الإمام المهدي والقرآن الكريم إشكالية ليلة القدر

هوية الكتاب

الإمام المهدي والقرآن الكريم إشكالية ليلة القدر

نزيه محيى الدين

تجريبية الخاصة

نزيه محيي الدين

طبعة تجريبية خاصة

محرر الرقمي: محمد مبين روزبهاني

ص: 1

اشارة

ص: 2

الإمام المهدي والقرآن الكريم

إشكالية ليلة القدر

نزيه محيي الدين

طبعة تجريبية خاصة

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

المقدمة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في شهر حزيران ، من سنة 1994 ميلادية (محرم 1415 ه_) دار بيني وبين من التبس عليه الحق ، حوار حول مسائل خلافية مشهورة ، وبعد ان طال بنا التحاور ، قفز محاوري فجأة ؛ ليقول : إن أهم خرافة مضرة بالإسلام هي : فكرة المهدي عند الشيعة ، وهذا - للأسف - ديدن محاورينا ، حيث لا يثبتون على موضوع واحد في محاوراتهم ، ويقفزون على الاستحقاقات الدينية والعقلية ، بسيل من التهم التي لا يريدون سماع الجواب عنها ، وحل ما التبس منها.

حين وصل صاحبي إلى هذه النقطة ، التي لم تكن ضمن محل خلافنا ، وإنما هي طريق للهروب من البحث الذي دار بيننا طويلا :

قلت له : لا بأس ان نبحث الموضوع من جوانبه الإسلامية المعروفة ، باستخدام أدلة النقل والعقل ، وبدأت أشير له بأن فكرة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ليست فكرة شيعية حسب ، وإنما هي فكرة الله الهم إسلامية عميقة ، ركزها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد طالبته بتحد ان ينفي عنها ان تكون فكرة ثابتة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فقال : ان منهجه لا يسمح له بقبول الحديث والتأريخ ، وفق سياقات، المحدثين ، وإنما يرى : ان كل فكرة نسبت لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إذا كانت غير مقبولة في عقله ، فهي مرفوضة ، حتى لو اجمع عليها المتمذهبون .

فقلت له : هذا قفز آخر ؛ لأنه مبنى يحتاج إلى تمحيص، خاصة في تقرير أحكام العقل ، وما يؤخذ منها ، وما لا يؤخذ ، فكلمة (غير مقبولة عقلا) يجب تحديدها ، فإن طول عمر نوح ، ونجاة

ص: 9

إبراهيم من النار ، تعتبر غير مقبولة عقلا ، بحسب المنهج التجريبي ، واختفاء النبي محمد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) كذلك في هجرته . هذه كلها غير مقبولة ، ويجب رفضها وإن صح النقل فيها !! .

نحن نتفق في الكثير من طرق معالجة التعارض في الأحاديث ، والتي منها العرض على كتاب الله والعقل، فلا بد من الموافقة مع العقل ، ولكن المشكلة في الطريقة ، والمضمون الذي ستعالجه ، وفي معايير العقل والنقل ، فهذا أمر في غاية الدقة ، ومعالجة أحاديث الإمام المهدي (علیه السّلام)- الثابتة بالطرق الصحيحة عند جميع المسلمين ، على نحو الإجمال – ليست من مسائل العقل المجرد ، وكلها مما لا يساعدك العقل على إثبات مدعاك .

ومرة أخرى عاد إلى اللف والدوران ، فقال : إذن دعنا من السنة ، ومن العقل ، ولنتفق على شيء واحد ، وهو القرآن الكريم ، فأين فكرة المهدي (الإمام الملهم المستمر الوجود) في القرآن ؟

هنا فكرت بسرعة كبيرة ، وحضر في ذهني الجواب فورا . ولكن ، وجدت نفسي أمام متلوّن متمذهب ، يحاول ان يصوّر ان الحقيقة هي ما توصل إليه تفكيره فقط ، وإن كانت بطريق غير علمي ، فلا يمكن التفاهم معه ، ما لم يكن هنالك مقدمات تثبت المطلوب ، بشكل لا جدال فيه.

فقلت له : سآتيك بالجواب بعد أسبوع مكتوبا في رسالة موجهة إليك .

وفعلا - بعد ثلاثة أيام أو أكثر قليلا - أتيته(1) برسالة من (54) صفحة ، من القطع الطباعي العادي ، وهي بحدود (90) صفحة من صفحات القطع الوزيري ، وقد أسميتها : (إشكالية ليلة

ص: 10


1- بعد أسبوع من تسليمه البحث زرته لمعرفة جوابه ، فوجدته لا يروم الكلام حول الموضوع ، واعتبره غير مهم في نظره ، وأنه لم يكن إشكالا مهماً في الأساس!! (بينما كان يعتبره أهم إشكال عنده !) واخذ يستعمل ساليب تخريب العلاقات بقلة اللياقة ، والتهجم على أئمة أهل البيت عليهم السلام بطرق غريبة ، وهذا ديدن كل من انغمس في الباطل والهوى ، ولا يعرف تقوى الله . ونفى أن يؤمن باستمرار ليلة القدر ، وحين ناقشته وذكرته بما ورد من بحث في الموضوع ، غير موضوعه وإشكاله باتجاه آخر تماما ، يتعلق بالحركات السياسية الإسلامية الحالية ، وما يصلح منها ، وما لا يصلح .

القدر)(1) حيث كانت ملابسات فكرة ليلة القدر في القرآن ، مشكلة جدا - حين نعطل نتائجها - فهي : إما ان تكون فكرة خيالية ، فاقدة للمعنى ، وهذا طعن بالقرآن ؛ أو تكون ذات معنى ، وجدوى حقيقية ، تصلح للتطبيق الواقعي .

وهنا تبرز الإشكالية حين لا نعترف بفكرة المهدي (علیه السّلام)، كما يؤمن بها شيعة أهل البيت عليهم السلام .

فيدور أمر المنكر للمهدي (علیه السّلام) بين إبطال القرآن ، أو الإذعان بفكرة المهدي ، كما يؤمن بها شيعة آل بيت المصطفى عليهم السلام .

وهذا يعني : ان القرآن قد عالج فكرة الإمام المهدي (علیه السّلام) من زاوية خطيرة جدا، وهي استمرار الرسالة الإلهية ، واستمرار خبر السماء ، بعيدا عن استئناف النبوة - فهذا أمر منفصل -.

وهذه النتيجة مما لا يكاد ان يصدق بها العقل السطحي التجريبي ؛ لأن العقل العلمي حين يثبت له صحة خبر الله عن شيء ، يقف مؤمناً مصدقاً ؛ لعدم قدرته على معالجة ما وراء مداركه . بخلاف العقل السطحي فانه لا يقبل الإيمان بما وراء المحسوس إلا إذا أقهر على ذلك ، فعندها يقول : انه يسلم بذلك حتى لو لم يتعقله ، ليس من باب الإيمان بل من باب التصديق الحسي ؛ لدليل حسي قهري - وهو النص ، أو الاعتقاد المذهبي الجماعي

ص: 11


1- الإشكالية اعقد من المشكلة ؛ لأن المشكلة عبارة عن : أمر عويص يواجهه الإنسان ويحاول حله . أما الإشكالية فهي تدور حول مشاركات إنسانية فكرية متعددة الجوانب ، مع وجود نقطة أو نقاط تمنع الفكر من الاستمرار لغاية الشوط ، باعتبارها عثرة حقيقية لا يمكن تخطيها إلا بتغيير المنهج ، مع إن تغيير المنهج هو أبعد شيء يتصوره المتمسك برأيه . وهذا ما نقصده من الإشكالية هنا . وليس لي دخل بأكاذيب مدعي الحداثة الرجوعيين إلى عصر الغابة ، وأكاذيبها المفضوحة . حيث يدعون أن الإشكالية تكون بين طرفين ، والمشكلة مع طرف واحد ، وهذا لا أصل له مطلقا ، واختياري لهذا المعنى من الإشكالية ، إنما هو استئناس بجملة دراسات عبرت عن نقاط العثرات في الفكر بالإشكالية ، فاعتمدت هذا المعنى ، وإلا فإن اللغة غير مفيدة في هذا الجانب أيضا ، فهو مصطلح يدور مدار الجعل ، وأنا اخبر قرائي بأني استخدم هذه اللفظة بهذا المعنى ، وأكتفي بهذا القدر .

حين كتبت الموضوع لم يكن بين يدي إلا أربعة مصادر تفسيرية هي : تفسير الميزان للطباطبائي ، وتفسير الكشاف للزمخشري ، ومختصر تفسير ابن كثير للصابوني ، وتفسير الجلالين للمحلي والسيوطي ، ومن كتب اللغة لم يكن بين يدي إلا كتاب مختار الصحاح للرازي ، وقد اكتفيت بهذه التشكيلة من الكتب حينها ، وإن كانت صغيرة ؛ لأن المطلوب هو الرد السريع . وهكذا كان .

والحقيقة إنني كنت اعلم ان مثل هذه الفكرة مطروحة من قبل أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)، وفيها أحاديث كثيرة ، غير ان مشكلة السند ، والتعليقات الرجالية التي دمرت هذه الأحاديث ، وقالت عنها : ان عليها مخايل الدس والوضع ، منعتني ان أفكر في طرحها ، ولهذا لم اعتمد على كتب الأحاديث خلال الأيام الثلاثة التي كتبت فيها الرسالة.

في هذه السنة - 1427 هجرية / 2006 ميلادية - طلب مني الأستاذ الفاضل السيد محمد نجل المرحوم المبرور الشهيد والد الشهداء الأربعة السيد حسن القبانجي – رحمه الله – إعادة النظر في الرسالة ، وطبعها ضمن نشاط مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فوجدت طلبه ملزما ، ورأيه – حفظه الله - راجحاً ، وهو عمل أرجو ان أقبل به عند سادتي الكرام عليهم صلوات الله وسلامه .

وقد قمت بإعادة صياغة بعض الفقرات، وتزويد البحث بالمصادر المتنوعة ، والنصوص الإضافية المناسبة ، وإضافة فصول مهمة لتركيز الفكرة. وقد أعدت قراءة كتب الأحاديث ، والاستفادة مما طرحه أهل البيت (علیهم السّلام)، وكلامهم الذي هو في غاية الدقة والأهمية في هذا الموضوع . لا باعتبارهم أئمة في نظري - فهذا دور واضح لا يُثبت مطلوبه هنا - وإنما من أجل كونها تنبيهات عقلائية للإشكالية ، ومتطلباتها ، واستحقاقاتها ، التي تُثبت متعلقها ، رغم كل التواء في الفهم والتفسير .

ولا بد من توضيح أمر مهم جدا ، وهو ان النتيجة لا بد ان تكون بعد مقدمات سليمة ؛ ولهذا فإن نتيجة هذا البحث لا تكون إلا بمقدمات متسلسلة بتحقيق معاني وأفكار تتعلق بالموضوع ،

ص: 12

ولهذا فقد اخترت ان تكون المقدمات عبارة عن فقرات مستقلة - ابتداءً - وعنونتها ب_(الفقرات) ثم يصاغ الرابط بين كل هذه الفقرات ؛ لنصل إلى الإشكالية وإلزاماتها ، وتحقيق ما يتهرب منه السطحيون المنتسبون للإسلام ، أصحاب العقل التجريبي المادي . وذلك ؛ لأن إثبات الإشكالية يتوقف - أساساً - على معنى ليلة القدر ، وخصائصها ، واستمرارها ، وعلى ما ورد في صورتها من تنزل الملائكة على أولياء الله في الأرض ، واستمرار عملية التبليغ لاستمرار التعليل الذي ذكره الله تبارك وتعالى لليلة القدر ، وكون النازل من الأوامر يشمل التكوين والتشريع ، إلى آخر المقدمات المهمة التي تتوقف عليها الإشكالية .

ومثل هذه المقدمات تحتاج إلى أمرين أساسيين :

الأول : هو إلزام العقل التجريبي بالنتائج ، وحصره بزاوية كون الموضوع خارج حقل العقل السطحي والحسي .

والثاني : هو توضيح كل الملابسات ، ورد كل التشويشات والتشويهات ، التي لحقت بالموضوع ، سواء بشكل متعمد أو غير متعمد .

ولهذا فقد رتبت المقدمات على شكل فقرات ، في كل فقرة تبحث معلومة معينة ، لها علاقة بالموضوع ملتفتاً لمتطلب كل من الأمرين الأساسيين ، سواء كانت داخل النصوص القرآنية ككلمة : (من كل أمر) أو خارجها كوقت ليلة القدر ، وما شابه ذلك . وذلك للإلمام بكل جوانب الموضوع ، وإغلاق المنافذ التي يتهرب منها السطحيون والحسيون الذين يدعون الإسلام .

فعلى القاريء الكريم أن يكون صبورا ؛ ليصل إلى النتيجة من خلال مقدمات متسلسلة . قد تبدو مطولة لبعض القراء الكرام .

وقد كان ترتيب المقدمات بالشكل التالي :

1- ما هي الليلة المباركة ؟

2- ما هو نزول القرآن ؟ وكيف كان ؟

3- ما معنى : ﴿لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ ؟

ص: 13

4- ما معنى : ﴿يُفْرَقُ﴾ ؟

5- ما معنى : ﴿كُلُّ أَمْرٍ﴾ ؟

6- ما معنى : ﴿حكيم﴾؟

7- ما معنى : ﴿مِّنْ عندنا﴾ ؟

8- ما معنى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ ؟

9- هل ليلة القدر مستمرة في كل سنة ؟

10- ما معنى : التعليل في : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ ، ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ ، ﴿رَحْمَةً مِّن ربك﴾؟

ثم بعد هذه المقدمات ، ستتشكل الإشكالية بشكل طبيعي ، وكنتيجة حتمية لها ، وبعد ذلك نعالج الأساليب التميعية لتشويه الفكرة ، وبيان طرق التوائها .

والإشكالية هي : إن هذه المقدمات تثبت أن هناك نزولا سنويا على شخص في الأرض، يُعلمه الله بواسطة ملائكته ، كل ما يتعلق بالناس من علوم ، تتعلق بالتكليف ، أو التكوين ، وهذا الرجل هو من عباد الله المخصوصين.

فأما أن يكون موجودا ؛ فتكون كل المقدمات والنتيجة ، واقعة ، وأما أن يكون غير موجود ، فيكون الطرح القرآني لا واقع له . وهذا عدم صدق منطقي في النص مما يعني تفريغ القرآن من مصداقيته وموثوقيته .

وهنا لب الإشكالية وتمكنها .

ص: 14

الفصل الأول

اشارة

ومعادلتها العقلية

ص: 15

ص: 16

مقدمات الإشكالية

ص: 17

اشکالیة لیلة القدر ومعادلتها العقبة

ص: 18

تمهید ومقدمات علمية

تعرّض القرآن الكريم لذكر ليلة القدر ، باللفظ ، والمعنى ، في موضعين نتلوهما تبركاً واستذكاراً ، ثم نتناولهما شرحاً وتحقيقاً :

الأول : ما ورد في أول سورة الدخان معنى.

والثاني : ما ورد في سورة القدر لفظاً .

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم * أَمْراً مِّنْ عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ في شَكَ يَلْعَبُونَ﴾ [الدخان : 1 - 9] .

وقال تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْر * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أمر * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر : 1 - 5] .

ص: 19

وقد تعرض القرآن الكريم لنزول القرآن ، وتحديد الشهر الذي نزل فيه ، في هذه الآية من سورة البقرة :

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزلَ فيه القرآن هدى للنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان فَمَن شَهدَ منكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَان مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلتكملوا العدةَ وَلَتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة : 185]

ص: 20

الفقرة الأولى :

في معنى معنى الليلة المباركة

ص: 21

ص: 22

الفقرة الأولى

الليلة المباركة

أهمية هذه الفقرة :

وردت صفات ليلة القدر وخصائصها في الآيات الآنفة الذكر من سورة الدخان ، ولكن ليس باسم (ليلة القدر) وإنما باسم (الليلة المباركة) ولذا نحتاج إلى مقدمة أولية لإثبات التطابق بين ليلة القدر ، وبين الليلة المباركة ؛ لما لذلك من الأهمية في جميع التطبيقات ؛ حتى يستقيم البحث في ليلة القدر ، بناءً على معطيات آيات سورة الدخان :

ما هي الليلة المباركة :

حين نجمع جملة من النصوص القرآنية ، تتبين لنا هوية الليلة المباركة ، وأنها ليلة القدر في شهر رمضان المبارك . وهذه النصوص هي : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ ، ﴿إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ ، ﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزلَ فيه القرآن﴾.

إن الجمع بين هذه النصوص يدل على ان الليلة المباركة هي ليلة القدر ، وهي في شهر رمضان ، بدلالة التنزيل المشترك فيها بالنسبة للقرآن ، ولعل هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى بيان بالنسبة لأي مسلم يلم بآيات الله ، ولكن مولى عبد الله بن عباس (رحمه الله علیه) ، الخارجي (عكرمة الناصبي) شوش على هذه الوحدة الموضوعية ، فادعى : إنها ليلة النصف من شعبان ؛ ليشوش على وحدة الخطاب القرآني ، وعلى دراسة خصائص هذه الليلة دراسة متكاملة . فذهب المفسرون بين ناقد ، وبين من يحاول ان يجعل هذه الدعوى مقبولة ؛ لجهات عديدة . كما فعل الزمخشري حيث لم يستبعد هذا القول ، وأضاف روايات تعدد جهات البركة في ليلة النصف من شعبان ، ولكنه بعد

ص: 23

ذلك ، قال : «والقول الأكثر ان المراد بالليلة المباركة ليلة القدر»(1) وكان الأجدر به ان يقدم هذا القول كقول مشوش ، وليس كقول له وجاهة ، يحاول دعمه بمختلف نصوص الاهتمام بليلة النصف من شعبان ، وبركتها ، وأهميتها .

ولا نعرف سبباً للالتفات إلى رأي يناقض كتاب الله ، وهو بعيد عنه كل البعد!.(2)

ص: 24


1- الكشاف : 3 : 499 ، وما بعدها .
2- من الغريب أنهم يصفون (عكرمة) بأوصاف عجيبة في البعد عن الدين والقيم الأخلاقية ، ثم يبجّلونه ، ويأخذون عنه الحديث ، بل يعتمدون ما هو موقوف عليه في الصحاح - وهذه طامة كبرى - ولو كان عكرمة خارجا وكذابا فقط ؛ لتساهلنا بشأنه، وقلنا إن من يأخذ الموقوف عليه ، قد يكون له عذر وشبهة مصححة ، ونصدق توثيقهم له وتكريمهم لعلمه ، فما أكثر الرواة من الخوارج والكذابين ، المعتمدين عندهم . ولكن الذهبي وغيره يحدثونا عن شيء يشبه الخيال ، من فسقه ، وانكشاف عدم تدينه ، مما يوحي بكفره النفسي الداخلي في الدين ، وعدم اكتراثه بالله ورسالته ، ومقالاته تشبه مقالات ابن أبي العوجاء ، وجماعته من الزنادقة ، الذين يشككون بالإسلام، ويكيدون له . فهو يستهزيء بالمسلمين وبالإسلام ، ولا يعتني بنواهيه ، ويجاهر بها ، بمقولات تدل على انه لا يؤمن بالإسلام، هي مقولات الزنادقة والمشككين في ذلك الوقت وهم أصحاب الحركة المعادية للإسلام من داخل الجسد الإسلامي ، وقد اجمع النقاد على خطورة هذه الحركة النفاقية، التي تحاول تهديم البناء الديني القويم من الداخل . وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد حذر حركات الزندقة التشكيكية في الدين ، فقد نقل السيوطي عن خطر الزنادقة على أمة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : وأخرج البخاري في تاريخه : عن ابن مسعود ، قال : بعث الله نوحا فما أهلك أمته إلا الزنادقة ، ثم نبي فنبي ، والله لا يهلك هذه الأمة إلا الزنادقة » (انتهى) . ومقولاتهم معروفة ومصنفة ، فلو نظرنا إلى مقولات (عكرمة) سنجدها هي نفسها مقولات الزنادقة ، وأفكارهم الهدامة ، ونفسيتهم المعادية . وإن بدت - ظاهرا - أنها مقالات الصفرية ، المكفرين لمخالفيهم ، كفران إسلام ، لا كفران إيمان أو نعمة . أي کفر دین ، ولا كفر ،مذهب ، ولكن مجموع ما صدر عنه ، وتصريحات من حوله ، تدل على انه لا يؤمن بالدين، وليس له علاقة به . فكيف يكون عنصر تفسير ونقل لجوهر الإسلام ؟ وهذه بعض المنقولات في هذا المعنى منقولة من كتابين هما الكامل في الضعفاء وميزان الاعتدال ، فليراجعا بدقة :

1 - كان لا يصلي بنظر أيوب : «أحمد بن أبي خيثمة ، قال : رأيت في كتاب علي بن المديني ، سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : حدثوني ، والله ، عن أيوب ، أنه ذكر له عكرمة لا يحسن الصلاة ، فقال أيوب : وكان يصلي ؟»

2 - يتمنى قتل حجاج بيت الله : «حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، عن خالد بن أبي عمران ، قال : كنا بالمغرب ، وعندنا عكرمة في وقت الموسم ، فقال : وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموس يمينا وشمالا» . وهذا يذكرنا بموقف ابن أبي العوجاء وجماعته من حجيج بيت الله.

3 - يكفّر عباد الرحمن في المساجد : «ابن المديني ، عن يعقوب الحضرمي ، عن جده ، قال : وقف عكرمة على باب المسجد ، فقال : ما فيه إلا كافر» .

4 - يلعب القمار : «قال : رأيت عكرمة ، قد أقيم قائما في لعب النرد» .

5 - يسمع الأغاني وينقد الجيد منها : «قدم عكرمة البصرة ، فأتاه أيوب ، ويونس وسليمان التيمي ، غناء . فقال : أسكتوا ، ثم قال : قاتله الله لقد أجاد» .

وقد قيل عنه أنه كذاب :

1 - «وعن ابن المسيب ، أنه قال لمولاه برد : لا تكذب عليّ ، كما كذب عكرمة على ابن عباس» .

2 - «حدثنا الصلت أبو شعيب قال : سألت محمد بن سيرين عن عكرمة ، فقال : ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة ، ولكنه كذاب».

3 - «إبراهيم بن ميسرة ، عن طاووس ، قال : لو أن عبد ابن عباس اتقى الله وكف من حديثه لشدت إليه المطايا» .

4 - «حدثنا وهيب ، قال : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب ، فذكرا عكرمة ، فقال يحيى : كذاب ، وقال أيوب : لم يكن بكذاب».

وقد تمنى ابن سيرين أن يميته الله : «حدثنا الصلت بن دينار ، قال : قلت لمحمد بن سيرين : إن عكرمة يؤذينا ويسمعنا ما نكره ؛ قال : فقال لي كلاما فيه : لئن أسأل الله أن يميته وأن يريحنا منه» .

وقد كان خارجيا وداعية إلى ذلك وهو أول من ادخل قول الصفرية إلى إفريقيا.

1 - «إنما أخذ أهل إفريقية رأي الصفرية من عكرمة لما قدم عليهم».

2 - «حدثنا علان الصيقل ، حدثنا بن أبي مريم ، حدثنا ، حدثنا بن لهيعة ، عن أبي الأسود ، قال : كنت

ص: 25

أول من سبب لعكرمة الخروج إلى المغرب ، وذاك أني قدمت من مصر إلى المدينة ، فلقيني عكرمة ، وسألني عن أهل المغرب ، فأخبرته بغفلتهم ، قال : فخرج إليهم ، فكان أول ما حدث فيهم رأي الصفرية» .

3 - «قال ابن المديني : كان يرى رأي نجدة الحروري ، وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج ، قال : وادعى على ابن عباس أنه كان يرى رأي الخوارج !!! . خالد بن نزار ، حدثنا عمر بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح : إن عكرمة كان أباضيا ، أبو طالب : سمعت أحمد بن حنبل ، يقول : كان عكرمة من أعلم الناس ولكنه كان يرى رأي الصفرية».

4 - «كان عكرمة يرى رأي الخوارج فطلبه متولي المدينة فتغيب ثم داود بن الحصين حتى مات عنده».

ووصف بأنه من مرتزقة السلاطين ، «كان يأتي الأمراء فيطلب جوائزهم» .

وقد احتقره الناس في موته :

فلم يشيعه أحد ، وشيعوا شاعرا مات في نفس اليوم . هل رأيتم عالما محترما يترك الناس تشيعه ، ويشيعون شاعرا غزليا ؟؟ .

1 - «حدثنا بن أبي داود ، حدثنا سليمان بن معبد ، حدثنا الأصمعي ، عن بن أبي الزناد قال : مات كثير وعكرمة مولى بن عباس في يوم واحد . الأصمعي : قال : فشهد الناس جنازة كثير ، وتركوا جنازة عكرمة»

2 - «وروی سلیمان بن معبد السنجي ، قال : مات عكرمة ، وكثير عزة في يوم ، فشهد الناس جنازة كثير وتركوا جنازة عكرمة» .

كل هذه المعلومات موجودة نصا في كتابين في باب ترجمة عكرمة هما : الكامل في ضعفاء الرجال : 5 : 266 ، وما بعدها ، ميزان الاعتدال في نقد الرجال : 5 : 116 ، وما بعدها.

فراجع تجد العجب ، من وصفين متضادين : ثقة عالم ، كذاب يقول بمقال الزنادقة !! .

وینبغي لمثل هذا أن لا تروى عنه رواية واحدة، بكل المقاييس حتى مقاييس الخوارج ، فإنه لا يشرفهم متزندق ينسب إليهم . ولكن ، يروى له في الصحاح ما هو موقوف عليه ، أي آراءه الشخصية ، وليس فقط الرواية عن غيره . و يكفى في أمره ثبوت كونه خارجيا صفر يا متهما بالكذب ، وليس بعد ذلك غاية .

ص: 26

وكما هو واضح من النصوص المختلفة ، بالإضافة إلى وجود خصوصيات تلك الليلة المشتركة أيضا ، والتي سنوضحها لاحقا مثل : (تنزل الملائكة فيها) (من كل أمر) و (فرق الأمر الحكيم) و (كونها مباركة من جهة ، وخير من ألف شهر من جهة ثانية) أنها ليلة متجددة في كل سنة في شهر رمضان عظيمة البركة ، وهل هناك ليلة أعظم بركة من ليلة هي خير من ألف شهر . فما أبعد عكرمة عن المعاني السمحة لكتاب الله !

وقد التفت ابن كثير إلى ذلك(1) فقال : «ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان ، كما روي عن عكرمة ، فقد ابعد النجعة ، فإن نص القرآن إنها في رمضان» (انتهى) . مشيرا إلى قوله تبارك وتعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فيه القرآن ...﴾.

ص: 27


1- تفسير ابن كثير : 4 : 148 . واستشهد ابن كثير برواية أخرى غير رواية عكرمة ، وهي : ما رواه عبد الله صالح (وضاع كذاب) عن الليث (بن سعد الأصبهاني ، مولى فهيم ، أموي الهوى ، مقرب من سلاطين بني العباس ، وثقوه وبجلوه واعتبروه إماما ، وكان ثريا جدا يرتب الأموال لفقهاء السلاطين ، ويعزل الولاة بكتاب منه) عن عقيل الزهري (مجهول ، والصحيح أنه عقيل بن خالد الأموي ، ولاءً ، الشرطي في المدينة ، كأن ابن حنبل لم يرتضه في العلل ، ووثقه الباقون ، وهو عن الزهري زعيم الشرطة عند بني أمية) أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس (قال ابن المديني : له مناكير ، وقال ابن حجر : له أوهام، ووثقه ابن معين ، وابن حبان) قال : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولد وقد خرج اسمه في الموتى» . وعلق عليه قائلا : «فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض النصوص» . وقال الشوكاني في فتح القدير : 4 : 572 : «وهذا مرسل لا تقوم به حجة ولا تعارض بمثله صرائح القرآن ، وما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح» . (انتهى). أقول : لا مانع من هذه الخصوصية لليلة النصف من شعبان ، وهي لا تعارض التفريق في ليلة القدر في شهر رمضان ، فلا يعني إن حصول هذه الخاصية وهي كتابة الآجال إنما هو تعيين لليلة القدر . فالرواية أجنبية تماما . ولا يستدل بها على كونها ليلة القدر . وأقول أيضا : حتى لو كان غير مرسل فهل يمكن أن يعارض القرآن ؟ ثم إن عبد الله بن صالح ، أبو صالح المصري المتوفى 223 ه_ ، كاتب الليث ، كذاب وضاع ، راجع : (تذكرة الموضوعات : 17 ، 20 ، 44 ، 112) فكيف يحتج به ؟ وعدم صحة اتصال هذا السند ، متسلسلا تسلسلا صحيحا ، واضح ؛ لعدم الربط بين عثمان بن محمد بن المغيرة ، وبين النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وينبغي أن يكون بينه ، وبين النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) واسطتان – على أقل تقدير – ولا بد من الواسطة بين عقيل بن خالد ، وبين عثمان بن محمد ، والواسطة هو ابن شهاب الزهري ، ولعل النص الأساسي هو : (عن عقيل ، عن الزهري ، عن عثمان ...) وقد حدث خطأ من النساخ ، فكتبوا : ( عن عقيل الزهري ) . والرواية يرويها كذاب وضاع ، عن تابع للسلطان ، عن شرطي أموي ، عن رئيس في شرطة بني أمية ، عن صاحب أوهام ومناكير ، مرسلا ، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكفى بهذا السند وضاءة ونصاعة !!! . ومتن الحديث لا دلالة فيه على أن الليلة المباركة ، أو أن ليلة القدر ، كائنة في شعبان ، إذ لا مانع من تحديد الآجال في شعبان ، وفرقها في ليلة القدر ، فلا دلالة إذن في هذا الحديث على كون ليلة قدر في النصف من شعبان .

إذن ، فإن دراسة هذه الليلة بتفاصيلها ، سيكون معتمداً على كلا النصين ، في سورة الدخان ، وسورة القدر ، واعتبار ما اشتركا فيه أمر مفروغ منه ، وما تفرد به نص دون نص فهو متم، وشارح لجوانب غير منظورة في النص الثاني ، وإن ما بينهما هو ما بين المجمل والمبين ، وإن كان الأولى التعبير بالتعاضد بين النصين في تحديد الهوية والمفهوم لهذه الليلة المباركة .

قال الطباطبائي رحمه الله : « قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان : 3] المراد بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن ليلة القدر ، على ما يدل عليه قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [ القدر : 1] . وكونها مباركة ؛ ظرفيتها للخير الكثير ، الذي ينبسط على الخلق من الرحمة الواسعة ، وقد قال تعالى : ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر : 2 - 3] . وظاهر اللفظ أنها إحدى الليالي التي تدور على الأرض»(1). (انتهى)

ص: 28


1- الميزان في تفسير القرآن : 18 : 130 .

الفقرة الثانية :

ما هو نزول القرآن ؟ وكيف كان ؟

ص: 29

ص: 30

الفقرة الثانية

هو نزول القرآن ؟ ما هو نزول الملائكة ؟ وكيف كان ؟

أهمية هذه الفقرة :

هذه الفقرة ، تحاول ان تصف كل ما قيل في موضوع كيفية ، وماهية نزول القرآن على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكيف نعالج النزول مرتين ، وفيها يتبين ان هناك خطأ في فهم الروايات والنصوص ، وخلطاً بين نزول الملائكة بالأمر سنويا وبين نزول القرآن على صدر النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وسيتضح الأقوال لا يمكنها ان تكون حائلا دون تشكل الإشكالية المرتكزة على نزول الملائكة جميع سنويا إلى الأرض لتبليغ أوامر الله . وان نقاش المفسرين يدور في موضوع نزول القرآن خاصة ، وهو خارج مورد الإشكالية ، وإن كان يساعد على تشكيل تصورات معينة عما قيل ، وما هو الأمثل في المقام ؟(1)

ما هو النزول ؟ :

قال السيد الطباطبائي : «والنزول هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الإنزال والتنزيل ، ان الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) باعتبار كونه مقروءا – كما قال تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 3] ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه» .

ص: 31


1- لا يعالج هذا الموضوع موضوعة النزول عرفانيا .

كيفية نزول القرآن :

ان النصوص القرآنية - هنا - تشير إلى نزوله دفعة واحدة ، بينما توجد نصوص قرآنية أخرى تشير إلى التدريج في النزول ، و مما يؤيده تواتر تاريخ نزول القرآن من كونه نزل تدريجا ، وقد أثار هذا المعنى بعض الإشكالات ، حيث انه من الناحية الفعلية التاريخية نزل متدرجا ، وكان نزوله حسب المناسبات والأسباب ، وهناك بعض الآيات تصرح بنزوله منجماً ، مثل قوله تعالى : ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لَتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاس عَلَى مُكث وَتَزَلْنَاهُ تَنزيلا﴾ [الإسراء : 106] وقوله تعالى : ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزَلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً واحدةً كَذَلكَ لَنَثَبِّت بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا﴾ [الفرقان : 32] ومما يشير إلى ذلك بطرف ، قوله تعالى : ﴿فَإِذَا أَنزَلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ [محمد : 20] وقوله تعالى : ﴿وَإِذَا مَا أَنزَلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ﴾ [التوبة : 127] حيث الإشارة إلى النزول التدريجي المفرّق .

فكيف نفهم النزول دفعة واحدة؟ والذي هو ظاهر النصوص الدالة على نزول القرآن كله ، مع وجود النصوص الدالة على كونه نزل تدريجا (منجما) .

وعلينا ان لا ننسى ان بعض المؤرخين أشار إلى ان أول نزول القرآن هو أول سورة العلق ، وأنها لم تنزل في رمضان قطعاً، ومال بعضهم إلى ان أول النزول كان بسورة الفاتحة ، من دون تحديد لوقت النزول ، وهذا يمنع قول من ذهب إلى ان نزوله هنا يعني ابتداء نزوله كما ذهب(1) فلو كان بداية النزول هو في ليلة القدر كما يقولون ، لكان هناك قول بنزول أول آية أو سورة في تلك الليلة ، ولكن لا يوجد مثل ذلك الادعاء . فلا قيمة لهذا الاحتمال مطلقاً لمخالفة صريح القرآن ، الدال على النزول دفعة ، وسندرسه ضمن دراسة الأقوال في التوافق بين القولين .

وقد قرر السيد الطباطبائي - رحمه الله - وجه الإشكال ، فلنتبرك ونذكره كما هو :

والمراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة ، على ما هو ظاهر قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة

ص: 32


1- الكشاف : 4 : 273 .

مُبَارَكَة﴾ [ الدخان : 3] وقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة القَدْرِ﴾ [ القدر : 1] وقوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة : 185] ان النازل هو القرآن كله . ولا يدفع ذلك قوله : ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لَتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثِ وَتَزَلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾ [الإسراء : 106) وقوله : ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً واحدةً كَذَلكَ لتُثبت به فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان : 32] الظاهرين في نزوله تدريجا ، ويؤيد ذلك آيات آخر ، كقوله : ﴿فَإذا أنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ [محمد : 20] وقوله : ﴿وَإِذَا مَا أَنزَلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ﴾ [ التوبة : 127] وغير ذلك ، ويؤيد ذلك – أيضا – ما لا يحصى من الأخبار المتضمنة لأسباب النزول . وذلك أنه يمكن ان يحمل على نزول القرآن مرتين : مرة مجموعا ، وجملة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان ، ومرة تدريجا ، ونجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة وهي مدة دعوته (صلی الله علیه و آله و سلم).

لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه ، ان هذا القرآن المؤلف من السور والآيات ، بما فيه من السياقات المختلفة ، المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية ، لا يقبل النزول دفعة ، فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية ، وحوادث جزئية ، مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص وأحوال خاصة ، لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - بحيث لو اجتمعت - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - انقلبت عن تلك الموارد، وصارت غيرها ، فلا يمكن احتمال نزول القرآن ، وهو على هيئته ، وحاله بعينها ، مرة جملة ومرة نجوما .

فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب ان يفرق بين المرتين بالإجمال والتفصيل فيكون نازلا مرة إجمالا ، ومرة تفصيلا ، ونعني بهذا الإجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله تعالى : ﴿الر كتاب أَحْكَمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكيم خَبير﴾ [ هود : 1 ] وقوله : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبَيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أم الكتاب لَدَيْنَا لَعَلي حَكيمٌ﴾ [الزخرف : 3 - 4] . وقد مر الكلام في معنى الإحكام والتفصيل في تفسير سورتي هود والزخرف».(1)

ص: 33


1- الميزان : 18 : 130 .

انتهى تقرير السيد الطباطبائي لوجه الإشكال في الموضوع وأجوبته السريعة.

ولا بد - والحال هذه - من بيان أمر مهم ، وهو وجود خلط واضح بين نزول القرآن – الذي هو ظرف خاص ، وله مدة محددة - وبين نزول الملائكة سنويا ، ودوريا لتبليغ أوامر الله . ومن دون التفريق بين الأمرين ، تختلط المعاني بشكل لا يمكن الوصول معه للحقيقة ، بل تبدو النصوص متضاربة . وهذا ما سنحاول تبسيطه وتسليط الضوء عليه.

- وهنا بعد كل ما تقدم - نصل إلى السؤال القائل : ما هو سبيل التوفيق بين النصين الثابتين المتعارضين في القرآن الكريم ؟ أي بين نزوله كاملاً وبين نزوله تدريجياً .

لقد سلك المفسرون عدة طرق(1)؛ للتوفيق بين القولين وفك التعارض ، أذكر منها :

أولا : نزول القرآن الإجمالي ، ثم نزوله التفصيلي :

أورد هذا الفرض السيد الطباطبائي - رحمه الله - بنص صريح ، ولكن علينا ان نفهم كيفية اختياره لهذا المعنى .

ويمكن معرفة ذلك من مسيرة معرفة الفروض المحتملة التي طرحها . وهي : أنه حينما ذكر

ص: 34


1- لا بد من ذكر حقيقة تتعلق بالتفسير عند المسلمين ، وهي إن التفسير في حقيقته عبارة عن اجتهادات شخصية في الغالب ، وهو غير مسند لمعصوم - إلا ما ندر - بل نجد حالة غريبة عند المفسرين ، وهي أنهم لا يلتزمون قول المعصوم ، ويعتبرونه مجرد قول من الأقوال ، وهذا منهج غريب يجب التوقف عنده للدراسة . كما توجد ظاهرة ثانية ، وهي ظاهرة التقليد ، ونقل اللاحق عن السابق ، من دون تثبت - إلا نادرا - . وقد نجد مشكلة أخرى ، وهي إن المفسر قد ينقل عن سابقه ، نقلا غير دقيق في المعنى ، بحيث لا يتطابق مع السابق ، ويتحول تدريجيا إلى رأي له ، وهو غير قاصد لذلك . وكل هذه الملاحظات ، سيلمسها القاريء الكريم حين يتابع الأقوال وأنواعها في التفاسير ، فسيجد إنها اجتهادات عجيبة ، ويجد إن اغلب الأقوال عبارة عن تقليد ونقل عن السابق ، وسيجد إن بعض الأقوال قريبة جدا من بعضها ، وإنما عدم الدقة في النقل هو الذي يجعلها أقوالا مخالفة ، من دون أن يدرك المفسر ذلك ، ولكن ، لا يمكن أن نضعها في نفس الاتجاه ؛ لوجود خصيصة فيها ، تجعلها مختلفة .

النزول مرتين ، مرة مجموعاً جملة ، ومرة نجوماً ، ثم أشكل على هذا القول ، وحاول تعديله ، بالفرق بين النزول الإجمالي ، والنزول التفصيلي ، قال - رحمه الله - مستدركاً : «يمكن ان يحمل على نزول القرآن مرتين ، مرة مجموعاً وجملة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان ، ومرة تدريجياً ونجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة وهي مدة دعوته (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)». (انتهى) .

- وهنا - أشكل على هذا الاحتمال وحاول تهذيبه ، فقال : « لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه ، ان هذا القرآن المؤلف من السور والآيات، بما فيه من السياقات المختلفة ، المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية ، لا يقبل النزول دفعة ، فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية ، وحوادث جزئية ، مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص وأحوال خاصة ، لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - بحيث لو اجتمعت - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - انقلبت عن تلك الموارد ، وصارت غيرها ، فلا يمكن احتمال نزول القرآن ، وهو على هيئته، وحاله بعينها ، مرة جملة ومرة نجوما(2)». (انتهى) .

ثم حاول توجيه هذا الاحتمال - بوجه لا يرد عليه الإشكال المذكور – فقال : «فلو قيل بنزوله مرتين ، كان من الواجب ان يفرق بين المرتين بالإجمال والتفصيل، فيكون نازلاً مرة إجمالاً ، ومرة تفصيلا ، ونعني بهذا الإجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله تعالى : ﴿كتَابٌ أَحْكَمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبير﴾ [هود : 1](3)» . (انتهى) .

ص: 35


1- الميزان : 18 : 133 . وفي هذا القول عدم تحديد ، حيث لم يبين من هو النازل عليه (القرآن المجموع) النازل جملة واحدة ، ولكن من خلال الإشكال الذي أورده يشير إلى أن النازل عليه هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه ، وقد صرح بذلك في سورة القدر ، فقد قال : «فمدلول الآيات : إن للقرآن نزولا جمليا على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، غير نزوله التدريجي الذي تم في مدة ثلاث وعشرين سنة . فيحمل هذا المبين على ذلك المجمل ؛ ليستقيم الفهم» . الميزان : 20 : 330 .
2- المیزان : 18 : 133
3- الميزان : 18 : 133 . اعتبر هذه الآية مطابقة لقوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] وهي عنده بعيدة عن التنجيم كما ذكر .

وقد أحال إلى معنى الإحكام والتفصيل ، الذي حققه في سورتي هود والزخرف ، والإحكام عنده الإبهام(1).

أقول : ان الإشكال الذي أورده العلامة الطباطبائي ، يرد على سائر صور القول بنزوله مرتين - إذا سلّم بذلك ، ولكن سيتضح أمره - سواء ما نحن فيه من الفرض ، وهو نزوله مرتين على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو نزوله مرتين ، مرة إلى السماء الدنيا ، ومرة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو نزوله مرتين ، مرة إلى أهل السماء الدنيا ، ومرة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). ففي كل هذه الفروض يرد إشكال التفصيلات المسببة لأسباب النزول من الوقائع المختلفة زماناً ومكاناً والإشكال مبني على جملة معارف تحتاج إلى دراسة مستفيضة منها :

الأول : معرفة ما هو القرآن ؟ وما المقصود منه ؟ وهل ان الذي نزل جملة ، هو نفسه الذي نزل تنجيماً ؟(2)

والثاني : طبيعة علاقة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بالله تبارك وتعالى ، أهي علاقة إنسان عادي بالله عبر وسيط ملائكي ، وليس للنبي محمد صلى الله علية وآله وسلم أية طاقات وقابليات تكوينية ، تؤهله

ص: 36


1- هناك تصريحان للسيد الطباطبائي . الأول : إن الإحكام هو الإبهام والإجمال . والثاني : هو إن الإحكام بمعنى الواحد الذي لا يتجزأ بنفسه ، وكأنه يقصد النوع الكلي بما هو كلي . قال : «فالإحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ، ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه» الميزان : 2 : 16 ، والمعنى الثاني : فرض فلسفي لا يشرح بدقة فرض المعنى الأول ، وهو الإبهام .
2- بحسب رأينا ، فإن الأمر غير محدد ، وإن القرآن صريح بأن كلام الله ، أكبر من هذا القرآن بكثير : ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مدَادًا لَكَلمَات رَبِّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْله مَدَدًا﴾ [الكهف : 109 ] ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحْرِ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان : 27] ﴿وَإِنَّهُ فِي أم الكتابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف : 4] وهذه الآيات المباركة ، تشير إلى وجود كتاب هو أصل هذا الكتاب وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر : 21] ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس : 12] .

لرسالة عالمية ، فيها عروج روحي وجسدي ، وإسراء روحي وجسدي ، بحيث تمكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى قاب قوسين أو أدنى ؟(1)

والثالث : معرفة ظاهرة الوحي ؟ وكيف تفسر من ناحية علمية وعملية ؟

إننا في نسياننا لهذه الحقائق - في معالجتنا لطبيعة التلقي للوحي - نكون قد قسنا الأفعال الإلهية ، وقسنا ظاهرة التميز والتفرد في بعض خلق الله ، بأفعال الإنسان العادي (رغم ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إنسان) - وهذا خروج كلي عن موضوع البحث - فهل يقبل ذلك عاقل ؟

فلا بد من مناقشة الفرض الذي طرحه العلامة الطباطبائي في اصل مبناه ، بامتناع المعرفة التفصيلية الله الموارد لم تقع بالزمان والمكان ، والرد هو : إن اختلاف موارد النزول لا تمنع علم الله السابق بها ، لوجود العلم التقديري والعلم بالغيب ، وإنشاء القرآن بموجب ذلك العلم التقديري ؛ وأما في العلم الشهودي فأن قضية الجهل منتفية أصلا ، بانتفاء الموضوع . فلا يصح نسبة الجهل إليه . وبهذا فلا يستدعي العلم بالأشياء قبل وقوعها الجبرية كما يتخيل الكثير من المتكلمين ، وإلا انقلب علمه جهلا كما يقولون، ويلزم من قولهم الشهير بطلان التكليف والعلم من أساسه فمشكلهم أوجد مشكلا اكبر واخطر ، وهذا البحث لا يليق بهذا الكتاب لأنه من مباحث علم الكلام العالية التي تحتاج إلى حوار طويل ومقدمات وبراهين قد تصل إلى كتاب من الحجم الكبير(2).

وعليه لا مانع من نزوله بكل التفاصيل قبل وقوعها مرة واحدة ، وهذا ما احتمله هو فيما بعد ، وسنعرض ذلك في تعداد الأقوال في هذا الموضوع .

وفي مقام محاولة تهذيب الفرض الأول ، بأنه ينبغي التفريق بن النزول الإجمالي والنزول التفصيلي ، فقد حاول التأييد ببعض النصوص القرآنية ، وقد قلت أن هذا المعنى يؤكد ما يشير إليه الكثير من المفسرين من ان النزول الأول كان لقرآن غير القرآن في النزول الثاني . وهو هنا من

ص: 37


1- الدنو القرب من حجاب النور أو من الجنة أو مما بعد سدرة المنتهى، راجع التفاسير.
2- عندي تجربة حوار حول هذا الموضوع ، وقد طال فوصل إلى ما يعادل 1700 صفحة .

حيث الإجمال والتفصيل . وهذا فيه نظر من جهة تعدد الكتاب . و كل ما طرحه من آيات لا تفيد الإجمال في النزول الأول ، بالإضافة إلى ان هذا القول نسف ما بني عليه إشكاله السابق الذكر ، المبني على اختلاف الآيات باختلاف الأسباب .

ثانيا : نزوله على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بتفصيلاته دفعة ، ثم نزل تفصيلاً آية بعد آية الموضوعاتها بحسب الأسباب :

وقد شرح هذا الفرض العلامة الطباطبائي قدس سره باستدراك واضح على الفرض السابق ، قال : «فللأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتان : مرحلة الإجمال والإبهام ومرحلة التفصيل، وليلة القدر – على ما يدل عليه قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] – ليلة تخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام إلى مرحلة الفرق والتفصيل وقد نزل فيها القرآن وهو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر . ولعلّ الله سبحانه اطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته ، وما يقارن منها نزول كل آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها ، وأطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلاً عليه دفعة واحدة وجملة قبل نزوله تدريجياً ومفرقاً ومآل هذا الوجه إطلاع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الأرض(1) ، واستقراره في مرحلة العين ، وعلى هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرتين بالإجمال والتفصيل، كما تقدم في الوجه الأول» . (انتهى).(2)

أقول : لقد تقدمت الملاحظة على إشكاله على النزول الجملي - رغم الغموض الوارد في النص ، من التوافق بين النزول الجملي والتفصيلي ، وهل هما متكرران أم ذاك مرة ، والثاني يتكرر - وبينا انه مبني على أسس غير صحيحة ، وهنا فرض فرضا صحيحا ، ولكنه بناه على أسس

ص: 38


1- أي قبل نزوله - مرة ثانية - إلى الأرض ، وإلا فإنه يوهم إن النزول الأول إلى غير الأرض ، وهذا ما ستعرف شأنه لاحقا .
2- الميزان : 18 : 134 .

غير صحيحة أيضا، وهي اعتماده على ان الحكيم بمعنى المبهم ، و لم يصرّح - كذلك - أين نزل ذلك القرآن الجملي التفصيلي على محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، هل هو في السماء أم الأرض ؟

وكلنا يعلم أن حادثة المعراج كانت بعد نزول القرآن ، فلا بد أن يكون النزول في الأرض - إذا قلنا : إن ذلك أول عهده بالسماء وهو غير معلوم - .

وأما الأساس الصحيح في هذا الفرض ، فهو إمكانية إطلاع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على كل القرآن ، ومعرفته بكل الخصوصيات المصاحبة لنزوله تفصيلاً دفعة ، وما ذلك على الله بعزيز ، واعلم ان هذا الفرض اقرب لظاهر القرآن ، وان كان يحتاج إلى بيان كثير من المقدمات العلمية والعقائدية ؛ ليتبين - الفرض أعلاه - بشكل أدق ، مع الإغماض عن تعريفه للحكيم بمعنى المبهم ، وسيأتي بعض الكلام عنه ليتضح الفرض .

ثالثا : نزوله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، دفعة واحدة ، في وقت واحد ثم بعد ذلك ، نزل مفصلاً على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) في ثلاث وعشرين سنة . أي وجود اختلاف بين زمني النزول؛وقد ذكر (ابن كثير) هذا الفرض ، فقال :

قال ابن عباس ، وغيره : انزل الله القرآن جملة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً، بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

وفي تفسير الجلالين : «... ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ﴾ [ القدر : 1] . أي القرآن جملة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا»(2).

وقد قال الطباطبائي : «وقيل : إنه نزل أولا جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم

ص: 39


1- تفسير ابن كثير : 4 : 566 .
2- تفسير الجلالين : 815 .

نزل من السماء الدنيا على الأرض ، تدريجا في ثلاث وعشرين سنة ، مدة الدعوة النبوية وهذا القول مأخوذ من الأخبار الواردة في تفسير الآيات الظاهرة في نزوله جملة .»(1) (انتهى).

أقول : الروايات الصحيحة لها منحى آخر ، ولعلها تفيد ما أفاده هو ، من أنه هو القرآن النوراني الذي لا يمسه إلا المطهرون . والروايات الصحيحة تشير إلى تكرار ليلة القدر ، وتكرار النزول والأوامر ، ومعنى هذا الفرض ينفي ذلك . فلهذا لا يمكن الركون إلى هذا الاستظهار المدعى من الروايات .

وعلى أية حال، فإن هذا القول يخالف ظاهر القرآن من نزوله على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) جملة ، وليس على غير النبي في السماء . نعم ، في غير شأن القرآن لا يشمله النص ، وهو ممكن ، ولكنه ليس مقصودا في مبحث نزول القرآن ، ومقتضى الفهم العقائدي المركوز عن نزول القرآن هو : ان الله سبحانه يرسل جبريل بوحيه إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)- سواء كان القرآن كاملا ، أو مفصلا نجوما - وأن الله لا يحده المكان ، وحاشاه ان تحده الجهات ، وان جبريل في أعلى السماوات - التي لا نفهم معناها - لأنه من أعاظم الملائكة الكرام ، وان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في الأرض ، وهناك نزولان أحدهما في ليلة القدر على النبي الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم)، والآخر في كل وقت تقتضيه الحاجة.

ان هذا الفهم لم يأت اعتباطاً ، وإنما هو منتزع من جملة هائلة من النصوص القرآنية والنبوية . غير ان رواية ابن عباس التي نقلها ابن كثير وغيره تعطي تفصيلات نزول داخل السماء ، من دون ان يكون المصدر من نفس أهل السماء المشاهدين للحالة ، فهي تشير إلى ان القرآن يصدر من اللوح المحفوظ ، وينزل إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم ينزل مفصلا إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

فهل كان القرآن في اللوح المحفوظ أولا ؟

فحسب الفهم العرفي عن النزول ، وكونه من الله ، فيكون هذا نزول أول .(2) والنزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة نزولا ثانيا.

ص: 40


1- الميزان : 18 : 131 .
2- لا أظن أن ثمة أحد يعتقد إن اللوح المحفوظ هو الله ، فلا يصير الكون فيه نزولا أولا .

ثم ما هو بيت العزة في السماء الدنيا أصلا ؟

وهذا معنى لم يرد في الإسلام إلا في هذه الرواية ، وقد بحثت عنه في كلام أهل بيت النبي عليهم السلام والأحاديث الصحيحة ، فلم أجده بحسب طاقتي ، فهو عنوان مخترع ومفهوم مبتدع لا واقع له .

ان مثل هذه الغوامض لا نستطيع البت بها ، ولكننا نطالب مدعيها ان يثبت لنا رؤيتها ، وإشرافه عليها !!! .

ولا ننسى بأن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ثان ؛ لأنه نزل قبل ذلك على اللوح المحفوظ – حسب الادعاء - ومقتضى كون النزول على النبي بواسطة جبريل ، فإن جبريل يأخذ القرآن من السماء الدنيا ، فيكون الحديث يحتوي على أكثر من نزولين ونحن نتكلم عن نزولين .

ان مثل هذا التصور يحتاج إلى نص من معصوم يخبر عن الله ، أو عن أهل السماء على اقل تقدير . فهذا القول موقوف على ابن عباس ، وهو لا يسلم من المشاكل الحقيقية التي لا تجعله أهلا للقبول . بالإضافة إلى تشويش صورة نزول القرآن وتوليد تساؤلات كثيرة منها :

هل ان القرآن في اللوح المحفوظ هو نفسه الذي في بيت العزة في السماء الدنيا ؟ وهل القرآن الذي هو في السماء الدنيا ، هو نفسه بحجمه وعدد آياته قد نزل على النبي ؟ ليس أمامنا إلا تصور ان مثل هذا التفصيل يحتاج إلى دليل شرعي أولا ، وهو - ثانيا - لا يخلو من اضطراب وتضارب مع النص القرآني في كون النزول الأول كان على الرسول أيضا.

ان هذا الرأي ولّد لنا من الغموض أكثر مما شرح لنا ، ومما يرفع إشكال التعارض بين النزول الجملي وبين النزول التفصيلي ، بل تداخلت صور النزول ، وأبهم محتواها حتى إننا لا نعلم : هل ما نزل على اللوح المحفوظ نزل إجمالاً ؟ أم تفصيلاً ؟ وبليلة القدر ، أم بليلة أخرى ؟ فيكون الأمر خارجا عن البحث في " المدلول القرآني وإنما هو كلام في مواضيع أخرى .

ثم ان هنا ملاحظة هامة جداً ، وهي ان ليلة القدر هي ليلة أرضية . فكيف يصح وصف النزول

ص: 41

على اللوح المحفوظ ، أو في السماء الدنيا بأنه وقع في ليلة القدر؟ وفي زمن موحد؟ . وهل هناك أيام وليالي في السماء أو عند الله السماء أو عند الله هي من أيامنا وليالينا الأرضية ؟ .

القرآن صريح باختلاف الزمان في السماء ، أو عند الله - تماماً - ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْف سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ﴾ [ الحج : 47 ] ﴿يُدبَّرُ الأمر مِنْ السَّمَاءِ إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِليه فِي يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة : 5] ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليه فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة﴾ [المعارج : 4]

فإذا كانت ليلة القدر سماوية ، فإذن هي كألف سنة لا كألف شهر ، وإذا كانت أرضية فما علاقتها باللوح والسماء ؟

وما لم يسند مثل هذا التفصيل إلى معصوم ، فإنه يعتبر مجرد تصورات ، أو نقل عن إسرائيليات . وفيه مشكلة تعدد النزول بأكثر من نزولين، كما يفهم من الجمع بين النصوص القرآنية وكما أشرنا إليه بوضوح .

وما قاله السيد الطباطبائي، من كون مثل هذا المعنى مروي ، إذا كان يقصد مثل هذه الرواية فالكلام هو الكلام، وإذا كان المقصود روايات صحيحة عن المعصومين ، فسيأتي حالها . وهي لا تدل على هذا الفرض ، إلا بعنوان ان هناك ليلة قدر سماوية واحدة ، غير ليالي القدر الأرضية . فهذا تحتمله بعض الروايات . ولكنه معنى غامض .

رأي في أحاديث ابن عباس رضوان الله عليه :

لنا رأي في روايات ابن عباس عامة ، وفي مروياته التفسيرية خاصة ، فرواياته تمتاز بالكثرة والمشكلات ، مثل كونها تماثل - بل تطابق أحيانا - أقوال أهل الكتاب من يهود ونصارى ، والظاهرة البارزة هي وجود رواة كذابين مشهورين ، يكذبون على ابن عباس في زمن بني أمية ، وأما في زمن بني العباس فهناك ظاهرة تملق بني العباس ، ونسبة الدين إلى جدهم (عبد الله عباس) .

إن جرداً لطرق الحديث عنه ، يبيّن لك كثرة الرواة عنه ، ممن اشتهر بالكذب والغرض

ص: 42

السياسي ، ككتاب بني أمية ، المدعومين من الدولة لتشويه الإسلام ، وقد قدمنا القول في من كان أوضح من يكذب على لسانه وهو عكرمة .

وأما من جهة المواضيع ، فإنك لو جمعت النصوص الصادرة ، وطابقتها مع خرافات أهل الكتاب ؛ لوجدت تطابقا عجيبا ، وكأن علم ابن عباس ، الموقوف عليه ، هو قراءة في روايات اليهود والنصارى ، وليس فكرا إسلاميا ، مستقى من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذه الظاهرة ليست نادرة في الإسلام كما يعلم المتتبعون .

ويصح ادعاء الإرسال في روايات ابن عباس ، وعدم صحة النسبة المباشرة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأن ابن عباس لا يمكن عده من الصحابة الواعين للصحبة ؛ بسبب سنه حينما لبى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ من نداء ربه ، فهو ابن عشر سنين حين توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يبعد ان يكون اصغر من ذلك خلال دراسة نصوصه وحياته . وما ادعاء انه ولد في الشعب ، إلا لتصحيح هذا الحجم من المرويات ، خصوصا من قبل دولة حكمها أبناءه ، غير ان السيد بن طاووس ، رأى ان ابن عباس يروي بواسطة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) ولكنه يكتم ذلك تقية ، وهذا تفسير غير مقبول عمليا بالشكل الذي طرحه ابن طاووس عليه الرحمة ، لكثرة الروايات الإسرائيلية المنسوبة إليه ، فحتى لو قلنا بعبقريته ، فهل من الصحيح ان تأخذ روايات ابن عباس في التفسير هذا الحجم العظيم ، حتى كأنه المفسر الأوحد ؟!! وأغلب روايته توراتية وكتابية . فقد أراد من نسب تلك لابن عباس أن يحسّن صورته فشوهها.

وللباحث أن يشك - لهذا السبب - في كل ما نسب إلى ابن عباس في التفسير ، قبل غيره ، وليمحص القول بما يؤيده . وان على الباحثين إعادة النظر برواياته ، وآرائه بشكل عام ، فإن غالب ما ينسب إليه إنما هو رأي له منسوب إليه ، وليس برواية . ولعل هذا النص من هذا القبيل ، ثم ما أكثر ما كذب على لسان ابن عباس رحمة الله عليه – كما بينا آنفا – وفي هذا الباب ما يوجب الكذب لتضييع الحقائق . واهم من اتهم من قبل علماء الجرح والتعديل ، بالكذب على ابن عباس ، هو عكرمة كما قلنا ولكنه ليس الوحيد كما يبدو .

ص: 43

رابعا : نزوله على أهل السماء الدنيا ، ونزوله على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أي : ان الجهتين مختلفتان :

قال الزمخشري في الكشاف : «نزوله جملة واحد في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان ينزله على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نجوماً في ثلاث وعشرين سنة(1)».

وهذا الرأي يقتضي ان يكون نزوله إلى السماء مرة واحدة ، والى النبي بعد ذلك متعددا .

فهل يشمل هذا غير القرآن ؟

وهو يختلف عن سابقه ، بإملاء جبرئيل (علیه السّلام) القرآن على السفرة في السماء الدنيا ، وهو غير إنزاله على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فينبغي الملاحظة لهذه النكتة الدقيقة . وقد عبر الزمخشري عن القول بكلمة : (روي) من دون تحديد الراوي .

وأورد ابن كثير في تفسيره(2) رواية عن تفسير ابن أبي حاتم ، عن كعب الأحبار في أخبار ليلة القدر ، وهي قصة خرافية عجيبة فيها صعود ونزول الملائكة ، وجغرافية سدرة المنتهى ، وتكلمها مع سكانها ، ومع الجنة ، وتتحيّر الشمس من جناح جبريل الأخضر ، وغير ذلك من مدعيات عجيبة . ولعلها هي اصل ما أورده الزمخشري ، من ان النزول الأول هو ما نزل به جبريل وأملاه على السفرة في السماء(3)، ثم نزل بعد ذلك على محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 44


1- الكشاف : 4 : 273 .
2- تفسیر ابن كثير : 4 : 572 .
3- إن ظاهر عبارة : ( أملاه جبريل على السفرة ... ) تعدد النزولات بتعدد السفرة ، وطبقاتهم حيث إن كل إملاء نزول ، ولو تمحل بعضهم فقال بل هو نزول واحد كالمدرس يلقي دروسه على مجموع طلبته ، فإن الإشكال باق ؛ لأن هؤلاء سفرة مرسلون لا بد لهم من مُرسَل إليه يبلغونه الرسالة . فيتعدد النزول برسالاتهم فكم عددهم ؟ ومن هو المرسل إليه ؟ وهنا قد تجاوزت النزولات الثلاث التي ذكرها ابن كثير . ولهذا فان هذا الأمر لا يتعلق بالقرآن ، ونزوله على رسول الله في ليلة القدر . وسيكون قبول مثل هذا الفرض حجة بالغة على المقابل ؛ لأنه يعني عدم الانحصار على اقل تقدير. .

أقول : ان كل ما ناقشناه في قول ابن كثير ، نقلاً عن ابن عباس يجري هنا ، ولكن رواية الزمخشري أضافت : ان النزول إلى السماء الدنيا لا علاقة له بالرسالة المحمدية ، وإنما هو إلى السفرة . فأما ما فائدة ذلك للبشر بالنزول على السَفَرة ؟ أو علاقتهم بالقرآن المنزل على صدر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ . فذلك أمر مجهول !

إلا ان يكون هذا القول مبني على التسليم بإمكان وجود (قرآنيين) لا قرآن واحد . أحدهما انزل على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بما يناسبه ، والآخر أنزل على السفرة بما يناسبهم . وإلا ، فلا معنى لإنزال هذا القرآن نفسه عليهم ، على الرغم من إننا لا قدرة عندنا على النفي والإثبات ، ولكن كما هو واضح ، فإن الأمر لا تعلق له بنا وبالقرآن المنزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأنه للسفرة . مضافا إلى إننا قدمنا القول فيما رواه ابن كثير بأن أساس قوله - وهو النزول إلى السماء الدنيا ، مستقلا - يخالف النصوص الظاهرة بالقرآن ، الدالة على ان النزولين إنما هما على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

خامسا : النزول من أم الكتاب في السماء السابعة إلى السماء الدنيا .

وقد قاله في تفسير الجلالين ، في تفسير سورة الدخان(1) وهو بخلاف ما فسره في سورة القدر ، وقد قدمنا ذلك التفسير(2).

أقول : كل ما يجري على تلك الفروض جار هنا ، غير ان استعماله لكلمة : ﴿أم الكتاب﴾ فيه إبهام ، وهي كلمة قرآنية غير مفهومة ؛ لأنها من وراء المحسوس والمعلوم للبشر.

وعلى الإجمال ، فإن عرضاً لبعض الآيات الشريفة يشعر بوجود كتاب هو اصل القرآن ، وهو غير قابل للتشابه ، بل هو أساس الأمور التكوينية القابلة للمحو والإثبات ، بما فيها القرآن الكريم ،

ص: 45


1- تفسير الجلالين : 656 : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان : 3] : هي ليلة القدر أو ليلة النصف شعبان ، نزل فيها من أم الكتاب من السماء السابعة إلى سماء الدنيا .
2- تفسير الجلالين : 815 : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ [القدر: 1] : أي القرآن جملة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا . وفيه أيضا : 38 : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزل فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] : من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فى ليلة القدر .

فيكون القرآن المنزل إلينا جزءا يسيراً من ذلك الكتاب ، والآيات هي : ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أَمُّ الكتاب وَأَخَرُ مُتَشَابِهَات﴾ [آل عمران : 7] ﴿يَمْحُوا الله ما يَشَاءُ وَيُثَتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد : 39] ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمَّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف : 4] ﴿وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ، [الحجر : 21] .

وقد فسر ﴿أُمُّ الكتاب﴾ في تفسير الجلالين بأنه اصل الكتب أي اللوح المحفوظ ، وانه في السماء السابعة(1).

والنصوص لا تساعده، فإن التحديد الذي ذكره لا أصل له ، ولا إشارة إليه ، ولا يفهم من الآيات أكثر مما ذكرنا من كونه كتاباً شاملاً لا يتغيّر ، ولا يعلم ان كان في اللوح المحفوظ ، أم في غيره ! ولا يعلم ان كان هو اصل الكتب السماوية ، أم هو اشمل ! ولا يدرى هل هو في السماء السابعة ، أم هو فيما قبلها أو بعدها !

ولا سبيل إلى المعرفة ، بمثل هذه الأمور ، إلا بإرشاد الله عبر رسله ، وذلك غير متوفر – كما هو معلوم - غير ان هذا كله لا علاقة له بنزول القرآن الجملي على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو مبحث مستقل .

سادسا : ابتداء نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان .

ذكره الشيخ الطوسي(2) في التبيان ، وقد نسبه للشعبي(3) كما فعل ذلك الزمخشري في الكشاف ، وقد بينا - سابقا - أن هذا الكلام لا يصلح ؛ لأن ما يقال عن أول سورة أنزلت ، ليس فيه أي ذكر للنزول في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهذا يدل على كون الكلام مجرد اجتهاد من الشعبي ، أو آخرين ، ولا علاقة له بدراسة نصوص القرآن نفسه.

ص: 46


1- تفسير الجلالين : 38 و 815 .
2- الطوسى : التبيان : 2 : 122 .
3- الطوسي : التبيان : 10 : 384 .

قال شيخ الأزهر الإمام محمد عبده في تفسير سورة القدر : «والقرآن كله ، والجملة منه ، وان قصرت ، كل ذلك يسمى قرانا ، ويسمى كتابا . فالضمير في أنزلناه في هذه السورة عائد إلى القرآن ... و المراد بإنزاله : الابتداء بإنزال شيء منه ، و هو المعني من قوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزل فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] أي ابتدأ فيه إنزاله(1)»

و قد بحث الدكتور إبراهيم خليفة - رئيس قسم التفسير و علوم القرآن بجامعة الأزهر - مسألة نزول القرآن ، ورجّح القول بأن المراد بنزوله في ليلة القدر ، وشهر رمضان : ابتداء نزوله ، واستند إلى ان الأقوال الأخرى لا دليل عليها إلا رواية ابن عباس ، و قال : « ... فانه لا شبهة للقائلين بالنزول الجملي إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحمل الإنزال في الآيات الثلاث عليه بالتالي ، إلا ما صح موقوفا عن ابن عباس» .(انتهى)

ثم رفض ما روى عنه ، لأنه كان یروى الإسرائيليات إلى ان قال : «فان الناس لو لم يعرفوا حديث النزول الجملي هذا ما حملوا الإنزال في هذه المواضع إلا على مألوفة فيهم من الإنزال المنجم(2)». (انتهى) .

أقول : يبدو ان الدكتور إبراهيم خليفة ، لم يلتفت إلى ظاهر القرآن من النزول الجملي في قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ [ القدر : 1] أو في قوله : ﴿الذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] .

قال الطباطبائي : «وقيل : المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة ، افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر من شهر رمضان ، فأول ما نزل من آيات القرآن - وهو سورة العلق أو سورة الحمد – نزل في ليلة القدر . وهذا القول مبني على استشعار منافاة نزول الكتاب كله في ليلة ، ونزوله التدريجي ، الذي تدل عليه الآيات السابقة ، وقد عرفت ان لا منافاة بين الآيات . على أنك خبير بأنه خلاف ظاهر الآيات».(3)

ص: 47


1- محمد عبده : تفسير جزء عم : 130 .
2- إبراهيم خليفة : الإحسان فى مباحث من علوم القرآن : 83 .
3- الميزان : 18 : 129 .

أقول : ستأتي مناقشة السيد الطباطبائي لهذا القائل . ولكن من المهم جدا ان نعرف ان سورتي العلق والفاتحة ، لم تنزلا في شهر رمضان إطلاقا(1) . وهذا القول نوع من التقول ، والفذلكة التي لا واقع من ورائها .

ص: 48


1- لم يرد ، إن أي من السورتين قد نزل في رمضان ، وإنما الوارد إن سورة العلق نزلت في شهر رجب ، وحسب النصوص ، والاستظهار من القرآن فإن سورة الفاتحة نزلت قبلها ، ولكن قد تناقش تلك التحصيلات اللفظية من النص القرآني . ومع ذلك ، فقد قال مجاهد أنها سورة مدنية وقد اعتبروا ذلك من هفواته . انظر : تفسير السمرقندي : أبو الليث السمرقندي المتوفى سنة 383ه_ : 1 : 39 . وفيه : «روي عن مجاهد ، أنه قال : سورة فاتحة الكتاب مدنية ، وروى أبو صالح ، عن ابن عباس ، أنه قال : هي مكية . ويقال نصفها نزل بمكة ، ونصفها نزل بالمدينة» وانظر أيضا : الواحدي : أسباب النزول : 11 - 12 . وفيه : «... اختلفوا فيها ، فعند الأكثرين هي مكية من أوائل ما نزل من القرآن» . وفيه أيضا : «أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد المفسر ، قال : أخبرنا الحسن بن جعفر المفسر ، قال : أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن محمود المروزي ، قال : حدثنا عبد الله بن محمود السعدي ، قال : حدثنا أبو يحيى القصري ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن الولاء بن المسيب ، عن الفضل بن عمر ، عن علي بن أبي طالب ، قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة ، من كنز تحت العرش» وبهذا الإسناد عن السعدي ، حدثنا عمرو بن صالح ، قال : حدثنا أبي، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقال : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، فقالت قريش : رض الله فاك» . ونحو هذا قاله الحسن ، وقتادة ، وعند مجاهد إن الفاتحة مدنية . قال الحسين ابن الفضل : «لكل عالم هفوة وهذه بادرة من مجاهد ؛ لأنه تفرد بهذا القول ، والعلماء على خلافه» . ومما يقطع به على أنها مكية ، قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظيمَ﴾ [الحجر : 87] يعني الفاتحة . أخبرنا محمد بن عبد الرحمن النحوي ، قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن علي الجبري ، قال : أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن أذين ، قال : حدثنا إسماعيل ابن جعفر ، قال : أخبرني العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليه أبي بن كعب أم القرآن - فقال : «والذي نفسي بيده ، ما أنزل الله في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها ، إنها لهي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته» . وسورة الحجر مكية بلا خلاف ، ولم يكن الله ليمتن على رسوله ، بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة ، ثم ينزلها بالمدينة ، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام بمكة بضع عشرة سنة ، يصلي بلا فاتحة الكتاب ، هذا مما لا تقبله العقول . (انتهى) . كما قد أورد رواية مكذوبة قبل ذلك : (حدثنا أبو عثمان سعيد بن أحمد بن محمد الزاهد ، قال : أخبرنا جدي ، قال : أخبرنا أبو عمرو الجبري ، قال : حدثنا إبراهيم بن الحارث ، وعلي بن سهل بن المغيرة ، قال : حدثنا يحيى بن بكير ، قال : حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا برز سمع مناديا يناديه : يا محمد ، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا ، فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النداء فأثبت حتى تسمع ما يقول لك ، قال : فلما برز سمع النداء : يا محمد ، فقال : لبيك ، قال : قل : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : قل الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ما الدين حتى فرغ من فاتحة الكتاب» وهذا قول علي ابن أبي طالب» . يوم أقول : هذه الرواية مرفوضة عندنا ؛ لأنها تطعن في أساس الرسالة . فتصف الرسول بالخوف ، والجبن، وتعطي لورقة بن نوفل دورا في تعليم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو من مخترعات أعداء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ للتشكيك في دعوته . و الرواية لا تنتهي لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنما تحكي قصة عنه ، موقوفة على أبي ميسرة ، وأبو ميسرة هو عمرو بن شرحبيل ، من التابعين ، وقد روى (ابن سعد) انه من أنصار معاوية ، وقد أورد له أكاذيب في نجاة من يدعون إلى النار بصريح نص رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهم أنصار جيش معاوية في صفين . فقد نقل محمد بن سعد في الطبقات الكبرى : 3 : 263 : « قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي وائل ، قال : رأى عمرو بن شرحبيل ، أبو ميسرة ، وكان من أفاضل أصحاب عبد الله المنام ، قال : رأيت كأني أدخلت الجنة ، فإذا قباب مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ ، قالوا : لذي الكلاع ، وحوشب - وكانا ممن قتل مع معاوية - قال : قلت : فأين عمار وأصحابه ؟ ، قالوا : أمامك ، قال : قلت : وقد قتل بعضهم بعضا ، قيل : إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة ، قلت : فما فعل أهل النهر ؟ قيل : لقوا برحا . قال : أخبرنا قبيصة بن عقبة ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الأعمش، عن أبي الضحى ، قال : رأى أبو ميسرة في المنام روضة خضراء ، فيها قباب مضروبة فيها عمار ، وقباب مضروبة فيها ذو الكلاع ، قال : قلت : كيف هذا وقد اقتتلوا ؟ قال : فقيل لي : وجدوا ربا واسع المغفرة» . (انتهى) . وهذه النصوص - المكذوبة قطعا - هي دعاية واضحة من دعايات حكومة ابن أبي سفيان ، مما يدل على إن هذا الرجل له القابلية على اختراع القصص لنجاة قادة بدر وحنين من المشركين ، وتوهين رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ونسبة الخوف والجبن له ، ونسبة التعليم لورقة بن نوفل ، وهذا الحديث تفرد به أبو ميسرة بهذه الخصوصية ، فحتى الرواية الغريبة عن عائشة ، في سؤال خديجة لعمها ورقة ، لا تتضمن هذا المعنى. وإبراهيم بن الحارث - الوارد اسمه في سند رواية الواحدي فيما يخص الوحي ونزوله وتعليم ورقة بن نوفل وهو من أعيان المجسمة (وهم ممن يجيزون وضع الحديث والكذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حسبة - أي احتسابا للأجر بزعمهم -) ترجمه (ابن حجر) في تهذيب التهذيب : 1 : 98 ، فقال : « إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري . روى عن أحمد بن حنبل ، وأحمد بن عمر الوكيعي ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وغيرهم . وعنه أبو داود في كتاب المسائل ، وأبو بكر الأثرم ، وأبو حاتم الرازي ، وابن أبي داود . قال الخلال: من كبار أصحاب أحمد بن حنبل ، كان أبو عبد الله يعظمه ويرفع قدره». فائدة لفضح طريقة المجسمة : قال الأميني (رحمه الله علیه) في : كتابه : (الوضاعون وأحاديثهم) : 311 - 320 : في من يضع الحديث حسبة ، وهو ممن يوصف بالصلاح ، والتقوى ، والدين عند بني أمية ، وأشياعهم : ولعل القاريء يستكثره ، أو يستعظمه ، ذاهلا عن إن وضع الحديث ، والكذب على النبي الأعظم ، وعلى الثقات من الصحابة الأولين ، والتابعين لهم بإحسان ، لا ينافي عند كثير من القوم الزهد والورع ، واتصاف الرجل بالتقوى ، بل هو شعار الصالحين ، ويتقربون به إلى المولى سبحانه ، ومن هنا قال يحيى بن سعيد القطان : ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث . وعنه : لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث ، وعنه : ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد . وقال : الوضع حسبة . وقال القرطبي في التذكار : 155 : لا التفات لما وضعه الواضعون ، واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة ، والأخبار الباطلة ، في فضل سور القرآن ، وغير ذلك من فضائل الأعمال ، وقد ارتكبها جماعة كثيرة ، وضعوا الحديث حسبة ، كما زعموا ، يدعون الناس إلى فضائل الأعمال ، كما روي عن عصمة ، نوح ابن أبي مريم المروزي ، ومحمد بن عكاشة الكرماني ، وأحمد بن عبد الله الجويباري ، وغيرهم . قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة ، عن ابن عباس في فضل سور القرآن ، سورة سورة ؟ ، فقال : «إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة» . وقال في (ص 156) : قد ذكر الحاكم ، وغيره من شيوخ المحدثين : إن رجلا من الزهاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن ، وسوره ، فقيل له : لم فعلت هذا ؟ ، فقال : رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغبهم فيه ، فقيل : فإن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : « من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، فقال : أنا ما كذبت عليه إنما كذبت له . وقال ، في التحذير من الموضوعات : وأعظمهم ضررا قوم منسوبون إلى الزهد، وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا ، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم ، وركونا إليهم ، فضلوا وأضلوا . وسمعت في (ص 268 من الغدير) قول ميسرة بن عبد ربه ، لما قيل له : من أين جئت بهذه الأحاديث ؟ ، قال : وضعتها أرغب الناس فيها ، وقوله : إني أحتسب في ذلك . وقال الحاكم : كان الحسن - الراوي عن المسيب بن واضح - ممن يضع الحديث حسبة . لسان الميزان (5 : 288) وكان نعيم بن حماد ، يضع الحديث في تقوية السنة ، راجع (ص 69) . فكأن الكذب ، والإفك ، وقول الزور ، ليست من الفواحش، ولم تكن فيها أي منقصة ، ومغمزة ، ولا تنافي شيئا من فضائل النفس ولا تمس كرامة ذويها ، فهذا حرب بن ميمون ، مجتهد عابد ، وهو أكذب الخلق . وهذا الهيثم الطائي ، يقوم عامة الليل بالصلاة ، وإذا أصبح يجلس ويكذب . وهذا محمد بن إبراهيم الشامي ، كان من الزهاد وهو الكذاب الوضاع» . فهؤلاء عينة ممن يكذب على رسول الله حسبة ، وهم من نفس منهج صاحبنا وزميله من بعده . وعلي بن سهل بن المغيرة البزاز البغدادي النسائي المتوفى سنة 270 - الوارد في سند الرواية آنفة الذكر أيضا – يروي عن رسول الله عن طريق المنام ، وهو مجهول الحال عندنا إذا لم يكن مطعونا ، وهو من عتاة مدرسة المجسمة . ويحيى بن بكير - في السند أيضا - من أزلام السلاطين ومتمذهبة الأمويين ، وقد نصوا على انه ثبت فيما يرويه عن الليث فقط ، وهذه الرواية ليست عن الليث ، وهذا هو احد المحتملين لوضع هذه الرواية . وإسرائيل - الوارد في السند أيضا - هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني ، المولود سنة 100 ، والمتوفى سنة 162 ، موثق عند بعض الشيعة ، ومجهول عند آخرين، وموثق عند بعض السنة ، كابن حنبل . ووالده يونس كان أمويا متعصبا توفي سنة 152 ، إلا أن هناك نصوصا تشهد بأن إسرائيل على عكس سيرة أبيه ، وهو يروي عن جده أبي إسحاق ، عمر بن عبد الله السبيعي الهمداني ، وهو ممن أدرك عليا وبعض الصحابة ، وروى عنهم . فالرواية - على العموم - لا اعتبار لها من جهتي السند والمعنى ، والمعنى هو الأهم ، حتى لو تحايلوا في تصحيح السند . فإن المعنى يطعن برسالة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وقدراته النفسية ، ومعرفته بنبوته ، ونفسه . وهذا كلام لا يقول به مسلم .

ص: 49

ص: 50

ص: 51

سابعا : ينزل في ليلة القدر قدر ما يحتاج إليه في تلك السنة.

نقله الشيخ الطوسي(1) على شكل (قيل) الواضح في التضعيف . وهو مخالف للنصوص القرآنية الدالة على النزول الجملي . وعلى كل حال فهو قول لا يضر بتشكيل إشكالية ليلة القدر .

ثامنا : النزول الجملي مرة في السنة ، والنزول التفصيلي يكون على مدار السنة.

وهذا المعنى فيه روايات عن أهل البيت عليهم السلام ، وهذا المعنى يمكن ان يكون تفصيلا للمعنى السابع للنزول .

تاسعا : النزول في ليلة القدر إلى السماء أولا ، ثم إلى الأرض ، على ولي الأمر (أي : في نفس الليلة) .

وقد ورد في هذا المعنى أحاديث .

الخلاصة :

ان مقتضى الجمع ، بين أدلة النزول الجملي ، وأدلة النزول التفصيلي المنجم ، هو وجود نزولين على صدر النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، الأول : كاملاً ، والثاني : متدرجاً .

وأما تفصيلات النزول الأول ، فلا تعلم إلا بدليل شرعي ، أو علمي ثابت . ولكن الروايات التي تقبل معانيها ، كمعاني غير متناقضة ، وكروايات حسنة ، أو مقبولة ، أو حجة على كل حال، هي ما كانت في المعنى الثاني ، والثامن والتاسع ، ويمكن الجمع بينها ، وذلك بفرض ان النزول التفصيلي، يكون مرة في ليلة القدر ، ومرة بحسب الحاجة ، وهذا لا مانع منه ، وهو يتماشى مع ما يعرف عن نزول الوحي متدرجا منجما ، في أجزاء السنة ، كما لا يتعارض مع نزوله في ليلة القدر . كما أنه لا مانع ان يكون هناك نزول إجمالي ، على صدر النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، في ليلة القدر الأولى ، التي واجهت النبي ، وهو يتلقى الدعوة ، وأخذت تتكرر في كل ليلة قدر ، للاستزادة ، والشرح ، والتفصيل.

وبهذا ينسجم المعنى ، مع استمرار ليلة القدر ، وخصائصها التي ذكرها الله في كتابه الكريم .

ص: 52


1- التبيان : 9 : 224 .

ويبقى أننا نجهل ما وراء ذلك من كيفيات تفصيلية ، ولا نعلم حجم القرآن الكلي الأول ، الذي نزل على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). ولا كونه هو بنفسه نزل كما نزل منجما بتفصيله . فعلم ذلك إلى الله جل جلاله ، والرسول (صلی الله علیه و آله و سلم).

على ان مما لا شك فيه - كما اشرنا آنفاً - إن كلام الله اكبر بكثير من هذا القرآن الذي بين أيدينا : ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفَدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْله مَدَدًا﴾ [الكهف : 109] ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِنْ شَجَرَةِ أَقْلَامَ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحْرَ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ الله ان اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان : 27] .

ولهذا ، لا يمكن الجزم بالكيفية التي كان عليها القرآن الكريم ، وليس في ذلك أي إشكال ، ولا ينفي إي جهة في البحث عن خصائص ليلة القدر ، وما يتطلبه برهان استمرار النزول ، والعلاقة الدائمة بين الله وخلقه عبر أولياءه .

وقد قدمنا عدم تمام الإشكال ، الذي طرح للتشكيك في نزوله دفعة واحدة في ليلة القدر ، باعتباره يتكلم عما لم يوجد بعد . كما بينا وجوه الغرابة في التفاسير المزعومة .

ومن حق كل مسلم ان يتساءل : لمصلحة من هذه التشويشات على كتاب الله ؟

ولو اقتصر الأمر على آية واحدة لهان ، ولكنه شامل لأغلب كتاب الله تقريباً ، فهل نسي محبو السنة المحمدية كتاب الله ، وضحوا به ، في سبيل إثبات روايات ركاك ، وأفكار سقيمة ، تنسب لصحابة ، أو تابعين ، حفاظا على سنة لا يمكن ان تكون سنة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، الرسول العظيم ، الذي لا ينطق عن الهوى ، والمبيّن لكتاب الله ، لا المدمر له ، والناقض لأسسه ، كما تصوره المرسلات المكذوبات . وكل ذلك من اجل نصرة المذهب السياسي، الذي يناقض الحقيقة .

ص: 53

ملحق

لقد ذكر السيد الطباطبائي في الميزان ، تحقيقه في معنى نزول القرآن ، وهو تحقيق يستحق القراءة ، ويستحق النظر ، رغم ما أوردناه من إشكالات على بعض ما قال ، فهو تحقيق جيد ، وفيه رد على إشكالات و شبهات ذكرها ولهذا السبب سنذكر النص المفيد بدون تعليق عليه باعتبار أن ما رفضناه ناقشناه سابقا وما كان عليه ملاحظات أو انه سليم لا يحتاج إلى تعليق ، غير إن السبب لإيراد النص هو توضيح الصورة بقلم احد أعلام التفسير المتميزين في العصر الحديث حيث أورد فكرة مهمة ومناقشتها ، ومناقشة ما قيل من تخرصات ، تريد نصرة اتجاه فتقوم بنفي العلم والحقيقة الدينية ، وفي هذا النص جواب بما وعدناه من مناقشة القائلين بتقارن نزول أول القرآن الملفوظ وليلة القدر وهي دعوى بلا دليل سيبين حالها نتركها للقارئ الكريم .

قال في الميزان :(1)

«قوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزلَ فيه القرآن هُدًى﴾ [البقرة : 185] ﴿شَهْرُ رَمَضَان﴾ هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية ، بين شعبان وشوال ، ولم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن إلا شهر رمضان . و (النزول) هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين (الإنزال) و (التنزيل) ان الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي ، ﴿و القرآن﴾ ، اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، باعتبار كونه مقروا ، كما قال تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 3] . ويطلق على مجموع الكتاب ، وعلى أبعاضه . والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان ، وقد قال تعالى : ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّراً

ص: 54


1- الميزان : 2 : 14.

ونذيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لَتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاس عَلَى مُكْتَ وَتَزَكَّنَاهُ تَنزيلاًنَ [الإسراء : 105 - 106] .

وهو ظاهر في نزوله تدريجا ، في مجموع مدة الدعوة ، وهي ثلاث وعشرون سنة تقريبا ، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك ، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين . وربما أجيب عنه : بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا ، في شهر رمضان ، ثم نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، نجوما ، وعلى مكث ، في مدة ثلاث وعشرين سنة – مجموع مدة الدعوة – وهذا جواب مأخوذ من الروايات ، التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات . وقد أورد عليه : بأن تعقيب قوله تعالى : ﴿انزل فيه القرآن﴾ بقوله : ﴿هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان﴾ لا يساعد على ذلك ، إذ لا معنى لبقائه - على وصف الهداية والفرقان - في السماء مدة سنين . وأجيب : بأن كونه هاديا من شأنه ان يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال ، وفارقا إذا التبس حق بباطل ، لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية ، من غير فعليه التأثير ، حتى يحل أجله ، ويحين حينه ، ولهذا نظائر ، وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة ، التي كلما حان حين مادة من موادها ، أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل .

والحق ان حكم القوانين ، والدساتير ، غير حكم الخطابات ، التي لا يستقيم ان تتقدم على مقام التخاطب ، ولو زمانا يسيرا ، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل ، كقوله تعالى : ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلى اللهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ان اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة : 1] وقوله تعالى : ﴿وَإِذَا رَأَوْا تجَارَةً أو لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائمًا قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ منْ اللَّهو وَمَنْ التِّجَارَة وَاللَّهُ خَيْرُ الرازقين﴾ [الجمعة : 11] وقوله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤمنينَ رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب : 23] على ان في القرآن ناسخا ومنسوخا ، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول .

وربما أجيب عن الإشكال : ان المراد من نزول القرآن في شهر رمضان ان أول ما نزل منه نزل فيه .

ص: 55

ويرد عليه : ان المشهور عندهم ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، إنما بعث بالقرآن ، وقد بعث يوم السابع والعشرين من شهر رجب ، وبينه وبين رمضان أكثر من ثلاثين يوما ، وكيف تخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن ؟ على ان أول سورة اقرأ باسم ربك ، يشهد على أنها أول سورة نزلت ، وأنها نزلت بمصاحبة البعثة ، وكذا سورة المدثر ، تشهد أنها نزلت في أول الدعوة ، وكيف كان ، فمن المستبعد جدا ان تكون أول آية نزلت في شهر رمضان ، على ان قوله تعالى : أنزل فيه القرآن ، غير صريح الدلالة على ان المراد بالقرآن أول نازل منه ، ولا قرينة تدل عليه في الكلام ، فحمله عليه تفسير من غير دليل ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [ الدخان : 1 - 3 ] وقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ 3 [القدر : 1] فإن ظاهر هذه الآيات ، لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله ، أو إنزال أول بعض من أبعاضه ، ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك.

والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر ، فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان ، أو في ليلة منه، إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال ، الدال على الدفعة ، دون التنزيل ، كقوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] وقوله تعالى : ﴿حم : والكتاب الْمُبين * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 1 - 3] وقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1].

واعتبار الدفعة ، أما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب ، أو البعض النازل منه ، كقوله تعالى : ﴿مَاء أَنْزَلْنَاهُ من السَّمَاء﴾ [ يونس : 24] فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر - ها هنا - معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا ، ولذلك عبر عنه بالإنزال ، دون التنزيل ، وكقوله تعالى : ﴿كتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكَ لَيَدَّبَّرُوا آيَاته﴾ [ ص: 29] .

وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى ، وراء ما نفهمه بالفهم العادي ، الذي يقضى فيه بالتفرق ، والتفصيل ، والانبساط ، والتدريج ، هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ، ونازلا بالإنزال ، دون التنزيل .

ص: 56

وهذا الاحتمال الثاني ، هو اللائح من الآيات الكريمة ، كقوله تعالى : ﴿كتَابٌ أَحْكَمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود : 1] فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل ، والتفصيل ، هو جعله فصلا فصلا ، وقطعة قطعة ، فالإحكام ، كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ، ولا يتميز بعض من بعض ؛ لرجوعه إلى معنى واحد ، لا أجزاء ، ولا فصول فيه ، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل ، المشاهد في القرآن ، إنما طرأ عليه بعد كونه محكما ، غير مفصل . وأوضح منه ، قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابِ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبَّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف : 52 - 53] وقوله تعالى : ﴿وَمَا كَان هَذَا القرآن أن يُفْتَرَى من دون الله وَلَكن تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفصيل الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلى أن قال : بَل كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحيطوا بعلمه وَلَمَّا يَأْتهم تأويله﴾ [يونس : 37 - 39] .

فإن الآيات الشريفة ، وخاصة ما في سورة يونس ، ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر طاريء على الكتاب ، فنفس الكتاب شيء ، والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر ، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب ؛ لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل ، وغافلين عنه ، وسيظهر لهم يوم القيامة ، ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ، ولات حين مناص ، وفيها إشعار بأن أصل الكتاب ، تأويل تفصيل الكتاب .

وأوضح منه قوله تعالى : ﴿حم والكتابِ الْمُبِين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكيمٌ﴾ [الزخرف : 1 - 4] . فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا ، عرض عليه ، جعله مقروا عربيا ، وإنما ألبس لباس القراءة ، والعربية ؛ ليعقله الناس ، وإلا فإنه – وهو في أم الكتاب - عند الله ، علي ، لا تصعد إليه العقول ، حكيم ، لا يوجد فيه فصل وفصل . وفي الآية تعريف للكتاب المبين ، وأنه أصل القرآن العربي المبين . وفي هذا المساق – أيضا – قوله تعالى : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ - لقُرْآن كَرِيمٌ * في كتاب مكنون » لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة :

ص: 57

75 - 80] فإنه ظاهر في إن للقرآن موقعا ، هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد ، إلا المطهرون من عباد الله ، وإن التنزيل بعده ، وأما قبل التنزيل ، فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار ، وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب وفي سورة البروج ، باللوح المحفوظ ، حيث قال تعالى : ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ﴾ [البروج : 21 - 22] وهذا اللوح إنما كان محفوظا ؛ لحفظه من ورود التغير عليه ، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا ، لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ ، وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل ، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن ، وحكمه ، الخالي عن التفصيل ، أمر وراء هذا المنزل ، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك .

ثم إن هذا المعنى ، أعني : كون القرآن في مرتبة التنزيل ، بالنسبة إلى الكتاب المبين - ونحن نسميه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبس ، وبمنزلة المثال من الحقيقة ، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام ، هو المصحح لأن يطلق القرآن - أحيانا – على أصل الكتاب ، كما في - قوله تعالى : ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ﴾ إلى غير ذلك ، وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] وقوله : ﴿إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة﴾ [الدخان : 3] وقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر : 1] . على إنزال حقيقة الكتاب ، والكتاب المبين إلى قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، دفعة ، كما أنزل القرآن المفصل على قلبه ، تدريجا في مدة الدعوة النبوية . وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى : ﴿وَلَا تَعْجَلْ بالْقُرْآن من قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه : 114] وقوله تعالى : ﴿لا تُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَكَ لَتَعْجَلَ به * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذَا قَرَأَنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة : 16 - 19] فإن الآيات ظاهرة ، في إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان له علم بما سينزل عليه ، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي ، وسيأتي(1) توضيحه في المقام اللائق به - إنشاء الله تعالى -.

ص: 58


1- هذا إشارة لتحقيقه في الميزان .

وبالجملة فإن المتدبر فى الآيات القرآنية ، لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها : على كون هذا القرآن ، المنزل على النبي تدريجا ، متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة ، أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهويات، وقذارات المادة ، وأن تلك الحقيقة ، أنزلت على النبي إنزالا ، فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه . وسيجيء(1) بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران : 7] .

فهذا ما يهدي إليه التدبر ، وتدل عليه الآيات ، نعم أرباب الحديث ، والغالب من المتكلمين ، والحسيون من باحثي هذا العصر ، لما أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة ، اضطروا إلى حمل هذه الآيات ، ونظائرها، كالدالة على كون القرآن هدى، ورحمة ، ونورا ، وروحا ، ومواقع النجوم ، وكتابا مبينا ، وفي لوح محفوظ ، ونازلا من عند الله ، وفي صحف مطهره ، إلى غير ذلك من الحقائق ، على أقسام الاستعارة ، والمجاز ؛ فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا .

ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان :

قال ما محصله : إنه لا ريب إن بعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كانت مقارنة لنزول أول ما نزل من القرآن ، وأمره (صلی الله علیه و آله و سلم) بالتبليغ والإنذار ، ولا ريب إن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل ؛ لقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] ولا ريب إن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان ؛ لقوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] . وجملة القرآن ، وإن لم تنزل في تلك الليلة ، لكن لما نزلت سورة الحمد فيها ، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن ، فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا ، فصح أن يقال : أنزلناه في ليلة (على أن القرآن يطلق على البعض ، كما يطلق على الكل ، بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية - أيضا - كالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، باصطلاح القرآن).(2)

ص: 59


1- هذا إشارة لتحقيقه في الميزان.
2- هذا تنصيص مقتطع لا يعرف أصله .

قال : وذلك : إن أول ما نزل من القرآن ، قوله تعالى : اقرأ باسم ربك ... الخ ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان ، نزل والنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قاصد دار خديجة ، في وسط الوادي يشاهد جبرائيل ، فأوحى إليه : قوله تعالى : اقرأ باسم ربك الذي خلق ... الخ ، ولما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله : كيف يذكر اسم ربه ؟ فتراءى له ، وعلمه بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد ، ثم علمه كيفية الصلاة ، ثم غاب عن نظره ، فصحا النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يجد مما كان يشاهده أثرا ، إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائیل ، حين الوحي ، فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس ، مأمور بهدايتهم ، ثم لما دخل البيت ، نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي ، صبيحة تلك الليلة ، وأوحى إليه قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ...﴾ (الآيات) [المدثر : 1 - 2] .

قال : فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ، ومصادفة بعثته لليلة القدر :

وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة ، من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب ، فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة ، التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة ، مخالفة للكتاب كما عرفت .

قال : وهناك روايات أخرى ، في تأييد هذه الأخبار ، تدل على إن معنى نزول القرآن في شهر رمضان :

أنه نزل فيه قبل بعثة النبي ، من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور ، وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة ، حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله ، وهذه أوهام خرافية ، دست في الأخبار ، مردودة أولا بمخالفة الكتاب ، وثانيا إن مراد القرآن باللوح المحفوظ ، هو عالم الطبيعة ، وبالبيت المعمور ، هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه) . (انتهى) ملخصا .

ولست أدري ، أي جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام أجزائه - تقبل الإصلاح ، حتى تنطبق على الحق والحقيقة بوجه ؟ فقد اتسع الخرق على الراتق . ففيه :

أولا : إن هذا التقول العجيب ، الذي تقوله في البعثة ، ونزول القرآن أول ما نزل ، وأنه صلى

ص: 60

عليه وآله وسلم ، نزل عليه : اقرأ باسم ربك ، وهو في الطريق ، ثم نزلت عليه سورة الحمد ، ثم علم الصلاة ، ثم دخل البيت، ونام تعبانا ، ثم نزلت عليه سورة المدثر ، صبيحة الليلة ، فأمر بالتبليغ ، كل ذلك تقول لا دليل عليه ، لا آية محكمة ، ولا سنة قائمة ، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجيء .

وثانيا : إنه ذكر إن من المسلم إن البعثة ، ونزول القرآن ، والأمر بالتبليغ ، مقارنة زمانا ، ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن ، وكان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ، ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر ، ولا يسعه ، أن يستند في ذلك.إلى كتاب ، ولا سنة ، وليس من المسلم ذلك.

أما السنة ؛ فلأن لازم ما طعن به في جوامع الشيعة ، بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة ، عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا ، إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة ، أو الخاصة ، إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قرنين فصاعدا فهذا في السنة ، والتاريخ - على خلوه من هذه التفاصيل – حاله أسوأ ، والدس الذي رمي به الحديث ، متطرق إليه أيضا .

وأما الكتاب ، فقصور دلالته على ما ذكره ، أوضح ، وأجلى ، بل دلالته على خلاف ما ذكره ، و تكذيب ما تقوله ظاهرة ، فإن سورة (اقرأ باسم ربك) – وهي أول سورة نزلت على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على ما ذكره أهل النقل ، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ، ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ، ولا أقل من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يصلي بمرأى من القوم، وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة ، ويذكر أمره في نادي القوم (ولا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يتقرب بها إلى ربه في باديء أمره ، إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها : ﴿أرَأَيْتَ الَّذي يَنْهَى عَبْداً إِذا صَلَّى : أَرَأَيْتَ إِن كَان عَلَى الْهُدَى * أو أمر بالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمُ بأنَّ اللهَ يَرَى * كَلا لئن لَّمْ يَنتَه لَنَسْفَعاً بالنَّاصِيَة * نَاصِيَة كَاذِبَة خَاطَئَةِ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهِ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق : 9 - 18] فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهى مصليا عن الصلاة ، ويذكر أمره في النادي ،

ص: 61

ولا ينتهي عن فعاله ، وقد كان هذا المصلي هو النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، بدليل ، قوله تعالى بعد ذلك : ﴿كَلاً لا تطعه﴾ [ العلق : 19] . فقد دلت السورة على إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن ، وقد كان على الهدى، وربما أمر بالتقوى ، وهذا هو النبوة ، ولم يسم أمره ذلك إنذارا ، فكان (صلی الله علیه و آله و سلم) نبيا ، وكان يصلي ، ولما ينزل عليه ،قرآن ، ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ، ولما يؤمر بالتبليغ . وأما سورة الحمد ، فإنها نزلت بعد ذلك بزمان ، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق ، بلا فصل ، عن خطور في قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كما ذكره هذا الباحث ، لكان حق الكلام أن يقال : «قل بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ... الخ» أو يقال : «بسم الله الرحمن الرحيم ، قل : الحمد لله رب العالمين ... الخ» ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى : ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة : 4] الخروج بقية الآيات عن الغرض ، كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف . نعم ، وقع في سورة الحجر - وهي من السور المكية ، كما تدل عليه مضامین آیاتها ، وسيجيء بيانه - قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالْقُرْآن العظيم﴾ [الحجر : 87] . والمراد بالسبع المثاني ، سورة الحمد ، وقد قوبل بها القرآن العظيم ، وفيه تمام التجليل لشأنها ، والتعظيم لخطرها ، لكنها لم تعد قرآنا ، بل سبعا من آيات القرآن ، وجزءا منه ، بدليل قوله تعالى : كتاباً متشابهاً مثاني ... الآية . [الزمر : 23] .

ومع ذلك ، فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد ، يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى : ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئين ... الآيات [الحجر : 94 - 95] ويدل ذلك ، على إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان قد كف عن الإنذار مدة ، ثم أمر به ثانيا ، بقوله تعالى : ﴿فَاصْدَع﴾.

وأما سورة المدثر ، وما تشتمل عليه ، من قوله : ﴿قُمْ فَأنذر﴾ [المدثر : 2] فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة ، كان حال هذه الآية : ﴿قُمْ فَأنذر﴾ ، حال قوله تعالى : ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ... الآية ؛ لاشتمال هذه السورة – أيضا – على قوله تعالى : ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وحيداً ... إلى آخر الآيات [المدثر : 11] وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر :

ص: 62

﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ... الخ ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق إن صدرها قد نزل في بدء الرسالة .

وثالثا : إن قوله : إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر ، من اللوح المحفوظ ، إلى البيت المعمور ، جملة واحدة ، قبل البعثة ، ثم نزول الآيات نجوما ، على رسول الله ، أخبار مجعولة خرافية ، لمخالفتها الكتاب ، وعدم استقامة مضمونها ، وان المراد باللوح المحفوظ ، هو عالم الطبيعة ، وبالبيت المعمور ، كرة الأرض ، خطأ وفرية .

أما أولا : فلأنه لا شيء - من ظاهر الكتاب - يخالف هذه الأخبار ، على ما عرفت(1).

وأما ثانيا : فلان الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة ، بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت .

وأما ثالثا : فلأن قوله : «إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة» تفسير شنيع - وإنه أضحوكة وليت شعري ، ما هو الوجه المصحح - على قوله – لتسمية عالم الطبيعة – في كلامه تعالى – لوحا محفوظا ؟ ذلك ؛ لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول ! فهو عالم الحركات ، سيال الذات ، متغير الصفات ! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا ! فالواقع خلافه ! أو لكونه محفوظا عن إطلاع غير أهله عليه ! كما يدل عليه : قوله تعالى : ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُون : لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة : 77 - 79] فإدراك المدركين فيه على السواء ! .

وبعد اللتيا والتي لم يأت هذا الباحث - في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان – بوجه محصل ، يقبله لفظ الآية ، فإن حاصل توجيهه :

إن معنى ﴿أنزل فيه القرآن﴾ : كأنما أنزل فيه القرآن ، ومعنى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة ...﴾: كأنا أنزلناه في ليلة ، وهذا شيء لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق ! .

ص: 63


1- أقول : ظاهر القرآن أن النزولين على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ولا يوجد ما يدل على النزول إلى غيره ، في موضوع نزول القرآن ، وأما بقية كلام المعترض بتفسير اللوح بالطبيعة والبيت المعمور بالكرة الأرضية ، فهو من الخرافات والكلام المفتقر الى الدليل .

ولو جاز لقائل أن يقول : نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن(1) جاز أن يقال : إن معنى نزول القرآن ، نزوله جملة واحدة . أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع – كما مر بيانه سابقا - وفي كلامه جهات أخرى من الفساد، تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام» .

انتهى كلام السيد الطباطبائي (رحمه الله علیه).

ص: 64


1- ولكن سورة الفاتحة لم تنزل ليلة القدر ، ولا في شهر رمضان !!!

الفقرة الثالثة :

معنى ليلة القدر

ص: 65

ص: 66

الفقرة الثالثة

في معنى ليلة القدر

الأقوال في معنى ليلة القدر متعددة ، نذكر منها ما وقع بأيدينا :

1 - ليلة تقدير الأمور وقضائها: أوضحه السيد الطباطبائي في الميزان : «إن المراد بالقدر التقدير ، فهي ليلة التقدير ، يقدر الله فيها حوادث السنة ، من الليلة إلى مثلها من قابل ، من حياة ، وموت ، ورزق ، وسعادة ، وشقاء ، وغير ذلك ، كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبَّكَ﴾ [الدخان : 4 - 6] فليس فرق الأمر الحكيم ، إلا إحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها للتقدير».(1)

أقول : إن تخصيص التقدير بالأمور المذكورة خلاف النصوص القرآنية كقوله : ﴿كُلُّ أمر حكيم﴾ أو قوله : ﴿مِنْ كُلِّ أمر﴾ الدال على العموم من غير تخصيص ، وسيأتي الحديث حول هذا الموضوع في محله .

وقد استفاد الطباطبائي من معنى تقدير الأمور في كل سنة ، من الليلة إلى مثلها من قابل ، بأن الليلة متكررة بتكرر السنين ، إذ لا معنى لوجود ليلة ، تقدر ما قبلها - كما هو الحال - لما بعدها ، إذا افترضناها ليلة واحدة في الكون ، بالإضافة إلى مقابلة إنزال القرآن في ليلة القدر ، مع البركات الأخرى ، يشير إلى تعددها للمقابلة ، وهذا استنتاج جيد ، يفيد في تحقيق استمرار ليلة القدر لكل سنة .

و قال إمام الجامع الأزهر محمد عبده في تفسيره :

ص: 67


1- الميزان : 20 : 378 .

سميت ليلة القدر ، إما بمعنى التقدير ؛ لأن الله ابتدأ فيها تقدير دينه ، وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه ، أو بمعنى العظمة ، والشرف من قولهم فلان له قدر ، أي له شرف ، و عظمة»(1).

أقول : هنا خصوصية في قوله : «لأن الله ابتدأ فيها تقدير دينه» وهذا كلام ذوقي ، لا دليل عليه ، وهو من أنواع تشكيل المعاني ذوقيا . ولعل السبب هو ذهاب الشيخ محمد عبدة إلى أن النزول ، إنما هو بأوامر الله ونواهيه ، أي الأمر التشريعي فقط ، وليس التكويني – وسيأتي كلامه – ولهذا يصعب عليه تصوّر ذلك ، إذا لم يقل بأن المقصود هو الابتداء فقط ، وقد أضاف دعواه بأن ليلة القدر توقفت في أول نزول ، من أجل أن يتخلّص من مشكل كبير ، وهو اعتبار النزول نبوة ثانية ، ولا تصح بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نبوة . ولكن - للأسف - فهذا المسلك لا دليل عليه ، ولا يساعده الظهور ، ولا الأحاديث ، ولا فهم المسلمين ، ولا معنى النبوة ، ولا معنى الوحي ، ولا ثبوت الوحي لغير الأنبياء ، وسيأتي مناقشة قوله ، حين نبحث استمرار ليلة القدر .

2 - (ليلة الشرف العظيم»(2): «وسميت بذلك ؛ لخطرها ، وشرفها على سائر الليالي».(3)

أقول : لعل هذا القول يعود إلى القول الثالث ، من حيث أصل اللفظة لغة .

3 - «القدر بمعنى المنزلة ، وإنما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها».(4)

4 - «القدر بمعنى الضيق» : «وسميت ليلة القدر لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة».(5)

ص: 68


1- تفسير جزء عم : 132 .
2- الجلالين : 815 .
3- الكشاف : 4 : 273 .
4- الميزان : 20 : 380 .
5- الميزان : 20 : 380 .

أقول : قد علق العلامة الطباطبائي في الميزان على القولين الأخيرين ، بقوله : «والوجهان كما ترى» . وهو تعبير عن غرابتهما .

ولعل وجه الخلل في هذه الأقوال - بما فيها القول الثاني - إن اللفظ إذا كان مشتركا بين عدة معاني ، فلا يصح منه إلا ما تدل عليه القرائن ، وما يحدده الموقع ، والأسلوب ، والفكرة المطروحة .

وكلمة القدر - هنا - واضحة تماما ، إنها بمعنى التقدير، أو الإمضاء للمقدرات بشكل عام ، أمّا المعاني الأخرى ، كالمنزلة ، والشرف ، والضيق ، فلا دليل على إرادتها مطلقا ، بل أدلة تحديد اللفظ ، كالقرائن المصاحبة ، صارفة للفظ عن معناه المغاير ، ثم إننا إذا قبلنا الأقوال الثلاثة ، أو أحدها - جدلا - فقد أوقعنا خللا في مراد السورة بالكامل ، فلا يكون مثلا معنى : ﴿منْ كُلِّ أمر﴾ من كل أمر قدره الله . بل يكون من كل أمر شرفه الله ، أو من كل أمر ضيقه الله ؛ لترابط الآيات فيما بينها . وهذا لم يقل به احد مطلقا ، فضلا عن كونه بلا معنى أصلا، كما لا يخفى على المتأمل في سياق السورة .

5 - «يقدر الله كل أمر من الحق ، والباطل ، وما يكون في تلك السنة» قاله القمي في تفسيره(1) وهذا لا يختلف عن معنى تقدير الأمور إلا في التفصيل والجمع بين تقدير التكوين وتقدير التشريع في تلك السنة .

6 - «فسر الله ليلة القدر بقوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4]» نقله الطوسي في التبيان(2) وهذا المعنى هو الأنسب من ناحية معنوية ؛ لأن تفريق كل أمر حكيم ، هو التقدير الحتمي ، أو القضاء المحتم - وسيأتي معنى المقطع من الآية حين تحقيقه بفقرات لاحقة - والمعنى يناسب كون التقدير هو فرق الأمر الحكيم ، وليس التقدير بمعنى العلم بالحوادث ، والأحكام ، أو كتابة المقادير ، من دون إمضائها ، وحتمها .

ص: 69


1- تفسير القمي : 2 : 290 .
2- التبيان : 10 : 384 .

متى هي ليلة القدر :

ولاستكمال الفائدة - ولكي لا نبقي على ما هو معلق غير مفهوم - أضفنا الآتي في موضوعة تحدید زمان هذه الليلة المباركة، إذ ليس في القرآن ما يشير إلى أكثر من أنها في شهر رمضان.

وكل ما ورد من روايات في تعيينها ، يخضع للفحص، والدراسة النشيطة ، حيث إن أغلب تلك الروايات ، لا تخلو من الحاجة إلى المناقشة ، خصوصا الاختلاف العجيب - الذي ذكره (ابن كثير) - بين الصحابة في تعيينها ، حيث ذكر جملة من التأويلات ، والاستنتاجات الغريبة ، منها : استخراج بعضهم كونها في السابع والعشرين من قوله : ﴿هي﴾ لأنها الكلمة السابعة والعشرون في السورة ، أو استدلال ابن عباس على إنها في ليلة السابع والعشرين ؛ لأن السماوات سبع ، ، والأرضين سبع ، والأسبوع سبعة أيام ، إلى آخر تلك الاستدلالات العجيبة . وقد وافقه الخليفة متعجبا من نباهته ، وحسن استنتاجه ! وجدير بالذكر، أنه ما من ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان ، إلا وقد أورد فيها رواية ، وصفها بأنها صحيحة ، أو حسنة ، أو بإسناد جيد ، وهذا من دواعي التساقط ، والتهافت ، أو الجمع ، أو التسليم بالتمويه لهذه الليلة.(1)

وقد برر المفسرون ذلك الخلاف في تعيينها ، وإخفاء وقتها ، بتشويق العباد إليها ، وزيادة ثوابهم ، بتعدد مرات تعبدهم في ليال متعددة .

وهذا الأمر لا يعنينا في هذه الإشكالية ، وان كان له أهمية عند من يطلب ثواب هذه الليلة العظيمة .

ص: 70


1- راجع تفسير ابن كثير : 4 : 534 . وما بعدها ، وستأتي بعض النصوص في تعيين ليلة القدر ، وفي علاماتها ، ومدى الإشكال في ذلك .

الفقرة الرابعة

في معنى ﴿يُفْرَقُ﴾

ص: 71

ص: 72

الفقرة الرابعة

في معنى ﴿يُفْرَقُ﴾

في قوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ .

معنى يفرق :

أولا : قال ابن كثير ، في معنى قوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ : «أي في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة ، وما يكون فيها من الآجال ، والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها»(1).

وقال الزمخشري : «ومعنى ﴿يُفْرَق﴾ : يفصل ، ويكتب . كُل أمر حكيم﴾ من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وجميع أمورهم منها ، إلى الأخرى القابلة»(2).

وقال الطباطبائي : «والفرق فصل الشيء عن الشيء ، بحيث يتمايزان ، ويقابله الأحكام ، فالأمر الحكيم : ما لا يتميز بعض أجزاءه عن بعض ، ولا تتعين خصوصياته ، وأحواله ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : ﴿وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا تُنزِّلَهُ إلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر : 21].(3)

أقول :

أ - لقد فرّق الرازي في (مختار الصحاح) بين (فرق) المخففة ، وبين المشددة ، وقال : بأن المخففة معناها البيان والتوضيح ، والمشددة معناها الفصل ، والكلمة هنا مخففة كما هو معلوم ، إلا على قراءة رواها الزمخشري ، من دون نسبة . قال : «وقريء يفرق بالتشديد(4)» وهذه صياغة توهین كما هو معلوم ، وبحسب ما هو مركوز في ذهني ، وبحسب تتبعي فإن (فَرَقَ) المخففة،

ص: 73


1- ابن كثير : 4 : 140 .
2- الكشاف : 3 : 500 .
3- الميزان : 18 : 380.
4- الكشاف : 3 : 500 .

تستخدم للمعنيين أي معنى الفصل ، ومعنى البيان ، بل لعل البيان ملازم للفصل ، والتفصيل المتكرر ، وأما (فرّق) المشددة ، فلا تستعمل إلا في التبديد ، والتشتيت ، فرق الشيء : وزعه وبدده ، وفرق الشعر بالمشط : سرحه . ومعنى ذلك أنها أخذت منحى خاصا من الفصل ، وهو المنافرة - وهذا جزء من معاناتنا مع اللغويين في تحديد الدليل ، وذلك بحث طويل لا مجال لذكره هنا .

ب - إن اختيار معنى الفصل بوصفه العام - ليشمل (التمييز والأمر) - أولى من حصره بمعنى الفصل الخاص ، والتفريق بين شيئين ، إذ أن الأوامر الإلهية قد لا تكون متعددة ، ولا نعلم مدى الخيارات في عالم الحق نفسه - رغم انه مختار في نفسه قطعا - بل إننا نعلم – وجدانا – إننا إذا كنا متأكدين من معلوم ، لا نجد لأنفسنا خيارا ، أو حتى تفكيرا في أمور متعددة ، حيث إن المعرفة حاكمة بدوية ، إذا كانت يقينية ، هذا بالنسبة للمخلوق ، أما الخالق فلا يعلم كيف علمه ، ولا يقاس ؛ لأنه خالق للمعرفة والمعرف ، ولكن بما إن اللغة هي لنا ، نحن المخلوقون ، فيمكن أن نفهم إن العالم لا ترديد عنده ، بل هو أمر واحد لا يختلف ، والفرق عنده الفصل بالمعنى العام ، من دون خصوصيات، فقد يكون بيان الأمر ، وقد يكون تحديد الأمر ، وكلها أمور محتملة بنفسها ، ولا دليل على التخصيص .

هذا ومن ، يتبين مدى ما وقع فيه العلامة الطباطبائي قدس سره ، حين قابل بين الفرق ، والإحكام ، وأن الإحكام هو الإبهام ، بينما الفصل هو التمايز . والنقاش معه طويل هنا لا يمكن الخوض فيه في مبحث غير مخصص لهذه القضية .

ج - إن البحث في ليلة القدر ، مستقل عن بحث تنزيل القرآن الذي قدمناه ، ولهذا فإننا سنعالج - هنا - مسألة نزول الملائكة ، وفرق الأمر ، وما شابه ذلك من زاوية ثانية تماما ، إلا أن بعض المفسرين يريدون الربط بينهما ، باعتبار كون ليلة القدر ، هي الظرف المناسب لنزول القرآن ، وهذا المعنى بحد ذاته لا بأس به ، ولكن مسألة القرآن إذا عولجت – هنا – فينبغي أن تعالج من زاوية كونه نازلا من الله على رسوله في ليلة القدر جملة واحدة - كما تقدم - لا بتلك

ص: 74

التشويهات والتشبيهات ، وأما المعالجة فتكون لما هو أشمل من واقعة نزول القرآن ، فإننا نبحث خصائص ليلة القدر ، من نزول ، وتقدير ، وفرق ، وأوامر ، وما شابه ذلك .

وقد بدا واضحا ، إن ابن كثير ، والزمخشري ، قد التبس عليهم الأمر ، فوصفوا النزول ، كما وصفوا به نزول القرآن ، من النزول من اللوح المحفوظ إلى السفرة في السماء الدنيا ، وزادوا الأمر إبهاما ، فخصصوا ، أو - بعبارة أدق - رووا التخصيص، فيما فرق الله من الأمر ، ولكن بشكل فيه نوع غرابة ، حيث إنهم بعد ذكر الآجال ، والأرزاق ، قالوا أمورا مبهمة ، مثل : (وما يكون فيها إلى آخرها) أو (وجميع أمورهم منها إلى الأخرى القابلة) .

وهذا نسف للتخصيص المذكور ، وإبهام من جهة ثانية، من دون تحديد . ولعل منشأ ذلك الأمر ، يعود إلى الإشكالية التي تترتب على نوع القول - هنا ، كما سنذكر لاحقا - ولذلك عمدوا إلى تعويم الألفاظ ، لئلا يضبطوا ، أو تدور عليهم دوائر الفكر ، وأما ما ذكره السيد الطباطبائي ، فإنه حاول التحديد ولنا في محاولته تلك رأي .

ولهذا ، فإن كل الإضافات التي أضافوها ، لكيفية الفصل ، والتفريق ، لاغية . وسنبين – في مبحث معنى (الأمر) ومعنى (الحكيم) - إنهم يلغون هذه التحديدات ، ويشيرون إلى أمور خطيرة جدا .

ثانيا : قال الزمخشري : «وقيل : - (أي في معنى يفرق) - يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ ، في ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبرئيل ، وكذلك الزلزال ، والصواعق ، والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب السماء الدنيا ، وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت(1)».

ومعنى ذلك توزيع المهام والأدوار على كبار الملائكة.

أقول : بالإضافة إلى ما تقدم في المناقشة ، فإن هذا القول لم يضف شيئا ؛ لأنه عبارة عن بيان كيفية الفصل ، لا أنه تقسيم له.

ص: 75


1- الكشاف : 3 : 500 .

مع إن هذه الكيفية ، وبهذا الشكل الخطير ، لابد أن تكون موثقة توثيقا تاما ، وإلا فإنه تصوير لمشاهد لم تشاهد ، ولكيفيات لا تعلم حقيقتها ، وهذا أمر خطير ، فكيف يكتفي في توثيق ذلك ب_(قيل) وان كنا لا نقول باستحالة أن تكون كذلك ، ولكن ألا ترى إنها تبسيط لأعقد المعقدات لهذا الكون العظيم ، ولفعل الله العجيب ، وتحديد لأنواع العمل بدون دليل.(1)

ثالثا : قال الزمخشري : «وعن بعضهم : يعطى كل عامل بركات أعماله ، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه ، وعلى قلوبهم هيبته(2)».

أقول : وهذا من أبعد الأقوال فهو - أولا - أجنبي تماما عن سياق الآيات ، ومفادها ، وثانيا ، فيه تخصيص شديد إلى درجة لا تبدو معها ليلة القدر شريفة ، فضلا عن كونها خير من ألف شهر ، بل الشرف للوجهاء ، وذوي البركات ، الذين استحقوا الهيبة في قلوب الناس ، وهذا نوع من أنواع التضييع لمقاصد الكتاب العزيز ، لا نطيل الكلام فيه .

الخلاصة :

إن مراجعة دقيقة لمادة (فرق) في اللغة ، تحدد معنيين ، يمكن استعمالهما - هنا - وهما : الفصل ، والبيان ، وقد بينا أن لا دليل على تخصيص معنى (الفرق) بالفصل بمعناه الخاص - كما قدمنا سابقا - وبما إن البيان يشمل الفصل والتوضيح ، وكلاهما باتجاه واحد في المعنى ، فلا نجد مندوحة من اختيار البيان للفرق هنا ، وهو ما لم يقله المفسرون ، والمسألة تتعلق بالظهور اللغوي ، لا بآراء المفسرين .

ص: 76


1- فكرة توزيع المهام على الملائكة واضحة المصدر ، فهي إما من الإسرائيليات التي تنسب إلى جبريل (علیه السّلام) كل الأذى الذي يلحق ببني الإنسان ، وهو واضح في ما نقل عن الزمخشري ، أو هي يونانية المصدر ، وثنية ، حيث تعدد المهام ونسبتها إلى الملائكة أصل في نشأة تعدد الأرباب . فإذا لم يصح دليل موثوق ينقل عن السماء فكل هذا يعتبر نوع من الخيال البشري .
2- الكشاف : 3 : 500 .

الفقرة الخامسة

معنى الأمر

ص: 77

ص: 78

الفقرة الخامسة

في معنى الأمر

الأول : الشأن .

قال الزمخشري : «كل شأن ذي حكمة ، أي : مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الحكيم صفة صاحب الأمر ، على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجازا».(1)

وهذا ما جزم به الطباطبائي ، فقال : «المراد بالأمر الشأن».(2)

أقول : يأتي الأمر بمعنى الشأن في لغة العرب - غالبا - بعد السؤال ، مثل ما أمرك ؟ أو ما أمر فلان ؟ . أما في مثل قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيم﴾ فلا معنى فيه للشأن – إطلاقا – وذلك من خلال الأسلوب أولا ، و من دخول (كل) عليها ، الصارفة عن كونه شأنا ، بل هو أمر أما بمعنى الشيء ، أو بمعنى الطلب . وبما أن معنى الشيء لم يرد ذكره عند المفسرين ، فيبدو للمبتدأ احتمالا ساقطا ، ولكنه - في الحق - احتمال وجيه ، حيث إنهم أشاروا إلى أن متعلقه كل من الأمور التكوينية والتشريعية ، وهذا أعم من الأمر بمعنى الطلب ، ولا علاقة له بمعنى الشأن . فقد قالوا : إن الأمر الصادر إنما هو تحديد الآجال ، والأرزاق ، وجميع أمور الناس – كما بينا سابقا – وهذا يناسب أن يكون الأمر بمعنى الشيء نحو قولك : (لأمر ما كان هذا) أو قولك : (إنه لأمر عجيب) وما شابه ذلك ، وقد ورد في كتاب الكافي ، عن الباقر (علیه السّلام) في قوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] قال : «يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى قابل».(3)

ص: 79


1- الكشاف : 3 : 500 .
2- الميزان : 18 : 135.
3- الكافي : 4 : 156 ، الميزان : 18 : 136 .

ولعل معنى الشيء أشمل ، فيوافق ما صرح به المفسرون ، من اشتمال النازل في ليلة القدر على كل أمر قدره الله فيها . ويساعده الأصل، حين الشك في التخصيص .

على أن موضوع الأصل - هنا - فيه نظر ؛ لأن ما قدمناه من قرائن تورث العلم ، والأصل العملي إنما يعمل حين لا علم .

ثانيا : الأمر بمعنى الطلب ، قال الزمخشري : «ويجوز أن يراد به الأمر ، الذي هو ضد النهي ، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا ، الذي هو مصدر يفرق ؛ لأن معنى الأمر والفرقان واحد ، من حيث انه إذا حكم بالشيء ، وكتبه ، فقد أمر به ، وأوجبه . أو حال ، من أحد الضميرين في أنزلناه ، إما من ضمير الفاعل : أي أنزلناه آمرين أمرا ، أو من ضمير المفعول : أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا إلى لما يجب أن يفعل»(1).

أقول : ظاهر هذا القول ، إن المقصود بالأمر - هنا - هو العلم بالتشريع ، وواقع الآيات لا يأباه بل يشمله ، وهو الأنسب مع قوله تعالى : ﴿أَمْرًا من عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ [الدخان : 5] .

وإنني : أحمد للزمخشري صنيعه بكلمة : «يجوز أن يراد به الأمر ، الذي هو ضد النهي» فجعله على نحو المصداق ، لا التطابق ، وهو الأولى في الاعتبار ، خصوصا وأنهم لا حظوا أن ما تنزل به الملائكة عام شامل ، لا تخصيص فيه ، بل نظر إلى البركة الدينية في ليلة القدر ، قبل البركة الدنيوية ، والمتمثلة بالأوامر التكوينية ، فقد قال الزمخشري : «والمباركة الكثيرة الخير ؛ لما يتيح الله فيها من الأمور ، التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم».(2) وقال كذلك : «وسبب ارتقاء فضلها - أي ليلة القدر - إلى هذه الغاية ، ما يوجد فيها من المصالح الدينية ، التي ذكرها ، من تنزل الملائكة ، والروح ، وفصل كل أمر حكيم»(3).

ص: 80


1- الكشاف : 3 : 500 .
2- الكشاف : 3 : 500 .
3- الكشاف : 4 : 273 .

وقد نص على عموم الإرادة التشريعية ، والتكوينية ، بقوله : ﴿من كُلِّ أمر﴾ تنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل»(1). وقال أيضا : «يفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا . وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق ، وغيرها ، من باب الرحمة ، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عزّ وعلا ؛ لأن الغرض من تكليف العباد تعريضهم للمنافع»(2). ثم استفاد من قوله تعالى : ﴿رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الدخان : 6] بأن : الربوبية تقضي الرحمة على المربوبين».(3) وهو ظاهر باستمرار الأوامر الإلهية ؛ لاستمرار السبب ، وهو الرحمة الدائمة ، وقد عبر الزمخشري عن ذلك الدوام بقوله : «لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا» .(4) وقال ابن كثير : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةِ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان : 3] «أي : معلمين الناس ما ينفعهم ، ويضرهم شرعا ؛ لتقوم حجة الله على عباده»(5) وهي التفاتة جيدة إلى ارتباط الإنذار ، والإرسال ، في قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ بليلة القدر لاحتوائها على الأوامر الدينية والإلهية».(6)

ولعل مقتضى فهم الآيات مترابطة ، أن يفهم دخول الأمور التشريعية ، بما لا لبس فيه .

وقد توقف العلامة الطباطبائي في هذا الفهم ، بقوله : «وظاهر كلام بعضهم ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ تفصيل الأمور المبينة في القرآن من معارف ، وأحكام ، وغير ذلك ، ويدفعه إن ظاهر قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ﴾ الاستمرار ، والذي يستمر في هذه الليلة – بتكررها – تفصيل الأمور

ص: 81


1- الكشاف : 4 : 273 .
2- الكشاف : 3 : 501 .
3- الكشاف : 501:3 .
4- الكشاف : 3 : 500 .
5- تفسير ابن كثير : 4 : 140.
6- لعل قوله : ﴿ِإنَّا كُنَّا مُنذرين﴾، متعلق ب_﴿أنزَلْنَاهُ﴾ ، وليس ب_﴿لَيْلَة مُبَارَكَة﴾، ولكن وروده مورد التعليل يجعله عاما ، فيصح ؛ لأن معناه : إن واجبنا أن ننذر الأقوام ، ولهذا أرسلنا القرآن في ليلة القدر ، فهي وعاء للأوامر الإلهية .

الدنيوية بعد إحكامها ، وأما المعارف ، والأحكام الإلهية ، فلا استمرار في تفصيلها ، فلو كان المراد فرقها كان الأنسب أن يقال : (فيها فرق)».(1)

وهذه بعض الملاحظات على مقولة سيدنا الطباطبائي (قدس سره):

1 - ينبغي أن لا يشك أحد ، بأن رسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) خاتمة الرسالات ، وإنها بجوهرها محفوظة إلى يوم القيامة ، ولكن الكلام في امتداد الرسالة المحمدية ، فإن إشكال سيدنا الطباطبائي مبني - على الأظهر - على توهم أن منحى ابن كثير ، والزمخشري ، إنما هو نسخ الشريعة المحمدية ، واستبدالها ، وهذا إن كان موجودا ، فهو وهم لا أصل له إطلاقا . ولو كان هذا مرادهما لما ترددنا في رفضه ، ولكن كلامهما ليس فيه هذا اللازم ؛ لأن الاستمرار لا يقتضي النسخ بالضرورة ، وهو موافق لعموم النص القرآني ، وهذا العموم ليس فيه هذا اللازم ، وسيتبين ذلك .

2 - إن غاية ما يثبت في المقام ، إن الله تعالى حكما واقعيا ، يصدره في كل واقعة ، ولا يمكن أن تخلو واقعة من حكم إلهي واقعي ، لاستحالة ابتعاد الله عن خلقه ، واستحالة تعطيل علمه وعمله ، واستحالة إيقاف إرادته سبحانه عند حد محدود ، فهل إذا توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) توقفت إرادة الله في خلقه ؟

إن دعوى إيجاد القواعد ، والأصول البديلة في مقام التكليف لهي أوهى من بيت العنكبوت ، حيث لا يجهل فقيه إن هذه القواعد والأصول بأشكالها المختلفة إنما هي سبل للعذر ويقال لها فقهياً المعذرية ، بالنسبة للمكلف الجاهل بالحكم الواقعي . وإلا فهي قد تؤدي إلى المخالفة الواقعية للأمر المولوي .

وأما ظهور الحكم الواقعي الإلهي في الواقعة ، بأي مظهر كان ، لا يعد نسخا لرسالة الإسلام ، بل هو تفصيل لكلام الله ، واستمرار في حيوية الرسالة المحمدية . وقد تكون من باب التفصيل بعد الإجمال ، أو التقييد بعد الإطلاق القابل للقيد ، أو المقيد سابقا ، وهذا لا يختلف فيه العلامة الطباطبائي مع غيره من علماء الإسلام المحققين ، وإن كانت ملاحظته - هنا - فيها ما يشعر

ص: 82


1- الميزان : 18 : 132 .

باختلافه في وجهة النظر ، وكأنه يريد القول : إن الحكم الواقعي غير مطلوب إصابته ، إذا توفر الحكم الظاهري ، وهذا لازم كلامه ، وإلا فإنه لا يقول بذلك قطعا ، ولو كان كلام العلامة الطباطبائي يؤدي إلى وجوب تعطيل الأحكام الواقعية ، والإرادة الإلهية في الوقائع المتجددة ، لنسف كل قيم العدل ، ومباني العقل ، والكتاب الكريم ، من وجوب اللطف ، ووجوب العلم ، ووجوب إثبات الإرادة له سبحانه وتعالى ، وما شابه ذلك . ولكننا لا نظن فيه ذلك بل هو من المستحيلات أن يذهب إليه العلامة (رحمه الله علیه).

وإذا كان توقفه لهذه الجهة ، التي نعلم انه لا يرتضيها ، لبطل الاستدلال برسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أساسا ، إذ لو كانت الأحكام الإلهية تصدر مرة واحدة ، ولا يجوز استمرارها لوجب الاكتفاء بالأنبياء السابقين ، ولما جاز إرسال الرسل بعد ذلك ، حتى لو ضل الناس جميعا ، فإن الأمر قد نزل ، وكفى به أمرا مفروغا ، ولما كان على الله أن يبعث في كل أمة نذيرا .

3 - إن قوله : «ظاهر كلام بعضهم» یدل على انه قول منسوب إلى البعض ، ولكن الحقيقة أنه ظاهر نصوص القرآن المجيد ، وان رده مستند إلى شبهة قوية ، فيما لو كان مقصودهم النسخ للشريعة ، ومثل هذه الشبهة لا تكون مخصصة لكلام الله ، وصارفة لظاهر النصوص . ويمكن معالجتها بانفراد ، بعد الاستفادة من ظاهر النص.

إن القول بعدم طلب الحكم الواقعي يؤدي إلى تعطيل شريعة سيد المرسلين ، وإلغائها كلية ، وذلك لبيان التالي:

في سبيل إبقاء الرسالة المحمدية ، لا بد لها من استمرار في تحديد الوقائع وأحكامها ، وتشخيص الموضوعات ، وبيان موقعها في الشريعة ، وإلا فإن القرآن قد نزل لقوم لهم ظروفهم ، وأفكارهم ، وموضوعاتهم ، وهناك إجمال ، وإطلاق ، وعمومات تحتاج إلى بيان ، وتخصيص وتقييد ، والطباطبائي نفسه ، يرى القرآن مبهما(1). ورأيه في (الإحكام) هو الإبهام - كما تقدم في النص - وسيأتي في معنى : ﴿حكيم﴾ . ولو ابتعدنا عن رأيه ، فإن أغلب الآيات القرآنية نزلت في

ص: 83


1- انظر قوله : «وقد نزل القرآن وهو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر» . الميزان : 18 : 132 .

مناقشة الموضوعات الآنية ، والتغيرات المتجددة في ذلك المجتمع الإسلامي ، حتى اعتقد بعضهم - خطأ - بأن كل الوارد مخصص بالمورد ، ورغم كل ما قيل من إن المورد لا يخصص الوارد ، وان سبب النزول لا يحدد ما نزل ... إلى آخره . فإننا لا نستطيع أن ننفي أن المخاطبين هم الحضور من المسلمين . وقد بحث العلماء كثيرا في مورد من هو المخاطب بالقرآن ، هل هو خصوص الحضور في زمن النزول ؟ أم عموم الأمة إلى يوم القيامة ؟ ودار بينهم النقاش ، وتضاربت الحجج ، ثم حاولوا تخليص أنفسهم بتمحلات ، مؤداها إن خلود الشريعة يقتضي أن يكون الخطاب موجه إلى كل مسلم مهما كان ، وفي أي زمن كان ، ولكن إذا نظر المنصف إلى آيات بعينها ، يجدها لا يمكن أن تكون كذلك ، ولا يمكن أن تتصف بالاستمرارية - ولا يعني ذلك قصور القرآن في أداء الكثير ، بل العظيم من الأحكام - إلا أن تخصيص الكثير من الآيات بوقت مخصوص ، يعد واحدا من أهم مسوغات النسخ ، الذي أثار عليه اليهود العديد من الإشكالات ، بدعواهم أن التشريع إنما هو لمصلحة إلهية ، وليس لمصلحة المُشَرَّع لهم - بفتح الراء - فلا يجوز أن تتبدل غاياته ، ولا علمه ، ولا حكمته ... الخ . وهذا كلام يفتقر إلى التحقيق ؛ لأن حقيقة الأحكام الإلهية إنما هي رحمة للعباد ، وهي تدور مع مصالحهم ، وتكوينهم . وهذا أمر مسلّم عندنا ، وإن الله سبحانه وتعالى - حسب نص الآيات المتعلقة بليلة القدر وسيأتي ذلك في تحديد الإشكالية - يصدر الأوامر ، والأحكام سواء في الكونيات ، أم في التشريعات مبينا ذلك بصورة مستمرة ، وهذا هو عين بقاء الشريعة المحمدية والرسالة الإلهية العامة : ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أو قُتلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران : 144] . فلا يجوز أن يقال : إن رسالة الله تبارك وتعالى ، انتهت بموت الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ، لا عقلا ، ولا شرعا ، وإلا فإن بطلان رسالة الله جل وعلا بموته (صلی الله علیه و آله و سلم) تستلزم بطلان الإسلام بكامله(1) للقطع

ص: 84


1- دفعا لأي توهم فإن المقصود بالرسالة الإلهية هنا الأوامر الإلهية الصادرة عن إرادته عز وجل ، والمسماة بالعلم الديني ، وهي متجددة بنص القرآن : ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن : 29] ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد : 39] ... الخ . بل إن الدليل العقلي يثبت ثبوت الاختيار الدائم الله سبحانه وتعالى ، وهو ما يعبر عنه بالبداء.

بوقوع ما لم تحط النصوص بحكمه الواقعي الإلهي ؛ لعدم الخلو من الحكم ، فلابد من استمرار العلم الديني . وإلا توقف التشريع في الحدود التي نزل فيها القرآن المجيد ، ولا يجوز التطور مهما اختلفت المواضيع التي عليها الأحكام . ولهذا نقول بوجوب بقاء الاتصال مع الله ، بشكل من الأشكال ، ولو بالعصمة ، أو التوفيق ، فإن الموقف يستدعي العلم بالوقائع المتجددة ، وأحكامها . ولعل هذا هو معنى قول الإمام الصادق عليه السلام : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.

وأما الاجتهاد فلا معنى له هنا بمعنى بقاء الشريعة بما هي هي ، كما أنه لا يغني عن حكم الله هناك ، كما أوضحنا فإن الاجتهاد يتكفل بيان تكليف المكلف ، حين يفتقر إلى العلم الواقعي ، أو إلى مراد الله في الحادثة ، وهذا يمثل التعذير ، لا التجيز . حتى لو كان مجعولا بالجعل الشرعي . يبقى أمر يداعب بعض القلوب التائهة ، وهو : أنه يمكن أن يدعي مدع بأن إدراكنا للمصالح والمفاسد ، يوجب علينا أن نحكم بأن ما أدى إليه حكمنا - وفق ذلك - فذلك حكم الله ، بناء على خلو الوقائع من حكم ، أو عدم الأمر بطلبها . وذلك وهم فظيع ، وتقول على الله ، أولا : لأن الله سبحانه وتعالى يصدر أوامره وفق إرادته ، وعلمه بمصلحتنا ، وبما اقتضاه تدبيره ، لا وفق فهمنا ومشتهياتنا ، حتى يصح ذلك القول . وثانيا لعدم التسليم بخلو الوقائع عن الأحكام – وهو مذهب أهل السنة - ولا عدم التكليف بتحصيلها - كما ذهب إليه المعتزلة - حسب نقل الغزالي ، الذي سيأتي .

وهنا نؤكد أن رسالة الله جل وعلا، هي عين رسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكنها ليست شخصه الشريف ، وليست العمومات التي تصدر من جهته الشريفة فقط . إنما هي متعلقة بالواحد القهار ، المعبود في كل حين ، ولا علاقة لها بمتعقلاتنا ، إلا بمقدار ما تعذر عليه ، وبمقدار ما فيه من حسن وقبح ذاتي ، مدرك لكل العقلاء . وفي غيره تمحل ، وتقول على الله تبارك وتعالى . قال تعالى :

ص: 85

﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مدَاداً لكَلمَات رَبِّي لَنَفَدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بمثله مدَداً﴾ [الكهف : 109] .

4 - وقد يشكل على توقف سيدنا الطباطبائي ، بقوله تعالى : ﴿منْ كُلِّ أمر﴾ ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ والكلية هنا تأبى التخصيص ، إلا بمخصص من قبل الشارع ، وهو مفقود . نعم هناك من أشكل بأن السياق هو سياق تكوين ، لا تشريع ، والجواب عليه : إن السياق ، وان كان سياق تكوين ، من نزول للملائكة وغيره ، ولكنه في النتيجة ينتهي إلى التعليم والعلم ، وهو ما يقصد في المقام من تبليغ الأمور العامة ، فالعلم لا يمكن وصفة بالتكوين المحض ؛ لأن المعلوم الذي ينزل ، هو ما يحدد الجهة ، هل هي تكوينية أم تشريعية ؟ وبما أن العلم لم يحدد بمعلومات محددة ، فلا يمكن الجزم بكونها لجهة دون أخرى ، هذا مضافا إلى الروايات الصحيحة ، التي تدل بمجملها على شمول العلم النازل لكل الأغراض ، وسيأتي في موقعه إن النصوص تدل بوضوح على أن العلم يشمل الشريعة ، والأمور الدنيوية .

الخلاصة :

إن اختيار الشيء لمعنى (الأمر) هو الأنسب لشموله ، ولمناسبة الكلية التي أكدها النص القرآني ، ولوجود رواية معتبرة في هذا المعنى ذكرناها . ولما تم توضيحه سابقا .

ص: 86

الفقرة السادسة

معنى حكيم

ص: 87

ص: 88

الفقرة السادسة

معنى حكيم

أولا : ذو الحكمة :

قال الزمخشري : «كل أمر حكيم ، كل شأن ذي حكمة ، أي : مفعول على ما تقتضيه الحكمة».(1) وعده من الإسناد المجازي ، بناءً على أن وصف الحكيم هو صفة لصاحب الأمر على الحقيقة .

أقول : الحكيم لغة ، يستخدم لمعنى صاحب الحكمة ، فهو في الحقيقة ذو الحكمة ، وإذا نسب إلى شيء كان ذلك الشيء ذا حكمة أيضا ، بمعنى أنه دال على حكمة ، وجرى على لسان العرب قولهم : «قصيدة حكيمة » أي ذات حكم ودالة عليها . وهذا نحو تطبيق المفهوم على مصادیقه ، فلا داعي لاعتباره مجازا ، والاعتذار عن هذا المجاز بنكات بيانية ، كما فعل الزمخشري في كلامه ، فقال : «ووصف الأمر به مجازا ، ﴿أَمْرًا من عندنا﴾ نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر جزلا فخما ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة ، وكسبه فخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا ، وتدبيرنا».(2)

فلا داعي لكل ذلك ، بل إن النكتة البيانية في واقعها في بيان أن الأمر نفسه ذو حكمة دال عليها ، وهو المصلحة بعينها ، وهذا نحو ترق في البيان ، يصل إلى قمة البلاغة ، وروعة الأداء ، والبلاغة عندي هي : ( ( المقصود الجليل في اللفظ الجميل ) ) .

ولكن بالتأمل ، يشكل الجزم بأن المقصود بالحكيم - هنا بالذات - هو ذو الحكمة ، وإن كان المعنى جميلا في حد ذاته ، ولكن قرينة الفرق الاختياري الحادث، تدل على عدم إرادته ؛ لأنه لو كان ذا حكمة فهو متعين ذاتا ، كما لا يخفى . فلا فرق بأمر جديد . فلو قيل إن

ص: 89


1- الكشاف : 3 : 500 .
2- الكشاف : 3 : 500 .

المصلحة حادثة له ، فلذلك فرق ، فنقول : إذا كان الفرق بأمر الله سبحانه وتعالى ، فإن ذلك تثبيت للأمر ، وكاشف عن المصلحة في حكمه ، لا أنه أوجد المصلحة في الحكم . وإذا كان بذات حكمة الأمر ، فذلك نقض للآية الدالة على وجود فاعل للفرق ، فمستحيل وقوعه في الخارج ؛ لعدم قدرة المصالح بنفسها على خلق الأشياء ، ومنها الأحكام . نعم هي دواعي للحكم ، وذلك أمر آخر غير ما قلناه في الوجهين السابقين ·

ثانيا : بمعنى محكم لا يتغير ، ولا يتبدل :

وهذا ما قاله ابن كثير(1). وقد بين هذا الرأي العلامة الطباطبائي بقوله : «وقيل المراد بكون الأمر حكيما إحكامه بعد الفرق ، لا الإحكام الذي قبل التفصيل ، والمعنى : يقضي في الليلة كل أمر محكم ، لا يتغير بزيادة ، أو نقصان ، أو غير ذلك ، هذا والأظهر ما قدمناه في المعنى»(2) .

أقول : إن ما قدمه هو أن الإحكام بمعنى الإبهام والفرق بمعنى التفصيل وقد أشرنا إلى ذلك و سنناقش هذا الأمر بعد قليل .

وأرى أن العلامة الطباطبائي وجد نفسه في مأزق خطير - هنا - لأنه سلّم بأن الأمر الحكيم هو المحكم ، وأنه - بحسب رأيه - لا يكون إلا في التكوينيات ، فلابد أن يقع في الجبر(3) لأن محكم التكوين الذي لا يتبدل منطبق على ذات المواضيع ، بخلاف محكم التشريع ، فإنه ينطبق على الأحكام ، والله تعالى مختار في تغييرها ، والعبد مختار في امتثالها ، فإن قال : إنه الأمر التشريعي توهم نسخ الشريعة ، وإن قال إنه الأمر التكويني لزمه الجبر والتعطيل . ولهذا حاول التهرب لمعنى غريب ، لا وجود له في اللغة(4) فلم يقل أحد إن الحكيم هو المبهم إطلاقا .

ص: 90


1- تفسير ابن كثير : 4 : 140.
2- الميزان : 18 : 135 .
3- قد يفهم من كلام ابن كثير ، ذهابه مذهب الجبر ، قال: «﴿أَمْرًا من عندنا﴾ أي جميع ما يكون ، ويقدره الله تعالى ، وما يوحيه ، فبأمره ، وإذنه ، وعلمه» . تفسير ابن كثير : 4 : 148 . وإنما قلنا : (قد يفهم) لأنه - كما ترى - كلاما ملتويا ، لا محصل منه ، ولا صراحة فيه ، وإن حام حول المفهوم .
4- تراجع أهم مصادر الكتب اللغوية ، وفقه اللغة ، مثل : العين ، وفقه اللغة للثعالبي ، والصحاح ، والمخصص لابن سيدة ، ولسان العرب . فإنها خالية من هذا المعنى . ويراجع بالذات لسان العرب في مادة : (حكم) .

ثالثا : الحكيم بمعنى المبهم هكذا قاله العلامة الطباطبائي :

فقد قال الطباطبائي : «والفرق فصل الشيء من الشيء ، بحيث يتمايزان ويقابله الإحكام ، فالأمر الحكيم ما لا يتميز أجزاءه عن بعض ، ولا تتعين خصوصياته وأحواله» وقال أيضا : فللأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتان : مرحلة الإجمال والإبهام ، ومرحلة التفصيل ، وليلة - حَكِيمٍ القدر - على ما يدل عليه قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ - ليلة تخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام - أي الإبهام - إلى مرحلة الفرق والتفصيل ، وقد نزل فيها القرآن ، وهو أمر من الأمور المحكمة في ليلة القدر»(1).

أقول : قد تقدم قولنا إن هذا القول لا أصل له في لغة العرب إطلاقا .

وهنا نشكل على هذا الكلام : فإذا كان القرآن مبهما ، فهل يجوز أن يترك كذلك من دون تفصيل دائم ؟

إلا أن يرى رأيا لا واقع له ، بأن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) قد فصله جميعا !

نعم ، يفهم من كلام الطباطبائي إن القرآن المبهم كان في السماء ، وأنزل على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) مفصلا في ليلة القدر ، وهذا لا علاقة له بمواصفات ليلة القدر ، وقد قلنا إن هناك فرقا بين نزول القرآن ، وبين صفات ليلة القدر العامة ، والتي منها أن يفرق فيها كل أمر حكيم ، وهذا لا علاقة له بنزول القرآن ، اللهم إلا من حيث كونه أحد مفردات ذلك الأمر . فلا رابط بين الأمر الحكيم ، وبين النزول الأول للقرآن المجيد .

بقي أن نقول أمرا مهماً ، وهو إن الجمع بين (نفرق) بمعنى (نفصل) وبين (حکیم) بمعنى : (لا يتغير) إشكال لابد من حله ، فكيف يفصل ما لا يتبدل .

والجواب على ذلك ، إننا لم نختر معنى (نفصل) بذاته في كلمة (نفرق) وإنما أخذناها بما يشمل البيان ، فلا إشكال أبداً ، ثم إننا يمكن أن نجيب على لسان من خصص الفرق في التفصيل ،

ص: 91


1- الميزان : 18 : 132 .

بأنهم يختارون الفرق قبل جعله حكيماً ، أي يكون حكيما بالفرق نفسه . واستبعاد العلامة الطباطبائي لا وجه له ، إلا لأنه اختار في معنى الإحكام الإبهام فجعله قبله . ولعل سبب وهمه ، ناشيء من هنا ، أي مما قبل الفرق، فلا بد أن يكون مبهما ، فاعتقد أنه هو الإحكام ، والأمر ليس كذلك ، ولا مجال لبحث ذلك فإنه بالفلسفة أليق ، وهو يبحث في مطالب المشيئة السابقة للإرادة ، والإرادة السابقة للقضاء والقضاء السابق للتقدير ، ونحن هنا في مرحلة التقدير فلا يناسب بحث مراحل أخرى والبحث غير مخصص لهذا الموضوع .

والخلاصة :

إن الأمر الحكيم ، هو إما أن يكون الشيء المحكم ، أو الشيء المتقن ، أو الأمر الوثيق . ومآلها إلى شيء واحد ، وهو المعنى السلبي، الذي هو عدم التبدل ، ثم بملاحظة معنى المتقن ، قد يكون هناك لحاظان ، الأول : هو الحكمة في الأمر ، والثاني : هو الإحكام وعدم التغيير فيه ، فيكون جامعا على نحو الجمع غير المنفصل . فيكون معنى الإتقان - بهذا الشكل – هو الأولى في الاختيار ؛ وذلك للإشعارين المتزامنين ، إشعار المصلحة ، وإشعار اللزوم ، الواردين في الآيات الشريفة ، إلا إذا ادعى مدع ، بأن الإتقان لا يدل على اللزوم ، ولو التزاما . فعند ذلك يتعين معنى المحكم للحكيم ، بمعنى عدم التبدل . وهو العمدة في مفاد الآيات الشريفة . وهو الأنسب مع قوله تعالى : ﴿أَمْرًا من عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ [الدخان : 5] لأن ما يرسله الله تبارك وتعالى ، من أمر ، لا بد أن يكون واحدا ، لا يتبدل خصوصا ، وإن قوله - عز وجل - : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ وارد مورد التعليل ، كما قال المفسرون ، ورسالة الله واحدة ، وهو يفهم كما تشير إليه آيات كثيرات ،كذلك من خلال السياق من أول الأمر ، وهذا ما يسمى التبادر .

وقد رأيت من المناسب أن نقرأ كلام الشيخ محمد عبده - إمام الجامع الأزهر - في معنى الأمر الحكيم ، ومعنى النذارة ، التي سنتكلم عنها لاحقا بشكل مفصل :

قال إمام الجامع الأزهر ، الشيخ محمد عبده ، في تفسير سورة القدر :

«و قد بين سبب الإنزال في آية الدخان بقوله ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] أي إننا إذا

ص: 92

خلقنا نوع الإنسان نوعا ممتازا بطبيعته ، يفارق سائر الحيوان بفطرته ، محتاجا إلى التعليم و الإرشاد بغريزته ، قد كتبنا على أنفسنا : أن نتعهده بالإنذار على السنة الرسل ، فأنزلنا القرآن ؛ لإنذار الناس بما سيلاقون جزاء لأعمالهم ، ولما تعقد عليه قلوبهم - ثوابا أو عقابا – في حياة أخرى ، بعد هذه الحياة ، ثم بين بركة الليلة ، بقوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] أي يفصل فيها كل حكم من أحكام الدين ، و لا يقرر فيها من الأحكام إلا ما كان حكيما ، يقف بك عند الحق ، ويبعد بك عن الباطل ، وينصرف بك عما فيه شقاؤك ، وفناؤك ، إلى ما فيه سعادتك ، وبقاؤك .

ثم حقق له الصفة ، بقوله: ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ﴾ [الدخان : 5 - 6] .

إذ كان الأمر من عند الحكيم العليم ، الذي من شأنه إرسال الرسل ، رحمة بعباده ، وقد سمع توسل نبيه إليه في هدايتهم ، فلا ريب تكون لحكمة ، أوله ، وآخره ، وباطنه ، وظاهره ، و لا شك أن ابتداء نزول القرآن ، كان فرقا بين الحق ، والباطل ، وكل ما جاء منه كان كذلك .

ثم توالى النزول بعد الليلة الأولى ، بما هو من نوع ما نزل فيها ، كما قال : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين رَحْمَةٌ مِّن رَبَّكَ﴾ فصح أن ينسب إليها ، انه يفرق فيها كل أمر حكيم ؛ لأن كل ما جاء فيها ، كان أمرا حكيما ، فرق به بين الحق والباطل ، وبداية لما يكون بعده ، من مثله ، كما صدق قوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاس وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان﴾ [البقرة : 185] . مع إنه لا يكون بينةً ، وفارقا بين الحق والباطل ، إلا ما ظهر للناس منه ، و هو ما نزل ، وبلغ إليهم بالفعل ، أو كان بسبيل أن يبلغ . فليس الأمر الحكيم، الذي يفرق في الليلة المباركة ، إلا أمر الدين والأحكام ، الذي سماه في البقرة : ﴿هُدًى لِّلنَّاس وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ وهذه الليلة المباركة هي بعينها ليلة القدر».(1)

انتهى كلام الشيخ محمد عبده ، إمام الجامع الأزهر .

ص: 93


1- تفسير جزء عم : 130 - 131 .

الفقرة السابعة

معنى ﴿من عندنا﴾

ص: 94

ص: 95

ص: 96

الفقرة السابعة

معنى ﴿من عندنا﴾

في البدء نذكر ، أن المفسرين كانوا قد شوشوا معنى هذه الجملة ، حيث أصبحت تتردد بين محتملات متعددة ، فهل معنى (من عندنا) أي من عند الله ؛ أم بمعنى : (بمقتضى حكمتنا) .

والحقيقة إن التخلص ، بقولهم : إنه بمقتضى الحكمة ، لا ينفي أنه من الله ؛ ولكن لأن اللفظ أصبح معقدا ، وممطوطا ، فجملة من عندنا أصبحت : «على وفق الحكمة ، والتدبير . أي أعني – بهذا الأمر - أمرا فخيما ، حاصلا على مقتضى حكمتنا ، وتدبيرنا ، وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه»(1).

إذن أصبحت جملة : (من عندنا) معقدة جدا ، ولا يمكن فهم بعدها الحقيقي ؛ لأن كل مفردات هذه الجملة تحتاج إلى تحديد ، وإلى بيان ، وإلى تأمل .

فما معنى حكمتنا ؟ وما معنى تدبيرنا ؟ وهل أتى بهذه الجملة ؛ لبيان فخامة الجملة بلاغيا ؟ أم إن لها وظيفة معنوية محددة ؟ .

الحقيقة التي هي كالشمس : إن الله - تبارك وتعالى - حين يقول : إن الأمر المنزل هو : (من عندنا) يقصد بأنه أمر (من الله) خاصة ، بكل بساطة ، وهو أمر إلهي في التشريع ، والتقدير للكونيات - كما يفهم من التعميم ومن المقارنة - فنزول القرآن ، الذي هو تشريع ، وأوامر إلهية لسانية ، أمر تشريعي ، وليس هو من قبيل : (كن فيكون) الذي هو أمر تكويني لصناعة الكون ،

ص: 97


1- روح المعاني : 25 : 114 .

ولكن لا فرق في الحقيقة بين صناعة الشريعة ، وبين صناعة الكون ، فكلها نظم من الله ؛ لتنظيم الكون ، والمخلوقات .

وهذا لا يحتاج إلى تأمل ، وشرح ، وبيان الفخامة ، حتى لو اختلف القول – بلاغيا – بين قوله (منا) أو (من الله) وبين قوله (من عندنا) فهذا أمر يسير باتجاه جوهر الدلالة النهائية .

والدلالة النهائية لا يمكن أن تكون عائمة – بالشكل الذي اقترحوه – وإنما هي أمر محدد ، يشير إلى ارتباط النزول ، والإنذار ، والإرسال بالله - مباشرة - وإن الأوامر التي احتواها النزول هي أوامر الله سبحانه وتعالى . فلا يجوز أن نغش أنفسنا ، ونذهب بعيدا في فهم النص ، فيصبح بعيدا عن توضيح الدلالة ، ليتحوّل إلى إبهام دلالة ، لنص واضح المعنى ، والمفهوم .

فإذا لم يكن معنى (من عندنا) جليا واضحا ، بأنه (أمر من الله) فما المعنى إذن ؟

ولعل الآلوسي ينبئنا بالمعنى – بشكل تفصيلي - متكلما عن الجملة القرآنية : ﴿أمرا عندنا له﴾ حيث يقول :

«والمراد بالعندية : أنه على وفق الحكمة ، والتدبير . أي أعني بهذا الأمر أمرا فخيما ، حاصلا على مقتضى حكمتنا ، وتدبيرنا . وهو بيان لزيادة فخامته ، ومدحه . وجوز حالا من ضمير كونه حالا من أمر السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له ، أو من ﴿أمر﴾ نفسه ، وصح مجيء

منه ، مع أنه نكرة ؛ لتخصصه بالوصف . على أن عموم النكرة ، المضاف إليها كل مسوغ للحالية ، من غير احتياج الوصف ، وقول السمين - إن فيه القول بالحال من المضاف إليه ، في غير المواضع المذكورة في النحو - صادر عن نظر ضعيف ؛ لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه ؛ بأن يقال : يفرق أمر حكيم ، على إرادة عموم النكرة ، في الإثبات ، كما في قوله تعالى : ﴿عَلَمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير : 14] .

وقيل : حال من : ﴿كل﴾ وأيا ما كان ، فهو مغاير لذي الحال ؛ لوصفه بقوله تعالى : ﴿من عندنا﴾ فيصح وقوعه حالا ، من غير لغوية فيه . وكونها مؤكدة ، غير متأت مع الوصفية ، كما لا يخفى على ذي الذهن السليم ، وهو على هذه الأوجه ، واحد الأمور .

ص: 98

وجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهى ، على هو ضد النهى ، على أنه واحد الأوامر ، فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية ؛ لفعل مضمر من لفظه . أي أمرنا أمرا من عندنا ، والجملة بيان لقوله سبحانه : ﴿يفرق﴾ ... الخ .

وقيل : إما أن يكون نصبا على المصدرية ل_﴿يفرق﴾ ؛ لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه ، وكذلك أمره - عز وجل - به . كأنه قيل : يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر ، وإما أن يكون على الحالية من فاعل ﴿أنزلنا﴾ أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل ؛ وفي جعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا ، تجوز فيه فخامة ، وتعقب ذلك في «الكشاف» فقال : فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها - على الثاني - ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة - على الأول - . ووجهه أن تخص بالقرآن ، ولا يجعل قوله تعالى : فيها يفرق علة للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة﴾ [الدخان : 3] على معنى فيها أنزل الكتاب المبين ، الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم ، كأنه جعل الكتاب كله أمرا ، أو ما أمر به كل المأمورات ، وفيه مبالغة حسنة ، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا . وقال الخفاجي في أمر الفصل : إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض ، وكذا على التعليل ؛ لأنه غير أجنبي . وجوز بعضهم على تقدير أن يراد بالأمر ضد النهي ، كونه مفعولا له ، والعامل فيه ﴿يفرق﴾ أو ﴿أنزلنا﴾ أو ﴿منذرين﴾».(1)

أقول : لا يخفى إن أغلب هذا تكلّف ، وتضييع لمقاصد الكتاب الحكيمة ، وليس معنى ذلك إنني أقلل من أهمية النقاش اللغوي، والبلاغي، والنحوي في الآية ، ولكن الحصيلة كانت عدم وضوح الفكرة ؛ لتعدد الاحتمالات ، وعدم الحسم . وكما هو معلوم ، فإن النحو وليد المعنى

ص: 99


1- تفسير الآلوسي: 25: 112-113.

وابنه ، فكل كلام لم نستطع تحديد إعرابه ، فهو غير محدد المعنى ، وأن المعنى متحرك ، وغير مستقر في الخانة المناسبة له.

وقد قدمنا وضوح وبساطة المعنى بأنه يقصد انه أمر من الله تعالى وبغيره لا يصح المعنى ، بل يختل الترابط بشكل ظاهر ، حتى وان كانت المعاني محتملات بأنفسها ، ولكن ليس العبرة بما هو محتمل ، وإنما بما هو قابل للتطبيق على النص بالموقع المعين .

ص: 100

الفقرة الثامنة

معنى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾

ص: 101

ص: 102

الفقرة الثامنة

معنى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾

التنزل في اللغة – قطعا – هو الهبوط من أعلى(1) وفي سبيل أن يكون الأمر متعلقا بالإنسان ، لابد أن يكون التنزل إلى الأرض . ولكن ، يبدو أن استمرار ليلة القدر إلى يوم القيامة ، أحدث إحراجا للمفسرين ، فقال بعضهم : إن النزول إنما هو إلى السماء الدنيا ، وليس إلى الأرض . وهذا ما أشار إليه (ابن كثير) - جازما - في بداية الأمر ، ولكنه وصف نزول الملائكة ، وأنهم يسلمون على المؤمنين من البشر في الأرض ، وإن علامة ذلك قشعريرة تصيبهم – فجأة – وذلك من مصافحة جبرائيل.(2) وهذا تناقض عجيب .

ص: 103


1- قال السيد الطباطبائي : «والنزول ، هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الإنزال ، والتنزيل . إن الإنزال دفعي ، والتنزيل تدريجي . والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، باعتبار كونه مقروءاً، كما قال تعالى : ﴿إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 3] ويطلق على مجموع الكتاب ، وعلى أبعاضه» . الميزان : 2 : 150 . أقول : لا اعرف من أين استدل على هذا التفريق ، بين التنزيل والإنزال.
2- انظر : تفسير ابن كثير : 4 : 572 وفيه : «ذكر أثر غريب ونبأ عجيب يتعلق بليلة القدر : رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم ، عند تفسير هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا موسى بن سعيد ، يعني الراسبي ، عن هلال بن أبي جبلة ، عن أبي عبد السلام ، عن أبيه ، عن كعب ، أنه قال : إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة ، مما يلي الجنة ، فهي على حد هواء الدنيا ، وهواء الآخرة علوها في الجنة ، وعروقها ، وأغصانها من تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل ، يعبدون الله عز وجل على أغصانها ، في كل موضع شعرة منها ملك ، ومقام جبريل ، في وسطها فينادي الله جبريل ، أن ينزل في كل ليلة القدر ، مع الملائكة ، الذين يسكنون سدرة المنتهى ، وليس فيهم ملك إلا قد أعطي الرأفة ، والرحمة للمؤمنين ، فينزلون على جبريل في ليلة القدر ، حين تغرب الشمس ، فلا تبقى بقعة في ليلة القدر ، إلا وعليها ملك ، إما ساجد ، وإما قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، إلا أن تكون كنيسة ، أو بيعة ، أو بيت نار ، أو وثن ، أو بعض أماكنكم ، التي تطرحون فيها الخبث ، أو بيت فيه سكران ، أو بيت فيه مسكر ، أو بيت فيه وثن منصوب ، أو بيت فيه جرس معلق ، أو مبولة ، أو مكان فيه كساحة البيت ، فلا يزالون ليلتهم تلك ، يدعون للمؤمنين ، والمؤمنات ، وجبريل لا يدع أحدا من المؤمنين ، إلا صافحه ، وعلامة ذلك ، من اقشعر جلده ، ورق قلبه ، ودمعت عيناه ، فإن ذلك من مصافحة جبريل. وذكر كعب ، أن من قال في ليلة القدر : لا إله إلا الله ، ثلاث مرات، غفر الله له بواحدة ، ونجا من النار بواحدة ، وأدخله الجنة بواحدة ، فقلنا لكعب الأحبار : يا أبا إسحاق صادقا ، فقال كعب الأحبار : وهل يقول لا إله إلا الله ، في ليلة القدر ، إلا كل صادق ، والذي نفسي بيده ، إن ليلة القدر لتثقل على الكافر ، والمنافق ، حتى كأنها على ظهره جبل ، فلا تزال الملائكة هكذا ، حتى يطلع الفجر ، فأول من يصعد جبريل ، حتى يكون في وجه الأفق الأعلى ، من الشمس ، فيبسط جناحيه ، وله جناحان أخضران ، لا ينشرهما إلا في تلك الساعة ، فتصير الشمس لا شعاع لها ، ثم يدعو ملكا ، ملكا ، فيصعد ، فيجتمع نور الملائكة ، ونور جناحي جبريل ، فلا تزال الشمس ، يومها ذلك ، متحيرة ، فيقيم جبريل ، ومن معه بين الأرض ، وبين السماء الدنيا ، يومهم ذلك في دعاء ، ورحمة ، واستغفار للمؤمنين ، والمؤمنات ، ولمن صام رمضان ، إيمانا ، واحتسابا ، ودعاء لمن حدث نفسه : إن عاش إلى قابل صام رمضان الله ، فإذا أمسوا دخلوا إلى السماء الدنيا ، فيجلسون ، حلقا ، حلقا ، فتجتمع إليهم ملائكة سماء الدنيا ، فيسألونهم عن ، رجل ، رجل ، وعن امرأة ، امرأة ، فيحدثونهم ، حتى يقولوا : ما فعل فلان ، وكيف وجدتموه العام ؟ فيقولون : وجدنا فلانا عام أول في هذه الليلة متعبدا ، ووجدناه العام مبتدعا ، ووجدنا فلانا ،مبتدعا ، ووجدناه العام عابدا . قال : فيكفون عن الاستغفار لذلك ، ويقبلون على الاستغفار لهذا ، ويقولون : وجدنا فلانا ، وفلانا ، يذكران الله ، ووجدنا فلانا راكعا ، وفلانا ساجدا ، ووجدناه تاليا لكتاب الله . قال : فهم كذلك يومهم ، وليلتهم ، حتى يصعدون إلى السماء الثانية ، ففي كل سماء يوم وليلة ، حتى ينتهوا مكانهم من سدرة المنتهى ، فتقول لهم سدرة المنتهى : يا سكاني حدثوني عن الناس ، وسموهم لي فإن لي عليكم حقا ، وإني أحب من أحب الله . فذكر كعب الأحبار أنهم يعدون لها ، ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم ، وأسماء آبائهم ، ثم تقبل الجنة على السدرة ، فتقول : أخبريني بما أخبرك سكانك الملائكة ، فتخبرها . قال : فتقول الجنة : رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، اللهم عجلهم إلي ، فيبلغ جبريل مكانه قبلهم، فيلهمه الله ، فيقول : وجدت فلانا ساجدا ، فاغفر له ، فيغفر له ، فيسمع جبريل جميع حملة العرش، فيقولون : رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، ومغفرته لفلان ، ويقول : يا رب وجدت فلانا ، الذي وجدته عام أول على والعبادة ، ووجدته العام قد أحدث حدثا ، وتولى عما أمر به ، فيقول الله : يا جبريل إن تاب فأعتبني ، قبل أن يموت بثلاث ساعات ، غفرت له ، فيقول جبريل لك الحمد ، إلهي أنت أرحم من جميع خلقك ، وأنت أرحم بعبادك ، من عبادك بأنفسهم ، قال : فيرتج العرش ، وما حوله ، والحجب ، والسماوات ، ومن فيهن، تقول : الحمد لله الرحيم الحمد لله الرحيم .

ص: 104

ولقد كان موقف الزمخشري - من هذا الموضوع - أعجب . حيث قال : «﴿تنزل﴾ إلى السماء الدنيا ، وقيل إلى الأرض».(1)

إن احتمال وجود المعنيين المتضادين معا ، في النص القرآني أمر قد يقلل من قيمته الإعجازية الحقيقية(2) وأنت خبير أن هذا التردد بين معنيين متضادين ، أمر بعيد عن الفكر السليم .

- وهنا - لنا وقفة مع من يقول : أنه تنزل إلى السماء فقط ، بالإضافة إلى المناقشات السابقة :

1 - ما معنى التنزل ؟ ومن أين ؟ وإلى أين ؟ خصوصا ، وإننا نفهم معنى التعدد في السماوات السبع ، بأنها ليست طبقات مادية ، بل هي رتب وجودية ، وهذا ما يقتضيه البرهان العلمي والفلسفي ، والديني . فلابد لمن يدعي مفهوم النزول إلى السماء الدنيا ، أن يتصور ذلك . وذلك لا يلزم لمن يقول بالنزول إلى الأرض ، فهو مشار إليه بالوحي ، والتماس مع الإنسان .

2 - إن التنزيل هذا - كما هو واضح - له هدف ، هو تبليغ الأمر الإلهي المتعلق بالأرض ، من

ص: 105


1- الكشاف : 4 : 273 .
2- قد يكون تعدد الاحتمالات في الآية الواحدة - بالنسبة إلينا - من جميل عظمة القرآن ، ولكنه ليس كذلك بالنسبة لمنشيء القرآن ، ومريد الكلام ، وهو الله تبارك وتعالى ، وهناك احتمالات لا تنافر بينها ، بل بينها نسبة من الترقي في المعنى ، وهذا مقبول وعظيم ، وأما أن نحتمل المتنافرين ، فهذا مما يدمر بنية القرآن الفكرية والأسلوبية . إن أي عاقل إذا سئل عن طريق ليس فيه إلا اليمين والشمال ، فهل يجيب أنه إما أن يكون يمينا أو شمالا ؟ . إذن هل أجاب على السؤال ؟ وهل سيكون لكلامه معنى لو أجاب كذلك ؟ !!

الليلة إلى ما يقابلها من السنة القادمة ، فما علاقة أهل السماء بهذا الشأن ، وعلام اهتمامهم بذلك ؟ مع ملاحظة ما يأتي في الفقرة التالية .

3 - الظاهر ، إن الأمر المنزل ، يشمل التكاليف كما أثبت ذلك المفسرون ، بل هو ظاهر القرآن ، فما حاجة أهل السماء إلى تكاليف هي تكاليفنا . وحتى لو قلنا إنها لإطلاعهم عليها ، حتى يراقبوا تصرفنا وفقها ، فإن ذلك بلا فائدة ؛ لأننا غير مكلفين تنجيزا بما نجهل.

4 - إننا بحثنا مطولا - في بحث خاص - معنى السماوات السبع ، وقد انتهينا إلى : إن معنى السماء الدنيا ، هو العالم المادي ، وما فيه من أبعاد ، وهو غير السماوات السبع ، التي تبدأ من السماء الأولى ، إلى السماء السابعة ؛ وهي لا يصح وصفها بالسماوات المادية ، بل هي من نوع وجود يختلف عن وجودنا المادي، باختصار فإن الطبقات السماوية هي طبقات في نوع الوجود ، وليس في الأبعاد والمسافات والدليل هو النزول من العرش (حيث يصوّر انه قريب من الوجود الإلهي) إلى الوجود المادي، وهذا يعني نوعيات من الوجود المتداخل ، ولهذا فالجرثومة هي في السماء الدنيا رغم صغرها وعدم رؤيتها بالعين المجردة ، كما إن أبعد الأجرام السماوية وأضخمها حجما بما فيها المجرات والسدم ، هي في السماء الدنيا .

نحن نقدر ، لغير المطلع على هذا المبحث وأسسه ومواد استنباطه ، أن لا يدرك مغزى ما قلناه - آنفا - ولكن ليعلم ، بأننا ننظر إلى ادعاء النزول إلى السماء الدنيا بالشكل الذي يصورونه - بشيء من الوعي - على انه جهل في معنى السماء .

الخلاصة :

لا معنى ، لتنزل الملائكة والروح ، إلا إلى الأرض . وإن من يدعي غير ذلك ، عليه إثبات مدعاه ، ودونه خرط القتاد

ص: 106

الفقرة التاسعة

هل ليلة القدر مستمرة ؟

ص: 107

ص: 108

الفقرة التاسعة

هل ليلة القدر مستمرة ؟

إن سياق الآيات ، واستخدام المضارعة في الأفعال - في النصوص القرآنية والأحاديث ، التي أشارت إلى ليلة القدر - يدل بما لا يقبل الشك ، على الدوام ، والاستمرار . ولم أعثر على رواية ، تدل على عدم استمرارها ، ومن العجيب إن (ابن كثير) ينسب القول بعدم استمرارها ، إلى جهلة الشيعة(1) كما يقول . ولم اعثر على رواية واحدة - عند الشيعة - تدل على القول بعدم استمرارها وهو يدعي وجود من ينكر ذلك من دون ذكر اسمه.

الأدلة القرآنية :

قال الطباطبائي قدس سره : «ويستفاد من ذلك ، إن ليلة القدر متكررة بتكرر السنين ، ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ، ليلة تقدّر فيها أمور السنة ، من الليلة إلى مثلها من قابل ، إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها ، أو ليال معدودة في طول الزمان ، تقدر فيها الحوادث الواقعة ، التي قبلها ، والتي بعدها ، وان صح فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة ، ينزل فيها القرآن جملة واحدة .

على إن قوله : ﴿يُفْرَقُ﴾ - وهو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار ، وقوله : ﴿خَيْرٌ من ألف شَهْرٍ﴾ و ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ﴾ ... إلى آخره ، يؤيد ذلك .

ص: 109


1- تفسير ابن كثير : 4 : 569 . وفيه : «ففيه دلالة على ما ذكرناه ، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة ، في كل سنة ، بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة ، من رفعها بالكلية على ، ما فهموه من الحديث ، الذي سنورده بعد من قوله (علیه السّلام): «فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم لأن المراد رفع علم وقتها عينا» . وفيه أيضا : 4 : 571 : «وقوله : «فرفعت» أي : رفع علم تعيينها لكم ، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقوله جهلة الشيعة ؛ لأنه قد قال بعد هذا : «فالتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة».

فلا وجه لما قيل : إنها كانت ليلة واحدة بعينها ، نزل فيها القرآن ، من غير أن يتكرر ، وكذلك ما قيل : إنها كانت تتكرر ، بتكرر السنين بزمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم رفعها الله ، وكذلك ما قيل : إنها واحدة بعينها ، في جميع السنة ، وكذلك ما قيل : إنها في جميع السنة ، غير أنها تتبدل ، بتكرر السنين ، فسنة في شهر رمضان ، وسنة في شهر شعبان.(1)

وقال ، أيضا في موضع آخر : «وظاهر اللفظ ، إنها إحدى التي تدور على الأرض ، وظاهر قوله : ﴿فيهَا يُفْرَقُ﴾ [الدخان : 4] الدال على الاستمرار ، أنها تتكرر ، وظاهر قوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة : 185] أنها تتكرر ، بتكرر شهر رمضان ، فهي تتكرر ، بتكرر السنين القمرية ، وتقع في كل سنة قمرية مرة واحدة في شهر رمضان ، وأما أنها أي ليلة هي ؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك»(2).

أقول : أكتفي - هنا - بما أورده الطباطبائي، وسأترك بعض التفصيلات للتعقيب التالي .

الأدلة الحديثية :

وقد أوردناها ، استئناسا ، لا استدلالا ، دفعا لمشكلة التثبت من صحة السند . على إن فيما بين يدينا من روايات ، تكاد تصل حد التواتر ، والمطابقة في القول بما يكفي للاستدلال بها . وهذا مما يمنح الجرح فرصة في الطرح، بل إنني لم اعثر على قول منسوب للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، بانتهاء ليلة القدر بقول صريح يصلح للنقاش .

وسأثبت الروايات الشيعية ، قبل غيرها ، باعتبار ما نسب إليهم ؛ لنبين أن ذلك بعيد جدا .

وهذه بعض الروايات ، على نحو الأنموذج ، لا الاستقصاء ، فإنها كثيرة لا داعي لذكرها جميعا :

فقد أثبت الطباطبائي ، عن الكافي، رواية حمران ابن أعين ، أنه سأل أبا جعفر (علیه السّلام)، عن قول

ص: 110


1- الميزان : 20 : 308.
2- الميزان : 18 : 132.

الله تعالى : ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ . قال : ( نعم ليلة القدر ، وهي في كل سنة ، في شهر رمضان ، في العشر الأواخر».(1)

وعن عبد الله بن سنان : «فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين ، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾».(2)

وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : قلت : يا رسول الله ليلة القدر شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل فيها عليهم الأمر فإذا مضوا رفعت ؟ قال : لا بل هي إلى يوم القيامة.(3)

وذكرت الرواية بلفظ آخر : عن أبي ذر أنه قال : قلت يا رسول الله ! ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء ، ينزل فيها ، فإذا قبضوا رفعت . قال : لا بل هي إلى يوم القيامة .(4)

محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد بن السياري ، عن بعض أصحابنا ، عن داود بن فرقد ، قال : حدثني يعقوب ، قال : سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر ؟ فقال : اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل عام ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.(5)

وعن حماد بن عثمان ، عن حسان بن أبي علي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر ، قال : اطلبها في تسع عشرة ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين.(6)

وفي الحديث السني :

ابن كثير : «قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل سماك الحنفي حدثني مالك بن مرثد بن عبد الله حدثني مرثد قال سأل أبا ذر قلت كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ؟ قال أنا كنت أسأل الناس عنها قلت يا رسول

ص: 111


1- الميزان : 18 : 136 ، نقلا عن الكافي : 4 : 157 : باب ليلة القدر .
2- الميزان : 18 : 137 ، مستدرك الوسائل : 7 : 471 : باب تعيين ليلة القدر .
3- بحار الأنوار - العلامة المجلسي : 25 : 97 - 98.
4- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي: 406:10.
5- تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي : 5 : 621 .
6- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي : 20 : 333 .

الله أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال : بل هي في رمضان» قلت تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : «بل هي إلى يوم القيامة» قلت في أي رمضان هي قال : «التمسوها في العشر الأول ، والعشر الآخر»(1) [ورواه النسائي ، عن * الفلاس ، عن يحيى بن سعيد القطان] .

وقد قال ابن كثير : «وفي هذا الحديث دلالة على ما ذكرناه ، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة ، في كل سنة بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة ، من رفعها بالكلية ، على ما فهموه من الحديث ، الذى سنورده بعد قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «فرفعت وعسى ان يكونوا خيركم «لأن المراد بالرفع ، رفع علم وقتها - عينا -» . انتهى.(2)

ثم روى رواية ، عن عبادة بن الصامت ، قال : خرج رسول الله ؛ ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحي رجلان من المسلمين ، فقال : (خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحی فلان ، وفلان ، فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم ، فالتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة» . انتهى.(3)

ثم علق على الحديث - قائلا : «وقوله (علیه السّلام): (فرفعت) أي : رفع علم تعيينها ، لكن لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقول جهلة الشيعة ؛ لأنه قد قال بعد هذا : «فالتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة» . انتهى.(4)

أقول :

1 - لا يوجد عند الشيعة من يقول بانتهاء ليلة القدر بوفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا أعرف من أين جاء (ابن كثير) بهذه الادعاءات . إلا إذا قصد بالشيعة ، غير الإمامية ، وهذا غير معروف عندنا .

2 - بالإضافة إلى ما ذكر ، فإن هناك روايات كثيرة ، تحث على ترقب ليلة القدر ، وثوابها مما

ص: 112


1- ابن كثير : 4 : 569 .
2- ابن كثير : 4 : 569 .
3- ابن كثير : 4 : 571 .
4- ابن كثير : 4 : 571 .

يدل على استمرارها . بالإضافة إلى سيرة المسلمين - عموما - إلى هذا الزمن ، من ترقب العشر الأواخر في شهر رمضان ، وترقب ليال معينة ، طلبا لثواب ليلة القدر ، واعتبارها مستمرة ، ومتجددة .

3 - قوله : «(فرفعت) أي : رفع علم تعيينها» هو من باب توضيح الواضحات ؛ لأن النص يقول فالتمسوها ، وهذا يعني بكل تأكيد أنها موجودة ، وعليكم تحصيلها ، بالإتيان بالمحتملات لها . وهذا الحديث يثبت كونها مستمرة .

الخلاصة :

إن الأدلة ثابتة على استمرار ليلة القدر ، وأهمها - على الإطلاق - هو الظهور القرآني في ذلك . وقد حاولت فهم السبب الذي دعا من يقول : إنها ليلة واحدة ، قد كانت وانتهت ، إلى قوله ذاك . فراجعت جميع الثغرات ، فيما سبق ، فتبين لي : أن منشأ التوهم ، هو : إن ليلة القدر ، ليلة ذكر فيها نزول القرآن ، وبما إن القرآن ، نزل مرة واحدة ، في ليلة واحدة لا تتكرر ، فليلة القدر إذن لا تتكرر .

وهذا وهم فظيع ، ويكفي إلقاء نظرة على الآيات الشريفة المتعلقة بالموضوع ؛ ليتبين : إن ليلة القدر ، ليلة مستقلة مباركة ، لها خصائص كونية ، ولها تعلق بالمعارف ، والإرادة الإلهية . وفيها تفصيلات التقديرات الإلهية ، في كل سنة بسنتها ، وهي غير مرتبطة بالقرآن ، ارتباطا موضوعيا . وإنما نزل القرآن فيها ، وهو أحد وجوه النشاط ، والخصوصية القدسية ، في هذه الليلة المباركة ، وليس هو الحدث الذي صبغ تلك الليلة بخصائص ليلة القدر ، وإنه تقسيم للخواص المذكورة الأخرى ، غير إن هذا التقسيم لفظي .

والواقع ، فإنه من باب الخصوص ، والعموم المطلق ، حيث أنه فرد من مجموع ، وهو عموم التنزل ، ومع ذلك فإن تثبيت المقابلة ، يوجب المغايرة ، كما هو معلوم ، ولا يهم بأي شكل من الأشكال ، سواء كان التنافر الكلي ، أم التداخل بكل صوره .

ص: 113

المهم ، أن النصوص تفرّق بين نزول القرآن في ليلة القدر ، وبين نزول الملائكة ببيان الأمر الإلهي . فهي ليلة القدر ، والتقدير قبل نزول القرآن ، وبعده ، وإنها ليلة تتعلق بحياتنا الأرضية ، لا بالحوادث السماوية ، بل - حسب التحقيق - لا علاقة لها بالسماء ، وأهل السماء ، غير كون الأمر نازلا - بالنزول الاعتباري المجازي - من - من السماء إلى الأرض .

وإنما قلنا : (اعتباري) لاستحالة أن يكون الله تعالى في جهة ، أو من جهة ، أو إلى جهة ، بل هو محيط بكل شيء ، ولا يحاط به . فلا معقولية للنزول ، والصعود ، إلا بالمعنى الرتبي ، أو الاعتباري . وإن السماء – نفسها – لا تعني العلو ، أو الانخفاض ، في حقيقتها ؛ لأنها رتبة وجود ، لا طبقة موجود ، حتى وإن كان أصل كلمة سماء - من الناحية اللغوية - هو الناحية اللغوية - هو ما عرف عندنا من فضاء ، يعلو رؤوسنا .

فغير غير خفي على أرباب النظر ، إن المسميات تؤخذ من المتعقلات - وفي الغالب - من المحسوسات ، وتوضع لأمور أشمل لما تعقله الواضع الأول ، أو السامع الأول - بحسب الحال فهذه كلمة (العقل) يقول عنها أهل اللسان - والعهدة عليهم – إنها مأخوذة أساسا من الوثاق وربط شيء بشيء ، ثم استعملت في نفس المعاني المربوطة ، وأخيرا استعملت في نفس الرابط وهو ما نسميه العقل الآن ، الذي نتعقل به الأمور . وهكذا حال السماء .

فإذن - نكرر القول مرة أخرى - إن النزول اعتباري ؛ للأسباب المذكورة سابقا . ولا علاقة لليلة القدر بالسماء ، رغم استخدام مفهوم النزول . ونحن مع العلامة الطباطبائي ، في عدم معقولية : أن تكون ليلة القدر ليلة واحدة ، تقدر ما قبلها ، وما بعدها . وغير خفي على المتأمل إن ظاهر الآيات ، بأنها ليلة أرضية ، منذ أن كان الإنسان ، ومنذ أن كان الإرسال ، والإنذار .

وبناءً على دقة القرآن الكريم ، أليس ينبغي أن نقول : (سلام كانت حتى مطلع الفجر) بدلا ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر : 5]؟ حينما تكون ليلة واحدة ، قد انقضى زمانها .

على إننا ، لو افترضنا - وفرض المستحيل ليس بمستحيل - إن المضارعة ، والإشارة المستمرة، لا تدل على الاستمرار ، فهي لا تدل - قطعا - على الانقطاع .

ص: 114

فكيف تولد في ذهن القائلين بانتهائها - ذلك القول ؟

هذا وإن من أغرب ما ورد في استمرار ليلة القدر ، هو القول بانتهائها بوفاة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلا يعلم مستند هذا القول ، فلا هو قول باستمرارها ، كما تدل عليه الظهورات القرآنية ، وغيرها ، ولا هو القول بأنها ليلة واحدة فقط ، بناءً على الشبهة الواهية التي ذكرناها .

وهذا القول ، منسوب لابن عباس ، في حوار مع الإمام ، أورده في كتاب الكافي للشيخ الكليني(1) في رواية ، وصفت بأنها مضعفة ، متروكة ، من أهل الحديث ، فيها نقاش بين الإمام الباقر (علیه السّلام)- ولعله الإمام السجاد (علیه السّلام)- وابن عباس ، فقال ابن عباس : «إنا نراها انتهت بوفاة الرسول» - بعد إحراجه بشأن ليلة القدر - فرد عليه الإمام بحديث ذكره به ، أنه سأل الإمام علي عن ليلة القدر ، فأجابه الإمام علي (علیه السّلام): بأنها قائمة إلى يوم القيامة . وأضاف الإمام - ولعله السجاد (علیه السّلام)- قائلا : «إن أنكرت هذا فقد استحققت النار» . فاعتذر ابن عباس بالغفلة ، عن أمر غير مهم .

أقول : إن الرواية وصفت بأنها ضعيفة جدا عند علماء الشيعة ، وسيأتي تحقيق حالها وحال سندها ، وهي حجة في معناها وقد حققنا أن هناك خللا من النساخ جعلها غير مقبولة وقد اقترحنا تصحيح الخلل ، وما نسب إلى ابن عباس وتراجع عنه معتذرا بالنسيان لا يضر ، لأنه رأي له موقوف عليه لا يؤخذ به، خصوصا بعد كون الرواية نفسها تروي التراجع وعدم الضبط للأمر ، وكان الحوار حول الإمامة وهذا حوار حساس يمكن أن يختلق المعاند فيه شتى الأعذار ليخرج عن أمر الله الثقيل .

ولا بأس أن نذكر ، إن الشيخ محمد عبده ، وهو سني وإمام الجامع الأزهر ، يشير بطرف خفي إلى القول : بأن ليلة القدر مرة واحدة ، وانتهت . وليس هو قول الشيعة ، مع ملاحظة إن رأي شيخ الأزهر متأخر زمنا وهو بلا قيمة علمية لكونه لا يستند على أي دليل بل يمشي ضد الدليل ، والظهور اللفظي .

ص: 115


1- الكافي : 1 : 242 - 248 .

لقد قرر الإمام محمد عبده ، إن (الأمر) هو : أحكام الدين ، ثم قرر بعد ذلك - بوضوح - إن المراد بتنزل الملائكة : هو تنزلها لتبليغ أحكام الدين إلى النفس الكاملة ، فلا يبقى بعد هذا ، إلا إثبات استمرار ليلة القدر ؛ ليكون هذا إثباتا لوجود نفوس كاملة ، بعد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، تتلقى أحكام الدين ، وعلومه من الملائكة السماء . وفي هذا يقول إمام الجامع الأزهر ، الشيخ محمد عبده (رحمه الله علیه):

« ﴿بإذن ربهم﴾ أي : إنما تتجلى الملائكة على تلك النفس الكاملة ، بعد أن هيأها الله ، لقبول تجليها ، وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس - كما هو معلوم – فذلك فضل الله ، يختص به من يشاء ، واختصاصه هو إذنه ، ومشيئته.

ثم إن هذا الإذن ، مبدؤه الأوامر ، والأحكام ؛ لأن الله يجلى الملائكة على النفوس ؛ لإيحاء ما يريده منها ، ولهذا قال : ﴿من كُلّ أمر﴾ أي : إن الله يظهر الملائكة والروح لرسله ، عند كل أمر ، يريد إبلاغه إلى عباده ، فيكون الإذن مبتدئا من الأمر ، على هذا المعنى .

و الأمر - هاهنا - هو الأمر في قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مرسلين﴾ [الدخان : 5].

فالكلام في الرسالة والأحكام ، لا في شيء آخر سواها . ولهذا قال بعضهم : إن ﴿من﴾ هنا ، بمعنى الباء ، أي : بكل أمر ، ولا حاجة إليه فيما قلنا».(1)

فهنا ، قد أقر الشيخ محمد عبده ، بأن الملائكة تنزل في ليلة القدر ؛ التبليغ أحكام الدين ، وأمره التشريعي إلى النفس الكاملة ، وهذا يستدعي أمورا خطيرة . ولهذا فلم يقر باستمرار ذلك ، بعد وفاة الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، و لذا قال الشيخ محمد عبده بعد ذلك :

«وإنما عبر بالمضارع ، في قوله : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ﴾ وقوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ مع إن المعنى ماض ؛ لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن ؛ لوجهين :

ص: 116


1- تفسير جزء عم : 133 .

الأول : لاستحضار الماضي ؛ لعظمته ، على نحو ما في قوله ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة : 214] فإن المضارع ، بعد الماضي ، يزيد الأمر تصويرا .

قال تأبط شرا :

ألا من مبلغ الفتيان فهم *** بما لاقيت عند رحى بطان

و إني قد لقيت الغول يهوى *** بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها كلانا نضو أين *** اخو سفر فخلى لي مكاني

فشدت شدة نحوى فأهوى *** لها كفى بمصقول يماني

فاضربها بلا دهش فخرت *** صريعا لليدين و للجران

والشاهد في قوله : (فأهوى) وقوله : (فأضربها) في حكاية الماضي .

والثاني : لأن مبدأ النزول ، كان فيها ، ولكن بقية الكتاب ، وما فيه ، من تفصيل الأوامر ، والأحكام ، كان فيما بعد .

فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها ، يستمر في مستقبل الزمان ، حتى يكمل الدين».(1)

أقول : فهو - كما يظهر - لا يقول باستمرار ليلة القدر ، أي : استمرار نزول الملائكة فيها ، وهذا خلاف ظاهر الآيات ، ولا دليل عليه ، إلا توهمه ، أنه لا يصح استمرار نزول أحكام الدين ، بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). وهذا هو المصاب الخطير كما يشير إليه.

ويقول - أيضا - للتخلص من مشكلة الحث على ترقب ليلة القدر ، في كل رمضان ، وهو ما يوحي ببقائها مدى الدهور .

يقول : «وما ورد في الأحاديث ، من ذكرها ، إنما قصد به : حث المؤمنين على إحيائها ، بالعبادة شكرا الله على ما هداهم ، بهذا الدين ، الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم ، في أثنائها ... فهي ليلة عبادة ، وخشوع ، وتذكر لنعمة الحق ، والدين» .(2)

ص: 117


1- تفسير جزء عم : 133 - 134.
2- تفسير جزء عم : 131.

أقول : - لاشك - أن هذه النصوص ، التي أوردناها للشيخ محمد عبده ، تنطوي على أمرين مهمین :

الأول : هو قوله : إن النزول يكون على النفس الكاملة ، بالأحكام الإلهية ، والأمور التشريعية . وهذا ما سأعتبره اعتراف أحد العلماء المهمين ، بأن المقصود هو : الحكم التكويني والتشريعي ، بخلاف ما يحاول البعض التخلص منه .

والثاني : هو إشارته إلى توقف ليلة القدر .

وهذا كلام لا دليل عليه ، والدليل خلافه، واستظهاره للأحاديث غريب جدا ، حيث اعتبرها للبركة ، والعبادة مع توقف النزول بالأمر . وهذا لم يقل به عالم ، ولكن يبدو إن هذا الوجه الذي تبناه هو المخرج الوحيد الذي يمكن أن يتخلص به وفق متبنياته العقائدية ، وإلا فإن قوله الأول ، لو بقي مع بقاء ليلة القدر ؛ لوجب عليه القول بوجوب وجود الإمام ، ولو بنحو إمامة الولاية الصوفية ، ومع هذا سوف لن ينفعه تصور الولاية الصوفية ؛ لأن الأمر يرتقي إلى رتبة تبليغ أمر الله ، سنويا كما ينص هو ، وليس إلى موضوع القداسة الصوفية ، والكرامات المدعاة .

ص: 118

الفقرة العاشرة

التعليل في ليلة القدر

ص: 119

ص: 120

الفقرة العاشرة

التعليل لليلة القدر

أضيفت هذه الفقرة في فترة متأخرة ، بعد استكمال أغلب عناصر البحث ، وسبب ذلك ، إن احد الفضلاء من أصدقائي من علماء السنة ، اعترض على الإشكالية ، بعد إطلاعه عليها ، قائلا : إن أساس الإشكالية يصح ، فيما إذا كان لسان النص ، على خصائص ليلة القدر ، معللا بتعليل دائم ، في إرسال الله البيان ؛ لأن نزول القرآن حدث مرة واحدة ، وانتهت ، و لا يوجد تعليل ، في نص سورة الدخان مطلقا ، فلا يصح الاستدلال بليلة القدر من هذه الجهة ، وادعى : إنه لم يقل أحد من المفسرين : إن نزول الملائكة في ليلة القدر ، معللا لقضية مستمرة ، ودائمة ، لا تخلف فيها ، حتى تستمر خصوصية التبليغ ، وتصح الإشكالية.

عندها ، كان من اللازم ، بيان ما غفل عنه الفاضل - المشار إليه - من كون أغلب المفسرين ، يقولون بالتعليل ، وإن لسان النص ، هو لسان تعليلي ، لأبسط محللي اللغة العربية ، ومنطق النص وبما أن مثل هذا الاعتراض، قد يرد في أذهان شريحة كبيرة من المنكرين ؛ فلهذا يلزم البيان .

إن أي مقدار من الفهم البسيط ، يمكن من خلاله للمتتبع الدقيق لخصوصية الخطاب القرآني ، أن يفهم : إن نص آيات سورة الدخان ، هو نص يعتمد التسبيب ، حسب المفهوم العقلي لصياغة النص ، وحسب الظهورات اللفظية . ولكننا - ولمن يختار اللجاجة في هذا الأمر – يمكن أن نبحث معه الموضوع ، بصورة مفصلة.

فحتى لو سلّمنا ، بما قاله الفاضل : من أن النص القرآني - هنا - يعتمد التوصيف ، وليس التعليل . أي : إن الإنزال ليس لأجل الإنذار ، وإنما هو لحالة الإنذار ، ولحالة الإرسال ، ولحالة الرحمة - كما توهم - فهو لم يتخلّص من التعليل ؛ لأن هذا في الواقع تعليل ، وتسبيب واضح ؛ لأن التعقيب بالإنذار ، معقب عليه برحمة الله ، تعقيب ارتباط و تلازم ، وهو يعني : إن حالة الإنذار

ص: 121

والإرسال ، المبنية على حالة رحمة الله ، هي السبب الرئيسي ؛ لإنزال الملائكة في ليلة القدر وذلك للترابط بينهما من جهة، ولمرتكزات قرآنية من جهة ثانية. ومهما حاول التنصل عن التسبيب ، سيجد أن النص يحاصره ، من الناحية البيانية ، والبلاغية .

والمعنى ، الذي أنكره ، ليس بدعا في القرآن ، بل هو الأصل ، فيما ورد في الكتاب العزيز .

فالقرآن الكريم، ربط بين العقاب الإلهي ، الذي هو نتيجة حتمية ، للتكليف بإرسال الرسل، وبين البعثة ، والبيان . وهذا الربط ، وإن كان عقليا - في الأساس - ولكنه جعله أمرا منصوصا ، لا شبهة فيه . كقوله : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . وقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشيراً وَنَذيراً وَإِن مِّنْ اُمَّة إلا خلا فيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] . وقوله تعالى : ﴿إليَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيَّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾ [الأنفال : 42] . وقوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة : 115] .

وقد رأيت ، أن أفرد ملحقا مهما ، له علاقة بهذا الإشكال ، وهو بحث قاعدة قبح العقاب بلا بیان . وما قيل في دلائلها القرآنية ، كما ذكرها المفسرون ، والمفكرون الإسلاميون .

وسوف يكون هذا الملحق ، بعد أن أضع نصوص المفسرين الصريحة ، القائلة إن الآيات الشريفة ، تفيد التعليل ، وهو ليس من عندي ، كما توهم الفاضل، الذي اعترض ، وأعتبر إن مسألة التعليل رابط وهمي ، وبانتفائه ينتفي موضوع الإشكالية . وهذا الوهم ، لا ألومه عليه كثيرا ، لأن المسألة دقيقة ، وتحتاج إلى عقل ، غير متعلق بالنظرية الحسية في التعقل.

كما لا ألومه على فهمه ؛ لأن المنهج الذي يتعامل معه في تحليل النص ، منهج انتقائي ، لا يستند على قاعدة ثابتة ، في تحليل النصوص . وهذا نقاش عميق في علم الأصول ، ليس محله هذا البحث ، ولا يناسب طرحه بشكل تفصيلي ، وإنما له مجاله الخاص.

على إن انتفاء التعليل ، لا يلغى الإشكالية ، وهى لا تتعلق بشكل كامل بالنص ، وإنما التعليل يعمق الإشكالية ، فإن النص بالنزول السنوى ، بالأوامر الإلهية ، إلى الأرض يكفى في تشكيل الإشكالية . بدون توقف على التعليل للإرسال .

ص: 122

وفي سبيل أن لا أطيل في الشرح ، سأقوم بتجميع نصوص كثيرة ، تدل على فهم المفسرين التعليل ، وعلى تبريرهم لهذا الفهم، وسبب إيراد نصوص كثيرة هو الرد الواضح على دعوى عدم وجود من يقول بالتعليل ، من المفسرين ، والمفكرين. وستثبت هذه النصوص : إنه حتى من لم يصرّح بالتعليل ، يربط النصوص بطريقة الارتباط التعليلي ، أي التوقف عليها ، وهذا يعني أنه فهم ارتكازي من ظاهر الألفاظ. وهو لا يعتمد التمحل أو التقول ، وإنما هو من حقيق النص نفسه .

لعل المشكلة الأساسية في إعراب كلمة : ﴿رَحْمَةً﴾ في قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الدخان : 6] .

فهل نصب ﴿رَحْمَةً﴾ - هنا - للمصدر ، أم للحال ، أم للمفعولية ؟

ولعلهم تصوروا : إنه إذا كان للحال ، فهو توصيف ، وإذا كان للمفعولية ، فهو تعليل ، وانفعال.

والواقع إنه سواء كان حالا ، أو مفعولا ، فهو يقوم مقام التعليل ؛ لأن مفهوم التسبيب ، والتوقف ، لا يتوقف على كون الرحمة ، تعليل أو توصيف . بل هو مفهوم ، يؤخذ من أساس الارتباط المعنوي . وإلا ، فالجمل التي يدعى إنها تعليل ، وهي قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ ، فهي جمل خبرية ، ولم يقل أحد إنها ليست خبرية ، ولكن سياقها ، ومقتضى الأسلوب ، في العربية ، هو كونها قائمة مقام التعليل ، لقضية الترابط، وتوقف شيء ، على شيء فكل من يقرأ - بسليقة سليمة - قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فى لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم أمرًا مِنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الدخان : 3 - 6] يجد الترابط بين الإنزال والإنذار ، وبين الأمر من الله ، وبين الإرسال ، وبين الإرسال ، أو الكل ، وبين الرحمة ، بشكل واضح. ولا يحتاج إلى لي وتمحل في النص ؛ ليقول بهذا الترابط الدال على التعليل ، وتوقف شيء على شيء ، من خلال الصياغة البلاغية .

وأما قضية كون الرحمة حالا ، وليست للمفعولية ، فهذا لن ينفي التعليل لسببين :

ص: 123

الأول : إن التعليل ، أخذ من السياق والأسلوب ، ولم يقتصر على الموقع النحوي ، حتى يقال : إن كونه حالا ، يدل على عدم التعليل .

والثاني : إن الحالية مفعولية بنفسها ، وهي لا تنص على تجريد التوصيف من الارتباط ، فهي لا تمنع الجمع ، فالحال وصف مفعولي مرتبط ، ويبقى تخصيصه بالتعليل ، فهو بدليل خارجي ، وهذا بدهي .

فالفرق بين قضية : (جاء الرجل ماشياً) وبين (خلق الله الخلق رحمة) هو فرق خارجي ، يحدده إطار المعاني ، ودوائره . فلا يمنع الحال - في الجملة الأولى - من منع التعليل ، بينما لا يمنع الحال - في الجملة الثانية - من إثبات التعليل . وكل ذلك ، أتى من خارج قضية النحو ؛ لأن له ارتباطا بالمعاني ، ودوائرها سعة ، وضيقا . وهذا البحث، وإن كان منطقيا ، وبلاغيا - إلى حد ما - إلا إنه مما يفهمه كل البشر . فالنحو ، لا يتكفل بأطر المعاني ، وهي محالة إلى علوم اللغة الأخرى ، مع علوم الميزان ؛ لمعرفة العلاقة بين المعاني بشكل دقيق .

ومن هنا ، قد ندرك سر الاختلاف بين المفسرين. وهو : إنه إذا كان المفسر نحويا ، كان المعنى القرآني ، في أضيق صوره. وإذا كان موسوعيا ، كان المعنى القرآني منبسطا متوسعا ، بحسب مدارك ذلك الموسوعي .

وأما نصب الرحمة للمصدر ، فهنا سيقع ما هو أكثر من التعليل ، حيث إن معنى المصدرية للرحمة ، هو : كون الإرسال والإنذار نفسه (هو الرحمة) مندكا بها اندكاك فناء ، أي : إنه حين يقول : (أرسلناه رحمة) فهو يعني : (رحمناه رحمة) فنفس الإرسال ، والإنذار ، هو الرحمة بعينها . وهذا هو المستفاد ، من كونها مصدرا ، وهذا أوسع من مُدعى التعليل ، الذي أنكره الفاضل المشار إليه .

ولا ننسى ، إن بعض البلاغيين والمفسرين ، قال عن هذه الآيات : إنها من باب اللف ، والنشر ، وهو من أقسام البديع المعنوي . وهذا يعني الترابط بين الجمل ترابطا معنويا ، وشرح المتقدم

ص: 124

بالمتأخر ، وبيان المتأخر بالمتقدم، فقد قال النقاد البلاغيون : إن في الآيات طياً ، أو لفاً ونشراً . وهم يقصدون بذلك : إن المفاعيل مرتبطة بما قبلها ، والجمل ليست منفصلة معنويا . فالنص في هذه الآيات ، من قبيل قوله تعالى : ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لَتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبَّكُمْ وَلَتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ [الإسراء : 12] . ففيها الطي أولا : (بآية الليل) وثانيا : (بآية النهار) ثم جاء النشر ، بقوله : ﴿لَتَبْتَغُوا فَضْلاً من رَبَّكُمْ﴾ وهو بيان ، ومتعلق بآية النهار) وجاء بقوله : ﴿وَلَتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَالْحِسَابَ﴾ وهو متعلق (بآية الليل) وهذا النوع من اللف ، والنشر ، يسمى اللف والنشر المشوه ، بخلاف المرتب ، الذي يأتي فيه النشر بنفس ترتيب الطي .(1) وهنا نقطة مهمة جدا ، وهي : إن قوله

ص: 125


1- السيوطي : الإتقان في علوم القرآن : 2 : 251 - 252 . وفيه : «اللف والنشر : هو أن يُذكر شيئان ، أو أشياء ، إما تفصيلا بالنص، على كل واحد ، أو إجمالا ، بأن يؤتى بلفظ ، يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء ، على عدد ذلك ، كل واحد يرجع إلى واحد ، من المتقدم ، ويفوض إلى عقل السامع ، رد كل واحد إلى ما يليق به ، فالإجمالي كقوله تعالى : ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلا مَن كَان هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة : 111] أي : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة ، إلا اليهود ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة ، إلا النصارى ، وإنما سوغ الإجمال في اللف ، ثبوت العناد بين اليهود ، والنصارى ، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين ، بدخول الفريق الآخر الجنة ، فوثق بالعقل ، في أنه يرد كل قول إلى فريقه ؛ لأمن اللبس . وقائل ذلك يهود المدينة ، ونصارى نجران. قلت – والكلام بعد للسيوطي - : وقد يكون الإجمال في النشر ، لا في اللف ، بأن يؤتى بمتعدد ، ثم بلفظ يشتمل على متعدد ، يصلح لهما ، كقوله تعالى : ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾ [البقرة : 187] على قول أبي عبيدة ، إن الخيط الأسود ، أريد به الفجر الكاذب ، لا الليل ، وقد بينته في أسرار التنزيل . والتفصيلي قسمان : أحدهما : أن يكون على ترتيب اللف ، كقوله تعالى : ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَتَسْكُنُوا فِيهِ وَلَتَبْتَغُوا مِن فَضْله﴾ [القصص : 73] فالسكون راجع إلى الليل ، والابتغاء راجع إلى النهار ، وقوله تعالى : ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ إلَى عُنُقكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾ [الإسراء : 29] فاللوم راجع إلى البخل ، ومحسورا راجع إلى الإسراف ؛ لأن معناه منقطعا ، لا شيء عندك ، وقوله : ﴿أَلَمْ يَجدك يتيماً ... الآيات : [الضحى : 6 - 11] فإن قوله : ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ راجع إلى قوله : ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾ و ﴿وَأَمَّا السَّائلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾، راجع إلى قوله : وَوَجَدَكَ صَالاً له فإن المراد ، السائل عن العلم ، كما فسره مجاهد ، وغيره ، و ﴿وَأَمَّا بنعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدَّثْ﴾ راجع إلى قوله : ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ رأيت هذا المثال ، في شرح الوسيط للنووي ، المسمى بالتنقيح . والثاني : أن يكون على عكس ترتيبه ، كقوله ﴿يَوْمَ تَبْيَضُ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران : 106] وجعل منه جماعة ، قوله تعالى : ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَريبٌ﴾ [البقرة : 214] قالوا : مَتَى نَصْرُ الله﴾ قول الذين آمنوا : ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَريبٌ﴾ قول الرسول . وذكر الزمخشري ، قسما آخر كقوله تعالى : ﴿وَمَنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باللَّيْل وَالنَّهَارِ وَابْتَغَاؤُكُم مِّن فَضْله﴾ [الروم : 23] قال : هذا من باب اللف ، وتقديره : ﴿وَمِنْ آيَاتِه مَنَامُكُم﴾ ﴿وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾ ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ إلا أنه فصل بين ﴿مَنَامُكُم﴾ ، ﴿وَابْتِغَاؤُكُم﴾ ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار﴾ لأنهما زمانان ، والزمان الواقع فيه كشيء واحد ، مع إقامة اللف على الاتحاد» . (انتهى) .

تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] هي جواب للقسم : ﴿والكتاب المُبين﴾ [الدخان : 2] ومعناه أقسم بالكتاب المبين ، إننا ننذر عبادنا ، فلهذا أنزلنا القرآن في الليلة المباركة ، التي يتنزل فيها أمر الله العام ، في كل سنة . فكون الإنذار ، هو جواب القسم ، يحدد معنى النص ، بالتعليل من جهة الترابط ، والتوقف .

وقد قال آخرون : إنه من باب الفصل ، من علم المعاني ، فتقع الجمل ، موقع البدل ، والبديل عن سابقاتها ، وهذا يعني : اعتماد الجمل على سابقتها ، في المعنى ، إذا كان معللا ، فهو تعليل ، وإذا لم يكن فهو غير معلل . ولكنهم يقولون : إن قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ هي جواب القسم - كما أسلفنا - فتكون في موضع التسبيب ؛ لإنزال الكتاب ، وتكون بديلا عن : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ . وتكون هذه الجملة ، جواب قسم ثان ، وهو يعني : الالتزام الإلهي بالإنذار والإرسال ، دائما . وهذا أشد ما يخشاه من يكره أن يصدق بحقيقة الصلة بين أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام ، وبين الله جل جلاله .

ص: 126

وقد وعدت، أن لا استغرق في الكلام عن الموضوع ، إنما أتركه للنصوص الكثيرة ، التي أريد البرهنة بها على : ذهاب المفسرين إلى التعليل ، بالدرجة الأولى ، مع الأهداف الثانوية ، التي لا تخلو من قوة . ولكن عليّ أن أبين للمثقف العادي، الذي لا يعرف المصطلحات ، إن التعليل يأتي بلسان المتكلمين ، تارة بلفظ التعليل ، وتارة بلفظ التسبيب ، أو التبرير ، أو الحكمة ، أو الغاية ، وتارة باستعمال أدوات التعليل ، كالحروف مثل : حرف لام التعليل(1) وفاء السببية(2) وباء السببية(3) وغيرها . فما سيرد من نصوص ، بعضها استخدم الحروف ، وبعضها استخدم نص كلمة التعليل ، والتسبيب :

النصوص الدالة على معنى التعليل في الآيات القرآنية :

ورد التعليل في ثلاث مواقع في آيات سورة الدخان:

الأول : في قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] تعليلا للإنزال . الثاني : في قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ [الدخان : 5] تعليلا لإرسال الأمر ، الصادر من الله . وقيل تعليل لكون الأمر ، من عند الله.

الثالث : في قوله تعالى: ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [الدخان : 6] تعليلا لفرق الأمر الحكيم ، وقيل للإرسال وقيل لصدور الأمر من الله وقيل للجميع .

وسنصنف النصوص إلى :

1 - نصوص تنص وتدل على التعليل سواء بلفظ التعليل أو بأدواته الحرفية .

2 - نصوص يفهم منها التعليل من دون تصريح .

3 - نصوص خالية من الإشارة للتعليل للأمانة العلمية ولكن الساكت لا ينفي .

ص: 127


1- كقوله تعالى : ﴿لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب : 73] .
2- نحو قوله تعالى : ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص : 15] أي بسبب وكزه قضى عليه.
3- كقوله تعالى : ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة : 38] .

وبما إن النصوص ، لم تكن مخصصة لبيان التعليل ، وإنما يرد الأمر بين ثناياها ، فيجب أن تكون النصوص بالحجم ، الذي يفي بالمطلوب . وهذا ما تم فعله :

القسم الأول :

نصوص تنص وتدل على التعليل سواء بلفظ التعليل أو بأدواته الحرفية :

قال السيد الطباطبائي (قدس سره)(1):

«وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ واقع موقع التعليل ، وهو يدل على : استمرار الإنذار منه تعالى ، قبل هذا الإنذار ، فيدل على إن نزول القرآن من عنده تعالى ، ليس ببدع ، فإنما هو إنذار ، والإنذار سنة جارية له تعالى، لم تزل تجري في السابقين ، من طريق الوحي إلى الأنبياء ، والرسل ، وبعثهم لإنذار الناس.

... وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ لا يخلو من تأييد لذلك ، ويكون تعليلا له . والمعنى : إنا أنزلناه أمرا من عندنا ؛ لأن سنتنا الجارية : إرسال الأنبياء ، والرسل .

قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي : إنزاله رحمة من ربك ، أو أنزلناه ؛ لأجل إفاضة الرحمة على الناس ، أو لاقتضاء رحمة ربك ، إنزاله . فقوله : ورَحْمَةٌ ل_﴿رَحْمَةٌ﴾ حال على المعنى الأول ، ومفعول له ، على الثاني ، والثالث . وفي قوله : ﴿من رَبِّكَ﴾ التفات من التكلم مع الغير ، إلى الغيبة ، ووجهه إظهار العناية بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن ، وهو المنذر المرسل إلى الناس».

الزمخشري(2):

« فإن قلت : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ بم يتعلق ؟

قلت : يجوز أن يكون بدلا ، من قوله - ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ - و ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ مفعولا

ص: 128


1- الميزان : 18 : 131 - 133 .
2- الكشاف : 501:3 .

له ، على معنى : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن من شأننا ، إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا ؛ لأجل الرحمة عليهم ، وأن يكون تعليلا ل_﴿إيُفْرَقُ﴾، أو لقوله : ﴿إأمْراً من عندنا﴾ و ﴿إرَحْمَةً﴾ مفعولا به. وقد وصف الرحمة بالإرسال ، كما وصفها به ، في قوله تعالى ﴿إوَمَا يُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ لَهُ من بعده﴾ [فاطر : 2] أي يفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا ، وفصل كل أمر ، من قسمة الأرزاق ، وغيرها ، من باب الرحمة ، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا ؛ لأن الغرض في تكليف العباد ، تعريضهم للمنافع ، والأصل : إنا كنا مرسلين رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، إيذانا بأن الربوبية تقتضى الرحمة على المربوبين»

الآلوسى(1):

وقوله تعالى : ﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ لاستئناف يبين المقتضى للإنزال ، وقوله تعالى : ﴿فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ : استئناف - أيضا - لبيان التخصيص بالليلة المباركة ، فكأنه قيل : أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار ، والتحذير من العقاب ، وكان إنزاله في تلك الليلة المباركة ؛ لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة ، وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ، ففي الكلام لف ونشر ، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين ، مما لا داعي إليه ، وقيل : إن جملة : ﴿فيها يُفْرَقُ﴾ ... الخ ، صفة أخرى لليلة ، وما بينهما اعتراض ، لا يضر الفصل به ، بل لا يعد الفصل به فصلا ...

والمراد بالعندية ، أنه على وفق الحكمة ، والتدبير . أي : أعني - بهذا الأمر – أمرا فخيما ، حاصلا على مقتضى حكمتنا ، وتدبيرنا . وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه ، وجوز كونه حالا ، من ، ضمير أمر السابق المستتر في حكيم ، الواقع صفة له ، أو من ﴿أمْراً﴾ نفسه ، وصح مجيء الحال منه ، مع أنه نكرة ؛ لتخصصه بالوصف ، على إن عموم النكرة، المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف. وقول السمين : إن فيه القول بالحال ، من المضاف إليه ، في غير

ص: 129


1- روح المعاني : 25 : 112 - 113.

المواضع المذكورة في النحو ، صادر عن نظر ضعيف ؛ لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه ، بأن يقال : يفرق أمر حكيم ، على إرادة عموم النكرة ، في الإثبات ، كما في قوله تعالى : ﴿عَلَمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير : 14] وقيل : حال من : ﴿كُلُّ﴾. وأيا ما كان ، فهو مغاير لذي الحال ؛ لوصفه بقوله تعالى : ﴿من عندنا﴾ له فيصح وقوعه حالا ، من غير لغوية فيه .

مِّنْ وكونها مؤكدة ، غير متأت مع الوصفية - كما لا يخفى على ذي الذهن السليم . وهو على هذه الأوجه ، واحد الأمور . وجوز أن يراد به الأمر ، الذي هو ضد النهي ، على أنه واحد الأوامر ، فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية ، لفعل مضمر من لفظه ، أي : أمرنا أمرا من عندنا . والجملة بيان لقوله سبحانه : ﴿يُفْرَقُ﴾ ... الخ . وقيل : إما أن يكون نصبا على المصدرية ل_﴿يُفْرَقُ﴾ لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه ، وكذلك أمره - عز وجل – به ، كأنه قيل : يؤمر بكل شأن مطلوب - على وجه الحكمة - أمرا ، فالأمر وضع موضع الفرقان ، المستعمل بمعنى الأمر . وإما أن يكون على الحالية من فاعل ﴿أنزَلْنَاهُ﴾ أو مفعوله ، أي : إنا أنزلناه آمرين أمرا ، أو حال كون الكتاب أمرا ، يجب أن يفعل ، وفي جعل الكتاب نفس الأمر ؛ لاشتماله عليه – أيضا – تجوز فيه فخامة . وتعقب ذلك في (الكشاف) فقال : فيه ضعف ، للفصل بالجملتين ، بين الحال ، وصاحبها ، على الثاني ، ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى ، بتلك الليلة ، على الأول . ووجهه : أن تخص بالقرآن ، ولا يجعل قوله تعالى : ﴿فيهَا يُفْرَقُ﴾ علة للإنزال في الليلة ، بل هو تفصيل لما أجمل ، في قوله سبحانه : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ [الدخان : 3] على معنى فيها أنزل الكتاب المبين ، الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة ، ولا يخفى أن فى فهمه من الآية تكلفا . وقال الخفاجي في أمر الفصل : إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض ، وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي . وجوز بعضهم على تقدير أن يراد بالأمر ضد النهي كونه مفعولا له والعامل فيه : ﴿يُفْرَق﴾ أو ﴿أنزلنا﴾ كم أو ﴿مُنذرين﴾ . وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما : ﴿أمر﴾

ص: 130

بالرفع ، وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه فيها ؛ وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ . ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ تعليل ل_﴿ يُفْرَقُ﴾ أو لقوله تعالى : ﴿أَمْراً مِّنْ عِندِنَا﴾ و ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول به ل_﴿مُرْسلين﴾ وتنوينها للتفخيم ، والجار والمجرور ، في موضع الصفة لها ، وإيقاع الإرسال عليها - هنا - كإيقاعه عليها في قوله سبحانه : ﴿مَا يَفْتَح الله للنَّاسِ مِن رَّحْمَة فَلا مُمْسكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ [فاطر : 2] والمعنى - على ما في «الكشاف » - [يفصل في 2] هذه الليلة كل أمر ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا ، وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي إن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع ، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه : أمرا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية . وفي «الكشاف» : إن قوله : يفصل ... الخ ، أو تصدر الأوامر ... الخ ، تبيين لمعنى التعليل ، على التفسيرين في ﴿يُفْرَقُ﴾ ؛ لأنه أما بمعنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها ، أو بمعنى يؤمر ، والشأن المطلوب يكون مأمورا به لا محالة ، فحاصله يرجع إلى قوله : أو تصدر الأوامر من عندنا ، لا لوجهي التعليل من تعلقه ب_ ﴿يُفْرَقُ﴾ أو ب_﴿أمراً﴾ فإن تعلقه ب_﴿أمرا﴾ إنما يصح إذا نصب على الاختصاص، وإذ ذاك ليس الأمر ما يقابل النهي ؛ لأن الأمر إذا كان المقابل ، فهو إما مصدر ، وإنما يعلل فعله ، وإما حال مؤكدة ، فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال المخصوص ، وليس المقصود ، وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه ب_﴿أَمْراً﴾ ؛ لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له - أيضا - انتهى . والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث ، كما يعرف بالتأمل ، واعتبار العادة في بيان المعنى ، جاء من : ﴿كُنا﴾ فإنه يقال : كان يفعل كذا ، لما تكرر وقوعه ، وصار عادة ، كما صرحوا به في الكتب الحديثية ، وغيرها ، ولإفادة ذلك عدل عن : (إنا مرسلون) الأخصر

ص: 131

الشيخ الطوسي (رحمه الله علیه)(1):

وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ إخبار منه تعالى : إنه يرسل الرسل ، ﴿رَحْمَة﴾ أي : نعمة . ونصبه على المصدر ، واختار الأخفش ، النصب على الحال . أي : أنزلناه آمرین راحمين . ويجوز . أن يكون نصبا ، على أنه مفعول له ، أي : أنزلناه للرحمة . وسميت النعمة رحمة ؛ لأنها بمنزلة ما يبعث على فعله ، رقة القلب على صاحبه ، ومع داعي الحكمة إلى الإحسان إليه ، يؤكد أمره» . (انتهى) .

أقول : قوله : يرسل الرسل ﴿رَحْمَة﴾ . هو ، لسان تعليل لمن تأمل . ولا نغفل إن قوله : أنزلناه للرحمة هو تعليل للإنزال بالرحمة وهذا من أهم التعليلات . وقد قلنا إن المصدر هنا قد يكون مشيرا إلى التعليل بشكل آخر.

الشيخ الطبرسي(2):

«وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمرٍ حَكِيمٍ﴾ جملتان مستأنفتان ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم ، كأنه قيل : إنا أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار ، وأنزلناه في هذه الليلة خصوصا ؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم . ﴿أَمْراً مِّنْ عندنا﴾ نصب على الاختصاص ، أي : أعني أمرا حاصلا من عندنا ، على ما اقتضته حكمتنا وتدبيرنا . ويجوز أن يراد به الأمر ، ضد النهي ، فوضع موضعَ مصدر ﴿يُفْرَقُ﴾ من حيث إن الأمر ، والفرقان واحد ؛ لأن من حكم بالشيء ، وكتبه فقد أمر به وأوجبه . أو : جعل حالا من أحد الضميرين في ﴿أنزلناه﴾ أي : أنزلناه في حال كونه أمرا ، بما يجب أن يفعل ، أو أنزلناه آمرين. ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ يجوز أن يكون بدلا من : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ و ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ مفعول له ، والمعنى : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا ؛ لأجل . الرحمة عليهم ، وأن يكون تعليلا ل_ ﴿يُفْرَقُ﴾ أو : لقوله : ﴿أمْراً مِّنْ عندنا﴾ و ﴿رَحْمَةً﴾

ص: 132


1- التبيان : 9 : 224 .
2- تفسير جوامع الجامع : 3 : 320 - 321 .

مفعولا به . أي : يفرق في هذه الليلة كل أمر ، أو : تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا ، وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة ، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وجل ؛ لأن الغرض من تكليف العباد تعريضهم للمنافع ، والأصل : إنا كنا مرسلين رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين . ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ﴾ وما بعده تحقيق لربوبيته وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه» .

الشيخ الطبرسي(1):

«الإعراب : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ جواب القسم ، دون قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾؛ لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه . فإن القسم تأكيد خبر بخبر آخر ، فقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة﴾ اعتراض بين القسم وجوابه . ﴿أمراً من عندنا﴾ في انتصابه وجهان ، أحدهما : أن يكون نصبا على الحال ، وتقديره : إنا أنزلناه آمرين أمرا ، كما يقال : جاء فلان مشيا وركضا ، أي : ماشيا وراكضا وعلى هذا فيكون مصدرا موضوعا موضع الحال ، وهذا اختيار الأخفش . ويجوز أن يكون تقديره ذا أمر ، فحذف المضاف كما قال : ﴿وَلَكنَّ الْبرَّ﴾ بمعنى ذا البر ، والثاني : أن يكون منصوبا على المصدر ، لأن معنى قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ﴾ فيها يؤمر ، قد دل يفرق على يؤمر . وقوله : ﴿ورَحْمَةٌ﴾ منصوب على أنه مفعول له ، أي : أنزلناه للرحمة . وقال الأخفش : هو منصوب على الحال أي راحمين رحمة .

السيد عبد الله شبر(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ فلذا أنزلناه ﴿فِيهَا يُفْرَق﴾ يفصل ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ محكم أو ذي حكمة أمراً ، حالا من أمر ؛ لأنه موصوف ، أو من ضميره في حكيم ، ﴿مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب» .

ص: 133


1- تفسیر مجمع البيان : 9 : 102 .
2- تفسیر شبر : شرح 464 .

الشيخ جعفر السبحاني(1):

«حلف سبحانه بالكتاب مرتين ، وقال : ﴿حم * والكتاب المُبين * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 1 - 3] . ﴿حم * والكتاب المبين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 1 - 3] ... فالمقسم به هو الكتاب ، والمقسم عليه في الآية الأولى قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة﴾، والصلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنه منزل من﴾ جانبه - سبحانه - في ليلة مباركة. كما إن المقسم به في الآية الثانية ، هو الكتاب المبين والمقسم عليه هو الحلف على أنه سبحانه جعله قرآنا عربيا للتعقل ، والصلة بينهما واضحة ووصف الكتاب بالمبين ، دون غيره ؛ لأن الغاية من نزول الكتاب ، هو إنذارهم وتعقلهم كما جاء في الآيتين ، حيث قال : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ وقال : ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ، وهذا النوع من الغاية أى الإنذار والتعقل يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحا مفهوما لا مجهولا ومعقدا».

البغوي(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ محمدا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء ، ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ قال ابن عباس : رأفة مني بخلقي ونعمتي عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل وقال الزجاج أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة» .

النسفي(3):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ هما جملتان مستأنفتان ، ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم كأنه قيل أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار

ص: 134


1- الأقسام في القرآن الكريم : 67 - 71.
2- تفسير البغوي : 4 - 149 .
3- تفسير النسفي : 4 : 122 - 123 .

والتحذير من العقاب ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمية ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ، ومعنى يفرق : يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وجميع أمورهم ، من هذه الليلة إلى ليلة القدر ، التي تجيء في السنة المقبلة ﴿حكيم﴾ ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الحكم صفة صاحب الأمر ، على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجازا . أَمْراً مِّنْ عندنا له نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر جزلا فخما ، بأن وصفة بالحكيم ، ثم زاده جزالة وفخامة ، بأن قال : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ بدل من إنا كنا منذرين . ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ مفعول له على معنى إنا أنزلنا القرآن ؛ لان شأننا

من وعادتنا إرسال الرسل بالكتب ، إلى عبادنا ؛ لأجل الرحمة عليهم ، أو تعليل لقوله : ﴿أمْراً من عندنَا﴾ و ﴿رَحْمَةٌ﴾ مفعول به ، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله : ﴿وَمَا يُمْسِكَ فَلا مُرْسَلَ لَهُ من بَعْده﴾ [فاطر : 2] والأصل : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين» .

الرازي (1):

أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ يعني يعنى الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم إلا به ، وأما بيان إن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران : أحدهما : أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم ، والثاني : إن ذلك الأمر الحكيم مخصوصا بشرف أنه إنما يطهر من عنده ، وإليه الإشارة بقوله ﴿أَمْراً مِّنْ عندنا﴾ » ...

«ثم قال : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ يعني : إنا إنما فعلنا ذلك الإنذار ؛ لأجل إنا كنا مرسلين يعني الأنبياء . ثم قال : ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ أي للرحمة فهي نصب على أن يكون مفعولا له .

ص: 135


1- التفسير الكبير : 27 : 239 - 241 .

ابن العربي(1):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ تامة كاملة على العالمين ، بإنزاله ؛ لاستقامة أمورهم الدينية ، والدنيوية ، وصلاح معاشهم ، ومعادهم ، وظهور الخير ، والكمال ، والبركة ، والرشاد فيهم ، بسببه ، أو مرسلين إياك لرحمة كاملة شاملة عليهم».

البيضاوي(2):

﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ القرآن . والواو للعطف إن كان ﴿حم﴾ مقسما به . وإلا فللقسم ، والجواب قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة﴾ ليلة القدر . أو البراءة ، ابتدأ فيها إنزاله ، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا ، من اللوح المحفوظ ، ثم أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، نجوما ، وبركتها ، لذلك فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية . ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ : استئناف يبين المقتضى للإنزال ، وكذلك قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمِ﴾ فإن كونها مفرق الأمور المحكمة ، أو الملتبسة بالحكمة ، يستدعي أن ينزل فيها القرآن ، الذي هو من عظائمها .

وفيه أيضا : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ * رَحْمَةً مِّن رَبِّكَ﴾ بدل من ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ أي : أنزلنا القرآن ؛ لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد ؛ لأجل الرحمة عليهم . وضع الرب موضع الضمير ؛ للإشعار بأن الربوبية اقتضت ذلك فإنه أعظم أنواع التربية ، أو علة ب_﴿يُفْرَقُ﴾ أو ﴿أمْراً﴾. و ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول به. أي : يفصل فيها كل أمر ، أو تصدر الأوامر ﴿من عندنا﴾؛ لأن من شأننا ان نرسل رحمتنا ، فإن فصل كل أمر ، من قسمة الأرزاق وغيرها ، وصدور الأوامر الإلهية ، من باب الرحمة . وقريء : ﴿رَحْمَة﴾(3) على تلك رحمة .

ص: 136


1- تفسير ابن عربي : 2 : 231
2- تفسير البيضاوي : 5 : 157 - 160 .
3- مرفوعة ، على إنها خبر . وتقدير الجملة : تلك رحمة .

﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ يسمع أقوال العباد ، ويعلم أحوالهم ، وهو بما بعده تحقيق لربوبيته ؛ فإنها لا تحق إلا لمن هذه صفاته .

أبو حيان الأندلسي(1):

«والمعنى على هذا : أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا».

أبي السعود(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ استئناف مبين لما يقضى الإنزال ، كأنه قيل إنا أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار ، والتحذير من العقاب . وقيل جواب للقسم ، وقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ ... الخ ، اعتراض ، وقيل جواب ثان ، بغير عاطف . ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ استئناف ، كما قبله ، فإن كونها مفرق الأمور المحكمة ، أو الملتبسة بالحكمة الموافقة لها ، يستدعى أن ينزل فيها القرآن ، الذي هو من عظائمها ، وقيل صفة أخرى لليلة ، وما بينهما اعتراض ، وهذا يدل على أنها ليلة القدر ، ومعنى يفرق : أنه يكتب ، ويفصل ، كل أمر حكيم ، من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وجمع أمورهم ، من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة .

وفيه أيضا : ﴿أمْراً مِّنْ عندنا﴾ نصب على الاختصاص. أي : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، على مقتضى حكمتنا ، وهو بيان لفخامة الإضافية ، بعد بيان فخامته الذاتية ، ويجوز كونه حالا من كل أمر ؛ لتخصيصه بالوصف ، أو من ضميره في حكيم ، وقد جوز أن يراد به مقابل النهي ، ويجعل مصدرا مؤكدا ليفرق ؛ لاتحاد الأمر والفرقان في المعنى ، أو لفعله المضمر ، لما أن الفرق به ، أو حالا منا ، أحد ضميري أنزلناه أي آمرين، أو مأمورا به . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ بدل من إنا كنا منذرين ، وقيل جواب ثالث ، وقيل مستأنف . وقوله تعالى ﴿رَحْمَةً مِّن رَبِّكَ﴾ غاية

ص: 137


1- تفسير البحر المحيط : 8 : 35 .
2- تفسير أبي السعود : 8 : 58 - 60 .

للإرسال ، متأخرة عنه ، على إن المراد بها ، الرحمة ، الواصلة إلى العبد . باعث متقدم عليه . على إن المراد مبدؤها ، أي : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب ، إلى العباد ؛ لأجل إفاضة رحمتنا عليهم ، أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ، ووضع الرب موضع الضمير ، الإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية مقتضياتها ، وإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - لتشريفه ، أو تعليل ليفرق ، أو لقوله تعالى : ﴿أَمْراً﴾ على إن قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول للإرسال ، كما في قوله تعالى : ﴿وَمَا يُمْسك فَلا مُرْسَلَ لَهُ﴾ [فاطر : 2] أي : يفرق فيها كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا إرسال رحمتنا ، ولا ريب في إن کلا من قسمة الأرزاق ، وغيرها ، والأوامر الصادرة منه تعالى ، من باب الرحمة ، فإن الغاية لتكليف العباد ، تعريضهم للمنافع ، وقريء : ﴿رَحْمَة﴾ بالرفع . أي : تلك رحمة . وقوله تعالى : ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ﴾ تحقيق الربوبيته تعالى، وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته» .

الشوكاني(1):

﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ هذه الجملة ، إما بدل من قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ أو جواب ثالث للقسم ، أو مستأنفة . قال الرازي : المعنى : إنا فعلنا ذلك الإنذار ؛ لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء . ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ انتصاب رحمة على العلة . أي : أنزلناه للرحمة».

عبد الرحمن بن ناصر السعدي(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ ﴿وفيها﴾ أي : في تلك الليلة الفاضلة التي نزل فيها القرآن ، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ أي : يفصل ويميز ، ويكتب كل أمر قدري ، وشرعي ، حكم الله به.

وفيه أيضا : ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي : إن إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، التي أفضلها

ص: 138


1- فتح القدير : 4 : 570 - 571.
2- تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان : 771 - 773.

القرآن . رحمة من رب العباد بالعباد ، فما رحم الله عباده برحمة ، أجل من هدايتهم بالكتب، والرسل . وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة ، فإنه من أجل ذلك وسببه» .

الواحدي(1):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ محذرين عبادنا العقوبة ، بإنزال الكتاب . ﴿فيهَا يُفْرَقُ﴾ يفصل ، ﴿كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ محكم ، من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وذلك أنه يدبر في تلك الليلة أمر السنة . ﴿أمراً من عندنا﴾ معناه : يفرق كل أمر حكيم ، فرقا من عندنا ، فوضع الأمر موضع الفرق ؛ لأنه أمر . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ محمدا إلى قومه ﴿رَحْمَة﴾ أي : للرحمة» .

أقول : أبعد هذه النصوص يمكن الشك في وجود التعليل في الآيات ؟

القسم الثاني:

نصوص يفهم منها التعليل من دون تصريح :

الشيخ الطبرسي (رحمه الله علیه)(2):

﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ محمدا إلى عبادنا ، كمن كان قبله من الأنبياء . ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي : رأفة منا بخلقنا ، ونعمة منا عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل . عن ابن عباس».

أقول : الباء – هنا – باء تعليل ، أي : بسبب بعثنا الرسل فقد أنعمنا عليهم . فالنص أقرب للقسم للأول ، ولكن لإيراد التعليل معكوسا ، وضعته في القسم الثاني ، فهو لم يقل : إن إرسال الرسل للرحمة ، وإنما فسره : بأن الرحمة هي بسبب إرسال الرسل .

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(3):

«أما ما هو الهدف الأساس من نزوله ؟ نهاية الآية أشارت إليه ، إذ قالت : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾

ص: 139


1- تفسير الواحدي : 2 : 981 - 982 .
2- تفسير مجمع البيان : 9 : 103 - 104.
3- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 16 : 118 - 119 .

فإن سنتنا الدائمة هي إرسال الرسل لإنذار الظالمين والمشركين ، وكان إرسال نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله و سلم) بهذا الكتاب المبين ، آخر حلقة من هذه السلسلة المباركة المقدسة . صحيح أن الأنبياء (علیهم السّلام) ينذرون من جانب ، ويبشرون من جانب آخر، لكن لما كان أساس دعوتهم ، هو مواجهة الظالمين ، والمجرمين ، ومحاربتهم ، كان أغلب كلامهم ، عن الإنذار ، والتخويف» .

أقول : السنة - هنا - هي القانون التعليلي للكون . ويقصد بها - هنا – الالتزام بإنذار الظالمين ، قبل عقوبتهم ؛ لأنه لا عقوبة ، إلا ببيان .

ابن كثير(1):

«وقوله عز وجل : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ أي : معلمين الناس ، ما ينفعهم ويضرهم شرعا ؛ لتقوم حجة الله على عباده.

وفيه أيضا : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ أي : إلى الناس رسولا ، يتلو عليهم آيات الله ، مبينات ، فإن الحاجة كانت ماسة إليه ، ولهذا قال تعالى ﴿رَحْمَةٌ مِنْ رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾».

أقول : قوله : «لتقوم حجة الله على عباده» أي : جعلها علة للحجة على العباد . فالله سبحانه حين يعاقب ، يعاقب بحجة ، ودليل ، وهو البيان . فلا عقوبة إلا بالبيان ، وهو الحجة ، والعلة لتلك الحجة ، وسيأتي بيان ذلك.

القسم الثالث :

نصوص خالية من التعليل :

مقاتل بن سلیمان(2):

يقول الله تعالى : ﴿أمْراً من عندنا﴾ يقول : كان أمرا منا ﴿إنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ يعني : منزلين هذا القرآن . أنزلناه ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ لمن آمن به ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لقولهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ به» .

ص: 140


1- تفسير ابن كثير : 4 : 148 .
2- تفسير مقاتل بن سليمان : 3 : 201 - 202 .

أقول : هذا النص ، ساكت عن التعليل.

أبو الليث السمرقندي(1):

قوله عز وجل : ﴿أَمْراً مِّنْ عندنا﴾ يعني : قضاء من عندنا ، ويقال معناه : بأمر من عندنا ، فنزع حرف الخافض ، فصار نصبا . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ يعني : الرسل إلى الخلق ، ويقال يعني الملائكة ، في تلك الليلة : ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ تعالى . ويقال إنزال الملائكة ، رحمة من الله تعالى ، ويقال الرسالة رحمة من الله تعالى ، ويقال هذا القرآن رحمة لمن آمن به» .

أقول : هذا النص ، يحتمل التعليل احتمالا ضعيفا ، يجعله في عداد الساكت عن التعليل .

أبي عبد الله محمد بن عبد بن أبي زمنين(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ العباد من النار ، ﴿فيها﴾ يعني : ليلة القدر ﴿يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ أي : يفصل . قال الحسن : ما يريد الله أن ينزل من الوحي ، وينفذ من الأمور في سمائه ، وأرضه ، وخلقه تلك السنة ، ينزله في ليلة القدر ، إلى سمائه ، ثم ينزله في الأيام والليالي ، على قدر ، حتى يحول الحول من تلك الليلة . قوله : ﴿أَمْراً مِّنْ عندنَا * إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ الرسل إلى العباد ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ ... الآية . قال محمد : قوله : ﴿أمراً﴾ منصوب على الحال . المعنى : إنا أنزلناه آمرين أمرا . وقوله : ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ أي : أنزلناه رحمة».

أقول : هذا النص ، ساكت عن التعليل أيضا .

السمعاني(3):

وقوله : ﴿إأمْراً مِّنْ عندنا﴾ نصب على المصدر ، كأنه قال : يفرق فرقا ، ثم وضع أمرا مكان قوله : فرقا . وقوله : ﴿من عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ أي : منزلين هذه الأشياء . قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي : إنزال القرآن رحمة من ربك».

ص: 141


1- تفسير السمرقندي : 3 : 254.
2- تفسیر ابن زمنين : 4 : 198 - 200 .
3- تفسير السمعاني : 5 : 121 - 122 .

أقول : هذا النص - كذلك - يسكت عن التعليل .

الفيروز آبادي(1):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ إنا كنا مخوفين بالقرآن . ﴿فيها﴾ في ليلة القدر ﴿يُفْرَقُ﴾ يبين ، ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم﴾ كائن من سنة إلى سنة ﴿أمْراً مِّنْ عِندِنَا﴾ بيانا منا ، نبين لجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، ما هم موكلون عليه من سنة إلى سنة ، ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ الرسل بالكتب ، ﴿رَحْمَة﴾ نعمة ، ﴿مِّن رَبَّكَ﴾ على عباده ، إرساله الرسل بالكتب».

أقول : هذا النص ساكت عن التعليل .

المحلي ، السيوطي(2):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ مخوفين به. ﴿فيها﴾ أي : في ليلة القدر ، أو ليلة النصف من شعبان ﴿يُفْرَق﴾ يفصل ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ محكم ، من الأرزاق ، والآجال ، وغيرهما ، التي تكون في السنة إلى مثل تلك الليلة . ﴿أمراً﴾ فرقا ، ﴿من عندنا * إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ الرسل ، محمدا ، ومن قبله . ﴿رَحْمَة﴾ رأفة بالمرسل إليهم».

أقول : هذا النص - كذلك - ساكت عن التعليل .

ص: 142


1- تنوير المقباس من تفسیر ابن عباس : 417 .
2- تفسير الجلالين : 656 - 659 .

ملحق

قاعدة قبح العقاب بلا بيان

الدليل العقلي

حين نطالعتهم من يتهمون الإمامية بالقبائح - كما يتصورون - نراهم يقولون في بعضها عن الشيعة الإمامية : «وأنهم يقولون بعدم خلو الأرض من حجة ، يحتج به الله على عباده ، وأن أئمة أهل البيت هم حجة الله على عباده عندهم ، ويسمون واحدهم الحجة»(1). بسياق يدل على أن

ص: 143


1- نجد - مثلا - في موقع : (طريق الإسلام السلفي) نبذة عن الشيعة الإمامية والتعريف بهم جاء فيه : «الغيبة : يرون أن الزمان لا يخلو من حجة الله ، عقلاً وشرعاً ، ويترتب على ذلك : إن الإمام الثاني عشر ، قد غاب في سردابه ، كما زعموا ، وأن له غيبة صغرى ، وغيبة كبرى ، وهذا من أساطيرهم» . وأنت ترى ، إن في الكلام خلطا ، وكذبا . يكاد يكون بالجملة في سطرين ، فلا عدم خلو الأرض من حجة ، أساطير شيعية ، وإنما هو دليل قرآني وعقلي . ولا يترتب على ذلك الغيبة في السرداب . وليست الغيبة مترتبة عن ذلك ، بالشكل الذي صوروه ، وإنما لكون الإمام ، آخر الأئمة الإثني عشر ، شاء الله تعالى ، أن يطيل عمره ، لزمن لا يعلمه إلا الله ، وغيبته أمر آخر ، بيد الله . ولا يدعي الشيعة إن غيبة الإمام ، كانت في سرداب أبيه ، فكل هذا الكلام ترتيب تبرعي من عندهم . ولم يَصْدُقُوا إلا في قول الشيعة : بعدم خلو الأرض من حجة . وقد وقع في تقرير ، لموقع (فيصل نور) تعريف للشيعة ، والإمامة ، فنقل عن العلامة الحلي : «فهو يجعل من لم يؤمن بأئمتهم ، أشد كفرًا من اليهود والنصارى . وقد بنى ذلك على أن الزمان ، لا يخلو من إمام . وهو إشارة إلى عقيدتهم ، بالإيمان بوجود إمامهم ، المنتظر الغائب» . وفي الكلام تصوير خاطيء ، واستهجان لقاعدة أن الزمان لا يخلو من حجة . وكأنه كلام غير المسلمين ، بينما هو من القواعد التي نطق بها القرآن ، والمبنية على قاعدة : قبح العقاب ، بلا بيان . وقاعدة : إن شأن الله - تعالى - إرسال الرسل ، والمبلغين ، في كل وقت ، وبكل أمر .

هذا القول باطل ، بل تراهم يستخفون بقائله ، ويضللونه ، ويكذبون الفكرة ، وكأنها من مقولات الكافرين.

مع إن القول : بأن الله لا يعاقب إلا بحجة ، هو قول قرآني . وإن القول : بأن الله دائم الحجة على خلقه ، هو قول قرآني - أيضا . وإن الله من شأنه - دائما - أن يرسل البيان ، والرسل ، من السماء إلى الأرض ، في كل وقت. وهذه بمجملها مقولات قرآنية ، كما برهن عليه المبحث السابق .

ومع كل هذا ، لا ندري ، ما هو وجه الغرابة في الإيمان ، أو الإقرار بعدم خلو الأرض من حجة ؟

ولكنهم - ومن أجل التشدق والتفلسف في رفض الفكرة - يلجأون إلى علم الكلام فيرفضون - أساسا - القاعدة العقلية المنطقية العقائدية التي تقول ب_(قبح العقاب بلا بيان) ويقولون إنها قاعدة مبنية على القبح ، والحسن ، الذاتيين . ولأن هذا باطل عندهم فالقاعدة – بالتالي باطلة . متناسين أن الشرع الشريف يؤيد هذه النظرية بآيات ونصوص شريفة غير قابلة للجدل ، ومتجاهلين ما يقولون به في باب : (حكم الأطفال) حيث يقولون : إنهم لا تكليف عليهم ؛ لعدم تعقلهم للبيان . فلا تجوز عقوبتهم . وقد قال الله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . فهم في ذلك ، كمن يقعد القواعد ، ثم يكون أول من يخرقها ، حيث ينسون أحكامهم في الشرع ، ويتجاهلون ما يستدلون به من القرآن عليها ، وهي – في واقع الأمر – ذات الأدلة التي توصل دون كثير عناء ، وطول أخذ ورد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان .

وهم - بعد ذلك - حين يتناولون الدليل العقلي ، يخلطون على الناس ، متعمدين ، بين ما هو منتج ، وبين ما هو غير منتج . وحين يناقشون في الدليل العقلي ، يخلطون بين موضع النزاع ، وبين ما لا خلاف فيه ، فيصورونه على انه هو موضع النزاع . وهذا بسبب عدم معرفتهم الحقيقية ،

ص: 144

بالخلاف العلمي ، وبدليل العقل نفسه ، ومتى يكون موردا للخلاف ، ومتى يكون منتجاً ، بلا خلاف . وفي سبيل ذلك ، لا بد لنا أن نفهم ، ما هو الدليل العقلي ؟ ومتى ينتج ؟ ومتى نختلف فيه ؟ وعلينا أن نستفيد - أولا - من الفهرسة التالية :

أولا : العقل العملي ومؤداه :

هذه فهرسة ضرورية، نقلت أغلبها من كتابنا (الإسلاميون والدستور) وقد أضفت لها بعض التوضيح ؛ لبيان المشكلة ، التي لا يفهمها الكثير من الناس ، في هذا المقام :

العقل : كقوة مودعة في الإنسان - على اختلاف تفاسیره ، وتعاريفه - لا شك في إنها تدور ، على قابلية الإدراك ، والتمييز ، والتذكر ، والكشف ، عن كل ما يتعلق به ، من المدركات النظرية ، والعملية . وعليه ، فلا داعي للدخول فيما دخل فيه المحققون ، من تعريف العقل ؛ لأن المهم . عندنا ، أنواع مدركاته ، ومساحة قابليته ، لهذه المدركات.

والمتفق عليه منه ، هو إدراك الكليات ، أما الجزئيات - من محسوس ، وغيره - فلا تدخل في محل النزاع ، إذ لا خلاف في إدراكها ، ولا خلاف في إنها لا تنتج حكما بنفسها . ولهذا ، لا يشتبهن أحد ، إذا ورد عنده لفظ العقل في مبحث الأدلة ، فيعتقد أنه يشمل الجزئي – خارجياً كان أو ذهنياً .(1)

وقد قسموا قابليات العقل ، وأسموها العقل - تنزلا ؛ لأن قسما من التقسيم ، يختص بالمعلوم ، وليس بالقابلية . ولكن يحسن الجري مجراهم ، وعدم اللجاجة ، وتسميتها بأقسام العقل :

ص: 145


1- كثيرا ما يناقش الرافضون لمبدأ العدل من أجل إسقاط نظرية التحسين والتقبيح العقلي بالقدرة على الخدع البصرية والحسية فيكون العقل غير مؤهل للحكم عندهم ، وهذا خروج عن الموضوع وذلك أولا : لأن استلالهم هو بالمواضيع الخارجية ، وهذا لا يصح البحث فيه وهو خارج عن البحث . والثاني إن الخدع الحسية لا تنفي الإدراك وإنما تثبت الإدراك ، ولكن هناك حدودا معينة يمكن لأدوات الحس أن تخطأ فيها فلا يعتبر الحس فيها قابلا لإدراك الموضوع الخارجي في تلك الحالة . وهذا ليس له علاقة بحكم العقل في الكليات واحكامه فيها وما يدخل في المدرك وما لا يدخل .

التقسيم الأول :

العقلي النظري : هو إدراك المدركات - كما هي في واقع نفسها - بقطع النظر عما يلحقه مما ينبغي أن يعمل . كما هو في العلوم ، والمعارف، في مقام معرفة واقع المدرك – بالفتح - وأوضح الواضحات في هذا الباب، هو مدركات علم الرياضيات .

العقلي العملي : هو إدراك ما ينبغي (أن يعمل) . ومثاله هل يحسن الأكل ، حين الجوع ، أو يحسن الشكر حين الإنعام ... وهكذا .

التقسيم الثاني :

تقسيم ، يعتمد على درجة ، وقوة حكم العقل . وهو ينقسم إلى عدة أقسام ، بحسب قوة الإدراك :

الإدراك القطعي : هو المؤدي إلى الجزم ، الطارد لاحتمال الخطأ . كعدم اجتماع النقيضين ، أو الضدين .

الإدراك الظني الناقص : وهو الترجيح ، دون الجزم .

التقسيم الثالث :

ينقسم الإدراك القطعي النظري، بحسب المعارف المكتسبة ، إلى :

الضروري ، والمسمى البديهي : وهو الذي يحصل في الذهن، من دون عمليات فكرية ونظر ، بل بمجرد أن يتصور الشيء يحصل عنده الجزم به ، مثل الواحد نصف الاثنين .

النظري ، أو ما يسمى بالكسبي : وهو ما يحصل بالاكتساب ، و إعمال الفكر ، من استنتاج ، واستقراء ، واستدلال ، ووسائل فنية ، للمعالجة الفكرية ، من معالجة لنفس المقدمات ، وترتب للمقدمات ؛ لإنتاج النتائج .

فهنا خمس حالات ، هي :

1 - نظري بديهي. 2 - نظري كسبي قطعي. 3 - نظري ظني .

4 - عملي قطعي . 5 - عملي ظني .

ص: 146

ما معنى الحسن والقبح :

المطلب الأول : المعاني ومحل النزاع :

المعنى الأول : وهو غير داخل في النزاع العلمي :

الحسن ، والقبح ، بمعنى الكمال ، والنقص . كالعلم والجهل ، والكرم والبخل ، والشجاعة والجبن ، فإن هذه صفات كمال ، ونقص ، في النفس . والعقل يدرك ذلك ؛ لأنها أمور قطعية ، ولها واقع خارجي ، من دون حاجة إلى تطابق آراء العقلاء ، من الناحية العلمية ، وهو واقع ثابت للأفعال ، ومتعلقاتها وصفاتها . فالعلم حسن ، والجهل قبيح . وهذا المعنى للحسن والقبح ، عقلي مدرك للعقل ، باستقلال . لا يختلف في ذلك الأشعري ، مع غيره . فهو عقلي عند الأشاعرة .

ملحوظة : لا يدخل في هذا المبحث ، البحث في جزئيات تلك الصفات ، التي تعتبر كمالا للنفس ، أو نقصاً.

المعنى الثاني : وهو غير داخل بالنزاع العلمي أيضاً:

الحسن و القبح ، بمعنى ما يوافق الطبع ، ويخالفه . وهذا المعنى ثابت للأفعال ، ولما يتعلق به من الأعيان . وللصفات ، بلحاظ ميل النفس إلى ما يوافق الغرض ، أو يخالفه ، ولذا يعبر عنها بالمصلحة ، والمفسدة ، عند الفاعل . وهما - بهذا المعنى - ليس لهما واقع خارجي ، بقطع النظر عن المدرك – بالفتح . ولذا يختلفان ، باختلاف الأذواق ، والأغراض . فيقال : الشرب مع العطش حسن ، ومع الارتواء غير حسن ، أو قبيح ، ويقال في المتعلقات : هذا المنظر حسن أو قبيح ؛ لأن النفس ترغب ، أو تشمئز ، حسب الأذواق ، والأغراض . والمرجع کله في ذلك ، إلى اللذة والألم ، وهذا هو معنى المصلحة والمفسدة ، عند الفاعل - كما يشرحها القوشجي في شرح التجريد - وهما ، بهذا المعنى ، عقليان عند الأشاعرة ، وغيرهم ، بلا توقف على بيان المشرع . كما ذكر ذلك الفضل بن روزبهان.(1)

ص: 147


1- أنظر المواقف للأيجي : 324 .

المعنى الثالث : وهو مورد النزاع العلمي :

ومعنى الحسن و القبح فيه ، هو : كون الفعل ، بحيث يستحق فاعله المدح ، أو الذم ، وهما بهذا المعنى ، يقعان وصفا للأفعال الاختيارية فقط ، عند العقلاء . بمعنى ، إن عقل الكل ، يدرك المدح على الحسن ، والذم على القبح . وهذا هو الذي أنكره الأشاعرة ، وأثبته العدلية ، من معتزلة ، وشيعة . وهو موطن الكلام والبحث العلمي . والكلام فيه طويل جدا . وقد اختلط كلام العلماء فيه بين الواقع والخيال ، والخطأ والصواب .

وهنا ، نبين تفصيلاً آخر ، في هذا القسم ، الذي هو محل النزاع ، بعد الفراغ من ثبوت إدراك العقل لهما :

1 - إن كان الحسن والقبح ، علة تامة للمدح والذم ، سمي ذاتياً . كحسن العدل ، وقبح الظلم .

2 - إن كان فيه اقتضاء ، إذا لم يوجد المانع ، سمي مقتضياً .

3 - إذا لم يكن شيء من هذين ، فهو لما ينطبق عليه من العنوان . كالحسن والقبح .

والمراد بالعلية ، والاقتضاء - هنا - ليس ما هو مصطلح عليه ، في علم المنطق ، وإنما المقصود ، إن عنوان الممدوح ، أو المذموم ، هو تمام موضوع الحكم ، أو له دخل في موضوعه ، لولا المانع . وليس المراد به التأثير ، والعلية . وليست كل أسباب الإدراك ، في المعنى الأخير ، داخلة في النزاع ، وهنا ، سنبين الأسباب الخمسة ، وما يدخل فيها ، وما يخرج منها :

السبب الأول : قسم منه ، يدخل النزاع العلمي ، وهو : أن يدرك العقل إن هذا الشيء كمال للنفس ، أو نقص لها ، فيدفعه ذلك إلى إدراك ما ينبغي أن يُفعل أو يُترك . وهذا المعنى ، إما أن يكون المدرَك فيه جزئيا ، فهو غير داخل في النزاع ؛ لأن العدلية يقولون : هذا أمر عاطفي ، وليس عقليا . وإما أن يكون كليا ، وهو ما سنبينه في السبب الثاني ؛ لأنهما كليهما محل النزاع .

ص: 148

السبب الثاني : قسم منه يدخل النزاع العلمي ، وهو : أن يدرك ملاءمته للنفس ، أو عدمها ، إما بذاته ، أو بما فيه من نفع ، سواء كان عاماً ، أو خاصاً ، فيدرك حسنه و قبحه تحصيلاً للمصلحة ، أو دفعاً للمفسدة . والسبب الأول ، والثاني ، ينقسمان إلى قسمين ، كما قلنا في الأول :

أولاً : أن يكون الإدراك فيه ، لواقعة جزئية . فيكون الحكم بدافع المصلحة الشخصية ، ولا دخل للعقل بإدراك الجزئيات ، فهذا خارج ما يراد من العقل - المصطلح هنا – وهو أدراك الكليات .

ثانياً : أن يكون إدراكاً لأمر كلي ، وهذا الإدراك يكون بالعقل ، ويستتبع مدحاً ، أو ذماً ، من جميع العقلاء . وهذا هو محل النزاع . وتُسمَّى أحكام العقل هذه : الآراء المحمودة ، وهي من قسم القضايا المشهورات، في علم المنطق ، وتقع في مقابل القضايا الضرورية [وليس كما توهمه قسم من الأشاعرة بدعوى أنها من الضروريات] وليعلم إنه لا واقع خارجي لهذه القضايا ، بغض النظر عن تطابق الآراء على الكمال ، أو الملاءمة للنفس ، لمصلحة عامة . وإنما هي أحكام عقلية على أمر واقع .

السبب الثالث : قسم منه يدخل النزاع العلمي ، وهو : الخلق الإنساني ، كالكرم والشجاعة ، لا بدافع الكمال والملاءمة ، بل لمجرد الخلق . فإن كان في هذا الخلق مصلحة ، أو مفسدة نوعية ، دخل في محل النزاع .

السبب الرابع : لا يدخل في النزاع العلمي ، وهو : الانفعالات النفسية ، من الرحمة والحياء وما يقابلهما ، فالعقلاء يمدحون ، ويذمون على الانفعالات ، ولكن هذا السبب ، غير داخل في النزاع ؛ لأنه لا يحتمل متابعة الشارع المقدس ، في انفعالاتهم . السبب الخامس : لا يدخل في النزاع العلمي ، وهو : العادة الجارية ، من احترام الضيف، ونحوه . والعادات تختلف بحسب الأمكنة ، والأزمنة ، والأشخاص.

هذه هي الفهرسة ، حسب موضوع ، وتقسيمات التحسين ، والتقبيح . ولكن ، ينبغي أن لا نغفل فهرسة التطبيقات ، ولو بشكل مختصر.

ص: 149

ثانيا : العقل النظري :

يواجه العقل النظري عدة قضايا أهمها :

1 – معرفة نفس الحكم الإلهي : وهذا يقول الشيعة عنه : إنه غير ممكن ؛ لأنه خارج وظيفة العقل ، فيما ينبغي أن يعلم . ولهذا لم يجيزوا الاستحسان ، كدليل شرعي ، بينما الأحناف والشافعية ، قالوا به .

2 - معرفة مناط الحكم ، والداعي إليه : وهذا ما لا يختلف من الشيعة اثنان ، على إنه خارج قدرة العقل على الإدراك ؛ فلهذا لم يجوزوا مطلقاً القياس الشرعي . لا المنطقي – باعتباره يبتني على فاقد موضوع ، وهو الدليل الذي ليس بدليل .

3 - معرفة الملازمة بين حكم ، وحكم : وهذا أمر توسع علماء الشيعة فيه ، وفي كيفياته ، وأحكامه . وأثبتوا إن قسماً منها قطعي النتيجة ، وقسماً لا يتصف بذلك . فلا حجة فيه . وهو موضوع شائك . ووضعوا له مباحث كثيرة ، في علم الأصول ، منها : مباحث المستقلات العقلية ، ومباحث غير المستقلات العقلية . وقد كان القدماء ، يلحقون به المفاهيم ، باعتبارها علاقات عقلية ، بين النص ، ومفهومه - مثلاً .

4 - معالجة وظيفة المكلف ، عند فقدان الدليل ، بمستوى العقل النظري . وتنظيم الملازمات . مهمة العقل العملي – إذن : أدراك إن هذا الشيء ، ينبغي فعله ، أو تركه ، على نحو الوضوح العقلي المجمع عليه عند العقلاء . وهو . - كما قلنا كما قلنا - ينحصر ينحصر في القضايا المشهورة ، قسم الآراء المحمودة ، التي يتطابق عليها العقلاء - كافة . وذلك من حيث : هم عقلاء .

وعليه : فإن العقل النظري ، والعقل العملي ، يشتركان في إنتاج الأحكام ، بحسب موازين دقيقة ، ولا يجوز نسبة موضوع إلى موضوع آخر . وليس كلما قيل عنه : أنه (حكم العقل) فهو منتج للنتيجة المطلوبة دائما ، ولا كل حكم للعقل ، مختلف عليه ، ومرفوض قطعيا ، عند الأشاعرة ، كما يتوهم البعض . فبعض أحكام العقل - عندهم - من الضروريات . ولهذا فإن نفي المنكرين منهم لأحكام العقل كلية ، هو جهل بمذهبهم.

ص: 150

وبعد هذه الفهرسة يحسن أن نفصل قليلا :

فالكثير يردد قولهم : «بأنهم لا يقولون بالتحسين والتقبيح الذاتيين أو العقليين» . بل يثير مشاكل موجهة لأهم تطبيق لقضية التحسين والتقبيح ، وهي قضية العدل ، ووجوبه ، والالتزام به . وقد نسي ، أو تناسى إن العدل ، هو مما يقول به كل المسلمين. وإنما الاختلاف، في تفسير العدل ، وتطبيقاته العملية . ولا يستطيع مسلم ، أن ينكر عدل الله ، فهو بنص الكتاب ، والسنة . ومن يكابر ، وينكر فإنما هو ليس بمسلم .

، ممن لا يدري مشكلته ، يحاول أن ينتقد موضوع التحسين والتقبيح ، العقليين . بل قد وما دعا بعض المتعصبين المنكرين إلا العداوات السياسية ، وخضوع بعضهم للسلاطين لتبرير جرائمهم ، والمشاغبة حتى لو أدى ذلك إلى هدم الإسلام ، وهذه القضية من هذا القبيل . فماذا يقولون للمسلمين ، إذا أنكروا عدل الله وقسطه ؟ وهو قائم بالقسط ، ولا يظلم عباده بمثقال ذرة ، كتابه العزيز . والقضية ، قضية منصوصة من الله بكتابه الكريم ، وبأقوال الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو مما تسالم عليه المسلمون . فكيف يُدعى ، بأن العدل الإلهي ، مثل عدم عقاب المطيع ، وثواب العاصي ، مبني - فقط - على قاعدة التحسين العقلي، ولعمري، كأن من يشتم الشيعة ، بأنهم يقولون بعدل الله ، يريد أن يقول بظلم الله ، من دون أن يشعر . والعياذ بالله ، من هكذا خذلان .

وهنا - لا بد أن نبين لجمهور المنزهين ، إن من ينكر الحسن و القبح ، إنما يريد أن يصنع مذهبا فجا ، لا تقبله العقول ، ويستعمل اختلال العقل ؛ لضرب عقل الإنسان الطبيعي ، ويحرك المنظومة الخرافية في عقل الإنسان ، ويستغلها ؛ ليدمر البنية العقلية السليمة من الداخل .

جهل المنكرين لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين :

ويتظاهر الكثير منهم ، أنه يفهم هذه القاعدة ، ويرد عليها ، ولا يقبلها . بينما التحسين العقلي ، لا يرد بمطلقه ، عند الأشاعرة ، وغيرهم . وإنما هناك نقطة خلاف ، دار حولها النزاع ، ونشأت بعد الأشعري بمدة . ولعل السبب ، يعود للنزاعات المذهبية مع المعتزلة ، والشيعة . وسأبين حقيقة الموضوع :

ص: 151

توجد ثلاثة معان للتحسين والتقبيح - عند الجميع بما فيهم الأشاعرة – كما قدمنا وهي كما ذكرها بعض الأشاعرة(1):

الأول : صفة الكمال والنقص يقال : العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع في أن هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأن مدركه العقل ، ولا تعلق له بالشرع . فهو تحسين ، وتقبيح عقلي ، عندنا بلا شك .

الثاني : ملائمة الغرض ومنافرته، وقد يعبر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وذلك أيضا عقلي أي يدركه العقل كالمعنى الأول . مثل شرب الماء مع العطش حسن ، وكذلك يقال منظر الخضرة والحدائق حسن لأنه ملائم لطبع النفس ولذتها . فهذا مما لا شك فيه أنه حسن عقلي عندنا .

الثالث : بمعنى كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح أو الذم . وهذا هو موضع النزاع .

فليس كل معنى من معاني التحسين والتقبيح ، باطل عندهم . حتى يزعمون النفي الكلي بلا فهم . بل إن معنيين منها ، ثابتان عند الجميع عقلا . وإن العقول تدركهما مستقلة.

ص: 152


1- السيد المرعشي : شرح إحقاق الحق : 1 : 274 . وفيه : «قال الفضل بن روزبهان [وهو من أكابر المتكلمين المتعصبين من الأشاعرة] : أقول : الحسن والقبح ، يقال لمعان ثلاثة : الأول : صفة الكمال والنقص ، يقال : العلم حسن ، والجهل قبيح ، ولا نزاع في أن هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأن مدركه العقل ، ولا تعلق له بالشرع . الثاني : ملائمة الغرض ، ومنافرته . وقد يعبر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة ، فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وذلك أيضا عقلي ، أي يدركه العقل ، كالمعنى الأول . الثالث : تعلق المدح والثواب ، بالفعل، عاجلا وآجلا، والذم والعقاب ، كذلك . فما تعلق به المدح في العاجل ، والثواب في الآجل ، يسمى حسنا . وما تعلق به الذم في العاجل ، والعقاب في الآجل قبيحا . وهذا المعنى الثالث ، هو محل النزاع . فهو عند الأشاعرة شرعي ؛ وذلك لأن أفعال العباد كلها ليس شيء منها في نفسه ، بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ، ولا ذم فاعله وعقابه ، وإنما صارت كذلك ، بواسطة أمر الشارع بها ، ونهيه عنها ، وعند المعتزلة ، ومن تابعهم من الإمامية ، عقلي» .

وهناك قسم ثالث مختلف فيه ، حتى بين أهل السنة أنفسهم . وهذا ما لا يفهمه الكثير منهم ، فيدلّس على الناس بأن قاعدة التحسين والتقبيح ، مرفوضة مطلقا في المذهب . وإن القائل بها معتزلي . بينما الأشاعرة يقولون بنوعين من الحسن والقبح العقليين ، ويختلفون في الثالث ، فقسم منهم يقول : لا يقع ، وقسم يقول : يقع .

إن صفة العدل ، هي صفة كمالية الله تبارك وتعالى(1). و لا بد من القول بها – بهذا الاعتبار – ولا يخالف أشعري في ذلك . لأننا نقول : إن صفات الكمال ، يدركها العقل ، قبل الأمر الشرعي . والعدل صفة كمال ، لا يمكن سلبها ، عن الله ؛ لأنه يدخل النقص عليه ، وهذا باطل قطعا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ولا خلاف بين اشعري ، أو عدلي في . ومن اعتقد غير ذلك ، فهو لم يتوفر على التحقيق .

وعلى هذا ، فلا حاجة لدخول صفة العدل ، في محل النزاع ، وهذا اشتباه من الأشاعرة ومخالفيهم ؛ لبحث هذه الصفة ، في القسم الثالث المختلف فيه . فإن هذا القسم ، إنما نختلف فيه في أفعال المخلوقين ، لا في الصفة نفسها ، فكيف إذا كانت الله ، سبحانه من كل نقص . فصفة العدل ، صفة كمال .

ومن أجل بيان إن هذا النزاع ، دخل في باب الكلام الغامض ، بينما هو من أوضح الواضحات . نقول : إن جميع العقول ، تدرك منذ القدم ، وبمعزل عن الشرائع ، إن من يقوم بالظلم مذموم . ومن يعدل ، ويحسن للناس ، ممدوح عند الناس عامة ، بل حتى الحيوانات الضارية ، تفهم هذا ، فإن

ص: 153


1- والصفة المناقضة هي الظلم ، وهي صفة نقص ، يجل الله عنها ، وقد نفى الله عن نفسه الظلم . فقد وصف نفسه بكونه لا يظلم ، قال عز وجل : ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة﴾ [النساء : 40] . وقال تبارك وتعالى ، أيضا : ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾ [يونس : 44] . وقال أيضا : ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف : 49] . وقال أيضا في وصف نفسه انه قائم بالقسط : ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران : 18] .

من يحسن إليها بالطعام ، والمأوى ، تألفه ، وتتروض على يديه . ومن يزجرها ، ويمنعها ، تبتعد عنه ، وتعاديه .

فلو إننا ، رأينا حاكما ظالما ، سالبا للحقوق ، معتديا على المجتمع ، في أي مجتمع كان ، حتى لو كان ذلك المجتمع ، خاليا من الشرائع ، فإن جميع أهل مملكته ، يرون إن ظلمه مذموم ، وكل البشر يرون ذلك فيه ، وهذا يعني : إن البشر ، يدركون معنى الظلم ، أولا ، ويحكمون على ذم الظالم ، ثانيا .

وهذا المعنى ، نفاه بعض الأشاعرة في المحاججات ، وأثبته الآخرون من أهل السنة ، والماتريدية(1) قولا وعملا . [راجع ترجمة أبي منصور الماتريدي]

ص: 154


1- الماتريدية : مجموعة من المقولات والأفكار ، تخالف مقولات الأشاعرة ، فهي بالتالي أشبه بالمذهب الكلامي ، تنسب إلى أبي منصور الماتريدي، محمد بن محمود (وقيل محمد) بن محمود الماتريدي الحنفي السمرقندي، المتوفى في سمرقند سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ، نسبته إلى : (ماتريد) محلة في رقند . متكلم ، وأصولي ، زعيم أصحاب المذهب الماتريدي، الذين هم أغلب الأحناف ، بينما أغلب الشافعية ، والمالكية أشاعرة . نسب إليه علم الحقيقة ، وقد نقل عنه : إنه يقول : إن معرفة الله واجبة بالعقل ، بخلاف الأشاعرة ، الذين يقولون إنها واجبة بالشرع ، وليست بالعقل . انظر : عجائب الآثار للجبرتي : 1 : 412 . وهو القائل : لا تجوز رؤية الله في المنام لغير النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) تمسكا بظاهر النصوص ؛ لعدم إمكان إثبات ، الرؤية ، بالأدلة العقلية . انظر : السيرة الحلبية للحلبي : 2 : 142 ، شرح المواقف للقاضي الجرجاني : 8: 129 ، نخبة اللثالي في شرح بدء المالي للحلبي : 41 . ونقل عنه منعه تجويز تعذيب الله للمطيع عقلا وشرعا ، بخلاف الأشاعرة الذين جوزوه عقلا ، ومنعوه شرعا . كما نسب إليه القول : إن صفات الأفعال كالخلق والرزق قديمة ، بخلاف الأشاعرة . وقوله : بعصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر . و قوله : بصحة إيمان المقلد بخلاف الأشعري . وقوله : بقدرة الشقي أن ينقلب سعيدا ، وبالعكس ، ومنعه الأشعري . وقد اختلف مع الأشعري في تفسير الكسب، حيث نفى الأشعري تأثير العبد في فعل نفسه ، بينما أثبت الماتريدي تأثيرين فيه هما : تأثير العبد في الاتصاف ، وتأثير الله في أصل الفعل ، وحركته . واختلف مع الأشعري في مسألة التكليف بما لا يطاق، فأجازه الأشعري ، ومنعه الماتريدي . وكذلك القول : إن كلام الله النفسي لا يمكن أن يسمع بحال ؛ لأنه ليس بصوت ، وما لم يكن صوتا ، لا يسمع . شرح إحقاق الحق : 1 : 165 ، و : 1 : 311 . ونقلوا عنه أيضا : نقله : إجماع العلماء على إن عليا محق في حربه لأهل الجمل ، وصفين ، وهم مبطلون ، وهذا فيه ما فيه . شرح إحقاق الحق : 31: 355 . وقد نقل الميلاني في نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار : 18 : 53 : عن كمال الدين السهالي الهندي المتوفى 1175 ه_، قول الماتريدي بالقبح والحسن العقليين ، بناء على منع الترجيح بدون مرجح ، وترجيح ثواب عمل دون آخر ، بدون مرجح باطل ، والحكيم سبحانه ، إنما يرجح لعلة في ذاتها ، وليس عبثا . له من الكتب : كتاب وهم المعتزلة . وكتاب تأويلات أهل السنة المسمى بتأويلات الماتريدي ، وكتاب تفسير الماتريدي (تأويلات القرآن) وكتاب الدرر في أصول الدين ، وكتاب العقيدة أو عقيدة الماتريدية ، وكتاب الجدل أو الرد على تهذيب الكعبي في الجدل ، وكتاب المقالات ، وكتاب التوحيد ، وإثبات الصفات ، وكتاب مأخذ الشرائع في أصول الفقه ، وكتاب شرح الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة ، وكتاب الرد على القرامطة ، وكتاب حصص الأتقياء . انظر أيضا : الأعلام للزركلي : 7 : 19 ، معجم : 7 : 19 ، معجم المؤلفين : عمر كحالة : 11 : 300 ، الأنساب للسمعاني : 3: 63 .

وقد قال بعض الأشاعرة المتعصبين : إن العقل ، لا يدرك معنى الظلم ، أولا ، وإن الله لا ينسب إليه الإدراك ، بخلاف نص القرآن ، ثانيا(1) وإن العقل ، لا يمكنه الحكم على الظلم بالذم ، ثالثا .

وهذا من نوع الهرطقات ، التي لا طائل ولا نفع منها .

ما هو الغرض - إذن - من كل هذا الإصرار على إثبات نسبة الظلم الله - تقدست أسماؤه - كما يزعمون ؟

ثم يدعون : إن الظلم نسبي ، وإن الله لا يتصف بالظلم ، لأنه يتصرف في ملكه ، والظلم تصرف في ملك الغير ، فلو عاقب المطيع ، وأثاب العاصي ، لكان عدلا.

إن مثل هذا الكلام ، غير العقلائي ، لا يساوي شيئا عند العقلاء . وهو ينفّر الناس من الإسلام . ولكنه مهم في تبرير جرائم السلاطين الجائرين

ص: 155


1- قال تعالى : ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام : 103] وهذا نقض واضح ، لتشدقهم بأن صفة الإدراك ، لا تكون الله .

فلا يفيدنا ، أن نعتمد رأي بعض المتطرفين السياسيين ، المناهضين للمعتزلة والشيعة ؛ لأجل المناهضة السياسية ، ونترك قرآننا ، وسنة نبينا ، وعقولنا ، من اجل ذلك.

وهل في إثبات ونسبة الظلم لله - جل وعلا - ومن ثم تحريف معنى الظلم ، ما ينفع الإسلام والمسلمين في شيء ؟

وهل ننصر المذهب الأشعري ، أو السني ، بنفي إدراك العقول ، لذم الظلم . وهو مخالف البديهة العقول ؟

لا يبنى على ذلك ، إلا هرطقات ، ومعان ملتوية ، لا قيمة لها . بينما القرآن والسنة ، ضد بعض هذه النتائج ، فما وافق كتاب الله ، وسنة نبيه، والعقل السليم ، نعتمده . وما خالفه من كلام المتفلسفين ، والمتنطعين ، فنتركه ، ولا كرامة .

كان ينبغي - بدلا عن الجواب الغائم ، عن إمكانية ظلم الله ، حيث الإصرار على ظلمه للبشر ، ولكن مع تغيير مسمى الظلم ، إلى عدل ، بدعوى إنه تصرف في ملك الله - أن نتصور أسباب الظلم كما يعرفها العقل . فهو لا يكون إلا بأحد هذه الأسباب ، وكلها منفية عن الله ، وهي :

1 - الجهل بقبح الظلم .

2 - الاحتياج للظلم ، مع العلم بقبحه .

3 - العجز عن القيام بالعدل .

4 - الاستهتار ، والسفاهة ، وعدم الحكمة ، وعدم المبالاة ، بإتيان الأفعال الظالمة ، رغم العلم بقبحها ، ورغم القدرة على القيام بالعدل .

وحاشا لله ، أن يلحقه أحد هذه الأسباب ؛ ليستعمل الظلم . فهو - تعالى - منزه عن الجهل ، والعجز ، وعن الاحتياج ، وما شابه ذلك .

ولهذا ، فإن جميع أفعاله ، توصف بالعدل ، والحكمة . ولا يمكن أن نوافق على وصف الله بالظلم ، أو القابلية له ، فالله غير قابل للنقص ، وهو بالتالي – تعالى عن ذلك وتقدست أسماؤه – غير قابل للظلم .

ص: 156

فالعقل يدرك معنى الظلم . وهذا من بديهيات العقول ، ومن شك في ذلك فعليه ان يقبل شكنا في عقله.

والله ، يدرك المدركات : ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدرك الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام : 103] . والعقل يحكم على الظلم بالقبح ، وعلى العدل، والقسط ، والإحسان ، بالمدح . وهذا لا يختلف فيه عاقلان .

ومن قال : إن العقل ، لا يدرك حسن الأفعال ، ومدح فاعلها ، وإن الأمر ، منوط بالشرع فقط فقد عرّض فكره لإشكال ، لا يمكن الجواب عنه ، حتى بالمغالطة. وذلك ، إذا لم يكن في العقل ، قبح الكذب الضار، وجاز على الله ، أن يكذب ، ويغدر ، ويجازي الإحسان بالسيئة . فإن إخبار الله ، بأنه صادق ، أو بأنه عادل ، لا يثبت ؛ لجواز كذبه ، وغدره - والعياذ بالله - . وهذا قول لازم ، لا مفر منه . ولهذا فإن من قال : بأن لا إدراك للحسن ، إلا بالشرع ، ينفي الحسن حتى من الشرع ؛ لأن الشرع يحتمل فيه الكذب ، وعدم الواقع ، وهذا مما جوزه من قال بهذه المقولة.

ويبدو على المتكلمين المتفلسفين ، أنهم يتظاهرون بكره العقل ، وبقصوره في الإدراك . بينما هم ، يلجأون في محاججاتهم إلى الفذلكات العقلية ، والمغالطات الأرسطية .

فإذا كان العقل ، قاصراً عن إدراك حسن الأفعال ، والحكم عليها بالمدح . فكيف يبني أحكامه ، على الأفعال ، والأعمال ؟ التي هي مدار علم الكلام ، من أي طريق أتيناه .

ولما كان علم الكلام ، يحاول أن يفسر العلاقة بين الله والإنسان ، ويحدد الحق والباطل . فإن هذا ، يستدعي معرفة الصفات ، والأفعال ، والحكم عليها . فإذا كان المنكر ، يرى قصور العقل عن ذلك ، فكيف يقوم عنده علم كلام ، أصلا ؟

إنه مجرد صف للكلمات ، من أجل إقناع من لا يعرف الحقائق ، بأن المدعي عالم ومتكلم ، على طريقة عصور الظلام، وهو في الحقيقة ، لا يهمه الحقيقة ، ولا الإسلام ، ولا يكترث فيما إذا ناقض الدين الإسلامي ، بدعوى نصرة المذهب .

وهم - بعد ذلك - يعتقدون : أن هناك مشكلا ، ينفي وجوب العدل على الله وهو معنى

ص: 157

الوجوب على الله . حيث يدعون بأن من الاعتداء على الله أن نقول بأنه يجب عليه العدل ، لأنهم يفهمون كلمة الوجوب بمعنى التكليف ، وهذا من مصائب الدهر وسنوضح هذا المطلب بشكل مختصر :

معنى الوجوب على الله عند المعتزلة والشيعة :

لقد أثيرت - في الموضوع - كلمات موهمة ، تدعي إن القول بالتحسين ، يعني إيجاب شيء على الله ، يفرض عليه خارجا ، وحين تراجع كلمات العدلية - (المعتزلة والشيعة) - في ذلك ، يتبين إن هذا وهم ، لا يقولون به .

ولهم معنى ، مقبول قرآنيا ، وعقليا ، لما يقولون . فهم لا يقولون إن الوجوب ، بمعنى إلزامه سبحانه وتعالى بذلك . وإنما بمعنى ، التزامه، وتنزيهه من النقائص . وهذا من الواجبات - كما لا يخفى - فالتزام الله بالرحمة ، والعدل، هو واجب ، وتنزيه الله من النقائص ، واجب . وحين يقولون : يجب على الله ، لا يعنون أن الله مكلف ، بهذا الأمر - كما يتوهم المنكرون - وهذا الخطأ ، ناتج عن عدم تفهم ، لمقولة العدلية . بل يعني ، إنه لا يحسن أن يوصف الله بخلافه.

وقد نفى أغلب المعتزلة ، والشيعة ، ما فهمه بعض الأشاعرة ، لمعنى الوجوب . فقد أوضح النوري التستري ، رأي العدلية ، في رده على ابن روزبهان الأشعري ، بقوله :

قد مر ، إن الوجوب الذي ذهب إليه الإمامية ، والمعتزلة ، إنما هو بمعنى : إيجاب الله - تعالى - على نفسه شيئا ، بمقتضى حكمته ، كما دل عليه ، قوله تعالى : ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَةَ﴾ [الإنعام : 12] وغير ذلك . لا بمعنى : إيجاب غيره - تعالى - شيئا عليه ، كما توهمه الأشاعرة ، والإيجاب بذلك المعنى ، مما يجب القول به ، لقيام الدليل عليه كما عرفت» .(1)

ونفى الشيخ السبحاني ، أن يكون معنى الوجوب ، هو إلزام الله ، بل هو تنزيهه ، والتزامه .

قال : «هذا ويجدر التذكير بنقطة هامة - هنا - وهي إن العقل ، لا يحكم على الله بشيء ، ولا يقول : يجب على الله أن يكون عادلا ، بل كل ما يفعله العقل - هنا - هو أن يكتشف واقعية الفعل

ص: 158


1- المرعشي : شرح الإحقاق : 1 : 287.

الإلهي . يعني : إنه بالنظر إلى كمال الله المطلق ، وتنزهه سبحانه عن كل نقص وعيب . يكتشف إن فعله كذلك في غاية الكمال ، وإنه منزة - أيضا - عن النقص ، فهو بالتالي ، سيعامل عباده بالعدل ، ولا يظلم أحدا منهم أبدا».(1)

ومن ملحقات إنكارهم ، للتحسين والتقبيح العقليين ، وتوهمهم لإنكار صفة العدل الله ، وإن إنكارها ، مما يغيض الشيعة ، والعدلية . فقد أنكروا قاعدة وجوب شكر المنعم ، التي بها قيام الدين ، وأساسه العقلي ، الذي يوجب التدين ، بدين المنعم ، والالتزام بنواميسه ، ولكي نفهم حجم المأزق الفكري ، الذي وقعوا فيه ، لابد من عرض قولهم الصريح ، في ذلك :

ص: 159


1- جعفر السبحاني : العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت(علیهم السّلام) : 95.

إنكارهم لحكم العقل

حتى في قاعدة (وجوب شكر المنعم) البديهية

التي هي أساس الديانة

وقد وصل بهم الأمر - نتيجة لطرقهم الملتوية في التفكير وإنكارهم لعدل الله – إلى إنكار قاعدة شكر المنعم ، من أجل الرد على قواعد ، تؤدي إلى الإيمان – وجوبا وعقلا – بعدم خلو الأرض من حجة الله سبحانه وتعالى .

ورغم غرابة هذا المسلك ، إلا إنه مبرر من جانبهم ؛ باعتباره ضروري لبناء منظومة فكرية ، تمنع التواصل بين الله ، وخلقه – عبر البشر - عدا من يروق لهم أن يعترفوا به ، بحسب المزاج والرأي والذوق ، ومشكلة المزاج - هذه - عندهم ، مشكلة عويصة جدا ، فإذا أراد أحدهم ، أن يعترف بالتواصل بين النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وبين الله ، قال به ، وإذا رأى أن التواصل الدائم ، غير مفيد لفكره منعه ، وقال : إن النبي ليس له إلا الوحي ، ولا تواصل مع الله بالروح ، والعلم . ولكنه إذا أراد أن يجعل من أحد جهلة الصوفية ولياً لله ، عارفا به ، راح يضفي عليه من صفات التواصل والاتصال بالله ما أمكنه ذلك ، دون النظر للأسس التي تنطلق منها هذه الفكرة .

إن إمكانية التواصل ، تهييء الأرضية اللازمة ، لعدم خلو الأرض من حجة ، حيث إن دعوى بطلان هذه القاعدة ، مبنية على عدم إمكان التواصل إلا بالوحي ، رغم كون هذا خلاف النص القرآني . فإذا بطلت الاستحالة ، فلا يبقى من محذور هناك ، وننتقل - إذ ذاك – إلى قواعد العقل الثابتة ، مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقاعدة وجوب شكر المنعم ، لتهيئة الأدلة العقلية للتكليف ، وغير ذلك.

ولكن رأيهم ، إن العقل نفسه، ينفي أهم قاعدة لبناء الدين – عقلا – وهي قاعدة وجوب شكر

ص: 160

المنعم ، التي هي أساس وجوب التكليف ، وأساس وجوب العبادة - عقلا - حتى يصح - الالتزام الشرعي . وهذا يعني إن أسس الدين فقدت هنا .

فكيف بما وراء الأسس ؟ من تواصل مع الله ، وطاعة له ، وتكليف بأوامره.

نصوص فى نفى حكم العقل :

نستعرض – هنا – من أجل بيان حقيقة الأمر ، نصوصا أشعرية ، تنفي حكم العقل حتى بالنسبة لشكر المنعم ووجوب طاعة الله :

نقل ابن حجر العسقلاني ، في فتح الباري(1) ما نصه : «وقال أبو المظفر بن السمعاني - أيضا - ما ملخصه : إن العقل ، لا يوجب شيئاً ، ولا يحرم شيئاً ، ولا حظ له في شيء من ذلك ، ولو لم يرد الشرع بحكم ، ما وجب على أحد شيء ، لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15 ] وقوله : ﴿لئَلاً يَكُونَ ِللنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل﴾ [النساء : 165] وغير ذلك من الآيات(2). فمن زعم أن دعوة رسل الله - عليهم الصلاة والسلام – إنما كانت لبيان الفروع ، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله ، دون الرسول ، ويلزمه إن وجود الرسول وعدمه ، بالنسبة إلى الدعاء إلى الله ، سواء ، وكفى بهذا ضلالا.(3) ونحن لا ننكر إن العقل يرشد

ص: 161


1- فتح الباري : 13 : 297 - 298.
2- هاتان الآيتان ، تدلان على عكس مراد السمعاني ، فهما تنصان على : أن لا يعاقب الله ، حتى يبين ، وهذا يعني عدل الله ، والتزامه العادل ، وهذا هو عين الدليل العقلي ، فتكون الآيتان مرشدتين للدليل العقلي ، لا أنهما نافيتان له.
3- أولا : لا تلازم إذا كان قصده تفصيل الشرائع ، وثانيا : إذا كان القصد هو كلي التوجه إلى الله ، فما الضير والضلال في كون العقل يرشد إلى الله ووجوب طاعته؟ وثالثا : لا يلزم إذا كان العقل يرشد لطاعة ، أن نستغني عن الرسل ؛ لأن العقل ليس من شأنه كشف تفصيل تكليف الله لنا ، والرسول مهمته نقل التكاليف التفصيلية ، وبيان الشريعة ، فما علاقة هذا بذاك ؟ ومن أين لزم أن نستغني عن الرسل ؟ .

إلى التوحيد ، وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك ، حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه(1) مع قطع النظر عن السمعيات ؛ لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب ، والأحاديث الصحيحة ، التي تواترت ، ولو بالطريق المعنوي . ولو كان كما يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها ، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات ، فإن عقلناه ، فبتوفيق الله ، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته (كذا) على وفق مراد الله سبحانه وتعالى . (انتهى قول السمعاني) .

ويؤيد كلامه ، ما أخرجه أبو داود ، عن ابن عباس : « إن رجلا ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنشدك الله ، الله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأن ندع اللات والعزى ؟ قال : نعم ، فأسلم . وأصله في الصحيحين ...» ... الخ (انتهى نص ابن حجر) .

أقول : ستأتي مناقشة هذا النص بنفسه ، في ما تناولناه من آراء حول الآية : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . وهناك سنبين خلل هذا القول ، ولكننا أوردناه – هنا – لنثبت قولهم ، بنفي دليل العقل ، حتى على عموم الشريعة . ومن النصوص أيضا :

قال الآمدي(2): الأصل الأول : في الحاكم : اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ، ولا حكم إلا ما حكم به ، ويتفرع عليه إن العقل لا يحسّن ، ولا يقبح ، ولا يوجب شكر المنعم ، وإنه لا حكم قبل ورود الشرع ، ولنرسم في كل واحد مسألة ، المسألة الأولى : مذهب أصحابنا ، وأكثر

ص: 162


1- إنكار استقلال العقل للإرشاد للتوحيد ، هو نوع هرطقة ، وكلام غامض ؛ لأنه لا معنى لمشاركة العقل وأدلته للنقل في التوحيد ، إذ لو قبل العقل ، عدم التوحيد لما نفع معه نص ولا نبوات ، فالممكن لا ينقلب إلى واجب ، إلا بالغير . ولو كان هو صفة الله، لكان مما لا يليق بالله . لأن الواجب سينقلب ممكنا ، حين يقبل الامكان . فلا معنى لعدم استقلال العقل ، إلا امكان التوحيد ، وهذا يعني إن الواجب له صفات ذاتية ممكنة وغير لازمة ، وهو ما قلناه من انقلاب الواجب إلى غيره . وهذا يعني إن المتكلمين ، لا يفكرون باللوازم الحقيقية ، حين التكلم في صفات الله ، وهم يتبرعون في التقييس ، والتحديد الله ، وكأنهم أصحاب دالة عليه ، ومعرفة شخصية بخصوصياته ، فيتكلمون بما لا يلتزمونه حين الحوار .
2- الأحكام : 1 : 79 .

العقلاء : إن الأفعال لا توصف بالحسن ، والقبح ، لذواتها . وإن العقل لا يحسّن ولا يقبح ، وإنما إطلاق اسم الحسن والقبح - عندهم - باعتبارات ثلاثة ، إضافية غير حقيقية» (انتهى) .

وقال الإمام الغزالي(1): «إن الحكم - عندنا - عبارة عن خطاب الشرع ، إذا تعلق بأفعال المكلفين ، فالحرام ، هو المقول فيه : اتركوه ولا تفعلوه . والواجب ، هو المقول فيه : افعلوه ولا تتركوه . والمباح ، هو المقول فيه : إن شئتم فافعلوه ، وإن شئتم فاتركوه . فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع ، فلا حكم ، فلهذا قلنا : العقل لا يحسّن ولا يقبح ، ولا يوجب شكر المنعم ، ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع».

أقول : بعد هذه النصوص الصريحة ، لا نحتاج إلى بيان والى حوار في محتوى هذه النصوص التي تدل على نفي الشريعة ، وإنها مجرد عملية مزاجية أو تسلط حكومي على البشر لا واقع لها .

ص: 163


1- المستصفى : 45 .

مسألة : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

فيما يلي ، نستعرض نصوصا ، تعالج أهم منظور في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والحقيقة إن النقاش يعتبر بلا جدوى حول كون هذه القاعدة شرعية أم عقلية ؛ لأنهم جميعا يقولون : إن العقل يدرك ذلك ، وإن الشرع أيّد ، وأنزل نصوصا ، تؤيد ذلك . بل انزل آية كريمة ، تدور مدار ، قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بل آیات کریمات . فما الفائدة من نكران القاعدة إذا كانت نازلة شرعا ومؤيدة عقلا ؟ .

المشكلة هي : أن هناك خللا في التفكير .

فاعتقادهم ، بأن استقلال العقل في إدراك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، باعتباره احد الأحكام العقلية على الأفعال ، سيؤدي إلى الاستغناء عن الرسول ! ! لأن هذه القاعدة تبتني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وإذا قلنا بها فقد قلنا باكتفائنا بالعقل عن الشريعة ، وما شابه ذلك ، من لوازم باطلة . فتكون النتيجة ، كما قالوا : الاستغناء عن الرسول ، والرسالة . وهذا كله وهم ، وعدم ترتيب لأولويات الفكرة .

إن إدراك قبح العمل المستند إلى الظلم ، كالعقاب بلا بيان ، لا يعني بشكل من الأشكال ، إدراك كل جزئيات المصالح والمفاسد الإنسانية ، والرسالة لم تأت لتبين لنا ما هو متسالم في عقولنا ، وإلا فستكون تحصيل حاصل ، وهذا بنفسه مرفوض عقلا ، وذوقا . وإنما جاءت الرسالة بالبيان ، لما لا يتنبه إليه العقل ، من مصالح و مفاسد ، في نظم شؤوننا .

فالعقل لا يستطيع - إذن - أن يدرك متطلبات الجسد والروح حقيقة ، ولو أدركها فبشكل سيء ، ومحدود ، بخلاف معرفة الخالق بها . وكذا الأخبار في الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، فما يدري العقل أنواع العقوبة ، وما الجنة والنار ؟ وما يدري العقل الترابط بين النفع الاجتماعي والنفع الشخصي ، بحيث يكون دفع الحق الشرعي ، زكاة لنفوس الدافعين ، وتنمية للمجتمع . إن غاية ما سيدركه العقل - في أمر كهذا - إن المجتمع بحاجة إلى حفظ نظام ، وإن حفظ النظام

ص: 164

يتطلب المال ، وإن المال يؤخذ من الجميع ليحفظوا أمنهم ، وهذا غير إن الزكاة تزكي نفس الدافع ، وتطهرها . فهناك فرق في العقل ، بين التطهير ، وبين الحفظ . وما أكثر الفروق بين الشريعة ، وبين العقل في مجالات لا قدرة للعقل على إدراكها !!

ولهذا ، فإن من يقول بالحسن و القبح العقليين ، لا يقول : إن مجرد هذا الإدراك يكفي للاكتفاء بالعقل عن الرسالة . وهذا تقول على القائلين بالحسن والقبح العقليين ، وهو من لزوم ما لا يلزم أصلا.

وهنا علينا أن نعي : أنه في كثير من الأحيان يمكن أن يفلت لسان الباحث ، فيقول ، بما لا يقبل قوله ، في مقرراته الفكرية . فمسألة قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حين تكون مقررة شرعا ، ومقبولة عقلا ، فلا مجال لنفيها ، والبناء - بعد ذلك - على هذا النفي ، وكقضية تصحيحهم إثابة العاصي ، وتعذيب المطيع ، باعتبار إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا يصح استقلالها عقلا ، فنقول فليكن إنها غير مستقلة ، كما تقولون ، ولكنها مسندة نقلا ، فكيف تتركون النقل ، وانتم تدعون الاستناد إليه ، فهل خلت القاعدة من نقل ، حتى تصيروا إلى اختراع قاعدة : جواز تعذيب المطيع ، وتنعيم العاصي ؛ للذهاب إلى عدم الإلزام العقلي في التقبيح ، فهذا كله أصبح لا يعني شيئا ، ، ما دمتم تقولون إن القبيح ما قبحه الشرع . وهذا الشرع قد قبح التعذيب ، أو قل التزم بعدم التعذيب ، بدون بيان ، وإخبار ، فكيف يصح التعذيب ، مع التعذيب ، مع الطاعة ، والالتزام ؟

إنها – في واقع الأمر وحقيقته - مفاصل سياسية ؛ لتبرئة المجرمين من الحكام ، ليس لها علاقة بالدين ، أو العقل ، بأي شكل من الأشكال .

ولا بأس أن نقرأ بعض النصوص ، التي تسلم بهذه لقاعدة ، من مختلف المذاهب وبمختلف المجالات الفكرية ، والفقهية لنرى حجم التجني في الانكار مع حقيقة الالتزام في موراد بعيدة عن الحوار كما هو هنا حيث تنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان بينما يلتزمون بنفس المعنى في معنى قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾:

ص: 165

نصوص

تشرح العلاقة بين آية : ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

وبين حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان

وقبح الظلم وتعذيب من لا يستحق

هذه مجموعة من النصوص المأخوذة من عدة مذاهب منها ما يثيت القاعدة ومنها ما ينفيها ، وهي بمجموعها تبين الإجماع عليها :

تبدأ بالذكر الحكيم :

قال الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] .

وقال – تعالى – أيضا : ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة : 115]

وقال – عز وجل - كذلك : ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَاب منْ قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَن نَذِلَّ وَنَخْرَى﴾ [طه : 134] .

وقال تعالى : ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الأنعام : 164] .

وقال - عز من قائل - : ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً﴾ [القصص : 59] .

ص: 166

المحقق الأردبيلي(1):

وقالوا : في قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ دلالة على عدم كون الحسن والقبح عقليين . ولا دلالة فيه، بينته في الأصول من عشرة أوجه .

وقلت : بل فيها دلالة على كونها عقليين إذ سوقها لبيان أن ليس الله العقاب والذم لأحد على فعل قبل بعثة الرسول ، وبيان قبح ذلك القبيح له ، وأن ذلك العقاب غير جائز عند العقلاء ، بل ذلك مذموم وقبيح ، إذ للمعاقب اعتراض معقول لا دفع له ، بأن يقول : لولا أرسلت إلينا رسولا ، وهو عين الحسن و القبح العقليين ، وأن ليس الله ما يفعل ، وإن كان قبيحا وأن لا قبيح إلا ما قبحه ، بل لا يقبح إلا قوله : لا تفعل ، ولا يحسّن إلا قوله : افعل ، وهو ظاهر ، وإلا فلا معنى حينئذ لقوله : لولا أرسلت ، وكان عقابهم معقولا ، بل لا معنى للحساب والميزان فتأمل».

السید الگلپایگانی(2):

«ويظهر ذلك - أيضا - من قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ . حيث إنه يدل : على أنه لا عذاب بدون بعث الرسول ، والآتيان بالأحكام ، وأما إبلاغها إلى كل أحد ، فليس معتبرا في العذاب ، وإنما وظيفة العباد ، هو الرجوع إلى الرسول والسؤال منه . ويدل على ذلك – أيضا – ما ورد في بعض الأخبار ، من إن مثل الإمام ، مثل الكعبة ، حيث تؤتى ، ولا تأتي» .

السيد محمد صادق الروحاني(3):

«بل حكم بإباحة ما لم يعلم أنه ممنوع عنه . ويدل على الأول - جملة من الآيات :

ص: 167


1- زبدة البيان : 348 - 349 .
2- الدر المنضود : 1 : 44 - 47 .
3- المسائل المستحدثة : 146 - 147 .

1 - قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فإن بعث الرسل بحسب الارتكاز ، والفهم العرفي ، كناية عن البيان . فمفاد الآية الشريفة : عدم العقاب ، والمؤاخذة على مخالفة التكليف ، ما لم يبين ، وبالملازمة العرفية ، تدل على عدم التكليف ، وكون ذلك الفعل مرخصا فيه .

2 - قوله تعالى : ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق : 7] . وتقريب الاستدلال به : إن المراد بالموصول : هو الحكم ، فيكون الإيتاء ، المستند إليه تعالى ، بمعنى إعلامه ، فمفاده : إن الله تعالى ، لا يوقع العباد في كلفة حكم ، لم يبينه ، وسكت عنه .

3 - قوله تعالى - مخاطبا لنبيه (صلی الله علیه و آله و سلم)، ملقنا إياه طريق الرد على الكفار ، حيث حرموا على أنفسهم أشياء : ﴿قُل لا أَجِدُ فِي مَا أَوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ [الأنعام : 145] . حيث أنه عز وجل أبطل تشريعهم ، بعدم وجدان ما حرموه ، فيما أوحى الله تعالى ، فلو لم يكن عدم وجوده كافيا في الحكم بالإباحة ، وعدم الحرمة لما صح الاستدلال».

محمد بن جعفر السامري(1):

جاء في الكليات إن الشكر العرفي هو المراد بعدم وجوب شكر المنعم عقلا إذ لو وجب عقلا لوجب قبل البعثة ، ولو وجب قبلها لعذب تاركه ، ولا تعذيب قبل الشرع(2) لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ هذا عند الأشاعرة القائلين بعدم

ص: 168


1- فضيلة الشكر الله : 10 - 11 .
2- بيان الخطأ هو : إن الترابط هنا بين إدراك شكر المنعم ، وبين آية : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فيه خلل ، وذلك : إن شكر المنعم من البديهيات البينة ، التي يعاقب الله على ما هو خلافها ؛ لكونها بينة بنفسها ، لا تحتاج إلى مبين ، هي من أصل فطرة العقل ، ولكن الآية ، تشير إلى التكاليف ، التي لم تبين ، فلا يعاقب الله عليها ، إلا بإرسال الرسول . وهنا الفارق كبير على إن أهل المعرفة ، يعتبرون العقل رسولا باطنا ، والنبي رسولا ظاهرا .

وجوب الإيمان قبل البعثة(1) إذ لا يعرف حكم من أحكام الله تعالى إلا بعد بعثة نبي فمن مات ولم تبلغه دعوة رسول ، فهو ليس من أهل النار عندهم . وأما أبو منصور الماتريدي ، وأتباعه ، وعامة مشايخ سمرقند ، فإنهم قائلون : بأن بعض الأحكام قد يعرف قبل البعثة ، بخلق الله تعالى العلم به(2) إما بلا سبب ، كوجوب تصديق النبي ، وحرمة الكذب الضار(3) وإما مع سبب ، بالنظر ، وترتيب المقدمات ، وقد لا يعرف إلا بالكتاب كأكثر الأحكام ، فيجب الإيمان بالله تعالى قبل البعثة - عقلا - حتى قال أبو حنيفة : لو لم يبعث الله رسولا ، لوجب على الخلق معرفته بعقولهم ؛ لما يرى في الآفاق والأنفس».(4)

ص: 169


1- وعلى هذا ، ينبغي نجاة المشركين قبل البعثة ، وهو ما لا يستطيعون الالتزام به . لأنهم سوف لن يكونوا كفارا ، باعتبار أنهم لم يكفروا بشيء ، كما يعتقدون.
2- لعل المقصود بخلق الله العلم به ، هو أحكام العقل ، ولكنه بعبارة ملتوية .
3- الغريب أن يقولوا : إن العلم - هنا - بلا سبب ! فكيف يكون التصديق بالنبي بلا سبب ؟ وكيف يكون حرمة الكذب الضار بلا سبب ؟ وهذا سيأتي بيان مشكلته ، بأنه محاولة لقلب الحقائق .
4- ما نقله عن أبي حنيفة يوافق العقل والنقل . ويجب شرح ما وقع النص فيه من خلط في المفاهيم . فإن إدراك العقل لكليات عقلية ، كالآراء المحمودة عند العقلاء ، يجعلها بمثابة المعرفة التامة ، فهذه لا تحتاج إلى رسالة ؛ ليتم الحديث عنها . ولكن حين يرد فيها ما يؤيدها ، فهي إما أن تكون مؤسسة ، وهذا تحصيل حاصل ، وهو باطل ، أو تكون كاشفة ، وهذا هو المطلوب ولا ثالث لهما . فقد وقع الخلط في النص ، بين شكر المنعم المدرك للعقل ، وبين جزئيات التشريع ، غير المدركة للعقل وخلط بينهما .

نصوص

تبني على هذه القاعدة أحكاماً فقهية

محيى الدين النووي(1):

« (فصل) وإن كان العدو ، ممن لم تبلغهم الدعوة ، لم يجز قتالهم ، حتى يدعوهم إلى الإسلام ، لأنه لا يلزمهم الإسلام ، قبل العلم، والدليل عليه قوله عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ولا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم ، وإن بلغتهم الدعوة ، فالأحب أن يعرض عليهم الإسلام ، لما روى سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعلى کرم الله وجهه ، يوم خيبر : «إذا نزلت بساحتهم ، فادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لإن يهدى الله بهداك ، رجلا واحدا ، خير لك من حمر النعم» وإن قاتلهم ، من غير أن يعرض عليهم الإسلام ، جاز ، لما روى نافع ، قال : «أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على بني المصطلق ، وهم غارون ، وروى ، وهم غافلون».

الشرواني والعبادي(2):

«وأما أطفال الكفار ، ففيهم أربعة أقوال ، أحدها : أنهم في الجنة ، وعليه المحققون لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقوله : ﴿وَلاَ تَزرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. »

الحطاب الرعيني(3):

«هذا الفصل ، يذكر في شروط الصلاة ، وهي على ثلاثة أقسام : شرط في الوجوب

ص: 170


1- المجموع : 19 : 285 - 286 .
2- حواشي الشرواني : 3 : 76 .
3- مواهب الجليل : 2 : 136 .

والصحة ، وشرط في الوجوب فقط ، وشرط في الصحة فقط . فأما شروط الوجوب والصحة فستة : الأول : بلوغ دعوة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.».

السرخسي(1):

«وفيه دليل ، أنه ينبغي للغزاة ، أن يبدؤا بالدعاء إلى الإسلام ، وهو على وجهين : فإن كانوا يقاتلون قوما لم تبلغهم الدعوة ، فلا يحل قتالهم ، حتى يُدعوا ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ، حتى دعاهم إلى الإسلام ؛ وهذا لأنهم لا يدرون على ماذا يقاتلون ، فربما يظنون أنهم لصوص قصدوا أموالهم ، ولو علموا أنهم يقاتلون على الدعاء إلى الدين ، ربما أجابوا ، وانقادوا للحق ، فلهذا ، يجب تقديم الدعوة ، وإن كانوا قد بلغتهم الدعوة ، فالأحسن أن يدعوهم إلى الإسلام - أيضا - فالجد والمبالغة في الإنذار ربما ينفع . وكان صلى الله عليه وسلم ، إذا قاتل قوما من المشركين ، دعاهم إلى الإسلام ، ثم اشتغل بالصلاة ، وعاد بعد الفراغ ، إلى القتال جدد الدعوة ، وان تركوا ذلك وبيتوهم ، فلا بأس بذلك ؛ لأنهم علموا على ماذا يقاتلون» .

ابن رشد الحفيد(2):

«الفصل الرابع : في شرط الحرب ، فأما شرط الحرب ، فهو بلوغ الدعوة باتفاق ، أعني : أنه لا يجوز حرابتهم ، حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة ، وذلك شيء مجتمع عليه من المسلمين ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾، وأما هل يجب تكرار الدعوة ، عند تكرار الحرب ، فإنهم اختلفوا في ذلك ، فمنهم من أوجبها ، ومنهم من استحبها ، ومنهم من لم يوجبها ، ولا استحبها . والسبب في اختلافهم : معارضة القول للفعل» .

ص: 171


1- المبسوط : 10 : 6.
2- بداية المجتهد ونهاية المقتصد : 1 : 310 .

الشيخ سيد سابق(1):

«وأما أولاد المشركين ، فهم مثل أولاد المسلمين ، في دخولهم الجنة . قال النووي : وهو المذهب الصحيح المختار ، الذي صار إليه المحققون ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وإذا كان لا يعذب العاقل ؛ لكونه لم تبلغه الدعوة ، فلأن لا يعذب غير العاقل ، من باب أولى . ولما رواه أحمد، عن خنساء بنت معاوية بن صريم ، عن عمتها ، قالت : قلت يا رسول الله : من في الجنة ؟ قال : «النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة» . قال الحافظ : إسناده حسن» .

ابن شعبة الحراني(2):

«وكل ما في القرآن ، من بلوى هذه الآيات، التي شرح أولها ، فهي اختبار ، وأمثالها في القرآن كثيرة . فهي إثبات الاختبار ، والبلوى : إن الله - جل وعز - لم يخلق الخلق عبثا ، ولا أهملهم سدى ، ولا أظهر حكمته لعبا ، وبذلك أخبر في قوله : ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ [المؤمنون : 115] . فإن قال قائل : فلم يعلم الله ما يكون من العباد ، حتى اختبرهم ؟ قلنا : بلى ، قد علم ما يكون منهم ، قبل كونه ، وذلك قوله : ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأنعام : 28] وإنما اختبرهم ليعلمهم عدله ، ولا يعذبهم إلا بحجة بعد الفعل ، وقد أخبر بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ [طه : 134] وقوله : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . وقوله : ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذرينَ﴾ [النساء : 165 ] . فالاختبار من الله ، بالاستطاعة التي ملكها عبده ، وهو القول بين الجبر والتفويض . وبهذا نطق القرآن ، وجرت الأخبار ، عن الأئمة من آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). فإن قالوا : ما الحجة في قول الله : ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [فاطر : 8] وما أشبهها ؟

ص: 172


1- فقه السنة : 1 : 571 .
2- تحف العقول : 474 - 475 .

قيل : مجاز هذه الآيات - كلها - على معنيين : أما أحدهما فإخبار عن قدرته ، أي إنه قادر على هداية من يشاء ، وضلال من يشاء ، وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما ، لم يجب لهم ثواب ، ولا عليهم عقاب ، على نحو ما شرحنا في الكتاب ، والمعنى الآخر إن الهداية منه ، تعريفه ، كقوله : ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت : 17] أي عرفناهم ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت : 17] فلو أجبرهم على الهدى ، لم يقدروا أن يضلوا ، وليس كلما وردت آية مشتبهة ، كانت الآية حجة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها ، من ذلك قوله : ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ اُمُّ الكتاب وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تأويله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ... الآية [آل عمران : 7] ».

المولى محمد صالح المازندراني(1):

«العبث ممنوع ؛ لأن في الإرسال قطعا لعذرهم ، وإكمالا للحجة عليهم ؛ ولأن تعذيبهم منوط بالإرسال ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تَبْعَثُ رَسُولاً﴾».

وفيه أيضا(2):

«﴿عُذراً أوْ نُذراً﴾ [المرسلات : 6] علتان للبعث ، ومصدران لعذرت عذرا ، إذا محوت الإساءة ، وطمستها ، وأنذرت إنذارا ، ونذرا ، إذا علمته ، وحذرته ، وخوفته . يعني بعثه ؛ لأجل محو إساءة المطيعين ؛ لأنه رحمة للمؤمنين ، وإنذار المخالفين ، وتخويفهم على مخالفتهم ، ويحتمل أن يراد بالأول : أنه بعثه ؛ لأجل أن يكون له عذر ، في عقوبتهم وتعذيبهم ، كما قال : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾».

رفیع الدین محمد بن حيدر النائيني(3):

«ليس الله على خلقه أن يعرفوا» أي : ليس المعرفة واجبة عليهم ؛ لأنه من صنع الله تعالى ، لا

ص: 173


1- شرح أصول الكافي : 3: 255 .
2- شرح أصول الكافي : 12 : 560 .
3- الحاشية على أصول الكافي : 515 - 516 .

من صنعهم «وللخلق على الله أن يعرفهم» لأن استكمالهم ، ونجاتهم - فيما لا يكون تحت قدرتهم - لازم على الخالق ، الخير الحكيم ، القادر ، ويحكم العقل بحسنه ، وقبح تركه ، وبأنه لا يتركه الموصوف بتلك الصفات ، البتة . «و» الواجب «الله على الخلق» ومن حقوقه عليهم «إذا عرفهم أن يقبلوا» أي : يطيعوا ، وينقادوا ، ويعترفوا ، بأن ما عرفهم حق . وهذا الحديث ، وأمثاله ، دال على التحسين ، والتقبيح ، العقليين .

العلامة المجلسي(1):

«ومنها ، قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ولا يتوجه على المولود التكليف ، حتى يبلغ ، فيلزم الحجة».

محمد الريشهري(2):

9 - الحجة الكتاب : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾؛ ﴿لِيَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةوَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيَّنَة﴾ [الأنفال : 42] .

7 - الإمام الصادق (علیه السّلام): إن الله - عز وجل - احتج على الناس ، بما آتاهم ، وما عرفهم . عنه (علیه السّلام) في قوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾ [التوبة : 115] حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه».

الشيخ المحمودي(3):

«ولأجل أن لا سبيل للعقل ، إلى معرفة ذلك ، قال تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقال : ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ من قَبْل أَن نَّذلَّ وَتَخْرَى﴾ [طه : 134] . وإلى العقل والشرع ، أشار بالفضل ، والرحمة ، بقوله عز

ص: 174


1- بحار الأنوار : 5 : 296.
2- ميزان الحكمة : 1 : 542 .
3- نهج السعادة : 8: 171.

وجل : ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لا تَبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَليلاً﴾ [النساء : 83] وعنى بالقليل : المصطفين الأخيار».

النووي(1):

«قوله ، صلى الله عليه وسلم : «ذروني ما تركتكم» دليل على إن الأصل ، عدم الوجوب ، وأنه لا حكم ، قبل ورود الشرع ، وهذا هو الصحيح ، عند محققي الأصوليين ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ . قوله ، صلى الله عليه وسلم : « فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» هذا ، من قواعد الإسلام المهمة ، ومن جوامع الكلم ، التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ، ويدخل فيها ، ما لا يحصى من الأحكام ، كالصلاة بأنواعها ، فإذا عجز عن بعض أركانها ، أو بعض شروطها ، أتى بالباقي ، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء ، أو الغسل ، غسل الممكن ، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء ، لطهارته ، أو لغسل النجاسة ، فعل الممكن ،

وإذا وجبت إزالة منكرات ، أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم ، أو نحو ذلك ، وأمكنه البعض ، فعل الممكن ، وإذا وجد ما يستر بعض عورته ، أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن ، وأشباه هذا غير منحصرة ، وهي مشهورة في كتب الفقه . والمقصود التنبيه على أصل ذلك ، وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن : 16] وأما قوله تعالى : ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تقاته﴾ [آل عمران : 102] ففيها مذهبان : أحدهما : أنها منسوخة ، بقوله تعالى : ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ والثاني : هو الصحيح ، أو الصواب ، وبه جزم المحققون : أنها ليست منسوخة ، بل قوله تعالى : ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ مفسرة لها ، ومبينة للمراد بها ، قالوا : و ﴿حَقَّ تُقاته﴾ و هو امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، ولم يأمر سبحانه وتعالى ، إلا بالمستطاع ، قال الله تعالى : ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا﴾ [البقرة : 286] وقال تعالى : ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج : 78] والله أعلم . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : «وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» فهو على إطلاقه ،

ص: 175


1- شرح مسلم : 9 : 101 - 102 .

فإن وجد عذر يبيحه ، كأكل الميتة عند الضرورة ، أو شرب الخمر عند الإكراه ، أو التلفظ بكلمة الكفر ، إذا أكره ، ونحو ذلك ، فهذا ليس منهيا عنه ، في هذا الحال ، والله أعلم».

وفيه كذلك(1):

قوله ، صلى الله عليه وسلم : «ولا شخص أحب إليه العذر من الله تعالى من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الجنة». معنى الأول : ليس أحد أحب إليه الأعذار من الله تعالى ، فالعذر - هنا – بمعنى الإعذار ، والإنذار ، قبل أخذهم بالعقوبة ، ولهذا بعث المرسلين ، كما قال سبحانه وتعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تبْعَثُ رَسُولاً﴾.

وفيه أيضا(2):

«وفي هذا الحديث ، دليل على إن الأشياء ، قبل ورود الشرع ، لا تكليف فيها بتحريم ، ولا غيره . وفي المسألة خلاف مشهور للأصوليين ، الأصح أنه لا حكم ، ولا تكليف ، قبل ورود الشرع ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تَبْعَثُ رَسُولاً﴾.

وفيه(3):

«وأما أطفال المشركين ، ففيهم ثلاثة مذاهب : قال الأكثرون : هم في النار تبعا لآبائهم ، و توقفت طائفة فيهم ، والثالث وهو الصحيح ، الذي ذهب إليه المحققون : أنهم من أهل الجنة ، ويستدل له بأشياء منها : حديث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وحوله أولاد الناس ، قالوا : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ، قال : وأولاد المشركين ، رواه البخاري في صحيحه . ومنها قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

ص: 176


1- شرح مسلم : 10 : 132 - 133.
2- شرح مسلم : 11 : 2 .
3- شرح مسلم : 16 : 207 - 208 .

ولا ! يتوجه ، على المولود ، التكليف ، ويلزمه قول الرسول : «حتى يبلغ» وهذا متفق عليه . والله أعلم» .

وفيه كذلك(1):

«وقالت طائفة : كان هذا الرجل في زمن فترة ، حين ينفع مجرد التوحيد ، ولا تكليف قبل ورود الشرع ، على المذهب الصحيح ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.

ابن حجر(2):

«ثامنها : أنهم في الجنة ، و قد تقدم القول فيه ، في باب فضل من مات له ولد ، قال النووي : و هو المذهب الصحيح المختار ، الذي صار إليه المحققون ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ و إذا كان لا يعذب العاقل ؛ لكونه لم تبلغه الدعوة ؛ فلأن لا يعذب غير العاقل ، من باب الأولى ، ...».

وفيه أيضا منكرا القاعدة(3):

«وقال أبو المظفر بن السمعاني - أيضا - ما ملخصه : إن العقل لا يوجب شيئا ، ولا يحرم شيئا ، ولاحظ له في شيء من ذلك ، ولو لم يرد الشرع بحكم ، ما وجب على أحد شيء ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] وقوله : ﴿لئَلاً يَكُون للنَّاس عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل﴾ [النساء : 165] وغير ذلك من الآيات . فمن زعم إن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، إنما كانت لبيان الفروع ، لزمه أن يجعل العقل ، هو الداعي إلى الله ، دون الرسول ، ويلزمه أن وجود الرسول ، وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله ، سواء .

ص: 177


1- شرح مسلم : 17 : 72 .
2- فتح الباري : 3: 196 .
3- فتح الباري : 13 : 297 - 298 .

وكفى بهذا ضلالا ، ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد ، وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك ، حتى لا يصح إسلام ، إلا بطريقه ، مع قطع النظر عن السمعيات ؛ لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب ، والأحاديث الصحيحة ، التي تواترت - ولو بالطريق المعنوي . ولو كان كما يقول أولئك ؛ لبطلت السمعيات ، التي لا مجال للعقل فيها ، أو أكثرها ، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات ، فإن عقلناه فبتوفيق الله ، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته (كذا) على وفق مراد الله سبحانه وتعالى». انتهى .

أقول : ما استفاده ابن حجر - اعتمادا على قول السمعاني - من أن الحجة ، منوطة بالسمعيات ، دون الحجة العقلية ، مستدلا بهذه بآية : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فهو استدلال غير دقيق ، إذ أن العقل رسول وحجة ذاتية ، فإذا كان الأمر مما يستقل به العقل ، فلا شك إنه حجة ، وعلم ، وقد يطلق عليها الرسول الباطني ، وهو بيان كامل لا يحتاج إلى بيان ، فكل البشر لا يحتاجون إلى من يعلمهم ، إن الظلم قبيح ، فحتى الظالم - نفسه - لو وقع عليه ظلم ؛ لضج واستغاث ، واستنكر ، واستقبح ذلك . وهذا الحكم ، لا يحتاج إلى رسول ، عند كل البشر ، ومن يغالط ، ويقول : «يجوز الظلم حتى يأتيني النهي عنه» فهذا ، يغالط نفسه ، ويخاتل ربه ، ويخون قناعته ، وما عرضه ابن حجر ، يعتبر مغالطة واضحة .

نعم ، ما كان من تفصيل الأمور الشرعية ، أو الأخبار الربانية ، فلا شك أنه يحتاج إلى دليل سمعي ، ويقبح العقاب بدون بيان ، ولهذا فلا يصح الاستدلال بهذه الآية ، على نفي التحسين ، والتقبيح العقليين ، وقد أوضح ذلك الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، بلمحة سريعة بقوله التالي :

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(1):

قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ يقوم ببيان التكليف ، وإلقاء الحجة. هناك نقاش بين المفسرين ، حول نوع العذاب - المقصود هنا - وهل هو نوع من أنواع العذاب ،

ص: 178


1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 8 : 428 - 429 .

الذي يقع في الدنيا ، أو في الآخرة ، أم المقصود به هو عذاب (الإستيصال) الذي يعني العذاب الشامل ، المدمر ، كطوفان نوح مثلا ؟ إن ظاهر الآية الكريمة ، يدل على الإطلاق ، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.

وهناك نقاش آخر - أيضا - بين المفسرين ، حول قاعدة : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وهل إن الحكم فيها يخص المسائل الشرعية ، التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط ، أو إنه يشمل جميع المسائل العقلية ، والنقلية ، في الأصول والفروع ؟ - في الواقع – إذا أردنا العمل بظاهر الآية ، الذي يفيد الإطلاق ، فينبغي القول : إنها تشمل جميع الأحكام العقلية ، والنقلية ، سواء ارتبطت بأصول ، أو فروع الدين. ومفهوم هذا الكلام : إنه حتى في المسائل العقلية البحتة ، التي يقطع (العقل المستقل) بحسنها ، وقبحها ، مثل حسن العدل، وقبح الظلم ، فإنه ما لم يأت الأنبياء ، ويؤيدون حكم العقل ، بحكم النقل ، فإن الله تبارك وتعالى، لا يجازي أحدا بالعذاب . للطفه ورحمته بالعباد . ولكن هذا الموضوع مستبعد ، وضعيف الاحتمال ، لأنه يصطدم مع قاعدة : إن المستقلات العقلية ، لا تحتاج إلى بيان الشرع ، وحكم العقل، في إتمام الحجة - في هذه الموارد – يعتبر كافيا ، ومجزيا . لذلك فلا طريق أمامنا ، إلا أن نستثني المستقلات العقلية ، عن مجال عمل القاعدة المذكورة . وإذا لم نستثن ذلك ، فسيكون معنى العذاب ، في هذه الآية هو : (عذاب الإستيصال) وسيكون المفاد الأخير للمعنى ، هو : إن الله سبحانه وتعالى ؛ لرحمته ولطفه بالعباد ، لا يهلك الظالمين ، والمنحرفين ، إلا بعد أن يبعث الأنبياء ، وتستبين جميع طرق السعادة ، والهداية ، حتى تطابق حجة الشرع ، حجة العقل المستقل ، وتتم الحجة بذلك ، من طريقي العقل ، والنقل . (فتأمل ذلك) ».

وفيه أيضا(1):

«وهنا يثار سؤال – وهو أنه مع الالتفات ، إلى إن الله (يعلم) بمستقبل كل قوم وجماعة ، فما الحاجة إلى الإمهال ؟ ثم إن الأمم السالفة ، كذبت أنبياءها ، واحدا بعد الآخر ، وبمقتضى قوله

ص: 179


1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 11 : 473 - 477 .

تعالى : ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء : 8] الوارد في نهاية تلك القصص ، إن أكثرهم لم يؤمنوا ، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين ؟! .

فالقرآن ، يجيب على هذا السؤال : بأن ذلك سنة الله ، وما أهلكنا من قرية ، إلا لها منذرون ، فنرسل الأنبياء لهم ؛ لإتمام الحجة ، وتقديم النصح ، والموعظة ؛ ليتذكروا ، ويستيقظوا من غفلتهم ذكرى . ولو كنا نأخذهم ، بدون إتمام الحجة ، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين - من قبل الله - لكان ظلما منا ، وما كنا ظالمين . فمن الظلم أن نهلك غير الظالمين ، أو نهلك الظالمين ، دون إتمام الحجة عليهم ... وما ورد في هذه الآيات ، هو - في الحقيقة - بيان للقاعدة العقلية ، المعروفة ب_(قاعدة قبح العقاب بلا بيان) وشبيه لهذه الآية ، ما جاء في الآية (15) من سورة الإسراء : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ أجل ، إن العقاب بدون البيان الكافي ، قبيح ، كما إنه ظلم ، والله العادل الحكيم ، محال أن يفعل ذلك ، أبدا . وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول ب_(أصل البراءة) ومعناه : إن كل حكم ، لم يقم عليه الدليل ، فإنه ينفى بواسطة هذا الأصل» .

العيني(1):

«السادس : أنهم في الجنة ، قال النووي : هو المذهب الصحيح المختار ، الذي صار إليه المحققون ، لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ . وإذا كان لا يعذب العاقل ؛لكونه لم تبلغه الدعوة ، فلأن لا يعذب غير العاقل ، من باب الأولى».

جلال الدين السيوطي(2):

«وقال النووي : الصحيح ، الذي ذهب إليه المحققون ، أنهم من أهل الجنة ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾... فلا يتوجه على المولود التكليف ، ويلزمه قول الرسول

ص: 180


1- عمدة القاري : 8 : 213 .
2- الديباج على مسلم : 6: 23 .

حتى يبلغ . قال : والجواب على هذا الحديث، أنه ليس فيه تصريح ، بأنهم في النار ، وحقيقة لفظه ، والله أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ولم يبلغوا ، والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ» .

وفيه أيضا(1):

«وقيل : قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش ، والخوف ، وشدة الوجع ، فلم يضبط ما يقوله ، فصار في معنى الغافل ، وهذه الحالة، لا يؤاخذ فيها ، وقيل : كان في زمن فترة ، حين ينفع مجرد التوحيد ، ولا تكليف قبل ورود الشرع ، على الصحيح ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تبعَثَ رَسُولاً﴾»

عمرو بن أبي عاصم(2):

«وأما قوله : إن دعوى الذهبي ، لا دليل عليها ، فغير مسلم عندي ، وذلك ؛ لأن الحديث يصرح : بأن أولاد المشركين في النار . فهذا منكر ، بل باطل ؛ لمخالفته لظاهر قول الله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ، فإذا كان لا يعذب العاقل ؛ لكونه لم تبلغه الدعوة ، فلأن لا يعذب غير العاقل ، من الأولاد، من باب أولى ، ولمخالفته – أيضا – لعديد من الأحاديث ، الدالة على إن أولاد المشركين في الجنة ، فضلا من الله ورحمة . وهذا هو اختيار أهل التحقيق من العلماء ، كالنووي، والعسقلاني ، وغيرهما».

عمر بن شاهين(3):

قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ، وقوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلك الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً﴾ [القصص : 59] . قال ابن حزم : الملازمة ، والوعية ، مرفوعان عمن لم يبلغه ، حتى يبلغه ، يعني الناسخ ، فإذا بلغه فأطاع : حمد وأجر ، وإن عصى : ليم واستحق الوعيد».

ص: 181


1- الديباج على مسلم : 6 : 99 .
2- كتاب السنة : 95 .
3- ناسخ الحديث و منسوخه : 35 - 36 .

ابن عبد البر(1):

«وفي هذا الحديث - أيضا - دليل على إن الإثم مرفوع ، عمن لم يعلم ، قال الله عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾».

وفيه أيضا(2):

«وسيأتي ذكر أصول الفقهاء ، فيما يدخله الربا ، مجودا في باب ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان - إن شاء الله - وفيه إن من لم يعلم بتحريم الشيء ، فلا حرج عليه حتى يعلم ، إذا كان الشيء مما يعذر الإنسان بجهله ، من علم الخاصة ، قال عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تبعَثَ رَسُولاً﴾».

وفيه كذلك(3):

«ومن الحجة - أيضا - في هذا ، قول الله عز وجل : ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور : 16] [التحريم : 7] ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر : 38] ومن لم يبلغ ، وقت العمل ، لم يرتهن بشيء ، وقال الله عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص ، والحدود، والآثام ، عنهم ، في دار الدنيا ، كانت الآخرة أولى بذلك ، والله أعلم» .

السيد الطباطبائي(4):

«قوله تعالى : ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةِ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ * ذكْرَى ... الخ [الشعراء : 208 - 209] والمعنى : ما أهلكنا من قرية ، إلا في حال لها منذرون مذكرون ، تتم بهم الحجة عليهم ؛

ص: 182


1- التمهيد : 4 : 145 .
2- التمهيد : 5: 129 .
3- التمهيد : 18 : 71 .
4- تفسير الميزان : 15 : 324 - 328 .

لأنا لو أهلكناهم في غير هذه الحال ؛ لكنا ظالمين لهم ، وليس من شأننا ، أن نظلم أحدا ، فالآية في معنى قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾» .

مقاتل بن سلیمان(1):

﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ﴾ [الإسراء : 15] الخير ﴿وَمَن ضَلَّ﴾ عن الهدى ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أي على نفسه ، يقول : فعلى نفسه إثم ضلالته ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ يقول : لا تحمل نفس ، خطيئة نفس أخرى ، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ فى الدنيا أحدا و ﴿حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ لينذرهم بالعذاب في الدنيا بأنه نازل بهم ، كقوله سبحانه : ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا﴾ في الدنيا ﴿من قَرْيَة إلا لَهَا مُنذِرُونَ﴾ [الشعراء : 208] » .

عبد الرزاق الصنعاني(2):

عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : إذا كان یوم القيامة ، جمع الله أهل الفترة ، والمعتوه ، والأصم ، والأبكم ، والشيوخ ، الذين لم يدركوا الإسلام ، ثم أرسل إليهم رسولا ، أن ادخلوا النار ، قال : فيقولون كيف ، ولم يأتنا رسول ؟ قال : وأيم الله ، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ، قال : ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ .

ابن جرير الطبري(3):

بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ﴿لا تَزرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره ، ولا يؤاخذ إلا بعمله . وقوله : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً يقول تعالى ذكره : وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل ، وإقامة الحجة عليهم بالآيات ، التي تقطع عذرهم .

ص: 183


1- تفسير مقاتل بن سليمان : 2 : 252 - 253 .
2- تفسير القرآن : 2 : 374 .
3- جامع البيان : 15 : 70 - 71 .

كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ : إن الله تبارك وتعالى ، ليس يعذب أحدا ، حتى يسبق إليه من الله خبر ، ويأتيه من الله بينة ، وليس معذبا أحدا إلا بذنبه .

وفيه(1):

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي هريرة ، قال : إذا كان يوم القيامة ، جمع الله تبارك وتعالى ، نسم الذين ماتوا في الفترة ، والمعتوه ، والأصم ، والأبكم ، والشيوخ الذين جاء الإسلام ، وقد خرفوا ، ثم أرسل رسولا ، أن ادخلوا النار ، فيقولون : كيف ولم يأتنا رسول ، وأيم الله ، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل ، قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾».

الجصاص(2):

«قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ قيل : فيه وجهان ، أحدهما : أنه لا يعذب فيما كان طريقه السمع، دون العقل ، إلا بقيام حجة السمع فيه ، من جهة الرسول ، وهذا يدل على إن من أسلم من أهل الحرب ، ولم يسمع بالصلاة ، والزكاة ، ونحوها من الشرائع السمعية ، إنه لا يلزمه قضاء شيء منها ، إذا علم ؛ لأنه لم يكن لازما له ، إلا بعد قيام حجة السمع عليه ، وبذلك وردت السنة ، في قصة أهل قبا ، حين أتاهم آت ، إن القبلة قد حولت ، وهم في الصلاة ، فاستداروا إلى الكعبة ، ولم يستأنفوا ؛ لفقد قيام الحجة عليهم ، بنسخ القبلة ، وكذلك قال أصحابنا ، فيمن أسلم في دار الحرب ، ولم يعلم بوجوب الصلاة عليه ، إنه لا قضاء عليه ، فيما ترك».

ص: 184


1- جامع البيان : 15 : 70 - 71 .
2- أحكام القرآن : 3: 253 - 255 .

أبو الليث السمرقندي(1):

«وقال : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ حجة عليهم ، مع علمه أنهم لا يطيعون ، وينذرهم على ما هم عليه من المعصية ، فإن أجابوا ، وإلا عذبوا» .

أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين(2):

«﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ تفسير الحسن : لا يعذب قوما بالاستئصال حتى يحتج عليهم بالرسل».

ص: 185


1- تفسير السمرقندي : 2 : 305 .
2- تفسیر ابن زمنين : 3: 15 .

ص: 186

حصيلة الفقرات السابقة

التعقيبات الواردة في سورة الدخان وأهميتها :

حين يتشكل المعنى ، بشكل مترابط، ومتكامل ، تبدو الصورة - للمتأمل - واضحة أكثر والإشكالية تبدأ حينما يكون هناك وضوح ، في وجود حالة نزول ملائكي ، سنوي ، على البشر ؛ للتبليغ بأوامر الله ، ونواهيه ، وتقسيم الأرزاق ، والآجال ، والحوادث . ولا بد أن تستكشف هذه الحالة ، من الوضوح ، من نفس النص ، بلا تشويه ، وبما أن النصوص في هذا المجال ، قد لحقها التشويه بشقيه المتعمد ، وغير المتعمد ، فهي - إذن - بحاجة إلى قراءة واعية ، بعد أن استكملنا دراسة كل أنواع التشويش ، والتشويه ، التي لحقت بكل الفقرات ، التي تعتمد عليها الصورة المتكاملة .

وفي سبيل استكمال الصورة ، وزيادة وضوحها ، ينبغي دراسة النص المهم ، في سورة الدخان بصورة مترابطة ، فإن فيه تعقيبات ، ومواد استهلالية مهمة جدا ، تساعدنا – بالتالي – على توجيه المعاني بصورة واضحة ، و باتجاهات متوافقة ، ومنسجمة مع نفسها ، وتثير مسألة كلامية مهمة جدا ، وهي (الرسالة الإلهية وضرورتها المستديمة) .

وقبل تشخيص مادة الاستدلال ، ومادة التعقيب ، علينا أن نقوم بتجميع الفهم ، لتلك الآيات ، جريا مع سياقها .

وهذه محاولة تفسيرية - آخذة بنظر الاعتبار ، التشخيص المتقدم للمفردات ، وإزالة التشويش ، كما تقرر في كل مفردة - يمكن اعتبارها حالة استنطاق بياني للنص بموجب مقدمات تم بيانها ، حسب التحقيق السابق، الذي حاورنا كل مفاصله :

ص: 187

الآيات المباركة من سورة الدخان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿حم﴾ : من الحروف المقطعة في القرآن . ﴿و﴾ حرف القسم ، والمقسوم به ، هو ﴿الكتاب المُبين﴾ لعظمته . ومن عظيم تناول القرآن ، فإن المقسوم به ، له دخالة ، بما يليه ، بنحو من الأنحاء . ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ أي : القرآن ، أو : الكتاب ، جملة ، على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ﴿في ليلة الله لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ وهي ليلة القدر ، في شهر رمضان المبارك ، وهي الليلة ، التي قال فيها تعالى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمر * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ . ﴿إِنَّا كُنَّا منذرينَ﴾ : تعليل ، أي : لكوننا منذرين . ﴿فيها﴾ أي : في ليلة القدر ، إجراءات إلهية ، خاصة منها : إن فيها ﴿يُفْرَقُ﴾ أي : يفصل ، ويميّز ، ويبين ﴿كُلُّ أمر﴾ بنوعيه الكوني ، والتشريعي . ﴿حكيم﴾ محكم ، لا تبدل فيه بعد البيان ، وهذا الأمر ، متعلق بالإرادة الإلهية الحرة . فوصفه ، بقوله : ﴿أَمْرًا من عندنَا﴾ لا من غيره سبحانه . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ واقع موقع التعليل ، للأمر الصادر في ليلة القدر ، بينما قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ واقع موقع التعليل ، بنزول القرآن في ليلة القدر ، وكلاهما معلول ؛ لقوله تعالى : ﴿رَحْمَةٌ من رَبَّكَ﴾ أي : ذلك الإنذار ، وذلك الإرسال ، إنما التزمنا به ؛ لصفة الرحمة ، اللازمة لربك . ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لكلام مخلوقاته ، وحجتهم وهو ﴿العليم﴾ بذاته ، وبحال خلقه ، وحاجتهم إلى الرحمة . ولازم علمه ، الالتفات إلى خلقه ، ورحمتهم ، وإلا انقلبت ذاته .

وهنا ، ذكر بأن رحمته ليست في إرسال الرسل ، والمنذرين ، فقط . وإنما تشمل ، أساس رحمة الوجود ، وإدارة الكون فهو : ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من : حياة ، وموت ، وتلك حقيقة الرحمة ، الفاعلة الدائمة ، ويمكن أن الربط بين رحمة الوجود ، ورحمة إدامة الوجود ، ورحمة تهيئة الأسباب ، بإسعاد الموجودات ﴿إن كُنتُمْ﴾ عارفين ﴿مُوقِنِينَ﴾ في و معرفتكم ، بأن من يرحم ابتداءً . ، ويرحم بقاء ، وانتهاء ، إنما هو رب قائد ، لا يمكن أن يحبس رحمته عنكم ، كجزء من عباده ، فلا بد أن يسبب لكم سبل السعادة ، باستحقاقكم ، لا بالقهر

ص: 188

والغلبة - فتفقد السعادة معناها - ولا بد أن تبتني معرفتكم ، ويقينكم ، على توحيده فهو : ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ فردا صمدا ، لا خلو فيه ، ولا يحده شيء ، وهو أساس ذلك العلم . ويتحدد ذلك العلم بمعرفته من جهات متعددة .

الذي : ﴿يُحْيِ وَيُمِيتُ﴾ أجسادكم ، ابتداء ، وانتهاء ؛ وذلك استمرارا لرحمته ، من دون تخلف ، بين السبب والمسبب ، وهو ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ﴾ حقيقة(1).

ولكن هذه المعرفة التوحيدية ، ولوازمها، من إرسال الرسل ، وتخصيص ليلة خاصة لذلك الإرسال ، للتقديرات السنوية العامة ، لا تتوفر عند بعضكم ، فهم غير جادين – أساسا – في المعرفة ، ﴿بَلْ﴾ ﴿هُمْ في شَكَ يَلْعَبُونَ﴾ بالألفاظ ، والأفكار ، والأعمال .

ثم ساق الله تعالى ، تهديدا بعذاب دنيوي ، وهو يوم الدخان العظيم ، المبين لكل البشر ، والذي يحمل الرعب ، والدمار ، والعذاب . ولعلنا في هذا العصر ، أكثر إدراكا لرعب الدخان ، المنبعث من التفجيرات النووية ، والمواد الكيماوية السامة . فلا يبعد أن يكون من قبيله.

أقول : إن هذه الصيغة للفهم ، لم تكن لاعتبارات ذاتية، بل أملاها واقع الموضوع ، وواقع التفسير ، وقد احتمل هذه المعاني المفسرون ، وقد تم تعينها نتيجة التحقيق المتقدم ، بل عيّن المفسرون ذلك بأنفسهم ، خصوصا ما بعد : ﴿أَمْرًا من عندنَا﴾ مع اختلاف في الألفاظ ، وبعض التحديدات الغير مخلة ، بمجمل المفهوم العام ، من السياق العام ، وقد مر علينا آنفا ما قرأناه من أقوال : ابن كثير والزمخشري ، وما اطلعنا عليه من تفسير الطباطبائي ، وغير ذلك الكثير مما قدمنا . فليراجع : تفسير ابن كثير والكشاف والميزان وجميع التفاسير تقريبا ، في تفسيرهم لسورة الدخان .

لقد قدمنا لهذه الفقرة ، بأن هذه الآيات فيها مادة استهلالية ، لأمر مهم ، وهو أمر الرسالة ، فقد

ص: 189


1- لعل في التذكير بالربوبية العامة ، ثم التوحيد الخالص ، ثم فعله للحياة والموت ، ثم بالربوبية الخاصة بالبشر بسلالاتهم ، ترابطا موضوعيا ، وليس طرحا عشوائيا ، لموارد الرحمة. ولعل التأمل كفيل بفك مثل هذه الرموز .

تعرض لوجوب النبوة ، بناءً على دليل الرحمة ؛ لأنها صفة له تبارك وتعالى ، منتزعة من ذاته الرحيمة ، العليمة ، المستدل عليها عقلا ، بالاستقراء الكوني العام .

وهكذا ينبغي ، إعادة صياغة الدليل ، بمنظور تنازلي ، لا تصاعدي . كما طرحة القرآن الكريم ببراعة عجيبة ، نعجز - بكل تأكيد - عن مجاراته فيها ، فإننا تصاعديا ، لا نستطيع أن نضيف شيئا ، لما ورد في الكتاب الكريم ، ولكن يمكننا أن نجد فسحة ، في الدليل التنازلي .

وعليه ، سنعيد - هنا - صياغة الدليل ، بطريقة تنازلية كالتالي :

إننا إذا التفتنا ، إلى تمتعنا بنعمة الوجود ، وتمتع كل الموجودات ، في السماوات ، والأرض ، بهذه النعمة ، سيثير عندنا تساؤلا ، حول خالقنا ، وسينتهي التساؤل ، إلى الإجابة الحتمية التالية : إنه لم يكن من قبيل العبث ، خلق هذا الكون ، ولم يكن من قبيل النقص تمتعه بنعمة الوجود ، وأسبابها العجيبة ، بل صدر ذلك عن كمال مطلق ، فيه مطلق الحسن ومطلق نور الحياة ، وذلك يعني لزوم أمور متعقلة لنا ، وإن كانت غير محدودة أمامنا ، كعلمه ، وحياته ، وقدرته ، وباجتماعها نستنبط غناه ، فإذا كان غنيا ، وقد خلق من دون حاجة إلى خلق ، فلا مناص من أن يكون ابتدائه بالنعم على خلقه ، إنما هو منه رحمة ، وهذه صفة ننتزعها ، ونستكشفها ، من علاه ، وغناه ، وقدرته ، وحياته ، التي لا نقص فيها . فإذن هي صفة لازمة له ، لا ينفك عنها - إطلاقا - وهل يعقل أن تكون هذه الصفة، ابتداءً ، قبل وجودنا ، وبالتالي قبل حاجتنا ، ثم تنتفي عنه ، بعد وجودنا وحاجتنا ! - حاشاه - ومستحيل أن تتخلف الذات عن ذاتياتها ، بمفهومنا البشري فكيف يتخلف الكمال ، عن ذاته فتتعطل رحمته ، لحظة واحدة ، في عالم الحق ، والصدق ، والثبات واللا محدودية ، في العلو الكمال . فلا بد من إيجاد أسباب لسعادتنا ، ولا بد من إعطائنا ما نستحق ، من سعادة ، أو شقاء بعدله ، - وهكذا - منحنا الاختيار ، وعرض علينا رسالته ، التزاما منه بكماله ، واستحالة تخلفه - كما قلنا - فأوجب على نفسه ، بهذا المعنى من اللزوم الذاتي ، أن يلطف بعباده ، ويرحمهم ، فلا يتركهم ، من دون توجيه لما يسعدهم ، في كل حال ، وذلك عن طريق إرسال رسله ، من ملائكة ووسطاء بشريين ، وقد اقتضت حكمته ، أن ينفذ رحمته ، فيرسل

ص: 190

ملائكة في كل ليلة قدر ، من كل سنة ، بكل أوامره ، ونواهيه، وأرزاقه ، وتقديراته الكونية المتعلقة بنا ، وعلى الرغم ، من عدم معرفتنا ، سر الاختصاص بهذه الليلة – علما إن الإنذار والإرسال ، بحسب الحاجات ، غير مخصوص بتلك الليلة ، في المعالجات الآنية ، والتي نجهل صورها ، وحيثياتها ؛ لكونها فوق تصورنا ، فهي مستمرة دائما ، لاستمرار حاجتنا ، فرحمته جاهزة - دائما - ولا يختص ذلك ببعض ، دون آخر ، ولا بأمة دون أخرى :

﴿وَلكُلِّ أُمَّة رَسُولٌ﴾ [يونس : 47]. ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّة إلا خلا فيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] . إننا بهذا المنظور التنازلي ، نفهم مسار الآيات ، ذات المنظور التصاعدي في الدليل المطروح ، في أول سورة الدخان ، فإنه لم يعرض سبحانه مجرد صورة ، ومجرد فكرة ، ومجرد توصيف ، وتشخيص ، وإنما عرض مسببات ، وعرض تحليلا توحيديا ، معللا ارتباط الحكمة ، والرحمة في الكون ، به سبحانه وتعالى ، بالالتزامات ، التي لا تنفك إطلاقا ، وباستدلال بديع ، وعجيب في الاختصار ، والإفادة . فهو إلى الدليل العقلي ، أقرب .

تنبيه مهم :

تنبيه لا بد منه في ذيل هذا الدليل :

غالب الدارسين لعلم الكلام يعتقدون بأن الشيعة يعتمدون دليل اللطف كدليل أساسي في تقرير الإمامة وتعيين الإمام عقلا كما يتخيلون ، ولكن بمراجعة النصوص الصادرة عن أئمة التشيع نراهم يطرحون أدلة متعددة كدليل الرحمة ، كما هو في طرحه القرآني بهذا الشكل البديع ، وأما سبب استخدام الشيعة الإمامية في القرن الرابع وما بعده لدليل اللطف ، والتبحر فيه ، وزيادة الكلام حوله فهو لمجابهة المعتزلة ونظرائهم ممن يتفرع منهم ، حيث التزموا دليل اللطف في وجوب النبوة على الله ، وتوقفوا في إعمال نفس الدليل في الإمامة مع اتحاد المسارين وعدم المانع إطلاقا من إعمال الدليل .

بعد بیان دليل الرحمة بهذا الشكل الذي قرره القرآن الكريم حيث أن رحمة الله تقتضي إسعاد

ص: 191

خلقه العقلاء فلهذا يرسل لهم الرسل ويتواصل معهم دائما ، فلا بد من إرسال البيان بشكل مستمر ، وهو يكون بالنبي أو خليفته المطلع على سره في ليلة القدر بدون رسالة مستأنفة .

ومن أجل أن يفهم القارئ الكريم الفرق بين دليل الرحمة ودليل اللطف ، وأن دليل اللطف أفضل بكثير مما يتصورونه ويثيروه عليه من إشكالات ، يجب أن نبين معنى دليل اللطف باختصار حتى يستكشف القارئ الكريم الفرق بينهما :

تقرير دليل اللطف : بما إن تكليف العباد حسن لنظم شأنهم وحفظ نوعهم ، وجودا ومقاما وبما أن الله عالم كامل مختار فلا بد أن له في كل واقعة حكم وأنه لا يمكن منازعته ورفض حكمه ، وهذا هو عين التكليف ، وبما إن الله عادل وكامل لا يفعل القبيح ، فلا بد إذا كان قد كلّف عباده أن يبعث المبيّن للتكليف ، وان يمكن العباد من أداء التكليف . وبهذا المعنى من اللزوم العقلي يقال يجب على الله بعث الرسل لبيان التكليف وتمكين العباد من طاعته وتنفيذ أحكامه ، وليس هو من باب الوجوب التكليفي عليه - حاشاه - بل من باب لا ينبغي أن يخلو الله من العدل والكمال ، وبوجه آخر لتقرير المقدمة المشكلة عندهم : بما إن التكليف يستدعي العقاب والثواب فلا يصح ذلك بدون بيان وتمكين لأن العقاب بدون بيان ظلم ظاهر ، وهذا هو جوهر دليل اللطف ، وقد عرفوا اللطف : بأنه ما يقرب العباد من الطاعة ويبعدهم عن المعصية ، وإنما يكون ذلك - كما لا يخفى - بالبيان والتمكين . وهذا هو عينه دليل المعتزلة على وجوب بعث الرسل وهو أساس ردهم على الحشوية الذين يقولون لا يوجد مصلحة ولا دافع لإرسال الرسل ، وإنما هو أمر تعبدي محض ، ولكن حين يطبق الإمامية نفس الدليل النافذ عقلا على الإمامة باعتبارها استمرار للنبوة بيانا وتمكينا ، فهنا لا يقبل المعتزلة ذلك ، ويبدأون بالإشكالات بما يهدم أساس نظرية اللطف التي يقولون بها ، واهم نقطة يبدأون بها الإشكال هو موضوع التمكين ، غير مفرقين أن الشيعة يقولون بالتمكين بالإمامة وليس بالإمام ، أي بإقامة نظام الدولة العادلة الشرعية ونظام البيان المستمر بشكل عام ، ومن بحث دليل اللطف بأنه تمكين بالإمام وتعيينه ، فهو من باب المصداق وانجرار القلم لهذا المصداق ، وإلا فأصولهم واضحة : أنهم يقولون بوجوب

ص: 192

الإمامة بدليل اللطف . والإمام عندهم بالتعيين بالنص ، والصفات لشمائل ، ومنها العلم اللدني الخاص.

فبالإضافة لعدم فهمهم لدليل الشيعة وموضع استخدامهم لدليل اللطف ، فهم يشكلون بما لا يمكن أن يلتزموا - هم أنفسهم - بلوازم إشكالاتهم . وسوف يأتي في آخر هذا الكتاب نماذج من أجوبة الشريف المرتضى على القاضي عبد الجبار المعتزلي ، بكتاب كامل اسمه الشافي من اجل أن يبيّن خطأ إشكالاتهم .

وخلاصة إشكالهم هو : إن التمكين يوجب المباشرة الفعلية بين المبين وبين الناس ، وبما إن إمامة الشيعة طالها غيبة ظاهرة فقد بطل التمكين ، لعدم المباشرة ، فلا يصح التمسك بدليل اللطف في وجوب الإمامة .

وهم يريدون بكلامهم : إن الغيبة واقع عملي يبطل وقوع اللطف نفسه . فكيف تكون الإمامة لطفاً . وواقع حال الإمام الغائب يبطل اللطف كما يتخيلون ؟ وهذا غاية إشكالهم .

وهو إشكال سطحي جدا ، لم يفكر قائله - بقوله هذا - بأنه لم يفهم نظرية اللطف نفسها ، التي يقول بها المعتزلة أنفسهم ، لأنهم بهذا الإشكال يبطلون الديانات بموت الرسل ويبطلون قاعدة اللطف نفسها بالفترة بين الرسل الثابتة عندهم وعند جميع المسلمين .

والأساس الأولي في الرد على هذا الإشكال هو : إن قاعدة اللطف غير ناظرة أساسا للمباشرة مع المكلف ، وإلا لوجب أن يكون لكل مكلّف رسول يباشره . وهذا لا يقول به عاقل فضلا عن المعتزلة أنفسهم. وغاية ما تقرره القاعدة هو وجود المبين بنحو ما ، وهذا يتحقق بوجوب الإمامة وإقامة الدولة على أساس العدل والشرعية وإتباع الشرع بدقة بوجود إمام عدل على نحو الأصالة ، ودليل الشيعة على إمامة أئمتهم بطريق آخر لا علاقة له بهذا الموضوع .

فالشيعة لهم قولان منفصلان : الأول : وجوب الإمامة . والثاني : التمسك بصحة أدلة إمامة أئمتهم بالنصوص الصريحة من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد يضاف إليه أدلة الأفضلية والأعلمية له والاختصاص بالله ، التي لا يدانيهم فيها احد . فهذا مبحث آخر تماما وهو لا يرتبط بدليل اللطف ،

ص: 193

حتى لو تطابقت الأدلة والعناوين على شخص بعينه ، كأن تكون أدلة الإمامة وانطباقها على المبين المطلع تتفق على تحديد شخصية علي بن أبي طالب (علیه السّلام) لكونه الفرد الأمثل لوجوب الإمامة . ولتعينه كإمام ، ولكن لا شك فان الأدلة مختلفة ، والتداخل في العالم الخارجي لا يستدعي التداخل في الدليل وموضوعه.

وهذا الإشكال المعتزلي السطحي لا يمكن أن يرد على دليل الرحمة . لأن اصل الرحمة تفضّل من الله ، وقد التزم الله به حسب النص ، ومقدار الرحمة بيده وليس مفروضا عليه ، فلا يصح أي إشكال بأن الفترة أو موت الرسول أو غيبته أو غيبة خليفته أو انعزاله فقد لمفهوم الرحمة ، حيث أنه يوجد اشتباه في هذا الباب ، بينما اشتباههم في اللطف نابع من توهم المباشرة والدوام في المباشرة ، وهذا غير لازم في اللطف فإن التمكين ليس بالمباشرة ، وإنما بوجود المبين الفعلي بنحو من الأنحاء ، وبالتمكين من أداء التكاليف ، وهذا لا تؤثر فيه فترة أو غيبة.(1) إلا ان تعقل الدليل يحتاج إلى تأمل ، وفهم لمقدمات الدليل وموضوعه بشكل دقيق حتى يمكن تخيل كامل الصورة ، وهذا ما يفتقر إليه المشكلون ، بلا فهم لواقع الدليل .

ص: 194


1- ادعى بعض ظرفاء المعاندين بأنه إذا كانت غيبة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو موته لا تؤثر في حصول اللطف ، فلا حاجة للإمام إذن لكون الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) قد وجد وتوفي ، والاكتفاء بما فعله المسلمون من خروج على مبدأ النص وقد غفل هذا المتحذلق أن كلامه يعني أن لا حاجة لديانة جديدة كاليهودية والمسيحية والإسلام أصلا، والبقاء على ديانة إدريس أو آدم قبله . ونسي إن الشيعة لا يقولون قولا غير مترابط بين قيامة الإمامة ، وبين وجود الإمام ، بل يربطون بينهما ربطا عضويا ، ودليل اللطف هو دليل قيام الإمامة ، وليس وجود الإمام ، وهو يخلط هذا وذاك ، من اجل أن يشوش الفكرة أو هي بین عنده مشوشة أصلا، فيعتقد بأن دليل اللطف ، مثلا ، هو دليل إمامة المهدي (علیه السّلام) وهو ينخرم بغيبته . وكل هذا نابع عن عدم فهم معنى دليل اللطف وعدم تعيين موضوعه وعدم معرفة ما يستدل به الشيعة . فهل يحتاج من احتاج الكل إليه ، ولم يحتج إلى الكل - ذاك من جعله رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مولى على كل مؤمن ومؤمنة - إلى دليل اللطف ليدل على إمامته سلام الله عليه ؟ ولهذا على القارئ الكريم أن يراجع دليل اللطف بصورة جيدة ، وسيأتي بعض البيان اللازم فيما ناقشه السيد الشريف المرتضى في هذا الباب بالذات .

الإشكالية

ص: 195

ص: 196

الإشكالية

لقد تقدم تقرير المبادئ الآتية ، وفق النص القرآني :

1 - توجد ليلة متكررة في كل سنة ، لها بركات خاصة ، تسمى ليلة القدر.

2 - من خواص تلك الليلة : نزول الملائكة بأوامر الله ، التكوينية ، والتشريعية ، المتعلقة بأهل الأرض.

3 - في تلك الليلة المباركة ، حدث أيضا نزول القرآن ، جملة ، دفعة واحدة .

4 - في تلك الليلة ، يتم بيان ، وتفصيل الأمور ، التي أحكمها الله تعالى .

5 - إن كل تلك الخواص ، متعلقة بالإنسان في الأرض - بالدرجة الأولى - وفي زمن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان النزول عليه ، بلا أدنى شك . وإن النزول مستمر ، على ما كان عليه . وأهم ما يلفت النظر ، هو كونه إلى أهل الأرض ، دون أهل السماء . وقد بحثنا كل تلك النقاط بتفاصيلها في المقدمة.

بعد هذه المقدمات ، نقول - إذن :

على من تنزل الملائكة ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكذلك قبله ؟

وهل يعقل ، إن الله تعالى ، يصدر أوامره إلى غير مأمورين ؟

ويرسل رسله إلى من لا يتلقى ؟ فهل أرسل رسله في ليلة القدر ، إلى الحجر ، والشجر ، دون أكرم مخلوقاته ؟

ص: 197

إن الحل الوحيد ، هو وجود نائب للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، محدث ، يتلقى ذلك ، وله نفس قدسية ، قادرة على تلقي الأوامر الإلهية ، والأحكام الواقعية ، التي يريدها الله.(1)

إننا ، إذا لم نوافق على تصور هذا الحل ، فليس أمامنا إلا حالتين :

1 - إن القرآن ليس بشيء !

2 - إنه كتاب الله ، ولكن لا مفهوم له ، ولا معنى !

ذلك أن القرآن صريح ، وقد حاصرنا تماما ، بتشخيص خواص ليلة القدر ، وإبراز فعلية وقوع الإرسال ، معللا بعلة سارية ، وهي تتعلق بالله – عز وجل – لا بظروف إنسانية ، أو واقع كوني ، ولهذا فهي علة مستمرة ، ومعلولها مستمر ، وهذا المعلول ، الذي هو الإنذار والإرسال مستمر في واقعه .

فأين هذا في واقعنا ؟

وهل يدعي أحد ، تخلف المقولة القرآنية عن الواقع ؟ فتكون بذلك باطلة .

إن على القائل بذلك ، أن يراجع إسلامه ، إذا كان مسلما .

وهل يدعي أحد بأن كل تلك النصوص ، فاقدة للمعاني ، وأنها لا تعني شيئا ؟

القائل بهذا ، عليه أن يتعلم لغتنا التي نزل بها القرآن الكريم ، حتى لو كان ولد من أبوين عربيين . وعليه أن يراجع عقله ، في موازينه ، ومعاييره ، المنطقية ، والعقلية .

ملاحظة :

قال الشيخ محمد صالح المازندراني ، عن ، عن مشكلة ليلة القدر في شرح حديث للإمام سلام الله عليه(2): «لإخبارها بنزول الملائكة والروح فيها ، من كل أمر ، إلى ولي مؤيد من عند الله تعالى ، ولا يمكنهم التخلص ، إلا بأن يقولوا :

ص: 198


1- سيأتيك قريبا ملاحظة الشيخ محمد صالح المازندراني وهي تؤدي نفس مؤدى الإشكالية .
2- سيأتي تفصيل القول في الفصل الثاني .

1 - ذهبت الليلة بذهابه (صلی الله علیه و آله و سلم).

2 - أو يقولوا : ذهب النزول بذهابه .

3 - أو يقولوا : ثبت النزول إلى سلطان الجور .

4 - أو يقولوا : ثبت النزول ، لا إلى أحد.

والكل باطل .

أما الأولان ؛ فلدلالة رواياتهم - أيضا - على بقائها ، وبقاء النزول فيها ، إلى يوم القيامة ، ولإجماعهم على بقائهما كما مر .

وأما الثالث ؛ فلأن نزول الملائكة إلى الجائر ، بما يحتاج إليه الناس ، من الأوامر والنواهي ، باطل بالضرورة ، ولم يدع ذلك أحد من من الجائرين .

وأما الرابع ؛ فلأن نزولهم بالأوامر والنواهي ، لا إلى أحد من الخلق ، مما لا يتصور قطعا»(1).

أقول : بل هو عبث وسفه – حاشاه سبحانه منه.

ص: 199


1- شرح أصول الكافي : 6: 13.

ص: 200

الاعتراضات المتوَهَّمَة

ص: 201

ص: 202

الاعتراضات

قد تواجه هذه الإشكالية ، اعتراضات كثيرة ، بطرق غير مباشرة ، نتيجة قراءة فكر يحاول التخلص من إلزامات هذه الإشكالية ، بطريقة التحاشي من جوهر الإشكالية والتهويش حولها للتشويش عليها . وهي في الحقيقة اعتراضات على الإمامة بصورة عامة ، وبعضها اعتراض على ما تؤدي إليه الإشكالية ، من إثبات وجود إمام ، حتى لو كان مخفياً . وكما نعلم ، فإن الاعتراضات على الإمامة ، لم تكن لتوجد ، لولا أنها تدل صراحة على الأئمة المعصومين من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولو بحث باحث مبحث الإمامة وتطبيقها على الحكام الجائرين ، لما كان فيها أية مشكلة عندهم ، بل كانت لازمة وضرورية ، ولا يعقل غيرها عندهم - أصلا . وهم ويقاتلون أهل الأرض ، والسماء عليها . ولهذا ، فإن هناك خلطا عجيبا ، في بحث من هذا القبيل .

فحين نبحث عن الإمام الحق ، الشرعي الملتزم المفيد للمسلمين ، نجد أشكال الاعتراضات ، التي لا تنتهي ، وحين تبحث الإمارة على المسلمين ، بما فيها من نماذج الفساق ، والجلادين ، وقتلة الشعوب الإسلامية ، ومخلّفي دولة الإسلام عن الركب الحضاري ، نجد اللزوم ، وعدم وجود أي شك ، وعدم قبول أي اعتراض ، حتى لو كان الأمير ، يصلي في الناس صلاة الصبح ثمان ركعات ، ويقول للمصلين لو شئتم أن أزيدكم ، ثم يقيء الخمر في المحراب ، أو حتى لو لبست راقصة أمير المؤمنين ثيابه ، وصلّت في شيوخ المسلمين صلاة الصبح سكرانة مجنبة ، بدل الخليفة ؛ لأنه لا يستطيع الصلاة من شدة السكر ، فمثل هكذا أمير تجب إمارته ، ولا يجوز مخالفة

ص: 203

أوامره ، أو عزله ، وغاية ما يكون منهم أن يقول لك متدينهم : إن الواجب نصح الأمير ، ونستغفر الله من الذنب .

إن هذا الخلط العجيب في البحث ، يدعونا جميعا - كمسلمين ، الآن - بعد بشائر زوال سطوة الحكم باسم الدين ، والتسلط ، وقتل الناس باسم الدين ، إلى مراجعة شاملة لمجمل فكرة : شرعية الحاكم المسلم ، حسب ابسط قواعد العقل ، لمعرفة الفرق بين وجوب حفظ النظام ، وبين شرعية الحاكم الجائر .

فإذا كان الدليل على الرضا والتسليم ، ولزوم الحاكم الجائر، ومتابعته ، هو الاحتجاج بضرورة حفظ النظام ، فإن هذا الدليل لا يلزمنا أن نقبل حكم الباطل وأهله ، وتحكيم الجائرين ، بل إن النظام - بمفهومه الدقيق - لا يكون محفوظا بوجود هؤلاء وأمثالهم على رأس السلطة ، وهم إنما يحفظون أنظمتهم ، والجائر المتسلط منهم إنما يحفظ نظام سيطرته وتسلطه ، وظلمه ، وجوره على الناس ، والناس بعد مطية له ، إن كان قاسيا ذلوا ، وإن كان رحيما فرّج عنهم ، حسب مزاجه . وهذا ليس حفظ نظام ، ولا تحقيق عدل ، ولا هو نشر لدولة الحق على رؤوس العباد .

إن مشكلة العقدة من فكرة الإمامة ، تجعل كل معقول غير معقول ، وهذه العقدة ، قد كونت مجموعة هائلة من الأوهام ، والتصورات ، التي لا ترابط بينها.

نحن هنا ، لا نبحث موضوع الإمامة ، بمعناه الفقهي، ولا بمعناه الكلامي ، ولكننا مضطرون لأن نشير إلى الخلط بين المفاهيم . فالإمامة التي نقول عنها واجبة ، في علم الكلام ، هي وجوب رئاسة الناس ، بما يحفظ الدين والدنيا ، والإمامة التي تبحث في علم الفقه ، هي وجوب رئاسة الناس لحفظ النظام ، بطرق شرعية سواء بالأصالة ، أو بالبديل الشرعي .

بينما الموضوع - هنا - مختلف تماما ، وهو اصطفاء الله - تبارك وتعالى - لأشخاص معينين ؛ ليعلموا أحكامه ، ويكلفون بما يأمرهم الله ، من تبليغ ، أو عدمه.

فهو متعلق بشخص معين ، هو الإمام ، أو الولي ، أو ما شئت فسمه ، من تسميات القرب من الله ، تخبره الملائكة بأوامر الله ، ونواهيه ، وصحائف الأعمال ، والأرزاق ، والحج ،

ص: 204

والآجال . حسب النص القرآني، الذي قمنا بتحليليه ، وتفصيل نقاطه ، بتفكيك النص ، وتجميعه مرة أخرى .

ونحن – هنا – نبحث موضوعا متعلقا بإرادة الله ، وقدرته وتواصله مع خلقه ، وهذا ليس من أبحاث علم الكلام ، بصيغه الدقيقة ، المتكفلة بإقامة البراهين على صحة المذهب أو الدين ، بل هو بحث في معرفة الله ، عن طريق الله ، بعد أن نكون قد فرغنا من الإيمان بالله ، وبرسالته ، وكتابه الكريم . وهو بحث عمّن خصهم الله بينابيع علمه ، وفيض إرادته .

إنه بحث عن كرم الله في خلقه ، وعن خصوصيات الخلق ، التي لا تعزب عن الله ، وعن مهبط علم الله ، وعن مصداق قوله عز وجل : ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام : 124] الدال - ولو بطرف - على الاستمرارية في الجعل كما توضحه صيغة المضارعة .

وهذا الموضوع ، لا يحتاج إلى فلسفة ، ورد وبدل ، وإنما هو متوقف على أمور بسيطة ، منها :

1 - معرفة قول الله.

2 - ومعرفة المراد من القول ، بذوق عربي سليم، وبفهم علمي في تلقي الدين . ولا يحتاج إلى تقعر عقلي ، أو ما شابه ذلك .

فإذا ثبت أن الله يرسل ملائكته ، بشكل مستمر إلى الأرض ، بحكم الله التفصيلي ، في كل سنة ، فليس أمامنا فسحة كبيرة ، لنبدي تفلسفنا ، ورفضنا ، أو قبولنا ، على أساس من القيم العقلية ، أو الفلسفية ، المدعاة ، بل ليس أمامنا إلا السؤال ، والبحث على من تنزل الملائكة !! .

وهذا سلوك منطقي جدا ؛ لأننا لسنا في مرحلة الشك ، في أصل الرسالة ، أو أصل الكتاب .

وهنا ، يجب التنبه ، إلى إن القصد ، هو أنه بعد إثبات الضروري ، من الدين بعينه ، فسيكون البحث هو : هل هنا إنكار للضروري أم لا ؟ باعتباره يحتاج إلى تحصيل، وتأمل . فمن وجهة نظر علمية ، ودينية ، يمكن قبول ، أن يكون إنكار وجود من ينزل عليه البيان سنويا ، هو إنكار للضروري ، بعد تصريح القرآن ، باعتبار إن ظواهر القرآن، التي لا تحتاج إلى تأويل صارف ، هي نصوص قطعية وضرورية التصديق .

ص: 205

ومن يدعي إن هذا البحث، متأخر عن إثبات أصول متعددة ، فهو لم يفهم أساس البحث ؛ لأننا لا نكلم من يشك في الرسالة من أساسها ، أو من يلحد بالإسلام ، وإنما نكلم من يقتنع قناعة كلية بالقرآن ، وبما فيه من نص مقدس .

والبحث - أساسا - هو جواب السؤال ، عن إمكانية ذكر خصائص المهدي في القرآن الكريم ؛ ليصار إلى الإيمان به، كالعلم الإلهي الخاص ، ونزول الملائكة عليه . فهو بحث في النص القرآني ، لا مناقشة للنصوص الفلسفية ، وغيرها .

ولكن ديدن أهل الهوى ، أنهم يطلبون شيئا في البداية ، كالدليل القرآني المحض ، وبعد مجابهتهم به ، ينقلبون إلى فلاسفة ، ومحللين معنويين ، يرفضون النص ، ويجدون ألف إشكال في النص ، وطلبه ، ويرون إن من اللازم عدم التفكير في النص ؛ لأنه يخالف المنطق ، أو الفلسفة ، أو العقل ، وفي الحقيقة ، هو يخالف الهوى المذهبي المعلوم .

وهنا يختلقون مشكلة ، يعتقدون إنها مشكلة كبرى ، تنفي الغرض القرآني ، وهي غيبة الإمام . فما شأننا - نحن - إذا شاء الله تبارك وتعالى ، أن يكون من ينزل عليه الأوامر ، مختفيا مثلا وكيف نردّ على الله ، بأنه بما أن من ينزل عليه الأمر في خفاء منا . فما فائدته ؟ ولماذا يكون هو ؟ فأذن لا يصح يصح ما دامت لم تثبت عندنا فوائده ؟ على ان هذا الاعتراض باطل وقد قلنا ذلك سابقا .

وهكذا توجد دوامة من التساؤلات ، التي لا يراد لها نهاية ، ولا غاية ، وهي في الحقيقة ، ليست ضد الفكر الشيعي ، لأنه لا دخل له بهذا ، وإنما هو كلام ضد القرآن ، وضد الله عز وجل ، بوقاحة بالغة.

فما دخل الشيعي أو غيره بما يقوله الله في كتابه ؟

وكل الاعتراضات ، هي على ما يقوله الله ، لا على ما يقوله الشيعي ، فمن الخديعة والدجل الفكري ، أن نحوّل القضية إلى قضية مذهبية ، مختصة بالشيعة ، حتى يقبل الناس سيل الشتائم ، باعتباره الشيعة مبطلين ، كما يروّجون ، وهذا عين الدجل ، فإن الرد - هنا - هو رد على الله ، وليس هناك أدنى عذر ، يمكن التمسك به ، من قبيل اختلاف التفسير ، أو سوء الفهم بيننا ، بل هو رد

ص: 206

لكلام الله بشكل صريح ، وعلني ، بصيغة الرد على الشيعة ، فهل الشيعة هم من أنزل القرآن ، حتى يُسبون على أساس عدم معقولية الفكرة .

إن الفكرة يخبر بها الله جل جلاله في كتابه الكريم ، ولا شأن لمذهب ، أو عالم بها .

فلو اعترض معترض ، بأنه ليس هناك دليل بتطبيق القضية على الإمام المهدي (علیه السّلام)، في وقتنا ، فهذا لا ينفي وجود أصل الإشكالية ، وهو يحوم حول رفض القرآن ؛ لعدم قبول التصديق به.

ومع ذلك نقول : أولا : أنتم أهل نصوص ، ونحن أهل نص ، فبالنسبة لنا ، فقد ثبت عندنا ، بصحيح الحديث ، أنه الإمام المهدي (علیه السّلام)، فيبقى أنتم ، من ترونه في تطبيق هذه القضية ؟ ومن هو مصداقها ؟ بينوه لنرى حجتكم ، إذا كان لكم حجة ، فقد قرأنا ، كل ما عندكم ، فلم نجد إلا التشويش ، والتهرب من الموضوع ، ولا يوجد لديكم دليل واحد صحيح ، أو غير صحيح ، يدل على من تتنزل الملائكة ، فلماذا يخلو تراثكم ، من حدث مهم كهذا ، عليه بناء النبوات ، وأساس الرسالات ؟

وهو بظاهر القرآن ، أمر له علاقة باستمرار رسالة الله إلى عباده ، وطبيعة تعامله معهم دائما ، بدون انعزال عنهم .

فإن مسلك التحقق من صدور النص، ومن ثم التحقق من مفهوم النص ، لهو سلوك الهداة المهديين من البشر ، وهو سلوك أهل الإيمان ، والتصديق برسالته ، وهو خير هاد لمن يملك قلبا ، سليما ، وعقلا فاهما ، وهو من يهدي الساعي إلى رضا الله ، أن يستكشف خارطة الإيمان عند الجميع ؛ لأن من يرى الحرص على تغيير ، وتشويش الحقيقة ، يعرف بأن هناك غرضا ، لمنعه من الوصول إلى الحق . وهذا داع للسعي إلى الحق ، وكشف الحقائق ، وكشف الأغراض ، وعلاقتها بالدين ، وبرسالة الله .

إن مشكلة تغيير اتجاه البحث ، والتبدل في الفكرة ، هي مشكلة حقيقية يعاني منها الفكر الإسلامي بشكل عام ، حتى في الأبحاث العلمية الظاهرية ، حيث يعمد الباحثون لربط ما لا ربط له بالموضوع ، من أجل التخلص من اللوازم المدمرة للمذهب ، الذي يسير عليه الباحث .

ص: 207

هنا - في هذا الموضوع قد نواجه - بل واجهنا بعضها بالفعل - عدة صور من السلوك ، تجاه هذا البحث ، وقد قدمت محاولات متعددة لتغيير وجهة البحث ، وقد أوردوا إشكالات عديدة ، لو فهم مشكلوها ، بأن نفس إشكالهم ينفي دينهم ، لما أشكلوا ، ولكنهم لا يفقهون الترابط بين المفاهيم .

فإن ردهم بإشكالات ، يدعون إنها عقلية ، إنما هو نبذ لنفس طلبهم الأساس ، من قراءة النصوص القرآنية ، التي تتكفل تقريب فكرة وجود المصلح المهدي ، الذي يحصل على خبر السماء ، ومن ثم إن هذه الإشكالات ، لا ترد على الإيمان بالمهدي ، وإنما على القرآن ، فهي إشكالات على صحة القرآن ، بناء على رفضهم لفكرة ذات محور مذهبي من جهة ، وذات بعد ديني ، يمكنها أن توقف كل متدين ، عند هاوية النار ، فهو إما أن يؤمن بما انزل الله ، أو يودع إيمانه . وليس أمامه خيارات كثيرة . لأنه يتعلق بضروري من ضروريات الدين ، وهو صريح كتاب الله.

على كل حال ، فقد يواجه البحث عدة اعتراضات، اختصرها بأهم ما يتصوّر منها ، في نظرهم ، وسيكون الطرح، على شكل اعتراض ، وجواب وكأنه موجود فعلا :

اعتراض : معنى ما تؤول إليه الإشكالية : إن رسالة الإسلام لم تنته.

جواب : واضح من التعليل المشار إليه في الآيات ، إنه لا يمكن أن تنتهي رسالة الله تبارك وتعالى ، إلى عباده أبدا ، وإنها رسالة متجددة ، وفاعلة ، ومرتبطة بالله الدائم الرحمة لعباده . فما المشكلة ؟

ثم إننا ندعي ، إن رسالة الإسلام أبدية ، وندعي صلة الله بنا مباشرة ، وحسابه لنا . فما المانع من

الالتزام ، بعدم نهاية رسالة الإسلام ؟

لا شك إن استمرار رسالة الإسلام ، تستدعي ديمومتها بالمعارف الإلهية ، الصادرة منه ، والتي لا يمكن أن تلغي نبوة ، ورسالة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهي مفصلة ، وشارحة للطريق الحق . فليس هناك مانع ، من القول باستمرار رسالة الإسلام ، بل هي مستمرة ، إلا إذا قيل بأنها بمعنى

ص: 208

تعدد النبوة ، فهذا ممنوع قطعاً ، وليس هناك ما يشير في الإشكالية ، إلى نبوة مستأنفة ، وما شابه ذلك ، وإنما إلى العلم الإلهامي ، والتعليمي ؛ لشرح رسالة الإسلام ، وحسن تطبيقها .

اعتراض : يقول الله تبارك وتعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة : 3] . فكيف يتم ذلك القول مع استمرار إنزال التعاليم في ليلة القدر ؟

جواب : إن هذه الآية المباركة ، معاضدة لما جاء في سورة القدر ، والدخان ، حيث أن واقعة نزول هذه الآية ، بعد خطبة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في يوم الغدير ، أتت بعد تعيين المتلقي بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فتم الدين بإيجاد مادة استمراره ، الذي هو نص الولاية ، والإمامة التي تؤكد على الرجوع إلى المنصوص عليه ، وهو ما يعني تحقيق مقاصد ليلة القدر ومورد تطبيقها ، بحسب ما ورد في النص القرآني الشريف ، وبغير هذا المعنى ، نكون قد اتهمنا القرآن بمخالفة الواقع .

فالواقع : إن الدين لا يكتمل من جميع جهاته إلا بهذه الصورة ، و إلا فلماذا الاجتهاد ، والمذاهب الأربعة ، أو العشرة ، أو السبعين؟ بل لماذا الخلاف ؟ وكلام الله الواقعي ، لا خلاف فيه . ولهذا الموضوع مباحث مستقلة ، فعلى طالب الحقيقة ، أن يطلبها في مظانها . وسيأتي الكلام عن الخروج عن عهدة التكليف .

اعتراض : هذا يقتضي ، أن تصح دعوى نزول الملائكة على البشر ، من غير الأنبياء، وهذا ممنوع ؛ لأن الوحي ، لا يكون إلا على نبي .

جواب : هذا خطأ كلي، وقائله لم يقرأ القرآن ، ولا الحديث ، فالقرآن الكريم صرّح بتحديث الله ، والملائكة لمن هم ليسوا بأنبياء ، بل صرح بوجود من أعطاه الله علما لدنيا ، بما هو أكثر من علم النبي نفسه ، وهو بشر لم يوصف صراحة بالنبي ، كما حدث لموسى (علیه السّلام) وغلامه ، حين التقوا بمن رزقه الله علما من لدنه . وقد كلمت الملائكة مريم ، وهي ليست بنبية ، وقد كلمت

ص: 209

الملائكة المؤمنين ، وثبتت قلوبهم ، فكبرى الدليل القائلة أنه لا يكلم الله إلا نبيا أو رسولا ، غير صحيحة ، ومنع الوحي ، والإلهام لغير النبي ، غير صحيح ، ولهذا فكل الإشكال ، مبني على باطل .

اعتراض : إذن ينبغي وجود أنبياء دائما ، وهذا خلاف العقيدة الإسلامية ، بأن نبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، هي خاتمة النبوات ، وهو ، وهو خلاف كمال الدين ، بنص القرآن .

جواب : مع إننا أشرنا إلى الجواب ، من خلال البحث . سنشير الآن أنه لا إشارة إلى نبوة جديدة ، في الإشكالية . وإن إرسال الملائكة ، لا يلزم النبوة . فإن هنالك المحدثون(1)، وهنالك المعصومون ، الذين قام البرهان العقلي ، قبل النقلي على وجودهم ، بل وجوب وجودهم .

وحتى لو سلمنا ، بعدم قناعة المعترض بوجود أئمة معصومين ، فإنه ملزم وفق هذه الإشكالية، أن يتوهم وجودهم ، على نحو من الأنحاء الإجمالية ، لما تلزمه الإشكالية القرآنية ، ثم إن ادعاء وجودهم من طرف ما - خاصة إذا كان أهلا للتقوى ، والقبول كالمعصومين من أهل البيت كاف لأن يكون حجة الله على عباده ، في وجوب البحث عنهم ، وتمييزهم ؛ لأن الأمر يتعلق بطاعة الله ، لا بدراسة عبقريات ، وبراعات لقادة ، وأصحاب فنون ومعارف ، مختلف فيهم . فلا نبوة مدعاة إطلاقا . ولا تغيير لنظام الإسلام ، وإنما هناك استمرار للإسلام ، ورفد لحيويته ، ومماشاته مع تطور الإنسان في الأرض .

بل على فرضهم الذي يفرضونه ، ويقيمون عليه الإشكال ، على متعلق الإشكالية ، فإن الإسلام ناقص بنظرهم(2) ويعاني من شلل فظيع ، لعدم الإيمان بضرورة إمداده بالحياة ، وضرورة تعلقه بالله

ص: 210


1- سياتي في الفصل الأخير من هذا الكتاب بحث عن علم الأئمة ، وبحث عن دعوى التحديث ؛ لما له من الأهمية في استكمال صورة النزول في ليلة القدر ، فإلى من يتعامى نهديه فهم الراغب الأصفهاني لحديث مشهور في تحديث عمر ، وعليه أن يعرف انه لا يعرف شيئا : «وقال عليه السلام : «إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر» وإنما يعنى من يلقى في روعه من جهة الملا الأعلى شيء» . مفردات غريب القرآن : الراغب الأصفهاني : 110 .
2- إذا كان القائل يتصور نقص الإسلام ، بمعنى : أن الله لم يزوده بمادة استكماله ، واستكشاف علومه ، وأحكامه الواقعية ، فهذا باطل قطعاً، وهو هدم للإسلام بلا أدنى شبهة ، وإذا كان بمعنى ما يعرف في عرف المتأخرين بشكل آخر ، وهو قولهم الشهير الغامض بالتعريف بمناطق الفراغ التشريعي ، أي : الخلو من النص لا من الحكم ، فهذا واقع قطعاً ، وعليه مدار الاجتهاد ، والسعي لطرق التعذير . ولهذا لا يشتبهن أحد ، حين يقرأ نقص الإسلام ، بأنه النقص الذي يفرضونه ، بلا مادة كماله ، وهو مرفوض قطعا ، ويقع عليهم الإشكال ، ولا يمكن حله بنفي الأحكام ، في الوقائع ، في نفس الأمر . كما فعلوه ، واخترعوه ، مما يلزم منه لوازم تهدم الإسلام من الأساس. ونرد عليهم : بأننا نقول بكمال الإسلام ، وتمامه من هذه الناحية ، وإن لكل واقعة حكما ، وإن الله وفّق بعض عباده ، بمعرفة أحكامه ، وشرحها ، وبيانها ، لمن تعرض لها مع التوفيق ، وسيأتي بيان ذلك في الأصل ، فراجع بعد هذا الكلام .

الحي القيوم ، لا بحياة الأشخاص مهما كانوا من العظمة ، فإن الله أعظم ، وإنهم خدم لشريعة الله، و ترجمان لوحيه .

إن عدم اعتراف - الذين لا يقولون : باستمرار مادة العصمة - بنقص الإسلام ، بناء على مذهبهم ورؤياهم لجمود الإسلام ، وعدم إمداده بالعلم ، هو عدم واقعية واضحة ، وهو مجافاة للعلم ، وللحقيقة . فإن الحقيقة ظاهرة ، بأن الإسلام بشكله غير المعصوم ، الذي يفرضونه ، لا يملك حلولا شرعية واقعية ، فيما لا نص فيه ، يمكن نسبتها إلى الله ، والتعبد عليها ، لأغلب المستجدات ، بل غير المستجدات ، فهناك أحكاما فقهية ، وأمورا عقائدية ، مختلف عليها من القرن الأول للإسلام ، ولم تحل ، ولم تحسم بعد لحد الآن ، فما يقوله البعض من كمال الدين ، بدون تعيين الوصي المعصوم ، الذي تنزل عليه ملائكة الرب ، كما في سورة الدخان ، وسورة القدر ، لهو مجرد كلام ، يعتمد على اللعب بمشاعر الناس بتقديس الإسلام الرسمي ، واعتقادهم إن القول بنقصه ، هو كفر ، أو خروج عن الدين ، وهذه مغالطة كبيرة ، فإن واقع الإسلام الرسمي ، هو خلاف هذا ؛ لأن هذا الذي يسمى الإسلام الرسمي ، والذي ترعاه الدولة لحد الآن ، لا يعرف كيف يعطي شرعية لفقيه ، أو لحاكم مسلم ، فكيف يدعون انه كامل ؟

ثم إن النقص الواضح ، في الفقه ، والتفسير ، والعقيدة ، والمباحث الدينية ، فتق لا يمكن

ص: 211

رتقه ، وحاشا لله أن يكون دينه ناقصا ، بهذا الشكل ، ولا يغني تهويش المغرضين ، بادعائهم : إن الدين الرسمي، الذي ترعاه الدولة كاملا ، والقول بنقصه ، رد على الله.

ومرة أخرى نقول : حاشا لله ، أن يجعل الدين ناقصا ، وقد أكمله – جل جلاله - بتعين مادة كماله ، واستمرار مادته بليلة القدر ، وإنزال خبر السماء على أولياءه المُخْلَصين ، الذين ينزل عليهم ملائكة الرحمة ، ويخبرهم بكل أمر – أو على أقل تقدير – بتفصيل البيان ، لما يكون من تلك السنة .

إن إسلام العصمة ، هو الإسلام الكامل ، المكتمل ، الذي لا فجوة فيه ، في كيفية الخروج عن عهدة التكليف ، بخلاف إسلام الجائرين ، والخطاة ، الذي لا توجد فيه طريقة شرعية ، للخروج من عهدة التكليف ، إلا في ضروريات الإسلام . وحين نقول : إنه لا توجد طريقة للخروج ، من عهدة التكليف ، نعني ذلك ؛ لأنه حتى لو قيل ، بوجود من يحتاط من الفقهاء ، الذين يقلدهم العامة ، فإن نفس الفقيه السلطاني ، لا يوجد دليل شرعي على صحة إتباعه ، بل لا دليل على اتباعه هو ، لما توصل إليه ظنه . فالمصيبة أعظم بكثير مما يتخيله عامة المسلمين ، فلم يستطع أحد من كل فقهاء مدرسة الخلفاء ، أن يثبت أي دليل على صحة التعبد بطريقه ، وانه هو طريق الله ، بينما بنفس الوقت ، نراهم يكفّرون المسلمين ، ويكفرون بعضهم ، وكأنهم يملكون الحقيقة ، التي يعرفون ما هي ، ويقتلون الناس على إتباع مذاهبهم ، ويقصون الآخرين ، وخصوصا شيعة أهل البيت ، وشيعة المهدي ، الذين يمتلكون الحجة الشرعية الناصعة ، التي تمكنهم من القول بالحجة ، والدليل بأن حكمهم مبرء للذمة ، ومخرج عن عهدة التكليف شرعا .

فما أعجب ما نراه ، من تسامح وسلمية من عنده الحجة مع الله ، وقساوة وعدوانية وتكفير ، من لا يملك مطلقا أية حجة الله . فنرى من لا يملك حجة ، يكفّر من يملك الحجة ، بدعوى إن مخالفته له هي الكفر . وهذا ما يجب أن يقف عنده المتأمل ، وأن يفكّر المفكّر في مسألة الأديان ، فمن يريد أن يصل إلى الله ، يجد هذا السلوك الفارق ، بين المنهجين دليلا مهماً ، يهتدي به في

ص: 212

وضع يده على بداية الطريق ؛ لأن غاية ما يريده المسلم ، هو الخروج عن عهدة التكليف ، وتحقيق رضا الله ، ببرهان وسلطان مبين ، كما يطلب الله - جلا جلاله - صراحة .

وهنا - يجب أن ننتبه إلى قضية مهمة ، وهي إن الاختلاف نفسه ، ليس دليل النقص ، بل انعدام الحجة ، هو دليل النقص الحقيقي . فالاختلاف ، مع عدم الحجة ، هو ضياع ، والاختلاف مع الحجة ، هو خيار ومرونة ؛ لأن أساس الخروج من عهدة التكليف ، هو الحجة مع الله ، ومن الله ، فما دام هذا قد حصل فلا مشكلة ، سواء وقع الخلاف ، أم لا .

ولكن الحكم ، بلا حجة ، هو عدم وفاء بمقتضى التكليف ، حتى لو كان مطابقا للواقع ، فضلا عن الخلاف فيه . وهذا أمر ، يدركه قلب كل مؤمن حقيقي ، له قوة من الحب الله ، ومن اليقين بالله، ومعرفة أن الله كريم رحيم ، وفي الوقت نفسه ، هو دقيق الحساب ، شديد العقاب ، فلا بد من التقيد ، بالخروج من عهدة التكليف.

ومن لا حجة عنده، متقوّل على الله أي تقول ، ومطرود من رحمة الله ، أي طرد . فلا يجوز الخلط بين من عنده حجة ، ومن لا حجة له ، ولكن الاختلاف دليل على عدم وحدة المنهج ، أو عدم وحدة النص . سواء كان عند من يمتلك حجة ، أم من يفتقر إليها.

اعتراض : إن هذه الإشكالية ، تركز على القيادة الإسلامية ، والأمر قد حسم قديما.

جواب : إذا كان الحسم ، وفق المنهج القرآني فلا اعتراض . ولكن نبئوني ، مَنْ منَ القادة المؤسسين ، لنظام القيادة ، قد كان بمستوى ما عرضته ، خصائص ليلة القدر؟ والذي يؤدي قطعا إلى العصمة ؛ لأن من ينبئه الله بإرادته ، لا يكون إلا موفّقا ، لا اعوجاج في سلوكه ، أو رأيه ، أو عمله ، و إلا لحسب خطأه أيماناً ، ومعصيته طاعة ، كما يحدث لكثير من المقلدة بعمى . بعمى . ولنا أن نتساءل - بعد ذلك - : ما معنى هذا الحسم ؟ هل معناه : انتصار القوة الدنيوية على الشرعية الإلهية ؟ فهذا من المخازي !! وهو الحادث مع كل الأسف !!

وإن كان معنى الحسم ، هو التأصيل الفكري ، فذلك أمر غريب ؛ لأن الأمر لم يحسم ، فهناك قناعة متزايدة في العالم الإسلامي ، ومطالبة واضحة بأن لا يبنى الفكر الإسلامي على خطأ

ص: 213

السابقين ، وإنما يؤخذ الإسلام من أصوله الأصلية ، وقد اكتشف الكثيرون تلك الأخطاء ، فالذي وصل إلى الحق كثيرون ، والساعون كثيرون عسى أن يصلوا .

وكل ذلك ، يدل على إن الأمر لم يحسم ، بل أخذ يتفاعل فكريا ، وعقائديا ، وقد ظهرت خلال القرون الأربعة الماضية، العشرات من التصحيحات ، والفروض ، بل والانتهاكات ، للأصول الأساسية المتسالم عليها - حتى عند المنتصرين بقوة السيف على الشرعية الإلهية - لتصحيح صورة أخطاء ، وردت في الماضي ، في مستند شرعية القائد ، والقيادة ، وصلاحيتها .

ومعلوم ، وجود الفرق ، منذ بداية الإسلام : بين من ينظر إلى الإمامة ، بمنظور الارتباط مع الله تعالى ، وأخذ الشرعية عنه ، وبين من يراها هملا ، متروكاً لرأي البشر .

اعتراض : إنه لا يمكن ، أن يوجد معصوم عن الخطأ .

جواب : أولا : هذا رد لنص القرآن الذي درسناه آنفا ، وليس ردا على الشيعة . ثانيا : ادعاء الوجود ملزم للمعترض بالتماس الدليل بالإمكان ، فكيف إذا كان موجودا فعلا ، والوجود أدل دليل على الإمكان ، كما هو حال الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). فهل هو غير معصوم ؟ أم هو معصوم في أشياء ، وخطاء في أشياء أخرى ! كما يحلو لبعض المسلمين أن يقول : بأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) معصوم في التبليغ فقط ، ولا أدري إن كانوا يصدقون ما يقولون ، فعلا ، إذن لا عقول لهم !! فإنهم إذا تعاملوا في السوق ، بقال يكذب عليهم مرة ، في اتجاه معين ، لا يصدقونه مطلقا ، ولكنهم يقبلون بإتباع عصمة رجل ، يحتمل كذبه وخطأه ، في كل شأن ، عدا آيات الله . فما أعجب هذا الإدراك ، الذي يحسدون عليه !!!

ثم إذا كانت العصمة ، من خلال تربية ، أو جهد إنساني يمكن أن نناقش ، ولكن إذا كانت بتوفيق ، وعناية إلهية، فهل لقدرة الله من حدود .

بحسب مناقشتي ، واحتكاكي الثقافي ، مع كثير من أصحاب هذه المقولة ، في العالم الإسلامي ، لم ألمس عند هؤلاء الناس ، أي شعور بالارتباط الخاص الله ، خصوصا لأوليائه مع المخلصين ، كالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والمعصومين من أهل بيته (علیهم السّلام)، حتى إن أحدهم صرح لي قائلا : «إننا

ص: 214

نرى الرسول إنسانا عاديا ، لا قابليات له خارقة للعادة البشرية ، ولكن يأتيه ملك ، فيبلغ ، ولم يأته ملك بغير القرآن مطلقا ، ولذلك هو نفسه ، يمكن أن لا يفهم القرآن ، وهو نفسه لا يعرف الإدارة الصحيحة ، وتركها إلى الناس ، بينما الآخرون ، رأوا إن إعداد القيادة ، أمر مهم جدا ، فأوصى بعضهم إلى بعض ، أو استلبها بعضهم من بعض ، كل حسب اجتهاده ، في كيفية الحفاظ على الإسلام».(1)

والمسلم الحقيقي ، كفيل برد هذا القول لما له من لوازم خطرة ، على اصل الإسلام ، وإلا فليطلب دينا غير دين الإسلام، الذي يقول كتابه العزيز ، عن رسول الله : ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى﴾ [النجم : 3] وإنه هو المبين للكتاب العزيز ... الخ .

مع العلم ، إن أغلب من يناقش هذا الأمر ، هم جبريون ، يرون : إن آثامنا من الله . ولكنهم لا يستسيغون ، أن كمال محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعصمته التامة من الله . وأما كمال أهل بيته ، فذلك مستحيل ، لأن يكون له علاقة بالله تعالى .

لماذا ؟

سلهم يرحمك الله لعلك تجد جوابا !! .

اعتراض : إذا كان المهدي ، يختفي أكثر من ألف سنة ، للخوف ، فما الفائدة من قائد خائف مئات - بل ألوف - السنين ، لينصر الدين ؟ .

جواب : هذا الإشكال ليس إشكالا على الإشكالية وإنما هو إشكال على التطبيق وقد كان هذا التعليل من قبل الشيخ المفيد (رحمه الله علیه)، المنحصر للغيبة ، وتبعه السيد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، وقد ورد في هذا التعليل روايات ، كما وردت روايات أخرى ، خالية من التعليل بالخوف ، وعلى هذا فإن بيان ومدلول الروايات ، ينقسم في اتجاهين :

ص: 215


1- كان هذا ، في لقاء خاص مع شخصية سنية عراقية رفيعة ، رحمه الله ، وقد كان ضحية من ضحايا نظام صدام ؛ لأن هذا الرجل كان زعيما سنيا يجمع بين زعامة الدين والعشيرة ، ورائدا للتسامح مع إخوانه المسلمين . وكان صريحا وجريئا في رأيه هذا .

الأول : يقول : أنه غاب للخوف .

والثاني : يقول : إن غيابه ، لأمر يريده الله .

وبملاحظة الروايات الكثيرة ، المبشرة بالمهدي ، منذ عهود ما قبل الرسالة الإسلامية ، إلى ولادته المباركة صلوات الله عليه ، وكونه مذخورا لأمر الله ؛ كيما يكون المصلح الأكبر ، الذي تتمناه الإنسانية ، فإن روايات الغيبة للخوف ، تصبح بحاجة إلى إعادة قراءة ؛ لتبيان مداليلها .

و الأمر ، ليس محصورا بروايات الخوف فقط ، بل هناك غيرها ، فيمكن جمعها ، مع روایات التوقف على أمر الله ، فلهذا لا نطرح روايات الخوف لمجرد التوهم ، من مثل هذا الإشكال ؛ لأن الجمع ممكن ، والفكرة صحيحة ، بناء على اختلاف الموضوعين ، فإن موضوع الخوف ، هو غيبته المباشرة ، حين داهمه الشرطة في الدار ، وكان صغيرا بعمر سبعة سنوات ، أو تسع ، أو لنقل في غيبته الصغرى ، بشكل إجمالي ، وهذه ليست الغيبة عن شيعته ، وإنما هي الغياب عن الشرطة ، والظُّلَمَة .

بينما الغيبة عن البشر ، لم تكن مرتبطة بالخوف ، أو غيره ، وإنما مرتبطة ، بإرادة الله ، وإعداده ، وتهيئة الظروف المناسبة لنجاح مهمته العالمية ، الإنسانية، التي حلمت بها الديانات، وسيتبين ذلك في موضوع التبشير بالغيبة ، وبالمهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). فليس هناك ، ما يجب تسميته ، بأنه تعليل منحصر وملزم ، حتى يتم هذا الإشكال ، ولهذا فإن الإشكال، غير ثابت من أساسه ، ولا يحتاج إلى رد وبدل.(1)

ص: 216


1- إن الخلط بين الغياب من الظُّلَمَة ، حين يداهمون البيت ، وبين الغيبة التي أعدها الله ، هو خلط يجمع بين الجهل ، وبين القصد من أجل التشهير، حتى بات من المسلمات ، عند المستهزئين بفكرة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أن يدعوا بأن الإمام غاب في السرداب ، والشيعة ينتظرونه في السرداب ، أو سيظهر من السرداب ، بخلاف كل مسلمات الشيعة ، وهذا هو المضحك المبكي حقا ، حيث يتداولون كما يحلو لهم أمر عقيدة عند قوم ، لا يعرفونها ، ولا يدرون ماهي أصلا !! وإليك - أيها القاريء اللبيب - نموذجا من هذا التداول حين يهرف البعض منهم بما لا يعرف : قال ابن خلكان في تاريخه : «هو ثاني عشر الأئمة الإثني عشر ، على اعتقاد الإمامية ، المعروف بالحجة ، وهو الذي تزعم الشيعة ، أنه المنتظر ، والقائم ، والمهدي ، وهو صاحب السرداب ، عندهم ، وأقاويلهم فيه كثيرة ، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان ، من السرداب بسر من رأى ، كانت ولادته يوم الجمعة ، منتصف شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، ولما توفي أبوه كان عمره خمس سنين ، واسم أمه خمط ، وقيل نرجس ، والشيعة يقولون إنه دخل السرداب في دار أبيه ، وأمه تنظر إليه ، فلم يعد يخرج إليها ، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين (وعمره يومئذ تسع سنين ، وذكر ابن الأزرق ، في تاريخ ميافارقين ، أن الحجة المذكور ، ولد تاسع شهر ربيع الأول ، سنة ثمان وخمسين ومائتين) وقيل في ثامن شعبان ، سنة ست وخمسين ، وهو الأصح ، وإنه لما دخل السرداب ، كان عمره أربع سنين ، وقيل خمس سنين ، وقيل إنه دخل السرداب ، سنة خمس وسبعين ومائتين ، وعمره (سبع) عشر سنة ، والله أعلم . (وفيات الأعيان لابن خلكان : 4 : 176) وقال السمعاني في الأنساب : 3 : 202 : «وبها السرداب المعروف في جامعها ، الذي تزعم الشيعة ، إن مهديهم يخرج منه». والحقيقة ، إن هذه الفكرة ، لا يعتني الشيعة بها كثيرا ولا يعرفها الشيعة بهذه الكيفية ، ولا الشيعة يقولون ذلك ، وإنما هي روايات سلطانية ، تقول إنه (علیه السّلام) دخل السرداب ، وهم ينظرون إليه ، ولم يرونه ، فهذه روايتهم ، وأما الشيعة ، فإنهم يتبركون بالسرداب ؛ لأنه معبد ثلاثة من أئمتهم ، في عزلتهم . وليس لأنه غاب السرداب ، ولهم مراسم زيارة لهذا المكان المبارك، الذي باركه أئمة آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بالصلاة والعبادة . قال الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (رحمه الله علیه)، نافيا هذه الكذبة ، وشارحا لحقيقة الزيارة للسرداب ، في بيت الإمام (علیه السّلام): «لا كما قال محمود الآلوسي في تفسيره مستهزئاً : ينبغي أن توضع هذه السهام في مثل هذه «الأيام في السرداب . روح المعاني : 10 : 5 !! مشيراً إلى ما يرمون به الشيعة ، من أن الإمام غاب فيه ! ! وقد أوضحنا - غير مرة - أن من الأغلاط الشائعة عند القوم - من سلفهم إلى خلفهم وإلى اليوم - زعمهم أن الشيعة ، يعتقدون غيبة الإمام في السرداب ، مع أن السرداب لا علاقة له بغيبة الإمام أصلا، وإنما تزوره الشيعة ، وتؤدي بعض المراسم العبادية فيه ؛ لأنه موضع تهجد الإمام ، وآبائه العسكريين ، ومحل قيامهم في الأسحار ، لعبادة الحق جل شأنه» . أصل الشيعة وأصولها للشيخ كاشف الغطاء : 245 . وحقيقة القصة ، كما تتبعتها ، هي : إن شرطة ، وجلاوزة السلطان الحاقد، على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان قد بعثهم خليفتهم ، لقتل صاحب المنزل (الإمام كما يبدو) ولكنهم لم يستطيعوا ، ففي رواية أنه غاب عن نظر مدير الشرطة ، وفي ثانية قال : أنه حيل بينه وبينهم بالماء . ويبدو إنها قصة واحدة ، وردت بشكل قصتين ، الثانية مكملة للأولى ، والقصتان سنيتان سلطانيتان ، عن رشيق صاحب المادراي ، فهي قصتهم وليست قصة الشيعة ، كما هو ظاهر للعيان ، والشيعة لا يعرفون هذه القصة إلا من طريقهم ، وأما بناء عقيدة ، وتصورات عليها ، فهذا من شأنهم وخيالهم ، ولا شأن للشيعة به ، ومن يتبعهم سنيا كان ، أو شيعيا ، إن وجد ، فهو يجهل أبسط حقائق الفكر ، والتاريخ الشيعي . وهذه هي القصة بالكامل منقولة عن بحار الأنوار: 51:48: «... وحدث عن رشيق صاحب المادراي ، قال : بعث إلينا المعتضد ، ونحن ثلاثة نفر ، فأمرنا أن يركب كل واحد منا فرسا ، ويجنب آخر ، ونخرج مخففين ، لا يكون معنا قليل ، ولا كثير ، إلا على السرج مصلى (كذا) وقال لنا : الحقوا بسامرّة ، ووصف لنا محلة ودارا ، وقال : إذا أتيتموها تجدوا على الباب خادما أسود ، فاكبسوا الدار ، ومن رأيتم فيها فائتوني برأسه . فوافينا سامرة ، فوجدنا الأمر كما وصفه ، وفي الدهليز خادم أسود ، وفي يده تكة ينسجها ، فسألناه عن الدار ومن فيها ، فقال : صاحبها ، فوالله ، ما التفت إلينا ، وقل اكتراثه بنا ، فكبسنا الدار كما أمرنا ، فوجدنا دارا سرية ، ومقابل الدار ستر ، ما نظرت قط إلى أنبل منه ، كأن الأيدي رفعت عنه ، في ذلك الوقت ، ولم يكن في الدار أحد . فرفعنا الستر ، فإذا بيت كبير ، كأن بحرا فيه ، وفي أقصى البيت حصير ، قد علمنا أنه على الماء ، وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة ، قائم يصلي ، فلم يلتفت إلينا ، ولا إلى شيء من أسبابنا ، فسبق أحمد بن عبد الله ؛ ليتخطى البيت فغرق في الماء ، ومازال يضطرب ، حتى مددت يدي إليه ، فخلصته، وأخرجته ، وغشي عليه ، وبقي ساعة ، وعاد صاحبي الثاني ، إلى فعل ذلك الفعل ، فناله مثل ذلك ، وبقيت مبهوتا . فقلت لصاحب البيت : المعذرة إلى الله وإليك ، فو الله ما علمت كيف الخبر ، ولا إلى من أجيء ، وأنا تائب إلى الله ، فما التفت إلى شيء مما قلنا ، وما انفتل عما كان فيه ، فهالنا ذلك ، وانصرفنا عنه . وقد كان المعتضد ينتظرنا ، وقد تقدم إلى الحجاب : إذا وافيناه ، أن ندخل عليه ، في أي وقت كان. فوافيناه في بعض الليل ، فأدخلنا عليه ، فسألنا عن الخبر ، فحكينا له ما رأينا ، فقال : ويحكم ، لقيكم أحد قبلي ، وجرى منكم إلى أحد ، سبب أو قول ؟ قلنا : لا ، فقال : أنا نفي من جدي (أي لا جد لي) وحلف بأشد أيمان له ، أنه رجل ، إن بلغه هذا الخبر ليضربن أعناقنا ، فما جسرنا أن نحدث به إلا بعد موته. واكمل صاحب البحار السرد الروائي : عن رشيق صاحب المادراي، مثله ، وقال في موضع آخر : ثم بعثوا عسكرا أكثر ، فلما دخلوا الدار ، سمعوا من السرداب قراءة القرآن ، فاجتمعوا على بابه ، وحفظوه، حتى لا يصعد ، ولا يخرج ، وأميرهم قائم ، حتى يصلي العسكر كلهم ، فخرج (من) السكة ، التي على باب السرداب ، ومر عليهم ، فلما غاب ، قال الأمير : انزلوا عليه ، فقالوا : أليس هو مر عليك ؟ فقال : ما رأيت ، قال : ولم تركتموه ؟ قالوا : إنا حسبنا أنك تراه.

ص: 217

ص: 218

وهناك – أيضا – اعتراضات كثيرة : مبنية كلها على القول بالاجتهاد بالأصول ، في مجال التشريع . والاكتفاء بتشخيص البشر ، في مجال الموضوعات الخارجية . وإن الخطأ مغفور ، وغير مخل ... الخ .

والجواب عليها - كلها - واحد : هو عدم كفاية الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي إلا بمقدار المعذورية ، وبحدود استنفاذ الجهد ، في سبيل الوصول إلى الوظيفة . وبغير ذلك ، فإن الله في كل واقعة حكم ، وإن حكمه نافذ ولازم ، ولا تُعذر بترك الوسيلة إليه ، والاستغناء عنها ، بالتهرب إلى قواعد الرفع، والإذن ، فيما نجهل (البراءة) ... الخ .

والخطأ المغفور ، هو ما دون العمد ، ومن دون تقصير ، وإلا فسيكون لا معنى للخطأ أصلا ، وسيكون - عندها - كل خطأ صواب ، حتى لو أدى إلى قتل ثلث الأمة ، كما ذهب بعض الأئمة ، بدعوى استصلاح ثلثيها الباقيين.(1)

فكل من هو ، على هذا الاتجاه ، فهو على صواب ، حسب هذه النظرية ، وهذا أعظم من العصمة المدعاة ؛ لأنه مبنى على نظرية التصويب . وهي أن المجتهد مصيب ، حتى لو خالف حكم الله ؛ لأن الله سيغير حكمه ، وفق ظن المجتهد ، الذي قضى بذلك الأمر (انظر القول الثاني في الحاشية)(2).

ص: 219


1- جاء في الفصل الأخير من كتاب المنخول من تعليقات الأصول : الإمام الغزالي : 1 : 500 : ما نصه : «فأما [الإمام] مالك - رحمه الله - فقد استرسل على المصالح المرسلة استرسالا ، جره إلى قتل ثلث الأمة ، لاستصلاح ثلثيها ، وإلى القتل في التعزير ، والضرب ، بمجرد التهم».
2- هناك نظريتان في التصويب هما : النظرية الأولى : خلو الوقائع والأحداث ، عن الأحكام الواقعية . وهي تابعة لنظر المجتهد ، فالحكم الإلهي يدور مدار نظر المجتهد. قال الإمام أبو حامد الغزالي في المستصفى : 2 : 363 : «فالذي عليه محققو المصوبة ، أنه : ليس في الواقعة ، التي لا نص فيها ، حكم معين ، يطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي» . (انتهى) . أقول : وهذا القسم هو اختيار الشافعي ، والشافعية . وهو اختيار أبي حنيفة – أيضا – كما يظهر من مجمل المذهب . وقد سميت هذه النظرية ب_(نظرية التصويب الأشعري) ولا أعرف سبب هذه التسمية ، فهي قبل الأشعري – قطعا . النظرية الثانية : حصول الحكم في الواقع ، ولكنه معطل ، بسبب مصلحة متولدة من ظن المجتهد ، وفعلية الأحكام تابعة لظن المجتهد ، وفق المصالح ، والمفاسد ، التي يشخصها المجتهد ، وأما الأحكام الواقعية ، فلا فعلية لها ، وهي في مرحلة الشأن بلا تكليف . والتكليف على المجتهد ، قبل المكلف ، إنما هو في إعمال ظنه ، لا طلب حكم الله الواقعي !! قال الإمام أبو حامد الغزالي في المستصفى : 2 : 366 : «وذهب قوم من المصوبة ، إلى أن فيه حكما معينا ، يتوجه إليه الطلب . إذ لابد للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد إصابته ، فلذلك كان مصيبا ، وإن اخطأ ذلك الحكم المعين ، الذي لم يؤمر بإصابته . بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه» . (انتهى) . وقد نسب هذا القول إلى الشافعي ، ونسبه آخرون إلى المعتزلة ، ومن الصعب البت في ذلك . أقول : لا يخفى أن القول الثاني عجيب جدا ؛ لأن الحكم مساوق للتكليف ، وإلا فلا معنى له ، وهذا القول يقول بوجود حكم ، ولكنه لا تكليف به . فما معنى الحكم ، إذا لم يكن مكلف به ؟ وهل هو مجرد رأي يطير في الفضاء ؟ والواقع في مآل هذا القول ، هو خلو الواقعة من حكم ؛ لأنه لم يقل بعدم تنجيز الحكم ، وإنما قال بعدم التكليف به ، وإن التكليف ، كان (بسعي المجتهد) فهو بحسب ظاهر الكلام : التكليف الواقعي ، وأما غيره من تفصیلات ، فلا تكليف بها . انظر قوله : (بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه) . وهذا نوع من اللف والدوران ، حول أمر واحد ذي مؤدى واحد . بقي أن نقول : إن التكليف بالحكم الظاهري ، لا ينفي التكليف بالحكم الواقعي ، ولكن - كما هو معلوم - فإن التنجيز تابع للعلم ، فإذا حجب الحكم الواقعي ، تعين التكليف بالحكم الظاهري - عذرا لا تحقيقا - كما لا يخفى . لذلك فنحن نقول بأن المجتهد مخطيء ، إذا لم يصب الحكم الواقعي . ولكنه معذور إذا لم يقصر في تحصيل الحكم الشرعي .

فأين هذا من العصمة ؟

ص: 220

إن فيه من الخطورة ما فيه ؛ لأن المجتهد - حسب هذا الرأي - حاكم على الله ، وأحكام الله بيده ، لا أنه يعمل بأمر الله، ويطيعه ، ولو على أذى نفسه ، فداءً لله ، وأن الله ، لا يأذن له بالمخالفة الواقعية ، بل يعلمه ، ويكشف له الأمور ، بتفصيلاتها ، كما هو حال المعصوم .

والحق أقول : إن أغلب مثقفي هذا الزمن ، لا يعلمون أن مذهبهم الأساسي ، هو التصويب ، وإن أول من نادى إليه علانية ، هو الإمام أبو حنيفة ، وبنى عليه قواعد فقهية ، وفرّع عليها كثيرا ، وتبعه على ذلك القوم ، وسنورد مثالا واحدا وهو : «ولو أن كاذبا ، أشهد كاذبين زورا ، عند القاضي ، على أن فلانة ، التي هي الآن عند فلان ، وزوجته بالشياع ، والعشرة ، والشهرة ، إنما هي زوجة ذلك الكاذب ، وكان القاضي ، يعلم كذبه يقينا ، ولكنه لأمر ما حكم له : بأن هذه المرأة ، زوجته ، حلّت له بينه وبين الله ، وحرمت على زوجها ، بينه وبين الله»!!!.(1)

ص: 221


1- المنخول في تعليقات الأصول للإمام الغزالي : 1: 503 : وقد قال فيه - متحدثا عن مخالفات أبي حنيفة للشرع الإسلامي - : «ثم أردف جميع قواعد الشريعة ، بأصل هدم به شرع محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) قطعاً ، حيث قال : شهود الزور ، إذا شهدوا كاذبين، على نكاح زوجة الغير ، وقضى به القاضي مخطئا ، حلت الزوجة للمشهود له ، وإن كان عالما بالتزوير ، وحرمت على الأول ، بينه وبين الله» (انتهى) . أقول : هذه الفتوى من أبي حنيفة ، منسجمة مع نظرية التصويب . وهي نظرية ، يؤمن بها الشافعي، والغزالي - نفسه - كونه شافعيا ، وقد صرّح - من قبل - بصحة النظرية وحقيقيتها ، فلا يُعلم لماذا ينتقد هذا الأصل ، المبني على نظرية أساسية في طبيعة التشريع ؟ فالقاضي يحسب إن حكم الله هو ما غلب على ظن القاضي ، أو ما حكم به القاضي ، فحكمه سيكون حكم الله - قطعا ! ولهذا نجد أن مشكلة الغزالي ، لا تحل بسهولة ، بمجرد نقده ، وتخليه عن هذه الفتوى وهو يقول بنظرية التصويب . نعم قد يناقش ويقول : إن المقبول - عندنا - أنه يوافق ظن المجتهد ، وهنا حكم القاضي بخلاف علمه ، وظنه ! فنقول : وما يدريه ، فلعله ظن أن البينة ، شكلا ، كافية في تكوين الحكم ، لدى القاضي ، فحكم على الصيغة الشكلية لتأسيس الحكم ، أو أنه يرى مطلق متابعة الله لحكم المجتهد . ولهذا فالخطأ عليه أجر – عند المصوبة – بخلاف المخطئة كالشيعة الإمامية . ومن خلال نفس الفتوى ، يتبين إن الإجزاء - عنده - معتمد على حكم المجتهد ، وليس على ظنه ، أو علمه . ولهذا صحح الصورة الشكلية ، من المقاضاة ، واعتبر العلقة الزوجية ، قد تبدلت عند الله ، نتيجة هذه الصورة الشكلية ، من التقاضي ، بواسطة الصورة الشكلية ، من البينة . وهذا واضح من الفتوى ، ولا يحتاج إلى جدال .

ومن أراد المزيد ، عليه مراجعة كتب الفقه ، كالأشباه والنظائر في الفقه الحنفي ، والمغني في الفقه الحنبلي ، يجد ما يجعل حكم القاضي ، نافذا ، قبل حكم الله الأولي ، في موارد كثيرة ، واللبيب يفهم ذلك ، ويعرف كيف يجد موارد تطبيق تلكم النظرية . وهو سيعرف حتما خطورتها وأثرها في هدم الشريعة المقدسة .

فأين نظرية العصمة الواضحة الجلية التي تدعم بنيان الشريعة المقدسة ، من هذا الأمر العظيم ؟ ذلك إن الفرق بين المعصوم ، وبين من يقول بالتصويب ويعمل به.

هو الفرق بين عبد الله يأتمر بأمره ولا يعصيه طرفة عين أبدا ، وبين سيد يحكم على الله عز وجل برأيه ، مهما خالف الشريعة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

وكان هذا الأمر ، مدار بحث طويل ، قد تجاوز القرن السابع الهجري ، بين الإمامية المخطئة للمجتهد ، وبين غيرهم المصوبة له . ومن شاء أن يراجع كتب الأصول القديمة فإنه سيجد - هنالك - ضالته.(1)

ص: 222


1- لعل خير المصادر في هذا الباب هو : المستصفى والمنخول للإمام الغزالي . كما إنه يجب أن نشير إلى أن الزيدية ، يقولون بالتصويب - أيضا - فقد ذكر العلامة الزيدي : صارم الدين بن محمد الوزير ، في كتابه : (الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة الزكية) : إن مذهب متأخري أئمة الزيدية ، وجمهورهم : أن لا حكم في الاجتهاديات ، الله تعالى ، معين ، قبل الاجتهاد ، بل كلها حق . و أنه لا أشبه فيها عند الله تعالى ، «وإنما مراده، تابع ، لظن كل مجتهد» . وهذا نص كلامه : الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة الزكية : 291 : « [حكم الله في الاجتهاديات] (273) فصل : واختلف في المسائل الشرعية الظنية ، فقيل : الله تعالى فيها حكم معين ، قبل الاجتهاد ، فالحق فيها واحد ، وهو قول (الناصر) في رواية ، و (أبي العباس) وقديم قولي (المؤيد بالله) . ثم اختلفوا ، فعند (الأصم ، والمريسي ، وابن عليَّة ، ونفاة القياس) : إن عليه دليلاً قاطعاً . واختلفوا في مخالفه ، فقيل : معذور ، وقيل : مأزور . (الأصم) : «وينقض حكمه بمخالفته» . (بعض الفقهاء ، والأصوليين) : بل ظني ، ومخالفه معذور ، مأجور ، مخطيء . بالإضافة إلى ما طلب ، لا بالإضافة إلى ما وجب . (بعض الفقهاء ، والمتكلمين) : لا دليل عليه ، قطعي ولا ظني ، وإنما هو كدفين يصاب ، فلمصيبه أجران ، ولمخطئه أجر . وقيل : لا حكم فيها الله تعالى ، معين قبل الاجتهاد ، بل كلها حق . ثم اختلفوا ، فعند متأخري أئمتنا ، والجمهور : «أنه لا أشبه فيها عند الله تعالى ، وإنما مراده [مراد الله] تابع لظن كل مجتهد ، وكل منها أشبه ، بالنظر إلى قائله » . بعض الحنفية ، والشافعية : «بل الأشبه منها ، عند الله ، هو مراده منها ، ولقبوه : الأصوب ، والصواب ، والأشبه عند الله تعالى ، وقد يصيبه المجتهد ، وقد يخطئه ، ولذلك قالوا : أصاب ، اجتهاداً لا حكماً» . واختلفوا في تفسيره ، فقيل : ما قويت أماراته ، وقيل : الحكم ، الذي لو نص الشارع ، لم ينص إلا عليه ، وقيل : الأكثر ثواباً ، وقيل : لا يفسر ، إلا بأنه أشبه فقط . ونقل عن الفقهاء الأربعة : التصويب، والتخطئة . وقول قدماء أئمتنا ، وفعلهم ، يقتضي التصويب ، كمتأخريهم . وقد يقع في كلام بعضهم ، ما يقتضي التخطئة ، وهو رأي بعض شيعتهم ، ولذلك كانت (القاسمية) من الديلم ، و (الناصرية) من الجيل ، يخطيء بعضهم بعضاً ، إلى زمن (المهدي أبي عبد الله بن الداعي) فأوضح لهم : أن كل مجتهد مصيب، وكذلك كان جمهور (اليحيوية) باليمن ، يخطئون مخالف (يحيى) إلى زمن (المتوكل أحمد بن سليمان) . وما ورد عن الوصي، وغيره من الصحابة ، وغيرهم ، مما يقتضي خلاف التصويب ، فمتأول» . (انتهى) أقول : أغرب ما في هذا ، مخالفة الوصي صلوات الله عليه ، وتأويل كلامه ؛ لاجتهاد باطل – قطعا – يمحق الدين ويهدم أسسه. وقد رد احد أئمة الزيدية وهو الإمام الزيدي القاسم بن محمد (المتوفى عام 1029) نظرية التصويب كاجتهاد منه مقابل اجتهادهم ، حيث قال في كتابه (الإرشاد الهادي إلى سبيل الرشاد) : وأما قولهم : لا حكم الله فيها معين ، فنقول - وبالله التوفيق - : لا يخلو إما أن يكون الحكم الذي حصل بنظر المجتهد ، مما أنزل الله تعالى ، أو لا . إن كان مما أنزل الله ، بطل قولهم ، وصار معينا عند الله سبحانه . لأنه لا ينزل - سبحانه - إلا ما قد عينه ، وأثبته ، إذ خلاف ذلك لا يصدر ، إلا عن جهل ، أو ذهول ، والله تعالى منزه عنهما ، وأيضا فالله سبحانه قد أثبته ، إذ أنزله ، وعلم من حصله بنظره ، وكلَّفه أن يعمل به ، فكيف لا يكون مع ذلك معينا عنده ، وإن كان من غير ما أنزل الله - سبحانه - فليس من الشرع ، حيث لم ينزله ، وقد قال الله تعالى : ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأَوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة : 45] ونحوها ، ولم يفصل . وأما قولهم : إن مراد الله ، تابع لما أداه نظر المجتهد ، لا أن نظر المجتهد تابع لمراد الله ، فنقول - وبالله التوفيق - : لا يخلو إما أن يكون ما أداه نظر المجتهد من الحكم ، مما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو لا ، إن كان الأول ، بطل قولهم ؛ لأن جميع ما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، مراداً الله تعالى ، وذلك معلوم من الدين ضرورة ، وأيضا جميع ما جاء به الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، و صراط الله المستقيم وقد قال تعالى : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطي ، مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام : 153] وذلك نص في إتباع صراطه ، الذي هو مراده تعالى ، بلا خلاف ، وإن كان الثاني فليس من الشرع ؛ لأنه ليس مما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا من صراط الله ، الذي أمر بإتباعه وإنما هو من السبل التي قال تعالى فيها : ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكُمْ عَن سَبيله﴾ [الأنعام : 153] . وأما قول بعضهم : لأنه لا يخلو ، إما أن يريد الله سبحانه ، من كلّ ما أداه إليه نظره ، أو يريده من بعض دون بعض ، أو لا يريده من كلهم ، الثالث باطل ؛ لأنه خلاف الإجماع ، والثاني باطل – أيضا – لأنه محاباة ، ومن بها وصف الله ، كفر . فثبت الأول ، فنقول - وبالله التوفيق - : إن هذا القول لا يخلو من جهل ، أو تمويه على الجهال ، الذين لايفهمون ، لأن القائلين بتحريم الاختلاف ، يقولون إن الله يريد من كلّ ، في كل قضية ، طلب حكم واحد ، إذ أمر الله سبحانه بالاجتماع في الدين، دون التفرق ، فإن اجتمعوا عليه ، فذلك مراده منهم ، وإن أصابه بعض ، وأخطأه بعض ، فقد أصاب مراده - تعالى - المصيب ، وأخطأه المخطيء ، فهذا خارج من ذلك التقسيم .

ص: 223

ومن الجميل أن نقرأ ما قاله الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله علیه) في وصف نظرية التصويب ، وإنها تجعل من الاجتهاد ، عملية تشريع ظاهر ، وليس استكشافا لحكم الله ؛ لأنه لا حكم الله في الوقائع - حسب دعواهم - :

الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس (قدس سره)(1):

«فكرة النقص في الشريعة(2) التي قام على أساسها القول بالتصويب ، تجعل عمل الفقيه ، في مجالات الاجتهاد ، عملا تشريعيا لا اكتشافيا ، فالعقل بمعناه المنفتح ، أو الاجتهاد ، في مصطلح الاتجاه العقلي المتطرف ، لم يعد - على أساس فكرة النقص في الشريعة – كاشفا عن الحكم

ص: 224


1- المعالم الجديدة للأصول : 39 .
2- اشرنا إلى المعنى الباطل من القول بنقص الشريعة والعياذ بالله ، وحيث إن الشهيد - رضوان الله عليه – يقرر فكرهم لا فكره فقد حاكم على أساسه .

الشرعي ، إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت ، في مجالات الاجتهاد ، ليكشف عنه الاجتهاد ، وإنما هو أساس لتشريع الحكم ، من قبل المجتهد ، وفقا لما يؤدي إليه رأيه ...

وإنما نستهدف الكشف عن خطورة الاتجاه العقلي المتطرف ، وأهمية المعركة ، التي خاضتها مدرسة أهل البيت (علیهم السّلام)، ضد هذا الاتجاه، إذ لم تكن معركة ضد اتجاه أصولي فحسب ، بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة ، وتأكيد كمالها ، واستيعابها ، وشمولها لمختلف مجالات الحياة ، ولهذا استفاضت الأحاديث ، عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) في الليلية عصر تلك المعركة ، تؤكد اشتمال الشريعة على كل ما تحتاج إليه الإنسانية، من أحكام، وتنظيم ، في شتى مناحي حياتها» . (انتهى) .

أقول : ليست فكرة النقص ، هي التي قام على أساسها التصويب ، وإنما هي عليها المعالجة التبرعية لتغيير الشريعة ، وفق رغبة وظن الحاكم ، وقد بدا واضحا إن دعوى سد النقص بالتصويب ، إنما هي شماعة ، تعلّق محاولة التفافية على أسس الشريعة . لأنه يمكن سد النقص المدعىبطرق معالجة التكليف لبراءة الذمة بدون ادعاء صواب المجتهد وإتباع الله لظن المجتهد .

ويجب أن نضيف : إن تلك المعركة [ معركة التخطئة والتصويب ] هي معركة تثبيت الإسلام ، مقابل دعاوى التشريع قبالة الله ، وإن الله تابع للمشرع الأرضي، في أحكامه . وهذه المعركة واضحة في سيرها ، وفي دوافعها ، إنها مختلقة ، من أجل إعطاء صلاحيات إلهية للفقيه ، الذي يعمل تحت إمرة الحاكم ، من أجل تسهيل أموره ، باعتباره مشرعا حاكما على الله . فالقضية لم تكن مجرد اتهام الشريعة بالنقص من الأصل ، أي من الله ، وإنما خرجوا بحل بسيط جدا ، وهو كون المجتهد مشرع ، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد !!! وبعد كل هذا ، يُنتقد قول الشيعة بعصمة أئمتهم ، العصمة التي هي بمعنى التزام المعصوم بالشرع الرباني ، وعدم زيغه من مراد الله ، بأوامره ، ونواهيه . وهذا هو المعنى الواضح والدقيق

ص: 225

للعصمة ، التي يؤمن بها الشيعة ، دون أي معنى آخر ، قد يتوهمه غيرهم فيهم ، وفيما يؤمنون به ، فأين هذا من ذاك؟(1)

ص: 226


1- من الملاحظ ، إن القرآن الكريم ، عد التشريع ، بدون إذن من الله ، من الموبقات ، التي توعد الله عليها بالعذاب ، وبالتأمل في الآيات القرآنية ، نجد إن القرآن الكريم ، وصف من يفتي ، مشرعا لا مستكشفا للحكم الشرعي ، بأنه ضال ، ومشرك ، ويعبد غير الله ، وله عذاب أليم ... الخ ، وهذا الحال لا شك فيه بالنسبة للنصوص . ولكن قد يدعي البعض ، إنه لا يشمله ، باعتباره نطق بالشهادتين ، إلا أن النصوص عامة ، وصحة إسلام المرء ، هي حكم على التعامل البشري ، ولا علاقة لها بالجزاء الأخروي ، بمعنى إن النسبة إلى الإسلام ، لا تمنع من الجزاء الأخروي ، فالعقوبة هي على المخالفة ، وليست على العنوان . وعلى كل حال نحتاج ، من أجل معرفة الحقيقة ، إلى نفس صافية ، للتأمل في الآيات الشريفة. وهل تدل على نبذ المرتكب لمثلها ؟ وهل ينطبق على المشرع ، دون الكاشف عن الحكم ؟ وعن المؤصل دون المعذر ؟ فهذا متروك لضمير ، وعلم القاريء الكريم ، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصفُ السنَتْكُمُ الكَذبَ هَذَا حَلال وَهَذَا حَرَامٌ لَتَفْتَرُوا عَلَى اللَّه الْكَذبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ ليمٌ﴾ [النحل : 116 - 117] . وقال تعالى : ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهَا بغَيْر علم وَحَرَّمُوا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّه قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام : 140] . وقال تعالى : ﴿وَمِنْ الإبل اثْنَيْنِ ومن البقر التين قُلْ الذكرين حَرَّمَ أم الأنتيين أمَّا اسْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنتيين أمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَاكُمُ الله بهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى الله كَذبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بغَير علم إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام : 144] . وقال تعالى : ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبيل الله بغير علم وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أولَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان : 6] . وقال تعالى فيمن يحرّم حين لا يجد نصا : ﴿وَمَا لَكُمْ ألا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأنعام : 119] . وقال تعالى : ﴿ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْتْ حجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمهِمْ وَأَنْعَامَ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامَ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام : 138] . وقال تعالى : ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ به اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى : 21] . وقال تعالى : ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَير الحق وأن تشركوا بالله مَا لَمْ يُنَزِّلُ به سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف : 33] . والشرك نوعان : الأول شرك الألوهية ، والثاني شرك التشريع ، والآية كما الآيات التالية ، تشمل النوعين ، والسياق هو الشرك التشريع ؛ لأنه في سياق التحريم ، والتحليل ، وهو التشريع . وقال تعالى : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه مَا لَمْ يُنَزِّلُ به سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ به علم وَمَا لِلظَّالمين من نصير﴾ [الحج : 71] . وقال تعالى : ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّه مَا لَمْ يَنزَلْ به سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبَئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران : 151] . ﴿إِنَّمَا النَّسي زيَادَةٌ في الكُفْرِ يُضَلُّ به الَّذِينَ كَفَرُوا يُحلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِتُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحلُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زَيَّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكَافِرِينَ﴾ [التوبة : 37] . وهذه الآيات محل تدبر ، وتفهم ، واجتهاد في التوجيه ، والله العالم .

ص: 227

ص: 228

الفصل الثاني

حل الإشكالية بمفهوم أهل البيت (علیهم السّلام)

ص: 229

ص: 230

عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال :

«يا معشر الشيعة ، خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تفلحوا (تفلجوا) فوالله ، إنها لحجة الله - تبارك وتعالى - على الخلق ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنها لسيدة دينكم ، وإنها لغاية علمنا».(1)

وقال الإمام الباقر (علیه السّلام) عن ليلة القدر المباركة :

«فضل إيمان المؤمن ، بحمله ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ وبتفسيرها ، على من ليس مثله ، في الإيمان بها ، كفضل الإنسان على البهائم».(2)

وقال (علیه السّلام):

هي : (سورة القدر) نعم رفيق المرء ، بها يقضي دَينَه ، ويعظم دينه ، ويظهر فلجه ، ويطول عمره ، ويحسن حاله، ومن كانت أكثر كلامه ، لقي الله تعالى ، صديقا ، شهيدا .(3)

ص: 231


1- الكافي : 1 : 249 .
2- الكافي : 1 : 251 .
3- جامع أحاديث الشيعة : 15 : 129 .

ص: 232

حل الإشكالية بمفهوم أهل البيت (علیهم السّلام)

قلنا : بأن القرآن الكريم ، أوجد مشكلة عويصة ، ومعادلة خطيرة ، ولا بد من حلّها بالعين ، بعد الصفة ، وهذا غير متوفر - كما نعلم - إلا عند أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)، حيث حددوا ذلك ، وحلّوا الإشكال بكل وضوح.

وحل الإشكالية عند أهل البيت ، هو تحقق ما قاله القرآن الكريم ، من نزول الملائكة ، على عبد مؤتمن ، يبلغه الأمر ، من لدن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إلى زمننا ، إلى أن يشاء الله ، من الحساب لعباده ، المقصودين بالإنذار.

وهذا النذير ، هو الإمام (علیه السّلام)، وهو نذير من قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وليس هو مؤسس رسالة ، ولا هو نبي ، ولا يجوز إطلاق ذلك عليه .

وقد لخص مولانا الإمام الباقر (علیه السّلام)، العلاقة بين الإشكالية ، وبين الواقع . وبيّن أن الواقع العملي ، هو الذي يحل الإشكالية ، بتسلسل منطقي ، وبجواب علمي مفحم .

فلنقرأ هذه الرواية ، قبل كل قراءة ، لنعرف - الآن - مجمل جواب أهل البيت عن الإشكالية ، وبعد ذلك نبحر في كلماتهم(1):

ص: 233


1- أغلب روايات هذا الباب، مبنية على العباس بن حريش ، الذي ضعفوه ، وسنبين حال التضعيف ، وحال المعنى ، الذي عرضه في مروياته ، وانه مما لا يحتاج إلى سند ، لوضوح الحجة ، والدلالة فيه ، وهذا يغني عن السند ، وسنناقش موضوع بعض الخلل في الروايات . وسنبين أن التضعيف اجتهاد حدسي مبني على عدم تعقل الإشكالية برمتها عند بعض أوائل الجارحين ، وسنبين أن هذه الروايات مدعومة بغير روايات ابن حريش ، وهذا يعضد السند سواء بالقول بكونها شاهدا داعما مفصلا للصحيح من الرواية أو بجبرها بالروايات الصحيحة الصريحة . ومبناي القول بكليهما باعتبارين مختلفين .

الشيخ الكليني(1):

عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال :

يا معشر الشيعة ، خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تفلحوا (تفلجوا) فوالله ، إنها لحجة الله - تبارك وتعالى - على الخلق ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنها لسيدة دينكم ، وإنها لغاية ، علمنا . يا معشر الشيعة خاصموا ب_﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة إِنَّا كُنَّا منذرين﴾ [الدخان : 1 - 3 ] فإنها لولاة الأمر خاصة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). يا معشر الشيعة يقول الله تبارك وتعالى : وإن مِّنْ أُمَّة إلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] . قيل : يا أبا جعفر ، نذیرها محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). قال : صدقت ، فهل كان نذير ، وهو حي ، من البعثة في أقطار الأرض؟ .(2) فقال السائل : لا . قال أبو جعفر (علیه السّلام): أرأيت بعيثه ، أليس نذيره ، كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في بعثته من الله - عز وجل - نذير . فقال : بلى . قال : فكذلك ، لم يمت محمد ، إلا وله بعيث نذير . قال : فإن قلت لا ، فقد ضيع من في أصلاب الرجال من أمته . قال : وما يكفيهم القرآن ؟ قال : بلى، إن وجدوا له مفسرا . قال : وما فسره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال : بلى ، قد فسره لرجل واحد ، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل . وهو علي بن أبي طالب (علیه السّلام). قال السائل : يا أبا جعفر ، كأن هذا أمر خاص ، لا يحتمله العامة ؟ قال : أبى الله أن يعبد إلا سرا ، حتى يأتي إبان أجله ، الذي يظهر فيه دينه ، كما أنه كان رسول الله ، مع خديجة مستترا ، حتى أمر بالإعلان . قال

ص: 234


1- الكافي : 1 : 249 .
2- لعل المقصود : وهل وصلت نذارته إلى أقطار الأرض وهو حي ، ولكن الأقرب إن المقصود هو : (فهل كان نذير وهو حي قبل البعثة في أقطار الأرض؟) وقد وقعت (من) بدل (قبل) والسياق يدل عليه . أي وهل كان هناك نذير من الله قبل بعثة النبي فقال السائل لا.

السائل : ينبغي لصاحب هذا الدين ، أن يكتم ؟ قال : أو ما كتم علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، يوم أسلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى ظهر أمره ؟ قال : بلى . قال : فكذلك أمرنا ، حتى يبلغ الكتاب أجله . ( انتهى نص الحديث ) .

وقد شرح الرواية ، المولى الشيخ محمد صالح (رحمه الله علیه)، وقد وجدت من المناسب أن نطلع على شرحه ، ففيه بعض اللمسات الجيدة :

الشيخ محمد صالح المازندراني(1):

قوله : «خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تفلحوا (تفلجوا) » أي : تظفروا ، وتغلبوا عليهم ؛ لإخبارها بنزول الملائكة ، والروح ، فيها من كل أمر ، إلى ولي مؤيد من عند الله تعالى ، ولا يمكنهم التخلص ، إلا بأن يقولوا :

1 - ذهبت الليلة بذهابه (صلی الله علیه و آله و سلم).

2 - أو يقولوا : ذهب النزول بذهابه (صلی الله علیه و آله و سلم).

3 - أو يقولوا : ثبت النزول إلى سلطان الجور .

4 - أو يقولوا : ثبت النزول ، لا إلى أحد .

والكل باطل .

أما الأولان ؛ فلدلالة رواياتهم – أيضا – على بقائها ، وبقاء النزول فيها ، إلى يوم القيامة ، ولإجماعهم على بقائهما كما مر .

وأما الثالث ؛ فلأن نزول الملائكة إلى الجائر ، بما يحتاج إليه الناس ، من الأوامر والنواهي ، باطل بالضرورة ، ولم يدع ذلك أحد من الجائرين .

وأما الرابع ؛ فلأن نزولهم بالأوامر والنواهي ، لا إلى أحد من الخلق ، مما لا الخلق ، مما لا يتصور - قطعا .

قوله : «إنها لحجة الله على الخلق ، بعد رسول الله» حيث دلت على أن الزمان بعده ، لا يخلو من حجة ، ويحتمل أن يراد : أن رسول الله حجة الله على الخلق أولا ، لبيانه من يقوم مقامه بعده ،

ص: 235


1- شرح أصول الكافي : 6 : 12 .

ثم هذه السورة ، حجة الله عليهم بعده ، لما مر . قوله : «وإنها لسيدة دينكم» لدلالتها على أعظم أمور الدين ، وهي الخلافة ، التي تبتنى عليها سائر أموره . قوله «وإنها لغاية لعلمنا» الدلالتها على حصول علوم غير محصورة ، لهم ، في تلك الليلة ، بإخبار الملائكة ؛ أو لأن هذه العلوم ، من توابع العلوم التي كانت حاصلة لهم، وغاياتها ، فإنهم (علیهم السّلام) علموا جميع ما في اللوح المحفوظ ، من النقوش ، حتمية كانت ، أو غير حتمية ، ويجيئهم حتم غير المحتوم ، في تلك الليلة ، والله أعلم . قوله : «فإنها لولاة الأمر خاصة» لا للغواة - كما ظنه بعض النواصب - وفساد ظنه ، أظهر من أن يحتاج إلى البيان . قوله : «يقول الله تعالى : ﴿وَإن مِّنْ أُمَّة إلا خلا فيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] ». أي مضى فيها ، والأمة الجماعة الموجودون في عصر ، وفيه دلالة على أن عصرا من الأعصار ، لم يخل من نذير، فالحكمة الإلهية تقتضي أن يكون في كل أمة ، وفي كل عصر إلى يوم القيامة ، نذیر . قوله : «قيل : يا أبا جعفر ، نذيرها محمد» أي : نذير هذه الأمة ، محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يكون بعده نذیر آخر ، فلا يتم المطلوب . قوله : «أرأيت بعيثه» أي : أخبرني ، والغرض منه تقرير السائل بالمنفي ، وقد أقر به . قوله : «قال : فإن قلت لا» أي : قلت : مات محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يكن له بعيث ، لزمك القول بأنه ضيع من في أصلاب الرجال من أمته ، والقول بذلك باطل ؛ لأنه كفر ، وموجب البطلان البعثة ، ونسبة ما لا يليق به (صلی الله علیه و آله و سلم)، إليه . قوله : «قال : بلى» أي : بلى يكفيهم القرآن ، إن وجدوا له مفسرا ، يعلم ظاهر القرآن وباطنه ، ويعلم جميع ما أنزل الله تعالى فيه . قوله : «إبان أجله» إبان الشيء - بالكسر والتشديد - : وقته . (انتهى شرح العلامة المازندراني (رحمه الله علیه)) .

وسيأتي بيان السيد الطباطبائي، في شرح الكافي ، كما أثبته الشيخ علي اكبر غفاري ، وهو تلخيص الحجة ، التي بينها في هذه الإشكالية .

أقول : وهذا ، ملخص مهم للفكرة ، بكل وضوح ، حيث إن الإشكالية محلولة تماما في فكر أهل البيت (علیهم السّلام)، وحلها هو إثبات واقع القرآن ، وواقعية الطرح . يبقى ، إن من ينكر هذه الواقعية ، عليه أن يحل المشكلة ، بالطرق الملتوية ، ولكن جميع الحلول الأخرى – كما رأينا وترى – غير مقنعة ، وهي بالتالي تفشل في إيجاد الحل الدقيق .

ص: 236

نصوص أحاديث

تشير إلى الحل وإلى أهميته

الشيخ الكليني(1):

1 - محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن العباس بن الحريش(2) عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام)، قال : قال أبو عبد الله (علیه السّلام) (لعله عن أبيه (علیه السّلام)) : بينا أبي (علیه السّلام) يطوف بالكعبة ، إذا رجل معتجر(3) قد قيض الله له ، فقطع عليه أسبوعه(4) حتى ادخله إلى دار جنب الصفا ، فأرسل إلي ، فكنا ثلاثة ، فقال : مرحبا يا ابن رسول الله ، ثم وضع يده على رأسي ، وقال بارك الله فيك يا أمين الله ، بعد آبائه ، يا أبا جعفر(5) إن شئت فأخبرني ، وإن شئت فأخبرتك ، وإن شئت سلني ، وإن شئت سألتك ، وإن شئت فأصدقني ، وإن شئت صدقتك ، قال : كل ذلك أشاء . قال : فإياك أن ينطق لسانك – عند مسألتي - بأمر تضمر لي غيره . قال : إنما يفعل ذلك ، من في قلبه علمان ، يخالف أحدهما صاحبه ، وإن الله عز وجل ، أبى أن يكون له علم ، فيه اختلاف . قال : هذه مسألتي ، وقد فسرت طرفا منها . أخبرني عن هذا العلم، الذي ليس فيه اختلاف ، من يعلمه ؟ قال : أما جملة العلم ، فعند الله جل ذكره ، وأما ما لابد للعباد منه ، فعند الأوصياء . قال : ففتح الرجل عجيرته ، واستوى جالسا ، وتهلل وجهه ،

ص: 237


1- الكافي : 1 : 242 - 248 : باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها .
2- سيأتي - في ذيل الرواية - التعليق على السند ، ومشكلته ، ومشكلة الرواية التالية .
3- الاعتجارُ بالعمامة : هو أن يلفّها على رأسه ، ويراً طرفها على وجهه ، ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه . لسان العرب : عجر.
4- فقطع أسبوعه أي طوافه سبعاً .
5- أقول : هذه الكنية تدل على إن الراوي، هو الإمام الباقر (علیه السّلام)، لا الإمام الصادق (علیه السّلام)، وهذا أوقع في فهم الرواية كما احتملنا سابقا .

وقال : هذه أردت ، ولها أتيت ، زعمت أن علم ما لا اختلاف فيه من العلم ، عند الأوصياء ، فكيف يعلمونه ؟ قال : كما كان (صلی الله علیه و آله و سلم) يعلمه ، إلا أنهم لا يرون ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يرى ، لأنه كان نبيا ، وهم محدثون ، وأنه كان يفد إلى الله عز وجل ، فيسمع الوحي ، وهم لا يسمعون ، فقال : صدقت ، يا ابن رسول الله ، سآتيك بمسألة صعبة . أخبرني عن هذا العلم ، ماله لا يظهر ؟ كما كان يظهر مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال : فضحك أبي (علیه السّلام)(1) وقال : أبى الله عز وجل أن يطلع على علمه ، إلا ممتحنا للإيمان به، كما قضى على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يصبر على أذى قومه ، ولا يجاهدهم ، إلا بأمره ، فكم من اكتتام قد اكتتم به ، حتى قيل له : اصدع بما تؤمر ، وأعرض عن المشركين(2) وأيم الله ، أن لو صدع - قبل ذلك - لكان آمنا ، ولكنه إنما نظر في الطاعة ، وخاف الخلاف ، فلذلك كف، فوددت أن عينك تكون مع مهدي هذه الأمة ، والملائكة بسيوف آل داود ، بين السماء والأرض ، تعذب أرواح الكفرة من الأموات ، وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء . ثم أخرج سيفا ، ثم قال : ما إن هذا منها . قال : فقال أبي : إي ، والذي اصطفى محمدا على البشر ، قال : فرد الرجل اعتجاره ، وقال : أنا إلياس ، ما سألتك عن أمرك ، وبي منه جهالة ، غير أني أحببت أن يكون هذا الحديث ، قوة لأصحابك ، وسأخبرك بآية أنت تعرفها ، إن خاصموا بها ، فلجوا . قال : فقال له أبي : إن شئت أخبرتك بها ؟ قال : قد شئت ، قال : إن شيعتنا ، إن قالوا لأهل الخلاف لنا : إن الله عز وجل ، يقول الرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ - إلى آخرها - فهل كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يعلم من العلم شيئا لا يعلمه في تلك الليلة ، أو يأتيه به جبرئيل (علیه السّلام) في غيرها ؟ فإنهم سيقولون : لا ، فقل لهم : فهل كان لما علم ، بد من أن يظهر ؟

ص: 238


1- قال المعلق : لعل ضحكه (علیه السّلام) كان لهذا النوع من السؤال ، الذي ظاهره الامتحان - تجاهلا - مع علمه بأنه عارف بحاله ، أو لعد المسألة صعبة ، وليست عنده (علیه السّلام) كذلك . (انتهى) .
2- قال المعلق : حاصل الجواب، إن ظهور هذا العلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) دائما ، في محل المنع ، فإنه كان في سنين ، من أول بعثه مكتتما ، إلا عن أهله ؛ لخوف عدم قبول الخلق منه ، حتى أمر بإعلانه ، وكذلك الأئمة (علیهم السّلام)، يكتمون عمن لا يقبل منهم ، حتى يؤمروا بإعلانه في زمن القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف). (انتهى) .

فيقولون : لا ، فقل لهم : فهل كان فيما أظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من علم الله عز ذكره اختلاف ؟ فان قالوا : لا ، فقل لهم : فمن حكم بحكم الله ، فيه اختلاف ، فهل خالف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فيقولون : نعم – فإن قالوا : لا ، فقد نقضوا أول كلامهم ، فقل لهم : ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم . فإن قالوا : من الراسخون في العلم ؟ فقل : من لا يختلف في علمه ، فإن قالوا فمن هو ذاك ؟ فقل : كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) صاحب ذلك ، فهل بلغ ، أو ، لا ؟ فإن قالوا : قد بلغ ، فقل : فهل مات (صلی الله علیه و آله و سلم)، والخليفة من بعده ، يعلم علما ، ليس فيه اختلاف ؟ فإن قالوا : لا ، فقل : إن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مؤيد ، ولا يستخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلا من يحكم بحكمه ، وإلا من يكون مثله ، إلا النبوة ، وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)لم يستخلف في علمه أحدا ، فقد ضيع من في أصلاب الرجال ، ممن يكون بعده. فإن قالوا لك : فإن علم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان من القرآن ، فقل : ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فيها﴾ إلى قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ ﴾ [الدخان : 1 - 5] فإن قالوا لك : لا يرسل الله عز وجل ، إلا إلى نبي ، فقل : هذا الأمر الحكيم، الذي يفرق فيه ، هو من الملائكة والروح ، التي تنزل من سماء إلى سماء ، أو من سماء إلى أرض ؟(1) فإن قالوا : من سماء إلى سماء ، فليس في السماء أحد ، يرجع من طاعة إلى معصية ، فإن قالوا : من سماء إلى أرض - وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك – فقل : فهل لهم بد ، من سيد يتحاكمون إليه ؟ فإن قالوا : فإن الخليفة ، هو حكمهم ، فقل : ﴿اللهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَات إلى النور﴾- إلى قوله - : ﴿خَالِدُونَ﴾ [البقرة : 257] لعمري ما في الأرض ، ولا في السماء ، ولي الله عز ذكره ، إلا و هو مؤيد ، ومن أيد لم يخطأ ، وما في الأرض عدو الله ، عز ذكره ، إلا وهو مخذول ، ومن خذل لم يصب ، كما أن الأمر ، لا بد من

ص: 239


1- قال المعلق : هذا إيراد سؤال على الحجة ، تقريره : إن علم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لعله كان من القرآن فحسب ، ليس مما يتجدد في ليلة القدر في شيء ، فأجاب بأن الله سبحانه يقول : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ [الدخان : 5] فهذه الآية تدل على تجدد الفرق والإرسال ، في تلك الليلة المباركة ، بإنزال الملائكة والروح فيها ، من السماء إلى الأرض دائما ، فلا بد من وجود من يرسل إليه الأمر دائما .

تنزيله من السماء ، يحكم به أهل الأرض ، كذلك لابد من وال ، فإن قالوا : لا نعرف هذا ، فقل [لهم] : قولوا ما أحببتم ، أبى الله عز وجل ، بعد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يترك العباد ، ولا حجة عليهم . قال أبو عبد الله (علیه السّلام): ثم وقف ، فقال : هاهنا يا ابن رسول الله ، باب غامض ، أرأيت إن قالوا : حجة الله : القرآن ؟ قال : إذن أقول لهم : إن القرآن ليس بناطق ، يأمر وينهى ، ولكن للقرآن أهل ، يأمرون وينهون ، وأقول : قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ، ما هي في السنة ، والحكم الذي ليس فيه اختلاف ، وليست في القرآن ، أبى الله لعلمه بتلك الفتنة ، أن تظهر في الأرض ، وليس في حكمه راد لها ، ومفرج عن أهلها . فقال : هاهنا تفلجون ، يا أبن رسول الله ، أشهد أن الله عز ذكره ، قد علم بما يصيب الخلق ، من مصيبة في الأرض ، أو في أنفسهم ، من الدين ، أو غيره ، فوضع القرآن دليلا ، قال : فقال الرجل : هل تدري يا ابن رسول الله ، دليل ما هو ؟ قال أبو جعفر (علیه السّلام): نعم ، فيه جمل الحدود، وتفسيرها ، عند الحكم ، فقال : أبى الله ، أن يصيب عبدا بمصيبة ، في دينه ، أو في نفسه ، أو [في] ماله ، ليس في أرضه من حكمه ، قاض بالصواب ، في تلك المصيبة . قال : فقال الرجل : أما في هذا الباب ، فقد فلجتهم بحجة ، إلا أن يفتري خصمكم على (علیه السّلام)، فيقول : ليس الله ، جل ذكره ، حجة ولكن أخبرني عن تفسير : ﴿لَكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ [الحديد : 23] مما خُص به علي (علیه السّلام) ﴿وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد : 23] قال : في أبي فلان ، وأصحابه ، واحدة مقدمة ، وواحدة مؤخرة : ﴿تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ مما خُص علي (علیه السّلام) ﴿وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ من الفتنة ، التي عرضت لكم ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال الرجل : أشهد أنكم أصحاب الحكم ، الذي لا اختلاف فيه ، ثم قام الرجل ، وذهب ، فلم أره» . (انتهى).(1)

ص: 240


1- ابن حريش الوارد في سند الرواية هو : الحسن بن العباس بن حريش الرازي ، وقد بالغ بعضهم في ذمه ، وذم مروياته في ليلة القدر ، معتمدين على تضعيف العياشي ، وابن الغضائري له - تضعيف العياشي هو المهم؛ لأنه لا أهمية لما يذكره ابن الغضائري، فكتابه لم تثبت نسبته إليه ، وثمة أسباب أخرى ليس هذا محلها ويبدو من خلال تتبع كلماتهم ، رضوان الله عليهم ، إن التضعيف سببه ظنهم بانحراف عقيدته ، بالغلو ، وهذا أمر مناقش ، وكان ينبغي التحقيق أكثر ، في هذا الأمر بدل الإصرار على ترك مروياته في العقيدة ، بينما يؤخذ منه في الفقه ، بل يقال إن قسما من مروياته عليها الإجماع في العمل ، وقد كان ديدن المعلق الفاضل على كتاب الكافي ، تضعيف الروايات عن ابن حريش ، وكمثال على ذلك ، فقد قال المعلق في حاشية كتاب الكافي ، عن ابن حريش : «بالحاء المهملة المفتوحة والراء المهملة المكسورة والياء المثناة من تحت الساكنة والشين المعجمة وقيل هو مصغر على وزن زبير و الرجل ضعيف جدا ، عنونه العلامة في القسم الثاني الخلاصة ، والنجاشي أيضا ، وقال ابن الغضائري : هو أبو محمد ضعيف ، روى عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام) فضل ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ كتابا مصنفا ، فاسد الألفاظ (أقول : وقد أورده الكليني في هذا الباب) تشهد مخائله ، علي أنه موضوع ، وهذا الرجل لا يلتفت إليه ، ولا يكتب حديثه . راجع : جامع الرواة : 1 : 205 . (انتهى) . أقول : لقد جمعت أغلب ما قيل في (ابن حريش) وبحثت الموضوع مطوّلا بشكل منهجي ، ولكي لا أثقل على القاريء - هنا - أكتفي بعرض النتائج التي توصلت إليها ، وهي: 1 - إن الرجل لم يطعن في علاقته الخاصة بمولانا الجواد (علیه السّلام)، بل صرحوا أنه ممن روى عن الجواد (علیه السّلام)، وقد طعنوا في عقائده ، ونسبوها إلى الغلو ، وطعن في كتابه عن ليلة القدر - بالذات - لأسباب ستأتي . فالطعن ليس طعنا سنديا ، وإنما اجتهاد في عدم قبول النص الذي رواه ، وهذا اجتهاد عليه مؤاخذات لا تخفى . 2 - الواقع الفعلي ، أن الطعن في عقيدته ، كان نتيجة إيمانه بنفس قضية ليلة القدر ، ولهذا يعود الأمر إلى كتابه نفسه ، ومعرفة مضمونه ، فقد كان قسم من الفقهاء ، لا يتحمّل أن يقال : أن الأئمة يأتيهم أمر التكوين والتشريع ، في ليلة القدر ، واعتبروا هذا غلوا ، بينما قد نص العلماء ، أنه ليس من الغلو ، وهو غلو بمفهوم من لا ينتسب للتشيع ؛ لجهلم بالمقدمات ، بل وبالنتائج . ولهذا فقد عبر الكثير من العلماء عن أن بعض تهم الغلو ، هي عين الإيمان الحقيقي ، ولا واقع لهذه التهم . وقد عرفنا أن معايير بعض المحدثين ، والفقهاء في فترة معينة ، كانت ضد أي فكرة للخصائص الثابتة لأهل البيت (علیهم السّلام)، فالقول بالعلم اللدني ، والولاية التكوينية ، ومعرفة الخبء ، وما شابه ذلك كان يعتبر غلوا في الدين ، وهذا غير صحيح ، وهو معيار فاسد ، لا يصمد أمام النقاش الحر . وقد نقل السيد محسن الأمين العاملي (رحمه الله علیه) بعض التحقيقات ، في هذا الأمر ، عن حاشية الفهرست ، فقال في أعيان الشيعة : 5 : 128 : «وفي التعليقة : فيه ما مر في الفائدة الثانية ، يعني من عد القدماء ، ما ليس غلوا من الغلو ، وقال جدي المجلسي الأول : روى الكتاب الكليني ، وأكثره من الدقيق ، لكنه مشتمل على علوم كثيرة ، ولما لم يصل إليه أفهام بعض ، رده بأنه مضطرب الألفاظ ، والذي يظهر بعد التتبع ، إن أكثر الأخبار الواردة ، عن الجواد ، والهادي ، والعسكري (علیهم السّلام)، لا يخلو من اضطراب ، تقية أو اتقاء ؛ لأن أكثرها مكاتبة ، ويمكن أن تقع في أيدي المخالفين ، ولما كان أئمتنا أفصح فصحاء العرب ، عند الجميع : ، فلو اطلعوا عليها ، لجزموا بأنها ليست منهم ، ولذا لا يسمون غالبا ، ويعبر عنهم بالرجل ، والفقيه . اه . قال : وبالجملة ، الكليني - مع أنه قال في أول الكافي ما قال - لم يذكر في باب شأن ﴿إنا أنزلناه﴾ وتفسيرها ، غير روايته ، وكتابه ، وأيضا رواه محمد بن يحيى ، ومحمد بن الحسن ، مع أنه مر عنهما ما مر ، في أحمد بن محمد بن خالد ، ورواه أحمد بن عيسى ، مع أنه صدر منه ما مر في احمد ، وغيره . وبالجملة : هؤلاء القمّيون ، رووا عنه ، وقد أشرنا إلى الأمر في ذلك ، في إبراهيم بن هاشم ، وإسماعيل بن مرار» . اه . وهذا يفيد : أن الكليني، رغم إطلاعه على الطرق المتعددة ، لنفس روايات الحسن بن العباس بن حريش ، إلا انه ترك الجميع ، واعتمد عليها ، بخلاف ما في بصائر الدرجات، وغيرها من تعدد الطرق ، وهذا يدل على القناعة بالثقة ، وصحة الرواية عنده - على اقل تقدير . 3 - المشكلة الأساسية ، التي تواجه الحكم على مرويات الحسن بن حريش، هي كتابه عن ليلة القدر ، فقد قيل : إنه صنف (مصنفا فاسد الألفاظ ، تشهد مخائله على أنه موضوع) فهذا يعني : أن الألفاظ عندهم فيها خلل ، ولعل المعنى - أيضا - كذلك ، وبالمراجعة لكل مروياته ، وجدنا أن الخلل الحقيقي ، في نص هذه الرواية الأولى، والرواية الثانية ، التي تأتي بعدها ، والمتعلقة بابن عباس ، والخلل ناتج عن أمور : الأول : كون الحدث مع الإمام الباقر (علیه السّلام)- في الرواية الثانية - وقد واجه بها ابن عباس ، وابن عباس ، لم يبلغ إمامة الباقر (علیه السّلام)، وإن عاش حتى ولادته (علیه السّلام)، وشطرا من صباه . والثاني : إن فيهما حدة ، واتهاما بالضلال ، ووصفا مشينا ، قد لا يراه البعض لائقا به ، مثل وصفه له بسخافة العقل . والثالث : احتوائها على نزول الأمر التشريعي ، وهذا لم يتعقله بعض الفقهاء ، في ذلك الوقت لشبهة ضعيفة ، وهي الترابط بين التلقي التشريعي ، وبين النبوة ، ولا يصح هذا في الأئمة (علیهم السّلام). والرابع : إن المقابل للإمام في الرواية الأولى ، هو النبي إلياس (علیه السّلام). وهذه النقاط الثلاثة مردودة جميعها : فأما الأول ، فإن الرواية الأولى ، تشير في داخلها إلى سقط في السند ، وهو أن المتحدث الإمام الباقر (علیه السّلام) عن أبيه زين العابدين (علیه السّلام)، حيث قال : «ثم وضع يده على رأسي ، وقال بارك الله فيك يا أمين الله ، بعد آبائه يا أبا جعفر» فالراوي هو أبو جعفر الباقر (علیه السّلام)، وليس الإمام الصادق (علیه السّلام) نفسه ، وهذا السقط في السند ممكن ، وواقع في الكثير من الروايات ، ومن سند الرواية الثانية ، نعرف أن سند الرواية الأولى هو نفسه ، فتحل المشكلة - أساسا - في مشكلة المقابلة مع ابن عباس ، حيث إن الأمر متعلق بالإمام زين العابدين (علیه السّلام) وهذا لا إشكال فيه ، على إن بعض العلماء ، أجاب بامكان أن يتعلق الأمر بالإمام الباقر (علیه السّلام)، في صغره ، لا في إمامته (ولكن روح الرواية يأبى مثل ذلك النقاش الحاد) ولعل الأمر فيه جواب آخر ، وهو : إن المقصود هو : (ابن) عبد الله بن عباس ، وليس عبد الله ، فقد سقطت كلمة (ابن) وعبد الله بن عباس ، له من الأولاد : العباس ، والفضل ، وعلي ، وعبيد الله ، والحسن ، وسليمان ، أو هو أحد أولاد ابن عباس ، وإن تأخروا ، كمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، الذي آلت إليه زعامة الكيسانية ، وقام بالحركات الكبيرة ، وكان قد عقد العزم على توجيه أولاده : أبو العباس السفاح ، وعبد الله المنصور ، وإبراهيم الإمام المقتول في الشام ، للقيام بتحركهم ، بالتحالف مع أبناء الحسن ، وغشهم ، وكان هذا الرجل ، مدعيا للعلم ، والإمامة – أيضا ولكن الذي يغلب على الظن : أن الأكثر قبولا هو ابن عبد الله ، ولعل الأكثر مناسبة لتوجيه مثل هذا الكلام ، هو العباس ، كبير أولاد عبد الله ، حيث أن هذا ، عاش في زمن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وكان مشاغبا مدعيا ، ووعى ما تتم المحاججة به . وبهذا ، لا يكون الإشكال الأول ورادا . ولحل الإشكال الثاني نقول : إنه بعد استشهاد سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (علیه السّلام)، حدثت حوارات حادة جدا ، بين الإمام زين العابدين (علیه السّلام)، وعمه محمد بن الحنفية ، وبعض أبناء عمه الحسن (علیه السّلام)، في شرعية الإمامة ، فلا مانع أن يحدث مثل هذا الحوار الحاد ، مع ابن عمه عبد الله بن عباس ، وقد حصلت مثل هذه الحوارات ، مع الباقر ، والصادق (علیه السّلام) - مع مخالفيهما من أبناء عمومتهما - (على أن من يعرف أسلوب ابن عباس في الحوار ، لا يستبعد أن ما ورد ، يقترب من طريقة تفكيره ، مثل ادعاءه النسيان ، والحدة في الطرح ، ونكران بعض الحقائق ، والتعالي ، فهذه من خصائصه) ولو كان الأمر ، متعلقا بالعباس ابن عبد الله عباس ، فالأمر ينطبق عليه - كليا - لما عرف عنه من ادعاء للمكانة العلمية ، مع فراغه وعدم تحصيله ، فقد روي عنه ، أنه تزوج زواج الشغار المنهي عنه شرعا ، فكيف يكون فقيها ، وعالما ؟ فمثل هذا ، يمكن أن يكون موضع تندر وسخرية ، ولكن وجود نصوص في الحديث ، من قبيل تكرار إنك (سمعتها من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)) أو : (قد عميت عينك ؛ لأنك جحدت ذلك) تدل على إن المقصود ابن عباس نفسه ، والأقرب : إن الحديث عن الإمام الصادق ، عن الإمام الباقر ، عن أبيه السجاد ، والله اعلم . فهذا بعض حل الإشكال الثاني ، وهناك الكثير مما يقال هنا . وأما الإشكال الثالث ، فمرده إلى الضعف في فهم الإسلام ، وفهم الفرق بين استمرار الشريعة ، وبين النبوة ، وهذا كلام أصبح مما لا يستحق النقاش بعد وضوح الأمر ، وقد ناقشناه في الإشكالية ، بجوانبه المتعددة ، ولا نرغب بتكرار الكلام فيه فليراجع . وأما الإشكال الرابع ، بكون المقابل للإمام في الرواية الأولى ، وهو النبي إلياس (علیه السّلام)، فهذا ليس إشكالا ، ولا يستحق التوقف عنده . ولو كان بالفعل ، هذا هو المقصود بفساد ألفاظ الرواية ، ودلالة مخايلها على الوضع ، فعلى الدنيا العفا. وبالنظر لتواتر معنى ليلة القدر ، بالشكل المطروح ، وللأخذ بروايات ابن حريش ، ولسلامة المعنى علميا ، و قرآنيا ، تعتبر هذه الروايات حجة ، ومقبولة العمل ، والاعتقاد ، وما قد يرد فيها ، من سقط ، أو تصحيف ، أو تدخل من الرواة والنساخ ، فهذا يمكن معالجته بسهولة ، وهو لا يسقط الفكرة ، ولا اعتمادها ، وموثوقيتها كما يمكن الإغضاء عن رواية مقابلة ابن عباس ، باعتبار أنها مشوشة ، وغير محددة من قبل النساخ والرواة بعيدا عن فكرة تضعيفها ، أو تركها بالكلية ، على أن بعض الفقهاء قبلوا بحكم فيها في الديات ، واعتمدوه فقهيا ، وما أقصده هو الإغضاء عنها ، لحين تحقق الصورة، فيمن قابل الإمام ؟ ومن هو الإمام المقصود في الرواية ؟ لوجود خلل ظاهر في شخوص الرواية ، ولكن يمكن حله ، واحتمال التصويب ، لكل هذه الصورة المشوشة كما اشرنا قبل قليل ، باحتمالات معقولة ، ولهذا لا تضعف ، أو تترك كليا ، ولكن تستبعد من البحث - آنيا - باعتبار هذا التشويش ، وليس باعتبار الوضع ، أو التضعيف - كما عمل بعض الفضلاء رحمهم الله - فإن فيما غيرها من الروايات (السليمة من الإشكالات) غنى للباحث ، ولا يمكن الإغضاء عنها . بل حتى مع القول : بضعف ابن حريش (وهذا بعيد جدا) فإن الروايات عنه سليمة المعنى ، وقوية الدلالة ، وفيها من نور النبوة ، وبهاء الولاية ، ما لا يخفى على عارف . وهي موافقة للكتاب العزيز ، ومسلمة في إلزامها ، وحجة مضمونها . وهذا جابر للرواية ، حيث إن صحة المضمون، جابر للرواية - قطعا . والخلاصة في التحقيق : إن جرح ابن حريش مبني على ما أورده من نص ، وهذا يمكن أن يصح فيما إذا كان النص بين البطلان ، وليس اجتهادا فيه أخذ ورد ، فانه يكون مصادرة واضحة ، وما حدث من رد إنما هو مبني على اجتهاد في التخوف من الفكرة، رغم قوتها وكثرة النصوص الصحيحة فيها وعدم وجود المانع منها كما بينا . فمثل هذا الاجتهاد لا يمكن الاعتماد عليه ولا يبنى عليه حكم في أي من الاتجاهين [التضعيف أو التوثيق] . أقول : وللتعليق على بعض جوانب الرواية فقد علق المعلق على كتاب الكافي ، بتقريره للدليل ، من خلال قول النبي إلياس : «غير إني أحببت ، أن يكون هذا الحديث ، قوة لأصحابك ، و سأخبرك بآية أنت تعرفها ، إن خاصموا بها فلجوا» . أي فازوا وظفروا - وقد عرض عرضا موجزا ، عليه بعض الملاحظات ، خصوصا فيما يتعلق بلزوم وصول البيان ، لا حصوله ، لاستعماله كلمة تبليغ ، وهذا غير مسلّم ، وقد بينا وجه الاشتباه فيه . وعلى كل حال ، فالكلام لا يخلو من فائدة ، وهو يعطي تبريرا ، وتصحيحا لمجمل الرواية ، من جهة المعنى ، الذي أشكلوا عليه ، من هذه الجهة بالذات . فقد قال في حاشية كتاب الكافي : «وتقرير هذه الحجة ، على ما يطابق عبارة الحديث، مع مقدماته المطوية ، أن يقال : قد ثبت أن الله سبحانه انزل القرآن في ليلة القدر ، على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنه كان تنزل الملائكة والروح فيها ، من كل أمر ببيان ، وتأويل ، سنة فسنة ، كما يدل عليه فعل المستقبل ، الدال على التجدد في الاستقبال . فنقول : هل كان لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، طريق إلى العلم الذي يحتاج إليه الأمة ، سوى ما يأتيه من السماء ، من عند الله سبحانه ، أما في ليلة القدر ، أو في غيرها أم لا ؟ والأول باطل ، لما أجمع عليه الأمة ، من أن علمه ليس إلا من عند الله سبحانه ، كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم : 4] فثبت الثاني . ثم نقول : فهل يجوز أن لا يظهر هذا العلم ، الذي تحتاج إليه الأمة ، أم لا بد من ظهوره لهم ؟ والأول باطل ؛ لأنه إنما يوحى إليه ليبلغ إليهم ، ويهديهم إلى الله عز وجل فثبت الثاني . ثم نقول : فهل في ذلك العلم النازل من السماء ، من عند الله - جل وعلا - إلى الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، اختلاف ، بأن يحكم في أمر ، في زمان بحكم ، ثم يحكم في ذلك الأمر بعينه ، في ذلك الزمان بعينه ، بحكم آخر يخالفه ، أم لا ؟ والأول باطل ؛ لأن الحكم ، إنما هو من عند الله - جل وعز - وهو متعال عن ذلك ، كما قال : ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عند غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ [النساء : 82] . ثم نقول : فمن حكم بحكم ، فيه اختلاف ، هل وافق رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في فعله ذلك ، وحكمه ، أم خالفه ؟ والأول باطل ؛ لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لم يكن في حكمه اختلاف ، فثبت الثاني . ثم نقول : فمن لم يكن في حكمه اختلاف ، فهل له طريق إلى ذلك الحكم ، من غير جهة الله سبحانه ، أما بواسطة ، أو بغير واسطة ، ومن دون أن يعلم تأويل المتشابه ، الذي بسببه يقع الاختلاف ، أم لا ؟ والأول باطل ، فثبت الثاني . ثم نقول : فهل يعلم تأويل المتشابه ، الذي بسببه يقع الاختلاف ، إلا الله ، والراسخون في العلم ، الذين ليس في علمهم اختلاف ، أم لا ؟ والأول باطل ؛ لأن هذا يقول : ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العلم﴾ [آل عمران : 7] . ثم نقول : فرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، الذي هو من الراسخين في العلم ، هل مات وذهب بعلمه ذلك ، ولم يبلغ طريق علمه بالمتشابه ، إلى خليفته من بعده ، أم بلغه ؟ والأول باطل ؛ لأنه لو فعل ذلك ، فقد ضيع من في أصلاب الرجال ، ممن يكون بعده ، فثبت الثاني . ثم نقول : فهل له خليفة من بعده ، كسائر آحاد الناس ، يجوز عليه الخطأ ، والاختلاف في العلم (أم) هو مؤيد من عند الله ، يحكم بحكم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأن يأتيه الملك ، ويحدثه ، من غير وحي ، ورؤية ، أو ما يجرى مجرى ذلك ، وهو مثله إلا في النبوة . والأول باطل ؛ لعدم إغنائه حينئذ ؛ لأن من يجوز عليه الخطأ ، لا يؤمن عليه الاختلاف في الحكم ، ويلزم التضييع من ذلك أيضا . فثبت الثاني . فلا بد من خليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)راسخ في العلم ، عالم بتأويل المتشابه ، مؤيدا من عند الله ، لا يجوز عليه الخطأ ، ولا الاختلاف في العلم ، يكون حجة على العباد ، وهو المطلوب» انتهى.

ص: 241

ص: 242

ص: 243

ص: 244

ص: 245

2 - عن أبي عبد الله (علیه السّلام)(1) قال : بينا أبي جالس ، وعنده نفر ، إذ استضحك ، حتى اغرورقت عيناه دموعا ، ثم قال : هل تدرون ما أضحكني ؟ قال : فقالوا : لا ، قال زعم ابن عباس ، أنه من ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت : 30] . فقلت له : هل رأيت الملائكة يا ابن عباس ، تخبرك بولايتها لك ، في الدنيا والآخرة . مع الأمن من الخوف والحزن ؟ قال : فقال : إن الله - تبارك وتعالى - يقول : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : 10] . وقد دخل في هذا جميع الأمة ، فاستضحكت . ثم قلت : صدقت يا ابن عباس ، أنشدك الله هل في حكم الله – جل ذكره - اختلاف ؟ قال : فقال : لا ، فقلت : ما ترى في رجل ، ضرب رجلا أصابعه بالسيف ، حتى سقطت ، ثم ذهب ، وأتى رجل آخر ، فأطار كفه ، فأتي به إليك ، وأنت قاض ، كيف أنت صانع ؟ قال : أقول لهذا القاطع : أعطه دية كفه ، وأقول لهذا المقطوع : صالحه على ما شئت ، وابعث به إلى ذوي عدل ، قلت : جاء الاختلاف في حكم الله - عز ذكره - ونقضت القول الأول ، أبى الله – عز ذكره - أن يحدث في خلقه شيئا من الحدود ، [و] ليس تفسيره في الأرض ، اقطع قاطع

ص: 246


1- قد يكون هناك سقط في السند ، فيكون : عن أبي عبد الله ، عن أبيه . وفي التعليق السابق ، احتملنا أن الراوي هو الإمام الباقر (علیه السّلام) لأسباب بررناها . وقد اقترحنا الإغضاء عن هذه الرواية ، لما فيها من تشويش ، ولكن ذكرناها متعمدين حتى لا نوصف بالتحيز والبتر . و يكون إسنادها - على الأرجح - هكذا : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام)، عن أبيه الجواد (علیه السّلام)، عن أبيه الرضا (علیه السّلام)، عن أبيه الكاظم (علیه السّلام)، عن أبيه أبي عبد الله الصادق (علیه السّلام)، عن أبيه الباقر (علیه السّلام):....

الكف ، أصلا ، ثم أعطه دية الأصابع ، هكذا حكم الله ، ليلة تنزل فيها أمره(1) إن جحدتها ، بعدما سمعت من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأدخلك الله النار ، كما أعمى بصرك يوم جحدتها علي بن أبي طالب . قال : فلذلك عمي بصري ، قال : وما علمك بذلك ، فوالله إن عمي بصري ، إلا من صفقة جناح الملك . قال : فاستضحكت ثم تركته يومه ، ذلك لسخافة عقله ، ثم لقيته فقلت : يا ابن عباس ، ما تكلمت بصدق مثل أمس ، قال لك علي بن أبي طالب (علیه السّلام): إن ليلة القدر في كل سنة ، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، وإن لذلك الأمر ، ولاة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقلت : من هم صل ؟ فقال : أنا ، وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون ، فقلت : لا أراها كانت إلا مع رسول الله ، فتبدى لك الملك ، الذي يحدثه فقال : كذبت يا عبد الله ، رأت عيناي الذي حدثك به علي - ولم تره عيناه ، ولكن وعا قلبه ، ووقر في سمعه - ثم صفقك بجناحه ، فعمیت . قال : فقال ابن عباس : ما اختلفنا في شيء فحكمه إلى الله ، فقلت له : فهل حَكَمَ الله في حُكم من حكمه بأمرين ؟ قال : لا ، فقلت : هاهنا هلكت ، وأهلكت .

3 – وبهذا الإسناد(2) عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال : قال الله – عز وجل – في ليلة القدر : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ [الدخان : 4] يقول : ينزل فيها كل أمر حكيم ، والمحكم ليس بشيئين ، إنما هو شيء واحد ، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف ، فحكمه من حكم الله عز وجل ، ومن حكم بأمر فيه اختلاف ، فرأى أنه مصيب ، فقد حكم بحكم الطاغوت . إنه لينزل في ليلة القدر ، إلى ولي الأمر ، تفسير الأمور سنة سنة ، يؤمر فيها في أمر نفسه ، بكذا ، وكذا ، وفي أمر الناس ، بكذا ، وكذا . وإنه ليحدث لولي الأمر ، سوى ذلك كل يوم [من] علم الله – عز وجل – الخاص ، والمكنون ، العجيب ، المخزون ، مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر ، ثم قرأ : ﴿وَلَوْ أَنَّمَا في

ص: 247


1- يرجى ملاحظة اهتمام الفقهاء في هذا النص في الديات، واعتماد الكثير من القدماء والمتأخرين عليه .
2- الإسناد هو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام):....

الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حكيم﴾ [لقمان : 27] .

4 - وبهذا الإسناد(1) عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : كان علي بن الحسين صلوات الله عليه ، يقول : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْر﴾ صدق الله - عز وجل - أنزل الله القرآن ، في ليلة القدر ، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر﴾ له قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لا أدري ، قال الله - عز وجل - : ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ ألف شَهْر﴾ ليس فيها ليلة القدر ، قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): وهل تدري لم هي خير من ألف شهر ؟ قال لا ، قال : لأنها تنزل فيها الملائكة والروح بإذن ربهم من كل أمر ، وإذا أذن الله عز وجل بشيء فقد رضيه ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ يقول : تسلم عليك - يا محمد – ملائكتي ، وروحي ، بسلامي من أول ما يهبطون إلى مطلع الفجر . ثم قال : في بعض كتابه : ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةٌ لا تُصِيبَنَّ الذينَ ظَلَمُوا منكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال : 25] في : ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وقال في بعض كتابه : ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْله الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلَبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران : 144] يقول في الآية الأولى : إن محمدا حين يموت ، يقول أهل الخلاف لأمر الله عز وجل : مضت ليلة القدر مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهذه فتنة أصابتهم خاصة ، وبها ارتدوا على أعقابهم ؛ لأنه إن قالوا : لم تذهب ، صل فلابد أن يكون الله عز وجل فيها أمر ، وإذا أقروا بالأمر لم يكن له من صاحب بد .

5 - وعن أبي عبد الله (علیه السّلام)(2) قال : كان علي (علیه السّلام)، كثيرا ما يقول - : [ما] اجتمع التيمي ، والعدوي عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو يقرأ : ﴿إنا أنزلناه﴾ بتخشع ، وبكاء ، فيقولان : ما أشد رقتك لهذه السورة ؟ فيقول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لما رأت عيني ، ووعا قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي ،

ص: 248


1- الإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .
2- الإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

فيقولان : وما الذي رأيت، وما الذي يرى ، قال : فيكتب لهما في التراب : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ قال : ثم يقول : هل بقي شيء بعد قوله عز وجل : ﴿كُلِّ أمْر﴾ فيقولان : لا ، فيقول : هل تعلمان من المنزل إليه بذلك ؟ فيقولان : أنت يا رسول الله ، فيقول : نعم ، فيقول : هل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : فهل ينزل ذلك الأمر فيها ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : إلى من ؟ فيقولان : لا ندري ، فيأخذ برأسي ، ويقول : إن لم تدريا فادريا، هو هذا من بعدي ، قال : فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، من شدة ما يداخلهما من الرعب.

6 - وعن أبي جعفر (علیه السّلام)(1) قال : يا معشر الشيعة ، خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تحلجوا (تفلجوا) فو الله ، إنها لحجة الله - تبارك وتعالى - على الخلق ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنها لسيدة فوالله دينكم ، وإنها لغاية علمنا ، يا معشر الشيعة خاصموا ب_﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 1 - 3] فإنها لولاة الأمر خاصة بعد رسول الله له ، يا معشر الشيعة ، يقول الله تبارك وتعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير قيل : يا أبا جعفر نذيرها محمد ، قال : صدقت ، فهل كان نذير ، وهو حي ، من البعثة في أقطار الأرض ، فقال السائل : لا ، قال أبو جعفر (علیه السّلام): أرأيت بعيثه ، أليس نذيره، كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في بعثه من الله - عز وجل - نذير ، فقال : بلى ، قال : فكذلك لم يمت محمد ، إلا وله بعيث نذير ، قال : فإن قلت : لا ، فقد ضيع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من في أصلاب الرجال من أمته ، قال : وما يكفيهم القرآن ؟ قال : بلى، إن وجدوا له مفسرا ، قال : وما فسره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال : بلی ، قد فسره لرجل واحد ، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل ، وهو علي بن أبي طالب (علیه السّلام). قال السائل : يا أبا جعفر كأن هذا أمر خاص لا يحتمله العامة ؟ قال : أبى الله ، أن يعبد إلا سرا ، حتى يأتي إبان أجله ، الذي يظهر فيه دينه ، كما أنه كان رسول الله مع خديجة مستترا ، حتى أمر بالإعلان . قال السائل : ينبغي

ص: 249


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

لصاحب هذا الدين أن يكتم . قال : أوما كتم علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، يوم أسلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، حتى ظهر أمره ؟ قال : بلى ، قال : فكذلك أمرنا ، حتى يبلغ الكتاب أجله .

7 - وعن أبي جعفر (علیه السّلام)(1) قال : لقد خلق الله - جل ذكره - ليلة القدر ، أول ما خلق الدنيا ، الله ولقد خلق فيها أول نبي يكون ، وأول وصي يكون ، ولقد قضى ، أن يكون في كل سنة ليلة ، يهبط فيها بتفسير الأمور ، إلى مثلها من السنة المقبلة ، من جحد ذلك ، فقد رد على الله - عز وجل - علمه ؛ لأنه لا يقوم الأنبياء ، والرسل ، والمحدثون ، إلا أن تكون عليهم حجة ، بما يأتيهم الحجة التي يأتيهم بها جبرئيل الله ، قلت : والمحدثون أيضا ، يأتيهم جبرئيل (علیه السّلام)، تلك الليلة ، مع أو غيره من الملائكة (علیهم السّلام)؟ قال : أما الأنبياء والرسل صلى الله عليهم ، فلا شك ، ولا بد لمن سواهم ، من أول يوم خلقت فيه الأرض ، إلى آخر فناء الدنيا ، أن تكون على أهل الأرض حجة ، ينزل ذلك في تلك الليلة ، إلى من أحب من عباده . وأيم الله ، لقد نزل الروح ، والملائكة ، بالأمر في ليلة القدر ، على آدم ، وأيم الله ، ما مات آدم ، إلا وله وصي ، وكل من بعد آدم من الأنبياء ، قد أتاه الأمر فيها ، ووضع لوصيه من بعده ، وأيم الله ، إن كان النبي ليؤمر فيما يأتيه من الأمر، في تلك الليلة من آدم إلى محمد (صلی الله علیه و آله و سلم): أن أوص إلى فلان ، ولقد قال الله - عز وجل - في كتابه ، لولاة الأمر من بعد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) خاصة : ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات ليَسْتَخْلفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِن قَبْلِهِمْ ... - إلى قوله - فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور : 55] يقول : أستخلفكم لعلمي ، وديني ، وعبادتي بعد نبيكم ، كما استخلف وصاة آدم من بعده ، حتى يبعث النبي الذي يليه ﴿يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ يقول : يعبدونني بإيمان لا نبي بعد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فمن قال غير ذلك ﴿فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فقد مكن ولاة الأمر ، بعد محمد بالعلم ، و نحن هم ، فاسألونا فإن صدقناكم ، فأقروا ، وما أنتم بفاعلين . أما علمنا فظاهر ، وأما إبان أجلنا ، الذي يظهر فيه الدين منا ، حتى لا يكون بين الناس اختلاف ، فإن

ص: 250


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

له أجلا من ممر الليالي ، والأيام ، إذا أتى ظهر ، وكان الأمر واحدا . وأيم الله ، لقد قضي الأمر ، أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف ، ولذلك جعلهم شهداء على الناس ؛ ليشهد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) علينا ، ولنشهد على شيعتنا ، ولتشهد شيعتنا على الناس ، أبى الله - عز وجل - أن يكون في حكمه اختلاف ، أو بين أهل علمه تناقض . ثم قال أبو جعفر (علیه السّلام): فضل إيمان المؤمن بحمله : إنَّا أنزَلْنَاهُ وبتفسيرها ، على من ليس مثله في الإيمان بها ، كفضل الإنسان على البهائم ، وإن الله - عز وجل - ليدفع بالمؤمنين بها ، عن الجاحدين لها ، في الدنيا - لكمال عذاب الآخرة ، لمن علم أنه لا يتوب منهم - ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين ، ولا أعلم أن في هذا الزمان جهادا ، إلا الحج ، والعمرة ، والجوار .

8 - قال(1): وقال رجل لأبي جعفر (علیه السّلام): يا ابن رسول الله ، لا تغضب علي . قال : لماذا ؟ قال : لما أريد أن أسألك عنه ، قال : قل ، قال : ولا تغضب ؟ ، قال : ولا أغضب ، قال : أرأيت قولك في ليلة القدر ، وتنزل الملائكة ، والروح فيها إلى الأوصياء ، يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد علمه ؟ أو يأتونهم بأمر كان رسول الله لا يعلمه ؟ وقد علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مات ، وليس من علمه شيء إلا وعلي (علیه السّلام) له واع ، قال أبو جعفر (علیه السّلام): مالي ولك أيها الرجل ، ومن أدخلك علي ؟ قال : أدخلني عليك القضاء ، لطلب الدين ، قال : فافهم ما أقول لك : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لما أسري به ، لم يهبط حتى أعلمه الله - جل ذكره - علم ما قد كان ، وما سيكون ، وكان كثير - من علمه ذلك - جملا ، يأتي تفسيرها في ليلة القدر ، وكذلك كان علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، قد علم جمل العلم ، ويأتي تفسيره في ليالي القدر ، كما كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال السائل : أوما كان في الجمل تفسير ؟ قال : بلى ، ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله - تعالى - في ليالي القدر ، إلى النبي وإلى الأوصياء : افعل كذا وكذا ، لأمر قد كانوا علموه ، أمروا كيف يعملون فيه ؟ قلت : فسر لي هذا ، قال : لم يمت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إلا حافظا لجمله وتفسيره ، قلت : فالذي كان يأتيه في ليالي

ص: 251


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

القدر ، علم ما هو ؟ قال : الأمر ، واليسر فيما كان قد علم ، قال السائل : فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا ؟ قال : هذا مما أمروا بكتمانه ، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه ، إلا الله – عز وجل . قال السائل : فهل يعلم الأوصياء ، ما لا يعلم الأنبياء ؟ قال : لا ، وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه ، قال السائل : فهل يسعنا أن نقول : إن أحدا من الوصاة ، يعلم ما لا يعلم الآخر ؟ قال : لا ، لم يمت نبي ، إلا وعلمه في جوف وصيه ، وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم، الذي يحكم به بين العباد ، قال السائل ، و ما كانوا علموا ذلك الحكم ؟ قال : بلى قد علموه ، ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شيء منه ، حتى يؤمروا في ليالي القدر ، كيف يصنعون إلى السنة المقبلة . قال السائل : يا أبا جعفر ، لا أستطيع إنكار هذا ؟ قال أبو جعفر (علیه السّلام): من أنكره فليس منا . قال السائل : يا أبا جعفر ، أرأيت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، هل كان يأتيه في ليالي القدر شيء ، لم يكن علمه ؟ قال : لا يحل لك أن تسأل عن هذا ، أما علم ما كان ، وما سيكون فليس يموت نبي ، ولا وصي ، إلا و ، إلا والوصي الذي بعده يعلمه ، أما هذا العلم، الذي تسأل عنه ، فإن الله - عز وجل - أبى أن يطلع الأوصياء عليه ، إلا أنفسهم ، قال السائل : يا ابن رسول الله ، كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة ؟ قال : إذا أتى شهر رمضان ، فاقرأ سورة الدخان ، في كل ليلة مئة مرة ، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين ، فإنك ناظر إلى تصديق الذي سالت عنه.

9 - وقال(1): قال أبو جعفر (علیه السّلام): لما ترون من بعثه الله - عز وجل - للشقاء على أهل الضلالة ، من أجناد الشياطين ، وأزواجهم ، أكثر مما ترون خليفة الله ، الذي بعثه للعدل والصواب الملائكة ، قيل : يا أبا جعفر ، وكيف يكون شيء أكثر من الملائكة ؟ قال : كما شاء الله عز وجل ، قال السائل : يا أبا جعفر ، إني لو حدثت بعض الشيعة، بهذا الحديث ، لأنكروه ، قال : كيف ينكرونه ؟ قال : يقولون : إن الملائكة (علیهم السّلام)، أكثر من الشياطين ، قال : صدقت ، افهم عني ما أقول : إنه ليس من يوم ، ولا ليلة ، إلا وجميع الجن والشياطين ، تزور أئمة الضلالة ، ويزور

ص: 252


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

إمام الهدى عددهم من الملائكة ، حتى إذا أتت ليلة القدر ، فيهبط فيها من الملائكة ، إلى ولي الأمر ، خلق الله - أو قال قيض الله - عز وجل ، من الشياطين بعددهم ، ثم زاروا ولي الضلالة ، فأتوه بالإفك ، والكذب ، حتى لعله يصبح فيقول : رأيت كذا وكذا ، فلو سأل ولي الأمر عن ذلك ، لقال رأيت شيطانا أخبرك ، بكذا ، وكذا ، حتى يفسر له تفسيرا ، ويعلمه الضلالة التي هو عليها . وأيم الله ، إن من صدق بليلة القدر ، ليعلم أنها لنا خاصة ؛ لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لعلي (علیه السّلام) الحين دنا موته : هذا وليكم من بعدي ، فان أطعتموه رشدتم ، ولكن من لا يؤمن بما في ليلة القدر ، منكر ، ومن آمن بليلة القدر ، ممن على غير رأينا ، فإنه لا يسعه في الصدق ، إلا أن يقول ، إنها لنا ، ومن لم يقل فإنه كاذب ، إن الله - عز وجل - أعظم من أن ينزل الأمر مع الروح والملائكة إلى كافر فاسق ، فان قال : إنه ينزل إلى الخليفة، الذي هو عليها ، فليس قولهم ذلك بشيء ، وإن قالوا : إنه ليس ينزل إلى أحد ، فلا يكون أن ينزل شيء ، إلى غير شيء ، وإن قالوا - وسيقولون - ليس هذا بشيء ، فقد ضلوا ضلالا بعيدا .

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن الحريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): إن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، قال لابن عباس : إن ليلة القدر في كل سنة ، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاة ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال ابن عباس : من هم ؟ قال : أنا وأحد عشر من صلبي ، أئمة محدثون .

12 - وبهذا الإسناد(1) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأصحابه : آمنوا بليلة القدر ، إنها تكون لعلي بن أبي طالب ، ولولده الأحد عشر من بعدي(2).

ص: 253


1- وهو : محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زیاد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن الحريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث).
2- تخريج : الشيخ الصدوق : كمال الدين وتمام النعمة : 280 – 281 : «حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن سهل بن زياد ، وأحمد بن محمد بن عيسى ، قالا : حدثنا الحسن بن العباس بن حريش الرازي ، عن أبي جعفر الثاني ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام : أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول لأصحابه : آمنوا بليلة القدر ، إنها تكون لعلى بن أبي طالب، وولده الأحد عشر من بعده».

روايات أخرى

وإذا كان هناك ثمة مجال ، ومظنة للجدل في الروايات آنفة الذكر ، حول دقة ، وصحة السند ، أو النسبة إلى المنابع النقية للحديث الإمامي ، فنحن - هنا - نورد هذه الروايات ، الثابتة الصحة ، بطرق أخرى لا شائبة في نسبتها ، وهي بالتالي ، تدعم - فيما جاء فيها – ما تضمنته الروايات السابقة من المعنى ، ولو بشكل مجمل :

العلامة المجلسي(1):

46 - بصائر الدرجات : عبد الله بن محمد ، عن ابن أبي الخطاب ، عن محمد بن عبد الله ، عن يونس ، عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): أرأيت من لم يقر بما يأتيكم في ليلة القدر ، كما ذكر ، ولم يجحده ؟ قال : أما إذا قامت عليه الحجة ، ممن يثق به - في علمنا - فلم يثق به ، فهو كافر ، وأما من لم يسمع ذلك ، فهو في عذر ، حتى يسمع . ثم قال (علیه السّلام): ﴿يُؤْمن بالله ويُؤمن للْمُؤمنينَ﴾ [التوبة : 61] .

محمد بن الحسن الصفار(2):

حدثنا يعقوب بن يزيد ، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن بكير ، عن ابن بكير ، عن

ص: 254


1- بحار الأنوار : 94 : 21 . وفي بصائر الدرجات : 244 .
2- بصائر الدرجات : 240 : 245 : باب ما يلقى إلى الأئمة في ليلة القدر ، مما يكون في تلك السنة ، ونزول الملائكة عليهم .

أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إن ليلة القدر ، يكتب ما يكون منها في السنة ، إلى مثلها ، من خير ، أو شر أو موت ، أو حياة ، أو مظر ، ويكتب فيها وفد الحاج ، ثم يقضى ذلك إلى أهل الأرض . فقلت : إلى مَن من أهل الأرض ؟ فقال : إلى من ترى .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن داود بن فرقد ، قال : سألته عن قول الله - عز وجل - : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ . قال : نزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة ، من موت ، أو مولود . قلت له : إلى مَن ؟ فقال : إلى مَن عسى أن يكون ؟ إن الناس - في تك الليلة - في صلاة ، ودعاء ، ومسألة ، وصاحب هذا الأمر في شغل ، تنزل الملائكة إليه ، بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها ، من كل أمر ، سلام هي له إلى أن يطلع الفجر .

حدثنا العباس بن معروف ، عن سعدان بن مسلم، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألته عن النصف من شعبان ، فقال : ما عندي فيه شيء ، ولكن إذا كانت ليلة تسع عشر ، من شهر رمضان ، قسم فيها الأرزاق ، وكتب فيها الآجال ، وخرج فيها صكاك الحاج ، واطلع الله إلى عباده فغفر الله لهم ، إلا شارب الخمر . فإذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم ، ثم ينهى ذلك ، ويمضى . قال : قلت إلى من ؟ قال : إلى صاحبكم ، ولولا ذلك لم يعلم .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن عمر بن عبد العزيز، عن يونس ، عن الحرث بن المغيرة البصري ، وعن عمرو ، عن ابن أبي عمير، عمن رواه عن هشام ، قال : قلت لأبي عبد الله الله : قول الله تعالى في كتابه : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ . قال : تلك ليلة القدر ، يكتب فيها وفد الحاج ، وما يكون فيها من طاعة ، أو معصية ، أو موت ، أو حياة ، ويحدث الله في الليل والنهار ، وما يشاء ، ثم يلقيه إلى صاحب الأرض ، قال : الحرث بن المغيرة البصري : قلت : ومن صاحب الأرض ؟ قال : صاحبكم .

حدثنا إبراهيم بن هاشم ، عن يحيى بن أبي عمران الهمداني ، عن يونس ، عن داود بن فرقد ،

ص: 255

عن أبي المهاجر ، عن أبي الهذيل، عن أبي جعفر ، قال : قال : يا أبا الهذيل إنا لا يخفى علينا ليلة القدر ، إن الملائكة يطوفون بنا فيها .

حدثنا محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن داود بن فرقد ، قال : سألته عن ليلة القدر ، التي تنزل فيها الملائكة . فقال : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرِ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ . قال : ثم قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): مِمَن وإلى مَن وَمَا ينزل .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن الحسن بن موسى ، عن سعيد بن يسار ، قال : كنت عند المعلى بن خنيس ، إذ جاء رسول أبي عبد الله (علیه السّلام)، فقلت له : سله عن ليلة القدر . فلما رجع ، قلت له : سألته ، قال : نعم ، فأخبرني بما أردت ، وما لم أرد . قال : إن الله يقضى فيها مقادير تلك السنة ، ثم يقذف به إلى الأرض ، فقلت إلى مَن ؟ فقال لي : مَن تری؟ يا عاجز ، أو يا ضعيف .

حدثنا محمد بن عيسى ، عن علي بن إسماعيل ، عن الحسن بن موسى ، عن معلی بن خنيس ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إذا كان ليلة القدر ، كتب الله فيها ما يكون ، قال : ثم يريني به ، قال : قلت إلى مَن ، قال : إلى من ترى ، يا أحمق .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، وغيره ، عن سيف بن عميره ، عن حسان ، عن ابن داود ، عن بريده ، قال : كنت جالسا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، و علي (علیه السّلام) معه ، إذ قال يا علي ، ألم أشهدك معي سبعة مواطن ، الموطن الخامس ليلة القدر ، خصصنا ببركتها ، ليست لغيرنا .

حدثنا محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن الحسن بن موسى ، عن معلی بن خنيس ،عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إذا كان ليلة القدر ، كتب الله فيها ما يكون ، ثم يريني به ، قال : قلت إلى مَن ، قال : إلى من ترى ، يا أحمق .

حدثنا سلمة بن الخطاب ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد، عن عبد الله بن القاسم ، عن محمد بن حمران ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : قلت له إن الناس يقولون : إن ليلة النصف من شعبان ،

ص: 256

تكتب فيه الآجال ، وتقسم فيه الأرزاق ، وتخرج صكاك الحاج ، فقال : ما عندنا في هذا شيء ، ولكن إذا كانت ليلة تسع عشر من شهر رمضان ، يكتب فيها الآجال ، ويقسم فيها الأرزاق ، ويخرج صكاك الحاج ، ويطلع الله على خلقه ، فلا يبقى مؤمن ، إلا غفر له ، إلا شارب مسكر ، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم أمضاه ، ثم أنهاه ، قال : قلت إلى مَن - جعلت فداك - فقال : إلى صاحبكم ، ولولا ذلك لم يعلم ما يكون في تلك السنة.

حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسن بن العباس بن الحريش ، قال : عرضت هذا الكتاب على أبي جعفر (علیه السّلام)، فأقر به ، قال : قال أبو عبد الله (علیه السّلام)، قال علي (علیه السّلام)في صبح أول ليلة القدر ، التي كانت بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): سلوني ، فوالله لأخبرنكم بما يكون ، إلى ثلاثمائة وستين يوما ، من الذر ، فما دونها ، فما فوقها ، ثم لأخبرنكم بشيء من ذلك ، لا بتكلف ، ولا برأي ، ولا بادعاء في علم ، إلا من علم الله ، وتعليمه . والله ، لا يسألني أهل التوراة ، ولا أهل الإنجيل ، ولا أهل الزبور ، ولا أهل الفرقان ، إلا فرقت بين كل أهل كتاب ، بحكم ما في كتابهم . قال : قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): أرأيت ما تعلمونه في ليلة القدر هل تمضى تلك السنة ، وبقي منه شيء ، لم تتكلموا به ؟ قال : لا ، والذي نفسي بيده لو أنه فيما علمنا في تلك الليلة : أن أنصتوا لأعدائكم ، لنصتنا ، فالنصت أشد من الكلام .

حدثنا عباد بن سليمان ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه سليمان ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إن نطفة الإمام من الجنة ، وإذا وقع من بطن أمه إلى الأرض ، وقع و هو واضع يده إلى الأرض ، رافع رأسه إلى السماء . قلت : - جعلت فداك - وَلمَ ذاك ؟ قال : إن مناديا يناديه - من جو السماء السماء ، من بطنان العرش ، من الأفق الأعلى - : يا فلان بن فلان اثبت ، فإنك صفوتي من خلقي ، وعيبة علمي، ولك ، ولمن تولاك ، أوجبت رحمتي ، ومنحت جناني ، وأحلت جواري ، ثم وعزتي ، وجلالي لأصلين من عاداك أشد عذابي ، وإن أوسعت عليهم في دنياي من سعة رزقي . قال : فإذا انقضى صوت المنادي أجابه هو : ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ

ص: 257

وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُواْ العلم قائماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران : 18] فإذا قالها أعطاه العلم الأول ، والعلم الآخر ، واستحق زيادة الروح في ليلة القدر .

حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن الحسن بن عباس بن حريش ، إنه عرضه على أبي جعفر (علیه السّلام)، فأقر به ، قال : فقال أبو عبد الله (علیه السّلام): إن القلب ، الذي يعاين ما ينزل في ليلة القدر ، لعظيم الشأن . قلت : وكيف ذاك يا أبا عبد الله ؟ قال : ليشق – والله – بطن ذلك الرجل ، ثم يؤخذ إلى قلبه ، ويكتب عليه بمداد النور ، فذلك جميع العلم ، ثم يكون القلب مصحفا للبصر ، ويكون اللسان مترجما للأذن ، إذا أراد ذلك الرجل علم شيء ، نظر ببصره ، وقلبه فكأنه ينظر في كتاب . قلت له بعد ذلك : وكيف العلم في غيرها ، أيشق القلب فيه أم لا ؟ قال : لا يشق ، لكن الله يلهم ذلك الرجل ، بالقذف في القلب ، حتى يخيل إلى الأذن أنه تكلم بما شاء الله [عمله؟](1)، والله واسع عليم .

حدثنا عبد الله بن الله محمد ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن محمد بن عبد ، عن يونس ، عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): أرأيت ، من لم يقر بما يأتكم في ليلة القدر ، كما ذكر ، ولم يجحده . قال : أما إذا قامت عليه الحجة من يثق به - في علمنا - فلم يثق به ، فهو كافر ، وأما من لا يسمع ذلك ، فهو في عذر حتى يسمع ، ثم قال (علیه السّلام): ﴿يُؤْمِنُ بِالله ويُؤمن للمؤمنينَ﴾ [التوبة : 61] .

رواية مهمة جدا :

ولعل من أهم الروايات التي بين أيدينا في هذا المعنى هي الرواية الآتية أرجو التدبر بها وكل هذه الروايات في بصائر الدرجات للصفار (رحمه الله علیه) كما قلنا :

حدثنا أحمد بن محمد ، وأحمد بن إسحاق ، عن القاسم بن يحيى ، عن بعض أصحابنا ،عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : كان علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، كثيرا ما يقول : ما التقينا عند رسول الله (علیه السّلام)، التيمي وصاحبه ، وهو يقول : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ ويتخشع ، ويبكي ، فيقولان :

ص: 258


1- كذا في الأصل .

ما أشد رقتك بهذه السورة ، فيقول : لهما إنما رققت لما رأت عيناي ، ووعاه قلبي ، ولما رأى قلب هذا من بعدي - يعني عليا (علیه السّلام)- فيقولان : أرأيت، وما الذي يرى، فيتلوا هذا الحرف : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ قال : ثم يقول : هل بقي شيء بعد قوله - تبارك وتعالى - كل أمر ؟ فيقولان : لا ، فيقول : هل تعلمان ، من المنزول إليه بذلك ، فيقولان : لا ، والله ، يا رسول الله ، فيقول : نعم ، فهل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان : نعم ، قال : فهل تنزل الأمر فيها ؟ فيقولان : نعم ، فيقول : إلى من ؟ فيقولان : لا ندري ، فيأخذ برأسي ، فيقول : إن لم تدريا ، هو هذا من بعدي . قال : فإن كانا يفرقان تلك الليلة ، بعد رسول الله ، من شدة ما يدخلها من الرعب .

وبهذا الإسناد : قال : لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، هبط جبرئيل ، ومعه الملائكة ، والروح ، الذين كانوا يهبطون في ليلة القدر ، قال : ففتح لأمير المؤمنين (علیه السّلام) بصره ، فرآهم في منتهى السماوات إلى الأرض ، يغسلون النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) معه ، ويصلون معه عليه ، ويحفرون له ، والله ما حفر له غيرهم ، حتى إذا وضع في قبره ، نزلوا مع من نزل ، فوضعوه ، فتكلم ، وفتح لأمير المؤمنين (علیه السّلام) سمعه ، فسمعه يوصيهم به ، فبكى ، وسمعهم يقولون : لأنالوه [كذا] جهدا ، وإنما هو صاحبنا فبکی بعدك ، إلا إنه ليس يعايننا ببصره، بعد مرتنا هذه. حتى إذا مات أمير المؤمنين (علیه السّلام)، رأى الحسن ، والحسين مثل ذلك ، الذي رأى ، ورأيا النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)- أيضا - يعين الملائكة ، مثل الذي صنعوه بالنبي . حتى إذا مات الحسن ، رأى منه الحسين ، مثل ذلك . ورأى النبي ، وعليا لله يعينان الملائكة ، حتى إذا مات الحسين ، رأى علي بن الحسين منه ، مثل ذلك . ورأي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وعليا (علیه السّلام)، والحسن يعينون الملائكة ، حتى إذا مات علي بن الحسين ، رأى محمد بن علي ، مثل ذلك ، ورأى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعليا ، والحسن والحسين عليهما السلام ، يعينون الملائكة ، حتى إذا مات محمد بن علي (علیه السّلام)، رأى جعفر مثل ذلك ، ورأى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعليا (علیه السّلام)، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، يعينون الملائكة ، حتى إذا مات جعفر ، رأى موسى منه مثل ذلك ، هكذا يجري ، إلى آخرنا .

ص: 259

أهمية سورة القدر

فيما يلي استعراض سريع لأهمية سورة القدر ، وما جاء من الروايات في ثواب قراءتها ، وترقب ليلتها ، وأهمية هذه الليلة عند جميع المسلمين ، وكذلك الروايات التي أشارت إلى كونها مستمرة غير منقطعة ، مما يدلل بالتالي على الخصوصية التي تمتاز بها ، ويبرهن على أن هذه الخصوصية لم تأت من فراغ بل هي ليلة ذات شأن وهي مستمرة تمس حياة الأجيال والبشر بمختلف مراحلهم :

أولا : النصوص السنية ملخصة :

لقد رأيت أن اختصر النقل ، لما يمثل شريحة كبيرة من النصوص المتشابهة ، وسأكتفي ببعض النصوص ، ففيهما الدلالة الواضحة على فضل ليلة القدر ، وأنها باقية إلى يوم القيامة :

عبد الكريم الرافعي(1):

«ليلة القدر أفضل ليالي السنة ، خص الله تعالى بها هذه الأمة ، وهي باقية إلى يوم القيامة».

الديلمي(2):

«ابن عباس : ألا أنبئكم بأفضل الملائكة : جبرئيل ، وأفضل البشر : آدم ، وأفضل : الأيام : يوم الجمعة ، وأفضل الشهور شهر رمضان ، وأفضل الليالي : ليلة القدر ، وأفضل النساء : مريم بنت عمران» .

ص: 260


1- فتح العزيز : 6 : 476 - 479 .
2- الفردوس : 1 : 172 : 483 . وقد أوردنا بعض الروايات - هنا - من دون تعليق ، إذ أن ما يعنينا فيها هو نح موضوعنا المطروح للمناقشة والبحث حول أهمية ليلة القدر ، أما ما توزعه الرواية من التفضيل – دون مقياس معلوم - فلا شأن لنا به .

محيي الدين النووي(1):

«ويستحب طلب ليلة القدر ؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «من قام ليلة القدر ، إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . ويطلب ذلك في ليالي الوتر ، من العشر الأخير من شهر رمضان ، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «التمسوها في العشر الأخير في كل وتر» .

وبعد أن صحح النووي الحديثين وأثبت ما فيهما ، قال في الشرح :(2)

«وقال تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ فهذا بيان الآية الأولى ، ومعناه إنه يكتب للملائكة فيها ، ما يعمل في تلك السنة ، ويبين لهم ما يكون فيها ، من الأرزاق ، والآجال ، وغير ذلك ، مما سيقع في تلك السنة ، ويأمرهم الله تعالى ، بفعل ما هو من وظيفتهم ، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به ، وتقديره له ، وهذا الذي ذكرناه ، أولا من كون ليلة القدر مختصة بهذه الأمة ، ولم تكن لمن قبلها ، هو الصحيح المشهور ، الذي قطع به أصحابنا كلهم ، وجماهير العلماء ، وقال صاحب العدة من أصحابنا : اختلف الناس هل كانت ليلة القدر للأمم السالفة ، قال : والأصح ، أنها لم تكن إلا لهذه الأمة ، ثم استدل بالحديث المشهور في سبب نزول السورة» .

وقال في بقائها واستمرارها :

«ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة ، ويستحب طلبها ، والاجتهاد في إدراكها ، وقد سبق في آخر الباب ، الذي قبل هذا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان : «يجتهد في طلبها ، في العشر

ص: 261


1- المجموع : 6 : 446 - 453 .
2- قال في المجموع في نفس الصفحة وتعليقا على الحديث : ﴿الشرح﴾ حديث أبي هريرة وأبي سعيد عيد الأول وحديثه الثاني رواها كلها البخاري ومسلم وحديث عبد الله بن أنيس رواه مسلم وهو أنيس بضم الهمزة وحديث عائشة رواه أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون قال الترمذي هو حديث حسن صحيح وسيأتي فرع مستقل في ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في ليلة القدر ان شاء الله تعالى ومعني قيامها ايمانا أي تصديقا بأنها حق وطاعة واحتسابا أي طلبا لرضى الله تعالى وثوابه لا للرياء ونحوه ....

الأواخر من رمضان ، مالا يجتهد في غيره» وأنه : «كان صلى الله عليه وسلم ، إذا دخل العشر الأخير ، أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وجد ، وشد المئزر» . وهذان الحديثان في الصحيحين» .

وقال أيضا :

« (فان قيل) فأي فائدة لمعرفة صفتها ، بعد فواتها فإنها تنقضي بمطلع الفجر (فالجواب) من وجهين (أحدهما) : انه يستحب أن يكون اجتهاده في يومها ، الذي بعدها ، كاجتهاده فيها ، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى . (والثاني) : إن المشهور في المذهب ، أنها لا تنتقل ، فإذا عرفت ليلتها في سنة ، انتفع به في الاجتهاد فيها ، في السنة الآتية ، وما بعدها» .

وقال :

«يسن الإكثار من الصلاة فيها ، والدعاء ، والاجتهاد في ذلك ، وغيره من العبادات فيها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «من قام ليلة القدر ، إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ولحديث عائشة في الدعاء ، وهما صحيحان ، سبق بيانهما . ويستحب الدعاء فيها بما في حديث عائشة ، كما ذكره المصنف ، والأصحاب ، ويستحب إحياؤها بالعبادة إلى مطلع الفجر ، قال الله تعالى : ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ قال أصحابنا : معناه : إنها سلام من غروب الشمس ، إلى طلوع الفجر ، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى . قال الروياني في البحر : قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء ، والفجر ، ليلة القدر ، فقد اخذ بحظه منها ، قال الروياني : قال الشافعي في القديم : استحب أن يكون اجتهاد في يومها ، كاجتهاده في ليلتها . هذا نصه في القديم، ولا يعرف له في الجديد نص يخالفه ، وقد قدمنا في مقدمة الشرح : إن ما نص عليه في القديم ، ولم يتعرض له في الجديد ، بما يخالفه ، ولا بما يوافقه ، فهو مذهبه بلا خلاف ، والله أعلم» .

وقال - مبينا لأحكام شرعية تتصل بها مما يدلل على ثبوت وجودها واستمرارها عندهم من دون شك - :

«قال أصحابنا : إذا قال لزوجته : أنت طالق ليلة القدر ، أو لعبده : أنت حر ليلة القدر . فان قاله قبل رمضان ، أو فيه ، قبل انقضاء ليلة الحادي والعشرين من رمضان ، طلقت المرأة ، وعتق العبد

ص: 262

في أول جزء ، من الليلة الأخيرة ، من الشهر ؛ لأنه قد مرت عليهما ليلة القدر ، في إحدى ليالي العشر».(انتهى) .

أقول : النصوص المتقدمة ، لا تحتاج إلى بيان ، وشرح ، فهي وافية بنفسها ، دالة على تجدد ليلة القدر سنويا ، واستحباب ترقبها ، وفضائل تلك الليلة، وبركاتها ، لمن ترقبها وحضي بها.

ثانيا : النصوص الشيعية ملخصة :

وبعد أن استعرضنا بعضا من النصوص السنية التي تؤكد أهمية ليلة القدر ، نختار - هنا - بعضا من النصوص الشيعية في ذلك ، وهي نصوص أحاديث شريفة في ثواب قراءة سورة القدر منقولة عن بعض المصادر باختصار :

علي بن بابويه(1):

«وروي : أنه يستحب غسل ليلة إحدى وعشرين ؛ لأنها الليلة ، التي رفع فيها عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ، ودفن أمير المؤمنين علي (علیه السّلام)، وهي عندهم ليلة القدر . وليلة ثلاث وعشرين ،هي الليلة التي ترجى فيها ، وكان أبو عبد الله (علیه السّلام) يقول : «إذا صام الرجل ثلاثة وعشرين من شهر رمضان ، جاز له أن يذهب ، و يجيء في أسفاره» .

وفيه(2):

«وقال (علیه السّلام): وإذا كان الرجل على عمل ، فليدم عليه السنة ، ثم يتحول إلى غيره، إن شاء ذلك ؛ لأن ليلة القدر يكون فيها - لعامها ذلك - ما شاء الله أن يكون ، و بالله التوفيق» .

وفيه أيضا(3):

«اعلم - يرحمك الله - أن لشهر رمضان حرمة ، ليست كحرمة سائر الشهور ، لما خصه الله به ، وفضله ، وجعل فيه ليلة القدر ، والعمل فيها خير من العمل فى ألف شهر [ليس] فيها ليلة

ص: 263


1- فقه الرضا : 83 .
2- فقه الرضا : 126 .
3- فقه الرضا : 204.

القدر . فعليكم بغض الطرف ، وكف الجوارح عما نهى الله عنه ، وتلاوة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، والإكثار من ذكر الله، والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في الليل والنهار ما استطعتم».

الشيخ الصدوق(1):

قال : الصادق (علیه السّلام): اغتسل ليلة تسعة عشر من شهر رمضان ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، واجتهد أن تحييها . وذكر أن ليلة القدر ، ترجى في ليلة إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين . وقال (علیه السّلام): ليلة ثلاث وعشرين ، الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، وفيها يكتب وفد الحاج ، وما يكون من السنة إلى السنة».

المحقق الحلي(2):

«قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «إن الله تعالى اختار من الأيام يوم الجمعة ، ومن الشهور شهر رمضان ، ومن الليالي ليلة القدر ، واختار من الناس الأنبياء ، واختار من الأنبياء الرسل ، واختارني من الرسل ، واختار مني عليا ، واختار من علي الحسن والحسين ، واختار من الحسين الأوصياء ، وهم تسعة من ولده ،...» .

السيد البروجردي(3):

مجمع البيان : أبي بن كعب ، عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان ، وأحيا ليلة القدر» . الراوندي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم): مثله . الطبرسي ، عن الصادق (علیه السّلام)، أنه قال : «من قرأ هذه السورة - أي سورة القدر - في كل ليلة ، نادى مناد : استأنف العمل ، فقد غفر لك» .

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، أبي ، أبي ر رحمه الله ، عنه ، سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن سيف بن عميرة ، عن رجل ، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال : «من

ص: 264


1- الهداية : 197 : رقم : 105 : باب ما جاء في ليلة تسعة عشر وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين .
2- المعتبر : 1 : 24 .
3- جامع أحاديث الشيعة : 15 : 124 - 130 .

قرأ : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ فجهر بها صوته ، كان كالشاهر سيفه في سبيل الله – عز وجل - ومن قرأها سرا ، كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، ومن قرأها عشر مرات ، محا الله عنه ألف ذنب من ذنوبه .

أبي رحمه الله ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي ، عن إسماعيل بن سهل ، قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): علمني شيئا ، إذا أنا قلته كنت معكم في الدنيا والآخرة ، قال : فكتب بخطه اعرفه : أكثر من تلاوة إنا أنزلناه ورطب شفيتك بالاستغفار .

أقول : هذه النصوص ، لا تحتاج إلى شرح وبيان ، وهي دالة بنفسها على فضيلة هذه الليلة واستمرارها ، وعلى فضيلة قراءة : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ وعلى بركاتها الدائمة ، غير أن حديثا ورد في هذا المجموع من الأحاديث يوجب التأمل ، وهو قول الإمام (علیه السّلام):

«وإذا كان الرجل على عمل ، فليدم عليه السنة ، ثم يتحول إلى غيره ، إن شاء ذلك ؛ لأن ليلة القدر يكون فيها - لعامها ذلك - ما شاء الله أن يكون ، و بالله التوفيق» .

ومفهوم الحديث : إن من أراد أن يعمل فلا يغيره إلى السنة المقبلة ، بعد ليلة القدر ؛ لأن التوفيق المنوط به إنما يكون مما اختاره من عمل ، ويكون المقدر ، متعلق بذلك العمل ، فعليه أن لا يغيره إلى قبيل ليلة القدر ، ليختار عملا آخر ، لتكتب له بركته ، والتوفيق له ، وهذا المعنى يحتاج إلى بسط في الكلام ، ليس محله هنا ، ولعل البعض يرى فيه مشكلة ، فإذا صح الحديث ، يعتبره معارضا بغيره فيطرحه ، غير أن هناك قراءة ، اقل مشكلة من هذا ، وهي أن المؤمن ينبغي أن يقبل توفيق الله ، فيتعرض له بمداومة العمل ليتحسسه ، إلى قبيل ليلة القدر المقبلة ، عسى أن ينال التوفيق ، ولو بعد حين ، وهذا لا ينافي إثبات اختيار العبد ، ومسؤوليته حتى يتم الإشكال ، فإن من يخطط بعلم لعمله ، لا بأس عليه ، أن يدعو الله سبحانه التوفيق فيه ، وينتظر إلى قبيل ليلة القدر ، فيشرع فيه ويلح في الدعاء أن يوفقه الله ، فعسى أن يكتب له في تلك السنة التوفيق في عمله ، فهذا المعنى مقبل ، وليس فيه مشاكل ، ويمكن أن يستفاد من الحديث - أيضا - مكافحة الفشل ، وعدم الجزع ، والتقلب بين الأعمال نتيجة العثرات ، فإذا أضفنا للثبات في العمل ، ما أقره الأئمة (علیهم السّلام) من

ص: 265

التخطيط ، والسعي ، والمثابرة في العمل في تحصيل الرزق ، باعتبار مدخلية السعي ، ودقته في النتائج بخلاف الجبرية الظاهرة المبطنة ، فإن هذه المعاني ، هي التي توضح حقيقة المراد من الحديث ، لا أنها تعارضه وتقضي عليه بالإهمال .

ص: 266

الفصل الثالث

مشكلة الغيبة والعقل الحسي التجريبي

ص: 267

ص: 268

مشكلة ما وراء الحس

لو فكرنا - حقيقة - في جذر قضية إنكار وجود من يتصل بالله ، ويتلقى ألطافه ، وفيوضه العلمية ، لوجدنا أن السبب الرئيسي لعدم التعقل ، هو طرق المعرفة ، التي يتربى عليها الإنسان المسلم .

إن كل من يشتغل بعلوم التاريخ ، وعلم المجتمع الإسلامي، يعلم إن حكام المسلمين ، يريدون للناس أن يكونوا حسيين ، وهم يستهزئون من كل فكر غيبي ، بعيد عن الحس ، وقد دربوا الناس على هذه الطريقة في التفكير ، وحين يصطدمون بثوابت الإسلام الغيبية ، يقولون : هذا من باب التصديق ، أو نصدق بالخبر ، من دون أن نعقله و نفهمه . كحال الفكر الكاثوليكي ، وهذا من اخطر ما يواجهه المسلم في حياته العلمية .

وإذا سلمنا جدلا بصحة مقولة : أن الغيب لا يمكن معرفته ، فهذا لا يعني - مطلقا - أن كل ما كان خارج الحس ، لا يعقل . ولا يمكن إدراكه ، فهذه مغالطة واضحة ، لعدم الترابط بين الغيب وبين ما وراء الحس ، وهنا نقطة الخلاف بين المنهج الحسي، الذي يؤمن به العوام من المثقفين ويدعون خلاف ذلك ، وبين علماء المسلمين ، الذين يؤمنون بالمنهج العقلي ، بمختلف اتجاهاتهم ، وتفسيراتهم لنظرية المعرفة .

على العموم ، فإن مشكلة الحسيين هي أنهم لا يتعقلون ما وراء حسهم ، حتى لو كانوا متدينين ، وليسوا بعلمانيين ، أو ليسوا بملحدين . فلو قيل لهم : إن الله أحيي ميتاً ، فسيقولون لك : هل لديك دليل؟ فتقول لهم : أن الله قد قال ذلك في كتابه . وهنا يقولون سلّمنا ؛ لأن حسّهم وقع على معرفة حسية معينة ، وهو الكتاب ، وهو أمر حسي سماعي بالنسبة لهم . ولكن لو قلت لهم : إن الولي الفلاني ، أحيى الموتى . فسيناقشون خارج كون الخبر صادقا أم لا ؟ بل سيقولون لك : إنه

ص: 269

مستحيل ، ولا يمكن أبداً . بناءً على مرجعيتهم الحسية في المعرفة ، من دون شعور منهم ، وحين تنبههم إلى أن الله يحيي الموتى، وأن العملية ممكنة أساسا ! فسيقولون لك : وهل تحوّل الولي إلى إله ؟ وقد يقولون لك : لا يجوز تحويل الإمكان إلى واقع ، وغير ذلك . بينما المنهج العلمي ، هو التحقق من صدق دعوى الإحياء مثلا ، قبل كل شيء ، وبعد ذلك تأتي مرحلة التفسير .

وكل قضية إذا فرغ من إمكانها ، لا يجوز العود إلى بحث الإمكان ، والاستبعاد مجددا ، بناءً على الاستحالة ، وإنما يكون البحث عن الوقوع ، وطرق التحقق منه . وهذا ما لا يفعله الحسي ، بل يقفز مباشرة إلى قضية استحالة حصول شيء خلاف العادة ، وخلاف الملموس من الوقائع التي عاشها . فكل غريب ، وصعب ، يعتبر مستحيلا عنده ، بطريقة لا شعورية ، ولهذا يسارع الحسي إلى رفض معاني بعيدة ، وغيبية ، تتعلق بإرادة الله المتحققة في الوجود الإنساني ، بشكل نادر.

فالحسي ، لا يؤمن - حقيقة – أن إنسانا ما يمكن أن يبقى في أتون نار ، من دون أن يحترق ؛ ولكن لأن دليلا حسيا ، وهو النقل ، قد اثبت ذلك ، فهو يسلّم بهذا الأمر ، وبهذا المقدار ، كتصديق للخبر ، وليس أكثر من ذلك ، معتبرا إن ما وصل سمعه من خبر ، يكفي لأن يقنعه ، بينما لو كان منسجما ، لرفض حتى إخبار الله ؛ لأنه – أيضا – أمر خارج عن الحس.

ولهذا نرى ، إن منهج البحث لدى بعض المسلمين السطحيين ، ينص صراحة : بأن المعاد ، ومشاهد القيامة ، وقصص الأنبياء ، هي من باب التصديق ، وليست من باب البرهان ، والبحث العلمي . وهذا المنهج ، سواء كان مسلكا علميا في نظرية المعرفة ، أو ممارسة عملية لنظرية المعرفة ، يعتبر مناقضا للإسلام والمرتكزاته ، وهو مسلك يحوّل الإسلام إلى مجرد دعاوى كهنوتية ، يجب التصديق بها مهما كانت منافية للعقل .

مسيرة البحث العلمي الجاد - إذن - تبدأ ب_(الإمكان) ثم يصار إلى البحث في (الوقوع) . وهذا هو مسير كل قضية عقلائية ، فإذا ثبت الإمكان ، انتقلنا للوقوع ، والتحقق منه ، وأدوات إثباته ، وهذه من ابسط قواعد التفكير الإنساني ، ولكن الحسي ، لا يستطيع المجارات ، فهو بعد

ص: 270

التسليم بالإمكان ، والدخول في مادة الوقوع - معرفيا - نراه ينكص ويعود ، ليدعي عدم الإمكان . بل يتهم الطرف المقابل، بأنه يستخدم الإمكان كدليل على الوقوع ، من دون التفات إلى دليل مدعي الوقوع ، وبهذا يكون مجرد قصاص خيالي ، ولا يقبل من الآخر أي براهين على الوقوع ، ويرفض سماع أي دليل ، معتبرا إن الأمر محسوم ، وهو غير ممكن مثلا ، لأنه مخالف لمداركه الحسية . وهذا نكوص على الطريق العقلي البسيط ، الذي يفكر بطريقة مباشرة . فقد رجع عن التسليم بالإمكان ، حين دخل في بحث الوقوع ، وقد يكون لا يلتفت إلى هذا المسلك المشوه ، عقليا ، وعقلائيا .

والذي يريد أن يناقش الحداثويين الجدد - وهم الغالبية من الحسيين - عليه أن يفهم طبيعة مقرراتهم الفكرية ، في نظرية المعرفة ، وكيفية إتباعهم للنمط التفكيري الممنهج عندهم ، فإذا طابق هذا السلوك ، فليعلم بأنه لا حاجة لمناقشتهم ، وإذا لم يطابق فيجب أن يعرف حقيقة مقولتهم ، في نظرية المعرفة ، وترتيب أولويات الدليل عندهم .

مشكلة غيبية الإمام كجزء من مشكلة معرفية كبيرة لها أبعاد سياسية وعقلية:

وقضية الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) تعاني من هذا الاتجاه بشكل واضح ، ومكثف ، فهي قضية فيها جانب غيبي ، لا حسي ، بشكل واضح ، وهو وقوع الغيبة ومفهومها ، وقد تفتقت عبقرية الكثير من الحسيين عن القول : إن المهدي لا وجود له ، لأن هناك غيبة ، وهي غير معقولة . كما أن ادعاء إمامة من كان عمره خمس سنوات ، أو أكثر قليلا ، أمر غير منطقي بحسب المقاييس الحسية . فكيف يعلم حقائق الشرائع ، وإدارة الناس ، من كان بعمر كهذا ؟

وكل هذا مقاييس حسية ، وتجريبية .

- وهنا - يجب أن نتفق ، أنه لولا وجود التدخل الإلهي ، ومفهوم التواصل الرباني ، لكانت كل قضية غيبية مثل قضية (الغيبة) مجالا للشك بل الرفض، لأن عقل الإنسان الحسي ، لا يكاد يصدق بقضية لا يعتاد عليها ، مهما كانت واقعية ، فالإنسان يريد ما اعتاد عليه ، ولا يريد الصحة،

ص: 271

أو الإمكان ، أو القضية المبرهنة . فهو لا يؤمن بوجود شيء لم يعتد عليه ، ويؤمن بوجود المستحيل ، إذا تكرر في . سمعه ، أو حسه ، فقد آمن الإنسان الحسي ، بأشياء لا وجود لها ، وفي بعض الأحيان مستحيلة الوجود ، لأن هناك من قال له بوجودها ، وكررها عليه باستمرار . وما أكثر الموهومات ، والمخترعات ، التي لا وجود لها ، والتي يؤمن بها البشر ، إيمانا مطلقا كأنه رآها .

ومن الطريف ، إن بعضا من هؤلاء ، ومن الحسيين المتدينين - بالذات - يؤمنون إيمانا مطلقا بتأثير الجن في حياة البشر ، بل يتجاوزون الإيمان بوجود الجن إلى ادعاء التعامل معهم عيانا (زواج ، جلب ، تسخير ، اجتماع ، وغير ذلك من الخزعبلات ...) ويوميا بشكل عجيب ، مع أن الجن مستور ، والاتصال بهم ، يحتاج إلى ألف دليل ، بمستوى الدليل القرآني ، الذي أقر بمخاطبة الجن للرسول ولم يشر إلى التعامل الحسي معهم كالزواج ، ولو أخذنا السلوك السلفي - مثلا - في الحوار ، فإنهم حين يدافعون عن دعواهم مشاهداتهم الجن ، يستدلون بأن الرسول قد شاهدهم ، وأن الله - تبارك وتعالى - ذكر ذلك ، ويصرون على أن هذا الاستدلال صحيح ، ومنتج . ولكنهم ينسون أنهم ينفون كرامات أهل البيت (علیهم السّلام)، التي يستدل عليها بأدلة أهم من هذه ، فيعترضون على من يقول : إن الله – سبحانه – قد ذكر ثبوت الكرامات للأولياء من غير الرسل كما ذكر كرامات الرسل ، قائلين : فأين الرسل من أناس عاديين ؟ وما شابه ذلك ، بينما أهل البيت (علیهم السّلام) وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، ليسوا من على الأشخاص العاديين ، وفيهم نصوص ثابتة عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من الصفات ، والكرامات ما لم يرد في أحد من المسلمين . على أن منهج إثبات الكرامات ، ليس منهجا عقليا ، وإنما هو منهج نقلي ، ولكن هذه الإجابات ، ترد على من يمنع الكرامات أصلا ، أو من يمنعها لغير الرسل ، فنراهم يسارعون لنفي أصل الموضوع ، باعتبار أن من تنسب له الكرامة ، إنسان عادي ، لا يجوز نسبة الكرامة إليه ، فيتحوّل إلى البحث إلى مناقشة وجدل من دون جدوى .

وأين هذه الدعوى ، من دعاواهم الفارغة المليئة بالكذب ، والدجل ، في ملاقاة الجن واستخدامهم ؛ لأن الجن معناه الاستتار ، ومادتهم غير مرئية ، ولا نعلم أن الرسول رآهم بشكل

ص: 272

مادي كثيف بحت ، وإنما هناك احتمال للكشف عن بصره ، وهذا احتمال يبطل استدلالهم على طريقتهم في التفكير.(1)

إنها النظرية الحسية ، التي تبتني على القناعة الشخصية ، بكل دوافعها وآلياتها ، من دون نظر إلى واقع الحال ، والبرهان الصحيح على الإحساس نفسه ، وبعبارة مختصرة : إن الفكر الحسي مبني على خداع العقل والحواس ، وليس على ما يسمونه ذات الحواس والإحساس بها ، ولهذا فهناك تناقضات في المحسوسات عندهم ، حيث يرفضون المبرهن عليه ، وقد يعتبرونه ممتنعا ، ويقبلون المستحيل ، والممتنع ، ويعتبرونه واقعاً .

إن معضلة الخروج عن العقل الحسي ، عند الإنسان غير القادر على استغلال العقل ، بطريقة ذاتية ، لهي مشكلة المشاكل ، وهي أم مصائبه السياسية ، والدينية ، والتربوية ، والاقتصادية ، ولعلي بت أؤمن أن جزءً مهماً من أسباب الفقر ، والتخلف ، والتبعية للإنسان ، هو عدم تشغيل المنظومة العقلية الصرفة ، المرتبة عنده ، وتعطيلها كليا ، أو جزئيا ، بينما من يمتاز بالنهوض الاقتصادي ، والاجتماعي ، والسياسي ، فهو من يشغل منظومته العقلية في جزئها ، الذي يوفر الصعود في ذلك الاتجاه ، حين لا تكون المكانة ، مسألة حظ ، أو وراثة ، وأما التسلّقيون ، فهؤلاء - أيضا - قد شغلوا منظومة عقلية ، لا حسية، بالقدر الذي يوفر ذلك ، من النهوض المحدود .

ص: 273


1- إن نظرية إمكانية تشكل الجن ، بأشكال مادية كثيفة ، لم تثبت في عالم المادة ، علميا ، بشكل قطعي ، ولكن ما ثبت ، هو وجود أثر لهم ، تم رصده - علمياً - وقد يكون الأثر ، على شكل شبح صوري ، وقد يكون على شكل طاقات ، أو صور تحت الحمراء ، وما شابه ذلك . وكل البحوث في هذا الباب ، غير قاطعة النتيجة ، وفيها أخذ ورد ، وهي موطن اهتمام من قبل العلماء ، من أجل الوصول إلى نتائج جازمة في الموضوع . ومن المفارقة فان الحسيين ، والجهلة ، ينكرون اشد الإنكار على من يطالبهم بالدليل ، على دعواهم الاتصال الجسدي بالجن ، الذي يدعونه ، كما يدعون التزاوج بهم وغير ذلك ، وعلى كل حال ، ونحن – هنا – لسنا في مقام إنكار أو تأييد هذه الظواهر ، ولكننا نستنكر العقلية التي تنظر بعين عوراء ، فالاتصال بالجن من قبل العصاة القذرين دينيا ، وأخلاقيا ممكن !!! ، بينما اتصال الأولياء بالملائكة ، أو غير ذلك ، يعتبر من المستحيلات عندهم !!! هذه هي إفرازات العقل الحسي المذهبي النفعي المتعصب .

فالاستهانة بتقدير خطورة المنهج الحسي في التفكير ، جريمة حقيقية في حياة البشر، والمستهين : إما أن يكون حسّيا ، لا يدرك ما يجري في الدنيا ، أو إنه خبيث ، يعرف إن خير وسيلة للسيطرة على عقول الناس ، وتحويلهم إلى خدم ، ورعاع، ينعقون مع كل ناعق ، هو الإبقاء على طريقة التفكير الحسي ، وتنويم المنظومة العقلية الصرفة في الإنسان ، والتي وهبها الله - تعالى له ، لكرامته ورفعته . وليس من باب الصدف، أن يصرّح معاوية بن أبي سفيان ، بأنه يريد من الناس أن لا يفرّقوا بين الناقة ، والجمل.(1)

إنه منهج تنويم ، وتعطيل المنظومة العقلية الصرفة ، ولهذا نرى بعضا من المذاهب الإسلامية ، تفرعت عن نظرية معاوية هذه، تعلّم روادها حتى مماتهم ، أن لا فرق بين الوجود والعدم ، كقولهم : إن العبد مجبور على اختياره ، وإنه لا تأثير للمؤثر على الأثر ، ومن قال بهذا التأثير ، فقد أشرك بالله .

ومن ذلك ما قاله أحد الزاجين أنفسهم في زحام الفكر ، المنحدرين من سلافة فكر من لا يفرّق بين الناقة والجمل : «إن الباري لو كان علة تامة للعالم ، لكان العالم قديماً بالشخص ، ولما وجد في العالم تغير متعاقب ؛ لأن العلة التامة يجب أن يصاحبها معلولها في الوجود ، ويستحيل أن يتخلف عنها» . (انتهى) .(2)

ص: 274


1- في مروج الذهب - في وصف معاوية - : 3 : 41 : (وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق - في حالة منصرفهم عن صفين - فتعلق به رجل من دمشق ، فقال : هذه ناقتي ، أخذت مني بصفين ! فارتفع أمرهما إلى معاوية ، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته . فقضى معاوية على الكوفي ، وأمره بتسليم البعير إليه . فقال الكوفي : أصلحك الله ، إنه جمل ، وليس بناقة . فقال معاوية : هذا حكم قد مضى ، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره ، وسأله عن ثمن بعيره ، فدفع إليه ضعفه ، وبره وأحسن إليه ، وقال له : أبلغ عليا أني أقاتله بمائة ألف ، ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل !!) .
2- سعيد عبد اللطيف فودة : الكاشف الصغير : 89 .

لقد أراد أن ينفي أزلية المادة ، فاعتمد أن يكون الله شريك في الخلق ، لحل هذه القضية المشكلة عنده بكل بساطة ، ونفى أن يكون الله علة تامة للخلق بل هو مع غيره يكون العلة ، من دون تفريق ، أو إحساس بالذنب الشركي ، فهو يؤمن بأنه موحد ، مع برهنته على وجوب وجود الشريك الله ، بل وجوده الفعلي، وإلا لكان العالم قديما ، وأن الله ليس بعلة تامة للكون . وهذا الفكر نفسه ، حين يأتي إلى فعل الإنسان الاختياري ، ينفي الاختيار، ويقول : إن القول بالاختيار ، هو شراكة الله في فعله ! ومن قال بأن الله يشاركه أحد في فعله ، فكلامه شرك لا يجوز !! وحين يُسأل عن مصدر إلهاماته العجيبة هذه ، يقول لك إن مصدره هو العقل ، الذي هو الحس والنقل عنده ، وأنه لا شيء وراء الحس والنقل . وأما ما يسمى بالعقل وراء الحس والنقل ، فهذا باطل ... باطل ... باطل !

ولكي نعرف مستوى التفكير الحسي ، وقبوله بالعجاب ، والمتناقضات ، نجول جولة قصيرة في حديقة التناقض العجيبة ؛ لنبرهن إن العقل الحسي ، يتمتع بصفات عجيبة ، في تناول المعلومات ، فقد قالوا في تعريف الوجود ، الذي هو من أبده البديهيات ، ما يضحك الثكلى ، ولا يرون في ذلك نشازاً ، فمن أقوالهم في ذلك : «والوجود هو حال واجبة للذات ، ما دامت الذات غير معللة بعلة».(1) والمعنى : إنه لا يتصف بالوجود ، إلا من كانت ذاته غير معلله ، أي قديم قدم الله ، هذا أولاً ، ثم إن الوجود نفسه ، ليس بموجود عندهم ، بل يشوبه العدم، فلا تعجب من ذلك ؛ لأنه عندهم حال يحتمل الوجود ، والعدم حيث إن تعريفهم ل_(الحال المذكورة) هو : «صفة ثابتة في الخارج عن الذهن ، تقوم بموجود ، وليست موجودة بالاستقلال ، ولا معدومة عدما صرفا ، بل هي واسطة بين الموجود ، والمعدوم ، أي إنها لم تبلغ درجة الموجود ، ولم تنحط إلى درجة المعدوم ، ولعدم بلوغها درجة المعدوم ، لا تمكن رؤيتها».(2)

ص: 275


1- تهذيب شرح السنوسية : 30 .
2- تهذيب شرح السنوسية : 63 .

هذه هي نتائج العقل الحسي ، ولو قرأت أكثر ، فستجد أن هناك ما هو أعجب ، بالنسبة لمن يشغل منظومته العقلية ، وهو غير عجيب بالنسبة للحسي ، فهو يبادل بين المحسوسات ، فيرى المسموع ، ويسمع المرئي ، ويشم الملموس ، ويلمس المسموع . وهكذا ، تتبادل عنده صيغ المدركات ، والعلاقة بين أدواتها وتفسيرها ، فلننظر لهذا النص العجيب ، الذي يقول إن الله يرى سمعه ، فيقول قائلهم : «فيسمع - سبحانه - ويرى في الأزل ذاته العلية ، وجميع صفاته الوجودية ، التي منها سمعه...».(1)

فلو قال : إن صفاته عين ذاته ، ولا فرق بين صفاته ، لأمكن أن نجد لها متسعا في المنظومة العقلية ، باعتبار وحدة الله وذاته ، من دون أن نقول انه يسمع المرئي ، أو يرى المسموع ، أو يرى سمعه نفسه ، وإنما نقول يعلم كل شيء ، ولا تخفى عليه خافية .

ولكن من يقول : إن صفاته غير ذاته ، وإن صفة السمع نفسه ، حال (لا موجود ، ولا معدوم) فهم يقولون : (كونه سميعا : هي حال واجبة للذات)(2) فكيف يُرى الحال ، وهو مما لا تمكن رؤيته عندهم ؟ فقد قال في نفس الموضوع : إن الحال (لم تنحط إلى درجة المعدوم ، ولعدم بلوغها درجة المعدوم لا تمكن رؤيتها) ومع ذلك فالله - عنده - يشاهد سمعه بصريا ، ويشاهد علمه بصريا . ويسمع بصره حسا سمعيا ، ويسمع ذاته ! .

فكيف نحل هذا الشكل العجيب اللاعقلاني ؟ القائل : إن السمع حال ، لا يمكن رؤيته (لأنه لا موجود ولا معدوم) وفي نفس الوقت : إن الله يرى سمعه ، الذي هو حال ، لا يرى ! ! .

إن هذا الحال ، قد يبدو مضحكا ، ومستنكرا ، لمن لم يتعمق بمقالات المذاهب الإسلامية ، لكنه واقع حال ، متحكم في مفاصل الثقافة ، لدى المسلمين بشكل عام . فرغم الاستنكار الأولي ، للمثقف العادي ، حين تطرح عليه الفكرة ابتداءً ، ولكنه ما أن يراجع الثقافات الإسلامية العقائدية ، ويلتزم بها ، فسيتحوّل ، وسيجد نفسه مصطفا مع اللامعقول ، الذي استنكره سابقا ، متمسكا به ،

ص: 276


1- تهذيب شرح السنوسية : 54 .
2- تهذيب شرح السنوسية : 62 .

مدافعا عنه ، متعقلا له ، ويستغرب من عدم فهم الناس ، لمثل : (يسمع ذاته) و (يرى سمعه) فهذه الأمور عنده صحيحة ، وهذا حال طبيعي ، لمن يريد أن يثبت هويته ، مهما كانت غير معقولة ؛ لأنه يرى انتماءه لمجموعته ، أهم بكثير من تحقيق المعقول ، وفرزه عن غير المعقول ، وبهذا الاصطفاف ، سيرفض المعقول ، حين يكون مستنكرا مرفوضا من المجموعة البشرية ، التي ينتمي إليها .

وفي الحقيقة ، قد لا يكون عند الحسي مانع من الإيمان بما هو غير معقول ، ولكنه سيرفض المعقول ، أو المبرهن عليه ، إذا كان ضمن مجموعة لا ينتمي إليها ، وهذا السلوك بمجمله ، يدل على أن المنهج الحسي متفش بين الناس ، وهو ليس منهجا لتلمس الحقائق ، وإنما هو طريقة تفكير ، لتكوين حالة رضا نفسي عن المعلومة ، نتيجة المدركات الحسية بدون تمييز فهو، لا يؤمن بمسائل يتم البرهنة عليها عقليا ، ومنطقيا ، ولكنه يؤمن بالمستحيلات ؛ لأن آخرين يقولون له ذلك ، وهو يتعقل ما يقوله الآخرون ، باعتباره معلوما حسيا ، فكل ما يسمعه من جهة يرتاح إليها ، فهو معقول ، باعتباره دخل حسه السمعي ، وهو مرتاح للمصدر ، وهذا غاية ما يريد ، فليس صحيحا ما يشاع ، من أن المنهج الحسي هو طريقة تفكير عقلية ، أو نظرية معرفة محددة ، وإنما هو طريقة تلق حسي صرف ، بغض النظر عن قيمة المدرك بواسطة هذه الطريقة . أو قل طريقة رضى بالمعلومة ، نتيجة لرضا النفس بحقيقة انتمائها الحزبي ، أو الاجتماعي ، أو السياسي .

ويتحكم بهذا المنهج نوازع كثيرة ، تكونها الرغبات ، والتحزبات ، والإنحيازات ، بل – في الحقيقة - تشكلها الدعايات، والتأثيرات الخارجية ، من دون شعور بالحاجة للتمحيص ، أو اتخاذ القرار الشخصي المستقل ، المبني على القدرة العقلية الحقيقية ، بل إن قراره متخذ من قبل من يوجه فكره . وهذا الموضوع خطير جدا ، من ناحية حضارية ، وسياسية .

لهذا فقد كان من ذكاء الحكام، أن وفروا وسائل المنهج الحسي للناس ، حتى يبقونهم بهذه الحالة العجيبة ، فيدعمون قيادات فكرية ، تقول بهذا التناقض الصارخ ، وبهذه المقولات ، التي لا يتوفر فيها أدنى متطلبات العقل ، والذوق الإنساني في التعاطي مع الأفكار . ولعل هذا هو السر ، في

ص: 277

رضا الناس عن حكامهم الظلمة الجائرين ، وعن جميع ما يقومون به من جرائم ، ومن أمور حمقاء خرقاء ، لا تتصف بأي نوع من الحكمة ، والعقل ، والذوق ، واللياقة في التعامل ، فلا يحس المجتمع العربي، أي غضاضة فيما يراه ، ويسمعه عن حكام على درجات رفيعة من المسؤولية ، يتشاتمون فيما بينهم في المؤتمرات ، والاجتماعات ، بشتائم العيارين ، وأبناء الشوارع ، على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام العالمية ، ومن الأمم والشعوب الأخرى ، من دون أن يقف المجتمع العربي المسلم ، للحظة واحدة ، ليسأل : لماذا تُحكم الجماهير ، والشعوب المسلمة – التي كان لها الدور العظيم في بناء الحضارة البشرية عبر التاريخ - من قبل هذه الحثالات القادمة من عالم الجريمة والانحطاط الأخلاقي ؟؟

إن هذا المنهج ، يجب أن لا يفرح به الحكام ، لأنه سيتحوّل يوماً ما ، إلى سيف مسلط على رقابهم ، فإن هذه العقول التي ربيت على المنهج الحسي ، والذي تحركه الدعاية والمعلومات الواردة على الإنسان ، يعتبر جهاز التقاط مفتوح ، يمكن استغلاله من قبل من يمتلك القوة الأكبر في الدعاية ، فيسيره بعكس الاتجاه ، الذي يريده الحكام ، وسيكون هو سبب سقوطهم ، بدون فهم ، من العقول المتلقية ، لأسباب الإسقاط ، وإنما هي كالببغاوات تفعل ما يقال لها ، وتتخذ القرار الذي وجهت به ، عبر وسائل الاتصال . وهذا ما حدث على مر العصور.

والدارس الحقيقي لمشكلات التفكير الإنساني ، ومناهج المعرفة ، ومواطن الثغرات فيها ، وكيفية التلاعب بالعقول ، يدرك جيدا السبب الحقيقي لشن قادة المسلمين ، وغيرهم في العالم المتخلف ، الحرب على العولمة ، واعتبارها أمرا خطيرا ، وتحذير الناس منها ، وإقامة هالة من الغموض حولها ، وشتمها بوسائل الإعلام ، مبررين ذلك بأن العولمة جزء من مؤامرة دولية ، يقصد بها تدمير القيم ، وتكريس الهيمنة الاستعمارية ، والخضوع للإمبريالية الدولية ، كما يدعون .

كل هذا الهلع والتبرير ، لا يلتقي مع الحقيقة ، والهلع الحقيقي هو من إمكانية استغلال العقول التي تقبل التأثير .

إنهم يعلمون أن الكتلة الإنسانية قوة جبارة ، يمكنها تدمير الكيانات والتخندقات ، مهما كانت

ص: 278

حصينة ، ولكنهم يعرفون - أيضا - أن الكتلة الإنسانية يحكمها كم هائل من قوانين العقل الجمعي ، والسطحية الحسية ، وتقبل التربية ، والتربية المعاكسة ، وقوانين التواصل ، ونقل المعلومات ، والعواطف ، والخوف ، والرضا النفسي بين البشر .

العولمة مارد عملاق ، قادر على الوصول إلى عقول الناس بأفكار مغايرة ، من خلال التواصل الإنساني ، وتشكيل منظومات فكرية جديدة ، يخشاها الباطل ، ويهلع منها ؛ لأن فيها إمكانية الكشف عن الحقائق ، وهي بالتالي قادرة على سلب الحاكم أدوات القمع والسيطرة على المجتمعات المضطهدة بالباطل ، ولذلك فهو يخشى انعدام تأثيره ، وتحوّل الكتلة البشرية عليه ، نتيجة الانفتاح الثقافي ، والعولمة الاتصالية ، التي تغزو كيان المجتمعات ، بطريقة خارجة عن هیمنته.

ولهذا أرى : إن العولمة هي نصير لكل صاحب حق ، في إيصال صوته المظلوم ، إلى من يسمعه ويهتم به من جماهير البشر ، وهي بالتالي فك لقيود من ضربت من دونهم الأسوار الحديدية ، لتبقيهم بعيدا عن المعرفة الحقيقية .

فقضية التربية على المعرفة الحسية ، وإبقائها ، وعدم تعليم الناس للمقاييس العقلية ، والتجرد عن الحاجات النفسية ، والمادية ، والاجتماعية ، هي قضية سياسية بالدرجة الأولى ، ومن ثم هي قضية (إدارة)(1) من يريد الانتفاع بالمصالح ، التي يكونها من خلال تجميع الكتل البشرية على طاعته ، شخصيا، بمختلف الحجج . وهي قضية مصالح من جهة ، وقضية حرب حضارية ضارية من جهة ثانية ، لكنها - أيضا - سلاح فعال ، ضد الظالمين الذين يستغلون العولمة أبشع استغلال ، فهم يخافون استغلال الآخرين لها.

ص: 279


1- من المفارقات أنه وفي غضون أزمة المظاهرات ضد العولمة وضد منتدى دافوس ، فقد أعلن زعماء العالم الغربي المتقدم ، في دافوس سنة 2005 ميلادية ، بأنهم بحثوا خطر العولمة على الحضارة الغربية ، والديمقراطية ، ووجوب التصدي له . بعكس ما يفهمه عامة الناس من أن العولمة ، هي لصالح الدول الكبرى فقط ، بل أن الدول المتقدمة تخاف من هذه العولمة أيضا ، لأنها سلاح ذو حدين ، حيث تذوب الفوارق والحدود للمعرفة ، وهذا يجعل التمايز بين الأمم منعدماً مع مرور الزمن ، وهو اخطر ما يواجه الدول المتقدمة ، حيث إن معنى تقدمها هو : وجود الدول المتخلفة .

فالحكام ، والجهات الإعلامية ، تخشى من العقل السطحي ، إذا سيطرت عليه قوى خارجة عن سيطرتها ، وكل ما يجري ، عبارة عن صراع للسيطرة على عقول الناس ، بتسطيحها ، وقلب المفاهيم ، وجعلها تقبل التبرير غير المنطقي . ولهذا فان إبقاء السطحية ، أمر مطلوب ، ولكن الخوف من غزوه أمر مبرر ، باعتبار أن العقل السطحي ، لا يمانع من قلب المفاهيم ، والانقلاب على من يقدسه سابقا ، نتيجة نشر دعايات ، مهما كانت صحيحة ، أو كاذبة.

ومن هنا يتبين ، أن طرح مسألة الإمام المهدي (علیه السّلام)، وغيرها على المجتمعات الحسية ، قضية الله معقدة نسبيا ، حيث يكلّم العالم مجتمعا ، تمّت تربيته على المنهج الحسي ، الذي يزرع فيه الظن أن هذه القضية ، هي ضد منهج العقل ، أو يقال له - إيحاء ، أو مباشرة - : إن منهجك في التفكير ، هو منهج علمي رائع ، ومنسجم ، ويعتمد الوسطية ، بخلاف الفكر المتطرف ، الذي يؤمن بأمور غيبية ، وما شابه ذلك ، من الإيهامات، التي يوهمون بها مجتمعاتنا ، بينما في نفس الوقت ، لا يستطيع الثبات الفكري على رأي ، لتلمس الحقيقة ، فقد تمت تربية الناس على عدم الثبات على فكرة ، وعلى عدم التمييز الحقيقي للخطأ ، والصواب ، وللمصلحة ، والمفسدة ، فكل ساعة يمكن أن ينقلب إلى عكس ما كان يعتمده ، ويدافع عنه .

وقد قمت شخصيا بتجارب ، في مجتمعات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط ، متحديا مجاميع من الناس ليختبروا طريقة تفكيرهم، فأعرض لهم الرأي بأدلته ، فيقولون : هذا صحيح ، ويساعدوني فيأتون بشواهد مؤيدة ، ثم أعرض لهم الرأي المخالف تماما ، فيقولون : صحيح ، ويأتون بشواهد مؤيدة جدا ، ثم أقلب القضية ، فاعرض رأيا ثالثا ، فيتأكدون من صحته ، وأعود لأعرض الرأي الأول ، والثاني ، فيتفانون في التطبيل له ، وحين أخبرهم بأنهم خسروا الرهان ، ولم يفوزوا في الامتحان ، يتناقشون ويختلفون ، ويتبين بأن القضية لم تكن فكرية ، وإنما مجرد طرح أفكار.

ص: 280

إن هذه الكارثة العقلية في الاستدلال ، وتحقيق المعرفة ، هي ظاهرة غارقة في القدم ، وموغلة في عمق التاريخ. ولكن، لا ينبغي أن تكون بنفس حدتها في زمننا هذا ، بعد انفتاح وسائل المعرفة ، ووصول بركات العولمة إلينا ، والأمر يعود - في الحقيقة - إلى عدم تعليم الإنسان ، لطريق التفكير السليم ، بشكل حقيقي ، ومرتب ، ليستطيع الثبات في عالم متغيّر . ولهذا وجدت إن من يعمل في علوم البرمجة - بشكل حقيقي - يتعامل بسهولة مع الأفكار ، التي تحتاج إلى ترتيب في الاستدلال ، وفي الوصول للنتيجة ، وقد يقتنع بصورة سلسة في الحوارات ، وذلك ؛ لأنهم يدرسون ترتيب الأفكار ، ولو جزئيا بمقدار حاجتهم المهنية ، وحين يكون مبطلا ، ومتحزبا أراه يعترف بأنه يواجه صعوبة معينة ؛ لأن طريقة تفكيره المرتبة ، اصطدمت مع حواجز التربية على القوالب الجاهزة للفكر ، الذي يصعب عليه الخروج من شرنقته ، ولهذا يتهرب بمواضيع ثانوية ، طلبا لعدم الدخول في فهم الحقائق ؛ لأنها بدأت تصطدم بواقعه الداخلي ، الذي تربى عليه من الباطل.

وفي سبيل أن نحاور ذاتنا ، حوارا داخليا مقنعا ، علينا أن نواجه قضايا مهمة في طبيعة التفكير . فأول سؤال يجب أن نسأل أنفسنا به : هل الغيبة مستحيلة عقلا ؟ أم هي ممكنة ؟ . والسؤال الثاني ، الذي يجب أن نسأل أنفسنا به : هل هناك غيبة حدثت فعلا ؟ وهل هناك قناعة خارج حدود التمذهب الضيق لوجود غيبة فعلية ؟

ثم نحاول أن ندرس القيمة الحقيقة للنصوص الدالة على التبشير بالغيبة ، ابتداءً ، قبل وقوعها ، ثم على النصوص الدالة على وقوع الغيبة ، انتهاء .

وبعد أن نخرج من حوارنا الداخلي مع أنفسنا ، علينا أن نتحرر من مرض الاستخفاف والسطحية ، ونركز على الحقيقة القرآنية ، وعلى أن الغيبة لم تكن عملية طارئة مفاجئة في وجودها الواقعي للبشر ، فتحتاج إلى تفسير أرضي لتحوّل الحالة ، وإنما هي عملية مدروسة ، منصوص عليها قبل حدوثها ، وهي من قبل الله ، لأمر يعلمه الله ، وهو خارج نطاق القدرة العقلية ، التي نمتلكها ؛ لأنها خارج نطاق المألوف ، فهي ليست ذات ، مرتبطة بنا فقط، وإنما هي حقيقة ،

ص: 281

ذات علاقة كونية، مرتبطة بإرادة الله ، فالعقل إذا كان يدرك الحسن والقبح ، ويدرك الحقائق ، لا يعني ذلك أبدا أنه قادر على إدراك ما هو خارج مجاله ، فمسألة وقوع الغيبة ، والنصوص عليها ، يدركها عقلنا ، ونتلمسها علميا ، وحسيا . ولكن تفسير أحكام هذه الحالة ، يحتاج إلى معرفة من الله ، ونحن لم نجد لها - بالفعل - تفسيرا واضحا صريحا من الله . ولذا ، فإن جميع التفسيرات ، تبقى للحكمة الظاهرة لنا ، والمصلحة البينة لبني الإنسان ، والسبب في ذلك كونها تفسيرات ذوقية ، واجتهادات شخصية ، خاضعة لميزان الخطأ والصواب . ولهذا ، لا يمكن من خلالها ، تشكيل أي إشكالية ، بناءً على التصورات الظنية ، لسبب هذه الظاهرة ، أو لشكلها .

، فإن السؤال لا يتوجه على الله بقول القائلين : ما فائدة أن يرسل الله ملائكته الكرام بالتكاليف السنوية ، لشخص غائب ، ومختف عن البشر ، في حين إن التكاليف موجهة للبشر ؟

ولهذا مر علينا في مسألة التصويب ، إن بعض من يقول بالتصويب ، يرى إن الله أحكاما في الواقع ، ولكن الإنسان غير مكلف بها ، وهو - أي المصوّب - يعتمد هذه النظرية ، ليؤسس مذهبا عجيبا ، في قلب منظومة الشريعة ، وتحويلها من كونها صادرة عن الله تبارك وتعالى ، إلى كون الله – عز وجل – تابعا للمشرع الأرضي ، ولم يسأل القائل بهذا القول نفسه : ما فائدة الحكم بدون تكليف ؟ مع أن مثل هذا السؤال - هنا - أكثر وجاهة من السؤال عن الغيبة ؛ وذلك لأن في النظرية الثانية للتصويب - القائلة بوجود حكم بدون تكليف - مشكلة التفريق بين الحكم ، والتكليف ، وهما لا يفترقان - عقلا وواقعا - لأن الحكم هو أساس التكليف ، والتكليف تابع قهري للحكم ، والقائل بنظرية التصويب الثانية يقول : بأن هناك حكما بدون تكليف كما بينا .

ومثل هذا لا يحتاج إلى توقف على تعليم، ونزول أمر إلهي به ؛ لأن توقف التكليف ، وتكوين تكليف إلهي ، بموجب حكم حاكم أرضي يعمل بظنه ، يعني عملية خروج عن نفس المسيرة الإسلامية ، وعن تفسير الإسلام ، كدين سماوي صرف ؛ ولأن العقل لا يرى علاقة بين الإنسان ، وبين الحكم ، حينما لا يكون تكليفا . ولو أننا افترضنا أن هناك الآلاف من الأحكام ولكنها لسبب أو لآخر لا تكون ملزمة للإنسان وهو غير مكلف بها ، فما علاقته إذ ذاك بها ، وهل

ص: 282

ستكون جوهر شريعته ، وهل يصح أن تتضمن الشرائع - سماوية كانت أو أرضية - أحكاما معطلة لا يعمل بها ، ولا يُكلّف أتباعها بالتزام العمل بها ؟

بينما نزول التكاليف على بشر معين ، مع وجود مانع بين البشر وبين تبليغ الأمر ، لا يعني - مطلقا - أن الأمر لم يصل، أو أنه لا فائدة فيه ؛ وذلك لعدم توحد العلة ، وعدم انحصارها في نزول أحكام الله إلى الأرض بالنشر ، وإلا لكان يجب إبلاغ كل إنسان ، عن الله مباشرة ، لتحل هذه المشكلة . وهذا لم ولن يحدث ؛ لأنه غير لازم عقلا .

ولو أردنا أن نوضح الفكرة ، بشكل مبسط ، فينبغي أن نفترض أن الله – تبارك وتعالى – قد قصر - حاشاه جل وعلا - بإرساله الرسل في مناطق محدودة من الأرض ، وفي زمن محدود ، بحيث لم يبلّغ بصورة واضحة ، لجميع البشر . فيكون إرسال الرسالات غير كاف في الحجة على البشر ، وتكون الديانات مجرد عملية ناقصة، لا تكون حجة كافية على الإنسان ، الموجود في كل بقاع الأرض . بالتالي فإن كل رسالات الله ، تكون غير مفيدة لعقابه وجزائه ، ويكون التزامه بالبيان ناقصا ، حسب هذا الفهم السطحي ، وهذا الإشكال ، هو وليد طبيعي لإشكال عدم جدوى النزول ، والتبليغ ، لرجل غائب . ولا يعلم حجم المجتمع الذي يتواصل معه ، ولا كيفية التواصل معهم . فلا يصح - إذن - استعمال عدم الإطلاع ، دليلا على العدم، فكون مساحة الصلة بالإمام الغائب غير معروفة ، لا يعني - أبدا - أنها منفية ، لعدم المعرفة ، وهذا استعمال سيء لأساس سيء ، وهو استعمالهم عدم العلم ، دليلا على انعدام الموضوع ، والذي لا يمكن أن يقول به صاحب منهج عقلي ، ومنطقي للتفكير .

وقبل أن ندخل في مجالات بحث خاصة بالغيبة وحيثياتها لابد لنا من إعادة ترتيب أفكارنا وفق المنهج التالي :

نتساءل أولا عن الأسس التي يجب أن نسلكها في بحث قضية الغيبة ، معرفيا ، لنحل إشكالاتها ، علميا ، ونفسيا .

ص: 283

ثم نتطرق إلى إمكان وقوع الغيبة بكل صورها ، فإذا ثبت عدم الإمكان ، بطل الكلام بها ، وإذا ثبت الإمكان ، انتقل البحث إلى مرحلة ثانية .

لابد أن تكون الغيبة مبشر بها ، كتهيئة عقلية للبشر ، وأن تكون مدعاة . وهي يجب أن تكون مقرونة بالشواهد ، والأدلة ، التي يطمئن الإنسان بوقوع الإخبار ، والتبشير بها ، لشخص معلوم نسبت أو تنسب إليه .

فإذا وصلنا إلى هذه المرحلة ، لا يحسن بنا – إذ ذاك – إلا التسليم بوقوع الغيبة ، وأنها ليست لعباً ، أو دعوى باطلة ، وإنما هي ظاهرة كونية نادرة ، لها علاقة بالدين ، وبالكون ، و يجب دراستها ، والتمحيص في معطياتها .

هذا ما يفرضه العقل ، مما يسوقه من ترتيب ، يفرض على الحس ، وعلى غير الحس الإذعان له . فإذا نظرنا – ولو باختصار واقتضاب - إلى هذه المراحل ، خرجنا بالتالي منها كما سيأتي في الصفحات اللاحقة ، بنتائج تناقض المنهج الحسي التسطيحي .

ص: 284

هل الغيبة

من المرفوض عقلا ؟

لو أردنا أن نحلل فكرة الغيبة ، والدليل على إمكان وقوعها ، واستمرارها ، لا بد لنا أن نبحث – أولا - في إمكانية أمرين مهمين، هما : الاختفاء الحسي ، وطول العمر ، الملازم لغيبة طويلة الأمد .

فالاختفاء الحسي ، تارة يكون باختفاء الهوية ، وهذا لا يمكن تصوّر عدم إمكانه ، وإنما هو طبيعة كل مجهول ، فمن يأتيني ، وأنا لا أعرف شكله ، لا يمكنني أن أعرفه ، ما لم أصل إلى معرّف له ، وهذا أمر طبيعي ، لا يحتاج إلى مزيد من البحث فهذا النوع من الاختفاء ، هو ما عليه كل التخفي البشري ، بل ، والحيواني - أيضا - من تغيير اللون ، والصورة ، والشكل ، وإيهام الحس ، بأن هذا الشيء هو غيره تماما . والتخفي بهذه الطريقة ، هو دأب كل من يتخفى من أعداءه ، أو لأية أسباب أخرى تخصه . وهذا النوع ليس ممكنا فقط ، بل هو واقع ، نعيشه في كل مجالات حياتنا ، في الإنسان ، والحيوان ، والنبات .

وتارة يكون الاختفاء ، باختفاء الجسد ، وما هو عليه (الخفاء البصري) وهنا ، قد يشكك من لا علم له بحقائق الأمور ، بحقيقة وقوعه أو إمكان ذلك . ولكن من يعرف الحقائق ، ويطلع على الدراسات ، والثوابت في المعرفة الإنسانية ، يجد أن هذه الحالة ، واقعة ، فضلا عن القول بإمكان وقوعها ، أو حدوثها .

وقبل كل شيء ، لا بد لنا أن ننبه إلى أننا لا نتكلم عن ظاهرة اختفاء مجردة ، وإنما نتكلم عن حالة تكوينية ، متعلقة بإرادة الله - تبارك وتعالى - وقدرته . وهنا يجب البحث ، انطلاقا من أن هذا ، هو أمر الله ، وأن الله قادر على تحقيق مثل هذا الإخفاء .

ص: 285

وعليه فإن بحث مسألة : أن هذا الاختفاء أمر إلهي ، تتعلق ببحث التبشير بذلك ، والنصوص الدالة على تعلق إرادة الله ، بهذا الخفاء .

وأما مسألة البحث في قدرة الله على الإخفاء ، فهذا بحث لا يليق بمسلم . بل لا يليق بعاقل يعرف الله ، وقدرته . وهو أمر لا يجوز التفكير في استحالته عليه ، بأي شكل من الإشكال. فالله - تبارك وتعالى - هو خالق الأجسام ، وخصائصها ، وهو من يستطيع تمكين الخصائص ، أو عدمها ، فليس يليق بعاقل ، أن يدعي بأن الله - جل جلاله - غير قادر على إخفاء عبد من عباده ، بناءً على تصورنا البشري ، أن الطبيعة الفيزيائية الظاهرة ، تقتضي الصورة المرئية للجسم .

فقد كانت الطبيعة الفيزيائية ، تقتضي إحراق إبراهيم (علیه السّلام) بالنار الهائلة ، ولكن ذلك لم يتحقق ، وكانت عليه بردا ، وسلاما .

والطبيعة الفيزيائية ، تقتضي عدم انتقال الأشياء بطريقة الاختفاء ، من مكان ، والظهور في مكان آخر ، يقع على بعد مئات ، أو آلاف الأميال ، كما حدث لنقل عرش بلقيس ، في طرفة عين ، إلى مجلس سليمان (علیه السّلام).

والطبیعة الفیزیائیة - أیضا - لا تقبل أن ینشق ماء البحر یبسا، لبني إسرائیل، لیعبروا فیه، علی أرض صلبة ، وقد حدث ذلك ، وتغيرت قوانين الفيزياء والطبيعة .

والطبيعة الفيزيائية ، والأحيائية ، تقتضي أن الشجرة لا تتكلم ، بينما نجد أنها تكلمت لموسى (علیه السّلام)، وقالت : إني أنا الله ، وكانت مصدرا منفعلا ، بقدرة الله.

له والقوانين الحياتية لا تقتضي أن تتكلم الحيوانات ، ولكن الهدهد تكلم ، والنملة تحدثت - كذلك - وسمعهما نبي الله سليمان (علیه السّلام).

والقوانين الفيزيائية - أيضا - تقتضي أن الجن لا يُرى ؛ لأنه مستور دون أنظار وأبصار البشر ، وهو من خلقة ، ومادة غير مادتنا ، لا ترى بالعين ، ولكن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التقاهم ، ومن قبله سليمان (علیه السّلام)، وهو الذي حبس مردتهم في قوارير .(1)

ص: 286


1- إن هذه ظاهرة غير مفسرة - أصلا - ولكنها واقعة - فعلا . وقد أستغلها الكثير من الدجالين ، للترويج بين بسطاء المسلمين والدعوى بارتباطهم بالجن جسديا ، والحقيقة هي أن الارتباط - إذا حدث – فهو روحي ، وملكوتي ، ومن وجود غير الوجود الجسمي المعروف ، وبهذا يمكن تفسير قوله تعالى : ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ من الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن : 6] . فالارتباط الملكوتي ، أو الروحي ، موجود ، والتأثير ، والتأثر موجود – أيضا – كما تدل عليه النصوص الدينية ، والدراسات الباراسيكولوجية الحديثة ، التي قدرت إمكانية التواصل ، عن طرق خارج جسد الإنسان على أن قضية الارتباط بالجن ، قضية غير ذات قيمة ؛ لأن الجن مخلوق مكلف مثلنا ، فيه الجاهل ، والعالم بخلاف الملائكة المكرمين . فدعوى الكرامات بالارتباط بالجن ، قد تنقلب إلى عكسها ؛ لأنها عبارة عن ارتباط بالجهل ، والضلال ، والظلام ، في غالب أصحاب الدعوات العلنية بخلاف من لا يكشف ذلك لأنه يعرف إن هذا الأمر ليس بشيء تجاه كرامة الله.

والقائمة طويلة في مخالفة ، ومغايرة قوانين الطبيعة ، بأمر إلهي منصوص ، فليس في المخالفة ، أي مجال للتساؤل عن قدرة الله عليها ، حتى بالنسبة للحسي ، الذي لا يعقل إلا المألوف ، لأنه يؤمن من خلال النقل ، أو رؤية العين ، بقدرة ، وبكيفية اختراق القوانين الفيزيائية والطبيعية ، بتدخل من الله تعالى .(1)

ص: 287


1- المشكلة الحقيقية ، إن من يعترض على كثير مما هو خارج الحس ، والطبيعة ، نجده يؤمن بشكل أو بآخر ، بما هو أبعد بكثير مما هو مطلوب ، من العاقل السوي ، كقولهم بتأثير السحر ، والشياطين ، على تغيير الكونيات ، بحيث يؤمنون بقدرة الساحر ، والشيطان على قلب حقائق الأشياء . ومن ذلك ، نقرأ مقتطفا مما ذكره المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله علیه)، في كتابه هذه في كتابه (هذه هي الوهابية) : 106 - 108 : حيث قال : «ويعتقد الوهابية بالسحر ، والساحر . وتعلم السحر عندهم سهل للغاية ، بشرط أن يكفر الإنسان ، ويأتي بأعظم المعاصي ، مثل أن يضع المصحف الشريف في كنيف ، ونحوه – والعياذ بالله – وقدمنا فيما سبق أقوالهم حين قابلنا بينها ، وبين ما يدعو به الشيعة ، عند قبور الأئمة الأطهار - راجع فقرة الشيعة والمناجاة من هذا الفصل - والآن ننقل ما ذكره الصنعاني ، كحجة دامغة على اعتقادهم بالسحر ، وطريق تعلمه ، قال في صفحة (51) من كتابة (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) ما نصه بالحرف الواحد : «قد ثبت في الأحاديث : أن الشياطين ، والجان يتشكلون بأشكال الحية ، والثعبان . وهذا أمر مقطوع بوقوعه ، فهم - أي الشياطين ، الثعابين التي يشاهدها الإنسان، في أيدي المجاذيب ، وقد يكون ذلك من باب السحر ، وهو أنواع ، و ، وتعلمه ليس بالعسير، بل بابه الأعظم : هو الكفر بالله ، وإهانة ما : هو الكفر بالله ، وإهانة ما عظم الله من جعل مصحف في كنيف ونحوه ، فلا يغتر من يشاهد ما يعظم في عينيه ، من أحوال المجاذيب ، من الأمور التي يراها ، خوارق ، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال ، وهكذا يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها» . ومعنى قوله : «يقلبون الأعيان بالأسحار» أن الساحر يستطيع أن يقلب الإنسان حجرا ، والحجر إنسانا . وبدون حقد ، ولا ثورة أعصاب ، وبكل لطف وهدوء ، أدعوك أيها القاريء ، أن تقرأ ما جاء في هذا الكتاب بالذات ، الذي ألفه الصنعاني ، ليطهر الاعتقاد من أدران الإلحاد ، أن تقرأ ما جاء في صفحة (48) وهذا هو : «إن المشاهد ، والقباب على القبور، هي أعظم ذريعة إلى الشرك ، والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام ، وخراب بنيانه» . اقرأ هذا ، وقارن بينه وبين قوله : «تعلم السحر سهل يسير ، وبابه الكفر ، وجعل المصحف في (كذا) ... اقرأ ، وقارن بين من يعتقد ، أن في رفع القباب على قبر الرسول ، وآله الأبرار تعظيما لشعائر الله ، وبين من يعتقد بالسحر ، على الشكل الذي رسمه الصنعاني ، وأن سبيل السحر ، هي إهانة القرآن ، على الصورة التي صورها ، في كتابه ، وإن من فعل ذلك يقول للشيء فيكون ... اقرأ ، وقارن ، ثم احكم بعقلك ، وفطرتك ، وخبرنا عن صورة المشرك ، التي ارتسمت في خاطرك للوهلة الأولى ، لأحد الاثنين ، وأنت تقرأ وتقارن ، وقل لنا : أي الاعتقادين ذريعة للشرك ، والإلحاد ، ووسيلة لهدم الإسلام ، و خراب بنيانه ؟ وأي الرجلين يجب أن يطهر اعتقاده ، من أدران الإلحاد ؟» . (انتهى) أقول : إن شرح الشيخ مغنية ، لقوله : «يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها» يعتبر احتمالا وجيها لمفهوم النص ، وواقع النصوص تؤيد ما ذكره هذا الانقلاب، بالاسم ، والشكل ، فانظر ولا تتعجب فيما قاله الفخر الرازي في تفسيره : 3 : 213 : «وأما أهل السنة ، فقد جوزوا أن يقدر الساحر ، على أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حمارا ، والحمار إنسانا» . وفي تكملة نص الصنعاني ، ما هو أكثر غرابة من التحليل ، ونسبة التكوين ، ب_(كن فيكون) فقد قال في نفس الصفحة : «فلا يغتر من يشاهد ما يعظم في عينية ، من أحوال المجاذيب ، من الأمور التي يراها خوارق ، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال . وهكذا الذين يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها ، وقد ملأ سحرة فرعون الوادي بالثعابين ، والحيات ، حتى أوجس في نفسه خيفة موسى (علیه السّلام). وقد وصفه الله ، بأنه سحر عظيم . والسحر يفعل أعظم من هذا ، فإنه قد ذكر ابن بطوطة ، وغيره ، أنه شاهد في بلاد الهند قوما ، توقد لهم النار العظيمة ، فيلبسون الثياب الرقيقة ، ويخوضون في تلك النار ، ويخرجون ، وثيابهم كأنها لم يمسها شيء . بل ذكر ، أنه رأى أناسا ، عند بعض ملوك الهند ، أتى بولدين معه ، ثم قطعمها عضوا، عضوا ، ثم رمى بكل عضو ، إلى جهة فرقا ، حتى لم ير أحد شيئا ، من تلك الأعضاء ، ثم صاح ، وبكى ، فلم يشعر الحاضرون ، إلا وقد نزل كل عضو علي انفراده، وانظم إلى الآخر ، حتى قام كل واحد منهما ، على عادته ، حيا ، سويا . أقول : أفعال هذا الساحر الهندي أقوى من كرامات النبي إبراهيم ! وفي كتاب الصنعاني - أيضا : وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، بسنده ، أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبه ، فجعل يدخل في جوف بقرة ، ويخرج ، فرآه جندب رضي الله عنه ، فذهب إلى بيته فاشتمل على سيفه ، فلما دخل الساحر في البقرة ، قال جندب :﴿أفتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء : 3] ثم ضرب وسط البقرة ، فقطعها ، وقطع الساحر معها ، فان-ذعر الناس ، فحبسه الوليد ، وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه ، كان على السجن رجل نصراني ، فلما رأى جندبا ، يقوم الليل ، ويصبح صائما ، قال النصراني : والله ، إن قوما هذا شرهم لقوم صدق فوكل بالسجن رجلا ، ودخل الكوفة ، فسأل عن أفضل أهلها فقالوا : الأشعث بن قيس ، فاستضافه فرأى أبا محمد ، يعني الأشعث ، ينام الليل ويصبح فيدعو بغدائه ، فخرج من عنده ، وسأل : أي أهل الكوفة أفضل ؟ فقالوا : جرير بن عبد الله ، فوجده ينام الليل ، ثم يصبح فيدعو بغدائه . فاستقبل القبلة ، فقال : ربي رب جندب ، وديني دين جندب ، وأسلم . وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ، بمغايرة في القصة ، فذكر بسنده إلى الأسود ، أن الوليد بن عقبة كان في العراق ، يلعب بين يديه ساحر ، فكان يضرب رأس الرجل ، ثم يصيح به ، فيقوم صارخا ، فيرد إليه رأسه . فقال الناس : سبحان الله ! يحي الموتى ! ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فما كان من الغد اشتمل على سيفه ، فذهب يلعب لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه ، فضرب عنقه ، وقال : إن كان صادقا ، فليحي نفسه ! فأمر به الوليد دينارا ، صاحب السجن ، فسجنه . بل أعجب من هذا ، ما أخرجه الحافظ البيهقي ، بإسناده في قصة طويلة ، وفيها إن امرأة ، تعلمت السحر من الملكين ببابل ، هاروت وماروت ، وأنها أخذت قمحا ، فقالت له : بعد أن ألقته في الأرض : اطلع ، فطلع ، فقالت : أحقل ، فأحقل ، ثم تركته ، ثم قالت إيبس ، فيبس ، ثم قالت له : اطحن ، فاطحن ، ثم قالت له : اختبز فاختبز . وكانت لا تريد شيئا ، إلا كان» . (انتهى) ما أورده الصنعاني الذي يدعي: إن من يقول : بأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأهل بيته (علیهم السّلام)، قادرون على الكرامة ، فقد أشرك !! بينما يرى إن الساحر ، كلما يريد شيئا كان !! ومن الطرائف ، أن رواية المرأة ، التي ذكرها ، والتي تريد الشيء فيكون ، أنها امرأة جاءت إلى السيدة عائشة زوج الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لتسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن حالها ، لأنها نالت هذه الرتبة العظيمة ، بإتباع قول رجلين مقلوبين ، بأن تبول على التنور ، فبعد بولها على التنور ، خرج إيمانها على شكل فارس ، من جسدها وبقيت بلا إيمان ، وتولّدت عندها قدرة : (كن فيكون) . وهي الآن خائفة على إيمانها - الذي خرج منها كالفارس - وتريده ، ولا تريد مرتبة : (كن فيكون) فلم يستطع أحد من الصحابة ، أن يجيبها . وقد وصف ابن كثير الرواية ، في تفسيره : 1 : 146 - 147 : فقال : «فهذا إسناد جيد ، إلى عائشة رضي الله عنها . وقد استدل بهذا الأثر ، من ذهب إلى أن الساحر ، له تمكّن في قلب الأعيان ؛ لأن هذه المرأة ، بذرت ، واستغلت في الحال» .

ص: 288

ص: 289

وكم قد حصل لعباد الله في حياتهم ، من دلائل ، تعتبر نوعا من الخوارق للعادة ، للنجاة ، أو حدوث ما لا يقبله العقل من توقيت ، أو تهديف في الحوادث . بحيث يكون خارقا للعادة ، نقتنع بحدوثه ، أن الله أراد النجاة ، ودفع البلاء في ذلك الوقت ، لغرابة الموقف فعلا .

والإخفاء ، لا يختلف - من هذه الناحية - أبدا .

وهنا ننتقل إلى بحث لا نطيل فيه ؛ لأنه بحث مستقل ، يحتاج إلى كتب ، ومجلدات ، وذلك لدراسة ظاهرة اختفاء الأجسام المرئية ، وسنشير إلى الماعات فيه ، تكفي العاقل أن يتنبه للربط بين المعلومات ، التي تمر عليه .

إن العلماء ، لا زالوا يدرسون تفسير ظواهر كثيرة ، سميت الظواهر الروحية ، أو الظواهر الخارقة ، ومن بينها ظواهر التخفي، والاختفاء الكلي للأجسام ، وقد عبروا عن هذه الدراسات ، باسم علم الباراسيكولوجي ، أو أسماء أخرى ، ترتبط بالتأثير غير الفيزيائي ، في الكون الفيزيائي .

لقد أيقن الباحثون ، بوقوع حالات من التخفي ، أو من التأثيرات من قبل أجسام ، أو قوى مختفية تماما علينا ، وقد وصل الحال ، إلى تصوير بعضها بالصور المتحركة ، لدراستها ، وقد صورت - أيضا - بالأشعة المختلفة مثل الأشعة تحت الحمراء ، أو أشعة جاما ، أو أشعة أكس ، وما شابه ذلك ، وتبين وجود وقائع وحقائق ، وهنا انطلق العلماء ليس بطريقة تفكير متسلسلة ؛ لأنهم لم يتساءلوا عن الإمكان ، وإنما تساءلوا عن صدق إخبار من يخبر عن هذه الظواهر ، وحين ثبتت هذه الظواهر ، بدأوا في إيجاد تفسير لها ، بعيدا عن التفكير البزينطي ، في التشكيك بالواقع ؛ لأن ما عندهم من معطيات معلوماتية ، تمثل واقعا يجب تفسيره ، بشكل يتوافق مع وقوع الظاهرة .

وهناك عشرات التفسيرات ، لمثل هذه الظواهر ، ابتداء من فلسفة الضوء ، واختراقه للأجسام ،

ص: 290

أو انعكاسه عنها ، حيث افترض بعضهم ، أن هذه الأجسام المختفية ، إما أن تكون لها القابلية على امتصاص الضوء ، أو أنها تسمح بنفاذ الضوء إلى الفراغ الذري داخلها ، أو أنها تسيل ، وتشتت الضوء حول الجسم ؛ ليذهب في نفس اتجاهه، من دون انعكاس ، كما لو انحنى قليلا ، كما ينحني تيار الماء عن الجسد الواقف ، وسط التيار ، وقد تفرّع من هذه النظريات ، محاولات تجريبية في التطبيقات التقنية الحديثة ، وقد تم اعتماد هذه النظريات ، في بناء الطائرات ، التي لا يكتشفها الرادار ، بنفس هذه التصورات ، من هندسة تمكن من امتصاص الضوء ، أو الذبذبة الرادارية ، ومن تحويل بسيط لتيار الضوء ، حول جسد الطائرة ، وغير ذلك ، بل إن هناك الآن دراسات ، لمراقبة مواد سرية ، يمكنها تغيير تيار الضوء ، لأي شكل كان ، بدون حاجة لهندسة معينة ، تسمح بتكوين انفراج في الحزمة الضوئية ، حول الجسم . وهي دراسات سرية ، لا نعلم شيئا عن مقدار النجاح فيها ، ولكن - بشكل أولي - تم الإعلان عن نجاح التجارب المخبرية ، لقسم من التجارب في الحالة الساكنة .

وهذه المعطيات العلمية ، لم تكن مبنية عن فراغ . ولكن ، في المجال الإنساني الفعلي ، فإن الاختفاء حقيقة ، ثبتت المصادقة عليها ، علميا ، ودينيا . فالخفاء الذي يمارسه الرهبان المسيحيون المعروفون ، وكذا كهنة اليهود ، والظواهر المشابهة عند بعض كهنة الهنود ، ما يمارسه فقراء الهنود ، بما يسمى بطاقية الإخفاء ، وإما ما ثبت لبعض الأولياء المسلمين ، وما نقل عنهم ، فهو كثير جدا ، إلى حد ضرورة التيقن من الوقوع . (منبهين إلى وقوع الاختفاء البصري لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)في ساعة هجرته وهذا أهم من جميع ما قيل ويقال ، فليراجع) .

وبعد أن كانت حكايات الاختفاء ، مجرد حكاية ، وقناعة شخصية ، لبعض الأفراد ، الذين تعاملوا مع الحالة ، وتيقنوا منها ، فقد أصبحت - اليوم - حالة تدرس مخبريا ، بشكل جاد ، وترصد لها الميزانيات الكبيرة ، فهناك مراكز دراسات ، لتفسير الظاهرة والاستفادة منها ، وليس للتأكد منها فقط ، فقد انتهى هذا الدور نهائيا.(1)

ص: 291


1- نشرت الأهالي المصرية في عددها يوم 23 / 10 / 2006 على الصفحة الأخيرة ، وصحيفة الوفاق - علوم وتكنولوجيا - السنة العاشرة - العدد : 2634 - الاثنين / 29/ رمضان / 127 - 23 / 10 / 2006 : خبرا بعنوان : تصميم جهاز يجعل الأشياء غير مرئية . قالت فيه : نجح علماء أمريكيون وبريطانيون ، في تصميم جهاز قادر على لعب دور رداء الإخفاء ، وحجب الأغراض الموضوعة فيه عن الأنظار ، عبر تقنية ثورية جديدة ، تستند على تشتيت الضوء، ومنع الانعكاسات ووفقا لشبكة (سي أن أن) الأمريكية ، فإن الجهاز عبارة عن خليط معدني خاص ، يضاف إليه أجزاء من السيراميك ، والتفلون ، والألياف ، وهو سيكون قادرا عند الانتهاء من تطويره ، على إخفاء نفسه ، والأغراض التي يحتويها ، بالإضافة إلى ظله الخاص ، بحيث يصبح من المستحيل رؤيته ، أو الشعور بوجوده . وقال صاحب المشروع (ديفيد شيوريغ) : إن الجهاز يقوم ببعثرة الضوء ، والتموجات المنعكسة عن الأشياء ، وبالتالي يجعلها مخفية ، حيث إن العين البشرية ، تعجز عن رؤية الأشياء ، إلا بعد انعكاس الضوء عليها وأوضح إن التقنية ، التي اخترعها ، ترتكز على تركيبة معدنية خاصة ، تختلف عن تقنية الشبح ، المستعملة في بعض أنواع الطائرات الحربية ، والتي تلجأ إلى تقليص مقدار انعكاس الموجات القصيرة ، عن جسم الطائرات تفاديا لرصد الرادارات لها. وأضاف شيوريغ : إن التقنية الجديدة، تقوم على تغليف كامل للأغراض المطلوب إخفائها ، بحيث تتشتت عنها التموجات الضوئية ، بصورة مشابهة لما يحدث ، حين تمر مياه النهر حول صخرة في وسطه ... وذكر بأن الجهاز ، نجح في تجربته الأولى ، في إخفاء اسطوانة نحاسية ، بشكل شبه کامل . ويسعى العلماء المشرفون على المشروع ، إلى تحسينه في الفترة المقبلة ، بحيث ينجح ليس في إخفاء الأغراض فحسب، بل وفي إخفاء الظلال الناتجة عنه . ويطمح الفريق العلمي ، الذي صمم الجهاز ، إلى تطوير نماذج مستقبلية منه ، تنجح في إخفاء البشر ، وبذلك يكونوا قد حققوا إحدى العجائب ، التي طالما كان الناس يتندرون بها في القصص الخرافية .

إننا لا نريد - هنا - أن نغرق في تفسير الظاهرة ، والتمكن من فهم طبيعتها ، وأسبابها ، وهل هي أسباب مسيطر عليها ، أم هي خارج السيطرة ؟ وإنما نريد : أن نفهم قضية مهمة ، وهي أن ظاهرة الإخفاء البصري للأجسام موجودة ، وهي محل دراسة علمية ، واعتراف علمي ، والوجود أدل دليل على الإمكان .

وبهذا ، ينهار - تماما وكليا - الجزء الأول من التشكيك في الغيبية ، ولا مجال لعاقل أن يدخل

ص: 292

من هذا الباب . ويبقى الأمر الثاني الذي عادة ما يكون مدعاة للتشكيك في الغيبة وحدوثها ، وهو طول العمر وعدم كونه مألوفاً .

و نحن نواجه هنا - أيضا - مشكلة معرفية أخرى ، فحين يقال : إن نوحا (علیه السّلام)، عاش يدعو قومه 950 عاما ، وعاش بعدها كما قيل : ثلاثمئة ، أو خمسمئة ، أو ألف ، أو ألفي سنة ، للتدليل على إمكانية وقوع مثل ذلك ، يكون الرد السطحي الحاضر : وهل المهدي مثل نوحه (علیه السّلام)؟ ولمن يرد – عادة - بمثل هذا التساؤل الغريب ، نقول : إن البحث هو عن إمكانية الوقوع ، وليس عن التماثل ، والتشابه بين حالتين ! ومثل هذا الرد الغريب لا يؤدي بنا إلى إدراك حقيقة الأمر ، فأين البحث في إمكانية أن يطول عمر الإنسان إلى مثل هذه المدة المديدة ، من التساؤل عن التشابه والتماثل بين نوح (علیه السّلام)، والمهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

إن المسألة - برمتها ترتكز على إثبات إمكانية الوقوع ، وهو - هنا - إمكانية أن يعيش الإنسان عمرا طويلا كعمر نوح (علیه السّلام)، وهذا الأمر ثابت لا جدال فيه ، وقد أشار إليه القرآن الكريم بوضوح لا لبس فيه ، ولما كان الأمر كذلك بالنسبة إلى نوح (علیه السّلام)، فلا يبعد أبدا أن يقع مثيله ، أو أن تكون هناك حالات مشابهة له ، وهذا ثابت ، دلت عليه الشواهد الكثيرة التي تمثلها بصورة دقيقة قصة نبي الله نوحه (علیه السّلام).

فإذا أضيفت قصة الخضر ا وغيرها من القصص والشواهد الأخرى ، إلى ما تقدم من قصة نوح عال ، خرج الأمر عن الندرة إلى الكثرة ، وعن دليل الوقوع الواحد إلى شيوع الأدلة ، مما لا يبقي مجالا للقول باستحالة الإمكان ، ومما يفرض علينا التسليم بصحة ، وإمكانية ، ووقوع مثل هذا الأمر.

وبحسب الروايات حول قضية الخضر (علیه السّلام)، ينبغي أن يكون عمره إلى يومنا هذا قد تجاوز الألفي سنة (بل هناك أقوال تدل على أن عمره يزيد عن اثني عشر ألف عام لأنه الابن الصلبي لآدم كما يقولون ، وسيأتي الكلام فيه)) ومما يثير الغرابة حقيقة في هذا الموضوع أن ابن تيمية أنكر وجود الخضر ، ونفى الروايات التي أشارت إلى لقاءه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعضها صحيح ،

ص: 293

والملاحظ في بحوث هذه القصة وحيثياتها ، أن البعض يحاول أن يثبت بقاء الخضر (علیه السّلام) حيا إلى زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومع ذلك فإن مثل هذا البقاء ، يكون دليلا على طول عمر خارق ، فقد قيل عنه انه سابق للمسيح بمئات السنين ، وزمن بعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان في القرن السابع الميلادي فهو قد عاش ما يقارب الألف سنة ، في ذلك الوقت ، ونفي إمكانية بقاءه حيا إلى زمننا هذا ، لا يعني - أبدا - أنه لم يعش مدة طويلة وعمرا مديدا قد يكون تجاوز الألف عام . وهذا بالتالي دليل إمكان للوقوع ينبغي الأخذ به .

وأما قصة عيسى (علیه السّلام) وكونه حيا إلى الآن ، وقصة إدريس (علیه السّلام)، الذي رفعه الله مكانا عليا ، وهو حي يرزق الآن . فهذه حالات جاءت بنصوص قرآنية ، ونبوية ثابتة ، ومن يريد أن يشكك فيها ، فعليه أن يشكك في كل منظومته الإسلامية ،