اسم الكتاب ...... نظرة سريعة الى حياة نبيّ الاسلام صلی الله علیه وآله وسلم
المؤلف...... لجنة التحرير في طريق الحق
المترجم...... الشيخ محمّد علي التسخيري
الناشر...... مؤسسة في طريق الحق
عدد النسخ......3000
المطبعة....... سلمان الفارسي
الطبعة ....... الثانية
تاريخ النشر...... 1425 ه- ق - 2004م
ISBN: 964 - 6425 - 69-0
السعر 1600 تومان
ص: 1
نظرة سريعة
الى
حياة نبي الاسلام(صلی الله علیه وآله وسلم)
المؤلف:
لجنة التحرير في طريق الحق
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 3
من جملة النشرات التي صدرت عن مؤسسة «في طريق الحق» دورتان هما الثالثة والرابعة وتضمّان شرحاً مختصراً لحياة نبي الإسلام (صلی الله علیه وآله وسلم)، ويتخلّل في الاثناء الجوابُ على الشبهات والتخرصات التي اطلقها اعداء الإسلام، وقد طُبعت هاتان الدورتان باللغة الفارسية عدّة مرات وتم توزيعهما بين الشباب، ثم تُرجمتا الى اللغة العربية وأرسلتا الى الشباب المسلم خارج ایران عن طريق المراسلة ، وقد لقيتا اقبالاً منقطع النظير.
وهذا الكتاب هو مجموع تلك الاعداد العشرين قد نُظمت و طُبعت بهذا الشكل، كما نشرت المجموعة نفسها باللغة الفارسية تحت عنوان «نگرشی کوتاه به زندگی پیامبر اسلام صلی الله علیه وآله وسلم». نسأل الله تعالى، ان يوفقنا لخدمة الإسلام وان يدعم الثورة الإسلامية في ايران التي انطلقت بقيادة الإمام الخميني لتشمل العالم الإسلامي فيتقارب المسلمون، ويتكاتفون لينهضوا في سبيل نشر الحقائق الإسلامية وتطبيق القيم الدينية فيحلّق الإنسان في الآفاق الرفيعة للاسلام.
لجنة التحرير
مؤسسة في طريق الحق
ص: 4
العالم و العرب
قبل ظهور الاسلام
ص: 5
بسم الله الرّحمن الرّحيم
كان الناس في كل أنحاء العالم قبل أن تشعّ أنوار الرّسالة الإسلامية يعيشون وضعاً مؤسفاً للغاية من الناحية العقائدية و الفكرية، وفي شؤونهم الفردية والاجتماعية.
ولئن كانت مناطق العالم تتفاوت في بعض الأمور إلّا أن القاسم المشترك بين أفراد البشرية أينما وجدوا آنذاك كان متمثلاً في الانحراف الفكري، التقاليد الاجتماعية البالية سيطرة الخرافات والأساطير على العقول والاذهان، والمشاكل الاجتماعيّة والاخلاقيّة.
***
فقبل ظهور الإسلام كان اليهود قد غيّروا الدين الذي جاء به النبيّ موسى (علیه السلام) واظهروا أصوله بصورة جامدة متحجّرة وافرغوها من محتواها الحقيقي واشاعوا الرّوح المادية في حياة الناس.
والمؤسف أن المسيحيّة التي كان النبيّ عيسى (علیه السلام) قد حمل رسالتها من قبل الله تعالى الى الناس لتهذيب الأخلاق وتطهير النفوس وتخليصها السيطرة المادية البشعة ... هذا الدين هو الآخر وقع تحت تأثير رجال الكنيسة فغيّروا من روحه واستغلوه لمنافعهم الشخصيّة وتحوّل الى سيف مصلت على رقاب الناس، اضف الى ذلك أن المسيحية بطبيعتها لم تكن
ص: 6
حاوية للقوانين الكاملة في تقرير الانظمة الاجتماعية المتعددّة، وهكذا كانت النتيجة أن بقيت عاجزة عن قيادة البشريّة المعذبة ونجاتها.
ومن هنا نعلم كيف كان الناس في شتّى مناطقهم - المتدين منهم وغير المتدّين - شركاء في التقاليد المغلوطة وسيطرة الخرافات والاساطير والغرق في الاوهام والمشاكل المتنوّعة.
فشعلة الفساد تستعر ... الخرافات والأوهام تتحكّم في مصير الناس باسم العقيدة والمذهب.
الشرك في العبادة، والتثليث في الالوهيّة حمل الاذعان به على الناس تحميلاً، الكثيرون توجهوا العبادة الاصنام، النار، البقر والنجوم. والأنكى أو الأمر من هذه وتلك، عبادة الشهوة والفروج والتي كان لها رواج حينذاك. إن هذا الفساد المستشري والانحطاط الاخلاقي والتدهور المعنوي الذي كان ناشراً ظلاله السوداء على كل بقعة من بقاع الارض كان سبباً وموجباً للتخبّط والانحراف في المجتمع البشري، ولإراقة الدماء والظلم والعدوان وفي الواقع كانت البشرية على مشارف الهلاك والسقوط الابدي.
كان للجزيرة العربية - التي سميت بالارض المحروقة - وضع عجيب فالصحاري الجرداء القاحلة والوديان الجافّة والتلال الصخريّة ، هي كل ما تشكلّه هذه المنطقة التي كانت قليلة الماء وغير ذات زرع، حشائشها كانت عبارة عن الاشواك والحسك، وبيوتها كانت اكواخاً ضيّقة يسكنها موجود يسمى ب (الإنسان) يعيش في اغلب الاحيان على التمر والماء الآسن ليسدّ رمقه .
الحروب والصراع القبلي كانت هي اساس النظام الاجتماعي لسكان شبه الجزيرة العربية، ولم تعد مدينة مكّة المكرّمة سوى معبد للاصنام،
ص: 7
ولم يكن اغلب ساكنيها غير مجموعة من أهل المنافع وآكلي الرّبا الذين يمتصّون دماء الآخرين لأجل الدرهم والدينار.
***
الحياة القبلية لسكان البادية العربية، واتخاذ الكثير من حياة الرعي بالاضافة للاقطاع البغيض كل هذا كان مصدر عذاب شديد لهؤلاء السكان، الحالة الاقتصادية المتردية الناشئة من استغلال رؤساء القبائل والمرابين قد محى مفهوم الحياة الإنسانية وحوّل جوّ السعادة الاجتماعية الى جوّ مظلم مشحون بالمآسي والآلام . لقد كانت مجموعة الأثرياء المرابين التي اتخذت من التجارة عملاً ومهنة في مكّة المكرّمة قد بدأت بجمع الأموال والثروات الطائلة من طرق غير مشروعة، واخذت باستغلال الطبقات الضعيفة الفقيرة استغلالاً بشعاً وكان هذا في الواقع معمّقاً للتفاوت الظالم بين طبقات المجتمع الواحد .
وكانت القبائل العربية بسبب الجهل الذي كانت تعيشه آنذاك، قد اتخذت من الاصنام والمظاهر الطبيعية معبودات لها وحوّلت الكعبة الشريفة الى بيت للاصنام(1) لقد كانت أي عادة العادات الخاطئة أو من أي تقليد من تقاليدهم وسنّتهم البالية آنذاك، كافياً لوحده أن يحطم ويمحي عظمة أي اُمّة؛ ان الوضع الذي أوجدته الانحرافات اللاانسانية في المجتمع العربي قبل الإسلام كان وضعاً ثمرته الفساد والتردّى وغذاؤه لحم الإنسان، وشعاره الخوف والقلق، ومنطقه ودليله السيف.
وكان العرب يحسبون ويتخيّلون أن الافضلية والرفعة هي للعربي والعربي فقط دون غيره من الناس، وإن للدم العربي والعنصر ميزة تجعله أعلى شأناً من الآخرين وهكذا ترى أن جذور القوميّة والعنصرية المتفشية
ص: 8
في عصرنا هذا ترجع الى تلك الجاهلية الأولى التي شكلتها بلونها الخاص، وحتى بين العرب انفسهم؛ كان التفاضل موجوداً على أسس خاوية موهومة كزيادة الولد وكثرة المال وبها كانت القبيلة تفتخر على اختها، والإنسان على أخيه .
كانوا يعدّون القتل وسفك الدماء شجاعة وبطولة، وكان السطو والاغارة الوحشيّة والعدوان، والتجاوز والظلم، بعضاً من مفاخرهم، وكانت غيرتهم المفرطة هي في دفن بناتهم البريئات وهن على قيد الحياة، وكانوا -كما يحدثنا القرآن الكريم عنهم-: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأُنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ)(1) ويظل منتهزاً أي فرصة ليدسها في التراب حيّة لأنه بهذا العمل - حسب تفكيره - الأرعن - يغسل العار عن نفسه ويجّنب نفسه وعشيرته فضيحة وعار سبيها إن أغارت عليهم القبائل في المستقبل، وهذا هو الإمام أمير المؤمين (علیهه السلام) في إحدى خطبه المذكورة في الكتاب الخالد نهج البلاغة يقول واصفاً الحياة الاجتماعية للعرب:
«وانتم معشر العرب على شرّدين وفي شرّ دار، منيخون بين حجارة خشن، وحيات صمّ تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم،وتقطعون ارحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة »(2) .
وهكذا نجد ان سكان شبه الجزيرة العربية كانوا يعيشون وسط لجّة من الفساد والتردّي، وقد تحوّلوا بسبب الجهل واللامبالاة الى مجموعة وحشيّة، طالبة للهوى قد أخذ منها الفراغ مأخذه فعاشوا الضياع وابتلوا بالخرافات والأساطير، شأنهم في ذلك شأن أكثر سكان العالم من معاصريهم(3).
ص: 9
ومن البديهي أنه يلزم لاصلاح وبناء مثل هذا المجتمع الخاوي والمتردّي، انقلاب اساسي وشامل لكل الجوانب الحياتية للانسان، كما ان من اللازم والضروري أن يكون قائد هذه النهضة الشاملة رجلاً مؤيّداً بقوى السماء ومنتخباً من قبل الله تعالى لكي يبقى بعيداً عن احتمال جرّ المنافع الشخصية والتعدّي على حقوق الآخرين، والقضاء على جميع الشخصيين بحجّة «التصفية».
نعم لابدّ ان يكون هذا القائد رجلاً إلهياً يعمل فى سبيل الله وحده ويعمل لأجل رفاه وسلام وتقدّم المجتمع البشري كلّه، لأنه وبدون شك اذا كان القائد لا يتمتع بالرّوح المعنويّة والاخلاق العالية ولم يكن للملكات والصفات الانسانية الفاضلة وجود في شخصيّته، مثل هذا القائد لا ولن يتمكن من اصلاح مجتمع أو نجاة اُمة.
إن القادة المؤيّدين بنصر السماء هم وحدهم فقط القادرون على إيجاد التغيير الجذري العميق البنّاء في الشؤون الفرديّة والاجتماعيّة للبشرية.
والآن لابدّ أن ننظر الى شخصيّة القائد الجديد لعمليّة الانقلاب العالمي، وما هي التغييرات التي أحدثها في هذا العالم.
ص: 10
النبي محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)
ولادته وطفولته
ص: 11
... كانت مدينة مكّة المكّرمة غارقة في ظلام وسكون ثقيلين ولا يطالع الناظر اليها أية مظاهر للحيويّة والنشاط، اللهم إلّا ذلك القمر الدؤوب الذي بدأ كعادته كل يوم يتحرّر من خلف تلك الجبال الجرداء المسودة، ويرتفع الآفاق رويداً رويداً لينشر أشعّته الفضيّة الهادئة على تلك البيوت البسيطة الغريبة عن تعقيدات المدنيّة وتجمّلاتها .
وبدأ الليل يتجاوز منتصفه قليلاً، نعمّ أرض الحجاز القاحلة نسيم لطيف عذب جعلته يخلد الى الراحة وينعم بالهدوء، والنجوم هي الأخرى بدأت في تلك اللحظات الحلوة تضفي على ذلك المشهد الطبيعي صفاء مّا، وتعكس بلألأنها على الأرض الطيبة جاذبية وسحراً وتطالع ساكني مكّة المكرّمة بابتسامة عذبة جميلة ... وحان وقت السحر وطفقت طيور السحر الساحرة تعزف ألحانها البريئة التي تحيي القلوب بنغماتها الموسيقية وكأنها تناجي الحبيب في ذلك الجو الفردوسي العابق، ومع أن آفاق مكة كانت بانتظار فجرها اللاحب الحبيب إلّا أن سكوتاً مبهماً محيرّاً لم يزل متحكماً في هذه المدينة .
الجميع كانوا في نومهم العميق إلّا آمنة بنت وهب (سلام الله عليها)، فقد كانت يقظة وبدأت تحسّ بالألم الذي كانت تنتظره ... الألم الذي أخذ يشتدّ ويشتدّ ... وفجأة رأت في غرفتها عدّة نساء تعلوهنّ المهابة ويجللهنّ النّور، وتفوح منهن روائح زكية لم تعهدها آمنة (سلام الله علیها) من قبل، وتحيّرت
ص: 12
ل
آمنة (سلام الله علیها ) في شأن هؤلاء النسوة المجهولات وكيف استطعن الدخول من الباب الموصدة(1)!....
ولم يطل تحيرها إذ جاء الى الدنيا وليدها الحبيب، وبهذا قرّت عينها بعد شهور من الانتظار بوليدها الذي أطلّ على الدنيا في سحر اليوم السابع عشر من ربيع الأول(2) وفرح الجميع بهذا المولود المبارك الذي أنارت طلعته بيت آمنة (سلام الله علیها) المظلم، والتي افتقدت في تلك الحالة زوجها الذي لم تمهله يد الموت ليتسنى له رؤية الوليد الحبيب، إذ اختطفته حين رجوعه من الشام، فتوفي في يثرب ودفن هناك، حيث ترك آمنة (سلام الله علیها) وحيدة مع جنينها الذي كان يؤنس وحشتها القاتلة(3).
ولد محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وصاحبت ولادته حوادث مختلفة سواء في السماء أو في الأرض، وخاصة في الشرق الذي كان مهد حضارة ذلك العصر، وجاءت هذه الحوادث وكأنها تريد ان تؤدّي دور وكالات الأنباء السريعة في عصرنا هذا التنبيء عن وقوع حادث خطير.
ولأنه كان مقدراً لهذا الوليد الجديد أن يحطّم طواغيت عصره ويقضي على كل تلك العادات والسنن البالية ليقيم على انقاضها أُسس التقدم والرقي البشري ... لهذا كله كان لابدّ لصفّارات الإنذار أن تعلن انتهاء عهد الظلام وبداية النّور، ومن هذه الحوادث أن أيوان كسرى أنوشروان الذي كانت الأنظار مشدودة اليه والى صاحبه حيث كانت ترى فيه مثلاً أعلى للقدرة والسلطان الذي لايزول ... هذا الايوان اضطرب في تلك الليلة ومادت به الأرض فسقطت اربع عشرة شرفة من شرفاته...
ص: 13
وهناك أيضاً نار فارس قد خبت وانطفأت فجأة ولأوّل مرّة منذ ألف سنة(1) . وهكذا تنبّه سدنة معابد النار والكهان الذين منعتهم حجب التعصّب والتقليد الأعمى عن التفكّر في آيات الله في الكَوْنِ وفي أنفسهم، هؤلاء تنبهوا الى أن للسماء خبراً وأن لهذا اليوم شأناً خطيراً.
وكان لجفاف بحيرة ساوة أثر في تنبيه منطقة أُخرى لحقيقة ما يجري على وجه الأرض(2).
كان العرب منذ القدم قد اعتادوا على تسليم أطفالهم الى المراضع اللاتي كنّ يسكننّ البادية وذلك لتنشئة الطفل نشأة سليمة. ففي البوادي يتوفّر الهواء الطلق والحياة الهادئة البعيدة عن صخب المدينة وضوضائها، أضف الى كل ذلك الفصاحة في اللغة العربية، حيث كان منبعها الأصيل سكان البوادي البعيدين عن الاختلاط بغير العرب.(3) لهذه الاُمور من جهة ولقلّة لبن آمنة من جهة أخرى ارتأى عبد المطلب (عليه السلام) جدّ محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) وكفيله أن يختار للوليد الحبيب محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) مرضعة نجيبة يطمئنّ إليها في رعايته والعناية به، وكان أن وجد حليمة بنت أبي ذؤيب وهي من قبيلة بني سعد المعروفة بشجاعتها وفصاحتها، وحليمة (رض) هذه تعد من النساء الأصيلات العفيفات وهكذا اصطحبت حليمة (رض) محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم) الى ديار بني سعد في البادية وكانت ترعاه رعايتها لابنها بل أكثر من ذلك فقد كان قلبها قد امتلأ حبّاً وشغفاً بهذا الطفل منذ اللحظة الأولى التي أبصرته فيها.
وفي تلك السنة كان قد أصاب بني سعد القحط ومسّهم الضرّ والشقاء
ص: 14
وأجدبت بهم الأرض فلا مطر ولا زرع ولا رعى.
ولكن ما إن وصل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) الى تلك الديار، إلّا وبدأت البركة والخير تغمران منزل حليمة فقد سمنت غنمها بعد الهزال، وزاد لبنها بعد النضوب، ونعمت هي وأبناؤها بحياة راضية هادئة بعد حياة الفقر والعوز والفاقة.
ونما محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) لا كما ينمو غيره من الأطفال، فقد كان أسبقهم عدواً وأفصحهم لساناً.
وكانت حالة اليُمن والبركة التي حلت مع محمّد (صلى الله عليه وسلم) بين بني سعد واضحة وظاهرة وقد أدركها الجميع بسهولة واعترفوا بما لهذا الرضيع من شأن حتى أن الحارث زوج حليمة قال لها يوماً : «أتعلمي يا ابنة أبي ذؤيب إنك قد حملت نسمة مباركة ؟»(1)
كان محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) لقد بلغ السادسة من عمره المبارك حينما خرجت به اُمّه آمنة(سلام الله علیها) الى يثرب لزيارة أخواله من بني النجار(2) إضافة الى زيارة قبر زوجها الحبيب عبد الله، وبعد أن قضوا وطرهم من زيارة يثرب قفلوا راجعين الى مكة المكرّمة، وفي الطريق تلمّ العلة بآمنة ولا تكاد تصل الى «الأبواء» حتى تودع هذه الدار وتلتحق بالرفيق الأعلى(3) وهكذا يحرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من حنان أبويه وعطفهما وهو في السن التي يحتاج فيها أمثاله إلى رعاية الوالد ومحبّة الوالدة .
لم تكن ولادة محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وما صاحبتها من حوادث خارقة فحسب
ص: 15
بل كانت سيرته وهو في طفولته متميّزة عن أقرانه وأمثاله وهذا هو ما كان يدعو جدّه عبد المطلب (سلام الله عليه) الى اعزازه واحترامه بشكل مثير(1).
وهذا هو عمّه أبو طالب يصف طفولة ابن أخيه فيقول:«لم أجد لمحمّد كذبة قط ولا عملاً مخالفاً للحكمة، لم يكن ليضحك في غير محلّه، أو يتكلّم فيما لا يعنيه وكان يقضي جلّ وقته وحيداً»(2) . وما إن بلغ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) السابعة من عمره حتى كان لليهود شأن معه فقد كانوا قد قرأوا أن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يأكل الحرام وأنه يجتنب ما فيه شبهة، فسرقوا دجاجة وأرسلوها الى أبي طالب وراقبوا هذه العملية فأكل الجميع لعدم علمهم بأصل القضية إلا محمّداً فقد امتنع عن الأكل وحفظه الله عن أكل الحرام لئلا يتربّى لحمه ودمه على الحرام وهو المعدّ الحمل رسالة الله الى البشرية.
وهناك ادرك اليهود أن لهذا الطفل شأناً وأنه هو الموعود(3) وأما عبد المطلب زعيم قريش وكبيرها فلم يكن يعامل محمّداً كما يعامل باقي أحفاده بل كان دائماً يظهر رفعة مقامه وعلو منزلته ويتنبّأ بما يكون له من الشأن.
کان يوضع لعبد المطلب فراش في ظلّ الكعبة وكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش إجلالاً لأبيهم وكانت هيبة هذا الشيخ تمنعهم من الدنوّ والاقتراب منه إلّا ذلك الطفل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان يدنو منهمتی شاء وقد يسبقه الى مكانه فيجلس فيه فيحاول أعمامه ردّه ومنعه عن وهنا ينبري الشيخ عبد المطلب فيكفّهم عنه ويقول :« دعوا ابني فوالله إنّ له لشأناً عظيماً»، وهنا يتجاذب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) الحديث مع عبد المطلب سيّد مكة وعظيمها(4).
ص: 16
خواطر من حياة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)
فی طفولته وشبانه
ص: 17
طوى محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) دور طفولته الّتي عانى فيها من ألم اليتم... في ظلّ جدّه الكبير عبد المطلب (علیه السلام)، وعمّه الرّؤوف أبي طالب (علیه السلام)، وكأنّ
لا هذه السنوات الأولى من عمره المليئة بآلام اليتم الذي كان ولاشك باعثاً على الحزن العميق والأسى الشديد، في نفسه الشريفة ... كأنّ هذه السنوات كانت ضروريّة ولازمة لوضع الأسس القويّة لشخصيته العظيمة، فقد أعطته هذه الأحداث وما صاحبها من أثار دَرساً مؤثراً في الصبر على المكاره، وتحمّل المسؤوليّات الثقيلة التي كان يعدّ للقيام بها في المستقبل.
وبدأ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) يتخطّى مرحلة الطفولة ليدخل دور الفتوة والشباب الذي تتفتّح فيه القوى والقابليات، وتنمو فيه المدارك والغرائز ... ولئن كان قد حرم رعاية الوالد وحنان الأم وهو أحرج ما يكون إليهما فإنّ الله تعالى هيّأ له من عمّه أبي طالب(علیه السلام) خير راع وكفيل، وقد كان عند حسن ظن أبيه عبد المطلب (علیه السلام) حينما عهد إليه أمر رعاية
محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وكفالته من بعده.
ص: 18
وقام أبو طالب (علیه السلام) بالمهمة خير قيام فاغدق عليه من حبّه وخصّه بعطفه وضمّه الى عائلته وأسكنه بيته، وكيف لا يكون كذلك و محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ذكرى أخيه الشقيق ووصيّة والده العظيم؟
وهكذا صار أبو طالب (علیه السلام) الأب الثاني لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم) والعم الوفيّ، والمربّي المخلص وتوطّدت رابطة الحبّ والمودّة بين العم وابن أخيه، حتّى لم يعد أحدهما يستطيع أن يفارق الآخر، فكان أبو طالب (علیه السلام) يأخذ بيد محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ويدور معه في أسواق العرب، مثل (عُكاظ) و (ذي المجاز)، وحتى حينما عزم أبو طالب(علیه السلام) على السفر الى الشام في تجارة له، فإنّه لم يقو على فراق محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وخاصّة حينما وجد أن هذه الرحلة قد صادفت هوى في نفس محمّد(1)ورغبة إليها، فصمّم على اصطحابه، قائلاً لأهل بيته: والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقني، ولا أفارقه أبداً.
و حينذاك ركب محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) الناقة ليقطع طريق الشام الطويل بادئاً بذلك رحلته الاُولى الى الشام(2).
في أحد الأيام، وفيما كانت قافلة قريش التجارية تقترب من ( بُصرى)(3) أطلّ راهب يسمّى (بحيرى) من صومعته، ولشدّ ما تملكته الحيرة والعجب حين رأى قافلة تتّجه صوب بصرى، وقطعة من الغمام قد ألقت ظلالها فوق بعضهم، تسير معهم إذا ساروا وتقف اذا وقفوا، وتتّجه حيثما اتجهوا .
ص: 19
فلما رأى بحيرى ذلك نزل من صومعته، ثم أرسل اليهم أحد غلمانه قائلاً:
«إنِّي قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش فأنتم اليوم ضيوفي».
فاستجابوا لدعوته، وحضروا عنده وتخلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين القوم لحداثة سنّه، وبقي عند رحالهم.
ولم يجد فيهم بحيرى طلبته وغايته ،فسالهم، هل بقي أحد منكم لم يحضر؟ فأجابوه أن قد حضر جميعهم إلّا غلام هو أحدثهم فقال بحيرى: أدعوه فليحضر هو الآخر معكم.
وذهب بعضهم فأحضر محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فلمّا رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً ويحدق فيه، حتى اذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام اليه بحيرى، وجرت بينهما المحاورة التالية:
بحيرى: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزّى إلا ما أخبرتني عمّا أسألك عنه.
محمد(صلى الله عليه وآله وسلم): لا تسألني بالّلات والعزّى فوالله ما أبغضت شيئاً قطّ مثلهما، وليسا هما سوى صنمين من حجر يعبدهما قومي.
بحيرى: فبالله عليك إلا ماصدّقتني فيما سألتك.
محمد(صلى الله عليه وآله وسلم): سل عمّا بدا لك فإنّني صادق دائماً .
وبعد محاورة قصيرة بينهما وقع بحيرى على يديه وقدميه يقبّلهما ويتمتم قائلاً :هو ذاك ... هو ذاك ويسأله أبو طالب: أيّ شيء هو؟
فيقبل بحيرى على أبي طالب (علیه السلام ) ويقول له: ما هذا الغلام منك؟ فيجيب أبو طالب: إنّه ابني.
بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً.
ص: 20
أبو طالب: صدقت فانه ابن أخي.
بحيرى: صدقت فارجع بابن أخيك الى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليسعون في هلاكه فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.
أبو طالب: ماذا سيفعل، وما هو شأن يهود معه؟
بحيرى: لقد رأيت في عينيه علامات النبوة .
أبو طالب: ومن أين عرفت ذلك؟
بحيرى: من الغمامة التي كانت تظله، من الكتب التي رأيت فيها أوصافه ونعوته، من نبرات صوته الروحية، ومن أُمور أخرى .
وأخيراً قال له أبو طالب(علیه السلام) : سوف لن يتركه الله وسيحفظه من شر أعدائه اليهود(1) .
وتحرّك الركب عصر ذاك اليوم وسرت همهمة بين القوم عمّا دار وكلّهم
ينظر الى محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وكُل يقول شيئاً .
على الرغم من أنّ أبا طالب كان معدوداً من زعماء قريش وكبارها إلّا أنّ أمواله لم تكن تفي بحاجته في إقامة إود عائلته الكبيرة، وسدّ متطلباتها، وما ان بلغ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) مرحلة الفتوة والشباب، حتى أحبّ أن يتخذ لنفسه عملاً يخفف به عن كاهل عمّه والآن لننظر ماذا ينتخب لنفسه من عمل ينسجم مع روحيّته ويوافق ميله؟
إن الله تبارك وتعالى كان قد قدر لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون نبياً للإنسانية
ص: 21
جمعاء، ويتسلّم زمام القيادة التي تستلزم إمكانيات روحيّة ونفسيّة هائلة، خاصّة وأنّه سيواجه ذلك الركام الضخم من العقائد الباطلة والتقاليد الخاطئة التي كانت تتحكم في عقول الناس وسلوكهم ولابدّ أنه سيواجه لذلك مقاومة شديدة من أولئك الذين وجدوا آباءهم على ملّة وهم على آثارهم مقتدون لهذا كلّه فقد ألهمه الله تعالى أن يختار لنفسه الرعي مهنة وحرفة لما فيها من تحرّر من ضوضاء المدينة وجدال أهلها وفسوقهم وانغماسهم في شهوات الدنيا من جهة ولأنها من جهة أخرى توفّر له فرصة مناسبة للتفكير والتأمّل في مظاهر الطبيعة الحرة التي يعيشها وجهاً لوجه في الصحراء ولاشك أن لكل هذا تأثيره الكبير فيما يستعدّ له محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) فى المستقبل.
وهكذا بدأ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) يرعى غنم أهله وغنم الآخرين في أطراف مكّة (1) وقد ظهرت في هذه المرحلة من حياته (صلی الله علیه وآله وسلم) مظاهر أمانته وحرصه على أموال الآخرين وعدم تطاوله على ماتحت يده من الغنم وأصوافها وألبانها حتى أنه اشتهر بين اهل مكّة ب (محمّد الأمين)(2).
حيثما تبدأ الغرائز والقوى عند الإنسان بالتفتّح إثر مرحلة البلوغ، يكون الطفل قد تخطى مرحلة الطفولة ودخل مرحلة هامّة وخطيره من مراحل حياة الإنسان ألا وهي مرحلة المراهقة التي تمتاز بتهيج الغرائز عند الشاب وفورانها والبحث عن اشباعها، وفي هذه المرحلة الحسّاسة بالذات يكون الشاب معرضاً للانحراف الأخلاقي، والتلوّث، وارتكاب الخطيئة والانزلاق في الشهوات واذا لم يكن هناك من مراقب ومربّ يأخذ بيد هذا
ص: 22
الشاب ويحميه عن السقوط في الرذيلة أو إن لم يسع الشاب نفسه فی حفظ نفسه عن اللهو والعبث وتهذيب غرائزه والسموّ بها عن عالم المغريات، إن لم يحدث هذا أو ذاك فلاشك أنه سوف ينحدر الى وادي الشقاء السحيق الذي قد لا يمكنه أن يرى للسعادة لوناً بعده و محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يعيش في بيئة منحرفة قد اتخذت اللهو واللعب
) والعبث شعاراً لها وقد غيرت الرذائل الخلقية والمآثم سماتها وآفاته واستهوى الجنس ومغرياته شبابها بل وحتى كهولها وشيبها الى الحد الذي كانت ترتفع معه بعض الأعلام البيض (بل السود في حقيقتها) فوق بعض البيوت الداعرة معلنة وبكلّ وقاحة وصلف عن وجود بغي من الساقطات تلبّي شهوات أُولئك الساقطين، نعم إنّ محمّداً( صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان بلغ مرحلة شبابه في مثل هذا المجتمع المنحطّ الفاسد ورغم أنه لم يتزوج قبل الخامسة والعشرين من عمره إلّا أنه لم يتأثر بما حوله أبداً ولم تصدر عنه خطيئة أو عمل مشين مهما كان صغيراً، بل إن الجميع أحبّاء كانوا أو أعداء كانوا يشهدون له على أنه مثال الكمال والفضيلة والأخلاق .
ويتّضح هذا الأمر بكل جلاء في الأشعار التي أنشدت بمناسبة زواجه من خديجة والتي كان منشدوها يذكرون فيها جملة من صفات محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم) وكمالاته .
فلنستمع الى هذا الشاعر حيث يقول :
أخديجة نلت العلى بين الورى وفخرت فيه جملة الثقلان
أعني محمّداً الذي لا مثله ولد النساء في سائر الأزمان
فله المكارم والمعالي والحيا ماناحت الأطيار في الأغصان(1)
ص: 23
وهذا شاعر آخر يقف خاشعاً في محراب فضائل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيقول:
لو أن يوازن أحمد بالخلق كلّهم رجح
ولقد بدا من فضله لقریش امر قد وضح(1)
ص: 24
الزواج الاول لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص: 25
دور المراهقة، هو دور الفتوّة. دور تفتّح الغرائز وبروز القوى الجنسية عند الأفراد وحينما يصل الفتى أو الفتاة الى هذه المرحلة يحسّون في أعماقهما بحاجة كلّ منهما الى الجنس الآخر، واذا لم يلبّيا هذه الحاجة الملحّة ويشكلا بيت الزوجية، فإن سعير ذلك الإحساس سوف يشتدّ ويشتدّ حتى يفسد عليهما سعادتهما ويحرمهما من لذّة الطمأنينة والهدوء.
ومن هنا كانت نظرة الإسلام الواقعية الى هذا الموضوع فهو يرى ضرورة تلبية هذه الغريزة الإنسانية ولكن بالشكل الصحيح المنظم كي لا يقع المجتمع فريسة للطغيان الجنسي.
لهذا فإن الإسلام يوصي بالزواج المبكر، ويدعو الناس الى الاعتماد على الله تعالى وعدم الخوف من الفقر وتكاليف الأسرة في المستقبل.
فيقول تعالى (وَانْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَاِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(1).
ولكننا نجد في بعض الحالات أنّ الحالة المعيشية لبعض الأفراد لا تمكنهم من تهيئة الشرائط الأولية للزواج ولاشك أنه في مثل هذه الحالة لابدّ من السعي والعمل لتهيئة الظروف اللازمة والمساعدة للزواج وحتى تحين تلك الساعة لابدّ للإنسان من أن يتكل على تقواه ويعتمد على عفتّه
ص: 26
وهنا تقول الآية الكريمة:
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحَاً حَتّى يُغْنِيهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)(1) .
كان محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره الشريف إلّا أنه كان يعيش ظروفاً صعبة لم تكن تسمح له بالإقدام على الزواج لذا بقي منتظراً توفر الإمكانيات اللازمة وتهيئة شرائط ومستلزمات الحياة الزوجية(2).
كانت خديجة(سلام الله علیها) امرأة ثرية وذات شرف ومنزلة، وكانت تستأجر الرجال ليتجروا لها في أموالها مقابل مقدار من المال تجعله لهم .
فلما بلغها عن محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه التي كانت حديث الناس في نواديهم ومجالسهم بعثت إليه، و عرضت عليه أن يخرج في مال لها الى الشام ويتجر به مع غلام لها يقال له ميسرة، وتعطيه أفضل ماكانت تعطي غيره من التجار، فقبل محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) بهذا العرض علّه بذلك يستطيع أن يساعد عمّه أبا طالب
الذي كان بلغ به الكبر واشتد عليه الزمان مع كثرة في العيال وقلّة في المال(3).
هي خديجة بنت خويلد وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة ومن أوفر أنها كانت قد بلغت الأربعين من عمرها، فقد تقدّم أهل مكة غنى، ومع لطلب يدها العديد من كبار قريش، نظراً لشرفها ونسبها وأموالها، إلّا أنّ خديجة(سلام الله علیها) ردّت كلّ أُولئك لأنها كانت تعتقد أنهم إنما تقدّموا طمعاً في مالها ولأنهم ليسوا أكفاء لها(4).
ص: 27
محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) يسافر الى الشام
في الوقت الذي كانت فيه قافلة قريش التجارية تتهيأ للسفر الى الشام كان محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) قد هيّأ نفسه هو الآخر لهذه الرحلة وقد استدعت خديجة غلامها ميسرة وأمرته أن يلازم محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم)و يقوم على خدمته.
ونحن وإن كنّا لا نستطيع أن نأتي على كل تفصيلات هذه الرحلة وما انطوت عليه من أمور إلّا أننا نستطيع أن نقول باختصار: إنّ هذه الرحلة كان عميمة الخير والبركة من جوانب عديدة.
فهى أولاً قد درّت ربحاً وفيراً على محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وخديجة عليها السلام، وثانياً أنها أظهرت شخصية النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بصورة أجلى عند زملاء السفر من قريش، أضف الى ذلك لقاء النبي محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) مع الراهب المسيحي(1) الذي تنبأ بما يكون له من شأن عظيم شأن عظيم حسب علامات وجدها فيه وأخيراً فقد كانت هذه المرحلة إحدى مقدمات الزواج الميمون، زواج محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) وخديجة عليها السلام وبعد مدّة عزمت القافلة على الرّجوع وأشرفت الرّحلة على الانتهاء وباع محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) واشترى ما أراد، ثم قفل راجعاً الى مكة، فلما قدموا إليها تحدث ميسرة الى خديجة عليها السلام عن رحلتهم واصفاً ربحهم الكثير والبركة التي غمرتهم، وشرع يروي لها عن محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وما ظهر على يديه من الكرامات، وما صاحبه من العجائب وما سمعه من قول الرّاهب عنه.(2)
ولمّا سمعت خديجة عليها السلام كل هذا من ميسرة مع ماكانت تعرفه فضله ونبله، وماكان من أقوال أحد علماء اليهود في شخصية محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وعلوّ شأنه وتزوّجه من خير نساء قريش - أي خديجة عليها السلام - كلّ هذه الأمور طبعت حبّ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) في قلب خديجة
ص: 28
عليها السلام، وتمنّت من أعماقها أن يتسنى لها الزّواج من محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) الذي صار في نظرها الزّوج المثالي الذي كانت تطلبه وتبحث عنه، وقد زاد من شوقها لهذا الأمر أنها كانت قد ذكرت لابن عمها ورقة بن نوفل - وكان نصرانياً قد تتبّع الكتب الأولى - ما قاله لها غلامها ميسرة من حديث الرّاهب ومن الظَّل الملازم له ومن الأُمور الأُخرى، عندها قال ورقة :
لئن كان هذا حقاً ياخديجة، إن محمّداً لنبى هذه الأُمة (1).
ولكن كيف تصل الى هذه الأُمنية ؟ اذ ليس من السهل أن تصارحه بذلك مع ماهي عليه من الشخصية المتينة والمكانة المحترمة بين نساء قريش(2).
بعثت خديجة عليها السلام صديقتها وصاحبة سرها «نفيسة بنت منية» الى محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) لتبحث معه حول موضوع الزواج وتنظر رأيه في ذلك، وذهبت نفيسة الى محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وقالت له:
ما يمنعك أن تتزوج ؟ فأجابها محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وليس عندي ما أتزوج به.
قالت: فإن كفيت ذلك ودعيت الى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟
قال محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) من هي؟
أجابت نفيسة: خديجة .
قال محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم): كيف لي بذلك، وهي التي قد ردّت أشراف قريش وأغنياءها .
قالت نفيسة: عليّ ذلك وسأقوم به (3).
ص: 29
وما ان اطمأن محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) الى أن خديجة ترغب في الزواج منه حتى ذكر ذلك لأعمامه الذين فرحوا وباركوا بدورهم هذا الزواج، ونهضوا معه الى بيت خديجة(سلام الله علیها) حيث تمّت الخطبة، واحتفل بعدها بالزواج(1).
وقد قضى محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) خمسة وعشرين سنة مع خديجة(سلام الله علیها) كانت من أفضل أيام حياته الزوجية، لم تكن خديجة عليها السلام الزوجة الصالحة فقط بل أنها كانت فوق ذلك خير ناصر ومعين لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم) في حياته قبل الرسالة وبعدها ولقد كانت أوّل من آمن بدعوته من النساء ووضعت جميع ما تملك من الأموال تحت تصرفه لينفقها في سبيل الإسلام(2).
وقد رزقه الله من هذا الزواج ستة أولاد، منهم ابنان هما، القاسم والطاهر اللّذان ماتا في مكّة قبل البعثة وهما طفلان.
وأربعة بنات هنّ زقية وزينب وأمّ كلثوم وفاطمة (سلام الله علیها) التي كانت أفضلهنّ(3).
ونظراً لما بذلته خديجة(سلام الله علیها) من تضحيات وما اتسمت به من وفاء وفداء لمحمّد(صلی الله علیه وآله وسلم)ورسالته فقد كانت أثيرة عنده يكنّ لها الحبّ العميق لا في حياتها وحسب بل وحتى بعد مماتها إذ ماكان يتذكرها إلّا وتظهر عليه علامات الحزن والتأثر (4) وقد كان يبكى أحياناً لفراقها .
وعلى أي حال فقد تزوج محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) خديجة عليها السلام وعمرها أربعون سنة وانتقلت الى جوار ربّها في الخامسة والستين أي بعد بعثة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بعشر سنين ولم يتزوج النبيّ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) غيرها مدة حياتها إكراماً وإعظاماً لها.
رحم الله خديجة عليها السلام فقد كانت مثالاً للزوجة المخلصة الأمينة المؤمنة .
ص: 30
تعدد زوجات النبى (صلی الله علیه وآله وسلم)
على واقعه
ص: 31
مقدمه:
في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي بدأ كتّاب المسيحية الحاقدون شنّ هجمة شرسة، من خلال الكتب المملوءة بالأكاذيب والدّسّ والافتراء مستهدفة النيل من الإسلام ومفاهيمه وتاريخه بشكل عام، وتشويه الصورة الحقيقية لشخصية رسول الإسلام العظيم، ليضللوا الناس ويصرفوهم عن الاهتمام بالإسلام والتوجّه إليه .
والمصادر الأوّلية التي كان يعتمد عليها هؤلاء الكتّاب هي بعض التأليف الحاقدة التي أُلفت في القرون الوسطى المظلمة في أُوربا من قبل بعض المؤلفين المسيحيين الذين أعمت العصبية بصائرهم، فحالت بينهم وبين إدراك الحقائق؛ ويمكننا بهذا الصدد أن نشير الى كتاب (ردود على دين محمّد) الذي صدر في القرن الخامس عشر للمدعو « جان آندريه مور» (J.A. Maure) وهو يعتبر مرجعاً هامّاً لأكثر من جاء بعده من الكتّاب المسيحيين في كتاباتهم المعادية للاسلام، نظراً لجهل هؤلاء الكتّاب باللغة العربية من جهة، وانعدام المصادر الإسلامية في مكتباتهم من جهة أّخرى.
ص: 32
وكانت النتيجة أن قنع هؤلاء باستنساخ الكتاب المذكور كمصدر أصيل للتعرّف على الإسلام وتصوّراته ومفاهيمه . نعم، إنّ هؤلاء الكتاب الذين نجد «كتابهم المقدس » ينسب بصراحة جريمة الزنا الى بعض الأنبياء(علیهم السلام) بارتكابه(1) لا يمكن أن نتوقع منهم حينما يتحدثون عن نبيّنا محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) إلّا أن يكتبوا ما شاءت لهم عصبيتهم التي أشربت في نفوسهم وإذا بهم يكتبون أن محمّداً كان رجلاً مهووساً شهوانيّاً، وأنه في الوقت الذي كان يمنع أتباعه عن اتخاذ أكثر من أربعة زوجات دائمات، كان يتخذ لنفسه أكثر من هذا العدد بكثير(2).
لقد صوّرت لهم أوهامهم الفاسدة أنهم بتلفيق هذه الأكاذيب يستطيعون تشويه صورة نبيّ الإسلام (صلی الله علیه وآله وسلم) في ذهن القاريء المسيحي الذي لا يعرف شيئاً عن الإسلام وأنهم بهذا العمل يحولون بين الإسلام وبين تقدمه السريع وانتشاره الواسع، ولكن محاولتهم هذه باءت بالفشل الذريع كسائر محاولاتهم التي ثبت زيفها وعدم تأثيرها .
ولم يطل الوقت، فقد ظهر كتّاب وعلماء مسيحيون منصفون جعلوا البحث العلمي الموضوعي البعيد عن التعصّب مهما أمكن شعاراً لهم ومنهجاً، وانبروا للذّب عن ساحة نبيّ الإسلام(صلی الله علیه وآله وسلم) والدفاع عن شخصيّته العظيمة، والاعتذار في الوقت نفسه عما تعرّض له النبيّ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) والقرآن الكريم من جملات ظالمة شنتها أقلام قومهم المتعصبة .
إنّنا في الوقت الذي لا نشك فيه أن مثل هذه الأساطير والأكاذيب ليس لها مجال في مثل مجتمعنا الإسلامي الذي يؤمن ويعتقد بعصمة
ص: 33
الأنبياء (علیهم السلام) إلّا اننا نجد من الضروري بيان الحقيقة ساطعة وبكل وضوح لأُولئك الذين لا يتفقون معنا في هذه العقيدة ولا يلتقون مع نظرتنا في عصمة الأنبياء عليهم السلام .
لقد ذكر محققوا التاريخ المنصفون من المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء أنّ الزواج المتعدّد للنبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يكن اتّباعّا للهوى وكيف يمكن أن يتصور ذلك في حقه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو الذي قد تزوج أوّل مرة حينما كان في الخامسة والعشرين من عمره، أي في عنفوان شبابه وفي المرحلة التي يتعلق فيها حلم الشاب بزوجة شابة جميلة، تزوّج بالسيدة خديجة بنت خويلد التي كان لها من العمر حينذاك أربعون سنة ...؟
ومع هذا فإننا نرى النبي محمّداً(صلی الله علیه وآله وسلم) يعيش مع هذه السيدة الجليلة قرابة خمس وعشرين سنة في سعادة تامة وهناء لا يشوبه اختلاف، وأنّه في كل هذه المدة لم يتزوج من غيرها مع كثرة الراغبين فيه من بنات مكة وفتياتها اللائي كنّ يفتخرن ويباهين بالزواج من محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم)الصادق الأمين لو تسنى لهنّ ذلك.
إذن فلاشك في أنّ محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم) لو كان شخصاً قد تملكته الشهوة الجنسية لما امتنع كل هذه المدة الطويلة عن التزوج من فتاة جميلة شابة تقاريه في السن وتدانيه في الفتوة والشباب
إذا أراد أحد أن يسأل هؤلاء ما هو السبب الذي دعى الرسول الأكرم (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو في قمة شبابه ان يتزوج بسيدة قد تخطت سنّ الشباب
ص: 34
وتجاوزت الأربعين من دون أن يتزوّج من غيرها طيلة حياتها، ولكنّه في السنين العشرة الأخيرة من حياته (صلی الله علیه وآله وسلم) حيث كانت الشيخوخة من جهة ومشاكل الدولة الإسلامية الفتية داخلياً وخارجياً من جهة أُخرى، لا تسمحان له بفرصة التفكير في النساء عادة ... لكنه مع ذلك يقدم على التزوج من نساء عديدات ؟
أليس في حفظ النساء الارملات ورعاية أيتامهن ترويض كبير للنفس؟
أم هل يتفق العيش مع نساء عديدات، لكل منهن نساء عديدات لكل منهن أخلاق وصفات وأذواق خاصّة ... مع الهوى واللذة والتمتع؟
هذه كلها أسئلة نوجهها الى هؤلاء المفترين ، ولكنها تبقى حائرة دون جواب. ولابدّ لهم أخيراً من أن يعترفوا بأنّ محمّداً(صلی الله علیه وآله وسلم)لم يكن أبداً من أولئك الذين تستهويهم الشهوات، وتستولي عليهم اللذائذ الجنسية وأنهم انما اتهموه بكل ذلك، عناداً منهم وظلماً وتعصباً لا غير.
وأخيراً لنستشهد بكلمة لأحد منصفي المستشرقين وهو «جان ديون بورت»حيث يقول:
«هل من الممكن الرجل تستهويه الشهوة، وفي محيط وبيئة كان تعدّد الزوجات فيه عملاً عادياً وطبيعياً أن يقنع بزوجة واحدة لمدة خمس وعشرين سنة(1) ؟
تعدد أزواج النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)
اختار النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) بعد وفاة خديجة عليها السلام عدّة زوجات، ومن جملتهن: سودة، عائشة غزية، حفصة، أم حبيبة، أم سلمة، زينب بنت
ص: 35
جحش، زینب بنت خزيمة، ميمونة، جويرية، صفية (1).
وهنا لابد أن نبحث في الظروف التي كانت توجب على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) أن يتزوج من كل هذه النساء، ويمكننا أن نقول أنّ تزوج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) كان لعدة غايات وأهداف هي:
1 - لأجل رعاية اليتامى والحفاظ عليهم من مكاره الدهر، بعد أن فقدوا كفيلهم وحاميهم، خاصة وأنّ بعض تلك النساء كنّ في خطر أن تستردهن قبائلهنّ بعد فقد أزواجهن، وكان هذا العمل يحمل في ثناياه فتنة الكفر والارتداد الذي قد تتعرض له، كما في شأن سودة التي فقدت زوجها بعد الهجرة الى الحبشة وبقيت بدون راع وكفيل، فتزوجها النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) إذ كان قد فقد خديجة (رض) حينذاك(2). وكذلك الأمر في شأن زينب بنت خزيمة، فقد كانت أرملة قد فقدت زوجها وأشرفت على الفقر مع أنها كانت أمرأة معروفة بالكرم وتعاهد الفقراء حتى عرفت ب- (أم المساكين) لأجل إنقاذها من محنتها فقد تزوّجها النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) وتوفيت في حياته(3).
وهكذا كان شأن «أم سلمة» فقد كانت امرأة محسنة وصاحبة أيتام وعلى جانب كبير من الإيمان والورع فتزوجها(صلی الله علیه وآله وسلم) لأجل ذلك(4).
2 - لأجل القضاء على بدع الجاهلية ومحوها ويتجلّى ذلك في قضية زينب بنت جحش ابنة عمّة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) التي كان زيد بن حارثة متبنّى النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) قد تزوج بها، وكان هذا الزواج قد تم باقتراح وطلب من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) لكي يكون مثلاً ودليلاً حيّاً على إلغاء الإسلام للطبقية
ص: 36
والتعالي الأسري، ذلك أن زينب كانت إحدى حفيدات عبد المطلب كبير قريش وزعيمها، أما زيد فقد كان عبداً مملوكاً أعتقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تبنّاه من بعد .
وكانت زينب باعتبار شخصيتها ونسبها تتعالى على زيد وتفتخر عليه مما جعل حياتها الزوجية مشوبة بالمرارة وبعيدة عن السعادة المطلوبة من الحياة الزوجية .
ولم تثمر نصائح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهما بإدامة زواجها ودفع الاختلاف من بينهما مما أدى في النهاية الى انفصام عرى الزوجية والطلاق(1).
وبعد أن طلق زيد زينب . عقد عليها الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بأمر إلهي ودستور رباني للقضاء على عادة جاهلية كانت سارية المفعول في المجتمع آنذاك وكان لها آثارها السيئة في أوساطهم .
ذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يعتبرون الولد الذي يتبنّونه ولداً واقعياً لهم يجري عليه ما يجري على الأولاد الصلبيّين للرجل، لذا فانهم لم يكونوا يتزوجون من نساء الولد المتبنى كما لو كانت زوجة ابنه الحقيقي
الصلبي.
ولنستمع الى الآية الكريمة التي تذكر هذه القضية وملابساتها (فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً )(2)
لقد ابتلى بعض الكتاب المسيحيين بالتعصب الأعمى ولم يستطيعوا أن يحرروا عقولهم ممّا دعاهم أن يلصقوا التهم المزيفة الكاذبة ويخترعوا
ص: 37
من عند يأتهم بعض الأساطير، فنجدهم يصورون قضية زواج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من زينب حسب ما يشتهون ويعتبرونها قصة غرامية إذ أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) حسب افترائهم كان عاشقاً لزينب ومبهوراً بجمالها الساحر الرائع وأنه كان قد أبدى ذلك مما أدى الى أن يطلقها زيد .
ولا يمكننا اذا أردنا أن نكون موضوعيين إلّا أن نصف هذا الكلام بأنه باطل من الأساس وأنه يخالف جميع الشواهد العقلية والتاريخية المعتبرة إذ أنّ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) اذا كان أسيراً لهواه الى هذا الحد ويشغل فكره بسحر الفاتنات وجمالهن، واذا كان جمال زينب بلغ هذه الدرجة الكبيرة التي جعلت النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) مفتوناً بها فما الذي كان قد منع النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من الزواج بها حينما كانت فتاة باكراً تتمتع بنظارة ومعنى خاص ؟ أهل يمكن أن يقال أنه (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يكن يعرف عنا ذلك الجمال؟ كيف وهي لم تكن بعيدة عنه فهي ابنة عمته وقريبته ؟ اللهم إنه لا يمكن أن يتقول هذه الأقاويل إلّا من أعمى التعصب بصره وبصيرته .
3- زواج لأجل فكّ الأسراء وتحرير الأرقاء وذلك في مثل زواجه ب(جويرية) التي كانت من قبيلة (المصطلق) المشهورة، وكانوا قد أعلنوا الحرب على المسلمين، وبعد معركة جرت بينهما كان الغلب فيها لجيش المسلمين ، تمّ أسر أعداد كيبرة من هذه القبيلة، وكان من بين الأسراء (جويرية) بنت الحارث كبير القبيلة، ورئيسها، فأطلق النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) سراحها إكراماً لها وتزوج بها، وحينما علم المسلمون بأنّ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) صار صهراً لهؤلاء الأسراء الذين في أيديهم بادروا لإطلاق سراح هؤلاء الأسرى إكراماً لزواج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من جويرية ... يقول ابن هشام (لقد تمّ تحرير مأة من بني المصطلق ببركة هذا الزواج)(1).
ص: 38
4 - زواج من أجل الارتباط بالقبائل العربية الكبيرة واحتواء بعض أفرادها، وجلب حمايتهم، والحيلولة دون خريبهم وتأليب الناس عليه وعلى الدين الجديد ومن هذا القبيل كان زواجه بعائشة، حفصة، اُم حبيبة، صفية، وميمونة.
أمّا (أم حبيبة) فانها بنت أبي سفيان الذي كان وأسرته من أعدى أعداء النبی(صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بيته في الجاهلية والإسلام وكان زوجها مسلماً قد هاجر الى الحبشة إلا أنه ارتد وصار نصرانياً ثم أدركته المنية، مما اضطراباً وقلقاً بالغاً لأم حبيبة فقد كانت مسلمة لا تستطيع الالتجاء الى أبيها وأسرتها لما تعلم من عدائهم السافر للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ولدعوته ولكن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أنقذها من حيرتها فتزوج منها لكي يكون لها راعياً وكفيلاً من جهة، ولكي يكون في ذلك جلباً واستمالة لقلوب بعض بني أمية (قبيلة أم حبيبة) من جهة ثانية (1).
وكذلك الأمر في (صفية) بنت (حي بن أخطب) رئيس قبيلة بني النضير التي نقضت العهد مع النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ممّا ادى الى معركة بينها وبين المسلمين انتهت بغلبة المسلمين وقتل الكثير من اليهود وأسر الباقين وكان من جملة المقتولين (حي بن أخطب) والد (صفية) وقد أرتأى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الزواج من صفية نظراً الى مكانتها وشخصيتها بين افراد قبيلتها مما أدى الى ايجاد نوع من الصلة بين النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وبين أكبر القبائل اليهودية عدداً أو أهمها خطراً (2).
وأمّا ميمونة فقد كانت هي الاخرى من قبيلة «بني مخزوم » العربية
ص: 39
الشهيرة بين القبائل العربية وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تزوّج بها عام سبعة للهجرة(1).
إذن يتضح لنا من كل ذلك أن نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ماعدا عائشة كنّ من الأرملات وأنّ أكثرهن قد تخطيّن سن الشباب والنضارة والفتوة وفي هذا أكبر دليل على أن تعدد أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في واقعه لأجل مصالح وأهداف مقدسة، وغايات نبيلة، مما لايدع مجالاً أبداً لإلصاق تهم التهور الجنسي، واستعار الشهوة بشخصية أعظم رجل عرفته البشرية وهو الرسول الكريم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) .
ص: 40
شخصية الرسول الاعظم
محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) قبل البعثة
ص: 41
يعتقد علماء النفس أن المجتمع (البيئة،المحيط) هو الذي يكوّن ويوجد أساس الشخصية في الأفراد ويولد لديهم طريقة تفكرهم، ونوعية تصوراتهم، وأنّ غريزة (التوافق والمماشاة) تجرهم الى ان يقتفوا أثر المجتمع في أفكاره وسلوكه.
وإن كان البعض من هؤلاء قد أفرط في هذه النظرية واعتبرها قاعدة كلية عامة وغير قابلة للاستثناء ففسروا جميع الظواهر الاجتماعية على أساسها، إلّا أننا لا يمكننا إلّا أن نسلم بأن للمجتمع تأثيراً في روحية الأفراد ونمط تفكيرهم لهذا نجد أن مجمتع الفضيلة والتقوى يربّي ويوجد النماذج الصالحة المتقية كما أن المجتمع الفاسد المنحرف يجر أفراده الى هاوية الفساد والضلال، ولهذا ندرك أن الذين يستطيعون أن يشقّوا طريقهم بعيداً عن خط سير المجتمع المنحرف ومن دون أن يتأثروا بمفاسده وأهوائه يعتبرون أناساً غير عاديين .
كان العالم كله والجزيرة العربية بشكل خاص غارقاً في بحار الجهل والفوضى وكانت عامة العرب تحترق بنار الفساد والخرافات، وسحب الجهل السوداء قد حوّلت آفاق الحياة العربية الى ظلام حالك، وجعلت أيامهم قاسية مريرة، يغمرها الشقاء والبؤس والاضطراب فما أكثر الأموال التي راحت من جراء غارات النهب والسلب وما أكثر الدماء التي أريقت
ص: 42
ظلماً و عدواناً.
وكانت الأوهام والخيالات الفاسدة والامتيازات الطبقية قد سيطرت على المجتمع وتحكمت فيه وأحكمت قبضتها عليه، والشيء الوحيد الذي لم يكن له وجود في مجتمعهم هو القانون والعدالة.
الأغنياء القساة الجفاة يمتصون دماء الضعفاء ويأكلون مال اليتامى ظلماً، ويستثمرون الطبقة الفقيرة الكادحة أبشع استثمار، ويتيهون بعد ذلك كله في عالم التكبر والخيلاء والعظمة، ويتقلبون في أحضان الذهب والفضة، ويتنعمون بحياة البذخ واللهو والإسراف على حساب اولئك المحرومين .
وكان نهجهم في المعاملة والتجارة باطلاً وفاسداً الى حد كبير، وكان كل من الزوجين، مسئولاً عن وفاء دين صاحبه فاذا عجزت المرأة عن دفع دينها وعجز زوجها عن أدائه عنها حبس الدائن زوجها حتى يفيه حقه(1).
وبدلاً من أن يحصلوا على كمالهم بأنفسهم ويتخذوا من تحصيل العلوم مفخراً لهم، كانوا يتكلون على أمجاد آبائهم وأسرهم وقبائلهم، وقد يصل بهم الأمر اذا أرادوا الفخر بكثرة عددهم أن يذهبوا الى المقابر لإحصاء قبور موتاهم لتكون شهادة إثبات على أنهم أكثر عدداً من قبيلة اخرى منافسة لهم.
كانت معاقرة الخمرة وارتكاب الزنا وممارسة الأعمال الشهوانية، وسفك الدماء البريئة، قد أصبحت من أعمالهم اليومية المألوفة، ولا يشعرون حيالها بأي نوع من الحياء والخجل .
فهذا (أمرؤ القيس) الشاعر العربي المشهور يذكر في شعره (من معلقته الشهيرة : قفا نبك .....) من دون تردد أو خجل غرامياته الفاضحة مع ابنة عمه (عنيزة) وعشقه لها، واتصالاته بها واختلائه معها. والأعجب من ذلك أنهم عدّوا شعره هذا من النماذج الرفيعة في الأدب العربي فاستحق
ص: 43
بذلك أن يعلق على جدران الكعبة الشريفة (1).
هذه صورة مختصرة عن الحالة العامة - خلقياً وسلوكياً - في ذلك المجتمع الذي شعّ نور الإسلام في آفاقه المظلمه.
ومن البديهي أن الانسان الذي لا يتلوّن بصبغة هذه البيئة ولا يتلوث بأنجاسها، يعتبر ذا شخصية ملكوتية متميزة، وأنه يستحق بذلك قيادة الإنسانية وخلاصها من مشاكلها وأوضاعها البائسة.
في الوقت الذي كان عامة الناس يتجهون صوب الأصنام، كان محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) الذي لم يتلق درساً من أحد يتجه وحده صوب غار «حراء» وهناك يقف خاشعاً متضرعاً وهو يتأمل في الكون وما أبدع فيه الخالق عز وجل من روائع تتجلى فيها عظمته وقدرته.
كان محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) الذي أحاطه الله تعالى برعايته وعنايته قد ميّز طريق الحق المستقيم ومشى فيه بكل ثبات واطمئنان ومن دون ترديد واضطراب وقد بدأ خطواته الأولى في وجه أفكار قومه وعاداتهم الخاطئة وتقاليدهم البالية .
إنه(صلی الله علیه وآله وسلم) لم يكن رافضاً لعبادة الأصنام - ولو للحظة واحدة من عمره الشريف - فحسب وإنما كان لا يطيق حتى سماع أسماءها كما مرّ عليكم في السابق وذلك حينما كان في الثانية عشرة من عمره المبارك والتقى ببحيرا الراهب فأقسم عليه هذا بحق اللات والعزى أن يجيبه على أسئلته، فأجابه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) غاضباً لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت كبغضهما شيئاً قط(2).
وقد كانت عظمته (صلی الله علیه وآله وسلم) وطهارته وعفته حديث الناس في المجامع والمجالس الخاصة منها والعامة. كما منحه صدقه وأمانته واخلاصه لقب
ص: 44
(الأمين) الذي لازمه واشتهر به، ولقد كانت هذه الصفة المحبّبة هي التي دعت خديجة (رضي الله عنها) أن تختاره ليتجر بأموالها.
ان أخلاق محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) وسلوكه وتعامله مع الناس بلغت حداً من الرفعة والسمّو بحيث استطاع بها أن يدخل قلوب الناس ويجتذبهم اليه. فعن عمار بن ياسر أنه قال: كنت راعياً مع محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) قبل البعثة فاقترحت عليه يوماً أن نذهب بأغنامنا في اليوم التالي الى مرعى « فخ » فوجدت محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم) قد سبقني الى المرعى إلّا أنه كان من الرعي، ولما سألته لماذا تمنعها عن الرعي؟ أجاب(صلی الله علیه وآله وسلم): «إني كنت واعدتك فكرهت أن أرعى قبلك»(1).
وهكذا كان محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) قد اختط لنفسه خطاً غير خط قومه، ولم يتأثر بعادات قومه وسننهم، بل كان يحث الخطى في طريق الكمال حتى وصل أرفع درجاته تعينه على ذلك يد الغيب التي كانت ترعاه وتحافظ عليه وتصنعه على عينها .
لهذه الأمور وغيرها كان الناس يكنّون له احتراماً فائقاً، ويستعينون برأيه في كثير من المشكلات .
كان محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) في الخامسة والثلاثين من عمره الشريف حين اجتمعت قريش لبناء الكعبة وترميم بنائها السابق ولما كانت قبائل قريش المتعددّة تريد اقتسام هذه الفخر ببناء الكعبة، لذا فقد جزأته وجعلت لكل قبيلة قسماً منه.
وقد بدأ الوليد بن المغيرة بالهدم وهو يقول: اللهم إنا لانريد إلا الخير ثم تابعه الناس وأعانوه. حتى انتهى الهدم بهم الى الأساس الذي بناه
ص: 45
ابراهيم (علیه السلام) وهنا بدأت كل قبيلة ببناء قسم من البيت حتى بلغ البنيان موضع «الحجر الأسود» فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه الى موضعه دون الأُخرى لتفتخر بذلك على سائر القبائل، وقد اتسع الخلاف حتى أنهم استعدّوا للقتال فقرّبت «بنو عبد الدار » جفنة مملؤة دماً، ثم تعاقدوا هم و «بنو عدي بن كعب» على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم علامة على التصميم على القتال والموت.
وقد استمر هذا الخلاف الوحشي أربع ليال أو خمساً، ثم انهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا فقال لم أبو أُمية بن المغيرة وكان أكبر قريش سناً و «يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه» فقبلوا اقتراحه وانتظروا أوّل من يدخل، فكان أول داخل عليهم هو رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلمّا رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمّد فلما وصل اليهم وأخبروه الخبر، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) هلمّ إليّ ثوباً، فأتى به، فأخذ الركن (الحجر الأسود) فوضعه فيه بيده، ثم قال(صلى الله عليه وآله وسلم): لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً ففعلوا، حتى اذا بلغوا به موضعه أخذه ووضعه هو بيده حسماً للنزاع ثم بنى عليه(1).
وهكذا استطاع (صلى الله عليه وآله وسلم) بحكمته وحسن تدبيره أن يجنب قريشاً فتنة خطيرة، كان من الممكن ان تؤدي الى سفك دماء كثيرة وتجرّ عليهم ويلات ومصائب عظيمة.
وقد أوضحت هذه القضية بشكل جليّ الشخصية الاجتماعية العظمية للنبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنها بيّنت بعض جوانب العظمة في آرائه الصائبة ونظراته الحكيمة .
وبهذا يعلم أنه(صلى الله عليه وآله وسلم)كان أهلاً وكفواً لمقام النبوة ورفع راية الإصلاح السماوي المقدس.
ص: 46
بداية الوحى
ص: 47
استطعنا في المقالات السابقة ان نتصفح بعض الأوراق والصفحات من حياة الرسول الأعظم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرأنا فيها لمحة ونموذجاً من حياته المليئة بأسمى معاني السمو والرفعة والجلال والعظمة .
ولنبدأ الآن باستعراض أشد المراحل حساسية في حياته المقدسة.
عاش محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين سنة في مجتمع تتحكم فيه الفوضى والقلق ولا تبدو فيه للناظر أي آثار جلية أو معالم واضحة للحضارة والتمدن وكانت هذه الحالة المضطربة مؤلمة لنفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)الشريفة إذ كان(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرى في مجتمعه المتدهور غير ظلمات الجهل والضلال.
فإذا ذهب الى الكعبة - بيت التوحيد ومأوى الموحدين - طالعته مناظر مؤلمة من عبادة الأصنام والاستكانة لها، بدلاً من أن يشاهد هناك-كما هو المفروض في مثل هذا المكان المقدّس - علامات التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد .
وإذا ترك الكعبة وذهب ليتوغل في أوساط الناس واجهته حالات ومناظر أليمة أخرى، فأفكار قومه الفاسدة وعاداتهم السخيفة كانت تغرقه في بحر من الأسى والحزن .
وكانت آلام الفقراء وآهات المحرومين تؤلمه وتؤذيه وكم كان يشتد تأثره حينما يشاهد سقوط منزلة المرأة اجتماعياً الى أسوأ ما يتصور من السقوط هذا بالإضافة الى ما يشاهده من آثار القمار والخمر والقتل والجريمة ومظاهر الفساد الأخرى التي شاعت وخيمت بظلالها السوداء
ص: 48
على مجتمعه البائس .
كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يبتعد في بعض الأوقات عن ذلك المجتمع الأسود المظلم، ويلتجىء الى غار«حراء» ليريح نفسه قليلاً ويتخلص من جوّ قومه الخانق الثقيل وليشتغل في ذلك المكان المنعزل الهادئ بعبادة ربه ومناجاته وكان ينظر من قلله الى آثار رحمة الله والى أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته ... فيعتبر بتلك الآثار ويتذكر بتلك الآيات ويعبد الله عبادته(1).
بلغ محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) الأربعين وقد صار مهيأ لأداء رسالته السماوية العالمية (2).
وفي أحد الأيام وبينما كان يتعبد في غار «حراء » إذ احسّ فجأة بنور يملأ آفاق نفسه وروحه وبحرارة عجيبة تغمر وجوده. وبينما هو وإذا بجبرئيل(علیه السلام) - ملك الوحي - يبشره بالنبوة والرسالة ؛ ويقول له « إقرأ» وبقي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة لحظات مستغرقاً في حالته الروحية الملكوتية ثم أجال بطرفه فيما حوله واذا به يسمع ذلك الصوت السابق مرة ثانية ومرة ثالثة(3) بصورة واضحة جلية يقول له « إقرا » .
له وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) يتابع مع جبرئيل(علیه السلام) ويقرأ ( إقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسانَ مِنْ عَلَقٍ، إقرأ وَرَبُّكَ الأكرَمُ الّذي عَلَّمَ بالقَلمِ، عَلَّمَ الإنسانَ مَالَمْ يَعْلَمْ )(4).
وبدأ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وكأن حرارة ونشاطاً عجيبين قد غمرا وجوده كلّه وكيف لا يكون كذلك وهو الآن قد ارتبط بعالم أكبر وأعلى وأعظم ... مع
ص: 49
الملائكة ... مع جبرئيل ... مع الملكوت الأعلى ... وهكذا استندت روحه الشريفة الى ركن وثيق وسند عظيم .
روحه
لقد رأى في نفسه( صلى الله عليه وآله وسلّم ) قوة النبوة، ولم يكن للقلق والاضطراب أيّ مفهوم في قاموس وجوده وكيانه ... بل كان مغموراً بالهدوء والاطمئنان .
هذا السؤال قد أجاب عليه بعض المستشرقين والكتاب الغربيين بالإيجاب وقالوا : إن محمّداً( صلى الله عليه وآله وسلّم ) كان يطالع هناك الانجيل والتوراة وتعليمات الأنبياء السابقين وشرائعهم، ويستغرق متأملاً في كل ذلك وأنه كان يجد لذة عميقة في هذا العمل(1).
ومن الواضح أن معنى هذا الكلام هو أن محمّداً( صلى الله عليه وآله وسلّم ) كان رجلاً قد «كوّن نفسه بنفسه» ، وأنه قد جاء بدين الإسلام واخترعه من نفسه بعد مطالعته في التوراة والإنجيل والشرائع السابقة .
ولكن هناك شواهد وأدلة كثيرة تفنّد هذا المدعى الباطل ونحن نشير الى بعضها .
1 - لو كان نبي الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلّم) قد أخذ القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما، لكان يجب أن تتشابه المطالب والأفكار التي جاءت في القرآن مع ما في كتب العهدين .
هذا في الوقت الذي نجد بين القرآن وبينهما تفاوتاً شديداً واختلافاً أساسياً .
2 - إنّ آيات القرآن الكريم في بلاغتها وفصاحتها وكيفيّة تركيبها المحير المدهش ... جعلت كبار الأدباء والبلغاء في عصر نزول القرآن وفي العصور المتأخرة عنه يقفون أمام عظمة القرآن مدهوشين، ومعترفين بتفوقه وإعجازه . وهذا الأمر بنفسه ولوحده يثبت أنّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) كان مرتبطاً
ص: 50
وبصورة مباشرة بمبدأ العالم - بالله تعالى - وليس من شك في أن هذه الآيات بكلماتها وتركيبها المعجز لم تكن وليست موجودة في أي كتاب آخر ليقتبس النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) منه ذلك
3- إنّ هذه الدعوى لا أساس لها، ولا تستند الى أي مصدر معتبر واصيل وانما هي عبارة عن شائعة وأسطورة اختلقها آباء الكنيسة المسيحية وبعض المستشرقين الحاقدين .
4 - لو كان القرآن كما يدّعون - قد ألف وكتب اعتماداً على مطالعة «العهدين» لسهل كثيراً على أولئك الذين كانوا يحاولون أن يأتوا بقرآن وآيات شبيهة بما في القرآن الكريم، الوصول الى أهدافهم عن طريق مطالعة التوراة والانجيل اللذين هما في متناول أيديهم ولإستطاعوا بذلك أن يردّوا تحدّي القرآن بأنه لا يمكن أن يؤتى بمثله أو بسورة من مثله .
5 - من المسلم به - تاريخياً - إنّ نبي الإسلام محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان أميّاً وأنه لم يمارس القراءة والكتابة قبل البعثة(1).
وعلى هذا فهل يمكن لعاقل أن يصدق بأن إنساناً لم يتلقّ درساً من أحد أبداً، وفي محيط بعيد عن العلم والمعرفه، وغارق في الجهل والأمية ... يستطيع أن يأتي بمثل هذا الكتاب المملوء بالمعارف والحقائق؟ إننا نسأل هؤلاء المتحاملين على الإسلام المفترين على نبيّه: كيف كان النبي الأمي يطالع ويستفيد من التوراة والانجيل ؟ وكيف استطاع أن يخبر في القرآن الكريم بكثير من الاُمور الغيبية والأخبار الماضية بالإضافة الى أنباء المستقبل؟
لاشك أن بين الله الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلّم) لا ارتباطاً بنوع من الأنواع وأنهم بذلك كانوا يتلقون الحقائق من مبدأ العالم وخالقه وأن سبب هذا
ص: 51
الارتباط لم يكن إلا تكامل نفوس هؤلاء الأنبياء (علیهم السلام) وقوة روحيّاتهم وبلوغهم أسمى وأعلى المراتب الإنسانية.
ومما ينبغي الالتفات إليه هو أنّ الارتباط بالله تعالى لو سلب من الأنبياء(علیهم السلام) لما بقي لهم أي شيء من الكرامة والمنزلة إذ أن كل ما يملكون لا من قدسية ومن مقام رفيع إنما هو ناشيء من قابليّتهم وأهليتهم للارتباط بمبدأ العالم «الله تعالى»، ولذا فإن كل ما كانوا يقولونه ويبلغونه لم يكن فيه اي ابهام وغموض لأنهم كانوا يعلمون علم اليقين ماهيته ومصدره ومنبعه، وهذا بخلاف ما يسمونه ب«الكشف» الذي يدّعيه البعض إثر قيامه ببعض الأعمال والرياضيات النفسانية والذي إن حصل فإن صاحبه ليس على علم بمصدره وموحيه بل انه غالباً يكون هذا الكشف المدّعى نتيجة ظنون وحدس وخيال وما أكثر ما يكون ذلك مخالفاً للواقع .
والواقع أن امتياز الأنبياء عليهم السلام عن هؤلاء المدّعين للكشف واضح لا يحتاج الى بيان فكل ما يراه ويقوله رسل الله سبحانه وتعالى ليس فيه غموض ولا طريق لعلامات الاستفهام اليه وعلى هذا فقد عرفنا أن الوحي هو ارتباط بين الله سبحانه وتعالى وأنبيائه وهذا الارتباط قد يحدث بواسطة ملك الوحي جبرئيل(علیه السلام) أحياناً ومن دون واسطة أحياناً أُخرى .
يزعم بعض الكتّاب الغربيين الذي لانشك في كونهم مغرضين وحاقدين أن نزول الوحي على نبينا محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) لم يكن سوى نوع من المرض يسمى ب-(الهستيريا )(1) أو (الصرع) ولكن هذه التهمة - من حسن الحظ - واهية الأساس الى درجة لا نرى حاجة معها الى شرح وبيان إذ أن هذا المرض تصاحبه دائماً أعراض وحالات معينة لانجد لها وجو وجوداً في حالات النبي محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم).
ص: 52
يقول «جان ديون بورت» : ( إنّ المزاعم التي يطلقها البعض بأن محمداً (صلی الله علیه وآله وسلم) كانت تنتابه حالات «الصرع» هي في الواقع من الأقوال الواهية التي لا تستند الى أي أساس ودليل وأنها جزء من المحاولات التي قام بها بعض اليونانيين المغرضين ليحولوا بواسطة هذه التهمة بين الناس وبین التأثر والاعتقاد بدعوة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الجديدة ولكي ينفروا العالم المسيحي من شخصية النبي محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وينظروا اليه من خلال هذه التهمة التي لا تدع مجالاً للاعتماد عليه والإعجاب بشخصيته ومكانته الخلقية والنفسية(1) وأننا إنما نقول ببطلان هذه الفرية لأن أحداً لم يشاهد في الرّسول الأعظم محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) حالات الاضطراب والصراخ والعويل الذي يعتري الشخص المبتلي بمرض (الهستيريا) لم يشاهد ذلك في أشد حالات الوحي ونزوله، على النبي (صلی الله علیه وآله وسلم).
وكذلك فإن الشخص المصاب بالهستيريا حينما تزول منه هذه الحالة ويرجع الى حالته الطبيعية لا يتذكر أي شيء مما رآه أو سمعه في تلك الحالة وهذه الحالة على عكس ماكان يشاهد من النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) اذ أنه كان لا يتكلم أثناء نزول الوحي عليه، وعندما ينجلي عنه كان يبدأ بالحديث عمّا أوحي اليه وما سمعه أو رآه . هذا كله بالإضافة الى أن كلام المصاب «بالهستيريا» يكون مرتبطاً في الغالب بما تخلقه وتصوره له أعصابه المحطمة من أوهام وخيالات مثل أن يرى صوراً مخوفة وموحشة تؤذيه وتهدده بالقتل فتكون في هذه الحالة كلماته تدور حول هذا الموضوع ولكن لم يجد أي شخص الى الان أن مصاباً بالهستيريا يكون كلامه وحديثه مشتملاً على العلوم والقوانين الصحيحة والتعاليم الهادية كقوانين الإسلام التي لم يستطع إنسان الى الان وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان أن يتحداه ويوجد فيها نقطة ضعف أو خلاف للطبيعة والفطرة البشرية .
ص: 53
إنّ التقدم والاكتشافات العلمية التي ظهرت في عالم اليوم لم تؤثر في مكانة الإسلام وتقلل من قيمته خلافاً لما يتصوره البعض، وإنما أيدت وقوت من مركزه الوطيد ودعمت أسسه ومبانيه فظهور واكتشاف الرادار واللاسلكي والإشارات التلفونية، كل هذه الأُمور أثبتت ان موضوع الوحي لا يتعارض ابداً مع نواميس الطبيعة وأسرار الخلقة. ذلك أن الله الذي جعل وسائل المواصلات والارتباطات هذه في خدمة البشر لاشك أنه يستطيع أن يوجد رابطة ووسيلة خاصة بينه وبين سفرائه في خلقه - أي الأنبياء علیهم السلام - وان كانت لاتقاس بهذه المخترعات البشريّة .
ومن ناحية اُخرى فإن ظهور بعض العلوم وتوسعها مثل «إحضار الأرواح» و «التنويم المغناطيسي» و «انتقال الأفكار» و «التأثير الروحي» كل هذه العلوم أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك بأن حقائق العالم لا تنحصر في إطار المحسوسات.
وأخيراً فإن العلم والتاريخ يشهدان بأن نبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) هو المختار والمنتخب من تعالى لهداية البشر وإرشادهم وإنقاذهم من والانحراف وإخراجهم من ظلمات الجهل والفساد وأنّ كل هذه الأفكار السامية والبرامج الحياتية الراقية إنما وصلته من طريق الوحي .
إن العالم الإسلامي يفتخر بقائده العظيم الرسول محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) لأن رسالته الإسلامية لم تكن مصدر سعادة وحياة لعالمه وعصره فحسب وإنما تعتبر منذ 14 قرناً خير مرشدٍ وهادٍ للعالم المتمدن اليوم وستبقى كذلك الى يوم القيامة.
وأن علماء العالم ومفكريه صاروا يدركون أكثر فأكثر عظمة الإسلام وعمق رؤيته ودقة نظرته وصلاح قوانينه.
ص: 54
طريقة النبى(صلی الله علیه وآله وسلم)
فى تبليغ رسالته
ص: 55
حينما نزل النبيّ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) من جبل (حراء) متوجهاً الى بيته، كان يرى نفسه في عالم آخر، إذ أنه قبل أن يذهب الى الجبل لم يكن نبياً، أمّا الآن فقد ارتبط بمبدأ العالم وخالقه، وتحققت تلكم النبؤات والبشارات التي بشره بها «بحيرا» وغيره من الرهبان والعارفين، وعلم الآن أنّ مسؤولية خطيرة قد جعلت على عاتقه وعليه أن يتحملها ويقوم بها . وهكذا كان يفكر في أطراف هذه المسؤولية وعواقبها ومقتضياتها وإن قيل أنه كان حينذاك قلقاً مضطرباً، فانما كان لأجل هذه المسؤولية وثقلها، لا لأجل أنه لم يكن يعلم أنه صار نبياً أم لا، أو كان يخشى أنه قد أصيب بسحر أو جنة فالحقيقة أن كل هذه الأوهام لم تجد طريقاً الى قلب محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) ابداً، إذ أن البشائر والنبؤات السابقة التي كان قد سمعها من أفراد متعددّين، ورؤيته الجبرئيل علیه السلام الذي بشره وقال له «يامحمّد أنت رسول الله»(1) هذه الأمور كلها كانت كافية ليقطع بأنه نبيّ هذه الأمة . هذا بالإضافة الى أن الله تعالى حينما ينتخب نبيّاً لهداية الناس فلابد أن يريه من الآيات والبراهين الساطعة ما يجعله يتيقّن ويطمئن الى أنه مرسل من قبل الله تعالى لكي يستطيع هذا النبيّ المرسل أن يسعي في طريق
ص: 56
الإصلاح والهداية بقلب مطئمنّ وعزم راسخ وإيمان قوي ثابت. وبناء على هذا نفهم كم يكون الادعاء باطلاً ومن دون تحقيق حين يقال «إن محمّداً لم يعلم أنه قد صار نبياً بعد لقائه الأول مع جبرئيل(علیه السلام) في الغار، وأنه كان قلقاً مضطرباً . وأفضى بمخاوفه الى خديجة(سلام الله علیها) أن يكون قد صار كاهناً أو تكون به جُنّة، الى أن طمأنته خديجة وبشرته بأنه سيكون نبيّ هذه الأمة(1).
إنّ ما حدث يوم البعثة من نزول الوحي على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ... أوجب أن يتأخر محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الرجوع الى البيت، وقد قلقت خديجة(سلام الله علیها) حينما استبطأته، وارسلت من يلتمسه في الغار إلّا أنه لم يجده، وفجأة رأت محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)يدخل عليها البيت وآثار التغيّر بادية عليه، فسألته عن سبب تأخره في المجيء فأجابها (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبرها عمّا جرى له في ذلك اليوم. وكانت خديجة(سلام الله علیها) منذ مدّة طويلة تنتظر مثل هذا اليوم، ذلك أنها سمعت غلامها«ميسرة » ذات مرة وهو يحدثها عن الراهب النصراني في حقّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهما في طريق الشام إذ قال له «إنّ هذا نبيّ هذه الاُمة»(2) كما أنها كانت قد تلقّت بشارات من بعض علماء اليهود والنصارى الذين أكدوا أنه سيكون له شأن عظيم.
لهذا كله قامت خديجة(سلام الله علیها) وانطلقت الى ابن عمها «ورقة بن نوفل» الذي كان مسيحياً قد قرأ الكتب وسمع من أهلها، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) و ما رآه وسمعه فقال ورقة: «والذي نفس ورقة بيده لقد جاء الناموس الأكبر (أي جبرئيل علیه السلام ) الذي كان يأتي موسى، وأنه لنبي
ص: 57
هذه الاُمة (1) .
ورجعت خديجة(سلام الله علیها) من عنده وبعد أسئلة قصيرة طرحتها على النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) واستفسار عن رسالته الجديدة أسلمت على يده(صلی الله علیه وآله وسلم)وآمنت به وصدقت بما جاءه من الله، وبهذا حازت قصب السبق والفخر فكانت أوّل من أسلم من النساء (2).
أصيبت قريش في احدى السنين بأزمة قحط شديدة، وكان أبو طالب(علیه السلام) ذا عيال كثير، ومال قليل مما دعى النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) أن يأخذ «علياً (علیه السلام)« الى بيته ليخفف بذلك عن عمه أبي طالب(علیه السلام) (3)، ومنذ ذلك الوقت والنبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) كالأب الحاني المحب يحرص على تربيته وتنشئته بأحسن وجه ولأن علياً (علیه السلام) كان يعيش في بيت محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) فقد كان أكثر من غيره تعرفاً على خصوصيات النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) الاخلاقية وفضائله وصدقه. ولذا فقد سارع الى الايمان بنبوة محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) عن بصيرة كاملة في أمره وهو في العاشرة من عمره، وبهذا حاز هو الآخر قصب السبق من الرجال فكان أول رجل آمن بالله ورسوله (4).
كانت الصلاة أوّل الواجبات التي فرضها الله تعالى على النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) والمسلمين، بعد الأمر بتوحيد الله وعبادته وحده، ومن هنا يتضح مدى
ص: 58
أهمية وعظمة الصلاة باعتبارها ركيزة الارتباط بين الانسان وخالقه، والمعبرة عن شكر الله تعالى على نعمه التي لا تحصى ولهذا أكد قادة الإسلام والرسول الأعظم على الخصوص في وصاياهم على أهمية الصلاة ومنزلتها فقد جاء في الحديث : «الصلاة عمود الدين»(1) وورد كذلك عن الائمة الاطهار (علیهم السلام) «لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة »(2).
وعلى أي حال فقد أوحى الله تعالى الى نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم) بواسطة جبرئيل (علیه السلام) كيفية الصلاة وشرائطها وقد علمها النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) خديجة(سلام الله علیها) وعلياً(علیه السلام)، وأقاموا معاً الصلاة جماعة يؤمهما النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)(3).
بدأ نبي الإسلام (صلی الله علیه وآله وسلم) دعوته السرية أول الأمر وذلك لمدة ثلاث سنين ، ذلك أن أرضية الجزيرة العربية بشكل عام ومكة وأطرافها خاصة لم تكن مهيأة لتقبل الدعوة العلنية للاسلام وهم الذين قضوا السنين الطويلة في عبادة الاصنام والشرك بالله تعالى، ولو كان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) قد أعلن دعوته بادىء الأمر لواجهته مشاكل وعقبات صعبة تحول بينه وبين هدفه الأساسي المقدّس، ولهذا كان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) يقف على مرأى من المشركين الذين كانوا يعبدون آلهة متعددة... ليقيم الصلاة التي هي عبارة عن مجموعة من المعارف المعنوية والتي تعبر عن الشكر والثناء والدعاء لله الخالق الواحد الأحد .
لقد كان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) ومعه على (علیه السلام) وخديجة(سلام الله علیها) يذهبون الى
ص: 59
مناطق تجمع الناس «كالمسجد الحرام » و «منى» ويقيمون الصلاة جماعة أمام الآخرين، وكان هذا الأمر بمثابة أسلوب عملي في الدعوة الى عبادة الله وحده(1).
يروى عن عفيف أنه قال: «كنت امراً تاجراً فقدمت أيام الحج وأتيت العباس بن عبد المطلب فبينا نحن عنده إذ أقبل شاب فرمى ببصره الى السماء ثم استقبل الكعبة وبدأ الصلاة فلم يلبث حتى جاء غلام فوقف عن يمينه. ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما فصلوا معاً، فقلت ياعباس ماهذا الدين الذي لا أدري ماهو؟
فقال العباس: إنّ هذا الشاب محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ويعتقد أن الله الذي خلق السماوات والارض قد أرسله لهداية الناس، وليس على هذا الدين اليوم غير هؤلاء الثلاثة وان هذه المرأة هي زوجته خديجة بنت خويلد، وهذا الغلام ابن عمه علي بن ابي طالب علي بن ابي طالب(2) واستمر النبيّ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) على هذه الحالة حتى بدأ عدد المسلمين يتزايد يوماً فيوماً، وتوسعت دعوته على رغم مناهضة المشركين، ولذا فقد صدر الأمر من الله تعالى لنبيه أن يعلن دعوته ويصدع بأمره لأن الأرضية للعمل الاسلامي العلني صارت معدة ومهيأة.
لقد توفرت الأرضية المساعدة لإعلان الرسالة الاسلامية بعد أن استمر عدد المسلمين بالازدياد، وكانت المرحلة الأولى أن يدعو النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) أقاربه وعشيرته الى الإسلام، فنزلت عليه هذه الآية ﴿ وأنذر عشيرتك
ص: 60
الأقربينَ)(1) وانما اختص أقاربه بالدعوة أول الأمر لسببين:
أولهما: لكي لا يقال لماذا لايدعو النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) أهله وعشيرته الى دينه الجديد ويذهب لانذار البعيدين عنه، فان كان في دعوته خير وسعادة فلماذا يحرم منها عشيرته وأقاربه ؟
وثانيهما: أنه كان بحاجة الى حماية أكثر تساعده على المضي في نشر رسالته وتمنع عنه أذى الجاهلين.
لهذا فان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآية أمر علياً (علیه السلام) بأن يهيء طعاماً ويدعو اليه عشيرته الذين كان يبلغ عددهم حوالي أربعين نفراً. فامتثل عليّ (علیه السلام) أمر النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وهيأ ما أراد ولما حضر الجميع جاء النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) بمقدار من ذلك الطعام بحيث شبعوا بأجمعهم دون ان ينقص من الطعام شيء فتعجب الحاضرون واندهشوا لذلك، إلّا أبو لهب الذي فض الاجتماع وقال «إنه عمل ساحر» قال هذه الكلمة غافلاً عن ان السحر لا يمكن أن يشبع الانسان حقيقة وواقعاً، إذ لا يتعدى السحر ان يكون أمراً وهمياً خيالياً .
وبهذا فإن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) لم يستطع ان يتكلم شيئاً في هذه المرة ولكنه كرر الدعوة لهم في اليوم التالى وأطعمهم بنفس الصورة السابقة وبعد ذلك قام فيهم خطيباً وقال: « يابني عبد المطلب، لقد أرسلني الله اليكم نذيراً وبشيراً، والله ما أعلم إنساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم اليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، وأن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ فسكتوا جميعاً، إلّا علياً فقد نهض وهو ما يزال صبياً وقال «أنا يارسول الله عونك أنا حرب على من حاربت» فأجلسه النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وأعاد عليهم مقالته
ص: 61
ثلاث مرات وفي كل منها يقوم على (علیه السلام) فقط وحينذاك أشار النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الى علي (علیه السلام) وقال «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا »(1).
وفى هذا اليوم بالذات أعلن عدد من الناس اسلامهم(2).
ولكن الجهل والتعصب لم يدعا ان يؤمن بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) كافة اقربائه وعشيرته، وإن لم يكن ذلك المجلس خالياً من الأثر بالنسبة الى حماية النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) واسناده، وفي هذه القصة يتضح أمران: أحدهما: معجزة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) اذ أنه أشبع أربعين نفراً بطعام قليل.
وثانيهما: أن الكلمات التي قالها النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) في حقّ علي (علیه السلام) أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك والريب ان علياً (علیه السلام) هو وصي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وخليفته بدون منازع، وأنه هو المعدّ لمواصلة قيادة الرسالة الاسلامية .
وهكذا تهيأت الظروف لانتقال الدعوة الاسلامية الى المرحلة العلنية وبدأ النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) جهاده وواصله بروح لاتعرف التعب والكلل، فلم يتوان ساعة عن أداء رسالته المقدسة، وفي هذا الوقت بالذات بدأت راية الإسلام بالاهتزاز، وشرعت الحقيقة تتقدم الى الأمام، يسطع نورها ويتلألأ ليكتسح الظلام .
ص: 62
الدعوة العامة لمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم)
ص: 63
مرت ثلاث سنين على بعثة النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) كان خلالها يدعو الناس الى الإسلام بصورة سرية، ولا يدخر وسعاً في سبيل انقاذ الناس الذين جرفتهم مفاسد الجاهلية، وتمرغوا في أوحال الشرك والضلال، وكان الحب والحنان، والرأفة، والمنطق الجذاب هو الطريق، وهو السلاح الذي بواسطته يدخل الى قلوب الناس ويجتذبهم الى التوحيد وعبادة الله وحده(1) .
ولكن هذه المرحلة السرية لم تدم ذلك ان الإسلام رسالة عالمية ولابد أن تصل الى مسامع جميع الناس ( وَما أرسلناكَ إلّا رَحمةً للعالمينَ) ولهذا كان لابد أن يظهر الدعوة ويعلن الأهداف التي جاءت لأجلها رسالته السماوية .
بعد أن أمر الله نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم) أن يصدع بدعوته ويعلنها الى الناس وينشرها بين القبائل جمعاء، امتثل النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) هذا الأمر وأراد أن یبین حقيقة دعوته على الملأ، فتوجه الى جبل الصفا» ليخاطب الناس من
ص: 64
ذلك المرتفع، ووقف(صلی الله علیه وآله وسلم) هناك ونادى برفيع صوته « ياصباحاه» فاجتمعت اليه قريش فقالوا مالك ؟ قال أرأيتم إن اخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقونني ؟ قالوا بلى، قال فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد(1).
فنهض أبو لهب وقطع عليه كلامه لئلا تؤثر كلماته في قلوب الحاضرين وصاح في وجه النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) قائلاً : تباً لك، ألهذا دعوتنا؟ بهذه الكلمات البذيئة استطاع ان يفرق الجموع ويفسد على النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) دعوته، ولقد جازاه الله تعالى على هذا الانكار والعداء لله ورسوله أن أنزل سورة من القرآن في ذمه، وهي: (تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ وتَبَّ) الى آخر السورة(2).
ردود الفعل لنداء النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)
لقد كان لنداء النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) وكلماته الحكيمة البليغة كبير الأثر في كثير من الذين استمعوا اليه . وبدأ الحديث وانتشر في مجالس قريش ومحافلهم عن الدين الجديد الذي جاء به محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) ولقد وجد البعض ممن أرهقتهم المظالم والهبت ظهورهم سياط الظلم والعدوان... وجدوا في هذه الدعوة العادلة الرحيمة نافذة أمل ورجاء في اصلاح أحوالهم، ونجاتهم، مما كانوا يقاسون من الذل والحرمان.
ولكن أشراف قريش وزعمائها لم يستجيبوا للدعوة الجديدة، بل صمموا على الوقوف في وجهها ووضع العراقيل أمامها ذلك أنهم وجدوا النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) يسخر من آلهتهم التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم، ولم يكن يترك فرصة إلاّ وندد بسخف عقائدهم، وبين زيفها وبطلانها، والحقيقة هي أنهم بدأوا يشعرون بما في دين محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) ودعوته من خطر يهدد
ص: 65
كيانهم ومكانتهم اذ ان الناس لو تركوا الأصنام وعبادتها وتوجهوا الى الله تعالى وحده بالتعظيم فأين تذهب منافع هؤلاء السادة الحاكمين ؟ ومن يمتثل أوامرهم ويخضع لمقامهم الديني الشريف ؟
ولم يروا بُداً أن يجلسوا في دار ندوتهم ويبحثوا فيما يجب اتخاذه لمنع هذه السيرة المباركة من التقدم، وقد استقر رأيهم على أن يذهبوا الى أبي طالب(علیه السلام)كبير قريش والذي كان بمثابة الوالد للنبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)ليطلبوا منه أن يمنع محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم)من الاستمرار في دعوته فذهب اليه رجال من أشراف قريش وفي مقدمتهم أبو سفيان، فتحدثوا عن محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) ودينه وأنه سب آلهتهم وعاب دينهم، ولكن أبا طالب(علیه السلام) ردّهم ردّاً جميلاً.
وجد أشراف قريش أن محاولتهم الاُولى لم تثمر، فقد مضى محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) في نشر رسالته، وازداد أعوانه يوماً بعد يوم، فمشوا الى أبي طالب عليه السلام مرة أخرى فقالوا له: « يا أبا اطالب إن لك سنّاً وشرفاً ومنزلة فينا وقد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا، وانا والله لانصبر على شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله واياك في ذلك - أي القتال - حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا عنه ». فدعا أبو طالب (علیه السلام) محمداً (صلی الله علیه وآله وسلم) وأخبره بمقالة القوم، وطلب رأيه في ذلك . فأجابه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قائلاً: « ياعم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ثم خرج متأثراً وقد خنقته العبرة» .
فناداه أبو طالب (علیه السلام)، وقال له: «أقبل يابن اخي فلما أقبل، قال له:
ص: 66
اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء ابداً» (1).
ثم إنّ قريشاً سلكوا طريقاً آخر لمنع أبي طالب(علیه السلام) من مناصرة محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وحمايته فمشوا اليه واخذوا معهم عمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له: يا ابا طالب، هذا عمارة بن الوليد أقوى فتى في قريش وأجملها، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً فهو لك وأسلم إلينا ابن اخيك هذا، فنقتله، فانما هو رجل برجل، فأجابهم أبو طالب (علیه السلام) قائلاً: والله لبئس ما تسومونني اتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله مالا يكون ابداً (2).
لقد ظن زعماء قريش انهم قد يستطعيون ايقاف النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) عن المضي في دعوته وذلك باغرائه بالمال أو الشرف أو الملك والمنصب، ولهذا فقد جاءوا اليه ذات مرة وقالوا له: يا محمّد، ان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالّا، وان كنت انما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا وان كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا وان كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانا يسمون التابع من الجن رئيّا - فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطبيب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك .
«فقال لهم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): ما بي ما تقولون : ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني اليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلّغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وان تردّوه عليّ
ص: 67
أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم »(1).
ولما رأت قريش أن جميع أساليبها لم تنفع في كف محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) عن تبلیغ رسالته، قنعوا واكتفوا منه ان يكفّ عن شتم آلهتهم ويتركوه وشأنه، لذا جاءوا الى ابي طالب(علیه السلام) وطلبوا منه ان يبلغ محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم) مقالتهم فأرسل أبو طالب الى النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) فلما دخل عليه أخبره باقتراحهم .
فقال النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) ياعم : أولا أدعوهم الى ما هو خير لهم أدعوهم الى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم؟
فقال أبو جهل: ماهي؟ وابيك لنعطينكها وعشراً أمثالها ؟ قال النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) أن تقولوا: « لا اله الّا الله » فنفروا واقالوا: سلنا غير هذه، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها(2) .
ولما وجد زعماء قريش أن أحاديثهم مع النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) لا يمكن أن تؤدي الى نتيجة لصالحهم تجعله ينفض يديه من رسالته، فلا التهديد ولا الوعيد يستطيع أن ينال عن عزم النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وثباته، فقد صمموا أن يتخذوا قباله موقفاً أشدّ.
ص: 68
مشاكل الطريق
و تعذيب قريش
ص: 69
منذ اليوم الذي بدأ فيه النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) دعوته العلنية للاسلام، وزعماء قريش يتبعون الأسلوب تلو الأسلوب لاسكات هذا الصوت المقدس ومنعه من الاستمرار في الدعوة الى رسالته الكريمة المقدسة فلقد لجأوا أوّلاً - كما هو متعارف في مثل هذه الحالات - الى الاغراء بالأمور المادية واطلاق الوعود من أموال ورئاسة ونساء وغير ذلك ولما يئسوا من ذلك استعملوا أسلوب التهديد والوعيد، وأخيراً سلكوا طريق الأذى والتعذيب ليصدوا الناس عن اتباع الدين الجديد.
وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)مرحلة اتصفت بالحقد والوحشية من قبل قريش ليمنعوا رسالة الإسلام من التوسع والانتشار خوفاً على مصالحهم الرخيصة وحفاظاً على مكانتهم المهزوزة وتسلطهم الجائر على أعناق الضعفاء ولهذا لم يراعوا القواعد الانسانية والاصول الأخلاقية في الوصول الى أهدافهم في الحيلولة بين النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) وتبليغ رسالته الى الناس.
وهنا لا يمكن أن ننسى أن المستوى العقلي والفكري لذلك العصر كان دخيلاً في عدم تقبل البعض من الناس لرسالة الإسلام إلَّا ان مخالفة قريش وعداءها إنما اشتد وقوى حين أحسّوا أن في هذه الرسالة خطراً جدياً
ص: 70
عليهم، ذلك أنهم وجدوا النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) يسخر من أصنامهم ويقول: ما عسى أن تفعله هذه الاصنام الخرساء المصنوعة من الخشب أو الحجر أو تجلبه من البركة ؟
وكانوا يعتبرون ذلك ضربة قاسية توجه اليهم لأنهم كانوا يعتبرون عبادة الأصنام جزءاً مما ورثوه ن آبائهم وأجدادهم وأمجادهم التي يفاخرون بها.
ولكن الأهم من ذلك كله أنهم وجدوا أن تعليمات الدين لا تتلائم مع مصالحهم الطبقية ومنافعهم الضيقة فقد كان زعماء قريش لايريدون بحال من الأحوال - أن يتنازلوا عن تسلطهم واستثمارهم للطبقة الفقيرة الكادحة والمحرومة، وامتلاكهم للرقيق - العبيد - الذين كانوا يعاملونهم بمنتهى القسوة والوحشية وكذلك كان أصحاب الأموال من المرابين يريدون ابقاء النظام الربوي ليمتصوا ما يحلو لهم من دماء الناس الضعفاء وكذلك كان جبابرتهم وطغاتهم والمتكبرون منهم يسعون الى سيطرتهم على الناس ونهب أموالهم والاعتداء على حرماتهم وإرهابهم بقوة السيف والسنان. وهكذا نجد أن من الطبيعي لهذه الرسالة الجديدة التي أعلنت منذ ساعتها الاولى مخالفتها واستنكارها لكل هذه التجاوزات على الحقوق الانسانية والظلم الصريح الذي يرتكز عليه النظام الاجتماعي الفاسد كله، من الطبيعي ان تواجه مخالفة شديدة وعداء مستحكماً من الطبقة المتنفذة والمنتفعة من استمرار النظام القديم.
وتطالعنا بين أفراد هذه الطبقة المخالفة للدين الجديد أسماء شخصیات قرشية معروفة مثل: أبي جهل، أبي سفيان، أبي لهب، الأسود بن عبد يغوث، العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابني ربيعة، الوليد بن
المغيرة، عقبة بن أبي معيط .
ص: 71
ولقد استعمل هؤلاء وأتباعهم كل الأساليب اللاإنسانية، من تهم رخيصة وسب مقذع وحصار اقتصادي ومالي، وتعذيب نفسي ضد محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) وأتباعه المسلمين وهنا نشير الى بعض الأمثلة من ذلك :
1 - بينا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ساجد وحوله ناس من قريش وثم سلى بعير فقالوا من يأخذ سلى هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره؟ فجاء عقبة بن نافع بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) وجاءت فاطمة (سلام الله علیها) فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك ....(1) .
2 - عن طارق المحاربي قال: رأيت النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) في سوق ذي المجاز بمكة، وهو يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ويدعو الناس الى الإسلام وتوحيد الله فيما كان أبو لهب يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمى رجليه، وهو يقول: «أيها الناس: لا تطيعوه فانه كذاب»(2).
وبالاضافة الى النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) فقد تعرض أصحابه وأتباعه الذين أسلموا على يديه وآمنوا به ... الى أبشع تعذيب وحشي لا إنساني.
3-روي عن جابر أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مر يوماً بعمار وأهله يعذّبون في الله، فقال: «ابشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة» (3) يقول ابن الأثير: كان المشركون يعذبون عماراً وأباه وأمه أشدّ العذاب وذلك بأن يخرجوهم الى الابطح اذا حميت الرمضاء - الارض - يعذبونهم بحر الشمس الملتهبة .
ولقد قتلت (سُمية) أم عمار وهي أول شهيدة في الإسلام، بحربة ضربها بها أبو جهل وقتلها كما قتل ياسر (والد عمار) هو الآخر تحت تعذيب المشركين.
ص: 72
وشددوا العذاب على عمار نفسه بالحر تارة وبوضع الصخرة على صدره أخرى وهم يريدون منه أن يسب محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم) ويظهر الكفر وهو يمتنع عن ذلك حتى أجابهم الى ذلك تقية منهم وإن كان قلبه مطمئناً بالايمان كما تقول الآية وبذلك نجا من الموت الذي كان ينتظره على أيديهم(1).
4 - ومن جملة من عذّب (بلال) الحبشي وكان عبداً قد أسلم على يد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وكان مولاه اذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على ظهره ثم يأمر بصخرة عظيمة فتلقى على صدره ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعُزى وكان بلال صامداً صابراً في تحمل كل ذلك العذاب والتهديد ولا يجيب إلاّ بكلمة واحدة يكررها ويقول : أحد أحد(2).
وإننا لنأسف من أنه لا يسعنا في هذه المقالة الموجزة أن نستوعب جميع القصص المحزنة والصور الفريدة التي تعرض لها النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) والمسلمون في صدر الإسلام وأيامه الاُولى، ولكننا يمكن أن نقول: إن المشركين وأعداء الإسلام لم يدعوا وسيلة إلّا واستعملوها، لمناهضة الإسلام وحربه والوقوف في وجهه ويمكن الاشارة بصورة إجمالية الى هذه الوسائل والأساليب :
1 - الضغوط الاقتصادية: لقد شن المشركون حرباً اقتصادية شديدة على النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وعشيرته وأتباعه المسلمين، فحرموا جميع أنواع المعاملات التجارية معهم، وكان ذلك سبباً لأزمة شديدة وحصار أليم للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ومن معه
ص: 73
2 - الحرب النفسية: وكانت تتمثل في قطع الروابط الاجتماعية بالمسلمين وعدم الزواج معهم، بالاضافة الى اتهام النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) بالسحر تارة والكذب اخرى لاضعاف الروح المعنوية لدى المسلمين .
3- التعذيب الجسدي : الذي كان هو الآخر من الأساليب الوحشية اللاإنسانية التي استعملتها «قريش» للقضاء على النهضة الجديدة بقائدها وأتباعها، وقد أدى هذا الإيذاء والتعذيب الى استشهاد عدد من المؤمنين في صدر الإسلام .
ولكن بالرغم من كل هذه الاساليب المقيتة التي إتبعها المشركون في حربهم ومناهضتهم للاسلام والنبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) والمسلمين ... فإنّ الإسلام استمر في تقدمه وانتشاره، كما استمر النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) في دعوته الناس الى طريق الحق المستقيم، وكذلك استمر المسلمون في جهادهم وثباتهم على دينهم القويم .
ولقد سلكوا هذا الطريق المجيد المليء بالفخر وتحملوا المشاكل الكثيرة والإيذاء والآلام والشقاء والصعاب والهجرة والتشريد .... كل ذلك حرصاً على دينهم وفي سبيل عقيدتهم وإيمانهم .
ومن الأمور المهمة التي نستفيدها من حياة وتاريخ المسلمين في صدر الإسلام أننا خلافاً لمزاعم وادّعاء اعداء الإسلام لانجد تقدم الإسلام وانتشاره معتمداً على السيف والحرب بل انه خلال مدة ثلاث عشرة سنة عانى المسلمون فيه أشد أنواع القسوة والتعذيب من أعدائهم، كان الاسلام يقاوم ذلك كله ويتقدم وينتشر.
ص: 74
هجره النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)
بدایه تاریخ و تحول فی
ص: 75
كان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) يقرأ في قسمات وجوه أهل مكة ما تكنه قلوبهم له من تكذيب ... وماسيزرعون في طريق الإسلام من عوائق وعقبات.
وكان يعلم أن هؤلاء القوم الغارقين في الجهالات والخرافات، لا يمكن لهم أن يتركوا ما هم عليه بسهولة ويسر، ولكي يتم اخراجهم من الظلمات الى النور، لابد من صراع عنيف تبذل فيه جهود جبارة تصل الى حد التضحية والفداء .
وعلى أساس من هذه النظرة البعيدة ... التي تعي ما يحمله الغد من صعوبات ... وبمثل هذه البصيرة النافذة الى كل زوايا المستقبل البعيد... نهض النبيّ الأعظم(صلی الله علیه وآله وسلم) بأعباء الرسالة.
وأقام(صلی الله علیه وآله وسلم) بمكة المكرمة بعد بعثته ثلاثة عشر عاماً (1) يتحمّل فيها ألوان المشقات ويحاول التغلب على المصائب التي تواجهه، ولكن أعداء الإسلام لم يكفّوا عن ايذائه بل ومحاولات القضاء على رسالته بشتى الطرق والاساليب ... وكان هذا الوضع يستدعي نقل مركز القيادة من مكة الى مكان آخر يتوفر فيه الجوّ المناسب الذي يحفظ للرسالة استمرار نموها و انتشارها .
ص: 76
في أحد مواسم الحج التقى النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المسجد الحرام بعدد من كبار «الخزرج»، فدعاهم الى اعتناق الإسلام الذي هو دين السلام العادل والأخوة المثلى .... ووجد هذا النفر من الخزرجيين في الإسلام ضالتهم المنشودة ... فقد كانوا يعانون الكثير من صراعهم المزمن من «الأوس».
وكان هذا الصراع قد بعث في هذه الفترة بالذات من جديد فاستجابوا لدعوة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكل اخلاص ... وطلبوا منه أن يرسل معهم من يعلمهم أمور دينهم، فأوفد معهم مصعب بن عمیر (رضوان الله).
وهكذا بدأت الدعوة الى الإسلام تنتشر في يثرب ... وأخذ أهلها يدخلون في دين الله أفواجاً. وكان من العوامل الرئيسة والفعّالة في اعتناق هؤلاء لهذا الدين الجديد آيات الله البينات الّتي تقرأ عليهم. وكتب مصعب الى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره باسلام أغلبية القوم من الأوس والخزرج.
بعد هذا التقى النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بمجموعة كبيرة من أهل يثرب قدموا لأداء فريضة الحج ... التقى بهم سراً فبايعوه على أن يحموه ويدافعوا عنه اذا قدم اليهم كما يدافعون عن نسائهم وأولادهم(1).
هذه البيعة المصيرية في تاريخ الرسالة الاسلامية كانت دليلاً على أن غرسة الإسلام بدأت تؤتي أكلها ...
كان الظلام مايزال مخيماً عندما طرق سمع قريش النبأ الصاعقة ... نبأ بيعة اليثربيين للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعاهدتهم له ...
ولأجل تطويق هذا الحادث والقضاء على الانتصار الذي احرزه رسول
ص: 77
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهافت شيوخ الشرك الى دار الندوة .
وبعد أخذ وردّ وإبرام ونقض قرروا أن تنتدب كل قبيلة رجلاً ... لينقض هؤلاء المنتدبون على بيت النبي ليلاً ويقتلوه .... وبالقضاء عليه يتم القضاء على دعوته وينتهي كل شيء(1).
هذا ما أراده الكفار، ولكن الله سبحانه أراد شيئاً آخر ... فأطلع نبيه على ما يبيت له القوم وأمره أن يغادر مكة ليلاً (2) .
وأودع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان عنده من أمانات الناس عند علي عليه السلام ليردها الى أصحابها وقال له أنه مغادر مكة وأمره أن ينام على فراشه لكي لا يتنبه الأعداء المغادرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المنزل ... وامتثل الإمام سلام الله عليه أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونام على فراشه راضياً أن تهدد سلامته كل الأخطار التي كانت تهدد حياة الإسلام ممثلاً بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
لقد كان موقف الامام علي عليه السلام هذا خالصاً لوجه الله وغاية في الأهمية بحيث أن الله سبحانه ذكره في القرآن الكريم وأثنى عليه(3).
ولم يطبق الظلام إلا وبيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)محاصر ... وأعداء الله المنتدبون من كل قبيلة يظنون أنهم أحكموا الخطة...
ص: 78
ههنا بيت الرسول يحيط به نفر سوء ... وداخل البيت علي(علیه السلام) يبيت حيث اقتضت المصلحة وجاءه الأمر ... وخارج البيت ثعابين، ياللشيطان الى أي حدّ استطاع إغواءها !! حتى أنها أصبحت بعد رسم الخطة تنتظر بفارغ الصبر نبأ مقتل سيدّ المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) .
والى جانب هذه المشاهد الثلاثة كان ثمة مشهد رابع ...
ها هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متجهاً الى غار ثور ... عبر طريق خاص بعد أن غادر البيت وهو يقرأ آيات من سورة يس ... واصطحب معه في رحلته أبا بكر (1).
وجرّد اُولئك النفر المشؤومون الذين كانوا يحاصرون البيت سيوفهم ... وهجموا باتجاه فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَلِكُمْ كان هول الصدمة قاسياً رأوا علياً(علیه السلام) على فراشه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وأسقط في أيديهم ... وباضطراب سألوا: « أين ابن عمك محمّد ؟!! قال علي(علیه السلام): أجعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم لهَ: اخرج عنا فقد خرج عنكم فما تريدون ؟ ... »(2).
وحين رأت قريش أن كل جهودها قد ذهبت سدى شعرت بأنها طعنت كبريائها في الصميم فحاولت جاهدة العثور على رسول الله ... ولكن لم يحالفها النجاح.
بقي النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في غار ثور ثلاثة أيام . ثم اتجه الى يثرب... وكانت هذه الفترة كافية لزرع اليأس في قلوب الكفّار ليكفوا عن ملاحقته.
ص: 79
والتاريخ يذكر لنا أن رجلاً مكياً يدعى «سراقة بن مالك» كان قد كان قد تتبع أثر الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ولكنه مرّ بصعوبات وعثرت به الفرس واسقطته ارضاً مما دعاه لأن يتوب ويرجع(1).
وفي الثاني عشر من ربيع الأول وصل(صلی الله علیه وآله وسلم) الى منطقة يقال لها (قبا) (2) واقام فيها عدة أيام (3) ينتظر قدوم الامام علي(علیه السلام) ... ولقد أصر أبو بكر على النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) أن ينتقل الى يثرب لكنه (علیه السلام) عللّ بقاءه بقوله: ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عزوجل، وأحب أهل بيتي اليّ، فقد وقاني بنفسه من المشركين .
والتحق الامام علي عليه السلام بالنبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) بعد أن أدى الأمانات الى أصحابها، ولقد حاول الكفار أن ينالوا من الامام(علیه السلام) ولكنه تصدى لهم فردّهم الله سبحانه وتعالى بغيظهم ووصل (علیه السلام) الى قبا متعباً قد هدّه الأعياء واعتنقه الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه، فلم يشتكهما بعد حتى قتل(4)....
كان الناس في يثرب في انتظار القائد الأعظم وقد دبت في المدينة روح جديدة وأصبح وضعها غير طبيعي ... فكأنما اليوم يوم عيد ... العيون مسمرة في اتجاه قبا ... والأعناق مشرئبة نحوها ...
ويوم الجمعة ... هذا اليوم المبارك ... دخل النبيّ الأكرم (صلی الله علیه وآله وسلم) مدينته المنورة ... فاكتظّت الطلائع المسلمة عليه وتحلّفت حوله ... ويا لنعماها
ص: 80
سعادة ... سعادة هؤلاء الذين نعموا بلقاء سيد المرسلين(1)...
هكذا كانت بداية قصة المدينة مع النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)
وفي المدينة ركز (صلى الله عليه وآله وسلم) أسس الإسلام وارسى قواعده.
وبعد دخول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يثرب تغير اسمها فاصبح (المدينة المنورة).
ثم إن هذه السنة التي غادر(صلى الله عليه وآله وسلم) فيها مكة الى المدينة أصبحت بداية للتاريخ الهجري ... وذلك لما تحمله الهجرة من معان جليلة .... وسيظل بقاء الإسلام مديناً للمدينة ...
وستظل جهود رسول الله والقلوب التي لامس الإيمان شغافها ... فوق كل الجهود ... ومن قبل كل هذا ومن ورائه توفيق الله وتسديده....
(ويَأبى اللهُ إلّا أنْ يُتم نورهُ ولو كرهَ الكافرونَ ) .
والآن ... وبعد أن مضى على هذه الواقعة العظيمة أربعة عشر قرناً ... دعنا نتصفح التايخ لنتأمل الفعاليات والمشاكل التي بذلت وواجهت المسلمين في سبيل الهجرة من مجتمع لا يمكنهم أن يعبروا فيه عن آرائهم بصراحة ... ولا ان يمارسوا معتقداتهم بحرية ..
الدرس الذي يجب ان نستفيده أن هؤلاء المسلمين الذين نجوا من شر قريش ... وجو مكة المليء بالمتاعب والمصاعب وانتقلوا الى جو هادىء ... لم يركنوا الى الدعة والاستقرار ... ولم يلجأوا الى ما مرّ بهم من نكبات في امسهم محاولين حمل الرسالة ... بل
ص: 81
استمروا في الدعوة الى الله والى دينه ليكونوا المجتمع الذي اراد الله أن يكون .
ولقد كانت جهودهم المتلاحقة ... ومواقفهم الفدائية ... هي السر الذي يكمن وراء التغير السريع العجيب الذي طرأ على حياتهم وأنالهم درجة رفيعة لأينالُها الأكل ذي حظ عظيم ... ولا غرور أن استطاع المسلمون في الصدر الأول أن يحققوا هذه الانتصارات . لا غرور في ذلك مادام قائدهم هو النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).
إن من الضروري ان نغذي أبناءنا ونربيهم على أن عزة المسلمين الأوائل انما كانت في ظل الايمان والعمل .
واذا نريد العزة فليس لها إلا هذا الطريق، أما ماعداه فإنه يجلب عزاً ظاهراً لا يلبث ان يتبدد ويزول .
ص: 82
اطروحة الاخوة الاسلامية
فى المدينة المنورة
ص: 83
يولد المجتمع الفاضل ويتكامل في ظل الانسجام والتلاؤم والثقة المتبادلة بين الأفراد .
ومجتمع كهذا تخيم عليه السعادة ويغمرها الهناء والسرور ... ولقد مهّد الإسلام لبناء المجتمع الفاضل الذي يريده ومن أجل ذلك تخطى كل الفوارق العرقية والعنصرية وحواجز اختلاف اللغات، وقرر أن الناس سواسية كأسنان المشط، وجعل المقياس الوحيد هو التقوى .
(إن أكرمكم عند الله اتقاكم )(1).
و «الاخوة الاسلامية» هي خير تعبير عن تكاتف المسلمين وتضامنهم...
قال تعالى ( إنما المؤمنون إخوةٌ ) (2).
بعد أن دخل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة وبنى المسجد الذي هو في الواقع مركز الدعوة ومنطلقها على جميع الأصعدة، وجّه عنايته الشريفة الى البنية الاجتماعية للمسلمين فأرسى دعائم الأخوة بينهم.
وقد كان عامل الأخوة هذا ينسي المهاجرين مرارة الهجران ويقدم لهم
ص: 84
الدليل الحق على أنهم وإن كانوا قد خسروا أهليهم ووطنهم إلّا أنهم ربحوا إخواناً أوفياء أودّاء .
ولأجل هذا فلم يكتف النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) بالأخوة العامة التي تربط بين كل مسلم ومسلم ... بل آخى بين كل اثنين منهم بعقد خاص... وكان ان اختار لنفسه علياً عليه السلام أخاً وقال : هذا أخي (1).
وقد امتدح القرآن الكريم الأخوة الاسلامية ودلل على عظمة شأنها... قال تعالى ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذ كُنتُمْ أعداءاً فأَلْفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (2).
وليست الأخوّة الإسلاميّة من وحي الخيال وإنما هي حقيقة واقعة ممزوجة بروح الإيمان، وتتّضح آثارها ويتجلّى الواحد تلو الآخر... وهذا هو الإمام الصّادق عليه السلام يوضّح جانباً من هذه الآثار (3) « المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه لأنّ الله عزّ وجل خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى في صورهم من ريح الجنّة فلذلك هم إخوة لأب وأمّ » .
وان من جملة ما تقتضيه الأخوة الإسلامية الصادقة هو أن تحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك وأن تمد له يد العون عن أي طريق أمكنك ذلك ...
وليست من الاخوة الإسلامية بل إنه لبعيد عنها بعد ما بين الخافقين أن تبيت شبعاناً مرتوياً ... يجلّلك اللباس الفاخر في حين أنّ إخوة لك في الدين يعانون الجوع والعطش ولا يجدون لأسمالهم البالية عوضاً .
يقول الإمام الصادق عليه السلام: من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يشبع جوعته ويواري عورته ويفرج عنه كربته ويقضي دينه فإذا مات خلفه في أهله وولده (4).
ص: 85
والأخوّة الإسلامية من وجهه نظر الإسلام أقوى وأوثق من جميع العلائق ... حتى النسبّية منها...
قال الله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حاد اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أوَ إخْوانَهُمْ أو عَشيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ) (1) .
ولقد كان لهذا المبدأ العظيم الذي عنى به النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) أبعاده الكبيرة وآثاره الإنسانية الهامة ... فنتيجة له اصبح سلمان الفارسي وبلال الحبشي أخوين على قدم المساواة ... ومن أقرب أصحاب الرسول القائد(صلی الله علیه وآله وسلم) إليه...
ثم إنّ هنالك عداوات متأصلة وعميقة الجذور ... وتجمعات متفرّقة متحللة ... كان هذا المبدأ سبباً في إصلاحها وإحكام بنائها ... وغرس روح التحاب والتآلف والتعاضد والتكاتف فيها حتى أصبحت البيئة التي حظيت بنعمة هذه الاخوّة كأسرة واحدة كل واحد من أفرادها يشاطر الآخر أفراحه واتراحه ...
وقد قلنا فيما سبق أن أخوّة الإسلام مسألة روتينية وسنتناول ذلك الآن بشيء من التفصيل:
يقرّر الإسلام أن الأخوّة فيها مسؤولية عامّة ... بمعنى انّ على كل إنسان أن ينفتح على مشاكل الآخرين ويسهم في حلّها بمقدار ما يستطيع، ولا يصح للفرد المسلم أن ينغلق على نفسه ويعيش لهمومه وشؤونه الخاصة دون أن يشعر بالآخرين وملابسات حياتهم ... ومن أهمّ مجالات هذه المسؤولية العامّة ما يلي:
1 - التعاون الاقتصاديّ : وهو عبارة عن سدّ الاحتياجات الاقتصاديّة
ص: 86
بمختلف أنواعها ... الصحيّة والثقافية ... وتهيئة المسكن ... ووسيلة الكسب ... وقد ورد بيان هذا المجال في القرآن الكريم وفي السنّة الشريفة... ضمن نظم اجتماعية في غاية الدقة والشمول.
2 - التعاون التربوي ... وهو عبارة عن أن لا يدخر المسلم وسعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... وإرشاد الآخرين وهدايتهم ... وهذا المجال جمّ الفائدة بل لا تستقيم الحياة بدونه أبداً ... ثم إنه في الواقع نوع من حبّ الخير للناس.
ولشديد الأسف نرى أنّ المسلمين قد تركوا هذا الواجب العظيم... وأكبر الظن أنّ السبب في ذلك أوهام من نسج الخيال .. جعلتهم يعتقدون أنهم لا يملكون القوة ولا يتمتّعون بالحماية التي تتيح لهم أداء هذا الواجب.
نعم ترك المسلمون هذه السنّة المباركة ... فلم يحولوا دون تفشّي الآثام والشرور ... ولم يدعوا الى إعمال الخير ويرغبوا إليها ... فكان أن ذبلت الروح التربوية للأخوّة الاسلامية وذابت ... وفقدت من جرّاء ذلك كل الخصائص التي تبعث في هيكل المجتمع الحياة .
إن المسلمين في العصر الحاضر بحاجة الى التآخي والاتحاد اكثر من الیّ عصر مضى وذلك لأن هذه المنطقة من العالم والتي يطلق عليها اسم العالم الإسلامي منطقة غنيّة جدّاً بثرواتها الطبيعيّة إن لم نقل أنها المنطقة الوحيدة في العالم التي تتمتع بهذه الخصائص، وقد لفتت كثافة الثروات الطبيعية التي منّ الله سبحانه بها على وطننا الإسلامي انظار المستعمرين من أعداء الإسلام ... فأصبح همّهم الوحيد خيرات هذه المنطقة ... الأمر الّذي جعلهم يخططون لتفرقتنا والقاء الفتن بيننا لأنهم يعلمون أن اختلافنا
ص: 87
وتناحرنا يفتح لهم الباب على مصراعيه ويمكنهم من نهب خزائن نعمة الله في بلادنا.
إن علينا أن نكون أذكياء متيقظين لنقطع الطريق على كلّ المحاولات التي تستهدف إبقاءنا أمّة ممزّقة...
والخطوة الأولى التي لابدّ لنا منها هي بناء الأخوّة الإسلاميّة التي أرسى دعائمها النبي الأعظم(صلی الله علیه وآله وسلم).
و مهما عظمت قوّة المسلمين فإنّهم سيظلون بحاجة الى التآخي والاتحاد، وبما أنّ المسألة على هذا الجانب من الأهميّة فإنّ من الواجب أن يدرس مبدأ التآخي في الله في مدارسنا بشكل يستهوي الطلاب.
وشيء جيّد لو يدرس هذا المبدأ السامي في المرحل الدراسيّة الثانوية والجامعيّة ويطبّق علميّاً تحت إشراف مدرسين أكفاءِ والى جانب واجب المدرسة ... فإن على البيت أن ينشيء طفله نشأة اسلاميّة صحيحة... فيحسّسه بآلام الآخرين بالمستوى الذي يتناسب مع مستواه .
وليكن شعارنا:
وليكن عملنا في طريق احقاق وحدة المسلمين وتآخيهم وصيرورتهم يداً واحداً على الكفّار في ارجاء العالم .
وقد ظهر نموذج من تأثير الأخوة الاسلامية في انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة قائدها العظيم الإمام الخميني حينما رفض الشعب المسلم الايراني في ظل التعاون والتآخي حكومة الطواغيت وصار يعيش تحت لواء الإسلام وخرج عن سلطة الشرق والغرب منادياً بشعار التوحيد والله اكبر ...
ص: 88
الجهاد فى الاسلام
ص: 89
بعث النبيّ الاعظم(صلی الله علیه وآله وسلم) و رافعاً علم السّلام والأخوّة حتى استطاع في النهاية وعن طريق شعار (وَما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلعالَمينَ)(1) أن يحكّم دعائم السّلام العالميّ والتعايش السلميّ الصحيح لا المزّيف.
الإسلام ... استطاع أن يجتاز مشاكل الصراعات الطبقية والعنصريّة التي كانت عاملاً محرّكاً في كثير من الحروب ... وقدم لهذه المشاكل أفضل الحلول ... أمّا دنيانا اليوم رغم ما فيها من مظاهر التمدّن، فإنّها لم تستطع حتى الآن أن تجد لها مخرجاً من هذه الأزمة التي تهدّد وجودها ... ولذلك نرى نيران الحروب دائمة الضرام.
ولقد بلغ السلم والعدالة في الإسلام درجة من الوضوح والصراحة بحيث إنه دعي «أهل الكتاب» (2) الى الاتحاد، قال تعالى: ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَواءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ..) (3).
وعندما هاجر المسلمون الى المدينة ورفرفت راية النصر فوق رؤوسهم ، قدمت الى النبيّ صلى الله عليه وآله طلبات إبرام صلح من
ص: 90
بعض الجهات فقبلها ... والشاهد لذلك عقود الصلح التي أبرمت مع عدة طوائف من اليهود في السنة الأولى للهجرة (1). من هذا ومن غيره يستطيع الباحث أن يدرك أن الإسلام يريد للبشرية الدعة والاستقرار ... ولذا فهو يركز على الصلح والتعايش الاجتماعي ... ولذلك ايضاً قدم في هذا الميدان النظم والقوانين الكفيلة - ان طبقت بدقة بإيجاد مثل هذا المجتمع الذي أصبح في عصرنا الحاضر حلماً جميلاً يدغدغ الخيال، والذي يجري في الجمهورية الاسلامية في ايران - منذ أشرقت الثورة الاسلامية فيها إنما هو محاولة لوضع اللبنة الأولى للمجتمع الإسلامي الذي نأمل أن تتجه جميع الطاقات الاسلامية لتحقيق
هذا المجتمع الأصيل .
أهداف الجهاد :
الإسلام مدرسة حيّة وعالية وهو يتكفل بإصلاح النظم الاجتماعية
والاقتصادية بطريقته الخاصة
والإسلام ليس كقوانين الروم القديمة واليهود ...
التي كانت مختصة بمجتمع أو عنصر معين بل إنّ الإسلام دين لجميع أهل الأرض ... والمسلمون ملزمون بوحي من تعاليم دينهم أن يعملوا على إرساء قواعد الصلح والعدل وأن يبذلوا كل ما في وسعهم لإنقاذ الشعوب المستعبدة مما تعاني من ظلم و حرمان...
إنّ على المسلمين أن يعملوا على توعية العالم وهدايته الى طرق
الخير التي تؤمن له حياة حرّة كريمة .
1 - اعلام الورى الطبعة الثالثة سنة 1390 ص 69 .
ص: 91
ومن هنا يجب أن يكون واضحاً أنّ المجاهدين المسلمين ليسوا حين جهادهم - بصدد احتلال بقعة من الأرض وضمها الى العالم الإسلاميّ ...
كما أنّهم ليسوا بصدد قلب نظام حكم او ما شابه ذلك ...
ان الجهاد سعي مخلص لا تشوبه شائبة ... جهد مشكور يبذل في سبيل الله وتحرير عباده ... لترسيخ السلام وإخماد نار الفتن.
هذا الهدف الكبير ... وهذه التعليمات السامية من شأنها ان تقضي على الأنانيّة وحبّ الذات والروح النفعية التي كلّفت البشريّة الكثير الكثير على مرّ التاريخ.
والفطرة الإنسانية تحكم بأنّ الأعضاء الفاسدة في المجتمع أيّاً كانت اميتازاتها التي أعطتها لنفسها يجب أن تستأصل ... لتؤمن الأرضيّة الصالحة السعادة الناس ونجاتهم.
ولا شكّ أنّ كلّ متعطّش الى العدالة والحرّيّة بمفهومها الصحيح يبادر الى أداء واجبه في هذا المضمار ويقف مؤيّداً كلّ خطوة تبذل في هذا السبيل .
ما أجمل كلام الله:
(... وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمينَ )(1).
ليست الحرب في الإسلام غاية ... ولا هدفاً نهائياً ... وإنّما هي وسيلة ردع للأقوياء الذين لا يسمعون لغير القوّة صوتاً ... وسيلة رفع الظلم عن المظلومين الذين لا يملكون ما يدافعون به عن وجودهم ... ولهذا - أي لأنهم عزل ضعفاء - أضحوا غنيمة الاستعباد والطغيان ...
ص: 92
الجهاد في الإسلام عمل جليل إيجابّي لخير البشرية ... وهو أبعد ما يكون عن السلبيّة والشرّ والدّمار.
وأقرأ معي ما قاله ذلك المسلم حين دخل على رستم القائد الايراني فخاطبه بالعباره التالية: (الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه الى خلقه لندعوهم اليه ، فمن قبل منّاذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وارضه يليها دوننا و من أب-ي قاتلناه أبداً ...)(1) .
أصبح واضحاً مما تقدم أنّ من واجب المسلمين أن يتصلوا بالشعوب الأخرى ويمتنوا علاقاتهم بها. خصوصاً تلك الشعوب التي تعاني من أوضاع اجتماعية متداعية. وقلنا إنّ من واجب المسلمين ذلك كي يمكنهم عن هذا الطريق عرض ما جاء به الإسلام من نظم رائعة منبثقة عن عقيدة متينة، تستوعب الكون والإنسان والحياة ...
وفي كل الصراعات التي خاضها المسلمون مع أهل الكتاب لم يسجل لنا التاريخ أنهم أجبروا أحداً على اعتناق الإسلام ...
فلقد كان باستطاعة أهل الكتاب أن يعيشوا في ظلّ الدولة الإسلاميّة بمجرد أن يقبلوا شروط الصلح التي تعرضها هذه الدولة ... وفي المقابل تؤمن لهم الحماية التامة التي تؤمنها للمسلمين.
ولقد تعهد النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) في صلح الحديبية بأنه إذا أسلم أحد من أهل مكة ثم جاء الى المدينة ... فإنه سيرجعه الى مكّة بشرط ان المسلمين
ص: 93
بمكة لا يؤذون في اظهارهم الإسلام ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإسلام فقبلت قريش ذلك (1) وقد التزم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعهّده هذا وعمل به.
وفي فتح مكة ترك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشاً على سجيّتها ولم يحمّل أحداً على اعتناق الإسلام . فالعقيدة لا تفرض بل لا يمكن أن تفرض من الخارج ... كل ما في الأمر أن المجال كان مفسوحاً أمام الجميع لمعرفة هذا الدين الجديد والاطلاع على تعاليمه.
وقد أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين أن لا يقتلوا أحداً في مكة باستثناء عدّة أشخاص كانوا يؤذون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
وعندما كان الكفار يطلبون الأمان من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطيهم ما أرادوا ليكون إسلامهم فيما بعد عن بحث وتحقيق ... وليس بدافع الخوف على أنفسهم .
ومثالاً على ذلك صفوان بن أمية وكان أيضاً شديداً على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فهرب خوفاً الى جدّة فقال عمير بن وهب الجمحي: يا رسول الله إنّ صفوان سيّد قومي وقد خرج هارباً منك فآمنه . قال هو آمن وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ليعرف بها أمانه، فخرج بها عمير فأدركه بجدة فأعلمه بأمانه وقال: إنه أحلم الناس وأوصلهم وأنه ابن عمك وعزّه عزّك و شرفه شرفك. قال : إنّي أخافه على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك، فرجع صفوان وقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن هذا يزعم انك آمنتني. قال: صدق. قال: اجعلني بالخيار شهرين قال: انت فيه أربعة أشهر، فأقام كافراً وشهد معه حنيناً والطائف ثم أسلم(3).
ص: 94
وهكذا يصبح واضحاً أن الحرب في الإسلام إنّما هي لأولئك الذين عرفوا الحقّ جيّداً وأدركوه بجلاء ... ولكنهم مع ذلك كلّه يحاربونه ويحاولون القضاء عليه، والأمر الذي يعتبر أيضاً قضاء على سعادة الآخرين.
إن الإسلام لم يشرع تجريد السيف إلا لإطفاء الفتن ولإنقاذ الشعوب المضطهدة ولايجاد المناخ الملائم للتكامل البشري المنشود.
وانّ ايمان المسلمين الأوائل واستقامتهم خير دليل على أن الإسلام لم ينتشر بقوّة السيف .
لقد كان مسلموا الصدر الأول للإسلام شديدي التعلّق بدينهم وكانوا يواجهون جميع المشاكل التي تعترض مسيرتهم بروح عالية ... ويصبر لا مثيل له .
وأحد من هذه الطليعة بلال الحبشي الذي كان أبو جهل - بعد ما علم باسلامه - يطرحه على الرمضاء المحرقة، ويضع فوقه صخرة كبيرة ...
رمضاء محرقة ... وثقل مؤلم وهجير لافح ... وأبو جهل يزمجر : أكفر بربّ محمّد ... فماذا كانت النتيجة...
وتصفّح أبا جهل كلمات ينطق بها هذا الانسان المعذَّب ... أحد ... أحد... أحد(1)
هذه صورة نقدّمها عن الاستقامة التي كان المسلمون الأوائل يتحلّون بها ... فهل باستطاعة أحد بعد ذلك أنّ يقول إنّ الإسلام انتشر بالسيف؟ لقد فات أعداء الإسلام الذين يروّجون هذه الشبهة الواهية التي ظنّوا -بعد بحث وتفتيش - أنها نقطة الضعف في الإسلام ... لقد فاتهم أنّ هذا الدين الخالد انما ينتشر لمقوّمات وخصائص فيه .... فهو دين الفطرة ... وهو دين
ص: 95
العدالة ... ثم هو دين شامل لجميع نواحي الحياة.
فهذا الدكتور غوستاف لوبون يعجب بمسيرة الإسلام وتقدّمه السهل المحيّر، وبخلوده في كل بقعة دخلها المسلمون، ويعتبر ذلك من خصائصه(1) . ويقول كاتب مسيحي آخر:
قد كان للروابط التجارية والثقافية بين البلاد الإسلامية وغيرها أثر في انتشار و توسع المد الاسلامي يفوق الفتوح العسكرية بمراحل.
ص: 96
دوافع حروب النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)
و احصاء القتلى فيها
ص: 97
كان النبي ّالأعظم(صلی الله علیه وآله وسلم) لا يلجأ الى السيف إلّا إذا تطلّبت الظروف ذلك، حيث تقف العقبات حائلاً دون تقدّم الدّعوة الإسلاميّة... وحيث يكون الظلم والاستبداد ... حينئذ يأتي دور السيف ليزيل العقبات ويمحو الظلم ... ويرفع راية الحقّ والعدالة ...
وهكذا كان (صلی الله علیه وآله وسلم) على العكس تماماً ممّا نعرفه من مسيرة الأغلبية من قادة العالم الذين يحاربون لأغراض توسّعيّة ولامتصاص الثّروات الطبيعيّة و الانسانيّة ...
أجل ... إنّ الحروب التي وقعت في زمان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) كانت تستهدف إعادة الحق إلى نصابه وإزاحة تلك الطبقة النفعيّة التي كانت تستعبد عباد الله، وتستهدف أيضاً إقامة حكم عادل منصف يحقق أطروحة التعايش الدولي المنشود .
وحرب كهذه هل يمكن أن تكون عدوانية لا مشروعة ؟! إنّ من البديّهي أنّ الحرب ضروريّة لكل نبيّ لأنه ليس ثمّت من طريق آخر يمكنه سلوكه فيما إذا جُوبه وحُورب .
إنّ النبيّ عيسى (علیه السلام) لم يجرّد السيف لأنّ مدّة نبوّته كانت قصيرة ولم
ص: 98
تكن الشروط مساعدة له على ذلك ... ولولا ذلك لكان هو أيضاً قد اتبع نفس الأسلوب الّذي اتبعه النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) ليقتلع الفساد من الجذور.
ومن هنا فإنّ حركات التبشير المسيحية تتعسّف وتخبط حين تركز على أعداد القتلى في حروب النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وتضخمها حسب ما تشتهي. وتؤكد على أنّ هذه الحروب كانت ذات طابع إجرامّي، ونحن نرى أنّ الهدف من هذا الاعتساف شيئان:
الأوّل : إضعاف الرّوح الثورية في الشعوب الإسلاميّة، الأمر الّذي ينتج عنه تقلّص المدّ الإسلاميّ الذي يتسع يوماً بعد يوم.
الثاني: محاولة يائسة لتبرير الجرائم الفاضحة التي ارتكبها زعماء الكنيسية في محاكم التفتيش وفي الحروب الصليبيّة حين قتلت الملايين من الأبرياء .
وسنحاول هنا أن نبين باختصار دوافع حروب النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وبعد ذلك نقدّم ثبتاً بأعداد القتلى لكي تتضح الحقيقة ... وليدرك القرّاء الأعزّاء فلسفة هذه الحروب ويطلعوا على الرقم العادي الذي يشكّله عدد القتلى.
بقي النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) مع اصحابه بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً في مكة يتحمّل الأذى في جنب الله متجنّباً إراقة الدماء ... وفي النهاية اضطر(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى أن يغادر مسقط رأسه ويهاجر إلى المدينة المنوّرة ... ولكن مع ذلك لم يكف الكفار عن ايذائه ... وكانوا يعذّبون المسلمين العزّل ولا يسمحون لهم بالهجرة من مكّة (1) .
ص: 99
وكانوا أيضاً قد صمّموا على أن يضربوا على النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وأصحابه حصاراً اقتصادياً شديداً . ومنعوا القوافل من نقل المواد الغذائية إلى المدينة ... ولقد استمرّ هذا الحصار زمناً طويلاً... مما أوقع أهل المدينة فی ضائقة وعسر واضطرهم للسفر إلى سواحل البحر الأحمر للحصول على المواد الغذائية اللازمة(1).
وكان أبو جهل قد أرسل رسالة شديدة اللهجة إلى النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) وهدّده فيها بغزوه والهجوم عليه(2).
( أُذِنَ لِلذَّينَ يُقاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَانَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٌّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ (3) .
ولأجل الدّفاع عن الحقوق الحياتية للمسلمين ... ولكي يفوّت النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) الفرصة على المشركين، خرج لمواجهة قريش في العام الثاني للهجرة ... وتمّت المجابهة في بدر(4) ، مع أن المسلمين كانوا ثلث الكفار عدداً فقد أحرزوا النّصر بقوّة الإيمان وإرادة الله سبحانه(5).
ص: 100
بعد أن قتل في بدر عدّة من المشركين أخذت قريش تعد العدّة للانتقام ... وجهّزت جيشاً إلى المدينة وفي منطقة «أحد» تمّت المجابهة بين جيش الإسلام والكفر ... ولأنه فئة من المسلمين لم تلتزم بالخطة التي كان قد وصفها النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فلم يربح المسلمون المعركة (1).
في السنة الخامسة للهجرة ذهب عدّة من يهود بني النضير إلى مكّة لتحريض قريش على المسلمين ... واغتنمت قريش الفرصة فجهزّت جيشاً جرّاراً من قبائل مختلفة
ولكي يؤمّن المسلمون الحماية الكاملة لعاصمتهم اضطروا أن يحفروا خندقاً حول المدينة وكان جيش المشركين مؤلّفاً من عشرة آلاف رجل ولكن هزم بعد أن قتل عليّ (علیه السلام) قائده الشرس عمرو بن عبد ود العامري وكان النصر بإذن الله للمسلمين(2).
كان بنو قريظة (3) قد عقدوا مع النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) معاهدة صلح ، ولكنهم نقضوها وحاربوا في وقعة الأحزاب إلى جانب قريش ... ولم ير النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) بدّأ من حربهم وذلك لخطرهم على الإسلام بعد أن نقضوا العهد وأصبحوا محاربين، وأصدر النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) أمره للجيش بعد حرب
ص: 101
الخندق بالتوجه إليهم ... وحاصرهم المسلمون خمسة وعشرين يوماً، وبعدها استسلم الأعداء ...
وجاءت الأوس تطلب من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الصفح عنهم ، فسألهم عما إذا كانوا يرضون بتحكيم سعد بن معاذ الّذي هو من كبار الأوس فيهم فقبلوا ... ظناً منهم أنّ سعداً سيعفو عنهم ... ولكنه بدلاً من ذلك حكم بقتل المحاربين من رجالهم، وتقسيم أموالهم، وسبي الذراري والنساء .
فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله،(1) وقتل كل المحاربين منهم .
بنوا المصطلق فئة من قبيلة خزاعة . وكانوا قد ناؤوا المسلمين ... وقد بلغ النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) تآمرهم على الاسلام فتوجّه إليهم بجيش من المسلمين ليحول دون تنفيذ مخططاتهم ... وتمت المجابهة معهم في مكان اسمه المريسيع وكان النصر للمسلمين . وقد وقعت هذه الحرب في السنه السادسة للهجرة. (2)
في حصون خيبر كانت تعيش طائفة كبيرة من اليهود يبلغون أربعة عشر ألفاً وكان لهم مع كفار قريش روابط اقتصادية وعسكريّة ، وكان ذلك يهدّد أمن المسلمين وسلامتهم ولذلك هاجمهم المسلمون في السنة السابعة للهجرة، وبعد المحاصرة و الحرب استسلموا للدولة الإسلاميّة(3).
ص: 102
فى السنة الثامنة للهجرة أرسل النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) الحارث ابن عمر إلى ملك بصرى(1) وحمل رسالة إليه، وعندما وصل رسول النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) إلى مؤتة
قتل ، وامر النبيّ المسلمين بالخروج لحرب العدو وكانت المواجهة في مؤتة مع جيش هرقل ملك الروم المؤلّف من مأة ألف مقاتل من الروم وغيرهم. ودارت حرب شديدة طاحنة قُتل فيها قادة الجيش الاسلامي زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة ... ولم يستطع المسلمون مواصلة القتال فرجعوا إلى المدينة (2) .
في صلح الحديبيّة عقدت معاهدة بين المسلمين والمشركين على المشركين بموجبها أن لا يتعرّضوا للمسلمين ولا لحلفائهم ولكنهم نقضوا هذه المعاهدة واتفقوا مع بني بكر على إبادة بني خزاعة الذين كانوا من معاهدي المسلمين وحلفائهم، ولكي يضع النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) حداً لهذه التجاوزات وضع خطة لفتح مكّة ... ونفّذت الخطة ... ودخل المسلمون هذا البلد الشريف ... وفي بيت الله الحرام قال النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) خطابه التاريخيّ :
«ألا لبئس جيران النبيّ كنتم: كذبتم وطردتم وأخرجتم وفللتم ثم مارضيتم حتى جئتموني في بلادي فقاتلتموني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء؟ فخرج القوم كأنما نشروا من القبور»(3).
ص: 103
وقد كان من آثار التسامح والعفو العظيم أن أقبل المكيّون على دين الله أفواجاً أفواجاً .
وفي هذا الفتح أمر النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) المسلمين ان لا يحاربوا إلّا دفاعاً عن أنفسهم ولكنّه أباح دم ثمانية من المشركين ... وقتل منهم أربعة ... ولم تقع مجابهة إلّا بين مجموعة من المسلمين كان يقودها خالد ومجموعة أخرى من المشركين كان يقودها عكرمة بن أبي جهل ... وقتل فيها عدّة أشخاص (1).
مع أن قبيلة هوازن كانت تعلم أن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) لا ينوي التعرّض لها فقد جهّزت جيشاً لحرب الإسلام ... فجهّز النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) جيشاً قوامه إثنا عشر ألف مقاتل ... وبعد التقاء الجيشين في وادي حنين هزم الكفار واستسلموا (2).
وبعد هذا الحرب قصد النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) الطائف لحرب قبيلة ثقيف التي كانت تعاونت مع هوازن على حرب المسلمين ... وبعد مدة من محاصرة ثقیف صرف رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) النظر عن فتح ديارها وعاد إلى مكة (3).
وغير هذه الحروب كانت سفرات تبليغيّة ومواجهات محدودة ... وها نحن نقدّم إحصاء بالقتلى المسلمين والكافرين في جميع الحروب التي دارت في زمان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) . معتمدين على المصادر التاريخية المعروفة.
(أنظر الصفحة التالية)
ص: 104
الصورة
ص: 105
توضیح:
1 - عند اعداد هذا الإحصاء أخذنا بالحد الأكثر عند اختلاف الروايات وحيث لم نتمكن من تعيين العدد تركنا المكان خالياً .
2 - «تاريخ الخميس» الذي جعلناه أحد مصادرنا هنا عبارة عن مجموعة منتخبة من عشرات الكتب في التفسير والتاريخ والحديث.
ولاشك أن القاريء العزيز قد لاحظ أن حروب النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) لم تكن بهدف التوسع والاعتداء وانما كانت كل هذه الحروب لوضع الحد لناقضي العهود المعتدين ... ولحفظ استقلال المسلمين ... والدفاع عنهم ... ولإعلاء كلمة الحق .
ص: 106
عالميّة الاسلام
ص: 107
ظهر الإسلام منذ يومه الأول كالمعين الصافي الزلال، ثم أخذ ينمو ويتسع أكثر فأكثر الى أن بدا كالنهر العظيم المتدفق يسقي الانسانية في مختلف بقاع الأرض فيرويها .
وكان الإسلام كلما انتشر ازداد اتساعاً وعمقاً وقد استطاع بصدق أن يخلص البشرية من كل الأنظمة الخاطئة ويرشدها الى طريق الخير والسعادة . وقد استمر في الانتشار بالرغم من السياسات الاستعمارية العالمية وبالرغم من النشاطات التحريفية التي كان يقوم بها أعداء الإسلام من أجل القضاء على جذوره . ويتمتع الإسلام بكثير من المقومات ومنها الخلود والعالمية، وعلى أساس هذين الأمرين العظيمين وضع قوانينه وتشريعاته .
ان خاصية الإسلام الكبرى هي مطابقة للفطرة البشرية التي تلامس قضايا الناس جميعاً في كل مكان أو زمان ويقوم عليها اساس حياتهم. وبناءاً على هذا فان الذين يقولون: ان الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن لنبي شرقي أن يقوم بقيادة الغرب، من يدعي هذا فهو مخطيء خطأ شديداً لأنه لافرق بين الشرق والغرب من جهة الفطرة، فكما أن الانسان الشرقي يحتاج الى دين فطري فكذلك الغربي ايضاً.
ص: 108
عندما أطلق النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) شعار التوحيد في فضاء مكة المظلم لم يكن قصده (صلوات الله عليه) أن يصلح منطقة الحجاز والمنطقة العربية ... بل كان مأموراً أن يبدأ رسالته العالمية من المحيط العربي...
والشاهد على ذلك ما قاله في بدء دعوته مخاطباً عشيرته الأقربين .
(إني رسول الله إليكم خاصة والى الناس عامّة)(1).
ويؤيد هذه الحقيقة من القرآن الكريم عدة آيات نذكر منها ثلاثة:
1 - قل يا أيُّها الناسُ إني رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَميعاً (2) .
وأنت تلاحظ أن الخطاب لم يستعمل كلمة (العرب) أو (الشرقيين) وانما الخطاب يشمل جميع الناس من شرقيين وغربيين .
2 - ومَا أَرْسَلْناك إلا رَحْمَةً للعالَمينَ (3)
3 - وَأُوحِيَ حِيَ إِليّ هذا القُرآنُ لأنذرَكُمْ بِه وَمَنْ بَلَغَ (4)
يظهر جلياً من هذه الآيات أن رسالة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) عالمية، ولم تكتسب هذه الصفة - بعد ذلك - في المدينة عند انتشار الإسلام بل كانت منذ ابتدائها شاملة لجميع الأزمنة والأمكنه .
قال الامام الصادق(علیه السلام) الجواباً للرجل الذي سأله : مابال القرآن لا يزداد على النشر والدرس الّاغضاً ؟ فقال:
لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض الى يوم القيامة(5).
ص: 109
في السنة السادسة من الهجرة أرسل النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) رسائله الى حكام العالم ووسمها بكلمة (محمّد رسول الله) ودعاهم الى الإسلام، ومعنى هذه الرسائل واحد وهو الدعوة الى عبادة الله والوحدة والتآخي في ولأن هذه الدعوة كانت بأمر من الله وانذاراً للناس فقد أثرت فيهم أثراً عميقاً وملفتاً للانظار بحيث قبل هذه الدعوة كل باحث عن الحقيقة كالنجاشي والمقوقس وغيرهم(1).
وتدل التحقيقات التي أجريت حول الرسائل التي أرسلها النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) الى الملوك ورؤساء القبائل وأصحاب الأديرة أنها تزيد على اثنتين وستين رسالة نعرف منها 29 رسالة (2) ونحن نذكر بعضها:
1 - لكسرى ملك الفرس:
بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله الى كسرى عظيم فارس.
سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الحق فاني أنا رسول الله الى الناس كافة ؛ لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس(3).
2 - لهرقل ملك الروم:
بسم الله الرحمن الرحيم : من محمّد بن عبد الله الى هرقل عظيم الروم . سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فاني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فان توليت فانما عليك إثم الاريسيين(4).
ص: 110
(يا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا الى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلُّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ). (1)
ولم تكن رسائل النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) منحصرة في الملوك فقط ولكن كان يرسلها الى الشعوب وأصحاب الديانات المختلفة كي يطلعوا على بزوغ شمس الإسلام.
3- الى والي اليمن هوذة:
بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمّد رسول الله الى هوذة بن على سلام على من اتبع الهدى وأعلم أن ديني سيظهر الى منتهى الخف والحافر - أي حيث تقطع الابل والخيل - فأسلم تسلم واجعل لك ماتحت يديك (2).
4 - الى اليهود: بسم الله الرحمن الرحيم ؛ «من محمد رسول الله» (صلی الله علیه وآله وسلم)أخي موسى وصاحبه بعثه الله بما بعثه به اني انشدكم بالله وما أنزل على موسى يوم طور سيناء، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأهلك عدوكم وأطعمكم المن والسلوى وظلل عليكم الغمام هل تجدون في كتابكم أني رسول الله اليكم والى الناس كافة فان كان ذلك كذلك فاتقوا الله وأسلموا وان لم يكن عندكم فلا تباعة عليكم(3).
5 - الى أسقف نجران:
باسم إله ابراهيم واسحاق ويعقوب من محمّد النبيّ رسول الله الى اسقف نجران ... أما بعد فاني أدعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم الى ولاية الله من ولاية العباد فان أبيتم فالجزية فان أبيتم
ص: 111
آذنتكم بحرب والسلام (1).
إن تقدم الإسلام مدين قبل كل شيء لجهود النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) المتتالية وسهره الدائم هو وأصحابه الأوفياء، وقد استفاد النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) في ذلك من قوّتين هما:
الاُولى: المبلغون الذين أدركوا حقيقة الإسلام والذين كان لهم صلة متينة بالنبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وایمان عمیق به.
الثانية: الرسائل التي كانت تدل على تعاليم حياة أفضل وتعكس الإسلام بشكل واضح. وبالرغم من عدم وجود الرسائل اللازمة لتبليغ الإسلام عند النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) فقد أرسل رسله الى انحاء العالم .
ولاشك ان روح النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) تنتظر من المجتمع الاسلامي ان يبلغ رسالة الإسلام ويستفيد من الوسائل الجديدة وأسلوب في ذلك لينشر تعاليم الإسلام في العالم كله.
يجب علينا ان نوظف كل امكانية نملكها من أجل تبليغ الرسالة الاسلامية التي هي عامة لكل الناس كما تقدم . ويجب أن لا نأسف على بذل ما يلزم في هذا الطريق من التضحيات لنشر الإسلام كي نهدي اخواننا في الشرق والغرب الى المعين الذي يمدهم بالحياة . ونعيش بالتالي في دنياً ملائى بالفضيلة والخدمة تماماً كما قال النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) لعلي (علیه السلام).
« وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولائه يا على»(2).
***
ص: 112
محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) خاتم الانبياء
من الخلصي معة عن با
ص: 113
خاتمية النبيّ الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) كوحدانية الله سبحانه من المسلمات والحقائق الواضحة عند جميع فرق المسلمين. والدين الإسلامي يبقى جديداً أبداً وكلما اتسعت آفاق البشرية واتضحت رؤيتها وتحددت، اتضح خلود هذا الدين وظهرت عجائبه.
وسنحاول هنا ان نتناول هذه المسألة المهمة ... أبدية هذا الدين وخلوده ، وفي البداية سنذكر أهم العلل والمقومات التي تجعل المبدأ أبدياً ثم ننتقل الى تقصي ذلك في الإسلام :
1 - انسجام المبدأ مع الفطرة من أهم علل أبديته فالدين الذي يتركز على أساس من فطرة الإنسان وواقعه يحفظ نفسه من الاندثار ... ويؤمن أسباب خلوده وصلاحيته لكل زمان رغم ما يحدث من تطورات وما يستجد من مشاكل .
2 - حينما تكون نصوص المبدأ مرنة يكون عمرها أطول منه حين مالا يكون كذلك ... لأنها عندما تكون مرنة غير مرتبطة بزمان أو مكان ... ولا ذات طابع خاص يمكن أن تلبي الحاجة التشريعية رغم تبدل الأزمنة
والأمكنة ... وتبقى حية كأنها وضعت لتعالج المشاكل المعاشة فعلاً.
أما القوانين التي لا تتصف بالمرونة والتي وضعت لحالة خاصة ووقت معين، فلا يمكن أن تنال حظاً من البقاء ... فمثلاً اذا قيل: أن على الناس أن لا يستعملوا في تنقلهم إلّا وسائط النقل الطبيعية كالفرس وما شابهه من الحيوانات الأخرى . فإنّ هذا القانون لا يمكن له أن يدوم، وذلك لأن الحاجة الملحة تفرض على الناس أن يستعملوا وسائل نقلية اخرى تم صنعها والاهتداء اليها وهذه الوسائط توفر وقتاً وجهداً الى غير ذلك .
ص: 114
والواقع ان احدى العلل التي بسببها اندثرت الأديان القديمة هي أنها لم تكن تملك قابلية البقاء ... وكانت خاصة بمجتمع معين في وقت معين.
3 - الشمول . الدين الخالد لابد وأن يكون شاملاً كاملاً بمعنى أ أنه لا يترك واقعة من وقائع الحياة إلا ويضع لها حكماً ... ولا يترك مشكلة المشاكل إلا ويقدم لها حلاً ... ولا مسألة من المسائل التي هي موضع حاجة الناس إلّا ويضع لها جواباً ...
أجل فإنّ الروح البشرية العطشى لا يمكن ان تروى بسلسلة تشريعات جافة لاروح فيها من قبيل العشاء الرباني وشرب الخمر ولبس الصليب كقلادة وغير ذلك .
4 - الحل عند الضرورة
ومن الأشياء التي لابد من توفرها في المبدأ لكي يتخذ طابع الأبدية... أن يقدم للإنسان الحل عندما يصل الى طريق مسدود ... فالمقررات العامة والقوانين التي يقدمها المبدأ قد تتعارض فيما بينها أحياناً كما في موارد
الضرورة .
مثلاً بناء على تحريم شرب الخمر ... ووجوب الحفاظ على النفس يتعارض هذان الحكمان في مورد يتعين الخمر علاجاً لمريض . فيصبح هذا المريض في طريق مسدود لا يدري بأي الحكمين يلتزم ؟
إذن - بالاضافة الى المقررات العامة - لابد من تقديم الحل عند الضرورة .
هذه - بايجاز - أهم علل بقاء ودوام المبدأ وسنرى فيما يلي وبايجاز أيضاً ما إذا كانت هذه المقومات قد روعيت في التشريع الإسلامي أم لا.
1 - الانسجام مع الفطرة : ان القوانين والتشريعات الإسلامية قد لوحظ فيها حين تقنينها وتشريعها فطرة الإنسان وحاجته ... ولذلك جاءت هذه التشريعات كفيلة بتأمين التوازن بين غرائز الإنسان . مثلاً الغريزة الجنسية قدم لها الإسلام حلولاً مختلفة وواضحة يمكن عن طريقها ارضاء هذه الغريزة كما يمكن ايضاً وضع الحد لطغيانها وافراطها الذي يكون سبباً في
ص: 115
كثير من المفاسد و المشاکل التی تصیب.
2 - العمومية : القوانين الإسلامية ليست ذات طابع خاص بحيث تكون محدودة بزمان أو مكان حتى تلتزم بتغييرها مع مرور الزمان أو تبدل المكان ... بل هي عامة ملحوظ فيها جميع الأزمنة والأمكنة وتمام الحالات والأوضاع ... مثلاً: الجهاد في الإسلام لا يتخذ طابعاً خاصاً يجعله محدوداً كايجاب الحرب بالسيف، بل يلزم المسلمين أن يعدوا لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ليستطيعوا الدفاع عن حقوقهم الحيوية واحراز النصر في ميدان الحرب... وهذا الحكم كلي ينسجم مع جميع الأزمنة والحالات ..
وهكذا فإن القوانين الإسلامية الأصلية الأخرى تعتبر مباديء وقوانين عامة توضح لنا حكم كل واقعة خاصة .
3- الشمول: الدين الإسلامي أكثر الأديان شمولاً ... ولقد تناول المسائل الاقتصادية والعسكرية والحقوقية والأخلاقية وغير ذلك ... تناولاً متيناً دقيقاً تقف عقول العلماء عاجزة متحيرة . ولا يفتقر هذا الادعاء العريض الى الدليل إذا ما لاحظنا آلاف الكتب التي ألفها العلماء المسلمون في هذه الميادين والتي تستمد من معين القرآن الكريم وأحاديث النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
4 - الحل عند الضرورة في موارد الحاجة: نجد أن الإسلام وضع قوانيناً عامة تعين وظيفة الإنسان من قبيل: قانون «لاضرر ولاضرار في الإسلام»، ومن قبيل «الضرورات تبيح المحظورات»، ومن قبيل «ماجعل عليكم
،فی الدين من حرج»(1)، وبالإضافة الى ذلك فان للنّبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) أو الامام المعصوم ( علیه السلام ) أو الفقيه الخبير بالشريعة الإسلامية أن يعين الوظيفة طبقاً لقواعد معينة ليس محل تفصيلها هنا
ص: 116
وهكذا، فان هذه المقومات جميعها موجودة في الإسلام ... وبهذا يثبت أنا لسنا بحاجة الى تشريع آخر لأنا انما نكون بحاجة إليه حين التشريع الذي يلبي جميع حاجاتنا ... كما يثبت أنا لا نحتاج الى نبيّ جديد ليأتي بتشريع صالح ... والمفروض انا نمتلك مثل هذا التشريع ... فعدم الحاجة الى تشريع جديد هو عبارة أخرى عن عدم الحاجة الى نبيّ جديد ... وخاتمية التشريع الإسلامي تعني خاتمية النبيّ محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) للأنبياء جميعاً صلوات الله عليهم ....
تناول القرآن الكريم شمولية الشريعة الإسلامية وخاتمية النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) في آيات عديدة نذكر منها:
1 - وَتَمّت كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدقاً وَعَدلاً لا مُبدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَليمُ(1).
2- مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُم وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبيينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيماً(2).
وكلمة (خاتم) بفتح التاء أو كسرها عندما تضاف الى الجمع تكون
بمعنى آخر، وخاتم النبيين يعني آخر النبيين(3) ، والنبيّ أعم من الرسول(4) وبناء عليه فان جميع رسل الله وأنبيائه يطلق عليهم أنبياء، واذن فالآية الكريمة تقول خاتم النبيين فانها تقول أنه(صلی الله علیه وآله وسلم) خاتمهم جميعاً ولا يأتي بعده نبي ولا رسول ولا صاحب كتاب ولاغير ذلك .
3 - إِنَّ هذَا القُرآنَ يَهْدي للتي هَيَ أَقْوَمُ (5).
ص: 117
هذه الآية تدلنا على أن القرآن هو الدستور الأكمل والمنهاج الأقوم، وطبيعي أنه والحالة هذه لاحاجة بنا لدستور آخر .
لقد ورد ذكر الخاتمية في المصادر الإسلامية بكثرة . لاتدع مجالاً للشك بها ... وسنذكر هنا بعض الروايات :
(1)
قال النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) أيها الناس إنه لا نبيَّ بعدي ولا سنة بعد سنتي فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار ومن ادعى ذلك فاقتلوه ومن اتبعه فهو في النار الخبر(1).
وقال الباقر والصادق عليهما السلام: «لقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء»(2).
وقال علي(علیه السلام) « فقفي به الرسل وختم به الوحي» (3).
وقال النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم): « يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي »(4).
وقال الامام الرضا(علیه السلام) : شريعة محمد لا تنسخ الى يوم القيامة، ولا نبيّ بعده الى يوم القيامة(5).
هذه الروايات وكثير غيرها كما يرى القاريء العزيز - تدل بوضوح تام على خاتمية النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وخلود الإسلام . وعظمة هذا الدين وسمو مقاصده وشمول قواعده وعموميتها مما يضمن جدته على مرّ الزمان ... وهذه نعمة كبرى من نعم الله عزوجل.
إن ديناً كهذا الدين العظيم ليجب ان يطرح على انه البديل لكل النظم والأديان ... فما أجمل أن نعمل في سبيل نشر الإسلام ليرى العالم خيره العميم ...
ص: 118
حديث الغدير و
خلافة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)
ص: 119
السنة العاشرة للهجرة ... وهذا موسم الحج ... صحراء الحجاز تشهد جمعاً غفيراً من الحجيج وكلهم يسيرون بشعار واحد نحو هدف واحد .
هذه السنة يتميز الحج بحرارة خاصة، والمسلمون يقطعون المسافات ويجتازون المنازل بسرعة وشوق .
صوت التلبية الحار يتعالى في صحراء مكة، وهذه القوافل (1) تقترب من اُم القرى واحدة بعد الأخرى، وهؤلاء الحجاج بثياب الاحرام ذات اللون الواحد ... والتي علاها غبار الطريق ... وبالعيون التي اغرورقت بالدموع ... يلقون بأنفسهم في أحضان بيت الله الحرام طائفين حوله ... ذلك البيت المقدس الذي شيد على يد أبي الأنبياء خليل الله ابراهیم (علیه السلام) ... والذي جعله الله سبحانه أمناً لعباده في الأرض .
ويطل النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) على المسجد الحرام يتلاطم بأمواج الحجيج... وكلهم أخوة في الله إنما المؤمنون إخوة مستغرقون في العبادة والصلاة والدعاء بخضوع وخشوع كأنهم من الملائكة المكرمين .
وترى في وجه النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) علامات السرور والارتياح لهذا الانجاز العظيم ويحمد الله سبحانه على هذه النعمة فلقد استطاع أن يؤدي الرسالة على أكمل وجه. ولكن رغم ذلك ترى في وجهه(صلی الله علیه وآله وسلم)هالة من
ص: 120
الحزن والأسى العميق ليست وليدة الساعة بل كانت تبدو عليه منذ مدة بين الحين والآخر فتطغى على بشاشته النبوية وتغتال البسمة في شفتيه المباركتين.
إنه يفكر فيما بعد موته ... ويخشى على هذا التجمع أن يتبدد ... وعلى روح الاخوة فيه أن تذوب ... فيرجع المسلمون القهقري الى ما كانوا عليه في الجاهلية .
إنه(صلی الله علیه وآله وسلم) يعلم جيداً أن امته بأمس الحاجة الى قيادة امام عالم عادل يحفظ جهوده (صلی الله علیه وآله وسلم) من الضياع.
نعم إن جهوده(صلی الله علیه وآله وسلم) التي استغرقت ما يقارب ربع قرن من الزمن .... تلك الجهود الجبارة المضنية ... مهددة بالضياع إن لم تؤمن للأمة من بعده قيادة صالحة تقود السفينة الى الشاطيء المنشود . يدلنا على ذلك أنه(صلی الله علیه وآله وسلم) طيلة حياته المباركة كلما أراد الخروج من المدينة ومهما تكن مدة السفر صغيرة ... كان يسلم أزمة الأمور لشخص أمين كفوء ... ويفرض على المسلمين اطاعته وتنفيذ أوامره ... ولم يحدث ابدأ انه(صلی الله علیه وآله وسلم) ترك المسلمين في المدينة بيد الحوادث تتصرف بهم كيف تشاء (1) وبناء على ذلك فكيف يمكن ان نتصور أنه (صلی الله علیه وآله وسلم) يترك أمور امته بعد وفاته بيد الحوادث والأهواء.
كان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) يعلم ذلك جيداً وكان يعلم ايضاً أن هذا المقام لمن... و من هو الذي يمكنه ذلك جيداً وكان المركز . من هو هذا الإنسان الذي له فقط حق خلافة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم)؟
انه ذلك الذي قال عنه النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) بحضور عدّة من شيوخ قريش (من أقارب النبيّ) : « إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا » (2).
ص: 121
إنه ذلك الرجل النزيه الطاهر الذي لم يشرك بالله طرفة عين ... ولم يسجد لصنم قط.
و هو الذي خاض الحروب مضحياً بنفسه ... وفدى النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) بنفسه ليلة الهجرة ... كل ذلك لنصرة الدين ولترتفع رايته خفاقة مصونة الجانب .
علمه الفياض يستقي من معين علم رسول الله ... وقضاؤه الأول(1) بعد قضاء النبيّ الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) انه المشهور والمعروف الا وهو علي بن أبي طالب (علیه السلام).
وانقضى موسم الحج ... وتفرق الناس ... كل باتجاه بلده وأهله ... وفي الصحراء حدثت مفاجأة ...
منادوا النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) يدعون المسلمين الى الرجوع إليه ... فماذا حدث؟
إنه الأمين جبرائيل (علیه السلام) يرد على رسول الله، أبلغه قوله تعالى: ( يَا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِليكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ)(2).
ولم يكن هذا الموضوع الذي يخاطب الله سبحانه نبيه لأجله بلهجة شديدة إلا الإعلان الرسمي لخلافة الامام علي (علیه السلام) وذلك لان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) كان يحاذر من ذكر ذلك لأنه كان يخشى أن يكون ذلك سبباً في وقوع الخلاف والفرقة الشديدة بين المسلمين - فكان لابد من انتظار المناخ الملائم ... وبعد نزول هذه الآية تبين أن المناخ الملائم مهيّأ الآن ... ولذلك جمع النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) المسلمين في صحراء الحجاز الجرداء المحرقة وفي مكان منها يدعى غدير خم حتى تبين لهم روح الإسلام وقوامه . ألا وهي مسألة الخلافة...
ولم يكن الناس يعلمون لماذا صدر اليهم هذا الأمر وأي موضوع مهم
ص: 122
استجد ... ولكن سرعان ما أعلنت صلاة الجماعة ... وبعد أداء فرض الظهر ظهر الرسول الأكرم وسط هذا الجمع الحاشد بسيماه السماوية ... وارتقى المنبر الذي كان قد أعد من أقتاب الإبل ...
وخيم الصمت على صحراء الحجاز اللافحة اللاهبة ... ولكن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) مزق هذا السكون بكلماته الخالدة:
«... أيها الناس قد نبأنى اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي الامثل نصف عمر الذي قبله وإني أوشك أن أدعى فأجيب وأنتم مسؤولون فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمّداً عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . قالوا: بلى نشهد بذلك . قال : اللهم أشهد ».
... ألى أن قال(صلی الله علیه وآله وسلم) بعد أن أخذ بيد علي (علیه السلام) فرفعها حتى بان بياض إبطيهما:
«أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم قالوا : الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه (يقولها ثلاث مرات و بتعبير ابن حنبل اربع مرات) ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار . ألا فليبلغ الشاهد الغائب» .
ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحى الله بقوله:
(اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِيناً )(1).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : «الله أكبر على إكمال الدين
ص: 123
واتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي » طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين(علیه السلام)، وممن هنأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر، كل يقول: بخَّ بخَّ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة(1).
يتجاوز عدد رواة حديث الغدير المائة وعشرين ألفاً ... وذلك طبيعي جداً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار ان المسلمين قد التزموا بقول النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» ثم إن هذه الوقعة كانت أهم حوادث سفر الحج في تلك السنة(2) ... ومن الطبيعي جداً أن يكثر نقلها والتحدث بها ...
ولأهميتها الخاصة كانت تثار بين الحين والآخر ... أي أنها لم تكن كسائر الحوادث العادية يدور حولها الكلام لمدة ثم يطويها النسيان...
ذات يوم وبعد مرور خمس وعشرين سنة على هذه الحادثة العظيمة - أي في الوقت الذي كان قد توفى فيه كثير من الصحابة ولم يبق منهم إلّا قلة - طلب على (علیه السلام) في مسجد الكوفة ممن سمع حديث الغدير من النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) ان يذكره... فنهض من بين الجالسين ثلاثون نفراً ونقلوا الحديث (3).
وقبل موت معاوية بسنتين أي سنة 58 أو 59 ج-م-ع الامام الحسين (علیه السلام) في منى بني هاشم والأنصار وسائر الحجاج وقال من جملة ما قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله نصبه (أي علياً) يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال ليبلغ الشاهد الغائب قالوا: اللهم نعم(4).
ص: 124
وقد أورد علماء السنة في كتبهم مائة وعشرة صحابي سمعوا حديث الغدير ونقلوه ... بالاضافة الى أن عدة من العلماء المعروفين من السنة أيضاً - ألفوا كتباً خاصة بهذا الحديث الشريف(1).
كل الدلائل توضح أن المقصود من كلمة «مولى وولي» في الحديث، الخليفة والقائد للأمة الإسلامية ولا يمكن ان تنسجم مع معنى آخر ... واليك الدليل :
1 - علمنا مما سبق أن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) كان يخشى من طرح حديث الغدير ... ولم يفعل ذلك إلّا بعد أن ورد إليه الأمر الصريح وباللهجة الشديدة التي عرفت .
فهل يمكننا اذن ان نقول ان المقصود من حديث الغدير هو تذكير الناس بصداقة النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) لعلي (علیه السلام)؟...
وان كان هذا هو القصد والهدف فما هو المبرر للخشية من الافصاح بهذا ... ولماذا يهدد هذا وحدة المسلمين واخوتهم ... ثم هل تستحق مسألة الصداقة بينهما صلوات الله عليهما ان يحشر الحجيج في بقعة من الأرض جرداء ... تكويهم الشمس من جهة... ورمضاء الهجير من جهة أخرى ... فيضطر أحدهم أن يضع طرفاً من ثوبه تحت رجليه ... والآخر فوق رأسه كما يحدثنا التأريخ ؟(2)
2- ان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) قبل أن يقول: «من كنت مولاه فعلىّ مولاه » أخذ من المسلمين الاعتراف بأنه أولى بهم من أنفسهم .
وهذا يدل بوضوح على ان الولاية التي جعلها النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)
ص: 125
لعلي (علیه السلام) هي عين الولاية التي هي له(صلی الله علیه وآله وسلم).
هذه الولاية ليست صداقة أو محبة بل هي ولاية عامة وقيادة مطلقة وان كانت تتضمن المحبة والعطف فهو (صلی الله علیه وآله وسلم)بالمؤمنين رؤوف رحيم .
3 - إنّ حسان بن ثابت قد نظم واقعة الغدير شعراً بإجازة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم)الله عله وقد انتشر ذلك الشعر وشاع برضى النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وعلمه... وقد ورد في حسان تصريح بالخلافة والامامة ... ومع ذلك لم يعترض عليه معترض من ذلك الجمع الغفير قائلاً له إنك قد اخطأت في تفسير كلمة مولى ... بل ان الجميع استحسنوا شعره و مدحوه واليك بعض شعر حسان:
فقال له قم ياعلي فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فمن کنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أتباع صدق موالياً (1)
لقد فسر حسان قول النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) بأنه نص على الامام بالخلافة ولم يعترض عليه أحد مما يدل على أن الجميع قد فهموا نفس ما فهمه حسان ومانفهمه نحن الآن .
4- إنّ النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)و بعد الانتهاء من الخطبة الشهيرة أمر ان تنصب خيمة ليجلس فيها الامام (علیه السلام) للتهنئة وأمر المسلمين حتى نسائه هو (صلی الله علیه وآله وسلم) ان يهنئوه ويبايعوه ويسلموا عليه بأمرة المؤمنين (2) ومن البديهي أن هذه المراسم لا تنسجم إلا مع الولاية والخلافة.
5-قال النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) هنئوني إنّ الله تعالى خصني بالنبوة وخصّ أهل بيتي بالإمامة(3).
وهكذا يرى القاريء العزيز ، أنّ هذه الشواهد توضح حديث الغدير ولا تبقي فيه أي إبهام .
ص: 126
أخلاق محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) و سلوكه
ص: 127
كلما تقدم العلم وترقت التكنولوجيا، ازدادت حاجة البشرية الى الأخلاق ... ومن الضروري ان تسير القوانين الأخلاقية التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام جنباً الى جنب مع التقدم العلمي والصناعي، وذلك لأن الحضارة المعاصرة لاتقدم للإنسان سوى وسائل الراحة ... والالآت على اختلاف أنواعها ... ولا تقدم أي ضمان يؤمن عدم استغلال الإنسان لهذه المخترعات والمكتشفات واستعمالها في ضرر الإنسانية.
وهذا الازدياد في إحصائيات الجرائم والجنايات والقتل والانتحار وسائر مظاهر الفساد ... إنما يوضح هذه الحقيقة ... اذا لم تكن الأخلاق - وهي جزء من رسالة الأنبياء عليهم السلام - مسيطرة على سلوك المجتمع
فإن العلم والصناعة ولا يمكنهما أن يؤمنا سعادة الإنسان واستقراره .
إن المستعمرين يستخدمون العلم والصناعة لمصالحهم - لأن الأخلاق فقدت - فيرملون الملايين ويسحقون حقوق الشعوب المستضعفة ويمتصون دماءها وثرواتها.
إن العامل الوحيد الذي يستطيع ان يمسك بزمام غرائز الإنسان العارمة وعصيانه وتمرده العاتين ... والذي يستطيع أن يسخر العلم لصالح سعادة البشرية ... انما ... انما هو عامل الأخلاق التي تنبع من الايمان الواقعي بالله سبحانه . وان تعاليم الأنبياء (علیهم السلام) و الأخلاقية وسلوكهم أفضل وسيلة يمكنها
ص: 128
أن توصل الدنيا الى حياة أمثل.
والأخلاق ضرورة الإنسان سواء في حياته الفردية أم الاجتماعية .
أما اولئك الذين يحملون مسؤوليات قيادية، فان حاجتهم الى الأخلاق تصبح أكثر إلحاحاً وذلك لأن المربي والمرشد يجب أن يكون مثالاً يحتذي وقدوة في الصفات الانسانية العالية والاخلاق الكريمة حتى يمكنه أن يطهر قلوب الناس من الرذائل .
بينما اذا كان - رغم مسؤوليته الاجتماعية - لا يمتلك أي رصيد أخلاقي، فإنه لن ينجح في اداء وظيفته ... وستكون توجيهاته وجهوده ذات آثار سطحية لا تلبث أن تتبدد.
وثانياً: فان مسؤولية التوجيه الاجتماعي تبلغ من الأهمية حداً لا يمكن للإنسان معه أن يتحملها بدون أن يكون ذا مستوى أخلاقى رفيع ... ولأجل هذا فان الله سبحانه قد اختار أنبياءه يتحلون بالروحية العالية والصدر
الرحب والحلم والتسامح وسائر الصفات الأخلاقية الفاضلة.
وبسلاح الأخلاق هذا استطاع الأنبياء (صلوات الله عليهم ان يحطّموا الأصنام ويغيّروا الأوضاع الفاسدة المستغرقة في الفساد ويقلبوها رأساً على عقب ... ويحرروا عباد الله من قبضة الهلاك .
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِن اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ)(1)
أخلاق النبيّ محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) هي التي خلقت أول أمواج التيار الإسلامي في المنطقة العربية وفي العالم كله... وفي ظل هذه الثورة
ص: 129
المقدسة تحولت الفرقة الى وحدة والتحلل الى عفة وطهارة والعطالة الى كدح وكد والأنانية الى محبة والتكبر الى تواضع وعطف وفي ظلها ايضاً نشأ أفرادهم نماذج أخلاقية وقدرة لمن سواهم ... ولقد كانت أخلاق النبي محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) العظمة بحيث شهد الله سبحانه بها فقال: ( وَانَّكَ لَعَلى خُلِقٍ عَظِيمٍ)(1).
وها نحن نتناول هذه الصفة العظيمة لنتعرف على بعض جوانبها:
مع أن نبينا (صلی الله علیه وآله وسلم) كان له مقام نبوة جليل ... وكانت له سلطة وقيادة ... فإن حياته ومعاشرته كانت عادية تماماً وبدون تجملات بحيث ان الغريب كان اذا أقبل على مجلسه(صلی الله علیه وآله وسلم) يضطر أن يسأل أيكم محمّد ؟(2)
لم تغره الدنيا ولم تأسره المظاهر والاعتبارات ... ولم يقع في حبائل شباكها ... بل كان أبداً ينظر اليها بعين الزهد والتقوى(3)
كانت عباراته(صلی الله علیه وآله وسلم) صغيرة اللفظ قصيرته، لكنها مليئة المعنى كبيرته ... لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه، يكرم من يدخل عليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه في الجلوس عليه إن أبى ويكنى أصحابه ويدعوم بأحب أسمائهم تكرمة لهم ولا يقطع على أحد حديثه (4).
ولم يكن حين كلامه لامبالياً ... ولم يكن يستعمل الألفاظ القبيحة المستهجنة.
ص: 130
وكان «يجيب دعوة الحر والعبد ولو على ذراع أو كراع ، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويأكلها ولا يأكل الصدقة لا يثبت بصره في وجه أحد(1).
كان اذا دخل منزلاً قعد أدنى المجلس حين يدخل (2).
لم يكن يرضى أن يقف أحد عنده وقفة الذليل وكان يحترم الجميع(3).
ولقد كان(صلی الله علیه وآله وسلم) يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بیده نعله ويرفع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري ويُردف خلفه (4).
انه (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يغضب إلّا لله وللدين ... ولذلك أيضاً كان يفرح .
عند ركوبه لم يكن يرضى بأن يرافقه أحد راجلاً.
في السفرات الجماعية - أي حين كان يخرج للحج أو في غزوة مثلاً - لم يكن يرضى بأن يكون كلاً على مرافقيه .. بل كان يقوم بنصيبه من العمل .
وقد قال (صلی الله علیه وآله وسلم) ... ولكني أكره أن أتميز فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً يبن اصحابه ... وقام - بعد ذلك - فجمع الحطب(5).
كان (صلی الله علیه وآله وسلم) وفياً لجميع معاهداته.
يصل الرحم ولا يدافع عن رحمه بدون مبرر شرعي.
لا يسمح لأحد أن يتكلم على أحد فانه يحب أن يخرج الى الناس وهو سليم الصدر(6).
كان (صلی الله علیه وآله وسلم) مثالاً في التأدب والحياء .
وكان مثالاً في رحابة الصدر والحلم والتسامح .
يقول أنس بن مالك: كان لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) شربة يفطر عليها و شربة للسحر، وربما كانت واحدة وربما كانت لبناً وربما كانت الشربة خبزاً يماث
ص: 131
فهيّأتها له(صلی الله علیه وآله وسلم) ذات ليلة (فاحتبس) النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) فظننت أن بعض أصحابه دعاه فشربتها حين احتبس فجاء بعد العشاء بساعة فسألت بعض من كان معه هل كان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) أفطر في مكان أو دعاه أحد ؟ فقال لا الى أن قال فأصبح صائماً وما سألني عنها ولا ذكرها حتى الساعة (1) .
ولقد كان (صلی الله علیه وآله وسلم) يحب الصلاة كثيراً ولكنه عندما كان الناس يأتون إليه في حاجة ويجدونه مشتغلاً بالصلاة يخفف صلاته ثم يستمع الى حوائج الناس ثم لا يدخر وسعاً في قضائها .
كان يحترم الجميع .... ومقياس الفضيلة عنده الإيمان والعمل ... ولم يكن يأبه بالثروة والجاه والمنصب .... كان عطوفاً على الرقيق مهتماً بشؤونهم وحوائجهم (2).
لم يكن من طبعه محاولة الانتقام ممن أساء إليه ... وكان يتجاوز عن أخطاء الآخرين ... وكان يواجه أذيتهم له بالعفو والتسامح(3).
ورغم كل الذي لاقاه من قريش في بدء الدعوة فإنه عند انتصاره عليهم في فتح مكة عفا عنهم(4).
عفا (وحشي) قاتل عمه حمزة وكذلك فعل مع أبي سفيان وهنده(5).
ولكن مع شدة عفوه وتسامحه (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يكن يقبل بأدنى تجاوز لحدود الله ... ولم يكن لتأخذه في الله لومة لائم ... فعندما أخبر أن فاطمة
ص: 132
المخزومية سرقت لم يتقبل وساطة أسامة بن زيد وقال (1) انما هلك من قبلكم انهم كانوا اذا سرق الشريف تركوه واذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمّد يدها.
كان (صلی الله علیه وآله وسلم) يحافظ على أن يكون بدنه وثيابه على طهارة دائماً ... وكان يتعطر بأجود انواع العطور ... حتى أن الإمام الصادق (علیه السلام) يقول: انّ رسول الله كان ينفق في الطيب أكثر مما ينفق في الطعام(2).
ومن حیث مرّ (صلی الله علیه وآله وسلم) و كانت تفوح رائحة العطر ... (3)
وانه(صلی الله علیه وآله وسلم) كان ينظر في المرآة ويرجل جمته ويمشط وربما نظر في الماء وسوّى جمته فيه ولقد كان يتجمل لأصحابه فضلاً على تجمله لأهله وقال ان الله يحب من عبده اذا خرج الى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل(4)
لقد كان له (صلی الله علیه وآله وسلم) ولع شديد بالصلاة، روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) ان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) كان اذا صلى العشاء الآخرة أمر لوضوئه وسواكه يُوضع عند رأسه مخمراً فيرقد ماشاء الله ثم يقوم فيستاك ويتوضأ اربع ركعات ثم يرقد ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي، إنه كان يستاك في كل مرة قام من نومه(5).
وكان يطيل من خضوعه وخشوعه ووقوفه بين يدي الله سبحانه حتى
ص: 133
تورّمت قدماه المباركتان (1).
وكان(صلی الله علیه وآله وسلم) كثير التأمل شديد الاعتبار بما حوله من الأرض والسماء والشمس وغير ذلك، وكان أكثر ما يفكر فيه هو عظمة الخالق ... وأما زهده فكان من العظمة بحيث أن مظاهر الدنيا الخلابة لم تفتنه ولم تشدّده إليها.
لقد كان محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) قدوة في الصفات الأخلاقية الفاضلة ...
وطبيعي أنه لا يمكننا أن نوفّيها حقها من البحث في مقالة مختصرة ...
كلما يمكننا فعله هو أن نعطي صورة ما عن الصورة الواقعية الأصيلة المشرقة حتى يعلم المسلمون شيئاً عن أفعال وسلوك نبيهم العظيم ويضعون ذلك نصب أعينهم ومثالاً حيالهم، قال تعالى:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2).
فعلیه سلام الله فإنه أول خلق الله وأفضلهم ... وسلام الملائكة والصالحين والمقربين ... وسلام احترام منّا ومنك أيها القاريء الكريم .
ص: 134
مسألة الخلافه
و خلافة النبى (صلی الله علیه وآله وسلم)
ص: 135
تدرك جميع المجتمعات البشرية مدى الحاجة الى الرئاسة والقيادة التي تتكفل بتحريك عجلة المجتمع ولهذا فانه بمجرد أن يموت قائد فعلي يدرك الكل ضرورة قيام آخر مقامه ... وليس من المعقول أن يبقى الوضع فوضوياً وبدون رئيس معين . وذلك لأنه لن يعود على عرى المجتمع الّا بالتحلل والانفصام.
والمجتمع الإسلامي واحد من هذه التجمعات البشرية، وقد أدرك هذه ضروریه و هو یعی أنه لابد بعد وفاة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) من قائد يكمل مسيرته ... وعلى هذا القائد يتوقف بقاء الإسلام والمسلمين .
ولكن بما أن الحاجة الى القيادة ذات دوافع متعدّدة فقد تعددت آراء المسلمين حول خصوصيات القائد: فمنهم من يرى أن الغاية من وجود الحاكم تشكيل الجهاز الحكومي وحفظ هيبة الحكم ... ولذلك فان الخليفة ينتخب انتخاباً من قبل المسلمين.
ويقابل هذا الرأي رأي مدرسة آل البيت(علیهم السلام) وأتباعهم فهم اعتماداً على براهين علمية وفلسفية وآيات قرآنية وروايات كثيرة، واعتماداً على رؤية للموضوع أدق وأبعد مدى يقررون:
ان الدافع لوجود الخليفة المسلم هو التكامل الانساني من شتى
ص: 136
الجوانب ... بمعنى أن الخليفة عليه ان يكمل المسيرة التي بدأها النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) في هداية البشر وإرشادهم وتكاملهم المطلق.
وبناء على هذا فان القائد الذي يستطيع أن يقوم بهذه الرسالة يجب ان يكون معيناً من قبل الله سبحانه ... ويجب أن يكون كالنبي (صلی الله علیه وآله وسلم) من حيث قدرته على تعيين مشاكل الاُمة وتشخيصها ووصف العلاج الناجح لها ... وعلاجها انما يكون بالأحكام الإلهية الواقعية ... لأن هذه الاحكام هي وحدها التي يمكنها تأمين السعادة البشرية، وذلك لأنها من الله سبحانه والله يعلم نوازع النفس البشرية ومتطلباتها ... والقوانين التي تسعدها.
هذا هو الدافع الواقعي للحاجة الى القائد ... وليس الدافع ما تقوله تلك النظرة السطحية من أنه عبارة عن تشكيل الجهاز الحاكم وحفظ هيبة الحكم ...
وسنحاول هنا أن نتاول نظرة آل البيت وشيعتهم بشيء من التفصيل: إن سبب الحاجة الى خليفة النبىّ (صلی الله علیه وآله وسلم) هو نفس سبب الحاجة الى نفسه، أو إن الخلافة تتمم ذلك الأصل الذي ثبتت ضرورته وهو عبارة عن الهداية العامة، أي ان كل مخلوق من المخلوقات قد أمنت له الوسائل التي بواسطتها يبلغ درجة الكمال ... ولكنه يحتاج فقط الى الهداية كي لا ينحرف .
وطبيعي أن العقل لا يستطيع أن يؤمن له ذلك لأن رؤية العقل محدودة ... بالاضافة الى أن الفكر البشري معرض للاشتباه والانحراف الفكري والعاطفي ... ولا يستطيع أن يقدم القوانين والتشريعات السّليمة والمثمرة ... ولذلك كان ولابد من بعث الأنبياء عليهم السلام لأنهم بواسطة الوحي من الله سبحانه يمكنهم أن يقوموا بهذه المهمة وبدون ان يقعوا في أي
ص: 137
خطأ مهما كان صغيراً ...
ومن البديهي أن هذا الدليل كما يثبت ضرورة وجود النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) بين الناس يثبت ايضاً ضرورة وجود الإمام المعصوم الخليفة حتى يبقى عقد الرسالة نضيداً بوجود القائد الكفوء الذي يقدم للناس رسالة السماء على أتم و وجه ... ويقودهم الى مراتب الكمال بفعله وسلوكه المثالي...
نعم ... ان هذا الدليل يثبت ايضاً من ضرورة وجود الامام المعصوم لأنه بدون ذلك لا يمكن للإنسان ان يستفيد من القدرات المخبئة فيه والتي وهبها الله سبحانه وتعالى له ليبلغ بها درجة الكمال . ومعنى ذلك أن وجود هذه القدرات في الإنسان سيكون عبئاً ولغواً ... وهذا لا يصدر من الله سبحانه ... لأنه ليس من المعقول أن يودع في الإنسان قدرات لا حاجة له بها .
يقول الحكيم الإسلامي ابن سينا (في كتاب الشفا) (1):
«... فالحاجة الى هذا الإنسان اي) النبي أو الولي في ان يبقى نوع الإنسان ويتحصل وجوده أشد من الحاجة الى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الاخمص من القدمين واشياء اخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء، بل اكثر مالها انها تنفع في البقاء ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما سلف منا ذكره فلا يجوز ان تكون العناية الأولى تقضى تلك المنافع ولا تقضي هذه التي هي أسها الخ. وهذا هو الدليل الذي يوضح جيداً ان خليفة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) يجب ان يكون منصوباً ومعيناً من قبل الله سبحانه ومعصوماً منزهاً عن المعاصي والأخطاء ...
لان الخليفة ان لم يكن كذلك فهو معرض للوقوع في الخطأ كثيراً ... الى
ص: 138
جانب مجهولاته اللامحدودة .... وفي النتيجة فلن يكون باستطاعته ان يدرك اسرار السعادة البشرية المتكاملة ولا ان يقدم الدين الواقعي الصحيح للناس حتى يسعدوا بتطبيقه والالتزام به ويصلوا الى درجة الكمال(1).
ولذلك فقد أوجب الله سبحانه على المسلمين اطاعة واتباع الذين نصبهم هو وعينهم لهذا المركز ... قال تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأمرِ مِنکُم) (2).
من البديهي ان المقصود من « أولى الأمر » الذين أوجب الله طاعتهم كما أوجب طاعة الرسول وأمر باتباعهم في جميع الأشياء والأحوال هم. الأئمة المعصومون الذين عيّنهم الله سبحانه لخلافة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) الائمة المنزهون عن الخطأ وعن الأغراض الشخصية، والذين يقومون بهداية البشر الى حقائق الاُمور. وليس المقصود أبداً أصحاب الأهواء الذين تجد في أقوالهم وأفعالهم آلاف الأخطاء والذين لا يمكن أن تصل البشرية باتباعهم الى التكامل المنشود(3).
كان النبيّ الأكرم يفدي الإسلام العظيم بنفسه ... وكان يعلم أكثر من كل من عداه ان الإسلام الواقعي يجب أن يبقى في العالم الانساني محفوظاً مصاناً ... فهل يمكن مع هذا أن نتصور أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)التحق بالرفيق الأعلى
ص: 139
دون أن يبين للمسلمين خليفته من بعده .
لقد أولى النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) من بداية مبعثه الشريف أهمية كبيرة لهذا الموضوع ... وقد نص على خليفته بشكل واضح في موارد مختلفة . إن كل من يفكر في أقواله (صلی الله علیه وآله وسلم) فى هذا الموضوع جيداً يرى أن المقصود فيها ليس الأعلياً وآل البيت عليهم السلام، ولم يكن المراد أبداً أحدّ سواهم . وها نحن نقدم نماذج من أقواله (صلی الله علیه وآله وسلم) في هذا المضمار:
1 - قال النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)لعلي (علیه السلام) « أنتَ وَلييّ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ » (1) .
2 - نقل علماء الشيعة والسنة أن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) صرح في الملأ العام عدة مرّات قائلاً :
«إنّي تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي ...» (2) .
والمقصود بالعترة أهل بيته (صلی الله علیه وآله وسلم) علي وأولاده المعصومون عليهم السلام لأن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) نص عليهم ولأنهم هم المنزهون عن الخطأ وهم الذين لم يكن اتباعهم يؤدي الى الضلال .
3- يقول أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي أن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) قال لعلي (علیه السلام):
«انت وليي في كل مؤمن بعدي » (3).
4 - ذكر العلماء، شيعة ، وسنة ، إن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) في آخر سنة من حياته الشريفة وبعد أداء فريضة الحج وقف بين عشرات الألوف من المسلمين
ص: 140
وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه(1) .
5 - هناك روايات كثيرة عن النبيّ الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) يصرّح فيها بأن خلفاءه من قريش وأنهم اثنا عشر خليفة...(2) حتى أنه ورد في بعض الروايات بيان خصوصيات الائمة الأطهار عليهم السلام وأسماؤهم(3).
هذه النماذج التي صدر بعضها عن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) في آخر سنة من عمره المبارك ... توضح جيداً من وكيف هو الشخص الذي يجب أن يتولى زمام أمور المسلمين بعد النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) .
يعتقد فريق من الكتاب أن الخلافة يمكن أن تتم عن طريق الشورى وأكثرية الآراء .... وقد استشهدوا لهذه بعدّة آيات من القرآن الكريم ورد فيها الأمر بالمشاورة واعتبروا أن الانتخاب أحد الاسس الاجتماعية والسياسية في الإسلام غافلين عن:
1 - إن الامامة متممة للأصل الاساسي للنبوة، وكما أن النبوة تعيينية وليست انتخابية فكذلك الإمامة التى هي خلافة ذلك المقام النبوي .
2 - انما تكون الشورى حيث لم يعين التكليف والحكم من سبحانه، وكما تقدم فإن النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) طبقاً للروايات الصريحة قد عيّن خليفته، فلم يبق مجال للشورى أبداً .
3- لنفترض أن الشورى في هذا الأمر صحيحة ... حينئذ لاشك في ان النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) يبين شرائط الناصب والمنتخب بشكل واضح حتى يكون
ص: 141
الناس على بصيرة تامة من أمر هذه المسألة التي يتوقف عليها بقاء المجتمع الإسلامي وبقاء الدين المقدس ... ولكنّا نرى أنه (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يقل شيئاً حول هذا بل قال العكس، فحينما أسلم بنو عامر على يديه (صلی الله علیه وآله وسلم) . قال له أحدهم:
أرأيت ان نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: الأمر الى الله يضعه حيث يشاء (1) .
وعلى اساس هذه الروايات - وغيرها - يعتقد الشيعة أنّ خلفاء رسول الله الذين نص عليهم هو صلوات الله عليهم كلهم معيّنون من قبل الله سبحانه ... ويرون أن عليهم أن يرجعوا الى هؤلاء الخلفاء والأئمة الطاهرين في جميع أمور حياتهم ... وأن يتلقّوا منهم تعاليم دينهم الواقعي الذي لم تنله يد التحريف .
ولحسن الحظ إن هذا الاعتقاد قد أتاح لنا الاستفادة من علم آل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجمع الذخائر والكنوز من الحقائق والمعارف التي يمكنها أن تضع الجواب لجميع مسائل الحياة في مختلف النواحي ... ولهذا كان مذهب التشيع مذهب آل البيت ... أغنى المذاهب الإسلامية
وأثراها .
ص: 142
نظرة سريعه
لمسيرة الخلافة
ص: 143
أمر الله تعالى الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) بتعيين علي بن أبي طالب (علیه السلام) خليفة له وابلاغ ذلك الى الناس .
وفي مطلع الدعوة الى الإسلام جمع الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) اقاربه وعشيرته وقال لهم مشيراً الى عليّ(علیه السلام) : إنّ هذا أخي ووصييّ وَخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا(1).
وعندما كان متجهاً الى تبوك قال العلي (علیه السلام) : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّك لست بنبي، إنَّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي(2).
وفي آخر سنة من حياته الشريفة وبعد أداء فريضة الحج وزيارة بيت الله الحرام والرّجوع من ذلك وقف في غدير خم أمام عشرات الألوف من المسلمين وقال :
من كنت مولاه فعلی مولاه(3).
ص: 144
وكذلك في آخر لحظات حياته قال للناس وأصحابه وأتباعه .
إنِّي أوشك أن أدعى فأجيب وإنّي تارك فيكم الثقلين - ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي - كتاب الله عز وجل وعترتي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروني بم تخلفوني فيهما ...(1)
كما اننا نجد من خلال عشرات الروايات الاُخرى انه أكد على هذا الأمر وهيّأ الأرضية المساعدة ليكون زمام الأمة الإسلامية بشكل طبيعي بيد علي بن أبي طالب (علیه السلام) وحتى أنه لم يكتف بهذا القدر، وانما قام ببعض الخطوات العملية الرائعة ليفشل كل الخطط المبيتة لكسب الخلافة وتحريف المسيرة .
فقد أعد جيشاً بقيادة أسامة بن زيد، وهو شاب كفوء قوي ليرسله الى الروم، وأمر أهل المدينة بالالتحاق بالجيش وفيهم المهاجرون والانصار ومنهم أبو بكر وعمر، وطلب اليهم الخروج من المدينة وكرّر التأكيد على لزوم تنفيذ بعث أسامة، وكان يكرر القول لكل من يرجع قائلاً:
«أنفذوا بعث أسامة » (2)
وتشكيل هذا الجيش واختيار أسامة لقيادته في تلك الفترة حيث كان الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) قد مرض مرضاً شديداً فكان يقضي آخر لحظات عمره الشريف، هذا التشكيل لم يكن الا لتخلية المدينة من العناصر المعارضة وسوق الخلافة وقيادة العالم الإسلامي بشكل طبيعي الى الامام علي (علیه السلام) ، وكذلك لكي يعلم الجميع الشيخوخة ليست شرطاً في القائد
ص: 145
وانما الشرط الكفاءة، ولئلا يجعل صغر سن الامام علي (علیه السلام) ذريعة لاقصائه عن مقام الخلافة، ولكي يستطيع الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) ايضاً ان يكتب سند خلافة الامام (علیه السلام) في منأى عن معارضة المعارضين.
الّا ان المخالفين انفصلوا عن جيش أسامة ورجعوا الى المدينة وحينئذ طلب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من جمع صحابته قائلاً : ايتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ابداً ... فرد عليه بعض أصحابه ووصفه بالهجر وكان في البيت لغط وكلام وقال عمر : قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله .
ولقد تألم الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) من هذا الأمر بشدّة وعلم ان كتابته لا يمكنها والحال هذه انه ترفع الاختلاف، وحتى انها قد توجب القضاء على أساس الإسلام ولذا فقد أظهر تبرئه وتألمه منهم قائلاً لهم : قوموا عنّي(1).
توفى الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) في الثامن والعشرين من شهر صفر في السنة الحادية عشرة للهجرة وعمّ المدينة حزن شديد.
وفي الاثناء قام جماعة من المسلمين باغتنام الفرصة المساعدة وتركوا جسد الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وتجمعوا في سقيفة بني ساعدة.
أراد الأنصار أن ينصبوا زعيمهم سعد بن عبادة كخليفة للرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) فلم يوافق على هذا عمر وأبو بكر، وقد أوضح أبو بكر، خلال حديثه مقام المهاجرين وانهم سبقوا للاسلام وانهم عشيرة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وأن أمير المسلمين يجب أن يكون منهم والوزير من الانصار، وهنا نهض أحد
ص: 146
الأنصار مقترحاً ان يختار كل فريق أميراً له، إلا أن حديث أبي بكر أثر في عدّة من الحاضرين واستعدوا لان ينتخب الامير من المهاجرين، وبدون أن يستشيروا الباقين من المهاجرين والانصار غير الحاضرين في المجلس ويطلعوهم على هذا التصميم في هذا الموضوع الإسلامي الخطير صاروا هم القيمين على كل الشؤون .
وتداول أبو بكر وعمر الخلافة . فكان كل يقدمها لصاحبه وأخيراً بايع عمر أبا بكر عليها (1) وبعد ذلك قام اولئك المعارضون لأمارة سعد بن عبادة بالبيعة لأبي بكر(2) كل ذلك دون أن يدركوا أنه لو كان المقياس في الفضيلة هو قرابة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) فقد كان من هو أقرب الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من أبي بكر وهو أليق من أي جهة بالأمر وكانت هذه البيعة المفاجئة هزيمة لسعد بن عبادة وأنصاره، ونصراً لعمر وأبي بكر، وقد أجبر بعض المعارضين على البيعة بحجة انه لا تجوز مخالفة جماعة المسلمين(3) .
وعندئذ خرج أبو بكر وعمر وانصارهما من السقيفة واتجهوا نحو مسجد الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) فكانوا يرفعون يد من يلاقونه ولا يدعونه إلّا ان يبايع ابا بكر(4).
وعرف بنو هاشم وكبار المهاجرين والأنصار مثل العباس عمّ النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وأولاده والزبير والحباب بن المنذر والمقداد وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمار، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب،
ص: 147
وعتبة بن أبي لهب ، وخالد بن سعيد، وخزيمة بن ثابت وفروة بن عمرو، عرفوا بالخبر فجأة وكانوا يجهلونه، فغمرتهم الدهشة(1) وامتنعوا عن البيعة، بعد أن لم يستطيعوا ان يتصوروا كيف ان الخلافة انحرفت عن مسيرها بسرعة رغم كل تلك الروايات وتصريحات الرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله وسلم) وخرجت من يد أهل البيت(علیهم السلام).
وقال علي (علیه السلام) في جواب أبي عبيدة نصير أبي بكر الذي تذرع بحجة صغر سنه وعدم توفره على التجربة الكافية: يا معشر المهاجرين، الله الله، لا تخرجوا سلطان محمّد عن داره وبيته الى بيوتكم ودوركم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ؛ فوالله يا معشر المهاجرين لنحن - أهل البيت - أحق بهذا الأمر منكم؛ أما كان منّا القاريء لكتاب الله، الفقيه في الله العالم بالسنة المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا
الهوى فتزدادوا من الحق بعداً (2).
ولما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجدّدت البيعة له يوم الثلاثاء على العامة خرج علي (علیه السلام) فقال : أفسدت علينا أمورنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقاً، فقال أبو بكر: بلى ؛ ولكني خشيت الفتنة ... ولم يبايعه أحد م-ن بني هاشم حتى ماتت فاطمة (سلام الله علیها)(3).
ان مطالعة تاريخية للحوادث التي سبقت وفاة الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) والأيام القليلة التي تلتها، تكشف لنا بوضوح عن مؤامرة دقيقة متشعبة الجوانب، وإلّا فلماذا لم يخبروا بني هاشم وكبار الصحابة باجتماعهم في سقيفة بني ساعدة ؟ ولنفرض - جدلاً - أنّ الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يعين الخليفة
ص: 148
من بعده فهل من الصحيح ان يبيت في امر يرتبط بمصير العالم الإسلامي دون مشورة علي (علیه السلام) و أصحابه وبني هاشم وكبار الصحابة مثل سلمان وأبي ذر والمقداد؟
فهل كان أولئك يفكرون أحسن من علي (علیه السلام) ، ألم يقل النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) من قبل في علي (علیه السلام) :
(علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض يوم القيامة) (1).
(أقضاهم علي بن أبي طالب) (2).
(أنا مدينة العلم وعلي بابها)(3).
فلماذا لم يبايعوه خليفة وحتى أنهم لم يستشيروه في هذا الأمر الهام. وهل يمكن اتخاذ حداثة سنه ذريعة ؟ ألم يجعل الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) قوام التقديم في الكفاءة والتقوى، ولذا قدم أسامة على أمثال أبي بكر، فلماذا لا يتقدم عليّ على غيره ؟
ولقد تذرعوا بذريعة أخرى هي ان الدماء التي سفكها عليّ في الحروب الإسلامية تمنع الكثيرين من الانضواء تحت لوائه.
نعم تناسوا وأغفلوا كل الروايات والتصريحات التي صرح بها الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) بحقّه في حين أن المقاييس تقضي أن يجبر الرافضون للحق على إتباعه لا أن يخالف الحق لهذه الذريعة.
هذا علاوة على أنه لو كان هناك سبب صحيح لم يختر الله تعالى علياً خليفة للرسول (صلی الله علیه وآله وسلم).
ص: 149
سؤال: يسأل بعض إخواننا المسلمين المنصفين قائلين:
اننا لا يمكن أن ننكر مسألة الغدير وسائر الأدلة المقامة على خلافة
الامام علي (علیه السلام) ولكن لماذا لم يدافع علي نفسه عن حقه بعد وفاة الرسول (علیه السلام) في حين إنه حارب عند خلافته كل اولئك الذين قاموا ضده وأرادوا غصب حكومته ؟
الجواب: إنّ علياً (علیه السلام) لم يكن ليعترف بحكومة أبي بكر، ولذا فإنه لم يكن ليحضر جماعته وجمعته، واستعان بالناس ليستعيد حقّه المغصوب، حتى أنه كان يطوف بالزهراء فاطمة سلام الله عليها ليلاً على بيوت الأنصار ويطلب معونتهم في الأمر ولكنهم تذرّعوا بأنهم بايعوا وقد قضى الأمر(1).
لقد كان الأنصار حديثي عهد بالإسلام، ولذا فقد كانت العادات والأخلاق الجاهلية مازالت معشعشة في أعماق نفوسهم، ولذا فإنهم لم يكونوا بقادرين نفسياً على تجاوز بيعة أبي بكر رغم أنها وقعت في غير محلها ومن ثم نصرة علي (علیه السلام).
فعلي (علیه السلام) إذن لم يكن يملك ناصراً بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ليقوم مطالباً بحقه والا فلم يكن متوانياً في أخذ حقه وقيادة العالم الإسلامي .
وهذا ما تجلى عندما ثار الناس بوجه عثمان وقتلوه واتجهوا بكل حماس نحو علي (علیه السلام) ومدوا إليه يد البيعة فأعلن أنه لا عذر له في عدم قبول الأمر بعد قيام الحجة بوجود الناصر (2) فنهض(علیه السلام) به وقاد العالم
ص: 150
الإسلامي أروع قيادة .
أما بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) فإنه كان يرى الاصرار على المطالبة بحقه رغم عدم الناصر، لا ينتج إلا ازدياد الاختلافات الداخلية، الأمر الذي يعود ضرره على الإسلام ودولته الفتية . ذلك أنّ أعداء الإسلام كانوا
يتربصون به الدوائر ينتهزون الفرص للانقضاض على مكاسبه .
و علي(علیه السلام) أراد أن يحفظ الإسلام، والإسلام لديه أعز من كل شيء لقد رأى (علیه السلام) وهو البطل المقدام الذي وقف جنباً الى جنب الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) في حروبه وصراعه ضد الكفر، رأى أن صلاح الإسلام والمسلمين يكمن في تركه التحرك والمعارضة الثورية والصبر على مضض الألم.
لم يكن علي (علیه السلام) طالب رئاسة ولذلك لم يتوسل بشتى الوسائل للوصول الى منافعه الشخصية، وأننا نجد علياً يتخذ الموقف الرسالي المسؤول عندما يأتيه أبو سفيان قائلاً : ابسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأتها عليه خيلاً ورجلاً).
ليرفض علي (علیه السلام) هذا العرض الخبيث الماكر ويقول له :
(والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة وانك والله طالما بغيت للاسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك)(1)
والواقع :
إننا لم نطرح هذا البحث إلا ليقوم الأخوة من أهل السنّة بمراجعة مصادرهم المعتبرة ويحققوا ويبحثوا حول هذه الحقائق التاريخية لنصل
ص: 151
بالتالي الى تفاهم فكري وتعاون أخوي صميم وننسى الماضي المرّ ونخطو معاً على طريق الوحدة الإسلامية الشاملة .
الصفحة
ص: 152
العنوان مقدمة العنوان مقدمة
العالم والعرب قبل ظهور الإسلام...3
الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام...7
النبي محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) ولادته وطفولته...11
ولادته وطفولته...12
محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) الوليد العجيب...13
حليمة مرضعة محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم)...14
محمد في غمرة الأحداث...15
صفات وملامح محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم)...15
ص: 153
خواطر من حياة محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) في طفولته وشبابه...17
خواطر من حياة محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم)...18
حديث بحيري الراهب مع محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم)...19
رعي الغنم وأثره في حياة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)...21
عفته وطهارة نفسه وتعاليه عن المغريات...22
الزواج الأول لمحمّد (صلی الله علیه وآله وسلم)...25
اقتراح خديجة (سلام الله علیها) ...27
من هي خديجة(سلام الله علیها) ؟...27
محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) يسافر الى الشام...28
اقتراح الزواج...29
تعدد زوجات النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) على واقعه ...31
نماذج من تهم المسيحيين...32
حكم التاريخ و قضاؤه...34
استجواب للمستشكلين...34
تعداد أزواج النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم)...35
الاتهامات الباطلة...37
شخصية الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) قبل البعثة...41
غريزة التقليد والمماشاة...42
ص: 154
مجتمع الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام...42
الأنبياء قادة المجتمعات لا أتباعها...44
حكم النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) بين قريش في وضع الحجر الأسود...45
بداية الوحي...47
رسالة محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) العالمية...48
محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) في سن الأربعين...49
هل كان محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) يمرّ في غار (حراء)...50
ما هو الوحي ؟...51
هل الوحي نوع من المرض ؟...52
الوحي و علم اليوم...54
طريقة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) في تبليغ رسالته...55
طريقة النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم)...56
خديجة في انتظار محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم)...57
علي (علیه السلام) أول من أسلم من الرجال...58
تشريع الصلاة...58
ثلاث سنوات من التبليغ العملي...59
دعوة الأقربين...60
ص: 155
الدعوة العامة لمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)...63
الدعوة العامة لمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم)...64
نداء محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) على الصفا...64
ردود الفعل لنداء النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم)...65
قريش تقدم الشكوى لأبي طالب...66
قريش تحاول اغراء النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)...67
مشاكل الطريق و تعذيب قريش...69
تعذيب قريش...70
الضغوط الاقتصادية...73
الحرب النفسية...74
التعذيب الجسدي...74
هجرة النبيّ محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم)...75
الهجرة من أجل الهدف...76
يثرب...77
المؤامرة ...77
الاخلاص والفداء...78
الى غار ثور...78
الى يثرب ...79
يثرب تنتظر...80
ص: 156
درس من الهجرة...81
أطروحة الأخوة الإسلامية...83
المجتمع الفاضل...84
ابتكار في ميدان الاخوة...84
الاخوة الإسلامية في عصرنا الحاضر...87
الجهاد في الإسلام...89
نبيّ الرحمة ...90
أهداف الجهاد...91
ما أجمل كلام الله...92
هل انتشر الإسلام بالسيف...93
دوافع حروب النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)واحصاء القتلى فيها...97
إيديولوجيّة التفاهم الدولي...98
1 - حرب بدر...99
2 - حرب أحد...101
3 - الأحزاب و الخندق...101
4 - بنو قريظة ...101
5 - حرب بني المصطلق...102
6 - خیبر ...102
ص: 157
7 - مؤتة...103
8 - فتح مكة ...103
9 - حنين - هوازن ...104
عدد القتلى...105
عالمية الإسلام...108
الإسلام دين الشرق والغرب...108
من مكة دعى النبي العالم الى الإسلام...109
شاهد آخر على عالمية الإسلام...110
وظيفتنا في تبليغ الإسلام...112
محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) خاتم الانبياء...113
خلود الإسلام...114
الإسلام الدين الخالد...115
الخاتمية في القرآن...117
الخاتمية في الأحاديث...118
حديث الغدير وخلافة النبيّ...119
واقعة غدير خم...120
رواة حديث الغدير...124
معنى الحديث...125
ص: 158
أخلاق محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) و سلوكه...127
حاجة المجتمع الى الاخلاق...128
محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) بين الناس...130
تسامحه وعفوه...132
نظافته و طهارته...133
عبادته و زهده...133
مسألة الخلافة وخلافة النبيّ...135
الحاجة الى القيادة...136
هل عين النبيّ الأكرم خليفة ؟ ...139
الشورى في الخلافة...141
نظرة سريعة لمسيرة الخلافة ...143
السقيفة وما جرى فيها...146
سؤال...150
الجواب...150
ص: 159