معرفة الذّات لبنائها الجديد

هوية الکتاب

اسم الكتاب: معرفة الذّات لبنائها الجديد

المؤلف : محمّد تقي مصباح اليزديّ

المترجم : الشيخ محمّد علي التسخيري

رقم التسلسل : 68

نوع الطبع: الأوفست

الحجم : رقعی

عدد الصفحات

الطبعة: الأولى عدد النسخ 5000

المطبعة: سلمان الفارسى. قم

تاريخ النشر: جمادى الأولى

الناشر: مؤسسة في طريق الحق

العنوان :إيران-قم- خیابان ارم - کوچۀ آقازاده تلیفون 23759 ص. ب. 5

حقوق الطبع محفوظة للناشر

محرّر الرقمي: محمّد رادمرد

ص: 1

اشارة

معرفة الذّات لبنائها الجديد

المؤلف : الأستاذ محمّد تقي مصباح

المترجم : الشيخ محمّد على التسخيري

مؤسّسة في طريق الحق - إيران. قم ص. ب رقم 5

ص: 2

مقدمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«وَنَفْسٍ وَما سَويها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتَقْويهَا، قَد أفْلَحَ مَنْ زَكّيها، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّيها»

«القرآن الكريم»

تزكية النفس هي البغية الّتي يبتغيها كلّ من تنوّر قلبه بنور المعرفة والإيمان، ويسعى وراءها كلّ من عرف قدرها وأيقن أنّ الفوز والفلاح لا يتيسر إلا من طريقها، ولكن هناك أمور تسهى القلب عن الإنتباه، وتمنع المنتبه عن الإرادة، وتصرف المريد عن السلوک وتصدُّ السالك عن الإمعان في السير والوصول الى الهدف الأسمى والغاية القصوى.

و إنّ لمعرفة النفس ودوافعها، ومعرفة شؤونها وسوائقها، ومعرفة ما يهيج شوقها و يشدّ عزمها تأثيراً بالغاً في حسن تدبيرها وكمال تربيتها و إزالة الموانع عن طريقها والنجاح في بنائها من جديد.

ولقد ألقى الأستاذ محمد تقيّ مصباح اليزدىّ دروساً بهذا الصدد، وكتب ملخصها - بالفارسيّة وأسماه «خُود شناسي براي

ص: 3

خُود سازي»، وقد طبع عدة مرات ونال إعجاباً وافراً من القراء الكرام الّذين جربوا في أنفسهم نوره الساطع، ودوره الفعّال، وتأثيره الإيجابيّ البالغ.

وقد حتّنا ذلك على نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة ليعمّ نفعها وينتشر ضوؤها في سائر الأقطار الإسلامية راجين من اللّه تعالى حسن القبول والتوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين أكثر فأكثر.

مؤسّسة في طريق الحق

ص: 4

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد و آله المعصومين لاسيما بقية اللّه في الارض عجّل اللّه تعالى فرجه و جَعَلنا من أعوانه و أنصاره و مَنَّ علينا برضاه واللعن على أعدائهم أجمعين.

ص: 5

ص: 6

مقدّمة

يقع الإنسان - من جهات مختلفة - موضوعاً لعلوم مختلفة:

علم النّفس، علم الاجتماع التاريخ، الأخلاق، الطب و حتى الفيزياء و الأحياء فإنها علوم يتناول كلّ منها الإنسان من زاوية خاصة.

و ما نرمي اليه هنا هو البحث حول الإنسان من زاوية كونه موجوداً يقبل التكامل و سنتحدث عن أساليب الاستفاده الأَمْثَل من الطاقات الدّاخليّة والإمكانات الخارجيّة للوصول الى السّعادة الحقيقيّة عبر التأمّل فى وجودنا و معرفة العوامل الّتي اودعت في الفطرة لتسير بنا الى الهدف الأصلي، وكذلك عبر معرفة عناصر الجذب نحو الأهداف الإنسانيّة الساميّة، والروابط الّتي تربطنا بالآخرين والتي تمكننا من خلال الاستفادة منها والسعي في تقويتها وتحكيمها من تقوية أنفسنا وتهيئتها للتكامل

ص: 7

والتّسامي.

معرفة الذّات أبنائها الجديد

و نسأله تعالى أن يعيننا أن نخطو - في هذا - خطوة على طريق تكاملنا و تكامل الآخرين.

و عليه، فموضوع بحثنا عبارة عن «الإنسان من زاوية كونه موجوداً يقبل التّكامل» و هدفه عبارة عن «معرفة الكمال الحقيقى وسبيل الوصول اليه» و اسلوبه عبارة عن «دراسة تأملاتنا الداخليّة للوصول الى معرفة جديدة لمتطلباتنا و عناصر الجذب المتواجدة في أعماقنا و الّتي تسير بنا نحو الكمال، والعوامل الّتي تساعدنا في ذلك والظروف التى يمكن استغلالها للوصول الى ذلك».

و سنسعى الى الاكتفاء لإثبات مانقول بالمعطيات الوجدانيّة والبراهين العقليّة البسيطة غير المعقّدة مستفيدين من أوضح المعلومات وأكثرها قناعة لكشف المجهولات وقد نشير عند الضرورة الى الأدلّة العقليّة والنقليّة المعقدة.

ص: 8

بحثٌ كلىٌ موجز حول

معرفة الذّات لبنائها من جديد

ص: 9

ص: 10

ضرورة معرفة الذّات

من الطبيعي جدّاً للموجود الّذي يحمل في فطرته. الذّات أن يعرف هذه الذّات و يدرك كمالاته و سبل الوصول اليها، فلانحتاج للأدلة العقليّة المعقدة أو التعبديّة الشرعيّة لندرك ضرورة معرفة الذّات.

و من هنا فأنّ أيّ تغافل عن هذه الحقيقة و انشغال بالأشياء الّتي لا تملك أيّ دخل في الكمال و السعادة الإنسانيّة امر غير طبيعي و انحرافّي بلاريب مما يتطلب منا البحث عن علة هذا الانحراف و معرفة سبيل الخلاص من آثاره السلبيّة.

والحقيقة أن كلّ أنماط السعي الإنساني سواء العلميّ منها أو العمليّ إنما يتمّ لضمان اللذات والمنافع والمصالح للإنسان، و لذا فإن معرفة الإنسان نفسه و بدئه و منتهاه و كذلك كمالاته الّتي يمكن الوصول اليها هذه المعرفة مقدّمة على كلّ المواضيع بل إنه بدون معرفة حقيقة الإنسان وقيمته الواقعيّة لا تبقى ايّة فائدة وقيمة للبحوث الأخرى.

ص: 11

إنّ تأكيد الأديان السّماوية وقادة الدين وعلماء الأخلاق على معرفة النفس و كشف حقيقتها، إنما هو إرشاد الى هذه الحقيقة الفطريّة والعقليّة فهذا القرآن الشريف يعتبر نسيان النفس من لوازم نسيان اللّه و أنه بمنزلة جزاء لهذا الذّنب العظيم فيقول تعالى :

«وَلا تَكُونُوا كَالّذينَ نَسُوا اللّه فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» (1) و في موضع آخر

«عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّ كُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (2)

وقد وجه الأنظار الى آياته - تعالى - في الآفاق والأنفس فقال :

«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق و في أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُ» (3) وقد أولى آيات الأنفس عنايةً خاصةً حين عبر تعالى بقوله:

«وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (4) فألقى باللوم على أولئك الّذين لا يسعون لمعرفة الآيات الإلهيه في أعماق وجودهم.

وقد أعطى النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) معرفة النفس اهمّيّةً فائقةً وجعلها سبيل معرفة اللّه حيث قال «من عرف نفسه فقد عرف ربه».

وقد نقلت روايات كثيرة عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذا الصّدد نقل منها المرحرم (الآمدي) ما يقرب من 30 روايةً في كتابه (غُرَرُ الحكم) ومنها هذا الكلمات القصار

«معرفة النفس أنفع المعارف».

ص: 12


1- سورة الحشر الآية 19.
2- سورة المائدة الآية 105.
3- سورة فصلت الآية 53.
4- سورة الذاريات الآية 21.

«عجبت لمن ينشد ضالته وقد اصل نفسه فلا يطلبها».

عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه.

«غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه».

«الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النّفس».

وقد روى عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله :

«كلّما زاد علم الرّجل زاد عنايته بنفسه و بذل في ریاضتها وصلاحها جهده» (1).

توضيحات ضرورية :

لما كنا نستعمل في حديثنا هذا بعض التّعبيرات الّتي تستعمل في مجالات أخرى بمعان أخرى قد تختلف عن موارد استعمالنا فإنه يجب الالتفات الى التوضيحات التالية لئلا نقع في الاشتباه :

الف: إنّنا نقصد من (معرفة الذّات) - كما أشرنا إليه - معرفة الإنسان من زاوية كونه متوفّرا على استعدادات و طاقات تمهد له سبيل التكامل الإنسانيّ. و من هنا فإننا لانستغنى عن هذا البحث بمقدار ما يعلمه الواحد منا بنفسه علماً حضوريّاً كما أننا لا نقصد العلم الحضوريّ الكامل الّذي يحصل للإنسان في أواسط سيره المعنويّ حيث يشاهد الإنسان حقيقته دون أي حجاب لأنّ هذه الحالة من نتائج بناء الذّات لامن مقدماتها. كما أنها لا تبحث عن معرفة أجهزة البدن و مكوّناته وكيفيّة عملها - كما يبحث ذلك

ص: 13


1- مستدرک الوسائل ج 2 ص 310.

في علم الفسلجة - بل وحتى معرفة النفس وفواها الداخلية بالنّحو الّذي يبحثه علم النفس فإنها ليست غايتنا و إن كنّاقد نستفيد من البحوث النفسيّة المقطوع بها كمقدمات ومبادئ لبحثنا هذا.

ب- إننا نقصد من (بناء الذّات) و بشكل عامّ دراسة الذّات والاهتمام بها منح النّشاطات الحياتيّة شكلها وجهتها، لا تحديدها و إيقافها و بعبارة أخرى، فإن الغرض من هذا البحث هو ان نعلم بكيفية تنظيم مساعينا العلمية والعملية وماهي الوجهة الصحيحة الّتي يجب توجيهها نحوها لِكَيْ يؤثر ذلك في وصولنا الى الكمال الحقيقي ؟ وعلى هذا فإنه لا يلزم من هذا البحث أن ننكر الحقائق الموضوعية خارج الذهن أوننكر قيمة معرفتها أوأيّ اتجاه مثالي غير ايجابيّ، تماماً كما أن النزعة البرجماتية (النفعيّة) القائمة على أصالة (مبدأ العمل المفيد للحياة الماديّة الدنيويّة و الّتي هي من مظاهر (الأومانية) هذا الإتّجاهات لا يمكنها أن تبيّن حقيقة هذا البحث بل سنرى أنها تختلف عنها اختلافا كليّاً، اللّهم إلا أن يعطي بعض أنماط هذه الأفكار تفاسير تتضمن تصوّرا متعالياً سامياً وهو مالم يقصده مؤسسوا هذه الاتجاهات وأتباعها.

ج - إنّ المقصود من العودة إلى الذّات والتأمّل فى أعماقها و البحث عن أبعادها هنا هوأن يعرف الإنسان هدفه الأصليّ و كماله النهائيّ و كذلك مسيرة سعادته و رقيه الحقيقي عبر التأمّل في وجوده و استعداداته الداخليّة و ميوله الباطنيّة، ولسنا نقصد قطع الروابط الوجوديّة للذّات بالآخرين وعدم أخذها بعين الاعتبار و إنكار الإمكانات الّتي يهيئها المجتمع والتّعاون

ص: 14

الاجتماعيّ لتحقيق التقدّم والتّكامل الذّاتي.

فالمقصود إذن من هذه التعبيرات ليس إلّا جوانبها الإيجابيّه فيجب أن لا نخلط بينها و بين (الفرديّة) و (الباطنيّة السلبيّة) و(الأنانيّة) و (عبادة الذّات) و أمثال ذلك من التعبيرات الّتي نجدها في علم النفس أو الأخلاق و غيرها و الّتي تتضمن معانى سلبيّة.

د - هناك الفاظ أخرى لها معان اصطلاحية متعددة و لها استعمالات متفاوتة في العلوم المختلفة بل وقد يكون لبعضها معاني متغايرة يستعمل كلّ معنى منها مذهب خاص في إطار علم واحد مثل العقل، النفس، الشهود، الحسّ، الإدراك، الخيال، القوة، الطاقة، الغريزه و...

والتقيد باصطلاح خاصّ في مثل هذه الأمور يوقع السامع والمتكلم في ضيق لا داعى له و من هنا فإنه لكي نعين المقصود من تعبير من هذه التعبيرات ينبغى أن نعيّن المعنى من خلال سياق الكلام وعلى أولئك الّذين يأنسون اصطلاحاً عمليّاً و فلسفيّاً خاصّاً أن لا يحصروا أنسهم في إطار ذلك الاصطلاح لئلّا يبتلوا بالخلط و الاشتباه.

ص: 15

ص: 16

الكمال

رغم أن مفهوم الكمال واضح لا يحتاج الى تعريف ولكنا و لئلا نقع في الخلط في بعض الموارد سنقدم توضيحاً حوله فيما يلي:

إنّ الكمال - بلاشكّ - صفة وجوديّة يتصف بها الموجود ولكنا عندما نقيس أمراً وجودياً ما إلى أشياء مختلفة فإنّا نجده كمالاً بالنسبة الى بعضها في حين أنه لا يعد كمالاً بالنسبة للأخرى بل قديعد نقصاً وتقليلاً في القيمة السوجودية لتلك الأخرى.

كما أن البعض الآخر لا يمتلك أساساً اي استعداد لبعض الكمالات فإن الحلاوة مثلاً تعتبر كمالاً لبعض الفواكه كالكمثرى والبطيخ في حين يكمن كمال بعض الفواكه في حموضتها.

أوفي طعمها. أونقول إنّ العلم للإنسان كمال في حين لا يمتلك الحجر والخشب أيّ استعداد له.

ص: 17

و سرّ الأمر هو أنّ أىّ موجود يمتلك حداً ما هوياً خاصاً به بحيث يتبدّل الى نوع آخر من الوجود إذا تجاوز هذا الحدّ.

إن التغييرات الماهوية قد تتم بعد تغيير شكل الجزئيّات أوزيادة الذرّات وقلتها أو بعد التغييرات الداخليّة في تركيب الذّرة او تبدّل المادة الى طاقة أو العكس كما انها قدتتم رغم وحدة هذه التركيبات كلها فلوقسنا البذرة الصناعيّة الى البذرة الطبيعيّة وجدنا وحدة في التركيب الداخلي للبذرتين، ولكن الصناعية منها تفتقد القدرة على النموّ رغم وحدة تركيباتهما.

و على أتى حال فإن أتي ماهية تنسجم - بمقتضى طبيعتها - مع بعض الأوصاف، و فيها استعداد قبول بعض الكمالات لاغير؛ إلا أن حدوث ماهية جديدة لا يستلزم دائماً فناء الكمالات القبلية فإنّ الكثير من الموجودات تتقبل حالات فعلية متعددة كلّ منها يأتي في طول الآخر (بعده) مع الاحتفاظ بالكمالات والفعليّات السابقة و ذلك كما نجد ان النباتات تَحْوي نفس الذرّات والمواد المعدنية بالاضافة للفعليّة النباتية الّتي تأتي طول توفّر تلک الذرّات والمواد وهكذا الأمر في الحيوان والإنسان. و في مثل هذه الموجودات من الممكن أن تكون الكمالات السابقة مساعدة الى حدّماً في حدوث الكمالات التالية الأسمى منها ولكنها لا تقتضى بالضرورة أن يكون ازديادها دائماً موجباً للكمال الفعليّة الأخيرة أوأنّها على الأقل لا تزاحمها بل إننا نجد في كثير من الموارد أنّ الوصول الى بعض الكمالات الّتي

ص: 18

هي مقتضى الفعليّة الأخيرة يتوقف على تحديد الكمالات السابقة فإنّ كثرة الأوراق... والأغصان تزاحم عمليّة الإثمار الجيّدة للأشجار المثمرة و إن سمنة الحصان الأصيل الشديدة تمنعه من الوصول الى كماله اللائق به و هو سرعة الركض والوثب.

و على هذا فالكمال الحقيقيّ لأيّ موجود عبارة عن الصفة أو الأوصاف الّتي تقتضيها فعليته الأخيرة أما الأمور الأخرى، فبمقدار تأثير هافي الوصول الى الكمال الحقيقي، تكون من مقدّمات الكمال.

سلسلة الكمالات:

عندما نقارن شجرةٌ مع قطعة حجر أو كثيب من تراب فإنا سنجد أن الشجرة تملك بالفعل قوىًّ خاصّة لا توجد في الحجر والتراب و رغم التشابه بين ذرّاتها و جزئيّاتها فإن الآثار الّتي تنتجها الشجرة لا تولد من الحجر والتراب.

و نستطيع ان نعرض هذه الحقيقة بالنحو التالي:

إنّ في الشجرة كمالاً بالفعل هو الصورة النباتيّة و هي منبع ظهور الأفعال و الآثار الخاصة بالنباتات. كما أن النباتات تملك كمالات - بالقوة - لا تملكها الجمادات استعداد الوصول اليها، فإنّ قلم شجيرة مثمرة مستعد أن يُنتج سلال الفواكه الحلوة الأمر الّذي لا يوجد استعداده في الحجرو الخشب.

ومن البديهيّ فإنّ النبات عندما يمتلك هذه الفعليّة والقوة

ص: 19

المذكورة فإنه ليس فقط لا يفقد الصفات الجسمانية والقوى الطبيعية بل إنه بالاستعانة بها يؤدّي أعماله و يطوى مسير تكامله فيمكن ان نستنتج من ذلك ان الموجود النباتي يستخدم قواه الطبيعية للوصول الى كمالاته. و من الطبيعي أنه يحتاج الى هذه القوي ولكن الى الحد الّذي يستفيد فيه من هذه القوى لصالح كماله.

وكذلك الحيوان فإنه واجد للقُوى النباتيّة بالإضافة الى الحسّ والحركة الإراديّة اللَّذين هما من لوازم الصورة الحيوانية و بنفس النحونجده يستخدم القوى النباتية لتكامله الحيواني، و يحتاج اليها بالمقدار الّذي تؤثر فيه في وصوله الى كماله الحيواني والإنسان ايضاً بدوره واجد للقوى الطبيعيّة والحيوانيّة بالإضافة للقوى الناتجة من صورته الإنسانيّة. فهو يستخدم كلّ القوى السابقة لصالح تكامله الإنساني بالمقدار الّذي تؤثّر في تحقيق هدفه، ولكن وكما رأينا كثرة الأوراق والأغصان مانعة من تكامل شجرة التفاح فإنه لا يمكن جعل الاستفادة اللامحدودة من القوى النباتيّة والحيوانيّة مفيدة لتحقيق الهدف التكامل الإنساني.

بعض النتائج

نستنتج من هذا البحث بعض النتائج:

الف - يمكن تقسيم الموجودات الماديّة حسب الكمالات الوجوديّة الى درجات و من بين الموجودات الّتي نألفها نجد الجمادات في الدرجة السفلى ثم النباتات ثم الحيوانات في الوسط ويقع الإنسان فى الدرجة العليا.

ص: 20

و من البديهي في مثل هذا التدرّج ان الملحوظ هو نوع الكمال وقيمته لاحجمه و مقداره و لذا فلا مجال للاعتراض علينا بأنه لوكان الإنسان أكمل الحيوانات فلماذا لا يمكنه ان يأكل بقدر أكل البقرة و يركض كالغزال و يفترس كالأسد تماماً كما لايقال في سمو النباتات على الجمادات بأنه لوكانت الشجرة أسمى من الحجر والتراب فلما ذا لايمتلك الشجرة وزن الجبال الهملايا و لماذا لا توجد في أعماقها معادن الذهب والنفط؟.

ب - إن أتي موجود مادّي في درجةٍ أعلى من الوجود يمتلك القوى الأذون من درجته ليستخدمها في سبيل تكامله.

ج - إن الاستفادة من القوى الأدون يجب ان تكون بالقدر المفيد للوصول الى الكمالات الأعلى والأفإنّها تعود سبباً للركود و توقف السير التكاملي وقد تؤدي الى التراجع والهبوط أحياناً.

د - بملاحظة البحث السابق نستنتج ان الكمال الحقيقيّ لأي موجود عبارة عن ما تقتضيه آخر فعلية له وإن كان نفس هذا الكمال ذا مراتب و درجات مختلفة فإن اعداد التفاح لشجر التفاح كمال ولكنه ذومراتب اما سائر الكمالات الّتي تختلف عن هذا الكمال اختلافا ماهويا وهي بالطبع في درجات ادون منه فهي لا تعد من كمالات هذا الموجود بل هي مقدمات و وسائل لكماله.

و عليه فيمكننا ان نقسم الكمال الى قسمين اصيل و آلي، اوحقيقي، ونسبي كما يمكننا ان نقول بوجود مراتب الكمالات الاصلية.

ص: 21

ه_ - ولكي نعين مقياساً للاستفادة من القوى الأدون تلزم ملاحظة الكمال الحقيقى الأصيل وبعبارة أخرى فإنه لا يمكن اعتبار الصفات الوجودية الأدون مقدمات الكمال او كمالات نسبية إلا إذا كانت مقدمات للوصول الى الكمال العالي الحقيقي و من هنا يتأكد لزوم معرفة الكمال الحقيقي للإنسان.

الحركة الاستكمالية وعواملها وشرائطها :

إنّ التكامل والحركة الاستكمالية لموجود ما عبارة عن التغييرات التدريجية الّتي تحصل فيه والتي تنتج أن يصل استعداده للوصول الى صفة وجودية (هى الكمال) الى المرحلة الفعليّة. و هي هذه التغييرات تحصل بواسطة القوى المودعة في خلقة الموجود القابل للكمال مع الاستفادة من الشرائط و الإمكانات الخارجية.

فبذرة الحنطة عندما تستقر تحت التراب ويتوفرلها الماء والهواء والحرارة والنور و الشرائط الأخرى، تنفلق ثم تبرز ساقاً أوراقاً وسنابل مما ينتج حصول مايقارب 700 بذرة أخرى، و هذه التغييرات الّتي تحدث منذ البدء في بذرة الحنطة الى حصول البذرات ال_ 700 تسمى اصطلاحا ب_(الحركات الاستكماليّة) و كما تسمى القوى الّتي كانت كامنةً في البذرة والتي استطاعت بواسطتها جذب المواد اللازمة ونفي المواد المضرة وتحول العناصر المجتذبة عبر تفاعلات خاصة الى بذرات مشابهة لها تسمى ب_(عوامل للتكامل)، في حين يسمى الماء والهواء واللوازم الخارجية

ص: 22

الأخرى ب_(شرائط التكامل).

و من البديهي فإن معرفة ميزان التكامل وبعبارة أخرى سعة الدائرة الوجودية وحوزة كمالات موجود ما وكذلك عوامل وشروط التكامل يمكن ان يتم عادة عبر التجربة، وإن لم يكن من الممكن نفى وجود سبيل آخر لمثل هذه المعرفة.

و هنا تثور بعض الأسئلة في البين:

هل أن كلّ الموجودات تقبل التغيير والتطور أو أنه يمكن ان توجد بعض الموجودات الّتي نعرفها أو تلك الّتي يحتمل وجودها و نحن لانعرفها وهي لا تقبل التطور والتحوّل بشكل مطلق فلا يحدث فيها ذلك أبداً ؟ و هل أنّ أي تغيير كان سواء في الذّات او في العوارض والصفات أو في النسب والإضافات هو تغيير حقيقيّ و واقعي أو أنه لا يمكن اعتبار التغيير فى النسب والإضافات تغييراً حقيقيّا ؟

و هل أنّ أي تغيير حقيقي يوجب الوصول الى صفة كمالية او يمكن ان تنتج حركة ما فقدان بعض الصفات الوجودية؟ كلّ هذه الأسئلة تطرح في محلها ولكن لما كان بحثنا لا يتوقف على الإجابة عليها فإنا نتركها الى مجال آخر.

الحركة العلميّة وغير العلميّة:

في مثال بذرة الحنطة نجد أنّ التغييرات الموجبة لتحوّل

ص: 23

البذرة إلى بذرات مشابهة ليست مرهونة بالإدراك والتشخيص العلميّ و كذلك التغييرات الّتي تحدث في البيضة الى أن تنتهي الحصول الفرخ مع فرق بين هذه الحركة والحركة الاستكمالية للفرخ حتى أصبح دجاجة كاملة فإن هذه الحركة الأخيرة تتبع الإدراكات الّتي لوفقدها الفرخ لم يستطع أن يصل إلى كماله اللائق به. فلولم يكن الفرخ يحسّ بالجوع والعطش والبرد والحرو يميز بين الحبة والحجر والخشب والماء والنار فإنه ليس فقط لا يمكنه ان يتطور وينمو بل إنه لا يستطيع أن يديم حياته، و من هنا نستنتج أن الحركات الاستكمالية يمكن تقسيمها الى نوعين كليين: إدراكية وطبيعيّة، أو علميّة وغير علميّة.

الإدراك الغريزيّ وغير الغريزيّ:

إنّ الإدراك الّذي هو شرط للحركة الاستكمالية قد يكون أحياناً فطريّاً طبيعياً و إن كان نفس الموجود لايدرك وجوده بكل وضوح و ذلك من مثل الإدراكات الغريزية الحيوانية، وقد يحصل تدريجياً وبالتعلّم فيكون مورد الاطلاع الكامل كما في العلوم الاكتسابيّة لدى الإنسان.

وهنا تنطرح بعض الأسئلة الّتي تجب الإجابة عليه في مجال آخر من قبيل أنه هل تفقد النباتات كلّ أنماط الإدراك أو يمكن أن يوجد في بعضها نوع منها؟ وهل أنّ كلّ الإدراكات الحيوانيّة غريزيّة أو البعض منها يمتلك نصيباً من الإدراكات الكسبيّة؟ وعلى فرض وجود الإدراك الاكتسابي في الحيوان فهل يوجد بينه وبين الإدراكات الإنسانيّة تفاوت ذاتي أم لا؟.

ص: 24

الحركة الاختياريّة وغير الاختياريّة

قد تحصل الحركة التكاملية بشكل طبيعي لاإراديّ عند اجتماع الشرائط اللازمة لدى الموجود الّذي يمتلك قوةً كافيةً لتكامل خاصّ. وقد يتوقف حصولها على إعمال الارادة والاختيار و هذا ما نلاحظه بوضوح في نشاطاتنا الاختيارية ونميز بينها وبين الأفعال الطبيعية واللاإراديّة الأخرى بكل وضوح ايضا.

و من البديهي أن مدى التكامل والتقدّم في الحركات الاختياريّة مرتبط بإرادة الموجود المتحرك و اختياره و بعبارة أخرى فإنّ عدم الوصول الى الكمال المطلوب ليس معلولاً فقط لنقص الطاقات الذّاتيّة أو عدم مساعدة الشرائط و الإمكانات الخارجيّة بل قديستند الى إرادة الشخص نفسه، ولأن الانتخاب لا يحصل بلا علم و وعي فإن حسن الانتخاب مرتبط بالعلم والتشخيص الصحيح و كلما كانت دائرة المعلومات أوسع و إمكانات كسب العلوم اليقينية أكبر فإنّ إمكانات الاستفادة الصحيحة منها للتكاملات الاختيارية سوف تكون اكثر وأوفر كما انه كلما كان ميدان التحرك أوسع والشرائط الخارجية أكثر تنوعا فإن الأعمال الاختيارية يمكن تأديتها بحرية أكبر.

و من هنا يحصل لنا دليل واضح على لزوم معرفة الهدف و معرفة السير الصحيح نحوه لأنه - و كما أشرنا - يتوقف الاختيار على العلم والوعي والتكامل الإنسانيّ أوعلى الأقلّ قسط من هذا التكامل هو اختياريّ بلاريب.

ص: 25

و طبيعيّ أننا سنتحدث في مايأتي إن شاء اللّه تعالى عن حدوث الإراده والعوامل الّتي تؤثّر في هذا الحدوث.

و هنا يثور سؤال عن وجود موجودات أخرى غير الإنسان لها اختيار الحركة ؟ وعلى فرض وجودها فهل يوجد فيها ماهو أكمل من الإنسان؟

ولكن من الواضح أن الإجابة بالسلب أو الايجاب على مثل هذه الأسئلة ليس له أي تأثير في سير البحث.

معرفة الكمال قبل الحصول عليه

من البديهيّ أن معرفة الكمال الحقيقيّ للإنسان بمعنى الإدراك الوجدانيّ والعلم الشهوديّ به انما يتهيأ لأولئك الّذين وصلوا الى درجته.

ولكن لما كان الوصول الى الكمالات الاختياريّة يتوقف على العلم والوعي فإنّه من اللازم معرفة مثل هذه الكلمات بشكل ما معرفة مسبقة لكي تقع موقع الشوق والإرادة فتحصل بالاختيار والانتخاب.

ولو كان سبيل معرفتها منحصراً بالحصول عليها لم يكن الحصول عليها ممكناً فالمعرفة الّتي نحتاجها مسبقا ليست من قبيل المعرفة الشهودية الوجدانية بل هي معرفة ذهنية أوعلم حصولي - كما في الاصطلاح - يحصل عن طريق البرهان والاستنتاج من المقدمات العقليّة أو الاستنباط من الأصول النقلية المسلّم بها والواقع ان هذا البحث يحتاج اليه المحقّقون الباحثون الّذين

ص: 26

يسعون لمعرفة الكمال ومعرفة طريق للوصول اليه أما الّذي نال الكمال الحقيقي فإنه لايجد حاجة لمثل هذه البحوث.

و على هذا فإن توقع معرفة حقيقة الكمال الإنسانيّ قبل الوصول اليه - بحيث نعرفه كما نعرف مدركاتنا الوجدانيّة - توقّع لا محلّ له ولاسبيل الاسبيل الاستدلال للحصول على المعرفة الذهنيّة لا الشهوديّة وتعيين مشخّصاتها بمعونة العقل والنقل.

و من الطبيعيّ فإنّا سنسعى لأن نختار مقدمات الاستدلال من أبسط المعلومات اليقينيّة والوجدانيّة و أوضحها لتكون النتيجة أوضح وأكثر اطمئناناً و تتوسع الفائده وقد نشير الى بعض الأدلة النقليّة او البراهين العقليّة المعقّدة.

هل يمكن معرفة الكمال الحقيقى للإنسان بالتجربة؟

يمكن أن يتصور أحد أنه كما يمكن معرفة كمال شجرة أو حيوان عن طريق التجربة فإن من الممكن حلّ هذه المسئلة في مورد الإنسان بمعونة التجارب العلميّة، أي يمكن دراسة أفراد كثيرة في أزمنة وأمكنة مختلفة وملاحظة الكمالات الّتي يحصلون عليها وحدودها القصوى وبالتالي معرفة شرائط الكمال وسبيل الوصول الى الكمال النهائى.

ولكن أدنى تأمل يوضح أنّ الأمر ليس بهذه السهولة في مورد الإنسان ذلك أوّلاً: لأن النباتات والحيوانات من حيث الكمالات الوجودية هى فى درجة أدون من الإنسان و من هنا فإنّ

ص: 27

كل انسان يمكنه أن يعرف كمالاتها ويدرسها ولكن الأفراد الّذين لم ينالوا الكمال الحقيقي للانسان لا يستطيعون معرفة نسخ هذه الكمالات و مَنْ هُمُ الواجدون لها، و هم في هذه الجهة كالاطفال الراغبين في معرفة الكمالات الخاصة بالافراد البالغين ولا يمكن ان يسهم في ذلك الأنخبة وصلت على الاقل الى المراتب الأوليه للكمال الحقيقي للانسان.

ثانياً : إنّ كمال أي نوع من الأنواع النباتات والحيوان له حد معين يمكن تجربتة و معرفتة بكل سهولة، و لمالم تكن هناك فروق بين افراد نوع واحد منها خلال قرون من حيث نوع الكمال والحدّ النهائيّ له فإنه بملاحظة و دراسة عدد منها يمكن الاطمئنان الى أنّ كماله النوعيّ هو ما أدرك لاغير؛ فكمال شجرة التفاح يكمن في إعطائها ثمرة لها طعم و لول و رائحةٌ خاصة و في حجم معیّن؛ و کمال النَّحْلة في أن تعيش بنظام معين وتهيئ سائلا حلوا معطرا يسمى (العسل).

وطبيعيّ أنّه من الممكن أن تكون للتفّاح والعسل خصائص أخرى و منافع لم يتوصل البشر اليها تماماً ولكن مثل هذه الفوائد أيا كانت هي من صفات التفّاح والعسل الّتي كانت تلك الشجرة أو النحلة تمتاز بها خلال قرون. ولكن عندما نلاحظ الإنسان هذا الموجود العجيب الملىء بالأسرار نجد أنه رغم صغره النسبي في الحجم و شبهه في كثير من الأمور الماديّة مع سائر الحيوانات رغم ذلك يمتلك خصائص تميز عن غيره تماماً.

ص: 28

إنه الإنسان الّذي ينكشف لنا يوماً بعد يوم جانب من أسرار وجوده و تعرض لنا صفحة جديدة من فنونه الرائعة، إنه الانسان الّذي لم يتوقف من بدء خليقته الى الآن عن التحرك والتغير، ليعرض كلّ يوم هذه المظاهر المختلفة من العلوم والصنائع على مسرح العالم الواسع.

على أنّ هذا التقدم العجيب إنما هو من الثمار الماديّة لهذه الشجرة المحيّرة أما معرفة الثّمار المعنويّة فليست ميسرة بمثل هذه السهولة وقد تكون العجائب الرّوحيّة والمعنويّة أعظم من العجائب الماديّة.

و نحن نجد سالكي سبيل العالم المعنويّ يبدون بعض الأمور الّتي لا يفهمها الآخرون و يقومون بأعمال لا يمكن أن نفسرها بقوانيننا الماديّة كما لا يمكن إنكارها مطلقاً.

ومع كلّ هذا فهل يمكننا أن نقول إن معرفة الحدود الوجودية للإنسان - بنفس الأسلوب الّذي تعرف به كمالات النباتات والحيوانات - شيىء عملي؟

وثالثاً : فإنّ ما يقبل التجربة مباشرة هو الأشياء الّتي تقبل الإدراك الحسيّ، أما الكمالات الرّوحيّة و الفضاء المعنويّة فلا يمكن تجربتها بشكل مباشر و معرفة موازينها، ولو قلنا إنّ آثار الكثير منها مما يقبل التجربة الى حدّ ما فإن معرفة منابعها النفسيّة الّتي انطلقت منها هذه الآثار وتقييم كمالها مما لا يقبل التجربة.

بملاحظة ما سبق فلا عجب إذ رأينا الفلاسفة والعلماء

ص: 29

يختلفون حول تشخيص الكمال الحقيقي للإنسان.

آراء الفلاسفة حول كمال الإنسان:

و بملاحظة الاختلافات الموجودة بين الفلاسفة والمفكّرين في النظرة الكونيّة فإنّ من الطبيعي أن توجد مواقف و أنظار مختلفة حول الإنسان. ولكن دراسة كلّ تلك المواقف والآراء وعلاقاتها بالمذاهب المختلفة ليست بذات فائدة مهمّة و لهذا فإنا سنكتفى بذكر بعض الآراء الأساسية فيها:

1 - إنّ الكمال الإنساني يكمن في أكبر تمتع من اللذائذ الماديّة، و للوصول إلى ذلك تجب الإستفادة من العلم والتکنیک لاستثمار المنابع والثروات الطبيعية لتحقيق حياة أكثر رفاهاً ولذةً وهذا الرأي مبنى على أصالة المادة واللذة و أصالة الفرد.

2- إنّ الكمال الإنساني هو فى حصوله الاجتماعي على المواهب الطبيعية و للوصول اليه يجب السعي في تحقيق رفاه كلّ الطبقات الاجتماعيّة. وفرق هذا عن سابقه يكمن في انّه يبتني على أصالة المجتمع.

3- إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيه المعنوي والروحي والّذي يحصل بالارتياض والنضال ضدّ اللذائذ الماديّة. و هو الرأي يقف في قبال الرأيين السابقين تماماً.

4- إنّ الكمال الإنسانى في رقيه العقلي الّذي يحصل عن طريق العلم والفلسفة.

ص: 30

5- إن الكمال الإنساني يمكن في رقيه العقلي والاخلاقي والّذي يحصل عن طريق تحصيل العلوم و كسب الملكات الفاضلة.

والرأيان الأخيران كالرأي الثالث يتنافيان مع أصالة المادة فى حين يفترق الثالث بأنّه ينظر للبدن كعدوّ و تجب مكافحته و بالانتصار عليه يحصل الكمال الإنسانى أما فى الرأيين الأخيرين فإنه ينظر للبدن كوسيلة يستفاد منها للوصول الى الكمال.

والفرق بين الرأي الرابع والخامس واضح وان كان الرأي الخامس قد يطرح كتفسير للرابع.

و من الواضح أنّ هذه الآراء و الآراء الأخرى الّتي لم نذكرها كلّها مبتنية على أصول فلسفية خاصة ينبغى ان تدرس بشكل مسبق و متابعتها يحتاج الى بحوث فلسفية عميقة لا تنسجم مع هذا البحث لأننا أشرنا في المقدمة الى أن أسلوبنا هو الاستفادة من المقدمات الواضحة الوجدانية وترك الاستدلالات المعقدة الّتي تحتاج الى مقدّمات كثيرة، لتكون الفائدة أكبر أي ليستفيد منه الأفراد الّذين لا يملكون اطلاعا على المسائل الفلسفية والاستدلالات النقليّة، ولكى لانواجه تعصبات من قبل المخالفين.

و من هنا فَلِكَى نعرف الكمال الحقيقى للإنسان نسعى لئلا نعتمد في أدلتنا على الأسس الفلسفية المعيّنة الّتي يقبلها بعض المذاهب دون غيرها أو الآراء الكلاميّة المعيّنة التى يؤمن بها

ص: 31

البعص دون غيرهم.

بل نشرع بالبحث من أوضح المعلومات و أبسطها حول الإنسان. وبديهىّ أنّ مثل هذا الشروع لا يعنى أن لانعارض ايّة نظريّة فلسفيّ -ة خلاف سيرتنا الاستنتاجية - وان تكون نتيجة البحث مقبولة من قبل كلّ المذاهب والآراء.

فإنّ مثل هذا الإنتصار ليس إلا فى حكم انتظار توافق النقيضين و هو محال بالضرورة.

ص: 32

الميول الفطريّة واتجاهاتها

إنّ للانسان غرائز وأحاسيس وعواطف وميولاً ودوافع و كيفيات نفسانيّة و نشاطات و انفعالات نفسيّة كثيرة و هي بالتالي تقع بنحوما - مورداً لبحوث الفلاسفة و علماء النفس والمحللين النفسانيين مما أنتج عديداً من النظريات والآراء حول معرفة حقيقتها وتصنيفها وتشخيص الأصيل من غير الأصيل منها، و كيفية حصولها و نموها، و العلاقه بينها و بين أعضاء البدن و خصوصاً شبكة الأعصاب والمخ والغدد المختلفة... إلاّ أنّ أسلوب بحثنا في هذه السلسلة لا ينسجم مع عرض تلكم الآراء ونقدها.

و لذا فنحن هنا - و بدون أية محاولة لتأييدأى مذهب فلسفي أو نفسي أو تحليلي أورده - نحاول التركيز والتأمل في بعض أهمّ الميول الفطريه أصالة - في نظرنا - والسعي لدراسة المظاهر المختلفة لها وسيرها التكاملي و أنماط النشاطات الّتي

ص: 33

يقوم بها الإنسان لإشباعها في الظروف والمراحل المختلفه من حياته، لأننا بذلك - قد نستطيع اكتشاف سبيل لمعرفة الكمال الحقيقي والهدف النهائي للإنسان؛ ذلك أن الميول الفطريّة هي من أشد القوى الإنسانيّة - الّتي اودعتها يد الخلقة في أعماق الإنسان أصالة و عمقا - لكي ينطلق - بدافع منها - في تحركه و نهضته وسعيه مستعينا بالقوى الطبيعية و الاكتسابية والامكانات الخارجيه وطاويا طريق كماله و سعادته.

و عليه فإن الوجهة أو الاتجاهات الّتي تعينها هذه الميول يمكنها أن تهدينا - كالمؤشر المغناطيسي تماماً - الى الهدف و المسير النهائي المطلوب.

و لهذا فإنه ينبغي أن نركز على هذه الميول - بكل دقّة و صبر و تحمل - فنتأملها تماماً متجنبين أي حكم مسبق و رأي مرتجل سريع لكي نصل بالتالي الى نتيجة صحيحة قطعية من خلال تأملاتنا الدقيقة فنحصل بالتالي على مفتاح السعادة المنشودة.

الإدراك و مراتبه:

للإنسان ميل فطرى للمعرفة والإطلاع و الإحاطة بحقائق الوجود و يبدو هذا الميل منذ أوان الصبا ولا يفارق الإنسان حتى نهاية حياته.

إنّ تساؤلات الأطفال المتتابعة تدلّ على وجود هذا الميل الفطرىّ و كلما ارتفعت استعدادات الطفل و قدراته اتسعت

ص: 34

تساؤلاته و تعمقت و كلما اضيفت الى حصيلته الذهنية معلومات اكثر طرحت أمامه مجهولات أكثر ومسائل أخرى.

فالاتجاه العام للقوى الإدراكيّة الّتي تشكل وسائل لإشباع هذا الميل الفطرىّ يسير نحو الإحاطة العلمية الكاملة بعالم الوجود بحيث لا يخرج أي موجود عن الدائرة الواسعة الّتي يسعى لها هذا الميل: فلندرس اذن السير العلمي للإنسان من نقطة شروعه ونتابعه خطوة خطوة لنجد الى أين ينتهي به المطاف.

تبدأ معرفة الإنسان عن العالم من حواسّه الظاهريّة و ارتباط أجهزة البدن بالأشياء الّتي تقع قباله ويقوم كلّ من هذه الأجهزة الحسّيّة من خلال التفاعل الخاصّ مع الأشياء بإيصال بعض الآثار من قبيل النور والصوت والحرارة والرائحة والطعم الى الأعصاب ومن ثَم الى المخّ وبهذا يدرك الكيفيّات و الحالات المتعلّقة بظواهر الأشياء الماديّة المتواجدة في مجال معين أمامه.

إلا أن الإدراك الحسي ناقص وغير كاف لإشباع الميل الفطرى الغريزيّ للاطلاع ومعرفة الحقيقة لدى الإنسان. لأنّه أوّلاً يتعلق بكيفيّات معيّنه من ظواهر الأشياء المحسوسة و أعراضها دون ان يستطيع شمول كلّ الكيفيّات فضلا عن شمول ذوات الأشياء و جواهرها أو شمول الأشياء اللامحسوسة. وثانياً فإنّ مجال عمل هذا الإدراك الحسي محدود بظروف خاصة فالعين لا تستطيع ان تبصر إلا الأنوار الّتي تتراوح أطوال أمواجها بين ما لايقلّ عن 4٪ ميكرون ولايزيد على %8 ميكرون فلا يمكننا لذلك أن نبصر النور

ص: 35

فوق البنفسجى او مادون الأحمر وكذلك فإنّ الأذن يمكنها أن تسمع الأصوات الّتي تتراوح ذبذباتها بين 30 الى 16000 ذبذبة في الثانية لاغير و كذلك سائر الإدراكات الحسّية فإن لها شرائط معينة. وثالثاً فإنّ بقاءها قصير جداً من الناحية الزمانية فالعين والأذن مثلاً يمكنهما ان يحتفظا بأثر النور والصوت خلال عشر ثانية واحدة لا أكثر وبمجرد انقطاع ارتباط الجهاز الحسّي مع الخارج ينسدّ باب المعرفة و الإدراك.

هذا و أن للأخطاء الحسّية حديثها الّذي يكشف عن عدم كفاية الإدراكات الحسية بشكل أوضح.

إلّا أنّ سبيل المعرفة و الإدراك لا ينحصر بالأجهزة الحسّيّة فإنه توجد في الإنسان مثلاً قوة أخرى تستطيع بعد انقطاع ارتباط البدن بالعالم المادى ان تحتفظ بالآثار الّتي استلمتها منه بأسلوب خاصّ و تعكسها في مواقع الحاجة على صفحة الذهن المدرك كما أنّ للذهن قوة أخرى تدرك المفاهيم الكليّة وتهيئ الذهن لحصول التصديقات والقضايا وتيسير التفكير و الاستنتاجات الذهنيّة، الأعم من التجريبيّة وغير التجريبيّة.

ويستطيع الإنسان بوسيلة هذه القوى الداخلية ان يوسع من دائرة ادراکاته ويستنتج بعض النتائج من تجريبياته وإدراكاته الفطريّة والبديهيّة، وأنّ تقدم الفلسفة والعلوم والصناعات رهين هذه القوى الباطنيّة العقليّة مع ملاحظه التفاوت بين الفلسفة والعلوم الأخرى فإنه في العلوم ينصب البحث عن خواص الموجودات و آثارها للاستفادة منها في تحسين المعيشة

ص: 36

في حين ينصب الهدف الاصلي في الفلسفة على معرفة ماهيّات الأشياء والروابط العلية والمعلوليّة لها.

و واضح ان المعرفة الكاملة لموجود مالا تتم بدون معرفة عللّه الوجوديّة او كما عبر الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه برهان الشفاء و شرحه شرحاً وافياً حيث قال «ذوات الأسباب لا تعرف الابأسبابها».

ولأنّ هذه المسيرة في إطار البحث عن العلل تنتهي الى ذات البارئ (تعالى) فإنه يمكننا ان نستنتج ان السير العقلي للإنسان ينتهي الى معرفة اللّه تعالى.

وقد تصور الكثير من الفلاسفة ان التكامل العلمي للإنسان ينتهي الى هذا الحد و من هنا تصوّروا ان الكمال الإنساني او بتعبير أدقّ، الكمال العلميّ للإنسان ينحصر في المعرفة الذهنيّة الكامله لعالم الوجود ؛ إلا أن التأمل الأعمق في متطلبات الفطرة يوضح أن غريزة طلب الحقيقة في الإنسان لا تقنع تماماً بهذا الحد من الإدراك بل تتطلب المعرفة العينية و الإدراك الحضوري و الشهوديّ لحقائق الوجود و مثل هذا الإدراك لا يحصل بواسطة المفاهيم الذهنية و البحوث الفلسفيّة.

إنّ التصورات والمفاهيم الذهنيّة مهما اتسعت و توضحت لا تستطيع ان ترينا الحقائق العينية ويبقي الفرق بينها و بين نفس الحقائق الخارجيّة كالفرق بين مفهوم الجوع و الحقيقة الوجدانيّة له.

ص: 37

ان المفهوم الذى نملكه عن الجوع هو تلك الحالة الّتي نحسّ بها عند احتياج البدن للغذاء، أما اذا لم يحسّ الإنسان بمثل هذه الحالة فإنه لا يستطيع الإحساس بها عن طريق هذا المفهوم كذلك الفلسفة فإنها تستطيع ان تعطينا مفاهيم حقائق الوجود من اللّه الى المادة الا ان معرفة الحقائق العينية وشهودها يختلف كثيراً عن هذه المفاهيم و أن الامر الّذي يروي لهفة الغريزة لطلب الحقيقة بشكل كامل هو العلم الحضوري والإدراك الشهوديّ للحقائق العينية اللازم لإدراك مقوماتها وارتباطاتها الوجوديّة، و متى ما شوهدت كلّ الموجودات الامكانيّة بشكل تعلقات و ارتباطات باللّه القيوم المتعال فإن كلّ المعلومات العينيّة في الحقيقة ترجع الى العلم بحقيقة مستقلة أصيلة ويكون الكل ظلالاً او مظاهرلها.

القدرة ومظاهرها :

ومن الميول الفطريّة للانسان الميل للقدرة والتسلط على الموجودات الأخرى، و يبرز هذا الميل ايضا من أوان الطفولة و يسير مع الإنسان حتى نهاية حياته طبعاً نهاية حياته طبعاً مع ملاحظة الفروق الّتي تنتجها اختلاف السنين وفصول الحياة والظروف الخارجيّة في متعلقات القدرة هذه؛ تحريكات الرضيع السليم الرتيبة ليديه و رجليه والتحرك الذى لا يقبل التعب والكلل للطفل كلها علامة على هذه الحاجة الفطريّة ثم تتسع دائرة ما يتطلبه من سيطرة و تمتد الى مالا نهاية له.

ص: 38

و يتم العمل والاستفادة من الطاقة وبسط القدرة في بادئ الأمر بوسيلة الأعصاب الحركية وعضلات البدن والاستناد الى القوى الطبيعية لاغير و نفس هذه الحركات المتتابعة للطفل بمقتضى الغريزة تساعده على تقوية نفسه، وشيئاً فشيئاً تقوى عضلاته وتستعد للقيام بأعمال أكبر وأثقل الى أن يصل إلى أوج قدرته البدنيّة وشبابه ثم تبدأ مرحلة الركود و التوقف في هذا المجال ثم مرحلة الضعف والشيخوخة حيث تبدأ قواه البدنيّة بالتحلّل إلا أن الميل الشديد للتسلّط في أعماق الإنسان لا يخبو مطلقا.

والإنسان في سبيله للاقتدار و التسلّط لا يكتفي بالقوى الطبيعيّة بل يسعى بمعونة العلوم والصناعات لاختراع وسائل أفضل للتسلط وتسخير الكائنات لصالحه و واضح جدّاً الدور الّذي لعبته الاكتشافات والاختراعات العلمية خصوصاً في العصور الأخيره و ماستلعبه في مجال إشباع هذه الميول الفطريّة.

بل إن الانسان لم يمتنع حتى عن استخدام طاقات ابناء نوعه الإنساني في سبيل تحقيق تسلطه اذ عمل بمقتضى قدراته و إمكاناته على استخدام الآخرين و استثمار هم بشتّى السبل و الوسائل.

على أن هذا السعي المحموم للحصول على المواقع والمقامات الاجتماعيّة والاعتباريّة على صعيد الشعب الواحد وعمل شعب ما على استعمار الآخرين و استعبادهم و جعلهم

ص: 39

تحت نفوذه انما يعبّر عن تطبيق لهذا الميل اذأن تطبيقه قد يتخذ شكلا صحيحاً و معقولاً وقد يتخذ شكل التجاوز على حقوق الآخرين بأشكاله المختلفه كالاستعمار والاستثمار الظالم.

ثم إن هذا السعي المتزايد لتحقيق القدرة الأكبر لا يتوقف عند هذا الحد بل يحاول شمول القوى اللامحسوسة والميتافيز يقية... الأمر الذى توضحه هذه الفروع العديدة للعلوم الغريبة و تسخير الجنّ والأرواح و انواع الرياضات النفسيّة، مما يكشف عن السعي العجيب لتوسعة القدرة وبسط نفوذها على مختلف الحقول.

ولكن وعلى فرض حصول القدره لتسخير كلّ القوى المحسوسة و غير المحسوسة، هل يصل الإنسان الى حدّ كماله و تشبع في أعماقه حاجته وجوعته الى القدرة بشكل كامل؟

و اذا كانت هذه القوى - مهما كانت متنوعةً و عظيمةً - محكومة لقوى أعلى وسلطة أوسع فهل يمكننا أن نتصور أنّ الميل الانساني اللانهائي قد أشبع تماماً؟

ان من الواضح ان هذا العطش الفطرى لن يروى تماما الا اذا اتصل الإنسان بمنبع قدرة لانهائية والآفإنّ سعي الانسان الطموح سيبقي مستمراً بلانهاية.

الحبّ والعبادة.

يوجد في الإنسان ميل فطرى آخر ليس هومن سنخ المعرفة و القدرة بل هو ميل للتجاذب و الاتصال الوجودي والإدراكي. ولما لم يكن هذا الميل معروفا لدى علماء النفس والمحللين

ص: 40

النفسانيين، فإنهم لم يبحثوا حوله بالمقدار الكافي ولذا فان توضيحه ليس بالأمر السهل.

إن أيّاً منا يجد فى نفسه ميلاً وتعلقاً بشئ ما يجذبه اليه كما يجذب المغناطيس الأشياء الصلبة اليه ؛ ولهذا الجذب مراتب و آثار مختلفة، وقد يصل اختلاف المراتب الى حد يوجب التشكيك في وجود جامع بين هذه المراتب وهل أنها من ماهية واحدة ام لا ؟

و إنّ أوضح تجلّ للمحبة الفطريّة يكمن في الأم حيث تغرق في عالم اللذّة عندما ترى طفلها وتتلقفه بالاحضان وتلاعبه و تراقبه. ان حبّ الأمّ هو من أروع تجليات المحبّة الفطريّة الّتي الهمت مظاهرها - على مدى التاريخ - الكُتّاب والشعراء فأنتجوا فى ذلك أروع النتاج، و هكذا محبّة الأب لولده.

و على غرار هذا الحب توجد روابط الحب ايضا بين الإبن تجاه أبويه و بين الإخوة والأخوات وسائر افراد العائلة الّتي تترابط فيما بينها بوشائج طبيعيّة. و كمظهر آخر للحب والميل الفطرى ما نجده بين أبناء النوع الواحد كالترابط الانساني العام الذى يشد الناس بعضهم الى الآخر حيث تشتد هذه الرابطة كلما اضيف اليه عناصر أخرى كرابطة المدينة الواحدة، أو الجوار، أو وحدة السن، أو الزّواج، أو اتحاد المعتقد والمسلک و غیر ذلک.

و كما أن هناك تجلياً آخر لهذه المحبة يبدو في ميل الانسان لبعض الأشياء التى يستفيد منها في حياته الماديّة والتي

ص: 41

لها دخل في تأمين حاجاته فيها وتلك من مثل المال والثروة واللباس والمسكن.

و من تجلياته شوق الانسان وميله بالنسبة للكمال والجمال والأشياء الجميلة و خصوصاً الأناسى ذوى الحظّ من الجمال، فالإنسان يميل للأشياء الّتي تروّى ظمأه للجمال و تألفها روحه و نفسه.

و على هذا النسق نلاحظ الميل الإنساني لأنماط الجمال المعنوى مثل جمال المفاهيم والتشبيهات، والاستعارات والكنايات و جمال الألفاظ والعبارات النثريّة والشعريّة الّتي يعشقها ارباب الذوق المرهف.

و كذلك من مثل الكمال والجمال الروحي و الأخلاقي الذى يهيم فيه علماء النفس وعلماء الاخلاق و يؤكدون على مجالاته، و هكذا الجمال العقلاني مثل روعة التنظيم في هذا الوجود الّذي يسحر ألباب الحكماء والفلاسفة، او الجمال الوجودى الّذي يدرك عبر الشهود العرفاني حيث يصل الأمرالى درجة لا يعنى الوجود فيها سوى الجمال. «الَّذِى أَحْسَنَ كلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ».

و كلما قويت حصة الموجود من الوجود، وتأصل الوجود فيه كانت مشاهدته وجماله أشدّ إعجاباً وأروع تأثيراً.

و بعبارة أخرى، فإنّ أيّي موجود يعبر - مقدار سعته الوجودية وقابليته - عن إشراق للنور الإلهىّ، و كلما تكاملت حصته الوجوديّة أمكنه ان يعرض إشراقاً أشدّ و روعة أعظم.

ص: 42

و بشكل عام يمكننان أن نتصور للحب من حيث الشدّة والضعف - مراتب ثلاث هي:

الأولى : المرتبة الضعيفة الّتي تقتضي القرب الى المحبوب في الظروف العادية دون ان يصحب ذلك أي نوع من انواع التضحية والإيثار.

الثانيه : المرتبه الوسطى التى تتضمن - بالاضافة لإرادة القرب من المحبوب - نوعاً من التضحية في سبيله ولكن الى المستوى الّذي لا يتنافى مع المصالح الكلية الأساسية للشخص.

الثالثة: مرتبة الإعجاب العميق الّتي لا تمنع الانسان من تقديم أي نوع من أنواع التضحية في سبيل المحبوب، فلا لذة له إلا في اتباعه و تحقيق رغباتة في مختلف الحالات بل يعتبر كمال التذاذه في تعلقه و ارتباطه الوجودي و بالتالي في الفناء و نسيان النفس أمامه و لذا فهو يعيش غاية اللذة عند لذا فهو يعيش غاية اللذة عند ما يخضع لمعبوده يقدم له فروض الولاء فتلك هي آية هذه المرتبة من المحبة الّتي تؤدّى بالإنسان لأن يقدّم إرادة المحبوب على أيّ شيئى سواها بلا أيّ تحفظ.

و من الواضح أنّ المحبّة والشوق بالنسبة لشيئ كلما تأججت و اشتدت كانت اللذّة الحاصلة من تحقيق ذلك الشيء والوصول اليه أكبر و أشدّ و من جهة أخرى نجد أنّ كمال اللذة يرتبط بمستوى المطلوبيّة والقيمة الوجوديّة للمحبوب... إذن فلو أن شخصاً امتلك أشدّ أنواع الحبّ بالنسبة لأعظم الموجودات و

ص: 43

أكبرها قيمة، وأدرك هذه القيمة الوجودية بدقّة فإنه بالوصول إلى محبوبه هذا يكون قد حاز أروع اللذّات فاذا افترضنا أن هذا الوصول غير محدود بالظروف المكانيّة والزمانيّة بل كان وصولاً دائماً وفى أتي مكان فإنّ هذه الحاجة الفطريّة سوف تكون قد أشبعت بشكل تام ولم يبق في إشباعها اي قصور.

و على هذا،

فإنّ هذا الميل الفطري اللانهائي يتجه نحوحب متأجج لمحبوب كامل جميل، كمالاً وجمالاً مطلقاً له أشدّ الروابط الوجودية بالانسان بحيث يمكن للانسان ان يرى وجوده هو قائماً به وفانياً فيه و متعلقا تمام التعلق به و بالتالي فهو يحقق الوصول الحقيقي الى محبوبه فلا يستطيع اي شيء أن يفصل بين هذين الحبيبين.

أما محبّة أي موجود آخر لايملك هذه الأمور فإنها لا يمكن ان تشبع هذا الميل الفطرى اشباعا نهائيّا وانما يقترن بها الهجران والهزيمة والفراق و العذاب.

ص: 44

اللذّة و الكمال

بدرک کل انسان - بأدنى تأمل في وجوده و بكل وضوح - أنه بفطرته يبتغي اللذّة والراحة والسعادة و يهرب من الألم والعذاب والشقاء... و هكذا ينصب سعي الأنسان الذى لايكلّ في حياته للحصول على لذائذ أكثر وأقوى وأكثر دواماً والفرار من الآلام و انواع العذاب والأمراض او التقليل منها على الأقل، وعند التزاحم فإن الإنسان يقارن بين الأمرين فيتقبل الألم القليل في سبيل الخلاص من العذاب والألم الشديد، ويضحّي باللذة المحدودة في سبيل الأشدّ والأكثر دواماً.

كما أن مقتضى العقل والفطرة الإنسانيّة أن يتحمل الإنسان عذاباً قليلاً للوصول الى لذة كبرى ودائمة و ان يغض النظر عن لذة قليلة للخلاص من العذاب الكثير... و انك لتجد كل التصرفات العقلائية قائمة على أساس من هذا المعنى... اما

ص: 45

ما يحدث من اختلاف في التصرف بين الافراد في ترجيح بعض اللذات والآلام فهو نابع من اختلافهم في التشخيص او خطئهم في الحساب ومن عوامل أخرى سنتحدث عنها فيما بعد.

فاللذة إذن - من جهة - دافع للنشاط والسعي الحياتي، ومن جهة أخرى هي نتيجه وثمرة لهذا النشاط، ومن جهة ثالثة يمكن ان نجعلها كمالاً للموجودات ذات الشعور والإدراك باعتبارها صفة وجودية يمتلك الافراد استعداد الحصول عليها.

و ان العمل الذى يؤدى الى حصول لذة والخلاص من ألم مّا يقع موقع الإرادة الإنسانيّة فهو - اى الانسان - يحب كلّ مایلتذ به، و هكذا يأتي تعبير الحب بالنسبة للعمل والصفات المرغوبة. و من هنا تتوضح العلاقة بين اللذة والارادة والحب.

و ينبغي ان نلتفت الى انه قدير كز الانسان على لذة معينة يحتاج الوصول اليها الى مقدمات كثيرة و من هنا فهو يصمم على القيام باعمال يمكن ان يكون كلّ منها بدوره مقدمة للآخر ولكن الواقع هو ان الإرادات المتعلقه بهذه الأعمال أشعة من تلك الإرادة الأصلية الّتي تعلقت بالعمل الأصلي الّذي ركز عليه الانسان من أول الأمر.

و هكذا فالحب الاصيل يتعلق بموجود يسعى اليه و يرغب اليه بالأصالة. وفي ظل ذلك تحصل له رغبات جزئية و فرعية الى مقدماته و متعلقاته حيث يحقق الوصول الى أي منها لذة فرعيّة و نسبيّة بمقدار ارتباطه بذلك المطلوب الاصيل.

وقد رأينا في ماسبق ان الكمال الحقيقي

ص: 46

للانسان هو آخر المراتب الوجوديّة و أعلى الكمالات الّتي يمتلك القدرة على الوصول اليها. اما الكمالات الأخرى فهى تمتلك صفة مقدمية وهي كمالات آلية نسبيّة، وترتبط مقدميّتها بمقدار تأثيراي منها في ايصال الانسان الى كماله الحقيقي و ان كان الكمال الحقيقي نفسه له مراتب مختلفة.

و على هذا فإنّ المطلوب الأصيل للانسان هو الكمال الحقيقي، اما مطلوبية الأشياء الأخرى فهي فرعية تتبع مقدار أثرها في حصول الكمال الحقيقي. و كذلك فإن اللذّة الّتي يطلبها الانسان بالأصالة هي اللذة التى يملكها الكمال الحقيقى فى حين تمتلك سائر المقدمات لذات فرعيّة نسبيّة، ذلك اننا قلنا آنفا أن اللذة الأصيلة هي تلك الّتي تحصل من الوصول للمطلوب الأصيل.

و عليه فمعرفة الكمال الحقيقي تستلزم معرفة اللذيذ الأصيل و كذلك العكس حيث تتطلب معرفة اللذيذ الأصيل معرفة الكمال الحقيقيّ. ولأن اللذيذ الأصيل يملك أسمى لذّة ممكنة للانسان فإن معرفة اللذيذ الأصيل تلازم معرفة الشئى الّذي يمكنه ان يقدم للإنسان أكثر اللذات وأسماها و أكثرها دواماً و من هنا فلوعرفنا أكثر الموجودات منحا للذّة عرفنا اللذيذ بالأصالة والكمال الحقيقي للإنسان.

فينبغي إذن التأمّل في حقيقة اللذة و سبب اختلاف مراتبها لكي نعرف أسمى اللذات الإنسانيّة وأشدّها دواماً.

ما هي اللذة؟ و ماهي أسمى اللذات الإنسانيّة؟

إن ما نراه في وجودنا و نعبر عنه باللذّة هو حالة إدراكية

ص: 47

تحصل لدينا عند حصولنا على شي نهواه و نرغب فيه وذلك حين نعلم انه هو المطلوب كما نعلم ونلتفت إلى حصوله إذن فإنا اذا لم نكن نعلم بان ما حصلنا عليه هو المطلوب فإن هذا الحصول سوف لن يترك لذة في وجودنا و كذلك اذا لم نكن نعلم بحصوله لدينا فانا سوف لن نلتذّ بشي.

و عليه فحصول اللذة يتوقف - بالإضافه لوجود الشئ المطلوب والشخص الملتذّ - على امتلاك قوة إدراكية خاصّة يمكن ان يدرک به حصول الشئى المطلوب و كذلك يتوقف على معرفة المطلوب والالتفات لحصوله أما المراتب المختلفة للذة فهي ترتبط إمّا بالقوة المدركة او بنوع المطلوبيّة او بالتفات الإنسان اليها.

فمن الممكن ان يكون التذاذ شخص من أكلة معيّنة أكثر منه لدى شخص آخر وذلك لأنّ الحاسّة الذائقة لديه أقوى و أكثر سلامة. كما يمكن ان يلتذّ إنسان بطعام أكثر من غيره لأنه كان مرغو بالديه أكثر. وقد يكون التذاذ شخص ما بطعام معين حال إلتفاته الكامل أكثر منه حال فقدان هذا الالتفات وتوجهه للأشياء الأخرى. وقد يختلف التذاذ تلميذين بمعرفة معينة مختلفة نتيجة اختلاف تصور هما عن هذه المعرفة المعيّنة وضرورتها و مدى تأثيرها في كمال الانسان وصلاحه.

كما أن من الواضح أن دوام اللذّة مرتبط بدوام ظروف تحققها فاذا فنيت ذات الشئ المطلوب، او تغير حالة المطلوبية أوتغيّر تصور الشخص أو اختلفت حالة التوجه اليها فإن اللذة

ص: 48

المفروضة سوف تتغير بلاريب.

وهذا التعدد الذى نلاحظه بين الذّات الملتذة والشي

اللذيذ و شرائط حصول اللذة نجده في عموم اللذات المتعارفة إلا أننا قد لانجد هذا التعدد في حقيقة اللذّة في موارد أخرى بحيث نستعين بنوع من التحليل المفهومي حتى يمكننا استعمال كلمة (اللذّة) فيها. و هذا ما نجده في موردى (العلم، والحب).

فمثلا يلزم لكي يحصل العلم ان تكون هناك ذات عالمة و شئي معلوم وصفة للعالم تدعى (العلم) الا أن المعنى التحليلي لذلك هو الّذي يمكن أن يصدق في مورد (العلم الحضورى) للنفس بوجودها أو علم اللّه تعالى بذاته رغم أنه لا يوجد أيّ تعدد في البين بين العلم والعالم والمعلوم.

وكذلك المفهوم المتعارف للحب فانه يستلزم فرض ذات محبة و شي محبوب وحالة حبّ إلا انه في مورد حب الذّات وشئ لا يوجد مثل هذا التعدد الخارجي.

و على هذا، فيمكننا أن نجد مصاديق للذّة لا تحتاج الى التعدد المذكور فمثلا يمكننا أن نقول فى المجال الإلهى أن الذّات المقدسة ملتذّة من ذاتها بذاتها و إن رجح بعض العلماء ان نعبر في هذا المورد بالبهجة بدلاً من اللذّة. و كذلك الأمر في المجال الإنسانى فإنه يمكن القول بأن الإنسان يلتذّ بوجوده بل أن ذاته هي أحب الأشياء اليه فإن اللذة الّتي تحصل لديه من مشاهدة ذاته مع الالتفات المطلوبيتها هي أكبر من أي لذة أخرى بل إن كلّ اللذات الأخرى هي ظلال من اللذة الّتي تحصل لديه بوجوده لأنها

ص: 49

تحصل على اساس الوصول الى شأن من شؤونه و كمال من كمالاته.

أما ما نراه من عدم الالتذاذ في الحالات المتعارفة فهو على أساس عدم الالتفات؛ و متى ما توجه الى ذاته بشكل كامل و انصرف عن الأشياء الأخرى على أثر العوامل الخارجية كالأخطار الكبرى أو على اثر الرياضة النفسيّة و تمركز الإدراك فإنه ستحصل لديه لذّة غير عادية بلاريب. فلوأنّه صدر حكم بإعدام شخص و بشكل قاطع لا يقبل النقض ثم التفت الى انتفاء الحكم فإنه ستحصل لديه لذة لا تقبل المقارنة الى أيّة لذّة أخري.

و من الطبيعي أنّ اللذة في هذا المثال و إن كانت ترتبط بعودة الحياة الدنيوية بعد اليأس منها ولكنها من زاوية توضيحها لشوق الإنسان إلى الحياة و الإلتذاذ بوجوده مفيدة لبحثنا هنا.

والحاصل،

أن اللذّة التى تحصل لدى الإنسان إما أن تكون نابعة من وجوده أو من كماله أو من الموجودات الّتي يحتاج اليها و يرتبط بها بنحو من أنحاء الإرتباط الوجودى، فإذا استطاع أن ينظر إلى وجوده على أساس أنه وجود تعلقي يرتبط بموجود تنتهي اليه كلّ الارتباطات والتعلّقات بحيث يكون الارتباط به مغنياً للإنسان عن أيّ شي فإنه حينئذ سيحصل على أسمى اللذات. وإذا نظر الى وجوده على أنه نفس التعلق به ولم يرله أي استقلالية عنه فسوف تحصل لديه اللذّة الاستقلاليّة من ذلك الموجود و على هذا فإن المطلوب الحقيقيّ للإنسان و الّذي يلتذ منه أسمى اللذّات هو

ص: 50

موجود يقوم به وجود الانسان حيث يكون وجود الانسان عين الربط والتعلق به، وان اللذة الاصيلة تحصل له من مشاهدة ارتباطه به أو مشاهدة نفسه حال كونها متعلقة وقائمة به أوهي في الحقيقة تحصل من مشاهدة اشعاع من جماله وجلاله تعالى.

ذروة الميول و غاية الآمال

والنتيجة الّتي تحصل من خلال التأمّلات الماضية هي أن مدى الميول الفطريّة الإنسانيّة يمتدّ الى اللانهاية فلا يعرف أيّ منها حداً ولا يقتضي أيّة محدوديّة أو توقّف في مرتبة معيّنه بل إنها جميعا تسوق الإنسان نحو اللانهاية و هذا من خواصّ الإنسان الّذي يملك ميولاً و رغبات غير محدودة ولا يقتنع بسعادة موقتة محدودة. والواقع أن هذه الخاصيّة اللانهائيّة في الميول الإنسانيّة امر يقبله حتى الفلاسفة غير الإلهيين بل تعتبر من أهم المميّزات الاساسية للإنسان عن الحيوان.

يقول راسل :

«إن أهمّ أنماط التفاوت الرئيسية بين الإنسان والحيوان هي ان الميول البشرية - خلافا للرغبات الحيوانيّة - غير محدودة ولا يتيسّر إرضاؤها بشكل كامل (1)

و رغم أن هذه الميول تتعلق بأمور مختلفه إلا أنها في النهاية ترتبط وتلتحم فيما بينها ويتلخّص الإشباع النهائي في شئ واحد هو عبارة عن الارتباط بالمنبع المطلق للعلم والقدرة و

ص: 51


1- القدرة ص 19.

الجمال والكمال. و هذه هي خاصيّة مراتب الوجود فإنّه مهما اشتدّ و قوی و تکامل اتجه نحو الوحدة والبساطة و ذلك كالقوى الإنسانيّة المتفرقة في مقام تعلقها بالبدن والمتحدة في حاقّ النفس اذتكون النفس في حال وحدتها وبساطتها واجدة لكمالات كلّ القوى الإنسانيّة.

و من هنا يعبّر الفلاسفة عن ذلك بقولهم.

«والنفس في وحدتها كلّ القوى»

و هكذا،

فإن ما يطلبه أى من الميول الفطريّة - والّذي يمتد مداه من جهة باتجاه اللانهاية حيث يتحدهناك مع سائر المطلوبات - هو في الحقيقة شيء واحد ينظر إليه من زوايا نظر مختلفة و يبحث عنه من جهات شتّى و هو عبارة عن الارتباط بالموجود المطلق اللانهائى الكامل اى القرب من اللّه تعالى.

و في مثل هذا المقام يجد الانسان ارتباطه الكامل بالخالق و يجد نفسه متعلقا و مرتبطا به بل يجدها عين التعلق والربط به ولايجد أى نوع من الاستقلال و الإستغناء و في هذه المرتبة بالذّات يجد كلّ الأشياء قائمة بالذّات الإلهيّة المقدسة، و يحصل له علم حضوریّ بحقائق الوجود و ينعم وفق استعداده الوجودى من أنوار الجمال والجلال الإلهي و يشبع ميله الفطري بمعرفة حقائق الوجود.

و كذلك فإنه في هذه المرتبة الّتي ينفذ من خلالها الى منبع القدرة اللانهائية وتبعا لارتباطه به يمكنه القيام بأى عمل يقع في دائرة إرادته فيمكنه حينئذ إشباع ميله الفطرى للقدرة.

ص: 52

و كذلك يستطيع في هذه المرتبة أن يحصل على أسمى درجات الحب لأسمى المحبوبين وينال نهاية القرب والوصول والارتباط الحقيقي به. و بتعبير آخر فإنه يشاهد قربه و ارتباطه بأروع وضوح و هو بالتالي ينال أفضل اللذات و أدومها.

«فِي مَقْعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِر» (القمر: 55).

وطبقا لهذا فإن الميول الفطريّة الإنسانيّة و الّتي تنبع من الخاصية الإنسانيّة و هي مقتضي الفعليّة الأخيرة والصورة النوعيّة له، هذه الميول كلها تسوقه نحو اللانهاية ولايتم إشباعها الكامل إلا بالوصول الى مقام القرب الإلهي والارتباط بالعالم الأبدى.

فالكمال الحقيقي للإنسان هو نفس مقام القرب للباري جل وعلا اما سائر الكمالات البدنيّة والروحيّة فكلها مقدّمات و وسائل للوصول لمثل هذا المقام حيث يستفاد منها بمقدار تأثيرها فى الوصول الى الكمال الحقيقى - طبقاً للمقياس الّذي تحدثنا عنه آنفا - و ليس أيّ منها حتى أسماها و ألطفها يعد من الكمالات الإنسانيّة الاصيلة و ان كانت من ما يميز الانسان فلا نجدها عند الحيوان.

و بعبارة أخرى،

فإن الانسان إنما يصبح - حقيقة وبالفعل - انساناً اذا استطاع أن يعبر المرتبة الحيوانية ليخطو في سبيل القرب الإلهى أما قبل أن يخطو في هذا الطريق فهو إما انسان بالقوة ان كانت استعدادات الوصول الى هذا المقام فيه محفوظة أو هو ساقط بشكل كامل و معدود من الحيوانات أوأضل منها ان كانت هذه الاستعدادات قد انتفت من وجوده بسوء اختياره.

ص: 53

و من هنا نجد القرآن الكريم يعد الكافرين الّذين فقدوا قابلية الإيمان والعبودية شرّ الدّوابّ و أضلّ من الأنعام.

«إِنَّ شرَّ الدَّواتِ عِنْدَ اللّه الّذينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُون» (1)

و يقول في آية أخرى:

«إِنَّ شَرَّ الدَّواتِ عِنْدَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الّذينَ لا يَعْقِلُونَ» (2)

و يقول في سورة الأعراف

«أُولئِكَ كَالاَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (3)

هل يمكن اشباع الميول الفطريّة بشكل كامل؟»

و هنا يمكن ان تثور شبهة في الذهن حاصلها : أنّه وإن كانت الميول الفطريّة تتّجه نحو اللانهايّة ولكن أنى لنا ان نعرف أن الإشباع الكامل لها امر ممكن الحصول؟ خصوصا مع الالتفات الى ان الانسان نفسه موجود ضعيف له قدرات طبيعيّة واكتسابيّة محدودة و هي مهما قدر له من توسع لابد ان تتناهى من حيث الزمان و تفنى بالتالي عند الموت.

وحلّ هذه الشبهة - بالبيان الّذي يناسب هذا البحث - هو أن دليل امكان مثل هذا الإشباع هو الفطرة نفسها. ذلك ان الميول الفطريّة هي من الواقعيّات العينيّة و هي جزء من قوانين الوجود و نواميسه فهي من قبيل الجاذبيّات الّتي تقوم بنفسها دليلا على وجود القوة الجاذبة، لا من قبيل الصور الذهنية الّتي تحصل بواسطة الحواس أو القوى الذهنيّة وتكون نسبتها الى الحقائق

ص: 54


1- سورة الانفال الآية 55.
2- سورة الانفال الآية 22.
3- الآية 179.

العينيّة نسبة الكاشف الى المنكشف ليأتي فيها احتمال المخالفة للواقع.

أمّا مسألة محدوديّة القوى الإنسانيّة وانتهائها بالموت فهي مبتنيّة على أصالة المادة و انحصار الحياة بالحياة الدنيويّة و كلاهذين المبدئين يخالفان الفطرة و إن الميل الفطري الأنسانى للكمالات فوق الطبيعيّة و للحياة الخالدة هو بنفسه مما يبطلهما و يشكل دليلا كافيا لإثبات ماوراء الطبيعة و إثبات الحياة الأخرويّة.

و طبيعى أن دليل هذا الموضوع لا ينحصر بالفطرة اذ يمكن إقامة براهين عقليّة ونقليّة متعددة عليه وها نحن نكتفي بإحداها مشيرين اليه فيمايلي:

إن التأمل في نظام الخلقة يوضح حقيقة هامة هي أن المخلوقات من أصغر ذرّة فيها إلى أكبر مجرة تتبع نظاما بديعا محيرا للعقول و أن بقاء العالم وحصول الظواهر اللامحدودة رهين بهذا النظام المتقن المقدر الدقيق ومهما سمت العلوم فإنها تستطيع ان تحدد بشكل أكبر مدى العظمة في هذا النظام والدقة في أسراره و حكمه، و أن الاختراعات المحيرة للانسان انما نمت فى ظل كشف هذه الأسرار والروابط بين الموجودات.

وعلى هذا فلا يمكننا ان ننسب حصول اي ظاهرة في العالم الى الصدفة العمياء و نتصوره أمراً لغواً لا فائدة فيه لان حصولها معلول لهذا النظام وهي بدورها جزء منه و قطعة من جهاز الخلقة العظيم، و مؤثرة في حركته نحو هدفه و غايته المنشودة. والواقع ان مجرد وجود عنصر لاغ لافائدة فيه يؤدى الى الفوضى

ص: 55

والفساد.

وعلى هذا،

فإن وجود الميول الفطريّة في الإنسان أيضا ليس أمراً لغواً و باطلاً بل هو على العكس عامل مهم لرقيه وتكامله ووصوله الى السعادة ولو كانت سعادة الانسان و كماله منحصرة بالسعادة الماديّة المحدودة فإن وجود الميول اللا محدودة سوف يصبح امراً لغواً بلا فائدة.

و من هنا فإن ايجاد هذه الميول في أعماق الانسان - عند مالا يكون إشباعها ممكنا - يشبه هداية الانسان الى طريق معين وإشعاره بأنّه طريق طويل بعيد بحيث انه يستجمع كلّ قواه لطيّ هذا الطريق و يتحرك نحو هذا الهدف الموهوم ولكنه اثناء حركته السريعة يصطدم فجأة بصخرة تعلمه ان الطريق مغلق لا منفذ له.

وطبيعي ان مثل هذا الخداع لا يناسب شأن الخالق الحكيم و انما هو من عمل الحمقى الّذين يلتذون - نتيجة عقدهم النفسيّة - بخداع الناس وعذابهم و هزيمتهم، فإذا بدى لهؤلاء المخدوعين السراب راح أولئك الحمقى يضحكون بمل أفواههم من ذلك.

يقول القرآن الكريم:

«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللّه السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُما إِلا بِالْحَقِّ» (1)

«وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذا

ص: 56


1- سورة الروم الآية 8.

باطِلاً سُبْحانَك» (1).

«وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبينَ» (2)

«أَفَحَسِبْتُمْ اَنَّما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَاَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرجَعُونَ» (3)

ص: 57


1- سورة آل عمران الآية 191.
2- سورة الانبياء الآية 16.
3- سورة المؤمنون الآية 115.

ص: 58

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

كانت النتيجة الّتي خلصنا اليها من تأملاتنا السابقة هي أنّ الإشباع الكامل للاحتياجات الفطريّة الإنسانيّة لايتم إلا في ظلّ الإرتباط الكامل الواعي بمبدأ الوجود. ويمكننا ان نثبت إمكان مثل هذا الارتباط بالبرهان الفلسفي العقلي وملخصه :

ان جميع الموجودات لها ارتباط لا ينفصم بخالقها، و ان حقيقة وجودها هي الربط و التعلق به. الربط و التعلق به. ولما كان الانسان قادراً على العلم الحضوري بحقيقته و ما حقيقته إلا عين الربط بالخالق فهو قادرٌ على تحقيق ارتباط واع کامل به. و بعبارة أخرى نقول: هو قادر على المعرفة والمشاهدة الواضحة للارتباط الوجودي الكامل بالخالق.

اما العلم الحضوري بالنفس فهو امرٌ اتفق عليه كلّ الفلاسفة الإلهيين فمتى انصرف التوجّه الإنساني عن الإدراكات

ص: 59

الحسّية والخواطر النفسيّة وتركز على الذّات فان الانسان سيدركها ادراكاً حضورياً.

و يوجد هذا العلم في سائر الحالات ايضاً وان لم يكن هناك إلتفات تفصيلي له على اثر الانشغال بالمدركات الأخرى. و من هنا فيمكن تقويته وإيصاله الى مرتبة من الوضوح والوعي عبر تقليل الميول والتعلّقات الماديّة والتعوّد على النظر الى النفس وتركيز الانتباه نحو الذّات.

وأمّا الارتباط الوجودي وتعلق الموجودات بالخالق فيمكن اثباته من خلال مبادي الحكمة المتعالية الّتي بينها المرحوم صدرالمتألهين حيث اثبت ان للموجود مراتب طويلة وأن المراتب الدانية حسب ترتيبها هي شعاع من المرتبة العالية و معلولة له و قائمة به، و أن العلّيّة الحقيقيّة لا تعني سوى الربط الوجودي لابين شييئن يوجد كلّ منهما بشكل مستقل اذ والحال هذه لا يحتاج اتي منهما في وجوده الى الآخر، وانما الربط الوجودى بين شئ مستقل و شئ آخر غير مستقل يكون وجوده عين الربط والتعلق بالعلة. وعليه فوجود المعلول بالنسبة للعلة الحقيقيّة الّتي هي المفيضة للوجود عليه ليس الا ارتباط المحض والإضافة الإشراقيّة واذا شاهد احدٌ حقيقته وجدها قائمة بالعلة وشعاعا منها.

وعلى هذا فلوقام أحد بمشاهدة حقيقته فسوف يرى نفسه قائمة و متعلّقة بالخالق بل يراها عين الربط والتعلق به و مثل هذه الرؤية لا تنفك عن رؤية إشعاع من انوار القيّوم المتعالي، لأن ادراك ارتباط الوجود غير المستقل لا يمكن بدون إدراك ذى الارتباط

ص: 60

و الموجود والمستقل القيوم عليه.

«وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق أبصار القوب حجب النور فتصل الى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلقة بعزّ قدسك» (1)

فمشاهدة حقيقة النفس تواكب المشاهدة الاستقلالية لاشعاع من نور الجمال والجلال الإلهي : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» وكلما كانت الدائرة الوجودية للنفس أكثر اتّساعاً، و مرتبتها أكمل ورؤيتها أعمق، والانتباه والتركيز أشدّ، كان ادراك الأنوار الإلهيّة أشد وأوضح.

«وألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً» (2).

و بمقدار وضوح إدراك الانسان لارتباطه و عدم استقلاليته، يكون التفاته وتوجهه الى صاحب الربط والموجود الاصيل والمستقل أشد ورشفه من أنوار عظمته أكثر الى أن يصل الى مرتبة يكون فيها مرآة جليّةً ومظهراً كاملا لذات الخالق جلّت عظمته.

«لافرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك و خلقك، رتقها وفتقها بيدك، بدؤها منك، وعودها اليك» (3)

ومع الحصول على مثل هذا الارتباط فإن حاجة الإنسان

ص: 61


1- المناجاة الشعبانية.
2- المناجاة الشعبانية.
3- دعاء ايام شهر رجب.

المعرفة الحقيقة والتوفّر على القدرة سوف تشبع اشباعا تامّاً وسوف يحصل على أسمى اللذّات عبر وصوله الى مطلوبه الحقيقي واكتشاف ارتباطه الوجودى به، وتحصل أعلى مراتبه عندما تفرغ النفس من تدبير البدن فلاترى لها أتى التفات الّا للباري - تعالى - ولا تشغلها الشواغل في هذا العالم عن رؤيتها والاستغراق في هذه الرؤية.

«واقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك» (1).

ابسط السبل:

وأبسط السبل للاعتقاد بإمكان الارتباط بعالم القدس والساحة الإلهية هو ذلك السبيل الذى هدى اللّه – تعالى - عباده اليه بوسيلة المرسلين فامتنّ بذلك على عبادة غاية المنّة وأتمّ الحجّة عليهم.

«لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (2) فقد دعى الأنبياء جميعاً الناس الى التقرب من الخالق والارتباط بمنبع العلم والقدرة اللانهائيين و وعدوهم بالوصول الى النعم الخالدة واللذّات اللامنتهية والحصول على ماتشتهيه انفسهم.

(لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (3)

(وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذَ الأَعْيُنُ) (4)

ص: 62


1- مناجاة الزاهدين.
2- النساء : 165.
3- الزمر : 34.
4- الزخرف : 71.

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةَ أَعْيُنِ) (1).

(لَهُمْ ما يَشاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنَا مَزيدٌ ) (2).

وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَتَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأْ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) (3).

والميزة الرئيسة لدعوتهم على دعوات سائر المصلحين تؤكد هذه الحقيقة وهي أنّ هذه الحياة المحدودة العابرة ليست آخر مرحلة من مراحل الحياة الإنسانيّة بل هي مقدمة للحصول على السعادة الأبدية وجسر للوصول الى العالم الأبدي «بَلْ تُؤثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هذا لَفِى الصُّحُف الأولى، صُحُف إِبْراهيمَ وَمُوسى» (4).

كما أن السبب الرئيس لرفض دعوة الأنبياء من قبل الكافرين هو استبعاد هذه الحقيقة:

«وَقَالَ الّذينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقَ جَدِيدٍ. أَفْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الّذينَ لايُؤْمِنُونَ بالْآخِرَةِ فى الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» (5).

«زَعَمَ الّذينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتُبْعَتُنَّ ثمّ لَتُنَبَّونَ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ... يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلك يَوْمُ التَّغَابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم. وَالّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئكَ أَصْحَابُ النَّار خَالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (6).

ص: 63


1- السجده: 17.
2- ق: 35.
3- الزمر : 74.
4- الاعلى: 16-19
5- سبأ: 7.
6- التغابن : الآية 7 و 9 و 10.

وَتَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ ِزدْنَاهُمْ سَعِيراً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بأَنَّهُمْ كَفَرُوا بآيَاتِنَا، وَقَالُوا أَإِذا كُنَّا عِظَاماً وَرُفاتاً أَءِنَا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. اَوَلَمْ يَرَوْا اَنَّ اللّه الَّذِى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْاَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لارَيْبَ فِيهِ فَابَى الظَّالِمُونَ إلا كفوراً » (1).

ولم يكتف رسل اللّه بالدعوة والوعد والوعيد وإنما عرضوا آثاراً من الارتباط بالعالم الربوبي والمنبع اللانهائي للعلم و القدرة بإذن اللّه ليعلم الجميع ان السبيل لكسب العلم والقدرة لا ينحصر بالأسباب الماديّة المحدودة وأنّ الاستفادة من العلوم الإلهية والقدرات فوق الطبيعية أمر ممكن للإنسان.

وقد اثبت الأنبياء إمكان الارتباط بالعالم الربّانيّ وتلقي العلوم الغيبيّة واللَّدنيّة عبر أخبارهم بالمغيبات وكشفهم للأسرار الخفية وبيانهم للعلوم والحكم دونما دراسة منهم وتعلّم.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّها) (2)

(وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (3)

(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبيّاً) (4)

(قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنى نَبِيّاً) (5)

(وَأَنَبِئُكُمْ بمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (6)

(عُلّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِنْ كلّ شَى) (7)

ص: 64


1- الاسراء : 99-97.
2- بقره: 31.
3- كهف: 65.
4- مريم: 12.
5- مريم 29 – 30.
6- آل عمران: 49.
7- نمل: 16.

(وَكُلاً آتينا حُكْماً وَعلْماً )(1)

والقرآن نفسه فوق كلّ ذلك إذ هو معجزة خالدة لنبيّ الاسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نزل على فرد أُميّ عاش في مجتمع متخلّف، ودعا الجنّ والإنس - منذ بدء نزوله - متحدّياً إياهم أن يأتوا بسورة من مثله، ونحن نعلم أنه مع كثرة الدواعي لمثل هذا العمل - لم تتحقق أى معارضة للقرآن وسوف لن تتحقق مطلقاً طبقاً لتنَّبؤ القرآن الكريم.

كما أن الأنبياء بقيامهم بالأعمال الخارقة للعادة وانتصارهم على القوى الطبيعيّة أثبتوا عملاً إمكان الخلاص من القيود الماديّة والحصول على قدرة لا تقهر.

فخروج الناقة الحيّة من قلب الجبل بواسطة النبى «صالح» (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخلاص ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) من النار الكبرى الّتي أوقدها نمرود وتحوّل عصا موسى إلى ثعبان وانفلاق البحر، وجريان اثنتي عشرة عيناً من الحجارة بواسطة موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) و شفاء الأكمه والأبرص و إحياء الموتى بواسطة عيسى عليه السلام وتسخير القوى المحسوسه و غير المحسوسة لسليمان عليه السلام هي كلها نماذج من الأعمال الخارقة للعادة الّتي تمت على يد الأنبياء وحتى الكثير من اتباعهم الصادقين بمثل هذه العلوم والقدرات و قد جاء في حديث قدسي:

«عبدي أطعني أطعني حتى أجعلك مثلي؛ أنا أقول للشي كن فيكون أجعلك تقول للشيء كن فيكون

ص: 65


1- انبیاء: 79.

واذا حاولنا أن نجمع الكرامات الثابته بالنقل الصحيح والمتواتر فان ذلك سيتطلب منا مجلدات ضخمة بلاريب.

ومع كلّ هذا فهل من الصحيح أن نجد أناسا ينكرون - بكل جرأة وإغماض عن الحق - وجود عالم ماوراء الطبيعة أو امكان الارتباط به، ويمنعون الناس عن السير في هذا السبيل ؟

والحقيقة انه حتى لوعد منا مثل هذه المعاجز والآيات البينة كان الأحرى بالبشرية - ولو على سبيل التجربة - ان تطبق نظم الأنبياء ثم تقوم الآثار الكبرى لها في سعادتها الماديّة والمعنوية ذلك لأنّ أهميّة الأمر هى بحيث ترخص كلّ تضحية في سبيل تحققه خصوصاً إذا لاحظنا أن إجراء شريعة الأنبياء ليس مما يستلزم ترك النعم واللذائذ الماديّة والدنيويّة بل هي تضمن السعادة والراحة والطمأنينة في هذا العالم أيضا ولقد وجد من بين الأنبياء وأتباعهم أناس تنعموا بالنعم الدنيويّة أكثر مماتنعم به أهل الدنيا وعبيد المادّة.

الا يدفعنا إصرار جميع الأنبياء بصدق وتأكيد على هذا الأمر والتضحيات التى لا نظير لها الّتي قدّموها و أوصياؤهم و أتباعهم الصادقون في سبيل إعلائه ألا يدفعنا لاحتمال صدق مدّعاهم؟ إنّ الإنصاف يؤكّد ذلك بوضوح.

وهل تقلّ قيمة مثل هذه الحقيقة عن قيمة كشف الأسرار الطبيعيّة وتسخير الفضاء ؟؟ وكيف يعد تحمل المصاعب والمشاق وبذل القوى الطبيعيّة والإنسانيّة الّتي لا تعد في سبيل الإكتشافات العلميّة أمراً وجيهاً يقبل الثناء ولا يستحق الإرتباط بالمنبع اللانهائيّ

ص: 66

للقدرة والعلم والوصول الى السعادة الخالدة، أن نصرف في سبيله شيئاً من ذلك ؟

شواهد من الآيات والروايات

وهذا الّذي استفدناه من المقدّمات الوجدانية والعقليّة يؤيّده الكتاب والسنّة وقد أشرنا في بعض الموارد الى الشواهد النقليةّ وها نحن نذكر نماذج أخرى من الآيات والأخبار.

إنّ القرآن الكريم يؤكد على أنّ الإنسان يعرف اللّه بفطرته وأنّ كلّ الناس في نشأة من وجودهم رأوا خالقهم عياناً واعترفوا بربوبيته (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا: بَلَى) وأن الحياة في هذا العالم إنما هى للعمل بمقتضى عهد العبوديّة. ويتم تقويم مقدار وفاء الناس بعهدهم وميثاقهم الفطريّ وبالتالى تكاملهم الاختياري بواسطة الطاعة والعبودية للّه.

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ) (1)

وليتم هذا التقويم فإن هناك ظروفاً مختلفة ليختار كلّ سبيله بكل حرّيّة.

(ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (2)

و من خلال السبل المعوجّة والمنحرفة و في خضم الحياة ومشاكلها سوف لن يصل الى السبيل الأقوم الآمن إلّا أولئك الّذين يحبّون ربّهم ويلجأون اليه و يبتغون مرضاته و يريدون وجهه

(وَالّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للّه) (3)

ص: 67


1- الذاريات 56.
2- البقره 165.
3- هود 7، الملك 2.

(قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبعونى يُحْببْكُمُ اللّه) (1).

(يَهْدِي بِهِ اللّه مَن اتَّبَعَ رضوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ِباذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطِ مُسْتَقِيم) (2).

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) (3).

(فَأَمَّا الّذينَ آمَنُوا باللّه وَاعْتَصَمُوا بِه فَسَيْدْ خِلْهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطَاً مُسْتَقِيماً) (4).

وهؤلاء سينالون - بالتالي - جوار رحمة ربهم ومقام القرب الالهى، لقاء الحبيب.

(یا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَيَّنَةُ ارْجِعى إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِى وَادْخُلِي جَنَّتِي) (5).

(في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكَ مُقْتَدِرِ) (6)

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إلى ربها ناظِرَةٌ) (7)

اما اولئك الّذين تعلقت قلوبهم بزينة الدنيا ورجّحت محبة الآخرين لديهم على محبّة اللّه فلاشوق لهم الى رحمته، فسوف يبتلون بعذاب أليم لانهاية له ؛ و يحرمون من وصل محبوبهم الفطرى.

(إِنَّ الّذينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُوا بها وَالّذينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ. أولئك مأواهُمُ النّارُبمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (8)

ص: 68


1- آل عمران 31.
2- المائدة 16.
3- لقمان 21.
4- الفجر 27 – 30.
5- القمر 55.
6- القيامه 22.
7- النساء 175.
8- يونس 7 و 8.

(قُلْ إنْ كانَ آبَاؤُكُمْ وَابْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَاَزْواجُكُمْ وَعَشيرَتَكُمْ وَاَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَها وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ وَجهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بأَمْره) (1)

(كَلاً إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(2)

وتوجد فى الاحاديث النبوية وأخبار اهل بيت الرسالة - سلام اللّه عليهم اجمعين - ايضاً شواهد كثيرة نجد نماذج منها في بعض الأحاديث القدسية واخبار مناجاتهم وأدعيتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) من مثل:

ما جاء في حديث المعراج مخاطبا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

(فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال: أعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل وذكراً لا يخالطه النسيان، و محبّة لايؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين فإذا أحبني أحببته وحببته الى خلقي وأفتح عين قلبه الى جلالي وعظمتي فلا أخفي عليه علم خاصة خلقي، فأناجيه في ظلم اللیل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم وأسمعه كلامي وكلام ملائكتى وأعرفه سرّى الّذي سترته عن خلقى... ولأستغرقن عقله بمعرفتي و لأقومن له مقام عقله... فتقول الرّوح : إلهي عرّفتني نفسك فأستغنيت بها عن جميع خلقك، وعزتك وجلالك لو كان رضاك في أن أُقطّع إرْباً أوأقتل سبعين قتلة بأشدّما يقتل به الناس لكان رضاك أحبّ اليّ... وأفتح عين قلبه وسمعه حتى يسمع بقلبه مني

ص: 69


1- التوبه 24.
2- المطففين 15.

و ينظر بقلبه الى جلالي وعظمتي...

يا أحمد لوصلّى العبد صلاة أهل السّماء والأرض و يصوم صيام أهل السّماء والأرض، وطوى من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري ثم أرى في قلبه من حب الدنيا ذرّة أو سمعتها أو رياستها أوصيتها أوزينتها. لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي ولأظلمن قلبه حتى ينساني ولا أذيقه حلاوة معرفتي وعليك سلامي ورحمتي).

وفي حديث آخر يقول:

(إن اللّه جل جلاله :قال ما يتقرب اليّ عبد من عبادي بشء أحبّ الىّ مما افترضت عليه. و انه ليتقرب إليّ بالنافلة حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ولسانه الّذي ينطق به، ويده الّتي يبطش بها، إن دعاني أحببته و إن سألني أعطيته) (1).

وفي حديث آخر يقول :

(يا ابن آدم أنا غنّي لا أفتقر أطعني في ما أمرتك أجعلك غنياً لا تفتقر. يا ابن آدم أنا حي لا أموت أطعني في ما أمرتك أجعلك حيا لا تموت. يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني في ما أمرتك أجعلك تقول للشي كن فيكون.

في عُدة الداعي لابن فهد ص 291.

يقول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مناجاة شهر شعبان - متضرعاً الى ربّه -: (واجعل همّتي الى روح نجاح أسمائك ومحل

ص: 70


1- اصول الكافي ج 2 ص 352 و كذلك في الوسائل ومحاسن البرقي.

قدسك... إلهي هب لي كمال الانقطاع اليك وأثر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلّقة بعزّ قدسك... وألحقنى بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً...)

وفي دعاء كميل يقول الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) متضرعاً الى اللّه تعالى :

(فهبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر الى كرامتك).

وقد روى عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله :

(ما رايتُ شيئاً إلا ورأيت اللّه قبله)

وفي جواب من سأله : هل رايت ربّك ؟ قال :

(أفأعبد ما لا أرى).

و يدعو الإمام الحسين سيد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) ربّه في يوم عرفة فيقول :

(إلهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار انّ مرادك مني ان تتعرف إليّ في كلّ شئ حتى لا أجهلك في شئ... الهي ترددي في الاثار يوجب بعد المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلنى اليك. كيف يستدل عليك بما هوفى وجوده مفتقر إليك ؟! الغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك ؟ عميت عين لاتراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبدلم تجعل له من حبّك نصيباً.

ص: 71

إلهي أمرت بالرجوع الى الآثار فارجعني اليك مكسوة الأنوار وهداية الاستبصار حتى أرجع اليك منها كما دخلت اليك منها مصون السرّعن النظر اليها و مرفوع الهمّة عن الاعتماد عليها....

إلهي علّمني من علمك المخزون، وصنّي بسترك المصون الهى حققني بحقائق أهل القرب، واسلك بي مسلك اهل الجذب. إلهي أغنني بتدبيرك عن تدبيرى، وباختيارك عن اختياري... أنت الذى أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك و وحدوك وأزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك ولم يلجأوا الى غيرك. أنت المونس لهم حيث اوحشتهم العوالم، وأنت الّذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدك ؟! وما الّذي فقد من وجدك ؟! لقد خاب من رضي دونك بدلاً ولقد خسر من بغى عنك متحوّلا...

إلهي اطلبني برحمتك حتى أصل اليك واجذبني بمنك حتى أقبل عليك.. تعرفت لكل شئ فما جهلك شئ، وأنت الّذي تعرفت الي في كلّ شئ فرأيتك ظاهراً في كلّ شئ وأنت الظاهر لكل شئى).

و يقول الإمام زين العابدين في مناجاة الخائفين متضرعاً الى ربّه:

(ولا تحجب مشتاقيك عن النّظر الى جميل رؤيتك)

وفى مناجاة (الراغبين)

أسألك بسبحات وجهك وبأنوار قدسك وأبتهل إليك بعواطف رحمتك ولطائف برك أن تحقق ظنّي بما أؤمله من جزيل إكرامك

ص: 72

وجميل إنعامك في القربى منك والزلفى لديك والتمتع بالنظر اليك)

وفي مناجاة المريدين.

إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك وسيرنا في أقرب الطرق للوفود عليك... فأنت لاغيرك مرادى، ولك لالسواك سهري و سهادى ولقاؤك قرّة عيني، و وصلك مُنى نفسي، وإليك شوقي وفي محبتك وَلَهي والى هواك، ورضاك بغيتي ورؤيتك حاجتي وجوارك طلبى، وقربك غاية سؤلي... يا نعيمي وجنتي يا دنياي و آخرتي).

وفي مناجاة المحبين :

(الهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك اصطفيته لقربك... ومنحته بالنظر الى وجهك. وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك و قلاك وبوأته مقعد الصدق في جوارك.. واجتبيته لمشاهدتك... وامنن بالنظر اليك عليّ.

وفي مناجاة المتوسّلين:

(وأقررت أعينهم بالنظر اليك يوم لقائك، و أورثتهم منازل الصدق في جوارك).

وفى مناجاة المفتقرين.

(وغلّتى لا يبردها إلا وصلك ولوعتي لا يطفئها إلا لقاؤك وشوقي اليك لايبله الّا النظر إلى وجهك، وقرارى لايقر دون دنوّي منك... وغمّي لا يزيله إلا قربك ).

وفي مناجاة العارفين.

(وقرت بالنظر الى محبوبهم أعينهم... وما أطيب طعم

ص: 73

حبّك وما أعذب شرب قربك، فأعذنا من طردك وابعادك).

وفي مناجاة الذاكرين:

«إلهي بك هامت القلوب الوالهة، و على معرفتك جمعت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلا بذكراك، ولا تسكن النفوس الا عند رؤياك.. واستغفرك من كلّ لذة بغير ذكرك و من كلّ راحة بغير انسك، و من كلّ سرور بغير قربك، و من كلّ شغل بغير طاعتك».

وفى مناجاة الزاهدين:

(وأغرس في أفئدتنا أشجار محبتك وأتمم لنا أنوار معرفتك وأقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك ).

ص: 74

الاستنتاج من البحوث الماضية

من خلال التأملات الّتي مرت في البحوث الماضية نستنتج مایلی:

ان النشاطات الحياتيّة في مختلف الحقول العلميّة والعمليّة، الفرديّة والاجتماعية إنما تعتبر نشاطات إنسانية اذا كانت في إطار السير بالإنسان إلى كماله الحقيقي.

وبعبارة أخرى إن الحركات و النهضات الّتي يجب أن تتخذ لها اتجاهاً معيناً إنّما تعتبر من نشاطات الإنسان - من حيث كونه انسانا - اذا اتجهت باتجاه الكمال الانساني و انما يمكن إعطاؤها هذا الاتجاه الإنساني اذا امكن معرفة النقطة النهائية للسير التكاملي للبشرية ذلك لأن حركته الكمالية حركة علمية وإرادية فهي بالتالي تحتاج لمعرفة الهدف والسبيل نحوالهدف. ثم إن معرفة الهدف بمعنى وجدانه و ادراکه ادراكاً وجدانياً شهودياً

ص: 75

لايتم قبل الوصول اليه ولذا فلا مناص من كون معرفة الهدف بشكل صورة ذهنية. وكلما كانت هذه المعرفة أوضح وأوعى كان إمكان التكامل الإرادي الاختياري أكثر.

على أن السير التكاملي للإنسان يتم - بلاريب- بمعونة القوى الداخلية والدوافع النفسية الموجودة في أعماقه. وعليه فان اتجاه الميول الفطريّة يعتبر أفضل سبيل لمعرفة الهدف النهائي والكمال الحقيقي للانسان. و من خلال التأمل في الوجهة الّتي يشير اليها أي من هذه الميول نعرف انها جميعا تسوق الانسان نحو اللانهاية، وأنّ اشباعها بشكل موقت و محدود لا يقنع الانسان بشكل كامل ولايتم اشباعها تماما الا بالاتصال بمنبع العلم والقدرة والارتباط بمعدن الجمال والكمال اللانهائي. وعليه فالتعلق بنور العظمة الإلهية لوحده هو المجال الّذي يشاهد الإنسان من خلاله حقيقته هو و كلّ عوالم الوجود قائمةً بالذّات الإلهية المقدّسة.

«وأفتح عين قلبه الى جلالي و عظمتي فلا أخفي عليه علم خاصة خلقي».

وعندئذٍ يشبع ميله لاستطلاع الحقيقة وكذلك يصل الى حقيقة نفوذ القدرة الإلهيّة اللانهائية من خلال إرادته فهو يفعل مايريد بإذن اللّه تعالى.

«أجعلك تقول للشيء كن فيكون».

فيشبع ميله للقدرة التى لا تقهر. وفي هذه المرتبة يصل الى محبوبه ذي الجمال والكمال اللامتناهي و يجد نفسه في

ص: 76

احضان اللطف والعناية اللامحدودة فيروّى بذلك كلّ ظمئه وحاجاته و ما أروع هذا الإشباع بيد المعشوق يصحبه اللطف الغامر والحب العميم.

«فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به».

وعندئذ فلا ينشغل إلا بوصاله ولا يفكر إلا برضاه.

«فأنت لا غيرك مرادي» و «وصلك منى نفسي... و رضاك بغيتي «و رضوان من اللّه أكبر».

فلا يحصل بين بينه و بين محبوبه ولا يبتلى بفراق أو هجران «ثم ارفع الحجب بيني وبينه فأنعمه بكلامى والذذه بالنظر الي» «وأعذته من هجرك و قلاك».

وبالتالي فإنه سيجد نفسه في هذا المقام وهو واجد للكمال النهائي وقائم بمفيض الوجود وحينئذينال أسمى اللذائذ. ولأنه لا يجد لنفسه استقلالاً فإن حب ذاته سيفقد استقلاليته و تتعلق المحبة الأصيلة بالخالق وبدلاً من أن يريد اللّه لذاته فإنه يريد ذاته للّه بل سوف لا يلتفت لذاته وإنما يغيب في عالم من جمال المحبوب.

«ولأستغرقن عقله بمعرفتي ولأ قومن له مقام عقله».

وعليه فإن المطلوب الحقيقي والمحبوب الذّاتي للإنسان هو الخالق جل وعلا، ويكمن الكمال الحقيقي للانسان في التقرب اليه و يجب أن تستثمر سائر الكمالات الماديّة والمعنوية في سبيل الوصول الى هذا الكمال، وتتلاحم كلّ القوى لتحقيق هذا الهدف، وكل خطوة في غير هذا الصراط تبعده عن الهدف، و

ص: 77

كل قوة تصرف في ماعد اسبيل الرضا الإلهي سوف تؤدي الى خسارته و ضياعه.

«وأستغفرك من كلّ لذة بغير ذكرك ومن كلّ راحة بغير أنسك و من كلّ سرور بغير قربك و من كلّ شغل بغير طاعتك.»

الجواب على بعض التساؤلات:

السؤال الأوّل: إن كان المطلوب الحقيقى للإنسان هو مقام القرب الإلهي وأنه عبر وصوله اليه ينال أسمى وأدوم اللذائذ فلماذا لانجد أكثريّة الناس بهذا الصدد رغم أنهم بالفطرة يسعون نحو اللذّة والسعادة

وعند الإجابة على هذا السؤال نقول: إنّ سعي الانسان للوصول الى الكمال والسعادة الحقيقية ونيله للذّتهما منوط بمعرفة اللذة وتصديقه بها. ولأنّ أكثرية الأفراد لا يعرفون الهدف الأصلي للخلقة وكمالهم الحقيقي كما ينبغي ولم يذوقوا لذة الوصول اليه فسوف لن يكونوا بصدد البحث والوصول اليه، ولكنهم يعرفون الكمالات الماديّة والدنيوية ويدركون لذة الوصول اليها ولذا فهم يبذلون كلّ قواهم للوصول اليها هذا وان كان هناك فرق بين الناس في اختيار الحاجات الدنيوية وشؤونها فنجد كلّ شخص يختار - وفقا لميوله - مجموعة معينة منها باعتبارها الأهم والأكثر قيمة أو الأقل مؤونة والأسهل و يبذل جُلّ اهتمامه في سبيل الوصول اليه.

إن معرفة الكمال الحقيقى و ان كانت تمتلك جذوراً فطريةً ولكنها لا تصل عند أكثر الناس - وبشكل طبيعيّ - الى

ص: 78

حد الوعي الكافي وانما تحتاج الى إرشاد وتربية صحيحة. و من هنا كانت أحد أهم أهداف وظائف الأنبياء (عليهم الصلاة والسّلام) توعية هذا الجانب اللاشعوري الفطري والتذكير بالعهد الإلهي المنسي.

«ليستأد وهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسى نعمته». (1)

وهذه المسؤولية العظمى ملقاة في هذا الزمان على عهدة من عرفوا سبيل الأنبياء بشكل أتم ولديهم قدرة تعريفه للاخرين لكى يعيدوا الضالين عن طريق السعادة الى السبيل الاقوم و يعرفوهم بُغيتهم الفطريّة.

السؤال الثاني : إذا كان الهدف الأصلي لخلق الإنسان هو الوصول لمثل هذا المقام فلماذا نجد الغرائز الموجودة في أعماقه تقوده دائماً نحو اللذائذ الماديّة والظواهر الدنيوية الخلّابه وتمنعه من السير نحو هدفه الأصلى؟ هذا نقضاً للغرض وخلافاً للحكمة؟ ألم يكن الأمر أكثر انسجاما مع هذا الهدف لولم يكن في أعماقه سوى الدوافع الّتي تسوقه نحو اللّه والعالم الأبديّ؟ ولكي يتوضح الجواب على هذا السؤال يجب الالتفات الى نكتتين هما:

1- إنّ قيمة الكمال الإنساني تكمن في كونه اختياريّاً وهى الميزة التى تجعل الإنسان مخدوماً من قبل الملائكة ومورداً لسجودهم. ولكي تتحقق أرضيّة الاختيار كان لابد من وجود سبل مختلفه و جواذب متنوعة لكي لا يكون السير في سبيل السعادة

ص: 79


1- نهج البلاغه : الخطبه الاولى.

إجبار ياً مفروضاً.

2 - لأن التكامل الانساني تدريجي وله مراحل طويلة فانه من اللازم أن يدوم مجال الاختيار الى مدة لابأس بها لكي يستطيع الانسان في كلّ مرحلة أن يختار سبيله بكل حرية و يغيّر اتجاهه إذا شاء.

ومع الالتفات لهاتين النقطتین يتوضح سر الحياة الدنيوية والتدريجيّة للانسان، و بديهى أن بقاء الإنسان في عالم الحركة والتغيير والتكامل التدريجي بحاجة الى اسباب، و وسائل و شرائط وامكانات خاصّة. وتشكل الغرائز الطبيعية في الواقع دوافع لتهيئة هذه الأسباب والظروف وهى فى ضمن ذلك تلعب دوراً في تهيئة مجال الاختيار الانساني وفي حالة اختيار السبيل الصحيح يمكنها ان تقدم خدمات جيدة للتقدم الانساني باتجاه الهدف الأصلي والكمال النهائي. وعليه فإن وجودها لا يناقض هدف الخلقة بل إن عدمها يخالف الحكمة الإلهية المطلقة.

السؤال الثالث : على فرض التسليم بأن الكمال النهائي للانسان ممكن التحقق في الجملة عبر القرب الالهي وتجاوز كلّ الرغبات والميول في سبيل نيله والوصول الى مثل هذا المقام، فإنه لاريب في إنحصار مثل هذه المهمة والقدرة فى أفراد نادرة وبالتالي فإن الوصول الى الكمال المطلوب سوف يكون مختصا بهم في حين تحرم الأكثرية العظمى للناس من هذه النعمة.

وفي مثل هذه الحالة هل يمكننا أن نقول إنّ هذه الأفراد النادرة هي وحدها الّتي تستحق لقب الإنسانيّة في حين يكون

ص: 80

الآخرون في الواقع حيوانات لا تمتلك حظّاً من الإنسانيّة الا في الشكل الظاهريّ لاغير؟ وبالتالي يحكم عليهم جمعياً بالشقاء الابديّ.

وفى مجال الجواب على هذا التساؤل نقول :

إن الكمال الحقيقي للإنسان - كما أكدنا على ذلك مراراً - له مراتب مختلفة، وإذا كان الوصول الى أسمى المراتب غير ميسر للجميع فإن الوصول الى أدنى المراتب ميسر للجميع و هو يحصل بالإيمان باللّه و السير على سبيل عبوديته في حين أنّ بذل كلّ القوى في سبيل الرضا الإلهى هو من خصائص المراتب السامية.

و من الطبيعي أنّ الآثار المترتبه على القرب الإلهيّ ليس على مستوى واحد في كلّ المراتب فالعلم الكامل بالحقائق والقدرة على ايجاد أيّ شئ او اللذة الكامله من اللقاء الإلهي لا تحصل لدى أىّ مؤمن في هذا العالم. إلا أن من يحفظ إيمانه الى نهاية حياته من أتي تلاعب ولا تسلبه كثرة الذنوب والعصيان ايمانه، هذا الانسان سوف يصل بالتالي الى السعادة الأبديّة وإن كانت المدة الفاصلة الى ذلك اليوم طويلة المدى، و في هذا الأثناء سوف يمرّ بمراحل صعبة أليمة نتيجة أعماله الانحرافية ولسنانرى حاجة لتوضيح أنّ السعادة الأبدية والجنّة الخالدة ايضاًلها درجات مختلفة وأن كلاً يجازى في ذلك العالم بمقدار معرفته و ایمانه و وزن أعماله وأخلاقه و يمكن أن لا يملك أى شخص في اى درجة سوى ظرفية إدراك لذائذ تلك الدرجة وأن ارادته تتعلق

ص: 81

بالحصول عليها فقط.

وعلى هذا، فليس كلّ من لم يصل الى قمة الكمال الانسانى و نهاية القرب الالهى لا يستحق اسم الانسان وبالتالي فهو محكوم بالشقاء والعذاب الابديّ.

القرب الإلهي

ليس المقصود بالقرب من اللّه تعالى- وهو المطلوب النهائى للانسان والّذي يناله الانسان بحركته الاختياريّة - هو قصر الفواصل الزمانيّة والمكانيّة ذلك لأن اللّه تعالى هو خالق الزمان والمكان والمحيط بكل الأزمنة والأمكنة ولا نسبة زمانيّة أومكانيّة له مع أتي موجود.

«هُوَ الاَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ» (1)

«وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنتُمْ» (2)

«فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه» (3)

هذا بالإضافة الى أنّ قلة الفواصل الزمانيّة والمكانيّة بنفسها لا تعتبر كمالاً فما هو المقصود من هذا القرب إذن؟

من الطبيعيّ أن تكون للّه تعالى إحاطة وجوديةّ بكل العباد والمخلوفات. (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ مُحيط) (4)

وأن يكون الوجود و كلّ الشؤون الوجوديّة للموجودات في قبضة قدرته و متعلقة بارادته ومشيئته بل إنّ الوجود وكل شي هو

ص: 82


1- الحديد : 3.
2- البقرة : 115.
3- الحديد: 4.
4- فصلت : 54.

عين الإرتباط والتعلق به وعلى هذا فهو إلى كلّ شي أقرب من أي شئ آخر.

«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ» (1)

«وَنَحْنُ اَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُون» (2)

وهذا القرب قرب وجودي حقيقى ولكنه ليس كسبيّاً ومن هنا لا يمكن أن يعتبر غايةً وهدفاً للسير التكاملي و يمكن أن يتصور للقرب معنى إكتسابي يقبل الإنطباق على الكمال النهائي للانسان وهو القرب الاعتباري والتشريفي بمعنى ان يكون الإنسان مورداً للعناية الإلهية الخاصة بحيث تجاب له كلّ طلباته.

«إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته».

والعبد الذى يصل إلى هذا المقام يكون قد وصل إلى مطلوبه وهذا الاستعمال شائع لدى العرف أيضا حيث يقال للشخص الذى يقع مورداً لمحبّة شخص عظيم بأنه (مقرب) وقد أطلق القرآن الكريم عنوان المقربين على الّذين هم في طليعة المسيرة التكاملية الإنسانيّة.

«وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ أولئكَ الْمُقَرَّبُونَ» (3)

إلّا أن بحثنا هنا ليس بحثاً لفظياً ولانرمى لمعرفة المعنى المناسب للفظ (القرب) وانما نقصد الدقة الأكثر في الهدف النهائي للانسان لنعرف من خلال ذلك الطريق الكلي والمسير الأصلي للتكامل فيجب أن نركز على الحقيقة الكامنة وراء

ص: 83


1- ق : 16.
2- الواقعة : 85.
3- الواقعة : 11.

التشريف والاعتبار :

إنّ الحقيقة الّتي تعتبر هي الكمال النهائي ونسميها ب_(القرب الالهى) هي مرتبة من الوجود تصل فيها الإمكانات الذّاتية للشخص بسبب سيره وحركته الاختيارية إلى المرحلة الفعليّة سواء كانت حركة سريعة - كسرعة البرق – (مثل حركة بعض الأنبياء والأولياء الّذين يبدأون بالسير التكاملي من اللحظات الأولى لحلول الروح في البدن ويصلون خلال مدة قصيرة الى الكمالات العظمى مثل عيسى بن مريم حيث يقول في المهد:

«إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً» (1).

وقد جاء في روايات الشيعة أن القادة من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) كانوا يسبحون اللّه في بطون أمهاتهم وأنهم يولدون ساجدين وهم «السّابِقُونَ» - او كانت حركة عادية او بطيئة مثل كة سائر المؤمنين في قبال الحركة الهابطة والسير المتراجع للكافرين والمنافقين.

والكمال الّذي يحصل اثر هذا السير الاختياري لا يتبع الموضع الزماني والمكاني والاوضاع الماديّة والجسمانيّة بل يرتبط بالروح والقلب الانسانيين اما الظروف الماديّة فلها دور تهيئة الارضيّة المساعدة للسير والسلوك المتكامل وإلّا فإنّ الحركة الكمّية والكيفية للبدن او الانتقال من مكان الى مكان آخر لا تأثير لها في تكامل الانسان إلا بمقدار المساعدة الّتي تقدمها للسير الروحي والمعنوي فتؤثر بشكل غير مباشر في السير التكاملي

ص: 84


1- مريم 3.

للانسان.

فالتكامل الحقيقي الإنساني عبارة عن السير العلميّ للروح في أعماق ذاتها الى اللّه لتصل الى مقام تجد فيه نفسها عين التعلّق والإرتباط ولا تجد لها ولالأتي موجود استقلالاً في الذّات والصفات والأفعال ولا يمنعها أي عارض عن المشاهدة وتقوم العلوم والمشاهدات فى هذا المسير بتعميق المرتبة الوجودية للإنسان وتجعل جوهر ذاته بالتدريج أكمل فأكمل.

وعلى هذا فبالمقدار الّذي يتصور الإنسان نفسه اقلّ احتياجاً للمدد الإلهي وأكثر استقلالاً في تدبير أموره وتهيئة الأسباب والوسائل الحياتية والقيام بالأعمال البدنيّة والفكريّة وكذلك بالمقدار الذى يرى فيه للاشياء الأخرى تأثيراً استقلالياً أكبر، يكون أشدّ جهلاً ونقصاً وأبعد عن اللّه وفي قبال ذلك فإنه بالمقدار الّذي يحس بحاجته الشديدة للّه، ويرفع حجب الأسباب و يجلى الحجب المظلمة والمنيرة عن عين قلبه سوف يكون أعلم وأكمل وأقرب الى الحدّ الّذي لا يكون فيه موحدا في الأفعال والتأثيرات فحسب بل لايرى للصفات والذّوات أيضا ايّة استقلاليّة فى البين وهو مقام يناله العباد الصالحون والمنتجبون المخلصون والعباد المختارون من قبل اللّه تعالى فلا يبقى حجاب بينهم وبين معبودهم فالقرب الحقيقي الى اللّه هو أن (يعي) الانسان انه يملك باللّه كلّ شئ وانه بدونه لاشي.

سبيل التقرب

إن كلّ موجودات العالم مخلوقة للّه تعالى وهي محتاجة

ص: 85

اليه في شؤونها الوجوديّة ولا استقلالية لها مطلقا.

«ذلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ خَالِقَ كلّ شَى» (1).

«اَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميدُ» (2)

وحقيقة وجودها عين الربط والتعلق ومحض المملوكية والعبودية.

«كُلَّ شَيْ هَالِك الاَّ وَجْهَهُ» (3)

«وعَنتِ الوُجُوهُ لِلحَى القيوم» (4)

«إنْ كلّ مَنْ فِى السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آنِى الرَّحْمَن عَبْداً» (5).

والأفعال الّتي تصدر منها هي آثار للوجود التعلّقى وعلامة للمملوكية والفقر، وعليه فكلّ موجود هو عبداللّه تكويناً.

«وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِى السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ» (6)

«وَللّه يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ» (7)

«وَان مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (8)

وليس الإنسان مستثنى من هذه القاعدة الكلية ولكنه لايعي عادة عبوديته التكوينية وبعبارة أخرى : فإنه خلق فى هذا العالم بحيث يتصور نفسه والأشياء الأخرى مستقلة فى الوجود

«بناهم بنية على الجهل» (9).

ص: 86


1- غافر 62.
2- آل عمران : 83.
3- فاطر: 15.
4- القصص : 88.
5- طه : 111.
6- مریم : 93.
7- للنحل : 49.
8- الاسراء :44.
9- بحار الانوار ج 3، ص 15 ح2.

بمعنى انه لايرى وجوده متعلقاً باللّه ويرى أن كمالاته هي من صنع نفسه ویری نفسه مستقلاً في افعاله، ويرى للموجودات الأخرى هذا الاستقلال في الوجود والآثار الوجوديّة.

وهو يسعى دائماً لتوسعة دائرته الوجودية ونيل كمالات أكثر وقدرة أكبر على الأعمال وتحكيم أسس استقلاله. فلا يوجد بین ادراکاته و ميوله الواعية شئ يتنافى مع (تصور الاستقلال هذا). وطبيعى أنّ له إدراكاً لا شعورياً فطرياً باحتياجه الذّاتي وعدم استقلاله الوجودي ولكن سيطرة الجانب الماديّ والحيواني تمنع من أن يصل إدراكه الفطري الى حد الوعي اللّهم إلا في الظروف الاستثنائيّة.

وعند ما يصل الانسان الى رشده العقلي يستطيع بواسطه نشاطاته الذهنيّة و استدلالاته العقليّة ان فقره الوجودي - إن قليلاً أو كثيراً - و يهتدى بذلك الى وجود خالق الكون. و من خلال تكامله العقلي وقدرته الاستدلاليّة بالتدريج يحصل على وعي أكثر بحاجته الأساسيّة وعدم استقلاله الذّاتي و من ثم يصل في نهاية السير العقلاني الى حقيقة ربطه ويعلم بها علماً حصولياً. ولكن هذا السير الذهني بنفسه لا يؤدي الى نتيجة شهوديّة حضوريّة حيث لا يبقي تسلط الغرائز والاحساسات وجاذبيّة الميول والعواطف - فى الغالب - مجالاً لظهور المعرفة الفطريّة وتجليها. اللّهم الا ان يصمّم الانسان على الوقوف بوجه طغيانها ليعي ذاته الى حد ما و يفتح له سبيلاً إلى أعماق روحه و يبدأ سيرا معنويا الى الحق؛ بمعنى أن يتوجه بقلبه الى اللّه ويصقل معرفته الفطريّة بدوام التوجه القلبي وتقويته و تركيزه وبالتالي بتقريب نفسه

ص: 87

الى اللّه.

في مثل هذه الحالة يبدأ السير التكاملي الانساني باتّجاه المقصد الحقيقي والمقصود الفطريّ. بمعنى انه بالاختيار الحرّ يبدأ بسعي واع ليجد ارتباطه باللّه و يعترف بحاجته وعجزه وذلّته وبالتالي فقره و فقدانه الذّاتي و يُرجع مملوكات اللّه - الّتي كان ينسبها بالباطل اليه والى الآخرين - الى مالكها الحقيقى و يعيد رداء الكبر ياء الإلهي الى صاحبه.

«إنَّهُ كان ظَلُوماً جَهُولاً» (1).

وتستمر هذه المرحلة حتى يكون عبداً خالصاً وعلى هذا فيمكن القول ان الكمال النهائي للإنسان يكمن في صيرورته عبداً خالصاً أو مشاهدة الفقر الذّاتي أوالكامل في نفسه، وأن سبيل الوصول اليه يتمّ بالعبادة وطلب رضا اللّه بمعنى جعل رضا اللّه بدلاً لرضا نفسه.

«إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى» (2)

فالمسير الأصليّ التكامليّ والصراط المستقيم للانسانية والسبيل الصحيح للقرب الإلهى هو قضاء حق العبودية والعبادة وإلغاء تصورات الاستقلال والاعتراف بالعجز الكامل الشامل له.

«وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ» (3).

«وَأنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقيم» (4).

وإنّما يمكن أن يعتبر السّعي سعياً في سبيل القرب الإلهي

ص: 88


1- الاحزاب : 72.
2- الليل : 20.
3- الذاريات : 56.
4- يس : 61.

وفى مسير التكامل الحقيقي وبتعبير آخر سعياً إنسانيّاً إذا كان مصطبغا بصبغة العبوديّة وعبادة الحق المعبود. ولا يمكن اعتبار أتي عمل أونشاط أمراً موجباً للكمال الحقيقي مطلقا إلا عبادة اللّه تعالى.

ص: 89

ص: 90

حقيقة العبادة

للعبادة معانٍ أو تعبيرات مختلفة من حيث السعة والصيق:

1- العبادة عمل يؤدّى بعنوان تقديم العبودية في رحاب الخالق وليس لها أي علاقة - في ذاتها - مع ماعدا اللّه مثل الصلاة والصوم والحجّ.

2 - العبادة عمل يجب أن يؤدّى بقصد القربة وإن كان عنوانه الأوّلي لايدخل في مجال تقديم العبوديّة ويتعلّق بالعباد مثل الخمس والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3- العبادة عمل يؤدّى بقصد القربة وإن كانت صحته غير متوقّفة على هذا القصد مثل كلّ الأعمال الّتي تقع مورداً للرضا الإلهيّ فإذا أدّيت بقصد القربة فإنّها ستكون عبادة بهذا المعنى.

4- العبادة طاعة لمن يراه مستقلاً واجب الطاعة وإن

ص: 91

كانت هذه الطاعة لا تنطلق من قصد العبادة و العبوديّة.

و يمكننا عبر المقارنات اللغوية والاستفادة من القواعد اللفظيّة وأصول المحاورة أن نرجّح بعض هذه المعاني على البعض الآخر أو أن نعتبره مفهوما مشككاً يقبل الانطباق على كلّ هذه الموارد مع الاحتفاظ باختلاف الدرجات، ولكن من الواضح أنّ قصدنا فى هذا البحث ليس حل المسائل اللفظيّة ونحن لانستند في كون العبادة سبيلاً للتقرب الى اللّه الى الأدلة النقليّة وإنّما نقول إنّنا توصّلنا عبر المقدمات الوجدانيّة والعقليّة الى نتائج رأينا أن إسم العبادة والقرب تناسبها وراينا أنّ الفاظ الكتاب والسنّه تقبل الانطباق عليها وعليه فمن المناسب أن يروم البحث طبق ذلك الأسلوب فنعمد عبر الاستناد للأمور الّتي صدقناها بشكل واضح الى توضيح هذا الموضوع:

والمواضيع الّتي تثبت لدينا لحد الآن والتي يمكنها ان تعيننا في حلّ هذه المسألة هي:

1 - إنّ الإنسان موجود يجب أن يصل الى كماله النهائي عبر حركته الاختياريّة، وانّ وصوله الى هدفه الأصيل رهين إختياره الحر الواعي.

2- ان القوى الطبيعية والفطريّة والامكانات الّتي يتمتّع بها هي وسائل يجب أن يستفيد منها للوصول الى كماله النهائي، وليس بينها مالا أثر له على سيره التكامليّ.

3- ان الهدف الأصلي للانسان هو القرب الى اللّه، وانّ حقيقة القرب هو الحصول الشهودي للتعلق والارتباط الوجوديّ له

ص: 92

باللّه.

4 - إن السير والحركة الّتي تتم باتجاه مثل هذا الهدف سير باطني يبدأ من أعماق الروح والقلب الإنساني ولاربط له مباشرةً بالأمور الماديّة وبملاحظة هذه المقدمات نستنتج :

أوّلاً: إن التكامل الإنساني والوصول الى القرب الإلهيّ منوط بالنشاطات الإيجابيّة المتقدمة ولا يمكننا أن نعدّ الجهات السلبيّة خطوات باتجاه الكمال، وعلى هذا فترك عبادة الأصنام وطاعة الطواغيت أو الاعتزال والانزواء وترك المعاشرة لا يمكنها جميعاً - لوحدها و بلحاظ جانبها السلبي - أن تعدّ سبيلاً للتقرّب الإلهي.

ثانياً: إنّ أي نشاط لا يكون داخلاً في إطار المسيرة التكاملية الإنسانيّة إلا إذا كانت له علاقة إيجابية بالهدف والكمال النهائي للإنسان (أي القرب الى اللّه والحصول على التعلّق والإرتباط الوجودي له باللّه).

ثالثا: إن مثل هذه العلاقة لا يمكن البحث عنها بشكل مباشر إلا بين التوجّهات القلبية والحالات الروحيّة والمعنويّة وعلى هذا فإنّ أشد العبادات أصالةً هي تلك الفعالية الّتي يقوم بها القلب بشكلٍ واع حرّ للحصول على المطلوب الفطريّ له.

رابعاً : يجب أن ترتبط سائر النشاطات الإنسانيّة بنحو ما بهذا النشاط القلبي ليتسنى لها أن تكون في إطار المسيرة

ص: 93

التكاملية وإلا فإما يجب تركها تماما (ومثل هذا العمل - على فرض إمكانه - مخالف لحكمة وجود الجوانب الفطريّة و مستلزم لتحديد أرضية التكامل الاختياريّ) أو اعتبارها من اللوازم الاضطراريّة والأجنبيّة عن المسيرة التكاملية الإنسانيّة الأصيلة، وفي مثل هذا الحال يجب جعل قسم مهم من الفعاليات الحياتية خارجة عن المسيرة التكاملية واليأس من إيصالها إلى الهدف وهذا أمر غير صحيح.

و عليه فالسبيل الصحيح الوحيد هو أن تتحوّل كلّ الفعاليات الحياتية المختلفة في ظلّ القصد والنية الى عبادة وتمنح وجهة تكاملية لكي لا يذهب أتي من طاقات الإنسان هدراً من جهة وتتسع دائرة الاختيار والانتخاب الى المستوى الّذي أراده اللّه للإنسان وهيّأ له وسائله من جهة أخرى.

ولقد ظنّ البعض أنه لما كان السير التكاملي للإنسان يبدأ من القلب الى اللّه فإنه يجب ترك كلّ النشاطات الحياتية - إلّا ما كان منها ضرورياً - واختيار مكان خلي يحلو فيه الى ذكره وتوجّهاته القلبيّة دون ان تشغل باله أية رابطة بأيّ أحد. وهؤلاء وإن كانوا قد أصابوا في تشخيص الهدف والمسير الإجمالي إلا أنهم أخطأوا في تشخيص الطريق الصحيح والأسلوب الصحيح الّذي ينتهي بهم الى الكمال الانساني الخاص (و من مميزاته الشمول لمختلف الجوانب) فلم يلاحظوا الأبعاد المختلفه للروح الإنسانيّة.

وهنا يجب الالتفات الى أنّ الميزه الأساسيّة للإنسان

ص: 94

تكمن فى أختياره الحر لمسير سعادته ووصوله إلى كمال يسمو على كمال الملائكة وهو لايتم إلا في مجال الأخذ والرّد والتضادّ الخارجيّ والصراع، وإلا في ظل أنماط الجهاد والسعي الشامل أما قلع جذور بعض الميول الفطريّة أو قطع العلائق الاجتماعيّة فهو في الحقيقة تحديد لدائرة الاختيار وتضييق لميدان الصراع وسد لكثير من سبل الترقي والتكامل.

ومن الطبيعي أن لانغفل عن إختلاف القابليات والاستعداد لدى الأفراد فعلى كلّ فرد اختيار مجاله المناسب لظرفيته و استعداده فلايمكن لأي طائر أن يحلّق كما يحلق النسر وليس لأيّ رياضي أن يصارع بطل العالم.

وعلى أي حال فإن السبيل الصحيح للتكامل هو التنمية التدريجيّة المتوازنة لكلّ أبعاد الوجود.

دور العلم في تحقيق التكامل

عرفنا ان السيرة التكاملية الإنسانيّة انما يسير فيها القلب -بشكل رئيسيّ - حيث يتّجه الى اللّه في طريق العبوديّة، وتبعاً للأفعال القلبية تتخذ سائر الفعاليات صفة العبودية فتؤثر في تكامل الإنسان.

وهذا السير والسلوك القلبي إنّما يبدأ اذا عرف الإنسان هدفه وسبيله الى هذا الهدف، ثم راح يخطو في هذا السبيل بإرادته واختياره فالشرط الأساسيّ هو العلم والمعرفة، والآن فلنلاحظ

ص: 95

محلّ العلم في السير التكاملي ؟ فهل هو كمال أم لا؟ واذا كان كمالاً فهل هو من الكمالات الأصلية أو من الكمالات النسبية أو المقدمية ؟

وتوجد حول تقييم أهمية العلم آراء مختلفة تتراوح بين الإفراط والتفريط فالبعض من قبيل الفلاسفة المشائين يرى أنّ العلم والفلسفة ليسا مؤثرين في الكمال فحسب بل إنّهما الأصل والغاية لكل الكمالات الإنسانيّة وكما قلنا من قبل فانه يرى أنّ الانسان الكامل هو من يملك العلم البرهاني بكل عوالم الوجود وفي قبال ذلك توجد مجموعة أخرى تعتقد أنّ العلم الحصولي لاربط له بالكمال الانساني (إن العلم الرسمي كله قيل وقال) ولم يكتفوا بذلك القدر وإنّما اعتبروه مانعاً من السير التكامليّ بل و أسموه «الحجاب الأكب».

ولسنا الآن في صدد نقد هذه الآراء أوتبر يرها و توجيهها والسعي وراء سبيل للجمع بينها وانما نسعى - وفق أسلوب هذا البحث وتبعا للمطالب الّتي أثبتناها لحد الآن - لنعرف الموقع الّذي يمتلكه العلم في المسيرة التكامليّة.

فبعد معرفة أنّ الكمال النهائى للانسان هو القرب الى اللّه تعالى والارتباط الشهوديّ بالخالق، لامجال للبحث في أنّ آخر مرحلة للسير الإنسانيّ هي من سنخ العلم الحضوري و مثل هذا العلم هو المطلوب الذّاتي والكمال الأصيل بل هو غاية كلّ الكمالات وإنما الكلام في العلم الحصوليّ الذهني، وهنا يجب أن نقول :

ص: 96

طبقاً للتفسير الّذي ذكرناه للكمال يمكن أعتبار العلم كمالاً للانسان لأنّ العلم صفة وجودية يحصل عليها الإنسان و بواسطته ينتفي العدم والنقص، و من هنا فانّ العلم مطلوب للانسان بالفطرة.

إلّا أننا أوضحنا أنّه ليست كلّ صفة وجودية هي كمال للموصوف مطلقاً، و إنما قد تكون الصفات الوجودية أحياناً كمالاً أصيلاً كما قد تكون كمالاً مقدميّاً ونسبيّاً، وانما تكون الكمالات النسبية كمالاً للموجود واقعاً اذا كانت وسيلة للوصول للكمال الأصيل، فإذا أستفيد منها في جهة تنافي الكمال النهائي فهي و إن كانت بالنسبة لمراتبها الأدون كمالاً لكنها مقدمة للنقص والا نحدار النهائيّ.

إنّ العلوم الحصولية إما هي نظريّة أو عمليّة، أما النظرية منها فهي و إن لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالمسيرة إلا ان بعضها مثل العلوم الإلهيّة لها دورها في مساعدة الانسان لمعرفة الهدف و متى ما استعين بها للوصول الى القرب الإلهى فإنّها ستكون كمالاً مقدميًا قيّما.

أما سائر العلوم النظر يه فهي و ان لم تكن مقدمة لمعرفة الهدف او سبيل الوصول اليه إلا أنها تستطيع ان تقدم عوناً جيّدا لتحقيق المعارف اللازمة، و ذلك خصوصاً في مثل العلوم الّتي تكشف عن أسرار الخلقة و حكمها كما أنها تستطيع أن تسد الحاجيّات الحياتية الّتي لها بدورها قيمة مقدميّة كمالية و انّ التوفّر على النعم يمكنه أن يشكّل دافعاً للشكر وعبادة اللّه وبذلك

ص: 97

ترتبط بالسعادة الحقيقية للإنسان، أما علاقة العلوم العمليّة بالسير التّكاملي و مقدّماته فإنّها لا تحتاج للتوضيح فمن الجليّ أنّ التكامل الواعي للانسان منوط بها.

و هناك نقطة يجب التأكيد عليها وهي أن دور العلوم الحصوليّة كلّها في التقدّم الحقيقيّ للإنسان لا يعدو دور تهيئة الأرضيّة وتوسعة الإمكانات، و ليس لها أتي تأثير حتميّ و ضروريّ في السعادة الإنسانيّة و على هذا فالعلم - بمعنى القضايا الذهنيّة - لا يمكن اعتباره كمالاً بالفعل للانسان من زاوية كونه إنساناً، اللّهم إلّا أن يكون وسيلة للقرب إلى اللّه إمّا المعرفة اللّه او لمعرفة الطريق أوللاستفادة من النعم الإلهيّة لتحقيق الشكر أو لتحقيق مقدمات السير له و للاخرين.

و بملاحظة ما قلناه يتوضح موقفنا تجاه المدرسة البرجماتية وتوضيح ذلك أن أنصار هذه المدرسة (و هي بنفسها من مظاهر الأومانيّة) يعتقدون أن العلم والفنّ انّما يمتلكان قيمة خاصة إذا كانا وسيلة للحياة الأفضل و أنّ ماله قيمة بالأصالة هو ما كان مفيداً للحياة.

وفى قبال هؤلا نقول :

ليست الحياة الدنيوية ولا أنماط السعى لتحسين الحياة الفرديّة والاجتماعيّة مما يملك قيمة أصيلة لكي تكون للعلم و والفنّ في ظلّها قيمة معينة، و إنما الشيء الوحيد الّذي يمتلك قيمة بالأصالة هو القرب الإلهيّ، وكلّ شيئ يشكل وسيلة للتقرب إليه يمتلك قيمة بمقدار تأثيره في التقريب إليه تعالى والإنسان

ص: 98

المتكامل لا يضمّه أي عنوان غير العنوان الإلهي، ولا يقبل أيّ اتجاه إلا الاتجاه الإلهى ولايرى الأصالة إلا للّه لاغير.

«ذلِكَ بأنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ وَانّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ» (1).

و على هذا! فلا تحصيل العلم ولا الحصول على الخبرة الفنية، لا العمل الفرديّ ولا السعي الاجتماعيّ ليس أيّ منها ممّا يمتلك قيمة مطلقة، وهى كلّها إذا أديت بعنوان العبودية للّه تحصل على قيمتها في ظل الارتباط به.

و هنا يمكن أن يقال ! إنّ المدرسة البرجمانية لم تكن ممّا يقبل القبول لانها جعلت معيار التقيم «المنفعة للحياة الدنيا» إلاّ أنه يمكن قبول نوع من النزعات البرجمانية بشكل أصالة العمل للحياة الأخروية وعليه فالعمل المفيد للآخرة يمتلك أصالة نسبية و انّ العلم والفنّ لا يتمتعان حتى بهذا المستوى من الأصالة النسبية.

إلا أنه يجب الإلتفات الى أنّ جذور السعادة الحقيقية تنمو في القلب لا في الأعضاء والجوارح و وسائل العمل وان الدور الأساسي للسير نحو اللّه يقوم به القلب، وعليه فالأصالة النسبية للنشاطات القلبيّة، أمّا الأعمال الخارجيّة فهي تكتسب قيمتها في ظلّها لا العكس.

و كما يمكن للعلم أن يكون مقدمة للأعمال الحسنة فيكتسب قيمة فإنّه يمكنه أن يلعب دوراً أهم بعنوان كونه مقدمة للإيمان، و هو بدوره مقدمة العمل و أساس له.

ص: 99


1- سورة الحج : الآية 62.

العلاقة بين العلم والإيمان والعمل

إن إعتبار الإيمان كتصديق ذهني هو بعينه إعتبار العلم و بذلك ليس أمراً اختيار يا، لأنّ بعض العلوم يدركها العقل بالبديهية، وليس للإنسان أتي اختيار في تحصيلها - والتصديق بها، وبعض العلوم و إن كانت تحصل عادة عبر مقدمات اختياريّة إلاّ أنّ الإختيار ليس مقوّماً لها بمعنى أنه من الممكن أن تحصل تلك المقدمات في الذهن بسماع صوت أورؤية خط، وعندئذ يدركها الإنسان بدون إختيار ويصدّق بها، نعم إذا كانت مقدمات العلم متحققة بالإرادة والإختيار فلابد أن تكون هناك دوافع لتحصيلها و ترکیبها و هذه الدوافع قد تكون غريزة الاستطلاع أوالعمل على کسب مجد و فخر أو الاستفادة الماديّة أورضا اللّه و في الحالة الأخيرة فقط يكون عبادة، ولكن مثل هذه العبادة يجب أن تسبقها حتماً معرفة اللّه.

إنّ المقصود عن الإيمان الّذي نركز عليه في هذا البحت وأعتبر في القرآن والنصوص الدينية أساساً للسعادة فهو حقيقة تختلف عن المعنى المقابل للكفر والجحود ويتفاوت عن المعرفة إذ ما أكثر أن يعرف الإنسان شيئاً ولكن قلبه يرفضه ولا يلتزم بلوازم تلك المعرفة و من هنا فهو يخالفه عمداً وربما اقتضى الأمر أن ینکره بلسانه و مثل هذا الإنكار مع العلم أشدّ سوءاً من الإنكار مع الجهل و أكثر ضرراً بالتكامل الإنساني، و هذا القرآن الكريم يصفهم:

ص: 100

«وَجَحَدُوا بها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً» (1).

وعلى لسان موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يخاطب فرعون يقول:

«لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنزل هؤلاء إلّا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ» (2).

في حين كان فرعون يقول :

«ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي» (3).

و هناك الكثير من أمثال فرعون ممن أنكروا ما يعرفون سواء في حياة الرسول الاعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أو بعدها و مازالوا إلى يومنا هذا، والسّر النفسيّ لمثل هذا الإنكار هو أن الإنسان قديرى أنّ قبول بعض الحقائق يعني تحديد حريته وتحللّه ومنعه من إشباع متطلباته الّتي لا يستطيع قطع تعلقه القلبي بها.

يقول القرآن الكريم :

«بلْ يُريدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ» (4).

وسنعطي بعض التوضيحات في هذا الصدد.

والنتيجة هي : أنّ الإيمان عبارة عن قبول القلب للأمر الّذي صدق به العقل و الذهن والتزامه بكل اللوازم المترتّبة عليه و عزمه الإجماليّ على تنفيذ لوازمه العمليه، فالإيمان منوط و مشروط بالمعرفة إلا أنه ليس هو نفس العلم ولا اللازم الدائم له.

و من هنا تتوضّح العلاقة بين الإيمان والعمل، ذلك أنّ الإيمان يقتفي العمل ولكنّه ليس نفس العمل الخارجي، وإنّما

ص: 101


1- سورة النمل، الأية 14.
2- القصص الآية 38.
3- الإسراء الآية 102.
4- القيامة الآية 5.

هو سرّه و مانحه و جهته و انّ الصلاح واللياقة والحسن الفاعليّ للفعل منوط بالإيمان، فإذا لم يستمد العمل وجوده من الايمان باللّه فإنه سوف لن يؤثر في السعادة الحقيقية للإنسان وإن كان عملاً صالحاً، و كانت له منافع كثيرة في الدنيا للإنسان و أوللآخرين.

«وَالّذينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَراب بقيعة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حتى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ». «النور : 39».

(مَثَلُ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالَهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ». «إبراهيم: 18».

فالخطوة الأولى التى يخطوها الإنسان في سيره التكامليّ نحو الكمال النهائيّ أي القرب للّه تعالى هو الإيمان، و هذه الخطوة أساس الخطوات التالية وروح كلّ مراحل الاستكمال.

و أمّا الخطوة التالية فى السير التكاملي الإنساني فهي النشاط الّذي يقوم به القلب بعد الإيمان باللّه بغض النظر عن الأعضاء والجوارح أي التوجه للّه و هو ما يعبر عنه بذكر اللّه. «وَاذْكُرُوا اللّه كَثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». «الجمعة: 10».

و كلّما قوي هذا التوجه و تمركز أكثر كان أشدّ تأثيراً فى التقدم الإنسانيّ وقد تكون لحظة من التوجّه القلبي التام أكبر تأثيراً من سنين من العبادة البدنيّة.

والخطوة الثالثة: هي الأعمال الباطنية الأخرى التى

ص: 102

يؤديها الإنسان بإسم اللّه مثل التفكير في آيات اللّه و علائم قدرته و عظمته و حكمته و إنّ استدامة الذكر والفكرلها أثرها في هيام القلب وحبّه و تعلّقه.

«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قياماً وَقَعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْق السَّماواتِ وَالأَرْضِ». «آل عمران: 191».

بعد هذا تقبل التوبة للأعمال البدنيّة المختلفة، وبعبارة اخرى إنّ العزم الاجمالي و هو من لوازم الإيمان يتجلّى في مظاهر مختلفة و في قالب الإرادات التفصيلية والجزئية، وهذه.

الإرادات - و هي من زاوية معينة فرع الإرادة الأصليّة - توجب تقوية ذكر اللّه والإيمان به.

«أقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري» (1)

«وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُه» (2)

وكذلك فإنه إذا كانت هناك إرادة على خلاف مقتضى الإيمان، فإنّها تؤدي الى ضعف الإيمان، إذن فالعلاقة بين الإيمان تماماً مثل العلاقة بين جذر النبات والأعمال النباتية، والعمل هي فكما أنّ جذب المواد الغذائية مفيد و مؤثر في نمو الجذر و استحكامه وقوته وانّ جذب المواد السامة المضّرة موجب لضعفه وبالتالي ذبوله وموته، فإنّ الأعمال الصالحة عامل مؤثر في دوام الإيمان و استحكامه والأعمال السيئة وارتكاب الذنوب موجبة

ص: 103


1- طه الآية 14.
2- فاطر الآية 10.

للضعف و بالتالى موت جذور الإيمان.

«فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِى قُلُوبهِم إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بمَا أَخْلَفُوا اللّه ما وَعَدُوهُ وَ بمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ» (1) «ثم كانَ عَاقِبَةَ الّذينَ أَسَاؤُا السُّوَّى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّه وَكَانُوا بها يَسْتَهْزِئُونَ». (2)

ص: 104


1- التوبة : الآية 77.
2- الروم: الآية 10.

تدبير الإرادة

عرفنا من البحوث الماضية حقيقة الكمال النهائي وهدف السير التكامليّ للإنسان وكذلك عرفنا الخط العريض والأسلوب العام للسّير والسلوك، أما الخطوط التفصيلية والدقيقة لذلك فهي متروكة لعلم الأخلاق والفقه، وإنما نريد الحديث عن المرحلة الأخيرة لهذا البحث وهي الحديث حول تدبير النفس ليقطع سبيل التكامل.

و نعني بذلك أننا نحاول معرفة الأمر التالي :

كيف نستطيع تحقيق المقدمات اللازمة لاتّخاذ الإجراء القاطع وإمتلاك الإرادة الجدية لقطع سبيل العبادة والقيام بواجبات العبودية، إننا نعلم أنه توجد في كلّ موجود حتي ميزتان أساسيتان هما: «الإدراك والحركة الإرادية»، و مجموعهما يعبّر - حسب المصطلح المنطقيّ - عن الفصل والميزة الجوهريّة

ص: 105

للإنسان.

و توجد هاتان الخاصيتان أيضاً بشكل أوسع و أعمق و أعقد في الإنسان باعتباره موجوداً حياً متميزاً وتشكلان جهازين مشتركين للروح والبدن: أحدهما جهاز الإدراك والثاني جهاز الإرادة، ولمّا كان هذان الجهازان مرتبطين ملتحمين تمام الإلتحام فقد اشتبه أمرهما حتى على بعض العلماء الدقيقين ولكي نعي كيفية حصول الإرادة وارتباطها - بجهاز الإدراك من المستحسن مقدمةً أن نلقي نظرة على أنواع الإدراكات والدوافع والجواذب الّتي تشكل منبعاً لحصول الإرادة.

ولقد حقّق الفلاسفة والعلماء منذ القدم في الإدراكات والغرائز الإنسانيّة وقسموها إلى أقسام مختلفة، ونحن هنا بغضّ النظر عن البحوث العلميّة المصطلحة والاستنتاجات نكتفي بمطالعة سريعة حول تفاعلاتنا الروحية حول الإدراك و كذلك متطلبات الإرادة وكيفية بعثها و حصول الفعل الإرادي لكي نحصل على المعارف اللازمة لبناء النفس وتوجيه أعمالنا الوجهةً الإلهية الصحيحة.

جهاز الإدراك :

يتحقّق الإدراك فى الإنسان بصورة مختلفة نشير إليها إجمالاً: فهناك مجموعة من الإدراكات تحصل عبر تفاعلات فيز يوكيماويّة أوفيز يولوجيّة خاصة بين المواد الخارجية والأجهزة

ص: 106

الحسيّة مثل الرؤية والسّمع والشّم والذّوق واللّمس.

و هناك مجموعة من الإدراكات الجزئية تحصل دون أن يكون هناك أتي تماس للمواد الخارجيّة بالبدن مثل الإحساس بالجوع والعطش، و هناك مجموعة ثالثة من إدراكاتنا تحصل في الذهن و بواسطة القوى النفسيّة الخاصّة، و لهذه الإدراكات أنواع مختلفة والتحقيق حول هذه الأنواع والمشخصات والقوى المتعلّقة بها و كذلك إرتباطها أوعدم ارتباطها بالجهاز العصبي أمر لا يتسع له صدد هذا البحث.

وإنما نؤكد على أننا نجد إجمالاً في أنفسنا مدركات تبقى بشكل ما في الذهن بعد أن تنقطع الصلة بين حواسّنا مع الخارج وقد تعود بعد الغفلة أو النسيان مجدّداً الى الخاطر و تنعكس في شاشة الذهن الواعية و هكذا مدركات الحسّ الباطني والحالات الانفعالية و سائر الأمور الإدراكية.

والنوع الآخر من نشاطات الذهن يرتبط بدرك المفاهيم الكلية الّتي تتحقق عبر تجريد الإدراكات الجزئية أو بصورة أخرى و يشبه هذا إيجاد المفاهيم الخاصة الّتي يعبر عنها ب_«المعقولات الثانية» مثل مفهوم الوجود والعدم والوجوب و الإمكان، وهناك نوع آخر من الفعاليّة الذهنيّة في مورد الإدراك و هو تركيب و بناء القضايا بإيجاد نوع من الوحدة بين المفاهيم المتعدّدة وكذلك عبر تركيب قضيتين نصل مع ظروف و شروط خاصة إلى إدراك قضيّة أخرى تسمّى «نتيجة البرهان».

و هنا فيحسن بنا أن نعطي توضيحاً منحصراً حول القضايا :

ص: 107

تقسمّ القضايا الذهنيّة من زاوية معينة الى بديهيّة واكتسابيّة، و من زاوية أخرى إلى نظرية وعمليّة وتنسب الإدراكات النظريّة – عادة - الى «العقل النظري»، والإدراكات العملية الى «العقل العمليّ» ويعتبرون العقل العمليّ قوّة تصدر الأوامر وتحرك الإرادة وقد يتصوّر أنّ الإرادة مرتبطة بالعقل العملي و حتى يقال إنّها معلولة له.

في حين أنه ثبت في محله أن العقل النظري والعقل العمليّ ليسا قوتين منفصلتين عن بعضهما وأنه ليس هناك أي تفاوت جوهريّ بين الإدراك العملىّ والإدراك النظري، و أنّ عمل العقل في مورد الإدراك العمليّ هو نفسه في مورد الإدراكات النظريّة بمعنى أنّ العقل يدرك العلاقة بين الفعل ونتيجته تماماً كما يدرك علاقة العلية بين الأسباب و المسببات والحركة والغاية و أنّ هذا الإدراك عند ما يصبّ في قالب المفاهيم الاعتبارية بمعونة القوى الّتي تصوغ المفاهيم في الذهن يتخذ لنفسه شكل الأوامر العقليّة وإلا فإنّ عمل العقل في الواقع لا يعد والإدراك، وليس له أي علاقة مباشرة بالإرادة والبعث والتحريک و ما ينسب للعقل في مجال أفعال الإنسان من «ينبغي - ولا ينبغى» هي في الواقع كمثل الأمور الّتي يتحدث علماء العلوم الطبيعيّة و الرياضيّة عن أنها تنبغي أولا تنبغي في مجال بيان قوانين هذه العلوم.

و هناك نوع آخر من الإدراك يتوفّر لدى الجميع و هو عبارة عن العلم الحضوريّ لنا بأنفسنا و قوانا و أفعالنا و وسائلنا

ص: 108

البدنيّة وتأثيراتنا العصبية ويوجد أيضاً نوع من الإدراك الحضوري بالنسبة للمبادي العالية للمبدأ الأعلى و هو يحصل في البدء لدى الأفراد العاديين بشكل لا شعوري لذا يجب السعي الأكيد لإيصاله إلى مرحلة الشعور.

و توجد عدا هذه الإدراكات العامة المعروفة إدراكات أخرى مثل «التلپائى» والعلوم الّتي تؤخذ من الجنّ أو الأرواح أوتعطى في حال الهيپوتیسم والمنياتيسم والتي تؤدي إلى معلومات لدى المرتاضين، وكذلك الوساوس الشيطانية والإلهامات الملائكية والرحمانية.

وفوق كلّ هذه الإدراكات هناك الوحي النازل على الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) من قبل الباري تعالى و يشبهه الإلهام والتحديث الّذي يخص به سائر العباد الخلّص، وذلك من قبيل تبشير أم موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) برجوع ولدها ووصوله الى مقام الرسالة و كذلك الأمور الّتي ألقيت الى مريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) والعلوم الّتي الهم بها الأئمة المعصومون من أهل البيت عليهم الصلاة والسّلام ولا تعرف حقائقها إلا لمن يتلقونها، علاوة على هذا يمكن أن نذكر كلّ الإدراكات والصور الحاصلة في الذهن دون أن يصحبها أيّ تفسير منطقيّ و فلسفيّ مثل كلّ الوساوس الشيطانيّة الّتي قد تعرو أذهاننا و نعرف نتائجها عياناً فى أنفسنا ولا نعرف ماهيتها والسبيل العام للتصديق بأصل هذه الإدراكات وكيفية حصولها - بغضّ النظر عن مشاهده آثارها - عبارة عن التعبّد بقول المعصوم (عَلَيهِم السَّلَامُ) أونقل أولئك الّذين تلقوها و نحن نعرف صدقهم في ما ينقلون.

ص: 109

جهاز الإرادة :

توجد في الإنسان ميول و جواذب و دوافع تشكّل بمجموعها سرّ حصول الإرادة و الحركة الإراديّة وقد دَرس علماء النفس أنواعاً كثيرة من الميول الطبيعيّة والفطريّة، وقسموها الى أنواع متعددّة ولهم إختلافات في عددها وكيفيّة تصنيفها، ونحن هنا نتعرض إلى ذكر الدوافع والميول الّتي نحسها وجداناً (دون التقيّد باصطلاح أو متابعة لمدرسة خاصّة).

فبعض هذه الدوافع لها علاقة واضحة بالتفاعلات الكيماويّة والفيز يولوجيّة للبدن مثل ميول الأكل والشرب وهي تصاحب حياة الإنسان منذ الولادة الى الموت، وهي تثار عند إحتياج البدن للمواد الغذائيّة والمائية، وهكذا نجد الميل الجنسي الّذي يظهر على أثر ترشّح الهرمونات الخاصّة ويكون ذلك بعد سني البلوغ.

وهناك مجموعة أخرى من الدوافع تعقبها حالات بدنيّة خاصّة بحيث يتصوّر ذووا لنظر السطحيّ من الناس أنّ هذه الدوافع النفسيّة هي نفس الحالات البدنيّة مثل الميل إلى الدفاع والإنتقام الّذي يبدو بشكل غضب ظاهر تتغيّر فيه ملامح الوجه و تنتفخ فيه الأوداج، ومثله الميل للفرار من الخطر ويعدّ نوعاً من الدفاع.

و هناك مجموعة أخرى من الدوافع تشكّل (العواطف) و أهمها العواطف العائلية والاجتماعية.

و من غرائز الإنسان غريزة حبّ الإطلاع والبحث عن

ص: 110

الحقيقة وهي تدفع الإنسان إلى كشف المجهولات و معرفة الواقع، و هناك غريزة طلب الإقتدار والتسلّط وتوسيع دائرة النشاط كما أنّ هناك نوعاً آخر من الغرائز يرتبط بالحصول على العناوين الإعتباريّة من قبيل الجاه والمقام والإستقلال في الشخصيّة.

وهناك نوع آخر من الميول الفطريّة ترتبط به أنماط الجمال والكمال الظاهرية والمعنوية وهي تحرّك الإنسان نحو الحصول على أنواع الكمالات وأنماط الجمال القابلة للإكتساب والإرتباط والتعلّق بالأشياء الكاملة والجميلة والخضوع أمام الكمال والجمال الأصيل.

و يمكننا أن نعتبر «حبّ الذّات» أم الغرائز الإنسانيّة و تنقسم ابتداء إلى - قسمين رئيسيّين: «حفظ الوجود» و «الحصول على الكمالات الممكنة» وينشعب «حفظ الوجود» بلحاظ تعلقه بالفرد أو النوع و بلحاظ إشباعه للإحتياجات ودفع الأخطار إلى الميل للأكل والشرب والشهوة الجنسية وحسّ الدفاع والفرار من الخطر والانتقام والعواطف العائلية والاجتماعية.

و كذلك يشمل «تحصيل الكمالات» غرائز الاستطلاع والاقتدار و طلب الجاه و حبّ الكمال والجمال.

و ينبغى أن لا يظنّ أحد أنّ ما ذكرناه يشمل كلّ الغرائز والميول الإنسانيّة كما لا ينبغى أن يؤدي بنا تصنيفها إلى توهم أنها أمور منفصلة عن بعضها في مقام التأثير، إذ أنّ من الممكن أن تتدخل عدّة من الغرائز في تحقيق عمل واحد.

و هناك نقطة أخرى ينبغي التذكر بها وهي أنّ فصل

ص: 111

الميول والدوافع عن العلوم والإدراكات لا يعنى إنكار دخولها في مجال الشعور الإنساني لأنّ من البديهي هذه الجواذب والحالات النفسيّة ليست مثل القوّة المغناطيسيّة الّتي تعمل دون إدراك أوشعور و إنّما المقصود من ذلك التفريق بين جهاز الإدراك المحض و جهاز الإرادة من زاوية وجود الدفع والجذب في الجهاز الثاني وعدمه في الجهاز الأول و معرفة العلاقة بينهما لكي نحصل على معرفة أكبر بالنسبة للظواهر النفسية للتدبير والسيطرة.

علاقة جهاز الإدراك بجهاز الإرادة

إنّ حصول أيّ ميل مسبوق بإحساس خاصّ له معه سنخيّة و توافق، فالميل نحو الغذاء والماء مسبوق بإحساس الجوع والعطش مثلاً، ولشدّة هذا الترابط يحسّ الإنسان بأنّها حالة واحدة.

كما أنّ إشباع هذه الميول والاحتياجات الغريزية متوقف على إدراكات متناسبة، أما تأثير جهاز الإدراك على جهاز التحريك في مثل هذه المرحلة فهو واضح إلى حد كبير و يمكن ان تتعاون في إشباع ميل خاص قوى إدراكية متعددة و في مجال واسع فإنّ مجرّد التركيز على عملية طبخ وجبة غذائية بالوسائل العادية اليوم يوضح مدى الفعاليات الإدراكية الواسعة «الحسيّة والخياليّة والفكريّة» الّتي تجري لتحقيق هذا الهدف، إلا أنّ رابطة هذين الجهازين لا تنحصر بهذين المجالين و إنما هناك نوع آخر من الترابط بينهما له أهمية خاصة بالنسبة لبحثنا هذا، و هو عبارة عن تأثير بعض الإدراكات في تحريك الميل والإرادة او

ص: 112

النفور والإشمئزاز ممّا لا يعرف بينهما رابطة طبيعية فقد يودّي رؤية منظر خاصّ أوسماع صوت معين أو الإحساس برائحة إلى تحريك الميل نحو الغذاء أو الشهوة الجنسيّة اوغير ذلك من الميول في حين يؤدي لون أو طعم أورائحة خاصّة إلى نفور و إشمئزاز خاصّ بالنسبة الى غذاء أوشيئ آخر.

و إن تأثير بعض هذه الأمور قد يكون عادياً واضحاً إلى حد يظنّ معه الإنسان بوجود علاقة طبيعية مع تحريك الميل هذا مثل الإحساس برائحة طعام وتحرّك إشتهاء الإنسان له، في حين نجد تأثير البعض الآخر خفياً إلى حد يظنّ معه الإنسان أن بعض الميول تحصل إتفاقاً ودون سبب أو يتحيّر في تعليل حدوثها.

إن معرفة مثل هذه الروابط له أهميته الخاصة لتحقيق هدفنا المنشود، ذلك لأنّ التركيز عليها يؤدّي إلى أن ندرك أنه قد تكون نظرة واحدة أوسماع صوت ما ذا تأثير عجيب في مستقبل الإنسان، و كيف تحرّك ميلاً أوإرادة تؤدي الى سعادة الإنسان أو شقائه.

وسرّ هذه العلاقة تكمن في تداعي المدركات والمعاني بمعنى أنّ الذهن الإنساني خلق بحيث يؤدّي تقارن صورتين فيه بشكل متكرر إلى أن يتذكر إحداهما عند حصول الأخرى، فلوكان يكرر أكل طعام برائحة وطعم خاصين فإنه بمجرد الإحساس بتلك الرائحة يحس بالطعم أيضاً وتتحرّك شهيته نحو هذا الطعام.

ولو بحثنا عن علل حدوث إرادتنا عرفنا دورا الإدراكات الحسّيّة المهم - خصوصاً المنظورات والمسموعات - في

ص: 113

تخيّلاتنا وأفكارنا و عرفنا آثارها في صدور الأفعال الإراديّة و من هنا نستنتج أنّ أفضل وسيلة لتدبير الميول والاحتياجات وبالتالي التسلّط الأكثر على النفس والإنتصار على أنماط الهوى النفسي والوساوس الشيطانية هو السيطرة على الإدراكات، وقبل ذلك السيطرة على العين والسمع.

«إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كلّ أُولئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (1).

كما أن أحد أفضل وسائل تحريك الإرادة الخيّرة هي رؤية الأشخاص الصالحين وسماع قصصهم و قراءة القرآن و مطالعة الكتب المفيدة وزيارة المعابد والمشاهد والأمكنة الّتي تذكر الإنسان باللّه و بالعباد الخلّص والأهداف المقدّسة والسبل الّتي طووها في سبيل ذلك.

«فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتُ مَقَامُ إِبْراهِيمَ» (2) ومن هنا تبدو الحكمة في كثير من الأحكام الواجبة والمستحبة أو المحرمة والمكروهة مثل الحج وزيارة المشاهد المقدسة، أوغضّ النظر عن المناظر المثيرة للشهوة و كراهة الجلوس في مكان فيه حرارة ناتجة من جلوس المرأة الأجنبيّة.

و كذلك أهمية الدور الّذي يلعبه الصديق في السعادة والشقاء الإنساني.

«يَا وَيْلَتى لَيتَنِي لم أتخذ فُلَانَاً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِكرِ بَعْدَ إِذْ جَائَنِي» (3).

ص: 114


1- الاسراء : الآية 36.
2- آل عمران : الآية 97.
3- سورة الفرقان الآية 28-29.

«إذا أراد اللّه بعبد خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه»

«قالت الحواريون لعيسى بن مريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يا روح اللّه من نجالس ؟ قال من يذكر كم اللّه رؤيته، ويزيد في علمكم منطقة، ويرغبكم في الآخرة عمله» (1).

و كذلك التأثير الّذي تملكه أعمال الإنسان و أقواله في الآخرين والدور الّذي يلعبه سلوكنا كنموذج في السعادة أو الشقاء للعائلة أو المجتمع، و من هنا تترتب علينا مسئوولية أخرى ؛ «كُونُوا دُعاة النّاس بغير ألسنتكم».

دور الميل والرّغبة في الإدراك »:

إنّنا نملك حرّيّة الاستفادة من القوى و الوسائل الإدراكية الى حدّ كبير، فمتى شئنا حدقنا في منظر معين و رحنا نتفرّج و متى شئنا غضضنا النظر عنه، وهنا يمكن أن نتصوّر أنه عند أنّه عند إنفتاح العين ووجود النور فليست هناك حالة منتظرة لرؤية الشيء الّذي يتمثّل أما منا، في حين أنّ الحقيقة تثبت خلاف هذا التصوّر، ذلك أنه في كثير من الأحيان نجد أنفسنا لاترى الشيء رغم إنعكاس صورة المرئي في العين ورغم إرتعاش طبلة الأذن بواسطة أمواج الصوت، لكنّها لا تسمع شيئاً وذلك عندما يتركز إنتباهنا على شيء آخر، و من هنا يتضح أنّ الإدراك ليس ظاهرة فيز ياوية

ص: 115


1- کافی ج 1 ص 39.

اوعملاً فيزيائياً فحسب وإنّما هو في الواقع عمل النفس، فإذا توجهت النفس حصل الإدراك وإلّا انتفى، أمّا الانفعالات الماديّة فهي تشكّل شرائط الادراك ومقدّماته، ثم إن وجود التوجه و عدمه في كثير من الأحيان يرتبط با الميل والشوق الباطني للإنسان بمعنى أنّه حين يميل الإنسان إلى إدراك خاصّ فإنّ توجّه النفس يتّجه نحوه و يحصل الادراك مع وجود الشرائط اللازمة، في حين أنّه على العكس من ذلك عندما لا يوجد الميل لا تتوجّه النفس ولا تدركه بالتالي، فمثلاً قد يرتفع صوت طفل من زاوية فلا يسمعه إلاّ أمّ الطفل، حتى أنها قد تنهض من نومها على صوت بكاء طفلها ولكنها لا تنهض على صوت أعلى من شخص آخر، وليس هناك أتي تبرير سوى العامل النفسي و شوق الأمومة، ولا ينحصر تأثير الميل والشوق في الإدراك بالإدراكات الحسية وإنّما يتوفّر في التخيلات و الأفكار و حتى أنه يتوفّر في الاستنتاجات العقليّة بصورة مختلفة:

فمثلاً يجد الإنسان نفسه ذا ذاكرة قوية بالنسبة للأشياء الّتي يميل إليها بشكل أقوى، و تتقدم النشاطات الفكريّة في مجال الموضوعات الّتي يألفها ويرتاح إليها الشخص المفكر بشكل أحسن، والأعجب من ذلك أنّ الكثير من الأشخاص يصلون الى النتائج الفكرية الّتي كانوا يرغبون فيها قلبياً فهم يلهمونها ولكنهم يظنون أنهم وصلوا إليها بشكل طبيعيّ من إستدلال عقليّ في حين كان للميل الباطني لهم الأثر الكبير في إختيار مقدمات الدليل أو في كيفية تنظيمها وربما أوجبت المغالطة (بَلْ يُريدُ

ص: 116

الإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) (1).

و توضيح ذلك أنّ عدم ميل الإنسان للوصول إلى نتيجة فكريّة ما يراها تتنافى مع متطلباته قد توجب غفلته و عدم تفكيره فيها، وقد توجب الغفلة عن المقدّمات اللازمة للإستدلال أو الشكل الصحيح لتنظيم المقدّمات و في حالة ما إذا وصل إلى هذه النّتيجة الّتي لا يرغب فيها وخلافاً لرغبته الشخصيّة فإنّه يبدأ بالتشكيك وإيجاد الشبه في ما توصل إليه، فإذا كان الدليل واضحاً تماما لا يبقى أي مجال للشبهة يصل الدور الى خيانة الذاكرة فما أسرع ما يسلّمها الإنسان للنسيان ولو حصل أنّ عاملاً ما ذكره بها فإنّه سيمتنع عن التسليم القلبي والإيمان بها و ينكرها بكل لجاجة و ذلك كما أشرنا من قبل إلى مثل هذا في مقام التفريق بين العلم والإيمان :

«إنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَما تَهوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» (2).

وعلى هذا فإنّ الإنسان متى ماصان نفسه عن الوقوع تحت تأثير الميول المخالفة إطمأنّ الى نتائجه الفكرية و إلاّ فما دام الهوى هو الّذي يمسك بالزمام فإنّ الميل للماديّات والشهوات والجاه والمقام وباقي المتطلبات الجامحة سوف تجلب توجه النفس إليها، ويقل الأمل فى الوصول إلى إستنتاجات صحيحة من النشاطات الذهنيّة والفكريّة في المجالات المتعلقة بذلك.

ص: 117


1- القيامة : الآية 5.
2- النجم : الآية.23.

و في مجال العلم الحضوريّ والتوجّه الى الوجدانيّات يوجد للميول والأشواق القلبيّة دورهام، فالحالات النفسية والإنفعالات الروحية الحاضرة لدى النفس قد تدخل عالم اللاشعور على أثر إنعطاف التوجّه النفسي عنها فيغفل عنها الإنسان فلايكون لديه - كما يعبّر الفلاسفة - العلم بالعلم، وكذلك تلك المرتبة الّتي تملكها النفس من العلم الحضوريّ باللّه تعالى فقد تغفل عنها على أثر الأنشداد للماديّات والتعلّق بها اللّهم إلا إذا انقطعت الوسائل الماديّة المعيقة.

وعلى هذا فإنّ الإستثمار الصحيح للقوى الإدراكيّة إنما يتيّسر إذا كان القلب طاهراً من أنماط الدرن الماديّ والهوى النفسيّ، والذهن خالياً من الأحكام المسبقة، متزيناً بالتقوى المناسبة، فالتكامل في مدارج التقوى هو الّذي يصوغ الإنسان مستعداً لتلقى الأنوار المعنوية والإلهامات الملائكيّة والرّبانيّة

«إنّ فِى ذلِكَ لَذِكرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبُ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِیدٌ» (1).

«ذلِكَ الْكِتَابُ لارَيبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»(2).

«قَدْ َأفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَاهَا» (3).

«إِنْ تَتَّقوا اللّه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرقاناً» (4).

«يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُون به» (5).

ص: 118


1- ق : الآية 37.
2- البقرة: الآية 2.
3- الشمس : الآية 9.
4- الحديد: الآية 28.
5- الأنفال: الآية 29.

و في قبال ذلك يشكل إتباع الهوى النفسي والتعلق بالدنيا سبباً للإنخداع والضّلال والحرمان من إدراك الصحيح، بل سبباً للتسلّط الشيطاني ومزيداً من الجهل والضلال والجهل المركّب و عمی القلب.

أَفَرأَيْتَ مَن اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعَه وَقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غشارَةَ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّه أَفَلَا تذَكَّرُونَ» (1).

«كُتُبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلّاه فأَنَّهُ يُضِلَّهُ وَ يَهدِيهِ إلى عَذابِ السَّعِير» (2).

«وَمَنْ یَعشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُفَيْضُ لَهُ شَيْطَانَا فَهُوَلَهُ قَرِيَنَّ وَإِنَّهُمْ لَيَصْدُونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ»(3).

الإرادة والاختيار

عند التوجه الى القوى الإدراكيّة والتحريكيّة المختلفة و كيفية تأثيرها وتأثرها يتضح كيفية حصول مبادي الإرادة في النفس وكيف يحصل الفعل الإرادي، بمعنى أنّ الإنسان بادي ذي بدء يحسّ في نفسه نوعاً من الحاجة فيتألم لذلك أو يجد نفسه خالية من لذة معروفة فيسعى نحوها، والإحساس بالألم أوانتظار اللذة يحرّكه للسعي ليشبع عبر القيام بعمل ما جوعته وليرفع ألمه

ص: 119


1- الجاثية : الآية 23.
2- الحج: الآية 4.
3- الزخرف : الآية 360.

و يؤمن لذّته المنشودة، إذن فأعمال الإنسان فطرة تتّجه نحو رفع النقص وتحصيل الكمال، والدافع نحوها هو رفع الألم أو الحصول على اللذة المطلوبة وذلك سواء كان العمل فعالية نفسيّة او ذهنيّة محضة مثل توجّه القلب والفكر أو كان متوقفا على تحریک العضلات والأجهزة البدنيّة عبر الاستفادة من الموادّ الخارجيّة أو بدون ذلك، وإذا لاحظنا الأعمال الّتي يؤديها الإنسان لصالح غيره نجده فيها أيضاً يندفع للحصول على لذته هو و إن كان ألمه أو التذاذه لتألم الآخرين والتذاذهم، و من الطبيعي أنّ الإنسان لا يستطيع أن يحصل على كلّ ما يتمناه لأنّ موفقيته في ذلك بالإضافة للزوم حصول الظروف الخارجيّة المطلوبة مرهونة بسلامة قواه الإدراكية وصحة تشخيصه، و كذلك المعرفة الصحيحة لكيفيّة رفع نقائصه نقائصه و مدى و مدى إستفادته من القوى وقدرته على التصرّف في المواد الخارجيّة فإن التفات الإنسان قد يحصل تارة بشكل طبيعيّ و على أثر التفاعلات البدنيّة مثل الإحساس بالحاجة للطعام والشراب و أخرى على أثر المماسة مع الخارج مثل مشاهدة وضع خطير يوجب فراره أو استعداده للدّفاع، أو يؤدّي به رؤية منظر مُشير للعواطف إلى التأثّر الشديد لكي يتألّم من محرومية الآخرين و يعمل على مساعدتهم.

و في المورد الأول ربما أتت العوامل الخارجيّة بنحو التداعي إلى ظهور الميل المكنون، وذلك كما أوضحنا من قبل كما أن العوامل الخارجية يمكنها أن تلعب دوراً في إيقاظ الميول الفطريّة والجواذب النفسيّة المحضة فإنّ دعوة الأنبياء توقظ

ص: 120

الدافع الفطريّ للإيمان باللّه بعد أن غطتها عوامل الغفلة و هكذا نجد رؤية آثار اللّه وسماعها تمتلك نفس الأثر.

ولو أنا فرضنا أنه كانت هناك غريزة واحدة قد استيقظت و وجد ميل واحد في النفس فإنّ الإنسان سوف يتحرك في سبيل إشباعه، و فيما اذا توفّرت الظروف وارتفعت المدافع الخارجية فإنّه يقوم بالعمل المناسب لذلك، إلا أنه في حالة وجود ميول متعدّدة ولم يتيسّر له إشباعها جميعاً، فانّه يقع التزاحم لامحالة، وعندئذ تسيطر ذات الجاذبية الأكبر على النفس لتقوم بإشباعها أولا، فهناك بعض الأطفال الّذين يفضّلون لعبهم على أكلهم، أوالأمهات الجائعات يقدّ من غذائهن لأطفالهنّ أو الشباب الّذين يرجحون المطالعة، أو الاتقياء الّذين يفضّلون العبادة على النوم، و كذلك الجنديّ المضحيّ في سبيل اللّه براحته و راحة عياله، و في مثل هذه المجالات تبدو القيمة الحقيقية للإنسان وتظهر استعداداته الخفيّة و تصل سعادته أوشقاؤه إلى حد الفعليّة والتحقق، والواقع أن حكمة خلق الإنسان في عالم من التزاحمات الأمور المتضادّة تكمن في هذا المعنى - وكما أشرنا الى ذلك مكرّراً، وهنا ينطرح هذا التساؤل :

هل للإنسان أن يكون مجرد متفرّج في عالم تزاحم الميول فمتى ما تغلب ميل مّا بمقتضى العوامل الطبيعيّة والاجتماعيّة سار خلفه أو أن عليه أن يمتلك زمام الأمر و يكون له عبر نشاطه الفكرىّ والإرادي دور المتوجّه المعين للمسير، حتى أنّه

ص: 121

يقوم أحياناً بالإمتناع عن إشباع حاجياته الطبيعيّة؟ إنّه في الحالة الأولى سوف يسلّم الأمر طائعاً أعمى أبكم للغرائز تماماً كما يسلّم نفسه أحياناً للعاصفة أو السيل و يستقيل من انسانيته و يهمل القوى الإنسانيّة الخاصة، إنّ هذه الحالة تدعى بالتعبير القرآني ب_«الغفلة».

الغفلة الّتي تدع الإنسان يسف حتى يتنزّل عن مراتب الحيوان.

«أُولئكَ كَالأَنْعَام بَلْ هُم أَضَلُّ أُولئكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (1).

أما في الحالة الثانية فإنّه ينطرح تساؤل آخر عن المعيار الّذي به يرجّح الإنسان بعض حوائجه ومتطلباته على الأخرى، ولأنّ هذا السؤال يشمل الدين أيضاً وجب أن يجاب عليه بجواب بغض النظر عن المقاييس التعبديّة.

يمكن الإجابة على السّؤال الآنف بثلاثة أجوبة:

الأول: مقياس الأكثرية في اللذة، فمتى كان عمل مّا أكثر لذّة انتخبناه عند التزاحم و من الطبيعي أنه لا يمكن جعل الملاك هنا اللذّة الفعليّة فقد تكون لعمل ما لذة فعلية لكنّها مشفوعة بعد ذلك بألم شديد، علاوة على أنه من الممكن أن لانكون قد ذقنا من قبل لذّة بعض الأعمال حتى نقارنها إلى غيرها، فالسبيل الصحيح لتشخيص الألذ هو معرفة حقيقة اللذّة و ملاكها ثمّ نعمل على معرفة الأكثر لذّة من خلال المقارنة والحساب العقليّ، ونحن

ص: 122


1- الأعراف الآية 179.

قد قمنا من قبل بمثل هذه المحاسبة و وصلنا إلى هذه النتيجة وهى أنّ لذة القرب إلى اللّه لا تَعْدِلُها لذة ولا تبلغها رغبة «وَاللّه خَيْرٌ وأَبقى».

الثاني:

أن نقارن بين الغرائز على أساس غاياتها ثم نعمل على ترجيح الأفضل غاية، وقد قلنا من قبل أنّ للغرائز شعبتين:

الأولى حفظ الوجود، والثانية تحصيل الكمال و غاية الشعبة الاولى بقاء الإنسان في هذا العالم لكي يطوي طريق تكامله فمثلاً غاية الأكل والشرب تأمين الاحتياجات البدنيّة للإبقاء على الحياة الدنيوية، وغاية غريزة الدفاع الصيانة من الأخطار لإدامة الحياة، وغاية الغريزة الجنسية و العواطف العائليّة والإجتماعيّة هي بقاء النوع الإنساني، إلا أن غاية الفرع الثاني غاية لامتناهية وخالدة، و من الواضح أنها الغاية الأسمى والأبقى «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى».

الثالث :

أنّ غرائز الشعبة الأولى لها بالطبع جانب مقدمي لأنّ دورها تهيئة الأرضيّة المناسبة وتحقيق إمكانات التكامل في حين أنّ الشعبة الثانية تمتلك أصالةً بالنسبة للأولى، و من الواضح أنّ قيمة المقدّمة بقيمة ذي المقدمة، ولا يمكن استبدال هذا بتلك، و بعبارة آخرى: فإنّ غرائز الشعبة الأولى ليست لها أية حاكمية

ص: 123

بالنسبة لغرائز الشعبة الثانية وإنّما لكلّ منها حركة خاصة بها، إلاّ أنّ غرائز طلب الكمال ناظرة وحاكمة على سائر الغرائز ذلك لأن مقتضاها تعبئه كلّ الطاقات في سبيل التكامل، عليه فيحب أن نعدّها حاكمة - عملاً - ونجعلها معياراً لتحديد و توجيه سائر المتطلّبات و من البحوث السابقة عرفنا أنّ الكمال النهائيّ للإنسان والّذي يجب أن تعبأكل الطاقات للوصول إليه هو القرب إلى اللّه تعالى:

«وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنتهى».

النتيجة النهائية:

علمنا أنّ الإنسان يجب أن لا يكون مجرد متفرّج في قبال العوامل الطبيعية والاجتماعية والتضاد بينها، وإنما عليه أن يمتلك دور الموجه المستفيد من القوى الإنسانيّة الخاصّة و أن يقوم عبر نشاطاته الإرادية الواعية بتحر یک کلّ الطاقات في المسير الصحيح وتوجيهها نحو الهدف الأصلي والكمال النهائيّ.

ولا شك فى أن أحد هذه الطاقات الإنسانيّة الّتي يمكنها أن تعود الإنسان لتحقق هذا السعي الموجه هو القوة العقليّة، واتقويتها الأثر الهام في السير التكاملي للإنسان، و حتى أن سقراط اعتبر أصل الفضيلة هو العقل والعلم والحكمة (طبق التعبيرات المختلفة - المنقولة عنه) إلاّ أن أرسطو أشكل عليه بأنّ الإنسان الّذي يمتلك علماً و حكمة ولا يعمل بهما ليس واجداً للفضائل الأخلاقية ولذا لا يمكن اعتبارهما أصل كلّ الفضائل.

ص: 124

و نحن مع قبولنا لهذا الإشكال نضيف بأنّ عمل القوى الإدراكيّة ليس البعث والتحریک بل وحتى الهدايات الإلهية السماوية والأنوار فوق العقليّة أيضاً لا تستطيع بنفسها أن تحرّك الإرادة ولا يمكنها أن تضمن وصول الإنسان الى الكمال المطلوب.

«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفْعَنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواه... سورة الأعراف الآية 175 و 176.

والشرط الكافي للسعادة هو سيطرة المتطلّبات السامية والعبودية للّه وتقهقر النزعات المنحطة النفسية والشيطانية، ولكنا نؤكد في نفس الوقت أنّ القوة الإنسانيّة المفكرة لها دورها المهمّ جداً في توجيه الإرادة وإنّ هذه القوة هي نفسها الّتي تساعدنا في تهيئة مقدّمات الإختيار والتنظيم والتوجيه لها، و هذه البحوث هي نماذج من آثارها. وعلى هذا يجب علينا دائماً أن نشخص سبيلنا في ظلّ هدايات العقل ونهيء أنفسنا لتقبل الأنوار الإلهيّة.

إنّ قوّة العقل لها أهمية كبرى لتشخيص الهدف و معرفة المسير الأصلي إلا أنها لا تكفى لمعرفة جزئيات الطريق والطروح الدقيقة و من هنا نحتاج إلى الوحي والإستعانة بنظمه الشاملة.

فتقوية التصوّر الديني توسعة الوعي النابع من المنابع الدينيّة الأصيلة أمر ضروري جداً كما أنّ تقوية الإدراك الفطري بواسطة التوجهات القلبيّة والتمرّس في مجال تركيزها عبر الأشكال المختلفة للعبادات، عامل مهم جداً بل هو أشدّ العوامل تأثيراً وأصالة لتحقيق التكامل الحقيقي، و من الواضح أنّ معرفة

ص: 125

هذه الحقائق كلّها إنّما كانت ببركة العقل والتفكير العقلانيّ.

إلّا أن المهم في القسم الأخير من هذا البحث هو أن نعلم كيف نوفّر المقدمات لإثارة المتطلبات الإنسانيّة الساميّة والميل للوصول إلى مقام القرب الإلهي وكيف نقوّي هذه المتطلبات والميول ونغلبها على غيرها.

ولقد سلف منا القول أنّ توعية ميل ما وإثارته قديتم أحياناً اثر بعض التفاعلات الداخلية للبدن كما قد يتم على أثر التماس مع المواد الخارجيّة، كما قد يتم ثالثة نتيجة النشاطات النفسيه التى تتحرّك هي بدورها بواسطة المحرّكات الخارجيّة، وإنّنا نجد الغرائز من شعبة حفظ الوجود تثار عادةً بواسطة العاملين الأولين، أما حكمة كون إثارتهما غير منوطة بالفعاليات الشعوريّة للإنسان فتكمن في أنّ الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للإنسان في هذا العالم منوطة مباشرة بفاعلية هذه الغرائز، فإذا كان عملها منوطاً بارادة الإنسان واختياره فقد تتعطل على أثر غفلته أو أفكاره المغلوطة، وحينئذ تنعدم الأرضيّة المساعدة للسير التكاملي، ولكنه بعد توفّر الارضيّه التكاملية المساعدة يصل الدور للنشاط الإرادي الإنساني باتجاه الكمال، ولأنّ التكامل الحقيقي للإنسان إرادي فكلّما كانت دائرة الإختيار الحر أوسع كان إمكان التكامل الإرادي أشد وأكثر و من هنا فإنّ الشعبة الثانية من الغرائز وحتى إيقاظها وتعيين مسيرة إشباعها أوكلت إلى الإنسان إلى حد كبير لكى يوفّر المقدمات اللازمه لتحقيق النتائج التكاملية.

فعندما تصبح حاجة مّا فعلية في الإنسان و تشبع هذه

ص: 126

الحاجة و تحصل لذّة أو يرتفع ألم تحصل النفس على توجّه أكثر إليها، و في المرحلة الثانية تظهر تلك الحاجة بشكل أشد إلحاحاً و هكذا وعلى أثر التكرار تأنس لها النفس وتتعلّق بالموضوع الخارجي الّذي يتعلق به الفعل ويشكل بنحوما وسيلة لإشباع تلك الحاجة، وفي مثل هذه الحالة نقول إننا نحب الفعل الفلاني أوالشيء الفلاني أو الشخص الفلانيّ، و لازم حبنا توجه النفس المستمر للمحبوب والقيام بالأعمال المتناسبة معه، فإذا شئنا أن نمنح سيرنا الجهة الخاصة و نعبي كلّ قوانا في سبيل الوصول الى هدف معيّن كان علينا أن نسعى لتحقيق استمرارية توجّه النفس للهدف وجهته و أنسهابه والتمركز في خط واحد مشروط بعدم التوجه الى الجهة المخالفة وعدم الإلتفات إلى أيّ مطلب آخر إستقلالاً، بل تسخّر كلّ الغرائز كخادمة لتحقيق الميل العالي والمتطلّب للكمال و يجعل إشباعها يتبع إشباع هذا الميل العاليّ، والتوفيق في هذا العمل رهين الرنامج العملي المشتمل على السعي الإيجابيّ والسلبيّ المعين في مجال تقوية الميل نحو الكمال وعبادة اللّه وأهمّ المواد الإيجابيّة في هذا البرنامج هي كمايلي:

1- العبادة، وخصوصاً الصلوات الواجبة و أداؤها في وقتها مع حضور قلبى و إخلاص كامل

«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الّذينَ هُمْ فى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ» (1).

وعند الإمكان يجب أن نخصص مقداراً من أوقاتنا للتوجه القلبيّ،

ص: 127


1- المؤمنون: الآية 2.

و ذلك في وقت ومكان مناسبين.

«وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً» (1).

وإدامة هذا العمل توجب أنس القلب باللّه و ذوق لذة المناجات معه وعدم الإهتمام باللذائذ الماديّة، و يجب أن لاننسى الإنفاق والإيثار و هما أفضل الوسائل للإعراض عن اللذائذ الدنيوية والزهد فيها و تطهير النفس من درن الدنيا.

«وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفسَهُ فَأُولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُون» (2).

«لَنْ تَنالُوا البَرَ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تَحِبُّونَ» (3).

«خُذ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهَرُهُمْ وَتُزّكَيِهِم بها » (4).

إن الصلاة والإنفاق يكمل بعضهما البعض الآخر و ربما كان هذا هو سرّ تقارنهما الغالب في القرآن الكريم :

«وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَادُمتَ حَيّاً» (5).

2- ولنخصص كلّ يوم مقداراً من أوقاتنا للتفكير في صفات اللّه والآيات الإلهية و هدف الخلقة والنعم المتوالية اللانهائيّة له تعالى و كذلك في تشخيص السبيل الصحيح و طول المسير وقلة الوقت والطاقة و كثرة الموانع وسخف الأهداف الدنيوية المحدودة وكون لذائذها مشوبة و مسبوقة و ملحوقة بالآلام والمصائب، وكذلك فى كلّ الأشياء الّتي تشجع الإنسان في طيّ طريق العبوديّة وتمنعه من عبادة الذّات و الدنيا.

ص: 128


1- الأعراف : الآية 205.
2- الحشر : الآية 9.
3- آل عمران : الآية 92.
4- التوبة : الآية 103.
5- مريم : الآية 31.

«إنّ فِي ذَلِك لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ»(1).

3- وليكن لنا برنامج يومي لقراءة القرآن الكريم بتوجّه و تدبّر وإمعان، و مطالعة الروايات والمواعظ والكلمات الملأى بالحكمة والأحكام الفقهيّة والتعليمات الأخلاقيّة ليبقى الهدف و سبيله الصحيح ما ثلاً في أعماقنا ولتتم توعية حسن طلب الكمال وتذكيره دائماً.

«وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر» (2).

أمّا المواد السلبية في هذا البرنامج الحياتيّ فأهمّها مايلي:

1- عدم الإسراف في إشباع اللذائذ الماديّة الّتي توجب أنس النفس باللذات الحيوانيّة وإنما نسعى لكي يكون الداعي إلى الإستفادة من النعم الدنيويّة هو تهيئة المقدّمات للسير أي السلامة والقوة والنشاط البدني للعبادة والشكر، و يشكل الصّوم و عد الشبع في الأكل وقلّة الكلام وقلّة النوم مع رعاية الإعتدال و حفظ السلامة أجزاء لهذه المادة.

«وَالّذينَ هُمْ عَن اللغو مُعْرِضُونَ» (3).

«وَاَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» (4).

2- السيطرة على القوى الحسيّة والخياليّة الّتي يمكنها أن تكون بالتداعي منشأللميول الحيوانيّة، خصوصاً منع العين والأذن من رؤية المناظر الشهوانية وسماع الأصوات الباطلة

ص: 129


1- الرعد: الآية 3.
2- القمر: الآية 17 - 22 - 32 - 40.
3- المؤمنون: الآية 3.
4- البقرة: الآية 184.

الملهية وبشكل عام صرف النظر عن كلّ ما لا يرضى به اللّه.

«إِنَّ السَمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كلّ أُولَتْكَ كَانَ عَنْهُ مَسؤولاً» (1).

3- الإحتفاظ بالتفكير عن مهاوي الإنحراف الفكريّ، والإمتناع عن المطالعة والبحث في الشبهات الّتي لانقدر على الجواب عنها، وإذا ما طرحت لدينا مثل هذه الشبهات اوسمعناها وجب علينا السعي لتحصيل الجواب المقنع عنها.

«وقد نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِها وَيَسْتَهْزَ أَيْها فَلا تَفْعَدُوا مَعَهُم حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إذاً مِثْلَهُمْ إِنَّ اللّه جَامِعُ المُنافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهنَّم جَميعاً» (2).

«من أصغى الى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق يؤدّي عن اللّه فقد عبداللّه و إن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (3).

والنقطة الّتي يجب أن لا نغفلها عند تنظيم هذا البرنامج و تنفيذه هي رعاية أصل التدرّج والإعتدال بمعنى عدم تحميل أنفسنا مالا تتحمله من ضغط إذ أنّ ذلك بالإضافة إلى أنه يؤدي إلى العصيان وعدم الطاعة من قبل النفس يمكن أن يورد علينا أضراراً بدنية أوروحيّة لا تجبر، وعلى هذا فمن الحسن التشاور مع شخص واع خبير قابل للإعتماد في وضع مثل هذا البرنامج.

و كذلك من طرف آخر لا ينبغى التماهل والتساهل في

ص: 130


1- الاسراء : الآية 36.
2- النساء : الآية 140.
3- وسائل الشيعة أبواب صفات القاضي، باب (10ج 9 13).

إجراء البرنامج الدقيق والتماس الأعذار، ذلك لأنّ أثر هذا البرنامج إنّما يتوقّف على إستدامة تنفيذه وعلى أي حال يجب أن نتوكّل على اللّه ونلتمس منه العون والتوفيق والحمد للّه رب العالمين.

ص: 131

ص: 132

الفهرست

الموضوع / الصفحة

مقدمة الناشر...3

مقدمة...7

ضرورة معرفة الذّات...11

توضيحات ضرورية...13

الكمال...17

سلسلة الكمالات...19

بعض النتائج...20

الحركة الإستكمالية...22

الحركة العلمية وغير العلمية...23

الإدراك الغريزي وغير الغريزي...24

الحركة الإختيارية وغير الإختيارية...25

معرفة الكمال قبل الحصول عليه...26

هل يمكن معرفة الكمال...27

آراء الفلاسفة حول كمال الإنسان...30

الميول الفطريّة...33

الإدراك ومراتبه...34

القدرة ومظاهرها...38

اللذة والكمال...45

ذروة الميول وغاية الامال...51

ص: 133

الموضوع / الصفحة

الإمكان العقلي للإرتباط الواعي بالخالق...59

البسط السيل...62

الإستنتاج من البحوث الماضية...75

الجواب على بعض التساؤلات...78

القرب الالهي...82

سبيل التقرب...85

حقيقة العبادة...91

دور العلم في تحقيق التكامل...95

العلاقة بين العلم والإيمان والعمل...100

تدبير الارادة...105

جهاز الإدراك...106

جهاز الإرادة...110

علاقة جهاز الإدراك بجهاز الإرادة...112

دور الميل والرغبة في الإدراك...115

الارادة والإختيار...119

النتيجة النهائية...124

ص: 134

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.