زينب الكبرى علیها السلام من المهد الى اللحد

هوية الكتاب

سرشناسه :قزوینی ، سیدمحمدکاظم ، 1308 - 1373.

عنوان و نام پدیدآور :زینب الکبری علیها السلام من المهد الی اللحد/تالیف محمدکاظم القزوینی.

مشخصات نشر :دار المرتضی بیروت

مشخصات ظاهری 696ص.

شابک :964-8166-08-0 ؛ چاپ دوم979-964-8166-08-7 :

یادداشت :عربی.

یادداشت : 1427 ق.

یادداشت :کتابنامه: ص. [696] - 696؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع :زینب (س ) بنت علی (ع)، 6 - 62ق.

موضوع :واقعه کربلا، 61ق.

رده بندی کنگره :BP52/2 /ز9ق43 1426

رده بندی دیویی :297/974

زينب الكبرى عليهاالسّلام

من المهد الى اللحد

السيّد محمّد كاظم القزويني

طبعة كاملة محققة

دَارالمرتَضي

المحرر الرقمي: محمدرضا دهقانزاد

ص: 1

اشارة

زينب الكبرى عليهاالسّلام

من المهد الى اللحد

ص: 2

زينب الكبرى عليهاالسّلام

من المهد الى اللحد

بقلم المرحوم

السيّد محمد كاظم القزويني

حققه وعلق عليه ولده

السيد مصطفى القزويني

دَار المرتَضى

بَيْروتْ

ص: 3

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ لله ربّ العالَمين، والصلاة والسلام على افضل الخَلْق أجمعين سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، ولعنة الله على اعدائهم لعنةً دائمة إلى يوم الدين .

وبعد...

السيّدة زينب الكبرى: ثاني أعظم سيّدة في سيّدات أهل البيت المُحمّدي، كانت حياتها تَزدحم بالفضائل والمكرُمات، وتَموج بِمُوجِبات العظمة والجلالة، والقداسة والروحانيّة، وتَتَراكم فيها الطاقات والكفاءات والقابليّات، ومُقوّمات الرُقي والتفَوّق.

مِن هنا .. فكلُّ صفحةٍ مِن صفحات حياتها المُشرِقة جَديرة بالدراسة والتحقيق، فمِن ناحية تُعتبر القراءة في مَلَف حياتها نوعاً مِن أفضل أنواع العبادة وسُبُل التقرّب إلى الله سبحانه، لأنّها

ص: 5

إطّلاع على حياة سادات أولياء الله تعالى .

ومِن ناحية أُخرى: التدبّر في اللَقْطات التاريخيّة التي وَصلتْ إلينا عن حياة هذه السيّدة يُعطي الانسانَ دروساً مفيدة تَنفعه في كثير مِن مَجالات حياته .

يُضاف إلى ذلك: أنّ التأليف عن حياتها المتلألأة يُعتبر مُحاولة لإعطاء صورة واضحة عن خير قُدوةٍ للنساء المؤمنات، بل خير مُقتدى لكلّ امرأة تَبحث عن السعادة في الحياة، والفَوز بَجنّةٍ عرضُها السماوات والأرض.

وكم هو جيّدٌ وجميل ان نَقرأ حياة هذه السيّدة العظيمة في کتابٍ خُطّ بقلم واحدٍ مّن المع المُتالّقين في سماء الخِطابة والتأليف، ورجلٍ شجاع مِن أبرز المجاهدين - في سبيل الله - بلسانه وقلمه، ألا وهو العلّامة الكبير، والخطيبُ البارع: السيّد محمّد كاظم القزويني، رضوان الله عليه .

إنّ طبيعة كون العلّامة القزويني خطيباً حُسينياً مُميَّزاً، ومُحاضِراً اجتماعياً قديراً، كانتْ تَجعَلُه يَتوصّل إلى كثير مِن النتائج النافعة في مَجال دراسة حياة السيّدة زينب الكبرى عليها السلام.

ولعلّ أولَ مرّةٍ انقَدَحتْ في ذهنه فِكرة التأليف عن حياة السيّدة زينب، هو يوم كان مشغولاً بتأليف كتابه عن حياة سيّدة نساء العالَمين الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام سنة

ص: 6

1396 ه-، لكنَّ العَوائق كانتْ تَحولُ بَينه وبين تطبيق الفِكرة وتحقيق تلك الأُمنية.

وإلى أنْ عَزم على الكتابة، وبَدأ بالتأليف عن حياة السيّدة، في سنة 1409ه-.

لقد كان العلامة القزويني يُحاول - بكلّ جِدّ - جَمْع مَواد تاريخيّة كافية عن مرحلة ماقبلَ فاجعة كربلاء في حياة السيّدة زينب، وتَسليط الأضواء الكشّافة على جوانب تلك المَرحلة، وتناولها بلَمسات تحليليَّة، فلقد عاشت السيّدة - قبل الفاجعة العظمى - حوالي سِتّاً وخمسين سنة، وكانتْ حياتها مَليئة بالحوادث والوقائع والمُستجدّات، وكان لها دور مُهم في جميع تلك الحوادث، فقد كانت قويّة الشخصيّة، وسيّدة مَواقف، وصاحبة كلمة، وزعيمة دور قيادي لنساء أهل البيت .. بل للنساء المؤمنات جَمعاء.

لكن ..

لكن ماذا عن حياتها يومَ كانت طفلةً في عُمْر الزهور وفَقَدتْ أُمَّها الزهراء؟!

وماذا عن حياتها يومَ كانت بنتاً في دار أبيها؟!

وماذا عن حياتها حين كانت سَنَداً وظَهْراً لِوالدها وأخَويها؟!

وماذا مِن عيّنات ومعلومات عن حياتها الزوجيّة؟!

ص: 7

وماذا كانتْ مَناهجُها في تربية أطفالها وثَمرات فؤادها؟!

وماذا كان سِرُّ نجاحها في إدارة بَيتها العائلي؟!

وما هي تفاصيل دورها القيادي والإصلاحي في التَوجيه النسَوي؟

وماذا عن دروسها ومُحاضراتها التي كانت تُلقيها على نساء الكوفة مُدّةَ أربع سنوات؟

وكيف استطاعت أنْ تَجمَع بينَ الحجاب والثقافة، والعِفّة والتعليم، والدين والحضارة، والمَنزل والمُجتمع؟؟!

وماذا عن جانب العبادة، والزُهد، والسَخاء، وحُبِّ الخير للآخرين .. في حياتها؟؟!

وماذا عن العلوم التي وَصَلتْ إليها مباشرةً .. ودون التعلُّم مِن أحَد؟!!

وما هي - بالضبط - مُميّزاتها الفريدة التي جعلَتْها - بجدارة - ثاني أعظم سيّدة في نساء أهل البيت .. بل في سيّدات تاريخ البشر؟

وما هي مُواصفاتها النَفسيّة النادرة التي أهّلتْها أن تَبقى كوكباً مُضيئاً يُحلّق في سماء المَجْد والخُلود؟ ويَظلَّ إسمُها لامعاً - إلى جَنب إسم أخيها الإمام الحسين - رَمْزاً لخير مَن نَصرَ الدين، وصَرَخَ في وجْه الظالمين؟!

ص: 8

وما هي الصورة الواضحة التي أعطتْها السيّدة زينب عن المرأة المؤمنة المثاليّة؟!

وماذا .. وماذا ..؟؟

اجل ..

كان العلّامة القزويني يَبذل قُصارى جُهده في جَمْع المواد التاريخيّة عن حياة هذه السيّدة العظيمة، لكنّه - مع الأَسف - أُصيبَ بمَرض عضال، وصار المرضُ يَنخَر في جسمه بسرعة، ويَجعل سَيرَ التأليف بَطيئاً، حتّى أودى به إلى الوفاة، قبل إكمال بعض فصول هذا الكتاب.

وقد كتَبَ بعض َصفحات هذا الكتاب على سرير «مستشفى ابن سينا» في الكويت، حيث كان راقداً هناك لإجراء بعض الفحوصات الطبيّة ومحاولة إكتشاف علاج لِمرضه.

وقد كانت رغبتُه لإنجاز وإكمال هذا الكتاب شديدة ومُلحّة، لأسباب مُتعدّدة، منها:

1 - أنه رأى في المنام رُؤياً شجّعَتْه على مواصلة هذا التأليف .

2 - لإحتمال وفاته بِسَبَب المرض الّذي أصابه .

أمّا الرؤيا، فإنه - في أثناء تأليف الكتاب وبعد فراغه مِن كتابة فصل (مروان يَخطب بنتَ السيّدة زينب ليزيد بن معاوية) - رأى في المنام المجتهد الفقيه آية الله السيد حسين القُمّي - المتوفّى سنة

ص: 9

1367 ه- قد أقبل إليه واعتنقَه معانقة حارّة، وقال له - بصيغة الدعاء: «قَبَّلَ اللهُ يَدَك»، أو بصيغة الإخبار -: «إنَّ الله تعالى يُقبّل يدَك»!

واستيقظ السيّد المؤلّف مِن نومه، وصار يُفكّر - طويلاً - في تفسير رؤياه حيث اعتبرَها رؤيا مهمّة، ورغم أنه كانت لديه معلومات واسعة وخِبرة جيّدة في علم تفسير الأحلام إلّا أنه استَفَسر عن تعبیر رؤياه مِن أحد العلماء المُتخصّصين في تعبير المنام .

فقال له العالم: هل قمتَ بخدمة لواحدة مِن أقرباء الامام الحسين (عليه السلام) مثْل: زوجته او أُخته؟

فقال السيّد: نعم، أنا مشغول بتأليف كُتيّب حول السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) .

فقال العالم: إنّ خِدمتك نالتْ رضى الإمام الحسين (عليه السلام) وتفسير كلمة «إنّ الله يُقبّل يدك» هو: أنّ الله تعالى قد تَقبَّلَ منك ما كتبتَه .

****

وحين تأليفه لهذا الكتاب كان يَطلب منّي أن أصطحب معي ما كتَبَه إلى داري، لألقي نظْرة فاحصة على الكتاب، وأُبدي بعضَ الملاحظات أو الإقتراحات .

وبعد وفاته (رحمة الله عليه) رأيتُ القيام ببعض اللَمسات

ص: 10

التكميليّة على الكتاب، مع الانتباه إلى بعض الصلاحيّات التي مَنحَها لي في السنوات الأخيرة من حياته.

رأيتُ القيام بهذا الأمر لِسَبَبين:

الأول - وهو السبب الرئيسي -: القيام بخدمة مُتواضعة لسيّدتي ومولاتي زينب الكُبرى عليها السلام.

الثاني: بَرّاً منّي بوالدي رحمة الله عليه.

****

وأوّد جَلب إنتباه القارىء الكريم إلى عِدّة نقاط :

الأُولى: لقد حاولتُ - قَدْر الإمكان - أن أجعل فاصلاً مميِّزاً بين الكتاب والإضافات التي هي منّي، فجعلتُ الإضافات في الهامش، وكتبتُ في نهايتها: «المُحقِّق».

وهذا ما سيَشْعر به القُرّاء الكرام الذين تَعوّدوا على نكْهة قلَم السيّد الوالد.

النقطة الثانية: إن الفصل الأخير مِن هذا الكتاب - بكامله - هو مِن إضافاتي، لكنّي حاولتُ - غالباً – ذكْر الأشعار التي كنتُ أعلم إعجابَ الوالد بها .

النقطة الثالثة: كان عَمَلي - في إعداد الكتاب -: عبارة عن مراجعة الكتاب مِن أوّله إلى آخره، وضبْط نصوصه، وذِكْر مَصادره، وشرح بعض الكلمات

ص: 11

الغامضة بعد مراجعة كتُب اللغة.

النقطة الرابعة: بما أنّ هناك اختلافاً في أرقام صفحات وأجزاء المصادر، لِتعدُّد طبعات بعض الكتُب، فقد ذكرْنا في نهاية الكتاب قائمة بأسماء المصادر الرئيسيّة، لبيان الإسم الكامل للكتاب والمؤلّف، وذِكْر سنة ومَحلّ طبْع الكتاب، تَسهيلاً للقارىء الكريم.

مؤلّف الكتاب

والآن .. إليك لمحة خاطفة وسريعة جداً عن حياة مؤلّف هذا الكتاب: العلّامة القزويني:

هو السيّد محمّد كاظم بن المجتهِد الفَقيه آية الله السيّد محمّد إبراهيم بن العالم الكبير المَرجع الديني في عَصْره: آية الله السيّد محمّد هاشم الموسوي القزويني.

وُلدَ في مدينة كربلاء المقدّسة، سنة 1348ه-، وهو يَنحدر مِن أُسرة تَموج بالفُقَهاء والعلماء، والخطباء والشعراء، ورجال الفكر والأَدَب والقَلَم، وتُعتبر أُسرتُه من أشرف الأُسَر والعشائر التي سَكنتْ أرضَ كربلاء منذ أكثر مِن مائتين وخمسين سنة .

ص: 12

وقد شاءتْ المُقدّرات الإلهيّة أن يكون السيّد المؤلّف وحيدَ أبويه، فقد كان الموت قد اغتالَ - قبل ذلك - جميع إخوته وأخواته، البالغ عددهم ثلاثة عشر ولداً .. ما بين وَلَد وبنت، وكان جميعُهم بَراعم في عُمر الصِبى والطفولة .

ثمّ وجَّهَت الحوادث سِهامَها إليه منذ عُمر الطفولة، ففُجِعَ بوفاة والدته الحنونة وعمرُه عشر سنوات، فصار الطفل المدلَّلِ لوالده، وبَلَغ الثانية عشرة من عمره، فمات والدُه، وبعد ذلك تَعرَّضَ لظروف قاسية عصَفتْ بحياته مِن كلّ جانب، لكن نِسْبة «الثقة بالنفْس» و «التوكُّل على الله تعالى» كانت قويّة في نفسيّته، فجعلتْه صامداً أمام تلك الأعاصير!

أكملَ دراستَه الدينيّة في الحوزة العِلْميّة في مدينة كربلاء المقدّسة، حتى بَلَغَ درجة عالية من العِلْم والثقافة، وتَخصّص في الخطابة والمنبر فكان مِن أبرز الخطباء في عصْره.

كانت له مُحاضرات دينيّة مُركّزة في ليالي شهر رمضان المبارك، وكانتْ مَجالسه تَمتاز بكونها تربويّة وتوجيهيّة ..

وليست تاريخيّة بَحْتة، وامتازت - أيضاً - بأنّ غالبيّة الحضور – في مُحاضراته - كانوا من الشباب والطبَقة المُثقّفة الواعية.

وقد رَبّى العلّامة القزويني عدداً كبيراً وجيلاً مُميَّزاً مِن خطباء المنبر الحسيني، هم اليوم مِن أبرز وأشهَر خطباء العالَم الإسلامي الشيعي في عصْرنا الحاضر.

ص: 13

في سنة 1380ه- أسَّسَ مؤسّسة دينيّة باسم (رابطة النشر الإسلامي) كان هدفُها تزويد مُسلمي العالَم بالكتُب التي تتحدّث عن مذهب أهل البيت، مَجّاناً وبلاثَمَن، وكان نشاط هذه المؤسّسة مُركّزاً في البداية على بلاد المغرب العربي، ثمّ شَمل الجزائر وليبيا وتونس، وبعضَ الدول الإفريقيّة كالسنغال ونيجيريا .

واستطاع السيّد القزويني - عن طريق هذه المؤسّسة - أنْ يُنبّه كثيراً مِن المغاربة المُغفّلين الذين كانوا يَتخذون (يوم عاشوراء) يومَ عيدٍ وسُرور وأفراح وأعراس، على طريقة بَني أُميّة .

فقد كان يوم العاشر مِن المُحرَّم أكبر عيد شَعْبي في بلاد المغرب، وكان يُعرَف باسم (عيد عاشوراء) فسافر السيّد القزويني إلى تلك البلاد سنة 1388ه-، ونَشَر مقالة ناريَّة مُلْتهِبة في صحيفة «العَلَم» المَغربيَّة قبلَ يوم عاشوراء باسبوعين، نَدَّد فيها المغاربة عن اتّخاذ يومَ حُزن آلِ الرسول يومَ عيد وفَرَح، واعتَبَر ذلك تحدّياً سافراً وحَرباً ضدّ النبي الكريم، وأنذَرَهم الأخطار الكبيرة الناتجة عن هذا المَوقف المُخزي تجاه أُسرة رسول الله الطيّبة الطاهرة المُطَهَّرة!

فاستولى الخوف والفَزَع على المَغاربة، في تلك السنة التي نُشرتْ فيها المقالة، وهكذا تَمّ إلغاء ذلك اليوم عن كونه عيداً، وصار كبقيَّة أيّام السَنَة بلا افراح ولا تهاني.

وهذا موقفٌ مُشرق دَلَّ على كفاءة السيّد القزويني ونجاح

ص: 14

خُطّته الحكيمة.

واستطاعت هذه المؤسّسة - رغم ضَعْف ميزانيّتها - أن تَنشُر أكثر مِن مليوني كتاب خلال عشرين سنة .

أمِا عن الجهاد بالقلم، فقد بَدأ العلّامة القزويني بكتابة المقالات وتأليف الكُتب في مرحلة مُبكّرة مِن شبابه، وكان مِن أبرز مؤلّفاته: «شرح نهج البلاغة»، وسلسلة كُتُب عن حياة أهل البيت المَعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) تحت عنوان: «... مِن المهد إلى اللحْد» فأكملَ منها عن حياة سِتّة مِن المَعصومين، وأخيراً بَدأ بتأليف موسوعة كبيرة وفريدة عن حياة الإمام جعفر الصادق (عليه الصلاة والسلام) في حوالي خمسين مجلّداً، ويُعتبر هذا المشروع الضخم مِن أوسع ما قَدّمه مِن عطاء خالد.

ومِن النقاط اللامعة في حياة العلامة القزويني: هو أنّه قامَ برِحْلة تبليغيّة إلى قارة أُستراليا عام 1398 ه-، لإيصال صوت الإسلام وأهل البيت (عليهم السلام) إلى المسلمين الشيعة هناك، وقد كانوا يَرزَحون تحتَ وَطأة الفقر الثقافي والإيماني وغياب الوعي الديني، ومُضاعفات الإغتراب والإبتعاد عن الأوساط الإسلاميّة. وفي مدينة «سيدني» أسَّسَ مسجداً ضخماً باسم (مسجد فاطمة الزهراء عليها السلام) والقى عشَرات المحاضرات الدينيّة المركَّزة الهادفة خلال سَفرته التي استغرقتْ أكثر من شهر، وكان بمنزلة الفاتح العظيم الذي يَدخل تلك البلاد النائية، ويُحدث تحوّلاً مُهمّاً

ص: 15

في نفوس وأرواح أُولئك الأفراد، ويُعيد إليهم روح الإيمان والإلتزام بمَبادىء الدين الحنيف، والإعتزاز والإفتخار بالمذهب الحقّ: «مذهب أهل البيت عليهم السلام».

****

سَكنَ في وَطنه (مدينة كربلاء المقدّسة) حوالي ستاً واربعين سنة، ثمّ هاجر مِن العراق إلى الكويت سنة 1394ه-، وبقيَ فيها حوالي ست سنوات، قامَ خلالها بنشاط ديني واسع ومُكثّف، وتربية جيل مؤمن مِن الشباب. ثمّ هاجَرَ مِن الكويت إلى ايران عام 1400ه-، وسَكنَ في مدينة قم المقدّسة، فاستمرّ في العطاء عَبر المنبر والقلَم، فكان خيرَ مُعلّم ومُربِّ وخيرَ ناعريال لسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام.

قبلَ وفاته بسنتين ونصف تقريباً أُصيبَ بمرضٍ بَدأ يُتلف - بالتدريج - إثنين مِن أعصاب المُخ، وهما المَسؤولان عن الحركة الإراديّة لِتحريك اللسان للتكلُّم والتلفّظ، ولقوّة ابتلاع الطعام، وأخيراً أودى به المَرضُ إلى الوفاة، بعد مُعاناة مَريرة في الأشهر الأخيرة مِن حياته .

فارقَ الحياة وانتقلَ إلى رحمة الله تعالى، يوم الخميس 13 / جمادى الثانية / 1415ه-، رضوان الله عليه.

وجرى لجنازته تَشييع عظيم في مدينة قم المُقدّسة، اشترك فيه مُختلَفُ طبَقات المجتمع، ومِن كافّة

ص: 16

الجِنْسيّات.

تَركَ مِن بعده: ثلاث بنات وخمسة بنين، تَخصّصَ إثنان منهم في الخطابة والتأليف، وتَفرَّغَ ثلاثة منهم للفقه والإجتهاد.

وخِتاماً.. لا يَفوتني أنْ اشكر الله تعالى أوّلاً وقبلَ كلِّ أحد على أنْ وفّقَني لتحقيق وإخراج هذا الكتاب، ثمّ اشكر كلَّ مَن كانت له مُساهمة أو تعاون في هذا المَجال، وأخصّ منهم بالذِكْر سماحة الخطيب البارع المُخلِص الشيخ علي اكبر القحطاني، حيث زَوّدنا بكلِّ ما في مكتبته العامِرة من كُتُب ومؤلَّفات حولَ السيّدة زينب الكبرى عليها السلام.

مصطفى بن محمد كاظم القزويني

9/ 12/ 1420ه-

قم - ایران

ص: 17

ص: 18

زينبُ الكُبرى عليها السلام

مِن المهْد إلى اللحْد

بقلم المرحوم

السيّد محمد كاظم القزويني

ص: 19

ص: 20

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الإهداء

إليك يا سيّدنا ومولانا

يا سيّد الشهداء وسبط رسول الله

يا أباعبدالله الحسين.

إليك أُهدي هذه الصحائف التي تتحدَّث عن رَضيعتك في المَواهِب، وشقيقتك في العظمة، وزَميلتِك في الجهاد، و شريكتِك في المَصائب: السيّدة زينب الكُبرى.

عليكَ وعليها وعلى جَدِّكما وأبيكما وأُمِّكما وأخيكما – الإمام الحسن - آلاف التحيَّة والثناء والسلام.

فهلْ تَتفضَّل علي َّبقبول هذه الخِدمة الضئيلة؟

محمّد كاظم القزويني

مدينة قم - ايران

سنة 1409 ه-

ص: 21

ص: 22

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله كما هو أهلُه، والصلاة والسلام على خير خَلْقه، واشرف بريَّته: محمّد وآله الطاهرين، الذين أذهبَ الله عنهم الرجم وطهَّرهم تطهيراً.

وبعد، يوجد في تاريخ البشر عدد كبير من الرجال وعدد مِن النساء الذين نَبغوا نبوغاً في شتّى الفنون والعلوم، فطارَ صِيتهم في العالَم، وكان نصيبهم مِن المُجتمعات البشريَّة كلَّ إعجابٍ وتقدير، وإكبارٍ وتجليل، لأنهم امتازوا عن غيرهم بشتّى المَزايا.

وكلّ إنسانٍ إمتاز بمزيَّة أو بمزايا فمِن الطبيعي أن يفضّل على غيره مِن فاقِدي تلك المزايا.

وقد كان أولياءُ الله في طليعة النابغين، لِتعدّد جوانب النبوغ فيهم.

ص: 23

والبيتُ النبَوي الطاهر الشريف يَضمّ رجالات وسيّدات كانوا العناوين البارزة في صحيفة الإيجاد والتكوين، وفي طليعة العظماء الذين مِن المستحيل أن يَجود الدهرُ بأمثالهم.

ونحن نُريد أن نَتحدَّث - في هذا الكتاب - عن حياة سيّدةٍ كانت تعيش قبلَ ثلاثة عشَر قرناً ونصف قرن، وقد امتازتْ حياتها بجميع جوانبها - عن حياة غيرها من سيّدات التاريخ .

إنّها السيّدة زينب الكبرى بنت الإمام علي أمير المؤمنين عليهما السلام.

إنّها نادرة مِن نوادر الكون، وآية إبداع في خَلْق الله تعالى، ومُلتقى آيات العظمة، ومَفخَرة التاريخ.

ونحن إذا استَقر أنا أسبابَ العظمة وموجبات الشرف في تاريخ البشر - على اختلاف أنواعها وأقسامها - نَجد كلّها أو جُلَّها مُجتمعة ومُتوفّرة في السيدة زينب الكبرى .

فإذا تحدَّثنا عن السيّدة زينب على صعيد قانون الوراثة، فإنّنا نجدها مُطوَّقة بهالات مِن الشَرَف .. كلّ الشرف.

شَرف لم تَسبقها اليه أُنثى سوى أُمّها السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ولم يَلحقها لاحق، ولا يَطمع في إدراكه طامع، فهي البنت الكبرى للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذلك المَولى الذي يُعتبر ثاني أعظم رجل في عالم الكون والوجود،

ص: 24

فهو أشرف مَن أظلّت عليه الخَضراء، وأقلَّتْه الغَبراء بعد شخصيّة الرسول الاقدس صلى الله عليه وآله وسلّم.

وأمّها: السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي سيّدة نساء العالَمين، وافضل واشرف أُنثى في عالم النساء.

فما تقول في هذه الأُمّ التي انجَبتْ وأرضعتْ بنتاً امتازت بالنضج المُبكِّر، وارتضعت المَواهب والفضائل مِن صدر اشرف أُمّهات العالَمين؟! وكبُرتْ ونَمَتْ في حِجْر بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعزيزته وحبيبته؟!

فالسيّدة زينب حَصيلة أبوين، كانت حياةُ كلِّ واحدٍ منهما مُشْرقةً بالمزايا والمكرُمات، وكلّ صفحة منها تفتح للانسان آفاقاً واسعة يَطيرُ الفِكرُ في أرجائها، وتَسبَحُ كواكبُ الفضائل في فَضائها.

أجَل!

إنّها زينب .

وما أدراك مَن زينب!

هي زينبٌ بنتُ النبيِّ المُؤْتمَن *** هي زينبٌ أُمُّ المصائب والمِحَن

ص: 25

هي بنتُ حيدرة الوصيّ وفاطمٍ *** وهي الشقيقةُ للحسين و للحسن (1)

ثمّ .. أليسَ النَسَب الرفيع مِن أسباب العظمة؟!

أوَ ليسَ العِلْم الغزير - بما فيه الفصاحة والبلاغة - مِن موجِبات الشَرَف؟!

أوَ ليس الصبْر على المكاره والفجائع الدامية والحوادث المُذهِلة فضيلة؟!

أوَ ليست الشجاعة ومواجهة العدو الشَرِس، المُتجبّر الطاغي السَفَاك، تدلّ على قوّة القلب، وثَبات القَدم، والإيمان الصادق، والعقيدة الراسخة؟!

أوَ ليست صفة الوفاء والعاطفة والشَفَقة والحياء والعِفّة، في طليعة الفضائل؟!

فما تَقول لو أنّ هذه الصفات وغيرها منِ مكارم الاخلاق إجتمعتْ - بصورة وافرة - في سيّدة؟!

الا تُعتبر تلك السيّدة نادرة الكون ومَفخَرة التاريخ؟!

بعد هذه اللمحة الخاطفة عن بعض جوانب العظمة في

ص: 26


1- نُنبّه القارىء الكريم إلى أنّ هذين البيتين هي مِن نَظْم السيّد المؤلّف (رحمة الله عليه). المُحقّق

السيّدة زينب الكبرى نقول:

كيف يمكن لَنا الإحاطة بحياة سيّدةٍ قضتْ مُعظَم حياتها في الخِدْر، ووَراء السِتر، ولم يَطّلع على حياتها العائليّة إلا أهلُها وذَووها؟

والرزيّة كلّ الرزيّة: أنّ التاريخ قد ظلَمها كما ظَلَمها الناس. التاريخ ظَلمها كما ظَلمَ أباها وإخوتَها وأُسرتَها الطاهرة، ولم يَعبا المؤرِّخون بترجمة حياتها كما ينبغي، وكما تتطلَّبه هذه الشخصيّة .

ورَغمَ كلّ ذلك، رأينا أنْ نَجمعَ بعضَ ما وصَلَ إلينا مِن مَعلومات وعَيّنات تاريخيّة حولَها، ونُسلّط الاضواء على بعض جوانب حياتها الشريفة، ونَسأل اللهَ العلىَّ القدير أنْ يوفّقنا لِتحقيق هذا الهَدَف، إنّه وليّ التوفيق.

المؤلّف

ص: 27

ص: 28

الفصل الأول

إشارة

* تاريخ ميلاد السيّدة زينب

* ولادة السيّدة زينب

* إسمها وكُنْيَتها

ص: 29

ص: 30

تاريخ ميلاد السيّدة زينب

في غضون السَّنة السادسة مِن الهجرة استقبلَ البيتُ العَلَوي الفاطمي الطاهر - بكلّ فرح وسرور، وغبطة وحُبور - الطفلَ الثالث مِن أطفالهم، وهي البنت الأُولى للإمام أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام).

ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى وُلدت السيّدة زينب، (1) وفتحت عينَها في وجْه الحياة، في دارٍ يُشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلْق الله تعالى: محمّد رسول الله، وعلي أمير المؤمنين، وفاطمة سيّدة نساء العالَمين، صلّى الله عليهم أجمعين.

هذا هو القول المشهور بين الشيعة - حاليّاً - وهناك أقوال

ص: 31


1- المصدر: زينب الكبرى، للعلّامة الشيخ جعفر النَقْدي - رضوان الله عليه، المتوفّى سنة 1370 ه- - ص 17، باب إسمها وتاريخ ولادتها

تاريخيّة أُخرى في تَحديد يوم وعام ميلادها المُبارك (1).

ويَجدرُ - هنا - أن نُشير إلى جريمة تاريخيَّة ارتكبها عُملاءُ الأمويّين وأُعجبَ بها المُنحرفون الذين وَجَدوا هذه الجريمة - أو الأكذوبة التاريخية - تُلائم شذوذهم الفِكْري، وانحرافهم العقائدي.

فقد ذكرت الكاتبة المِصريَّة بنت الشاطيء في كتابها «بطلة كربلاء» ما نَصُّه:

«إنّها الزهراء بنت النبيّ، توشك أن تضَع في بيت النبوّة مولوداً جديداً، بعد ان أقرَّت عينَي الرسول بسبطيه الحبيبين: الحسن والحسين، وثالثٍ لم يُقدّر الله له أن يعيش، هو المُحسن بن علي....» (2)

مِن الثابت أنّ المُحسن بن الإمام علي هو الطفل الخامس لا الثالث، وهو الذي قُتلَ وهو جَنين في بطن أُمِّه بعد أن عصَروا السيّدة فاطمة الزهراء بين حائط بيتها والباب، وبسبَب الضرْب المُبَرِّح الذي أصابَ جسمهَا وكان السببَ في سقوط الجنين .

ولكنّ هذه الكاتبة المصريّة تَستعمل المُغالطة والتَزوير، وتُحاول إحقاق الباطل وإبطال الحقّ وتقول: إنّ السيّدة زينب

ص: 32


1- لمعرفة تفاصيل ذلك يُمكن لك مراجعة كتاب (زينب الكبرى) للنقدي ص 17، وكتاب (رياحين الشريعة) للمَحلّاتي ج 3 ص 33. المُحقّق
2- كتاب (بطلة كربلاء) لعائشة بنت الشاطيء، ص 16

وُلدت بعد المحسن بن علي الذي لم يُقدَّر له ان يعيش!

فانظرْ كيف تُحاول بنتُ الشاطيء تغطية الجنايات التي قام بها بعضُ الناس بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واقتحامهم بيت السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لإخراج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لِيُبايع خليفتَهم، ودفاع السيّدة فاطمة عن زوجها، وعدم السماح لهم باقتحام دارها، وماجرى عليها مِن الضَرْب والرَّكْل والضغط، فكانت النتيجة سقوط جنينها الذي سَمّاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - في حياته - مُحْسِناً، وهو - يومذاك - جنين في بطن أُمّه!!

وقد ذكرنا بعضَ ما يتعلّق بتلك المأساة في كتابنا: (فاطمة الزهراء مِن المهد إلى اللحد).

ص: 33

ص: 34

ولادة السيِّدة زينب

ولمّا وُلدت السيّدة زينب (عليها السلام) أُخبرَ النبيّ الكريم بذلك، فأتى منزلَ إبنته فاطمة، وقال: يا بُنيَّة إيتيني ببنتكِ المَولودة.

فلمّا أحضرتْها أخذَها النبيُّ وضمَّها إلى صدره الشريف، ووضَعَ خدَّه على خدّها فبكى بكاءً شديداً عالياً، وسالتْ دموعه على خدّيه .

فقالت فاطمة: مِمَّ بكاؤك، لا ابكى الله عينك يا ابتاه؟

فقال: يا بنتاه يا فاطمة، إنَّ هذه البنت ستُبتلى بِبَلايا وتَرِدُ عليها مَصائب شتّى، ورَزايا أدهى.

يا بَضعتي وقُرَّة عيني، إنَّ مَن بكى عليها، وعلى مصائبها يكون ثوابُه كثواب مَن بكى على أخويها .

ص: 35

ثمّ سمّاها زينب. (1)

ص: 36


1- ناسخ التواريخ، المجلّد الخاص بحياة السيّدة زينب، المُسمّى ب- (الطراز المُذهَب في احوال سيّدتنا زينب). وجاء في هذا المصدر - أيضاً -: لمّا وُلدت السيّدة زينب، مَضى عليها عِدّة أيّام ولم يُعيّن لها إسم. فسالتْ السيّدة فاطمة من الإمام أمير المؤمنين (عليهما السلام) عن سبب التأخير في التسمية؟ فاجاب الإمام: أنّه يَنتظر ان يَختار النبيُّ الكريم لها إسماً. فاقبلت السيّدة فاطمة ببنتها إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واخبرتْه بذلك. فهَبَط الأمين جبرئيل وقال: يارسول الله إنّ ربّك يُقرئك السلام ويقول: يا حبيبي إجعلْ اسمَها زينب. ثمّ بكى جبرئيل، فساله النبي عن سبب بكائه؟ فقال: إنّ حياة هذه البنت سوف تكون مَقرونة بالمَصائب والمَتاعب، مِن بِداية عُمْرها إلى وفاتها

إسمُها وكُنْيتُها

إسمُها: زينب

إنَّ الاسماء مُشْتقّة مِن المَصادر، والمصادر - طبعاً – لها معنى ومفهوم، فما هو معنى كلمة «زينب»؟

الجواب: هناك قولان في هذا المجال:

الأوّل: إِنَّ «زينب» كلمة مُركَّبة من: «زَين» و «أب». (1)

الثاني: إنَّ «زينب» كلمة بسيطة وليست مُركَّبة، وهي إسمٌ لِشجرة أو وَرْدة. (2)

ص: 37


1- كما احتَملَ ذلك الفيروزآبادي في كتابه «القاموس المحيط»
2- جاء في كتاب (لسان العرب): «الزَينب شَجَرٌ حَسَن المَنْظر، طيّب الرائحة، وبه سُمّيت المرأة». وفي كتاب (لاروس): «الزَينب: نَبات عشْبي بصَليّ مُعمّر، مِن فَصيلة النرجسيّات، ازهاره جميلة بيضاء اللون فَوّاحة العَرْف». وفي كتاب (القاموس) : «... أو مِن الزَينب [إسم] لِشَجَر حَسَن المَنْظر طيّب الرائحة، واحِدَتُه: زَيْنَبة، قالَه ابن الأعرابي. أو أصلُها زَيَّنُ أب، حُذفت الألف لِكثرة الإستعمال . المُحقق

وعلى كلَّ حال .. فلا خلاف في انّ هذا الإسم جميل وحسَن المعنى .. على كلِّ تقدير .

كُنيتُها: «أمّ كلثوم» و«أمّ الحسن» (1).

يوجد - في كُتب التراجم - اضطراب شديد حول هذا الإسم وهذه الكُنية، فالمَشهور أنَّ السيّدتين: زينب وأُمّ كلثوم بنتان للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مِن السيِّدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام) (2).

ص: 38


1- كتاب (تُحفة العالم في شرح خُطبة المعالم) للسيد جعفر بحر العلوم، المتوفّى سنة 1377ه-
2- لقد جاء التعبير عن السيّدة زينب الكبرى - في بعض كُتب الحديث والتاريخ - بكلمة «أمّ كلثوم»، وهنا عدّة إحتمالات: الإحتمال الأوّل: أنّ هذا التعبير هو كُنْية لها . الإحتمال الثاني: أنّه إسم ثانٍ لها . الإحتمال الثالث: أنّه إشتباه وخطأ مِن بعض المؤرّخين، حيث أنّهم عَبّروا عنها باسم أُختها، أو بكُنية أُختها الإحتمال الرابع: وجود سبب آخر خَفيَ علينا، بسبب ظُلْم التاريخ الترجمة حياة أهل البيت .. رجالاً ونساءٌ. ولكلّ واحدة مِن هذه الإحتمالات الاربعة قَرائن وشواهد تاريخيَّة، يَطول الكلام بذِكْرها، وهو خارج عن نطاق وإطار التعليق الهامشي، لكن الذي يَتبادر إلى الذهن بعد الدراسة الموضوعيّة - والله العالم - هو أنّ أقوى الإحتمالات: هو الإحتمال الأوّل، خاصةً وانّ شخصيّة البنت الثانية للإمام أمير المؤمنين أُحيطتْ بسحاب كثيف مِن الغموض والإبهام والتشويش، إلى درجة انْ بعضَ المُعاصرين أعطى لنفسه الجُرأة في أن يُنكر وجودَ بنتٍ ثانية للإمام مِن زوجته السيّدة فاطمة الزهراء .. يكون اسمها أمّ كلثوم! وعلى كلّ حال .. فقد كان السيّد المؤلّف يَطمئن .. بل ويَقطع بأنّ المقصود مِن أُمّ كلثوم - في كثيرٍ مِن كُتب الحديث والتاريخ - هي السيّدة زينب الكبرى، وهذا ما نُلاحظه حين الإستماع إلى مجالسه ومحاضراته، المُسجَّلة على أشرطة الكاسيت، ونُلاحظه - أيضاً - حين التدقيق في فصل (حياة السيّدة زينب في عهد والدها الإمام أمير المؤمنين عليهما السلام) ففي كثير من الفقرات التاريخيَّة المرتبطة بفاجعة مقتل الإمام علي امير المؤمنين يوجد التعبير بجُملة «تَقول أُمّ كلثوم» ، وقد فَهم المؤلّف أنَّ المقصود - في أكثر تلك المقطوعات - هي السيّدة زينب الكُبرى فذكرَ الكلام ونَسَبَه إلى السيّدة زينب سلام الله عليها. ولعلّ التَتبّع في كُتُب الحديث والتاريخ يوصِل الإنسانَ إلى نتائج دقيقة تُزيح كثيراً مِن ستائر الإبهام والغموض حول هذا الإسم وهذه الكُنية. المُحقّق

وقد جاء التَعبير عن السيّدة زينب الكبرى - في بعض الأقوال التاريخيَّة وعلى لسان بعض الخطباء والمؤلّفين ب-«العَقيلة»، وهذا وَصْفٌ للسيّدة زينب وليس إسماً (1)، ونحن نَجد في كُتب

ص: 39


1- ذكر أبو الفَرَج الإصفهاني - المتوفّى سنة 356ه- في كتابه (مَقاتل الطالبيّين) صفحة 60 طبع النجف الاشرف عام 1385 ه- - في ترجمة عون بن عبدالله بن جعفر - مايلي: «أُمُّه: زينب العقيلة، والعقيلة: هي التي رَوى ابنُ عباس عنها كلامَ فاطمة في «فَدَك» فقال: حَدَّثَتْنا عقيلتُنا زينبُ بنت علي عليه السلام

اللغة معاني عديدة لكلمة «العَقيلة»، فمنها المرأة الكَريمة، النَفيسَة، المُخدّرة (1).

ومعنى الكريمة: المحترمة .

ص: 40


1- كما في كتاب «لسان الَعرب» لابن مَنظور. وقال ابن منظور - ايضاً -: «عقيلة القوم: سيّدهم، وعقيلةُ كلِّ شيء: اكرمُه». وقال ابن دُريد في «جَمهرة اللغة»: فلانة عقيلة ُقومها: أي: كريمَتُهم. وقال ابن زكريّا في «مُجمَل اللغة» والجوهري في «صِحاح اللغة»: «العقيلةُ: كَريمة الحَيِّ من النساء». وجاء في «المعجَم الوسيط»: «العقيلة: السيّدة المُخدّرة». وجاء في «الموسوعة العربيّة في الألفاظ الضِديّة» للسماوي اليَماني ما معناه: العقيلةُ - من النساء- سيّدتُهم، يُقال: فلانة عقيلةُ قومها. وقال الخليل بن أحمد في كتابه (العين): «العقيلةُ: المرأة المخدّرة، وجَمْعُها: عَقائل». أقول : هذا ما ذكَره علماءُ اللغة، وقد يَتبادر إلى الذِهن أنّ «العقيلة» صيغة مُبالَغة، مُشْتقّة مِن العقل، بمعنى كَثْرة العقل والنُضْج، وقد ظَهَرَ للعالَم - بكلّ وضوح - أنّ السيّدة زينب الكُبرى (عليها السلام) كانت في درجة عالية جداً وجداً مِن العقلِ الوافر والحِكْمة والحنكة، فبعَقلها استطاعتْ أن تُدير «قافلة آل الرسول» مِن كربلاء إلى الكوفة، ومِن الكوفة إلى الشام، واخيراً مِن الشام إلى المدينة المنوّرة. وفي المدينة - أيضاً - قامتْ بدورٍ كبير بالتَنسيق مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) في إدارة المجالس العزائيّة، والحفاظ على حَرارة مَقتل سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، وكَشْف الغطاء عن المَلفّ الأسود ل- «يزيد» الحاقد، وبَني أُميّة ومَن يَدور في فَلَكهم. المُحقّق

الفَصل الثاني

إشارة

* السيّدة زينب في عَهْد جَدّها الرسول

* السيّدة زينب في عهْد أُمّها البتول

* السيّدة زينب في عهْد والدها أمير المؤمنين

* السيّدة زينب تُعلّم تفسيرَ القرآن لِنساء الكوفة

* السيّدة زينب مع أخيها الإمام الحسن المُجتبى

* العلاقات الودّية بين السيّدة زينب و أخيها الإمام الحسين

ص: 41

ص: 42

السيِّدة زينب في عَهْد جدِّها الرسول

إنَّ الذكاء المُفرِط، والنُضج المُبكّر يُمهّدان للطفل أن يَرقى إلى أعلى الدرَجات - إذا استُغلَّت مَواهبه - وخاَّصةً إذا كانت حياته مُحاطة بالنزاهة والقداسة، وبكلّ ما يُساعد على توجيه الطفل نَحو الأخلاق والفضائل.

بعد ثبوت هذه المقدّمة نَقول:

ما تقول في طفلةٍ: روحُها اطهر مِن ماء السماء، وقَلْبها اصفى مِن المِرآة، وتَمتاز بنصيب وافر مِن الوعي والإدراك تفتح عينَها في وجوه أُسرتها الذين هم أشرف خَلْق الله، وأطهر الكائنات، وتَنمو وتكبُر وتَدرج تحتَ رعاية والد لا يَشبه آباء العالَم، وفي حِجْر والدةٍ فاقتْ بنات حوّاء شرفاً وفضلاً وعظمة؟!!

وإذا تحدَثْنا عن حياتها على ضوء عِلْم التربية، فهناك يَجفّ القلم، ويَتوقّف عن الكتابة، لأنَّ البحث عن حياتها التربويّة يُعتبر

ص: 43

بَحْثاً عن الكنز الدَفين الذي لا يُعرَف له كمٌّ ولا كيف.

ولكنّ الثابت القطعي أنها تربية نموذجيّة، وحيدة وفريدة.

وهل يستطيع الباحث أو الكاتب أو المُتكلّم أن يُدرك الجوّ العائلي المَستور في بيت الإمام علي والسيّدة فاطمة الزهراء عليهما السلام؟

لقد رُوِيَ أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلم - قرأ قولَه تعالى: «في بُيوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالْغُدُوِّ والآصالِ ...» (1) فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أيّ بيوتٍ هذه؟

فقال: بيوت الأنبياء.

فقامَ إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة.

فقال النبي: «نعم، مِن أفضلها» (2)

ويجب أن لا ننْسى أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) - الذي أعطى المناهج التربويّة للأجيال، واضاء طُرُقَ التربية الصحيحة للقُرون - لابدَّ وانّه يبَذل إهتماماً بالغاً

ص: 44


1- سورة النور، الآية 36
2- البرهان في تفسير القرآن، للسيّد هاشم البحراني، عند تفسير الآية الكريمة

وعنايةً تامّةً في تربية عائلته، ويُمهّد لهم السبيل حتّى ينالوا قمَّة الأخلاق والفضائل.

وخاصّةً حينما يَجِدُ فيهم المؤهِّلات والإستعداد لِتَقبُّل تلك التعاليم التربويّة.

ومِن الواضح أنَّ السيّدة زينب - بمَواهبها واستعدادها النفسي - كانت تتقبَّل تلك الأُصول التربويّة، وتَتبلْور بها، وتَندمج معها. (1)

ص: 45


1- ومِن ذِكْريات الطفولة في حياة السيّدة زينب (عليها السلام) نَقرأ في كتُب التاريخ: أنّها سألتْ أباها ذاتَ يوم فقالت: اتُحبّنا يا ابتاه؟! فقال الإمام: وكيفَ لا أُحبّكم وانتُم ثَمرة فؤادي! فقالت: يا أبتاه إنّ الحُبّ لِله تعالى، والشَفَقة لنا . المصدر: كتاب «زينب الكبرى» للنَقدي، وهو يَحكي ذلك عن کتاب «مَصابيح القلوب» للشيخ حسن السبزواري، المعاصِر للشهيد الأول، رضوان الله عليهم . إنّ هذا الحوار الجميل يَدلّ على أكثر مِن معنى، فمِن ذلك: 1 - جوّ الوُدّ والصَفاء الذي كان يُخيّم على دار الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) والعلاقات الطيّبة بين الوالد الرؤف وبين طفلته الذكيّة! 2 - إِنَّ الحُبّ يَنقسمُ إلى أكثر مِن قِسم، باعتبار نوعه ومَنشَئه ومُنْطلقه، وكلُّ قسمٍ منه له إسم خاصّ به، لكن يُطلَق على الجميع كلمة «الحُبّ». فهناك حُبِّ الإنسان لِله تعالى الذي خَلَق البشر وانعَمَ عليهم بأنواع النِعَم. وهناك حُبّ الوالد لاطفاله، الذي يَنبعث مِن العاطفة والحَنان، وقد عَبّرتْ السيّدة زينب عن هذا النوع ب- «الشَفَقة». ونَقرا في كُتُب اللغة أنّ الشفقة: هي العَطف والحَنان والرافة والحُنوّ. فهي - إذَن - : فصيلة خاصَّة مِن الحُبّ .. يَنبعث مِن قلب الوالدين لأطفالهما. 3 - المُستوى الرفيع لِتفكير السيّدة زينب .. رغم كونها في السنوات الأولى مِن مرحلة الطفولة. أجل، إنّها سيّدة .. حتّى يوم كانت طفلة! ونَقرأ - أيضاً - عن الذكاء المُبكّر للسيّدة زينب: أنَّ والدها اجلسَها في حِجْره - يوم كانت طفلة - وبَدا يُلاطفها، وقال لها : بُنيّة قولي واحد. فقالت: واحد. قال: قولي إثنين. فسكتتْ! فقال لها : تكلّمي يا قُرَّة عيني. فقالت: يا ابتاه ما أُطيق أنْ اقول اثنين بلسانٍ أجريتُه بالواحد. فضَمَّها إلى صدره وقَبّلَها بينَ عينَيها. المصدر: كتاب (زينب الكبرى) للنقدي ص 34. إنَّ هذه اللقطة التاريخيّة تدلُّ - بكلّ وضوح - على قوّة التفكير والنُضج المُبكّر في ذِهن وفِكْر السيّدة زينب، حتى وهي في عُمْر الطفولة، فكلامها هذا يَدلَ على الأفكار والمفاهيم والمعاني التي كانت تَجول في خاطرها! فاللسان الذي قال: واحد، لا يمكن له أن يَنطق بكلمة: اثنين، لانّ لكلمة «واحد» ظِلال في ذِهْن السيّدة زينب عليها السلام، كلّما ذُكرت الكلمة تَبادر إلى الذهن ذلك الظِلال، وهو وحدانيّة الله سبحانه، وعدم وجود إلهٍ ثانٍ يُشاركه في الألوهيّة والرُبوبيّة و إدارة الكون. المُحقّق

واكثرُ إنطباعات الإنسان النفسيّة يكون مِن أثر التربية، كما

ص: 46

أنّ أعمالَه وأفعالَه، بل وحتّى حركاته وسَكَناته، وتَصرّفاته واخلاقه وصفاته نابعة مِن نوعيّة التربية التي أثَرتْ في نفسِه كلَّ الأثَر.

إذن، فمن الصحيح أن نقول: إنّ السيّدة زينب تلقّتْ دروسَ التربية الراقية العُليا في ذلك البيت الطاهر، كالعِلْم - بما في ذلك الفصاحة والبلاغة، والإخبار عن المُستقبل - ومعرفة الحياة، وقوّة النفس وعِزّتها، والشجاعة والعقل الوافر، والحكمة الصحيحة في تدبير الأُمور، واتّخاذ ما يَلزم - مِن مَوقِف او قَرار -

ص: 47

تِجاه ما يَحدُث .

بالإضافة إلى إيمانها الوثيق بالله تعالى، وتقواها، ووَرعها وعَفافها، وحَيائها، وهكذا إلى بقيّة فضائلها ومكارمها.

وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَغمر اطفالَ السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعواطفه، ويشملهم بحنانه، بحيث لم يُعهَد مِن جَدَّ ان يكون مُغرَماً باحفاده إلى تلك الدرَجة.

وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - إذا زارَهم في بيتهم أو زاروه في بيته - يُعطر خُدودَهم وشِفاهَهم بقُبلاته، ويُلصِق خَدَّه بخدودهم.

ويَعلم الله تعالى كم مِن مرّة حَظيَت السيّدة زينب (عليها السلام) بهذه العواطف الخاصّة؟!

وكم مِن مرَّةٍ وَضَع الرسول الأقدس (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خَدَّه الشريف على خَدّ حفيدته زينب؟! وكم مِن مرّة أجلسَها في حِجْره؟!

وكم مِن مرّة تَسلَّقَتْ زينب اكتافَ جَدّها الرسول؟!

ص: 48

ويؤسفنا أنّه لم تَصِلْ إلينا تفاصيل أو عيّنات تاريخيّة تَنفعنا في هذا المَجال، وحول السنوات الخَمس التي عاشتْها السيّدة تحتَ ظِلّ الرسول الاعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم. (1)

ص: 49


1- ونَقرأ في بعض كُتُب التاريخ رؤيا مُخيفة رأتْها السيّدة زينب وهي في عُمْر الطفولة، فحَدَّثَتْ بذلك جَدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت: يا جَدّاه رأيتُ - البارحة - أنّ ريحاً عاصِفة قد إنبعَثتْ فاسوَدَتْ الدنيا وما فيها وأظلمت السماء، وحرّكتْني الرياح مِن جانب إلى جانب، فرأيتُ شجرة عظيمة فتَمسّكتُ بها لكي أسلمَ مِن شِدَّة الريح العاصفة، وإذا بالرياح قد قَلَعت الشجرة مِن مكانها والقَتْها على الأرض! ثمّ تمَسّكتُ بغُصْنٍ قوي مِن اغصان تلك الشجرة فكسرتْها الرياح، فَتعلّقتُ بغُصن آخر فكسّرتها الريح العاصفة،!! فتمسّكتُ بغُصن آخر وغُصن رابع، ثم استيقظتُ مِن نومي! وحينما سَمعَ رَسولُ الله منها هذه الرؤيا بكى وقال: أمّا الشجرة فهو جَدُّكِ، وأما الغُصنان الكبيران فهما أُمّكِ وأباكِ، وأما الغُصنان الآخران فاخَواكِ الحسَنان، تَسودُّ الدنيا لِفَقْدهم، وتَلْبَسين لباسَ المُصيبة والحِداد في رزيّتهم. المصدر: كتاب (زينب الكبرى) للشيخ جعفر النقدي ص 18، مع تصرف يَسيرٍ مِنّا في بعض الكلمات. المحقّق

ص: 50

السيِّدة زينب في عَهْد أُمِّها البتول

تَستانس البنتُ بأُمّها أكثر مِن استيناسها بابيها، وتَنسجم معها أكثر مِن غيرها، وتُعتبر روابط المَحبَّة بين الأم والبنت مِن الأُمور الفطريَّة التي لا تحتاج إلى دليل، فالأنوثة مِن اقوى الروابط بين الأُم وبنتها .

وإذا نَظرنا إلى هذه الحقيقة مِن زاوية عِلْم النفس، فإنّ الأُم تُعتبر ينبوعاً للعاطفة والحنان، والبنت - بطَبْعها وطبيعتها - مُتعطّشة إلى العاطفة، فهي تَجد ضالَّتها المَنشودة عند أُمّها، فلا عجَبَ إذا اندفعتْ نحو أُمّها ، وانسَجَمتْ معها روحاً وقلباً وقالياً.

والسيّدة زينب الكبرى كانت مَغْمورة بعواطف أُمّها الحانية العَطوفة، وقد حَلَّتْ في أوسع مكان مِن قلب أُمٍّ كانت اكثر أُمّهات العالَم حَناناً ورافةً وشفقةً باطفالها.

ص: 51

والسيّدة زينب الكبرى تَعرف الجوانب الكثيرة مِن آيات عظمة أُمّها سيّدة نساء العالَمين وحبيبة رسول الله وقُرَّةِ عينه وثمرة فؤاده، وروحِه التي بين جَنْبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فقد فَتحتْ السيّدة زينب الكبرى عينَيها في وَجْه أطهر أُنثى على وَجْه الأرض، وعاشَتْ معها ليلَها ونهارَها، وشاهدتْ مِن أُمّها أنواع العبادة، والزُهْد، والمُواساة والإيثار، والإنفاق في سبيل الله ، وإطعامَ الطعام مسكيناً ويتيماً وأسيراً.

وشاهدتْ حياة أُمّها الزوجيَّة، والإحترام المُتبادَل بينها وبين زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإطاعتها له، وصَبْرها على خُشونة الحياة وصعوبة المَعيشة، ابتغاء رضى الله تعالى.

كما عاصَرتْ السيّدةُ زينب الحوادثَ المُؤلمة الّتي عَصَفَتْ بأُمّها البتول بعد وفاة أبيها الرسول، وما تَعرَّضت له مِن الضَرْب والأذى، كما سبَقتْ منّا الإشارة إلى ذلك.

وانقضتْ عليها ساعات اليمة وهي تُشاهد أُمَّها العَليلة، طريحةَ الفِراش، مكسورةَ الضِلع، داميةَ الصدْر، مُحْمرَّة العَين.

كما رافقَتْ أُمَّها الزهراء (عليها السلام) إلى مسجد رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - حين إلقاء الخطبة، كما ستَقرأ ذلك في فصل (بعض مارُويَ عن السيّدة زينب) إن شاء الله تعالى.

ص: 52

السيّدة زينب في عَهْد والدها أمير المؤمنين

بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مِن البصرة إلى الكوفة، واستقرَّ به المكان، إلتحقتْ به العوائل مِن المدينة إلى الكوفة .

ومِن جملة السيّدات اللّواتي هاجَرن مِن المدينة إلى الكوفة هي السيّدة زينب (عليها السلام) وقد سَبقَها زوجُها عبدالله بن جعفر، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة.

والمُستفاد مِن مَطاوي التواريخ والاحاديث أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) - بعد انقضاء مُدَّة مِن وصوله إلى الكوفة - نَزلَ في دار الامارة، وهو المَكان المُعَدَّ لِحاكم البلدة، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكمٌ أو أمير غيره، فلماذا لا يَنزل في دار الامارة؟

ويَتبادر إلى الذِهْن أنّ دار الامارة كانتْ مُشتَملة على حُجُرات وغُرف عديدة واسعة، وكان كلٌّ مِن البنات والاولاد

ص: 53

54

(المتزوّجين) يسَكنون في حُجرة مِن تلك الحُجُرات، والسيّدة زينب كانت تَسكن مع زوجها في حُجرة أو غرفة مِن غُرف دار الإمارة. (1)

ومكثت السيّدة زينب (عليها السلام) في الكوفة سنوات،

ص: 54


1- السيدة زينب تُعلّم تفسيرَ القرآن لنساء الكوفة وجاء في التاريخ أنّ جَمْعاً مِن رجال الكوفة جاؤا إلى الامام امير المؤمنين (عليه السلام) وقالوا: إنذنْ لِنسائنا كي ياتينَ إلى ابنتك ويَتعلّمن منها مَعالمَ الدين وتفسيرَ القرآن. فاذنَ الإمامُ لهم بذلك، فبَدأتْ السيّدة زينب بتدريس النساء. ويَعلم الله عددَ النساء المُسلمات اللواتي كُنَّ يَحضرنَ درس السيّدة .. طيلةَ أربع سنوات أو أكثر. وذاتَ يوم دخَلَ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الدار، فسَمع ابنتَه زينب تَتحدَّث للنساء - في دَرْسها - عن الحروف المُقطّعة في اوائل السور، وعن بداية سورة مريم بشكل خاص. وبعد انتهاء الدرس إلتقى الإمامُ بابنته وقال لها: يا نورَ عيني اتعلَمين أنّ هذه الحروف هي رَمْز لما سيَجري عليكِ وعلى اخيك الحسين في أرض كربلاء، ثمِ بَدا يُحدّثها عن بعض تفاصيل تلك الفاجعة. المصدر: كتاب (الخَصائص الزينبيّة) للسيّد الجزائري المُتوفّى عام 1384 ه-، ص 68، وكتاب (رياحين الشريعة) للمحلاتي ج 3 ص 57. المُحقّق

وعاصَرت الاحداث والإضطرابات الداخليّة الّتي حدَثَتْ: مِن واقعة صِفّين إلى النَهروان، إلى الغارات التي شَنَّها عُمَلاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

إنقضت تلك السنوات المَريرة، المليئة بالآلام والمآسي، وانتَهتْ تلك الصفحات المُؤلمة بالفاجعة التي اهتزّتْ منها السماوات والأرضون، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

لقد كانت العلاقات الودّية بين الإمام أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يُمكن، وفي جوٍّ مِن الصفاء والوفاء، والعاطفة والمَحبَّة .

والإمام أمير المؤمنين هو السلطان الحاكم على نصف الكُرة الأرضيّة، ومعه عائلته المَصونة وأبناؤه المكرَّمون، ولكنّه - في شهر رمضان مِن تلك السنة، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير مِن حياته - كان يُفطِر ليلةً عند ولده الإمام الحسن، وليلة عند ولده الإمام الحسين (عليهما السلام) وليلةً عند السيّدة زينب التي كانت تعيش مع زوجها عبدالله بن جعفر، (1) كلُّ ذلك تَقْويةً لأواصِر

ص: 55


1- المصدر: الإرشاد للشيخ المفيد، ص 169، وذُكر أيضاً في «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي، ج 41 ص 300، باب إخباره بالغائبات وعِلْمه باللُغات. نقلاً عن كتاب الخرائج

المَحبّة والتواصُل بينَه وبينَ أشباله وبناته.

وفي الليلة التاسعة عشرة مِن شهر رمضان، كانت النَوبة للسيّدة زينب، وافطرَ الإمام فى حُجرتها وقدّمتْ له طَبَقاً فيه رغيفان مِن خُبز الشعير، وشيء مِن المِلْح، وإناء مِن لَبَن.

كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين الذي كان يَحكم على نصف العالمَ، وانهار الذهب والفضّة تَجري بين يديه.

واكتفى الإمام - تلك الليلة - برغيف مِن الخبز مع الملح فقط.

ثمّ حَمِدَ اللهَ واثنى عليه، وقام إلى الصلاة، ولم يَزلْ راكعاً وساجداً ومُبْتَهِلاً ومُتضرّعاً إلى الله تعالى.

ولا أعلم لماذا بات الإمام في حُجرة ابنته السيّدة زينب - تلك الليلة -؟

ولعلّه اختارَ المَبيت في بيتها حتّى تُشاهد وتَرى، وتَروي مُشاهَداتها ومَسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة، إذ كانت تلك الليلة تمتاز عن بقيّة الليالي، فإنّها تُحدّثنا فتَقول:

إنّه (عليه السلام) قال لاولاده: «إنّي رأيتُ - في هذه الليلة - رؤيا هالَتْني، وأُريد أن أقصّها عليكم».

قالوا: وما هي؟

ص: 56

قال: «إنّي رأيتُ - الساعةَ - رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنّك قادم إلينا عن قريب، يَجيء إليك أشقاها فيَخضب شَيبتَك مِن دم رأسك، وانا - واللهِ - مُشتاق إليك، وإنّك عندنا في العَشر الآخِر مِن شهر رمضان، فهَلُمَّ إلينا فما عندنا خَيرٌ لك وابقى».

فلمّا سَمِعوا كلامه ضَجّوا بالبكاء والنحيب، وأبدَوا العَويل، فأقسَمَ عليهم بالسكوت، فسكتوا. (1)

وتقول السيّدة زينب (عليها السلام):

لم يَزل أبي - تلك الليلة - قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثمّ يَخرُج ساعة بعد ساعة، يُقلّب طَرْفَه في السماء ويَنظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كُذبتُ ولا كَذبت، وإنّها الليلة التي وُعدتُ بها. ثمّ يعَود إلى مُصلاه ويقول: اللهمّ بارِكْ لي في الموت. ويُكْثرُ مِن قول: «إنّا لِله وإنّا إليه راجعون»، و«لاحول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»، ويُصلّي على النبي وآله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ويَسْتغفرُ اللهَ كثيراً.

تقول: فلمّا رايتُه - في تلك الليلة - قَلِقاً مُتَملْمِلاً (2)

ص: 57


1- كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي ج 42 ص 277، باب 127
2- مُتَمَلْمَلاً: التَمَلْمُل: هو الإضطراب وعدم الإستقرار بسَبَب الهَمّ أو الألَم. وجاء في كتاب (العين) للخليل بن احمد: المَلْمَلة: أن يَصير. الإنسانُ مِن جَزَع أو حُرقةٍ كانّه يَقِف على جَمْر. وقال الفيروزآبادي في (القاموس): التمَلْمل: التَقَلّب . . مَرَضاً أو غمّاً. المُحقّق

كثيرَ الذِكْر والإستغفار ، أرقْتُ معَه لَيلَتي (1) وقلت: يا أبتاه ما لي اراك في هذه الليلة لا تَذوق طعْمَ الرُقاد؟

قال - عليه السلام - : يا بُنيَّة إنّ اباكِ قتَلَ الأبطال وخاضَ الأهوال وما دَخَل الخوفُ له جَوْفاً، وما دخلَ في قلبي رُعبٌ أكثر ممّا دخَلَ في هذه الليلة. (2)

ثمّ قال: إنّا لِله وإنّا إليه راجعون.

ص: 58


1- ارقتُ معه: أي سَهَرْتُ معه الارَق: السَهَر
2- بناءً على صحّة هذه المَقطوعة مِن التاريخ يَتبادر إلى الذِهْن هذا السؤال: لماذا الخوف؟ الجواب: لاشكّ أنّ الخوف لم يكن مِن الموت، لأنّ الإمام (عليه السلام) يُقسِم على الله تعالى - اكثر مِن مَرّة - انّه لا يَخاف الموت، وأنّه «آنَسُ بالموت مِن الطفل بصَدر أُمّه» وأنه «لايُبالي أوقَعَ على الموت أمْ وَقَع الموتُ عليه». وساحاتُ الحَرب وميادينُ القِتال تَشْهَد له بصِدْق كلماته هذه. فلَعلّ سبب الخوف: هو هَيبة لقاء الله تعالى والإنتقال مِن عالمَ الفَناء إلى عالَم البقاء. أو الخوف والقَلَق على مُستقبَل الأُمَّة -تقبَل الأمة بعد غِياب الإمام عن ذلك المُجتَمع، وبسَبَب خَطر المؤامرات الّتي كان يَحيكها معاوية ضدّ الإسلام والمسلمين. أو لغير ذلك مِن الأسباب والله العالم. المُحقّق

فقلت: يا ابتاه، ما لَك تَنعى نفسَك في هذه الليلة؟

قال: يا بُنيّة قد قَرُبَ الاجَل وانقَطعَ الأمَل.

قالت: فبكيتُ، فقال لي: يا بُنيّة لا تبكيْ فإنّي لم أقُلْ ذلك إلّا بماعَهِدَ إلىَّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

تقول (عليها السلام): ثمّ إنّه نَعَسَ وطَوى ساعة، ثمّ استيقظَ مِن نومه وقال: يا بُنيّة إذا قَرُب وقتُ الاذان فاعلميني.

ثمّ رَجَع إلى ما كان عليه أوّلَ الليل مِن الصلاة والدعاء والتضرّع إلى الله سُبحانه وتعالى .

فجعلتُ ارقُبُ وقتَ الاذان، فلمّا لاحَ الوقت أتيتُه ومَعي إناء فيه ماء، ثمّ ايقظتُه فاسبَغَ الوضوء، وقامَ ولَبِسَ ثيابَه وفَتَح بابَ الحُجْرة، ثمّ نَزَل إلى ساحة الدار.

وكانتْ في الدار إوَزّ (1) قد أُهديتْ إلى اخي الحسين، فلمّا نَزَل خَرجْنَ وراءَه ورَفْرفْنَ وصِحْنَ في وَجْهه - ولم يَصحْن قبلَ تلك الليلة - فقال (عليه السلام): «لا إله إلّا الله، صَوارخ تَتْبَعُها نَوائح، وفي غَداة غَدِ يَظْهَرُ القضاء».

فقلت: يا ابتاه هكذا تَتَطيَّر؟!

ص: 59


1- إوَزّ - بكسْر الهمزة وفَتْح الواو وتشديد الزاي -: البَط، كما في (مجمع البحرين) للطُريحي. وقيل: الإوَزّ: طائر يَشْبه البَط في شكله العام ولكنّه أكبر منه حَجماً واطول عُنُقاً. كما في كتاب (المعْجَم الوسيط)

فقال: «يا بُنيّة! ما مِنّا - اهل البيت - مَن يَتطيَّر، ولا يُتطيَّر به، ولكنْ قولٌ جَرى على لساني».

ثم قال - عليه السلام -: «يا بُنيّة! بحَقّي عليكِ إلّا ما أطْلقْتيه، فقد حَبَسْتِ ما ليسَ له لسان ولا يَقدرُ على الكلام إذا جاعَ أو عطَش، فاطعميه واسقيه وإلّا خَلّي سبيلَه ياكل مِن حَشائش الأرض».

فلمّا وصَلَ إلى الباب عالَجَه ليَفتحَه، فتَعلَّقَ البابُ بمِئْزَره، فانْحَلَ مِنْزَرَهُ حتّى سقَط، فاخذَه وشَدَّه وهو يقول:

أشدُدْ حَيازيمَك للمَوت *** فإنّ المَوتَ لاقيكا

ولا تَجزَعْ مِن المَوت *** إذا حَلَّ بِنادِيكا

كما أضحَكَكَ الدَهْرُ *** كذاك الدهر يُبْكيكا

ثمّ قال: «اللهمّ بارِكْ لنا في المَوت، اللهمّ بارِكْ لي في لِقائك».

تَقول السيّدة أُمّ كلثوم:

وكنتُ أمشى خَلْفه، فلمّا سمعتُه يقول ذلك قلتُ: واغَوثاه يا أبتاه! اراك تَنعى نفسك مُنذُ الليلة؟!

فقال - عليه السلام - : يا بُنيّة! ما هو بِنعاء، ولكنّها

ص: 60

دلالات وعلامات للمَوت .. يَتْبَعُ بعضُها بعضاً».

ثمّ فَتحَ الباب وخَرَج.

فجئتُ إلى أخي الحسن فقلت: يا اخي قد كانَ مِن أمْرِ أبيك الليلة كذا وكذا، وهو قد خَرج في هذا الليل الغَلس، فالحَقْه. (1)

فقام الحسن (عليه السلام) وتَبِعَه، فلحِقَ به قبل أن يَدخل الجامع، فأمَره الإمامُ بالرجوع، فرجَع.

أيّها القارىء الكريم:

هنا نَنْقل ما ذكرَه المؤرّخون، ثمّ نَعود إلى حديث السيّدة زينب عليها السلام:

لقد جاء الإمام علي (عليه السلام) حتّى دخل المسجد، فصعدَ على المِئْدَنَة ووَضعَ سَبّابتَيه في أُذنَيه وتَنَحْنَح، ثمّ اذَنَ فلمْ يَبقَ في الكوفة بيت إلّا اخترقَه صوتُه، ثم نزَلَ عن المِئْدَنَة وهو يُسبّح اللهَ ويُقدّسه ويُكبّره، ويُكثِر مِن الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

وكان يَتفَقّد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة

ص: 61


1- الغَلَس - بفَتْح اللام -: ظُلْمة آخر الليل كما في (القاموس) للفيروزآبادي. وقيل: ظَلام آخر الليل إذا اختَلَط بضَوء الصَباح. كما في كتاب (مجمَع البحرين) للطريحي

يَرحَمُك الله، قُمْ إلى الصلاة المكْتوبة، ثمّ يَتلو: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عن الفَحْشاء والمُنْكَرِ». (1)

.... ثمّ اتّجَه نحو المِحْراب وقام يُصلّي، وكان (عليه السلام) يُطيلُ الركوع والسجود، فقام ابنُ ملجم (لعنَه الله) لارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الكون، وأقبَلَ مُسرعاً حتّى وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام يُصلّي عندها، (2) فامهلَه حتّى صلَى الركعة الأُولى وسَجَدَ السَجدة الأُولى ورَفعَ رأسَه منها، فتقدَّم اللعين ورفَعَ السيف وهَزَّه ثمّ ضربَ الإمامَ على راسَه الشريف، فوقَعت الضرْبة على مكان الضرْبة التي ضربَه عمرو بن عبْدود العامري، يومَ الخندق.

فوقَع الإمامُ (عليه السلام) على وجهه قائلاً: بسم الله وبالله وعلى مِلّة رسول الله، فُرْتُ ورَبِّ الكعبة، هذا ما وَعَدَ اللهُ ورسولُه، وصَدقَ اللهُ ورسولُه.

وسالَ الدمُ على وَجْهِه الشريف، وشَيبَته المُقدَّسة، وعلى

ص: 62


1- سورة العنكبوت، الآية 45
2- الأُسطوانة: العَمود الذي يَعتَمِد عليه سَقْفُ البِناء. وكلمة «أُسطوانة» مُعَرَّبَة مِن اللغة الفارسيّة، واصلُها: «سُتون» او «أُسْتُون» المُحقّق

صدره وأزياقه (1)، حتّى اختُضِبتْ شَيبتُه وتَحقّق ما أخبرَ عنه الرسولُ الكريم.

وفي هذه اللحظة الأليمة هتَفَ جبرئيل - بينَ السماء والأرض - ذلك الهتاف السَماوي الذي لم يَسبِق له مَثيلٌ في تاريخ الأنبياء والأوصياء.

لقد هَتفَ جبرئيل بشهادة الإمام علي (عليه السلام) كما هتَفَ - يوم أُحُد - بِفُتوَّته وشهامته يومَ قال: «لا فَتى إلا علي لاسيفَ إلّا ذوالفقار».

فقد اصطفَقَتْ ابوابُ المسجد الجامع (2)، وضَجَّت الملائكةُ في السماء، وهَبَّتْ ريحٌ عاصفة سوداء مُظلمة، ونادى جبرئيل بصوتٍ سَمِعَه كلُّ مُسْتَيقِظ:

«تَهَدِّمَتْ - والله - أركانُ الهُدى، وانطَمسَتْ - واللهِ - نُجومُ السماء واعلامُ التُقى، وانفَصَمتْ - والله - العُروةُ الوثقى، قُتلَ ابنُ عمّ محمّد المصطفى، قُتلَ الوصيُّ المُجتبى، قُتلَ عليٌّ المُرتضى، قتلَ - واللهِ - سيّدُ الأوصياء، قَتلَه اشقی

ص: 63


1- ازياق - جَمْع زِيق .. بالكسْر: زيق القَميص: ما احاطَ بالعُنُق مِن القميص. كما في كتاب القاموس وتاج العروس. وبتعبير آخر: زِيق: فَتْحة القميص التي يُدخل الإنسان راسَه منها. المُحقّق
2- إصطفَقَتْ: ضَرَبَتْ بعضُها ببعض، ضرباً يُسمَعُ منه الصوت

الأشقياء».

فلمّا سمعتْ السيّدة أُمّ كلثوم نَعيَ جبرئيل لَطَمتْ على وَجهها وخَدِّها، وشَقَّتْ جَيبَها وصاحتْ: وا ابتاه! واعليّاه! وامُحمّداه! واسيّداه!

.... ثمّ حَملوا الإمامَ - والناس حولَه يَبكون ويَنتحِبون - وجاؤا به إلى الدار. فاقبلتْ بناتُ رسول الله وسائر بنات الإمام، وجَلسْنَ حولَ فِراشه يَنظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة، فصاحت السيّدة زينب وأُختُها: ابتاه مَن للصغير حتّى يَكْبُر؟! ومَن للكبير بين الملأ؟!

يا ابَتاه! حُزنُنا عليك طويل، وعَبْرتُنا لاترقا. (1)

فضَجَّ الناس - مِن وراء الحُجرة - بالبكاء والنَحيب، وشاركَهم الإمام (عليه السلام) وفاضَتْ عيناه بالدموع.

وفي ليلة الحادية والعشرين مِن شهر رمضان، في الساعة الأخيرة مِن حياة الإمام (عليه السلام) كانت السيّدة زينب (عليها السلام) جالسة عنده تَنظر في وَجْهه، إذ عَرقَ جَبينُ الإمام، فجَعلَ يمْسحَ العَرقَ بيده، فقالت زينب: يا ابَه اراك تمسح جَبينَك؟

قال: يا بُنيَّة سَمعتُ جَدَّكِ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله

ص: 64


1- لا تَرقا: لا تَنْقطع، أو لا تَجُفٌ

وسلّم) يقول : «إنّ المؤمن إذا نَزَلَ به الموتُ ودَنَتْ وفاتُه عَرَقَ جَبينُه وصار كاللؤلؤ الرَطِب، وسَكنَ انينُه».

فعند ذلك القَتْ زينبُ بنفسها على صدر ابيها وقالت: يا ابَه حدَّثَتْني أُمُّ أيمن بِحَديث كربلاء، وقد احبَبْتُ أن اسمَعَه منك. (1)

فقال (عليه السلام): «يا بُنيّة! الحديث كما حَدَّثَتْكِ أُمُّ أيمن، وكأنّي بكِ وبنساء أهلكِ لَسَبايا بهذا البَلد، خاشِعين تَخافونَ أن يَتخطّفكم الناس، فصَبْراً صبراً».

ثمّ التفتَ الإمام إلى ولَديه الحسن والحسين (عليهما السلام) وقال: «يا أبا محمّد ويا أبا عبدالله، كانّي بكما وقد خَرجَتْ عليكما مِن بعدي الفِتَن مِن هاهنا وهاهنا، فاصْبِرا حتّى يَحكمَ الله وهو خيرُ الحاكمين.

يا اباعبدالله! أنتَ شهيدُ هذه الأُمَّة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه .

ثمّ أُغميَ عليه وأفاق، وقال: هذا رسولُ الله وعَمّي حمزة وأخي جعفر واصحابُ رسول الله، وكلّهم يَقولون: عَجّلْ قُدومَكَ علينا فإنّا إليك مُشتاقون .

ص: 65


1- سوف نَذكر لَمْحة سريعة عن أُمّ أيمن، في فَصل (بعض ما رُويَ عن السيّدة زينب عليها السلام)

ثمّ ادارَ عَينَيه في وُجوه اهل بيته وقال لهم: «استودِعُكم الله»، وتَلا قولَه تعالى: «لِمِثْل هذا فلْيَعمل العامِلون» (1) وقولَه سبحانه: «إنّ الله مع الّذين اتّقَوا والّذين هم مُحْسِنون» (2).

ثمَّ تَشَهدَ الشهادَتين وفارقَ الحياة.

فعند ذلك صَرختْ زينب وأُمّ كلثوم وجميعُ نسائه وبناته، وشَقَقْنَ الجُيوب، ولَطَمنَ الخدود، وارتفعت الصيحة في الدار.

.... ولمّا فرغ اولاد الإمام (عليه السلام) مِن تغسيله، نادی الإمامُ الحسن أُختَه زينب وقال: يا أُختاه هَلمّي بحنوط جَدّي رسول الله - وكان قد نَزَل به جبرئيل مِن الجَنَّة -.

فبادرتْ السيّدة زينب مُسرِعةً حتّى الله به، فلمّا فَتحتْه فاحَت الدار لشدّة رائحة ذلك الطيب.

أيّها القارىء الكريم: هذا بعض ما يَرتبط بالسيّدة زينب في حياة أبيها العظيم الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد اقتطفنا ما يَرتبط بمقتل أبيها مِن كتابنا: الإمام علي مِن المهد إلى اللحد.

ص: 66


1- سورة الصافات، الآية 61
2- سورة النحل، الآية 128

السيّدة زينب مع اخيها الإمام الحسن المجتبى

إنَّ الاحترام اللائق، والتقدير الرفيع كان مُتبادَلاً بين السيّدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر، وهو السبط الأوّل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الإمام الزكيّ، الحسن المُجتبى عليه السلام.

إنّ السيّدة زينب كانت تَنظر إلى أخيها الامام الحسن مِن مِنظارَين:

1 - مِنظار الأُخوّة.

2 - مِنظار الإمامة.

فمِن ناحية: يُعتبر الإمام الحسن الأخ الأكبر للسيّدة زينب (عليها السلام) ومِن المعلوم أنّ الأخ الأكبر له مكانة خاصّة عند الإخوة والأخوات، وقد وَرَد في الحديث الشريف: «الاخُ الاكبر

ص: 67

بمنزلة الأب» (1).

ومِن ناحية أُخرى: يُعتبر الإمام الحسن (عليه السلام) إمامَ زمان السيّدة زينب بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولهذا فإنّ احترامها لأخيها كان يَنبعث من هذين المُنطلَقَين.

وتَجدر الإشارة إلى أنّ كلّ ما سَنَذكره - مِن الروابط القلْبيّة بين السيّدة زينب والإمام الحسين - فهي ثابتةٌ بينها وبين أخيها الإمام الحسن أيضاً.

وإذا كان التاريخ قد سَكتّ عن التفاصيل فإنَّ اصل الموضوع ثابت.

ونكتفي - هنا - بما ذُكرَ في بعض الكُتُب مِن موقف السيّدة زينب حينما حضرتْ عند أخيها الإمام الحسن ساعةَ الوفاة :

«.... وصاحتْ زينب: وا أخاه! واحَسَناه! واقِلّةً ناصِراه! يا أخي مَن الوذُ به بعدَك؟!

وحُزْني عليك لا يَنقطع طولَ عُمْري! اثمّ إنّها بكتْ على أخيها وهي تَلْثم خَدّيه وتَتَمرَّغ عليه، وتبكي عليه طويلاً». (2)

ص: 68


1- الحديث مَرويّ عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام). ذُكر في كتاب «بحار الأنوار» ج 75، ص 335، طبع لبنان عام 1403 ه-
2- مَعالي السِبطين، للمازندراني، ج 1، المجلس التاسع

العلاقات الوديَّة بين السيّدة زينب واخيها الإمام الحسين

إِنَّ رَوابط المَحبّة، والعلاقات الودّية بين الإخوة والاخَوات كانت مِن قديم الزمان، حتّى صارت يُضرَب بها المَثَل في المَحبَّة والمودَّة بين اثنين، فيُقال: كانّهما أخَوان أو كأَنَّهما أخٌ وأُخت .

ولكنّ العلاقات الودّية وروابط المحبّة بين الإمام الحسين وبين أُخته السيّدة زينب (عليهما السلام) كانت في القمّة وكانت تَمتاز بمزايا، ولا أُبالغ إذا قلتُ: لا يوجد ولم يوجد في العالَم أخُ وأُختٌ تربُطهما رَوابطُ المحبّة والوداد مثْل الإمام الحسين وأُخته السيّدة زينب. فإنّ كلاً منهما كان قد ضَرَبَ الرقم القياسي في مجال المحبّة الخالصة، والعلاقات القلبيَّة.

وكيف لا يكونان كذلك وقد تَرَبَّيا في حِجْرٍ واحد وتَفرّعا

ص: 69

مِن شجرة واحدة؟!

ولم تكن تلك العلاقات مُنبَعثة عن عاطفة القرابة فحسْب، بل عَرفَ كلّ واحدٍ منهما ما للآخَر مِن الكرامة، وجَلالة القَدر وعِظَم الشان.

فالسيّدة زينب تَعرفُ أخاها بأنَّه:

سيّد شباب أهل الجنَّة ورَيحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتَعلم بانَّ الله تعالى قد اثنى على اخيها في آيات كثيرة مِن القرآن الكريم، كآية المباهَلة، وآية المودَّة، وآية التطهير، وسورة «هل أتى»، وغيرها من الآيات والسُوَر.

بالاضافة إلى أنّها عاشتْ سنوات مع أخيها في بيتٍ واحد، وشاهَدَتْ ما كان يَتمتَّع به أخوها مِن مكارم الاخلاق والعبادة والروحانيّة، وعَرَفتْ ما لاخيها مِن علوّ المنزلة وسُموّ الدرَجة عند الله عزّوجلّ.

وتَعلم أنّه إمامٌ مَنصوب مِن عند الله تعالى، مَنصوص عليه بالإمامة العُظمى والولاية الكُبرى مِن الرسول الاقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم.

مع توفُّر شروط الإمامة ولوازمها فيه، كالعِصْمة، والعِلْم بجميع أنواع العلوم، وغير ذلك.

وهكذا يَعرف الإمامُ الحسين (عليه السلام) أُختَه السيّدةَ زينب

ص: 70

حَقَّ المعرفة، ويَعلم فضائلَها وفَواضِلها وخصائصَها.

ومِن هنا يُمكن لنا أنْ نَطَّلع على شيء مِن مَدى الرَوابط القويَّة بين هذا الاخ العظيم وأخته العظيمة.

وقد جاءَ في التاريخ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يَقرأ القرآن الكريم - ذاتَ يوم - فدَخَلتْ عليه السيّدة زينب، فقامَ مِن مكانه وهو يَحملُ القرآنَ بيده، كلُّ ذلك احتراماً لها. (1)

ص: 71


1- کتاب (ذَخيرة المعاد) للشيخ زين العابدين المازندراني

ص: 72

الفصل الثالث

إشارة

* زواج السيّدة زينب عليها السلام

* عبدالله بن جعفر

ص: 73

ص: 74

زواج السيِّدة زينب عليها السلام

لمّا بَلَغَتْ السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) مَبلَغ النساء، خطَبَها - فيمَن خَطَبَها - ابنُ عمّها: عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.

وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يَرغَبُ أن يُزوّج بناته مِن أبناء عُمومتهنّ: أولاد عقيل وأولاد جعفر، ولعلّ السبب في ذلك هو كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - حينَ نظرَ إلى أولاد الإمام علي وأولاد جعفر بن أبي طالب، فقال -: «بَناتُنا لبَنينا، وبَنونا لبَناتنا». (1)

وحَصلت المُوافقة على الزواج، وتَمَّ العَقْد المُبارَك في جوٍّ عائلي يَغْمره الوُدّ والمحبّة، وزُفّت السيّدة زينب (عليها

ص: 75


1- کتاب (مناقبُ آل أبي طالب) لابن شهر آشوب المُتوفى عام 588 للهجرة، ج3 ص 305، فصل: في ازواجه وأولاده، وذكره الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار) ج 42 ص 92، باب 120

السلام) إلى دار زوجها عبدالله بن جعفر .. بكلّ إجلال واحترام. وانجَبَتْ منه أولاداً كانوا ثَمَرات تلك الشجرة الطَيّبة، وفروعَ أغصانها، فلقد وَرِثوا المجد والشَرَف مِن الجانبين. (1)

ص: 76


1- هناك نَظريّة تقول: «إنّ الزواج مِن الأقارب شيء مَذموم، وينبغي الإبتعاد عنه لكي يكون النَسْل الناتج مِن الزوجين نَسْلاً سليماً مِن ناحية الصحّة البَدنيّة والنَفسيّة». ولهذه النّظريّة مؤيّدون ومُخالفون. ونحن نَذكر تعليقَنا عليها مِن خِلال عِدّة نقاط: النقطة الأُولى: إنّ مُجرّد الزواج مِن الأقارب ليس شيئاً مذموماً، بل المذموم هو الزواج منهم في بعض الحالات، وهي: الحالة الأُولى: فيما لو كان الرَجل أو المرأة مُصاباً بمرض يَنتقل إلى النَسْل عن طريق الوراثة، وكان ذلك المرض منتشراً بين سائر افراد العشيرة، فحينئذٍ يُفضّل عدم الزواج من الأقارب .. في حالة العِلْم أو الظن بوجود المرض في الطَرَف الآخر - الذي هو مِن الأقارب -. الحالة الثانية: فيما لو عُلم عدم وجود الإنسجام بين فَصيلة دمِ هذا وفَصيلة دم تلك، وأنّ الزواج بين هذين سوف يُسبّب إشكالات مُهمّة في النَسْل والذُرّية. وإليك هذا المثال للحالة الأُولى مِن هاتين الحالتين: هناك مرض يُعبّر عنه ب- (التكسّر في الدم) وهو مُنتشر في بعض العوائل والعشائر - ونَسال اللهَ تعالى الشفاءَ العاجِل لِكلّ مؤمنٍ ومؤمنة -، فلو كان الرجل مُصاباً بهذا المرض وتزوّج بامرأة سليمة، تكون نِسْبة إحتمال إنتقال المرض إلى نَسْله 10% - مَثَلاً -، لكنّه لو تَزوّج بامرأة مِن اقربائه وهي مُصابة بنفس المرض، تَرتفع نسبةُ إحتمال إنتقال المرض إلى 80٪ أو أكثر، حسَب اختلاف الحالات. وحينما نُلاحظ هذا المثال - بِدقّة - يَتّضحُ لنا أنّه ليس مجرّد الزواج مِن الأقارب أمراً مَذموماً، بل المذموم: هو اختيار زوج غير سَليم أو زوجة غير سَليمة، حيث يَعني ذلك: عدم إتّخاذ إجراءات وِقائيّة كافية لِضَمان مستقبَل صِحّي جيّد للنَسْل والذُريّة. وهذا لا يَختَصّ بالأقارب، بل هو عام .. يشمل الأباعد أيضاً. فلا ينبغي فَتْح باب جديد - في عِلْم الطِب - تحت عنوان: «كراهة أو مَخاطر الزواج مِن الأقارب»، فإنّ ذلك يعني: التفكير حول القضايا تفكيراً سَطحياً، والغفلة عن المضاعَفات المؤسِفة الناتجة عن التطبيق - بشكل عام - لهذه النَظريّة غير الناضجة. النقطة الثانية : لقد ذُكرتْ في التعاليم الإسلاميّة - الواردة في موضوع الزواج والعلاقات الزوجيّة - أسباب كثيرة للتعوّق والتَشوّه في الخِلْقة، والإصابة بالأمراض البَدَنيّة والنفسيّة، وغير ذلك مِن أنواع الإعوجاج في النَسْل والذُريّة، وهي عامّة للجميع.. ولا تَختصّ بالاقارب. وهي جَديرة بالدراسة والإهتمام، فيَلزم مَعرفتها والتطبيق الحَرْفي لها، والإعتماد عليها.. لا على النظَريّات التي تَشكو مِن عدم النُضج. النقطة الثالثة: إنّ نظريّة «كراهة الزواج مِن الأقارب» وَصلتْ إلينا مِن بلاد الغَرب، وهي تَعتمد - أوّلاً واخيراً - على التجارب التي أجريَتْ في المجتمعات الغَربيّة فقط. فلعلّ هناك أسباباً أُخرى تُورث التَعوُّق إجتمعتْ - عندهم - مع عامِل الزواج مِن الأقارب، فسَبِّبتْ - معاً أو لِوَحْدها - التشوّه والإعاقة. والأسباب الأُخرى هي مِثْل: المُمارسة الجنسيّة بعد شُرْب الخمر وفي حالة الُسْكر. أو تكوّن النطفة مِن لحم الخنزير، أو بعض الحيوانات أو الأسماك التّي حَرَّم الله تعالى اكْلَ لُحومها. أو إنعقاد النطفة بعد الإسراف في عدد الممارسات الجنسيّة . أو الإهمال الكامل لجميع الإرشادات الدينيّة المُرتبطة باللَحظات الأولى لِتكوّن الجنين. وما أشبَه ذلك من الأسباب الأُخرى. فهنا ينبغي عدم مُقايَسة المجتمع الغَربي مع المجتمعات الإسلاميّة النظيفة - بالكامل أو بنسبةٍ مّا - عن الخَمر والخنزير، والأجواء المُثيرة لِغَريزة الجِنس، والغفلة عن تعاليم السماء. وينبغي -- أيضاً -- البحث لإكتشاف السبب الرئيسي للتعوّق، والقيام بتجارب عِلميّة.. مع الأخذ بعين الإعتبار لتعاليم السماء. وتَجنُّب الخَلْط بين المفاهيم والأمور، والأسباب والمُسبّبات. قُلْ للذي يَدّعي في العِلْم فلسفةً *** حفِظَت شيئاً وغابتْ عنكَ أشياءُ النقطة الرابعة: يؤسِفُنا ان بعض المثقّفين مِن المسلمين - الذين يَتقبَّلون نَظريّات الغَرب تَقبُّلاً غير واع - يُشجّعون على ترك الزواج من الأقارب بشكلٍ عام، وهم في جَهْل أو غفلة عن الأضرار الناتجة من ذلك، ففي الزواج مِن غير الأقارب توجد - غالباً - الفُروق والإختلاف في العادات والتقاليد والأجواء والأخلاق، والجهل بنفسيّة الطَرَف الآخَر وحقيقته، وهذه الُفروق تكون - غالباً - سَبباً رئيسيّاً لِخَلْق أرضيّة النزاعات، وإيجاد جُذور الإختلافات، وبُروز طبَقة مِن البُرود المؤسِف الذي يُخيّم على العلاقات الزوجيّة والعائليّة. وتكون - في النهاية - بمنزلة المِعْوَل الهَدّام لإضعاف أُسس الأُسرة السعيدة، ومَنْع تكوّن الإنسجام المطلوب بين الزوجين. النقطة الخامسة: هناك بعض العشائر والعوائل التي تَعيش في حالة مؤسفة مِن التنافر والتفكك الأُسَري، بسبب ابتعادها عن أخلاقيّات الدين، وعدم رُضوخها لتعاليم الإسلام المُرتبطة بتركيبة حياة البشر. وفيها يَشِبّ الأطفال على الاحقاد، وعلى بُغْض الأعمام والعَمّات والأخوال والخالات، وغيرهم مِن أفراد العشيرة، وتعيش هذه الأُسَر - أحياناً - مُنغَلقة على نفسها، فلا تَزاورَ ولا تعاون ولا ِصَلة أرحام، ولا وُدَّ ولا صَفاء. فإنْ كانت بعض العوائل تُعاني مِن هذه الظاهرة المؤسفة، فلا يَعني ذلك أنّها تتصوّر وجودَ نفس التفكّك في العشائر الأُخرى، وتَقيس بنفسها جميع العوائل، وبذلك تَضُمّ صوتَها إلى مَن يُرفع لوحة (كراهة الزواج مِن الأقارب .. بصورة عامّة). النقطة السادسة: حينما نُلقي نظرة فاحِصة على المُجتمعات الإسلاميّة المعاصِرة نَجد عشرات الملايين من الأفراد الذين تَزوّجوا مِن أقاربهم - كابن العَم وبنت العَم - ولم يَحصل في نَسْلهم تَعوّق أو هُزال أو غَباء، أو مرض يكون قد إنتقَلَ إليهم بسبب زواج والديهم مِن الأقارب. النقطة السابعة: إنّنا حينما نُلاحظ تاريخَ أهل البيت (عليهم السلام) نَجد أنّ الزواج مِن الأقارب كانت ظاهِرة مُنتشرة جدّاً في حياتهم: 1- فهذا نبيُّ الإسلام سيّدنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) زَوَّج ابنتَه سيّدةَ نساء العالَمين السيّدة فاطمة الزهراء مِن ابن عمّ والدها: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. 2 - وهذا مولانا امیرالمؤمنين (عليه السلام) زَوج ابنتَه السيّدةَ زينب الكبرى مِن ابن عمّها: عبدالله بن جعفر. 3 - وذاك الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) تَزوّج بنتَ عمّه: السيّدةَ فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام. مع الإنتباه إلى أنّ هؤلاء الأطهار مَعصومون ّمن الخطا والخَطَل، في القَول والعَمل، بصَريح قوله تعالى: «إنّما يُريدُ الله ليُذهبَ عنكم الرجْسَ أهلَ البيت ويُطهّركم تطهيراً»، وهم مُقتدى الاجيال والأمم، فلو كان في مجرّد «الزواج مِن الأقارب» قُبْح او خَطا أو خَطَر .. لَكان المُتوقّع منهم الإبتعاد عنه، أو ذِكْر سَبَب وَجيه لِزواجهم مِن الأقارب، كي لا يَقتدي بهم الناس في ذلك. هذا .. وقد تَزوّج مسلمُ بن عقيل بنتَ عمّه: السيّدة رقيّةَ بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). وتَزوّج محمدُ بن جعفر بنتَ عمّه: السيّدةَ أُمّ كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). وتَزّوج عون بن جعفر بنت عمّه عقيل بن أبي طالب. والمُتَتبّع - في التاريخ - يَحصل على مَصاديق وَعيّنات أُخرى لما ذكرنا . فإنْ قال قائل: إنّهم فَعَلوا ذلك لِعَدَم وجود أمراض وراثية في افراد عشيرة بَني هاشم .. رجالاً ونساءً، فلا يَصحّ تعميم القانون على جميع الناس؟ قلنا في الجواب: نعم، لم تكن هناك امراض وراثيّة. ولكن يَجب أنْ نَعلَم بانَّ الأصْل في الخَلْق هو: الصّحة .. وليس المرض. والحالات المَرَضية أُمور طارئة لا يَنبغي - بسببها - تَعميم قانون المَنْع .. على الجميع. يُضاف إلى ذلك .. أنّ التعاليم الدينيّة تضمن الصحّة للجميع، وتتَكفّل صيانة المجتمع مِن الأمراض الوراثية وغيرها، وشِعارُها مع الشر: «الوقاية خيرٌ مِن العلاج» ولا تَمنع مِن اتّخاذ التدابير اللازمة والتحقيق المُسْبَق مِن أجل سلامة النَسل والذُريّة. النقطة الثامنة: ليس معنى تعليقنا هذا هو التأييد العام المُطلَق لِكُلِّ زواج مِن الأقارب، فهناك النزاعات والإختلافات العائليّة والطائفيّة والعقائديّة، والبُرود في العلاقات .. وهي أُمور تَجعل المجال مفتوحاً للزواج مِن غير الأقارب، حَذَراً مِن العَواقب المُحتمَلة. هذا .. والتفصيل يَحتاج إلى مجال واسع لِدراسة الموضوع دراسةً عِلْمية شامِلة، مع ذِكْر الإثباتات والوثائق العِلميّة، ومناقشة أدلَّة الطَرَفين: المؤيّدين والمخالفين لهذه النظريّة. المُحقّق

ص: 77

ص: 78

ص: 79

ص: 80

ص: 81

ص: 82

ص: 83

ص: 84

عبد الله بن جعفر

لا أراني بحاجة إلى التحدّث عن حياة جعفر الطيّار - رضوان الله عليه - والد عبدالله، ولا أجدُ ضرورة إلى التحدّث عن حياة سيّدنا أبي طالب (عليه السلام) أو عقيل أو بقيّة رجالات وسيّدات هذه الأُسرة، الّذين يَنحدرون عن سيّدنا أبي طالب.

وإنّما المقصود - هنا - هو التحدّث عن عن حياة عبد الله بن جعفر، وذلك لكونه زوج السيّدة زينب الكبرى عليها السلام.

كان عبدالله شخصيّة لامعة في عصْره، يَمتاز عن غيره نَسَباً وحَسَباً، وجُوداً وكرَماً، فقد ذَكرَه اربابُ التَراجم - مِن الفَريقين (السُنّة والشيعة) في كُتُب التاريخ والحديث والرجال - بكلّ ثناء وتقدير، وعَدّوهُ مِن أصحاب رسول الله (صلِى الله عليه وآله وسلّم) والإمام أمير المؤمنين، والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجِاد (عليهم السلام) .

ص: 85

وقد كان رابِطَ الجاش (1) قويَّ القلب، شُجاعاً، شَمَلَتْه - في طفولته - برَكة دُعاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وامتَدّتْ إلى آخر حياته.

فقد ذكرَ سبطُ إبن الجوزي في كتابه (تَذْكرة الخواص) في ذِكْر أولاد جعفر بن أبي طالب:

«عبدالله ، وبه كان يُكنّى (2)، ومحمّد، وعَوْن، وأُمُّهم: أسماء بنت عميس، ولَدَتْهم بارض الحبَشة (3) وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة الهِجْرة الثانية.

وأشهرهم: عبدالله، وكان مِن الأجواد، وهو مِن الطبقة الخامسة (4) ممّن توفّي رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو

ص: 86


1- الجَاش: النَفْس، والقَلب. يُقال: هو رابط الجاش أي: ثابتٌ عند الشَدائد، وقويّ القلب في الحروب والمُنازَعات. المُحقّق
2- أي: وكان جعفر يُكنّى ب- «أبي عبدالله»
3- بلاد الحَبَشَة: هي دولة «إثيوبيا» المعاِصرة، وعاصمتها «ادیس آبابا»، وهي تَقَع في قارّة إفريقيا، يَحُدّها مِن الشمال والغَرب: جمهورية السودان، ومِن الشَرق: البحر الأحمر وجمهورية الصومال، ومِن الجنوب الصومال وكينيا. المُحقّق
4- لقد قَسَّمَ مؤلّف كتاب «الطبَقات الكُبرى» صَحابَة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى تَقْسيمات خاصَّة، وبكيفيّة مُعيّنة تَبادرتْ إلى ذِهْنه، وعَبَّر عن كلّ قِسْم ب- «الطبقَة»، فجَعَلَ - مَثَلاً - الصَحابَة الذين حَضَروا يومَ بَدْر قِسْماً خاصّاً وطبَقة أولى، وهكذا ... وحَسَب تقسيمه جَعَلَ عبدَالله بنَ جعفر مِن الطبقة الخامسة

حَدَث، ولمّا ولدتْه أُمَّه اسماءُ بالحبشَة، ولد - بعد ذلك بايّام - للنجاشي وَلَد (1) فسّمّاه عبدالله، تَبرّكاً باسمه، وأرضعتْ أسماءُ عبدَالله بن النجاشي بلَبَن ابنها عبدالله. (2)

وقال ابن سعد في كتاب (الطبَقات) (3):

حَدَّثنا الواقدي، عن محمّد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى، قال:

سمعتُ عبدَالله بن جعفر يقول: «أنا أحفَظُ حِينَ دخلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أُمّي فنَعى إليها أبي، فأنظر إليه وهو يَمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تَذْرفان - أو تهرقان - بالدموع حتّى تَقطُر لحيتُه.

ثمّ قال: «اللهمّ إنَّ جعفراً قد قَدم إلى أحسَن الثواب، فاخلُفْه في ذُرِّيَّته باحسَن ما خلفت أحَداً مِن عِبادك في ذريّته».

ص: 87


1- النجاشي: لَقَب مَلِك الحبشة يومذاك، واسمه: الأصْحَم بن أبجر
2- المصدر: كتاب «تَذكرة الخواص» السبط ابن الجوزي، ص 189
3- على ما حَكاه عنه سبط ابن الجوزي في كتابه «تَذكرة الخواص» ص 189 - 190

ثمّ قال: «يا أسماء! ألا أُبشّركِ؟»

قالت أُمّي: بلى، بابي أنتَ وأُمّي يا رسول الله!

قال: «فإنّ الله قد جَعَل لجعفر جَناحين يَطيرُ بهما في الجنّة».

فقالت: يا رسول الله فاعْلمِ الناسَ بذلك.

فقامَ رسولُ الله فاخذ بيدي ومسَحَ براسي، ورَقى المنبر، فاجْلَسَني أمامَه على الدرجة السُفلى - والحُزْن يُعرَف عليه - (1) فتكلّم وقال:

«إنّ المَرء كثيرٌ باخيه وابن عمّه، الا: إنَّ جعفراً قد استُشْهد، وقد جَعَل الله له جناحين يَطير بهما في الجنَّة».

ثمّ نَزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ودخَلَ بيتَه وادخَلَني معه، وأمَرَ بطعامٍ فصُنعَ لأهْلي.

ثمَّ أرسلَ إلى أخي، فتَغدّينا عنده غذاءً طيّباً مُباركاً .... وأقَمْنا ثلاثة أيام، نَدورُ معه في بيوت ازواجه ثمّ رجعْنا إلى بَيتنا.

فاتانا رسولُ الله وأنا أُساومُ بشاة أخاً لي (2)، فقال: «اللهمّ

ص: 88


1- أي: والحُزْن ظاهِرٌ على مَلامح وَجْهه الكريم
2- أُساوم: المُساومَة: طلَبُ البائع المُغالاة في الثَمَن، وطلبُ المُشتري التَخفيض في ذلك. وقيل: هو الكلام الذي يَسْبق المُعاملة التجارية. «المُحقّق»

بارِكْ له في صَفْقَته» (1)، فما بِعتُ شيئاً ولا اشتريتُ إلّا بُوركَ فيه». (2)

ولعبد الله بن جعفر حوارٌ وكلام في مَجلس معاوية بن أبي سفيان، يَدلّ على ما كان يَتمتّع به عبدالله مِن قوّة القلب، وثَبات الجّنان، والإيمان الراسِخ بالمَبْدأ والعقيدة، وعدم الإكتراث بالسُلطات الظالمة الغاشِمة.

أضفْ إلى ذلك الفصاحة والبلاغة والمستوى الأدبَي الأعلى الأرقى. فقد ذكر إبن أبي الحديد في (شرح نَهج البلاغة) عن المدائني:

قال: بينا معاوية - يوماً - جالس، وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذِن (3): قد جاء عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.

فقال عمرو: والله لأسوانَّه اليوم!

ص: 89


1- الصَفقة: ضَرْبُ اليَد على اليَد في البَيع. وكان العَرَب إذا أرادوا إنهاء مُعاملة البيع ضَرَب أحدُهما يَدَه على يَد صاحبه. والمعنى: اللهمّ باركْ له في صَفقاته التجاريّة ومُعامَلاته. «المُحقّق»
2- تَذكرة الخَواص، لِسِبط ابن الجوزي، ص 189 - 190
3- الآذِن: الحاجِب، ويُعبّر عنه - حاليّاً - بالسكرتير أو البَوّاب

فقال معاوية: لا تَفعل يا أبا عبدالله، فإنّك لا تنتصف منه، ولعلَّك أن تُظْهرَ لنا مِن مَغبَّته ما هو خَفيّ عنّا، (1) وما لا نُحبّ أن نَعْلَمه منه!!

وغَشيَهم عبدُ الله بن جعفر (2) فادْناهُ معاوية وقَرَّبه.

فمالَ عَمرو إلى جُلَساء معاوية فنالَ مِن علي (عليه السلام) جهاراً غير ساترٍ له، وثَلَبه ثَلْباً قبيحاً!! (3)

فالتمَعَ لونُ عبد الله، واعتَراه الافْكَل (4)

ص: 90


1- مَغَبّته: عاقِبةُ أمْره. وفي نسخة: مِن مَنْقَبَته ما هو خَفيٍّ عنا
2- غَشِيَهم: دَخَل عليهم
3- ثَلبَه: تَنقّصَه وذكرَ مَعايبه. ومِن الواضح اأّه لم يكن في الإمام أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه) عَيبٌ أو مَنْقَصَة، لكنّ الأكاذيب لها دَورها، والنَفْسيّات اللَئيمة القَذِرة تُعبِّر عن هَويّتها ونَواياها، وتَظهر عن طريق تصرّفات الإنسان وسُلوكه. وكلُّ مَن يُدير ظهرَه للحقّ لا بدّ له أنْ يَسْحَقَ وجدانَه، ويُسكّت إرسالات تانيب الضمير .. بالأكاذيب والتُهَم التي يَعلّم - بنفسه - زَيفَها. ثمّ إنّ محاولة التزّلف إلى معاوية تَجعَل القَبيح حَسَناً والحسَن قبيحاً. المُحقّق
4- الافْكَل: رَجَفةٌ شديدة تَعتري الإنسان عند شِدّة الغَضَب أو شدّة الخوف أو البَرد

حتّى أرعدَتْ خَصائلُه (1) ثمّ نزل عن السَرير كالفنيق (2) فقال عمرو: مَه یا اباجعفر؟

فقال له عبدالله: مَه؟ لا أُمَّ لك؟ ثمّ قال:

أظنُّ الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قَومي *** وقد يَتجَهَّل الرجلُ الحليمُ

ثمّ حَسَر عن ذراعيه (3)، وقال:

يا معاوية! حتّى متى نَتَجرَّع غَيظَك؟

وإلى كم الصَبْر على مَكروه قولك، وسَيّئ ادبَك، وذَميم اخلاقك؟

ص: 91


1- ذُكر في أكثر كُتُب اللغة: أن الخَصائل - جَمْع خَصيلة - : كلُّ لَحْمةٍ فيها عَصَب. والظاهر أنّ شِدّة الغَضَبِ جَعلتْ الرَجْفة تَظهر على مَلامح عبدالله وعلى يديه واعضاء جسمه. المُحقّق
2- الفَنِيقُ - مِن الناقة - : الفَحْل المُقْرم الّذي لا يؤذي ولا يُركبَ. كما عن كتاب «العين» للخليل بن أحمد، وجاء فيه - ايضاً - ناقة فَنَق: جَسِيمَة وحَسَنة الخَلْق. ولعلّ تَشْبيه عبد الله بالفَنيق .. لأنّه كان ضَخْمِ الجِسْم. المُحقّق
3- أي: رَفَعَ أكمامَ ثوبه وكشَف عن ذِراعَيه، إستعداداً للمُواجَهة الشديدة والحرب الكلاميّة مع معاوية، الذي سَكتَ عن الموقف العدواني لعمرو، حيث إنَّ المُتكلّم الذي يُريد استعمال إشارات يديه اثناء الكلام الجادّ .. يَرفع أكمامَه، مع الإنتباه إلى الأكمام الواسعة الطويلة التي كانت مُتعارَفة في مَلابس ذلك الزمان. المُحقّق

هَبَلَتْكَ الهَبُول!! (1)

أما يَزجُرُك ذِمامُ المُجالَسة مِن القَذْع لجَليسك (2) إذا لم يكن له حُرْمة مِن دِينك تَنهاك عمّا لا يَجوز لك؟!

أما: والله لو عطفتك أواصر الأرحام، أو حاميتَ عن سهمك من الإسلام، ما أرخَيْت - لِبَني الإماء المُتك (3) والعُبيد المُسك (4) - أعراضَ قومك.

وما يَجهَلُ موضعَ الصَفوة إلاّ أهل نَجْوة (5).

ص: 92


1- هَبَلَتْكَ الهَبول: هَبَلَت الأُمُّ وَلَدها: تَكلَتْهُ، فهي هَبُول. كما في المعجم الوسيط
2- أي: أما يَمنَعُكَ آدابُ المُجالسة مِن مَنْع مَن يُريد إهانة جَليسك وجَرْح مَشاعِره؟!
3- الإماء - جَمْع أمَة -: العَبْدة. المُتك - بضمّ الميم -: جَمْع متكاء: المرأة المُفْضاة: وهي التي تَمزّق منها الغشاءُ الفاصِل بين مَخْرَج البول ومَجرى دم الحيض - بسَبَب كثْرة إستقبالها للرجال!! - وقيل: هي المرأة التي لاتَستطيع ضَبْط نفسها مِن البول. قال الخليل بن احمد - في كتاب «العين» -: يُقال في السَبّ: يابنَ المَتْكاء. المُحقّق
4- المُسَك - جَمْع مَسيك - : البَخيل
5- لعلّ المعنى: وما يَجهَلُ مَكانة الشُرَفاء إلّا اصحاب النفوس الدَنيئة، ونَجوة: المَحلّ الذي يُتغوّط فيه. وفي نسخة: وما يَجْهَل موضعَ الصَفوة إلّا أهلُ الجَفوة. المُحقّق

وإنَّك لتعرف وشائظ قريش (1)، وصقوة عوائدها، فلا يَدعونّكَ تصويبُ ما فَرط مِن خَطاك في سَفْك دماء المسلمين، ومُحاربة أمير المؤمنين، إلى التَمادي فيما قد وضَحَ لك الصَوابُ في خلافه، فاقصد لمنهج الحقّ، فقد طالَ عَمْهُك عن سَبيل الرُشْد (2)، وخَبْطُك في دَيجور ظُلْمة الغَيِّ، فإنْ ابيتَ إلّا أن تُتابعَنا في قُبْح اختياركَ لنفسك فاعفِنا عن سوء القالة فينا إذا ضَمَّنا وإيّاكَ الندي (3)، وشانُك وما تُريد إذا خَلَوْتَ، والله حَسِيبُك، فوالله لولا ما جعَلَ اللهُ لنا في يَدَيك لما أتَيناك.

ثمَّ قال: إنّك إنْ كلّفتَني ما لم أُطِق ساءَك ما سَرَك منّي مِن خُلُق.

فقال معاوية: يا أبا جعفر: أقسمتُ عليك لَتجلسنّ، لَعَنَ اللهُ مَن أخرَجَ ضبّ صدرك مِن وجاره (4)، مَحمولٌ لك ماقلتَ، ولكَ

ص: 93


1- وَشائظ: السَفَلةُ، أو الدُخَلاء في القوم، ليسوا مِن صَميمهم. كما في «لسان العرب» لابن منظور
2- عَمْهُك: تَرَدِّيك في الضَلالة. كما يُستفاد مِن كتاب «العَين» للخليل بن أحمد
3- النَديّ والنادي: مَجلسُ القوم، والجَمْعُ: اندية. ويُعبّر عنه حاليّاً ب- «الديوان» و«الديوانيّة». المُحقّق
4- أي: أخرَجَ غَيظ صدرك مِن مَكانه، أو: مِن حَلْقِك. يُقال: وَجَرَ فُلاناً: أي: اسْمَعَهُ ما يَكره. كما في كتاب المعجَم الوسيط

عندنا ما أمّلتَ، فلو لم يكن مَجْدكَ ومَنصِبُك لكان خَلْقُك وخُلُقك شافِعَين لك إلينا، وأنتَ إبن ذي الجناحَين وسيّد بَني هاشم.

فقال عبدالله: كلاً، بل سينّدا بَني هاشم حسنٌ وحسين، لا يُنازعهما في ذلك أحَد.

فقال معاوية: يا أبا جعفر أقسمتُ عليك لما ذكرتَ حاجة لك قضيتُها كائنةً ما كانت، ولو ذَهبت بجميع ما أمْلِك.

فقال: أمّا في هذا المجلس فلا.

ثمّ انصَرَف، فأتْبَعه معاوية بصُرَّة. (1) فقال: والله لَكانّه رسولُ الله مَشْيَه وخَلْقه وخُلُقه وإنّه لمن شكله، ولَوَدَدْتُ أنَّه أخي بنَفيس ما أمْلك.

ثمّ التفَتَ إلى عمرو فقال: أبا عبدالله ماتَراه منَعَه مِن الكلام معَك؟

قال: ما لا خَفاء به عنك.

قال: أظنَّك تقول: إنّه هابَ جوابَك، لا والله ولكنّه ازدَراك (2) واسْتَحْفَرك ولم يَرَك للكلام أهْلاً، أما رأيتَ إقْبالَه علىَّ

ص: 94


1- وفي نُسخة: بِبَصَرِهِ
2- إزدراك: إحتَقَرك واستَخفّ بك

دونَكَ، زاهِداً بنفسه عنك.

فقال عمرو: هل لك أن تَسمع ما أعدْدُته لِجوابه؟

قال معاوية: إذهب، إليكَ أبا عبدالله، فلاتَ حينَ جواب سائر اليوم (1)، ونَهَض معاوية وتَفرّق الناس. (2)

لماذا لم يَخرج عبْد الله مع الإمام الحسين (عليه السلام)؟

هناك سؤال قد يَتبادر إلى بعض الأذهان وهو: لماذا لم يَخرج عبدالله بن جعفر مع الإمام الحسين (عليه السلام) في رِحْلته إلى العراق؟

لإجابة هذا السؤال: هناك أكثر مِن إحتمال، لأنّنا لا نَعلَم بالضبط - الجوابَ الصحيح، لكنّ الّذي يَتبادر إلى ذهني - والله العالم -: أنّه كان مِن اللازم أن تبَقى بَقيّة مِن أهل البيت في المدينة المنوّرة، لكي لا يَنجَح بنَو أُميّة في إكمال خُطَتهم الرامية إلى استِئْصال شجرة آل الرسول الكريم، وكان اللازم أن تكون تلك البَقيّة في مُستوى رفيع مِن قوّة

ص: 95


1- أي: ليسَ الآن وقتُ ذِكْرك للجواب. أو: لا أُريد أنْ أسمَع جوابَك الآن .. إلى آخر النهار
2- شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد، طبْع مصر، عام 1385ه-، ج 6 ص 295_297

الشخصيّة والمكانة الإجتماعيّة .. رجالاً ونساءً، لكي يَستطيعوا المُحافظة على امتداد خط الإسلام الأصيل الذي يَنحَصِر في آل محمّد وعلي (عليهما وآلهما الصلاة والسلام) ولكي يكونوا على درجة جيّدة بحيث يَحسِب لهم الأعداء ألفَ حِساب، ولا يَسهُل عليهم إبادة تلك البَقيّة.

مِن هنا.. فإنِنا نَقرأ - أسماء ثُلّة مِن الّذين بَقَوا في المدينة المنوّرة، ولم يَخرجوا مع الإمام الحسين (عليه السلام). ومِن جملة هذه الثُلّة الطيبّة نَقرأ في القائمة:

1 - عبدالله بن جعفر، مع الإنتباه إلى علاقاته الديبلوماسيّة الظاهريّة المُسْبَقة مع الطاغية معاوية، والإحترام الفائق الذي كان معاوية يُظهِره لَه.

2 - محمّد بن الإمام امير المؤمنين علي (عليه السلام) المشهور ب- «إبن الحَنَفيّة».

3 - السيّدة أُمَّ سَلمة، زوجة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

4 - أُمّ هاني، أُخت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

5 - السيّدة أُمّ البُنين، قُرينة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ووالدة اشباله الأربعة.

6 - السيّدة المُكرّمة ليلى قرينة الإمام الحسين (عليه

ص: 96

السلام) بناءً على القول بِعَدَم وجودها في رِحْلة كربلاء.

7 - السيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كانت مريضة .. مَرضاً يَصعُب مَعه السَفَر.

هذا.. وهناك إحتمال بأنّ سبب عدم ذهاب عبدالله بن جعفر كان كِبَر السِنّ، ولكن قد يُضعّف هذا الإحتمال ما ثَبتَ - تاريخيّاً - مِن أن عُمْره - يومذاك - كان حوالي خمس وخمسين سنة، ولا يُعتبر هذا المِقْدار مِن العُمْر كثيراً، إلّا إذا كانت الحياة مَقرونة بعَواصف نَفسيّة أو جسْمِيّة تُسْرع الشَيخوخة والهرم إلى الإنسان.

وهناك إحتمال ثالث ذكره البعض: أن عبدالله بن جعفر كان قد فَقَد بَصرَه قبل رِحْلة كربلاء، وهذا الإحتمال يَصْلح سبباً وَجيهاً لِعَدم ذهابه، لكن بشرط أن يَثْبت تاريخياً. والله العالم بِحَقائق الأُمور.

ص: 97

ص: 98

الفصل الرابع

إشارة

* أولاد السيّدة زينب عليها السلام

* مروان يَخطب بنت السيّدة زينب عليها السلام لِيزيد بن معاوية

ص: 99

ص: 100

أولاد السيّدة زينب (عليها السلام)

لقد اختَلف المؤرّخون في عدد أولاد السيّدة زينب (عليها السلام) وأسمائهم .

ففي كتاب (إعلام الورى) للطبرسي:

«علي وجعفر وعون الأكبر، وأُمّ كلثوم». (1)

وقيل: علي، وعون الأكبر، ومحمّد، وعبّاس، وأُمّ كلثوم (2).

ص: 101


1- كتاب «إعلام الورى باعلام الهُدى» للطبرسي، طبْع النجف الاشرف سنة 1390ه-، ص 204
2- تَذكرة الخَواص، لِسبِط ابن الجوزي، طبْع لبنان، سنة 1401ه-، ص 175

أمّا محمّد وعون فقد استُشْهدا في نُصْرة خالهما: الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء بكربلاء.

وأمّا أُمّ كلثوم فقد تزوَّج بها ابنُ عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر، وقد استُشْهد في فاجعة كربلاء.

ص: 102

مروان يَخطب بنتَ السيّدة زينب عليها السلام ليزيد بن معاوية

لقد كان البيت الأُموى مُعقَّداً بعُقدة الحِقارة النفسيَّة، بالرغم مِن السُلطة الزَمنيّة التي اغتَصَبوها زوراً وبهتاناً، وظُلْماً وعدوانا .

فقد كانتْ صفحاتُ تاريخهم - خَلَفاً عن سَلَف - سوداء مُظلمة مُدلَهمَّة ، مُلَوَّثة مُشوَّهة مِن مَساويهم ومَخازيهم .

فتلك (حمامة) وهي مِن جَدّات معاوية، وكانت مِن بَغايا مكّة ومِن ذوات الأعلام، أي: كان العَلَم يُرفرفُ على دارها (بيت الدعارة) لِيَعرف الزُناة ذلك، ويَقصدوها للفُجور بها. (1)

ص: 103


1- جاء ذلك في كتاب (الطرائف في معرفة مَذاهب الطوائف) للسيّد علي بن موسی بن طاووس، المتوفّى سنة 664 ه-. ص 501 ، طبع ایران عام 1400ه-. وهو يَحكي ذلك عن كتاب (المثالب) لهشام بن محمّد الكلبي - وهو مِن مؤلّفي العامّة -. وهذا نَصُّ كلامه: «وأمّا حمامة فهي مِن بعض جَدّات معاوية، وكان لها راية ب- (ذي المجاز) يعني مِن ذَوي الرايات في الزنا». المِحقّق

وتلك هند - والدة معاوية - السافِلة القَذرة ذات السَوابق العَفِنة، والملَفّ الأسود، آكلة الأكْباد المُمتَلئة حِقْداً وعداءً على الإسلام والمسلمين.

وذاك ابو سُفيان: قُطْبُ المشركين، وشيحُ المُلْحِدين، ورأسُ كلِّ فتْنة، وحامِلُ كلِّ راية رُفِعتْ لحَرب رسول الله (صلّى الله عليه کل وآله وسلّم) وقائد كلّ جيش خرجَ لقتاَل المسلمين في أيام النبي الكريم.

وهذا معاوية، خَلَفُ هذا السَلَف، وحَصيلةُ هذه الجَراثيم، وثمرة تلك الشَجرة الملْعونة في القرآن، وهو يَعلم أنَّ الناس يَعلمون هذه السَوابق، ويَعرفون معاوية حقّ المعرفة. (1)

ص: 104


1- ويَجدُر - هنا - أنْ نَذكر ما نَظَمَه الشاعرُ العظيم السيّد حيدر الحِلّي رحمة الله عليه، المتوفّى سنة 1305 ه- حيث يَنظر إلى الملفّ الأسود لبَني أُميّة - رجالاً ونساءً، فيُخاطبُهم بقوله: أُميَّة غُوري في الخُمول وانْجِدي *** فما لكِ في العَلْياء فَوْرةُ مَشْهَدِ هُبوطاً إلى أحسابكم وانخفاضِها *** فلا نَسَبٌ زاكٍ و لا طِيبُ مَولدِ تَطاوَلْتُموا لا عن عُلاً فتَراجَعوا *** إلى حيثُ انتم واقعُدوا شَرَّ مَقعَد قديمُكمُ ما قد عَلمتُم ومِثْلُه *** حَديثكُم في خِزْيه المُتَجَدِّدِ فماذا الذي أحسابكم شَرُفَتْ به *** فأصعَدَكم في المُلْك اشرفَ مَصْعَد صلابة اعلاكِ الذي بَلَلُ الحَيا *** به جَفَّ، أمْ في لين أسفَلكِ النَدي بَني عبْد شَمْسِ لا سَقى الله حُفْرَةٌ *** تَضُمَكِ والفحشاء في شَرِّ مَلْحَدِ ألِمّا تكوني في فُجوركِ دائماً *** بمَشغَلَة عن غَصْب أبناء أحمد وراءَك عنها لا اباَ لكِ إنّما *** تَقدّمتِها لا عن تَقدُّم سُؤدَدِ عَجِبْت لمن في ذِلّة النَعْل رأسُه *** به يتراءى عاقِداً تاجَ سيّدِ دَعوا هاشماً والفَخْر يَعقِد تاجَه *** على الجَبَهات المُسْتنيرات في الندي و دونكُموا والعار ضُمّوا غِشاءَهُ إليكم إلى وَجْهٍ مِن العار أسودِ يُرشّحُ لكن لا لشيء سوى الخَنا *** وَليدُكم فيما يَروح ويَغتدي وتترفُ لكنْ للبِغاء نساؤكم *** فيُدنَسُ منها في الدُّجى كلِّ مَرقدِ ويَسقي بماءٍ حَرْثكم غيرُ واحدٍ *** فكيف لكم تُرجى طهارةُ مَوْلِد ذهبتُم بها شنعاء تَبقى وصومُها *** لاحسابكم خزْياً لدى كلّ مَشْهد المصدر: ديوان السيّد حيدر الحِلّي، طبع لبنان عام 1404ه-، ص 70. المُحقّق

فكيف يَجبُر هذا الشعور بالنقص .. الذي لا يُفارقه؟!

وكيف يَستر هذه العيوب التي أحاطتْ به وغَمرتْه؟

كان الإحساس والشُعور - بهذه السَوابق العَفِنة، والملَفّات الوَسِخة - يَحُزُّ في صدر معاوية.

ص: 105

فهو يُحاول أن يَكسب شيئاً مِن الشَرف والمَجْد، لِيَملأ هذا الفراغ ويَتخلّص مِن هذا الشعور، ويُغطّي على وَصمات الخزي مِن سِجِلّ حياته ومِن صفحات تاريخه، ويَتشبّث بشتّى الوسائل، ولكنَّ محاولاته كانت تَبوءُ بالفَشَل.

ومن جملة الطُرُق والوسائل التي حاولَ معاوية - مِن خلالها - إكتساب الشَرف والسُؤدد، هي مُصاهرة الأشراف، لإكتساب الشَرَف منهم.

وكان البيت العَلَوي الطاهر على علْم وبَصيرة مِن نَوايا معاوية وأهدافه، ولهذا كانوا يَسدّون عليه كلَّ باب يمكن أن يَدخل منه.

فلقد أوصى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند وفاته: أن يَتزوّج المُغيرة بن الحارث بن الزبير بن عبدالمطّلب بأُمامة بنت زينب بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

تلك السيّدة التي أوصتْ مولاتنا فاطمةُ الزهراء (عليها السلام) أميرَالمؤمنين أن يَتزوّج بها، حيث قالت: «وتزوّجْ بأمامة إبنة أُختي، فإنّها لأولادي مِثْلي».

وإنّما أوصى الإمامُ بذلك كي لا يَتزوّج بها معاوية، فالإمام كان يَعلَم - بِعلْم الإمامة - بانّ معاوية سوف يُحاول أن يَتزوّج بها،

ص: 106

ويَفتخر بأنّه صاهَرَ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّ حَفيدة النبيِّ قد صارتْ في حِبالته.

ولهذا أغلقَ الإمامُ البابَ على معاوية، وتركَه في ظلمات نَسَبه وحَسَبه! (1)

ص: 107


1- ذكرَ ابنُ عبد البَرِّ في كتاب (الإستيعاب) - في ترجمة حياة أُمامة -: «تزوّجَها علي بن أبي طالب بعد فاطمة... . وكان علي بن أبي طالب قد أمَرَ المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنْ يَتزوّج زوجتَه بعدَه، لأنّه خافَ أنْ يَتزوّجها معاوية. فتزوّجَها المغيرةُ ... . وذكرَ عمر بن شبّة بسَنَده أنّ عليّاً لما حَضَرتْه الوفاة قال - لأُمامة بنت أبي العاص -: «لا آمَن أنْ يَخطبكِ هذا الطاغية بعد موتي - يَعني: معاوية -، فإنْ كان لكِ في الرجال حاجة فقد رَضيتُ لكِ المغيرة بن نوفل عَشيراً». فلمّا انقَضَتْ عِدّتُها .. كتَبَ معاوية إلى مروان يأمره أنْ يَخْطبها، ويَبذل لها مائة الف دينار!! فلمّا خَطَبها أرسلتْ إلى المغيرة بن نوفل أنّ هذا قد أرسَلَ يَخطبني، فإنْ كان لك بنا حاجة فاقبِلْ، فاقبَلَ وخَطَبها مِن الحسن بن ،علي فَزَوّجَها منه. وذكر ابنُ حَجَر العسقلاني في كتاب (الإصابة) مثْلَ هذا النص. وجاء في كتاب (الطبقات الكُبرى) لابن سعد: أن أمامة بنت أبي العاص قالت للمغيرة بن نوفل: إنّ معاوية قد خَطبَني. فقال لها: أتَتزوّجين ابنَ آكلة الأكباد؟! فلو جَعلتِ ذلك إليَّ؟ قالت: نعم. قال: قد تزوّجتكِ. وحكى السيّد الأمين في (أعيان الشيعة) عن الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي زواجَ امامة مِن المغيرة بعد مَقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. هذا .. ولكن قد ذكرَ ابنُ شهر آشوب في كتاب (المناقب) ج 3 ص 305، عن كتاب (قوت القلوب) روايةً تًتنافى مع ماذكره المؤرّخون وهي: أنّ المغيرة بن نوفل خَطبَ أُمامة، فرَوتْ عن علي (عليه السلام) أنّه: لايَجوز لأزواج النبيّ والوصيّ أن يَتزوّجن بغيره بعده». أقول: على فَرض صحّة هذا الخَبَر الأخير وثبوته، فإنّ هناك احتمالات: 1 - عدم صحّة ما قيلَ حول زواجها بعد الإمام (عليه السلام). 2 - عدم صحّة ما قيلَ حول عدم زواجها، وهو الخَبَر الأخير. 3 - الجَمْع بين هذا الخَبَر الاخير وبين الأقوال التاريخيّة: أنّ زواجَها من بعد الوصي كان لِضَرورة التخلّص مِن الموقف المحْرج، وهو الزواج مِن معاوية. والله العالم بحقائق الأُمور. المُحقّق

وبعد سنوات قامَ معاوية بمحاولة أُخرى، فلقد كتَبَ إلى زميله ونَظيره في الدَناءة واللؤم والحقارة والصلافة والوقاحة: مروان بن الحَكَم، ابن الزرقاء الزانية - وكان حاكماً على الحجاز مِن قِبَل معاوية - أن يَخطب أمُّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر - وأُمُّها السيّدة زينب - لِيزيد بن معاوية.

وجاء مروان إلى عبدالله بن جعفر، وأخبَرهُ بذلك.

ومِن الواضح: أنّ عبدالله بن جعفر هو أبو الفَتاة، وله عليها الولاية، وهو يَعلم نَوايا معاوية وهَدَفه مِن هذه المُصاهَرة، ولكنّه

ص: 108

يَعتبر الإمام الحسين (عليه السلام) كبيرَ الأُسرة، وسيّدَ العائلة، وأشرف أفراد العشيرة، فلا ينبغي لعبد الله بن جعفر ان يُنْعم بالقَبول ويوافقَ بدون موافقة الإمام الحسين، فتخلّصَ مِن هذا الطَلب المُحرِج، ومِن هذه الحيلة الشيطانيّة فقال: «إنَّ أمْرَها ليس إليَّ، إنّما هو إلى سيّدنا الحسين، وهو خالُها». فأخبَرَ عبدُالله الإمامَ الحسين بذلك.

فقال الإمام: «أستخيُر اللهَ تعالى، اللّهمّ وَفّقْ لهذه الجارية رِضاكَ مِن آلِ محمد». (1)

فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أقبَل مروان حتّى جلَسَ إلى [جَنب] الحسين (عليه السلام) وعنده مِن الجِلّة. (2)

فقال مروان: إنّ أمير المؤمنين [معاوية] أمَرَني بذلك، وأن

ص: 109


1- أستخيرُ الله: أي أطلبُ مِن الله تعالى الخيرَ والصَلاح في هذا الأمْر. اللّهمّ وَفّقْ: أي: هَيّىءْ، التوفيق: تَهيئة الاسباب. الجارية: الفَتاة. رِضاك : مَن تَرضى به زوجاً لهذه الفتاة. مِن آل محمد: أي ويكون ذلك الزوج مِن اقرباء رسول الله القريبين منه .. لا مِن غيرهم. المُحقّق
2- الجِلّة - مِن القوم - كِبار السِنّ، والشخصيّات البارزة. كما يُستفاد مِن كتاب (لسان العرب) لابن منظور

اجعَلَ مَهْرَها حُكْم أبيها بالغاً ما بَلَغ (1) مع صُلح مابين هذين الحَيِّين (2) مع قضاء دَينه (3). واعلم أنّ مَن يَغْبطكم بيزيد أكثر ممّن يَغبطُه بكم!!

والعجَب كيف يُستَمْهَر يزيد وهو كُفْوُ مَن لا كفْوَ لَه!!

وبوَجْهِهِ يُستَسْقَى الغَمام!!

فرُدَّ خيراً يا أبا عبدالله؟ (4)

أقول: قبلَ أن أذكر تكملة هذا الخَبَر أودّ التعليق على كلمات مروان:

مِن الصحيح أن نقول: إنّ الصلافة والوقاحة لا حَدَّ لهما ولا نهاية، وإنّ دنِاءة النَفْس وخساسة الروح تُسبّب إنقلاب المفاهيم إلى صورة أُخرى.

فالحقير يَنقلب شريفاً، والنَذل يُعتبر مُحترماً، والوجْه الّذي لم يَسجُد لِله يُسْتَسقى به الغَمام، ووليدُ الكفر والفجور يُعْتَبَط

ص: 110


1- أي: وأن أجعلَ مقدارَ المهْر ما يُعيّنه أبو البِنْت وهو عبدالله بن جعفر. مهما كان ذلك المقدار كثيراً
2- الحَيِّين: العشيرتين. الحيّ: القَبيلة
3- أي: دَيْن أبيها عبد الله بن جعفر
4- رُدَّ خيراً: أجِبْ بالإيجاب والموافقة

به، والسافِل المنحَطَ يَصير أرفع و أجَلّ مِن أن يُطالَب بالمَهْر، بل ينبغي أن تُهدي العظماء فَتَياتها إليه هدايا بلا مَهْر!!!

هذا هو منطق مروان، وعصارة دماغه، وكيفيّة تفكيره، ومَدى إدراكه للقِيَم والمفاهيم. وقد تجرّأ أن يَرفع صوته بهذه الأكاذيب التي لا يَجهلها أحَد.. وكانّه لا يَعلم مع مَن يَتكلّم وعمَّن يَتحدَّث ويمدَح؟!

فاجابَه الإمام الحسين (عليه السلام) بجوابٍ القَمَه حَجَراً، وزَيَّفَ اباطيلَه وأضاليلَه، وفَنَّدَ تلك الترّهات التي صَدرتْ مِن أقذر لسان، والعَنِ و أحقَر إنسان.

والآن .. إليك تكملة الخَبَر:

فقال - عليه السلام -: «الحمدُ لِله الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لِدِينه، واصطفانا على خَلْقه .... إلى آخر كلامه».

أُنظرْ إلى قوَّة المنطق، وعُلوّ مستوى النفس، وشِرافة الروح، وقداسة السِيرة، وغير ذلك ممّا يَتجلّى في جواب الإمام الحسين (عليه السلام) لمروان بن الحَكَم .

فهو (عليه السلام) يَفتتح كلامه بحَمْد الله تعالى الذي اصطفاهم واختارهم، وهذا مُنتهى البلاغة والكلام المناسِب لِمُقتضى الحال، فتَراه يُصرِّح أنه مِن الأُسرة التي اختارَهم الله تعالى للإمامة واصطفاهم، ومعنى ذلك توفّر المؤهّلات فيهم،

ص: 111

وتواجُد الفضائل والمزايا والخَصائص التي لا توجد في غيرهم، فهُم في أعلى مستوى مِن الشَرَف، وفي ذروة العظمة المَمْنوحة لهم من الله تعالى، والفرقُ بينهم وبين غيرهم كالفَرق بين الثُريّا والثَرى، والجواهر والحَصى.

إذن، فهناك البون الشاسع بينَهم وبين غيرهم مِن الناس الّذين لم يَتلوّثوا بالجرائم، ولم يُسوّدوا صَحائف اعمالهم بالمخازي، فكيف بمعاوية ويزيد ومروان، والذين هم مِن هذه الفصيلة!

ثم قال الإمام: «يا مروان، قد قلتَ، فسمعْنا،

أمّا قولُك: «مَهْرُها حُكم ابيها بالغاً ما بَلَغ»، فلَعَمْري لو أردْنا ذلك ما عَدَونا (1) سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بناته ونسائه وأهلِ بيته، وهو (2) اثنتا عشرة أُوقية، يكون أربعمائة وثمانين درهماً. (3)

ص: 112


1- عَدَوْنا: تجاوَزْنا. عدا عَدواً: تجاوزَ الحَدّ في الشيء. كما في كتاب (لسان العرب) لابن منظور
2- وهو: أي المهر
3- الدرهم: وحْدة وَزْن، وقطعة مِن فضّة مَضروبة للمعاملة. أمّا الوَزن: فقيل: إنّ الدرهم الواحد يُساوي سنّة دَوانق، والدانق: قيراطان، والقيراط: طسّوجان، والطسوج: حَبّتان، والحَبّة: سُدس ثُمُن درهم، وهو جزء مِن ثمانية واربعين جزءاً مِن الدرهم. المُحقّق

وأمّا قولك: «مع قضاء دَيْن أبيها» فمَتَى كُنَّ نساؤنا يَقضين عنّا دُيونَنا؟!

و أمّا «صُلْح ما بين هذين الحَيّين» فإنّا قومٌ عادَيْناكم في الله، ولم نَكُنْ نصالحكم للدنيا، فلقد اعنى النَسَب، فكيف السَبَب؟

يُريد مروان أن يُصْلح بين الخير والشرّ، وبين الفضائل والرذائل، وبين أولياء الله وأعدائه، بذلك الزواج المقصود.

وكيف يمكن الصُلْح بين هاتين الفِئتين؟!

فهل يَتنازل أولياءُ الله تعالى لأعداء الله، ويَعترفون لهم بقيادتهم المُغتَصَبة، وزعامتهم الملوَّثة، وجرائمهم ومَخازيهم؟؟!!

هل هذا معنى الصُلْح بين الحَيِّين؟!

أو يَجب على المُجرمين - المناوئين لأولياء الله - أن يَتوبوا ويَرتَدعوا عن أعمالهم اللّااسلاميّة، ويَنقادوا لأهل البيت الّذين فرضَ الله تعالى مودّتَهم، وأوجَبَ طاعتَهم وولايتهم؟!

فإن كان المقصود: المعنى الأول، فهو مُستحيل شرعاً وعقلاً.

لأنّ الإعتراف - للمُفسِدين - بالصلاح والتقوى يُعتبر سَحقاً للمفاهيم الإسلاميّة، وإبطالاً للحقّ، وإحقاقاً للباطل، وحاشا أهل بيت رسول الله (عليهم صلوات الله) مِن هذا التنازل المُشِين المُزْري .

ص: 113

وإنْ كان المقصود من الصُلح: المعنى الثاني، فهذا لا يَتوقَّف على المصاهَرة ولا يحتاج إلى هذا الزواج السياسي، فإنْ كان البيت الأُموي يؤمن بالحقِّ في آل رسول الله فليَعْتَرف لَهم بذلك، وليَنسحب مِن ساحة القيادة، وليَنزل عن مَنصّة الحُكم، وعند ذلك يَتحّقق الصلح المَنْشود .. على حَدّ زعمهم.

ولكنّ مروان لايفهم هذه الأمور، أو يَفهم ولكنّه يَجحد بالحقّ وهو مُستيقِن به، وإنّما يُريد أن يُحقّق هدفَه المَيشوم عن طريق المُغالطة في الكلام والتزوير في الحقائق والمفاهيم.

ومِن غَباوته أنه كان يَظنّ أن الإمام الحسين (عليه السلام) يَنخدع بهذه الأساليب المُلْتَوية والخُداع المكشوف.

ثم هَلمَّ معي لِنَنظر إلى البيت العَلَوي النَبَوي الشامخ، والشجرة الطيّبة التي أصلُها ثابت وفَرعُها في السماء، فالقرآن الكريم يُمطِر عليهم وابِلَ المدح والثناء.

بِدْءاً بصاحب الشريعة الإسلاميّة النبيّ الاقدس (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى سيّد العِتْرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى سيّدة نساء العالَمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى سيّدَي شباب أهل الجنّة، رَيحانتي رسول الله: الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) إلى بقيّة الأئمّة الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين).

ص: 114

فهذه آية التطهير، وتلك آية المباهلة، وتلك آية المَودَّة، وتلك سورة هل أتى، وتلك آية التبليغ، وتلك آية «إنّما وليّكم الله... .».

وكلُّها آياتُ تقدير، وباقاتُ تَمجيد، وعلائم وتصريحات بالإشادة بجلالة َقْدرهم وعلوّ شأنهم، مِن صَلاتهم وإنفاقهم وإطعامهم، وجهادهم وإيثارهم، وعِصْمتهم وقداستهم وغير ذلك.

وهذه مئات الآلاف مِن الكُتُب التي تَشهَد بخَصائصهم ومَزاياهم وفضائلهم ومكارمهم ومناقبهم.

إذن، فمِن الطبيعي أن تَحصل العَداوة والخُصومة بين هاتين الطائفتين، فالتناقض موجود دائماً بين الفضائل والرذائل، وبين الخير والشرّ، وبين النور والظلام، فكيف يُمكن الصُلْح بين هذين الحَيّين وهاتين العَشيرتين .. كما زَعَمَه مروان؟!

«فإنّا قوم عادَيناكم في الله، ولم نكن نُصالحكم للدنيا» إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يَكشِف الغِطاء عن أسباب النزاع وموجِبات الخُصومة بين بَني هاشم وبين بَني أُميّة، إذ قد يكون سبب العَداوة - بين فِرْقتين أو عشيرتين - لأجل شيء مادّي، كالمال والرئاسة وما شابَهَ ذلك. وقد يكون سبب العَداوة عقائديّاً ودينيّاً، فكيف يمكن الوِئام والوفاق بين طائفتين هما على طرَفَي نَقيض مِن الناحية العقائديّة؟!

هذا .. و مِن الواضح - تاريخيّاً - أن الطائفة التي بَدأتْ في

ص: 115

إظهار العَداوة وإشعال نار الفِتْنة والتفرقة هم بَنو أُميّة، وعلى رأسهم ابوسفيان .. شيخُ المشركين أوّلاً، ورئيسُ المنافقين آخِراً.

فمَن الذي قادَ جيشَ المشركين مِن مكّة إلى حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يومَ بدر؟!

ومَن الذي قادَ جيشَ المشركين في واقعة أُحُد؟!

ومَن الذي شَقّ بطنَ حمزة سيّد الشهداء وعمّ رسول الله، وأخرجَ قَلْبه وكبِده، وجَدَع أنفَه وأُذنَيه، ومَثَلَ به شَرَّ مُثْلَة؟!

أليسَتْ هي هند زوجة ابي سفيان؟!

ومَن الذي قادَ جيوشَ الاحزاب في غزوة الخندق؟!

ومَن .. ومَن ..؟!

ومَن الذي قال - يومَ بويعَ لِعثمان بن عفّان - : تَلَقَّفوها يا بَني عبد شمس، فوالذي يَحْلِفُ به أبو سفيان: لا جَنّة ولا نار؟!

أليس هو أبا سفيان؟!

ومَن الذي حاربَ الإمام عليّاً (عليه السلام) يومَ صفّين، وأقامَ تلك المَجزرة الرَهيبة التي كادَ ان يَنقطعَ فيها نَسْلُ العَرَب؟!

ومَن الذي سَنَّ لَعْنَ الإمام علي امير المؤمنين (عليه السلام) على المَنابر وفي قُنوت الصلاة، حتّى قال الشاعر:

لَعَنتْه بالشام سبعينَ عاماً *** لَعَنَ اللهُ كهْلَها وفَتاها

ص: 116

أليس هو معاوية؟

نحن لا نُريد أن نَفتَح مَلفّات ابي سفيان وابنه معاوية في هذه السطور، فالحديث عنهما طويلٌ طويل، فهذه مئات الكتُب والمُؤلَّفات .. مِن الصِحاح وغيرها - على مَرّ القرون - تَرفَع السِتار وتكشف الغِطاء والقناع عن هويَّتهما، وتُبيّن سريرتَهما ونَفْسيّتهما، وسَوابِقَهما ولواحِقَهما، وتُعرِّفهما للمَلأ الإسلامي - إذا كان واعياً - وتوضّح مَواقف كلّ واحدٍ منهما تجاه الدين الإسلامي ورجالات المسلمين!! (1)

وأمّا معنى كلام الإمام الحسين - عليه السلام : «فلقد أعيى النَسَب، فكيف بالسبب؟» فإنّ بَني هاشم كانوا هُمُ الصَفوة مِن قريش، وبنو أُميّة كانوا يَدّعون أنّهم مِن قريش (2)، إذن .. فالنَسَب

ص: 117


1- لمِعرفة المَزيد مِن المعلومات حول مَلَف أبي سفيان إقرأ كتاب (الغدير) للمحقّق العظيم الشيخ الاميني، طَبْع بيروت، سنة 1397ه-، الجزء العاشر ، ص 79 - 84 وحول مَلَف معاوية إقرأ الكتاب المذكور، الجزء 10 ص 138 - 384، والجزء 11 ص 3 - 103. المُحقّق
2- هناك نَظريَّةٌ لِبعض الاعلام المُعاصرين، وهي أنّ «أُميَّة» لم يكنْ وَلَداً مِن صُلْب عبْد شَمس، بل كانَ عبداً رُوميّاً .. إشتَراه عبدُ شمس، ومع مُرور الايّام .. إستَلْحَقَه عبدُ شمس، فَنُسِبَ إليه، وكانتْ ظاهرةُ الإستِلْحاق رائجة قَبْلَ الإسلام. وبناءً على هذا الأساس لمْ يكنْ هناك نَسَبٌ حقيقي بين بَني هاشم وبَني أُميّة!! فلا يُعتَبَر بَنُو أُميّة مِن قريش، وإنما هم مُلْحَقُونَ بهم. واستُدلَّ لهذه النظريّة - أو الحقيقة -: أنّ معاوية لمّا كتَبَ إلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في رسالة لَه: «إنّما نحنُ و أنتُم بَنُو عبْد مُناف» كتَبَ الإمامُ (عليه السلام) - في جَوابه - «ليسَ المُهاجِرُ كالطليق، وليسَ الصَريحُ كاللّصيق»!! وقد جاء في مُقدّمة كتاب «مَثالبُ العَرَب» لِهشام بن الكلْبي، المُتوفّى عام 204ه-، الطبعة الأُولى المُحَقَّقة، طبْع ايران عام 1419ه-، ص 27، ما نَصُّه: «كانَ أُميَّة عَبْداً لِعَبْد شمس، وَصَلَ إلى مكّة عَبْر تجارة الرَقيق، فتَبَنّاهُ عبدُ شمس». المُحقّق ولمزيد التفصيل راجِعْ كتابَ «نَهْج البلاغة» المطبوع مع شرح محمّد عبده، طبع مصر، الجزء الثالث، ص 19، کتاب رقم 17 وكتابَ «إلزام النَواصِب» للشيخ البحراني المُتوفّى عام 900 للهجرة

موجود بين هاتين العشيرتين: بَني هاشم وبَني أُميّة، وقد اعيى وعجَزَ هذا النَسَب وهذه القَرابة ان تكون سبباً للصُلح والوِئام بين هاتين العشيرتين، فهل تَنفع المصاهَرة للإصلاح بينهما؟

وأمّا قولُك: «العَجَب لِيزيد كيفَ يُستَمهَر؟»، فقد استُمهرَ (1) مَن هو خير مِن يزيد ومِن أبِ يزيد، وِمن جَدّ يزيد!!

ص: 118


1- إستُمهر: طُلِبَ منه المهر

إنّ مروان لا يَعلم بانّ المَهْر شَرطٌ في الزواج، وان «لازواجَ بلا مَهْر»، بصَرْف النظر عن طرَفي النكاح - وهما: الزوج والزوجة - وشؤونهما، سواءً كان أحد الطرفين وضيعاً أو شريفاً، غنيّاً أو فقيراً.

فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي هو أشرف الكائنات وأفضل المَخلوقين، وسيّد الأنبياء والمُرسَلين - والذي كانت إحدى نَعليه اشرف مِن جميع بَني أُميّة قاطبة - قد أمْهَرَ نساءَه، ولكن مروان يقول: والعَجَب كيف يُطلَب المهر مِن يزيد؟

ويَتجاوز مروان حُدودَ الصلافة والكذب ويقول: «إنّ يزيد كُفْوُ مَن لا كُفوَ له» أي: أنّ يزيد يُعتبر كُفواً ونَظيراً لطائفة خاصّة من الناس، وطَبَقة عالية وراقية مِن المُجتمع، وهم العظماء والاشراف الذين ليس لهم نظير يُماثلهم في الشَرَف ويُساويهم في العظمة، فإنّ يزيد كُفْوهم ونظيرُهم في المجد والشَرَف.

ويُجيبُه الإمام الحسين (عليه السلام): وأمّا قولك: «إن يزيد كُفْوُ مَن لا كُفوَ له» فمَن كان كفْوُه قبلَ اليوم فهو كُفوه اليوم، مازادَتْه إمارتُه في الكفاءة شيئاً.

يقول الإمام (عليه السلام): إنّ يزيد الذي هو حفيدُ أبي سفيان شيخ المنافقين، وحَصيلةُ هند: آكلة الأكباد، وثمرةُ حمامة: ذات العَلَم، وابن معاوية: فرع الشجَرة الملعونة في القرآن، وابن ميسون النصرانية، كلِّ مَن كان كفوه – أي: نظيرُه ومَثيلُه ومُساويه - قبلَ اليوم.. فهو كفوه اليوم أيضاً. إن يزيد هُوَ هُو، لم تَتغيّر ماهيّته،

ص: 119

ولم تَتبدّل هويّتُه، بل حاِضرُه مثْلُ ماضيه، ولاحِقُه مثْلُ سابقِه، والإمارة المُغتَصَبة التي تَقمَّصَها ما زادتْه إلّا زوراً وبُهتاناً.

وأمّا قولُك: «بوَجْهِهِ يُستَسقى الغَمام»، فإنّما كان ذلك بِوَجْه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

أقول: الوَجْه والجاه: القَدْر والمَنزِلة. وقد كان المسلمون - فيما مَضى - إذا قَلّتْ عندهم الأمطار يَخرجون إلى الصحراء لِصلاة الإستسقاء، ويسألون من الله تعالى أن يَسقيهم المطر، ولاشك أنّ الذي يَتقدَّم الناسَ ويدعو الله تعالى ينبغي أن يكون وَجيهاً، بأن يكون له قَدْر ومنزلة عند الله (عزّوجلّ).

ولهذا كان الأنبياءُ يَتقدّمون في صلاة الإستسقاء، ويدعون اللهَ تعالى فيَستَجيبُ لهم، وهكذا نبيُّنا وبعضُ أئمّة اهل البيت (صلواتُ الله عليهم أجمعين) سالوا اللهَ تعالى أن يَسقيهم المطر، فاستجابَ اللهُ دعاءَهم لِمَنزلتهم وقَدْرهم عند الله سبحانه.

وقد قال سيّدنا أبوطالب (عليه السلام) - في شأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم -:

وابيض يُستسقى الغَمامُ بوَجْهه *** ثِمال اليتامى، عصمةً للأرامِلِ (1)

وقد تكرّر مِن رسول الله الإستسقاء، فاستجابَ الله دعاءه

ص: 120


1- المصدر: (مناقب آل أبي طالب) لابن شهر آشوب، ج1 ص 23

وارسلَ غَيثاً مِدراراً، كلّ ذلك كرامةً لِوَجْه رسول الله وجاهه ومَنزلته العظيمة عند الله سبحانه، ولكن مروان يقول: «بوَجْه يزيد يُستَسقى الغَمام!!».

وأنا أقول: نعم، بوَجْهه يُستَسقى الغَمام، لِفُجوره وخُموره، وقماره ومُنكراته، وموبقاته ومَخازيه، وجرائمه ونَسَبه. وبهذه الفضائل!! يُستَسقى بوَجهه الغَمام!!

أليس هكذا؟!

«وأعلم أنّ مَن يَغبطكم بِیَزید اکثر ممّن يَغبط يزيد بكم». يقول هذا الأحمق: إنّ الذين يَتمنّون أن يَخِطب يزيد منهم، أكثر مِن الذين يَتمنّون أن يَخطبوا منكم فَتياتكم!!

إنّ مروان اللعين يُريد أن يقول: إنكم تَزدادون شَرَفاً بهذه المُصاهَرة، وأمّا يزيد فإنّه لا يَزداد شرفاً بها، لأنّه أرفع مَنزلةٌ و أعلى قدراً مِن أن يَتشرّف بهذه المصاهرة.

إقرأ كلامَهُ واضحك!

فأجابه الإمام: وأمّا قولك: «مَن يَغبطنا به اكثر ممّن يَغبطُه بنا، فإنّما يَغْبِطُنا به أهلُ الجهل، ويَغبطُه بنا أهلُ العقل» .

ومعنى كلام الإمام: أن الذين يَجْهلون القِيَم الإنسانية، والمفاهيم الدينيّة هم الذين يَتمنّون أن يَخطب يزيد منهم، لأنهم يَنظرون إلى ما يَتمتّع به يزيد مِن مَتاع الدنيا والرفاه والرخاء.

ص: 121

وأمّا العقلاء، الذين يَفهَمون المَقاييس الأخلاقية، والقِيَم الرُّوحيّة، فهم يتَمنّون أن يَخطبوا مِنّا فَتَياتنا، لأنّنا في اوج العظمة، وذروة الشَرَف، وقمّة الفضائل.

ثم قال الإمام - بعد كلام -: «إشهَدوا جميعاً أنّي قد زَوَّجْتُ أُمَّ كلثوم بنت عبدالله بن جعفر مِن ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر، على أربعمائة وثمانين درهماً، وقد نَحَلتُها ضَيْعَتي (1) بالمدينة (2) وإنّ غَلّتَها في السَنة (3) ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنى إنْ شاء الله».

أقول: قد اشتهر - في ذلك الزمان - كلامُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: «بَناتُنا لبَنينا، وبَنونا لِبَناتنا»، ومَن أولى مِن الإمام الحسين بتطبيق هذا الكلام؟. وقد سَبَقَه إلى ذلك أبوه أميرُالمؤمنين (عليه السلام) حينما زَوّجَ ابنتَه زينبَ الكبرى مِن ابن عمّها عبد الله بن جعفر.

ولهذا بادرَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) إلى تزويج إبنة أُخته مِن ابن عمّها، وقد دَفعَ الصَداق مِن ماله و أمَّنَ حياتَهما

ص: 122


1- نحلتُها: أعطيتُها. ضَيعَتي: مَزْرعتي أو بستاني
2- أو قال: أرضي بالعقيق، والعقيق: إسمُ منطقة في ضواحي المدينة
3- غَلَّتها: وارِدُها. قال الطريحي - في مجمع البحرين -: الغَلّة: الدَخْل الذي يَحصل من الزرع والتمر واللبن والإجارة والبِناء ونحو ذلك، وجمْعُه: الغَلّات

الإقتصاديّة بتلك المزرعة، الكثيرة البركة، التي وهَبَها لها.

فتَغيّر وَجْهُ مروان، وقال: «أعدْراً يا بَني هاشم؟ تأبون إلّا العَداوة؟».

إنّ هذا العدو الغادِر يَنسِبُ الغَدْر والعَداوة إلى آل رسول الله الذين أذهبَ الله عنهم الرجس وطهَّرَهم تطهيراً.

فقال مروان:

أردْنا صِهْركم لِنُجِدّ وُدّاً *** قد اخلَقَهُ به حَدَثُ الزمان

فلمّا جئتُكم فَجَبَهْتُموني *** وبُحتُم بالضمير مِن الشنان

وهنا .. ما أرادَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) أن يَسْتمرَّ في مُحاوَرة ذلك الحَقير، وأنْ يُلقمَ مروانَ الحَجَر اكثر مِن هذا، فتَقدَّم ذكوان (1) واجابَ مروانَ:

اماطَ اللهُ عنهم كلَّ رِجْسٍ *** وطَهّرَهم بذلك في المَثاني

فما لهُمُ سِواهمْ مِن نَظيرٍ *** ولا كفُوْ ٌهناك ولا مُداني

ايجعلُ كلّ جَبَارٍ عَنيدٍ (2) *** إلى الأخيار مِن اهل الجِنان؟ (3)

ص: 123


1- ذكوان: إسم رجل .. كان عبْداً للإمام الحسين (عليه السلام) ثمّ أعتَقَه الإمام. وكان عالماً شاعراً أديباً، جَريئاً على الكلام. المُحقّق
2- وفي نسخةٍ: أتجعل. ولعلّ الصحيح: أيُجعَلُ، أو: أَيَجْعَلُ. المُحقّق
3- المصدر: كتاب المناقب لابن شهر آشوب، ج 4 ص 38 - 39

أقول: لقد رَوى الشيخُ المجلسي (رحمة الله عليه هذا الخَبَر في كتاب (بحار الأنوار) عن بعض الكتُب القديمة، ونَسَبه إلى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) (1). وليس بصحيح، لأن إمارة يزيد كانت بعد مقتل الإمام الحسن (عليه السلام)، وهذه الخِطْبة كانت في أيّام إمارة يزيد وكونه وليّاً للعهد.

ص: 124


1- بحار الأنوار، ج 44 ص 119، باب 21، حدیث 13

الفَصل الخامس

إستعراض موجَز لحياة السيّدة زينب الكبرى

ص: 125

ص: 126

بمقدار ما كانت حياة السيّدة زينب الكبرى عليها السلام مَشفوعة بالقداسة والنزاهة، والعفاف والتقوى، والشَرف والمَجْد، كانت مليئة بالحوادث والمآسي والرزايا، منذ نعومة أظفارها وصِغر سِنّها إلى أواخر حياتها.

فلقد فُجعتْ بجدِّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان لها مِن العُمر - يومذاك - حوالي خمس سنوات، ولكنَّها كانت تُدرك هولَ الفاجعة ومضاعَفاتها.

و مِن ذلك اليوم تَغيَّرتْ مَعالمُ الحياة في بيتها، وخَيَّمت الهُموم والغُموم على أُسرتها، فقد هجَم رجالُ السقيفة على دارها لإخراج أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مِن البيت لأخذ البيعة منه، بعد أن أحرَقوا بابَ الدار وكادوا أن يُحرقوا الدار بمَن فيها.

وقد ذكرنا في كتاب: (فاطمة الزهراء مِن المهد إلى اللحد) شيئاً من تلك المصائب الّتي انصبَّتْ على السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مِن الضرْب المبرّح وإسقاط الجنين، وغير ذلك ممّا

ص: 127

يَطول الكلامُ بذِكْره.

وكانت جميع تلك الحوادث بمرأى مِن السيّدة زينب ومَسْمَع، فلقد سَمعتْ صراخ أُمّها مِن بين الحائط والباب، وشاهَدتْ الاعداء الذين أحاطوا بها يَضربونها بالسوط والسيف المغْمَد، وغير ذلك مّما أدّى إلى إسقاط إبنها المُحْسن، وكسْر الضِلْع، وتورِّم العَضُد الذي بَقيَ أثَرُه إلى آخِر حياتها.

و - بعد شهور - فُجعَت السيّدة زينب بوفاة أُمّها (سلام الله عليها) وهي في رَيَعان شبابها، لأنَّها لم تَبلُغ العشرين مِن العُمر، وُدفنتْ ليلاً وسِرّاً، في جوٍّ مِن الكتمان، وعُفّي موضعُ قَبرها إلى هذا اليوم.

ومنذ ذلك الوقت كانت السيّدة زينب ترى أباها أمير المؤمنين (عليه السلام) جليسَ الدار، مَسلوبَ الإمكانيّات، مَدفوعاً عن حقّه، صابراً على طول المُدَّة وشِدَّة المِحْنة .

وبعد خمس وعشرين سنة - وبعد مقتل عثمان - أكرهوه أن يوافق على بيعة الناس له، فبايعوه بالطوع والرغبة، وبلا إجبار أو إكراه من أحد، وكان أوّل من بايعه : طلحة والزبير، وكانا أوّلَ مَن نكت البيعة ونقصّ العَهْد والتحقا في مكة بعائشة ، وخرجوا طالبين بدم عثمان، وقادا الناكثين (لِلبَيْعة) مِن المناوئين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقصَدا البصرة وأقاما مَجزرةً رهيبة - في واقعة الجَمَل المعروفة - وكانت حصيلتُها خمسة وعشرين الف قتيل.

ص: 128

وبعد فترة قصيرة أقامَ معاوية واقعة صفّين، وقادَ القاسطين، واشتدَّ القتال وكادَ نَسلُ العَرَب أن يَنقطع مِن كثرة القتلى، وتوقَّف القتال لاسباب معروفة مُفصَّلة.

ثمّ أعقَبتْها واقعةُ النهروان التي قُتلَ فيها أربعة آلاف.

وتُعتبر هذه الحروب مِن أهمّ الإضطرابات الداخليّة في أيّام خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

وانتهت تلك الأيام المؤلمة بشهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومَقْتلَه على يد عبدالرحمن ابن ُملْجَم!

ولمّا قام أخوها: الإمامُ الحسن المجتبى (عليه السلام) بأعباء الإمامة تَخاذلَ بعض ُأصحابه في حربه مع معاوية، وصدرتْ منهم الخيانة العظمى التي بقيتْ وَصْمة عارها إلى هذا اليوم، فاضطرّ الإمام الحسن (عليه السلام) إلى إيقاف القتال حِقْناً لِدِماء مَن بَقِيَ مِن أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وخَلا الجوّ لمعاوية بن ابي سفيان وعُمَلائه، وظهرَ منهم أشدّ أنواع العِداء المكشوف للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسَنَّ معاوية لَعْنَ الإمام على المنابر في البلاد الإسلاميّة، وأمرَ باختلاق الأحاديث في ذمّ الإمام والمَسّ بكرامته.

كلُّ ذلك بمرأى مِن السيّدة زينب ومَسمَع.

وطالتْ مُدَّة الإضطهاد عشر سنين، وانتهتْ إلى دَسّ السُمّ إلى

ص: 129

الإمام الحسن (عليه السلام) بمَكيدة مِن معاوية، وقضى الإمامُ نحْبه مَسموماً، ورَشَقوا جنازته بالسهام حتى لا يُدفَن عند قبر جدِّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. (1)

وهكذا امتدَّتْ سنواتُ الكْبت والضغط، وبلغَ الظُلم الأُموي القمّة، وتجاوز حدودَ القساوة، وانصبَّت المصائب على الشيعة في كلّ مكان، بكيفيّة لامثيلَ لها في التاريخ الإسلامي يومذاك، مِن قَطْع الأيدي والأرجل، وسَمل العيون، وصَلْب الأجساد، وامثال ذلك من الأعمال الوحشيَّة البَربريّة! (2)

وعاصَرَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) تلك السنوات السُود التي انتهتْ بموت معاوية واستيلاء إبنه يزيد على منصّة الحكم.

هذه عُصارة الخُلاصة للجانب المأساوي في حياة السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) المَليىء بالكوارث والحوادث، طيلةَ نيّف وأربعين سنة مِن عمْرها .

وأعظم حادثة، وأهمّ فاجعة حَدَثتْ في حياة السيّدة زينب هي فاجعة كربلاء التي أنسَتْ ما قبلَها مِن الرزايا، وهَوَّنتْ ما بعدَها مِن الحوادث والفجائع.

ص: 130


1- کتاب المناقب، لابن شهر آشوب ج 4، ص 42 و 44
2- کتاب سُليم بن قيس الهلالي، طبْع بيروت، مؤسّسة البعثة، ص 165 - 166

الفَصل السادس

إشارة

* السيّدة زينب وفاجعة كربلاء

* مَجيء إبن زياد إلى الكوفة

* يوم التَروية

* الإمامُ الحسين يَصطَحب العائلة

* الإمام الحسين في طريق الكوفة

ص: 131

ص: 132

السيّدة زينب وفاجِعة كربلاء

لابدّ مِن أن نَبدأ مِن أوائل الواقعة، مع رعاية الإختصار، ليكون القارىء على بَصيرةٍ أكثر مِن الأمر:

ماتَ معاوية بن أبي سفيان في النصف مِن شهر رجب، سنة 60 مِن الهجرة، وجلَسَ إبنُه يزيد على مَنصّة الحُكم، وكَتبَ إلى الوُلاة في البلاد الإسلامية (1) يُخبرهم بموت معاوية، ويَطلب منهم أخْذ البيعة له مِن الناس.

وكتَبَ إلى والي المدينة كتاباً يأمره بأخْذ البيعة له مِن أهل المدينة بصورة عامّة، ومِن الإمام الحسين (عليه السلام) بصورة خاصّة، وإنْ امتَنعَ الإمام عن البيعة يَلزم قَتْله، وعلى الوالي تنفيذ الحُكم.

واستطاع الإمام الحسين أنْ يَتخلَّص مِن شرّ تلك البيعة،

ص: 133


1- الوُلاة - جَمْع والي: وهو حاكم البَلَد، ويُعبَّر عنه - حالياً - بالمحافظ

وخَرَج إلى مكّة في أواخر شهر رجب، وانتَشرَ الخَبَر في المدينة المنوَّرة أنّ الإمام امتنع عن البيعة ليزيد. وانتشر الخَبر - أيضاً - في مكّة، ووَصلَ الخبر إلى الكوفة والبصرة.

وكانت رِحْلة الإمام الحسين إلى مكّة بداية نهضته (عليه السلام)، وإعلاناً وإعلاماً صريحاً بعَدَم اعترافه بشرعيّة خلافة یزید، واغتصاب ذلك المنصب الخطير.

وهكذا استَنكفَ المسلمون أن يَدخلوا تحتَ قيادة رجلٍ فاسد فاسق، مُستَهتر مُفتَضحَ، مُتجاهِر بالمنكرات.

فجعلَ أهلُ العراق يُكاتبون الإمامَ الحسين (عليه السلام) ويَطلبون منه التوجّه إلى العراق لِيُنقذهم مِن ذلك النظام الفاسد، الذي غيّرَ سيماء الخلافة الإسلاميّة بابشَع صورة واقبح كيفيّة!

كانت الرُّسُل والمراسَلات مُتواصِلة بين الكوفة ومكّة، ويَزداد الناسُ إصراراً وإلحاحاً على الإمام الحسين أن يُلبّي طَلبَهم، لأنّه الخليفة الشرعي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المَنصوص عليه بالخلافة مِن جَدّه الرسول الكريم.

فارسلَ الإمام الحسين (عليه السلام) إبنَ عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، والتفَّ الناسُ حول مسلم، وبايعوه لأنَّه سفيرُ الإمام ومَبعوثه، وبلَغَ عدد الذين بايعوه ثمانية عشر ألفاً، وقيل: أكثر مِن

ص: 134

ذلك. فكتبَ مسلم إلى الإمام يُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه، والترحيب به ونُصرته - كما فَهمَه مسلم مِن ظواهر الأُمور -.

وقرَّرَ الإمام أن يَخرج مِن مكّة نحو العراق مع عائلته المَصونة وإخوته وأخَواته، وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه وغيرهم.

وخاصّةً بَعدما عَلِمَ بانّ يزيد قد بَعثَ عِصابةً مُسلّحة، مؤلَّفَة مِن ثلاثين رجل، وأمرَهم بقَتْل الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة أينما وَجَدوه.. حتّى لو كانَ مُتعلّقاً باستار الكعبة!

ص: 135

ص: 136

مَجيء ابن زياد إلى الكوفة

وجاء عبيدُ الله بن زياد ابن أبيه مِن البصرة إلى الكوفة والياً عليها مِن قِبَل يزيد بن معاوية، وجعَلَ يُهدِّد الناسَ بجيش مَوهوم، قادِم مِن الشام .

واجتمع حولهَ الذين كانوا لا يَتعاطفون مع الإمام الحسين، وجعل ابن زياد يُفرّق الناسَ عن مسلم بالتهديد والتطميع، فانفَرَج الناسُ عن مسلم، وتفرَّقوا عنه.

وفي اليوم الذي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) مِن مكّة نحو العراق كانت الأُمور مُنقلبة ضدّ مسلم في الكوفة، وأخيراً أُلقىَ عليه القبض وقُتل (رضوان الله عليه).

وفي أثناء الطريق بَلَغَ خَبرُ شهادة مسلم إلى الإمام الحسين، فكانت صدمة على قلبه الشريف.

ولا نَعلم - بالضبط - هل رافقت السيّدة زينب الكبرى عائلةً

ص: 137

أخيها مِن المدينة؟ أم أنّها التَحقتْ به بعد ذلك؟

وخَفيتْ علينا كيفيّة خروجها مِن المدينة المنوّرة إلى مكة، ولكنّنا نَعلم أنها كانت مع عائلة أخيها حين الخروج مِن مكّة، وفي أثناء الطريق نحو الكوفة، وعاشت أحداثَ الطريق مِن لقاء الحرّ بن يزيد الرياحي بالإمام، ومُحاولته إلقاء القبض على الإمام في اثناء الطريق وتسليمه إلى عبيد الله بن زياد.

وإلى أن وَصَلوا إلى كربلاء في اليوم الثاني مِن المحرّم، ونزَلَ الإمام ومَن معه، ونَصَبوا الخيام ينتظرون المُقدّرات والحوادث.

ص: 138

يومُ التَرْوية

يوم التَرْوية: هو اليوم الثامن منِ شهر ذي الحِجَّة (1)، وهو اليوم الذي يَزدحم فيه الحُجّاج في بلَدة مكّة المكرَّمة، فالقوافل تَدخل مكّة مِن جميع أبوابها.

وطائفة مِن الحُجّاج يَخرجون في هذا اليوم إلى منى ويَبيتون فيها ليلةً واحدة، فإذا أصبحَ الصَباح مِن يوم عَرفة - وهو اليوم التاسع - يَخرجون إلى أرض عَرَفات.

وبعضُهم يَبقى في مكّة حتّى يوم عرفة، ثمّ يَخرج إلى عرفات، إستعداداً لأداء مناسك الحَجّ.

ص: 139


1- التَروية: رَوَى تَرويةٌ: تَزوّد بالماء. وقد جاء في الحديث أنّه سُئلَ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن سبَب تسمية اليوم الثامن بيوم التروية؟ فقال: «لأنّه لم يكن بعَرَفات ماء وكانوا يَستقون مِن مكّة من الماء لِرَيِهم، وكان يقول بعضُهم لبعض: تروَيتُم .. تروَيتُم ؟؟ فسُمّيَ يوم التروية لذلك». رَواه الشيخ الصدوق في كتاب «عِلَل الشرائع» ج 2 ص 141، باب 171

في هذا اليوم الذي كانت مكّة تموج بالحجّاج، خرج الإمام الحسين (عليه السلام) مِن مكّة، بِجميع مَن معه مِن الأهل والأولاد والأصحاب.

إذن، فمِن الطبيعي ان تكون مغادَرة الإمام الحسين مِن مكّة - في هذا اليوم - تَجلب إنتباهَ الحُجّاج، وتَدعو للتساؤل، وخاصّةً بعد أنْ عَلموا بأنّ الإمام مَكثَ في مكّة .. طيلةَ أربعة أشهر، فما الّذي دَعاه أن يُغادِرَ مكَّة في هذا اليوم الذي يقصد الحُجّاج مكّة لأداء مناسك الحج؟!

وما المانع مِن أن يَبقى الإمام أيّاماً قلائل لإتمام حَجّه، ثم مُغادرة مكّة؟

والإمام الحسين (عليه السلام) أولى مِن غيره بأداء الحجّ ورعاية هذه الأُمور!

فلا عَجَب إذا تَقدّم إليه بعضُ الناس يَعترضون عليه ويسالونه عن سَبَب خروجه مِن مكّة في هذا اليوم، فكان الإمامُ يُجيبُ كلَّ واحدٍ منهم بما يُناسب مستواه الفِكْري والعَقلي.

إنّ هناك دواعٍ ودوافعَ واسباباً كثيرة اجتمعتْ، وفَرضتْ على الإمام أنْ يَخرج مِن مكّة في ذلك اليوم، ونسال الله تعالى أن يوَفَقنا لذِكْر بعضها في كتاب (الإمام الحسين مِن المهد إلى اللحد) إْن شاء الله تعالى.

ص: 140

ومِن جملة الذين تَقدّموا إلى الإمام وسألوه عن سَبَب خروجه هو عبد الله بن جعفر زوج السيّدة زينب الكبرى.

فإنّه حاوَلَ - حسب تفكيره - أن يَردَّ الإمام عن مُغادرة مكّة نحو العراق، ولكنّ الإمام قال له: «إنّي رايتُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام، وأمَرَني بما أنا ماضٍ له».

فقال له: فما تلكَ الرؤيا؟

قال: «ما حَدَّثْتُ أحَداً بها، ولا أنا مُحدّثٌ بها حتّى ألقى ربّي» (1).

فلمّا يَئسَ منه عبدُ الله بن جعفر أمَرَ إبنَيه عوناً ومحمّداً بِمُرافَقَة الإمام، والمَسير مَعه، والجهاد دونه. (2)

وفي كتاب «المُنْتَخَب» للطُريحي أنّ محمّد بن الحنفيّة لمّا بلَغَه الخبر أنّ أخاه الإمام الحسين خارج مِن مكّة إلى العراق، جاءَه وأخَذَ بزمام ناقته وقد ركبَها، وقال له:

يا أخي! ألم تَعِدْنى النَظَر فيما سالتُك؟

قال: بلى.

ص: 141


1- كتاب الإرشاد للشيخ المفيد، ص 219 فصل «خروج الإمام الحسين من مّكة»، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 44 ص 366، باب 37
2- نَفْس المصدر

قال: فما حمَلَك على الخروج عاجلاً؟

فقال: قد أتاني رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعدما فارقتُك وقال:

«يا حسين أُخرجْ إلى العراق فإنّ الله شاءَ أنْ يَراكَ قَتِيلاً مُخضّباً بدمائك».

فقال محمّد: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فإذا علمتَ أنّك مقتول فما معنى حَمْلك هؤلاء النساء معَك؟

فقال: لقد قال لي جدّي:

«إنّ الله قد شاء أن يَراهُنّ سَبايا، وهُنَّ أيضاً لا يُفارقْنَني مادُمْتُ حَيّا (1)». (2)

ص: 142


1- المُنْتخَب للطُريحي المُتوفّى عام 1085ه-، ج 2 ص 424 المجلس ج2 التاسع، ورُويَ هذا الخَبَر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب بحارالأنوار للمجلسي ج 44 ص 364 باب 37
2- هناك فَرْقُ بينَ كلمة «شاءَ» وكلمة «أرادَ» ، فكلمةُ «شاءَ» تُستَعملَ - اساساً - في مَوارد مُعيّنة، وتَدُلُّ على مَعنىٌ قَريبٍ مِن معنى «أرادَ». ولكن تَختلف المَوارد حَسَب الحالات المُختلفة للإستعمال. بعد هذا التمهيد نَقول: إنّ تأثير الإنسان في فِعْل الغَير هو على نَوعين: النوع الأول: المَوارد الّتي تُسْلَب فيها مَسؤوليّةُ وقوعِ الفِعْل عن ذلك الفاعِل المُباشِر للفِعْل .. لانَّ ذلك الفِعْل حَصَلَ ووَقَعَ مِن غير إرادةٍ منْه. مِثالُ ذلك: أنْ يُربِّط «زيدٌ» «عمرواً» ثم يرميه على رقبة «خالد» فَيَكْسِرَها. فَنُلاحِظ في هذا المثال أنّ الكاسِر المُباشِر لِرَقَبة خالد هو عمرو، ولكنَّه غير مَسْؤول عن ذلك الكَسْر، لأنّه كان بِمَنزلَة الأداة فقط .. لا اكثر! بل المسؤول: هو «زيد» الّذي قامَ برَبْط (عمرو) والقاهُ على رَقَبة خالد. وهذا النوع مِن التأثير هو الّذي يُعبّر عنه ب- «الإرادة»، لانّ «زید» أرادَ كسْرَ رَقَبَة خالد .. بهذه الكيفيّة. النوع الثاني: الَموارد الّتي لا تُسْلَبُ مَسؤوليّةُ وقوعُ الفِعْل عن ذلك الفاعِل المُباشِر للفِعْل. مثالُ ذلك: أن يُعطي «زيد» قِنّينَة حَمْرٍ بِيَد خالد، ويَقولُ له: إذهَبْ بهذه القِنّينَة إلى المَزْبَلة وفَرّغْها هناك، ثمّ إغسِلُ القِنِّينَة جيّداً وجِئْني بها، واعلَمْ - يا خالد - أنَّ السائل الموجود في القِنّينة هو خَمرٌ مُحَرَّم .. وليسَ عصير فَواكه، فاحدَرْ مِن أنْ تَشْرَبَه! فيَذهَبُ خالد بالقِنّينَة إلى مكانٍ لا يَراه أحَد ويَشربُ السائل بَدَلاً مِن أنْ يُريقَه في المَزْبلَة، مِن دون أنْ يُبالي إلى نَصيحة «زيد» - الّذي يَعْلَم صِدْقَ كلامه -، ثمّ يَغْسِلُ خالد فَمَه ويَغْسِلُ القِنّينَة، ويَرجع بها إلى «زيد». وهُنا - يا تُرى - هل المَسْؤول عن شُرب الخَمر هو «زيد» ام خالد؟! الجواب: مِن الثابِت أنَّ المَسْؤول هو «خالد» وإنْ كان «زيد» مُؤثّراً في فِعْل «خالد». حيث إنَّه كان يَعلَمُ - مُسْبَقاً - بأنّ خالداً سَوفَ يَشربُ الخَمر، لِعَدَم إلتزامه بالدين، ولكنّ زيد قَدّم له النَصائح الكافية والتَحْذير اللازم، والإرشادات المُقْنِعة بأضرار شُرْبِ الخَمر ومُضاعَفات ذلك. وفي هذا النوع الثاني .. يُعَبَّر عن هذا التاثير ب- «المَشيئة» ويُعبّر عن نِيّة «زيد» ب- «شاء». وقد جاء - في القرآن الكريم - نِسْبَة «المَشِيئة» إلى الله سُبحانه، مِثْل قوله تعالى «يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء» (سورة النحل، الآية 93) أي: يُؤثّرُ في إضلال بعض الناس، ولكن .. لا بكيفيّة تُسْلَبُ عنْهم المَسؤوليّة، بل بِجَعْلهم مُخَيّرينَ في إنتخاب الهُدى أو الضَلال. ولِذلك تَجِدُ أنّ المسلمينَ جميعاً يُكرِّرونَ - في صَلَواتهم - جُمْلَة «بِحَوْلِ اللهِ وقُوَّته أقومُ وأقعُد» عند القيام مِن السجود الثاني أو التَشهّد الأول. وهذا يوضِّح المعنى، فأنا (الإنسان) أقومُ وأقعدُ .. ولكن بفَضْل القُوّة الإلهيّة اّلتي جَعَلَها في جِسْم البَشَر جميعاً. ولو أرادَ الله أن يَقْطع هذه القوّة لَفَعَلَ ولَتَحَقَّق ذلك، ولكنّه شاءَ أن تَبقى هذه القوّة مَوجودة إلى أجَلٍ مُعَيَّن. ولمَزيدٍ مِن التَوضيح .. نَذْكُر هذا المثال الثالث: قال الله تعالى - في القرآن الكريم - : «ولو شاءَ الله ما اقتَتَلَ الّذين مِنْ بَعْدِهِم - مِن بَعْد ما جاءتْهُمُ البَيِّنات - ولكن اختَلفوا فمِنْهم مَنْ آمَنَ ومِنْهُمْ مَن كفَر، ولو شاءَ الله ما اقتَتَلوا، ولكنّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُريد» (سورة البقرة، الآية 253). وهنا سؤال قد يتَبادر إلى بعض الأذهان: وهو أنّ قولَه تعالى: «ولو شاءَ الله ما اقتَتَلوا» يَدلّ على أنّ الإنسان مُسَيّر لا مُخَيّر، لأنّ في الآية تاكيدٌ لِنِسْبَة الإقتتال إلى مَشيئته سُبحانه؟ ونُجيب عن هذا السؤال ب-: أولاً: قُلْ لِلّذي يَدّعي في العِلْم فَلْسَفَةً *** حَفِظْتَ شَيئاً وغابَتْ عنْك أشياءُ فإنّ اللازم أن يَصرفَ الإنسانُ وَقْتاً كافياً لِمَعرفة القَضايا العَقائدية الّتي يَحتاج فَهْمُها إلى مَزيدٍ مِن الانتباه والدِقّة. ثانياً: إنّ الله (سُبحانه) مَنَحَ القُدْرة لِجميع الناس، وبَيَّن لَهُم طريقَ الخَير والشَرّ، والفَضيلة والرذيلة، ونَهاهُمْ عن الشَرِّ والرذيلة، ولكن لم يكن نَهْيُه من نوع أنّه يُشِلُ أعضاءَهم إذا، أرادوا الحرام، فإذا فَعَل العَبْدُ حَراماً، يكون هو المَسؤول الأول والأخير عن ارتكابه للحرام، ولذلك فهو يَسْتَحقُّ العُقوبة، لكن يَجوزُ - مِن باب المَجاز - نِسْبةَ ذلك الفِعْل إلى الّذي أعطى القُوّة لِجميع الخَلْق، وأرادَ أنْ يَخلُق خَلْقاً مِنْ نَوْعٍ مُعَيَّن إِسْمُهُ «البَشَر»، يكونُ مُخَيَّراً في اعماله .. لا مُسَيّراً كبعض المَخْلوقات الأُخرى، مِثْل الجمادات. وهنا مُلاحظة أخيرة نَذْكرُها وهي أنّه - رَغم وجود مَوارد مُعيَّنَة لإستعمال كلِّ واحدةٍ مِن هاتين الكلمتين - إلّا أنّ في اللغة العربيّة - بما في ذلك القرآن الكريم - ، تُستَعْمَلُ كلُّ واحِدةٍ مِن هاتين الكلمتين: «شاءَ» و «أرادَ» .. في مَوارد ومَجالات الكلمة الأُخرى - أحياناً، أو غالباً -، وهذا أمْر شائع وثابِت. والجَديرُ بالذِكْر: أنّنا نَجِدُ - في الآية التي ذكرْناها في المِثال الثالث - أنّ كلمة «شاءَ» جاءتْ أوّلاً وأُريدَ مِنْها مَعنى «المَشِيئة»، ثمّ في نَفْس الآية جاءتْ كلمة «شاءَ» وأُريدَ مِنْها مَعنى «أراد»، ممّا يَدلّ على أنّ كلّ واحِدةٍ مِن هاتين الكلمتين - «شاءَ» و«أرادَ» - تُسْتَعمَل مَكان المَعنى الآخَر، ولكنّ وجود الفَرْق بين المَعْنَيّين ثابتٌ وصحيح ودَقيق. ونَذكُر - هنا - هذا الحديث ونَترك فَهُمَهُ للأذكياء مِن القُرّاء الكرام: لقد رُوي َعن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) - في حَديثٍ طويل - : «... . إنّ لِله إرادَتَين ومَشيئَتَيْن: إرادةُ حَتْم وإرادةُ عَزْم، يَنهى وهو يَشاء، ويأمرُ وهو لا يَشاء، أوَ ما رأيتَ أنّه نَهى آدمَ وزوجتَه عنْ أنْ ياكلا مِن الشَجَرة، وهو شاءَ ذلك، ولو لم يَشأ لم يأكلا، ... وامَرَ إبراهيمَ بِذَبْح إسماعيل، وشاءَ انْ لا يَذبَحَه ...» المصدر: كتاب «التوحيد» للشيخ الصدوق، ص 64. وهُنا سؤال أخير: وهو: لماذا اعطى الله تعالى القُدْرة لِعِباده على الشرّ والإنحراف، مع إمكانه تعالى أنْ لا يُعطيهم ذلك؟ الجواب: لقد أرادَ الله تعالى أنْ يَخْلُق فَصيلةٌ مُعَيَّنَةٌ مِن الخَلْق - تَمتازُ عن غيرها مِن المخلوقات -، تكونُ لَهُم القُدْرة والإختيار على افعال الخير وافعال الشرّ، وبَيّنَ لهم النَصائح الكافية، على لسان الانبياء وفي الكُتُب السماويّة. ولو كانَ الله سبحانه يُجْبرُ الخَلْق على الخير وترك الشرّ .. لم يُكْن للإنسان فَضْلٌ على غيره مِن المخلوقات! وعِلْمُ الله تعالى بِما سَيَفْعَلُه كلُّ واحدٍ مِن البَشَر .. لا يُنافي إعطائه الإختيار الكامِل لِهذا النَوع مِن المخلوقات. وبعد كلّ هذا التَفْصيل، نَقول: إنّ الله تعالى ما أرادَ أنْ يَرى الإمام الحسين (عليه السلام) قَتيلاً (أي: مَقْتولاً) ولكنّه شاءَ ذلك، ونَفْسُ هذا المَعنى ياتي بالنِسْبَة إِلى مَأساة سَبْي النِساء الطاهرات. إذ مِن الواضح أنَّ الله ُسبحانه الّذي اختارَ الإمامَ الحسين (عليه السلام) مِصْباحاً ومَناراً لِهِدايَة الأُمّة الإسلاميّة. لايُريدُ كَسّر هذا المِصباح وحِرْمانَ الأُمة مِن بَركات وجوده عليه السلام، ولكنّه كانَ يَعْلَم بأنّ أهل الكوفة سوف يَغْدرون به ويَقتلونَه. وبِتَعْبيرٍ أوضَح نَقول: لقد كانَ المُخَطَّط الإلهي العام يَطلُبُ مِن الإمام الحسين (عليه السلام) أنْ يَخرِجَ نحو العِراق، مُلبّياً بِذلك رَسائلَ أهلِ الكوفة، والّتي بَلغَتْ أكثرَ مِن إثني عَشَر ألف رسالة - وكانتْ أكثرُها جَماعِيَّة، أي: رسالة واحدة عن لسان 40 رَجل، تَحمِلُ تَوقيعاتهم واسماءَهم - كلُّ ذلك .. «إتماماً للحُجَّة» على أهل الكوفة، ولِئَلاً يكونَ للناس على الله حُجَّةٌ - في يوم القيامة - بَعْدَ وصولِ الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ضَواحي الكوفة، وتَلْبيَتِه لِرَسائلهم الكثيرة. وكان الله تعالى يَعْلَم أَنَّ ثَمَن تلْبية دَعْوة وطلب هذا العَدَد الكثير مِن البَشَر .. سوفَ يكونُ غالياً جِدّاً وجِدّاً، وهو قَتْل الإمام الحسين (عليه السلام) وسَبْي نِسائه الطاهِرات، بَعْدَ حُصول الغَدْر الفَطيع مِن أكثر أهل الكوفة!! إلّا أنَّ قانونَ «إتْمام الحُجَّة» كانَ يتَطلَّبُ ذلك. هذه سُنَّةُ الله في الخَلْق، وعادَتُهُ مع جميع الأُمَم والخلائق. أنَّه يُوفِّرُ ويُمَهَدُ لَهُم وَسائل الهِداية، ويُبْقيهِمْ على حالة الإختيار في إنتخاب المَصير، وعلى طبائع الّذين يَرفُضون طريقَ الهداية، ويَتَجاوبونَ مَعَ ما تُمْلِيهِ عليه نَفْسياتُهم البَعيدة عن الفَضائل، ويَختارونَ العاقِبة السَيّئة والمَصير الأسود. وبالتالي .. يَجْزي الله المُطيعين له، ويُعاقِبُ العاصين أوامره. ويَمْنَحُ الدَرجات العالية - في الجنَّة - لِعَظيم اوليائه: سيّدِ الشُهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ويُعوّضُ نِساءَه بانواع النِعَم والكرامة، إزاء ما تَحمّلْنَهُ مِن المصائب .. بصَبْر جميل، ودونَ أيّ إنتقادٍ لِلمُقدّرات الإلهيّة. هذا .. والتَفْصيل الأكثر يَحتاج إلى دِراسة مُسْتَقلَّة. المُحقّق

ص: 143

ص: 144

ص: 145

ص: 146

ص: 147

ص: 148

ص: 149

ص: 150

الإمامُ الحسين يَصْطحِبُ العائلة

لقد عرفنا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يَعلَم - بِعلْم الإمامة - بأنّه سيَفوز بالشهادة في أرض كربلاء، وكان يَعلم تفاصيل تلك الفاجعة وأبعادها.

ولعلّ بعض السُذَّج مِن الناس كان يَعتبرُ اصطحابَ الإمام الحسين عائلتَه المكرّمة إلى كربلاء مُنافياً للحِكْمة، لأنّ معنى ذلك تَعريض العائلة للإهانة والمكاره، وأنواع الاستخفاف.

وما كانَ أُولئك الناس يَعلمون بأن اصطحابَ الإمام الحسين (عليه السلام) عائلتَه المَصونة - وعلى رأسهن السيّدة زينب - كان مِن أوجَب لوازم نجاح نهضته المباركة.

إذ لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت نهضة الإمام ناقصة، غير مُتكاملة الاجزاء والأطراف.

فإنَّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت تَتحاشى - بعد إرتكاب

ص: 151

جريمة قتْل الإمام الحسين - أن تُعلن بَراءتها مِن دم الإمام، بل وتُنكر مقتلَ الإمام نهائيّاً، وتَنْشر في الأوساط الإسلاميّة أنّ الإمام توفّي على اثَر السَكتة القلْبيّة، مثلاً!!

وليسَ في هذا الكلام شيء مِن المبالَغة، ففي هذه السنة - بالذات - إنتشرتْ في بعض البلاد العربيّة مجموعة مِن الكُتب الضالّة التائهة، باقلام عُمَلاء مُستاجَ، مِن بَهائم الهند، وكلاب باکستان، وخَنازير نَجْد.

ومِن جملة تلك الأباطيل التي سَوّدوا بها تلك الصفحات، هي إنكار شهادة الإمام الحسين، وأن تلك الواقعة لا أصْلَ لها أبداً.

ولا أُجيبُ - على ما ذكرَه أُولئك الكُتّاب العُمَلاء - سوى بقول الشاعر:

مِن أين تَخجَلُ أوجُهٌ أمويّة *** سَكبَتْ بِلذّات الفجور حَياءها؟

فهذه الفاجعة قد مرَّت عليها حَوالي أربعة عشر قرناً، وقد ذكرَها الألُوف مِن المؤرخين والمُحدّثين، واطّلع عليها القريب والبعيد، والعالم والجاهل، بل وغير المسلمين أيضاً لم يَتجاهلوا هذه الفاجعة المُروّعة.

وتُقام مجالس العزاء في ذكرى إستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في عشَرات الآلاف مِن البلاد، في جميع القارّات، حتّى صارت هذه الفاجعة أظهر مِن الشمس، وصارت كالقضايا البديهيّة

ص: 152

التي لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها، بسبب شُهرتها في العالَم.

وإذا بأفراد قد تَجاوَزوا حدودَ الوقاحة، وضَرَبوا الرقم القياسي في صِلافة الوجه وانعدام الحياء، ياتون ويُنكرون هذه الواقعة كُلّياً.

ولقد رأيتُ بعضَ مَن يَدور في فَلَك الطواغيت، ويَجلس على مَوائدهم، ويَملأ بطنَه مِن خَبائثهم انكرَ واقعةَ الجَمَل وحرَب البصرة نهائيّاً، تَحفّظاً على كرامة إمراة خَرجتْ تَقودُ جيشاً لِمُحاربة إمام زَمانها، وأقامتْ تلك المجزَرة الرهيبة في البصرة، التي كانت ضَحِيَّتُها خمسة وعشرين الف قتيل.

هذه مُحاولات جهنّمية، شيطانيّة، يَقوم بها هؤلاء الشَواذ، وهم يَظنّون أنّهم يَستطيعون تغطية الشمس كي لا يَراها أحَد، ويُريدون أنْ يطفوا نورَ الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أنْ يُتِمَّ نوره.

وهذه النشاطات المَسْعورة، إنْ دلّت على شيء فإنّما تَدلّ على هويّة هؤلاء الكُتّاب وماهيّتهم، وحتّى يَعرف العالَم كلّه أنّ هؤلاء فاقِدون للشَرَف والضمير - بجميع معنى الكلمة - ولا يَعتقدون بدينٍ من الأديان، ولا بِمَبدأ مِن المَبادىء، سوى المادّة التي هي الكُلِّ في الكُلّ عندهم!!

أعود إلى حديثي عن إصطحاب الإمام الحسين (عليه السلام) عائلته المُكرَّمة في تلك النهضة:

إنّ تواجد العائلة في كربلاء، وفي حوادث عاشوراء بالذات

ص: 153

لم يُبقِ مَجالاً للأمويّين ولا لغيرهم - في تلك العصور - لإنكار شهادة الإمام الحسين.

إنّ الأمويّين الاغبياء، لو كانوا يَفهَمون لاكتَفوا بقتْل الإمام الحسين فقط، ولم يُضيفوا إلى جرائمهم جرائم أُخرى، مِثْل سَبْي عائلة الإمام الحسين (عليه السلام)، ومُخدّرات الرسالة، وعقائل النبوّة والوحي، وبنات سيّد الأنبياء والمرسَلين.

ولكنّهم لكي يُعلنوا إنتصاراتهم في قَتْل آل رسول الله (عليهم السلام) أخذوا العائلة المكرّمة سَبايا مِن بَلَد إلى بَلَد.

وكانت العائلة لا تَدخل إلى بلد إلّا وتُوجِد في أهلِ ذلك البَلَد الوعي واليقظة، وتكشفُ الغِطاء عن جرائم يزيد، وتُزيّف دعاوى الأمويّين حول آل رسول الله: بانّهم خَوارج وأنّهم عصابة مُتمرّدة على النظام الأموي.

ونُلخّصُ القَولَ - هنا - فنقول: كان وجود العائلة - في هذه الرحلة، والنهضة المُباركة - ضروريّاً جدّاً جدّاً، وكان جُزءاً مُكَمّلاً لهذه النهضة.

إنّ هذه الأُسرة الشريفة كانت على جانبٍ عظيم مِن الحِكْمة واليقظة، والمَعرفة وفَهْم الظروف، واتّخاذ التدابير اللازمة كما

ص: 154

تَقتضيه الحال. (1)

ص: 155


1- ولزيادة الفائدة نَقول: لقد ذكرَ العالم الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه «السياسة الحُسَينيّة» مايَلي: «وهل نَشُكّ ونَرتاب في أنّ الحسين لو قتُل هو ووُلْده .. ولم يَتعَقّبْه قيامُ تلك الحَرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لَذَهَبَ قَتْلُه جباراً ، ولم يَطلُب به أحَد ثاراً، ولَضاعَ دَمه هَدراً. فكان الحسين يَعلَم أنّ هذا عمَلٌ لا بدّ منه، وأنّه لا يَقوم به إلّا تلك العقائل، فوَجَبَ عليه حَتماً أنْ يَحملهنّ معه لا لأجل المظلوميّة بسَبَبهنّ فقط، بل لِنَظرِ سياسي وفِكْرٍ عميق، وهو تكميل الغَرض وبلوغ الغاية مِن قلْب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبلَ أنْ تَقضي على الإسلام، ويَعود الناس إلى جاهليتهم الأُولى». ويَقول العلّامة البحّاثة الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه: «السيّدة زينب بطلة التاريخ» ص 212 مانَصّه: «لقد كان مِن أروع ما خَطّطه الإمام في ثورته الكبرى: حَمْلُهُ عقيلةَ بَني هاشم وسائر مُخَدّرات الرسالة معه إلى العراق، فقد كان على عِلْم بما يَجري عليهنّ مِن النكبات والخُطوب، وما يَقُمْنَ به مِن دورِ مُشرق في إكمال نهضته وإيضاح تضحيته، وإشاعة مَبادئه وأهدافه، وقد قُمْنَ حَرائرُ النبوّة بإيقاظ المجتمع مِن سُباته، وأسقَطْن هَيْبة الحُكم الأموي، وفَتحْنَ بابَ الثورة عليه، فقد القينَ مِن الخُطب الحَماسيّة ما زَعَزعَ كيانَ الدولة الأمويّة. إنّ مِن المَع الأسباب في استمرار خُلود ماساة الإمام الحسين (عليه السلام) واستمرار فَعّاليّاتها في نَشْر الإصلاح الإجتماعي هو حَمْلُ عَقيلة الوحي وبنات الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع الإمام الحسين، فقد قُمْنَ ببَلْوَرة الرأي العام، ونَشَرْن مَبادىء الإمام الحسين وأسبابَ نهضته الكُبرى، وقد قامتْ السيّدة زينب (عليها السلام) بتَدْمير ما أحرَزَه يزيد مِن الإنتصارات، والحَقَتْ به الهزيمة والعار». ويقول الدكتور احمد محمود صُبحي في كتابه «نظريّة الإمامة» ص 343: «ماذا كانَ يكون الحال لو قُتل الحسين ومَن معه جميعاً منِ الرجال إلّا أنْ يُسجل التاريخُ هذه الحادثة الخطيرة مِن وِجْهَة نظر اعدائه، فيَضيعُ كلُّ اثَر لِقَضيّته .. مع دَمه المَسْفوك في الصحراء». المُحقّق

ص: 156

الإمامُ الحسين في طريق الكوفة

رُويَ انّ الإمام الحسين (عليه السلام) لمّا نزلَ الخزيمية (1) أقامَ بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح اقبلتْ إليه أُخته زينب (عليها السلام) فقالت:

يا أخي! ألا أُخبرك بشيء سمعتُه البارحَة؟

فقال الحسين (عليه السلام) وما ذاك؟

فقالت: خَرجتُ في بعض الليل فسمعتُ هاتفاً يَهتفُ ويقول:

ألا يا عَينُ فاحتفلي بجهدِ *** ومَن يبكي على الشهداء بعدي

على قومٍ تَسوقُهُمُ المَنايا *** بمقدارٍ إلى إنجاز وعْدٍ

ص: 157


1- الخزيميّة: نقطة توقُّف، ومحلّ نزول الحُجّاج، للإستراحة والتزوّد بالماء، وتَقع بين مكّة والكوفة. المُحقّق

فقال لها الحسين (عليه السلام): يا أُختاه كلُّ الّذي قُضِيَ فهو كائن. (1)

وقد التَقى الإمامُ الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى الكوفة بِرَجُلٍ يُكنّى «أبا هرم»، فقال: يابنَ النبيّ ما الّذي أخرجَكَ مِن المدينة؟!

فقال الإمام: «... . وَيْحَك يا أباهرم! شَتَمُوا عِرْضي فَصَبرتُ، وطلِبُوا مالى فصَبرتْ (2)، وطلبُوا دَمي فهَربْت!

وأيْمُ الله لَيَقْتُلونَني، ثمّ لَيُلْبِسَنَّهُمُ اللهُ ذلاً شاملاً، وسَيفاً قاطعاً، ولَيُسَلّطنَّ عليهم مَن يُذِلُّهُم. (3)

ص: 158


1-
2- لعلَّ الاصح: وأخَذوا مالي. المُحقّق
3- الحديث مَرويٌّ عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، مذْكورٌ في كتاب «أمالي الصَدوق» ص 129، حدیث 1، وذكرَه الشيخ المجلسي في «بحار الأنوار» ج 44 ص 310

الفَصل السابع

إشارة

* وصولُ الإمام الحسين إلى أرض كربلاء

* زَحْفُ الجيش الأمَوي

* نَحو خِيام آلِ محمّد (عليهم السلام)

ص: 159

ص: 160

وصولُ الإمام الحسين إلى أرض كربلاء

وفي الطريق إلى الكوفة، إلتقى الإمامُ الحسين (عليه السلام) بالحُرّ بن يزيد الرياحي، وكان مُرْسَلاً مِن قِبَل ابن زياد في الف فارِس، وهو يُريد أنْ يَذهَبَ بالإمام إلى ابن زياد، فلم يُوافق الإمامُ الحسين على ذلك، واستَمرّ في السَير حتّى وصَلَ إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرّم سنة 61 للهجرة.

فلمّا نَزل بها، قال : ما يُقال لهذه الأرض؟

فقالوا: كربلاء!

فقال الإمام: «اللهمّ إنّي أعوذُ بك مِن الكرْب والبَلاء»، ثمّ قال لاصحابه: إنزِلوا، هاهُنا مَحَطّ رِحالِنا، ومَسْفَكُ دِماتنا، وهُنا مَحَلُّ قُبورنا. بهذا حَدَّثَني جَدّي رسولُ الله

ص: 161

(صلّى الله عليه وآله وسلّم). (1)

قال السيّد ابنُ طاووس في كتاب «المَلْهوف»:

لَمّا نَزلوا بكربلاء جلسَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) يُصلحُ سيفَه ويقول:

يا دَهرُ أُفٍّ لك مِن خَليل *** كم لك بالإشراق والأصيلِ

مِن طالبٍ وصاحبٍ قَتيلٍ *** والدهرُ لا يَقنعُ بالبَديل

وكلُّ حيّ سالكٌ سبيلي (2) *** ما اقربَ الوَعْد مِن الرحيلِ

وإنّما الأمر إلى الجليلِ

فَسَمِعتْ السيّدة زينُب بنت فاطمة (عليها السلام) ذلك، فقالتْ: يا أخي هذا كلام مَن أيقَنَ بالقَتْل!

فقال: نعم يا أُختاه.

فقالت زينب: واثكلاه! يَنعى إليَّ الحسينُ نفسَه.

وبكت النِسْوة، ولَطمْن الخُدود، وشَقَقْن الجُيوب، وجَعَلَتْ أُمُّ كلثوم تُنادي: و امحمّداه! واعليّاه! وا أُمّاه! وا فاطمَتاه!

ص: 162


1- کتاب «المَلْهوف» ص 139
2- وفي نسخة: وإنّما الأمْرُ إلى الجَليل *** وكلٌّ حيّ فإلى سَبيلي ما اقربَ الوَعْد إلى الرَحيلِ *** إلى جِنانٍ وإلى مَقيلٍ

واحَسَناه! واحُسيناه! واضيعتاه بعدك يا أباعبدالله ... إلى آخره. (1)

ورَوى الشيخُ المفيد في كتاب (الإرشاد) هذا الخَبر بكيفيّة أُخرى وهي:

قال علي بن الحسين [زين العابدين] (عليهما السلام):

إنّي جالسٌ في تلك العَشيّة التي قُتِلَ ابي في صَبيحتها، وعندي عَمَّتي زينب تُمرِّضني، إذ اعتَزَلَ أبي في خِباء له (2)، وعنده جوين مَولى أبي ذرٍ الغفاري، وهو يُعالجُ سيفَه (3) ويُصلحُه، وأبي يقول:

يا دَهرُ أُفٍّ لك مِن خَليل *** كم لك بالإشراقِ والاصيلِ

مِن صاحب وطالبٍ قَتيل *** والدهرُ لا يَقنَعُ بالبَديلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليل *** وكلُ حيّ سالكٌ سبيلي

فأعادَها مَرّتين أو ثلاثاً، حتّى فَهمْتُها، وعَرفتُ ما أراد، فخَنَقتْني العَبْرة، فردَدْتها، ولَزِمْت السكوت، وعلِمْتُ أنَّ البلاء قد نَزَل.

وأمّا عمّتي: فإنّها سَمِعَتْ ما سمِعتُ، وهي إمرأة، ومِن شان النساء: الرقِةُ والجَزَع، فلم تَملِك نَفسَها، إذ وَثَبَتْ تَجرُّ ثوبَها،

ص: 163


1- كتاب (المَلْهوف على قتلى الطُفوف) للسيّد علي بن موسى بن طاووس، المُتوفّى سنة 664 ه-، ص 139
2- خِباء: خيمة
3- ضمير هو: يَرجع إلى جوين يُعالج: يُحاولُ إعداده للإستعمال في القتال

حتّى انتَهتْ إليه فقالت :

واثكلاه! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة اليوم ماتتْ أُمّي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثِمالَ الباقين!

فنَظرَ إليها الإمام الحسين فقال لها: يا أخيَّة! لايُذْهِبَنَّ حِلْمَكِ الشيطان.

وتَرقْرَقَتْ عيناهُ بالدموع، وقال: يا أُختاه، «لوتُركَ القَطا لَغَفا ونامَ» (1).

فقالت: ياويلتاه افتغتصب نفسك اغتصاباً؟ (2) فذاك أقرَحُ لِقلبي، وأشَدُّ على نفسي، ثمَّ لَطَمتْ وجهَها! واهْوَتْ إِلى جَيبِها فَشَقَّتْه، وخَرَّتْ مَغشيّاً عليها.

فقام إليها الإمام الحسين (عليه السلام) فَصَبَّ على وجهها الماء، وقال لها:

ص: 164


1- القطا طائرٌ معروف، واحِدهُ: القَطاة. قالوا - في الامثال -: «لو تُرك القطا ليلاً لَنام» يُضرَبُ مَثَلاً لِمَن حُمِلَ أو أُجبِرَ على مكروه مِن غير إرادته، وذلك أنّ القطا لا يَطير ليلاً إلّا إذا از عَجوه وافسَدوا عليه راحته، فإذا طارَ القطا ليلاً كان ذلك علامة على أنّ عدوّاً يُلاحِقُه. و معنى كلام الإمام الحسين (عليه السلام): إنّ العدوّ لو كان يَتركُنا لَكنّا نَبقى في وَطننا في المدينة، ولكنّه أزعَجَنا وأخرجَنا مِن بلادنا، وسَيبقى يُلاحقنا إلى أن نَسْلَم منه او يَقتُلنا. المُحقّق
2- أي: تُقتَلُ ظُلْماً وقَهْراً

إيهاً يا أختاه إتَّقي الله، وتَعزّي بعَزاء الله، وأعلَمي أنَّ أهلَ الأرض يَموتون وأنّ أهل السماء لا يَبقون، وأنّ كلَّ شيء هالِك إلّا وَجْه الله، الّذي خَلَقَ الخَلْق بِقُدرته، ويَبْعَث الخَلْقِ ويُعيدهم وهو فَردٌ وَحده.

جَدّي خيرٌ منّي، و أبي خيرٌ منّي، وأمّي خيرٌ منّي، وأخي [الحسن] خيرٌ منّي، ولي ولِكُلِّ مُسلمٍ برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُسوة.

فعزّاها بهذا ونَحْوه، وقال لها: «يا أُختاه إني أقسمْتُ عليكِ، فابِرّي قَسَمي (1).

لا تَشُقّي عَلَيَّ جَيْباً، ولا تخَمشي عَلَيَّ وَجْهاً، ولا تَدْعَي عليَّ بالوَيل والثُبور إذا أنا هلكتُ».

ثمّ جاء بها حتّى أجلَسَها عندي، وخَرَج إلى أصحابه ... (2)

****

أقول: سمعتُ مِن بعض الأفاضل: أنّ هذه الابيات كانت مَشؤمة عند العَرب، ولم يُعرف قائلُها، وكان المشهور عند الناس: أنّ

ص: 165


1- أبرّي قَسَمي: أجيبيني إلى ما أقسَمْتُكِ عليه، ولا تَحنَثي ذلك. كما في «لسان العرب». المُحقّق
2- کتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد، ص 232. وذكرَه الطَبَري - المتوفّى عام 310ه- - في تاريخه ج 5 ص 420

كلِّ مَن أحَسَّ بِخَطَر الموت أو القتل كان يَتمثّل بهذه الابيات.

ولا يَبعدُ هذا الكلام مِن الصحّة، لأنَّ الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا غير، ولَعلّ لهذا السَبَب أحسَّت السيّدة زينب باقتراب الخطر مِن أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وقالت: هذا الحسين يَنعى إلىَّ نفسَه.

وهكذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) تَراهُ قد استَنْبَطَ مِن قراءة هذه الابيات نُزولَ البَلاء.

حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّحُ - بِظاهِرها - بشيء مِن هذه الأُمور، كخَطر الموت أو إقتراب مَوعِد القتْل

****

هذا .. والظاهر أنَّ نَهيَ الإمام الحسين أُختَه السيّدة زينبَ عن شَقِّ الجَيْب وحَمْش الوَجْه إنّما كان خاّصاً بساعة قَتْل الإمام، بعد الإنتباه إلى قول الإمام: «إذا أنا هلكتُ».

وبعبارة أُخرى: إنما مَنَعَها أَنْ تَشْقَ جَيْبَها أو تَخْمشَ وَجْهَها ساعةَ مصيبة مَقتل الإمام وشهادته. والسيّدة زينب إمتَثَلَتْ أمرَ اخيها، ولم تَفعلْ شيئاً مِن هذا القَبيل عند شهادة الإمام في كربلاء. وإنّما قامتْ ببعض هذه الأعمال في الكوفة، وفي الشام في مجلس يزيد، عندما شاهَدَتْ ما قام به يزيد (لعنة الله عليه) من أنواع الإهانة برأس الإمام الحسين عليه السلام.

ص: 166

ولعلَّ نهيَ الإمام أُختَه عن شَقّ الجَيْب - في تلك الساعة أو الساعات الرَهيبة - كان لهذه الحِكْمة: وهي أنْ لا يَظهر منها أثَر الضَعْف والإنكسار والإنهيار، أمام أُولئك الأعداء الألدّاء، فقد كان المطلوب مِن السيّدات - حين-ذاك - الصَبْر والتَجلُّد وعدمَ الجَزَع امام المَصائب.

لأنّ هذا النوع مِن الشجاعة - وفي تلك الظروف بالذات - ضروريّ أمامَ العدوّ الحاقِد، الذي كان يَتَحيَّن كلَّ فُرصةٍ للقيام بأيّ خطوةٍ تُناسِبُ نفسيَّتَه اللَثيمة، تِجاه تلك العائلة المكرَّمة الشريفة، وكانت مواجهة الحوادث بصَبْر جميل ومَعنويّات عالية، تَعني تَفويت الفُرَص أمامَ تفكير العَدوّ القيامَ بأيّ نوعٍ مِن انواع الإعتداء والإهانة وسَحْقِ الكرامة تجاه تلك السيّدات الطاهِرات المَفْجوعات، اللَواتي فَقَدْنَ المُحامي والمُدافع عنهُن!

ص: 167

ص: 168

زَحفُ الجيش الأمَوي نَحو خِيام آلِ محمّد (عليهم السلام)

كانت السيّدة زينب (عليها السلام) تَشعر باقتراب الخَطَر يوماً بعد يوم، وساعةً بعد ساعة، وكيف لا؟ والسَيل البَشَرِي يَتدفّق نحوَ أرض كربلاء لِقَتْل رَيحانة رسول الله وسبطه الحَبيب؟

وآخرُ راية وصَلتْ إلى كربلاء: راية شمر بن ذي الجوشن في سنّة آلاف مُقاتِل، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيدالله بن زياد، يأمر فيه ابنَ سعد أن يُخيّر الإمامَ الحسين بين أمْرين:

1 - الإستِسلام.

2 - الحرب.

فزَحَفَ الجيشُ الاموي نحو خِيام آلِ محمّد (عليهم السلام) ونَظرتْ السيّدة زينب إلى أسْراب مِن الذئاب تَتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة.

ص: 169

ويَعلم الله تعالى مَدى الخوف والقَلَق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله.

وأقبَلَت السيّدة زينب تَبحث عن أخيها، لِتُخبره بهذا الهجوم المُفاجىء في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم، قَريب الغروب.

وأخيراً، وصلتْ إلى خيمة الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا بالإمام جالس، وقد احتَضنَ ركبتيه، ووضَعَ رأسَه عليهما، وقد غَلَبه النوم.

واستيقظَ الإمامُ على صوت أُخته الحَوراء تُخاطبُه - بصوتٍ مَليء بالرُعب، مَزيج بالعاطفة والحَنان - .. قائلةً:

أخي أما تَسمَع هذه الاصوات قد اقتَربتْ؟

فرَفَع الإمامُ الحسين رأسَه وقال: أُخيّه! إنّي رأيتُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الساعة في المنام، وقال لي: «إنّك تَروحُ إلينا».

أو «إنّي رايتُ - الساعة - مُحمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلمّ) وأبي عليّاً، وأُمّي فاطمة، وأخي الحسَن وهم يقولون: ياحسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب» (1).

ص: 170


1- کتاب (الملهوف على قَتلى الطفوف) للسيّد ابن طاووس، طبع ایران، عام 1414ه-، ص 151

فلَطمَتْ السيّدة زينب وجْهَها، وصاحتْ: واويلاه، وبكتْ.

فقال لها الإمامُ الحسين: ليسَ لكِ الوَيل يا أخيَّة لا تُشْمِتي القومَ بِنا، أسكتي رَحمَكِ الله (1).

فنهض الإمامُ الحسين (عليه السلام) وأرسَلَ أخاهُ العبّاس ابن علي مَعَ عِشرينَ فارساً مِن أصحابه، وقال: «يا عباس إركبْ - بِنَفْسي أنت يا اخي - حتّى تَلْقاهم وتَقول لهم مالكم وما بَدا لكم؟؟ وتَسألُهم عما جاءَ بِهم؟

فأتاهم العباس وقال لهم: ما بَدا لكم وما تُريدون؟

قالوا: قد جاء أمرُ ابن زياد أن نَعرِضَ عليكم: أن تَنزلوا على حُكْمه، أو تُناجِزُكم!

فقال العباس: لا تَعجَلوا حتّى ارجع إلى أبي عبدالله فاعرض عليه ما ذكرتُم.

فتَوقَّف الجيش، وأقبَلَ العباسُ إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأخبرَه بما قالَهُ القوم.

فقال الإمام: إرجِعْ إليهم .. فإنْ استَطعتَ أنْ تُؤَخّرهم إلى غَدٍ وتَدفَعَهم عنّا العَشيّة، لَعلّنا نُصلّي لِرَبّنا الليلة

ص: 171


1- کتاب «مَعالي السِبطين» للمازندراني، ج 1، ص 204، الفصل الثامن، المجلس الأوّل

ونَدعوه .. فهو يَعلَم أني أُحبُّ الصلاة لَه وتِلاوةَ كتابه؟

فَمَضى العبّاسُ إلى القوم فاستَمْهَلَهم، وأخيراً .. وافَقوا على ذلك. (1)

ص: 172


1- کتاب «مَعالي السِبطين» للمازندراني، ج1، ص 332

الفَصل الثامِن

إشارة

* ليلة عاشوراء

* أزْمَة الماء

ص: 173

ص: 174

ليلة عاشوراء

إنّ مشكلة كبيرة واحدة تَحدثُ في حياة الإنسان قد تَسْلبه القرار والاستقرار، وتورثه الارَق والقَلقَ والسَهَر، وتَرفض عيناه النوم، فكيف إذا أحاطتْ به عشَرات المشاكل الكبيرة؟!

مِن الواضح أنّ أقلّ ما يُمكن ان تُسبّبَه تلك المَشاكل هو: الإنهيار العَصَبي، وفُقدان الوعي، واختِلال المَشاعر وتَبَلبُل الفِكْر، وتَشتّت الخاطِر.

فهل نَستطيع أن نَتَصوّر كيف انقضتْ ليلة عاشوراء على آل رسول الله؟!

فالهموم والغموم، والخوف والتفكّر حول الغَد، وما يَحمِلُه مِن الكوارث والفجائع، وبكاءُ الأطفال مِن شِدّة العطش، - وغير ذلك مِن مُميّزات تلك الليلة - جَعلتْ تلك الليلة فَريدة مِن نوعها في تاريخ حياة أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 175

وفي ساعة مِن ساعات تلك الليلة خَرج الإمامُ الحسين (عليه السلام) مِن منطقة المُخيّم، راكباً جَوادَه، يَبحث في تلك الضواحي والنواحي حول التِلال والرَبوات - المُشْرفة على منطقة المخيّم - التي كان مِن المُمكن أنْ يكْمن العَدوّ خَلْفها غداً، إذا اشتَعلتْ نار الحرب.

ويُرافقه في تلك الجَولة الإستطلاعية نافعُ بن هلال، وهو ذلك البطل الشجاع المِقْدام، وكان مِن أخصّ أصحابه وأكثرهم مُلازمة له، فلنَستَمع إليه:

إلتفتَ الإمامُ خَلْفه وقال: مَن الرجل؟ نافع؟

قلت: نعم، جعَلَني الله فِداك!! أزعَجَني خُروجُك ليلاً إلى جهة مُعسْكر هذا الطاغي.

فقال: يا نافع! خَرجتُ أتفقُّد هذه التلال مَخافةَ أن تكون مَكْمناً لِهجوم الخيل على مُخيِّمنا يوم تَحملون ويَحملون.

ثمَّ رجع (عليه السلام) وهو قابض على يَساري، وهو يقول: «هي هي، والله، وعدٌ لا خُلفَ فيه».

ثمَّ قال: يا نافع! ألا تَسلُك ما بين هذين الجبلين (1) مِن وقتك

ص: 176


1- ليس في أرض كربلاء جبل، وإنّما فيها تلال وربَوات لاتزال موجودة ويقال لها - باللغة الدارجة - : عَلْوة وعَلاوي، ولعلّ الإمام (عليه السلام) قصَدَ مِن الجبلين: التِلال الموجودة في تلك المنطقة

هذا، وتَنْجو بنفسك؟

فوقَعْت على قدميه، وقلتُ: إذَن ثكلَتْ نافِعاً أُمُّه!!

سيّدي: إنّ سيفي بالفٍ، وفَرَسي مثْله، فوالله الذي منَّ عليَّ بك لا أفارقك حتّى يكِلاً عن فَري وجَري (1).

ثمّ فارقَني ودَخَلَ خيمة أُخته، فوقفتُ إلى جَنبها (2) رَجاءَ أن يُسرع في خروجه منها.

فاستقبلتْه زينب، ووَضعتْ له مُتَّكئاً، فجلَسَ وجعَلَ يُحدِّثها سِراً، فما لَبثَتْ أن اختَنقتْ بِعَبْرتها، وقالت: وا أخاه! أُشاهدُ مَصْرِعَك، وأُبتلى برعاية هذه المذاعير (3) مِن النساء؟ والقوم - كما تَعلَم - ما هم عليه مِن الحِقْد القديم.

ذلك خَطبٌ جَسيم، يَعزّ عَلَيَّ مَصْرَعُ هؤلاء الفِتْية الصَفوة، و أقمار بَني هاشم!

ثمَّ قالت: أخي هل إستَعلَمْتَ مِن أصحابك نيّاتهم؟ فإني أخشى أن يُسْلموك عند الوَثبة، واصطكاك الأسِنّة!

ص: 177


1- أي: حتى يَعجز السيف عن القطع، ويَعجز الفَرَس عن الركض
2- جَنْبها: أي جَنب الخيمة
3- المذاعير - جَمْع مَذْعور: وهو الذي اخافوه

فبكى (عليه السلام) وقال: أما والله لقد لَهزتُهم (1) وبَلَوتُهم، وليسَ فيهم إلّا الأشْوس الأقعَس (2) يَستانِسون بالمنيّة دوني إستيناسَ الطفل بلَبَن أُمّه .

قال نافعُ بن هلال: فلمّا سمعْتُ هذا منه بكيتُ، وأتيتُ حبيبَ بن مظاهر، وحَكيتُ لَه ما سمعتُ منه ومِن أُخته زينب.

فقال حبيب: والله لولا انتظار أمره لَعاجلتُهم بسيفي هذه الليلة!

قلت: إنّي خَلَّفْتُه عند أُخته وهي في حالِ وَجَل ورُعْب، وأظنّ أنّ النساء أفَقْنَ وشاركْنَها في الحَسْرة والزَفْرة، فهَلْ لك أنْ تَجمَع أصحابك وتُواجِهُهُنَّ بكلامٍ يُسكنُ قلوبَهنَّ ويُذهبُ رُعْبَهنَّ؟ فلقد شاهَدتُ منها ما لا قرارَ لي مع بَقائه.

فقال لي: طَوعَ إرادتك، فبرزَ حبيبُ ناحيةً، ونافعُ إلى ناحية، فانتدَبَ أصحابَه.

فتطالعوا مِن مَضاربهم (3) فلمّا اجتمعوا قال - لبَني هاشم -:

إرجعوا إلى مَنازلكم، لا سَهَرتْ عُيونكم!!

ثمَّ خَطَبَ أصحابَه وقال يا أصحابَ الحَمِيّة ولُيوثَ

ص: 178


1- يقال: لهزْتُه أي: خالطتُه، والمقصود: الإختبار والإمتحان
2- الأشوس: الجريء على القتال الشديد، والأقعس: الرجل الثابت العزيز المنيع
3- المضارب - جَمْع مَضْرب -: الخيمة

الكريهة!

هذا نافع يُخْبرُني الساعة بكيت وكيت، وقد خَلَّفَ أَختَ سيّدكم وبَقايا عياله يَتشاكين ويَتباكين. أخبروني عمّا أنتُمْ عليه؟

فجَرّدوا صوارمَهم، ورَمَوا عَمائمَهم، وقالوا: ياحبيب! والله الذي مَنَّ علينا بهذا الموقِف! لئن زَحَفَ القومُ لَنَحصِدنَّ رؤوسَهم، ولَنُلْحِقنَّهمْ بأشياخهم أذِلّاء، صاغِرين، ولَنَحفظَنَّ وَصيّةَ رسول الله في أبنائه وبَناته!

فقال : هَلْمّوا مَعي.

فقامَ يَخبطُ الأرض (1)، وهم يَعْدُون خَلْفَه حتّى وقف بين أطناب الخِيَم، ونادى: «يا أهلَنا! وياساداتَنا! ويا مَعشَرَ حَرائر رسول الله! هذه صوارمُ فِتْيانكم آلَوا أن لا يُغمِدوها إلّا في رِقاب مَن يَبغي السوء بِكُمْ، وهذه أسِنَّة غِلْمانكم أقسَموا أن لا يركزوها إلّا

ص: 179


1- يَخْبط الأرضَ: يَضربُ الأرضَ برجليه ضَرْباً شديداً، وهو ماخوذ من ضرْب البعير الأرضَ برجله. قال الخليل في كتاب (العين): الخَبْط: شِدّة الوَطء بأيدي الدَوابّ. وجاء في (المُعْجَم الوسيط) خَبَط الشيءَ: وَطاهُ وَطئاً شديداً. ولعلّ المقصود: سُرعة الركض، أو نوعٍ خاص مِن المَشي العَشائري .. يكون مَزيجاً مع ضَرْب الأرجل بالأرض، كنوعٍ مِن التدريب للقتال قبل الحرب، أو لإيجاد الحَماس ورَفْع المَعنَويِات. المُحقّق

في صدور مَن يُفرّق ناديكم! (1)

فقال الإمام الحسين (عليه السلام): أُخرجنَ عليهم يا آلَ الله!

فخَرجنَ، وهُنَّ يَنْتَدِبْنَ (2) ويَقُلن: حاموا أيّها الطيّبون عن الفاطميّات، ما عُذركم إذا لَقينا جَدَّنا رسولَ الله، وشَكوْنا إليه ما نَزَل بِنا؟

وكانَ حبيبُ واصحابه حاضرين يَسمعون ويَنظرون، فوالله الذي لا إله إلّا هو، لقد ضَجُّوا ضَجَّةٌ ماجَتْ منها الأرض،

ص: 180


1- أسِنّة: رماح. يُركزوها: الرَكْز: غَرزُك شيئاً مُنتَصِباً .. كالرُمح ونحوه، يُقال ركزُه ركزاً في مَرْكزه أي: ثَبَّتَه في مَكانه. كما في «لسان العرب». ناديكم: مَحلُّ اجتماعكم. النادي: مجلس القوم ماداموا مُجتمعين فيه
2- وفي نسخة: يَندبن. يَنتدبْن: الإنتداب: بمعنى الإسراع، وبمعنى تلبية الطَلَب، فيكون المعنى: «يَتسارعْن» في خروجهنّ مِن الخيام، أو: «يُلبّين» أمْرَ الإمام لهنّ بالخروج لهم. قال الطُريحي في (مَجمع البحرين): نَدَبَه لامرٍ فانتَدَب: أي: دَعاه لامرٍ فأجاب. وذُكرَ في بعض كُتُب اللغة: أنّ الإنتداب: هو طَلَبُ شيء مِن شخص في حالة الحرب وإسراعُ الشخص في تلبية الطَلَب. كما يُستفاد هذا المعنى مِن كتاب (العَين) للخليل، وكتاب (المُحيط في اللغة) للصاحب بن عبّاد. المُحقّق

واجتمعتْ لها خيولُهم وكانَ لها جَولة واختلاف صهيل، حتّى كانّ كُلاً يُنادي صاحِبَه وفارِسَه. (1) (2)

ورُويَ عن فَخْر المُخدّرات السيّدة زينب (عليها السلام) أنّها قالت: «لمّا كانت ليلة العاشر مِن المُحرّم خَرجتُ مِن خَيمتي لاتفَقَّد أخي َالحسين وانصارَه، وقد أُفْرِدَ له خيمة، فوجَدتُه جالساً وَحْده، يُناجي رَبّه، ويَتْلو القرآن.

فقلتُ - في نفسي -: أفي مِثْلِ هذه الليلة يُترَك أخي وَحْده؟ والله لا مضينَّ إلى إخوتي وبَني عُمومتي وأُعاتبُهم بذلك.

فاتيتُ إلى خيمة العبّاس، فسمعتُ منها هَمْهَمَة ودَمْدَمَة، (3)

ص: 181


1- الظاهر أنّ المراد: حتّى كانَّ كلَّ واحدٍ من الخيل يُنادي - في صهيله – صاحبَه وفارسَه .. للركوب استعداداً للإنطلاق والقتال. المُحقّق
2- كتاب (الدَمْعة الساكبة) ج 4 ص 273، المجلس الثاني : فيما وقَع في ليلة عاشوراء، نَقلاً عن الشيخ المفيد رضوان الله عليه. وكتاب (معالي السبطين) للشيخ محمد مهدي المازندراني، المجلس الرابع: وقائع ليلة عاشوراء
3- الهَمْهَمة: هو الصوت الذي يُسمَع ولا يُفهَم معناه، بسبب خفائه أو اختلاطه مع اصوات أُخرى. قال إبن مَنظور في (لسان العرب): الهَمْهَمة: الكلام الخَفي، وهَمْهَم الرجلُ: إذا لم يُبيّن كلامه، والهَمْهمةُ: الصوتُ الخَفي، وقيل: هو صوتٌ معه بَحَح. وقال ابن دُريد في (جَمْهرة اللغة): الهَمْهَمة: الكلام الذي لايُفهَم. المُحقّق

فوقَفتُ على ظَهْرها (1) فنَظرتُ فيها، فوجدتُ بَني عُمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مُجتَمِعين كالحَلَقة، وبَينَهم العبّاس بن أمير المؤمنين، وهو جاثٍ على ركبتيه كالأسد على فَريسته؛ فخَطَبَ فيهم خُطبةً - ما سمعْتُها إلا مِن الحسين -: مُشتملةً على الحمْد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي وآله.

ثم قال - في آخِر خُطبتِه - : يا إخوتي! وبَني إخوتي! وبَني عُمومتي! إذا كان الصباح فما تَقولون؟

قالوا: الأمرُ إليك يَرجع، ونَحنُ لا نَتَعدّى لك قَولاً. (2)

فقال العبّاس: إنّ هؤلاء (أعني الأصحاب) قومٌ غُرَباء، والحِمْلُ ثَقيل لا يَقومُ إلّا باهله، فإذا كان الصباح فأوَّل مَن يَبرز إلى القتال أنتُم.

نَحنُ نَقدُمُهم إلى الموت لِئلاً يقولَ الناسُ: قَدَّموا أصحابَهم، فلمّا قُتلوا عالَجوا الموتَ بأسيافهم ساعة بعد ساعة. (3)

فقامتْ بَنو هاشم، وسَلّوا سيوفَهم في وَجْه أخي العبّاس، وقالوا : نَحنُ على ما أنتَ عليه!

ص: 182


1- ظهرها: أي ظَهْر الخيمة، بمعنى خَلْفَها ووَراءها
2- لا نَتعدّى: لا نَتَجاوز مِن رايك إلى رأي غيرك
3- عالَجوا: حاولوا التخلّص مِن الموت بسيوفهم .. مُحاولةً بعد مُحاولة، ومَرَةٌ بعد أُخرى

قالت زينبُ: فلما رأيتُ كثْرةَ إجتماعهم، وشِدَّةً عَزْمهم، وإظهار شِيمَتهم، سَكنَ قلبي وفَرحتُ، ولكن خَنَقَّتْني العَبْرة، فاردتُ أنْ أرجع إلى أخي الحسين وأُخبره بذلك، فسمِعتُ مِن خيمة حَبيب بن مظاهر هَمْهَمة ودَمْدَمة، فمَضيتُ إليها ووَقفتُ بظَهرها، ونَظرتُ فيها، فوجَدْتُ الأصحابَ على نحو بَني هاشم، مُجتَمِعين كالحَلَقة، وبينهم حبيب بن مظاهر، وهو يقول:

«يا أصحابي! لِمَ جِئْتُم إلى هذا المكان؟ أوضِحُوا كلامَكم، رَحِمَكمُ الله.

فقالوا: أتينا لِنَنْصُر غَريبَ فاطمة!

فقال لَهم: لِمَ طلَّقتُم حَلائِلَكم؟

قالوا: لذلك.

قال: فإذا كان الصباح فما أنتُم قائلون؟

فقالوا: الرأيُ رأيك، لا نتعدّى قولاً لك.

قال: فإذا صارَ الصَباح فاوَّل مَن يَبرز إلى القتال أنتُم، نَحنُ نَقدمُهم للقتال ولا نَرى هاشِميّاً مُضَرَجاً بِدَمه وفينا عِرْق يَضرب، لِئلاً يقولَ الناس: قَدَّموا ساداتهم للقتال، وبَخِلوا عليهم بأنفسِهم.

فهَزّوا سيوفَهم على وَجْهه، وقالوا: نَحنُ على ما أنتَ عليه.

قالت زينبُ: ففَرحْتُ مِن ثَباتهم، ولكن خَنَقتْني العَبْرة،

ص: 183

فانصرفتُ عنهم وأنا باكية، وإذا بأخي الحسين قد عارضَني (1)، فسكنت نفسي (2)، وتَبسّمتُ في وَجْهه.

فقال: أُخيَّه.

قلت: لبّيك يا أخي .

فقال: يا أختاه! مُنذُ رَحَلْنا مِن المدينة ما رايتُكِ مُتَبسّمة، أخبريني: ما سبَب تَبسّمكِ؟

فقلت له: يا أخي! رأيتُ من فِعْل بَني هاشم والاصحاب كذا وكذا.

فقال لي: يا أُختاه! إعلمي أنّ هؤلاء اصحابي مِن عالَم الذَرّ، وبهم وَعَدَني جَدّي رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

هلْ تُحِبّين أن تَنظري إلى ثَبات أقدامهم؟

ص: 184


1- عارَضَني: واجهَني
2- هناك احتمالان في كيفيّة قراءة «فسكنت نفسي» هما: 1 - سَكَنْتُ نفسي: بمعنى أنها حاولتْ أن تَتغلَّب على ما بها مِن البكاء، وتَمسحُ آثارَ الحزن والكآبة عن مَلامحها .. لكي لا تزيد مِن هموم الإمام. وعلى هذا .. لا تكون الجملة تكملة .. بل جملة مُستانَفة 2 - سَكَنَتْ نفسي: بمعنى أنّه زالَ القَلَق عن نفسِها، وارتاحَ قلبُها .. بما رأتْه وسَمعتُه مِن موقف بَني هاشم وموقف الأصحاب. فتكون الجملة تكملة ل- «ففرحتُ مِن ثباتهم». المُحقّق

فقلت: نعم.

فقال: عليكِ بِظَهْر الخيمة.

قالت زينبُ: فوقفتُ على ظَهر الخيمة، فنادى أخي الحسين: «أين إخواني وبَنو اعمامي»؟

فقامتْ بَنو هاشم، وتَسابقَ منهم العباس، وقال: لبّيك لبّيك، ما تَقول؟

فقال الحسين: أُريد أن أُجدِّد لكم عهْداً.

فأتى أولادُ الحسين وأولادُ الحسن، وأولادُ علي وأولادُ جعفر وأولادُ عقيل، فأمَرَهم بالجلوس، فجَلَسوا.

ثم نادى: أینَ حبیب بن مظاهر، أین زُهیر، أین نافع بن هلال؟ أين الأصحاب؟

فأقبلوا، وتَسابقَ منهم بب بن مظاهر، وقال: لبّيك يا أبا عبد الله!

فأتَوا إليه وسيوفُهم بايديهم ، فأمَرَهم بالجلوس فجَلَسوا.

فخَطبَ فيهم خُطبةً بليغة، ثمّ قال:

«يا أصحابي! إعلموا أنّ هؤلاء القوم ليسَ لهم قَصْد سوى قَتْلي وقتْل مَن هو معي، وأنا اخاف عليكم مِن القتل، فانتُم في حِلَّ مِن بَيعتي، ومَن أحبّ منكم الإنصرافَ فلينْصرفْ في سَواد هذا الليل.

ص: 185

فعندَ ذلك قامتْ بَنو هاشم، وتكلّموا بما تكلّموا، وقام الاصحاب وأخذوا يَتَكلّمون بمثْل كلامهم.

فلمّا رأى الحسين حُسْنَ إقدامهم، وثَباتَ أقدامهم، قال: إنْ كُنْتُم كذلك فارفَعوا رؤوسَكم، وانظروا إلى مَنازلكم في الجنّة.

فكُشِفَ لهم الغِطاء، ورَأوا منازلَهم وحُورَهم وقُصورَهم فيها، والحورُ العين يُنادين: العَجَل العَجَل! فإنّا مُشتاقات إليكم.

فقاموا بأجمعهم، وسَلّوا سيوفهم، وقالوا: يا أباعبدالله! إئذن لنا أن نُغيرَ على القوم، ونُقاتلهم حتّى يَفعل الله بِنا وبهم ما يشاء.

فقال: إجلسوا رَحِمَكم الله، وجزاكم الله خيراً.

ثم قال: ألا ومَن كانَ في رَحْله إمرأة فليَنصَرفْ بها إلى بَني اسد (1).

فقامَ عليُّ بن مظاهر وقال: ولماذا يا سيّدي؟

فقال: إنَّ نسائي تُسبى بعد قتْلي، وأخافُ على نسائكم مِن السَبْي.

فمَضى عليُّ بن مظاهر إلى خيمته، فقامتْ زوجتُه إجلالاً له، فاستَقبلَتْه وتَبسَّمتْ في وَجْهه.

ص: 186


1- الرَحْل: ما تَسْتَصْحِبه في السَفَر .. مِن الأثاث أو الزوجة أو غير ذلك، كما يُستفاد مِن «لسان العرب»

فقال لها: دَعيني والتَبَسُّم!

فقالت: يابنَ مظاهر! إني سمِعْتُ غريبَ فاطمة! خطب فيكم وسمعتُ في آخرها همهمة ودمدمة، فما علمتُ ما يقول؟

قال: يا هذه! إنّ الحسين قالَ لنا: ألا ومَن كان في رَحْله إمرأة فليذهب بها إلى بَني عمِّها، لأنّي غداً أُقتِل، ونسائي تُسبى.

فقالت: وما أنتَ صانع؟

قال: قُومي حتّى ألحِقَكِ ببَني عمّكِ: بَني أسَد.

فقامتْ، ونَطَحتْ رأسَها بعَمود الخيمة، وقالت:

«والله ما أنصَفْتَني يابنَ مظاهر، أيَسُرِّكَ أَنْ تُسْبِى بَناتُ رسولِ الله وانا آمِنة مِن السَبْي؟!

أيَسُرّك أنْ تُسلَب زينبُ إزارَها مِن راسها وأنا استَتِر بإزاري؟!

أيَسُرِّك أنْ يَبْيضَّ وجْهُك عند رسولِ الله ويَسْوَدَ وَجْهي عند فاطمة الزهراء؟!

والله أنتُم تُواسُون الرجال، ونحنُ نُواسي النساء».

فرجَع عليُّ بن مظاهر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يَبكي.

ص: 187

فقال له الحسين: ما يُبكيك؟

قال: سيّدي.. أبَتْ الأسَديّة إلّا مُواساتَكم!!

فبكى الإمامُ الحسين، وقال: جُزيتُمْ مِنّا خَيراً. (1)

ص: 188


1- معالي السبطين للمازندراني ج 1، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء

أزمَة الماء

كانت السيّدة زينب (عليها السلام) رُكناً مُهمّاً في الأُسرة الشريفة الطيّبة، وانطلاقاً مِن صِفة العاطفة المثاليّة التي كانت تَمْتازُ بها، فقد كانت تَشعر بالمسؤليّة عن كلّ ما يَرتبط بحياة الأسرة .. بجميع أفرادها.

فكانت مَفزَعاً للكبار والصغار، ومَلاذاً لجميع افراد العائلة، و مَعْقِد آمالهم، فلعلها كانت تدَّخر شيئاً من الماء منذ بِداية ازمة الماء عندهم.

فكان بعضُ العائلة يأملون أن يجدوا عندها الماء، جَرياً على عادَتها وعادَتهم، ولهذا قالت سُكينة بنتُ الامامِ الحسين (علیه السلام):

ص: 189

«عَزَّ ماؤنا ليلةَ التاسع مِن المحرَّم (1)، فجَفَّت الأواني، ويَبُسَت الشفاه (2) حتّى صِرْنا نَتوقّع الجُرعة مِن الماء فلم نَجِدْها.

فقلتُ - في نفسي -: أمضي إلى عمّتي زينب، لَعلّها ادَّخرتْ لنا شيئاً مِن الماء!!

فمَضَيتُ إلى خيمتها، فرأيتُها جالسة، وفي حِجْرها أخي عبدالله الرضيع، وهو يَلوك بِلسانه مِن شِدّة العَطَش، وهي تارةً تَقوم، وتارةٌ تَقعُد.

فَخَنقَتْني العبرة، فلزِمْتُ السكوت خوفاً من أن تفيق (3) بي عمَّتي فيَزدادَ حُزنها.

فعند ذلك إلتفَتَتْ عمِتى وقالت: سُكينة؟

قلتُ: لبّيكِ.

قالت: ما يُبكيكِ؟

قلتُ: حالُ أخيَ الرضيع أبكاني.

ثمّ قلت: عَمّتاه! قُومي لِنَمضي إلى خِيّم عُمُومَتي،

ص: 190


1- عَزَّ ماؤنا: صارَ قليلاً جدّاً، أو صارَ عَزيزاً لِنَفاده. المُحقّق
2- وفي نسخة: السِقاء: يعني القِرْبة
3- تفيق: تَشْعر

وبَني عُمومتي، لَعلّهم ادَّخروا شيئاً مِن الماء!

قالت: ما أظنّ ذلك.

فمَضينا واختَرقْنا الخِيَم بأجْمعِها، فلم نَجدْ عندهم شيئاً من الماء.

فرجَعتْ عمَّتي إلى خيمَتها، فتبِعَتْها مِن نَحو عشرين صبيّ وصَبيّة، وهم يَطلُبون مِنها الماء، ويُنادون: العطَش العطَش ... .» (1)

ص: 191


1- کتاب (مَعالي السبطين) للمازندراني ج 1، ص 320، المجلس الثامن: في عَطَش أهل البيت، نقلاً عن كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي

ص: 192

الفَصل التاسع

إشارة

* يومُ عاشوراء

* مَقتل سيّدنا علي الأكبر (عليه السلام)

* مَقتل أولاد السيّدة زينب (عليها السلام)

* مَقتل سيّدنا أبي الفضل العباس (عليه السلام)

* مَقتل الطفل الرضيع (عليه السلام)

ص: 193

ص: 194

يوم عاشوراء

أصبحَ الصباح مِن يوم عاشوراء، واشتَعلتْ نارُ الحرب وتَوالتْ المصائب، الواحدة تلَو الأُخرى، وبَدأت الفجائعُ تَتْرى!

فالأصحاب والأنصار يَبرزون إلى ساحة الجهاد، ويُستَشهَدون زرُافات ووِحْدانا، وشيوخاً وشُبّاناً.

ووَصَلت النَوبة إلى أغصان الشَجَرة النبَويّة، ورجالات البيت العَلَوي، الّذين وَرِثوا الشجاعة والشهامة، وحازوا عِزّة النَفْس، وشَرَف الضمير، وثَباتَ العقيدة، وجَمالَ الإستقامة.

ص: 195

ص: 196

مَقتل سيّدنا على الأكبر

وأوّل مَن تقدّم منهم إلى ميدان الشَرَف: هو عليُّ بن الحسين الأكبر (عليهما السلام)، فقاتَلَ قتالَ الأبطال، وأخيراً .. إنطفأتْ شَمعةُ حياته المُستَنيرة، وسقَطَ على الأرض كالوَردة التي تَتَبعثَر أوراقُها.

وتبادرَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) إلى مَصْرَع ولَده، ليُشاهدَ شَبيةَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مُقطَّعاً بالسيوف إرباً إرباً.

ولا أعلَمُ كيف عَلمت السيّدة زينب بهذه الفاجعة المُروِّعة، فقد خَرجتْ تَعْدو، وهي السيّدة المُخدّرة المُحجَّبة الوَقورة!

خَرجتْ مِن الخيمة مُسْرعة وهي تُنادي: «واوَيلاه، ياحَبيباه، ياثمرةَ فؤاداه، يانورَ عَيناه، يا أُخيّاه وابن أُخيّاه، واوَلَداه، واقَتيلاه، واقِلّةَ ناصِراه، واغَريباه، وامُهْجَة قَلْباه.

ص: 197

لَيتَني كنتُ قَبلَ هذا اليوم عَمياء، لَيتَني وُسِّدْتُ الثَّرى».

وجاءتْ وانكبَّتْ عليه، فجاءَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) فاخذَ بِيدها، ورَدَّها إلى المُخيّم، واقبَلَ بفِتْيانه إلى المعركة وقال: إحمِلوا اخاكم، فحَملوه مِن مَصْرَعه وجاؤا به حتّى وضَعوه عند الخيمة التي كانوا يُقاتِلون أمامَها. (1)

ص: 198


1- كتاب (مَعالي السبطين) للشيخ المازندراني، ج 1، الفصل التاسع، المجلس الثالث عشر

مَقتل أولاد السيّدة زينب

وإلى أنْ وصلت النَوبة إلى أولاد السيّدة زينب عليها السلام و أفْلاذ كبدها.

أُولئك الفِتْية الذين سَهَرَتْ السيّدة زينب لَياليها، و أتعَبَتْ أيّامَها، وصَرَفَتْ حياتَها في تربية تلك البَراعم، حتّى نَمَتْ وأورَقَتْ.

إنها قَدَّمتْ أغلى شيء في حياتها في سبيل نُصْرَة أخيها الإمام الحسين عليه السلام.

وتَقدَّم أُولئك الأشبال يَتطوّعون ويَتبرّعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نُصرْة خالهم، الذي كان الإسلام مُتجسّداً فيه وقائماً به.

وغَريزة حُبِّ الحياة إنقلبتْ - عندهم - إلى كراهية تلك الحياة.

ومَن يَرغب لِيَعيش في أرجس مُجتمع مُتكالِب، يَتسابق على إراقة دِماء أطهَر إنسان يُعتبَر مَفخرة أهل السماء والأرض؟!

ص: 199

وكانَ عبدُ الله بن جعفر - زوجُ السيّدة زينب - قد أمَرَ ولَدَيه: عوناً ومحمّداً أن يُرافِقا الإمامَ الحسين (عليه السلام) - لمّا أراد الخروج من مكّة - والَمسير معه، والجهاد دونه.

فلمّا انتَهى القِتالُ إلى الهاشميّين بَرَزَ عونُ بن عبدالله بن جعفر، وهو يَرتَجز ويَقول:

إِنْ تُنكروني فأنا ابنُ جعفر *** شهيد صِدْقٍ في الجِنان أزهَر

يَطيرُ فيها بجَناحٍ أخضَر *** كفى بهذا شَرَفاً فى المحْشَر

فقَتَلَ ثلاثة فُرسان، وثمانية عشر راجِلاً، فقتَلَه عبدُ الله بن قطبة الطائي. (1)

ثمَّ برزَ اخوه محمّد بن عبدالله بن جعفر، وهو يُنشِد:

أشكو إلى الله مِن العدوانِ *** فِعال قومٍ في الرَدى عِمْيَانِ

قد بَدّلوا مَعالمَ القرآنِ *** ومُحْكمَ التنزيل والتِبْيانِ

واظهَروا الكفرَ مع الطُغيانِ

فقَتَلَ عشرة مِن الأعداء، فقتَلَه عامر بن نهشل التميمي. (2)

ص: 200


1- وفي نسخَةٍ: عبد الله بن قطنة الطائي
2- كتاب (مَناقب آل أبي طالب) لابن شهر آشوب، ج 4 ص 106. وبحار الانوار ج 45 ص 33

ولقد رَثاهما سليمان بن قبّة بقوله:

وسَميُّ النبيّ غُودرَ فيهم *** قد عَلَوه بصارم مَصْقُولِ

فإذا ما بكيتِ عيني فجُودي *** بدُموع تَسيل كلَّ مَسيلِ

واندُبي إنْ بكيتِ عوناً أخاهُ *** ليسَ فيما يَنوبُهم بِخَذول (1)

أقول: لم أجدْ في كتُب المقاتل أنّ السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) صاحتْ أو ناحَتْ أو َصرخَتْ أو بكتْ في شهادة وَلَديها، لا في يوم عاشوراء ولا بعده.

ومِن الثابت أنّ مصيبةَ وَلَديها أوجَدَتْ في قلبها الحُزنَ العميق، بل والهَبَتْ في نفسها نيرانَ الأسى وحَرارة الشَكْل، ولكنّها (عليها السلام) كانت تُخفي حُزنَها على وَلَديها، لأنّ جميع عواطفها كانت مُتّجهة إلى الإمام الحسين عليه السلام. (2)

ص: 201


1- کتاب (مَقاتل الطالبيّين) لأبي الفَرَج الإصفهاني، ص 91
2- وقد جاءَ ذِكُر هذين السيّدين الشهيدين في إحدى الزيارات الشريفة، التي ذُكرتْ فيها أسماء شهداء كربلاء في يوم عاشوراء، ومنها هذه الكلمات: «... السلام على عون بن عبدالله بن جعفر الطيّار في الجِنان، حَليفِ الإيمان، ومُنازلِ الأقران، الناصح للرحمن، التالي للمَثاني والقرآن، لعَنَ اللهُ قاتلَه عبدالله بن قطبة النبهاني. السلام على محمد بن عبدالله بن جعفر، الشاهد مكان أبيه، والتالي لاخيه، وواقيه ببَدَنه، لَعنَ الله قاتله عامر بن نهشل التميمي ...» وأمّا مَصدَر هذه الزيارة، فقد حَكى الشيخ المجلسي في كتاب (بحار الأنوار) طَبْع لبنان، عام 1403 ه-، ج 98 ص 269، وص 271، عن كتاب (إقبال الاعمال) عن الشيخ الطوسي ... قال : خَرَجَ مِن الناحية سنة 252 على يَد الشيخ محمد بن غالب: «بسم الله الرحمن الرحيم، إذا أردتَ زيارةَ الشهداء (رضوان الله عليهم) فقِفْ عند رجْلَي الحسين (عليه السلام) وهو قبر عليّ بن الحسين، فاستَقبِلْ القبلةَ بوَجْهك، فإنّ هناك حومة الشهداء ...». والمقصود مِن جملة «خَرَجَ مِن الناحية»: هو كلّما كان يَصلُ إلى الشيعة مِن جانب الإمام علي الهادي، ثمّ الإمام الحسن العسكري، ثمّ الامام المهدي (صلوات الله عليهم). والذي يُناسب التاريخ المذكور - وهو سنة 252 - أن تكون الزيارة قد صَدرتْ مِن ناحية الإمام عليّ الهادي عليه السلام، والله العالم. المُحقّق

وهناك وَجْهُ آخَر قد يتَبادر إلى الذِهن: وهو أنّ بكاءَها على وَلَديها قد كان يُسبّب الخَجَل والإحْراج لأخيها الإمام الحسين، باعتبار أنّهما قُتلا بين يديه ودفاعاً عنه، فكانَّ السيّدة زينب - بسكوتها - تُريد أن تقول للإمام الحسين (عليه السلام): وَلَدايَ فداءٌ لك، فلا يُهمّك ولا يُحرِجُك أنّهما قُتلا بين يديك. والله العالم.

ص: 202

مَقتل سيّدنا أبي الفضل العباس

لقد كانت العلاقات الودّية بين السيدّة زينب وبين أخيها أبي الفضل العباس (عليهما السلام) تمتاز بنوعٍ خاص مِن تبادل المحبّة والإحترام، فقد كانت السيّدة زينب تُكنّ لإخوتها مِن أبيها كلَّ عاطفة ووُدّ، وكان ذلك العَطف والتقدير يَظهر مِن خِلال كيفيّة تعاملها مع إخوانها الأكارم.

وكان سيّدنا أبو الفضل العباس - بشكلٍ خاص - يَحترم أُختَه زينب احتراماً كثيراً جداً.

وفي طوال رِحْلة قافلة الإمام الحسين (عليه السلام) مِن مكّة نحو العراق .. كان العباس هو الذي يَقوم بشؤون السيّدة زينب، مِن مُساعَدتها حينَ الركوب أو النزول مِن المَحْمِل ويُبادرُ إلى تَنفيذ الأوامر والطلبات بكلّ سرعة .. ومِن القلب.

فالسيّدة زينب (عليها السلام) مُحترمة ومَحبوبة عند الجميع،

ص: 203

يُحبّونها لِعَواطفها وأخلاقها الِمثاليّة، يُضافُ إلى ذلك: أنّها عَميدة الأُسرة، وعقيلة بَني هاشم، وابنة فاطمة الزهراء، وسيّدة نساء أهل البيت.

ومنذُ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني مِن شهر محّرم، إختارَ سيّدنا العباس بنُ أمير المؤمنين (عليهما السلام) لنَفسه نوعاً خاّصاً مِن العبادة: وهي أنّه كان إذا جَنَّ الليل يَركب الفَرس ويَحوم حولَ المُخيّمات لِحراسة العائلة.

والعباس: إسمٌ لامع وبَطلٌ شجاع، تَطمئنّ إليه نُفوس العائلة والنساء والأطفال، ويَعرفه الأعداء أيضاً، فقد ظَهَرتْ منه - يوم صفّين - شجاعة عظيمة جَعَلَتْ إسمه يَشتَهر عند الجميع بالبطولة والبِسالة، ولاعجَبَ مِن ذلك فهو ابن أسَد الله الغالِب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

وفي يوم عاشوراء، لمّا قُتلَ أكثرُ أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) أقبَلَ العباس إلى أخيه الحسين واستأذَنَه للقتال، فلم يأذنْ له، وقال: «أخي أنتَ صاحبُ لوائي، فإذا غَدَوتَ يؤول جَمْعُنا إلى الشَتات».

فقال العباس: يا سيّدي لقد ضاقَ صَدري وأُريد أخْذَ الثار مِن هؤلاء المُنافقين.

فقال له الإمامُ الحسين (عليه السلام): «إذَنْ .. فاطلُبْ

ص: 204

لِهؤلاء الأطفال قليلاً مِن الماء» (1).

فاقبَلَ العبّاس وحَمَل القِرْبة وتَوجّهَ نحو النهر لياتي بالماء ... . ، وإلى أنْ وَصَلَ إلى الماء ومَلأ القِرْبة، وتَوجّهَ نحوَ خيام الإمام الحسين (عليه السلام). فجَعَل الاعداء يَرمونه بالسِهام - كالمطر - حتّى صارَ دِرْعُه كالقُنفذ، ثمّ قَطعوا عليه الطريق وأحاطوا به مِن كلّ جانب، فحاربَهم وقاتَلَهم قتالَ الأبطال، وكان جَسُوراً على الطعْن والضَرْب.

فكَمِن لَه زيدُ بنُ وَرقاء مِن وَرَاء نَخلة وضَرَبَه بالسيف على يَمينه فقَطعَها، فاخذَ السيفَ بشماله واستَمرَّ في القتال، فضَرَبَه لَعينٌ على شماله فقَطعَ يَدَه، وجاءتْه السِهام والنِبال مِن كلّ جانب، وجاء سَهمٌ و أصابَ القِرْبة فأُريقَ ماؤها، وضَرَبَه الأعداء بعَمود مِن حديد على رأسه، فسقَطَ على الأرض صَريعاً، ونادى - باعلى صوته -: أدركْني يا أخي!

وكان الإمامُ الحسين (عليه السلام) قد وَقَف على رَبْوة عند باب الخيمة .. وهو يَنظر إلى ميدان القتال، وكانت السيّدة زینب واقفة تَنظر إلى وَجْه أخيها، وإذا بالحُزْن قد غَطى مَلامحَ الإمام الحسين! فقالت زينبُ: أخي مالي اراكَ قد تَغَيَّرَ وجْهُك؟

ص: 205


1- كتاب «تَظلّم الزهراء» ص 210

فقال: أَخَيّه لقد سَقَط العَلَم وقُتلَ أخيَ العباس!

فكانّ السيّدة زينب إنهَدَّ رُكْنُها، وجَلسَتْ على الأرض وصَرَخَتْ: وا أخاه! واعبّاساه!

واقِلَةَ ناصراه، واضَيعَتاه مِن بَعْدك يا أبا الفضل!

فقال الإمامُ الحسين: «إي والله، مِن بَعْده واضَيعَتاه! وا إنقِطاعَ ظهْراه!

وأقبَلَ الحسينُ - كالصَقْر المُنْقَض - حتّى وصَلَ إلى أخيه فرآه صَريعاً على شاطىء الفُرات، فنَزلَ عَن فَرَسَه ووَقفَ عليه مُنحَنياً، وجَلسَ عند رأسه، وبكى بكاءَ شديداً، وقال: «يعزّ - والله - علي فِراقُك، الآن إنكسَرَ ظهْري، وقَلّتْ حيلَتي، وشَمتَ بي عَدوّي».

ص: 206

مَقتل الطفل الرضيع

قال السيّد ابن طاووس (1): لَمّا رأى الحسينُ (عليه السلام) مَصارعَ فِتْيانه وأحبَّته عَزمَ على لقاء القوم بمُهْجته، ونادى:

هلْ مِن ذابٍّ يَذبُّ عن حَرم رسول الله؟

هلْ مِن مُوَحَدٍ يَخافُ اللهَ فينا؟

هلْ مِن مُغيثٍ يَرجو الله بإغاثَتِنا؟

هلْ مِن مُعين يرجو ما عند الله بإعانَتنا؟

فارتَفَعتْ أصواتُ النساء بالعويل، فتَقدَّم الإمامُ (عليه السلام) إلى باب الخيمة وقال لأُخته زينب: ناوليني وَلديَ الرضيع حتّى أودّعَه.

ص: 207


1- في كتاب المَلْهوف ص 168 / وذُكرَ في كتاب بحار الانوار ج 45 ص 46

فاخذَه وأومَا إليه ليُقبِّله فرماه حَرملةُ بنُ كاهِل بِسَهمٍ فوقَع في نَحْره فذَبحَه.

فقال الحسين لأُخته زينب: خُذيه.

ثم تَلقّى الدمَ بكفَّيه فلما امتَلأتا رَمى بالدم نحو السماء وقال: هَوّنَ عليَّ مانَزلَ بي أنّه بِعَين الله.

قال الإمام الباقر (عليه السلام) : فلَمْ يَسقط مِن ذلك الدم قطرة إلى الأرض. (1)

وفي رواية أُخرى: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما طلب طفلَه الرضيع لِيُودّعَه، أقبَلَتْ السيّدة زينب (عليها السلام) بالطفل، وقد غارتْ عَيناهِ من شِدَّة العَطش، فقالتْ: يا أخي هذا ولَدُك لَهُ ثلاثة أيام ما ذاقَ الماء، فاطلُب له شَربةَ ماء.

فأخذه الإمام الحسينُ (عليه السلام) على يده، واقبَلَ نَحوَ أهلِ الكوفة وقال: «يا قوم: قد قَتَلْتُم اخي واولادي وأنصاري، ومابَقيَ غير هذا الطفل، وهو يَتَلَظَى عَطشاً، مِن غير ذَنْبٍ أتاهُ إليكم، فاسقُوهُ شَربةً مِن الماء، ولقد جَفَّ اللَبَن في صَدر أُمّه!

يا قوم! إنْ لم تَرحَموني فارحَمُوا هذا الطفل، فَبَينَما

ص: 208


1- كتاب «مُعالي السبطين»، ج 1، ص 259، المجلس السادس عشَر

هو يُخاطبُهُم إِذْ أتاهُ سَهمٌ فَذَبَحَ الطفلَ مِن الأُذن إلى الأُذن!!

فجَعَلَ الإمام الحسينُ (عليه السلام) يَتلقّى الدَمَ حتّى امتلأتْ كَفُّه، ورَمى به إلى السماء، وخاطبَ نَفْسَه قائلاً: «يا نَفْسُ اصبِري واحتَسِبيْ فيما أصابَكِ» ثمّ قال: إلهي تَرى ما حَلَّ بِنا في العاجلِ، فاجعَلْ ذلك ذَخيرةً لَنا في الآجِل». (1)

وجاءَ في بعض كُتُب التاريخ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لَمّا رَجَع بالرضيع مَذبوحاً إلى الخيام، رأى الأطفال والبَنات - ومَعَهنّ أمُّ الرضيع - واقِفات بِباب الخيمة يَنتَظرنَ رُجوعَ الإمام، لَعلّهنَّ يَحصَلْنَ على بَقايا مِن الماء الّذي قد يكون الإمامُ سَقاهُ لِطفله.

فلمّا رأى الإمامُ الحسين ذلك، غَيَّرَ طريقَه، وذهَبَ وراء الخِيام، ونادى أُختَه زينب لِتأتيَ وتُمسِك جُثمان الرضيع، لكي يُخرجَ الإمامُ خَشَبَة السَهْم مِن نَحْر الطفل!!

ويَعلمُ الله ماذا جَرى على قلب الإمام الحسين وقلب السيّدة زينب (عليهما السلام) ساعةً إخراج السَهْم مِن نَحر الطفل.

ثمّ إنّ الإمام حَفَر الأرضَ ودَفَنَ طفلَه الرضيعَ تحتَ التُراب.

ص: 209


1- كتاب «مَعالي السبطين»، ج 1، ص 259، المجلس السادس عشَر

ص: 210

الفَصل العاشِر

إشارة

* الإمامُ الحسين يُودِّعُ وَلَده المريض

* الإمامُ الحسين يُودّع السيّدة زينب

* الإمام الحسين يَخرج إلى ساحة الجهاد

* عَودة فَرسً الإمام إلى المُخيّم

* ذهابُ السيّدة زينب إلى المعركة

ص: 211

ص: 212

الإمامُ الحسين (عليه السلام) يُودِّعُ ولَدَه المريض

كانت ساعاتُ يوم عاشوراء تَقترب نحو العَصْر، دقيقة بعد دقيقة، والإمامُ الحسين (عليه السلام) يَعلَم باقتراب تلك اللحظة التي يُفارق فيها الحياة بأفجَع صورة وأفظع كيفيّة.

وها هو يَنتهز تلك اللحظات لِيَقوم بما يَلزم، فقد جاء لِيُودّع وَلدَه البارّ المريض: الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام.

وكانت السيّدة زينب عليها السلام - والّتي تَفايَضَتْ صحيفةُ اعمالها بالحَسَنَات - قد اضافَتْ إلى حَسَناتها حسنةً أُخرى، وهي تَمريض الإمام زين العابدين (عليه السلام) وتكفُّل شؤونه.

ودَخَل الإمامُ الحسين على وَلَده في خيمته، وهو طريح على

ص: 213

نَطْع الأديم (1)، فلا سَرير ولا فراش وَثير، قد امتَصّ المَرضُ طاقات بَدَنه، لا طاقات روحه المرتبطة بالعالم الأعلى.

فدخلَ عليه وعنده السيّدة زينب تُمرّضه، فلمّا نَظَر عليُّ بنُ الحسين إلى أبيه أرادَ أنْ يَنْهَض فلم يَتمكّن مِن شِدّة المرض، فقال لِعمَّتِه:

«سَنِّديني إلى صدركِ، فهذا ابنُ رسول الله قد أقبَل».

فجَلَستْ السيّدة زينبُ خَلْفه، وسَنَّدتْه إلى صدرها.

فجَعلَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) يَسأل وَلَده عن مَرضه، وهو يَحمَد الله تعالى، ثمّ قال: يا أبتِ ما صنَعتَ اليوم مع هؤلاء المنافقين؟

فقالَ له الحسين (عليه السلام): «يا وَلَدي إستَحْوَذَ عليهم الشيطانُ، فانساهم ذِكرَ الله، وقد شَبَّ القتالُ بينَنا وبينَهم، حتّى فاضَت الأرضُ بالدم مِنّا ومِنْهم».

فقال: یا أبتاه أینَ عَمّى العبّاس؟

فلمّا سأل عن عمّه إختنَقتْ السيّدة زينبُ بِعَبْرتها، وجَعلتْ تَنظرُ إلى أخيها كيف يُجيبه؟ لأنّه لم يُخبره - قبل ذلك - بمَقتل العبّاس خوفاً مِن أنْ يَشتَدَّ مَرَضُه.

ص: 214


1- النَطع: بَساط مِن الجلْد يُفرَش تحتَ الإنسان. الأديم: الجِلْد المدْبوغِ

فقال: «يا بُنيّ إِنَّ عَمَّك قد قُتِل، وقَطَعوا يديه على شاطىء الفُرات».

فبكى عليُ بن الحسين بكاءً شديداً حتّى غُشيَ عليه، فلمّا أفاق مِن غَشْيَته جعَلَ يَسال أباه عن كلّ واحدٍ من عُمومَته، والحسين (عليه السلام) يَقول له: قُتِل.

فقال: وأين أخي عليّ، وحبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين؟

فقال له: يا بني! إعلَمْ أنّه ليس في الخيام رجلٌ إلّا أنا و أنت، وأما هؤلاء الذين تَسال عنهم فَكُلّهم صَرعى على وَجْه الثَرى.

فبكى عليُ بنُ الحسين بكاءَ شديداً، ثم قال - لِعمَّته زينب - : يا عَّمتاه عَلَيَّ بالسيف والعَصا.

فقال له أبوه: وما تَصنَع بهما؟

قال: أمّا العَصا فاتَوكّأ عليها، وأمّا السيف فاذُبُّ به بين يَدَيِ ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّه لا خَيرَ في الحياة بَعْدَه.

فمَنَعَه الحسين (عليه السلام) عن ذلك وضَمَّه إلى صدره، وقال له: يا وَلَدي! أنتَ أطيَب ذُرِّيتي، وافضل عِتْرَتي، وأنتَ خَليفَتي على هؤلاء العِيال والأطفال، فإنَّهم غُرَباء،

ص: 215

مَخْذولون، قد شَمَلَتْهم الذلة (1)، واليُتْم، وشماتة الأعداء، ونوائبُ الزمان. (2)

سَكَّتْهم إذا صَرَخوا، وآنِسْهُمْ إذا استَوحَشوا، َوسَلَّ خَواطرَهم بِلين الكلام، فإنّه ما بَقيَ مِن رجالهم مَن يَستانِسون به غيرك، ولا أحَدَ عندهم يَشتكون إليه حُزْنَهم سِواك.

دَعْهُم يَشُمُّوك وتَشُمُهم، ويَبكُوا عليك وتَبكي عليهم».

ثمّ لَزمَه بيده وصاحَ بأعلى صوته: «يا زينب! ويا أُمّ كلثوم، و يارُقيّة! ويا فاطمة!

إسمعْنَ كلامي، واعلَمْن أنّ إبني هذا خليفتي عليكم وهو إمامٌ

ص: 216


1- الذّلّة على قسمين: ظاهريّة وواقعيّة، ولاشكّ أنّ المراد مِن الذلّة - هنا -: الذلّة الظاهريّة .. وليست الواقعيّة، وعلى هذا المعنى يُحمّل قولُ الإمام الرضا (عليه السلام): «إنَّ يوم الحسين .... أذلَّ عزيزَنا». ولعلّ المقصود مِن الذلّة: هو وُقوع حَفيدات النُبوّة وبنات الإمامة في أسْر الأعداء، ومُعاناتُهُنَّ مِن التَعامُل القاسي مِن أولئك. المُحقّق
2- النَوائبُ - جَمْع نائبَة - : المَصائب والمَتاعب الّتي يَراها الإنسانُ طِوالَ حَياته. سُمّيتْ ب- «النَوائب» لأنّ الإنسان كلّما تَخلّصَ مِن مُصيبةٍ ظهرتْ في حياته مُصيبة أُخرى ومِن نوعٍ آخَر، فكأنّ المُصيبة اللاحِقة نابَتْ عن المصيبة السابقة، وحَلّتْ مَكانَها ، فسُمّيتْ ب- «النائبة». المُحقّق

مُفتَرَض الطاعة».

ثمّ قال له: «يا وَلَدي بَلّغْ شيعتي عنّي السلام، وقُلْ لهم: إنَّ أبي ماتَ غريباً فانْدُبوه، ومَضى شهيداً فابكُوه». (1)

ص: 217


1- كتاب (الدَمْعة الساكبة) للبهبهاني، طبْع لبنان، عام 1409ه-، ج 4، ص 351 - 352. المُحقّق

ص: 218

الإمامُ الحسين يودّع السيّدةَ زينب

يُعتبر التوديع نوعاً مِن التَزوّد مِن الرُؤية، فالمُسافر يَتزَوّد مِن رؤية مَن سَيُفارقُهم وهم يَتزوّدون مِن رؤيته، والوداعُ يُخفّفُ ألمَ البُعْد والفِراق، لأنَّ النَّفْس تكون قد استَوفَتْ قِسْطاً مِن رُؤية الغائب، وتَوطّنَتْ على المُفارَقة ومُضاعَفاتها.

ولهذا جاءَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) ليُودّع عَقائلَ النُّبوّة، ومُخدَّرات الرسالة، ووَدائعَ رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

لِيُودّعَ النساء والأخَوات والبَنات وأطفالَه الأعِزّاء، وليُخَفّف عنهم صَدِّمة مُصيبة الفِراق.

قد تَحدثُ في هذا العالَم حوادثُ وقضايا يُمكنُ شَرْحها ووَصْفها، وقد تَحدثُ أُمورٌ يَعجَز القَلَمُ واللسانُ عن شَرْحها ووَصْفها، بل لا يمكن تصوّرها.

إنّني أعتقِد أنّ تلك الدقائق واللحظات - مِن ساعات

ص: 219

التوديع - كانت قد تَجاوَزتْ حُدودَ الوَصْف والبَيان.

فالأحزانُ قد بَلَغتْ مُنتهاها، والقَلَق والاضطرابُ قد بَلَغَ أشُدَّه، والعواطفُ قد هاجتْ هَيَجان البحار المُتلاطمة، والدُموع مُتواصلة تَتَهاطّل كالمطَر، وأصواتُ البكاء لا تَنقطع، والقلوبُ مُلْتَهبة، بل مُشْتَعلة، والهُموم والغُموم مُتراكمة مِثْلَ تَراكُم الغُيوم.

فَبَعْد أنْ قُتِلَ جميعُ أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وبَنو هاشم، ولَمْ يَبْق مِن الرجال أحَد، عَزَم الإمامُ على لِقاء الله تعالى، وعلى مُلاقاة الأعداء بِنَفْسه المقدّسة، فاقبَلَ إلى المُخيّم للوداع، ونادى: «ياسُكينة ويا فاطمة، يا زينبُ ويا أمّ كلثوم: عليكُنَّ مِنّي السّلام، فهذا آخِرُ الإجتماع، وقد قَرُبَ مِنكُنَّ الإِفْتِجاعَ»!

فَعَلَتْ أصواتُهنَّ بالبُكاء، وصِحْنَ: الوداع .. الوداع، الفِراق .. الفِراق، فجاءَتْه عَزيزتُه سُكينة وقالتْ: يا أبَتاه إسْتَسْلَمْتَ لِلْمَوت؟ فإلى مَن أتْكِل؟

فَقال لَها: «يانورَ عَيني كيف لا يَسْتَسْلمُ للموت مَن لا ناصِرَ له ولا مُعين، ورَحمةُ الله ونُصرَتُه لا تُفارقكم في الدنيا والآخرة، فاصْبِري على قَضاء الله ولا تَشْكُيْ، فإنّ الدنيا فانِية، والآخرة باقية».

قالت: أبَه رُدَّنا إلى حَرَم جَدّنا رسولِ الله؟

ص: 220

فقال الإمامُ الحسين: هَيْهات، لو تُركَ القَطا لَغَفا ونام.

فَبَكتْ سكينة فاخذَها الإمام وضَمَّها إلى صدره، ومَسَحَ الدُموعَ عن عَينَيها.

ثمّ إنَّ الإمامَ الحسين (عليه السلام) دَعى النساءَ بأجمَعِهِن، وقال لَهُنَّ: «إِسْتَعِدّوا للبَلاء، واعْلَموا أنّ الله حافِظكم وحاميكم، وسَيُنجِّيكمْ مِن شَرِّ الأعْداء ويَجعَلُ عاقِبةَ أمْركم إلى خَير، ويُعذّبُ أعاديكم بأنواع العَذاب، ويُعوّضُكم عن هذه البَليَّة بانواع النِعَم والكرامة، فَلا تَشْكُوا ولا تَقولوا بألْسِنَتِكُم مايُنْقِصُ قَدْركم».

ثمَّ أمَرَهُنَّ بِلَبْس أُزرهِنَّ ومَقانِعِهن، فسالتْه السيّدة زينبُ عن سَبَب ذلك، فقال: «كانّي أراكمْ عن قَريب كالإماء والعَبيد يَسُوقُونكم أمامَ الركاب ويَسُومُونَكُم سُوءَ العَذاب»!!

فلَمّا سَمِعَت السيّدةُ زينب ذلك بَكتْ ونادتْ: واوَحْدَتاه، واقِلَّة ناصِراه، ولَطمَتْ على وَجْهها!

فَقال لها الإمامُ الحسين: «مَهْلاً يابنَة المُرتَضى، إنَّ البكاءَ طويل»!!

ثمّ أراد الإمامُ أن يَخرج مِن الخيمة فتَعَلّقتْ به السيّدة زینب وقالتْ: «مَهْلاً يا أخي، تَوَقَّفْ حتّى أتَزَوّدَ مِنْك ومِن

ص: 221

نَظري إليك، وأُودِّعَك وِداعَ مُفارقٍ لا تَلاقي بَعْدَه»؟ فجَعَلَتْ تُقبِّلُ يَديه ورِجْلَيه.

فصَبَّرَها الإمامُ الحسين، وذَكرَ لها ما أعَدَّ الله للصابرين.

فقالتْ: يابنَ أُمّي طِبْ نَفْسَاً وقَرِّ عَيناً فإنَّك تَجِدني كما تُحبُّ وتَرضى.

فقالَ لها الإمامُ الحسين: «أُخيّه إيتيني بِثَوبٍ عَتيق لا يَرغَبُ فيه أحَد، أجعلُهُ تحتَ ثِيابي لِئْلاً أَجَرَّدَ بَعْدَ قَتْلي، فإنّي مَقتولٌ مَسْلُوب، فارتَفَعتْ أصواتُ النساء بالبُكاء.

ولمّا أرادَ الإمامُ أنْ يَخرج نحو المَعركة نَظرَ يَميناً وشِمالاً ونادى: هَلْ مَن يُقَدِّمُ إليَّ جَوادي؟

فسَمِعتْ السيّدةُ زينب ذلك، فَخَرجَتْ وأخذَتْ بعِنان الجواد، وأقبَلَتْ إليه وهي تَقول: لِمَن تُنادي وقد قَرحْتَ فُؤادي؟! (1)

وقد جاءَ في التاريخ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أوصى أُختَه السيّدة زينب قائلاً: «يا أُختاه ! لا تَنسيني في نافلة الليل». (2)

ص: 222


1- کتاب «مَعالي السبطين» ج 2 ص 13 - 14، المجلس السادس
2- کتاب «زينب الكُبرى» للشيخ جعفر النَقدي، ص 58

الإمام الحسين يَخرج إلى ساحَة الجِهاد

كانت تلك اللحظات مِن أصعَب الساعات في حياة السيّدة زينب، مِن هَول قُرب الفاجعة والمستقبل المُخيف المُرعِب.

وهل يَستطيع القلمُ واللسان مِن وَصْف تلك الدقائق، وتأثيرها على قلب السيّدة زينب عليها السلام؟

لقد توجّه أخوها إلى ساحة القتال بعْدَ أنْ قَدَّمَ أعزّ أصحابه، وأشرفَ شَبابه، وأكرم عشيرته ضَحايا في سبيل الله، ولم يَبقَ له ومعه أحدٌ مِن الرجال سوى وَلَده العَليل.

ونتيجةُ الذهاب إلى المعركة مَعلومة: القتْل والشهادة!!

لقد تَرك الإمام الحسين (عليه السلام) أغلى ما عنده وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وَجْه الأرض، وأكثرها عفافاً وخَفارة، وهُنَّ مُخَدّرات الرسالة وعَقائل النبوّة، اللاتي كانت حياتهنّ مشفوعة بالعزّ والإحترام.

ص: 223

تَركَهم في وَسَط البَرِّ الأقفَر، قد أحاط بهنّ سَفَلة المجتمع، واراذلُ الناس، مِن باعة الضمائر، والهَمَج الرعاع، وفاقِدي الفضيلة. أُولئك الذين سَلّموا أنفسَهم واستَسْلَموا لاقدر سُلْطة في التاريخ، وأرجَس جهازٍ حاكم في العالَم.

والعائلة المُكرَّمة تَعرفُ إتّجاه أُولئك الأشرار الأوباش، ونفسيّاتهم، فالمخاوف والأخطار تُهاجم قلوبَ العائلة الشريفة مِن كلّ جانب.

فمِنْ ناحية: الإحساسُ باقتراب الخَطَر مِن حياة الإمام الحسين (عليه السلام).

ومِن ناحيةٍ أُخرى: تَرقَب إستيلاء العَدوّ الشَرس المُتوَحّش على سرادق الوحى ومُخيّمات النبوّة.

ومُضاعَفات هذه الاحتمالات مِن العَواصف والأعاصير التي سوف تَجتاح حياة السيّدات .. كلُّها أُمورٌ تَدعو إلى القَلَق والخوف والوَحْشة.

والآن .. نَقرأ ما جاءَ في كُتُب التاريخ حول ذهاب الإمام الحسين إلى ساحة المَعْركة:

ولمّا قُتِلَ جميعُ اصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ورجال أهل بيته، ولم يَبْقَ منهم أحَد، عَزَمَ الإمامُ على لِقاء القوم بِنَفسه ، فدَعى بِبُردَة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالتَحَفَ بها، وأفرَغَ عليها دِرْعَه الشَريف، وتَقَلَّدَ

ص: 224

سَيفَه، واستَوى على مَتْن جَواده، ثمّ تَوجَّهَ نحو ميدان الحرب والقِتال، فوقَف أمامَ القوم وجَعَل يُخاطبُ أهلَ الكوفة بِقوله:

«وَيلَكم على مَ تُقاتِلونَني؟!

على حَقٍّ تَركْتُه؟!

أمْ على شَريعَةِ بَدَّلتُها؟!

أمْ على سُنَّةِ غَيَّرتُها»؟!

فَقالوا: بَلْ نُقاتِلُك بُغْضَاً مِنّا لابيك، وما فَعَلَ بأشياخِنا يومَ بَدْرٍ وحُنَين. (1)

وجاءَ في بعض كتُب التاريخ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وَقَفَ أمامَ القَوم وسَيفُه مُصْلَتْ في يَده، آيِسَاً مِن الحياة، عازِماً على الموت، وهو يَقول:

أنا ابنُ عليِّ الطهْر مِن آلِ هاشمٍ *** كفاني بِهذا مَفْخَراً حِينَ أفخَرُ

وجَدّي رسولُ الله أكرمُ مَن مَشى *** ونحنُ سِراجُ الله في الخَلْق نَزْهَرُ

ص: 225


1- مَعالي السِبطين، ج 2 ص 5، الفصل العاشر، المجلس الثاني

وفاطمُ أُمّي مِن سُلالةِ أحمَدٍ *** وعَمّي يُدْعى ذا الجناحَين جعفرُ

وفينا كتابُ الله أُنزِلَ َصادِقاً *** وفينا الهُدى والوحي بالخير يُذكَرُ

ونَحنُ أمانُ الله للناس كلِّهم *** نُسِرُّ بهذا في الأنام و نَجْهَرُ

ونحنُ وُلاةُ الحَوض نَسْقِي وِلاتَنا *** بكأسِ رسولِ الله ما ليسَ يُنْكرُ

وشيعَتُنا في الحَشْر أكرمُ شِيعَةٍ *** ومُبْغِضُنا يومَ القيامة يَخْسَرُ

فطوبى لِعَبْدِ زارَنَا بَعْدَ مَوتنا *** بِجَنَّةِ عَدْنٍ صَفْرُها لا يُكدَّرُ (1)

فصاحَ عمرُ بنُ سَعد: «الوَيل لكم! اتَدْرون لِمَنْ تُقاتِلون؟ هذا ابنُ الانزَع البَطين، هذا ابنُ قَتّال العَرَب، إحمِلوا عليه مِن كلّ جانب». فحَمَلوا عليه وحَمَلَ عليهم كاللَيْثِ المُغْضَب، فقَتَلَ مِنهم مَقْتَلةً عظيمة، وكانت الرجالُ تَشَدُّ عليه فَيَشدُّ عليها، فتَنكشِفُ عنْه كالجَراد

ص: 226


1- بحار الأنوار للشيخ المجلسي، ج 45، ص 48 - 49

المُنْتَشِر! (1)

فحَمَلَ على مَيمَنَة عَسْكرهم وهو يقول:

الموتُ أولى مِن رُكوب العار *** والعارُ أولى مِن دخولِ النار

ثمّ حَمَلَ على مَيْسَرَة الجيش وهو يقول:

أنا الحسينُ بن علي *** آليْتُ أنْ لا أنثَنِي

أحْمي عِيالاتِ أبي *** أمضي على دين النبيّ

فجَعَلوا يرشقونه بالسِهام والنِبال حتّى صار دِرْعه كالقُنْفذ، فوَقَفَ لِيَسْتريحَ وقد ضَعُفَ عن القتال، فَبَينما هو واقِف إذ أتاه حَجَرٌ فأصاب جَبْهتَه المُقدّسة، فسالَ الدمُ على وَجْهه، فاخَذَ الثوبَ لِيَمسَحَ الدمَ عن عَينه، فأتاهُ سَهمٌ مُحَدَّد مَسْموم لَه ثَلاثُ شُعَب فوَقَع السَهُم على صدره َقريباً مِن قَلْبه، فقال الإمام الحسين: «بسم الله وبالله وفي سَبيل الله وعلى مِلَّة رسول الله»، ورَفَع راسه إلى السماء وقال: «إلهيْ .. إنّكَ تَعلَم أنّهم يَقتُلون رجلاً ليسَ على وَجْه الأرض ابنُ نبيٍّ غيره»!

ثم أخَذَ السَهمَ وأخرجَه مِن قَفاه فاتبعَثَ الدم كالمِيزاب، فوَضَع يَدَه على الجُرح فلمّا امتَلأتْ دَماً رَمى به إلى السَماء، ثمّ وَضَع يَدَه على الجُرح ثانياً فلمّا امتَلأتْ لَطّخَ به

ص: 227


1- بحار الأنوار للشيخ المجلسي، ج 45 ص 45 ص 50

رأسَه ولحيتَه، وقال: «هكذا أكون حتّى ألقى جدّي رسولَ الله وأنا مَخضُوب بِدَمي وأقول: يارسولَ الله قَتَلَني فُلانٌ وفلان». (1)

فَعِنْدَ ذلك طعَنَهُ صالحُ بنُ وهَب بالرُمح على خاصِرَته طعْنةً، سَقَط منها عن فَرسه إلى الأرض على خَدِّه الأيمن، وهو يَقول: «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى مِلَّة رسول الله» ثمّ جَعَل يَجمَع التُرابَ بِيَدِهِ، فَيَضَع خَدَّه عليها ثمّ يُناجي رَبّه قائلاً: «صَبْراً على قَضائك وبَلائك، يا رَبِّ لا مَعْبودَ سِواك».

ثمّ وَثَبَ لِيَقومَ للِقتال فلم يَقدر، فبكى بُكاءً شديداً، ونادى: «واجَدّاه وامحمّداه، واأبَتاه واعَليّاه، واغُربَتاه، واقِلَّةَ ناصِراه!!

ءأقتَلُ مَظلوماً وجَدّي محمّدٍ المصطفى؟!

ءأُذبَحُ عطشاناً وأبي عليّ المُرتضى؟!

ءأُترَكُ مَهْتُوكاً وأُمِّي فاطمة الزهراء»؟! (2)

فخَرَجَ عبدُ الله بن الإمام الحسن (عليه السلام) وهو غُلام لمْ يُراهِق (في الحادية عشَر مِن عُمْره) مِن عند النساء،

ص: 228


1- بحار الأنوار، ج 45، ص 53
2- نَفْس المصدر

فَشَدَّ حتّى وَقَفَ إلى جَنْب عمّه الحسين، فلحِقَتْه زينبُ بنتُ علي لِتَحبِسَه، فابى وامتَنَع عليها إمتناعاً شديداً وقال: والله لا أُفارق عَمّي وجاءَ حَتَّى جَلَس عند الإمام، وجعَلَ يَطلُبُ منه أن يَنهَضَ ويَرجع إلى المُخَيّم، وفي هذه الأثناء .. أقبَلَ أبحر بن كعب إلى الحسين والسيفُ مُصْلَتٌ بِیَده، فقال له الغُلام: وَيْلك يابنَ الخَبيثَة أتقتُل عَمّي! فضَرَبَه أبحر بالسيف فاتَّقاهُ الغلامُ بِيَده (1) وأطنَّها إلى الجِلْد فإذا هي مُعلَّقة، ونادى الغُلامُ: يا عَمّاه، فاخَدَه الإمامُ الحسين وضَمَّهُ إليه وقال: «يابنَ اخي إصْبِرْ على ما نَزَلَ بك واحتَسِبْ في ذلك الأجْر، فإنَّ الله يُلْحِقُك بآبائك الصالحين»، فَرَماه حَرملة بِسَهمٍ فذَبَحَه في حِجْر عَمّه الحسين. (2)

وبَقيَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) مَطروحاً على الأرض .. والشمسُ تصهَرُ عليه، فنادى شِمرٌ بالعَسْكر: ما وُقوفكم؟! إحمِلوا عليه.

ص: 229


1- لعلَّ المَعنى: أنَّ الغُلام مَدَّ يَدَه على جسم عمّه الحسين لكي لا تَصِل الضَرْبَةُ إليه، لكنّ العدوّ أنزَلَ السيفَ ولم يَرْحَم الغُلام. أطنَّها قَطعَها. أي: قَطعَ السيفُ يَدَ الغُلام إلى الجِلْد
2- بحار الانوار، ج 45، ص 53 - 54

فحَمَلوا عليه مِن كلّ جانب، وضرَبَه زرعة بن شريك بالسيف على كتفه، وطعَنَه الحصينُ بن نُمير بالرمح في صدره.

فصاحَ عمرُ بنُ سعد: وَيلَكم إنْزِلوا وحُزّوا رأسَه! وقال لِرَجلٍ: وَيَلَك إنزلْ إلى الحسين وارِحْهُ!

فاقبَلَ عمرو بنُ الحَجاج لِيَقتُلَ الحسين، فلمّا دَنى ونَظرَ إلى عَينَيه وَلّى راجِعاً مُدْبِراً، فسَألوهُ عن سَبَب رُجوعه؟ قال: نَظرتُ إلى عَينَيه كانّهما عينا رسول الله!!

واقبَلَ شَبَثُ بنُ رَبْعي فارتَعَدَتْ يَدُه ورَمى السيفَ هارِباً ... .

ص: 230

عَودَة فَرَس الإمام الحسين إلى المُخيَّم

وكان فَرَس الإمام الحسين.. فَرَساً أصيلاً مِن جِياد خَيل رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وقد بَقيَ حَيّاً إلى ذلك اليوم - فلمّا رأى ماجَرى على صاحبه (أي: سُقوط الإمام عن ظهره إلى الأرض) جَعَل يُحَمْحِم ويَصْهَل ويَشمّ الإمامَ الحسين ويُمرّغ ناصيتَه بدَمه، ثم تَوجّه نحو خيام الإمام (عليه السلام) بكلِّ سُرعة .. وهو هائج هِياجاً شَديداً، وقد مَلأ البَيداء صَهيلاً عظيماً، فلمّا وَصَل إلى المُخيَّم جَعَلَ يَضربُ الأرضَ برأسه عند خيمة الإمام الحسين، وكأنّه يُريدُ إخبارَ العائلة بماجَرى على راكبه، حتّى سقَط على الأرض عند باب الخَيمة.

فخَرجت النساءُ والأطفال مِن الخيام فراينَ الفَرسَ خالياً مِن راكبه، فارتَفَعتْ صياح النساء، وخَرجْنَ حافيات باكيات،

ص: 231

يَضربْنَ وجوهَهن، لِمانَزَل بهنّ مِن المصيبة والبَلاء، وهُنَّ يَصِحْن: «وامحمّداه، واعليّاه، وافاطمَتاه، واحسَناه، واحُسَيناه».

وصاحتْ سُكينة : «قُتل - والله - أبيَ الحسين، ونادتْ: واقتيلاه واأبتاه، واحسَيناه، واغُربتاه». (1)

ص: 232


1- معالي السبطين ج 2، الفصل العاشر، المجلس الرابع عشَر، رَواه عن كتاب (تظلّم الزهراء)

ذهاب السيّدة زينب إلى المعركة

ولمّا سَقطَ الإمام الحسين (عليه السلام) على الارض خَرجتْ السيّدة زينبُ مِن باب الخيمة نَحو المَيدان، وهي تُنادي: وا أخاه، واسيّداه وا أهلَ بَيتاه، لَيتَ السماء أُطبِقَتْ على الأرض، ولَيتَ الجبال تَدكْدكتْ على السَهْل.

ثمَّ وَجَهَتْ كلامَها إلى عمرَ بن سعد، وقالتْ: يابنَ سَعْد! أيُقتَلُ ابو عبد الله وأنتَ تَنظر إليه؟!

فلمْ يُجِبْها عمر بشيء.

فنادتْ: وَيْحَكم!! ما فيكم مُسلم؟! (1)

فلم يُجِبْها أحَد بشيء.

ثمَّ انحَدَرتْ نحو المعركة وهي تركُض مُسْرعةٌ، فتارةٌ تَعْثَر

ص: 233


1- وفي نسخة: أما فيكم مُسلم؟

بأذْيالها، وتارةً تَسقُط على وَجْهها مِن عِظَم دَهْشَتها حتّى وصَلتْ إلى وَسَط المعركة، فجعلتْ تَنظر يَميناً وشمالاً، فرأتْ أخاها الحسين (عليه السلام) مَطروحاً على وجْه الأرض، وهو يَخُورُ في دَمه، ويَقبض يَميناً وشمالاً، ويَجْمَعُ رِجلاً ويَمُدُّ أُخرى، والدماءُ تَسيل مِن جُراحاته، فجلَسَتْ عنده وطرحَتْ نفْسَها على جسَده الشريف، وجَعلَتْ تقول:

ءأنتَ الحسين؟!

ءأنت أخي؟!

ءأنتَ ابن أُمّي؟!

ءأنت نور بصري؟!

ءأنت مُهْجة فُؤادي؟!

ءأنتَ حِمانا؟!

ءأنتَ رَجانا؟!

ءأنتَ ابن محمّد المصطفى؟!

ءأنتَ ابن علي المرتضى؟!

ءأنتَ ابن فاطمة الزهراء؟ (1)

ص: 234


1- أقول: يُحتمل أنّ السيّدة زينب قالت هذه الكلمات بصِيغة السؤال .. و مِن مُنطلَق الإستغراب حيث رأتْ أخاها العزيز وهو بتلك الحالة المُؤلمة، خاصةً .. وأنّها عارِفة بعظمته، وجَلالة قَدره. ويُحتمل أنّها قالت هذه الكلمات لا بصيغة السؤال أو مُنطلَق الإستغراب، بل مِن مُنطلَق العاطفة والحَنان، ولعلّها تَحصل على كلمة جوابيّة منه (عليه السلام) فَتَعلم أنّه لازال حَيّاً. المُحقّق

کلُّ كل هذا، والإمامُ الحسين لا يَردّ عليها جَواباً، لأنّه كان مَشغولاً بنفسه، وقد استَولى عليه الضَعف الشديد بِسَبَبِ نَزْفِ الدم وكثْرة الجُراحات.

فقالت: أخي! بِحَقِّ جدّي رسولِ الله إلّا ما كلّمتَني، وبحَقّ أبي: عليّ المرتضى إلا ما خاطبتَني، وبحَقّ أُمّي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبْتَني.

يا ضياءَ عَيني كلّمْني.

يا شَقيقَ روحي جاوِبْني .

فعند ذلك جلسَتْ خَلْفه، وأدخَلَتْ يَدَيها تحتَ كَتِفِه وأجلَستْه حاضِنَةٌ له بصَدْرها.

فانتَبه الإمامُ الحسين مِن كلامِها، وقال لها - بصوت ضعيف - : «أُخَيَّه زينب! كسَرْتي قلبي، وزِدْتيني كرْباً على كرْبي، فبالله عليكِ إلْا ما سَكَنْتِ وسَكَتِّ».

فصاحتْ: «واويلاه! يا أخي وابن أُمّي كيف أسكُن وأسكُت، وأنتَ بهذه الحالة، تُعالج سَكَرات الموت؟!

رُوحي لِروحِك الفِداء! نَفْسي لِنَفسك الوِقاء».

ص: 235

فبينَما هي تُخاطبُه ويُخاطبُها، وإذا بالسوط يَلْتَوي على كتِفِها، وقائلٍ يقول: تَنَحَّيْ عنه، وإلّا ألحَقتُكِ به، فالتَفتَتْ وإذا هو شمرُ بن ذي الجوشن (لعنه الله).

فاعتَنَقَتْ أخاها، وقالت: واللهِ لا اتَنحّى عنه، وإِنْ ذَبَحْتَه فاذَبحْني قَبْلَه.

فجَذَبها عنه قَهراً، وقال: والله إنْ تَقدّمت إليه لَضَربْتُ عُنقَكِ بهذا السيف.

ثمَّ جَلسَ اللعين على صَدر الإمام، فتَقدَّمتْ السيّدة زينب إليه، وجَذَبت السيف مِن يده.

وقالت: يا عدوّ الله! إرفِقْ به لقد كَسرْتَ صدرَه، واثقلْتَ ظهرَه، فبالله عليكَ إلّا ما أمْهَلْتَه سُوَيعةٌ لاتَزَودَ منه.

وَيلَك! أما علِمْتَ أن هذا الصَدر تَربّى على صدْر رسولِ الله وصَدر فاطمة الزهراء؟!

وَيحك! هذا الّذي ناغاهُ جَبرئيل، وهَزَّ مَهْدَه ميكائيل!!

.... دَعْني أُودّعَه، دَعْني أُغمّضه، ... فلم يَعبَا اللعين بكلامها، ولا رَقّ قلبُه عليها. (1)

ص: 236


1- كتاب «تَظلُّم الزهراء» للسيّد رضي بن نبي القزويني، ص 232، طبع بيروت - لبنان، عام 1420ه-

ويُستفادُ مِن بعض كُتُب المَقاتل أنّ السيّدة زينب (عليها السلام) لم تكن هناك حينَ مَجيء الشمر، بل أسرَعَتْ إلى المُخيَّم، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين (عليه السلام) حيث أمَرَها بالرجوع إلى الخيام.

ووَقَعتْ الفاجعةُ العُظمى والرَزيَّة الكُبرى، ألا وهي: مَقتل الإمام المظلوم أبي عبدالله الحسين (عليه السلام).

فبَدأتْ الأرضُ تَرتَجفُ تَحتَ أرجُل الناس وانكسَفَت الشمس، وأمطَرتِ السماءُ دَماً عَبيطاً (1) وتُراباً أحمر.

فأقبَلَت العقيلة زينبُ إلى مُخيَّم الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت: يابنَ أخي: مالي أرى الكونَ قد تَغيّر؟ والشمس مُنكسِفَة؟ والأرض تَرجِف؟!

فقال لها: يا عَمّة: أنا َعليلٌ مريض لا استطيع النَهوض إرفعي جانبَ الخيمة وسَنّديني إلى صدركِ لانظُرَ ما الّذي جَرى!

فنَظَر إلى المَعركة وإذا بفَرَس ابيه الحسين يَجولُ في الميدان خالي السَرْج و مُلقى العَنان، ورأى رَمحاً عليه راسَ الإمام الحسين!

فقال يا عمَّة: إجْمَعى العِيال والأطفال، لقد قُتِل أبي

ص: 237


1- الدمُ العَبيط: هو الدم الطَريّ غير المُتَخَثِّر

الحسين، قُتِل أسَدُ الله الباسل، قُتِل إبنُ سيّد الأوصياء، قُتِل إبنُ فاطمة الزهراء، ثمّ غُشِي عليه وسَقَط على الأرض مَكبوباً على وَجْهه.

فأخذَتْ السيّدةُ زينبُ رأسَه ووَضعَتْه في حِجْرها ونادتْ:

إجلِسْ تَفْديكَ عمّاتُك.

إجلِسْ تَفْديكَ أخواتُك.

إجلِسْ يا بقيّة السَلَف.

إجلِسْ يَا نِعْمَ الخَلَف.

وهو لا يُجيبُ نِداها، ولا يَسمع شَكواها، فعند ذلك إنكبَّتْ عليه ومَسَحَت التُراب عن خَدَّيه ونادتْ: يازينَ العِباد، يا مُهجَة الفُؤاد، ففَتَح عَيْنَيْه.... (1)

ص: 238


1- كتاب «تَظلّم الزهراء» ص 233 - 234

الفَصل الحادي عشر

إشارة

* الهجوم على المخيّمات لِسَلْب النساء

* إحراق خيام الإمام الحسين (عليه السلام)

* السيّدة زينب تَجْمَع العِيال والأطفال

* ليلة الوَحْشة

* تَرحيل العائلة مِن كربلاء

* نياحة السيّدة زينب على سيّد الشهداء

ص: 239

ص: 240

الهجوم على المخيّمات لسَلْب النساء

وبعد ما قُتِلَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) بِمُدّةٍ قَصيرة .. هَجَمَ جيشُ الأعداء بكلّ وَحْشيّة على خِيام الإمام الحسين (عليه السلام)، وهُم على خيولهم!! حتّى سُحِقَ سبعة مِن الأطفال تَحتَ حَوافِر الخَيل .. ساعة الهُجوم (1) وقد سَجّل التاريخ أسماءَ خمسةٍ منهم، وهم:

بِنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام. (2)

طفلان لعِبْد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب، وإسمُهما:

ص: 241


1- كتاب «مَعالي السبطين» ج 2 ص 135، الفَصل الخامس عشر، المجلس الثاني عشَر
2- مَعالي السبطين، ج 2 ص 140

سَعد وعقيل. (1)

عاتكة بنت مسلم بن عقيل، وكانَ عُمْرها سَبع سَنوات. (2)

محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكانَ له مِن العُمْر سَبع سَنوات. (3)

نعم، لقد كانَ الهُجوم على العائلة - المَفْجوعة لِتَوّها - بَعيداً عن الرَحْمة والإنسانيَّة، وقد وَصَفَ التاريخُ ذلك الهجوم بِقوله:

وتَسابَقَ القومُ على نَهْب بُيوت آلِ الرسول، وقُرَة عَينِ الزهراء البتول، حتّى جَعَلوا يَنزَعون مِلْحَفَة المَرأة عن ظَهرها!! (4).

وكانت المَرأةُ تُجاذَبُ على إزارها وحِجابها .. حتّى تُغْلَبُ على ذلك. (5)

ص: 242


1- مَعالي السبطين، ج 2، ص 135
2- نَفْس المصدر، ص 135
3- نَفْس المصدر
4- المِلْحَفة: المُلاءَةُ التي تَلتَحِفُ بها المرأة، كما في «أقرب الموارد». ويُعبّر عنها - حاليّاً - بالعَباءَة والإزار. المُحقّق
5- کتاب معالي السبطين، الفصل الثاني عشر المجلس الثاني. أي: كانت المرأةُ تُمْسِكُ عَباءَتها وحِجابها بقُوَّة، وكانَ الأعداء يَسْحَبونَ ويَجْذبونَ عنْها ذلك، ويَضربونَهنّ على أيديهنّ بالعِصِيّ والسِياط لكي يَستَطيعوا سَلْبَ ما عليهنَّ مِن أزْرٍ ومَقانع!! المُحقّق

وخَرجْنَ بناتُ آل الرسول وحَريمُه يَتساعدنَ على البكاء، ويَنْدبْن لفراق الحُماة والاحبّاء. (1)

قال حميدُ بن مسلم: رأيتُ امرأةٌ مِن بَني بَكْر بن وائل - كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد - فلمّا رأت القوم قد اقتَحَموا على نساء الإمام الحسين في خيامهنّ، وهم يَسلبونَهنَّ، أخذتْ سيفاً و أقبلتْ نحوَ الخِيام وقالتْ:

«يا آلَ بَكْر بن وائل

أتُسلَبُ بناتُ رسولِ الله؟!

لا حُكْمَ إِلّا لِلّه!!

يا لِثارات رسولِ الله!!

فأخَذَها زوجُها، ورَدَّها إلى رَحْله. (2)

قالت فاطمة بنتُ الإمام الحسين عليه السلام:

«كنتُ واقفة بباب الخيمة، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه

ص: 243


1- كتاب (المَلْهوف) لابن طاووس، ص 181
2- نَفْس المصدر

مُجَزّرين كالأضاحي على الرمال، والخُيول على أجسادهم تَجول!!

وأنا أُفكّر فيما يَقع علينا بعد أبي .. مِن بَني أُميّة!

أيَقتُلونَنا أمْ ياسِرونَنا؟

فإذا بِرَجل على ظهر جَواده، يَسوقُ النساء بكَعب رُمْحه، وهُنَّ يَلُذنَ بعضُهنّ ببعض، وقد أُخِذَ ماعليهنَّ مِن أخْمِرةٍ وأسْورة (1) وهُنَّ يَصِحْن: «واجَدّاه! وا أبَتاه! واعَليّاه! واقلّة ناصراه! واحُسيناه!

أما مِن مُجيرٍ يُجيرنا؟

أما مِن دَائِدِ يَذود عنّا؟»

قالت: فطارَ فؤادي، وارتَعدَتْ فَرائصي، فجَعلتُ أُجيل بِطَرفي(2) يميناً وشمالاً على عمَّتي أُمّ كلثوم خَشيةً منه أنْ ياتيني.

فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قَصَدني، فَقررتُ مُنهزمة، وأنا أظنّ اني أسلَمُ منه!! وإذا به قد تَبِعَنى، فذهلتُ خشيةً منه، وإذا بكعْب الرُمح بين كتْفيً، فسَقطتُ على وَجْهي

ص: 244


1- أخمِرة - جَمْع خِمار - : ما تُغَطّي به المرأةُ راسَها. أسورة - جَمْع سِوار - حِلْية - كالطَوْق - تَلْبَسها المرأةُ في زَنْدِها أو مِعصْمَها، ويُعبّر عنها - أيضاً - : بالمَعاضِد
2- أُجيل بِطرفي: أُدِيرُ بِعَيني وبَصَري

فَخَرمَ أُذني، وأخذ قرطي ومَقنعتي، وتَرك الدماء تَسيل على خَدّي، ورأسي تَصهَرُه الشمس، ووَلّى راجِعاً إلى المُخيّم وأنا مَغشيٌّ عليَّ!!

وإذا بِعَمَّتي عندي تبكي، وهي تقول:

قُومي نَمْضي، ما أعلم ما جَرى على البنات وعلى أخيكِ العَليل؟

فما رَجعْنا إلى الخيمة إلّا وهي قد نُهِبتْ وما فيها.

وأخي: علي بن الحسين مَكبوبٌ على وجْهه، لا يُطيق الجلوس مِن كثرة الجوع والعطش والاسقام، فجَعلْنا نَبكي عليه ويَبكي علينا!! (1)

ورُويَ عن السيّدة زينب (عليها السلام) أنّها قالت: كنتُ - في ذلك الوقت - واقفة في الخيمة إذ دخلَ رجل أزرق العَينين (2) فاخذَ ما كان في الخيمة، ونظر إلى عليّ بن الحسين وهو على نَطع مِن الأديم (3) وكان مريضاً فجَذَب النَطْع مِن تحته ورَماه إلى الأرض!!

ص: 245


1- بحار الأنوار للمجلسي ج 45 ص 61
2- وهو خولى بن يزيد الأصبحي. كما في كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي الطبعة الحديثة، ج 3 ص 129
3- النَطع: بَساط مِن الجِلْد يُفرَش تحت الإنسان. الأديم: الجِلْد المَدْبوغ

قال حميدُ بن مسلم: انتهيتُ إلى عليّ بن الحسين، وهو مريض ومُنبسط على فراش، إذ أقبلَ شمر بن ذي الجوشن ومعه جماعة مِن الرّجالة، وهم يقولون [له]: ألا تَقتل هذا العَليل؟

فهمَّ اللَعينُ بقتْله، فقلت: سبحان الله! أتَقتل الصِبيان؟! إنما هو صَبي.

فلم يَمتَنع اللَعين وسَلَّ سيفَه ليقتله، فالقتْ زينب (عليها السلام) بنفسها عليه وقالت: واللهِ لا يُقتَل حتّى أُقتَل.

فاخذ عمر بن سعد بيده وقال : أما تَستحي مِن الله، تُريد أن تَقتل هذا الغلام المريض؟!

فقال شمر: قد صَدَر أمرُ الأمير عبيدالله بن زياد أنْ اقتل جميعَ أولاد الحسين.

فبالَغَ عمرُ في مَنْعه، فكفَّ عنه. (1)

ص: 246


1- كتاب مَعالي السبطين ج 2، الفصل الثاني عشر، المجلس الثاني. وكتاب أسرار الشهادة ج 3 ص 129

إحراق خِيام الإمام الحسين عليه السلام

ولمّا فَرغَ القومُ مِن النَهْب والسَلْب، أمرَ عمرُ بن سعد بحَرْق الخيام.

فاضْرَموا الخِيَم ناراً، ففَررْنَ بناتُ رسول الله مِن خيمة إلى خيمة، ومِن خِباء إلى خِباء ..

وذُكرَ في بعض كتُب المقاتل: أنّ زينب الكبرى (عليها السلام) أقبلتْ إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت:

يا بقيّةَ الماضين وثِمال الباقين! (1) قد أضْرَموا النارَ في مَضاربنا (2) فما رأيك فينا؟

ص: 247


1- الثِمال - على وَزْن كتاب - الغِياث الّذي يَقومُ بأمْر قومه، يُقال: فلانٌ ثِمالُ قومه: أي غِياثٌ لهم. كتاب «مَجْمعَ البحرين» للطُريحي
2- المضارب: الخيام

فقال (عليه السلام) : عليكنَّ بالفرِار.

ففَررْنَ بناتُ رسولِ الله صائحات باكيات.

قال بعضُ مَن شَهِد ذلك:

رأيتُ امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة، والنار تَشْتَعل مِن جَوانبها، وهي تارةً تَنظر يَمنة ويَسْرة، وتارةً أُخرى تَنظر إلى السماء، وتصفق بيديها، وتارةٌ تَدخل في تلك الخيمة وتَخرج.

فأسرعْتُ إليها وقلتُ: يا هذي! ما وقوفكِ هاهنا والنار تَشْتعل منِ جَوانبكِ؟! وهؤلاء النِسْوة قد فَررْنَ وتَفرَّقَن، ولِمَ لمْ تَلْحَقي بهنَّ؟! وما شَأنكِ؟!

فبكتْ وقالت: يا شيخ إنّ لنا عَليلاً في الخيمة، وهو لا يَتمكّن مِن الجلوس والنُهوض، فكيف أُفارقه وقد أحاطتْ النارُ به؟ (1)

وعن حميد بن مسلم قال: رأيتُ زينب - حينَ إحراق الخيام - قد دَخلتْ في وَسَط النار، وخَرجَتْ وهي تَسْحَب إنساناً مِن وَسَط لَهيب النار، فظَنَنْتُ أنّها تَسْحَبُ مَيّتاً قد احتَرق، فاقتَربْتُ لأنظر إليه، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين. (2)

ص: 248


1- مَعالي السبطين ج 2، الفصل الثاني عشَر، المجلس الثالث
2- کتاب «الطراز المُذهّب في احوال سيّدتنا زينب»

أيّها القارىء الكريم: أنظر إلى هذه العَمَليّة الفِدائيّة، وهذه التضحية بالحياة!!

كيف تَفْتَحِم هذه السيّدة الجليلة المكانَ المَشْحون بلَهيب النار، لتُنْقذَ ابنَ أخيها - وإنْ شِئتَ فقُلْ: إمامَ زَمانها - مِن بين أنياب الموت؟!

فهل تَعرف نَظيراً لهذه السيّدة فيما قامتْ به مِن الخَطوات والأعمال؟!

إنّها مُغامَرة بالحياة مِن أجْل الدين.

إنّها إبنة ذلك البَطل العظيم الذي كان يَخوضُ غِمارَ الموت بين يَدَي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم - للدفاع عن الإسلام والمحافَظة على حياة نَبيّ الإسلام.

إنّها إبنة أسَد الله الغالب الإمام علي بن ابي طالب (عليهما السلام).

ص: 249

ص: 250

السيّدة زينب تَجمَع الِعيال والأطفال

لقد أوصى الإمامُ الحسين أُختَه السيّدة زينب بالمحافظَة على العِيال والأطفال بعد استِشْهاده (عليه السلام)، ويَعلَمُ الله كم كان تَنفيذُ هذه الوصيّة أمْراً صَعْباً، وخاصّةً بعد الهجوم الوحشي على مُخيّمات الإمام الحسين (عليه السلام) وبعد إحراق الخيام وتَبْعثَر النساء والأطفال في الصحراء!

ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تَلْجأ إلى السيّدة زينب، وتُخفي أنفسَهنَّ خَلفَها، وكان الاطفال - أيضاً - يَفْزَعون إليها ويَتَستّرون وَرَاءَها خوفاً مِن الضَرْب بالسِياط والعِصِيّ، فكانت السيّدة زينب (عليها السلام) تُحافظ عليهم - كما يُحافظ الطيرُ على فراخه حين هُجوم الصقور على عِشّه - فتَجْعَل جسْمَها مانعاً مِن ضَرْب النساء والأطفال، وقد إسودَّ ظهرها - في مُدّة زَمَنيّة قصيرة - بسبَب الضَرْب المُتوالي على جسمها!

ص: 251

وبعد الهجوم والإحراق بَدأتْ السيّدةُ زينب تَتَفَقد النساء والأطفال، وتُنادي كلَّ واحدةٍ منهنّ باسمها، وتَعُدّهم واحدةً واحدة، وتَبحَث عمّن لا تَجِده مع النساء والأطفال!

ونَقرأ في بعض الكُتُب: أنّ السيّدة زينب (عليها السلام) لمّا بدأتْ بجَمْع الِعيال والاطفال، لم تَجد طِفليَن منهم، فذهبتْ تَبحَث عنهما هنا وهناك، وأخيراً .. وجَدَتْهما مُعتَنقَين نائمَين، فلمّا حَرّكتْهما فإذا هما قد ماتا مِن الخوف والعَطش!!

ولمّا سَمعَ العسْكر بذلك قالوا لابن سعد: رَخِّصْ لنا في سَقْي العيال ... . (1)

وذُكرَ في بعض الكتُب أنّ طفلَين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين، إسمُهما: سَعد وعقيل، وأنّهما ماتا مِن شِدّة العطش ومِن الدَهشة والذُعْر، بعد مَقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وهجوم الأعداء على المُخيَّم للسَلْب. وأُمّهما: خديجة بنت الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام. (2)

ص: 252


1- كتاب «الإيقاد» للسيّد محمّد علي الشاه عبدالعظيمي، الطبعة الحديثة، ص 139
2- مَعالي السبطين ج 2، الفصل 12، المجلس الرابع

ليلة الوَحْشة

باتَت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرَّم بحالةٍ لا يَستطيع أيُّ قلم شَرحَها ووَصْفها، ولا يستطيع أيُّ مصوّر أن يُصوّر جانباً واحداً مِن جوانب تلك الليلة الرهيبة.

قبلَ أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرّمة وهي تَملك كلَّ شيء، وهذه الليلة أظلمتْ عليها وهي لا تملك شيئاً.

رجالُها صَرعى مُرمّلون بِدمائهم، وأطفالُها مَذبوحون، والأموال قد نُهبتْ، والُأزُر والمقانع سُلبتْ، والظُهور والمُتون قد سَوَّدتها السياط وكِعابُ الرماح.

ليسَ لَهم طعامٌ حتّى يُقدِّموه إلى مَن تبقّى مِن الاطفال، ولا تسال عن المَراضع اللواتي جَفٌ اللبَن في صدورهنّ جوعاً وعطَشاً.

واستولتْ على العائلة - وخاصّةً الأطفال - حالةُ الفواق ، وهي

ص: 253

حالة تَشَنّج تَحصل للإنسان حينما يَبكي كثيراً، فتتَشنّج الرئة، ويَخرج النَفَس مُتقطعاً.

يا لَلفاجعة، يا لَلماساة، يا لَلمصائب.

لا غِطاء، ولا فِراش، ولا ضِياء، ولا أثاث، ولا طعام.

قد أحدَقَت السيّدات بالإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو بقيّة الماضين، وثِمالُ الباقين، وهُنَّ يَتفكَّرنَ بما خَبّأ لهنَّ الغَد مِن أُولئك السَفّاكين.

فالفاجعة لم تَنْته بعد، والظُلْم - بجميع أنواعه - بانتظار آل رسول الله الطيّبين الطاهرين، والحوادث المؤلمة سوف تَمتدّ إلى غَدٍ وما بعد غَد، وإلى أيّام وشهور، ممّا لا بالبال ولا بالخاطِر.

وسوف تَبدأ رِحْلة طويلة مليئة بالآلام والآهات والدموع.

وحُكيَ أنّ السيّدة زينب (عليها السلام) تَفقّدت العائلة في ساعة مِن ساعات تلك الليلة، وإذا بالسيّدة الرباب لا توجَد مع النساء، فخَرجَتْ السيّدة ُزينب ومَعَها أُمُّ كلثوم، وهما تُنادیان: يارَباب .. يا رَباب.

فسمِعَها رجلٌ كان مُوَّكلاً بحِراسة العائلة، فسألها ماذا تُریدین؟!

فقالت السيّدة زينب: إنّ إمرأةٌ مِنّا مَفْقودة ولا توجَد مع النساء.

ص: 254

فقال الرجل: نعم، قبلَ ساعة رأيتُ امرأةً منكم إنحدرتْ نحو المعركة!

فاقبَلَت السيّدةُ زينب حتّى وصلتْ إلى المعركة، وإذا بها تَرى الرباب جالسة عند جَسَد زَوجها الإمام الحسين (عليه السلام) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتَنوح، وتَقول في نِياحَتها:

واحُسيناً وأينَ مِنّي حُسينٌ *** أقصدَتْه أسِنّةُ الأدعياء

غادَروهُ في كربلاء قَتيلاً *** لا سَقى اللهُ جانِبَيْ كربلاء

فأخذت السيّدة زينب (عليها السلام) بِيَدها وأرجَعَتْها مَعَها إلى حيث النساء والأطفال.

وفي هذا الجوّ المُتَوتّر، والوَضْع المُقْرح للفُؤاد، يَقول الإمامُ زين العابدين (عليه السلام): «فَتَحتُ عَينى ليلَة الحادية عشَر مِن المُحَرِّم، وإذا أنا أرى عَمَّتي زينب تُصلّي نافِلَةَ الليل وهي جالسة، فقلتُ لها : ياعمّة أتصلّين وأنتِ جالسة»؟

قالتْ: نعمْ يابن أخي، والله إِنْ رِجْلي لا تَحمِلُني!! (1)

ص: 255


1- کتاب «زينب الكُبرى» للشيخ جعفر النقدي، ص 58

ص: 256

تَرحيل العائلة مِن كربلاء

لقد جاءوا بالنياق المَهزولة لِتَرحيل آلِ رسولِ الله، فلا غطاء ولا وطاء!!

آل رسول الله، أشرف أُسرة وأطهَرها وأتْقاها على وَجْه الأرض، وكأنّهنَّ سَبايا الكفّار والمشركين!!

لقد كانَ تَعامُلُ الأعداء مَعَهُنَّ فى مُنتهى القساوة والفظاظة وكأنّهم يُحاولون الإنتقام منهنّ، ويَطلبون بثارات بَدْر وحُنَين!

وهل أستطيع أن أكتب - هنا - شيئاً مِن مَواقف بَني أُميّة تجاه آل رسول الله؟!

والله .. إنّها وَصْمة خِزْي وعارٍ لا تُمحى ولاتَزول بِمُرور القُرون.

لقد وَصَموا بها جَبهةَ التاريخ الإسلامي النَزيه المُشرِق الوَضّاء.

ص: 257

عن كتاب (أسرار الشَهادة) للدَرْبندي: ثمّ أمَرَ عمرُ بن سعد بأن تُحمَل النساء على الأقتاب (1)، بِلا وطاء ولا حجاب، فُقُدِّمت النياق إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد أحاط القومُ بهنّ، وقيلَ لَهنّ: تَعالَين واركبْن، فقد أمَرَ إبنُ سعد بالرحيل. (2)

فلمّا نظرتْ زينب (عليها السلام) إلى ذلك نادتْ وقالت: سَوَّدَ الله وجْهَك يابنَ سعد في الدنيا والآخرة! تامرُ هؤلاء القوم بأنْ يُركّبونا ونحنُ وَدائعُ رسولِ الله؟!

فقُلْ لهم: يَتباعَدوا عنّا، يُركِّب بعضُنا بعضاً.

فتَنحّوا عنهنّ، فتقدّمتْ السيّدةُ زينب، ومَعَها السيّدة أُمُّ كلثوم، وجعلتْ تُنادي كلَّ واحدة مِن النساء باسمها وتُركّبها على المَحمِل ، حتّى لم يَبقَ أحَد سِوى زينب (عليها السلام)!

فنَظرتْ يميناً وشمالاً، فلم تَرَ احَداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض، فأتَتْ إليه وقالت:

ص: 258


1- أقتاب - جَمْع قَتَب - : وهو شيء يُصنَع مِن خَشَب، يُشَدّ على ظهر البَعير، ويُغطّى بقماش سَميك، لِراحة الراكب، وحفظه مِن السُقوط. قال في «المعجم الوسيط»: القَتَبُ: الرَحْلُ الصغير على قَدر سَنام البعير. المُحقّق
2- لقد ذكرَ السيّد ابن طاووس في كتاب «المَلْهوف» ص 189: أنّ ترحيل العائلة كان بعد الزوال مِن اليوم الحادي عشر من المحرّم

قُمْ يابنَ أخي واركَبْ الناقة.

قال: يا عَمَّتاه! إركبي أنتِ، ودَعيني أنا وهؤلاء القوم.

فالتفَتَتْ يميناً وشمالاً، فلم تَرَ إلّا أجساداً على الرمال، ورؤوساً على الأسنّة بأيدي الرجال (1)، فصرختْ وقالت:

واغُربتاه! واأخاه! واحُسيناه! واعبّاساه! وارِجالاه! واضيعتَاه بعدك يا أبا عبدالله ...

فاقبلت فِضّة وأركبَتْها. (2)

ص: 259


1- الاسنَة - جَمْع سنان: الرُمح
2- کتاب (أسرار الشهادة) للعالم الجليل الشيخ الدَرْبندي

ص: 260

نياحة السيّدة زينب على سيّد الشهداء

وفي يوم الحادي عشَر من المُحرَّم .. لما أرادَ الأعداء أن يَرحَلوا بِقافلة نِساء آل رسول الله مِن كربلاء إلى الكوفة ، مَرُّوا بِهِنَّ على مَصارع القَتْلى - وهم جُثَث مُرَمَلة ومَطروحة على التُراب - فلمّا نَظرت النِسْوة إلى تلك الجُثَث صِحْن وبَكينَ ولَطمْنَ خُدودهَن. وأمّا السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) فقد كانتْ تلك الساعة مِن أصعَب الساعات على قلبها، وخاّصةً حينَما نَظرتْ إلى جُثَّة اخيها العزيز الإمام الحسين وهو مَطروح على الأرض بِلا دَفن، وبتلك الكيفيّة المُفرحة للقلب!!

يَعلمُ الله تعالى مَدى الحُزن الشديد والألَم النفسي الّذي خَيّم على قلب السيّدة زينب وهي ترى أعزّ أهل العالَم، وأشرف مَن على وَجْه الأرض بحالةٍ يَعجز القلم واللسان عن وَصْفها.

فقد مَدَّ أُولئك الذئاب المفترسة (الذين لا يَستحقّون إطلاق إسم

ص: 261

البَشر عليهم، فكيف باسم الإنسان وكيف باسم المسلم) أيديَهم الخبيثة إلى جَسَد أطهر إنسان على وَجْه الكرة الأرضيّة آنذاك. وأراقوا دماءً كانت جُزءاً مِن دم الرسول الاقدس، وقَطَعوا نَحْراً قَبَّله رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مئات المرّات، وعَفّروا خَدّاً طالما إلتَصَقَ بخَدّ الرسول الأطهر، ورَضُوا وسَحَقوا جَسَداً كان يُحمَلُ على أكتاف الرسول الأعظم، وكان مَحَلّه في حِجْر الرسول، وعلى صدره وظهره.

لقد كان الرسولُ الكريم يُحافظ على ذلك الجسم العزيز، حتّى مِن النَسيم والمطر .. فكيف مِن غيره؟

نعم، إِنَّ المُجرمين الجُناة كانوا في سَكْرة موت الضمير، وفُقدان الوعي والإدراك للمَفاهيم، فانقلّبوا إلى سِباع ضارية، وذئاب مُفترسة، ووُحوش كاسِرة، لا تَفهم معنى العاطفة والشَرَف والفضيلة، ولا تُدرك إلا هَواها الشيطاني.

فصَنَعتْ ما صَنَعتْ بذلك الإمام، المتكامل شَرَفاً وعظمةً، وجَعلتْ جسمَه هَدَفاً لسُيوفها ورماحها وسِهامها، ومَيداناً لخيولها، وهم يُحاولون أن لا يَتركوا منه أثَراً يُرى، ولا أعضاءَ فَتُوارى.

كان هذا المنظَر والمظهَر المُشجي، المُقرِح للقلب، الموجع للروح بمَرأى مِن السيّدة زينب الكبرى.

فهي تَرى نفسَها بجوار جثمان إمامها، وإمام العالَم كلّه، وسيّد شباب أهلِ الجنّة، فلا عجَبَ إذا احتَضَنتْه تارةً، وألقَتْ

ص: 262

نفسَها عليه تارةً أُخرى.

تبَكي عليه بدموعٍ مُنهَمرة مُتواصلة، وتَنْدبُه مِن أعماق نفسها، نُدَبَةٌ تَكادُ روحُها تَخرج معَ زَفَراتها وآهاتِها!

تَنْدبه بكلمات مُنْبَعثة مِن أطهر قلب، خالية عن كلّ رياء وتَصنُّع، وكلُّ كلمةٍ منها تُعتبر إعلاناً عن حُدوث اكبر فاجعة، وأوجع مُصيبة.

إنّها سَجَّلتْ تلك الكلمات على صفحات التاريخ لِتكون خالدةً بِخُلود الأبَد، تَقرؤها الأجيال قرْناً بعد قرن، وأُمّةٌ بعد أُمّة، كي تَستَلْهم منها الدروسَ والعِبَر ... ولكي تَبقى المدرسة الزَينبيّة خالدةٌ بخلود كلّ المفاهيم العالية والأُصول الإنسانيّة.

نعم، كلمات تَقرَع الاسماعَ اليَقِظة كصَوت الرَعْد، فتَضْطربُ منها القلوب وتَتَوتّر منها الأعصاب، وتَسخَن الغُدد الدَمْعيّة المَنْصوبة على قمّة الَعينين، فلا تَستطيع الغُدد حَبْسَ الدموع ومَنْعها عن الخروج والهُطول.

وتَضيقُ الصدور فلا تَستطيع كَبْتَ الآهات، والنَحيب والزفير. أجَل .. إنّها مُعجزة وأيَّة مُعجزَة، صَدَرَتْ مِن سيّدة قبلَ أربعة عشَر قرناً، أرادَ الله تعالى لها البقاء، لِتكون تلك المعجزة غَضَة، وكأنّها حادثة اليوم وحَدَث الساعة .

أجَل ...

ص: 263

كان المَفروض أنْ تَفقد السيّدة زينب الكُبرى وَعْيَها، وتَنهار أعصابُها، وتَنسى كلَّ شيء حتّى نفسَها، وتَتعطّل ذاكرتُها أمامَ جبال المصائب والفَجائع، والهموم والأحزان.

نعم، هكذا كان المفروض، ولكنّ إيمانها الراسخ العجيب بالله تعالى، وقلبها المطمئن بذِكْر الله (عزّوجلّ) كان هو الحاجز عن صدور كلّ ما يُنافي الوقار والإتّزان، والخروج عن الحالة الطبيعيّة.

وليس معنى ذلك السكوت الذي يُساوي عدمَ الإهتمام بتلك الفاجعة أو عدمَ المبالاة بما جرى، بل لابُدَّ من إيقاظ الشعور العام بتلك الجناية العظمى، التي صَدَرَتْ مِن أرجَس عِصابة على وجْه الأرض.

فلا عَجَب إذا هاجتْ أحزانُها هَيجانَ البحار المُتلاطمة الأمواج، وتَفايضَ قلبُها الكبير .. بالعواطف والمحبّة، وجعلتْ تَندبُ أخاها بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة، وتُعتبر أبلغ كلمات سَجَّلها التاريخ في الرثاء والتابين، وفي مقام التَوَجّع والتَّفَجّع. (1)

قال الراوي: فوالله لا أنسى زينبَ بنت علي وهي تَندب أخاها

ص: 264


1- وكان ذلك حينما مَرّوا بقافلة الأُسارى على مَصْرَع الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الحادي عشر مِن المحرّم

الحسين بصَوتٍ حَزين وقلبٍ كئيب:

«يا مُحمّداه، صلّى عليك مَليكُ السماء، هذا حُسينٌ مُرَمَّلٌ بالدماء، مُقطَّع الأعضاء، مَسْلوب العِمامة والرِداء، مَحزوز الرأس مِن القَفا. ونحن بَناتُك سَبايا.

إلى الله المُشتكى، وإلى محمّد المصطفى، وإلى عليّ المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيّد الشهداء.

يا محمّداه! هذا حسينٌ بالعَراء (1)، تَسفي عليه ريحُ الصَبا، قَتيلُ أولاد البَغايا.

واحزناه! واكرباه عليك يا أبا عبدالله.

بأبي مَن لا هو غائب فَيُرْتجى، ولا جَريح فَيُداوى.

بأبي المَهْموم حتّى قَضى.

بأبي العطشان حتّى مضى ... . ».

فابكتْ - والله - كلّ عدوٍّ وصديق. (2)

واعتنقَتْ زينبُ جثمانَ اخيها، ووَضَعَتْ قَمَها على نَحْره وهي تُقبّله وتقول:

«أخي لو خُيّرتُ بين المقام عندك أو الرَحيل لاختَرْتُ

ص: 265


1- العَراء: الأرض المُنبَسِطة الّتي لا يَسْتُر فَضاءَها شَيء
2- کتاب (المَلْهوف) لابن طاووس، ص 181، وكتاب الإيقاد، ص 140

المُقامَ عندك، ولو أنّ السباع تأكلُ مِن لَحمي.

يابنَ أُمّي! لقد كلَلْتُ عن المُدافَعة لِهؤلاء النساء والأطفال، وهذا مَتْني قد اسودَّ مِن الضَرْب!! (1).

ص: 266


1- مَعالي السِبطين ج 2، الفصل العاشر، المجلس الرابع عشر

الفَصل الثاني عشر

إشارة

* مدينة الكوفة

* قافلة آل الرسول تَصِلُ الكوفة

ص: 267

ص: 268

مدينة الكوفة

لقد كانتْ الكوفة: مدينة مُوالية للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان أهلُها - رجالاً ونساءً - قد تَطبّعوا بأحسن الإنطباعات في ظِل حكومة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بسبب المَناهج الصحيحة التي انتَهجَها الإمام لِتربية وإدارة شَعبِه.

وكانت لَدى أهل الكوفة احسن الإنطباعات عن الإمام، نَظراً لِسيرته الشخصيّة والإجتماعيّة والحكوميّة، وأُسلوب تَعامُله مع افراد الشعب إبّانَ حكومته عليهم، فَعَواطفُه التي شَملَتْ جميع طبَقات الشعب، وتوفيرُ لَوازم الحياة لهم، ومُواساتُه مَعهم في السرّاء والضرّاء، وعدْلُه الواسع الشامِل وعَطاياه السَنيّة، وسخاؤه وكرَمَه، وعِلْمُه الجَمّ، وغير ذلك مِن الفضائل الّتي تركتْ إنعكاساتها الإيجابيّة في نُفوس أهل الكوفة وأثّرتْ فيهم أحسَن الأثَر.

ص: 269

كلٌّ هذه الأُمور .. جَعلتْ الطابعَ العام الغالب على الكوفة: هو الولاء والمَحبّة لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومِن الطبيعي أنّ كلّ عصْرٍ ومصْر لا يَخلو مِن الأشرار والسَفَلة، حتّى المدينة المنوَرة - في عَهْدها الزاهِر .. في عصْر الرسول الكريم - كانتْ تَحتوي على عناصر المُنافقين وغيرهم.

وهنا سؤال يَقول: إذا كانتْ مدينة الكوفة مُوالية للإمام .. فكيف صَدرَتْ مِن أهلها تلك المَواقف المُخْزية تجاه الإمام الحسين (عليه السلام)؟!

إنّ الجواب على هذا السؤال يَحتاج إلى مَزيد مِن الشرح والتفصيل، وهو خارج عن أُسلوب الكتاب، ولكنّنا نَذكر الآن مثالاً توضيحيّاً لهذا البحث ونَتْرك دراسة الموضوع إلى فرصة أُخرى:

قد تَحدُثَ في فَردٍ مِن الناس أو شعبٍ مِن الشعوب حالةٌ شاذّة، غير طبيعيّة، تَشْبه حالة السُكْر وفُقدان الوعي، فإذا زالتْ آثار السُكر .. عادَ الوعيُ، ثمّ الحالة الطبيعيّة، ثمّ النَدَم!

وفِعلاً .. ترى ذلك الفَرد - او الشعب - يَتعجّب مِن تصرّفاته الشاذّة خِلالَ حالة سُكْره، بل ويَتعجّب منه عُقلاءُ العالَم!

ص: 270

ومِن الثابت أنّ العُقلاء لا يَقبَلون أيَّ عُذرٍ مِن ذلك الفَرد أو الشعب الّذي مَرَّ بتلك الحالة الشاذّة، لأن العقل والدين يَفرُضان على الإنسان أنْ يُوفّر في نَفْسه وقلبه وذِهْنه خَلْفيّة عِلْميّة ومِناعة دينيّة وإيمانيّة تُبعّده عن هذا النوع مِن الحالات الشاذّة، وتَحفظه مِن السقوط في هكذا مُنعطفات مَصيريَّة مُحتَمَلة.

وذلك يَحْصَل بتَقوية الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة .. في قلْب الإنسان، ثمّ الإستمرار في شَحْن النَفس بالطاقة الإيمانية التي تَقوم بدورٍ مُهمٍ في إبعاد الإنسان عن مَراكز وصالات واجواء الإنحراف العقائدي والُسلوكي، وتَحْميه مِن السقوط في مَهاوي جهنّم.

أجَل ..

لقد كانت مدينة الكوفة - قبلَ عشرين سنة مِن تاريخ فاجعة كربلاء -: عاصمةً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومَركزاً لحكومته، ومَقرّاً لِقيادته.

وكانتْ السيّدة زينب - حينذاك - في أوج العظمة والجلالة، وكانتْ سيّدات الكوفة يَتَمَنِّينَ الحضور عندها، وإذا كانت السيّدةُ زينب تَنظر إلى إحداهنّ نَظرة، أو تَتكلَّم مَعَها كلمة، لَكانَ قلبُها يَمتلىءُ فَرحاً وسُروراً، وتَشْعر بالشَرف والفَخْر، لأنّ إبنة أمير المؤمنين نَظرتْ إليها أو تكلّمَتْ مَعها!!

ص: 271

ولكن اليوم .. وبعدَ حوالي عشرين سنة، تَغيَّرت الأوضاع عمّا كانت عليه قبلَ ذلك!! وأخذَت الكوفة طابعاً شاذاً يَختَلف عمّا مَضى، فقد إنقلبتْ إلى جَوٍّ مِن الإرهاب والإرعاب، وانتَشَر الآلاف مِن الشرطة والجواسيس، وهم في حالة التأهّب والإستعداد، خوفاً مِن هِياج الناس، وخَنْقاً لِكّل صوت يَرتفع ضدّ السلطة.

هذا .. ويُضاف إلى ذلك: أنّ المئات - أو الآلاف - مِن المُوالين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان الطاغية ابنُ زياد قد سَجَنَهُم كي لا يَلتَحقوا باصحاب الإمام الحسين في كربلاء.

وهناك مَن أخفى نفسَه في البيوت كي لا يَتَعرّضَ للقتل مِن قِبَل السلطة حيث لم يَستطع الإلتحاق بالإمام بسبب الأعداد الهائلة مِن الشرطة الّتي كانتْ السلطة قد نَشَرتُهم في جميع نَواحي وبَوّابات مدينة الكوفة.

وعَدا مَن التحقَ بالإمام الحسين في كربلاء - مِن أهل الكوفة - ونَصَروه، وقُتلوا في سبيل الدفاع عنه، ويَبلُغُ عدَدُهم اكثر مِن عشرين رجل، مذكورة أسماؤهم في الكتُب المُفصَّلة الّتي تَتَحدّث عن فاجعة كربلاء الدامية.

ص: 272

قافلة آل الرسول تَصِلُ الكوفة

وذكَرَ الطُريحي في كتاب (المُنْتَخَب) عن مسلم الجَصّاص قال:

دَعاني ابنُ زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينَما أنا أُجَصَّص الأبواب، وإذا بالزَعقات قد ارتفعتْ مِن جَنبات الكوفة (1)، فاقبلتُ على خادمٍ كان يَعملُ معَنا، فقلتُ: مالي أرى الكوفة تَضجّ؟

قال: الساعة أتوا برأس خارجي خَرجَ على يزيد بن معاوية.

فقلت: مَن هذا الخارجي؟

قال: الحسين بن علي!

فتَركتُ الخادم حتَّى خَرَج، ولَطمْتُ على وَجْهي، حتّى

ص: 273


1- الزَعْقات - جَمْع زَعْقة – الصَيحة. الزعق: الصِياح، كما في كتاب «لسان العرب» لابن مَنظور، و«الصحاح» للجوهري

خَشِيتُ على عَينيَّ أنْ تَذْهبا، وغَسلتُ يَديَّ مِن الجصّ، وخرجتُ مِن ظَهْر القَصر، وأتيتُ إلى الكُناس (1) فبينا أنا واقف، والناسُ يَتوقّعون وصولَ السَبايا والرؤوس إذْ أقبلتْ نحو أربعين شقّة، تُحمل على أربعين جَمَلاً (2)، فيها الحُرَم والنساء وأولاد فاطمة.

وإذا بِعَليّ بن الحسين على بَعيرٍ بغير وِطاء (3)، وأوداجُه تَشْخَب دَماً، وهو مع ذلك يَبكي ويَقول:

يا أُمّة السّوء لا سَقْياً لِرَبعَكُم *** يا أُمَّةٌ لم تُراعِ جَدَّنا فينا

إلى آخر الأبيات.

وصارَ أهلُ الكوفة يُناولون الأطفالَ الّذين على المَحامِل بعضَ التمر والخُبز والجَوز، فصاحتْ بهم أمّ كلثوم:

يا أهلَ الكوفة! إنّ الصَدَقة علينا حرام!

وصارتْ تاخذ ذلك مِن أيدي الأطفال وأفواههم، وتَرمي به إلى الأرض.

ص: 274


1- الكُناس والكُناسَة: مَحلَّة بالكوفة. كما في «معجم البلدان» للحَمَوي
2- شقّة: المَحْمِل و الهَودَج
3- وِطاء: القماش وشِبْهه الّذي يوضَع على ظهر الجَمَل، لِراحة الراكب

كلُّ ذلك والناس يَبكون على ما أصابَهم!!

ثمّ إنّ أم كلثوم أطلعتْ رأسَها مِن المَحْمِل وقالت:

«صَهٍ يا أهلَ الكوفة! تَقتُلُنا رجالكم، وتَبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بينَنا وبينكم الله، يومَ فَصْل القضاء».

فبينَما هي تُخاطبهن، وإذا بِضَجَّة قد ارتَفعتْ، وإذا هُم قد أتوا بالرؤوس، يَقْدُمُهُم رأسُ الحسين (عليه السلام) وهو رأسٌ زُهَريّ، قَمَريّ (1)، أشْبَه الخَلْق برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولحيتُه كَسَواد السبج (2)- قد انتَصَلَ مِنها الخِضاب (3)، ووَجْهه دارة قَمَرِ طالع (4)- والرِيحُ تَلْعبُ بها

ص: 275


1- زُهَري: أي مُشْرق اللون .. رَغم إنفصاله عن الجَسَد. وزُهَري: تَشْبيهٌ بِنَجْم «الزُهْرة» المشهورة بالإشراقة والإضاءة المُميّزة في نورها. والّتي هي عبارة عن اللون الأبيض المُشْرِق المَزيج مع لَون الوَرْد المُحَمّدي، أي: اللون الاحمر الفاتح. قَمَري: أي: أنّ وَجْهَهُ مُسْتَدير الشكل .. وليسَ مُسْتطيلاً. المُحقّق
2- السَبَج: - مُعرّب شَبه - : وهو حَجَر أسوَد، يضرَبُ به المَثل في شِدّة السَواد
3- إنتصل منها الخِضاب: أي بَدأ اللون الأسود يَذهَبُ مِن أُصول الشَعْر
4- دارة قَمَر طالع: أي مُستدير وجَميل، كالقَمر ليلة البَدْر، حيث يكون مُتكاملَ القُرص وشديد الإنارة. المُحقّق

يميناً وشمالاً، فالتَفَتتْ زينبُ، فرأتْ رأسَ أخيها، فنَطحَتْ جَبينَها بمُقدَّم المَحْمِل، حتّى رأينا الدَمَ يَخرج مِن تحت قناعها، وأوماتْ إليه بِخِرْقة، وجَعَلتْ تقول:

یا هِلالاً لَمّا استَتَمَّ كمالاً *** غالَهُ خَسْفُه فابْدى غُروبا

ما تَوهّمتُ يا شقيقَ فؤادي *** كانَ هذا مُقدّراً مَكتوبا

يا أخي! فاطمَ الصغيرةَ كلّمْها *** فقد كادَ قلبُها أنْ يَذوبا

إلى آخر الأبيات (1).

وجاء في التاريخ: أنّ قافلة آل الرسول لمّا اقتَربتْ مِن الكوفة، إجتَمَع أهلُها للنَظَر إليهنّ، فأشرفَتْ إمرأة مِن الكوفِيّات - مِن سَطح دارها - وقالت: مِن أيّ الأُسارى أنتُن؟

قُلْنَ: نحنُ أُسارى آل محمّد!

فنَزلَتْ مِن َسطحها وجَمعَتْ مُلاءاً وأَزْراً ومَقانع، فأعطتْهُنَّ فَتَعَطّينَ. (2)

ص: 276


1- كتاب «المنتخَب» للطريحي، ج 2، ص 464، المجلس العاشر . وبحار الانوار للشيخ المجلسي ج 45، ص 114 - 115
2- کتاب (بحار الأنوار) ج 45، ص 108، نقلاً عن السيّد ابن طاووس

الفَصل الثالث عشر

إشارة

* خُطبة السيّدة زينب في الكوفة

* نَصُّ خطبة السيّدة زينب في الكوفة

* شرح خطبة السيّدة زينب في الكوفة

* كيفَ ولماذا قَطَعوا على السيّدة زينب خِطابها

* نَصّ خُطبة السيّدة زينب برواية أُخرى

ص: 277

ص: 278

خُطبة السيّدة زينب في الكوفة

تُعتبر خُطبة السيّدة زينب - في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام - في ذروة الفصاحة، وقمّة البلاغة، وآيةً في قوَّة البيان، ومُعجزة في قوَّة القلب والاعصاب وعدم الوَهْن والانكسار أمامَ طاغية بَنى أُميّة ومَن كان يُحيط به مِن الحَرَس المُسلّحين، والجَلاوزة والجَلّادين الّذين كانوا على أُهبّة الاستعداد يَنتظرون الأوامر كي يُنفّذوها باسرع ما يُمكن مِن الوقت.

وهنا سؤال قد يَتبادر إلى الذِهْن وهو:

إنَّ السيّدة زينب كانت سيّدة المُحَجّبات المُخدّرات، ولم يَسبق لها أنْ خطبَتْ في مجلس رجال أو مَجْمَعِ عام، وليس مِن السَهْل عليها أنْ تَرفع صوتَها وتَخطب في تلك الاجتماعات، فلماذا قامتْ السيّدة بإلقاء الخُطَب على مَسامع الجماهير مع تَواجد الإمام زين العابدين (عليه السلام)؟

ص: 279

ومع العِلْم أنّ الإمام زين العابدين كان أقوى وأقدَر منها على فُنون الخطابة وأولى مِن التحدّث في جُموع الرجال؟

لعلّ الجواب هو: أنّ الضَرورة أو الحِكْمة إقتَضتْ أنْ يَسكُتَ الإمامُ زين العابدين طيلةَ هذه المسيرة كي لا يَجلبَ إنتباهَ الناس إلى قُدرته على الكلام، وحتّى يَستطيع أن يَصُبَّ جامَ غضَبه كلّه على يزيد، في الجامع الأموي ، بِمَرْأى ومَسْمع مِن آلاف المُصلّين الذين حضَروا يومذاك لأداء صلاة الجمعة خَلف يزيد.

فلو كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يَخطب في أثناء هذه الرحْلة .. في الكوفة وغيرها، فلعلَّه لم ولن يَكن يُسمَح له بالخطابة فى أيّ مكان آخر، فكانت تَفوتُه الفرصة الثَمينة القَيّمة، وهي فرصة التحدّث في تلك الجماهير المتجَمْهرة في الجامع الأموي، عِلْماً بانه لم يَبق مِن آل الرسول في تلك العائلة رجل سوى الإمام زين العابدين.

ولهذا السبب كانت السيّدة زينب تَتولّى الخطابة في المواطن والأماكن التي تَراها مناسِبة.

وليس معنى ذلك أنّها فَتَحتْ الطريق أمامَ النساء ليَخطبْنَ في جُموع الرجال، أو المجتمعات العامّة كالاسواق والساحات وغيرها، بل إنّ الضرورة القصوى كانت وراءَ خطبتها عليها السلام.

هذا أوّلاً.

ثانياً: لقد كانت حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) مُهدَّدة بالخطر طوالَ هذه الرِحْلة - وخاصّةً في الكوفة - فكم مِن مرّةٍ

ص: 280

حَكموا على الإمام بالقتل والإعدام، لولا أنْ دَفَع الله تعالى عنه شَرَّهم؟!

فما ظنّكَ لو كان الإمام (عليه السلام) يَخطب في شارع الكوفة أو في مجلس الدَعيّ بن الدّعي عبيد الله بن زياد، والحال هذه؟!

هل كان يَسْلَم مِن القتْل؟

طبعاً: لا.

إنّهم أرادوا أن يَقتلوه وهو - بَعْدُ - لم يَخطب شيئاً، فكيفَ لو كان يَخطب في الناس ويكشِف لهم عن مَساوىء بَني أُميّة ومَخازيهم، ويُبيّن لهم ابعاد ومُضاعَفات جريمة مَقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته؟؟!

****

ص: 281

ص: 282

نَصُّ خطبة السيّدة زينب في الكوفة

والآن .. نَذكر نَصَّ الخُطبة، ثم نَشرح بعضَ كلماتها:

قال بشير بن خزيم الاسدي (1):

ونظرتُ إلى زينب بنت علي (عليه السلام) يومئذٍ فَلَمْ ارَ خَفِرَةٌ - والله - أنطقَ منها (2)، كأنّها تُفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (3)، وقد أوْمأتْ إلى الناس أن اسكُتوا .

ص: 283


1- المصادر التي تَذكر خُطبة السيّدة زينب في الكوفة كثيرة، ونحن اعتمدنا على كتاب «المَلهوف» للسيّد ابن طاووس (رضوان الله عليه)
2- خَفِرةً: المرأة الشديدة الحياء
3- تُفرغ: تَصُبَ، الإفراغ «الصَبّ، قال تعالى: «أفرغْ علينا صَبرا»

فارتَدَّت الأنفاس، وسَكَنتْ الأجراس، ثمَّ قالت:

«الحمدُ لله والصلاة على أبي: محمّد وآله الطيّبين الأخيار.

أمّا بعد:

يا أهلَ الكوفة، يا أهلَ الخَتْلِ والغَدْر!!

أتَبكون؟ فلا رَقات الدَمْعة، ولا هَدات الرَنّة.

إنَّما مَثَلُكُم كَمَثَل التي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بعد قوَّةٍ أنكاثاً، تَتَّخذون أيْمانكم دَخَلاً بينكم.

ألا وهلْ فيكمْ إلّا الصَّلِفُ النَطِف؟ والصَّدرُ الشَيْف؟ ومَلَقُ الإماء؟ وغَمْرُ الأعداء؟

أو كمَرْعىً على دِمْنة؟ أو كفِضَّة على مَلْحُودَة؟

ألا ساءَ ما قَدّمتْ لكم أنفسُكم أنْ سَخطَ اللهُ عليكم وفي الأساءَ العَذاب أنتُم خالدون.

أتَبكون؟ وتَنْتَحِبون؟

إي والله، فابكوا كثيراً واضحَكوا قليلاً.

فلقد ذَهَبْتُم بِعارها وشَنارها، ولن تَرحَضُوها بِغَسلٍ بعدَها أبداً.

وأنى تَرحَضونَ قَتْلَ سَليلٍ خاتم النبوّة؟ ومعدنِ الرسالة، وسيِّد شباب أهل الجنَّة، ومَلاذِ خِيَرتكم، ومَفْزَعِ نازلَتكم،

ص: 284

ومَنارِ حُجّتكم، ومِدرَة سَنَتكم؟؟

ألا ساءَ ما تَزِرون، وبُعْداً لكم وسُحقاً، فلقد خابَ السَعيُ، وتَبّت الأيدي، وخَسِرَت الصَفْقة، وبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِن الله، وضُربَتْ عليكم الذِلّةُ والمَسْكنَة.

وَيلَكمْ يا أهلَ الكوفة!

أتَدْرون أيَّ كبِدٍ لِرسول الله فَرَيْتُم؟

وأيّ كريمةٍ لَهُ ابْرَزَتُم؟!

وأيّ دَمَ لَهُ سَفَكْتُم؟!

وأيّ حُرْمَةٍ له هَتَكْتُم؟!

لقد جِئتُمْ بها صَلْعاء عَنْقاء سَوداء فَقْماء، خَرْقاء شَوهاء، كطِلاع الأرض ومِلْءِ السماء.

أفَعَجِبْتُمْ أنْ مَطرتِ السماءُ دَماً، ولَعَذابُ الآخرة أخزى، وأنتُمْ لا تُنْصَرون.

فلا يَسْتَخِفْنكم المُهَل، فإنّه لا يَحْفِزُه البِدار، ولا يَخافُ فَوتَ الثار، وإنَّ رَبِّكُم لَبالمرْصاد». (1)

قال الراوي: «فوالله لقد رأيتُ الناسَ - يومئذٍ - حَيارى

ص: 285


1- كتاب «المَلْهوف» للسيّد ابن طاووس، المُتوفّى سنة 664ه-، ص 192 -193

يَبْكون، وقد وضَعَوا أيديَهم في أفواههم، ورأيتُ شَيخاً واقِفاً إلى جَنْبي يَبكي حتّى أخصَلّتْ لحيَتُه، وهو يَقول: «بابي أنتُم وأمّي!! كُهُولُكم خيرُ الكُهول، وشَبابُكم خيرُ الشباب، ونِساؤكم خيرُ النساء، ونَسْلُكم خيرُ نَسْل لا يُخْزى ولا يُبْزى». (1)

ص: 286


1- كتاب «المَلْهوف» للسيّد ابن طاووس، ص 193 - 194. وسوف نَذكر نَصّ الخُطبة على رواية كتاب «الإحتجاج» للشيخ الطبرسي، وذلك لِوجود بعض الُفروق وزيادة بعض الإضافات، - بعد الفراغ مِن شَرح هذه الخطبة - إنْ شاء الله تعالى. المُحقّق

شرح خُطبة السيّدة زينب في الكوفة

قبلَ أن أبدأ بشَرْح بعض كلمات الخطبة أجلبُ إنتباهَ القارىء الذكي إلى بعض ما يَرويه الراوي لهذه الخطبة، وهو قوله:

«فلمْ أرَ خَفِرَة - والله - أنطقَ منها»

يقال: خَفِرت الجارية: إذا استَحتْ أشدَّ الحياء، فهي خَفِرة. ومِن الطبيعي أنّ المرأة الخَفِرة يَمنَعُها حَياؤها مِن أن تَرفع صوتها، أو تَخطب في مكان مُزدحَم، فمِن الواضح أنّها إذا لم تُمارس الخطابة لا تَقوى على النُطق والتكلّم كما ينبغي، ولكنّ راوي هذه الخطبة يقول: «فلم أرَ خفرة - والله - انطق منها» أي: لم أرَ أقوى منها على التكلّم، وأقدر على الخطابة، رغم كونها شديدة الحياء.

ص: 287

«كانّها تُفرغُ عن لسان امير المؤمنين علي بن أبي طالب».

إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو إمامُ الخُطباء والبُلَغاء والمُتكلّمين، وقد كان له أُسلوب خاص، ومُسْتَوى رفيع في كلامه وخُطَبه، يَمتازُ عن كلام غيره، وفي أعلى قمّة الفصاحة والبلاغة، وجَودة التعبير، وعُلوّ المُستوى الأدَبى والعِلْمي.

فمِن ناحية: كان يَسْتَرسِلُ في الكلام .. دونَ أيّ توقّف أو شُرودٍ ذِهْني، وكان يَنطق بالحروف .. دونَ أيّ تَلَكّؤٍ في التلفّظ، فقد كان في غاية التمكّن مِن الكلام والخِطابة.

ومِن ناحية أُخرى: كانت الكلمات الأدَبيّة الرفيعة مُنقادة له بشكل عجيب، فهي فهي تَنْبُع مِن لسانه نَبْعاً طبيعيّاً .. دونَ أيّ تكلُّفٍ أو تَحضير مُسْبَق، وكانَ لِصَوته نَبْرة مُعيّنة.

وراوي هذه الخطبة كانَ ممّن رأى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسَمعَ كلامه، وها هو الآن .. يَستَمعُ إلى كلام السيّدة زينب (عليها السلام) وبالمُقارنة بين الكلامين يَظهرُ له أنّ خطبة السيّدة زينب صورة طبق الاصل لِكلام أبيها، مِن ناحية الأُسلوب والبَيان والمستوى وغير ذلك.

ص: 288

«وقد أوماتْ إلى الناس أن أسكُتوا، فارْتدّت الأنفاس، وسكَنَت الأجْراس».

في ذلك المُجتمع المُتدفّق بالسَيل البَشَري، وفي ذلك الجوّ المَمْلوء بالهتافات والأصوات المرتفعة مِن الناس، وأصوات الاجراس المُعلّقة في أعناق الإبل.

في بلدة إنتشَر في جميع طُرُقها الآلاف مِن الشرطة كي يَخنقوا كلَّ صوت يَرتفع ضدّ السلطة، ويُراقبوا حَركات الناس وسَكَناتهم بكلّ دقّة، ويَقضوا على كلّ إنتفاضة مُتوقَّعة.

في هذه الظروف وصَلَ موكبُ آل رسول الله إلى الكوفة، مُحاطاً بالحَرَس، عُملاء بَني أُميّة، وشَرِّ طَبَقات البَشَر، وأرجَس جميع الأُمم.

في تلك الأجواء والظروف أشارت السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) إلى الناس أن اسكُتوا. فَتَصرّفتْ في الإنسان والحيوان والجماد. إحتَبَست الأنفاس في صدور الناس، ووقفت الإبل وسكنَتْ عن الحركة، وسكنت الأجراس المُعلَّقة في أعناق الإبل.

نعم، بإشارة واحدة، وبتلك الروح القويّة، والنفْس المطمئنّة إستولتْ على الموقف.

فقالت:

ص: 289

«الحمد لله، والصلاة على أبي: محمّد وآله الطيّبين الأخيار».

إفتَتَحتْ كلامَها بحَمْد الله، ثمِ الصلاة على أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهذا مُنتهى البلاغة، فإنّها - بهذا الإفتتاح - عرَّفتْ نفسَها - لِتلك الجماهير المُتَجَمْهرة - بأنّها بنت رسول الله، فالحفيدة تُعتبر بنتاً، كما أنّ الجدَّ يُعتبرُ أباً، ولهذا قالت: والصلاة على أبي: محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وممّا يُستفادُ مِن هذا التعبير هو التاكيد على مَسالةٍ مُهمَّة جِدّاً وهي مسالة بُنُوَّة أولاد السيّدة فاطمة لِرَسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما هو صريح آية المباهلة في قوله تعالى: «فَقُلْ تَعالوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءكُم ... ». (1)

وقد كان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يؤكّدون على هذه النقطة، كما أنّ أعداءَهم النَواصب كانوا يُحاولون - دائماً - التَشْكيك والمُناقشة فيها، وقد ذكرنا كلمة موجزة حول هذه النُقطة في كتابنا: فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد.

ص: 290


1- سورة آل عمران الآية 61

«أمّا بَعدُ، يا أهلَ الكوفة! يا أهلَ الخَتْل والغَدْر».

الخَتْلُ: الغَدْر (1)، وقال البعض: هو الخُدْعَة عن غَفلة (2). وفي نسخة: «والخَتْر»: وهو شِبْه الغَدْر (3)، لكنّه أقبَح انواع الغَدْر (4)

لقد كانتْ لِهذه الكلمات أشَدُّ الأثَر في نُفوسِ أهل الكوفة، فإنّها قد أوجَدَتْ فيهم اليَقظة والوعي بصورة عجيبة، حتّى شَعُروا أنّ ضمائرهم بَدَأتْ تُؤنّبُهم، و أنّ وجدانَهم صارَ يُوبّخُهم على جَرائمهم الفَجيعة وجِناياتهم العظيمة.

فقد ذكَّرتْهم كلماتُ السيّدة زينب (عليها السلام) بِماضيهم المُخْزي وتاريخهم الأسود، حيثُ صَدَرَ منهم الغَدْر مَرّات عديدة، فَمِنها:

1 - في يوم صِفّين عند تَحْكيم الحَكَمين، غَدَرَ أهلُ الكوفة بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ص: 291


1- الخاتِل: الغادِر. أقرب الموارد للشرتوني
2- المُعْجَم الوَسيط. وقالَ ابنُ عبّاد - في «المحيط» - الخَتْلُ: الخُدْعةُ عن غَفْلة
3- كتاب «العين» للخليل بن أحمد
4- كما في كتاب «القاموس» للفيروز آبادي

الذي كان الحقِّ يَتَجَسّدُ فيه باكمَل وَجْه، وخَذَلوه بتلك الكيفيّة المُؤلِمَة!

2 - وحينَما قُتِلَ الإمام أميرُ المؤمنين تَهافَتَ أهلُ الكوفة على مُبايَعة إبنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام). وعندما خَرجَ مُعاوية لِحرب الإمام الحسن، خَذَلَه أهلُ الكوفة وقَعَدوا عن نُصْرته غَدْراً مِنْهم، فَخَلا الجوّ لمعاوية وفَعَلَ ما فَعَل، وضَربَ الرقم القِياسي في الجريمة واللُؤم!

3- وبعدَ موت معاوية أرسَلَ أهلُ الكوفة إثنَي عشَر ألف رسالة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) أيّامَ إقامَته في مكّة، يَطلُبون منه التَوجّه إلى العراق لِيُنْقِدَهم مِن الإستعمار الأموي الغاشِم. وضَمّنوا رَسائلَهم الايمان المُغَلّظة، والعُهُود المُؤكَّدة .. لِنُصْرة الإمام والدِفاع عنه بأموالهم وأنفسهم.

فبَعَثَ إليهم سَفيرَة مُسلم بنَ عقيل، فبايَعه الآلاف مِن أهل الكوفة، ثمّ تَفَرّقوا عنه وغَدَروا به، وفَسَحوا المَجال للدَعيّ بن الدَعيّ: عُبيد الله بن زياد أنْ يُلقي القَبض على مُسلم بن عقيل ويَقتُله، واجتمَع أطفالُ الكوفة وشَدُّوا حَبْلاً بِرِجُل مُسلم، وجَعَلُوا يَسْحَبونَ جُثمانَه الطاهِر في أسواق الكوفة .. بِمَراى مِن الناس!!!

ص: 292

4 - وحينَما لَبّى الإمامُ الحسين (عليه السلام) رَسائلَ أهل الكوفة وجاءَ إلى العراق، ووَصَل إلى أرض كربلاء، ومعه عائلتُه والصَفْوة الطيّبة مِن رجال أهل بيته، خَرج أهلُ الكوفة، وقَتَلوا جميعَ مَن كان مع الإمام، وأخيراً .. قَتَلوا الإمام الحسين عطشاناً وبتلك الكيفيّة المُقْرِحة للقلوب، ثمّ أحرَقوا خِيام الإمام، وأَسروا عائلتَه ونِساءَه وأطفالَه، وقَطعوا الرؤوس مِن الابدان ورَفَعوها على رَؤوس الرماح، وجاءوا بها مِن كربلاء إلى الكوفة.

هذا هو المَلَف الأسود، المَليء بالغَدْر والخيانة.

فحينَما نَظرتْ السيّدةُ زينب (عليها السلام) إلى دُموع أهلِ الكوفة، وسَمعَتْ أصوات بُكائهم لم تَنْخَدع بهذه المَظاهر الجَوْفاء، بل وَجَّهتْ خِطابَها إلى جميع الحاضرين هناك، ولَعلّها كانتْ تَقصُدُ بِكلامها الّذين إشتركوا في جريمة فاجعة كربلاء.. بشكلٍ أو بآخَر، ولم تَقصُد كلَّ مَن كان حاضِراً وسامعاً لخِطابها:

«أتَبْكُونَ؟!»

إعتَبرت السيّدة زينب (عليها السلام) بُكاءَهم - لَدى المُقايسَة مع ما قاموا به مِن الجرائم - نوعاً مِن النِفاق والتلَوّن المُشين، فإنّ رِجالَهم هُم الّذين باشَروا الجريمة - وهي مَجْزَرة كربلاء الدامية - ونساءَهم هُنّ اللواتي قُمْنَ بتربية

ص: 293

أولئك الرجال .. على الغَدْر، وهاهم يبكون!!

يبكون وهم يُشاهدون تلك الرؤوس المُقدّسة على رؤوس الرماح، ويُشاهدون حَفيدات الرسالة وبَنات الإمامة على النِياق .. بتلك الحالة المُقْرِحة للقلوب!

مِن الطبيعي أنْ يَبْكي كلّ مَن يُشاهِدُ هذه المَشاهِد، ولكن ..

ماهي فائدة هذا البكاء؟!

ولماذا عَدَم القيام بتغيير أنفسهم؟!

لماذا عدَم بِناء نُفوسهم ونَفسيّاتهم؟!

لماذا عَدَم الهجوم على مَن أصدَر الأوامر وهو الطاغية ابن زیاد وحاشِيته الفاسِدة؟!

إنّ الحاكم الطاغي لا يَستطيع الظُلْم والتعدّي إلّا مع وجود الأرضيّة المُساعِدة والأجواء المُلائمة للظلم والطغيان. والناس - بِنِفاقِهم وخِذْلانهم لآل الرسول الكريم - هم الّذين مَهّدوا للظالمين القيامَ بتلك الف الفاجعة المُروّعة!

وهذا درس لِكلّ مُجتَمَعٍ يؤمن بالله واليوم الآخِر، ويُريد أن يَعيش في ظلّ حكومة عادِلة.

ص: 294

«فلا رَقأت الدَمْعة، ولا هَدأتْ الرَنّة»

رَقأتْ الدَمْعة: سَكنتْ (1) أو إنقطعتْ بعد جَرَيانها وجَفَتْ. الرَنّةُ: الصوتُ الحَزين عند البُكاء.

لمّا رأتْ السيّدة زينب (عليها السلام) ذلك البُكاء الذي كلّه نِفاق .. دَعَتْ عليهم، ومِن ذلك القلب المُلْتَهِب بالمَصائب والأحزان، دَعَتْ أن تَمُرَّ عليهم ظروف وأحوال تَجعَل بُكاءَهم مُتَواصِلاً ودُموعَهم مُستمرّة في الجَريان، لاتَهْدأ ولا تَنْقَطع، ولا تَهْدأ رَنَّتَهم، أي: بُكاءَهم المَصْحُوب بالنحيب والعَويل، بعد أنْ قاموا بتلك الأعمال الإجراميّة.

وهنا.. نُقطة مُهمّة يَجِب أن لا نَغْفَل عنها، وهي:

رَغم أنّ في أغلب المُجتَمعات يوجدُ الاخيار والاشرار، والطيّبون وغيرهم، ومدينة الكوفة كانت كذلك إلّا أن الطابع العام عليهم في ذلك اليوم كان هو التلوّن كل ّيوم بِلَون، والغَدْر، وقِلّة الإلتزام بالأُسس الدينيّة.

مِن هنا .. فإذا جاءَهم حاكمُ طاغ، وعَرَفَ منهم هذه الطبائع والصِفات المَذمومة يَسهُل عليه التَسلّط عليهم واتَّخاذهم مُساعدينَ وأعواناً له في تحقيق أهدافه الإجراميّة

ص: 295


1- كتاب الصِحاح للجوهري

الفاسِدة.

وهم - أيضاً - يَتَسارعون إلى التجاوب والتَعاطف معه، غير مُبالين بنتائج ذلك.

وعلاجُ هذا المجتمع هو التكلّم معَهم بكلّ صراحة، وبالكلام اللاذع، فالمَلَفُّ الاسود لأهل الكوفة كان يَقتضي أنْ تُواجِهَهُمُ السيّدة زينب (عليها السلام) بهذه الشِدّة وبأعلى درَجات التَوبيخ والشَجْب والمُؤاخَذة إزاءَ ما اقتَرفوه مِن جرائم مُتتالية، كلُّ واحدةٍ منها تَهتزّ منها الجبال.

نعم .. لم يكن يَنفَع مَعَهم - يومذاك - إلّا هذا الأُسلوب مِن الكلام اللاذع، فلم تَعُد النصائح والمواعظ تُؤثّر فيهم!

والسيّدة زينب - بملاحظة أنّها إمرأة (1)، وأنّها بنت الإمام أمير المؤمنين - كانت لها القُدرة على التَعنيف في الكلام مع الناس، ولإمتلاكها القُدرة العَظيمة على البيان والخطابة، فقد كانت مُؤهّلة للقيام بهذا الدور الكبير، لإيقاظ بعضَ تلك الضمائر المَيّتة مِن سُباتها

ص: 296


1- لا يُسمَح بمؤاخَذتها ولا يُمكن للمجرمين قَتْلُها بسهولة لوجود صِيانةٍ خاصّةٍ لكلّ امرأة في العَرَب. المُحقّق

العَميق.

ولا نَعلَم - بالضبط - كيفيّة إلقائها للخُطبة مِن ناحية درجة الحماس والحرارة، ولكنّنا نَعلَم أنّها وَرَثَتْ الخِطابة مِن جدّها رسول الله إمام الفَصاحة، ومِن والدها: إمام نَهج البلاغة!!

«إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَل الّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنكاثاً»

شَبَّهَتْ السيّدةُ زينب أهلَ الكوفة بالمَراةِ الّتي نَقَضَتْ غَزْلَها، وهذا التَشْبيه مُسْتَقى مِن القرآن الكريم - ويا لَه مِن مُستَوى رفيع في البلاغة والأدَب الراقي - وإليك بعض التوضيح:

قال الله تعالى - في القرآن الكريم -: «ولا تكُونوا كالّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ انْكاثا تَتَّخِذونَ أيْمَانَكُم دَخَلاً بينَكم». (1)

وقد جاء في كُتُب تفسير القرآن الكريم أنّ امرأةً حَمْقاء مِن قريش، تُسمّى ب- «ريطة بنت عمرو بن كعب» (2) كانت تَغْزِل -

ص: 297


1- سورة النحل، الآية 92
2- ولعلّ إسمَها: زِيطة! لكي يَتَطابق الإسمُ مع المُسمّى. المحقّق

مع جَواريها - الصُوفَ والشَعْر - مِن الصَباح إلى نصف النهار - وتَصنَع بذلك خُيوطاً جاهِزة للنَسيج، ثمّ تامُرُهُنّ أن يَنقُضْنَ ما غَزَلْنَ طوالَ هذا الوقت، ولايَزالُ دابُها ذلك. (1)

«مِن بعد قُوّة» أي: كانت تَنكُثُ غَزلَها مِن بعد إحكام وإتْقان وإستِحكام وفَتْل للغَزْل، فى المرّة الأُولى وكانّها تُريد أن تَصنَع مِن ذلك الَغزل أقمشة. فبَعد النكْث والنَقْض كان يَفقُد الصوف مُعظم قُوّته.

«انكاثاً» جَمْع نكث، وهو الصوف والشَعْر، يُبْرَم - ويُعمَل منه الخيوط - ثمّ يُنْكَث: أي: يُنقَض ويُفَل لِيُغْزَل مرّةً ثانية.

وقد شَبّه اللهُ تعالى ناقِضَ العَهْد بتلك المرأة الّتى نَقَضَتْ غَزلَها مِن بَعْد قُوّة وإتقان.

«تَتّخِذُون أيْمانكم دَخَلاً بينكم»

أيْمان - جَمْع يَمين - : وهو القَسَم والحَلْف.

الدَخْل: المَكْر والخِيانة.

أي: كانوا يَحلِفون بالوَفاء بالعَهْد، ويُضْمرونَ في أنفسهم الخِيانة. وكان الناسُ يَطمَئنونَ إلى عَهْدهم ..

ص: 298


1- «والجُنونُ فُنون». المحقّق

لكنّ أُولئك كانوا يَنقضون العَهْد.

وبعد هذا التمهيد .. نَقول: لقد شَبّهت السيّدة زينب (عليها السلام) أهلَ الكوفة بتلك المرأة الحَمْقاء، مِن ناحية عدم الوَفاء بعُهَودهم ونَقْضِهم لها. بسبب صِفة الغَدْر المُتجَذِّرة في نَفسيّاتهم اللَئيمة، البَعيدة عن الإنسانيّة، وعن التفكير في نتائج الأُمور ومُضاعَفاتها.

«ألا وهَلْ فيكُم إلّا الصَّلِفُ النَّطِفْ»

الصَلِف: صَلِفَ الرجلُ: تَمَدّح بما ليسَ عنده إعجاباً بنفسه وتَكبّراً (1)

ويُقال: أصلَفتُ الرجلَ إذا أبغَضتُه ومَقَتّه، ويُعبّر عن البَخيل - أيضاً - بهذه الكلمة. (2)

هذا ما ذكره عُلماءُ اللُغة، ولكنَّ الّذي يَتبادر إلى الذِهْن - مِن كلمة الصَّلِف: هو الوَقِح، ولا مانع مِن تفسير الكلمة بهذا المعنى.. فبُكاؤهم بعد ارتكابهم تلك الجرائم يَدلّ على شِدّة وِقاحَتهم وقِلّة حَيائهم.

ص: 299


1- كما في كتاب (أقرب الموارد) للشرتوني
2- كما في كتاب (المحيط في اللغة) للصاحب بن عَبّاد

النَطِف: المُتَلَطّخ بالعَيب. (1)

«والصَدْرُ الشَنِف»

الشَّنَفُ: شِدَّة البُغْض (2). والشَّنِفُ: المُبغِض. (3) والمعنى: الصَدر الذي يَحتوي على شِدّة البُغْض والعِداء لأهل البيت (عليهم السلام).

«ومَلَقُ الإماء»

المَلَق - بفتْح اللام - الوُدّ واللُطف، وأنْ تُعطي باللسان ما ليسَ في القَلب والفِعْل (4).

والمعنى: أنّكم مُجتَمَع لِلصفات الرذيلة، ففيكم حالةُ التَمَلُّق والتَذلُّل لِمَن لا يستحقّ ذلك مِن الحُكّام الخَونَة أمثال: يزيد وابن زياد اللَثيمَين، وحاشِيَتهما القَذِرة، فكما أنّ الإماء - جَمْع أمَة - : وهي العَبْدة. يَتَملَّقْنَ إلى المالك لِجَلْب مَودّته، ويُعطينَه باللسان مِن الوُدّ

ص: 300


1- كما في كتاب (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي، و «الصِحاح» للجَوهري
2- كتاب «العين» للخليل بن أحمد، والمحيط في اللغة لابن عبّاد
3- المُنجد في اللغة
4- القاموس المحيط، للفيروز آبادي

والمَشاعِر ماليسَ في قُلوبِهِنّ، بل يُفكرنَ في مَصالحهنّ حتّى لو استوجَبَ ذلك لَهُنَّ التَذلُّل والتَمَلُّق والخُضوع لِمَن ليسَ أهلاً لذلك، أنتُمْ - يا أهل الكوفة! - كذلك تَتَمَلَّقُون إلى حُكامِكم.. مِن مُنْطلَق المصالح، لا الإخلاص والوفاء!

«وغَمْزُ الأعداء»

الغَمْز: الإشارة بالجِفْن والحاجِب (1) ولعلّ السيّدة زينب (عليها السلام) تَقْصُد مِن هذه الكلمة: أنكم يا أهلَ الكوفة أنتُم غَمْز الاعداء، أي: إنّ الاعداء (وهم: ابنُ زياد وحاشيَتُه) يَنْظرون إليكم مِن جانب عيونهم غَمْزاً.. ويَتعامَلون مَعَكم بِمُنْتَهى التَحقير والإذْلال، فلا كرامةَ لكم عندهم، بل يُريدونكم عَبيداً وخَدَماً وجُسوراً للوصول إلى أهدافهم .. مِن دون أن يُكنّوا إليكم أيّة مَحبّة أو تَقدير أو إحترام. فيُعتبر هذا الكلام - مِن السيّدة زينب - تَنبيهاً لاهل الكوفة على مَدى فُقْدان عِزّة النَفس لَديهم، حيث جعَلوا أنفسَهم ادوات طيّعَة وذَليلة بِيَد أفراد لُؤَماء، وهم ناسِين للكرامَة التي أرادَها الله تعالى للبَشَر.

إنّنا نَرى - في زماننا هذا - أن المُوظّفين المُتكبّرين

ص: 301


1- كتاب «العَين» للخليل بن أحمد

لا يَرفعون رُؤوسَهم لِيَستمعوا إلى ما يَقولُه المُراجِع لَهم، بل يَنظرون إليه بجانب عيونهم تَحقيراً وإذلالاً لَه!!

وهكذا كانتْ نَظرة الحُكّام إلى أعوانهم والمُتعاطفين مَعَهم.

ثمّ ذكرتْ السيّدة زينب (عليها السلام) مِثالاً آخَرَ لِبَيان حَقيقة أهل الكوفة والكَشْف عن واقعهم، وأنّ ظاهِرَهم يَخْتَلِف - تَماماً - عن باطنهم، وأنّ ما يَقولونه بالسنتهم يَختَلِف عن نفسيّاتهم، فشَبِّهَتْهُم بالأعشاب الّتي تَنْبُتُ وتَنْمو في أماكن وَسِخَة وغير صِحيّة، فقالت (عليها السلام):

«أو كمَرْعى على دِمْنة»

المَرْعى: مَحلَّ العِشْب الذي يَسْرحُ فيه القَطيع.

الدِمْنة: المَحلّ الذي تَتَراكم فيه أرواتُ الحيوانات وأبوالَها وتَختَلِطُ مع التُراب في مَرابِضهم، فتَتَلَبِّد وتَتَماسَك الأوساخ المُتكوّنة مِن الرُوثْ والبَول والتُراب، ثمّ - بسَبَب الرُطوبة الموجودة - يَنْبُتُ هناك نَباتٌ أخضَر، جَميل المَنظر واللّون، ولكنّ الجُذور نابتة في مَكان وسِخ مَليىء بالجَراثيم والميكروبات! (1)

ص: 302


1- ذُكرَ هذا المعنى في أكثر كتُب اللُغة بِعِبارات مُختلفة والمَضمون واحِد، ونحنُ ذكرْنا ذلك بتَعبيرنا. «المحقّق»

كذلك أهلُ الكوفة كانَ لهم ظاهرٌ حَسَن، وكانتْ لَهم حَضارة عَريقة، لكنّ باطنَهم وواقعَهم كان قَبيحاً يَشْتَمل على الخُبْث والغَدْر، والخيانة والكذب والنِفاق، والجُرأة على الله تعالى، وسَحْق القِيَم والمَفاهيم، وعدم التَخلُّق بالفضائل، والّتي مِن أبرَزِها: الوَفاءُ بالعَهْد، وترجيحُ الدين على كلّ شيء.

هذا .. ونَعودُ لِنُذكّر - مَرَةٌ أُخرى - أنّه كانَ في الكوفة جَمْعٌ غَفيرٌ مِن المؤمنين الاخيار الطيّبين، لكنَّ الأشرار - بِتعاونهم مع الحُكم الفاسد - كانوا قد شَكّلوا هذه الواجِهة القَبيحَة، وكوّنوا هذه السُمْعَة السَيِّئة لجميع أهل البَلَد!!

ثمّ ذكرَتْ السيّدة زينب (عليها السلام) مِثالاً آخَر فقالتْ:

«أو كفِضّةِ على مَلْحُودَة»

اللَحْد: القَبْر. المَلْحُودة: الجُثّة المَوْضُوعة في القَبْر.

إذا وُضِعَتْ عَلامة مَصْنوعة مِن الفِضّة على قَبْر رَجل مُنحرف دينياً، فسوف يكون ظاهِرُ القَبر جَميلاً، لكنّ الجُثّة الّتي في داخِل القبر جِيفةٌ مُتَعَفّنة. كذلك أهلُ الكوفة كانوا أهلَ التَمَدُّن والحَضارة والثقافة، لكنّهُمْ في

ص: 303

الباطِن كانوا بمَنْزلة الجِيفَة، حيث تَجمّعتْ فيهم المَساوىء الأخلاقيّة، كنَقْض العَهْد والغَدر والخيانة وغيرها، فكوّنَتْ لهم سُوء الملف والسَوابِق المُخْزية.

وفي نسخةٍ: «كقَصَّةٍ على مَلحُودة»

والقَصّة: هي: الجصّ: وهي البُودرة والتُراب المَطبوخ الذي يُخلَط مع الماء فيَصيرُ طيناً أبيضَ اللون، ويوضَع ذلك الطين ما بين الطابوق ويكون سبباً لِتَماسُك أجزاءِ البِناء (1).

فما فائدةُ ذلك القبر الذي يُجَصَّصُ - ليكون جميلَ الظاهِر -، لكنّه يَتَضمّن جُثْماناً نَتِنا لِرَجُلٍ خَبيث أو إمراةٍ مَنْحَرفة؟!!

وقد يُستفاد - مِن بعض كتُب التاريخ - أنّ المُتفرِّجين والمُستَمعين لِخِطاب السيّدة زينب (عليها السلام) إنقَسَموا إلى ثلاثة أقسام:

1 - قُوّات الشُرطة التابِعين لابن زياد.

2 - المُحايدين.

3- الأفراد الّذين تَفاعَلوا مع كلمات خُطبة السيّدة زينب

ص: 304


1- قال الخليل في كتاب «العين» القَصَّةُ: لُغةٌ في الجِص. وجاء في القاموس المحيط: «القَصَّةُ: الجُصَّة»

(عليها السلام) وتأثّروا بكلامِها، وبَدأوا يَبكون!!

كيف لا .. وهم يَسمَعون صوتاً يَشْبَه صوت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من أبنته الشُجاعة!

ولعلّها كانت تَخطبُ في ساحةٍ كبيرةٍ مِن ساحات مدينة الكوفة، حيث كانتْ تَسْتَوعِبُ أكبّر قَدَرٍ مُمكن مِن الجماهير: المُسْتمعين والمُتَفَرِّجات، الّذين وَقَفُوا على جانِبَي الطريق، أو على سُطوح دُورهم يَنظرون ويَسْتمعون.

«ألا: ساءَ ما قَدّمَتْ لكم أنفسُكُم أنْ سَخِط اللهُ عليكم وفي العَذاب أنتُمْ خالدون»

هذه الجُملة مُقْتَبَسَة مِن قوله تعالى: «تَرى كثيراً مِنْهُمْ يَتَوَلّون الّذين كفَروا لَبِئسَ ما قَدَّمَتْ لَهُم أنفسُهُم أنْ سَخِطَ اللهُ عليهم وفي العَذاب هُمْ خالِدون». (1)

والمعنى: بئسَ ما قَدّموا مِن العَمل لِمَعادهم في الآخرة، أنْ سَخِطَ اللهُ عليهم. والمعنى - هنا - يا أهلَ الكوفة: إنّ أعمالكم قد أوجَبَتْ عليكم غَضَبَ الله وسَخطه، والبقاء الدائم في نار جهنّم.

ص: 305


1- سورة المائدة الآية 80

«أتبْكون وتَنْتَحِبُون»؟!

الإنتحاب: رَفعُ الصوت بالبُكاء الشَديد.

«إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً

إشارة إلى قوله تعالى: «فَلْيَضحكوا قَليلاً وليَبْكُوا كثيراً» (1)، والمعنى : فلْيَضْحَك هؤلاء المُنافقون قليلاً، لأن الضِحك - حتّى لو إستَمرّ - فإنّه يَنْتَهي بِفَناء الدنيا، وهو قَليلٌ لَدى المُقايَسَة مع بُكائهم الدائم في يوم القيامة، لأنّ ذلك: «يوم كانَ مِقدارُهُ خَمسين ألفَ سَنَة» (2) وهُم يَبكون فيه كثيراً.. وباستمرار.

وهذا تهديدٌ وإنذارٌ مِن السيّدة زينب لأهل الكوفة، وليسَ امراً لَهُم بالضِحك، بل أمْر بالتَقليل مِن الضحك، - وتَهديدٌ ضِمْني - أنْ لا مُبَرِّرَ لِضِحكٍ وفَرَح يَتعَقّبه بكاءٌ طويل وعذابُ مُسْتمّر.

«فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعارها وشَنارها»

يُقال: ذَهَبَ بها: أي إسْتَصْحَبَها. والعارُ: كلُّ شيء

ص: 306


1- سورة التوبة، الآية 82
2- سورة المعارج، الآية 4

يَلْزَم منه عَيبٌ (1) أو كلُّ ما يُعيَّرُ به الإنسانُ مِن قَولٍ أو فِعْل، أو يَلزم منه عَيبٌ أو سَبِّ. (2)

والشَنار: العَيب والعار (3) والأمْر المَشهور بالشَنْعَة. (4)

«ولَن تَرْحَضوها بِغَسْلٍ بَعْدَها أبَدا»

تَرحَضوها: تَغْسلوها.

غَسْلٍ: ما يُغْسَل به، كالماء والمَوادّ المُنظّفة المُزيلة للأوساخ.

قد يَقومُ الإنسانُ بجريمة صغيرة يَستطيع مُحاصَرة مُضاعَفاتها، وقد تكون الجريمة كبيرة جداً تابي أن يُحاصرَ أحَدٌ مُضاعَفاتها وآثارها، أو يَنسِبَ الغَفلة أو السَهْو والإشتباه إلى مُباشِر تلك الجريمة، ويَجعَلُ الإعتذار سَبَباً وطريقاً للعَفو عن ذلك المُجْرم وإغلاق مَلَفّه. فالمعنى: لا يُمكنُ لكم التخلُّص مِن مُضاعَفات هذه الجِناية العُظمى، فقد تَعلّقتْ الجريمةُ بأعناقكم، وسُجّلَتْ

ص: 307


1- القاموس للفيروز آبادي
2- أقرب المَوارد للشَرتوني
3- مَجمَع البَحرين، للطريحي. وكتاب «العين» للخليل بن أحمد
4- أقرب الموارد للشرتوني

في التاريخ .. بحيث لا يُمكن تَغْطيتُها أو إنكارها!! أو ذِكْر توجيهات واهِية وسَخيفَة لهذا الجُرْم العظيم والذَنْب الجَسِيم!

«وأنّى تَرْحَضُون قَتْلَ سَليلٍ خاتم النُبوّة؟»

رَحَضَ: رَحَضَ الثوبَ: غَسَلَه.

أي: كيفَ تَغْسِلونَ عن أنفِسكم، وتَمْحُونَ وتَمْسَحُونَ عن مَلَفّكم هذه الفاجعة العظيمة، وهي قَتْل وَلَد رسولِ الله خاتم الانبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟!

وبعبارة أُخرى:

كيفَ وبأيّ وَجْهِ يُمكن لكم أنْ تُبرِّروا قَتْلَ سَليلِ خاتَم النُبوة؟! والسَليل: هو الوَلَد.

كيفَ يُمكن لكم غَسْلَ هذا الذُنب العظيم عن أنفسكم؟!

وهلْ هناك مَجالٌ للإعتذار في ارتكاب جريمةٍ بهذا الحَجْم ومع تِلْكُم الكيفيَّة والمُلْحَقات؟؟!!

«ومَعْدِنِ الرسالة؟ وسيّد شَباب أهلِ الجنّة؟»

إنّ الإمامة: هي إمتداد لِلرسالة، وكما أنّ الرسول يَختاره الله تعالى .. لا الناس، كذلك الإمام والخليفة ..

ص: 308

يَختاره الله تعالى أيضاً .. وليس الناس.

والإمام الحسين (عليه السلام) هو الخليفة الشَرْعي الثالث لِرَسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أُمّته.

فَلَمْ يَكُن الإمامُ الحسين (عليه السلام) رَجلاً مَجْهولاً خامِلَ الذِكْر، غيرَ مَعروفٍ عند الناس، بل كان مَشْهوراً عند جميع المسلمين بِكلّ ما لِلعَظمَةِ والجَلالةِ والقَداسةِ مِن مَعانٍ، وأحاديثُ رسول الله في مَدْحِه والثَناء عليه .. كانتْ مَحفُوظة في ذاكِرة الجميع، وآياتُ القرآن الكريم كانتْ تُمَجِّدُه بِما هو أهلٌ لذلك، ف-«آيةُ التطهير» تَشْهَدُ له بالعِصْمة والطهارَة عن كلّ رِجْس، وآيةُ «إطعامِ الطعام» تُنْبِيءُ، عن نَفسيّته الّتي بَلَغَت القِمّة في الإخلاص وحُبّ الخَير للآخَرين، و «آيةُ القُربى» جَعَلتْ إظهارَ المَحبّة ومَشاعِرَ الوُدّ لَه أجْراً لِبَعض أتعاب الرسول الكريم، و «آيةُ المُباهَلةَ»، أعلنَتْ أنّه الإبنُ المُميّز للرسول الأقدس (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه واحِدٌ مِن «أهل البيت» الّذين بِدُعائهم يُغيّرُ الله تعالى المَوازينَ الكونيّة.

وأحاديث النبي العظيم حولَ مَكانَته ومَنْزلةِ أخيه الإمام الحسَن .. كانتْ أشهر مِن الشَمس في رائعة النَهار، كقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «الحسنُ والحسينُ سَيّدا شَباب أهل الجَنّة» ، «الحسنُ والحسين إمامان .. إنْ

ص: 309

قاما وإنْ قَعَدا» «حسينٌ منّي وأنا مِن حسين، أحَبَّ اللَّهُ مَنْ أحَبّ حُسَيناً». (1)

وكانت هذه الأحاديث وأمثالها قد مَلأَتْ آذانَ صَحابة الرسول وتابعيهم.. المُنْتَشِرين في كلّ البلاد.. وخاصةً الكوفة.

فَجَريمةُ قَتْلِ الإمام الحسين لا يُمْكن أن تُقاس بجَريمة قَتْل غَيرِه مِن الأبْرياء، لأنّ المَقتول - هُنا - عظیمٌ فوقَ كلِّ ما يُتَصوّر، فيكونُ حَجَمُ جَريمة قَتْله أكبر وأعظم مِن جَريمَة قَتْل أيّ بَريء، فلا يُمكن لأهل الكوفة أن يَغْسِلوا عن أنفسِهم هذه الجَريمة الكُبرى.

ثمّ استمرَّتْ السيّدةُ زينب بذِكْر سِلْسلة مِن جَوانب العَظمة المُتَجَمِّعَة في أخيها سيّد الشُهداء الإمام الحسين (عليه السلام) لِتُبيّن - للناس - حَجْم الخَسارة الفادِحة، ومُضاعَفات هذا الفراغ الذي حَصَل في كيانِ الأُمّة الإسلاميّة، وهو قَتْلُ الإمامِ المُنْتَخَب مِن عند الله تعالى لِهِداية البَشر، فقالتْ (عليها السلام):

«ومَلاذِ خِيَرتكم»

المَلاذ: المَلْجا، والحِصْن الأمِن الذي يُحْتَمى به

ص: 310


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 43، ص 261

ويُلْجَا إليه في الشَدائد.

خِيَرتِكم: المُؤمنين الأبرار، المُتَفَوِّقين في دَرَجة إيمانهم بالله تعالى، وفي جَوانبهم الأخلاقيّة والإيمانيّة كالتَقْوى، والعقيدة الراسخة، وحِماية وحِراسة الدين، وتَقديم الدين عَلى كلّ مَصْلحة .. مادّيّة كانت أو غيرها!!

«ومَفْزَعِ نازِلَتِكم»

المَفْزَع: مَن يُفزَعُ إليه، ويُلْتجا إليه.

النازلة: الشَديدة مِن شَدائد الدَهْر .. تَنْزِلُ بالقوم (1) وقيل: النازلة: هي المُصيبة الشديدة. (2)

«ومَنارَ حُجَّتِكم»

المَنارُ: مَحَلُّ إشعاع النُور. والحُجّةُ: الدليل والبُرهان للإستدلال على حَقيقة شيء.

المَنار: مَحَلِّ على سَطح الدار، كان الإنسان الكريم يُشعِلُ النارَ فيه لَيلاً لِيُعْلنَ للناس أنّ هُنا مَحَلاً للضِيافة، فيَسْتَدلُ بِنُور تلك النار التائهون عن الطريق، أو المُسافرون الّذين وَصَلوا إلى البَلَد لِتَوِّهِم، وهُم يَبْحَثون عن مَأوى

ص: 311


1- كتاب «العَين» للخليل بن أحمد
2- المُعْجَم الوسيط

يَلْجَأون إليه حتّى يَحينَ الصَباح.

وتُطلَقُ هذه الكلمة - حاليّاً - على الاضواء الكَشّافة القَويّة في دَرجة الإضاءة الّتي توضَع على أبْراجِ المُراقَبة في مَطارات العالَم، لإرشاد الطائرات إلى مَحلّ المطار، وخاصّةً في الليالي الّتي يُخيّم الضَبابُ على سَماء المدينة.

لقد جَعَلَ اللهُ تعالى الإمامَ الحسين (عليه السلام) مِصْباحَ الهُدى، يُنيرُ الدَرب لِكلِّ تائه أو مُتَحيّر، ولكنّ الناس تَجمّعوا عليه وكسَروا المِصباح، وهم غير مُبالين بما يَنْتُج عن ذلك مِن مُضاعَفات، ففي الظلام تَقَع حوادثُ السَرقة والسَطو على المَنازِل والبيوت، وجَرائم الإغتصاب والقَتْل، والضياع عن الطريق، والسُقوط في الحَفائر، وغير ذلك.

أمّا معَ وجود المِصْباح فلا تَحدُثُ هذه الجرائم والمَآسي.

ولم يكن الإمام الحسين مَناراً مادياً فقط.. بل كان مَناراً لِمَن يَبحثُ عن الحقيقة، ويَسال عن الدين، ويُريدُ الحُصول على رَدّ الشُبُهات، وما يَتبادر إلى بعض الأذهان مِن تَشْكيكات. ولذلك فقد عَبّرتْ السيّدة زينب عن الإمام الحسين ب-«مَنار حُجّتكم».

ص: 312

«ومدرَةِ سَنَتكم»

السَنةُ: العامُ القَحط (1)، وقيل: السَنَة المُجْدَبة (2) وقيل: غَلَبَ إطلاقُ كلمة «السَنَة» على القَحْط، مِثْل ما غَلَبَ إطلاق كلمة «الدابَّة» على الفَرَس (3).

هذا هو معنى السَنَة.

ولمْ أعْثَرْ - في المعاني الّتي ذُكرَتْ في كتُب اللُغة مَعنىّ لِكلمة «مدرة» - يَتناسَبَ مع كلمة «سَنَتكم»، ويُحتَمل أن يكون تَصْحيفاً لِكلمة «ومَدَدِ» أي: مَن يُزوّدكم بالمُؤَن المادّية في سَنَوات الَقحْط والجَذْب، ويُخلّصكم مِن المَجاعَة والموت. أو يُزوّدكم بالأدلّة المَعنويّة حينما تَحْتارون في قَضاياكم الدينيّة، ومَشاكلكم العائليّة، وتَتلاعَبُ بأفكاركم التَشْكيكات والأفكار المُنْحَرفة أو المُسْتَحْدَثة، فتَعيشُون في ضَياع.. لا تُفرّقون بين السُنّة والبِدْعَة، وبين القول الحقّ والأقوال الباطلة المَصْبوغة بِصِبْغة الدين!

ثمّ زادَتْ السيّدةُ زينب (عليها السلام) مِن دَرَجة تَوْبيخ

ص: 313


1- كتاب «العين» للخليل بن أحمد
2- لسان العَرَب، لابن منظور
3- أقرب المَوارد للشرتوني، مع تَصرّف في بعض الالفاظ

الناس، مُحاوَلةً منها لإيقاظ تلك الضَمائر، ولِتُعْلِنَ لَهم أنّهم سَوفَ لا يَصِلُون إلى أيّ هَدَفٍ تَحرّكوا مِن أجْلِه فقاموا بهذه الجَريمة النَكْراء. فقالت:

«ألا ساءَ ما تَزِرُون»

أي: بِئسَ ما حَمَلْتُمْ على ظُهوركم مِن الذنوب والجرائم، فهي مِن نوعٍ لا يُبقي أيَّ مَجالِ لِشُمُول غُفرانِ الله وعَفْوه.. لكم.

«وبُعْداً لكم وسُحْقاً»

بُعْداً: أي: أبعَدَكم الله تعالى .. بُعْداً عن رَحْمَته وغُفْرانه.

سُحْقاً: هَلاكاً وبُعْداً، يُقال: سَحِقَ سُحقاً: أي: بَعُدَ أشَدَّ البُعْد. (1)

«فَلَقَد خابَ السَعيُ، وتَبّتِ الايدي»

خابَ: لم يَنَلْ ما طَلِبَ، أو إنقطعَ رَجاؤه. (2)

ص: 314


1- المُعْجَم الوَسيط. وقال الخليل في كتاب «العَين»: السَحْق: البُعْد. ولُغَةُ أهل الحِجاز: بُعْدٌ لَهُ وسُحق، يَجْعَلونَه إسْماً، والنَصْبُ على الدُّعاء عليه، أي: أبعَدَهُ اللهُ وأسْحَقَه
2- مُعجَم لاروس

تَبّت الأيدي، التَبُّ: الخُسْران والهَلاك (1) وقيل: الَقْطُع والبَتْر.

«وخَسِرَتْ الصَفْقَة»

الصَفقة: مُعامَلة البَيع أو أيّة مُعاملة أُخرى. والمعنى أنّكم - يا أهل الكوفة - خَسِرْتُمْ المُعاملة، مُعاملة بَيع الدين والآخِرة في قِبال الدُنيا، فمِن الجُنون أن يَبيعَ الإنسانُ ذلك في قِبال عَذابٍ مُسْتَمر مَزيج بالإهانة والتَحْقير، وبِثَمَن قَتْل إبنِ رسول الله، كلُّ ذلك وهو يَدّعي أنه مُسْلم!!

ولعلَّ المعنى: أنّكم بِعتُم الحياة في ظلّ حكومة الإمام الحسين (عليه السلام) بالحياة في ظلّ سُلْطة يزيد، وذَهَبْتُم إلى حرب الإمام الحسين لِتُحافظوا على كرسيّ يزيد مِن الإهتزاز، ولكنّ مُعامَلتكم هذه.. خاسِرة، فسوفَ لا تَتَهَنَّؤون في ظلّ حكومته، فلا كرامة ولا أمان ولا مُستقبل زاهِر!!

إن الدين والإنضواء تحتَ لواء مَن اختاره الله تعالى هو الّذي يوفّر للإنسان الحياة السَعيدة والعِزّة والكرامة.

أمّا الإعراضُ عن ذلك فسوف يَجُرّ الوَيلات لكم،

ص: 315


1- کتاب «العَين» للخليل، ومَجْمَع البَحرين للطُريحي

فتَتَوالى عليكم حكومات جائرة، فتَعيشون حياةً مَمْزوجة بالتعاسة والذُلّ، الشامِل لجميع جوانب حياتكم الدينيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة وغيرها.

وهنا أدمَجَتْ السيّدة زينب (عليها السلام) كلامَها بالقرآن الكريم واسْتَلْهَمَتْ منهُ ذلك فقالتْ:

«وبُوْتُم بِغَضَبٍ مِن الله، وضُربَتْ عليكمُ الذلّة والمَسكنَة».

قال تعالى: «وضُربتْ عليهِمُ الذِلَّةُ والمَسْكَنَة، وباؤا بغَضَبٍ مِن الله ... ». (1)

«وبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِن الله» أي رَجَعْتُم وقد احتَمَلْتُمْ مَعكم غَضباً مِن الله تعالى، وسوفُ يُسَبِّب لكم هذا الغَضبُ العقابَ الأليم والبُعْد عن رَحْمة الله وغُفرانه، بِکلّ تاکید.

وإنّ الجريمة .. مهما كانَ حَجْمُها أكبر فَسوف يكون غَضَبُ الله أشَدّ، وبالتالي يكون العذابُ أكثرُ إيلاماً وأشدُّ إهانةً وتَحقيراً، ويكون بُعْدُ المُجْرم عن عَفْو الله وغفرانه اكثرَ مَسافة!

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية 61

«وُضربَتْ عليكم الذِلّة والمَسْكنة»

ضُربَتْ: أي كُتبَتْ. فلقد كَتَب الله تعالى لكم الذُلّ، وقَدَّر لكم المَسْكَنَة، بِسَبَبٍ كُفرانكم بنعمة وجود الإمام الحسين (عليه السلام) والغَدْر به.

الذلّة والذُلّ: يَعنى الهَوان، وهو العذاب النّفْسي المُستمر، بسَبب الشعور بالحِقارة والنّقص والخوف مِن إعتداء الآخَرين!

المَسْكنة: الفَقْر الشَديد والبُؤس والتعاسَة.

ثمّ بَدأتْ السيّدة زينب (عليها السلام) بِوَضْع النقاط على الحروف، وذلك بالتحدُّث عن الأبعاد الأخُرى لِحَجْم هذه الجريمة - أو الجرائم - النكْراء فقالتْ:

«ويلكم يا أهلَ الكوفة! أتَدْرون أيَّ كبِدٍ لِرَسوِل الله فَرَيْتُم».

الكَبِد: كنايةٌ عن الوَلَد، وقد رُويَ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: «أولادُنا أكبادُنا ... ». (1)

فَرَيَتُم: الفَرْي: تَقْطيع اللَحم.

لقد شَبَّهتْ السيّدةُ زينب الإمامَ الحسين بكبِد رسول الله،

ص: 317


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 104، ص 97

وشَبَّهتْ جَريمة قَتْل الإمام بِقَطع كبِد الرسول الكريم، وكم يَحمَل هذا التَشبيه في طيّاتِه مِن مَعانٍ بَلاغيّة، وحَقائق روحانيّة، إذْ مِن الثابت أنّ مَكانة الكبد في الجسم لها غاية الأهميّة.

فكم يَبْلُغ الإنحراف بمَن يَدّعي أنّه مُسلم أن يَقتُل إماماً هو بمَنزلة الكبِد مِن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟

«وأيَّ كريمةٍ لَهُ أبْرَزْتُم؟!»

كريمةُ الرجُل: إبنتُه، فالسيّدة زينب (عليها السلام) بنت السيّدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهي -إذنْ - حَفيدةُ الرسول الكريم، والحفيدة تُعتبر بِنتاً للرجل، وقد كانَ النبيُّ الكريم يُعبّر عن السيّدة زينب - مُنذُ الأيام الأُولى مِن ولادتها - بكلمة «بِنْتي».

وكانتْ هذه البنت المُكرَّمة المُحتَرمة تَعيشُ في دارها خَلْف سِتار الحِجاب والعَفاف وتُحافظ على حِجابها أكثر من مُحافظتها على حَياتها، ولكنّ أهلَ الكوفة هَجَموا على خِدرها وخِيامها، وسَلَبوا حِجابَها، ثمّ أسَروها وأبْرَزوها إلى المَلأ العام! وكانتْ هذه المُصيبة أشدّ مِن جميع المصائب وَقْعاً على قلبها.. بعد مصيبة مَقتل أخيها الإمام الحسين (عليه السلام).

ص: 318

أيّها القارىء الكريم .. تَوَقّف قليلاً لِتُفكّر وتَعرفَ عِظَم الفاجعة: إذا كان سَلْبُ الحِجاب عن إمرأةٍ مؤمنةٍ عَفيفةٍ عاديّة أصعبَ عليها مِن ضَرْبِها بالسَكاكين على جِسْمها .. فما بالُك بِسلْب الحِجاب عن سَيّدة المُحَجّبات وفَخْر المُخَدّرات: زينب الكبرى عليها السلام؟!

فهذه الجريمة - لِوَحْدِها - تُعتبر مِن أعظم الجرائم الّتي ارتَكبَها أهلُ الكوفة تِجاه بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)!!

فكلُّ ضميرٍ حُرِّ لا يُمْكن لَه أنْ يَنسى هذه الجريمة!!

ولم تَقتَصِر هذه المصيبة على السيّدة زينب (عليها السلام) بل شَملتْ أخواتها الطاهرات مِن آل رسول الله، والنِسْوة اللواتي كُنَّ مَعَها في قَيْدِ الأسْر.

«وأيَّ دَمٍ لَهُ سَفكتُمْ»

أتعلمون - يا أهلَ الكوفة - أيّ دَمٍ لِرسول الله سفكتُم!!

لقد اعتَبَرت السيّدةُ زينب (عليها السلام) الدمَ الذي سُفِك مِن الإمام الحسين - يومَ عاشوراء - هو دم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ مِن الثابت أنّ الدم الذي كان يَجري في عُروق الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكنْ كدِماء سائر الناس، لأنّ الإمام الحسين لم يكن رجلاً عاديّاً كبقيَّة البَشَر،

ص: 319

فكلُّ قطرةٍ مِن دَمِه الطاهر كان جُزءاً مِن دم رسول الله، فالإمام الحسين: هو مِن «أهل البيت»، وأهلُ البيت: كُتْلَة واحدة، وقد صَرّح النبي الكريم بهذا المعنى يومَ قال: «اللهمّ: إنّ هؤلاء أهلُ بَيتي وخاصّتي وحامّتي، لَحْمُهُمْ لَحْمي ودمُهُم دَمي، يؤلِمُني ما يؤلمُهم ويُحزُنني مايُحزنهم، أنا سِلْمٌ لِمَن سالمَهُم، وحَربٌ لِمَن حاربَهم ... إنّهُمْ مِنّي وأنا مِنْهم ...» (1)

فالّذين أراقوا دمَ الإمام الحسين هُم - في الواقع - قد أراقوا دمَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم يدّعون أنّهم مُسْلمون!!

«وأيَّ حُرْمة لَهُ هَتَكْتُمْ»

حُرْمة الرجُل: ما لا يَحلّ إنتهاكُه، وحَرَمَ الرّجُل أهلِه. (2)

ص: 320


1- جاء ذلك في الحديث المشهور ب- «حديث الكساء» المرويّ في كتاب العَوالِم، للمُحدّث الكبير الشيخ عبدالله البَحْراني ج 2 ص 930، والحديث مَرويّ عن الشيخ الكُليني باسناده المُعْتَبَرة عن الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري، عن السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
2- المُعْجَم الوَسيط

وهَتْكُ الحُرمة: يَعني إهانة كرامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قَتْل إبنِه الحسين وسَبي كريماته وبَناته، والهُجُوم عليهنَّ في خِيامهنَّ. بكلِّ وَحْشيَّة!

وأيَّ إهانةٍ اكبر مِن هذه الإهانة؟!

لقد كانتْ المرأة تَمتاز في الإسلام بِصِيانَة مُعيَّنة، وكانَ كلُّ مَن يُهينُها يَستحقّ الذَم واللَوم مِن الجميع، ولكنّ أهلَ الكوفة - وبأمْرٍ مِن يزيد الطاغية وابن زياد اللّعين - قاموا بأبشَع انواع الجرائم في مَجال إهانة رسول الله و إهدار کرامته!!

ولذلك نَقرأ في كتاب واحدٍ مِن أبرز عُلماء أهل السُنّة هذا الكلام: «إذا دافَعْنا عن يزيد، واعتَذرْنا له في قَتْله الإمامَ الحسين بأنّه كانَ يَرى مِنه مُنافِسَاً لَه في الخِلافة، فبِماذا وكيف نَعتَذرُ لَه في سَبْيه لِبَنات رسول الله وأسْرهنّ بتلك الكيفيّة المُؤلمة، ثمّ الإنتقال بِهِنّ مِن بَلَد إلى بَلَد؟».

ثمّ استَمرَّتْ السيّدة زينب (عليها السلام) تَصِفُ فاجعة كربلاء الدامية ومُلْحَقاتها مِن سَبْي النساء الطاهِرات .. بهذه الأوصاف المُتَتالية:

«لقد جِئتُم بها» أي بهذه الجريمة التي لا مَثيلَ لَها في

ص: 321

تاريخ البَشَر.

«صَلْعاء»: وهي الداهية الشديدة (1)، أو الأمر الشديد. ولعلَّ المراد: الجَريمة المكشوفة الّتي لا يُمكن تَغْطيتُها بشيء.

«عَنْقاء»: الداهِية (2) وقيل: عُنُق كل شيء بِدايَتُه. (3)

فلَعلَّ المعنى أنّ هذه الجريمة سوفَ تكون بِدايةً لِسِلْسِلَة مِن الأزَمات والوَيْلات لكم، فلا تَتَوَقَّعوا خيراً بعد عَمَلكم الشَنيع هذا.

«شوهاء» قَبيحة (4) وفي نسخة: سَوداء.

«فَقْماء»: العظيمة (5) أو الشديدة (6) هذا بعض ما ذكرَه اللُغَويون، ولعلَّ معنى «فقماء» أي مُعقَّدة بشكلٍ لا يُمكن

ص: 322


1- ذكر ذلك «المحيط في اللغة» لابن عباد، وكتاب «العين» للخليل بن أحمد
2- القاموس المحيط، ولسان العرب
3- أقرب الموارد للشرتوني
4- المُعْجَم الوَسيط
5- المنجد في اللغة، وأقرب الموارد للشرتوني
6- المُعْجَم الوَسيط

معرفة طريق إلى حَلّها أو التخلُّص مِن مُضاعَفاتها. (1)

«خَرقاء، كطلاع الأرض» أي مِلْؤها. (2)

«ومِلْء السماء لعلّ المعنى أن حَجْم هذه الجريمة اكبر مِن أن تُشَبَّه أو توصَف بمَساحة أو حَجْمٍ مُعَيَّن، بلْ هي بِحَجْم الأرض كلّها، والسماء والفضاء كلَيهما. أي: إنّ حَجْمَها أكبر مِن أن يُتَصوّر.

فإنّ قتْل الإمام الحسين (عليه السلام) وفُقدان الأُمّة إياه يعني:

أولاً : إبتلاءُ كلِّ حُرِّ في العالَم - في جميع الأجيال القادِمة - بالحُزن والأسى حينَما يقرأ تفاصيلَ فاجعة كربلاء، فحتّى لو لم يكن مُسلماً يَشعر بالحزن وتَتَسابق دموعُ عَينَيه بالهطول، ويَشْعر بالإنزعاج والتَذَمّر مِن الّذين ارتَكبوا هذه الجريمة النَكْراء.

ثانياً : لقد حُرمَ البَشَر .. - بِمُخْتَلَفِ دِياناتهم وطبَقاتهم

ص: 323


1- المُحقق
2- المُعْجَم الوَسيط، والقاموس المحيط، وقال في «لسان العرب» طِلاعُ الأرض: ما طلعتْ عليه الشمس، طِلاع الشيء مِلْؤُه. المُحقّق

وأعمارهم و أجيالهم وبلادهم - مِن بَركات وجود الإمام الحسين (عليه السلام) والّتي كانتْ تُبْقى آثاراً إيجابيَّة مُسْتمرَّةً ودائمةً إلى آخر عُمْر الدُنيا!

ثالثاً: إنّ هذه الجريمة - بحَجْمها الواسع - فَتَحتْ الطريق أمامَ كلّ مَن يَحمِلُ نَفْساً خَبيثة في أن يَقوم بكلّ ما تُسَوّلُ له نفسُه وتُمليه عليه نَفْسيّته في مَجال الظلم والإعتداء على الآخرين، وعدم التَوَقُّف عند أيّ حَدِّ مِن الحُدود في مَجال الطغيان وسَحْق كرامة الآخَرين.

وقد صَرّحَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) بِهذا المعنى - حينما كان يُقاتل أهلَ الكوفة بنفسه - فقال: «... . أما إنَّكم لَنْ تَقتُلوا بَعْدِي عَبْداً مِن عِباد الله فَتَهابُوا قَتْلَه، بَلْ يَهُونُ عليكم عند قَتْلِكم إيِاي ... ». (1)

«أفَعَجِبْتُم أَنْ مَطَرتِ السماءُ دَماً»

إنّ المصادر والوثائق التاريخيّة التي تُصرّح بأنّ السماء أمطرتْ دَماً بَعْدَ قَتْل الإمام الحسين (عليه السلام) كثيرةٌ جِدّاً.

وكانَ ذلك المطر احمر يَشْبه الدمَ في لونه وغِلْظته .. وهذه الحقيقة الكونيّة مَذكورة في كُتُب الشيعة

ص: 324


1- کتاب معالي السبطين، ج 2، الفصل العاشر، المجلس الثالث. وكتاب «تظَلُّم الزهراء» ص 222

والسُّنّة، القديمة منها والحديثة. (1)

ص: 325


1- إليك الآن بعضَ ما كتبه المُؤرّخون حولَ هذه الظاهرة الغَريبة الّتي حَدَثَتْ يومَ عاشوراء عند مقتل الإمام الحسين (عليه السلام): 1 - ذكرَ الحافظ مُحبّ الدين الطبَري الشافعي - المتوفّى سنة 694 ه- - في كتابه: ذَخائرُ العُقْبى، طبّع مصر، عام 1356ه-، صفحة 145 قال: «وذكر أبو نُعيم الحافظ في كتاب «دَلائل النُبوّة» عن نضرة الأزديّة أنّها قالتْ: لمّا قُتِلَ الحسينُ بن علي أمطرت السماءُ دَماً، فاصبَحْنا وجِبابُنا (أي: آبارُنا) وجِرارُنا (جَمْع: جَرَة) مَمْلُوءَةٌ دَماً». وعن مروان مَولى هند بنت المهلّب، قال: حَدَّثَني بَوّاب عُبيد الله، بن زياد أنّه لمّا جِيء برأس الحسين بين يديه رايتُ حِيطان دار الإمارة تَسايَلُ دَماً. خَرَجَه ابنُ بنت منيع. وعن جعفر بن سُليمان قال: «حَدّثَتْني خالتي أُمّ سالم: قالت: لمّا قُتِلَ الحسينُ مُطرْنا مَطراً كالدَم على البُيوت والجُدُر. قالت: وبَلَغَني أنّه كان بخراسان والشام والكوفة. خَرّجَه ابنُ بنت منيع. وعن أُمّ سَلمة قالت: «لمّا قُتِلَ الحسينُ مُطرْنا دَماً». وعن ابن شهاب قال: «لمّا قُتِلَ الحسينُ - رضيَ الله عنه - لم يُرفَع او لم يُقْلَع حَجَرٌ بالشام إلّا عن دَم» خَرَجَهما ابن السري. 2 - ذكر العلّامة الشيخ المحمودي في كتابه : عَبَرات المُصْطَفَين في مقتل الحسين عليه السلام طبع ایران عام 1417ه-، ص 169 : ذكر ابوبكر محمد بن أبي بكر التلمساني - المتوفى بعد عام 644ه- في ترجمة الإمام الحسين في كتاب الجوهرة ج 2 ص 218، طبع الرياض، قال: رَوى البُخاري - في ترجمة سليم القاص تحت الرقم 2202 مِن القِسم الثاني مِن المجلّد الثاني مِن التاريخ الكبير، ج 4 ص 129 قال: وعن سليم القاص: مُطرْنا يومَ قَتْل الحسين دَماً». 3 - ورَوى ذلك ابن حجر الهيثمي في كتابه: الصواعق. 4 - ورَوى ذلك القندوزي الحَنَفي في كتابه: ينابيع المَودّة ج 2 ص 320. 5 - وروى ذلك: سبطُ ابن الجوزي في كتاب (مِرآة الزَمان) ص 102. 6 - ورَوى البلاذري في الحديث 52 في كتابه (أنساب الأشراف) طبْع بیروت ج 3 ص 209 قال: حَدّثَني عمر بن شبة، عن موسى بن اسماعيل، عن حَمّاد بن سلمة، عن سليم القاص قال: مُطرْنا أيامَ قَتْل الحسين دَمَاً. 7 - ورَوى الشيخ المحمودي - أيضاً - عن ابن العديم، عن هلال بن ذكوان قال: لمّا قُتِلَ الحسينُ مُطِرْنا مَطراً بَقيَ أثَرُه في ثِيابنا مِثْل الدَم. وعن قرط بن عبدالله قال : مُطرْتُ ذاتَ يوم بنصف نهار فأصابَ ثوبي فإذا دَم، فذَهَبت الإبل إلى الوادي فإذا دَم فلمْ تَشربْ، وإذا هو يوم قتل الحسين. 8 - وذكرَ القرطبي - المُتوفّى سنة 671ه-، في تفسيره المسمّى ب- «الجامِع لاحكام القرآن» ج 16 ص 141، طبع بيروت عام 1405 ه-: «.... قال سليمان القاضي: مُطرْنا دَماً يومَ قَتْلِ الحسين». 9- وروى ذلك الحافظ ابن عساكر الشافعي - المُتوفّى عام 571 ه- - في كتابه: تاريخ مدينة دمشق قال: حَدّثتنا أُمّ شرف العبديّة، قالت: حدّثتْني نضرة الأزديّة قالت: لمّا قُتل الحسين بن علي مَطرَتِ السماء دَماً، فأصبَحتُ وكلّ شيء لنا مَلَان دَماً. «المحقّق»

ص: 326

وكان هذا المَطر الاحمر كإعلان سَماوي - على مُستوى الكون - لِفَظاعة حادث قَتْل الإمام الحسين (عليه السلام) واستنكاراً لهذه الجريمة النَكراء، ولكن .. ما أكثَرَ العِبَر و أقَلّ الإعتبار».

وقد بقيتْ آثار تلك الدماء مِن ذلك المطر على جُدران مدينة الكوفة وحيطانها وعلى ثياب أهلها مُدّةٌ تَقربُ مِن سنة كاملة.

لقد كان ذلك المطر تَنديداً بفظاعة الجريمة، وإنذاراً للعاقِبَة السيّئة لأهل الكوفة في يوم القيامة.

«ولَعَذابُ الآخرة أخزى»

أي: إنّ العقاب الصارم لِقَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) سوف لا يَقتَصر ولا يَنحَصر بالعذاب الدنيوي، والصَفَعات الدنيويّة المُتَتالية، بل إنّ العذاب الإلهي يَنتظرهم في الآخرة.

إن الدنيا سوف تَنْتَهي ويَخْرجُ كلّ إنسانٍ مِن قاعة

ص: 327

الإمتحان، وعندها يكون المُجرمون في قَبضة مَحْكمة العدالة الإلهيّة، فمَن يُخلّصُهُم - في ذلك اليوم - مِن رسول الله جَدّ الحسين؟!

«وأنتم لا تُنصَرون»

أي: لا تَجِدون مَنْ يَنصركم يومَ القيامة، ومَن يُنجّيكم مِن العذاب الأليم، لأنَّ َطرَفَ النِزاع: هو الإمامُ المظلومُ البَرييءُ المَقتول: الإمامُ الحسين (عليه السلام) ذاكَ الرجلُ العظيم الّذي زَيَّنَ اللهُ تعالى العَرشَ الأعلى باسمه «إنّ الحسين مِصباحُ الهُدى وسَفينةُ النجاة» ومِن الواضح أنّه سوف لا يَتَنازلُ عن حَقّه .. مهما كانتْ نفسيَّتُه المُقدّسة عالية وفوق كلّ تصوّر . لأنّ المجرمين ضَرَبوا أرقاماً قياسيّة في اللُؤم والخُبْث والغَدْر والجناية!

والمُخاصِمُ لأهل الكوفة: هو أشرفُ الخَلْق وأعز البَشَر عند الله تعالى: وهو سيّدنا محمد رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وهو ايضاً لا يَتنازل عن دَم إبنِه الحَبيب العزيز، وعن سَبْي بناته الطاهِرات!

والمُحامي: هو جبرئيل سيّدُ أهلِ السماء، حيثُ يَقِفُ ظهْراً لِرسول الله في قضيّة مَلَف مَقتل الإمام الحسين (عليه السلام).

ص: 328

ونوعيةُ الجريمة وحَجْمُها ومُضاعَفاتُها .. تابى شُمولَ الغُفْران والعفو الإلهي لها، لعدم وجود الفوضى في أجهزة القضاء الإلهيّة، فاللازم إعطاء كلّ ذي حَقٍ حَقَّه.

هذا أوّلاً ..

وثانياً: إنّ مِن آثار هذه الجريمة النَكراء: هو أنّها تَمنَعُ المُجرِم مِن التوفيق للتوبة والإنابة إلى الله، كما صرَّح بذلك الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام.

ويَجبُ علينا أنْ لا نَنْسى أنّ كِبار قُوّاد جيش الكوفة .. كانوا مِن الّذين قد كتَبُوا إلى الإمام الحسين بأنْ يأتي إليهم في الكوفة، ووَعَدوه بالنَصْر .. حتّى لو آلَ الأمرُ إلى القَتْل والقِتال، وإلى التضحية بِبَذْلِ دِمائهم وأرواحِهم، وخَتموا رسائلَهم بتَوقيعاتهم وأسمائهم الصَريحة.

إلى درجة أنّ البعض مِنْهم أعطى لِنَفْسه الجُرأة في أنْ انْ يَكتُب إلى الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الكلمات: «إنْ لَم تَأتِنا فسوف نُخاصِمُك غَداً - يومَ القيامة - عند جَدّك رسول الله»!!

فَهُمْ - إذنْ - كانوا يَعرفون الإمامَ الحسين، «وليس مَن يَعرف كمَن لا يَعرف» والأحاديثُ الشريفة تَقول: «إنّ الله تعالى يَغْفِرُ للجاهِل سبعين ذَنْباً .. قَبْلَ أَن يَغْفِرَ للعالِم ذَنْباً واحِداً».

ص: 329

«فلا يَسْتَخِفنّكُمُ المُهَل»

المُهَل - بضَمّ الميم - جَمْع المُهْلة: وهي بمعنى الإنظار والإمهال وعَدَم العَجَلَة. (1)

أي: لا يَصيرُ الإمْهالُ والتأخير في الإنتقام سَبَباً لِخِفّة نُفوسِكم وانتِعاشِها مِن الطَرب والفَرَح، وبذلك تاخذُكم سَكْرة الإنتِصار والظفَر. فالإنتصار الذي يَتعَقَبُه العذابُ الأليم - مع فاصِلٍ زَمَني قَصير - لا يُعتَبرُ إنتصاراً حقيقيّاً، بل هو سَرابٌ مُؤقّت، لايَعترفُ به العُقلاء، ف- «لاخَيرَ في لَذَةٍ وَرَاءَها النارُ»!

إنّ الإمْهال ليسَ دليلاً على الإهْمال، فإنّ الله تعالى قد يُمْهِل، ولكنّه (سُبحانه) لا يُهْمِل.

وبناءً على هذا .. فلا يكون الإمْهال سَبَباً لِتَصوّرٍ خاطيء منْكم بأنّ عِلّةَ تأخير العِقاب هي أنّ الجريمة قد تَمّ التَغاضي والتَغافُل عنها ، ولَسَوف تُنسى بِمُرور الأيّام، لانّها شيء حَدَث وانتَهى .. بلا مُضاعَفات لاحِقة، أو أنّ الإنتقام غيرُ وارد حيث أنّ الأُمور قد فَلَتتْ مِن اليَد.

كلاً . . ليسَ الأمرَ كذلك، بل شاءَ اللهُ تعالى أن يَجعَلَ الدنيا دارَ إمتحان لِجميع الناس: الأخيار والأشرار، وقَرّر أن يَدفَع كلُّ مَن يُخالفَ أوامرَ الله ضَريبةَ مُخالَفَته .. إنْ عاجلاً أو آجِلاً.

ص: 330


1- كما يُستفاد ذلك مِن «مجمَع البحرين» للطريحي

فعَدَم تعَجيل العُقوبة لا يَعني أن الأُمور مُنفَلتة مِن يَد الله الغالِب القاهِر العليّ القدير، فهو المُهَيمنُ على العالَم كلّه. لكنّه قد يُؤخّر الجزاء لأسرار وحِكم يَعلَمُها سبحانه، فهو لا يُعجّل العذاب للعاصِين - أحياناً أو غالباً - ولكنّه بالمِرْصاد، فكما أنّ الجُندي الذي يَجْلس وَراءَ المِتْراس يُراقِبُ ساحة َالحرب، ويَنتظر الوقتَ المُناسِب للهجوم أو لإطلاق القَذيفة، كذلك العذاب الإلهي يَنزل في التَوقيت المُناسِب .. مع مُلاحَظة سائر أسرار الكون. ولا مُناقَشَة في الأمثال.

قال تعالى: «ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعمَلُ الظالِمُون، إنّما يُؤخرهُمْ لِيَومٍ تَشْخَصُ فيه الابصار، مُهْطِعين قطعين مُقْنِعي رُؤوسِهم، لا يَرْتَدّ إليهِم طرْفُهُمْ وأفئدتُهم هَواء». (1)

وقد رُويَ عن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال: «ولَئنْ أمْهَلَ اللهُ الظالمَ فَلَنْ يَفُوتَ أخْذُه، وهو لَهُ بالمِرْصاد على مَجاز طريقِه وبمَوضِع الشجا مِن مَساغِ رِيقِه». (2)

ص: 331


1- سورة إبراهيم، الآية 42 و 43
2- نهج البلاغة، طبْع لبنان، المَطبوع مع تعليقات صُبحي الصالح، ص 141، خطبة 97

«فإنّه لا يَحفِزُهُ البِدار»

«يَحفِرُهُ» يُقال: تَحَفَّزَ في مَشْيه: أي جَدَّ وأسرَعَ (1) فهو مُحْتَفِرْ: أي: مُسْتَعجِل (2) والحُفْز: الإعجال في الأمر للبَطْش وغيره.

«البِدار» يُقال: بَدَرَ إلى الشيء مُبادرةٌ وبِداراً: أسرَعَ (3) وبَدَرَ فُلاناً بالشيء: عاجَلَه به. (4)

تَقول السيّدة زينب (عليها السلام): إعلموا - يا أهل الكوفة -: أنّ عَدَمَ نُزولِ العَذاب الإلهيّ عليكم .. ليسَ سَبَبُه الإهمال، فإنّ الله تعالى لا تَدْفَعُه العَجَلة إلى إنزال العذاب، لأنّ الحِكْمة الإلهيّة تَجْعَل إطاراً للمُقدّرات الكونِيّة، ومنها: إختيار التوقيت المُناسب لِنُزول العذاب، وإختيار نَوْعِيّته.

هذا أوّلاً ..

وثانياً.. لقد جاء في الحديث الشَريف أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سَألَ ربَّه أنْ لا يُعاجِلَ أُمَتَه

ص: 332


1- المُعْجَم الوَسيط
2- مَجْمَع البحرين للطريحي
3- نَفْس المصدر
4- المُعْجَم الوَسيط

بالعذاب في الدنيا، واستَجاب اللهُ تعالى لِرسوله ذلك ، فجَعَل مِن القوانين الكونيّة عدَم نزول العذاب الغَيْبي على الأُمّة الإسلاميّة - في الدنيا - كرامةً واحتراماً لِرَسول الله، وهذه الكرامة لم تكُن لِغَير نَبيِّ الإسلام، مِن الأُمم السالفة، والأنبياء السابقين في الزَمَن.

فمَعنى قول السيّدة زينب (عليها السلام): «فإنّه لا يَحفِرُه البِدار» اي: لا يَحُثُّ الله - سُبحانَه - شيءٌ على تعجيل العقوبة والإنتقام، لِوجود أسباب وأسرار كونيّة، ولِعَدَم خوف إنفلات المُجرم مِن قَبْضة العدالة الإلهيَّة. ونَقرأ في الدعاء: «ولا يُمكنُ الفِرارُ مِن حُكومتكَ».

«ولا يَخافُ قَوْتُ الثار، وإنّ رَبّك لبالمرصاد»

فسَوف ياتي الإمامُ المهدي المُنتَظر (عجّلَ الله ظُهورَه) ويَنتَقِم مِن قَتَلة الإمام الحسين.. في الدنيا، أمّا في الآخرة .. فَسَتكون أولُ دُفعة - مِن البَشَر - يُؤمَرُ بهم إلى نار جَهنّم: هم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام).

المِرْصاد: المَكْمَن، وهو المَكان الّذي يُخْتَفى فيه عن أعين الأعداء، بانتظار التوقيت المُناسِب للهُجوم أو الدفاع.

ص: 333

قال الراوي:

«فوالله لقد رأيتُ الناسَ - يومئذٍ - حَيارى يبكون، وقد وَضَعوا أيديهم في أفواههم (1). ورأيتُ شَيخاً واقِفاً إلى جَنْبي يَبكي حتّى اخضَلّتْ لحيَتُه، وهو يَقول: «بابي أنتُم وأُمِّي!! كُهُولُكم خيرُ الكُهول، وشَبابُكم خيرُ الشباب، ونِساؤكم خيرُ النساء، ونَسْلُكم خيرُ نَسْل لا يُخْزى ولا يُبْزى».

****

إلى هنا إنتهى ما هو مذكور في الكتُب حول نَصّ الخُطبة، وللقارىء الكريم أنْ يَتساءَل: ماذا حَدَثَ بَعدَ ذلك؟

الجواب: هذا ما سَتَقرؤه في الصفَحات القادمة إنْ شاء الله.

ص: 334


1- لعلّ وَضْع أيديهم في أفواهِهم كانَ مِن أجْل حَبْس أصوات بُكائهم كي لا تُغطّي على صوت السيّدة زينب (عليها السلام) وبذلك يَستمروا في الإستماع إلى خُطبتها، أو كانَ ذلك لِعَضّ اصابعهم بسَبَب شِدّة النَدَم والتاثُّر للجريمة التي ارتكبوها، أو المُصيبة الكبرى الّتي نَزلَتْ بالإسلام والمسلمين. المحقّق

كيفَ ولماذا قَطعوا

على السيّدة زينب خِطابها؟

كانت السيّدة زينب (عليها السلام) الشُجاعة المَفْجوعة تَتكلّم بصوت شَجيّ، وكلّ كلمةٍ منها تُلْهِبُ أحاسيس الحُزْن والاسى والنَدَم في الناس، حتّى ضَجَّ الناس بالبُكاء والعَويل، وارتَبَكتْ قُوّاتُ الأمن والشُرطة، وصارَ كلُّ إحتمال لِلتَمَرُّد والإنتفاضة وارداً، فكيفَ يَتَصرّفون؟!

وماذا يَصْنَعون حتّى يَقْطعوا على السيّدة زينب خِطابَها، ويَصْرفوا أذهانَ الناس إلى شيء آخَر؟!

هناك مَن يَقول: أمَروا بحَركة القافِلة، وجاؤا بالرُمح الذي عليه راس الإمام الحسين (عليه السلام) وقَرِّبُوهُ مِن مَحْمِل السيّدة زينب، وتَعالتْ صَرخاتُ الناس: هذا رأسُ الحسين .. هذا رأس الحسين!!

وكانتْ عَينا الإمام مَفتوحَتين، وهو يَنظرُ نَظْرةً فَريدة، وَصَفَها المُؤرّخون بِقَولهم: «شاخِصٌ بِبَصره

ص: 335

نحو الأُفُق»!

وهُنا لم تَسْتَطع السيّدة زينب أن تَسْتمرّ في الخُطبة رَغمَ شَجاعتها وانطلاقها بالكلام، فهاجَ بها الحُزْن مِن ذلك المَنْظر الذي وَتَّرَ أعصابَها، وأوشَكَ أنْ يَقْضي عليها .. بسَبَب الألَم الذي بَدأ يَعْصِرُ قَلبَها العَطوف عَصْرةٌ يَعْلَمُ اللهُ دَرَجَتها.

فكان رَدّ الفِعْل منها أنّها نَطحَتْ جَبينَها بِمُقَدَّم المَحْمِل .. وبكلّ قوّة، حتّى سال الدم مِن رأسها وجَبْهَتها، وأوْمأتْ (أي: أشارتْ) إليه بخِرْقة - حَسَب العادة العَشائريّة المُتّبَعة يومذاك، عند رؤية جَنازة الفَقيد الغالي -، وشاهَدتْ أنّ الناس يُشيرون بأصابع أيديهم إلى رأس الإمام الحسين، كما يُشيرون إلى مَكان وجود الهِلال في أول ليلةٍ مِن الشَهْر!

فنادَت السيّدة زينب (عليها السلام):

یا هِلالاً لَمَّا اسْتَتَمّ كمالا *** غالَه حَسْفُهُ فَابْدَى غُروبا

ما تَوَهّمْت يا شَقيقَ فُؤادي *** كان هذا مُقَدّراً مَكْتُوبا

ويَتصوّر أحَدُ الشُعراء - وهو الحاج هاشم الكعبي - ذلك

ص: 336

المَوقف الحزَين ويَقول: كانت مع السيّدة زينب (عليها السلام) في مَحْمِلها بنت صغيرة للإمام الحسين (عليه السلام) فحينَما راتْ رأس أبيها بدَأت تُناديه: يا أبَه .. يا أبه .. كلّمْني أينَ كُنتَ! ولمّا لَمْ تَسْمَع جَواباً إنفَجَرتْ بالبكاء الشَديد، فنادَتْ السيّدة زينب مُخاطَبةً رأس أخيها العَزيز:

أخي: فاطمَ الصَغيرةَ كلّمْها *** فقد كادَ قَلْبُها أنْ يَذوبا

***

الإحتمال الثاني: أنّ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) تَقدّم إلى عَمّته - ولعلّ ذلك كان بأمْرٍ مِن الشُرطة - وقال: يا عمّة! أُسكُتي، فَفي الباقي مِن الماضي إعتبار، وأنتِ بحمْد الله عالِمَة غير مُعلّمة، وفَهمَة غيرُ مُقَهَمَة، إنّ البُكاء والحَنين لا يَرُدان مَنْ قد أبادَهُ الدَهرُ، فسَكتَتْ. (1)

ص: 337


1- الإحتجاج للشيخ الطبرسي، طبْع لبنان، عام 1403ه-، ج 2 ص 305

ص: 338

نَصّ خطبة السيّدة زينب برواية أُخرى

ورَوى الشيخ الطبرسي في كتاب «الإحتجاج» نَصّ الخُطبة مع وجود بعض الفُروق بين النُسختين، ونحن تَذكُرُ ذلك، تَتْميماً للفائدة:

قال حذيم الأسَدي : لم أرَ - والله - خَفِرةً قطّ انْطقَ مِنْها، كانّها تَنطِقُ وتُفْرغُ على لسان علي (عليه السلام) وقد أشارتْ إلى الناس بانْ انصِتُوا، فارتَدّتْ الأنفاسُ وسَكنَتْ الأجراس، ثمّ قالت - بَعْدَ حَمْد الله تعالى والصلاة على رسوله -: «أمّا بَعْد يا أهلَ الكوفة، يا أهلَ الخَتْلِ والغَدْر والخَذْل. (1)

ص: 339


1- الخَذْل: ترك النُصْرة والإعانة. مجمَع البحرين للطريحي

ألا فَلا رَقأت العَبْرة ولا هَدأت الزَفْرة.

إنّما مَثَلُكم كَمَثَلِ الَّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْد قوةٍ أنكاثاً، تَتّخذون ايمانكم دَخَلاً بينَكم، هل فيكم إلّا الصَلف والعجب، والشنف، والكذب، ومِلْق الإماء وغمز الأعداء، أو كمَرْعى على دَمِنة، أو كفضة على مَلْحُودة، ألا بِئسَ ما قَدّمَتْ لكم أنفسُكم أنْ سَخِطَ اللهُ عليكم وفي العَذاب أنتُمْ خالِدون.

أتَبكونَ أخي؟!

أجَل - والله - فابكوا فإنّكم أحْرى بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحَكوا قليلاً، فقد أُبْليتُم بعِارها، ومُنيتُم بِشَنارها، ولَن تَرحَضُوها أبَداً، وأنّى تَرحَضونَ قَتْلَ سَليلِ خاتَم النُبوّة، ومَعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنَّة، ومَلاذ حَربِكم، ومَعاذ حِزْبِكم ومَقَرَ سِلْمِكم وآسي كلمكم، ومَفْزَع نازِلتكم، والمَرْجع إليه عند مُقاتَلتكم، ومِدرةَ حُجَجكم، ومَنار مَحَجّتكم.

ألا ساءَ ما قَدَّمَتْ لكم أنفسُكم، وساءَ ما تَزِرون لِيَومِ بَعْثِكُم، فَتَعْساً تَعساً!! ونَكساً نَكساً!! لقد خابَ السَعيُ، وتَبّت الأيدي، وخَسِرت الصَفْقةُ، وبُؤْتُم بغَضَبٍ من الله، وضُربتْ عليكم الذِلّة والمَسْكَنة ..

أتَدْرون - وَيلَكم - أيَّ كبدٍ لمُحمّد (صلّى الله عليه وآله)

ص: 340

وسلّم) فَرثتُم؟!

وأي عَهْدِ نَکثْتُم؟!

وأي كريمةٍ لَهُ أبرَزْتُم؟!

وأيّ حُرمة له هَتكْتُم؟!

وأيّ دَمٍ له سَفَكتُم؟!

لقد جِئتُمْ شيئاً إذا تَكادُ السَماواتُ يَتفطّرنَ مِنْه، وتَنْشَقّ الأرضُ، وتَخرِّ الجبالُ هَدّا؟!

لقد جئتُم بها شَوْهاء، صَلْعاء، عنقاء، سوداء، فَقْماء، خَرقاء، كطِلاع الأرض، أو مِلْء السماء.

أفَعَجِبْتُمْ أنْ تُمطرَ السماءُ دَماً، ولَعذابُ الآخرة أخزى، وهم لا يُنْصَرون.

فلا يَسْتخِقنّكم المُهَل، فإنّه (عزّوجلّ) لا يحفزه البِدار، ولا يُخشى عليه فُوتُ الثار، كلّا إنّ ربّك لنا، ولَهُم لَبالمِرْصاد، ثمّ أنشَأتْ تَقول (عليها السلام):

ماذا تقولونَ إِذْ قال النبيُّ لكم *** ماذا صنَعْتُمْ وأنتُم آخِرُ الأُمَمِ

بأهلِ بيتي واولادي وتكرمَتي *** مِنْهم أُسارى ومنْهم ضُرّجوا بدَمِ

ص: 341

ما كان ذاك جَزائي إذ نَصحُتُ لكم *** أنْ تَخلُفوني بسُوءٍ في ذَوي رَحِمي

إني لأخشى عليكم أن يَحِلّ بكم *** مِثْلُ العذاب الذي أودى على إرم

ثمّ ولّتْ عنهم ... .» إلى آخر الرواية. (1)

ص: 342


1- كتاب «الإحتجاج» للشيخ الطبرسي ج 2 ص 304 - 305، طبْع ایران، عام 1401 ه-، وذُكرت هذه الخطبة في الكُتُب التالية: 1 - مَجالس الشيخ المفيد. 2 - أمالي الشيخ الطوسي. 3 - بَلاغات النساء لابن طيفور. 4 - مقتل الإمام الحسين، للخوارزمي. 5 - البيان والتبيين، للجاحظ. 6 - روضة الواعظين، للفَتال. 7 - مَطالب السؤول، لمحمّد بن طلحة الشافعي. 8 - مَناقِبُ آل أبي طالب، لإبن شهر آشوب

الفَصل الرابع عشر

إشارة

* دار الإمارة

* السيّدة زينب في مجلس ابن زي--اد

* ماذا جَرى بَعْدَ ذلك؟

ص: 343

ص: 344

دار الإمارة

كانت دار الإمارة في الكوفة - قبْل حوالي عشرين سنة مِن فاجعة كربلاء - مَقرّاً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكانت السيّدة زينب تعيش في ذلك المكان في ظِلّ والدها أمير المؤمنين، وهي في أوج العِزَّة والعظمة، وفي جوٍّ ممْلوء بالعواطف والإحترام، فيما بين إخوتها وذَويها .

والآن! وبعد عشرين سنة أصبحتْ دارُ الإمارة مَسكناً للدَعيِّ بن الدعيّ: عبيد الله بن زياد، وتَبدَّلتْ معنويّات دار الإمارة مائة بالمائة، فبعد أنْ كانتْ مَسكن أولياء الله، صارتْ مْسكن الدِّ أعداء الله، والأم خَلْق الله.

واليوم دخلت السيّدة زينب إلى دار الإمارة، وهي في حالة تَختلف عما مضى قبل ذلك.

ذكرَ الشيخُ المفيد في كتاب (الإرشاد) ما يلي:

ثمّ إنّ ابن زياد جَلسَ في قصْر الإمارة، وأذِنَ للناس إذْناً عامّاً، وأمَرَ بإحضار رأس الإمام الحسين (عليه السلام) فأُحضِرَ

ص: 345

ووُضعَ بينَ يديه، وجَعَل يَنظر إليه ويَبتَسم، وكان بيده قضيب فجعلَ يَضرب به ثناياه!!

وكان إلى جانبه رجل مِن الصَحابة يُقال له: «زيد بن ارقم» وكان شيخاً كبيراً، فلمّا رآه يَفعل ذلك قال له: «إرفَعْ قضيبَك عن هاتين الشَفَتين فوالله الذي لا إله إلّا هو لقد رايتُ ثنايا رسول الله ترتَشِفُ ثناياه» (1) ثمّ انتَحَبَ وبكى!

فقال ابن زياد أتَبكي؟ أبكى الله عينَيك، والله لولا أنّك شيخ قد خَرفْتَ وذَهبَ عقلُك لأضربنّ عُنقَك، فنَهضَ مِن بين يديه وصارَ إلى منزله. (2)

وجاءَ في التاريخ: أنّ إبنَ زياد أمَرَ بالسَبايا إلى السِجن، فحُبِسُوا وضُيِّقَ عليهم، ثمّ أمَرَ أنْ يأتوا بعلي بن الحسين (عليهما السلام) والنِسْوَة إلى مَجلِسِه. (3)

ص: 346


1- وفي نسخة: لقد رأيتُ شَفَتي رسول الله عليهما ما لا أحصيه كثْرةً يُقبّلهما
2- كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد ص 243 وكتاب «المنتخَب» للطريحي ص 464، المجلس العاشر
3- كتاب «أمالي الصدوق»، ص 140، وكتاب «رَوضة الواعظين» للفَتّال، ج 1، ص190

السيّدة زينب في مجلس ابن زياد

ذكرَ الشيخُ المفيد في كتاب «الإرشاد»:

«وأُدخِلَ عيالُ الحسين (عليه السلام) علی ابن زیاد، فدخلتْ زينب أُختُ الحسين في جُملَتهم مُتنَكّرةً وعليها أرذَلُ ثيابها، فمَضَتْ حتّى جَلستْ ناحيةً مِن القَصْر، وحَفّتْ بها إماؤها .

فقال ابن ُزياد: مَن هذه التي انحازتْ ناحيةً ومعَها نساؤها؟!

فلمْ تُجبْه زينب.

فأعادَ القول ثانيةً وثالثةً يَسال عنها؟

فقالتْ له بعضُ إمائها: هذه زينبُ بنتُ فاطمة بنت رسول الله.

فأقبَلَ عليها ابنُ زياد وقال لها : الحمْدُ لله الذي فَضَحكم

ص: 347

وقَتَلكم وأكذبَ أُحدوثتكم. (1)

فقالت زینب: الحمْد لله الّذي أكرمَنا بنَبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وطهّرَنا مِن الرجْس تطهيرا، وإنّما يُفتَضَحُ الفاسقُ ويكذبُ الفاجرُ، وهو غيرنا والحمدُ لله.

فقال ابنُ زياد: كيفَ رأيتِ فِعْلَ اللَّهِ بأهلِ بيتكِ؟! (2)

فقالت: ما رأيتُ إلّا جَميلاً، هؤلاء قومٌ كتبَ اللهُ عليهمُ القتْلَ، فَبَرزوا إلى مَضاجِعِهم، وسَيَجْمعُ اللهُ بينَك وبينَهم فتُحاجّون إليه وتَختَصِمون عنده (3) فانظرْ لِمَن الفَلَج يومَئذٍ، ثَكلَتْكَ أُمّك يابنَ مَرجانة!!

فغَضِبَ ابنُ زياد واستَشاط (4)، فقال له عمْرو بن حُريث: أيّها الأمير، إنّها امرأة والمرأة لا تُؤاخَذ بشيء مِن مَنطقِها.

فقال ابنُ زياد: لقد شَفى الله قلبي مِن طاغيتكِ الحسين

ص: 348


1- قال الزبيدي في «تاج العروس»: الأحدوثة - بالضمّ -: ما يُتحدّث به. قال ابن بَرّي: الأحدوثة: بمعنى الأعجوبة، يُقال: قد صارَ فلانٌ أحدوثةً. وقال الطريحي في «مَجمَع البحرين»: «الأحدوثة: ما يَتحدّث به الناس
2- وفي نسخة: كيف رأيتِ صُنْعَ الله بأخيك وأهل بيتك»؟
3- وفي نسخة: فتُحاجُّ وتُخاصَم
4- وفي نسخة: «فغَضبَ وكانّه هَمَّ بها: أي: أراد ضَرْبَها أو قتْلَها

والعُصاةِ المَرَدة مِن أهل بيتكِ.

فَرَقّتْ زينبُ وبكتْ وقالت له: لَعَمْري لقد قَتَلْتَ كَهْلي، وقَطعْتَ فَرعي، واجتَثَثْتَ أصْلي، فإنْ كان هذا شِفاؤك فقد اشتَفيت.

فقال ابنُ زياد: هذه سَجّاعة، ولَعَمْري لقد كان أبوها سَجّاعاً شاعراً. (1)

ثمّ التفَتَ ابنُ زياد إلى عليّ بن الحسين وقال له: مَن أنتَ؟ (2)

فقال : أنا عليُّ بن الحسين.

فقال : أليسَ الله قد قَتَلَ عليّ بن الحسين؟

فقال علي: قد كان لي أخٌ أن يُسمّى عليّ بنَ الحسين، قَتَلَه الناس.

فقال ابنُ زياد: بلْ الله قَتَلَه.

فقال عليُ بن الحسين: الله يَتوفّى الأنفُسَ حينَ موتها.

ص: 349


1- وفي نسخة: هذه شُجاعة ولَعمْري لقد كان أبوها شُجاعاً. كما في نسخة «تاريخ الطبري» ج 5 ص 457
2- وفي نسخة: «مَن هذا؟»؟

فغَضبَ ابنُ زياد وقال : ولك جُرأة على جَوابي (1) وفيك بَقيّة للرَدّ عليّ؟! إذهَبوا به فاضرِبوا عُنُقَه.

فتَعَلّقَتْ به زینبُ عمّتُه، وقالت: يابنَ زياد! حَسْبُك مِن دِمائنا. واعتَنَقتْهُ وقالت: والله لا أُفارقُه، فإن قَتلْتَه فاقتُلْني معه.

فنَظَر ابنُ زياد إليها وإليه ساعة، ثمّ قال: عَجَباً للرَحِم! والله إنّي لأظنّها وَدّتْ أنّي قتَلْتُها معه، دَعوهُ فإنّي أراه لِما به. (2)

ثمّ أمَرَ ابنُ زياد بعليّ بن الحسين و أهله فحُمِلوا إلى دارٍ جَنْب المسجد الاعظم، فقالت زينبُ بنت علي: «لا يَدخُلَنَ علينا عَرَبيّة إلّا أمّ وَلَد أو مَمْلوكة، فإنّهن سُبينَ وقد سُبينا. (3) (4)

****

ص: 350


1- وفي نسخة: وبك جُراة لِجَوابي
2- الإرشاد للشيخ المفيد ص 243 - 244، وكتاب المَلهوف، لابن طاووس، ص 201 - 202، وتاريخ الطبري ج 5 ص 457
3- سُبينَ: أُسِرْنَ
4- بحار الأنوار ج 45 ص 118، والملهوف ص 202

في هذا الحِوار القَصير بينَ الخَير والشرِ، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين القداسة والرجْس، وبين رَبيبة الوحي وعقيلة النبوّة وبين الدعيّ ابن الدعيّ! إنكشَفَتْ نَفسيّات كلّ مِن الفَريقين.

أرايتَ كيفَ صَرّح ابنُ زياد بالحِقْد والعِداء لأهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والشماتة وبِذاءة اللسان، وحقارة النفس ودناءة الروح، وقذارة الأصل؟

فهو يَحمدُ الله تعالى على قَتْل أولياء الله، وتَدفعُه صلافة ُوجْهه أن يقول: «وفَضَحكم»، وليتَ شِعري أيّة فضيحة يَقصدها؟!

وهل في حياة أولياء الله مِن فضيحة؟!

أليسَ الله تعالى قد أذهَبَ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟!

أليس نَسَبُهُم أرفع نَسَبٍ في تاريخ العظماء؟!

أليستْ حياتهم مُتلالاة بالفضائل والمكارم؟!

وهل - والعياذ بالله - توجد في حياتهم مَنقَصة واحدة أو عيب واحد حتّى يُفتَضحوا؟

ولكن ابن زياد يقول: «وفضحكم».

ويَزدادُ ذلك الرجْس عُتُوّاً ويقول: «وأكذب أُحدوثَتكم» الأُحدوثة: مايَتحدّث به الناس والثناء والكلام الجميل،

ص: 351

والقرآنُ الكريم هو الذي يُثْني على آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهل أكذبَ الله تعالى القرآنَ الذي هو كلامه (عزّوجلّ)؟!

والرسول الأقدس - الذي ما يَنطق عن الهَوى إنْ هو إلّا وَحيٌ يوحى - قد أثني على أهل بيته بالحقّ والصِدْق، فهلْ أكذَبَ الله تعالى رسولَه الأطهر، الذي هو أصدقُ البَريّة لَهْجةً؟!

وقد فَرَضَتْ الضَرورَةُ على حفيدة النبوّة، ووَليدة الإمامة، ورَضيعة العِصْمة أن تَتنازل وتُجيب على تلك الكلمات الساقطة السافلة.

ص: 352

ماذا جَرى بَعْدَ ذلك؟

قال الشيخُ المفيد في (الإرشاد) : ولمّا أصبَحَ عبيدُ الله بن زياد بَعثَ برأس الحسين (عليه السلام) فَدير به (أي: طِيفَ به) في سِكك الكوفة كلّها وقبائلها.

فرُويَ عن زيد بن أرقم أنه قال: مُرَّ به عليّ وهو على رُمح وأنا في غرفة لي (1) فلمّا حاذاني سَمعْتُه يَقرأ: «أمْ حسِبتَ أنّ أصحابَ الكهْفِ والرَقيمِ كانوا مِن آياتنا عَجَبا». (2)

فوَقَف - والله - شَعْري وناديتُ: رأسُكَ - والله – يابنَ رسول الله أعجَب وأعجَب. (3)

ص: 353


1- الغُرفة: الحُجْرة المُطلة على الطريق
2- سورة الكهف، الآية 9
3- الارشاد للشيخ المفيد ص 245

وذكرَ السيّد ابن طاووس في كتاب (المَلهوف): قال الراوي: ثمّ إنّ ابن زياد صَعدَ المنبر فحَمَدَ اللهَ وأثنى عليه، وقال - في بعض كلامه -: «الحمْدُ لِلّه الّذي أظهَرَ الحقّ وأهْلَه، ونَصَرَ أميرَ المؤمنين يزيد وأشياعه، وقَتلَ الكذّاب بن الكذّاب!!

فما زادَ على هذا الكلام شيئاً حتّى قام إليه عبدُ الله بن عفيف الأزدي - وكان مِن خِيار الشيعة وزُهّادها، وكانت عَينُه اليُسرى قد ذَهبتْ يومَ الجَمَل، والأُخرى يومَ صفّين، وكانَ يُلازمُ المسجدُ الاعظم فيُصلّي فيه إلى الليل - فقال: يابنَ مَرجانة! إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنتَ وأبوك ومَن استَعملَك وأبوه، يا عدّو الله! أتَقتُلونَ أولادَ النبيّين وتَتكلّمون بهذا الكلام على مَنابر المسلمين؟!

فغَضِبَ ابنُ زياد وقال: مَن هذا المُتكلّم؟

فقال: أنا المُتكلّم يا عدوّ الله! أتَقتُل الذُريّة الطاهِرة التي قد أذهَبَ الله عنها الرجْس، وتَزعم أنّك على دين الإسلام.

واغوثاه! أینَ اولاد المهاجِرين والأنصار، لِيَنتَقِمُونَ مِنْك ومِن طاغيتك، اللعين بن اللعين على لسان محمّد رسول ربّ العالَمين.

فازدادَ غضَبُ ابن زياد حتّى انتَفَخَتْ أوداجُه، وقال: عليّ به، فتَبادَرَتْ الجَلاوزةُ مِن كلّ ناحية لِياخذوه، فقامتْ

ص: 354

الأشراف مِن بَني عمّه، فخَلّصوهُ مِن أيدي الجَلاوزَة وأخرجوه مِن باب المسجد، وانطلَقوا به إلى مَنزله.

فقالَ ابنُ زياد: إذهَبوا إلى هذا الأعمى - أعمى الازد، أعمى اللهُ قلبَه كما أعمى عَينَه - فإيتوني به.

فانطلَقوا إليه، فلمّا بَلَغَ ذلك الازد اجتَمَعوا واجتَمَعتْ معَهم قَبائلُ اليَمَن لِيَمنَعوا صاحبَهم.

وبَلَغَ ذلك ابنَ زياد، فجَمَعَ قبائل مُضَر وضَمَّهم إلى محمّد بن الاشعث، وأمَرَهم بقِتال القوم.

قال الراوي: فاقتَتلوا قتالاً شديداً، حتّى قُتِلَ بينَهم جماعة مِن العَرب.

ووَصَلَ أصحابُ ابن زياد إلى دار عبدالله بن عفيف، فكسَروا البابَ واقتَحَمُوا عليه.

فصاحَتْ ابنتُه: أتاك القوم مِن حيث تَحْذر!

فقال: لا عليكِ ناوليني سَيفي، فناولَتْه إِيَّاه، فجَعَلَ يَذُبّ عن نفسه ويقول:

أنا ابنُ ذي الفَضْل عفيف الطاهر *** عفيف شيخي وابن أُمّ عامِر

کم دارع مِن جَمْعكم وحاسِر *** وبطلٍ جَدّلتُه مُغاور

وجَعلتْ ابنتُه تَقول: يا أبتِ ليتَني كنتُ رجلاً أخاصِمُ بينَ يديك اليوم هؤلاء القوم الفَجَرة، قاتِلي العِتْرة البَرَرَة.

ص: 355

وجَعَلَ القومُ يَدورونَ عليه مِن كلّ جهة، وهو يَذبّ عن نفسه فلم يَقدر عليه أحَد، وكلّما جاؤوه مِن جِهة قالت ابنتُه: يا أبتِ جاؤوك مِن جهة كذا، حتّى تَكاثَروا عليه وأحاطوا به.

فقالت ابنتُه: واذْلّاه يُحاطُ بأبي وليسَ له ناصِرٌ يَستَعينُ به.

فجَعلَ يُديرُ سَيفَه ويَقول:

أُقسِمُ لو يُفسَحُ لي عن بَصَري *** ضاقَ عليكم مَوردي ومَصدري

فما زالوا به حتّى اخذوه، ثمّ حُمِلَ فأُدخل على ابن زياد.

فلمّا رآه قال: الحَمْدُ لله الّذي أخزاك.

فقالَ له عبدُ الله بن عفيف: يا عدوّ الله وبماذا اخزاني الله؟!

والله لو فُرّجَ لي عن بَصَري *** ضاقَ عليك مَوردي ومَصدري

فقال له ابنُ زياد: ماذا تقول - يا عبد الله - في أمير المؤمنين عثمان بن عفّان؟

فقال: يا عبْد بَني علاج، يابن مَرجانة - وشَتَمه - ما أنتَ وعثمان بن عفّان أساءَ أمْ أحسَن، وأصلَحَ أمْ أفسَد، والله تعالى وليُّ خَلْقه يَقضي بينَهم وبين عثمان بالعَدل والحقّ، ولكنْ سَلْني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه؟

فقالَ ابنُ زیاد: والله لا سالتُك عن شيء أو تَذوق الموتَ غصّةً بعدَ غصّة.

ص: 356

فقال عبدالله بن عفيف: الحمدُ لِلّه ربّ العالَمين، أما إنّي قد كنتُ أسالُ الله ربّي أن يَرزقَني الشَهادة مِن قَبْل أن تَلدك أُمُّك، وسألتُ الله أنْ يُجعلَ ذلك على يَدَىْ العَن خَلْقه، وأبغَضِهم إليه، فلمّا كُفَّ بَصَري يَئسْتُ مِن الشهادة، والآن .. فالحمْد لِلّه الّذي رَزقّنيها بعد الياس منها، وعَرّفَني الإجابةً بِمَنّه في قديم دُعائي.

فقالَ ابنُ زياد: إضربوا عُنُقَه.

فضُربتْ عُنقه وصُلِبَ في السَبخة. (1) (2)

ص: 357


1- السبخة: إسم موضع في الكوفة
2- كتاب (المَلْهوف) للسيد ابن طاووس ص 203- 207

ص: 358

الفَصل الخامس عشَر

إشارة

* ترحيل آل رسول الله إلى الشام

* السيّدة زينب الكبرى في طريق الشام

* السيّدة زينب الكبرى في الشام

* الدخول في مجلس الطاغية يزيد

* ماذا حَدَثَ في مجلس يزيد؟

* رأسُ الإمام الحسين في مجلس الطاغية يزيد

ص: 359

ص: 360

تَرْحيل آل رسول الله إلى الشام

وقد جاءَ في كُتُب التاريخ: أنّ ابنَ زياد كتَبَ إلى یزید بن معاوية رِسالةً يُخبِرهُ فيها بقَتْل الإمام الحسين وأسْرِ نِسائه وعِياله، وتَفاصيلَ أُخرى عن الفاجعة.

فكتَبَ يزيدُ في جواب رسالتِه: أنْ يَبعثَ إليه برأس الحسين ورؤوس مَن قُتِلَ مَعَه والنساء الأُسارى.

فاستَدعى ابنُ زياد ب- «مخَفَّر بن ثعلبة العائذي» و «شمر ابن ذي الجَوشن» للإشراف على القافلة ومَن مَعَها من الحَرَس، وسَلَّم إليهم الرؤوس والأسرى، وأمر ب- «عليّ بن الحسين» أن تُغَلَّ يَدَيه إلى عُنُقه بسِلْسِلَةٍ مِن حَديد!

فساروا بِهِنَّ إلى الشام كما يُسارُ بسَبايا الكُفّار، يَتَصفَحُ وجوهَهُنَّ أهلُ الاقطار! (1)

ص: 361


1- كتاب «المَلْهوف» ص 208، و«الإرشاد» للشيخ المفيد ص 245

ص: 362

لا نَعلَم بالضَبط - كم طالت المُدّة الّتي تَمَّ فيها قطعُ المَسافة بَينَ الكوفة والشام، ولكنّنا نَعلَم أنّها كانتْ رحلة مَليئة بالإزعاج والإرهاق وأنواع الصعوبات، فَقَد كانَ الأفراد المُرافِقُون للعائلة المُكرّمة قد تَلقَّوا الأوامر بأن يُعاملوا النساء والأطفال بِمُنتهى القساوة والفَظاظة، فلا يَسمَحوا لَهم بالإستراحة اللازمة مِن أتعاب الطريق ومَشاقّه وصُعوباته، بل يُواصلوا السَير الحَثيث، للوصول إلى الشام وتقديم الرؤوس الطاهرة إلى الطاغية يزيد.

ومِن الثابت - تاريخيّاً - أنّه كانَ للسيّدة زينب (عليها السلام) الدَورَ الكبير في: إدارة العائلة، والمُحافَظة على حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) وحِماية النساء والأطفال، والتَعامُل معَهم بكلِّ عاطفة وحَنان .. مُحاولةٌ منها مَلأ بعض ما كانوا يَشعرون به مِن الفَراغ العاطفي،

ص: 363

والحاجَة إلى مَن يُهَوّن عليهم مَصائبَ الأسْر ومَتاعِبَ السّفَر.

ورُويَ عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال:

«إنّ عَمَّتي زينب كانتْ تُؤدّي صَلَواتها: الفَرائضَ والنّوافِلَ .. مِن قِيام عند سَيْر القوم بِنا مِن الكوفة إلى الشام!

وفي بعض المَنازل كانتْ تُصلّي مِن جُلوس فسالتها عن سَبَب ذلك ؟

فقالت: أُصلّي النوافِلَ مِن جُلوس لِشِدَّة الجوع والضَعف، وذلك لأني مُنذَ ثلاث لَيال، أُوزَعُ ما يُعطونَني مِن الطعام على الأطفال، فالقوم لا يَدفَعون لكلٍّ مِنّا إلّا رَغيفاً واحِداً مِن الخُبز في اليوم والليلة!! (1)

أجل ..

وقد كانت الحِكْمةُ والمصْلَحةُ تَقتضي انّ الإمامَ زينَ العابدين (عليه السلام) يَبقى بمَعْزِل عن انتباه الأعداء والجواسيس المُرافقين، ولا يَتكلّم بأيّة جُملةٍ مِن شأنها جَلْب الإنتباه إليه. ولذلك فقد جاء في التاريخ: أنّ الإمام علي بن الحسين ما كانَ يُكلّمُ أحَداً مِن القوم .. طِوالَ الطريق

ص: 364


1- کتاب «زينب الكُبرى» للشيخ جعفر النَقدي، ص 59

إلى أنْ وَصَلوا إلى باب قَصْر يزيد بدمشق! (1)

مِن هنا .. فقد كان الدَور الأكبر مُلْقى على عاتِقِ السيّدة الكفوءة زينب العظيمة (عليها الصلاة والسلام).

ورغم قِلَّة المَعْلومات التي وَصَلتْنا عَمَّا جَرى على السيّدة زينب في طريق الشام مِن الحوادث، إلّا أنّنا نَذكر هذه المَقطوعات والعَيّنات التاريخيّة الّتي تُعبّر للقارىء المُتدبّر الذكيّ عن أُمور كثيرة، وعن الدَور العظيم والمَسؤوليّات الجَسِيمَة التي قامتْ بها السيّدة زينبُ الكبرى (عليها السلام) طِوالَ هذه الرِحْلة:

ونَقرأ في بعض كتُب التاريخ: أنّ في طريقهم إلى الشام مَرّوا على منطقة «قَصْر مُقاتل» (2) وكان ذلك اليوم يوماً شَديدَ الحَرّ، وقد نُزقَت القِربةُ التي كانَت مَعَهم وأُريق ماؤها (3) فاشتَدَّ بهمُ العطش، وأمَرَ عمرُ بنُ سعد جماعةٌ مِن قومه أن يَبحَثوا عن الماء، وأمَرَ أن تُضرَب خَيمة لِيَجلسَ

ص: 365


1- كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد ص 245
2- قصر مقاتل: قصر كان بين «عين التمر» والشام. مَنسوب إلى مُقاتل بن حسان. وقيل: كان ذلك قُربَ القطقطانة. كما في «مَراصِد الإطلاع في اسماء الأمكنة والبِقاع» للبغدادي
3- نُزفَت القِربة: نَفَدَ ماؤها وجَفَّتْ

فيها هو وأصحابه، لكي تَحْميهِم مِن حَرارة الشمس، وتَركوا عائلةَ الإمام الحسين (عليه السلام) وجميعَ النساء والاطفال.. تَصْهَرُهم الشمس، وأقبَلَت السيّدة زينبُ (عليها السلام) إلى ظلّ جَمَلٍ هناك، وقد أمسَكتْ بالإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) وهو في حالةٍ خطيرة.. قد أشرف على الموت مِن شِدّة العطش، وبيَدها مِروَحة تُروّحُه بِها مِن الحَرّ، وهي تَقول: (يَعُزُّ عليَّ أنْ أراك بهذا الحال يابنَ أخي»!

وذَهبَتْ السيّدةُ سكينة بنتُ الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ظِلّ شجرة كانت هناك، وعَمِلَتْ لِنَفسّها وِسادةً مِن التُراب ونامَتْ عليها، فما مَضَتْ ساعة إلّا وبَدا القومُ يَرحَلون عن ذلك المكان مع السَبايا وتَركوا سكينة نائمة في مكانها.

فقالتْ فاطمةُ الصُغرى - وكانتْ عديلة سكينة (1) - للحادي (2): «أينَ أُختي سكينة؟! والله لا أركبُ حتّى تأتي بأُختي».

فقال لها: وأينَ هي؟

ص: 366


1- عَديلة: العَديلُ: الذي يُعادلُك في المَحْمل. كما في كتاب «العين» للخليل بن أحمد
2- الحادي: السائق للإبل

قالت: لا أدري أينَ ذَهَبَتْ.

فصاحَ السائق للقافلة باعلى صوته: ياسكينة هَلُمّي واركبي مَعَ النساء؟

فلمْ تَستَيقِظ سكينة مِن نَومَتها لِشِدّة مابِها مِن التَعَب والإرهاق، وبَقيتُ نائمة.

ولمّا أضَرَّ بها الحَرُّ والعطش إنتَبَهَتْ مِن نَومتها، وجَعَلَتْ تَمشي خَلْفَ غُبار القافلة وهي تَصيح: «أخيّه فاطمة! ألسْتُ عَديلَتَك في المَحْمِل! وأنتِ الآن على الجَمَل وأنا حافية؟!».

فعَطفَتْ عليها أُختُها، وقالتْ للحادي: «والله لَئنْ لم تأتني بأُختي لأرمِينُّ نفسي مِن هذا الجَمَل، وأُطالبُك بِدَمي عند جَدّي رسول الله يومَ القيامة»!

فقالَ لها: مَن تكونُ أُختُكِ؟

قالت: سكينة التي كان الحسين يُحبّها حُبّاً شديداً، فَرَقّ لها الحادي، ورَجَعَ إلى الوَراء حتّى وَجَد أُختَها وأركبَها معَها. (1)

ص: 367


1- كتاب (الدَمعة الساكبة) للبهبهاني المُتوفّى عام 1285ه-، طبْع لبنان، ج 5، ص 75 . وقد نَقلْنا الحادثة مع تغييرٍ يَسير في بعض العبارات. المُحقّق

وقد جاءَ في التاريخ - أيضاً - أنّ في ليلة مِن الليالي، بَينَما القومُ يَسِيرونَ في ظَلام الليل، بَدأتْ السيّدةُ سكينةُ بنتُ الإمام الحسين (عليهما السلام) بالبُكاء، لأنَّها تَذكّرتْ أيّامَ أبيها ، وماكانَ لَها مِن العِزَّ والإحترام، ثمّ هي - الآن - أسيرة بعْدَ أنْ كانتْ أيّامَ ابيها عَزيزة، واشتَدَّ بُكاؤها، فقال لها الحادي: أُسكُتي يا جارية! فقد آذَيْتيني بِبُكائك!

فما سَكتَت، بل غَلَب عليها الحُزْنُ والبكاء، وأنَّتْ أنَّةٌ مُوجِعَة، وزَفَرَتْ زَفَرَةٌ كَادَتْ رُوحُها أَنْ تَخْرُجُ!!

فَزَجَرَها الحادي وسَبَّها، فَجَعَلَتْ سكينةُ تَقول - في بُكائها - وا أسَفاهُ عليك يا أبي! قَتَلوك ظُلْماً وعُدْوانا!

فغَضِبَ الحادي مِن قَولها وأخَذَ بِيَدها وجَذَبَها ورَمى بها على الأرض!!

فلمّا سَقَطتْ غُشِيَ عليها، فما أفاقَتْ إلّا والقافِلة قد مَشَتْ، فقامَتْ وجَعَلتْ تَمشي حافيةً في ظلام الليل، وهي تَقومُ مَرَةٌ وتَقعُدُ مَرَّةً!! وتَسْتَغيثُ بالله وبأبيها، وتُنادِي عَمَّتَها، وتقول: يا أبتاه مَضَيتَ عَنِّي وخَلَفْتَني وَحيدةً غَريبةً، فإلى مَن التَجِىءُ وبِمَنْ الوذُ في ظُلْمة هذه الليلة في هذه البَيْداء؟!!

فركضَتْ ساعةً مِن الليل وهي في غاية الوَحْشَة! فَلَمْ تَرَ أثَراً مِن القافِلة، فسَقَطتْ مَغْشِيَّةٌ عليها!!

ص: 368

فعِنْدَ ذلك إقتُلعَ الرُمح - الذي كانَ عليه رأسُ الحسين - مِن يَدِ حامِلِه، وانشَقَّت الأرضُ ونَزلَ الرُمحُ إلى نِصْفِه في الأرض، وثَبُتَ كالمِسْمار الّذي يُثَبَّتُ في الحائط!!

وكلّما حاولَ حامِلُ الرُمح أنْ يُخرجَه مِن الأرض .. لم يَتَمكَّن! واجتَمَعتْ جماعة مِن القوم وحاولوا إخراج الرُمح فلمْ يَستَطيعوا ذلك.

فأخبَروا بذلك عمرَ بنَ سعد، فقال: إسألوا عليّ بنَ الحسين عن سَبَب ذلك.

فلمّا سألوا الإمام (عليه السلام) قال: قُولوا لِعَمَّتي زينب تَتَفَقَّد الأطفال، فَلَرُبَّما قد ضاعَ مِنْهم طفل.

فلمّا قيلَ لِزَينب الكبرى ذلك، جَعَلَتْ تَتَفَقَدُ الأطفال وتُنادي كلَّ واحدٍ مِنْهم باسْمِه، فلمّا نادتْ: بُنَيَّه سكينة لم تُجِبْها! فَرَمَتْ السيّدة زينبُ (عليها السلام) بِنَفسِها مِن على ظهر الناقة! وجَعَلَتْ تُنادي: واغُربَتاه! واضَيعَناه واحُسَيناه!

بُنَيَّه سكينة: في أيِّ أرضٍ طرَحُوكِ!

أمْ في أيّ وادٍ ضَيَّعُوكِ! ورَجَعَتْ إِلى وَرَاءِ القافِلة وهي تَعْدو في البَراري حافِية، وأشواكُ الأرض تَجْرَحُ رِجْلَيها، وتَصْرَخ وتُنادي!!

ص: 369

وإذا بِسَوادٍ قد ظهَر فَمَشَتْ نَحْوَهُ وإذا هي سكينة، فَرَجَعَتا مَعاً نحو القافِلة. (1)

ورُويَ عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنَّه سَألَ أباهُ عليَّ بنَ الحسين (عليهما السلام) عَمّا جَرى لَه في طريق الشام؟

فقالَ الإمامُ عليُّ بنُ الحسين: حُمِلْتُ على بَعيرٍ هَزيل، بِغَير وِطاء، ورأسُ الحسين (عليه السلام) على عَلَم، ونِسْوَتُنا خَلْفي، على بِغال، والحَرَسُ خَلْفَنا وحَولَنا بالرماح، إِنْ دَمِعَتْ مِنْ أحَدِنَا عَينٌ قُرعَ رأسُه بالرُمح! حتّى دَخَلْنا دمشق، صاحَ صائحٌ: یا أهلَ الشام: هؤلاء سَبايا أهل البيت. (2)

ص: 370


1- كتاب «مَعالي السبطين» ج 2، الفَصل الثالث عشر، المجلس الثالث عشر، وهو يَنقل ذلك عن كتاب «مِصْباح الحرمَين»
2- كتاب «الإقبال» للسيّد ابن طاووس

السيّدة زينب الكُبرى في الشام

ووَصَل موكبُ الحُزْن والأسى إلى دمشق: عاصمة الأمويّين، ومَركز قِيادَتهم، وبُؤرة الحِقْد والعِداء، ومَسْكن الأعداء الألدّاء.

وقد إتّخَذَ يزيدُ التَدابيرَ اللازمة لِصَرْف الأفكار والأنظار عن الواقع والحقيقة، مُحاوِلاً بذلك تَغْطيةَ الأُمور وتَمْويهَ الحقائق، فأمَرَ بتَزيين البلدة بأنواع الزينة، ثمّ الإعلان في الناس عن وصول قافلة أُسارى وسَبايا، خَرجَ رجالُهم مِن الدين فقَضى عليهم يزيد وقتَلَهم وسَبى نساءَهم لِيَعتَبر الناسُ بهم، ويَعْرفوا مَصيرَ كلّ مَن يَتَمَرَّد على حُکْم یزید!

ومِن الواضح أنّ الدعاية والإعلام لها دَورُها في تَمْويه الحقائق، وخاصّةً على السُذّج والعَوام مِن الناس.

ص: 371

إستمعْ إلى الصحابي: سَهْل بن سعد الساعدي قال: «خَرجْتُ إلى بيت المقدس، حتّى تَوَسّطتُ الشام، فإذا أنا بمدينةٍ مُطَرَدَةِ الأنهار، كثيرةِ الأشجار، قد عَلَقُوا السُتور والحُجُب والديباج، وهم فَرِحون مُستَبشِرون، وعندهم نساءُ يَلعَبْنَ بالدُفوف والطبُول.

فقلتُ في نفسي: لانَرى لأهل الشام عيداً لا نَعْرفه نحن. فرأيتُ قوماً يَتحدّثون، فقلتُ: ياقوم لكم بالشام عيدٌ لا نَعْرفه نحن؟!

قالوا: ياشيخ نَراك أعرابياً غريباً!

فقلتُ: أنا سَهلُ بنُ سعد، قد رأيتُ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قالوا: ياسَهْل، ما أعجَبَك السماء لا تُمْطِر دَماً، والأرض لا تَنْخَسِف بأهلِها!

قلتُ: ولِمَ ذاك؟

قالوا: هذا رأس الحسين عِتْرة محمّد يُهْدى مِن أرض العراق!

فقلتُ: واعَجَباه .. يُهْدى رأسُ الحسين والناسُ يَفرحون؟!

ثمّ قلتُ: مِن أي باب يَدخل؟

ص: 372

فأشاروا إلى بابٍ يُقال له: «باب الساعات».

فبينا أنا كذلك إذْ رأيتُ الرايات يَتْلُو بَعْضُها بعضاً، فإذا نحنُ بفارس بيده لواء مَنزوع السنان (1) عليه رأسُ مِن أشْبَه الناس وَجْهاً بِرَسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فإذا أنا مِن وَرائه رأيتُ نِسْوةً على جِمال بغير وِطاء، فدَنَوتُ مِن أُولاهنّ، فقلتُ: يا جارية: مَن أنتِ؟

فقالت: أنا سكينة بنتُ الحسين.

فقلتُ لها: الَكِ حاجة إليَّ؟ فأنا سَهْل بنُ سعد ممّن رأى جَدّكِ وسمِعَتُ حَديثَه.

قالتْ: ياسهل: قُلْ لِصاحِب هذا الراس أنْ يُقدّم الرأس أمامَنا، حتّى يَشتَغِل الناسُ بالنظر إليه ولا يَنظروا إلى حُرِم رسول الله.

قال سَهلُ: فدنَوتُ مِن صاحِب الراس فقلتُ له: هل لكَ أنْ تَقضي حاجتي وتأخذ مِنّي أربعمائة ديناراً؟

قال: ما هي؟

قلتُ: تُقدّمُ الرأس أمامَ الحرَم.

ص: 373


1- اللواء: العَلَم، وهو دون الراية. كما في «المعجَم الوسيط». والسِنان: الحَديدة التي في رأس العَلَم او راس الرمُح

ففَعَلَ ذلك.

فدَفَعتُ إليه ما وَعَدْتُه ... . ». (1)

ولمّا أدخَلوهُنّ دمشق طافوا بهِنّ في الشوارع المُؤدّيَة إلى قَصْر الطاغية يزيد، ومعَهُنّ الرؤوس على الرماح، ثمّ جاؤا بهِنَّ حتّى أوقَفوهُنَّ على دكّةٍ كبيرةٍ كانتْ أمامَ باب المسجد الجامع، حيث كانوا يوقِفُون سَبايا الكفّار على تلك الدكّة (2)، ويُعْرضونَهم للبيع، لِيَتفَرَّج عليهم المُصلّون لَدى دخولهم إلى المسجد وخروجهم منه، وبذلك يَخْتاروا مَن يُريدونَه للإستخدام ويَشْتروه.

نعم، إنّ الّذين كانوا يَعتبرون أنفسَهم مُسلمين، ومِن أُمّة محمّد رسول الله . . أوقَفوا آلَ الرسول على تلك الدكّة.

يا لَلأسَف!

يا لَلمأساة!

يا لَلفاجعة!

ص: 374


1- بحار الانوار للشيخ المجلسي، ج 45 ص 127 باب 39 وكتاب «تَظلَّم الزهراء»، ص 275
2- كتاب «مَعالي السبطين»، ج 2، ص 140 الفصل الرابع عشَر، المجلس الرابع. وقد نَقلْنا مَضمونَ ذلك

يا لَلمُصيبة!

وجاءَ شيخ (1) ودَنى مِن نساء الحسين (عليه السلام) وقال:

«الحمْد لله الذي قَتَلَكم وأهلَككم، وأراحَ البلاد مِن رجالكم، وأمكنَ أمير المؤمنين مِنْكم».

فقالَ لَه عليُ بنُ الحسين (عليه السلام): «ياشيخ: هلْ قَرأتَ القرآن»؟

قال: نعم.

قال: فهَل عَرفْتَ هذه الآية: «قُل لا أسألُكم عليه أجْراً إلّا المَودَّةَ في القُربي» (2)؟

قال الشيخ: قد قَرأتُ ذلك.

فقال له الإمام: «نَحنُ القُربى يا شيخ، فهل قَرأتَ: «وآتِ ذا القُربى حَقّه»؟ (3)

فقالَ الشيخ: قد قَرأتُ ذلك.

فقال الإمام: «فنَحنُ القُربى یا شیخ، فهَلْ قَرأتَ

ص: 375


1- شيخ: أي: رجل طاعِن في السِن
2- سورة الشورى، الآية 23
3- سورة الإسراء، الآية 26

هذه الآية «وأعلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُم مِن شيء فانّ لِلّه خُمُسَه وللرسول ولِذِي القُربى»»؟ (1)

قال: نعم.

فقال الإمام: «فنَحنُ القُربى يا شيخ، وهل قرأتَ هذه الآية: «إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويُطهّركم تطهيراً»». (2)

قال الشيخ: قد قرأتُ ذلك.

فقال الإمامُ: «نَحنُ أهلُ البيت الّذين خَصّنا الله بآية الطهارة ياشيخ».

قال الراوي: بَقيَ الشيخُ ساكتاً نادِماً على ما تَكلّم به، وقال - مُتَعَجَباً - تالله إنّكُمْ هُمْ؟!

فقالَ عليُ بنُ الحسين: «تالله إِنَّا لَنَحْنُ هُمْ .. مِن غير شَك، وحَقِّ جَدِّنا رسول الله إِنَّا لَنَحنُ هُمْ».

فبكى الشيحُ ورَمَى عِمامَتَه، ثمّ رَفَع رأسَه إلى السماء وقال: اللهُمّ إنّي أبرأُ إليك مِن عَدوّ آلِ محمّد، مِن الجِنّ والإنس.

ص: 376


1- سورة الأنفال، الآية 41
2- سورة الأحزاب، الآية 33

ثمّ قال: هلْ لي مِن تَوْبة؟

فقالَ له الإمامُ : «نعم، إنْ تُبْتَ تابَ اللهُ عليك، وأنتَ مَعَنا».

فقال الشيخ: أنا تائب.

فبَلَغ يزيدَ بنَ معاوية حديثَ الشيخ، فأمَرَ به فقُتِلَ. (1)

ص: 377


1- کتاب «المَلهوف علی قتلی الطفوف»، ص 211 وكتاب «تَظلُّم الزهراء»، ص 278

ص: 378

الدخول في مجلس الطاغية يزيد

رُويَ عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنّه قال: «لمّا أرادوا الوفود بنا على يزيدين معاوية أتَوْنا بحبال وربطونا مِثْلَ الاغنام (1) وكان الحَبْلُ بِعُنُقي وعُنُق أُمّ كلثوم، وبكتِف زينب وسكينة والبُنَيّات، وساقُونا وكلّما قَصُرْنَا عن المَشي ضَرَبونا، حتّى أوقَفُونا بينَ يَدَي يزيد، فتَقدّمتُ إليه - وهو على سَرير مَمْلَكته وقلتُ له: ماظنُّك برسول الله لو يَرانا على هذه الصِفة»؟!

فأمَرَ بالحِبال فقُطّعتْ مِن أعناقنا وأكتافنا. (2)

ورُويَ - أيضاً - أنّ الحَريم لما أُدخِلنَ إلى يزيد بن

ص: 379


1- وفي نسخةٍ: ورَبَّقُونا
2- كتاب «المنتَخَب» للطريحي، ج 2 ص 473، المجلس العاشر. وكتاب «تَظلُّم الزهراء» ص 278

معاوية، كان يَنظرُ إليهنّ ويَسأل عن كلّ واحدةٍ بعَينها وهُنَّ مُربَّطات بِحَبْلٍ طويل، وكانتْ بينَهنّ امرأة تَسْتُر وَجْهَها بِزَنْدها، لأنّها لم تَكُنْ عندَها ما تَسْتُر به وَجْهَها.

فقال يزيد: مَن هذه؟

قالوا: سكينة بنت الحسين.

فقال: أنتِ سكينة؟

فبَكتْ واختَنَقتْ بعَبْرتها، حتّى كادتْ تَطُلع روحُها!!

فقال لها: وما يُبكيكِ؟

قالت: كيف لا تَبكي مَن ليسَ لها سِتْر تَسْتُر وَجْهَها ورأسَها، عنك وعن جُلسائك؟! (1)

ص: 380


1- كتاب «المنتَخَب» للطريحي، ج 2 ص 473، المجلس العاشر. وكتاب «تَظلُّم الزهراء» ص 279

ماذا حَدَث في مجلس يزيد؟

ورَوى الشيح المُفيد في كتاب (الإرشاد): قالتْ فاطمة بنت الحسين (عليه السلام):

«فلمّا جَلَسْنا بين يَدَي يزيد رَقَّ لنا! فقامَ إليه رجل مِن أهل الشام أحمر (1) فقال: «يا أميرَ المؤمنين! هَبْ لي هذه الجارية - وهو يُعْنيني - (2)، وكنتُ جارية وَضيئة (3) - فأُرعِدْتُ، وظنَنْتُ أنّ ذلك جائزٌ لهم، فاخذْتُ بثياب

ص: 381


1- رجلُ احمر: أي أبيض. قال إبن مَنظور - في كتابه «لسان العرب» -: «... لأنّ العَرب لا تَقول: رجلُ أبيض» مِن بياض اللون، إنّما الابيض - عندهم - : الطاهِر النَقيّ مِن العُيوب. فإذا أرادوا الأبيض مِن اللون قالوا: أحمَر. المُحقّق
2- يُعنيني: يَقصُدني
3- جارية: فَتاة. وَضيئة مُشرِقة جَميلة

عَمَّتي: زينب، - وكانتْ تَعلَم أنّ ذلك لا يكون - وقلتُ:

«يا عَمّتاه: أُوتِمْتُ وأُستَخْدَم»؟ (1)

فقالت زینب: «لا، ولا كرامة لهذا الفاسق»، وقالت - للشامي -:

«كذبتَ - والله - ولَؤُمتَ، والله ما ذلكَ لك ولا لَه (2)».

فغَضبَ يزيد، وقال كذبتِ والله، إنّ ذلك لي! ولو شِئتُ أنْ أفعَل لَفَعلْتُ.

قالت [ زينبُ ]: «كلّا، والله ما جَعَلَ اللّهُ ذلك لك إلّا أنْ تَخْرَج عن مِلَّتِنا، وتَدينَ بغير ديننا»!

فاستَطارَ يزيدُ غَضَباً، وقال:

«إيَّاي تَسْتقبلين بهذا؟ إنّما خَرجَ مِن الدين أبوكِ واخوكِ»!!؟

فقالتْ زینبُ: «بدين الله، ودين أبي، ودينِ أخي إهتَديتَ أنتَ وجَدُّك وأبوك .. إِنْ كُنتَ مُسْلماً»!

قال: كذبتِ یا عدُوُّةَ الله!!

قالتْ له: «أنتَ أمير تَشْتُم ظالماً، وتَقْهَر

ص: 382


1- أو تمت واستَخْدَم؟: أي صِرْتُ يتيمة وأصير خادمة ايضاً؟
2- أي: ولا ليزيد

بِسُلْطانِك».

فكأنّه استَحيى وسكت، فعادَ الشامي فقال: هَبْ لي هذه الجارية؟

فقال يزيد: «أُعزُبْ! وَهَبَ اللهُ لك حَتْفاً قاضِياً»!

فقال الشامي: مَن هذه الجارية؟

قال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب!!

فقال الشامي: الحسين بن فاطمة.. وعلي بن أبي طالب؟!

قال: نعم.

فقال الشامي: لعَنَك الله - يا يزيد - أتَقتُل عِتْرة نبيّك، وتَسْبي ذرّيته؟ والله ما تَوَهَمْتُ إلّا أنّهم سَبْيُ الروم.

فقال يزيد: والله لألحِقَنّك بِهم.

ثمّ أمَرَ به فضُرِبَ عُنقه. (1)

ص: 383


1- الإرشاد، ص 246، وقد حكى ذلك المازندراني في «معالي السبطين» عن الإرشاد، مع بعض الفُروق في الكلمات، ونحن جَمَعْنا بين النسختين. وجاء ذلك - أيضاً - في تاريخ الطبرى ج 5 ص 461. المحقّق

ص: 384

رأس الإمام الحسين (عليه السلام) في مَجلس الطاغية يزيد

وجاء في التاريخ: ثمّ وُضعَ رأسُ الحسين (عليه السلام) بين يَدَي يزيد، وأمَرَ بالنساء أنْ يُجلَسْن خَلْفه، لِئلّاً يَنظرن إلى الرأس، لكنّ زينب لمّا رأتْ الرأسَ الشريف هاجَ بها الحُزن، فأهوَتْ إلى جَيْبِها فَشَقَتْهُ ثمّ نادتْ - بصوتٍ حَزينٍ يُقْرح القلوب -: «يا حُسيناه!

يا حبيبَ رسول الله!

يابنَ مكّة ومِنى!

يابنَ فاطمة الزهراء سيّدة النساء!

یابنَ المصطفى»! (1)

ص: 385


1- کتاب «المَلْهوف على قتلى الطفوف» ص 213

قال الراوي: فأبكتْ - والله - كلِّ مَن كان حاضِراً في المجلس، ویزید ساکت!

ثمّ دعى يزيد بِقَضيب خَیزران، فجَعَلَ يَنْكُتُ به ثنايا الإمام الحسين عليه السلام.

فأقبَلَ عليه أبو برزة الأسلمي وقال: وَيحك يا يزيد! اتنكُتُ بقضيبك ثَغرَ الحسين بن فاطمة؟ أشهَدُ لقد رأيتُ النبي يَرشِف ثَناياه وثَنايا اخيه الحسن ويقول: «أنتُما سيّدا شباب أهل الجنّة، قَتلَ اللهُ قاتليكُما ولعَنَه وأعَدّ لَه جهنّم وساءتْ مَصيرا».

فَغَضِب يزيدُ وأمَرَ بإخراجه، فأُخرِجَ سَحْباً. (1)

****

وجَعَل يزيد يقول:

لَیتَ أشياخي ببَدْرٍ شَهِدوا *** جَزَعَ الخزرج مِن وَقْع الأسَلْ

لأهَلّوا واستَهلّوا فَرَحا *** ثمّ قالوا: يا يزيدَ لا تُشَلْ

ص: 386


1- كتاب «المَلْهوف» ص 214

قد قَتَلْنا القرم (1) مِن ساداتهم *** وعَدَلناه بِبَدْرٍ فاعتَدلْ

لَعِبَتْ هاشمُ بالمُلْك فلا *** خَبَرٌ جاءَ وَلا وَحَي نَزَلْ

لسْتُ مِن خِنْدَفَ إِنْ لمْ انتقِمْ (2) *** مِن بَني أحمدَ ما كان فَعَلْ (3)

ص: 387


1- القَرْم: السيّد المُعَظَم. كما في المعجَم الوَسيط. وفي نسخة: «قد قتلْنا القَومَ مِن ساداتهم»
2- خِنْدف: إسمُ واحدةٍ مِن جَدّات معاوية
3- كتاب «المَلْهوف» لابن طاووس ص 214

ص: 388

الفَصل السادس عشَر

إشارة

* لماذا خُطبة السيّدة زينب في مجلس يزيد؟

* خُطبة السيّدة زينب عليها السلام في مجلس الطاغية يزيد

* َشرح خُطبة السيّدة زينب في مجلس يزيد

* نَص خُطبة السيّدة زينب على رواية أخرى

ص: 389

ص: 390

لماذا خُطبة السيّدة زينب في مجلس يزيد؟

لقد شاهَدَت السيّدة زينب الكبرى عليها السلام) في مجلس یزید مَشاهِد وقضايا، وسَمِعتْ مِن يزيد كلماتٍ تُعتبر مِن أشدّ انواع الإهانة والإستخفاف بالمُقدَّسات، وأقبَح أشكال الإستهزاء بالمُعتَقَدات الدينيّة، وأبشَع مَظاهِر الدناءة واللُؤم .. في تصرُّفاته الحاقِدة!!

مَظاهِر وكلمات يَنكشِفُ منها إلحادُ يزيد وزَندقته وإنكاره لأهمّ المُعتقدات الإسلاميّة.

مُضافاً إلى ذلك .. أنّ يزيد قامَ بجريمة كُبرى، وهي أنّه وَضَع رأسَ الإمام الحسين (عليه السلام) أمامَه وبَدأ يَضربُ بالعَصا على شَفَتَيه وأسنانِه، وهو - حينذاك - يَشربُ الخَمر!!

ص: 391

فهَل يَصحّ ويَجوز للسيّدة زينب أن تَسكُت، وهي إبنة صاحب الشريعة الإسلاميّة، الرسول الأقدس سيّدنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟!

كيف تَسكُت .. وهي تَعلمَ أنّ بإمكانها أنْ تُزيّف تلك الدعاوى وتُفَنّد تلك الأباطيل، لأنّها مُسلَّحَة بسِلاح المَنطق المُفْحِم، والدليل القاطع، وقُدرة البَيان وقوّة الحُجّة؟!

ولَعلّ التكليف الشرعي فَرَضَ عليها أن تَكشِفَ الغِطاء عن الحقائق المَخفيّة عن الحاضرين في ذلك المَجْلِس الرَهيب، لأنّ المَجْلس كانَ يَحتوي على شخصيّات عسْكريّة ومَدَنيّة، وعلى شَتّى طبَقات الناس. فقد كان يزيد قد أذِنَ للناس إذْناً عامّاً لِدخول ذلك المجلس، فمِن الطبيعي أن تَموج الجماهير في ذلك المكان وحول ذلك المكان، وقد خَدَعَتْهم الدعايات الأمويّة، وجَعَلتْ على أعينهم أنواعاً مِن الغِشاوة، فصاروا لا يَعرفون الحقّ مِن الباطل، منذ أربعين سنة، طيلةَ أيام حُكْم معاوية بن أبي سفيان على تلك البلاد.

وعلاماتُ الفَرَح والسُرور تَبدو على الوجوه بسَبَب إنتصار السُلطة على ِعصابةٍ عَرَّفتْهم أجهِزة الدعاية الأمويّة بصورة مُشَوَّهة.

ص: 392

وقد تَعَوَّد أهلُ الشام على مُشاهَدة قَوافل الأسرى التي كانت تُجلَب إلى دمشق بعد الفُتُوحات.

أما يَنبغي لِحَفيدة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن تَنتَهز هذه الفرصة، وتُجازف بحَياتها في سبيل الله، وتَنفُض الغُبار عن الحقّ والحقيقة، وتُعَرّف الباطلَ بكلّ صِراحةٍ ووضوح؟

بالرَغم مِن أنّها كانت أجلّ شاناً، وأرفع قَدراً مِن ان تَخْطب في مَجلس مُلوّثٍ لا يَليقُ بها، لانّها سيّدة المُخَدّرات والمُحَجَّبات!

ولكنّ الضَرورة أباحَتْ لها أن توقِظ تلك الضمائر التي عاشَتْ في سُبات، وتُعيد الحياة إلى القلوب التي أماتَتْها الشهَوات، وغَمَرتْها أنواعُ الفُجور، والإنحراف عن الفِطْرة، فباتَتْ وهي لم تَسْمَع كلمة موعظة مِن واعظ، ولا نصيحة مِن ناصِح.

ص: 393

ص: 394

خُطبة السيّدة زينب عليها السلام في مجلس الطاغية يزيد

لقد رَوى الشيخُ الطبرسي في كتاب «الإحتجاج» خُطبة السيّدة زينب الكُبرى (عليها السلام)، ورَواها - ايضاً - السيّد ابن طاووس في كتاب «المَلهوف».

وبين الروايتين بعض الفروق والإضافات المُهمّة، ونحن نَذكُر - أوّلاً - نَصَّ الخُطبة على رواية الطبرسي، ثمّ نَذكُر شَرحاً مُتواضعاً للخُطبة .. وبَعْدَ الفَراغ مِن شَرحِها، نَذكر نصّاً آخَر للخُطبة على رواية أُخرى مِن دون أن نَشْرح كلمات النَشصّ الثاني.

ونَكتفي بذِكْر توضيحات مُختصرة لِبعض كلمات الخطبة - على رواية ابن طاووس - في هامش الصفحة، والله المُستعان.

ص: 395

رَوى الشيخُ الطبرسي في كتاب «الإحتجاج» مايَلي:

«إحتجاجُ زينب بنت علي بن أبي طالب، حِينَ رَأتْ يزيد (لعَنَه الله) يَضربُ ثَنايا الحسين عليه السلام بالمِخْصَرة (1).

«رَوى شيخٌ صَدُوق مِن مَشايخ بَني هاشم، وغيرُهُ من الناس: أنّه لمّا دَخَلَ عليُ بن الحسين (عليه السلام) وحُرَمُه على يزيد، وجِيءَ برأس الحسين (عليه السلام) ووُضِعَ بين يَديه في طست، فجَعَل يَضْربُ ثَناياه بمِخْصَرَةٍ كانتْ في يَده، وهو يقول:

لعِبَتْ هاشمُ بالمُلْك فَلا *** خَبَرٌ جَاءَ ولا وَحيٌ نَزَلْ

لَیتَ أشياخي ببَدْر شَهِدوا *** جَزَعَ الخَزْرِجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ

لاهَلّوا واسْتَهلّوا فَرَحا *** ولَقالوا: يا يزيدُ: لا تُشَلْ

ص: 396


1- المِخصَرة - على وَزْن مِكنَسَة - : عَصا او شِبْهها، يُتَوكَّا عليها.. ويأخذها المَلِك بيده لِيُشِيرَ بها إلى ما يُريد. وقيل: هي عصا في رأسِها حَديدة مُحَدَّدة، مِثْل حديدة رأس السَهم. المحقّق

فَجَزيناهُ بِبَدْر مثلاً (1) *** وأقمْنا مِثْلَ بَدْرٍ فاعتَدلْ

لَسْتُ مِن خِنْدَفَ إِنْ لم أنتَقِمْ *** مِن بَني أحمدَ ما كان فَعَلْ (2)

قالوا: فلمّا رأتْ زينبُ ذلك أهوَتْ إلى جَيْبِها فشَقَّتْه (3)، ثمّ نادتْ بِصَوتٍ حَزين يُقْرح القُلوب: «يا حُسَيناه! يا حَبيبَ رسولِ الله، يابنَ مكّة ومِنى، يابنَ فاطمةَ الزهراء سيّدة النساء، يابنَ محمّد المصطفى».

ص: 397


1- وفي نسخة: قد قَتَلْنا القومَ مِن ساداتِهم
2- خِنْدَفَ: لَقَبُ امرأةٍ في الجاهليّة وإلى لَقَبِها إنتَمَتْ قَبيلتُها. كما يُستفاد ذلك مِن كتاب «لسان العرب» لابن مَنظور. وقيل: هي مِن جَدّات معاوية. المحقّق
3- جَيْبُ القَميص: ما يُدْخَل منه الرأس عند لبْس القميص. كما في «المُعجَم الوسيط». قال بعضُ المُحقّقين مِن الخُطباء «كانت المرأة المُحَجّبة تَلبَس اكثر مِن ثوب - في ذلك الزمان -، فإذا هاجَ بها الحُزن لِدَرجةٍ كبيرة، تَشُقُّ جَيبها كرَد فِعْل طبيعي للحُزن الشديد الّذي صارَ يَعصِرُ قلبَها بكيفيّة خَطرة، ويَبقى عليها أكثر مِن ثوب غير الثوب الذي شَقَّتْ جَيبه. المُحقّق

قال: فابْكَت - والله - كلَّ مَن كان ويزيد ساكت، ثمّ قامَتْ على قَدَمَيها، وأشرَفَتْ على المجلس، وشَرَعتْ في الخُطبة، إظهاراً لِكمالات محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإعلاناً بانّا نَصْبِر لِرِضى الله، لا لِخَوف ولادَهْشة، فقامَتْ إليه زينبُ بنتُ علي، وأُمُّها فاطمة بنتُ رسول الله، وقالت:

«الحَمْدُ لِله رَبِّ العالَمين، والصلاة على جَدّي سيّد المرسلين.

صَدَقَ اللهُ سُبحانه، كذلك يَقول: «ثمّ كانَ عاقبةَ الّذين أساؤا السُوئى أنْ كذّبوا بآياتِ الله، وكانوا بها يَسْتَهزئون». (1)

أظنَنْتَ - يایزید - حِينَ أخذْتَ علينا أقطارَ الأرض (2)، وضَيّقْتَ علينا آفاقَ السماء، فأصْبَحْنا لك في إسار، نُساقُ إليكَ سَوْقاً في قِطار، وأنتَ علينا ذواقتِدار، أنّ بِنا مِن الله هَواناً، وعليك مِنْه كرامةً

ص: 398


1- سورة الروم، الآية 10
2- وفي نسخة: حيثُ أخذتَ...

وامتنانا (1)، وأنّ ذلك لِعِظَمِ خَطركَ وجَلالةِ قَدْرك، فَشَمَخْت بأنفِك، ونَظرتَ في عِطْفِكَ، تَضْرِبُ أصْدَرَيكَ فَرَحاً، وتَنْقَض مِذرَويْك مَرَحاً، حينَ رَايتَ الدنيا لك مُسْتَوسَقة (2) والأمور لَدَيك مُتَّسِقَة، وحِينَ صَفى لك مُلْكُنا، وخَلُص لك سُلْطانُنا، فَمَهْلاً مَهْلا، لا تَطِشْ جَهْلا، أنَسِیتَ قولَ الله (عزّوجلّ): «ولا يَحْسَبَنَّ الّذين كفروا انّما نُمْلِي لَهُم خَيرٌ لأنفسِهم، إنّما نُمْلِي لَهُم لِيَزْدادوا إثْماً، ولَهُم عذابٌ مُهِين» (3).

أمِنَ العَدْلِ - يابنَ الطُلَقاء - تَخْديرُك حَرائرَك وإماءَك وسَوْقُك بناتِ رسول الله سَبايا، قَدْ هَتَكْتَ سُتورَهنّ، وأبْدَيتَ وجُوهَهُنَّ، تَحْدُوا بهِنّ الاعداءُ مِن بَلَد إلى بَلَد، ويَسْتَشْرِفُهنَّ أهلُ المَناقِل، ويُتَبرِّزْنَ لأهْل المَناهِل، ويَتَصَفَحُ وجوهَهُنَّ القَريبُ والبَعيد، والشَريفُ والوَضيع، والدَنييءُ والرَفيع، ليسَ مَعَهُنّ

ص: 399


1- وفي نسخة: ولك عليه كرامةً وامتنانا. المُحقّق
2- لعلّ الأصح: مُسْتوثَقة. المُحقق
3- سورة آل عمران، الآية 178

مِن رِجالِهنّ وَلي، ولا مِن حُماتِهِنَّ حَمِي، عُتُوّاً مِنْك على الله، وجُحُوداً لِرَسول الله، ودَفْعاً لِما جاءَ به مِن عند الله.

ولا غَرْوَ مِنْك ولا عَجَبَ مِنْ فِعْلِك، وأنّى تُرْتَجى مُراقَبَةُ إبنِ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أكبادَ الشُهَداء، ونَبَت لَحْمُه بدِماء السُعَداء ، ونَصَبَ الحَرْبَ لِسيّد الأنبياء، وجَمَعَ الأحزاب، وشَهَرَ الحِراب، وهَزّ السُيوف في وَجْه رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). أشَدُّ العَرَبِ لِلّه جُحُوداً، وأنكرُهُم له رَسولاً، وأظهرُهُم لَهُ عُدْواناً، وأعتاهُمْ على الرَبِّ كُفْراً وطُغياناً.

ألا إنّها نَتيجَةُ خلالِ الكُفْر، وضَبٌ يُجَرجرُ في الصَدْر لِقَتْلى يومٍ بَدْر.

فلا يَسْتَبْطى في بُغْضِنا - أهلَ البيت - مَن كان نَظرُهُ إلينا شَنَفاً وإحَناً واضْغانا، يُظهِرُ كُفْرَه برسول الله، ويُفصِحُ ذلك بِلسانِه وهو يَقول - فَرِحاً بقَتْل وُلْده وسَبْي ذُرّيتِه، غيرَ مُتَحَوِب ولا مُسْتَعْظِم، يَهْتِفُ بأشياخه -:

لأهَلّوا واسْتَهَلُوا فَرَحاً *** ولَقالوا: يا يزيد: لا تُشَلْ

ص: 400

مُنْحَنِياً على ثَنايا أبي عبدالله - وكانَتْ مُقَبَّلُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم - يَنْكُتُها بِمِخْصَرَته، قد التَمَعَ السُرورُ بِوَجْهه.

لعَمْري لقد نَكأتَ القُرْحةَ، واستَاصَلْتَ الشافة، بإراقَتِك دَمَ سَيّدِ شَباب أهلِ الجَنّة، وابنِ يَعْسُوب الدين (1)، وشَمسِ آلِ عبْد المُطْلب.

وهَتَفْتَ بأشياخِك، وتَقَرّبْتَ بِدَمِه إلى الكَفَرة مِن أسْلافِك، ثمّ صَرَخْتَ بِنِدائك، ولَعَمْري لقد نادَيتَهم لو شَهِدوك، ووَشِيكاً تَشْهَدُهم ولَنْ يَشْهَدوك، ولَتَودُّ يَمينُك - كما زَعَمْت - شُلّتْ بِك عن مِرْفَقِها وجُذَّتْ، وأحبَبْتَ أمَّك لم تَحْمِلْكَ، وإيّاك لمْ تَلِدْ (2)، حِينَ تَصيرَ إلى سَخَط الله، ومُخاصِمك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

اللهُمّ خُذْ بِحَقّنا، وانتَقِمْ مِن ظالِمِنا، واحْلُلْ غَضَبَك على مَن سَفَكَ دِماءَنَا، ونَقَضَ ذِمارنا، وقَتَلَ

ص: 401


1- وفي نسخة: وابن يَعسُوب دين العَرَب. وفي نسخة: وابن يَعسُوب العَرَب
2- وفي نسخة: وأباك لمْ يَلدْك

حُماتَنا، وهَتَكَ عَنَّا سُدُولَنا.

وفَعَلْتَ فِعْلتَك التي فَعلْت، وما فَرَيتَ إلّا جِلْدَك، وما جَزَرْت إِلّا لَحْمَك، وسَتَرِدُ على رسولِ الله بما تَحَمَلْتَ مِن دَم ذُريّتِه، وانتَهَكْتَ مِن حُرْمَتِه، وسَفكَتَ مِن دِماء عِتْرته ولُحْمَتِه، حيثُ يُجْمَعُ به شَمْلُهم، ويُلَمُّ به شَعَثُهُم، ويَنْتَقِمُ مِن ظالِمِهم، ويأخُذُ لَهُم بحَقّهِم مِن أعدائهم، فلا يَسْتَفِزنّك الفَرَحُ بقَتْلِهم، «ولا تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً، بل احياءٌ عند رَبّهمْ يُرزَقون، فَرِحِين بما آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْله». (1)

وحَسْبُك بالله وَليّاً وحاكِماً، وبرسول الله خَصْماً، وبجَبْرائيل ظهِيرا.

وسَيَعْلَمُ مَن بَوَاك ومَكَنَكَ مِن رِقابِ المُسلمين أنْ «بِئْسَ للظالِمين بَدَلاً» وأيّكُمْ شَرِّ مَكاناً أاضَلُّ سَبيلا.

وما استِصْغاري قَدْرَك ، ولا استِعْظامي تَقْريعَك تَوَهُّماً لانتِجاع الخِطاب فيك، بعد أنْ تَركْتَ

ص: 402


1- سورة آل عمران، الآية 169 - 170

عيونَ المُسلمين - به - عَبْرى، وصُدورَهم - عند ذِكْره - حَرَّى.

فَتِلْكَ قُلوبٌ قاسِية، ونُفوسٌ طاغية، وأجسامٌ مَحْشُوَّةً بِسَخَط الله، ولَعْنةِ الرسول، قد عَشّشَ فيها الشيطانُ وفَرّخ، ومِن هناك مِثلُك ما دَرَجَ (1).

فالعَجَبُ كلُّ العَجَب لِقَتْلِ الأتقياء، وأسباط الانبياء، وسَليلِ الأوصياء، بأيدي الطُلَقاء الخَبيثة، ونَسْلِ العَهَرَة الفَجَرة!!

تَنْطفُ أكْفُهُم مِن دِمائنا، وتَتحَلّبُ افواههُم مِن لُحومِنا.

تلك الجُثَثُ الزاكية على الجُبُوب الضاحية، تَنْتابُها العَواسِل، وتُعَفّرها أُمُّهات الفَواعِل. (2)

فلَئنْ اتَّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتَجِدُ بِنا – وَشيكاً - مَغْرماً، حِينَ لا تَجِدُ إلّا ما قَدّمتْ يَداك، وما الله بِظَلّامٍ للعَبيد.

ص: 403


1- وفي نسخة: مادَرَج ونَهَض
2- وفي نسخة: الفراعل

فإلى الله المُشْتَكى والمُعَوَّل، وإليه المَلْجَأ والمُؤمَّل.

ثُمَّ كِدْ كَيْدَكَ، واجَهَد جُهْدَك.

فوّالله الّذي شَرَّفنا بالوَحي والكتاب والنُّبُوَّة والإنتِخاب (1)، لا تُدْرك أمَدَنا، ولا تَبْلُغُ غايَتَنا، ولا تَمْحُو ذِكْرنا، ولا يَرحَضُ عنك عارُها.

وهَل رَأيُك إلّا فَنَد؟ وأيّامُك إلّا عَدَد؟ وجَمْعُك إلّا بَدَدٌ؟

يَومَ يُنادي المُنادي: ألا: لَعَنَ اللهُ الظالِمَ العادي.

والحمْدُ لِلّه الّذي حَكَمَ لأوليائه بالسَعادة، وخَتَمَ لأصفيائه بالشَهادة، بِبُلُوغ الإرادة، ونَقَلَهم إلى الرَحْمة والرأفة، والرِضْوان والمَغْفِرة.

ولم يَشْقَ - بِهم - غيرُك، ولا ابتُليَ - بِهم – سِواك.

ونَسالُهُ أنْ يُكمِلَ لَهُمُ الأجْر، ويُجْزِلَ لَهُمُ الثَوابَ والذُخْر، ونَسالُه حُسْنَ الخلافة، وجَميلَ الإنابة، إنّه رَحيم وَدود».

ص: 404


1- وفي نسخة: والإنتِجاب

فقال يزيد - مُجيباً لها -:

يا صَيحة تُحْمَدُ مِن صَوائحِ *** ما أهونَ الموت (1) على النَوائحِ (2)

ص: 405


1- وفي نسخة ما أهْوَن النَوْح على النَوائح
2- كتاب «الإحتجاج» للطبرسي، طبْع لبنان عام 1403ه-، ج 2 ص 307 - 310

ص: 406

شَرح خُطبة السيّدة زينب في مجلس يزيد

قبلَ أن نَبْدأ بِشَرح بعض كلمات هذه الخُطبة نَجْلبُ إنتباهَ القارىء الكريم إلى هذا التمهيد:

تَدَبَرْ قليلاً لِتَتَصوّر أجواءَ ذلك المجلس الرَهيب، ثمّ مُعجزَة السيّدة زينب الكبرى في مَوقِفِها الجَرييء!

بالله عليك! أما تَتَعَجّب مِن سيّدةٍ أسيرة تُخاطبُ ذلك الطاغوت بذلك الخطاب؟

وتَتَحدّاه تحَدّياً لا تَنقَضي عجائبُه؟

ولا تَهابُ الحَرَسَ المُسلّح الّذي يُنفّذ الأوامر بكلّ سرعة وبدون أيّ تأمُّل او تَعَقُل؟!

ص: 407

وأعجَب مِن ذلك سكوت يزيد أمامَ ذلك الموقف مع قدرته وإمكاناته؟

وكأنّه عاجِز لا يَستطيع أنْ يَقولَ شيئاً أو يَفعَلَ شيئاً!

أليسَ مِن العَجيب أنّ يزيد - وهو طاغوت زَمانه، وفرعون عصْره - لم يَستَطع أو لم يَتَجرّا على أن يَرُدّ على السيّدة زينب كلامَها، بل يَشعر بالعَجْز والضعف عن مُقاومة السيّدة زينب، ويَكتفي بقَراءة قول الشاعر:

«يا صَيْحَةٌ تُحْمَد مِن صَوائح»!

فما معنى هذا البيت في هذا المقام؟!

وما المُناسبة بين هذا البيت وبين كلمات خُطبة السيّدة زينب؟

فهَلْ كانتْ حِرفَة السيّدة زينب النِياحة حتّى يَنطبِق عليها قولُ يزيد: «ما أهْوَن النَوْح على النَوائح»؟

وما يُدرينا مَدى نَدم يزيد بن معاوية مِن مُضاعفات جرائمه التي ارتكبَها؟ وخاصّةً تَسيير آل رسول الله مِن العراق إلى الشام.

فإنّه - بالقَطْع واليقين - ما كان يَتصوّر أنْ سيّدة أسيرة سوف تَغمِسُه في بحار الخِزْي والعار،

ص: 408

فلا يَستطيعُ يزيد أن يَغسل عن نفس- تلك الوصمات .. إلى يوم القيامة.

وتكشِف الغطاء عن هَويّة يزيد، وتَرفع السِتار عن ماهيّته وأَصْلِه، وحَسَبه ونَسَبه، وسوابقه ولواحِقه، وتُخاطبُه بكلّ تحقير، وتَقرع كلماتُها مَسامعَ يزيد وكانهّا مِطرَقة كهربائيّة، تَرتجّ مِنْها جميعُ أعصابه، فيَعجَز عن كلّ مُقاومة!!

والآن إليك شَرْحاً موجَزاً لبعض كلمات هذه الخُطبة الحماسيَّة المُلتهبة:

«الحمْدُ لِلّه ربّ العالمين، والصلاة على جَدّي سيّد المرسَلين»

إفتَتحَتْ كلامَها بحَمد الله رَبِّ العالَمين، ثمّ الصلاة على جَدّها: سيّد المرسَلين، فهي - بهذه الجملة - عَرَّفتْ نفسَها للحْاضِرين أنَّها حفيدةُ رسول الله سيّد المرسَلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى يَعرَف الحاضرون أنَّ هذه العائلة المَسْبيّة الأسيرة هي مِن ذَراري رسول الله لا من بلاد الكُفر والشِرْك. ثمّ قَرأتْ السيّدةُ هذه الآية:

«صَدقَ اللهُ سُبْحانَه، كذلك يَقول: «ثمّ كانَ عاقبةَ الّذين أساؤا السُوئى أنْ كذّبوا بآيات الله وكانوا بها

ص: 409

يَستهزؤن» (1).

وما أروعَ الإستِشْهاد بِها، وخاصِةً في مُقدّمة خُطبَتها!!

وعاقبةُ كلِّ شيء: آخِرُه، أي: ثمّ كان آخِرُ أمْر الّذين أساؤا إلى نُفوسهم - بالكُفْر بالله وتكذيب رُسُله، وارتكاب مَعاصيه - السُوئى، أي: الصِفَة التي تَسُوءُ صاحِبَها إذا أدركتْه، وهي عذابُ النار.

«أنْ كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يَستهزؤن» أي: بسبَب تَراكُم الذنوب والمَعاصي في مَلَفّ أعمالهم حَصَلَ منهم التكذيب بآيات الله والحقائق الثابتة، وظهَرَ منْهم الإستهزاء بها وبالمُقدّسات الدينيّة. وهي (عليها السلام) تُشير بكلامها - هذا - إلى تلك الأبيات التي قالَها يزيد:

«لَعِبَتْ هاشمُ بالمُلْكَ فَلا *** خَبَرٌ جَاءَ وَلا وَحْيٌ نَزَلْ

ومعنى هذا البيت مِن الشِعْر: أن بَني هاشم - والمَقصود مِن بَني هاشم: هو رسول الله - لَعِبَ بالمُلْك بإسم النبوّة والرسالة، والحال أنّه لم يَنزِل عليه وَحيٌ مِن السماء، ولا جاءَه خَبَرٌ مِن عند الله تعالى.

ص: 410


1- سورة الروم، الآية 10

فتَراه يُنكرِ النُبوّةَ والقرآنَ والوَحي!!

وهل الكفر والزَندقة إلّا هذا؟!

ثمّ إنّ بعض الناس - بسَبَب أفكارهم المَحْدودة - يَتصوّرون - خَطاً - أنّ الإنتصار في الحَرب يُعتَبرُ دليلاً على أنّهم على حَقّ، وعلى قُربِهم مِن عند الله تعالى، فتَسْتَولي عليهم نَشْوةُ الإنتصار والظَفَر، ويَشْملُهُم الكِبْرياء والتَجَبّر بسَبَب التَغَلّب على خُصومهم؛

ولكنّ السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) فَنَّدتْ هذه الفِكْرة الزائفة، وخاطبَتْ الطاغية يزيد باسمه الصَريح، ولم تُخاطبه بكلمة: «أيّها الخليفة» أو «يا اميرالمؤمنين» وأمثالهما مِن كلمات الإحترام.

نعم، خاطبَتْه باسمِه، وكانّها تُصرّح بِعَدَم إعترافها بخلافة ذلك الرجس فقالت:

«أظنَنْتَ - یا یزید - حينَ أخذْتَ علينا أقطارَ الأرض وضَيَّقتَ علينا آفاقَ السماء، فأصبحْنا لك في أسار، نُساق إليك سَوْقاً في قِطار، وأنتَ علينا ذو اقتدار، أنّ بِنا مِن الله هَوانا، وعليك منه كرامة وأمتِنانا»؟!

تَصِفُ السيّدة زينب حالَها، وأحوالَ مَن معها مِن العائلة المُكرّمة، أنّهم كانوا في أشدّ الضيق، كالإنسان

ص: 411

الذي اخذوا عليه، أي: مَنْعُوه وحاصروه من جميع الجوانب والجهات، بحيث لا يستطيع الخروج والتخلص من الأزمة.

وبعد هذا التضييق والتشديد، والمَنْع والحَبْس اصبَحْنا نُساق مِثْل الأسارى الذين ياتون بهم من بلاد

الكفر عند فَتْحها

«سَوْقاً في قِطار» يُقال - ولا مُناقَشَة في الأمثال -: «قطار الإبل» أي: عدد مِن الإبل على نَسَق واحد وفي طابورٍ طويل، وقد قرأنا أنّ جميع أفراد العائلة ومعَهم الإمام زين العابدين والسيّدة زينب (عليهما السلام) كانوا مَربوطين ومُكتّفين بحَبْلٍ واحد!

«وأنتَ علينا ذو اقتِدار» أي: نحنُ في حالة الضعف وأنت في حالة القُدرة.

«أنّ بِنا مِن الله هَواناً، وعليك منه كرامة وامتنانا»؟!

أي: أظَنَنْتَ - لمّا رأيتَنا مَغْلوبين، ووَجَدتَ الغَلَبة والظَفَر لِنفسك - أنْ ليسَ لَنا جاه ومَنزلة عند الله، لأنّنا مَغلوبون؟!! وظننتَ أنّ لك عند الله جاهاً وكرامة لأنّك غَلبْتَنا وظَفَرتَ بِنا، وقَتلْتَ رِجالَنا وسَبَيت نساءَنا؟!!

ص: 412

«و» ظَنَنْتَ: «أنّ ذلك لِعِظَم خَطرك»

أي : لِعُلُو مَنْزِلَتِك.

«وجَلالة قَدْرك» عند الله تعالى؟!

وعلى أساس هذا الظنّ الخاطيء الذي «لا يُغني مِن الحقّ شيئاً» و «إنّ بعضَ الظنّ إثمٌ»، إستَولَتْ عليك نَشْوَة الإنتصار.

«فَشَمَحْتُ بأنفِك» يُقال: شَمَخَ بأنفه: أي رَفَع أنفَه عِزّاً و تكبُّراً.

«ونَظَرتَ في عِطْفك» العِطف - بكسْر العين - جانبُ البَدن، والإنسانُ المُعْجَب بنفسه يَنظر إلى جسمه وإلى مَلابسه بِنوعٍ من الأنانيَّة وحُبِّ الذات والغُرور.

«تَضرب أصْدرَيك فَرَحاً» الأصْدَران: عِرقان تحت الصُّدْغَين، وضَرَبَ أصدريه: أي: حَرَكَ رأسَه - بكيفيّة خاصّة - تَدلُّ على شِدّة الفَرَح والإعجاب بالنَفْس.. إزاءَ ما حَقَقَهُ مِن إنتصارٍ مَوْهوم.

«وتَنفَض مِدْرَوَيكَ مَرَحاً»

يُقال: جاءَ فلان يَنْفَض مِدْرَويه : إذا جاءَ باغياً يُهدّد

ص: 413

الآخَرين.

هذا ما ذكرَه اللُغَويّون، ولكنّ الظاهر أنّ معنى «يَنقَض مِذْرويه» أي يَهُزّ إليَتيه، وهو نوع مِن حَركاتِ الرَقْص عند المُطْربين حينَما تأخُذُهم حالةُ الطَرَب والخفة .

«حينَ رأيتَ الدنيا لك مُستوسَقة»

أي: مُجتَمِعة.

«والأُمور لَدَيكَ مُتّسِقة»

أي: مُنتَظَمة، بمعنى: أنّك رأيتَ الأُمور على ما تُحِبّ وتَرضى، وعلى ما يُرام بالنسبة إليك، فكلُّ شيء يَجري كما تُريد.

«وحينَ صَفى لك مُلْكُنا، وخَلُص لك سُلطانُنا»

أي: ومِن أسباب فَرَحِك، وقِيامك بالحَركات الطائشَة الّتي تَدلُّ على شِدَّة سُرورك، أنَّك رأيتَ مِن نَفْسِك مَلِكاً وسُلْطاناً قد نَجَحَ في خُطّتِه الّتي رَسَمَها لإبادة مُنافِسِه، وأسْرِ نِسائه.

لكن .. إعلَمْ أيّها المَغرور: أنّ هذه القُدرة والمكانة التي اغتَصَبْتَها - وهي الخلافة - هي لنا أساساً، لأنّ يزيد

ص: 414

كان يَحْكُم بِإسْم خِلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومِن الواضح أنّ خلافة رسول الله لها مَوارد خاصّة، وأنّ خلفاءَ رسول الله افراد مُعَيَّنون، مَنصوصٌ عليهم بالخلافة، وهم: الإمام علي بن أبي طالب، والأئمّة الأحَد عشَر مِن وُلْده (عليهم السلام)، ولكن الآن .. صارتْ تلك القُدرة والسُلطة بِيَد يزيد!!

بعد هذه المُقدّمة والتَمْهيد قالت:

«فَمَهْلاً مَهْلاً»

يُقال - للْمُسْرع في مَشْيه او المُتفَرّد بِرأيه -: مَهْلاً. أو على مَهْلِك، أي: أمهِلْ، ولا تُسْرعْ، أي: ليسَ الأمرُكما تَعتقِد أو كما تَظنّ، أو: ليسَ هذا الإسراع في العَمَل صحيحاً مِنْك فَلا تَعْجَل حتّى تُبيّن لك حقيقةَ الأمْر.

«لا تَطِشُ جَهْلاً» طاشَ فلان: أخَذَهُ الغُرور وفَقَدَ إتِّزانَه، فصارَ غيرَ ناضِجٍ في تَصَرُّفاته.

أي: يا يزيد! لا تَطِشْ .. بسَبَب جَهْلِك بالحَقائق، وخَلْطِك بينَ المَفاهيم والقِيَم والإغترار بالظواهِر.

ص: 415

«أنَسِيتَ قولَ الله (عزّوجلّ): «ولايَحْسَبنَّ الّذين كفَروا انّما نُمْلِي لَهُمْ خيرٌ لأنفسهم، إنّما نُمْلي لَهُمْ لِيَزدادوا إثماً ولَهُمْ عذابٌ مُهين؟!! (1)

نُمْلي: أي نُطيلُ لَهُمُ المُدّة والمَجال، أو نُطيل أعمارَهم ونَجْعَلُ الساحة مَفتوحةً أمامَهم «خَيرٌ لأنفسِهم»، بلْ: إنّما نُطيلُ أعمارَهم ومُدَّةَ سُلْطتِهِم وحُكومتِهم .. لِتكون عاقِبةَ أمْرهم هي إزديادُ الإثم والمعاصي في مَلفّ أعمالهم، ولهُم عذاب مُهين، أي: يَجزيهم - في جَهنّم - تَعذيباً مَمْزوجاً مع الإهانة والتَحقير.

ثمّ خاطبَتْه وذكّرَتْه بأصْله السافِل، ونَسَبه المُخزي، فقالت:

«أمِنَ العَدْل يابنَ الطُلَقاء»

وهذه الكلمة إشارة إلى ما حَدَث يوم فَتْح مكّة، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا فَتَح مكّة - وصارتْ تحتَ سُلْطتِه - كانَ بإمكانه أن يَقتُلَهم لِما صَدَرَتْ مِنْهم مِن مَواقف عِدائيّة وحُروب طاحِنة ومُتتالية ضدّ النبيّ الكريم - بالذات - وضدّ المسلمين بصورة عامّة، لكنّه رَغم كلّ

ص: 416


1- سورة آل عمران، الآية 178

ذلك .. إلتفَتَ إليهم وقال لهم:

«يا مَعاشِرَ قُريش! ما تَرَونَ أنّي فاعلٌ بكم؟»

قالوا: «خَيراً، أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم»

فقال لَهم: «إذْهَبوا فأنتُمُ الطُلَقاء» (1)

وكان فيهم: معاوية وأبوسفيان.

ويزيد هو ابنُ معاوية، وحفيدُ ابي سفيان، ويُطلَق عليه (ابن الطلَقاء) إذْ قد يُستَعمَل ضميرُ الجَمْع في مَورد التَثْنية.

أمّا معنى كلمة «يابنَ الطلقاء» فالطُلَقاء - جَمْع طَليق -: وهو الأسيرُ الذي أُطلِقَ عنه إساره، وخُلّي سَبيلُه.

إنّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَتَحَ مكّة فصارت البَلدة ومَن فيها تحتَ سُلطته وقُدرَته، وكان بإمكانه أن يَنتَقِم مِنْهم أشَدَّ إنتقام، وخاصّة مِن أبي سفيان الذي كان يؤَجِّجُ نارَ الفِتَن، ويُثيرُ الناسَ ضدّ رسول الله، ويَقودُ الجُيوش والعَساكر لِمُحاربة النبيّ والمسلمين، كما حَدَث ذلك يومَ بَدْر وأُحُد، وحُنين

ص: 417


1- السِيرة النَبَويّة، لابن هشام، طبْع لبنان عام 1975م، ج 4 ص 41، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 21 ص 106

والأحزاب، وهكذا إبنُه معاوية «الذي كان على دين أبيه»، ولكنّ الرسول الكريم أطلقَهُما وخَلّى سَبيلَهُما في مَنْ أطلَقَهم.

قال الله تعالى: «فإذا لَقيتُمُ الّذينَ كفَروا فضَرْبَ الرقاب، حتّى إذا اثْخَنْتُمُوهُم فَشَدّوا الوثاق، فإمّا مَنّاً بَعْدُ وإِمّا فِداءً، حتّى تَضَعَ الحَربُ أوزارَها» (1)

«فإمّا مَنَّا بَعْدُ» أي: إمّا أنْ تَمُنّوا عليهم مَنّاً بعد أنْ تأسِروهم، أي: تُحْسِنُوا إليهم فتُطلِقوهم بِغَير عِوَض، وإمّا أنْ تفْدوهم فِداءً، أي: تَطْلُبوا مِنْهم دَفْعَ شيءٍ مِن المال إزاءَ إطلاقِكم سراحَهم.

وكانَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مُخَيّراً بينَ ضَرْب أعناقهم وبينَ المَنِّ والفِداء، فاختارَ الرسولُ الكريم المَنَّ واطلَقَهم بِلا فِداء ولا عِوَض.

والظاهر أنَّ السيّدة زينب تَقصد مِن كلمة «يابنَ الطُلَقاء» واحِداً مِن مَعنَيين:

المَعنى الأول: أنْ تُذكَرَ يزيد بأنّه ابن الطَليقَين الّذَين أطْلَقَهما رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع أهل مكّة، وكأنَّهم عَبيد، فتكون الجملة تَذكيراً له بِسُوء

ص: 418


1- سورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الآية 4

سوابِقِه المُخْزية ومَلَفّ والده وجَدّه!

والمعنى الثاني: أن تُذكّرَ يزيد بالإحسان الذي بَذَلَه رسولُ الله لأسْلاف يزيد حيثُ أطلَقَهم، فقالت: «أمِنَ العَدْل» أي: هل هذا جَزاءُ إحسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع أسلافِك .. أنْ تَتَعامَل مَعَ حَفيدات الرسول هذا التَعامُلَ السَيّئ؟!

ولَعلّ السيّدة زينب قَصَدتْ المَعنَيّين مَعاً.

ومِن الواضح أنّها لا تَقصد - مِن كلامِها هذا - السؤال والإستفهام، بل تَقصد تَوبيخَ يزيد على سُلوكه القَبيح، ونَفسيّته المُنْحَطة، وتُنْكِر عليه تَعامُله السيّىء، وتُعلنُ لَه أنّه بَعيدٌ - كلَّ البُعْد - عن أوّليّات الفِطْرة البَشريّة، وهى جَزاءُ الإحسان بالإحسان!!

«تَخْديرُك حَرائرك وإماءَك»

يُقال: خَدَّر البِنتَ: الْزَمَها الخِدْر، أي: أقامَها وَرَاءَ السِتْر.

الحرائر - جَمْعُ حُرّة - نَقيضُ الأمَة. (1)

ص: 419


1- لسان العَرَب لابن منظور

«وسَوقُك بناتِ رسولِ الله سَبايا»

السَوق: يُقال: ساقَ الماشية يَسُوقُها سَوْقاً: حَثَّها على السَير مِن خَلْف (1) وذلك يَعني: الحَثّ على السَير مِن الوَراء مع عَدَم الإحترام.

أقول: لايُرجى مِن يزيد العَدْل والعَدالة، ولكنّه لمّا ادّعى الخلافة لنفسه، كانَ المَفروض والمُتوقّع مِنْه أنْ يكونَ عادلاً.

ولهذا خاطبَتْه السيّدةُ زينب بقولها: أمِنَ العَدْل أنْ تَجْعَل جَواريك والنساء الحرائر - الساكنات في قَصْرك - َوراءَ الخِدْر، وتَسوقَ بنات الرسالة وعَقائل النُبوّة، ومُخدّرات الوحي .. سَبايا؟

«قد هَتكْتَ سُتُورَهُن، وابدَيتَ وجوهُهُن»

فَبَعْد أنْ كُنَّ مُخَدّرات مَسْتورات، لا يَرى أحَدٌ لَهنّ ظِلاً، وإذا بهِنّ يَرينَ أنفُسَهُنّ أمامَ أنظار الرجال الأجانب، وبعدَ أن كُنّ مُحَجّبات .. وإذا بالأعداء قد سَلَبُوهُنَّ ما كُنَّ يَسْتُرنَ به وجوهَهُن .. مِن البَراقِع والمَقانِع!

ص: 420


1- أقرب الموارد للشرتوني

«تَحْدو بِهِنّ الأعداءُ مِن بَلَد إلى بَلَد»

أي: يَسُوقُهُنَّ الأعداءُ مِن كربلاء إلى الكوفة، ومنْها إلى الشام، ويَمُرُونَ بهِنَّ على البلاد التي في طريق الشام.

وحينَما كان يَمُرّ موكبُهُنّ على البلاد والقُرى والأرياف، كان الناس - على اختلاف طَبَقاتهم - يَخْرُجون للتَفرُّج عليهِنَّ، واحياناً كانوا يَصعَدون على سُطوحِ دُورِهِمْ لِلتَفرُّج عليهنّ، ولهذا قالت السيّدة:

«ويَسْتَشْرفُهُنَّ أهلُ المَناقِل، ويُتَبرزْنَ لأهلِ المَناهِل»

المَناقل - جَمْعُ مَنقل - وهو الطريق إلى الجَبَل. والمَناهِل - جَمْع مَنْهَل -: وهو الماء الّذي يُنزَلُ عنده، والمقصود: المنازل الّتي في طريق المُسافرين، للتَزوُّد بالماء أو الإستراحة.

«ويَتَصَفَحُ وُجُوهَهُنَّ القَريبُ والبَعيد»

يَتصَفّح: أي يَتأمّل وجوهَهُن لِيَنْظرَ إلى مَلامحِهِنَّ!!

ص: 421

«والشَريفُ والوَضيع، والدنيءُ والرَفيع»

والحال أنّه «ليس مَعَهُنَّ مِن رِجالِهنَّ وَليٌّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَميّ»، عائلة مُحترَمة، وليس مَعَهُنَّ مِن رجالهنّ أحَد يُشْرفُ على شؤونهن ويَحْرُسُهُنَّ ويَحْمِيهِنّ مِن الأخطار والأشرار، لانّ رِجالَهنّ قد قُتلوا باجمَعِهم، ولم يَبقَ مِنْهم سِوى الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام).

كلّ هذه الجرائم التي صَدرتْ مِنْك، وبأمْرك كانتْ «عُتُوّاً مِنك على الله»

العُتُو: هو التكبّر.

«وجُحُوداً لِرسول الله»

الجُحُود: هو الإنكار مع العِلْم بانّ هذا هو الواقعُ والحَقّ، قال تعالى «وجَحَدوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنفسُهم». (1)

ص: 422


1- سورة النمل، الآية 14

«ودَفعاً لما جاءَ به مِن عند الله»

الدَفْع: الإزالة والإبادة والرَدّ.

أي: قُمْتَ بهذه الأعمال لأجل القضاء على الإسلام، وعلى ما جاءَ به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِن عند الله تعالى.

«ولا غَروَمِنْك، ولا عَجَبَ مِن فِعْلِك»

لا غَرْو: لا عَجَبَ.

إنّ السيّدة زينب (عليها السلام) تَعتَبرُ تلك الجرائم - الّتي صَدرتْ مِن يزيد - أُموراً طبيعيّة وظواهِرَ غير عجيبة، فَ- «كُلّ إناءٍ بالّذي فيه يَنْضَحُ».

وإنّ الآثار السَلْبيّة لِعامِل - بل عَوامِل – الوراثة، والإستمرار على شُرب الخمر والفَحشاء والفُجور والعَيش في أحضان العاهِرات، كلّها أسبابٌ كان لها دورُها في إيجاد هذه النتائج والعَواقِب السَيِّئة للطاغية یزید.

«وأنّى تُرتَجى مُراقَبَةُ ابنِ مَن لَفَظَ فُوهُ اكبلدَ الشهداء، ونَبَتَ لَحْمُه بِدِماء السُعَداء؟»

أي: كيفَ ومَتى يُتوقَّع الخوفُ مِن الله تعالى .. مِن ابن مَن رَمَتْ مِن فَمِها أكبادَ الشُهداء الأبرياء؟

ص: 423

هذه الكلمة إشارة إلى ما حَدَثَ في واقعة أُحُد، وإلى مَقتَل سيّدنا حمزة بن عبد المطلّب سيّد الشهداء وعمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينَما جاءتْ هند - أُمّ معاوية، وجَدَّة يزيد - وشَقَّتْ بطنَ سيّدنا حمزة، وأخرجَتْ كبِدَه وأخذَتْ قِطعةٌ مِن كَبِده، ووَضَعَتْها في فَمِها وعَضّتْها بأسنانها وحاولتْ أنْ تاكلَها بِسَبَب الحِقْد المُتاجّج في صَدرها، ولكنّ الله تعالى أبى أن تَدْخُل قطعة مِن كبد سيّدنا حمزة في جوف تلك المرأة الساقطة، فانقَلَبَتْ تلك القطعة صَلبةً كالحَجَر، فلم تُؤثّر أسنانُها في الكبد، فلَفَظتْها، ورَمَتْها مِن فَمِها، فاكتَسَبَتْ بذلك لَقَب (آكِلَة الأكباد)!!

ویزید: هو حفيد هكذا امرأة حَقُودة. وحِقْدُه على الدين وارتكابهُ للجرائم الكبيرة ليس بشيء جديد!!

«ونَصَبَ الحَرب لِسيّد الأنبياء»

لقد ذكرْنا - في الفَصْل الرابع مِن هذا الكتاب - أنّ أبا سفيان هو الّذي كان يُجَهَرُ الجُيوش في مكّة، ويَخرجُ لحَرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقِتالَ المسلمين، حينَما كان النبيُّ الكريم في المَدينة المنوَّرة.

ص: 424

«وجَمَعَ الأحزاب»

إنّ أبا سفيان هو الّذي جَمَعَ العَشائر والقَبائلَ الكثيرة .. مِن المُشركين واليهود والنصارى وغيرهم، وأمَرَ بِنَفيرٍ عام وشامِل لِمُختلف الأعمار والدِيانات، وخَرَجَ بجَيشٍ جَرّار كالسَيل الزاحِف، للقضاء على الرسول العظيم ومَن مَعَه مِن المسلمين، في واقعة الأحزاب التي عُرفتْ - فيما بَعْد – ب- «غَزوة الخَنْدق».

«وشَهَرَ الحِراب، وهَزّ السُيوف في وَجْه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم»

الحِراب - جَمْعُ حَرْبَة -: وهي آلةٌ قَصيرة مِن الحَديد، مُحَدَّدةُ الرأس، تُستعمَل في الحرب. (1)

«وهَزَّ السيوف» كِنايَة عن الخروج للحَرب وإصدار الأوامر في هذه للهُجوم والغارة، وبما أنّ أبا سفيان كان هو السَبَب في الحروب فقد جاءتْ كلمةُ «السُيوف» بصيغة الجَمْع.

«أشَدُّ العَرَب لِلّه جُحُوداً، وأنْكرُهم لَه رسولاً، وأظهرهم له عُدواناً، وأعتاهُمْ على الرَبِّ كُفْراً وطُغياناً». (2)

ص: 425


1- المُعْجَم الوسيط
2- أعتاهم: العُتُو: الإسْتكبار والتَجَبُّر وتجاوز الحَدّ. كما في «العَين» للخليل، والمُعجَم الوسيط. المُحقّق

مِن الواضح أنّ العَرَب في مكّة وغيرها.. كانوا على دَرَجات مُتَفاوتة في نِسْبة إنكارهم لِوجود الله تعالى، أو إتّخاذهم الأصنام آلِهَةٌ مِن دونه سُبحانَه.

فهُناك مَن هو جاحِدٌ ومُنكِرٌ مائة بالمائة، وهناك مَن هو جاحِد 70٪، وهكذا.

ومنهم: مَن هو عازم ٌعلى الإستمرار في الكُفر رَغْم عِلْمه بالتوحيد، ومِنهم: مَن كانَ يَعيشُ حالةَ الشَكّ في الإستمرار في الكُفْر أو الشِرْك.

ومِنهم: مَن كانَ يَحيكُ المُؤامرات ضِدّ النبيّ الكريم بصورة سِريّة، ومنهم: مَن كانَ يَخرُجُ لِحَرب رسول الله.. بِشكلٍ مَكشوف.

ومِنهم: مَن كانَ منكراً لِلّه تعالى .. ولكنّه يَتَّخِذُ مَوقفَ المُحايد تِجاه النبيّ الكريم، ولا يَبْذل أيّ نشاط ضِدّ الإسلام والمسلمين.

ولكنّ الكافر الّذي ضَرَب الرقمَ القياسي في إنكار الله تعالى، وإنكار رسالة النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): هو أبو سفيان.

هذه كلُّها صِفات ومُواصفات أبي سُفيان، وقد وَرِثَها مِنهُ حَفیدهُ یزید، حيثُ كانَ يَشتَرك مع جَدّه في جميع هذه الأوصاف والأحقاد، وبِنَفْس النِسْبة والدَرَجة، لكنْ مَع

ص: 426

تَبدُّل الظروف!

فلقد وَقَفَ أبو سفيان في وَجْه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحارَبَه وأظهَرَ أحقادَه.

وجاءَ - مِن بَعْده - إبنُه معاوية، فَوَقفَ في وَجْه الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وحارَبَه بكلِّ مالَدَيه مِن طاقةٍ وقوّة، وعلى مُختَلَف الأصعِدَة والمَجالات، الإعلاميّة والعَسكريّة وغيرها.

إنّ الوثائق التاريخيّة تقول: «ماتَ معاوية وعلى صَدره الصَّنَم»، فكمْ تَحملْ هذه الكلمة مِن معانٍ ودِلالات، «والحُرُّ تكفيه الإشارة»!!

وقد جاء في التاريخ - أيضاً -: «ماتَ معاوية على غير مِلَّةِ الإسلام». (1)

ثمّ جاءَ يزيد - مِن بَعْد معاوية - فكانَ كالبُركان يَتَفجَّرُ حِقْداً على آلِ رسول الله وأبناءِ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فماذا تَراه يَفعَل؟!

ص: 427


1- جاء هذا النصّ - بالحرف الواحِد - في كتاب «سِيَرُ اعلام النُبَلاء: للذَهَبي، ج 10، ص 533 وکتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، ج 14، ص 181 وكتاب خلاصة عبقات الأنوار ج 7، ص 305

وماذا تَتَوَقَّع مِنه؟!

وخاصّةً وأنّه يَرى تحتَ تَصرُّفِه جَيشاً كبيراً يُنفّذ أوامِرَه بكلّ سُرعة، ويُطيُعه طاعةً عًمْياء، دونَ رِعاية الجوانب الإنسانيّة أو العاطفيّة أو الدينيّة. وكانَ له مُستَشارٌ مَسيحيّ حاقِد إسمه: «سرجون» يُمْلي عليه ما يَتبادرُ إلى ذِهْنه في كيفيّة القضاء على الإسلام ، ويَرسِمُ لَه الخُطط للوصول إلى هذا الهَدَف!

«ألا: إنّها نتيجة خِلال الكفر»

ألا: حَرف لجَلْب الإنتباه، أو للتأكيد على ما يُخْبَر عنه. (1)

النتيجة - هنا - العاقبة.

خلال - جَمْع خلة - وهي الخصْلة.

أي: إنّ يزيد حينَما أمَرَ بقَتْل رَيحانة رسول الله الإمام الحسين ( عليه السلام) لم يكنْ لمُجَرَّد أنّه كان يَرى مِنْه مُنافِسَاً لَه في السلطة فقضى عليه، بل إنَّ ذلك كان من منطلق الكفر والإلحاد، ولذلك .. فهو لم يكتف بقَتْل الإمام، بل أمَرَ بسَبْي نِسائه وأطفاله، وقامَ بغير ذلك مِن الجرائم والجِنايات.

ص: 428


1- كما يُستفاد مِن كتاب «مُغْني اللبيب» لإبن هشام

وهذه الأُمور: هي نتيجة خُبْث نَفْسيَّته الطائشة وأثَرُ صِفاته الكُفْرِيّة المَوْرُوثَة مِن أبيه وجَدِّه!

«وضِبُّ يُجَرْجِرُ في الصَدْر لِقَتْلى يوم بَدْر»

والضِبّ - بكَسْر الضاد -: الغيظ الكامِن والحِقْد الخَفي.

جَرْجَرَ البَعيرُ: إِذا رَدَّدَ صوتَه في حَنْجرته.

أي: وحِقْدٌ يَتاجَّجُ في الصدر، ويُطالبُ يزيدَ للأخْذ بشارات المَقتولين في غَزْوة بَدْر، وهم أقطاب المُشركين الّذين كانوا قد خَرجوا مِن مكّة لمحاربة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقِتالِ المسلمين.

وهم المشركون الّذين تَمَنّى يزيد حُضورهم بِقوله: «ليتَ أشياخي ببَدْرٍ شَهِدوا» وهم: عُتْبة بن ربيعة، وشَيبة، والوليد بن شيبة.

أمّا عُتْبة فقَتَلَه عُبيدةُ بنُ الحارث بن عبْدالمطّلب، وأمّا شَيبة وابنه الوليد فقد قتَلَهما الإمام اميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

إنّ جميع ما قامَ به الطاغية يزيد، مِن قَتْله الإمامَ الحسين وأصحابه وأهل بيته، وسَبْي الطاهِرات مِن نِسائه وحُرَمه، وإهانَتِه لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) تُعتَبرُ

ص: 429

نَتيجةً طبيعيّة للكُفْر المَكْشوف والحِقْد الدَفين في قَلْب یزید، فلمْ يكُنْ يوجَد في قَلْبه مِقْدارَ ذَرّة مِن الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة، بل إنّه إتّخذَ مَنصِبَ خلافة الرسول الكريم، وَسيلَةً لسلطته على الناس، وانهماكه في الشَهوات، ومُحاربَته للدين وعُظماء الدين.

فقد كان يَتَجاهَرُ بشُرْب الخَمْر، ولعْب القمار وغيرهما مِن المُنكرات الّتي حَرْمها الله سبحانه وبذلك أعطى الجُرأة لجميع الناس كي يَجْلسوا في الأماكن العامَّة، ويَرتكبوا ما شاؤا مِن المعاصي والذنوب، مِن دون أيّ خوفٍ أو حَذَر، أو حَياءٍ أو خَجَل، أو إحترام لحُدود الله تعالى، أو رعايةٍ للخطوط الحَمْراء الّتي وَضَعَها الله سُبحانه حَولَ بعض الأعمال المُحرَّمة.

لقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) أنّه قال : «... . مَنْ نَظرَ إلى الشطرنج فَلْيَلْعَن يزيد وآل يزيد ...» (1)

«فلا يَستَبْطىء في بُغْضِنا - أهلَ البيت - مَن كان نَظرُه إلينا شَنَفاً وإحَناً وضِعناً»

وفي نسخة: «وكيف يَستَبْطىء في بُغضنا»

ص: 430


1- کتاب «عُيون أخبار الرضا عليه السلام» للشيخ الصَدوق

أي: كيف لا يُسْرع إلى بُغْض اهل بیت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَن كانت نَظْرَتُه وعقيدتُه فيهم عَقيدة الكراهة والحِقْد.

والشنف والشَنآن والإحَن والأضغان: مَعانيها مُتقاربة، والمقصود منها: شِدَّة الحِقْد والبُغْض.

«يُظهِرُ كفْرَه بِرسوله، ويُفصِحُ ذلك بِلسانه»:

إشارة إلى الأبيات التي أنشَدَها يزيد

«لَعِبتْ هاشمُ بالمُلْك فلا *** خَبرٌ جاءَ ولا وَحيٌ نَزَل»

فقد أظهَرَ كُفْرَه بِرسالة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتَجاهَرَ بذلك، واعتَبَر النبوّةَ والرسالة والوَحي والقرآن كلَّها العاب، وأنكرَها جميعاً.

يُفصِح: أي يُظهِرُ ما في قلْبه على لسانه.

«وهو يَقول - فَرَحاً بقَتْل وَلَده، وسَبْيِ ذُريّته، غيرَ مُتَحوّب ولا مُسْتَعْظم:

لأهَلُوا واستَهَلُوا فَرِحاً *** ولَقالوا: يا يزيدُ لا تُشَلْ»

غيرَ مُتَحوّب: أي غيرَ مُتَاثّم (1) أو غيرَ مُتَحَرِّجٍ مِن

ص: 431


1- القاموس المحيط، للفيروز آبادي

القَبيح. والحُوبَة: مَن يَاثَمُ الإنسان في عُقوقه .. كالوالدَين. (1)

والظاهر: أنّ السيّدة زينب (عليها السلام) تَقصُد أنّ يزيد كانَ يَعيشُ حالةَ عَدَم الإكتراث أو المُبالاة بما قامَ به مِن جَرائم، وبما يُصرّح به مِن كلمات كُفْريّة، وبما يَشْعُر به مِن الفَرَح والسُرور لقتْله ابن رسول الله، وسَبْي ذُريّته الطاهرة. إذ مِن الواضح أنّ الذي لا يؤمنُ بِيَوم الجَزاء لا يُفكّرُ في مُضاعَفات جَرائمه، ولا يَشْعر بالحَرَج أو الخوف مِن أعماله الّتي سوف تَجُرُّ إليه الوَيَل!!

«مُنْحَنِياً على ثَنايا أبي عبْد الله - وكانَ مُقَبَّل رَسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم - يَنْكُتُها بِمِخْصَرَتِه»

ثَنايا - جَمْعُ الثَنِيَّة -: وهي الأسنان الأربع الّتي في مُقَدَّمَ الفَم، ثِنْتان مِن فَوق وثِنْتان مِن تحت. (2)

مُقَبَّل: مَوْضِعُ التَقْبيل.

يَنْكُتُ: يَضْرِبُ

مِخْصَرَة: العَصا، وقيل: هي العصا الّتي في أسْفَلها

ص: 432


1- المُعْجَم الوَسيط
2- كتاب «لسان العَرَب»، و«المُعْجَم الوَسيط»

حَديدة مُحدَّدة، كحَديدة رأس السَهْم.

أقول: إنَّ القَلَم لَيَعْجَرُ عن التَعبير عن شَرح هذه المَقْطوعة مِن الخُطبة!! وذلك لِهَوْل الُمصيبة، فكيف تَجرّاً الطاغية يزيد على أنْ يَضْربَ تلك الثَنايا المُقَدَّسَة، الّتي كانتْ مَوْضِعاً لِتَقبيل رسول الله .. مِئات المَرّات. وفَعَلَ يزيد ذلك بِمَرأى مِن عائلة الإمام الحسين ونِسائه وبَناته؟!

ولم يكْتَفِ يزيد بالضَرْب مَرَةٌ واحدة أو مَرّتين، بَلْ مَرّات مُتعدّدة، وهو في ذلك الحال في أوجِ الفَرَح والإنتعاش!!

ولم يكنْ الضَرْب على الأسنان الأماميّة فقط، بل كان يَضْربُ على شَفَتَيه ووَجهه الشَريف، ويُفَرِّقُ بينَ شفتيه بعَصاه لِيَضْرب على أسنانه!

إنّا لِلّه وإنّا إليه راجعون، وسَيَعْلَمُ الّذين ظَلموا أيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبون!!

«قد التَمَعَ السُرور بِوَجْهه»

قد يكونُ الفَرَحُ شَديداً فَيَتَدَفّقُ الدَمُ إلى الوَجْه فيَحْمَرُّ، وبذلك تَظهَرُ آثارُ الفَرَح على مَلامحه، فيُقال: إلتَمَعِ السُرور بِوَجْهه.

هكذا كانتْ فَرْحَةُ يزيد حِين ضَرْبِه تلك الثَنايا

ص: 433

الشَريفة. (1)

«لعَمْرِي لَقَدْ نَكاتَ القُرْحَة»

نَكأَ القُرْحَة: قَشَّرَها بَعْدَ ما كادَتْ تَبْرأ. (2)

لَعلَّ المعنى: أنّ ضَرْبَ يزيد تلك الثَنايا صارَ سَبَباً لِهَيَجان الأحزان مِن جَديد، وفَجَّرَ دُموعَ العائلة الكريمة، فاستولى عليهِنَّ البُكاء والنَحيب، وخاصَّةً أنّ بِنْتين مِن بنَات الإمام الحسين (عليه السلام) جَعَلَتا تَتَطاولان (أي: تَقِفان على رؤوس أصابع رِجَليهما) لِتَنْظرا إلى الرأس الشريف، مِن وَراء كراسي الجالسين، فلمّا نَظرنا إلى يزيد وهو يَضْربُ الرأس الشريف، ضَجّتا بالبُكاء والعَويل، ولاذَتا بِعَمَّتهما السيّدة زينب، وقالَتا: ياعَمّتاه! إنّ يزيد

ص: 434


1- كتاب «الكامل» لإبن الأثير، ج 3، ص 300، وكتاب «تاریخ دمشق» لإبن عساكر، في ترجمة أبي برزة الاسلمي، وكتاب «أنساب الاشراف» للبلاذري، ج 3، ص 214 ، وكتاب «مَقتل الحسين» للخوارزمي ، ج 2، ص 55 - 57 ، وكتاب «تاريخ اليَعقوبي»، ج 2، ص 232 مِن الطبعة الأُولى، وكتاب «الجوهرة» للبُرّي، طبْع الرياض، ج 2، ص219 ، وكتاب «الرَد على المُتعصّب العَنيد» لإبن الجوزي، طبْع لبنان، ص 45 ، وكتاب «تاريخ الإسلام» للذَهبي، ج 2، ص 351
2- كتاب «العَين» للخليل بن أحمد

يَضْرب ثَنايا أبينا، فَقُولي له: لا يَفعَل ذلك؟! (1)

فَقامَتْ السيّدة زينب (عليها السلام) ولَطمَتْ على وَجْهها ونادتْ: «واحُسَيناه! يابنَ مكّة ومنِى! يا يزيد: إرفَعْ عُودَك عن ثَنايا أبي عبدالله».

«واستاصَلْتَ الشَافة»

يُقال: إسْتَاصَلَ َشافَتَه: أي أزالَه مِن أصْلِه. (2)

ولعلَّ المعنى: يا يزيد: لقد قَطعْتَ شَجَرَة النُبوّة مِن جُذورها بقَتْلك الإمامَ الحسين (عليه السلام) فهو آخِرُ مَن كانَ باقياً مِن أصحاب الكساء، الّذين نَزَلتْ فيهم »آيةُ التَطْهير» وعَبَّرَ اللهُ تعالى عَنْهم - في القرآن الكريم - بكلمة «أهل البيت» ، فكلُّ مَن كان يُقتَل من هؤلاء الخَمسة الطيّبة .. كانَ في الباقينَ - مِنْهم - سَلْوة لآل رسول الله، وبقَتْل الإمام الحسين (عليه السلام) إنقطَعتْ شَجَرة اهل البيت مِن جُذورها، وكانَ ذلك بأمْرِ يزيد وتَنْفيذ إبن زياد.

«بإراقَتِكَ دَمَ سيّد شبابِ أهلِ الجَنَّة، وابنِ يَعْسُوبِ

ص: 435


1- كتاب «المُعْجَم الكبير» للطبراني، طبْع بغداد، ج3، ص 109
2- المُعْجَم الوَسيط

الدين، وشَمْسِ آل عبد المطّلب»

يَعْسُوب: النَحْلَة التي يُعبَّر عنْها ب- «المَلِكة» في مَمْلَكة النَحْل (1)، وقد لَقَّبَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإمامَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بِلَقَب «يَعْسوب الدين» وشَبَّه شيعتَه بالنَحل الّذي يَعيشُ في ظلِّ تلك المَمْلَكة ويَتَّبِعُ ذلك اليَعْسُوب، واشتُهرَ بين المسلمين - في ذلك اليوم - هذا اللَقَب للإمام علي (عليه السلام) ولذلك قالَ الشاعِر:

وِلايَتي لاميرِ النَحْلِ تَكْفيني *** عندَ المَمات وتَغْسيلي وتَكْفيني

ص: 436


1- قال الخليل في كتاب «العين» اليَعْسوب: اميرُ النَّحْل وفَحْلها، ويُقال: هي: عَظيمة مُطاعَة فيها، إذا أقبَلَتْ أقبَلَتْ، وإذا ادبَرَتْ أدبَرَتْ. وقال الزبيدي - في «تاج العَروس» - اليَعْسُوب: أميرُ النَّحْل، واستُعْمِلَ بعد ذلك في الرئيس الكبير والسيّد والمُقدَّم، ... وفي حديث علي (عليه السلام): «أنا يَعْسوبُ المؤمنين» أي: يَلُوذُ بي المؤمنون كما تَلُوذُ النَحْلُ بِيَعْسُوبها». وقال إبنُ مَنظور - في «لسان العرب» -: «اليَعْسوب: أميرُ النَّحْل، ويُقال للسيّد: يَعْسُوبُ قومه، وفي حديث علي [عليه السلام]: أنا يَعْسُوب المؤمنين، يَلُوذُ بي المؤمنون كما تَلوذُ النَّحلُ بیعسوبها» المُحقّق

وطِيْنَتي عُجِنَتْ مِن قَبْلِ تكْويني *** بِحُبِّ حَيْدر، كيفَ النارُ تكْويني؟!

ثمّ عَبَّرت السيّدة زينب عن الإمام الحسين (عليه السلام) ب- «شَمسِ آلِ عبْد المُطّلب»، ويا لِهذا التَعبير مِن بَلاغةٍ راقية، وتَشْبيهٍ جميل، فإنّ الإمام الحسين كانَ هو الوَجْه المُشْرِقَ الوَضّاء والواجِهَة المُتَلألأة لآل عبْد المُطّلب بن هاشم، وسَبَب الفَخْر والإعتزاز لَهُم، وهم كانوا المجموعة أو العَشيرة الطيّبة لِقَبيلة قُريش، وقُريش كانتْ أشرف قَبائل العَرَب.

«وهَتَفْتَ بأشْياخِك»

حينَما قُلْتَ: «لَيتَ أشياخي بِبَدْر شَهِدوا» فَتَمَنَّيتَ حُضورَهم لِيَيّروا إنتصارَك المَوهوم، وأخْذك لِثارهم مِن آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مع أنّ أشياخك هُمُ الّذين خَرجوا - مِن مكّة إلى المدينة - لِقتال رسول الله، وهم الّذين بَدَؤا الحربَ مع المسلمين، فكانوا بمَنْزلة الغُدّة السّرطانيّة الخَبيثة في جسم البَشَريّة، وكان يَلزم قَطْعَها كي لا يَنْتَشِرَ المرضُ والفَسادُ في بَقيَّة أجزاء الجسم.

«وتَقَرَّبْتَ بدَمِهِ إلى الكَفَرة مِن أسْلافِك»

أي: قُمْتَ بإراقَة دَمِ الإمام الحسين (عليه السلام) تَقَرُّباً إلى أسلافِك، وقلتَ:

ص: 437

قد قَتَلْنَا القَرْمَ مِن ساداتهم *** وأقمْنا مِثلَ بَدْرٍ فاعتَدَلْ

«ثمَّ صَرخْتَ بِنِدائك»

أي: بِنِدائك لأشياخِك. ومِن هذه الجُملة يُستفاد أنّ يزيد كانَ رافِعاً صَوتَه حينَ قِراءتِه لِتلك الابيات الكُفْريّة والشِعارات الإلحادية.

«ولَعَمْري لقد نادَيتَهُم لو شَهِدوك»

قال ابنُ مالك - ما مَعناه -: «لو: حَرفٌ يَقتَضي في الماضي إمتناعُ مايَليه، واستِلزامُه لتاليه». (1)

وبناءً على هذا .. يكون معنى كلام السيّدة زينب (عليها السلام): يایزید! لقد تَمَنّيتَ أسلافَك لو كانوا حاضِرين كي يَشْهَدوك ويَشْهَدوا أخْذَك لِثارهم، ولكنّ هذه الأُمنِية لا تَتحقَّقُ لك، فأسْلافُك مَوتى مُعَذَّبون في نار جَهنّم، ومِن المُستَحيل أنْ يَعودوا الآن ويَشهدوا ما قُمْتَ به مِن الجرائم، وليَقولوا لك: سَلِمَتْ يَداك!!

«ووَشيكاً تَشْهَدُهم ولَنْ يَشْهَدوك»

ص: 438


1- حكى عنه ذلك إبنُ هشام في كتاب «مُغني اللَبيب» ص 342. المُحقّق

وَشِيكاً: أي: سَريعاً أو قَريباً (1) ويُقال: أمْرٌ وَشيكٌ: أي: سَريع (2)

المعنی: یا یزید: سوف تَموتُ قَريباً عاجلاً، لأنّ مُلْكك يَزولُ سَريعاً، ولا تَطولُ أيامُ حياتك، وتَنْتَقِل إلى عالَم الآخِرة، إلى جَهنّم فَتَرى أسْلافَك هناك في الاغلال والقُيود وفي صالات التعذيب، ومَمَرّات السُجُون، ولكنّهم لا يَرونك، أي: لا تَجتَمعُ مَعَهم في مكانٍ واحد، لانّك ستكون في دَرَجةِ أسْفَلَ مِنْهم في طبَقات نار جَهنّم، لأنّ جَرائمَك المُوبِقَة تَسْتَوجِبُ العذاب الأشَدّ، لكنّك حِينَ نُزولك إلى ذلك المكان الأسفَل، سوف يكونُ طريقُك عليهم، فتَراهم ولكنّهم لا يَرونَك، لأنّ شِدَّةَ عَذابَهم يُشْغِلُهم عن الإلتفات إلى ما حولَهم ومَن حولهم مِن الجُناة!

وقد رُويَ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: «إنَّ قاتِلَ الحسين بن علي .. في تابوتٍ مِن نار، عليه نِصْفُ عَذابِ أهل الدُنيا، وقد شُدَّتْ يَداهُ ورِجْلاه بِسَلاسِل مِن نار، مُنَكِّس في النار، حتّى يَقَعَ في قَعْر جَهَنَّم، ولَهُ ريحٌ يَتَعَوّذُ أهلُ النار إلى رَبِّهم مِن شِدَّة نَتْنِه، وهو فيها خالدٌ ذائقٌ

ص: 439


1- المُعْجَم الوَسيط
2- كتاب «العَين» للخليل بن أحمد

العَذاب الأليم، مَعَ جَميع مَن شايَعَ في قَتْله، كلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلَ الله (عزّوجلّ) عليهم الجُلود حتّى يَذوقوا العَذابَ الأليم، لا يُفَتَرُ عَنْهم ساعة، ويُسْقَوْنَ مِنْ حَميم جَهَنَّم، فالوَيْل لَهُمْ مِن عذاب الله تعالى في النار». (1)

«ولَتَودُّ يَمينُك - كما زَعمتَ - شُلّتْ بك عن مِرْفَقِها وجُذَّتْ»

شُلّتْ: الشَلَلِ: تَعَطَّلٌ أو تَيَبُّسٌ في حَركة العُضو أو وظيفَته، يُقال - في الدُعاء: شُلَّتْ يَمينُك. (2)

جُذَّتْ: قُطعَتْ أو كُسِرَتْ (3)

المعنى: يا يزيد! إنّك في الدنيا زَعمْتَ أن أسلافَك لو كانوا حاضرين .. لَقالوا لك: «يايزيدُ لا تُشَلْ» أمّا في يوم القيامة، حِينَ تُعاقَب تلك العقوبة الشديدة، سوف تَتَمَنِّى أَنَّ يَمينَك كانتْ مَشْلُولة أو مَقْطوعة حتّى لا تَستطيع أن تَضْربَ بعَصاك ثَنايا الإمام الحسين (عليه السلام).

ص: 440


1- كتاب «عُيونُ أخبار الرضا عليه السلام» ج2، ص 47، حدیث 178
2- المُعْجَم الوَسيط
3- نَفْس المصدر

وهذا إخبارٌ مِن السيّدة زينب (عليها السلام) بما يَدورُ في ذِهْن يزيد حِين يُلاقي جَزاء أعماله الإجراميّة.

وتَتَمَنَّى - أيضاً - حينَما تُلاقي أشدّ درجات العُقوبة والتعذيب:

«و أحبَبْتَ أنّ أُمَّك لم تَحْمِلك، وإيّاك لم تَلِدْ حِينَ تَصيرُ إِلى سَخط الله ومُخاصمك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم»

أحبَبْتَ - هنا -: بمعنى تَمَنّيتَ مِن أعماق قلبك أنْ أُمَّك لم تكُنْ تَحمِلُ بِك، ولم تَلِدْك حتى لا تكون مَخْلوقاً وموجوداً مِن أوّل يوم، ولم تَكتَسِبْ هذه السيّئة الكبيرة الّتي دَفَعَتْ بك إلى أسفل السافِلين في التابوت الموجود في أسْفَل طبَقات جَهنّم، حيث يَسْتَقرُّ فيه أفرادٌ مُعيّنونَ مِن الجُناة الّذين جَرّوا الوَيلات على البَشَريّة جَمْعاء، وعلى كلّ الأجيال والبِلاد والشُعوب، وأسَّسُوا الأُسَس ومَهّدوا الطُرُق لِمَن يأتي مِن بَعْدهم مِن الطغاة والخَوَنة، في أن يَقوموا بكلّ جَريمة، وبكلِّ جُرأة!

إنّ الأحاديث الشريفة تَقول: إنّ أهلَ النار - جميعاً - يَستَغيثُون بالمُوكَّلين بِهم مِن الملائكة .. أن لا يَفتَحوا بابَ ذلك الصندوق، لأنَّ دَرجةَ الحَرارة فيها أشدُّ - بكثير - مِن

ص: 441

حَرارة جَهنّم نفسها!! (1)

وتَقول الأحاديث الشريفة: إنّه كلّما خَفَّتْ ونَزَلَتْ دَرَجَهُ حَرارة نار جَهنّم .. تَفْتَحُ الملائكة بابَ ذلك الصندوق لِمُدَّة قليلة فتَزداد حَرارةُ جَهَنَّمَ كلّها بالحرارة الشَديدة الّتي أُضيفتْ إليها مِن ذلك التابوت، كالقِدْر الكبير للطعام الّذي تُوضَع فيه البُقول، وتُوضَع على نارٍ خَفيفة، وفُجأةً يَرفَعون دَرَجة تلك النار إلى أقصى نِسْبةٍ مُمْكِنَة فيَحدُثُ إضطرابٌ عَجيبٌ في ذلك القِدْر وما فيه!

ويُعبّرُ عن ذلك الصندوق ب- «التابوت» وبالمُعذّبين فيه ب- «أهل التابوت».

وقد رُويَ عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «... إذا كانَ يومُ القِيامة أقبَلَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومَعَه الحسين (عليه السلام) ويَدُهُ على رأسه يَقْطرُ دماً، فيَقول: «يا رَبِّ سَلْ أُمّتي فِيْمَ (أي: لماذا) قَتَلوا وَلَدي!» (2)

ص: 442


1- کتاب (بحار الأنوار) ج 8، ص 296، وهو يَنقل ذلك عن كتاب «تفسير علي بن إبراهيم»، وقد نَقَلْنا مَضمون الحديث
2- كتاب «أمالي الطوسي» ص 161، حديث 268، ونَقَله المجلسي في «بحار الأنوار» ج 45، ص 313

ثمّ بَدأتْ السيدة زينب (عليها السلام) بالدُعاء على يزيد ومَن شاركَهُ في ظُلم آل رسول الله الطيّبين الطاهرين، دَعَتْ عليهم مِن ذلك القلب المُلْتَهِب بالمصائب المُتَتالية فقالت:

«اللهُمّ! خُذْ بحَقّنا، وانتَقِمْ مِن ظالِمِنا، واحْلُلْ غَضبَك على مَن سَفَك دِماءَنا، ونَقض ذمارنا، وقَتَلَ حُماتَنا، وهَتَكَ عَنَّا سُدُولَنا»

نَقَضَ: لم يُراع الحُرْمَةِ والعَهْد.

الذِمار: ما يَنبغي حِفْظُه والدِفاعُ عنه، كالأهْل والعِرْض. (1)

وقيل : ذِمارُ الرَجُل: كلُّ شيء يَلْزَمَه الدَفْع عَنْه. (2)

سُدُول - جَمْع سِدْل -: السِتْرُ. (3)

ثمّ أرادتْ السيّدةُ زينب (عليها السلام) أنْ تُبَيِّنَ ليزيد حقيقةً واقعيّة: وهي أنَّ جميعَ ما قُمتَ به ضِدَّ آل رسول الله، مِن قَتْل وسَبْي، وحَمْل الرؤوس مِن بَلَد إلى بَلَد، وإهانة

ص: 443


1- المُعْجَم الوَسيط
2- كتاب «العين» للخليل بن أحمد
3- نَفْس المصدر

الرأس الشريف، والإفصاح عن الكلمات الكُفْريّة الكامِنَة في الصَدر، وغيرها .. لا تَعُودُ عليك بالفائدة والنَفْع، بل تَعُودُ عليك بالخُسران والعقوبة، حتّى لو جَعَلَتْك تَفْرَح لِمُدّةٍ قَصيرة، لكنّ هذا الفَرَح سوف لا يَستَمرِ، بل يَتَعَقَّبُه سِلْسِلة مُتَواصِلة مِن أنواع الخسارة والعَذاب الجَسَدي والنَفْسي، فقالت (عليها السلام):

«وفَعَلْتَ فِعْلَتَك الّتي فَعلْت، وما فَرَيتَ إلّا جِلْدَك، وما جَزَرْتَ إِلّا لحْمَك»

فَريتَ: شَقَقْت وفَتَتَّ (1) وَقطعْتَ (2).

جَزَرْتَ: قَطعتَ (3) ويُستَعملُ غالباً في نَحْر البَعير وتَقْطيع لحمه.

«وسَتَردُ على رسولِ الله بما تَحَمَلْتَ مِن دَمِ ذريّتِه، وانتَهَكْتَ مِن حُرْمَتِه، وسَفكْتَ مِن دِمَاءِ عِتْرَتَه ولُحْمَته».

ص: 444


1- المُعْجَم الوَسيط
2- کتاب «العَين» للخليل
3- المُعْجَم الوَسيط

اللُحْمَة: القَرابَة، يُقال: بينَهم لحْمَةٌ نَسَب. (1)

المعنى: سَتَرِدُ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - بعد مَوتك - وأنتَ تَحمِلُ على ظهرك مِن الجَرائم ما لا تَحْمِلُها الجِبالُ الرَواسي، فيُخاصِمُك على كلّ واحدةٍ واحدةٍ منها .. أشَدّ أنواعَ الخُصُومة، مِن دون أنْ يخفى عليه شيء!

«حيثُ يُجمَع به شَمْلُهُم، ويُلَمُ بِه شَعَتُهُم، ويَنْتَقِمُ مِن ظالِمِهم، ويأخُذُ لَهُمْ بِحَقِّهِم مِن أعدائهم».

الشَعَث: ما تَفَرَّقَ مِن الأُمور أو الأفراد، يُقال - في الدعاء - : «لَمَ اللّه شَعَثه». (2)

المعنى: سوف يَجْمَعُ الله تعالى آلَ رسول الله عند النبيِّ الكريم في جَبْهة واحدة - وذلك في يوم القيامة - فيَشْكو كلُّ واحدٍ مِن آل الرسول إلى النبيِّ الكريم كلَّ ما لَقيَ مِن الناس مِن عِداءٍ وظُلْم، فيَنْتَقِمُ الله مِن أعدائهم أشدَّ الإنتقام. ومادام الأمر كذلك، فاسمَعْ يا يزيد:

«فلا يَستَفزَّنَّكَ الفَرَحُ بِقَتْلهم»

ص: 445


1- المُعْجَم الوَسيط
2- نَفْس المصدر

لا يَسْتَفزّنك: أي: لا يُخرِجُك الفَرَحُ عن حالتك الطبيعيّة، يُقال: إستَفزّهُ: أي استَخَفّه، أو خَتَلَه حَتَّى القاهُ في مَهْلكة. (1)

فلا خيرَ في فَرْحَةٍ قَصيرة يَتعَقَبُها حُزْنُ دائم، وعذاب أليم، وخُلُودٌ في النار.

ثمّ أدمَجَتْ السيّدُة زينب (عليها السلام) كلامَها بالقرآن الكريم، فقالت:

««ولا تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُوا في سَبيل الله أمواتاً بَلْ أحياءٌ عندَ رَبِّهم يُرْزَقُون، فَرِحِينَ بما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْله ... (2) وحَسْبُك بالله وَلياً وحاكماً»

لَعلَّ المقصود مِن قولها «وحَسْبُك بالله وليّاً وحاكماً» أي: وَليّاً للدَمَ، وآخِذاً للشار، فالإمامُ الحسين (عليه السلام) هو: وَصىُّ رسول الله، وسيّد أولياء الله تعالى، فمِنَ الطبيعي: أن يكون الله (عزّوجلّ) هو الطالبُ بِثاره، والوَليُّ لِدَمه، فهو الشاهِدُ المُصيبَة قَتْل الإمام الحسين، وهو القاضي، وهو الحاكم، فهُنا .. الحاكم والقاضي هو الذي قد شَهِدَ الجَريمة

ص: 446


1- كتاب «العين» للخليل، و «لسان العرب» لابن مَنظور، و «تاج العروس» للزبيدي. المُحقّق
2- سورة آل عمران، الآية 169 - 170

بِنَفْسِه، فلا يَحتاج إلى شهادة شُهود، وهو الّذي يَعرفُ عَظمةَ المقتول ظلماً، وهو الّذي يَعلمُ أهدافَ القاتِل مِن وَرَاء قَتْله للإمام، وهو يزيد.

«وبِرَسول الله خَصْماً، وبجبرائيل ظَهيرا»

لقد رُويَ عن الصحابي: إبن عباس أنَّه قال: «لمّا أشتَدَّ بِرَسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَرَضُه الّذي ماتَ فيه، حَضَرْتُه وقَد ضَمَّ الحسين إلى صَدْره، يَسيلُ مِنْ عَرَقِه عليه، وهو يَجُودُ بِنَفْسِه ويَقول: «ما لي ولِيَزيد! لا بارك الله فيه، اللهمَّ العَنْ يزيد».

ثمّ غُشِيَ عليه طويلاً وأفاقَ، وجَعَلَ يُقَبِّلُ الحسينَ وعَيناهُ تَذْرُفانِ ويَقول: أما إنَّ لي ولِقاتِلك مقاماً بينَ يَدَي الله». (1)

ثمّ صَعَّدَتْ السيّدةُ زينب (عليها السلام) مِن لَهْجَتِها في تهديد يزيد وإنذاره، مُغامَرةٌ مِنها في حَرْبها الكلاميّة ومُخاطرَتها في كشْف الحقائق، وإهانَتها للطاغية يزيد، فقالتْ:

«وسَيَعْلَمُ مَن بَوَاكَ ومَكِّنَكَ مِن رِقاب المسلمين أنْ

ص: 447


1- کتاب «الدُرّ النظيم» للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي، المُتوفى عام 676 للهجرة، الطبعة الأُولى، طبع ایران عام 1420ه-، ص 540، وهو يَنقُلُ ذلك عن «مُثير الأحزان»

بِئسَ للظالمينَ بَدَلاً، وأيُّكم شرِّ مَكاناً واضَلُّ سَبِيلاً»

مَكَّنَكَ: مَهَّدَ لِتسلُّطِك على كُرسيّ الحُكم على الناس والتَلاعُب بدماء المسلمين.

وهذا تَصْريحٌ مِن السيّدة زينب (عليها السلام) - أمامَ يَزيد ومَن كانَ حَولَه في مَجلِسه - بِعَدَمَ شرعيّة تَسَلَّطه على رِقاب الناس، بل وعَدَم شرعيّة سُلْطَة مَن مَهَّدَ لِيَزيد هذه السلطة وهو أبوهُ مُعاوية بن أبي سفيان، فهو الّذي يَتَحَمَلُ ما قامَ به يزيد مِن الجرائم، مُضافاً إلى ما تَحَمَّلَهُ هو مِن الجنايات وقَتْل الأبرياء. فسيكون عذابُه أشدّ، لأن جرائمَه أكثر ووِزْرَهُ اثْقَل. ولعلَّ هذا المعنى هو المقصود مِن قول السيّدة زينب - حِكايةً منها عن القرآن الكريم: «أيُّكم شرٌّ مَكاناً».

«وَما استِصْغاري قَدْرك، ولا استِعْظامي تَقْريعَك»

التَقْريع: الضَرْبُ مع العُنْف والإيلام.

وفي نسخة:

«ولَئِنْ جَرَّتْ علىَّ الدَواهي مُخاطبتَك، إنّي لأسْتَصْغِرُ قَدْرك، واستَعْظِمُ تَقْريعَك». (1)

ص: 448


1- کتاب «المَلْهوف على قَتْلى الطفوف» للسيّد ابن طاووس، ص 217

الدَواهي - جَمْع داهية - دَواهي الدَهْر: ما يُصيبُ الإنسان مِن نُوَبِه. (1)

لَعلَّ السيّدة زينب (عليها السلام) تَقْصُد - مِن كلاِمها هذا -: أنّ يا يزيد! مِن الصَعْب عليَّ جِداً أنْ أُخاطبَك، لأنّي في مُنْتَهى العِفّة والخِدارة، وأنتَ في غاية اللُؤم والحِقارة، ومِن الصَعْب عليّ أن أُخاطبُ رَجلاً نازِلَ القَدْر والمَكانة، لكنِ الضَرورة والظروف المؤسِفة وتَقلُّبات الدَهْر، جَعَلَتْني أكونَ طرَفاً لك في الخِطاب، لكي أُبيِّنَ لك، فظاعَةَ تَقْريعِك لِرأس اخي الإمام الحسين (عليه السلام).

»تَوَهُماً لإنتجاع الخِطاب فيك»

الإنتِجاع: إحتمالُ التاثير. (2)

المعنى: ليسَ هَدَفي مِن مُخاطَبَتِك إحتمال تاثير خِطابي فيك، بلْ هو رَدَ فِعْل طبيعي لِما شاهَدْتُه وأُشاهِدُهُ مِن المَصائب، وعسى أنْ يؤثّر كلامي في بعض الجالسين في هذا المجلس، ممّن خَفيَتْ عنهم الحقائق، بِسَبَب تأثير الدعايات، وأقولُ قَولي هذا.. لكي أُبطِلَ

ص: 449


1- المُعْجَم الوَسيط
2- كما يُستفاد هذا المعنى مِن كتاب «العَين» للخليل، و«المُعْجَم الوَسيط». المُحقّق

وأُدمَرَ ما أحْرَزْته مِن الإنتصارات المَوْهومة.

«بَعْدَ أنْ تَركْتَ عُيونَ المسلمين به عَبْری»

أي: مُغْرَورَقة ومَليئة بالدُموع بسَبَب استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بلا ذَنب، وبتلك الكيفيّة الفَجيعة!

«و صُدورَهُمْ عند ذِكْره حَرّى»

أي: مُلْتَهِبَة مِن الحُزْن والأسى، عند تَذكَّر ماجَرتْ عليه مِن المَصائب المُقْرِحة للقلوب.

وهذا أمرٌ طبيعي لِكلّ مُسْلمٍ - بل كلِّ إنسانٍ - لم تَتَغَيّر فيه الفِطرَة الأوّليّة الّتي فَطَرَ الله الناسَ عليها، فالتألّم مِن هكذا فاجعة.. هو رَدُّ فِعْلٍ طبيعي لِكلّ مَن تكونُ صِفَة العاطِفة سَليمة لَدَيه.

ثمّ ذكرتْ السيّدةُ زينب (عليها السلام) سَبَبَ عدم إحتمال تاثير ِخطابها في نَفْسيّة يزيد وحاشِيَته، فقالت (عليها السلام):

«فتِلْك قُلُوبٌ قاسِية، ونُفُوسٌ طاغية، وأجسامٌ مَحْشُوّة بِسَخَطِ الله ولَعنَةٍ الرسول، قد عَشّشَ فيها الشَيطانُ وفَرّخ»

ص: 450

مَحْشُوّة: أي: مَمْلوءَة.

إنَّ القلْب إذا صارَ قاسِياً، والنَفْس إذا أخَذَها الطغيان، فسَوفَ لا تكونُ الأرضيّة مُساعِدَة فيهما لِتَقَبُّل المَواعِظ والنَصائح.

يُضافُ إلى ذلك .. أنّ الشيطانَ الرَجيم إذا وَجَدَ التَفاعُل والتَجاوب مِن شَخْص، فسوف يَتَربَعُ في فِكْره وذِهْنه، ويَتَّخذه لِنَفسه عِشاً ووكْراً، ومَسْكَناً ومَحَلاً للإقامة فيه، ويكونُ بِمَنزلة جَهاز التَحكُّم في الأشياء، يَتَحكَمُ في مُيوله واتّجاهاتِه، فيُوَجِّهُ الشخصَ حيثما يُريد، ويأمرُه بأنواع الإنحراف والإنسِلاخ عن الفِطرة الإنسانيّة والعاطفة وجميع الصفات الحَميدة، ويُعطيه الجُرأة على اقتحام المَخاطر الدينيّة، فإذا أرادَ الشيطانُ مُغادَرة فِكْر هذا المُنْحَرف فإنّ هناك فراخه، أي: جُنوده، الّذين يَقومون مَقامه ويُؤدّونَ دَورَه في مُهمّة الإغراء والتَشْجيع على الجريمة مِن دون التفكير في مُضاعفاتها السَلْبيّة.

«ومِن هناك مِثْلك مادَرَج»

ومِن هناك: أي: وبسَبَب ذلك، ونتيجةً لتلك الأسباب. وقيل: «ما» في «ما درج»: زائدة.

دَرَج: يُقال: دَرَج الصَبيّ: أي: أخَذَ في الحَركة ومَشى

ص: 451

مَشْياً قَليلاً .. أوّل ما يَمشي. (1) وقيل: دَرَج أي: نَشَأ وتَقَوّى.

«فالعَجَبُ ُكلُّ العَجَب لِقَتْلِ الأتقِياء، وأسباطِ الانبياء، وسَليل الأوصياء، بايدي الطُلَقاء الخَبيثَة، ونَسْلِ العَهَرة الفَجَرَة»

الأتقياء - هُنا -: الإمامُ الحسين (عليه السلام) والمُسْتَشْهَدين مَعَه.

أسْباط - جَمْعُ سِبْط -: الحَفيد.

السَليل: الوَلَد.

العَهَرة - جَمْعُ عاهِر وعاهِرَة - الرجل الزاني، والمَرأة الزانية .

الفَجَرة - جَمْعُ فاجِر وفاجِرة -: الرجل أو المرأة الّتي تُمارس جَريمة الزنا والفُجُور.

حَقاً إنّه عَجيب، بل هو مِن أعجَب الأعاجيب أنْ يُقتَلَ أشرف وأطيب خَلْق الله تعالى على أيدي ذُريَّة العاهِرين والعاهِرات!!

ولكن.. هذه هي طبيعةُ الحياة الدُنيا، أنّها تكونُ

ص: 452


1- المُعْجَم الوَسيط

قاعةَ إمتحانٍ للأخيار والأشرار، وللذينَ يَضْربونَ أرقاماً قِياسِيّة في الطِيب أو الخُبْث.

ومِن هنا .. بَقِيتْ «فاجعةُ كربلاء» خالدةً إلى يوم القيامة، عند كلِّ مجتمع يَمتازُ بالوَعي والإدْراك، وفَهُم المَفاهيم والقِيَم الإنسانيّة، وكلّما إزدادَ البَشَر نُصْجَاً وفَهْماً أقبَلَ على دِراسة وتَحْليل هذه الفاجعة بصورةٍ أوسَع، والتفكير حولَها بشكلٍ أشْمَل، والكتابَة عنها بتفصيلٍ أكثر.

وقد شاء الله تعالى أن يَبقى هذا المَلَفُّ مَفْتوحاً لَدى العُقَلاء المؤمنين، ويُجدَّدُ فَتْحُه في كلّ عام، بَلْ في كلّ يوم، لِتَحْليل ودراسة جُزْئيّات هذه الفاجعة!!

ولخُلُودِ فاجعة كربلاء - وإمتيازها على بقيّة فَجائع وكوارث التاريخ - أسبابٌ مُتعدّدة، نَذْكُر بعضَها، لِيَعرفَ ذلك كلُّ مَن يَبْحَثُ عن إجابة هذا السؤال، ويُريدُ معرفة الواقع والحقيقة:

1 - إنّ الذينَ انصَبَّتْ عليهم مُصيبةُ القَتْل أو السَبْي .. - في هذه الفاجعة - كانوا هم أفضَلَ طبَقات البَشَر، وأشرفَ خَلْق الله تعالى .. رِجالاً ونِساءً، بل كانوا في قمّة شاهِقة، ودَرَجة عالية مِن العَظمة والجَلالة والإيمان بالله تعالى، والنَفْسيّة الطيّبة، بحيث لا مَجالَ لأن نَقِيسَ بِهِم

ص: 453

غيرَهم مِن البَشَر .. مَهْما كانوا عُظماء.

2 - إنّ الّذين ارتكبوا الجرائم - في هذه الفاجعة - .. كانوا أخبَثَ البَشر، وأكثرَ الناس لُؤماً، وأنزَلَهُم نَفْسيّةٌ.

3 - إنّ هذه الفاجعة مَهَّدَتْ الطريق لِسِلْسِلَة مِن الفَجائع والجَرائم والجِنايات، فأعطت الناسَ الجُراةَ بأنْ لا يَخافوا مِن أحَد، ولا يَلتزموا بعَقيدةٍ أو دين، فكانَ عمَلُ مُرتَكبي هذه الفاجعة.. بمنزلة تأسيس الأُسُس وفَتْح الطريق أمامَ كلّ خَبيثٍ ولَئيم، في أن يَقوم بما تَطيبُ له نَفْسُه القَذرة مِن الجرائم والجنايات!

ولقد جاءَ في التاريخ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) صَرَّح بهذه الحقيقة، أثناءَ مُقاتَلَيّه مع أهل الكوفة، فقال: «... . يا أُمّة السَوء: بِئسَما خَلَفْتُمْ محَمّداً في عِتْرته، أما إنّكم لَنْ تَقتلوا بَعْدِي عَبْداً مِنْ عِباد الله فَتَهابُوا قَتْلَه، بَلْ يَهُونُ عليكم ذلك عِنْد قَتْلكم إيّاي ... ». (1)

4 - إنّ طبيعة الحياة: هي أنّ التاريخ يُعيدُ نَفْسَه لكنْ .. مَع إختلاف الأفراد والاجيال، فكانَ ضَروريّاً على كلِّ مُسْلمٍ أنْ يَسْتلْهِم الدُروس والعِبَر مِن هذه الفاجعة الكُبرى، ويَقومَ بِدراستها ومَعرفة تَحليلها .. بِشكلٍ

ص: 454


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 45، ص 52

شامِل، لكي لا يَسْقط في الإمتحانات الإلهيّة الصّعْبَة، والمُنعَطفات الحادّة الخَطيرة، وحتّى لا تَتكرَّر مَآسي وفَجائع مُشابِهَة.

وحتّى لو تكرّرتْ ذلك فإنّه يُبادرُ إلى صُفوف الأخيار، ويَتَّخِذُ مَوقِفَ الإنسان المؤمن الّذي يَخافُ الله تعالى، ويؤمنُ بِيَوم الحِساب، وذلك لأنّ لَدَيه خَلْفيّة دينيّة واسِعة وشامِلة عن فاجعة كربلاء ومُضاعَفاتها.

5 - إنّ فَتْحَ مَلَف «فاجعة كربلاء» والبُكاء حِينَ قراءة أو سِماع تفاصيلها يعني: تأمين جاذِبيّة قَويَّة، تَجذِبُ الناس نَحوَ الدين ب- «إسم الإمام الحسين عليه السلام»، وبجاذبيَّة عاطفيّة لا يُمكن تَصَوُّر دَرَجَة قُوّتها!!

وهنا .. يَنبغي الإلتفات إلى حقيقة مُهمَّة، وهي: أنّ الادلَّة العَقْليَّة والإستدلالات المَنطقية - في مَجال دَعْوة الناس إلى الإلتزام بالدين - تَقومَ بِدَور الإقناع فَقط، لكنْ لابدَّ لذلك مِن عامِلٍ يَجذِبُ الناسَ لإسْتِماع هذه الأدلَّة، وأقوى عَوامِل الجَذْب هو: العامل العاطفي، وهو مُتوفّر في كلِّ بَنْدٍ مِن بُنُود هذه الفاجعة!

وهذه الجاذبيَّة لا تَقْتَصِرُ على جَذْبِ الناس نحو الدين فَحَسْب، بل تَجْذِبُهُم نحو الفضائل والأخلاق، والتَطبيق العَمَلي لِبُنود الدين، وتَعَلَّم مَعالم وعَقائد

ص: 455

وعِبادات الدين مِن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) .. لا مِن غيرهم.

فإنّ الله تعالى جَعَلَ شرطَ قَبُولَ الأعمال وِلاية اهل البيت وإِتِّباعَهُم، لا مُجَرَّد مَحبّتِهم، وجَعَلَ الله (عزّوجلّ) الإسلامَ الواقعي يَنْحَصِرُ في مَذهب أهل البيت، لا المَذاهِب الأُخرى .. حتّى لو كانتْ تلك المَذاهِب مُشْتَمِلَةٌ على ظواهر ومَظاهر دينيّة، فالمَظهَر وَحْدَه لا يَكفي، بَلْ لابدّ مِن التمسُّك بالمُحْتَوى الصحيح!

ولابُدّ مِن التوقيع الإلهي على شَرْعيّة ذلك المَذهَب، عن طريق نُزول الوَحي على رسول الله الصادق الأمين، أو ظهور المُعجزات مِن إمام ذلك المَذهَب.

ولذلك فقد اشتُهرَ وتَواتَرَ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله: «مَثَلُ أهلِ بَيْتي فيكُمْ كَسَفِينَةِ نوحٍ، مَن ركِبَها نَجى، ومَن تَخلَّفَ عَنْها غَرِق.

والآن .. نَعودُ إلى شَرْح كلمات خُطبة السيّدة زينب (عليها السلام):

تقول السيّدة: إنَّ قَتْلَ الأتقياء واحفاد الأنبياء وإبن الأوصياء، كانَ على أيدي الطُلَقاء الخَبيئَة، ونَسْل العَهَرة الفَجَرة.

إنّنا حينَما نُراجعُ التاريخ الصحيح نَجِدْ أنَّ الّذين

ص: 456

ارتكبوا فاجعة كربلاء الدامية كانوا مِن أولاد الحَرام!! بِدْءاً مِن يزيد، إلى ابن زياد، إلى الشمر، إلى العَشَرة الّذينَ سَحَقُوا جَسَد الإمام الحسين (عليه السلام) بَعْدَ شهادته، بِحَوافِرِ خُيولهم!!

ولإلتحاق كلّ واحدٍ مِنْهم بأبيه قصّةٌ مَذكورةٌ في كُتُب «عِلْم الأنساب». (1)

فقد جاءَ في التاريخ: أنّ إمرأة نَصْرانيّة إسمها: «مَيْسُون بنت بَجْدل الكلبي» زَنَتْ مع عبْد أبيها، فحَمَلَتْ ب- «يزيد» وبَعدَ الحَمْل بِشُهور تزوّجَها معاوية. (2)

وأمّا عُبيد الله بن زياد، فإنّ أُمَّهُ «مَرْجانَة» كانتْ مَشهورة - عند الجميع - بالزنا المُستمرّ!! (3)

وكلامُ الإمام الحسين (عليه السلام) مَشهور وصَريح بأنَّ عُبيدَالله وأباهُ زِياد كانا إبنَيْ زنا، حيث قال الإمام: «... ألا وإنّ الدّعيَّ ابنَ الدَعيّ قد ركزَ بينَ اثنَتَيْن: بَينَ السِلَّة والذِلّة، وهَيهات مِنّا الذِلَّة ...».

ص: 457


1- إقرأ كتاب «مَثالِبُ العَرَب» لهشام بن الكلبي وكتاب «إلزام النَواصب» للشيخ مُفْلح بن الحسين البحراني
2- کتاب «مَجالس المؤمنين»، ج 2، ص 547، نَقْلاً عن كتاب «مَثالب الصحابة»
3- كتاب «مَعالي السِبطين» ج 1، الفصل السابع، المجلس الرابع

وقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: «قاتِلُ الحسين (عليه السلام) وَلَدُ زنا». (1)

«تَنْطِفُ أكْفُهُمْ مِن دِمائنا»

تَنْطِفُ: تَقْطَرُ أو تَسِيلُ. (2)

والظاهر أنّ هذا الكلام - أيضاً - إستعارة بَلاغِيّة وتَعني السيّدة زينب (عليها السلام) تلك الأيدي والأكُفّ الّتي كانتْ تَضْربُ بسُيوفها ورِماحِها على أجسام آل رسول الله: الإمام الحسين ورجالِ أهلِ بَيته وأصحابه، فتَتقاطر أكْفُهُمْ وسيوفهم مِن دِماء أُولئك الطيّبين.

وتَتَحَلَّبُ أفواهُهُمْ مِن لُحومِنا»

تَتَحَلَبُ: يُقال: حَلَبَ فُلانٌ الشاةَ أو الناقةً: أي: إستَخْرجَ ما في ضَرْعِها مِن اللَبَن، واستَحْلَبَ اللَبَنَ: إستَدَرَهُ. (3) وتَحَلَّبَ فُوهُ أو الشيء: إذا سال. (4)

ص: 458


1- كتاب «كامل الزيارات» لإبن قولويه ص 79، حدیث 11، وكتاب «بحار الأنوار» ج 14، ص 183
2- على ما هو مذكور في أكثر كُتُب اللُغة. المُحقّق
3- كتاب «أقرب الموارد» للشرتوني
4- كتاب «العَين» للخليل بن أحمد

لعلَّ المراد: أنّه كما أنّ وَلَدَ الناقة تَتَحَلَّبُ وتَمتَصُّ بِفَمِها الحليبَ مِن مَحالِبِ أُمِّها، كذلك كانَ الأعداء يَمْتَصُونَ بأفواهِهم مِن لُحوم ودِماء آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَصّاً قَويّاً بِدافِع الحِقْد والبَغْضاء!!

وهذه - ايضاً - إستعارة بَلاغِيّة وكِنايَة عن شِدَّة حِقْدِهم وعِدائهم.

ويُمكن أنْ تكون هذه الكلمة إشارةً إلى ما فَعَلَتْه «هِنْد» جَدّة يزيد - في غَزوة أُحُد -: مِن شَقّها لِبَطن سَيّدنا حمزة بن عبد المُطّلب، وإخراجِها كبِده، ثمّ وَضْعِه في فَمِها ومُحاوَلَتِها أنْ تَمْضَغَهُ وتأكلَ مِنْه، حِقْداً منها عليه، لكونه عَمّاً لِرسول الله، وقائداً كفُوءاً في جيش المسلمين. (1)

«تلك الجُثَتُ الزاكية، على الجَبُوب الضاحِية»

الجَبُوب: وَجْهُ الأرض الصُلْبَة (2) وقيل: الجَبُوبُ: التُراب. (3)

ص: 459


1- المُحقّق
2- كتاب «العَين» للخليل بن أحمد
3- المُعْجَم الوَسيط

الضاحِية: يُقال ضَحا ضَحُواً: بَرَزَ للشّمس او أصابَه حَرُّ الشَّمس، وأرضٌ ضاحية الظِلال: أي: لا شَجَر فيها. (1)

إخبارٌ مِن السيّدة زينب (عليها السلام) عن مصيبة بَقاء الأجساد الطاهرة على وَجْه الأرض عِدَّة أيّام .. مِن غير دَفْن، تَصْهَرُها الشمس بأشِعَّتِها المُباشرة، كلّ ذلك .. رَغْم كونهم سادات أولياءِ الله تعالى.

«تَنْتابُها العَواسِل»

تَنْتابُها: تأتي إليها مَرَةٌ بَعْدَ مَرَة.

العَواسِل - جَمْع عاسِل -: وهو الذِئب. (2)

وهنا إحتمالان في المَقصود مِن هذا الكلام:

الإحتمال الأول: إنّ المقصود مِن «العَواسِل»: هم الّذين حَضروا يومَ عاشوراء لِقَتْل الإمام الحسين (عليه السلام) والصَفوة الطيّبة مِن ذُريّته وأهل بيته وأصحابه. عَبّرت السيّدة زينب (عليها السلام) عن أُولئك الأعداء بالذئاب، لأنّهم كانوا يَحْملون صِفَة الذِئاب وهى الإفتراس، ويُعبّر

ص: 460


1- المُعْجَم الوَسيط
2- وقيل : العَواسِل - جَمْع عَسَال -: وهو الرُمح. المُحقّق

عن هذا النوع مِن التَشْبيه - في عِلْم البَلاغة والأدَب – ب- «الإستعارة».

وقد استَعمَلَ الإمامُ الحسين (عليه السلام) هذا النوع مِن الإستعارة في خُطبته الّتي القاها قبلَ خروجه مِن مكّة نحو العراق، حيث قال - فيها -: «... . خُيّرَ لي مَصْرَع أنا لاقِيه، وكأنّي بأوْصالي تُقَطَّعُها عُسْلانُ الفَلَوات، بينَ النَواويس وكربلاء ...». (1)

وبناءً على هذا .. يكون المقصود مِن كلمة «تَنْتابُها» الهُجُوم المُتَوالي والغارات المُتَتالية الّتي كانَ الاعداء يَشِنّونَها على أصحاب الإمام الحسين وخِيامه.. يومَ عاشوراء.

الإحتمال الثاني: هو أنّ الشأن والعادةَ تَقتضي أنْ لو بَقيتُ جُثَتُ أُناس على الأرض - مِن غير دَفْن، وكانتْ المنطقة تَتَواجَدُ فيها الذئاب، فإنّها تأتي إلى تلك الجُثَث وتأكل مِن لحومها.

إلّا أنّ المعنى لم يَحصَل - بكلّ تأكيد - بالنسبة إلى الجَسَد الطاهر للإمام الحسين (عليه السلام) وأجساد أصحابه وأهل بيته الطيّبين، الّذين قُتلوا معه، وبَقيتْ أجسادهم على

ص: 461


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 44، ص 367. المُحقّق

الأرض لمُدّة ثلاثة أيّام، مِن غير دَفْن أو مُواراةٍ في الأرض، مِنْ دون أن يَتعرّض لها ذئبٌ أو أيُّ حيوان مُفْتَرسٍ آخَر.

«وتُعَفّرُها أُمِّهَاتُ الفَراعِل»

الفَراعِل - جَمْعُ فَرْعُل -: وَلَدُ الضَبُع. (1)

الظاهر أنَّ هذا الكلام - أيضاً - إستعارةٌ بلاغِيَّة، ولَعلّها تُشيرُ إلى أُولئك الأفراد العَشَرة الّذينَ ركبُوا خُيولَهم وسَحَقُوا جَسَد الإمام الحسين (عليه السلام) بَعْدَ قَتْله.. بِحَوافِر الخَيل، في يوم عاشوراء، أو اليوم الحادي عشر مِن المُحرّم.

قال الراوي: ثمّ نادى عمرُ بنُ سعد في أصحابه: مَن يَنْتَدِبُ للحسين فيُوطىءُ الخيلَ ظهْره؟

فانتَدَبَ منهم عَشَرة وهم: إسحاق بن حوية، وأخنَس بن مرثد، و حَکیم بن طفيل، وعمر بن صبيح الصَيداوي، ورجاء بن مُنقذ العبدي، وسالم بن خَيثمة الجعفي، وصالحُ بنُ وَهَب الجعفي، وواحِظ بنُ غانم، وهاني بنُ ثَبيت الحَضْرمي، وأُسيد بنُ مالك (لَعَنَهُمُ الله) فَداسُوا الحسينَ بِحَوافِر خُيولهم حتّى رَضُّوا ظَهْرَه وصَدْرَهُ!!

ص: 462


1- كتاب «أقرب المَوارد» للشَرتوني

قال الراوي: وجاءَ هؤلاء العَشَرة حتّى وَقَفُوا عند ابن زياد، فقال لَهُ أحَدُهم:

نَحنُ رَضَضْنا الصَدْرَ بَعْدَ الظهْر *** بِكُلِّ يَعْبوبٍ شَديد الأسْر

فقال ابن زياد: مَن أنتُمْ؟

قالوا: نَحنُ وَطَلْنا بِخُيولنا ظهرَ الحسين.. حتّى طحَنَّا جَناجِنَ صَدْره!!

فامَرَ لَهُم بجائزة.

قال ابو عَمرو الزاهِد: فَنَظرْنا في نَسَب هؤلاء العَشَرة، فَوَجَدْناهم جميعاً أولادَ زنا! (1)

«فلَئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتَجِدُ بِنا وَشِيكاً مُغْرَماً حِينَ لا تَجِدُ إلّا ما قَدَّمَتْ يَداك، وما اللُه بِظلّامٍ للعَبيد»

مَغْنَماً: الغَنيمة، وجَمْعُها: مَغانِم (2) وقيل: المَغْنَم: هو كلُّ ما حَصَلَ عليه الإنسانُ مِن أموال الحرب. (3)

ص: 463


1- کتاب «المَلْهوف» للسيد ابن طاووس، ص 182- 183
2- المُعْجَم الوَسيط
3- كتاب «لسان العرب»

مُغْرَماً: المُغْرَمَ: المُثْقَلُ بالدَين (1) أو أسير الدَين (2) وقيل: المغْرَمَ: مَصْدرٌ وُضِعَ مَوضِع الإسم، ويُرادُ به مُغْرَم الذُنوب والمعاصي. (3)

المعنى: يا يزيد! إنّك أمَرتَ بأسْرِنا، وتَعامَلَت جَلاوزتُك مَعَنا - في طريق الشام - تَعامُلَ السَبايا والغَنائم الحَربيّة، ولكن .. إعلمْ أنّك - في القَريب العاجِل - سَوفَ تَجِدُ نَفْسَكَ مُثْقَلاً بالذُنوب و مُحاصَراً بالمعاصي الّتي يَلْزَم عليك دَفْعُ ضَريبتِها، والدفاعُ عن نَفْسِك في مَحكَمة العَدْل الإلهيّة، حيثُ لا تَجِدُ مَعَك إلّا ما قَدّمَتْ يَداك: مِن جَرائم وجِنايات، والّتي مِنْ أبرَزها: سَبْي نِساء أل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وفي ذلك الحِين تَرى نَفْسك وَحيداً ذَليلاً مُهاناً، مِن غير مُحامٍ يُدافِع عنْك، ولا عُذْرٍ لِتُبرّرَ به أعمالك، ولا مالٍ لِتَدْفَعُه رشوةً وتُخلّص به نفسك، بل تَبقى أنت وأعمالُك!!

«فإلى الله المُشْتَكى والمُعَوَّل، وإليه المَلْجأُ والمُؤمَّل»

المُعَوّلُ: إسمُ مفعول بمعنى «المُسْتعان»، يُقال:

ص: 464


1- المُعْجَم الوَسيط
2- أقرب الموارد للشرتوني
3- کتاب «مَجْمع البحرين» للطريحي

عَوّلْتُ عليه: أي استَعَنْتُ به، وصَيَّرتُ أمْري إليه (1) وقيل: العَوْلُ: المُستَعان به، والعِوَلُ: الإتّكال والإستِعانة، يُقال: عَوَلَ الرجلُ عليه: أي: إعتَمَدَ وإتّكل عليه، واستَعانَ بِه. (2)

وبَعْدَ ما ذَكرَتْ السيدة زينب (عليها السلام) ما جَرى على آل الرسول الطاهرين مِن المصائب، تَقول «فإلى الله المُشْتكى» وعليه الإعتماد والإتّكال والإستعانة به .. لا إلى غيره، فقد كانَ تعالى: هو الشاهِدُ على ماجَرى، وسيكونُ هو المُنْتَقِمُ مِن الاعداء، المُقتَدرُ على إبادتهم وعُقوبتهم. «وإليه المَلْجأ والمُؤَّمل» فهو - سُبحانه - المَلْجَأ لَنا ولِبقيّة أفراد العائلة المُكرَّمة، وخاصّةٌ بَعْدَ فَقْدنا لسيّدنا الإمام الحسين (عليه السلام) وتَواجُدِنا في عاصمة بَني أُميّة، في قَيْد الأسْر والسَبي!

وهو «المُؤمّل»: الّذي نَأمَلُ مِنه أن يُعينَنا على ما أصابَنا، ويُعطينا الصَبْر الجَميل على تحمُّل ذلك، ويَمْنَحَنا الاجرَ الجَزيل إزاءَ ما لاقَيْناهُ مِن المكاره والنَوائب.

ص: 465


1- كتاب «العَين»، للخليل بن أحمد
2- المُعْجَم الوَسيط

ثمّ عادَتْ السيّدة زينب (عليها السلام) لِتَصُبُّ جاماً آخرَ مِن غَضَبها على المُجْرم الاصلي لِفاجعة كربلاء، وهو يزيد الّذي قامَ بتلك الجَرائم مُباشرةً، أو أصدَرَ الأوامِر لِعامِله اللَعين ابن زياد، الّذي نَفَّذَ أوامرَ يزيد مِن القتْل والسَبْي والضَرْب وغير ذلك.

وكأنّها تَرى أن كلَّ ما خاطبَتْه به غيرُ كافٍ لِما يَستَحقَّهُ مِن شَجْبٍ وتَعْنيف!

فقالتْ:

«ثمّ كِدْ كَيْدَك، واجهَدْ جَهْدَك»

الكيْدُ: إرادةُ مَضَرَة الغَير خُفْيَّة، والحِيلة السَيِّئة، والخُدْعة، والمَكْر (1)

جَهَدَ جَهْداً: جَدَ، ويُقال: طلب حتّى وَصَلَ إلى الغاية، والجُهْد: الوُسْع والطاقة. (2)

هذا كلامٌ يَطغى عليه طابعُ التَهْديد الشَديد، مِنْ سَيّدة أسيرة، ولكنَّها واثِقَة مِن نَفسها - أعلى دَرَجات الثِقَة - أنَّ جميعَ نِشاطات يزيد - والفُصول اللاحِقة مِنْ مُخَطَّطاتِه -

ص: 466


1- المُعْجَم الوَسيط
2- نَفْس المصدر

سَوفَ تَفْشَل، وسوفَ لا يَتَوَصَّل إلى أيّ واحد من أهدافِه!! بَلْ تَرجعُ عليه بشكلٍ مُعاكِس، فَكَرْسِيُّهُ يَتَزعْزع، وسُلطتُه تَضْعُف، وقُدرتُه تَذهَب!

فالسيّدة زينب (عليها السلام) تُريدُ أنْ تَقول ليزيد: إصنَعْ ما بَدا لك، مِن تَخطيطٍ وتفكير، وقَتْلٍ وإبادة، وسَبْي وأسْر، وابذِلْ ما في وُسْعِك مِن جُهود، فسَوفَ لا تَصِلُ إلى الهَدَف الّذي حَلِمْتَ به، وهو إسْتِئْصال شَجَرَةِ النُّبوَّةَ مِن جُذورِها .. بِكافّة أغصانها وفُروعها وأوراقها، وعَدَمُ إبقاء صَغيرٍ أو كبير مِن آل رسول الله .. رَجُلاً كان أو إمرأة!

«-فو الله الّذي شَرَّفَنا بالوَحي والكِتاب، والنُبُوَّة والإنْتخاب-»

القَسَم للتاكيد الأكثر، وهو - في الواقع - إنعِكاس آخَر لِعُلوِّ مُسْتوى درجة الثِقَة بالنَفْس والإتّكال على الله تعالى، واليَقين بما يَقولُه الإنسانُ ويَحْلِفُ مِن أجْله، وعِلْم السيّدة بِحَوادث المُسْتَقبل، وما سَتَؤولُ إليه الأُمورُ، فإنّ حوادثَ اليوم، وأحداثَ المُسْتَقبَل تُعتَبر ُ- أمامَ عَين السيّدة زينب عليها السلام - في حَدَّ سَواء، لأنّ الله تعالى مَيَّزَها عن بقيّة سيّدات البَشَر بأنْ يُوصَلَ إليها العُلوم مُباشرةً.. عن طريق الإلهام .. ودون التعلُّم مِن البَشَر،

ص: 467

ولِذلك فإنّ حَوداثَ المُسْتقْبَل معلومة وواضحة لها كاملاً كالحوادث المُعاصِرة، ومثالُها مثال مَنْ يُخرج رَاسَه مِن نافِذَة الغُرفة، فيَرى - بكلّ وُضوح - كلَّ ما هو موجود إلى آخر الشارع، وليسَ مِثالُها مِثال مَن يَجلسُ في غُرفةٍ ويَفْتَح النافذة فلا يَرى إلّا ما يُقابِل النافِذة فقط.

إنَّنا نَتَلمَّس - مِن كلمات القَسَم هذه - المَعْنويّات العالية الّتي كانتْ تَمتازُ بها السيّدة زينب (عليها السلام) حِينَ إلقائها لخُطبتها، فهي تَفْتخِرُ وتَعْتَزَ بِمَزاياها الفَريدة فَتَقول: «فو الله الّذي شَرَّفَنا بالوحَي والكِتاب»، فالقرآن الكريم نَزلَ على جَدِّ السيّدة زينب وهو رسول الله سيّدنا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي دارها.

وكذلك إختارَ الله هذه الأُسْرة وانتَخبَها لِتَكونَ فيهِمُ النُّبوَّةَ. وكأنّها تُعرّض بكلامها لِيَزيد: أن أنتَ بماذا تَعْتَز؟ وبماذا تَفْتَخِر؟!

وهلْ توجَد فيك فضيلة واحدة حتّى تَفْتخر بها؟!

ولَعلَّ السيّدة زينب كانتْ تَقصُد - أيضاً - إسماع الجماهير المُتَواجِدة في ذلك المجلس هذه الحَقائق، ومِنْ باب المَثَل الّذي يَقول: «إيّاك أعْني واسْمَعي يا جارَه».

وبعد كلمات القَسَم تَذْكر السيّدة زينب (عليها السلام) الأُمور الّتي أقسَمَتْ مِن أجْلِها:

ص: 468

لا تُدْرِكُ أمَدَنا، ولا تَبْلُغُ غايَتَنا، ولا تَمْحُو ذِكْرَنَا»

أمَدَنا الأمَد: الغايَة والنِهاية. (1)

أي: مَهْما بَذَلْتَ مِن الجُهُود، وحاولْتَ مِن المُحاولات، فسوفَ تَفشَل في ذلك، فقد حاوَلَ ذلك مَن كان قَبْلك. وهو معاوية - فلم يَستطع ذلك، رَغْمَ أنّه كانَ أقوى مِنْك.

«ولا يُرحَضُ عنْك عارُها»

يُرْحَضُ: يُغْسَلُ.

تُصرِّحُ السيّدةُ زينب (عليها السلام بحقيقة واقعيّة: وهي أنَّ العار والخِزْي وسَبّة التاريخ، سوفَ تكونُ مُلازمَةٍ لَيَزيد إلى الأبَد، ولا يَتمكّن مِن غَسْلها، لا هو .. ولا مَن سَيأتي مِن بَعْده مِن الشَواذ الّذين يُشاركونَهُ في الإتّجاه واللُؤم.

إنّ التاريخ يَقول: حينَما بَدأتْ الأُمور تَنْقَلب على یزید، فقد صارتْ مَجالس تَعليم القرآن الكريم .. في الشام يتَحدَّث فيها المُعلّم عن جَرائم يزيد في قتْله الإمام الحسين (عليه السلام) وسَبْيه نساء آل رسول الله، ثمّ بَدأ الناسُ يُنقبُونَ ويُنَبّشون في مَلَف يزيد، لِيَروا الفارق الواسع بينَ سيرته وأعماله، وبينَ ما سَمِعُوه او قَرَأوه عن سيرة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ص: 469


1- المُعْجَم الوَسيط

لمّا حَدَث كلُّ هذا.. بَدأ يزيدُ يُلْقي باللَوم على ابن زياد، وصار يَلْعَنُه ويَقول: إنّه قَتَلَ الحسين مِن تِلْقاء نَفْسه.

ولكنّ جميع هذه المُحاولات باءَتْ بالفَشَل والفضيحة الأكثر ليزيد!

«وهَلْ رَأيُك إلّا فَنَد، وأيّامُك إلّا عَدَد، وجَمْعُك إلّا بَدَد»

فَنَد: الفَنَدُ: الخَطا في القول والرأي. وقيل: الفَنَدُ: هو الكَذِب. (1)

لَعلّ المعنى: أنّ رأيك - في تخطيطك ومُحاولتِك للتخلُّص مِن مُضاعَفات جَريمتك - خَطا وضَعيف.

«وأيّامُكَ إِلّا عَدَد»

العَدَد: هو الكميّة المُتالّفَة مِن الوَحْدات، فيَخْتَصُّ بالمُتَعدِّد في ذاته. وعَدَد: للتقليل: أي: مَعْدود، هو نَقيضُ الكَثْرة. (2)

لَعلَّ المعنى: يا يزيد إنّ أيّامك الباقية مِن عُمْرك قليلة،

ص: 470


1- كتاب «تاج العروس» للزبيدي، و«العَين» للخليل بن أحمد
2- كما يُستفاد ذلك مِن كتاب «تاج العروس» للزبيدي

فسَوفَ لا تَبقى في هذه الحياة إلّا أياماً مَعْدودة، فأنتَ قَريب إلى الموت والهَلاك، وبَعْد ذلك سوف تلاقى جَزاء أعمالك، فالعذابُ منْك قَريب.

إنَّ جَريمَة قَتْل الإمام الحسين (عليه السلام) أثَّرَتْ تأثيراً سَلْبيّاً في مِقْدار عُمْرك، فجَعَلَتْه قَصيراً جدّاً.

فقد جاءَ في التاريخ: أن يزيد عاشَ بَعْدَ فاجعة كربلاء سنتين وشهرين وأربعة أيّام (1)، فلمْ يَتَهنَّا بُطول الحياة وطول مُدَّة السُلطة، كما كانَ يتمنّى ذلك، وكما كان يُتوقَّعُه بَعْدَ القضاء على مُنافِسِه - حَسَبَ زعمه - وهو الإمام الحسين (عليه السلام).

«وجَمْعُكَ إِلا بَدَد»

بَدَد: يُقال بَدَّهُ بَداً: أي فَرَّقَه، وبَدَّدَ الشيء: فَرَّقَه (2) والتَّبَدُّد: التَفرق. (3)

المعنى: سَوفَ يَتفرقُ جَمْعُك وجَلاوزتُك، وحاشِيتُك الّتي كُنتَ تَسْهَرُ مَعَهم على مائدة الخَمر والقمار والغناء،

ص: 471


1- ذكرَ ذلك الطبَري - المتوفّى عام 310 ه- - في تاريخه، طبع لبنان، ج 5، ص 499. المُحقّق
2- المُعْجَم الوَسيط
3- العين للخليل

فسوف يَغيبُونَ عن عَينك، لِمَرض أو موت أو تَتغيّر نَظرتُهم بالنسبة إليك، أو غير ذلك من الأسباب الّتي تَجعَلُ كلَّ يومٍ مِن الأيام يَحمِلُ لك حُزْناً وهَمّاً جَديداً، فلا تَتَهنَّا بِمَن حولك.

«يومَ يُنادي المُنادي: ألا لَعَنَ اللهُ الظالمَ العادي»

المعنى: يومَ تَموتُ، وتَسْمع صوتاً مُرعِباً لِمُنادٍ يُنادي - مِن عند الله تعالى: «ألا لَعَنَ اللهُ الظالمَ العادي» فأوّلُ شيءٍ تَراه بعد موتِك هو: سِماعك لهذا الصوت.

وكلمة «لَعَن اللهُ الظالمَ»: أي: أبعَدَه عن رَحْمَتِه وعَفْوه ومَغْفِرَته.

ثُمّ .. بَدأت السيّدة زينب (عليها السلام) تُمهِّدُ لِختام خُطبَتِها الخالِدة، فقالتْ:

«والحمْدُ لِلّه الّذي حَكَمَ لأولِيائه بالسَعادة، وخَتَمَ لأصْفيائه بالشَهادة، بِبُلوغ الإرادة»

حَكمَ لأوليائه: قَضى لَهم (1)، وقَدّر لَهم ذلك.

أصفيائه: الصَفيُّ مِن كلِّ شيء صَفْوُهُ، وجَمْعُه:

ص: 472


1- المُعْجَم الوَسيط

أصفياء. (1)

بِقَلْب مُفْعَمٍ بالإيمان بالله تعالى، والرضا بما يَختارُه اللهُ لِعِباده، بَدَأت السيّدةُ زينب (عليها السلام) تَخْتِمُ خُطبتَها بحَمْد الله سُبحانه الّذي قضى لأوليائه بالسَعادة، وتَقصُد مِن الأولياء - هنا -: الإمامَ الحسين (عليه السلام) - الّذي هو سيّد أولياء الله تعالى - وأصحابه الّذين قُتِلوا معه يوم عاشوراء، ونالوا - بِذلك - شَرفَ الشَهادة.

إنّ الإنسان الّذي يَلتَزِمُ بالدين، ويَصْنَعُ مِن نفسه وَليّاً لِلّه - وذلك بأدائه لِلَوازم العُبُودِية لله سبحانه - سوف يَحظى بِنَتائج إلهيّة فَريدة، وهي عبارة عن المِنّحِ المُمَيَّزة، والألطاف الخاصَّة الّتي يُفيضُها اللهُ عليه، والّتي لا تَشْمَلُ غيره مِن الناس، ومِن أبرز تلك الالطاف الخاصة: السَعادة الأَبديّة، ولَعلَّ إلى هذا المعنى الرفيع أشارَ اللهُ تعالى بِقَوله: «واللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء». (2)

إنّ أولياء الله تعالى كانوا يُفكّرونَ - باستمرار - في جَلْب رِضى الله سُبحانه.

أجَل .. كانَ هذا هو الهدف الّذي يُشْغِلون به بالَهم،

ص: 473


1- المُعْجَم الوَسيط
2- سورة البقرة، الآية 105

ويَتحرّكون في هذا المَدار ويَدورونَ حولَ هذا المِحْوَر.

ومِن الطبيعي أنّهم كانوا - ولا زالوا - على دَرَجات فهناك مَن يكون وَليّاً لِلّه تعالى منذ السنوات الأُولى من حَياته، وهناك مَن يَصير ولياً لِلّه تعالى في مَرْحَلة مُتَقدِّمة مِن العُمْر.

وعلى هذا الأساس يَقضي الله (عزّوجلّ) لَهم بالفَوز والتَفَوّق والسَعادة الأبَديّة، بجميع ما لهذه الكلمة مِن معنى.

وأحياناً يُقدّر اللهُ تعالى لهم بعضَ المكاره والصُعوبات، وذلك لأسْرارٍ وحِكَمِ يَعْلَمُها الله سُبحانه، فتَرى الأولياء يُظهِرونَ من أنفسِهم كلَّ إستعدادٍ وتَحمُّلٍ وتَقَبُّل لِتلك المكاره ويَستَقبلونَها بصدْرٍ واسع وصَبْر جميل.

وخَتَمَ الله تعالى لأْصفيائه بالشَهادة، فقد كانَت حياتُهم كلّها خَير وبَركة مُنْذ البداية إلى النهاية، فمن المؤسِف - حَقّاً أنْ يَموتَ الوَليُّ مِيْتَةٌ طبيعيةً على الفِراش، بل المُتَوقَّع لَه أنْ يوفّقه الله تعالى للشهادة والقَتْل في سَبيله، لكي تكونَ لِمَوته أصداءٌ تَعودُ للدين بالفائدة، كما كانتْ حياتُه كذلك.

فقَتْلُهم يوقِظُ الغافِلين غير المُلْتَزمين بالدين، ويَجْعَلُهم يُفكّرون ويَتَساءَلُون عن سَبَب قَتْله رَغم كونه

ص: 474

إنساناً طيّباً، ويَبْحَثُون عن هَويّة القاتل، وهَدفه مِن قَتْل هذا الرجل!

فتكونُ هذا الاصداءُ سَبَباً لِعَودة الكثيرين إلى الإلتزام الشَديد بالدين ومَبادِئه.

أليسَ كذلك؟!

ولَعلّ أولئك الأولياء هم الّذين أرادوا أنْ يكونَ خِتام حياتهم بالشهادة، وسَألوا مِن الله (عزّوجلّ) ذلك، فاستَجابَ الله - سُبحانه - لَهُم دُعاءَهم، وقَدَّرَ لهم الشهادة في سبيل الله تعالى، ولعلَّ هذا هو معنى كلام السيّدة زينب (عليها السلام): «بِبُلوغ الإرادة».

«نَقَلَهُم إلى الرَحمة والرَافَة، والرِضوان والمَغْفرة»

المعنى: نَقَلَهُم إلى عالَمٍ يُرَفْرِفُ على رؤوسهم رَحمة الله الواسعة المُخَصَّصة للشُهَداء في سَبيل الله تعالى، والرأفة: أي: العاطفة المَزيجة باللُطف والحَنان، الّتي لا تَشْمَل غير الشُهَداء الّذين باعوا أعزّ شيء لديهم - وهي حياتهم - للدين، وفي سبيل المحافظة على رُوح الدين الّذي كان يَتَجَسَّد في الإمام الحسين (عليه السلام)، وعدم الرُضُوخ لبيعة «يزيد» الكافِر.

«والرِضْوان والمَغْفرة» إنّ القرآن الكريم يُصرّحُ بأن أعلى

ص: 475

وأغلى والذَّ نِعْمَةٍ يَتَنَعَّمُ بِها بعضُ أهل الجنّة - وفي طليعتهم شُهَداء فاجعة كربلاء - هو شُعورُهم وإحساسُهُم بأنَّ الله تعالى راض عنهم، قال تعالى: «وَعَدَ اللُه المؤمنينَ والمؤمنات جنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنهارُ خالدينَ فيها ومَساكِنَ طَيِّبَةٍ في جَنَّاتِ عَدْنٍ، ورِضْوانٌ مِن اللهِ اكْبَرُ، ذلك هُوَ الفَوزُ العَظيم». (1)

هذا سِوى ما يُعيّن لَهُم مِن أنواع النِعَم والكرامة والإحترام اللائق.. الّذي لا مَثيلَ لَه في عالَم الدنيا!

يُضافُ إلى ذلك: أنَّ الرَجُل الذي يُقتَلُ في سبيل الله بِنِيّةٍ خالِصَة سَوفَ يَمرُّ نَسِيمُ العَفْو والمَغْفرة على ما صَدَر مِنه مِن مخالَفات، فيَصيرُ مَلَفُّه أبيض لا سَواد فيه.

إنّنا نَقرأ في دُعاء صلاة يوم عيد الفطر والأضحى: «... اللهُمّ وأهلَ العَفْو والرحْمة وأهلَ التَقْوى والمَغْفِرة»، وهذا لجميع المؤمنين التائبين، ولكنّ الشهيد يَمتازُ بمَزايا وتَسْهيلات خاصَّة قَرَّرها الله تعالى للشُهَداء فقط.

هذا إذا كانَ الشَهيدُ إنساناً عادِيّاً غيرَ مَعْصُومٍ مِن الذنوب، أمّا إذا كان مَعصوماً فلا توجَدُ في صحيفة اعماله

ص: 476


1- سورة التوبة، الآية 72

ذُنوبٌ أو مَعاصي، فيكون معنى «المَغفرة» بالنِسْبة إليه عُلوّ درجته في الجَنَّة، واختصاصه بمِنَح فَريدة كالشفاعة للآخَرين، وغير ذلك مِن المُمَيّزات.

وأمّا سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فقد خاطبَهُ اللهُ تعالى - بقوله -: «يا أيّتها النَفْسُ المُطمَئِنَّة: إرجعي إلى ربّكِ َراضِيَةً مَرْضِيَّة، فادْخُلي في عبادي وادْخُلِي جَنَّتي»، فقد رُويَ عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنَّ المقصود والمُخاطَب بهذه الآية: هي نَفسُ الإمام الحسين (عليه السلام). (1)

وكم تَتَضمَّن هذه الآيات مِن كلمات وضمائر عاطفيّة!!

«ولمْ يَشْقَ بِهِم غيرُك»

المعنى: إنّ الّذي صارَ شَقيّاً وتَعِيساً ومَطروداً مِن رَحمة الله.. هو أنتَ یا «یزید»،.. بسَبَب قَتْلك إيَّاهم وقَضائك على حَياتهم، وطعْنِك في قَلْب الإسلام النابض وهو الإمام الحسين (عليه السلام).

ص: 477


1- كتاب (تفسيرُ البُرهان) للسيّد هاشم البحراني، عند تفسي الآية 27 - 30 مِن سورة الفَجْر. المُحقّق

«ولا ابتُليَ بِهِم سِواك»

إنّ الّذي امتُحنَ بالقُدرة والسُلْطة ومُشاهَدة كُرسيّ المُلْك الّذي مَهّدَه له معاوية، فاراد القضاء على كلِّ مَن لا يَركع لَه، وبذلك سَقَط في الإمتحان سُقوطاً ذَريعاً هو أنتَ أيّها الخامِلُ الحاقِد!

أمّا الّذين قُتِلوا مَعَ الإمام الحسين (عليه السلام) ونالُوا شَرَفَ الشهادة مَعَه .. فهُمْ قد نَجَحوا في الإمتحان نجاحاً باهِراً وفَوزاً مُتوالياً مُتواصِلاً، أي: كما كانوا مِن قَبْل الشَهادة - أيضاً - في مَرحلةٍ عاليةٍ مِن سَلامة الفِكْر والعقيدة والسُلوك، والطاعة التامّة لإمام زَمانهم الحسين (عليه السلام).

فَهُمُ - الآن - في أعلى دَرَجات الجِنان والّتي يُعبَّرُ عَنْها ب- «الفِرْدوس الأعلى».

أما انت - يا يَزيدُ - فسوفَ يكونُ مَصيرُك في أسفل دَرَك مِن الجَحيم، وفي ذلك التابوت الذي يُمَوِّنُ جميعَ طبقات جَهنّم بالحَرارة العالية الّتي لا يُمكن للبَشر - في هذه الدنيا - أن يَتصوَّر دَرَجة حَرارتها وشِدّة اشْتِعالها.

قال تعالى - بالنسبة لأهل النار-: «وياتيه المَوتُ مِن كلّ مَكان وما هو بمَيّت» (1) وقال (جَلّ ثَناؤه) «وقالوا:

ص: 478


1- سورة إبراهيم، الآية 17

یا مالِك! لِيَقْضِ علينا ربُّك؟ قال: إنّكم ماِكثون». (1)

«ونَسْاله أنْ يُكمِلَ لَهُمُ الأجْر، ويُجْزِلَ لَهُمُ الثَواب والذُخْر»

أكمَلَ الشيءَ: أَتَمَّهُ، وفي القرآن الكريم: «اليومَ اكمَلْتُ لكم دِينَكم» (2) ويُقال - أيضاً -: الكَمَلُ: الكامِل، يُقال: أعطاهُ حَقَّه كمَلاً: وافياً. (3)

يُجْزِلَ: الجَزْلُ: العَطاء الكثير، ويُقال: أجزَلَ العَطاء. (4)

والجَزْلُ: الكثير مِن كلِّ شيء. (5)

الثَواب: الجَزاء والعَطاء (6)، وقيل: هو الجَزاء الّذي يُعطى مَعَ الإحترام والإجلال والتقدير .. وليسَ مُجَرَّد

ص: 479


1- سورة الزخرف، الآية 77
2- سورة المائدة، الآية 3
3- المُعْجَم الوَسيط
4- كتاب «العَين» للخليل بن أحمد
5- المُعْجَم الوَسيط
6- نَفْس المصدر

إعطاء الجزاء (1)

الذُخْر يُقال: ذَخَرَ لِنَفْسه حَديثاً حَسَناً. (2)

المَعنى: ونَسال الله تعالى أن يُكمِلَ لهم الجَزاء المُخَصَّص للشُهَداء جَزاءً تامّاً يَليقُ بِتَقدير الله سبحانه للشُهداء المُخْلِصين، الّذينَ تَركوا زَوَجاتهم أرامِل، وأطفالهم أيتام، وأُمَّهاتِهم ثُكالى .. كلُّ ذلك .. في سبيل الله!

فيُعْطيهم العَطاءَ الكثيرَ الوافِر، مَعَ الإحترام والتَقْدير، إذْ قد يَدْفَعُ الإنسانُ الأُجْرة إلى العامِل .. مِن دون أنْ تكونَ كيفيّةُ الإعطاء مَقْرونةً بالإحترام، أمّا الثَوابُ: فهو إعطاءُ الأجْر .. مَعَ الإستقبال الحارّ، والإحترام والإبتسامة واللُطف.

ويَكتُبَ لَهُم الثَناءَ الجميل والذِكْرَ الحَسَن، على السِنة الناس وفي صَفَحات التاريخ.

وقد استجابَ الله تعالى دُعاءَ السيّدة زينب العظيمة عليها السلام، فقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «ما مِنْ عَبْدِ شَرِبَ الماء فَذكرَ الحسينَ (عليه السلام)

ص: 480


1- كما يُستفاد مِن كتاب «مَجْمَع البحرين» للطريحي
2- المُعْجَم الوَسيط

ولَعَنَ قاتِلَه إلا كَتبَ اللهُ لَه مائة الف حَسَنة، وحَطَّ عَنْه مائة ألف سَيِّئة، ورَفَعَ له مائة الف دَرَجة، وكأنّما أعتَقَ مائة ألف نَسَمة، وحَشَرَهُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ تَلْجَ الفُؤاد». (1)

ورُوي عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) أنّهما قالا: «إنّ اللهَ تعالى عَوَّضَ الحسين (عليه السلام) عَنْ قَتْله أنْ: جَعَلَ الإمامة في ذُريّته، والشِفاء في تُرْبَتِه، وإجابَة الدُعاء عند قَبْره، ولا تُعَدُّ أيّامُ زائريه .. - جائياً وراجِعاً - مِن عُمره». (2)

وقد رُوي - ايضاً - عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه أمَرَ رجلاً كانَ يُريد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) أن يَزورَ قُبورَ الشهداء - بعد الفراغ مِن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) - ويُخاطبَهم بهذه الكلمات:

«... . بأبي أنتُمْ وأمّي طبْتُمْ وطابَتِ الأرضُ الّتي فيها دُفِنْتُمْ، وفُزْتُمْ فَوزاً عظيماً ... .».

ص: 481


1- كتاب «كامِل الزيارات» لإبن قولويه، ص 106
2- کتاب «بحار الانوار» ج 44، ص 221، باب 29، نَقْلاً عن كتاب أمالي الطوسي

«ونَسْالُهُ حُسْنَ الخِلافَة، وجَميلَ الإنابَة، إنّه رَحيمٌ وَدود»

الخِلافة: يُقال خَلَفَ فلانٌ فُلاناً .. خَلْفاً وخِلافَةٌ: جاءَ بَعْدَه فَصارَ مَكانه (1). وفي الدعاء: أخلَفَ اللهُ لَك وعليك خيرا».

وفي الدعاء أيضاً: «واخلُفْ على عَقِبِه في الغابِرين».

الإنابة: الرجوعُ إلى الله، قالَ سُبحانه: «إرجعي إلى رَبِّكِ».

المعنى: ونَسْأَلُ الله تعالى أنْ يُخَلَّفَ لَنا عَمَّنْ فَقَدْنَاهُ أفراداً صالحِين، يَسُدّون بعضَ الفَراغ الّذي تَركه مَقتَل أُولئك الصَفْوَة الطيّبة مِن رِجال آلِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنْ يَجْعَلَ فِي البَقيّة الباقِية مِنْهم خَيراً.

أو: أنْ يَجْعَلَ مُسْتَقْبَلَنا مُستقبلاً حَسَناً مُريحاً، بَعْدَ ما شاهَدْنَاهُ وعانَيْناهُ مِن المصائب الفَجيعة الّتي لَنْ تُنسى!!

إنتَهتْ السيّدة زينبُ البَطلةُ الشُجاعَة، مِن إلقاءِ خُطبَتِها الخالِدة.

والآن .. تَوَجَّهَتْ أنظارُ الحاضرين إلى يزيد الحاقِد

ص: 482


1- كما يُستفاد مِن مَجْمَع البحرين للطريحي

لِيَروا منه رُدُودَ الفِعْل.

فما كان مِنْه سِوى أنّه عَلّق على هذه الخُطبة المُفَصَّلة بِقوله:

يا صَيحةً تُحْمَدُ مِن صَوائحِ *** ما أهونَ الموت على النوائحِ (1)

فهلْ إنعَقَدَ لسانُه عن إجابة كلِّ بَنْد مِن بُنُود تلك الخُطبة؟!

أمْ أنَّ أعصابَه أُصيبَتْ بالإنْهيار والاهتزاز، فلم يَسْتَطعْ التركيز والرَد؟!

أمْ رأى أنَّ الإجابة والتَعْليق يُسبِّبُ له مَزيداً مِن الفَضيحة أمامَ تلك الجماهير الغَفيرة الحاشِدة في المَجلس، فرأى السكوتَ خَيراً له مِن خَلْق أجواء الحِوار مع إبنة الإمام أمير المؤمنين (عليها السلام) الّتي ظَهَرتْ جِدارَتُها الفائقة على مُقارَعَة أكبر طاغوت، بكلامٍ كلّه صِدْقٌ، واستدلالٌ منْطقي وعَقْلي مُقْنِع. وخاصةً أنّ

ص: 483


1- وفي نسخة: «ما أهونَ النَوْح على النوائح» ولَعلَّه (لعنَه الله) يَقْصُد مِن قراءته لهذا الشعر: أنّها إمرأة مَفْجُوعة .. دَعْها تَتكلّم بما تُريد، فإنّ ذلك لا يُهمّني! المحقّق

الجُملات الأخيرة - الّتي كانتْ تَحمِل في طَيّاتها التَهديد المُرْعِب - جَعَلَتْ يزيد يَنهار رَغمَ ما كان يَشْعُرُ به مِن تَجبرُّ وكِبرياء. (1)

ص: 484


1- لقد ذُكرت خُطبة السيّدة زينب (عليها السلام) في مجلس يزيد في المصادر التالية: 1 - كتاب مَقتَل الإمام الحسين عليه السلام للخوارزمي ج 2 ص 63. 2 - كتاب نَثْرُ الدرر، لمنصور بن الحسين الآبي، المتوفّى عام 421 ه-، طبْع مِصْر، ج 4، ص 26. 3 - كتاب بَلاغات النساء لإبن طيفور، المتوفّى عام 280ه-. 4 - كتاب (معالي السبطين) للشيخ محمّد مهدي المازندراني الحائري. 5 - كتاب «تَظلُّم الزهراء» للقزويني، طبْع بيروت، ص 283. 6 - كتاب «الإيقاد» للسيّد الشاه عبد العظيمي ص 173. المُحقّق

نَصّ خُطبة السيّدة زينب على رواية أُخرى

لقد ذكرْنا أنّ السيّد ابن طاووس قد رَوى خطبة السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) بكيفيّةٍ تَختَلف عَمّا ذكرناه، وتَمتاز ببعض الإضافات والفُروق، ولا تَخْلو مِن فَوائد، وإليك نَصُّها:

قال الراوي: فقامتْ زينبُ بنتُ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالت:

«الحمدُ لله رَبِّ العالَمين، وصلّى الله على محمّد رسوله وآله أجمعين، صَدَقَ اللهُ سبْحانه، كذلك (1) يَقول: «ثمّ كانَ عاقبةَ

ص: 485


1- وفي نسخة: إذْ يَقول

الّذين أساؤا السُوئى أنْ كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يَسْ