رسول الله ؟ قال: «من ابنة ابن قيصر ملك الروم، ألا إنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة، ثم يظهر»(1).
وهذه الرواية الصحيحة تدل على ما يلى:
1 - إن أم الإمام ابنة ابن القيصر ملك الروم.
2 - وهى أمة(2).
3 - وإنها ستحمل وستلد.
4 - وهذا النص بمجمله يدل على أنها مذخورة من الله تعالى لتكون حاملة مولانا الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
ص: 430
طبعاً يضاف لها ما في الرواية المضعفة(1) والتي سوف يأتي الحديث عنها من قبل بعض العلماء - والمعتبرة عند الغالب -، لوجود مجاهيل فيها، حيث أشارت إلى أن اسمها (مليكة) وأنها من ذرية شمعون الصفا من جهة أمها.
وإنها أرغمت على الزواج من ابن أخي جدها في عمر (13 سنة) ودعي أعيان ووجهاء الروم وقادة البلد فحدث أن سقطت الصلبان وسقط عمود على خاطبها فأُغمي عليه ولكن الجد أصر على إكمال العقد فدعا بأخيه ليزيل النحوسة وأمرهم بالاستعداد فتكرر الحدث وتفرق الناس، وفي تلك الليلة رأت مناماً فيه جدها شمعون والمسيح وعدة من الحواريين، ثم جاء النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) مع فتية وعدة من بنيه، فيخطب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الفتاة من شمعون لابنه الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) وتمت الموافقة وتم العقد في المنام، ثم بعد مدة من الحادثة قررت الهرب فهربت مع خدمها وجاءت إلى الحدود مع بلاد المسلمين، فأخذها الجند سبية وبيعت هي وجواريها في بغداد، وقد بعث الإمام الهادي (علیه السّلام) على نحاس أعطاه مبلغاً وأوصاف الفتاة فوجدها بعينها، وتوافقا على نفس المبلغ الذي سلمه الإمام (علیه السّلام)، فاستلم الإمام (علیه السّلام) الفتاة وسلَّمها للسيدة حكيمة (عليها السلام) أخته لتعلمها أصول الإسلام وفروعه، ثم تزوجها الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) وولدت له الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
هذا مجمل رواية طويلة فيها مشاعر وقصص ومواقف ومشاهد(2).
والقصة في نظري معتبرة، إذ يكفي في توثيق الشيباني ارتضاء الصدوق والقميين لروايته رغم تشدّدهم على أن دواعي الوضع هنا منتفية.
وقد ارتضى هذا المبنى الشيخ الأنصاري: قال في المكاسب(3): (... إلّا أن اعتماد القميين عليها - الرواية محل بحثه - وروايتهم لها، مع ما عرف من حالهم لمن تتبعها من أنهم لا يخرجون في كتبهم رواية في راويها ضعف إلا بعد احتفاقها بما يوجب الاعتماد عليها جابر لضعفها في الجملة).
ص: 431
فهذا كافٍ في تصحيح قصة مليكة (عليها السلام) برواية بشر النحاس، فكيف إذا أضفنا إليه الصحيحة المتقدمة عن محمد بن عبد الجبار، وهي وحدها كافية لتصحيحها، ولكن ليس تصحيح التفصيلات إنما تصحيح أصل القصة بعناصرها التي قلناها في رواية الفضل بن شاذان عن محمد بن عبد الجبار. ومن أجل مطابقة الواقع مع تحليل القصة، سواء بالرواية الصحيحة أو الضعيفة - التي تطابقها في الجوهر دون التفاصيل - فيجب أن تعرف بعض الأمور والمسارات في هذا البحث.
وفيه قولان.
المسار الثاني: من هو القيصر في ذلك الوقت لنعرف هل هو جدها المفروض؟ وفيه أقوال متعددة.
الأول: بعض المؤرخين كما وبعض الأخبار المتفرقة تقول إنها أُسرت في أذربيجان.
الثاني: أنها جاءت من بلاد الروم، وقد فسرها كُتاب إيران بأنها من (أرض روم) و اشتبه آخرون بأنها من بلاد روما.
والتفصيل أن يُقال:
مسار أذربيجان:
وهذا يعني أنها جاءت من جهة روسيا وحواليها.
والجواب عن هذا القول أن نقول بامتناع أن تكون مليكة (عليها السلام) روسية أو أوكرانية أو بلاروسية - بعد تحليل الرواية المتقدمة - ولأنه في تلك الفترة لا يوجد أصلاً قيصر في تلك المنطقة، وأول قيصر أعلن عن نفسه في روسيا القيصرية، وبيلاروسيا، وأوكرانيا، وجمهورية نوفغورود، هو القيصر روريك
ص: 432
(منذ 862م)(1) وهذا الإعلان بعد حفل عرسها بأمر جدها بسنة، لأنها ولدت سنة (848م) كما يذهب أغلب الباحثين وكان حفل زواجها بعمر (13 سنة) فيكون الحادث (سنة 861م) وهذا قبل إعلان (روريك) أنه قيصر في روسيا وتوابعها بسنة، وروريك هذا من الفايكنك من الدانمارك على الأغلب ولا تعلم قصته الحقيقية.
وأما كيف أصبح ملكاً؟ فبعضهم يدعي(2) بأن السلافيين في أوكرانيا وروسيا اختلفوا ودمروا بلاهم فاستدعوا رجلاً قوياً من الفايكنك ليضبط النظام في حدود سنة (855م) (والسيدة نرجس (عليها السلام)مولودة (سنة 848م) تقريباً، فيعني أنه دخل روسيا والسيدة نرجس مولودة في القصور الملكية. فكيف تصح نسبتها إليه؟).
وادعى باحثون آخرون(3) بأنه كان مسيطراً على مجموعة أجراء (عُمال) فايكنغ أقوياء فانقلبوا على مستأجريهم مستغلين فوضى الصراع السلافي فأخذوا يحتلون البلدان بسرعة وعيّن نفسه أميراً عليهم (سنة (855م) وتوفي (سنة 897م).
وتصوره الكتب التاريخية(4) كبدوي فايكنك ليس له صيت في قواعد الحكم ولا انضباط بيتياً ولا قواعد سلوك ملكي .
ثم أنه له ولد واحد طفل اسمه (إيغور) فلا يصح أن يكون والداً للسيدة نرجس (عليها السلام) ولا يصح أن يكون (روريك) جداً لها، مع العلم أن مملكته لم تكن إمبراطورية حقيقية فعلية، وإنما من ثبت الإمبراطورية فعلاً هو قريب (ريوريك) المعروف باسم (أوليغ النبوي أو العراف) وهو من أسس كييف(5) ، وكان وصياً على (إيغور) بن (روريك) الطفل، فهو المؤسس الحقيقي للإمارة الروسية.
ويعتبر انتشار صيت أوليغ قد بدأ في (عام 882م) أي بعد وفاة (روريك)
ص: 433
بثلاث سنين، واشتهر اسمه إقليمياً بعد أن غزا القسطنطينية (عام 907م) عن طريق البحر الأسود وخوّف البيزنطيين فمنحوه الهدايا والأموال واعتبر نتصراً (سنة 911م) وتوفي (سنة 912م) بعد عقد الصلح مع البيزنطيين.
وهذا زمن متأخر جداً عن زمن السيدة نرجس (عليها السلام). فلهذا لا يعتبر هذا الفرض ذا قيمة علمية، وأن أصل دعوى أنها أسرت في أذربيجان لا صحة له لعدم وجود إمبراطورية حقيقية من تلك النواحي في زمن ولادة السيدة نرجس (عليها السلام) ولا زمن أسرها.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن المملكة الإمبراطورية المحاددة والقريبة من بلاد المسلمين هي بيزنطة، فينبغي أن ينصرف الذهن لها، ولكن بعض الباحثين اعتقد أن كلمة رومية ومشتقاتها كالروم الواردة في الحديث تعني روما فهي إذن إيطالية من روما، وهذا الفهم غريب لأن المعروف أن رومية والروم في ذلك الوقت هم البيزنطيون، وكانت المناوشات مع الدولة العباسية مستمرة، وبلادهم اسمها أرض روم، فالوصول لروما في إيطاليا أمر بعيد جداً، وهناك اختلاف بين التسميتين فالبيزنطية اسمها الإمبراطورية الرومية أو الشرقية أو البيزنطية وهو الاسم الشائع، بينما روما اسمها الإمبراطورية الرومانية أو إمبراطورية روما، وكانت روما في تلك الفترة (840-867م) خاملة الذكر، بل حين استولى (باسيل)(1) المتوحش على حكم بيزنطة قام بحملات وأخضع روما لحكمه وحول أسواق إيطاليا إلى القسطنطينية، فكانت روما في أتعس حالتها في تلك الفترة بما لا يتناسب مع عظمة الدولة وحفل زواج الأميرة بهذا الحفل الكبير المنصوص في رواية بشر بن سليمان.
ثم لا يمكن أن تكون السيدة نرجس (عليها السلام) من إمبراطورية بلغاريا باعتبارها محاددة للإمبراطورية البيزنطية ولا تبعد كثيراً، لأن بلغاريا كانت غير مسيحية
ص: 434
أصلاً، وكانت تحارب المسيحيين بعناد، وقيادتها وثنية، وقد أعلنت بلغاريا إيمانها بالمسيحية (سنة 864م) بينما كانت السيدة نرجس (عليها السلام) قد وصلت إلى بغداد حوالي (865م) بشكل تقريبي(1) ويقال إن تنصرها كان بإخضاع البلغار السلطة القيصر بارداس، فلا مجال للشك في ذلك ولا دخل للإمبراطورية البلغارية بأمر السيدة نرجس (عليها السلام) وهو احتمال مغلق.
فلا يبقى إذن إلا أنها من قيادة الدولة البيزنطية فهي الإمبراطورية المحاددة المجاورة للدولة العباسية - التي ينطبق عليها في القصة المروية عن بشر بن سليمان النخاس - حيث إن جدها كانت له معارك مع المسلمين وعنده أسرى منهم، ومعلوم أن مكان تبادل الأسرى في زمن (ثيوفيلس العموري) و(تيدورا وبارادس) في منطقة حدود الصراع في آسيا الصغرى، وهي قرب مدينة عمورية شمال الإسكندرونة وجنوب غرب أنقرة عاصمة تركيا حالياً، حيث كانت المعارك هناك(2)،(3).
مخيلات واهية:
قال البعض: إنَّ ما يناسب أن يكون جدها بالزمن هو:
1 - (ثيوفيلس بن ميخائيل) (مايكل الثاني) بن جرجيس، وهو من أعظم قياصرة رومية أي دولة بيزنطة، ولكن ليس له ابن اسمه يشوعا، فبطل الفرض، وليس هناك شخص آخر لفرض صحة انتسابها له، فإذن قصة مليكة بنت يشوعا كذب في كذب(4).
والحقيقة أننا لم ندع بأن (ثيوفيلس) جدها، ولا يمكن أن يكون هو الذي في القصة إطلاقاً، لأن جَدَّها أمر بتزويجها وعمرها (13 سنة)، و (ثيوفيلس) مات قبل ولادتها بست سنوات تقريباً(5)، فهو توفي (سنة 842م) بينما السيدة مليكة ولدت بحدود (848م) وبعضهم احتمل (سنة 49 م) ، فلا يمكن أن يكون هو من أمر بالعرس وقد كان ميتاً قبل (19 سنة)(6).
ص: 435
2 - القيصر الآخر والذي يحمل لقب قيصر هو ولد (ثيوفيلس) (قسطنطين) (كونستانتين) (833-835م) مات طفلاً كان يلقب رسمياً بالقيصر بطلب من القيصر (ثيوفيليس) ويبدو أنه بكر أبيه ولكنه مات بعمر (3 سنوات)(1) فهذا خارج تخصصاً فلا يمكن أن يكون جدها.
3 - القيصر الثالث في نفس المدة هو ميخائيل الثالث ولد (سنة 840م) وكان عمره سنتين حين توفي والده وعين ملكاً ولقب بالقيصر، ولا يمكن أن يكون جد مليكة لأن عمره حين ولدت مليكة هو ثمان سنوات(2) فلا يصلح أن يكون والدها فكيف يكون جداً؟
4 - في فترة طفولة ميخائيل كانت والدته (تيودورا) هي الوصية وكانت تدير الحكم مع مجلس وصاية مكون من (ثيوكتيستوس) وأخوتها (بارداس) و (بتروناس)، وقد أعادت الإيمان بالأيقونات وفرضت الأيقونات على الكنائس الرافضة بتحريض من (ثيوكتيستوس) الذي اتهمت به، وأقصت صلاحيات من كان يؤيد زوجها المتشدد ضد الأيقونات، بما فيهم أخوها (بارداس) معادي الأيقونات.
و(تيودورا) امرأة فلا يمكن أن تكون جدها وإن لقبت بالقيصرة والإمبراطورة. فلا تتماشى مع القصة. فهذا خارج تخصصاً عن القصة.
5 - وهناك قيصر آخر كان يشارك الإمبراطورة (ثيودورا) اسمه (ثوكتيستوس)، لكن هذا قتل (سنة 856م) من قبل جماعة (بارداس) الخلافات كبيرة في قيادة الحكم البيزنطي، منها معركة عبادة التماثيل التي كان يدعو إليها (ثوكتيستوس) بينما يحرمها (بارداس)، وتاريخ وفاته قبل بلوغ السيدة نرجس (عليها السلام) عامها الثالث عشر بخمس سنين في عام (861م)(3) ولهذا فهو مستبعد كلياً.
6 - بقي القيصر (بارداس) ولعله الاسم الأخير ممن تسمى بقيصر في تلك الفترة فلم يبلغنا إلّا هؤلاء مع شدة عناية مؤر شدة عناية مؤرخيهم بتفاصيل الألقاب في
ص: 436
المملكة فحتى الرضيع أحصوه حين لقب بالإمبراطور، وقد استلم (بارداس) لقب القيصرية في نفس سنة بلوغ السيدة مليكة سن (13) أي سنة (861م) أو قبلها بسنة بناء على قول من قال إن ولادتها سنة (849م)(1).
فهل يمكن أن تنطبق عليه صفات الجد في قصة السيدة مليكة أو نرجس (عليها السلام)؟
الجواب عن هذا السؤال يمرّ عبر عرض خصائص الجد فإذا تطابقت فهو ا الجد إمكاناً وهو ما نبحثه، أو وقوعاً وهو أبعد مما نبحثه الآن. وإذا كانت الصفات موجودة في هذا الشخص فهو جد محتمل وبطل استدلال النواصب بنفي قصة مليكة أم الإمام المهدي (عليها السلام).
الخصائص التي رصدناها:
1 - (بارداس) ولد (سنة 810) وهذا يعني أنه يمكن أن يكون جداً لمولودة (سنة 848م) فإن عمره (38 سنة) وهم ممن عرفوا بالزواج المبكر جداً، فقد زوجت بنت أخته (تيودورا) واسمها ماريا رضيعة وتزوجت من القيصر (الكسوس موصيليا)(2) وكانت رضيعة وكان قيصراً على صقليا. فإذا كانوا يروّجون الرضيعة فلا مشكلة بتزويج البنت في الثالثة عشرة وتزويج الولد في الرابعة عشرة سنة من عمره. فهذه أول عقبة أزيلت.
2 - ذكرت رواية بشر النحاس قول السيدة أم إمامنا (عجل الله تعالی فرجه الشریف) اقولها: «ابلغ من ولوع جدّي وحمله إياي على تعلم الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمان له في الاختلاف إلي، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية، حتى استمر عليها لساني واستقام» وهذا النص يعني ولع جدها بالعلوم وهو نفس ماذكر في ترجمته في الويكيبيديا (وكان الحاكم الفعال للإمبراطورية البيزنطية لمدة عشر سنوات، وهي الفترة التي شهدت نجاحاً عسكرياً، وتجدد النشاط الدبلوماسي والبحثي، والإحياء الفكري الذي بشر بالنهضة المقدونية).
3- ذكرت رواية بشر النحاس: (قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في
ص: 437
الأسر؟ فقالت: أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أن جدك سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا ثم يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم، مع عدة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحد بي بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إياك عليه. وقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته).
وهذا يعني أنه كان ممن غزا المسلمين، بينما قبله أخته (تيودورا) كانت قد سالمت العباسيين من سنة (842م) إلى (سنة 855م) وكانت الأمور في غاية الهدوء ولكن (بارداس) أرجع الحروب مع العباسيين، وفي السنين (856 -866) شهدت مناوشات وانتصارات للروم على العباسيين بأمر (بارداس) وبقيادة أخيه المحبب إليه (بتروناس) وهنا يروي التاريخ قصة أنه في (سنة 863م) هجم العباسيون بالتحالف مع دولة مسيحية بولسية على البيزنطيين فوصلوا إلى ساحل البحر الأسود فبعث القيصر أخاه (بتروناس) فعکس انتصارات العباسيين في تلك المعركة الخاطفة إلى هزائم، وذكرت ال_(ويكيبيديا)(1) أن انتصارات (بتروناس) كانت أعظم الانتصارات للدولة البيزنطية خلال حروبها على دول المسلمين، بما ترجمته (بعد أن كان اختراقاً أعمق في الأراضي العربية من أي قائد بيزنطي منذ بداية الفتوحات الإسلامية، عاد منتصراً مع العديد من الأسرى).
وقد مات (بتروناس) والمعارك قائمة أواخر (سنة 865م) وهي نفس سنة دخول السيدة نرجس (عليها السلام) لبغداد بحسب الجداول الزمنية التي عملتها.
فإذن في ذلك الوقت كانت هناك معارك فعلاً. وهذا يصدق القصة بكونها استغلت المعركة ودخلت بلاد المسلمين وأسرت. وكانت المعارك بين العباسيين والروم تدور في نواحي عمورية ولكن بين تقدم و تأخر فلا يعرف المكان
ص: 438
بالدقة في سنة أسر أم إمامنا (عجل الله تعالی فرجه الشریف). ولكنه في خط المواجهة الذي دام طويلاً من (سنة 220ه_) الموافق (835 م) حين ابتدأ (ثيوفيلوس) الحرب في (زبطرة) و (ملطية)، وتوقفت المعارك بعد وفاة (ثيوفيلوس المعروف بين العرب (توفيل بن ميخائيل) في عهد (تيودورا) في الفترة (842-855م) لأنها صالحت العباسيين فوراً، ولكن بعد إقصاء (تيودورا) وإلزامها الترهب في الدير عاد للحكم أخوها (بارداس) فبدأ المعارك من جديد وكان أوجها في سنة (865 -866م). وهذه هي سنوات أسر السيدة نرجس أم الإمام المهدي (عليها السلام). وهي الفترة الزمنية التي كانت جيوش العباسيين ضاغطة على حدود أنقرة - عمورية. كما هو مبين في الخريطة التالية:
الخط الرصاصي هو للمعارك بعد عمورية والمنطقة المخططة بالأصفر هي منطقة بدء المعركة من قبل (ثيوفيلوس)، وحسب الخارطة في منطقة أسر السيدة والدة الإمام الحجة (عليها السلام) هي المنطقة القريبة من المخططة بالرصاصي إلا إذا كان علاج (بتروناس) قد توغل في الأراضي العباسية عميقاً كما يدعي التاريخ البيزنطي،
ص: 439
ولكن في رواية بشر ما يُشير إلى ذل الروم في تلك المعركة، فإذا كان (بتروناس) تخطّى الحدود العباسية فيكون أسرها في نفس منطقة الدائرة الصفراء على منابع الفرات في داخل حدود الدولة العباسية، وهذا يساعد على ما ذكر في الصلاة المسيحية لاليسا (النرجس أو السوسنة)(1) التي أسرت على شاطئ الفرات. وهناك الخط المتقطع هو الحدود الرسمية بين بيزنطة وبين العباسيين قبل معركة (زيبطرا) التي افتعلها (ثيوفيلوس) بتحريض من القائد العباسي.
4 - ذكرت رواية بشر بن سليمان بأن القيصر له أخ والأخ له ولدان على الأقل، والتاريخ القيصري يقول: إن له أخاً عزيزاً عليه، شاركه في القيادة والرؤية الدينية والسياسية منذ أيام الملك (ثيو فيلس) اسمه (بتروناس)، وأن (بتروناس) قد ولد (سنة 830م) مما يعني أن أولاده يصلحون للزواج من حفيدة (بارداس) لأنه أصغر من أخيه بعشرين سنة.
ولم أعثر على معلومات عن أسرته بعمومها وهي صفحة غامضة، ونأتي إلى مشكلة مماثلة في القيصر (بارداس). عدا ما وجدته بأن ابن (بتروناس) (أدموند هكتور) كان أحد المرشحين للزواج من السيدة نرجس (عليها السلام) بعمر (13 عاماً ولم أجد له مصدراً منشوراً، ولعله في وثائق الكنيسة والله العالم.
5- وصفت رواية بشر النحاس أن القيصر كان ملتزماً دينياً ومثقفاً علمياً، ومؤرّخوا الدولة البيزنطية يصفونه بأنه أول من بدأ بالعلم ونشره وقرّرب العلماء وأسس الجامعات، وكان متديناً شديداً، وقد كان من حملة الأعلام ضد حركة الأيقونات، وقد دخل هو وأخوه (بتروناس) معارك سياسية مع أختهما التي تبنت الأيقونات، وقد قاما (سنة 855م) بقتل المحرض لأختهما (تيودورا) وانشقت الكنيسة لنصفين، فقسم يناصر (تيودورا) ويعادي (بارداس) إلى درجة الافتراءات عليه دينياً واجتماعياً وأخلاقياً كما يشير المؤرخون، وقسم ناصر (بارداس) واعتبر عبادة الأيقونات شركاً ولا يتساهل معها دينياً.
ص: 440
فمن يقوم بقتل قسة كبار وطرد آخرين وانتقاص مقام البابا في روما التوحيد وعدم جواز عبادة تماثيل وصور المسيح وأمه مريم (عليها السلام) وبقية النا القديسين، فهذا يدل على ما هو أعمق من نزعة دينية، بل هو قائد ديني له رؤية دينية واضحة حارب من أجلها، وقد يكون قُتل بسببها. فهذه نقطة توافق أيضاً بين الرواية والواقع التاريخي(1).
6 - يذكر محمد الحاج في مقالة أميرة الروم أن اسم ابن (بارداس) الكبير هو (اغناطيوس) أو (اغناتيوس)، والكنيسة تقول إن هذا الاسم باللاتينية مشتق من (ignis)، يعني المنقد أو المتوقد، ويقولون إنه يقصد به المتقد بنور الإله، وهو تقريباً نفس معنى المهدي، وبالرجوع إلى كلمة يشوع نجد معناها في قاموس (كوجان العبري - العربي)، هو المهدي المنتظر وهو المخلص، فلا يستبعد أن قول السيدة نرجس (عليها السلام) إنها مليكة بنت يشوعا ابن القيصر تقصد
(اغناطيوس) مترجم من اللاتينية إلى العبرية .
فهذا الرجل أقرب من كل من ذكر برتبة قيصر بأن يكون هو جد السيدة نرجس (عليها السلام) في تلك الفترة من (سنة 840م إلى سنة 870م) بناءً على اعتبار رواية بشر بن سليمان النحاس.
وبهذه الإمكانية لوجود شخص يتوافق مع المواصفات التي ذكرت في الرواية الشيعية يصبح استبعاد واستحالة النواصب لصدق قصة أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هو تفكيراً سطحياً وبدون دليل أصلاً، وهو استبعاد لا يستند إلى حقائق إمكان الحدوث، بل هناك قرائن على الوقوع وليس فقط الإمكان منها ما قدمنا من تطابق في القصة مع الواقع، ومنها ما ذكر من وجود حفيدة للقيصر (بارداس) اسمها (أليسا) وهي كلمة فينيقية تعني (زهرة النرجس) أو السوسن، وهذه الحفيدة فقدت على نهر الفرات أثناء معارك، وكان الشعراء يبكون عليها وأحدثت صلوات في الكنيسة لندبتها والدعاء لها، وهذا نص
ص: 441
الصلاة كما وجدته في النت ولا أعرف المصادر الرئيسية له، ولكنه قطعاً ليس مصدراً إسلامياً أو شيعياً والله العالم:
(نرجس يا سوسنة الأودية وعبق الزهور يا سليلة التاج ومجد الصفا، منك يخرج غصن الياس قضيب من جذعه وغصن من أصوله، من بين عينيك يخرج نور الشعوب وقرة أعينهم الجالسون على الأرض أشرق عليهم نورك ففرحت الأمم وتعاظم لها الفرح كما يفرح الحصادون، يا ابنة الصفا وفخر مدينة السرور منك سيورق الغصن وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً قديراً رئيس السلام يحمل صولجان أبيك ويجلس على كرسي مجده)(1).
والنص المسيحي الثاني في صلاة مدائحية للسيدة مريم بنت عمران (عليها السلام) فيها فقرة تذكر القديسة التي ستلد منقذ العالم بعصا الغضب الإلهي:
(وساقها قدرها إلى مدينة السرور، على شاطئ أو يفرات لتضع وليدها الذي سيسافر مع الماء عبر بشر الحياة، حتى إذا رأى أخيه نازلاً من الملكوت على أجنحة الكروبيم عندها سيسوقا العالم بعصا من الغضب، وويل للأمة الملعونة من غضبهم، أعداؤه صخرهم باعهم والرب سلمهم)(2).
هذان النصان المهمان إذا ثبت أنهما يشيران إلى نفس الفتاة (أليسا) أو ال_(نرجس) أو ال_(سوسنة) فإنهما يثبتان وقوع القصة عيناً، وأن السيدة نرجس (عليها السلام) والدة إمامنا (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هي القديسة المفقودة من قصور القسطنطينية.
مما يجدر التنبه له :
عندنا بان (أليسا) اسمها نرجس وسوسن ، وتبين لغوياً أنها ترجمات في لغات متعددة لكلمة واحدة وهي (زهرة النرجس).
فإن هذه النصوص تثبت وجود أمر سري يعرفه أرباب الكنيسة بأنهم فقدوا فتاة مقدسة مرتبطة بالرب لتحيي حياة تؤثر على كل العالم في المستقبل،
ص: 442
حيث ستلد منقذ العالم الذي سيأتي معه المسيح ليخلصا العالم من شرور البشر. ولكن بشكل عام فإن الملفات لعائلة القيصر (بارداس) مفقودة ولم يتبين فيها حياة عائلته بدقة، وقد يأتي يوم يعثر الباحثون على تفاصيل أكثر دقة وصلوات أكثر وضوحاً.
وتريثتُ في نقل ما نشر في النت عن حياة أليسا، وكيف فقدت على سواحل الفرات ووصلت إلى بغداد مدينة السرور والسلام، بقصة تفصيلية طويلة تتطابق تقريباً مع رواية بشر بن سليمان الناس من لسان السيدة نرجس (عليها السلام). حيث لم أجد للنص مصدراً غير تلك المقالة، رغم بحثي المطوّل لها، وأكتفي بهذا القدر، والأمر لبقية الباحثين فإن هناك الكثير مما يمكن أن يكشفه البحث خصوصاً في الروايات التاريخية البيزنطية وباللغة القديمة والحديثة.
ولعل هذه النصوص الرائعة المتوافقة مع ما قصَّته السيدة نرجس (عليها السلام) عن حياتها تكون قليلة بالنظر لكثير ما سيعثر عليه الباحثون، خصوصاً إذا وضعنا نصب أعيننا بأن المؤرخين ينصون على وجود غموض في تاريخ عائلة القيصر (بارداس) الذي حكم عشر سنوات، وبحكم متميز حيث إنه ولأول مرة تحصل للروم انتصارات على العباسيين ولأول مرة يدعم الملك العلوم وهو من أسس التطور العلمي والصناعي الذي قام به فيما بعد الإمبراطور (باسيل المقدوني) الذي قتل (بارداس) نفسه بيديه واعتبر ذلك الوقت هو الوقت الذهبي للحكم البيزنطي، ولولا الهجمات المتواصلة من أوروبا من الشمال والغرب ضد الدولة البيزنطية لكانت دولة رائدة ومنافسة في القوة للدولة الإسلامية، ولما سقطت بيد الأتراك. فبداية التقدم العلمي وإن تأخر حوالي (60 - 90) سنة عن بداية التقدم العلمي في الدولة العباسية، إلا أن هذا الفارق كان يمكن تجاوزه في حال وجود إدارة للعلوم فيضيق الفاصل الزمني بتسريع
ص: 443
التقدم ولكن الله أراد النصر للإسلام حتى النصر الشكلي منه في وقت وبركة الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ﴿لیقضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وإلى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ (الأنفال: 44) والحمد لله رب العالمين.
من جهة الأم:
وأما من جهة الأم فهذه قصة ثانية وتستحق الكثير من الانتباه، وخلاصتها هو ما حققه الشيخ علي الكوراني، حيث إنها حسب النصوص تنسب إلى الحواري العظيم صاحب المعجزات (سمعان الصفا) أي الصلد وهو (شمعون) باللغة العبرية وعرف بالرسول (بطرس) و (بطرس) هو ترجمة للصفا .
وقال:
فهذا الحواري له الفضل في نشر المسيحية الحقة في وقته بين الأوروبيين، وقد أقنع زوجة القيصر في روما باعتناق المسيحية والتخفيف عن آلامهم ونشر دعوتهم. وقد خدم الإيمان في كل من إيطاليا وتركيا والموصل وسوريا و فلسطين ولبنان، ويبدو أن أصله من لبنان من (جبل عامل)، وسكن مع والده في قرية (كفرناحوم) قرب بحيرة طبرية جنوب لبنان قرب بنت جبيل والقرية الآن في فلسطين قرب الحدود اللبنانية، ومات والده في (جبل حامول) قرب الناقورة وهي الآن قرية لبنانية على الحدود الفلسطينية من جهة البحر. حسب نظرنا فإنه والحواري هم من خلّص عباد الله ومن المقدسين بأنفسهم. نظراً لنظرنا للنبوّات ورسالات الله ورجاله. ولهذا فإنه من الخطأ أن يعتقد البعض بأن تقديس الشيعة لشمعون بن حمون هو من أجل كونه جد الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) من أمه فقط، بل لأنه بنفسه حواري مؤمن صالح دعا الله، وأما كونه جدَّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فهذه فضيلة إضافية له من الله أن يختلط دمه بدم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). ولهذا فإن ما نقلته النصرانية (هالة الحمصي) غير دقيق إطلاقاً عند (الشيعة الإمامية).
ص: 444
قد يكون السر المستودع في شمعون هو (أنه أحد أجداد الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الإمام الثاني عشر الذي سيخرج في آخر الزمان وأن والدة الإمام مليكة (عليها السلام) بنت يشوعا ابن قيصر ملك الروم - وهي مسيحیة - تعود في نسبها إلى شمعون).
يقول علي داوود جابر: ولهذا السبب يبجل الشيعة صاحب المقام الذي تنسب إليه كرامات عدة. (مثل) اليمين الكاذبة في حضرة شمعون (وما يتبعها من عقاب سريع) حكايات يرددها اهال في المنطقة والجوار. وهناك ع) أيضاً شفاءات ونجاة من موت محتم... والعارفون بأمر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فإن النذر المرفوع إليه لابد من أن يكون مستجاباً) انتهى(1).
وقد خلف شمعون أو سمعان أولاداً وذرية وكان من ذريته راهبان في زمن الإمام علي (علیه السّلام)، كان أحدهم ينتظر أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وقد حدثت معجزة نبع الماء - في حديثة - في طريقه إلى صفين. وقد ذكر الشيخ علي الكوراني ملخص ذلك: (تقدم أن هذين الراهبين من ذرية شمعون الصفا، وأن أحدهما اختار دير حديثة أو صندوديا لأن بقربه عيناً شرب منها الأنبياء والأوصياء (علیهم السّلام) وسيشرب منها آخر الأوصياء (علیهم السّلام).
والثاني في دير على نهر البليخ الذي هو بجوار قبر شمعون الصفا، وعنده كتاب توارثه يبشر بالنبي الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصيه الذي سيأتي إلى هذه الأرض ويقاتل عدوه فيها، ويظهر شمعون من قبره ليسلم عليه!
قال كما في رواية سليم بن قيس الهلالي: إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم (علیه السّلام) وأنا من نسل شمعون بن حمون وصي عيسى بن مريم (علیه السّلام) وإليه أوصى عيسى بن مريم وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته فلم يكفروا ولم يبدلوا ولم يغيروا. وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم (علیه السّلام) وخط أبينا (علیه السّلام) بيده، وفيها
ص: 445
كل شيء يفعل الناس من بعده ملك ملك، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم، حتّى يبعث الله رجلاً من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، من أرض تدعى تهامة من قرية يقال لها مكة...)(1).
ومن هذه الرواية يستدل الشيخ الكوراني أن قبر الحواري شمعون الصفا ليس في روما كما تدعي الكنيسة وأنه في قبو كنيسة القديس بطرس في الفاتكان، وليس في لبنان في الناقورة كما هو مشتهر شعبياً وكما يؤكد الدكتور علي جابر، وإنما ذلك قبر إما لوالده أو لأحد المؤمنين الذين أكرمهم الله بكرامته، وقد أجاد الشيخ التحقيق في مكان قبره وقد أثبت أنه في الحدود السورية العراقية من الشمال وكلامه يستند إلى رواية ابنه إلى أمير المؤمنين (علیه السّلام) وإلى وجود مثل ذلك القبر.
أقول: في التواريخ تداخل وعدم دقة وما حققناه أصح. فإن تاريخ ولادة الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) جعله سنة ولادتها نفسها وهو أمر بين الخطأ لا يحتاج إلى نقاش.
كيف جاء الله بمليكة إلى الإمام العسكري (علیه السّلام)؟
برواية تفصيلية فقد روى الصدوق (قدس سره)(2) : ( عن محمد بن بحر الشيباني قال: وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين قال وزرت قبر غریب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم انكفأت إلى مدينة السلام متوجهاً إلى مقابر قريش في وقت قد تضرمت الهواجر وتوقدت السمائم، فلما وصلت منها إلى مشهد الكاظم (علیه السّلام) و استنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة المحفوفة بحدائق الغفران أكببت عليها بعبرات متقاطرة، وزفرات متتابعة، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر، فلما رقأت العبرة وانقطع النحيب، فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه وتقوس منكباه، وثفنت جبهته وراحت-اه، وهو يقول لآخر معه عند القبر يا بن أخي لقد نال عمك شرفاً بما حَمَلَه السيدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلا سلمان، وقد أشرف عمك
ص: 446
على استكمال المدة وانقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلا إليه بسره. قلت: يا نفس لا يزال العناء والمشقة ينالان منك بإتعابي الخف والحافر في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدل على علم جسيم وأثر عظيم، فقلت: أيها الشيخ ومن السيدان؟ قال: النجمان المغيبان في الثرى بسر من رأى. فقلت: إني أقسم بالموالاة وشرف محل هذين السيدين من الإمامة والوراثة إني خاطب علمهما، وطالب آثار هما وباذل من نفسي الإيمان المؤكدة على حفظ أسرار هما، قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفح الروايات منها قال: صدقت أنا بشر بن سليمان النحاس، من ولد أبي أيوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجار هما بسر من رأى قلت فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثار هما قال كان مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري فقهني في أمر الرقيق فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كملت معرفتي فيه، فأحسنت الفرق بين الحلال والحرام فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى وقد مضى هوي من الليل إذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً، فإذا أنا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمد يدعوني إليه فلبست ثيابي و دخلت عليه فرأيته يحدث ابنه أبا محمد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال: «يا بشر إنك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف فأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإني مزكّيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها شأو الشيعة في الموالاة بها بسر أطلعك عليه وأنفذك في ابتياع أمة».
فكتب كتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج شتقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً فقال: «خذها وتوجه بها إلى بغداد واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق
ص: 447
السبايا وبرزن الجواري منها، فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشراذم من فتيان ،العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس، عامة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض والإنقياد لمن يحاول لمسها، ويشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق، فيضربها النخاس فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنها تقول وا هتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين على بثلاث مائة ديناراً، فقد زادني العفاف ها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة ولابد من بيعك. فتقول الجارية وما العجلة ولابد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاه ونبله وسخاءه، فَنَاوِها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته، فأنا وكيله في ابتياعها منك».
قال بشر بن سليمان النخاس : فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (علیه السّلام) في أمر الجارية، فلما نظرَتْ في الكتاب بكت بكاءً شديداً، وقالت لعمر بن زيد النخاس يعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرجة المغلظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (علیه السّلام) من الدنانير في الشستقة الصفراء، فاستوفاه مني الله وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاها (علیه السّلام) من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدها، وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: أتلثمين كتاباً، ولا تعرفين صاحبه؟
ص: 448
قالت أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء (علیهم السّلام)، أعرني سمعك وفرغ لي قلبك أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأُمّي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون (علیه السّلام)، أنبوك العجب العجيب: إن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاث مائة رجل ومن ذوي الأخطار سبع مائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهو ملكه عرشاً مصوغاً من أصناف الجواهر، إلى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان، وقامت الأساقفة عُكَفاً ونُشرت أسفار الإنجيل، تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخر الصاعد من العرش مغشياً عليه! فتغيرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم ، فقال كبيرهم لجدي: أيها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني فتطير جدي من ذلك تطيراً شديداً، وقال للأساقفة أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان واحضروا أخا هذا المدير العاشر المنكوس ،جده، لأزوج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول!
وتفرق الناس وقام جدي قيصر معتماً ودخل قصره، وأرخيت الستور! فأُرِيتُ في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين، قد اجتمعوا في قصر جدي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علواً وارتفاعاً، في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) مع فتية وعدة من بنيه، فيقوم إليه المسيح (علیه السّلام) فيعتنقه فيقول: يا روح الله إني جئتك خاطباً وصيك شمعون فتانه مليكة لابني هذا، وأوماً بيده إلى أبي محمد صاحب هذا
ص: 449
الكتاب فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وزوجني، وشهد المسيح (علیه السّلام) وشهد بنو محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والحواريون، فلما استيقظت من نومي أشفقت أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، فكنت أسرها في نفسي ولا أبديها لهم وضرب صدري بمحبة أبي محمد (علیه السّلام) حتى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودق شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدّي وسأله عن دوائي، فلما برح به اليأس قال: يا قرة عيني فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا؟ فقلت يا جدي أرى أبواب الفرج على مغلقة، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومنتتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح وأمه لي عافية وشفاء.
فلما فعل ذلك جدي تجلدت في إظهار الصحة في بدني، وتناولت يسيراً من الطعام فسر بذلك جدي، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم، فرأيتُ أيضاً بعد أربع ليال كأن سيدة النساء (عليها السلام) قد زارتني ومعها مريم بنت عمران (عليها السلام)، وألف وصيفة من وصائف الجنان فتقول لي مريم (عليها السلام): هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد، فأتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمد من زيارتي فقالت لي سيدة النساء (عليها السلام): إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى الله تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضا الله (عزوجل) ورضا المسيح ومريم عنك، وزيارة أبي محمد إياك فتقولي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).
فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها فطيبت لي نفسي وقالت الآن توقعي زيارة أبي محمد إياك، فإني منفذته إليك. فانتبهت وأنا أقول وا شوقاه إلى لقاء أبي محمد، فلما كانت الليلة القابلة
ص: 450
جاءني أبو محمد (علیه السّلام) في منامي، فرأيته كأني أقول له جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبك ! قال: ما كان تأخيري عنك إلا لشركك، وإذ قد أسلمت فإني زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان، فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية !
قال بشر: فقلت لها وكيف وقعت في الأسر؟
فقالت: أخبرني أبو محمد (علیه السّلام) ليلة من الليالي أن جدك سيسر سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا ثم يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحد بي بأتي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إياك عليه. وقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت نرجس فقال اسم الجواري.
فقلت: العجب أنك رومية ولسانك عربي.
قالت: بلغ من ولوع جدي وحمله إياي على تعلم الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمان له في الاختلاف إليّ، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية، حتى استمر عليها لساني واستقام.
قال :بشر فلما انكفأت بها إلى سر من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري (علیه السّلام) فقال لها: «كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية وشرف أهل بيت محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).
قالت: كيف أصف لك يا بن رسول الله ما أنت أعلم به مني.
قال (علیه السّلام): «فإني أريد أن أكرمك، فأيما أحب إليك عشرة آلاف درهم أم بشرى لك فيها شرف الأبد»؟
قالت: بل البشرى .
ص: 451
قال: «فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلما وجوراً».
قالت ممن؟
قال (علیه السّلام): «ممن خطبك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالرومية».
قالت من المسيح ووصيه ؟
قال : فممن زوجك المسيح ووصيه ؟
قالت: من ابنك أبي محمد (علیه السّلام).
قال: «فهل تعرفينه»؟
قالت: وهل خلوت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء (عليها السلام) أمه ؟
فقال أبو الحسن (علیه السّلام): «يا كافور ادعُ لي أختي حكيمة»، فلما دخلت عليه قال لها: ها هيه، فاعتنقتها طويلاً وسرت بها كثيراً، فقال لها مولانا: «یا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن، فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)»(1).
ملاحظات:
1 . راوي هذه الرواية العالم المؤلف الأديب محمد بن بحر الشيباني (رحمه الله علیه)، وقد تقدم توثيقه، وأن الصدوق (رحمه الله علیه) استشهد على عقائد المذهب بفقرات من كتبه.
أما سيدنا الخوئي (قدس سره) فطبق منهجه المتشدد وَضَعَفَ الرواية ! قال (224/4): (لكن في سند الرواية عدة مجاهيل، على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لا يمكن إثبات وثاقة شخص برواية نفسه) يقصد بذلك قول الإمام الهادي (علیه السّلام) لبشر بن سليمان الأنصاري: فأنتم ثقاتنا أهل البيت (علیهم السّلام). ويقصد أنه لا يثبت وثاقة سليمان لأنه هو الذي رواه. لكن يكفي لصحة الرواية اعتضادها برواية محمد بن عبد الجبار الصحيحة المتقدمة، ثم يكفي في توثيق الشيباني ارتضاء الصدوق
ص: 452
والقميين لروايته رغم تشددهم على أن دواعي الوضع هنا منتفية.
وقد ارتضى هذا المبنى الشيخ الأنصاري (قدس سره) على ما تقدم الإشارة إليه.
فهذا كاف في تصحيح رواية مليكة (عليها السلام)، فكيف إذا أضفنا إليه الصحيحة المتقدمة عن محمد بن عبد الجبار، وهي وحدها كافية لتصحيحها.
2. تدل الرواية على المستوى العلمي والعقلي الجيد لبشر الأنصاري (رحمه الله علیه) لأنه لم يحدث الشيباني حتى امتحنه واطمأن إلى أنه عالم موال: (قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فاحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، فلما الكتب وتصفح الروايات منها قال: صدقت. أنا بشر بن سليمان...).
3. ما وصفته مليكة (عليها السلام) من سقوط المنصة والزينة والصلبان والعريس وتكرار ذلك مع العريس الثاني الذي أرادوها لها، كان آيةً ربانية لقيصر ليفهم أن هذا العمل نحس فيتركه، وقد فهم ذلك وتركه. وقد رأيتُ بعض النواصب يسخر من قصة نرجس (عليها السلام)، وفي نفس الوقت يؤمن بكرامات لابن تيمية أعظم منها، ويأتم بمن لا يعقل الخطاب والجواب!
4. كانت تسمى مليكة، ونرجس، وسوسن وريحانة، وصقيل(1)، وسبب تعدد التسمية أن الخليفة وظف جاسوسات يأتينه بأخبار بيت الإمام (علیه السّلام) ومن هي حامل من نسائه وقد زادت رقابتهم على الأئمة (علیهم السّلام) لما اقترب الأمر من الإمام الثاني عشر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، لأنه الموعود الذي يُنهي دولة الظالمين.
هذا ما ذكره في كشف الحق، ولكن هناك احتمالات أخرى منها أن تداول الآسرين والنخاسين للإماء يتغير أسماء من بسبب إعطاء أسماء من قبل النخاس لإمائه، وهناك قضية الترجمة من لغة إلى أخرى، فقد رأينا ذكر بنت القيصر المأسورة في رواية بيزنطية ولم نعثر على مصدرها فأشرنا إليها ولم تنقلها حتى تعثر على المصدر بأن اسمها (أليسا) و (أليسا) هي النرجس وهي السوسن باللغة العربية. وقد ذكرت زوجات الخلفاء بأكثر من اسم للزوجة الواحدة(2).
ص: 453
1. إثبات الهداة (569/3).
2. ويبين ذلك من الرواية المضعفة، فإنه تكون ابنة ابن القيصر في سامراء إذا لم تكن سبیة؟
3. كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج2، ص 385، باب ما روي في نرجس (عليها السلام): ح1.
4. مسند الرواية صحيح بامتياز، لأن الفضل بن شاذان الثقة العين يرويها عن الإمام العسكري (علیه السّلام) بواسطة واحدة، هو محمد بن عبد الجبار، وهو ثقة أيضاً.
5. كتاب المكاسب - الشيخ الأنصاري: 243/2 .
6. باقي المعلومات هي من الويكيبيديا باللغتين الانجليزية والعربية .
7. نفس المصدر.
8. نفس المصدر.
9. نفس المصدر.
10. نفس المصدر.
11. نفس المصدر.
12. نفس المصدر.
13. ومعلوم في تاريخ الدولة البيزنطية أن القيصر (بارداس) أعاد الحرب مع العباسيين وانتصر عليهم عدة مرات، فقد كانت جبهة المواجهة ساخنة حتى لما بعد (سنة 867م) بعد غدر سائس خيل الملك ميخائيل - الذي لم يحكم فعلياً وإنما كانت همته بعشيقته -. والغادر هو المدعو (باسيل المقدوني) سائس خيل الملك بواسطة نفس عشيقة الملك ميخائيل السكير [الموقع الالكتروني (معرفة): مقال باسيل الثاني].
14. باقي المعلومات هي من الويكيبيديا باللغتين الانجليزية والعربية .
15. نفس المصدر.
16. نفس المصدر.
17. وبالمناسبة تذكر أن (نيو فيلس) كان من مضطهدي الكنيسة القائلة بحلية الأيقونات أي عبادة تماثيل المسيح والعذراء، وكان يسجنهم وبعذيهم باعتبارهم إلى الشرك أقرب. ويؤيده نسیبه وأخو زوجته الوزير (بارداس) المتولد (سنة 810م) وأيد هذا الاتجاه أخوه (بتروناس) المولود (سنة 830م).
18. باقي المعلومات هي من الويكيبيديا باللغتين الانجليزية والعربية.
19. نفس المصدر.
20. نفس المصدر.
21. نفس المصدر.
22. نفس المصدر.
23. الويكيبيديا: موسوعة رقمية متعددة اللغات حرة المحتوى، يستطيع أي شخص التحرير فيها بدون تسجيل، ويستطيع أي شخص الاستفادة من المحتوى واستغلاله بهدف تجاري أو غيره وفق لترخيص الموسوعة نشأت عام (2001م) وتطورت بسرعة لتصبح واحدة من أكبر المواقع على الانترنت وتجذب أكثر من (100) مليون زائر شهرياً.
24. مقال للكاتبة إيزابيل بنيامين شارون - الفصل الثاني نرجس یا سوسة الأودیة.
25. صراع الأيقونات (السنوات 717 - 855).
ص: 454
ويراجع لذلك أيضاً ويكيبيديا (حرب الأيقونات البيزنطية).
26. المصدر :مقالة يسي في مدينة السرور، نقشات الأب حيرام الرامي التي وردت في صلاة القديس مرداريوس في السلام الملائكي.
27. المصدر: مديح لوالدة الإله الشافية من السرطان، بهنام كيل الترجة المقدسة المنفذة في الأيام الصعبة ص 213 طبع دمشق 1967.
28. يراجع لذلك كتاب شمعون الصفا بين المسيحية والإسلام - علي داوود جابر.
29. شمعون الصفا - علي الكوراني: ص 215 - 218 کتاب سلیم بن قيس الهلالي: 252 - 30- کمال الدین: 417/2 .
31. ووراه بنحوه دلائل الإمامة / 262 ، بتفاوت بيرا وروضة الواعظين: 252/1؛ ومناقب ابن شهر آشوب: 440/4 مختصراً، ومنتخب الأنوار / 51؛ وإثبات الهداة: 363/3، و 365، و 409 و 495، والبحار: 6/51 و 10 .
32. کشف الحق: 33 .
33. نرجس يا سوسنة الأودية - مقال للكاتبة ایزابیل بنيامين ماما آشوري.
الشيخ نزيه محيي الدين
ص: 455
ص: 456
الموعود
في هذا العدد:
تمهيدنا النص -المهدوي - قراءات معاصرة
مشروعية التقليد في زمن الغيبة الكبرى -! إجابات علمية لشبهات المنكرين - الشيخ جاسم الوائلي
أسس الاعتقاد بوجود الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وإمامته وآليات مقاومة إنكاره - مرتضى علي الحلي
المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) حقيقة ثابتة شاء المرجفون أم أبوا - الشيخ خالد البغدادي
جدلية إظهار ولادة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فية وإعلانها - د. عبير بدر عبد الستار
تأسيس الغياب المهدوي وظهوره في ضوء الخطاب القرآني - م. د. محمد جعفر العارضي
أقوال بعض الفرق في الغيبة والرد عليها - أحمد عبد الله حميد العلياوي
أسلوب الاستفهام في دعاء الندبة - فائزة عبد الزهرة جامل السكيني
قراءة في كتاب الغيبة للنعماني - محمد عبد المهدي سلمان الحلو
المذهب التناسخي يعود بلباس الرجعة الروحية (الجزء الثاني) - الشيخ حميد الوائلي
تحديات الغزو الثقافي لمجتمع (المنتظرين) في زمان الغيبة الكبرى
أ.م.د. وسام حسين جاسم العبيدي
أسباب غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- الشيخ علي الفياض
آليات الحجاج اللغوية في توقيعات الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- الروابط الحجاجية مثالاً
د. عبد الإله عبد الوهاب العرداوي
ص: 457
ص: 458
د. عبير بدر عبد الستار
ص: 459
لقد بدأ الإمام الحسن (علیه السّلام) بكتمان ولادة الحجة بأن تزوج من امرأة غريبة (أمَة) اشتراها له أبوه من سوق النخاسين، عن الصادق (علیه السّلام) «ابن سيدة الإماء»(1) فالأئمة (علیهم السّلام) كانوا يؤكدون هذه الصفة في والدة الإمام الحجة ، وقصة شرائها وزواجها من أعاجيب هذا الإمام(2)، وما نفيده من كونها أمة وغريبة أنه ليس لها أقارب تتزاور معهم ويعرفون من أحوالها ما لا يمكن إخفاؤه.
سجلت لنا المصادر أن والدة الحجة كانت تتسمى بعدة أسماء، فهي ريحانة وسوسن وصقيل ونرجس(3) ويذكر السيد محمد محمد صادق الصدر أن السبب في ذلك هو إمعان (في الحذر وزيادة في التوقي عليها وعلى ابنها ولأجل أن يختلط في أذهان السلطان أن صاحبة أي من هذه الأسماء هي المسجونة وأي
ص: 460
منها هي الحامل وأي منها هي الوالدة وهكذا... حيث يكون المفهوم لدى السلطان كون الأسماء لنساء كثيرات ويغفلون عن احتمال تعددها في شخص امرأة واحدة)(1).
د. عبير بدر عبد الستار
حين مات الإمام العسكري (علیه السّلام) لم يكن معلوماً لدى السلطة العباسية حينها أن الإمام الحجة (علیه السّلام) قد ولد فظنوا أن إحدى زوجات الإمام ما تزال
ص: 461
حاملاً به، فهجموا على الدار وروعوا النساء بحثاً عنها فما كان من أم الإمام - صقيل - إلا أن تقدمت وقالت إنها حامل لتغطي على الإمام، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد الله بن خاقان فجأة وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلك عن الجارية فخرجت من أيديهم(1).
وأخيراً لابد لنا من القول إن السعي الحثيث للإمامين العسكريين (علیهم السّلام) لإخفاء ولادة الحجة (علیه السّلام) حفظاً لحياة الوليد من الإبادة العباسية جعلت ذلك الخفاء إحدى العلائم المهمة التي نكتشف من خلالها زيف مدعي المهدوية الذين يزخر بهم التاريخ الإسلامي إذ لم تنطبق على أي منهم هذه العلامة لأنه لم تُحط ولادة أي منهم بالخفاء كما هو الحال في ولادة القائم من آل محمد (علیهم السّلام)(2).
ص: 462
في هذا العدد :
نظرات في دعاء العهد
السيد علاء الدين السيد عبد الصاحب الموسوي
دخالة البشر في تعجيل فرج الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
الشيخ كاظم القره غولي
المختصر من إقامة الحجة على من أنكر ولادة الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
الشيخ جاسم الوائلي
آيات في القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
السيد باسم الصافي
الأبواب والسفراء
موقعهم من العقيدة ودورهم في دولة أهل البيت (علیهم السّلام)
الشيخ حسن الكاشاني
السيدة نرجس (عليها السلام)- شبهات وردود
الشيخ علي الفياض
أخبار المهديين بين النفي والإثبات
السيد زين العابدين المقدس الغريفي
علم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بوقت ظهوره
مرتضى علي الحلي
مراجعة مصادر كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي (قدس سره)
محمد المسعودي - ترجمة: السيد جلال الموسوي
ص: 463
ص: 464
شبهات وردود
الشيخ علي الفياض
لا يخفى أن من الأساليب المتبعة لدى البعض في نقد عقيدتنا في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هو إثارة التساؤلات والشكوك والشبهات حول أم الإمام السيدة نرجس (عليها السلام)، فكان هذا البحث في الدفاع عن هذه السيدة الجليلة (عليها السلام).
وفي التمهيد ذكرنا الأقوال في أصلها، ورجحنا القول الأول وهو قدومها من بلاد الروم.
وحاولنا جمع كل ما أثير حولها من شبهات، فكان المهم منها عشرة، وقد ذكرنا الأجوبة التي قيلت وبشكل موجز ليناسب البحث.
وهناك تساؤلات أخرى لم نذكرها إما لأنها لا تستحق الرد، أو لأن الأسلوب المتبع في طرحها هو أسلوب السب والشتم والتهريج، وهي حرفة العاجز.
أصل السيدة نرجس (عليها السلام):
تختلف الروايات والآراء في بيان أصل السيدة نرجس (عليها السلام) ومن أين قدمت، أو أين كانت، وفي ذلك يمكن ذكر الأقوال التالية:
القول الأول: من بلاد الروم:
الرأي المشهور يقول إن السيدة نرجس (عليها السلام) أصلها من الروم، وهذا الرأي
ص: 465
يعتمد على النصوص الواردة في هذا المجال، وأن اسمها مليكة بنت يشوعا بن قیصر ملك الروم، ذكر ذلك كل من الشيخ الصدوق(1)، والشيخ الطبري(2)، والشيخ الطوسي(3).
وتنص هذه الرواية المشهورة، على أنها (عليها السلام) جاءت من بلاد الروم عندما حصلت حرب بين المسلمين والروم ووقعت في الأسر، ومن ثم بيعت في سوق النخاسين ببغداد واشتراها بشر بن سليمان النخاس وهو الشخص الذي أرسله الإمام الهادي (علیه السّلام) من سامراء إلى بغداد لهذا الغرض، ثم أخذها إلى سامراء حيث بيت الإمام الهادي (علیه السّلام) وسلَّمها إلى السيدة حكيمة (عليها السلام) لتعلمها الأحكام الشرعية.
وأيضاً توجد رواية للفضل بن شاذان تنص على أن أصل السيدة نرجس من الروم(4).
وهذا الرأي يختلف عن سابقه حيث يصرح بولادة السيدة نرجس (عليها السلام) في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام)، وأول من نقل ذلك فيما تعلم هو الشيخ شيخ حسين عبد الوهاب في كتابه (عيون المعجزات) حيث يقول:
(قرأت في كتب كثيرة بروايات كثيرة صحيحة أنه كان الحكيمة بنت أبي جعفر محمد بن علي (علیه السّلام) جارية ولدت في بيتها وربَّتها، وكانت تسمى نرجس فلما كبرت دخل أبو محمد فنظر إليها، فقالت له عمته حكيمة أراك يا سيدي تنظر إليها ، فقال (علیه السّلام): «إني ما نظرت إليها متعجباً، أما أن المولود الكريم على
ص: 466
الله يكون منها»، ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن أباه (علیه السّلام) في دفعها إليه، فقلت للمو فأمرها بذلك)(1).
وقال الشيخ الصدوق بسند ينتهي إلى محمد بن عبد الله الطهوي: (قصدت حكيمة بنت محمد (علیه السّلام)... قالت : نعم كانت لي جارية يقال لها نرجس فزارني ابن أخي... فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي؟ فقال: «استأذني في ذلك أبي (علیه السّلام)»...)(2).
وهذه الرواية تدل على أن السيدة نرجس (عليها السلام) كانت في بيت حكيمة، وأنها ملك لها وإن كانت رواية الشيخ الصدوق لا تصرح بالولادة في بيتها.
وقال الشيخ المسعودي: (إن بعض أخوات أبي الحسن علي بن محمد (علیه السّلام) كانت لها جارية ولدت في بيتها وربتها تسمى نرجس فلما كبرت وعبل دخل أبو محمد (علیه السّلام) فنظر إليها فأعجبته... ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن في دفعها إليه...)(3).
والرواية تصرح بالولادة في بيت حكيمة وأنها ريَّتها وأعطتها الإمام الهادي (عليها السلام) ووهبتها إلى الإمام العسكري (علیه السّلام).
ونقل كلام المسعودي صاحب أعيان الشيعة قال: (قال المسعودي في كتاب إثبات الوصية: روى لنا الثقات من مشايخنا أن بعض أخوات أبي الحسن علي بن محمد الهادي (علیه السّلام) كانت لها جارية ولدت في بيتها وربتها تسمى نرجس...)(4).
وروى المحدث البحراني في مدينة المعاجز نقلاً عن الطيري: (...وأنه كان عندي صبية يقال لها نرجس وكنت أربيها من بين الجواري ولا يلي تربيتها
ص: 467
غيري ...)(1)، وهو حياوي من جهة الولادة في بيتها، وإن كان فيه إشعار لذلك بملاحظة (كان عندي صبية) فهي منذ صغرها في بيتها.
إن القول بأن أم القائم (علیه السّلام) كان أصلها من بلاد النوبة في السودان هو قول ضعيف لأن من قال بذلك اعتمد على رواية القافة(2)، حيث ورد التعبير فيها: «... بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبة الطيبة المنتجبة الرحم...»، التي قد يفهم بها أن المقصود هي أم القائم (عليها السلام)، ولكن التحقيق أن الوصف هذا وارد في أم الإمام الجواد (علیه السّلام)، ولغرض التوضيح تنقل الرواية الطويلة بتمامها:
روى الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني جميعاً، عن زكريا بن يحيى بن النعمان الصير في قال: سمعت علي بن جعفر يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال: والله لقد نصر
الله أبا الحسن الرضا (علیه السّلام)، فقال له الحسن: إي والله جعلت فداك لقد بغ عليه إخوته، فقال علي بن جعفر: إي والله ونحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جعلت فداك كيف صنعتم فإني لم أحضر كم؟
قال: قال له إخوته ونحن أيضاً ما كان فينا إمام قط حائل اللون(3)، فقال لهم الرضا (علیه السّلام): «هو ابني»، قالوا: فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد قضى بالقافة فبيننا وبينك القافة، قال: «ابعثوا أنتم إليهم، فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم ولتكونوا في بيوتكم».
فلما جاءوا أقعدونا في البستان واصطف عمومته وإخوته وأخواته وأخذوا الرضا (علیه السّلام) وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها ووضعوا على عنقه مسحاة وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاءوا بأبي جعفر (علیه السّلام) فقالوا:
ص: 468
ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا ليس له ههنا أب، ولكن هذا عم أبيه، وهذا عم أبيه، وهذا عمه، وهذه عمته، وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن (علیه السّلام)قالوا: هذا أبوه.
ليلا قال علي بن جعفر: فقمت فمصصت ريق أبي جعفر (علیه السّلام) ثم قلت له: أشهد أنك إمامي عند الله، فبكى الرضا (علیه السّلام)، ثم قال: «يا عم ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبية الطيبة الفم المنتجبة الرحم، ويلهم لعن الله الأعيس(1) وذريته، صاحب الفتنة، ويقتلهم سنين وشهوراً وأياماً يومهم خسفاً ويسقيهم كأساً مصبرة، وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك، أي واد سلك أفيكون هذا يا عم إلا مني، فقلت: صدقت جعلت فداك(2).
وبعد ذكر الرواية يتضح أن المقصود ب_«النوبية الطيبة» هنا، هي أم الإمام الجواد (علیه السّلام)، وأما المقصود بالابن فيمكن القول إن فيه احتمالان هو الابن المباشر وهو الإمام الجواد (علیه السّلام)وهذا يتناسب مع سياق الرواية.
والثانية الابن بواسطة وهو الإمام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وهو يتناسب مع الفقرة البعدية من الرواية ويقتلهم سنين، وتكون أم الإمام الجواد (علیه السّلام) أما للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) باعتبارها جدة .
قال في معجم أحاديث الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف): (المقصود ب_(ابن خيرة الإماء النوبية) الإمام الجواد (علیه السّلام) الذي ورد في وصفه أنه يميل إلى السمرة...)(3).
وقال في المعجم الموضوعي : (...ورد في تعبير (ابن خيرة الإماء) في حق الإمام المهدي (علیه السّلام) و في حق جده الإمام الجواد (علیه السّلام) وأمه نوبية سوداء (رضی الله عنه)(4).
ص: 469
وقال العلامة المجلسي مضعفاً هذا القول، أي إن للقائم أما سوداء بقوله: (بيان قوله (علیه السّلام): «ابن أمة سوداء» يخالف كثيراً من الأخبار التي وردت في وصف أُمه (علیه السّلام) ظاهراً، إلا أن يحمل على الأم بالواسطة أو المربية)(1).
وهذا الرأي ضعيف أيضاً وهو يفترض أن أم القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هي مريم بنت زيد العلوية أخت محمد بن زيد والحسن بن زيد الداعي بطبرستان وهما من المدينة المنورة، فيكون أصلها وولادتها في المدينة المنورة.
قال الشهيد الأول(2)، في الدروس: (أُمه صقيل، وقيل: نرجس، وقيل: مريم بنت زيد العلوية)(3).
وإذا رجعنا إلى المصادر التي قبل وقت الشهيد الأول لم نجد ذكراً هذا الاسم إلا من الخصيبي في كتابه (الهداية الكبرى) المتوفى سنة (334ه_)، حيث ذكر ذلك وضعفه، وذكر أن الصحيح في اسم السيدة هو (نرجس)، قال: (وأنه صقيل، وقيل: نرجس، ويقال: سوسن، ويقال: مريم ابنه زيد أخت حسن ومحمد بن زيد الحسيني الداعي بطبرستان، وأن التشبيه وقع على الحواري أُمهات الأولاد والمشهور الصحيح«نرجس...)(4).
وأما الحسن بن زيد فهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني الزيدي الملقب بالداعي الخارج بطبرستان، ولد ونشأ في المدينة ثم أقام بالعراق فضاقت عليه الأمور هناك، فقصد بلاد الديلم وأسلم على يده جماعة وسكن الري، ولما كثر ظلم محمد
ص: 470
بن أوس البلخي في طبرستان كتب هو إلى الحسن يبايعونه على أن يحكم فيهم بالعدل والإنصاف ويسير بسيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلي (علیه السّلام)، فجاءهم وزحف بهم فاستولى على طبرستان وكثر جيشه، فملك جرجان ونواحيها، ثم دخل الري بعد هزيمة جيوش المستعين العباسي ودعا إلى الرضا من آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) واستمر ملکه عشرين سنة وتوفي بطبرستان سنة (270 ه_)(1).
وأما أُم الحسن بن زيد، فهي آمنة بنت عبيد الله بن عبد الله بن الحسين الأصغر بن الإمام زين العابدين (علیه السّلام)(2).
والمفروض أن مريم بنت زيد العلوية هي بنت لها وفي حدود تتبعنا لم نعثر في المصادر على بنت الآمنة أو لزيد بهذا الاسم، وهذا يضعف هذا الرأي كون أم القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هي مريم بنت زيد، وقد ذكر أيضاً في المصادر أن ختن الحسن بن زيد الداعي الكبير هو أبو الحسين أحمد بن محمد بن إبراهيم(3)، والختن(4) هو زوج البنت أو زوج الأخت .
فلو كان الإمام العسكري اختنا للحسن بن زيد لذكرته المصادر التاريخية ولم تهمله وكيف تهمل مثل هكذا شرط ولم تنقله، وهذا يجعلنا في اطمئنان أن ، مريم بنت زيد - إن وجدت - فهي ليست أُما للقائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
وأنه يوجد أربعة أقوال في أصل السيدة نرجس (عليها السلام):
الأول: المشهور أنه من بلاد الروم وهو الراجح لاشتهار رواية محمد بن بشر الشيباني واعتضادها بروايتين للفضل بن شاذان.
ص: 471
وأما الثاني: هو كونها ولدت في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام)، فيأتي في المرتبة الثانية لتضعيفه من قبل المتقدمين كما ذكرنا.
وأما الثالث وكونها من النوبة فقد تقدمت مناقشته.
وكذا الرابع: القائل بأنها مريم بنت زيد العلوية لا يمكن المصير إليه لما تقدم.
إن إسلامها (عليها السلام) وزواجها كان في عالم الرؤيا(1)، وهو مما لا يمكن الاعتراف عيته وقانونيته.
الجواب:
إن هذا الحديث وإن كان يشير إلى حصول الخطبة والزواج في عالم الرؤيا، إلّا أنه بنفسه - أي الحديث - يذكر أنه تحقق في الواقع وأنها أصبحت مسلمة في عالم اليقظة، لاحظ حوارها مع الإمام الهادي (علیه السّلام) حيث يقول: .... كيف أراك الله عزَّ الإسلام وذل النصرانية، وشرف أهل بيت محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)»؟
ص: 472
قالت: كيف أصف لك يا بن رسول الله ما أنت أعلم به مني ؟(1)
فإن تصريح الإمام (علیه السّلام) بأن الله أراها الإسلام واعترافها هي برسالة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) يدل على إسلامها(2)، وأما زواجها فقد تم بإنشاء الإمام الهادي (علیه السّلام) حيث يقول لأخته السيدة حكيمة : .... يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن، فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (علیه السّلام)...»(3).
إن حديث بشر النخاس دال على تساقط الصلبان والأعمدة من دون سبب ظاهر»(4).
يمكن استظهار سببين معقولين على هذه الحادثة:
أحدهما: استنكار بقاء هؤلاء على الدين المسيحي، مما يستدعي حصول هذا التساقط كإنذار لهم.
ثانيهما: استنكار زواج هذه المرأة من ابن عمها، فإنها مقدَّرة في علم الله تعالى أن تكون زوجة للإمام العسكري (علیه السّلام) وأمَّا لصاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)(5).
ص: 473
ومن الراجح أن يكون زلزال القصر قد حدث كرامة وإعجازاً للسيدة نرجس (عليها السلام) وليس كنتيجة طبيعية لوقوع زلازل في عدة مدن على أننا وإن استظهرنا وجود سبب مادي للحادثة، فهذا لا يعني الجزم به، وليس العجز عن تفسير حادثة تساقط الصلبان الأعمدة بضار فيما نعتقده في أمر أم الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
وجود تنافي في الرواية، فإنها تنص في أولها على أن الإمام الهادي (علیه السّلام) هو الذي كتب الكتاب حيث يقول بشر النخاس: (... فإذا أنا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمد (علیهما السّلام) يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه... فكتب كتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه...)(1) ، بينما تدل بعد ذلك أن كاتبه هو الإمام العسكري (علیه السّلام) حيث قالت الرواية: (... فدخل عليهم محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) مع فتية وعدة من بنيه، فيقوم إليه المسيح فيعتنقه فيقول: يا روح الله إني جنتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأوم-اً بيده إلى أبي محمد صاحب هذا الكتاب...)(2).
الجواب:
أولاً: أن الرواية دلّت على أن الكاتب هو الإمام الهادي (علیه السّلام) ولكن الجارية كانت تتوهم أن كاتبه هو الإمام العسكري (علیه السّلام)(3).
وثانياً: أن رواية الشيخ الطوسي لا يوجد فيها هذا التنافي بل فيها تصريح أن صاحب الكتاب هو الإمام الهادي (علیه السّلام) حيث ورد في الفقرة الثانية: (وأوماً بيده إلى أبي محمد (علیه السّلام) ابن صاحب هذا الكتاب)(4).
ص: 474
هو إشكال على رواية محمد بن بحر الشيباني(1) ويقول الإشكال: إن الرواية تضمنت علم الإمام الهادي (علیه السّلام) بالغيب مع أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
لا ندعي أن الإمام يعلم بالغيب مباشرة ومن دون تعليم الهي، ولكن إذا أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى، وقد نطقت بذلك الأخبار، فعلم المعصوم يأتي في طول العلم الإلهي لا في عرضه لكي يستلزم محذور الاستقلالية، أي أن الإمام (علیه السّلام) لا يعلمه بنفسه ولكن بتعليم منه تعالى، يدل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿فَلا يُظهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ (الجن 26-27).
ومن الروايات ما ورد عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن الإمام، يعلم الغيب ؟ فقال: «لا ، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك»(2).
الإشكال الخامس:
إن الإيمان بمضمون الرواية يتوقف على الإيمان بالأحلام ومما لا شك.
الجواب:
إن الخرافة هي الفكرة القائمة على مجرد التخيلات دون الحصول في الواقع
ص: 475
وأن ما ذكر في الرواية صار مطابقاً للواقع فالمدار ليس على ما في الحلم وإنما على التحقق الخارجي.
ثانياً: يمكن القول إن البعض من الرؤيا تكون صادقة ولا بأس أن نذكر هنا بعضاً من الروايات الواردة حول الرؤيا الصادقة:
1- عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سمعته يقول: «رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءاً من أجزاء النبوة»(1).
2 - عن معمر بن خلاد عن الرضا (علیه السّلام)قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان إذا أصبح قال لأصحابه هل من مبشرات ؟ يعني به الرؤيا»(2)،(3) وفيها دلالة على أهمية الرؤيا وكون البعض منها صادقاً.
3- عن جابر عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال: قال رجل لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في قول الله تعالى: ﴿لَهُمُ البُشرى في الحياةِ الدُّنْيا﴾ [يونس: 64]، قال: هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه»(4).
4 - عن سعد بن أبي خلف، عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «الرؤيا على ثلاثة وجوه بشارة من الله تعالى للمؤمن، وتحذير من الشيطان، وأضغاث أحلام»(5).
ص: 476
ثالثاً: الرؤيا في الرواية يمكن حملها على نحو من الرمزية والإشارة إلى أو الإلهام بقرينة الانطباق السريع والدقيق الحاصل بعد ذلك.
*إشكالات الدكتور جاسم حسين ذكر الدكتور جاسم حسين في كتابه الغيبة(1)، عدة إشكالات حول رواية محمد بن بحر الشيباني(2) خصوصاً الجزء الأخير منها ننقلها هنا مع جوابنا عليها.
لا توجد معركة كبيرة بين العباسيين والبيزنطيين بعد سنة (242ه_)، وأيضاً لا توجد مؤشرات في المصادر على أن إمبراطور الروم أراد أو قام بتحرير حفيدته.
ونقدم الإجابة على النقطة الثانية.
فنقول:
1 - إن عدم العشور في المصادر على مؤشرات أن إمبراطور الروم قام بطلب الفداء لحفيدته نرجس، هذا لا يعني عدم وجود ذلك، فكما يقال عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
فالدكتور جاسم حسين لم يعثر على مؤشر، ولكن من قال لا يوجد أي مؤشر ؟
ومن قال إنه استقصى جميع المصادر التاريخية؟
ص: 477
2- لو تنزلنا وقلنا: لا يوجد مؤشر على طلب الفداء، وأن ملك الروم لم يطلب، وربما يكون هذا لأسباب وموانع من قبيل أنه كان يراها قتلت، أو لأجل مانع لا نعلمه وعلى أي حال أن الطعن في الرواية من هذا الجانب نراه ضعيفاً جداً.
والآن نرجع إلى النقطة الأولى: وقد حققنا وقوع معارك بين الروم والعباسيين ووجدنا وقوع معركة في التاريخ المذكور.
ينفي الدكتور جاسم حسين وقوع حرب كبيرة بعد (242ه_)، وفي مقام الإجابة نقول لا يشترط أن تكون الحرب كبيرة وعظيمة حتى يحصل فيها أسر، بل يمكن من وقوع بعض الغزوات حصول ذلك، وعلى أي حال توجد في المصادر التاريخية عدة غزوات ومعارك ومناوشات حصلت بين المسلمين من جهة وبين الروم البيزنطيين من جهة أخرى، وليس بالضرورة أن تقع الحرب بعد سنة (242ه_)، فيمكن أن تكون قبل ذلك، ويقع الأسر غايته سوف تكون فترة بقاء السيدة نرجس (عليها السلام) في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام) فترة طويلة، وهذا ها 4 لا يشكل مانعاً.
ذكر الطبري في أحداث سنة (242ه_) قال: (خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني(1)، من الصائفة حتى قاربوا آمد ثم خرجوا من الثغور الجزرية فانتهبوا عدة قرى وأسروا نحواً من عشرة آلاف إنسان، وكان دخولهم من ناحية إبريق قرية قربياس ثم انصرفوا راجعين إلى
ص: 478
بلادهم فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في إثرهم وموجود فلم يلحقوا منهم أحداً، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيا)(1).
قال الطبري في أحداث سنة (245ه_): (وفيها أغارت الروم على سميساط فقتلوا وسبوا نحواً من خمسمائة وغزا علي بن يحيى الأرمني والصائفة)(2)،(3).
وكذلك قال ابن الجوزي في أحداث سنة (245ه_)(4).
وأيضاً ابن الأثير قاله في حوادث (245ه_)(5).
وكذا نقل الذهبي في أحداث نفس السنة(6).
وقال ابن خلدون (وفي سنة خمس وأربعين أغارت الروم على سميساط لنموا، وغزا علي بن يحيى الأرميني بالصائفة كركرة وانتقض أهلها على بطريقهم فقبضوا عليه وسلموه إلى بعض موالي المتوكل فأطلق ملك الروم في فداء البطريق ألف أسير من المسلمين)(7).
قال الطبري في تاريخه: (ثم دخلت سنة (246ه_) ... فمن ذلك غزو عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة فأخرج سبعة آلاف رأس وغزوة قربياس، فأخرج خمسة آلاف رأس، وغزو الفضل بن قارن بحراً في عشرين مركباً فافتتح حصن
ص: 479
الموعود ،أنطاكية، وغزوة بلكاجور فغنم وسبى، وغزو علي بن يحيى الأرمني الصائفة فأخرج خمسة آلاف رأس ومن الدواب والرمك والحمير نحواً من عشرة آلاف...)(1).
وقال ابن الأثير في أحداث (246ه_): (وفيها غزا عمرو بن عبد الله الأقطع الصائفة فأخرج سبعة عشر ألفاً ...)(2).
وقال ابن الجوزي قبل ذلك(3).
قال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة (248ه_): (في هذه السنة أغزى المنتصر وصيفاً التركي إلى بلاد الروم وكان سبب ذلك... وأمر وصيفاً أن يوازي ثغر ملطية... كتب إليه المنتصر يأمره بالمقام بالثغر أربع سنين يغزو في أوقات الغزو منها... وفيها غزا الصائفة وصيف وكان مقيماً بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم فافتتح حصن فرورية)(4).
وقال في موضع آخر: (ووصل إلى إفريقية خفاجة بن سفيان أميراً على صقلية، فوصل في جمادى الأولى سنة (248) ، فأول سرية أخرجها سرية فيها ولده محمود فقصد سرقوسة(5)، فغنم وخرب وأحرق وخرجوا إليه فقاتلهم فظفر وعاد فاستأمن إليه أهل رغوس)(6).
ذكر ابن الأثير في حوادث سنة (249ه_): (في هذه السنة غزا جعفر بن
ص: 480
دينار الصائفة فافتتح حصناً ومطامير واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المسير إلى بلاد الروم، فأذن له، فسار في خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع عظيم من الروم بمرج الأسقف، فحاربه محاربة شديدة قتل فيها من الفريقين خلق كثير.
ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفاً، وقتل عمر وممن معه ألفان من المسلمين في منتصف رجب، فلما قتل عمر بن عبيد الله خرج الروم إلى الثغور الجزرية وكلبوا عليها وعلى أموال المسلمين وحرمهم فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين في جماعة من أهلها ومن أهل السلسلة فنفر إليهم فقتل في نحو من أربعمائة رجل وذلك في شهر رمضان)(1).
وقال اليعقوبي في تاريخه في أحداث سنة (249ه_): (وولى المستعين علي بن يحيى الأرمني أرمينية في هذه السنة.... وأغارت الروم وتوسطت بلاد المسلمين... فلقي عسكر الروم، فقاتل قتالاً شديداً، فقتل، وأخذ الروم بدنه وعدوه فتحاً عظيماً لما كان قد أشجاهم)(2).
وقال المسعودي (ت 346ه_) في مروج الذهب: (وكانت وفاة عمرو بن عبيد الله الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني في سنة واحدة...، وذلك في (249ه_) في خلافة المستعين بالله ... وقد كان عمرو بن عبيد الله غازياً في تلك السنة في الملطيين، فلقي ملك الروم في خمسين ألفاً)(3).
قال الطبري في تاريخه في حوادث سنة (250ه_): (وغزا الصائفة فيها بلكاجور...)(4).
ص: 481
قال الطبري في تاريخه في حوادث سنة (251ه_): (وفيها كانت ليلكاجور غزوة فتح فيما ذكر فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة وأسر جماعة من الأعلاج وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة 251ه_...)(1).
قال ابن الأثير في الكامل: (وفي سنة 252 سار خفاجة إلى سرقوسة ثم إلى جبل النار... ففتحها وسبى أهلها)(2).
قال ابن الأثير: (وفي سنة 253 سار خفاجة من بلرم إلى مدينة سرقوسة وقطانية... وسارت سراياه إلى أرض صقلية فغنموا غنائم كثيرة...)(3).
قال ابن الأثير: (وفي سنة 254 سار خفاجة... وسير ابنه محمد على الحراقات وسير سرية إلى سرقوسة فغنموا وأتاهم الخبر أن بطريقاً قد سار من سطنطينية في جمع كثير فوصل إلى صقلية فلقيه جمع من المسلمين فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم الروم وقتل منهم خلق كثير وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة ورحل خفاجة إلى سرقوسة...)(4).
قال ابن الأثير: (وفي سنة 255 سير خفاجة ابنه محمد إلى مدينة طبرسين (صقلية)... وشرعوا في السبي والغنائم)(5).
ص: 482
بعد ذكر الاحتمالات حول السنة التي وقعت فيها الحرب بين المسلمين والروم ومن ثم تأسير السيدة نرجس (عليها السلام) يمكن القول بترجيح الاحتمال الخامس، أي وقوع الحرب سنة (249ه_) فإنه أقرب الاحتمالات للأسباب التالية:
1 - إنها حرب شديدة وقد قتل فيها خلق كثير ومقتل عمر بن عبد الله الأقطع.
2 - إن ملك الروم كان حاضراً في المعركة وهذا يتطابق مع رواية محمد بن بحر الشيباني التي يفهم منها بحضوره في المعركة(1).
3 - إن هذه السنة تتناسب مع كون عمر السيدة نرجس (عليها السلام) في سن الزواج أو قبل هذا السن بقليل حيث إن تاريخ زواجها من المحتمل أنه سنة (254ه_) على أبعد التقادير أو بدايات سنة (255ه_)، وذلك لأن عادة النساء الوضع والولادة بعد سنة بناءً على أن ولادة الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) حصلت سنة (255ه_) كما هو الأشهر.
للراوي محمد بن بحر الشيباني(1) إضافة إلى اتهام الشيباني بالغلو من قبل كشي والنجاشي وابن داود(2).
1 - أما أن الرواية لم يذكرها سعد بن عبد الله الأشعري القمي فإنه من علماء الكلام وكتابه يتحدث عن الفرق والاعتقادات وليس هو كتاب حديث لتذكر فيه الروايات كما هو حال كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق الذي نقل الرواية، وليس من دأب علماء الكلام نقل الروايات سيما إذا كانت طويلة.
2 - إن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، وهل عدم نقل القمي لها، يعني أنها مكذوبة.
3 - أما الشيخ الكليني الذي اهتم بنقل الأصول والفروع فعدم نقله لهذه الرواية ربما يكون بسبب عدم وصولها إليه وليس كل شيء لم يذكره فهو غير صادر، فبعض الروايات لم ينقلها الشيخ الكليني، ومع ذلك فإذا ثبتت من خلال الكتب الأخرى تكون حجة يؤخذ بها.
4- وأما المسعودي فإنه من المؤرخين وعدم ذكره للرواية لا يدل على عدم مجيء السيدة نرجس من تلك البلاد كما هو واضح نعم المسعودي نقل رواية أخرى في ولادة السيدة نرجس وأنها ولدت في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام) وقد تقدم ذكر ذلك وبيان وجه الحال فيه.
ص: 484
5 - وأما اتهام الشيباني بالغلو فيمكن الإجابة عنه بما يلي:
أ - فإن الغلو هو تجاوز الحد والخروج عن القصد قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ (النساء : 177) ، يطلق على من يقول في النبي والأئمة (علیهم السّلام) بالألوهية أو أنهم شركاء في الخلق والرزق .
وله إطلاقات أخرى فيطلق على من يقول بنفي السهو عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وكذا على الراوي الذي يبالغ في نقل معجزاتهم (علیهم السّلام) وهذان الإطلاقان مقبولان، أي لا يشكلان مشكلة عقائدية، قال السيد الخوئي (قدس سره): (على أن بعض أنواع الغلو الله يمكن القول به كما في نفي السهو عن الأئمة (علیهم السّلام)).
ويظهر أن إطلاق الغلو على محمد بن بحر الشيباني كان بسبب نقله فضائل الأئمة (علیهم السّلام) وقوله بتفضيلهم على الأنبياء والملائكة على الأنبياء، وإذا كان هذا السبب فهذا ليس فيه مشكلة عقائدية ولا يؤدي إلى ضعف في الراوي.
ب - إن ظاهر عبارة النجاشي إن الاتهام عليه بالغلو من البعض، وليس من النجاشي بل يظهر أن النجاشي يجيب عنها بأن رواياته وأحاديثه قريبة من السلامة، أي لا يوجد فيها غلو أو ارتفاع(1) ، أو تفويض(2)، وأما ما رماه به الكشي من الغلو في ترجمة زرارة بن أعين فيبدو أن السبب هو تفضيله الأئمة (علیهم السّلام) على الملائكة في الرسالة التي أوردها الشيخ الصدوق في العلل ونقلها الشيخ المجلسي في بحاره، وكيف ما كان، فإن الظاهر من كلمات الرجاليين أنه غير متهم بالكذب والخيانة فيصح الاعتماد عليه(3).
ص: 485
يمكن ذكر عدة أدلة على إسلامها (علیه السّلام)(1) منها:
الدليل الأول: عبادتها:
تصرح النصوص الشريفة أن السيدة نرجس (عليها السلام) كانت تمارس العبادة الإسلامية من وضوء وصلاة وغيرها كما أنها تعلمت الأحكام الواجبة وغيرها من السيدة حكيمة (عليها السلام)، وهذا يدل على أنها كانت مسلمة، جاء في كمال الدين: (ثم قامت فصلت ...)(2) ، وفي كتاب الغيبة: (... ثم عادت فصلت صلاة الليل وبلغت إلى الوتر ...)(3)، وقال الإمام الهادي (علیه السّلام) للسيدة حكيمة: «يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (علیه السّلام)»(4).
الدليل الثاني: الوضوح عند الإمامية:
هناك وضوح عند الإمامية على إسلام أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فلم يثبت عندهم مخالف في هذه المسألة، فالإمامية لم يعهد عنهم أنها (عليها السلام) بقيت على نصرانيتها أو أنها مشركة، ولو كان هذا الأمر معروفاً لكان بائناً.
الدليل الثالث: طهارة أرحام أُمهات الأئمة (علیهم السّلام):
ما دلّ على أن أمهات الأئمة (علیهم السّلام) أرحامهم طاهرة حيث ورد في زيارة أئمة البقيع (علیهم السّلام): «... لم تزالوا بعين الله ينسحكم في أصلاب المطهرين وينقلكم في
ص: 486
أرحام المطهرات لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء، و لم تشرك فيكم فتن الأهواء، وموجة طبتم وطاب منبتكم»(1)، فإن الفقرات «أصلاب المطهرين» و«أرحام المطهرات» و «لم تدنسكم» و«طاب منبتكم» ، تدل على طهارة أُمَّهات الأئمة (علیهم السّلام)من الكفر وكذا السفاح.
ويمكن القول إنها تدل على إسلامها ولو بالمعنى الأعم، أي بمعنى ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾ (الحج: 78) وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمُ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 131)، فيدل على إسلام السيدة نرجس (عليها السلام) ولو بالمعنى الأعم للإسلام.
وأيضاً ورد في زيارة الإمام الحسين (علیه السّلام): «... شهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها ...»(2)، وقوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ (الشعراء: 219)، حيث نقل عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «ونقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية»(3)، وقد اختلف في تفسير معنى الطهارة فقيل بأنها تنزيه الأمهات عن السفاح، وقيل بأنها تنزيه الظهور والبطون عن الشرك(4)، إذ لو كان أحد الآباء مشركاً لما استحق أن يوصف بالطهارة لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة: (28).
وأيضاً يدل على ذلك قول الإمام الباقر (علیه السّلام): .... ثم أودعنا بذلك النور صلب آدم (علیه السّلام)، فما زال ذلك النور ينتقل من الأصلاب والأرحام من صلب إلى صلب ...»(5)، وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: .... ثم قذفنا في صلب آدم
ص: 487
ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ولا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر ...»(1).
وأيضاً ورد عنه (صلی الله علیه و آله و سلم): «ما زلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات...»(2).
الدليل الرابع: استحباب اختيار المرضعة المسلمة:
يستحب للإنسان المسلم أن يختار لوليده المرضعة المسلمة، كما صرح بذلك الأصحاب، صحاب، ومن البعيد جداً أن المعصوم - وهنا الإمام العسكري (علیه السّلام) - أن مرض- رضعة غير مسلمة، لذا لابد أن تكون المرضعة التي اختارها - وهي زوجته السيدة نرجس (عليها السلام)- مسلمة، وهذا خير دليل على إسلامها (عليها السلام) وتشير الرواية إلى انحصار المرضعة في السيدة نرجس (عليها السلام) ولم تكن للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مرضعة غيرها.
قالت السيدة حكيمة (عليها السلام): (... فتناولته أمه فأرضعته، فرددته إلى أبي محمد (علیه السّلام) والطير ترفرف على رأسه، فصاح بطير منها، فقال له: «احمله واحفظه وردّه إلينا في كل أربعين يوماً»، فتناوله الطير وطار به في جو السماء وأتبعه سائر الطير فسمعت أبا محمد (علیه السّلام) يقول: «أستودعك الله الذي أودعته أم موسى، موسى»، فیکت نرجس فقال لها: «اسكتي فإن الرضاع محرّم عليه إلا من ثديك وسيعاد إليك كما ردّ موسى إلى أمه، وذلك قول الله : ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾»(3).
ولتنقل هنا بعض كلمات الأصحاب التي صرحت باستحباب اختيار المرأة المسلمة للرضاعة:
ص: 488
1 - قال العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء: (يستحب ارتضاع العفيفة العاقلة لولو المسلمة الوضيئة الحسنة . لما رواه محمد بن مروان عن الباقر (علیه السّلام)، قال : قال لي: «استرضع لولدك بلبن الحسان، وإياك والقباح، فإن اللبن قد يعدى»(1).
2 - قال العلامة الحلي في تبصرة المتعلمين: (ويستحب اختيار المسلمة الوضيئة العفيفة العاقلة للرضاع)(2).
3- قال الشهيد الثاني في الروضة البهية: ((ويستحب في) الاسترضاع (اختيار) المرضعة (العاقلة المسلمة العفيفة الوضيئة) الحسنة (للرضاع)، لأن الرضاع مؤثر على الطباع، والأخلاق، والصورة...)(3).
الدليل الخامس: الدفن في بيت الإمامين العسكريين (علیهم السّلام):
من الأحكام المجمع عليها هو أنه لا يجوز دفن غير المسلم في مقبرة المسلمين، ومن الثابت تاريخياً أن السيدة نرجس (عليها السلام) دفنت في بيت الإمام الهادي والعسكري (علیهما السّلام)، فلو كانت غير مسلمة فلم يصح دفنها في هذه البقعة الطاهرة .
قال في أعيان الشيعة: (وكان طريق السرداب و درجه من داخل حرم العسكريين (علیهما السّلام) قريباً من قبر نرجس أم المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)(4).
ولننقل هنا نماذج من كلمات الفقهاء والدالة على عدم جواز دفن غير المسلم في مقبرة المسلمين:
1 - قال العلامة الحلي: (ولا يدفن في مقبرة المسلمين غيرهم إلا الذمية الحامل من المسلم، فيستدير بها القبلة)(5).
ص: 489
2 - وقال الشهيد الأول: (أجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يدفن في مقابر المسلمين كافر لئلا يتأذى المسلمون بعذابهم، ولأنها إن كانت وقفاً ففيه إخراج له عن شرطه ولأنه أنسب بتعظيم المسلم)(1).
2 - وقال المحقق الكركي: (لا يجوز أن يدفن في مقبرة المسلمين غيرهم من الكفار على اختلاف أنواعهم، كما لا يجوز تغسيلهم وتكفينهم...)(2).
الدليل السادس: ولادتها في بيت السيدة حكيمة على قول:
بناءً على من يقول إن السيدة نرجس (عليها السلام) ولدت في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام)، فإن مسألة إسلامها تكون واضحة، إذ تكون قد ولدت في بيت من بيوتات أولاد الأئمة (علیهم السّلام).
الدليل السابع وجودها في بيت ثلاثة من الأئمة (علیهم السّلام):
إن السيدة نرجس (عليها السلام) عاشت في بيت ثلاثة من أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) وهم الإمام الهادي والإمام العسكري والإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ومن البعيد جداً أن تكون غير متأثرة بأجواء هذا البيت ولا تكون مسلمة.
هناك تناقض بين كونها أمة سوداء، وبين كونها رومية؟
ولعل المقصود بالأم بالواسطة هي السيدة خيزران(1) أم الإمام الجواد (علیهما السّلام)(2).
إن السيدة نرجس (عليها السلام) حملت بالإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ولكن كان حملها في الجنب، وليس في البطن وأنه (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ولد من الفخذ(3).
الجواب:
هذا الإشكال مأخوذ من الرواية القائلة على لسان الإمام العسكري (علیه السّلام): ... إنا معاشر الأوصياء، لسنا نحمل في البطون وإنما نحمل في الجفون، ولا تخرج من الأرحام، وإنما نخرج من الفخذ ولا يمكن من أمهاتنا لأننا نور
الله لا تناله الدانسات...)(4).
1 - هذه الفقرة من الرواية وردت كزيارة تفرد بها الحسين بن حمدان الخصيبي ولم تذكر في رواية كمال الدين.
2 - ورد أن السيدة مريم (عليها السلام) أيضاً أنها ولدت عيسى (علیه السّلام) من الفخذ(5)، فإذا قبلناه هناك فلنقيله هنا.
3 - يوجد تعليل في الرواية يذكر السبب، وأن سبب الولادة من الفخذ لكي لا يدنسوا (علیهم السّلام) بالنجاسات، حيث إن الولادة الطبيعية تكون مصحوبة بالدم الذي هو نجس ظاهراً، ولأنهم أنوار الله تعالى فلا يمكن أن ينجسهم دم الولادة.
4 - الرواية تنص على حصول معجزة من الله تعالى كرامة لهذا المولود الطاهر، لذا من الممكن مخالفة العادة والقوانين لأنها معجزة.
5 - لوسلَّمنا عدم الأخذ بهذه الرواية فإنه لا يترتب عليه أثر، فالولادة حاصلة على كل حال.
ص: 491
ص: 492
في هذا العدد:
الميعاد المهدوي بين الإعجاز والسنن
الشيخ عمار البغدادي
رواة مهدويون (الحلقة الثانية)
السيد أسعد القاضي
الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في الأصول الرجالية - القسم الثاني
الشيخ محمد رضا الساعدي
ضرورة الاعتقاد بالإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وأدلة وجوده
السيد عبد النافع الموسوي
لون بشرة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
الشیخ محمد جمعة بادي
عناصر القوة في دولة آخر الزمان
الشيخ ماهر الحجاج
السفير الثاني محمد بن عثمان (رحمه الله علیه)
دراسة في سيرته ودوره القيادي والديني
..م د ساجد صباح ميس العسكري
الحرب السرية ضد الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) حالياً
مجتبى الساده
ص: 493
ص: 494
بها يُحترز عن الخطأ في نسب الناس وتحظى بأهمية بالغة لدى الأمم والشعوب على امتداد الزمان، خصوصاً لدى العرب حيث كان لهم اهتمام بالغ بها إذ كانوا يقسمون النسب إلى ما عُرف عندهم بطبقات الأنساب، حتى تميزوا عن غيرهم بذلك، حتى بلغ أمر اهتمامهم أن لكل قبيلة منهم نسابة خاصاً بهم، وفي الأديان برز الاهتمام جلياً بالنسب حتى وردت فيه العديد من النصوص، فقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية الأنساب في قوله تعالى: ﴿يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
ويبدو أن لدى الإنسان غريزة تدفعه لمعرفة جذوره وأصوله، حيث يترتب عليها العديد من الآثار الاجتماعية والدينية والمالية، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرُ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214)، وقال تعالى: ﴿ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فللوالدين وَالأَقْرَبِينَ﴾ (البقرة: 215).
النسب معنى: اتصال شيء بشيء وانتسابه إليه من القرابة والعلة، ومن خلاله يتعارف الناس فيما بينهم ويعرفون درجة القرابة والعلة مع بعضهم،
ص: 495
ومن شدة الاهتمام به تشكل ومنذ القدم علم خاص به يعرف بعلم الأنساب له قواعده وأصوله، وعلى أساس هذه الأصول بنيت التركيبات الاجتماعية التي تطورت من العائلة والأسرة إلى البطون و العشائر والقبائل وغيرها، حتى
انتهى نسب العرب مثلاً إلى رجلين عدنان و قحطان من الآثار العديدة والمهمة المترتبة على النسب هو اعتباره في إمامة الأمة، قال أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم (غيرها)».
من هنا نجد الأئمة (علیهم السّلام) عندما كانوا يتحدثون عن خصائص الإمام وصفاته كانوا يذكرون الأنساب الطاهرة، وأن الإمام (علیه السّلام) بما له من وظيفة لابد أن تكون فيه خاصية النسب الطاهر في الأصلاب إلى آدم (علیه السّلام)، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «إني وأهل بيتي كنا نوراً يسعى بين يدي الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الله (عزوجل) آدم (علیه السّلام) بأربعة عشر ألف سنة فلما خلق آدم (علیه السّلام) وضع ذلك النور الوضع في صلبه وأهبطه إلى الأرض... ثم لم يزل الله (عزوجل) ينقلنا من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ومن الأرحام الطاهرة إلى الأصلاب الكريمة من الآباء والأمهات لم يلتق واحد [أحد] منهم على سفاح قط»(1).
و في عدة زيارات للأئمة (علیهم السّلام)، ومنها زيارة الإمام الحسين (علیه السّلام) ورد هذا التعبير: «أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشائعة والأرحام المطهرة»(2).
وفي زيارة أخرى لهم (علیهم السّلام): «لم تزالوا بعين الله ينسحكم في أصلاب كل مطهر وينقلكم من أرحام المطهرات»(3).
إلا أننا نجد - مع الأسف - بعضاً ممن لا يعي ما يقول أو يتربص بأهل
ص: 496
الطهارة في أنسابهم تغطية على دناءة أنساب غيرهم ممن تقدمهم بغير وجه حق نجد من هؤلاء الطعن في إيمان أطهر نسب عرفته البشرية فينال من عبد المطلب الب وعبد الله وآمنة وأبي طالب والسيدة نرجس والدة الحجة بن الحسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
القراءة الأولية للموروث الديني تنبئ بوضوح أن هذه الأسماء نقية طاهرة من الدنس أو الشك أو غير ذلك.
فيما يخص السيدة نرجس (عليها السلام) فقد ألفت العديد من الكتابات الدالة على ثبوت إسلامها وطهارتها من كل ما يقال حول نسبها الشريف وإيمانها الشامخ، ومما قيل من ذلك وفي الدلالة على طهارة نسبها وثبوت إيمانها 1 - المروي في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِي يراك حين تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ﴾ (الشعراء: (218-219) أنها تعني في أصلاب النبيين وأرحام نسائهم.
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «ما زلت أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات»(1).
عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر (علیهما السّلام): «كان الله ولا شيء غيره، ولا معلوم ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم)، وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته... ثم خلق الله تعالى آدم (علیه السّلام)... ثم أودعنا بعد ذلك صلب آدم (علیه السّلام)، فما زال ذلك النور ينتقل من الأصلاب والأرحام، من صلب إلى صلب، ولا استقر في صلب إلا تبين عن الذي انتقل منه انتقاله، وشرف الذي استقر فيه، حتى صار في عبد المطلب، فوقع بأم عبد الله فاطمة، فافترق النور جزأين جزء في عبد الله، وجزء في أبي طالب (علیه السّلام)، فذلك قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ﴾
ص: 497
[الشعراء: 219] يعني في أصلاب النبيين وأرحام نسائهم، فعلى هذا أجرانا الله تعالى في الأصلاب والأرحام، حتى أخرجنا في أوان عصرنا وزماننا»(1).
2 - إن من الواضح لدى الإمامية الإيمان بطهارة الأئمة (علیهم السّلام) من كل جهة بما في ذلك طهارة الآباء والأمهات فلم يعهد عنهم غير ذلك، وفي خصوص أم الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مع كونها جاءت من دار أهل الكتاب في ذلك الوقت إلّا أنهم تسالموا وصار من الواضحات عندهم إسلامها، ولو كان ثمة شيء آخر لبان في أقوالهم، وكتبهم ومؤلفاتهم قد ملأت الآفاق، ومما جاء من كلماتهم لا يخفى أنه قد انعقد الإجماع من الفرقة المحقة على أن أجداد نبينا (صلی الله علیه و آله و سلم) كانوا مسلمين موحدين وما كان أحد من آبائه وأجداده كافراً وقد تواتر عن الأئمة (علیهم السّلام) نحن من أصلاب المطهرين وأرحام المطهرات)(2).
3 - نقرأ في المسائل الفقهية أنه لا يجوز دفن الكافر أو المشرك في مقابر المسلمين وكذا العكس لما فيه من توهين، فإن حرمة المؤمن حياً كحرمته ميتاً.
وعندما نسأل عن قبر أم الإمام (عليها السلام).
يأتي الجواب أنها دفنت في دار زوجها وعمها لزوجها، في دار الإمام الهادي والعسكري (علیهما السّلام)، وقد صرحت العديد من المصادر أنها مدفونة داخل حرم العسكريين (علیهما السّلام) وقد كتب على قبرها (هذا قبر أم محمد (علیه السّلام))(3).
4 - دلت عدة من الروايات على إسلامها ظهوراً أو تصريحاً ومنها:
ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن حكيمة بنت الإمام الجواد (علیه السّلام) حیث جاء فيها: قالت حكيمة: فلما أن صليت المغرب والعشاء الآخر أتيت بالمائدة، فأفطرت أنا وسوسن(4) وبايتها في بيت واحد، فغفوت غفوة ثم استيقظت،
ص: 498
فلم أزل مفكرة فيما وعدني أبو محمد (علیه السّلام) من أمر ولي الله (علیه السّلام) فقمت قبل الموجود الوقت الذي كنت أقوم فيه كل ليلة للصلاة، فصليت صلاة الليل حتى بلغت إلى الوتر، فوثبت سوسن فزعة وخرجت [فزعة] وأسبغت الوضوء ثم عادت فصلت صلاة الليل وبلغت إلى الوتر فوقع في قلبي أن الفجر [قد] قرب فقمت لأنظر فإذا بالفجر الأول قد طلع، فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد (علیه السّلام) فناداني من حجرته: «لا تشكي وكأنك بالأمر الساعة قد رأيته إن شاء الله تعالى...»(1).
ودلالة الحديث على أنها تصلي صلاة الليل لا خفاء فيها، فكيف يقال بعدم إسلامها !
ومنها ما رواه الشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن محمد بن بحر الشيباني عن بشر النخاس في حديث طويل جاء فيه: فقال أبو الحسن (علیه السّلام): «يا كافور ادع أختي حكيمة»، فلما دخلت عليه قال (علیه السّلام) لها: «ها هيه»، فاعتنقتها طويلاً وسررت بها كثيراً، فقال لها مولانا: «يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (علیه السّلام)... فقولي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن أبي محمداً رسول الله، فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها...»(2).
وفي مقطع قالت منها دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري (علیه السّلام) فقال لها: «كيف أراك الله عز الإسلام...»(3)
ومن هنا تبين أن ما يقال على ألسنة البعض من عدم إسلام أم الحجة بن الحسن (عليها السلام) لا يُقبل بأي حال من الأحوال ولا يعدو كونه لأجل التشكيك بهذه السيدة الطاهرة سيدة الإماء والإيمان (عليها السلام).
ص: 499
ص: 500
فصلة تعنى بالشان المهديي
العدد السادس عشر. السنة الرابعة محرم 1430
عن مركز الدراسات التخصصية المهدي (علیه السّلام)
الحة التي يعلم العمانية مطرية
www.alentedar.com - Info@alentedar.com
ص: 501
الانتظار
مجلة فصلية تعنى بالشأن المهدوي
العدد السادس عشر - السنة الرابعة - محرم - 1430
تصدر عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (علیه السّلام)
المشرف العام
السيد محمد القبانجي
رئيس التحرير
سید محمد علي الحلو
هيأة التحرير
الأستاذ حسن عبد الأمير الظالمي
التصميم والإخراج الفني
حیدر محمد الطريقي
التنضيد
باقر محمد الطريفي
المطبعة
دار الضياء للطباعة والتصميم
العراق النجف الأشرف ه_ 371392
إتفاقية النشر
* مجلة الإنتظار مجلة فصلية ثقافية تعنى بالشأن المهدوي وهي غير تابعة لجهة سياسية أو رسمية، تصدر عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) في النجف الأشرف.
* تستقبل المجلة كل نتاجاتكم الفكرية والثقافية والأدبية التي تعنى بالفكر المهدوي وتصب في سبيل نشر الفكر المهدوي في العراق وفي العالم على السواء.
* المجلة غير ملزمة بإعادة أية مادة تتلقاها للنشر.
* المواد المنشورة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلة.
* يجوز إعادة نشر المواد المدرجة في المجلة بشرط الإلتزام الأخلاقي بذكر المصدر والمورد.
* تتم المراسلة عن طريق البريد الإلكتروني أو عن طريق صندوق البريد.
العنوان: العراق - النجف الأشرف
شارع السور قرب جبل الحويش
صندوق البريد : 588
هاتف : 372011 - 218318
موبایل: 07804754535
البريد الإلكتروني : info@alentedar.com
www.m-mahdi.com
Info@m-mahdi.com
السيد محمد السيد حسين الحكيم
ص: 502
الشيخ حميد عبد الجليل لطيف الوائلي
قسم التبليغ في مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (علیه السّلام)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد :
اثناء تجوالنا في عدد من المنتديات الوهابية وجدنا شبهة تتردد على السنتهم كثيراً وهي أن السيدة نرجس أم الإمام المهدي (علیه السّلام) ماتت على غير ملة الإسلام، ولاحظنا أنهم لا يقدمون دليلا على ذلك سوى ما هو مشتهر على السن الشيعة من أن السيدة نرجس نصرانية وبعضهم ذكر قريباً من هذا كشاهد له على كونها كتابية أنها من أصل رومي.
يحاول الوهابيون من خلال طرح هذه الشبهة التغطية على اتهامهم للسيدة آمنة بنت وهب أم الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بالكفر، إذ يجاهرون بكفر آباء النبي (علیهم السّلام) وكذلك أمه ويحاولون من خلال هذه الشبهة التقليل من أهمية ما يجاهرون به من كفر أباء النبي وأمه فمن يقول لهم ذلك يردون عليه أن الشيعة يعتقدون بكفر أو شرك أم الإمام المهدي (علیه السّلام).
وإلا في الحقيقة فهم لا يعيرون أي أهمية للإمام المهدي فضلاً عن أمه ودينها إذ لا يعتقدون بولادته، بل يذهب بعض منهم إلى إنكاره كما تردد على السنة بعض المتأخرين منهم.
إذاً فالشبهة التي تدور الهدف الرئيس من ورائها التغطية على ما يجاهرون به من كفر أم النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم)، ونحن في هذه العجالة نقدم مجموعة من الأدلة والشواهد على إثبات إسلام أم الإمام المهدي (عليها السلام) وتؤكد على أن البعض مما سنقدمه ليس دليلاً مستقلاً ويمكن أن يساق كشاهد ، لذلك قلنا أدلة وشواهد :
الادلة التي تذكر لاثبات إسلام أم الامام (عليها السلام).
1. الروايات التي نصت على اسلامها وهي كثيرة فما من رواية ذكرت انها كانت أسيرة
ص: 503
ويمكن استفادة عدم اسلامها منها الا وفي نفس المتن يوجد تصريح بإسلامها ، هذا بغض النظر عن الروايات التي تصرح أن لها مكانة مرموقة فضلا عن كونها مسلمة فضلا عن اسلامها كما ستطلع عليه في تفصيل الكلام.
2. الوضوح القائم عند الشيعة الأمامية على إسلامها فلم يثبت عند الشيعة ان هناك مخالف في هذه المسألة.
3. تسالم الشيعة على طهارة أرحام أمهات الائمة (علیهم السّلام) وإجماعهم على ذلك.
4. تفسير قوله تعالى وتقلبك في الساجدين الدال على طهارة أصلاب الائمة بتقريب يأتي في محله من تفصيل الكلام.
5. إرضاع السيدة نرجس للامام المهدي، ومما لا ينبغي أن يرضع الامام من المشركة.
6. إن أم الامام دفنت بين معصومين، ومن المتفق عليه أن الكافر لا يدفن في مقابر المسلمين فضلا عن مقابر تحوي قبور أئمة.
7. إن من يدعي أنها كافرة يجب عليه إثبات ذلك بدليل صحيح، حتى نثبت له اسلامها بنفس دليل ادعائه أنه مثبت لكفرها، وهذا الدليل نذكره تماشيا مع ما يذكره الوهابيون من ضرورة أن يكون ثبوت اسلامها بدليل صحيح، فنحن نطلب منهم اثبات خلاف ذلك بنفس قوة الدليل السندیة.
8. هناك اقوال بل وروايات دلت على انها ولدت في بيت حكيمة، فبالتالي هي ليست أسيرة حتى يقال بشركها أو كفرها فبناء على هذه الروايات تتنتفي الشبهة من رأس.
9. هناك أقوال تذهب الى أن اسمها مريم بنت زيد العلوية، ومن يرجح الأخذ بهذا القول يكون الاشكال منتف من الاصل لكونها تكون علوية فضلا عن کونها مسلمة.
10. انها عاشت في بيت الامام العسكري وقبله في بيت الامام الهادي ثم في بيت الامام المهدي (علیهم السّلام) جميعا ، ومن البعيد جدا ان لايؤثر - هولاء الأئمة الثلاثة عليها ويجعلوها تدخل الاسلام خصوصا مع الاعتقاد ان وظيفة الامام هي الهداية.
*الدليل الأول: استفاضت روایات تذكر اسلامها وهي مروية في الغيبة والكمال وغيرهما من المصادر الأخرى منها :-
*الاول - اخبار الشيخ الطوسي في الغيبة: الشيخ الطوسي بسنده عن أبي عبد الله المطهري ، عن حكيمة بنت محمد بن علي الرضا
قالت:
بعث إلي أبو محمد (علیه السّلام) سنة خمس وخمسين ومائتين في النصف من شعبان وقال: يا عمة اجعلي الليلة إفطارك عندي فإن الله عز وجل سيسرك بوليه وحجته على خلقه خليفتي من بعدي. قالت حكيمة: فتد خلني لذلك سرور شديد وأخذت ثيابي علي وخرجت من ساعتي حتى انتهيت إلى أبي محمد (علیه السّلام)، وهو جالس في صحن داره، وجواريه حوله فقلت : جعلت فداك يا سيدي ! الخلف ممن هو ؟ قال : من سوسن، فأدرت طرفي فيهن فلم أر جارية عليها أثر غير سوسن. قالت حكيمة: فلما أن صليت المغرب
ص: 504
والعشاء الآخرة أتيت بالمائدة، فأفطرت أنا وسوسن وبايتها في بيت واحد ، فغفوت غفوة ثم استيقظت، فلم أزل مفكرة فيما وعدني أبو محمد (علیه السّلام) من أمر ولي الله (علیه السّلام) فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم في كل ليلة للصلاة فصليت صلاة الليل حتى بلغت إلى الوتر، فوثبت سوسن فزعة وخرجت (فزعة) وأسبغت الوضوء ثم عادت فصلت صلاة الليل وبلغت إلى الوتر، فوقع في قلبي أن الفجر (قد) قرب فقمت لأنظر فإذا بالفجر الأول قد طلع، فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد (علیه السّلام)، فناداني من حجرته :
لا تشكي وكأنك بالأمر الساعة قد رأيته إن شاء الله تعالى.... الحديث.
ففي هذا الحديث تصريح على انها تصلي صلاة الليل فضلا عن الواجب فهل يعقل عدم اسلامها !!!.
*النحو الأول من الاخيار الذي أفرد لها بابا خاصا ذكر فيه حديثاً واحداً فلو كان يرى عدم صحة الحديث وهو واحد فكيف يفرد له باباً هذا غير معقول من الشيخ الصدوق الا اذا كان يرى بحجية هذا الخبر لقرائن وإن خفيت علينا الا انها كانت عنده حاضرة وهذا يقوي أرجحية قبول الخبر بل هناك أخبار اخرى (وهي التي سنذكرها في النحو الثاني) دلت على اسلامها، ومجموعها يوجب الاستفاضة إن لم نقل بالتواتر .
ففي كمال الدين ص 422 قال الشيخ الصدوق بسنده الى من نقل عن بشر النخاس مباشرة فيحديث طويل اخذنا منه محل الشاهد :-
وهو اعتراف الامام بإسلامها قال: فقال أبو الحسن (علیه السّلام):
يا كافور ادع لي أختي حكيمة، فلما دخلت عليه قال (علیه السّلام): ماهيه فاعتنقتها طويلا وسرت بها كثيرا ، فقال لها مولانا : يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (علیه السّلام)الخبر.
*النحو الثاني: الذي جمعنا فيه اغلب ماروي عن السيدة نرجس في هذا الكتاب المبارك اذ جاء فيه :-
1- كمال الدين ص 424 ، الشيخ الصدوق بسنده عن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السّلام)، قالت بعث إلي أبو محمدالحسن بن علي عليهما السلام فقال : يا عمة اجعلي إفطارك (هذه) الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان فإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة وهو حجته في أرضه، قالت: فقلت له ومن أمه ؟ قال لي: نرجس، قلت له : جعلني الله فداك ما بها أثر، فقال: هو ما أقول لك ، قالت : فجئت ، فلما سلمت وجلست جاءت تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي (وسيدة أهلي) كيف أمسيت ؟ فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي قالت: فأنكرت قولي وقالت ما هذا يا عمة ؟ قالت : فقلت لها : يا بنية إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيدا في الدنيا والآخرة قالت : فخجلت واستحيت. فلما أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت، فلما أن كان في جوف الليل
ص: 505
قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ثم جلست معقبة، ثم اضطجعت ثم انتبهت فزعة وهي راقدة، ثم قامت فصلت ونامت... الخ الحديث.
وفي ص 426 بسند الشيخ الصدوق الى محمد بن عبد الله الطهوي قال : قصدت حكيمة بنت محمد بعد مضي أبو محمد أسألها عن الحجة فقلت يا مولاتي هل كان للحسن الله ولد ؟ فتبسمت ثم قالت : إذا لم يكن للحسن عقب فمن الحجة من بعده وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام فقلت يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته قالت : نعم كانت لي جارية يقال لها: نرجس هزارني ابن أخي فأقبل يحدق النظر إليها فقلت له يا سيدي لعلك هويتها فأرسلها إليك ؟ فقال لها، لا يا عمة ولكني أتعجب منها فقلت وما أعجبك (منها) ؟ فقال (علیه السّلام): سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي ؟ فقال استأذني في ذلك أبي (علیه السّلام) قالت فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن (علیه السّلام) فسلمت وجلست فبدأني (علیه السّلام) وقال: يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمد قالت: فقلت: يا سيدي على هذا قصدتك على أن أستأذنك في ذلك ، فقال لي: يا مباركة إن الله تبارك وتعالى أحب أن يشركك ؟؟ الاجر ويجعل لك في الخير نصيبا ، قالت حكيمة: فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزينتها ووهبتها لأبي محمد (علیه السّلام)وجمعت بينه وبينها في منزلي فأقام عندي أياما ، ثم مضى إلى والده عليهما السلام ووجهت بها معه. قالت حكيمة : فمضى أبو الحسن (علیه السّلام) وجلس أبو محمد (علیه السّلام)مكان والده وكنت أزوره كما كنت أزور والده فجاءتني نرجس يوما تخلع خفي فقالت يا مولاتي ناوليني خفك فقلت بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا أدفع إليك خفي لتخلعيه ولا لتخدميني بل أنا أخدمك على بصري قسمع أبو محمد ذلك فقال جزاك الله يا عمة خيرا.
*الدليل الثاني: الوضوح القائم عند الشيعة الامامية على اسلامها فلم يثبت عن الشيعة ان هناك مخالف في هذه المسالة.
فالشيعة الامامية لم يعهد عنهم على مستوى العلماء أو على مستوى الطبقات الأخرى ان ام الامام المهدي بقيت على نصرانيتها او انها مشركة ولو كان هذا الأمر معروفا ومعهودا وكا تنالبان؟
*تسالم الشيعة على طهارة أرحام امهات الأئمة (علیهم السّلام) وإجماعهم على ذلك، ومما دل على ذلك ماجاء في البرهان ج 534:1 . الصافي ج 525:1 .
ثم لا يخفى انه قد انعقد الإجماع من الفرقة المحقة على أن أجداد نبينا صلى الله عليه واله كانوا مسلمين موحدين وما كان أحد من آبائه وأجداده كافرا وقد تواتر عن الأئمة (علیهم السّلام) نحن من أصلاب المطهرين وأرحام المطهرات. وانه لم تدنسهم الجاهلية بأنجاسها إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة بل المتواترة على إسلام آباء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
ومما يؤيد ويشهد على وجود هذا التسالم
ص: 506
علاوة على التصريح المتقدم ما تلهج به ألسنة الشيعة الامامية في زيارات الائمة (علیهم السّلام) بكرة واصيلاً ومن النصوص التي تصرح بطهارة ارحام امهات الأئمة (علیهم السّلام) هذا النص (عن أبي محمد (علیه السّلام) وعنه ، عن سلمة، عن عبد الله بن أحمد، عن بكر بن صالح، عن عمرو بن هشام، عن بعض أصحابنا عن أحدهما (علیهما السّلام)، قال : إذا اتيت قبور الأئمة بالبقيع فقف عندهم واجعل القبلة خلفك والقبر بين يديك، ثم تقول : السلام عليكم أئمة الهدى، السلام عليكم أهل البر والتقوى ، السلام عليكم أيها الحجج على أهل الدنيا، السلام عليكم أيها القوامون في البرية عليكم يا آل رسول الله صلى الله عليه وآله ، ونصحتم وصبرتم في ذات الله ، وكذبتم واسيء إليكم فغفرتم ، وأشهد أنكم الأئمة الراشدون المهديون، وان طاعتكم مفروضة، وأن قولكم الصدق، وانكم دعوتم فلم تجابوا ، وأمرتم فلم تطاعوا ، وانكم دعائم الدين، وأركان الأرض. لم تزالوا بعين الله ينسخكم في أصلاب كل تدنسكم الجاهلية الجهلاء، وقد روي هذا النص في اهم المصادر الشيعية منها :-
كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه - ص 118 - 120 ، الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ص 713 ، المهذب للقاضي ابن البراج - ج 1 - ص 279 ، الحدائق الناضرة للمحقق البحراني - ج 17 - ص 431 ، الكافي للشيخ الكليني - ج -4 - ص 559 ، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق - ج 2 ص 575 ، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي - ج 6 - ص 79.
إعتقادنا نحن الشيعة الامامية في آباء النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه ليس فيهم كافر ولا مشرك ولا في أمهاته زانية من أبيه عبد الله إلى آدم (علیه السّلام) ومن أمه آمنة إلى حواء (علیهم السّلام) وكذلك ائمة الهدى.
دليلنا على ذلك، قوله تعالى: (الذي يَرَاكَ حينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) فإن المروي في تفسير الآية هو انتقاله (صلی الله علیه و آله و سلم) من أصلاب الموحدين الساجدين إلى أرحام الموحدات الساجدات وقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية.
وهو المراد أن آباءه كانوا مسلمين بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).
والائمة من اهل البيت (علیهم السّلام) كذلك كما دلت على ذلك نصوص كثيرة في تفسير الآية وشرح هذه المفردة العقدية اليك منها :
في تفسير القمي ج 2 - ص 125: قوله : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلَّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : حدثني محمد بن الوليد عن محمد بن الفرات عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال في النبيين.
وذكر نص ذلك في التفسير الصافي للفيض الكاشاني - ج 4 - ص 54، وفي تفسير نور الثقلين للشيخ الحويزي - ج 4 - ص 69 ، وجاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي - ج 15
ص: 507
- ص 336 بعد نقله لما في القمي، (أقول: ورواه غيره من رواة الشيعة، ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم وغيرهم عن ابن عباس وغيرهم).
وفي أوائل المقالات للشيخ المفيد – ص 45 - 46 : واتفقت الإمامية على أن أباء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله - عز وجل - موحدون له واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار، قال الله - عز وجل : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) و قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): (لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا .. وأجمعوا على أن عمه أبا وهب كانت على التوحيد، وأنها تحشر في جملة المؤمنين. وخالفهم على هذا القول جميع الفرق ممن سميناه بده.
وفي تصحيح اعتقادات الإمامية للشيخ المفيد - ص 139: قال الله تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) یرید به: تنقله في الأصلاب الوحدین. وقال نبیه صلی الله علیه وآله وسلم (ما زلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات) ، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا) فدل على أن آباءه كلهم كانوا مؤمنين، إذ لو كان فيهم كافر لما استحق الوصف بالطهارة، لقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) فحكم على الكفار بالنجاسة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك ، دل على أنهم كانوا مؤمنين .
وفي حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني - ج 1 ص 13 - 17: محمد بن خالد الطيالسي ، - ومحمد بن عيسى بن عبيد ، بإسنادهما عن جابر بن يزيد الجعفي ، قال : قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام : كان الله ولا شئ غيره، ولا معلوم ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمدا صلى الله عليه وآله، وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته.... الى ان يقول : - فرسول الى ان يقول : فرسول الله صلى الله عليه وآله أول من عبد الله ، وأول من أنكر أن يكون له ولد أو شريك، ثم نحن بعد رسول الله صلى الله لم عليه وآله. ثم أودعنا بعد ذلك صلب آدم (علیه السّلام) فما زال ذلك النور ينتقل من الأصلاب والأرحام، طالب من صلب إلى صلب، ولا استقر في صلب إلا تبين عن الذي انتقل منه انتقاله ، وشرف الذي استقر فيه ، حتى صار في عبد المطلب، فوقع بأم عبد الله فاطمة، فافترق النور جزئين: جزء في عبد الله، وجزء في أبي طالب (علیه السّلام)، فذلك قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني في أصلاب النبيين وأرحام نسائهم، فعلى هذا أصلاب الموحدين. وقال نبيه صلى الله عليه أجرانا الله تعالى في أجرانا الله تعالى في الأصلاب والأرحام، حتى أخرجنا في أوان عصرنا وزماننا ، فمن زعم أنا لسنا ممن جرى في لسنا ممن جرى والأرحام، وولدنا الآباء والأمهات فقد كذب.
وفي بحار الأنوار للعلامة المجلسي - ج 108 - ص 198 : تفسير قوله تعالى : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تقوم * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) في أن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله قبل أن يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم الجنة والنار وقبل أن يخلق آدم
ص: 508
ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى و عیسی و داود وسليمان (علیهم السّلام) وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم بأربع مأة ألف سنة وأربع وعشرين ألف سنة.... الى ان يقول في أن الأئمة (علیهم السّلام) كانوا أشباح نور حول العرش قبل أن يخلق آدم (علیه السّلام) بخمسة عشر ألف عام في قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن الله خلقني وعليا وفاطمة والحسن والحسين من قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام وكنا أشباح نور قدام العرش. ونسبح الله ونحمده ونقدسه ونمجده. ثم قذفنا في صلب آدم. ثم أخرجنا إلى أصلاب الاباء وأرحام الأمهات . ولا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر.
في روضة الواعظين للفتال النيسابوري - ص 138 - 129 : قال الله تعالى : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجدين). اعلم أن الطائفة المحقة قد اجتمعت على أن أبا طالب عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب كانوامؤمنين، وإجماعهم حجة على ما ذكر في غير موضع.
وتتميماً للكلام نأخذ ماجاء في الامثل ج 4 - ص 346 - 349: هل الرجل الذي تشير إليه الآية (آزر) هو والد إبراهيم ؟
أيجوز أن يكون عابد الأصنام وصانعها والد نبي من أولي العزم ؟
ألا يكون للوراثة من هذا الوالد تأثير سيء في أبنائه ؟
بعض مفسري أهل السنة يجيب بالإيجاب على السؤال الأول، ويعتبر آزر والد إبراهيم الحقيقي، أما المفسرون الشيعة فيجمعون على أن أزرليس والد إبراهيم، بل قال بعضهم: إنه كان جده لأمه، وقال أكثرهم : إنه كان عمه ، وهم في ذلك يستندون إلى القرائن التالية: (اخذنا منها محل الشاهد).
وهناك روايات إسلامية مختلفة تؤكد هذا الأمر. فقد جاء في حديث معروف عن رسول الله أنه قال لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية ولا شك أن أقبح أدناس الجاهلية هو الشرك وعبادة الأوثان.
في كتابه (مسالك الحنفاء) عن أسرار التنزيل للفخر الرازي أن والدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأجداده لم يكونوا مشركين أبدا. مستدلا على ذلك بالحديث الذي نقلنا آنفا ، ثم يستند السيوطي نفسه إلى مجموعتين من الروايات بن الأولى : تقول إن آباء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأجداده حتى آدم كان كل واحد منهم أفضل أهل زمانه (وينقل أمثال هذه الروايات عن (صحيح البخاري) و (دلائل النبوة) للبيهقي وغيرهما من المصادر).
والثانية : هي التي تقول : إنه في كل عصر وزمان كان هناك أناس من الموحدين الذين يعبدون الله ، ثم يجمع بين هاتين المجموعتين من الروايات ويستنتج أن أجداد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، بما فيهم والد إبراهيم كانوا حتما من الموحدين .
ص: 509
وفي تفسير السمر قندي لأبو الليث السمرقندي - ج 2 - ص 570) : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني تقلبك في أصلاب الأباء وأرحام الأمهات من آدم إلى نوح وإلى إبراهيم وإلى من بعده صلوات الله عليهم قوله عز وجل : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يعني بآبائهم وبأعمالهم.
اصل الدليل:-
لم يثبت لدينا ولو على نحو الاشارة التاريخية أن للامام المهدي (علیه السّلام) مرضة غير أمه رضوان الله عليها وحيث أن إرضاع غير المسلمة لا ينبغي في الشريعة الاسلامية كما نصت على ذلك روايات كثيرة وأفتى به علماء الطائفة وفقهاؤها على طول خط الفتوى فاننا نستبعد أن تكون أم الامام لحين إرضاعها له ليست بمسلمة فان هذا لا ينبغي في غير المعصوم من الناس فكيف بك والأمر مع المعصوم المنزه ارتكاب المكروه واجتناب المستحب ، فيكون محصل هذه المقدمات أن أم الأمام حيث انه نصت الروايات على انحصار رضاعة الامام المهدي منها (كما جاء في رواية : فيكت نرجس فقال لها اي الإمام: اسكتي فإن الرضاع محرم عليه إلا من ثديك وسيعاد إليك كما رد موسى إلى أمه وذلك قول الله عز وجل : (فرددناه إلى أمه كي نقر عينها ولا تحزن) (كمال الدين)، وحيث ان المرضعة ينبغي أن تكون مسلمة فتكون النتيجة انها (عليها السلام) مسلمة.
فليراجع كلمات الفقهاء في باب الرضاع وشروط المرضعة.
عنوان الدليل:
دفنها (رضی الله عنه) بين قبور المسلمين وبين قبرين لمعصومين دليل على إسلامها :
تقريب الدليل:
إن من المتفق عليه بين أهل الإسلام عدم جواز دفن الكافر في قبور المسلمين وبالعكس، دل على ذلك الكثير من النصوص الفتوائية لعلماء الفريقين من بينها :-
ماجاء في منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج 1 ص 112: مسألة 317 : لا يجوز دفن المسلم في مقبرة الكافرين، وكذا العكس.
وفي كتاب الطهارة للسيد الخوئي ج 9 شرح ص 178: (1) لأنه توهين للمسلم، وفي العكس الأمر كذلك لأن الكافر رجس ودفن الرجس في مقابر المسلمين وهن لهم - واحترام المؤمن ميتا كحرمته حيا.
وفي الفتاوى الواضحة للسيد محمد باقر الصدر ص 182: ثالثا : لا يسوغ دفن المسلم في الحيم مقابر الكفار، كما لا يسوغ لغير المسلم أن يدفن في مقابر أهل الإسلام.
وفي مستمسك العروة للسيد محسن الحكيم ج 4 ص 253 : (مسألة 10) : لا يجوز دفن المسلم في مقبرة الكفار، كما لا يجوز العكس أيضا. نعم إذا اشتبه المسلم والكافر يجوز دفنهما في مقبرة المسلمين، وإذا دفن أحدهما في مقبرة الآخرين يجوز النبش ، أما الكافر فعدم الحرمة ومن أحب الخوض في التفصيل اكثر له، وأما المسلم فلأن مقتضى احترامه عدم
ص: 510
كونه مع الكفار.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جمع أحمد بن عبد الرزاق الدويش ج 8 - ص 545 دفن الكافر في مقابر المسلمين، الفتوى رقم (335) الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على خطاب جلالة الملك - حفظه الله - رقم 24786 وتاريخ 1392/12/19 ه_، الموجه إلى فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بخصوص نظام المقابر وتغسيل الموتى ودفنهم، والذي أعدته وزارة الصحة وعن الاستفتاء عن موضوع دفن غير المسلمين في مقابر المسلمين ، ورغبة جلالته - حفظه الله - في معرفة وجهة النظر الشرعية ؛ هل يمكن دفنه في مقابر المسلمين أو يرحل لبلاده، كما جرى الاطلاع على صورة من خطاب جلالته - حفظه الله - السري الموجه لفضيلة نائب المفتي برقم 10118 وتاريخ 1391/5/8ه_، والذي جاء فيه ما نصه : وحيث أن من المشاهد الآن أن من يتوفى من هؤلاء الناس يرحل لبلاده باعتباره أجنبيا سواء كان صغيرا أم كبيرا فإن هذا شيء يحسن السكوت عنه وعدم الإعلان عنه، كما اطلعت اللجنة على شرح فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد لإحالة ذلك إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء للإفادة بمرئياتها حول ما استوضح عنه جلالته. وبدراسة اللجنة الدائمة لذلك ظهر لها ما يلي: لا يجوز أن يدفن غير المسلم مع المسلمين في مقابرهم ، بل يدفن بعيدا عنهم ؛ لأنهم يتأذون بمجاورته إياهم، وهذا ما نص عليه العلماء رحمهم في كتبهم ، بل لقد ذكروا مسألة يتضح منها موقفهم رحمهم الله من موتى غير المسلمين وتعين إبعادهم عن مقابر المسلمين، فقد جاء في المقنع : وإن ماتت ذمية حاملاً من مسلم دفنت وحدها ويجعل ظهرها إلى القبلة، وقال في حاشيته تعليلا لذلك، لأنها كافرة فلا تدفن في مقبرة المسلمين، وولدها محكوم بإسلامه، فلا يدفن بين الكفار، ونظرا إلى أن بلادنا - حماها الله ومكن لولاتها - ليس فيها مستوطنون بجنسية حكومتها غير مسلمين فإن من مصلحتها وتقليل مشاكلها مع الآخرين عدم تخصيص مقبرة فيها لغير المسلمين، فمن مات منهم وطلب أولياؤه نقل جثته إلى بلاده فتحسن إجابتهم لذلك. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس عبد عبد الله بن مينع عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي إبراهيم بن محمد آل الشيخ، تم بحمد الله تعالى المجلد الثامن من فتاوى اللجنة الدائمة.
ودلالة الكلام السابق على عدم جواز دفن الكافر مع المسلم وحرمته لا إشكال فيها وحيث أن من الثابت تاريخيا أن السيدة نرجس رضوان الله عليها قد دفنت ليس بين مقابر أهل الاسلام وحسب بل بين قبرين لمعصومين هما الامام
ص: 511
الهادي والعسكري عليهما السلام ، وإليك النص التاريخي الذي ينص على دفنها في مقبرة أهل الاسلام في سامراء.
في أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ج 2 ص 588 : وكان سرداب الغيبة هو سرداب تلك الدار سكنه الهادي والعسكري وصاحب الزمان (علیه السّلام) فكان القيران الشريفان والسرداب في دار واحدة وكان طريق السرداب ودرجه من داخل حرم العسكريين (علیه السّلام) قريبا من قبر نرجس أم المهدي (علیه السّلام) وكان يذهب إلى السرداب في دهليز مظلم.
وفي مستدرك سفينة البحارج 8 ص 389
كان على قبر نرجس بسامراء لوح عليه مكتوب: هذا قبر أم محمد (علیه السّلام).
وفي الكشكول المبوب - الحاج حسين الشاكري - ص 114 : وفي سنة ) 260 ه_ / 873 م (توفي الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) فدفن إلى جوار والده. وفي نفس العام توفيت السيدة نرجس والدة الإمام المهدي (علیه السّلام) ودفنت خلف قبر الإمامين بمسافة قليلة.
فتكون النتيجة أن أم الامام رضوان الله عليها لم دفنت فقط في قبور أهل الاسلام بل بين قبرين المعصومين .
أما الادلة الأربعة الأخيرة فان السابع منها لايحتاج الى بيان أكثر مما في المتن المتقدم وأما الثامن والتاسع فهما لا يحتاجان الى مزيد كلام و اطناب فتكتفي بوضع اليد على النصوص الدالة على مضمون الدليلين وأما الدليل الاخير فهو بين تماما خصوصا بعد إيراد أغلب النصوص المتعلقة بالسيدة نرجس سلام الله عليها.
ففي ما يخص روايات الدليل الثامن نذكر منها:
في عيون المعجزات - حسين بن عبد الوهاب - ص 127 : (الخلف المهدي القائم الحجة المنتظر) (صاحب الزمان (علیه السّلام)) قرأت في كتب كثيرة بروايات كثيرة صحيحة انه كان الحكيمة بنت أبي جعفر محمد بن علي (علیه السّلام) جارية ولدت في بيتها وربتها وكانت تسمي نرجس فلما كبرت دخل أبو محمد فنظر إليها فقالت له عمته حكيمة أراك يا سيدي تنظر إليها فقال (علیه السّلام) اني ما نظرت إليها متعجبا اما ان المولود الكريم على الله يكون منها ، ثم أمرها ان تستأذن أبا الحسن أباه (علیه السّلام)في دفعها إليه.
وفي أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين - ج 2 - ص 46 : قال علي بن الحسين المسعودي 2 في كتاب إثبات الوصية لعلي بن أبي طالب (علیه السّلام) روى لنا الثقات من مشايخنا أن بعض أخوات الحسن علي بن محمد الهادي (علیه السّلام) كانت لها جارية ولدت في بيتها وربتها تسمى نرجس فلما كبرت وعبلت دخل أبو محمد الحسن العسكري (علیه السّلام) فنظر إليها فأعجبته فقالت له عمته أراك تنظر إليها فقال (علیه السّلام) إني ما نظرت إليها إلا متعجبا أما أن المولود الكريم على الله جل وعلا يكون منها ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن في دفعها إليه ففعلت فأمرها بذلك.
وفي الغيبة - الشيخ الطوسي - ص 244: وروي أن بعض أخوات أبي الحسن (علیه السّلام) كانت لها جارية ربتها تسمى نرجس فلما كبرت دخل أبو
ص: 512
محمد (علیه السّلام) فنظر إليها فقالت له : أراك يا سيدي تنظر إليها ؟ فقال : إني ما نظرت إليها إلا متعجبا. أما إن المولود الكريم على الله تعالى يكون منها ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن (علیه السّلام) في دفعها إليه ففعلت فأمرها بذلك.
أما ما يخص أقوال ونصوص الدليل التاسع فتذكر منها :
ففي الينابيع الفقهية - علي أصغر مرواريد - ج- 30 - ص 496: الإمام المهدي الحجة، صاحب الزمان أبو القاسم محمد بن الإمام أبي محمد بن الحسن العسكرية ، ولد بسر من رأى يوم الجمعة ليلا ، وقيل ضحى خامس عشر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين،أمه صقيل ، وقيل : نرجس، وقيل: مريم بنت زيد العلوية.
وفي جواهر الكلام - الشيخ الجواهري - ج 20 - ص 100 : وكذا يستحب مؤكدا زيارة الإمام المهدي الإمام المهدي الحجة صاحب الزمان أبي القاسم محمد بن الحسن عجل الله فرجه وسهل الله مخرجه، ولد بسر من رأى ليلة الجمعة ، وقيل ضحى خامس عشر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، أمه صقيل، وقيل نرجس، وقيل مريم بنت زيد العلوية.
وفي الهداية الكبرى - الحسين بن حمدان الخصيبي - ص 328 روي أن له كنى الأحد عشر اماما من آبائه إلى عمه الحسن بن علي (علیه السّلام) وأمه: صقيل ، وقيل : نرجس. ويقال : سوسن، ويقال: مريم ابنة زيد أخت حسن، ومحمد بن زيد الحسيني الداعي بطبرستان وان التشبيه وقع على الجواري أمهات الأولاد والمشهوروالصحيح نرجس فهذا من دلائله (علیه السّلام).
وفي بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 51 ص 28 : أقول : وقال الشهيد رحمه الله في الدروس : ولد (علیه السّلام) بسر من رأى يوم الجمعة ليلا خامس عشر شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين وأمه صقيل وقيل نرجس وقيل مريم بنت زید العلویة.
وفي رسائل في دراية الحديث - أبو الفضل
حافظيان البابلي - ج 1 - 350: الإمام
المهدي، صاحب الزمان، الحجة على أهله، أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري (علیه السّلام). ولد بسر من رأى يوم الجمعة ليلا ، خامس عشر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين أمه نرجس، وقيل: مريم بنت زيد العلوية. وهو زيد العلوية المتيقن ظهوره وتملكه بإخبار النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
وفي وصول الأخيار إلى أصول الأخبار والد البهائي العاملي - ص 44 : صاحب الزمان الحجة على أهله أبو القاسم محمد ابن الحسن العسكري (علیه السّلام)، ولد بسر من رأى يوم الجمعة ليلا خامس عشر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وأمه نرجس وقيل مريم بنت زيد العلوية، وهو المتقين ظهوره وتملكه باخبار النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
هذا تمام الكلام مما وقع في أيدينا مما دل وشهد على إسلام السيدة نرجس أم الامام المهدي (علیه السّلام) رضوان الله عليها ، نسأل الله العلي القدير أن يجعله في ميزان القبول عند ولدها وأن ينفع به المؤمنين في دفع شبه الحاقدين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين
ص: 513
1) الغيبة للشيخ الطوسي ص 234 .
2) والحديث فيه توقف سندي من جهة الطهوي (او المطهري ، وهما شخص واحد) عند البعض، ولكن دل على تحسينه او توثيقه جملة من كلمات الاعلام من بينهم مافي مستدركات الوسائل الذي قال عنه انه من اصحاب السركما في ج 7 ص 190 وكما في اعيان الشيعة الذي قال عنه انه القيم على امور ابي محمد وهذا كاشف عما فوق العدالة وقال ان العلامة في الخلاصة صحح سنداً هو فيه ، كما في الاعيان ج 2 ص 153 وكذلك في معجم السيد الخوئي ج 3 ص 113 الذي قال طريق الصدوق اليه صحيح وانه القيم علی امور ابي محمد الا انه لايدل عندي على التوثيق وكذلك راجع تعليقة على منهج المقال ونقد الرجال في ص 78 وفي ج 5 ص 348.
3) الباب (41) المعنون ب_(ماروي في نرجس ام القائم عليهما السلام واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الملك.
4) وفي هذا المقطع دلالة واضحة على علو مكانة السيدة نرجس ورفعة مقامها اذ ان السيدة حكيمة تخاطبها بالقول انتي سيدتي ومولاتي، بل ان السيدة حكيمة تعتبر خدمة السيدة نرجس شرفاً وعلى حد عبارتها وهي تخاطب السيدة نرجس (بل انا اخدمك على بصري) وهذه الرفعة في المقام لاتدل على الاسلام فقط بل على ماهو ارفع منه كما هو جلي.
5) فتصريح العلماء بشمول امهات النبي لحكم الآية جلي لا غبار عليه ، فلا يقال هيخاصة بالاباء ، ولايقال هي خاصة بالنبي الاكرم دون اهل بيته الكرام عليهم جميعا الصلاة والسلام ، اذ ان المناط في هذا التطهير هو العصمة والامامة وهي فيهم كماهي فيه ، بل ورد في الخبر ان الائمة يجرون في الأمر والطاعة مجرى واحد ، وليس ذلك الاللعصمة والامامة كما هو جلي .
6) ومما ينبغي التنبيه عليه انه لاخصوصية للاب من هذه الجهة فتاثير الام من هذا الجانب اعظم وابلغ ، فاذا لم يكن اب النبي والمعصوم والامام لهذا الأمر مشركا فكذلك امه ، هذا وفي تنصيص الروايات المتقدمة في بعض الادلة التي ذكرت هنا ، بل وهنا على شمول لزوم الطهارة في المعصومين الى امهاتهم دلالة واضحة على عدم الخصوصية بالاب.
7) لايقال ان الجارية محكومة بحكم أبويها وبالتالي لا يمكن الحكم بإسلامها.
فانا نقول ان هذه الجارية ولدت في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام) وربيت من قبلها ومن البعيد ان لا تكون مسلمة فان تنزلنا عن هذا فان أهل السنة نفسهم يحكمون بإسلامها كذلك اذ نص احمد بن حنبل على ان الجارية التي مات أبواها على الكفر يحكم باسلامها واستدل على ذلك بحديث الباب . راجع فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 3 في باب ما قيل في اولاد المشركين ص 195 .
ص: 514
السيدة نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال - السيد مرتضى الشيرازي ... 3
الفصل الأول : ملامح عن عظمة السيدة نرجس (عليها السلام) ... 5
المستودعة أسرار رب العالمين ... 6
الفصل الثاني: قبس من الأحداث ... 12
زلزال في القصر الملكي ... 13
تأملات ... 15
الانتخاب النموذجي ... 18
ملاحظات أمنية ... 21
اللقاء الأول ... 23
استنتاجات ... 25
الزواج المبارك ... 28
وجة لا غير.. 32
ماذا وراء التسميات المتكثر ... 37
بين أم المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وأم موسى (علیه السّلام) ... 42
نفحات غیبیة ... 47
الفصل الثالث: مدرسة الجهاد والفضائل ... 50
مدرسة الجهاد ... 51
الضغط السياسي والحصار الأمني ... 53
على خطى فرعون ... 59
رقابة واعتقال ... 61
التحلى بالصمت والكتمان ... 63
ص: 515
الامتحان المصيري ... 65
الامتداد التاريخي ... 70
مناقبيات أخرى / صلاة في السحر ... 74
تكريس العلاقة مع الله ... 76
عفاف وشجاعة وصمود ... 78
ثقافة مبكرة ... 81
الفصل الرابع: الانتصارات الكبرى والأسلحة الاستراتيجية ... 83
القيادة والمسئولية ... 84
معارك ضارية ... 86
أسلحة استراتيجية ... 88
1: سلاح المعرفة ... 88
2: الإيمان الراسخ ... 92
3: الشحنة العاطفية ... 95
شواهد صدق ... 96
العاطفة وعملية استنقاذ الأسرى ... 98
استنتاج ومقارنة ... 101
4: القمة في الإيثار ... 104
5: العزم والمضاء ... 109
معاناة اجتماعية ... 115
6: مقتدية بالصالحين ... 118
الفصل الخامس: العطاء الإلهي ... 122
العطاء الرباني / ورضوان من الله أكبر ... 123
أعطاها حتى أرضاها ... 123
ص: 516
الشفاعة بوابة الرحمة ... 128
الشفاعة مشروع تكامل ... 130
لسان الصدق ... 133
عطاء آخر في عالم الآخرة ... 135
وماذا عن سند الزيارة / إشارة عابرة للجانب السندي ... 140
فلسفة الأدعية والزيارات ... 144
ثبتني اللهم على محبتها ... 149
الزيارة رمز ولاء وينبوع عطاء ... 151
الفصل السادس بعد رحيل الإمام العسكري (علیه السّلام) ... 153
خطة ذكية وشجاعة ... 154
إلقاء القبض على السيدة نرجس ... 157
في نهاية المطاف ... 159
القول الجلي في والدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- الشيخ علي طرّاد العاملي ... 161
والدة خاتم الأوصياء ... 163
نسب السيدة نرجس (عليها السلام) ... 169
أسماؤها (عليها السلام) ... 170
نظرة في معاني أسمائها ... 172
الأقوال في أصل أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 174
القول الأول: أن أصلها رومية سبية ... 175
1 - ما ورد عن الإمام العسكري (علیه السّلام) في صحيحة عبد الجبار ... 175
2 - ما روي بأن الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هو ابن سبية ... 176
تنبيه حول رواية (ابن ستة) ... 179
3 - الأدلة التي تؤيد القول الأول رواية بشر بن سليمان النحاس ... 18
ص: 517
الرؤية الإعجازية للسيدة نرجس (عليها السلام) ... 180
إشكالات وردود على هذه الرواية ... 181
أ - الإشكال الأول: من الناحية السندية ... 181
ب - الثاني: عدم وقوع معركة بين العباسيين والبيزنطيين ... 185
1 - المعركة التي وقعت سنة (242ه_) ... 186
2 - المعركة التي وقعت سنة (245ه_) ... 187
3 - المعركة التي وقعت سنة (246ه_) ... 187
4 - المعركة التي وقعت سنة (248ه_) ... 188
5 - المعركة التي وقعت سنة (249ه_) ... 188
6 - المعركة التي وقعت سنة (250ه_) ... 190
7 - المعركة التي وقعت سنة (251ه_) ... 190
8 - المعركة التي وقعت سنة (252ه_) ... 190
9 - المعركة التي وقعت سنة (253ه_) ... 191
10 - المعركة التي وقعت سنة (254ه_) ... 191
ج - الثالث: أهم المحدّثين الشيعة لم ينقلوا هذا الحديث ... 201
الجواب على ذلك: عدم النقل لا يدل على كذب الرواية ... 201
القول الثاني: أنها ولدت في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام) ... 203
القول الثالث: أن أصلها سندي ... 208
القول الرابع: أنّها نوبية سوداء من شمال السودان ... 213
الرواية الأولى: «... بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيبة الفم...» ... 213
الرواية الثانية: «... فيه سنة من يوسف ابن أمة سوداء...» ... 215
الرواية الثالثة: «... فيه شبه من يوسف ابن أمة سواداء...» ... 216
القول الخامس: أنّها عربية من المدينة المنورة واسمها مريم ... 221
ص: 518
خلاصة الأقوال الخمسة في أصل السيدة نرجس (عليها السلام) ... 224
حياة السيدة نرجس (عليها السلام) ... 226
مكانة السيدة نرجس عند أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)/ نعتها بخيرة الإماء ... 227
سيدة الإماء ... 231
أوجه الشبه بين أم القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وأم موسى (علیه السّلام) ... 235
أولاً: الظروف العصيبة قبل الولادة ... 235
ثانياً: خفاء الولادة ... 238
ثالثاً: فراق الوليد ... 240
رابعاً: الرجوع إلى الأم مجدداً ... 241
السيدة نرجس بعد وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) ... 243
وفاتها صلوات الله عليها ... 246
زيارتها والنقاش حولها ... 253
من كرامات السيدة نرجس (عليها السلام) / خفاء حملها صلوات الله عليها ... 257
شفاء أهل سامراء ورفع الطاعون ببركة التوسل بها ... 260
قضاء حاجة أحد الأولياء بالتوسل بالسيدة نرجس (عليها السلام) ... 262
المرأة التي حملت ببركة السيدة نرجس (عليها السلام) ... 263
السيدة حكيمة (عليها السلام) ... 265
علاقتها الحميمة بالسيدة نرجس (عليها السلام) ... 266
أجوبة أهل البيت (علیهم السّلام) عن المسائل المهدوية - السيد حيدر العذاري ... 269
سؤال بعض المسلمين للإمام علي الله عن أم المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 271
سؤال الإمام الباقر (علیه السّلام) عن خيرة الإماء ... 272
الإمام المهدي الحقيقة المنتظر - السيد أبو القاسم الديباجي ... 273
نرجس أم الإمام المهدي ... 275
ص: 519
التقويم المهدوي - السيد محمد القبانجي / الشيخ ياسر الصالحي ... 279
(10) ذي القعدة سنة (263ه_) : وفاة ابن خاقان والذي بسبب ، موته أُفرج عن أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 281
أحداث هذا الشهر بدون ذكر اليوم: سنة (254ه_) : انعقاد النطفة الطاهرة المطهرة للإمام المهدي ، وبداية حمل أمه نرجس الله (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 284
(7) ذي الحجة: سنة (114ه_) : مجيء جابر الأنصاري عند احتضار الإمام الباقر (علیه السّلام) ونقله لحديث الصحيفة الفاطمية وفيها أسماء الأئمة مع أمهاتهم وخاتمهم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وأمه سيدة الإماء ... 285
سنة (285ه_) : التاريخ السندي لحديث الإمام علي (علیه السّلام) حول الحسن والحسين (علیهما السّلام) إذ كان ينادي الحسين: بأبي يا أبا ابن خيرة الإماء ... 288
قصة السيدة نرجس أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 289
تطبيق المعايير العلمية لنقد الحديث على ما اختلف وتعارض من أحاديث المهدي - السيد ثامر هاشم العميدي ... 291
حول اختلاف أحاديث الشيعة الإمامية في المهدي ... 292
غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) عند الإمام الصادق (علیه السّلام)- السيد ثامر هاشم العميدي... 295
أقول [المصنف]: صقيل، ونرجس، وسوسن ، كلها أسماء المسمّى واحد ... 297
الباب الثالث: دور الصادق (علیه السّلام)في رد الشبهات المثارة حول الغيبة ... 298
بيان الاختلاف بين هوية الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وهوية المهدي الحسني ... 299
3 - الاختلاف من جهة الأمّ اسماً ونسباً ... 301
ثالثاً: من نتائج توعية الإمام الصادق (علیه السّلام) ... 302
المصلح العالمي من النظرية إلى التطبيق - السيد نذير الحسني ... 305
ثالثاً: اسم الأم [السيدة نرجس (عليها السلام)] ... 307
ص: 520
المختصر في الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- الشيخ محمد رضا الحكيمي ... 309
أمه (علیه السّلام) [السيدة نرجس (عليها السلام) ... 311
تعليق المصنف (رحمه الله علیه) ... 312
حوارات حول المنقذ - الشيخ إبراهيم الأميني ... 313
أمّ المهدي ... 315
دروس في تاريخ عصر الغيبة - مسعود پور سید آقائي / محمد رضا جباري / حسن عاشوري/ السيد منذر الحكيم ... 319
4 - أمه [أمّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)] ... 321
دعوة أحمد الحسن بين الحق والباطل - طالب الحق ... 327
الباب الثالث: لون بشرة السيدة نرجس أمّ الإمام المهدي (علیه السّلام) ... 329
الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أمل الأمة - السيد شبيب الخرسان ... 333
أمه [أمّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)] ... 335
ماهي قصة أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 338
الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) عدالة السماء - السيد عباس علي الموسوي ... 343
أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 345
الأصول التمهيدية في المعارف المهدوية - السيد محمد علي الحلو ... 347
دور السيدة نرجس أم الإمام (علیه السّلام) ... 349
نرجس والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- محمد باقر الأميني ... 351
وفاة نرجس ... 353
سفرة مليكة الدنيا والآخرة - فاطمة علي الجعفر ... 359
أم الإمام المهدي المنتظر (علیه السّلام) نرجس (عليها السلام) في سطور لام في ... 361
السيدة نرجس مغمورة بالنور المهدوي ... 363
ص: 521
طموح السيدة نرجس (عليها السلام) ... 365
جهاد السيدة نرجس ... 368
العشق المهدوي - بتول مرزوق رجاء الشريمي ... 371
والدته [والدة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)] ... 373
المنتظر والمنتظرون - السيدة أم مهدي ... 377
والدة الإمام المهدي (علیه السّلام) ... 379
الحداثوية والقضية المهدوية - الشيخ نزيه محي الدين ... 383
شبهة عدم زواج الإمام العسكري وتعدّد أسماء أم المهدي (عليها السلام) وردّها .... 385
البابية والبهائية - الشيخ محمد جواد البلاغي ... 389
موانع الاعتقاد بالبابية والبهائية ... 391
المانع الثالث: المهدي (علیه السّلام) ابن سيدة الإماء ... 392
علامات المهدي المنتظر في خطب الإمام علي ورسائله وأحاديثه - الشيخ مهدي الفتلاوي ... 397
اسم أمه [أم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)] ... 399
حياة الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) المصلح الأعظم - الشيخ باقر القرشي ... 401
مشرق النور / الأم [أمّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)] ... 403
اسمها الشريف ... 404
الثناء عليها... 405
أنباء الحجة - الشيخ إبراهيم خازم العاملي ... 407
النبأ الخامس: في جملة من أحوال أمه (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وفيه خبر وصولها للعسكري صلوات الله عليه / جملة من أحوال أمه (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 409
دروس استدلالية في العقيدة المهدوية - حميد عبد الجليل الوائلي : الحلقة الأولى ... 413
ص: 522
الإثارة الثانية لم يولد للاختلاف في اسم أمه ... 415
في رحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- عبد الرحيم مبارك ... 417
الفصل الخامس: الولادة المباركة بين الإظهار والإخفاء/ أم الإمام المهدي (علیه السّلام) ... 419
خيرة الإماء / سيدة الإماء ... 420
الحجة في إثبات الحجة - عبد الرزاق شاكر البدري الشافعي السامرائي ... 423
والدة الإمام الحجة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 425
مجلة الموعود العدد (8) - مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)... 427
أمّ الإمام المهدي حقيقة ثابتة / الشيخ نزيه محيي الدين ... 429
الرواية الأولى: «... من ابنة ابن قيصر ملك الروم ...»... 430
المسار الأول: أين أُسرت؟ / المسار الثاني: من هو القيصر ... 432
الأقوال والاحتمالات في المسار الأول ... 432
الأول: أنها أسرت في أذربيجان / الثاني: أنها جاءت من بلاد الروم ... 432
تفصيل الكلام في المسار الأول ... 432
تفصيل الكلام في المسار الثاني ... 434
مجلة الموعود العدد (9) - مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 457
جدلية إظهار ولادة الإمام الحجة له وإخفائها / د. عبير بدر عبد الستار ... 459
النساء وجدلية الإخفاء ... 460
1 - اختيار الزوجة وأثره في إخفاء ولادة الحجة (علیه السّلام) ... 460
2 - اتخاذ والدة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أسماء متعدّدة ... 460
3 - تولي عمة الإمام العسكري (علیه السّلام) (حكيمة) ولادة الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 461
4 - إسهام والدة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)في تضليل السلطة ... 461
مجلة الموعود العدد (11) - مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 463
ص: 523
السيدة نرجس (عليها السلام)(شبهات وردود) / الشيخ علي الفياض ... 465
المقدمة / أصل السيدة نرجس (عليها السلام)/ القول الأول: من بلاد الروم ... 465
القول الثاني: ولدت في بيت السيدة حكيمة (عليها السلام) ... 466
القول الثالث: من النوبة في السودان ... 468
القول الرابع: من المدينة المنوّرة ... 470
الخلاصة ... 471
الشبهات والإشكالات المثارة حول السيدة نرجس (عليها السلام) ... 472
الإشكال الأول: إسلامها وزواجها في عالم الرؤيا / الجواب ... 472
الإشكال الثاني: حديث بشر دالّ على تساقط الصلبان من دون سبب ... 473
الجواب ... 473
الإشكال الثالث: وجود تنافي في الرواية / الجواب ... 474
الإشكال الرابع: علم الإمام الهادي (علیه السّلام) بالغيب / الجواب ... 475
الإشكال الخامس: الإيمان بمضمون الرواية يتوقف على الإيمان بالأحلام ... 475
الجواب ... 475
إشكالات الدكتور جاسم حسين ... 477
الإشكال السادس: عدم وجود معركة كبيرة بين العباسيين والبيزنطيين ... 477
هذا الإشكال يحتوي على نقطتين ... 477
النقطة الأولى: نفي حصول معركة بعد سنة (242ه_) ... 477
النقطة الثانية: لا توجد مؤشرات على أنّ الإمبراطور أراد تحرير حفيدته من العباسيين ... 477
1 - عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ... 477
2 - وجود مانع من طلب الفداء أو أنه رآها قتلت / متى وقعت المعركة ؟ .... 478
ص: 524
الاحتمال الأول: أنّ المعركة وقعت في سنة (242ه_) ... 478
الاحتمال الثاني: أنّها وقعت سنة (245ه_) ... 479
الاحتمال الثالث: أنّها وقعت سنة (246ه_) ... 479
الاحتمال الرابع : أنها وقعت سنة (248ه_) ... 480
الاحتمال الخامس : أنها وقعت سنة (249ه_) ... 480
الاحتمال السادس: أنّها وقعت سنة (250ه_) ... 481
الاحتمال السابع: أنّها وقعت سنة (251ه_) ... 482
الاحتمال الثامن: أنّها وقعت سنة (252ه_) ... 482
الاحتمال التاسع: أنها وقعت سنة (253ه_) ... 482
الاحتمال العاشر: أنّها وقعت سنة (254ه_) ... 482
الاحتمال الحادي عشر : أنها وقعت سنة (255ه_) ... 482
أي الاحتمالات الأرجح ... 483
الإشكال السابع: الرواية لم يشر لها القمي والنوبختي والكليني والمسعودي المعاصرون للرواي ... 483
الجواب ضمن نقاط ... 484
الإشكال الثامن: أنها كانت تدين بالمسيحية وأن والديها مشركان ... 486
الجواب ... 486
الإشكال التاسع: هناك تناقض بين كونها أمة سوداء وكونها رومية ... 490
الجواب ... 490
الإشكال العاشر: حمل السيدة نرجس (عليها السلام) بالمهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) من الجنب وولادته من الفخذ / الجواب ... 491
مجلة الموعود العدد (13) - مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 493
ص: 525
تمهيدنا: سيدة الإماء / رئيس التحرير [الشيخ حميد الوائلي] ... 495
مجلة الانتظار العدد (16) ... 501
تمام الكلام في إسلام أم الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) / الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي ... 503
بيان إجمالي للأدلة ... 503
وتفصيل الكلام في هذه الأدلة على النحو التالي ... 504
الدليل الأول: استفاضة روايات إسلامها ... 504
المصدر الأول: إخبار الشيخ الطوسي ... 504
المصدر الثاني: إخبارات الشيخ الصدوق، وهي على نحوين ... 505
النحو الأول : الذي أفرد لها باباً خاصاً ... 505
النحو الثاني الذي جمعنا فيه أغلب ما روي عن السيدة نرجس ... 505
الدليل الثاني: الوضوح القائم عند الشيعة على إسلامها ...506
الدليل الثالث: إجماع الشيعة على طهارة أرحام أمهات الأئمة (علیهم السّلام) ...506
الدليل الرابع: تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ الدال على طهارة الأئمة (علیهم السّلام) ... 507
الدليل الخامس: دليل إثبات إسلامها من خلال رضاعتها للإمام (علیه السّلام) ... 510
الدليل السادس: دفنها (رضی الله عنه) بين قبور المسلمين وبين قبرين المعصومين ... 510
الكلام في بقية الأدلة ... 512
الهوامش ... 514
الفهرس ... 515
ص: 526