الإمام المهدي والقرآن الكريم إشكالية ليلة القدر

هوية الكتاب

الإمام المهدي والقرآن الكريم إشكالية ليلة القدر

نزيه محيى الدين

تجريبية الخاصة

نزيه محيي الدين

طبعة تجريبية خاصة

محرر الرقمي: محمد مبين روزبهاني

ص: 1

اشارة

ص: 2

الإمام المهدي والقرآن الكريم

إشكالية ليلة القدر

نزيه محيي الدين

طبعة تجريبية خاصة

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

المقدمة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في شهر حزيران ، من سنة 1994 ميلادية (محرم 1415 ه_) دار بيني وبين من التبس عليه الحق ، حوار حول مسائل خلافية مشهورة ، وبعد ان طال بنا التحاور ، قفز محاوري فجأة ؛ ليقول : إن أهم خرافة مضرة بالإسلام هي : فكرة المهدي عند الشيعة ، وهذا - للأسف - ديدن محاورينا ، حيث لا يثبتون على موضوع واحد في محاوراتهم ، ويقفزون على الاستحقاقات الدينية والعقلية ، بسيل من التهم التي لا يريدون سماع الجواب عنها ، وحل ما التبس منها.

حين وصل صاحبي إلى هذه النقطة ، التي لم تكن ضمن محل خلافنا ، وإنما هي طريق للهروب من البحث الذي دار بيننا طويلا :

قلت له : لا بأس ان نبحث الموضوع من جوانبه الإسلامية المعروفة ، باستخدام أدلة النقل والعقل ، وبدأت أشير له بأن فكرة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ليست فكرة شيعية حسب ، وإنما هي فكرة الله الهم إسلامية عميقة ، ركزها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد طالبته بتحد ان ينفي عنها ان تكون فكرة ثابتة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فقال : ان منهجه لا يسمح له بقبول الحديث والتأريخ ، وفق سياقات، المحدثين ، وإنما يرى : ان كل فكرة نسبت لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إذا كانت غير مقبولة في عقله ، فهي مرفوضة ، حتى لو اجمع عليها المتمذهبون .

فقلت له : هذا قفز آخر ؛ لأنه مبنى يحتاج إلى تمحيص، خاصة في تقرير أحكام العقل ، وما يؤخذ منها ، وما لا يؤخذ ، فكلمة (غير مقبولة عقلا) يجب تحديدها ، فإن طول عمر نوح ، ونجاة

ص: 9

إبراهيم من النار ، تعتبر غير مقبولة عقلا ، بحسب المنهج التجريبي ، واختفاء النبي محمد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) كذلك في هجرته . هذه كلها غير مقبولة ، ويجب رفضها وإن صح النقل فيها !! .

نحن نتفق في الكثير من طرق معالجة التعارض في الأحاديث ، والتي منها العرض على كتاب الله والعقل، فلا بد من الموافقة مع العقل ، ولكن المشكلة في الطريقة ، والمضمون الذي ستعالجه ، وفي معايير العقل والنقل ، فهذا أمر في غاية الدقة ، ومعالجة أحاديث الإمام المهدي (علیه السّلام)- الثابتة بالطرق الصحيحة عند جميع المسلمين ، على نحو الإجمال – ليست من مسائل العقل المجرد ، وكلها مما لا يساعدك العقل على إثبات مدعاك .

ومرة أخرى عاد إلى اللف والدوران ، فقال : إذن دعنا من السنة ، ومن العقل ، ولنتفق على شيء واحد ، وهو القرآن الكريم ، فأين فكرة المهدي (الإمام الملهم المستمر الوجود) في القرآن ؟

هنا فكرت بسرعة كبيرة ، وحضر في ذهني الجواب فورا . ولكن ، وجدت نفسي أمام متلوّن متمذهب ، يحاول ان يصوّر ان الحقيقة هي ما توصل إليه تفكيره فقط ، وإن كانت بطريق غير علمي ، فلا يمكن التفاهم معه ، ما لم يكن هنالك مقدمات تثبت المطلوب ، بشكل لا جدال فيه.

فقلت له : سآتيك بالجواب بعد أسبوع مكتوبا في رسالة موجهة إليك .

وفعلا - بعد ثلاثة أيام أو أكثر قليلا - أتيته(1) برسالة من (54) صفحة ، من القطع الطباعي العادي ، وهي بحدود (90) صفحة من صفحات القطع الوزيري ، وقد أسميتها : (إشكالية ليلة

ص: 10


1- بعد أسبوع من تسليمه البحث زرته لمعرفة جوابه ، فوجدته لا يروم الكلام حول الموضوع ، واعتبره غير مهم في نظره ، وأنه لم يكن إشكالا مهماً في الأساس!! (بينما كان يعتبره أهم إشكال عنده !) واخذ يستعمل ساليب تخريب العلاقات بقلة اللياقة ، والتهجم على أئمة أهل البيت عليهم السلام بطرق غريبة ، وهذا ديدن كل من انغمس في الباطل والهوى ، ولا يعرف تقوى الله . ونفى أن يؤمن باستمرار ليلة القدر ، وحين ناقشته وذكرته بما ورد من بحث في الموضوع ، غير موضوعه وإشكاله باتجاه آخر تماما ، يتعلق بالحركات السياسية الإسلامية الحالية ، وما يصلح منها ، وما لا يصلح .

القدر)(1) حيث كانت ملابسات فكرة ليلة القدر في القرآن ، مشكلة جدا - حين نعطل نتائجها - فهي : إما ان تكون فكرة خيالية ، فاقدة للمعنى ، وهذا طعن بالقرآن ؛ أو تكون ذات معنى ، وجدوى حقيقية ، تصلح للتطبيق الواقعي .

وهنا تبرز الإشكالية حين لا نعترف بفكرة المهدي (علیه السّلام)، كما يؤمن بها شيعة أهل البيت عليهم السلام .

فيدور أمر المنكر للمهدي (علیه السّلام) بين إبطال القرآن ، أو الإذعان بفكرة المهدي ، كما يؤمن بها شيعة آل بيت المصطفى عليهم السلام .

وهذا يعني : ان القرآن قد عالج فكرة الإمام المهدي (علیه السّلام) من زاوية خطيرة جدا، وهي استمرار الرسالة الإلهية ، واستمرار خبر السماء ، بعيدا عن استئناف النبوة - فهذا أمر منفصل -.

وهذه النتيجة مما لا يكاد ان يصدق بها العقل السطحي التجريبي ؛ لأن العقل العلمي حين يثبت له صحة خبر الله عن شيء ، يقف مؤمناً مصدقاً ؛ لعدم قدرته على معالجة ما وراء مداركه . بخلاف العقل السطحي فانه لا يقبل الإيمان بما وراء المحسوس إلا إذا أقهر على ذلك ، فعندها يقول : انه يسلم بذلك حتى لو لم يتعقله ، ليس من باب الإيمان بل من باب التصديق الحسي ؛ لدليل حسي قهري - وهو النص ، أو الاعتقاد المذهبي الجماعي

ص: 11


1- الإشكالية اعقد من المشكلة ؛ لأن المشكلة عبارة عن : أمر عويص يواجهه الإنسان ويحاول حله . أما الإشكالية فهي تدور حول مشاركات إنسانية فكرية متعددة الجوانب ، مع وجود نقطة أو نقاط تمنع الفكر من الاستمرار لغاية الشوط ، باعتبارها عثرة حقيقية لا يمكن تخطيها إلا بتغيير المنهج ، مع إن تغيير المنهج هو أبعد شيء يتصوره المتمسك برأيه . وهذا ما نقصده من الإشكالية هنا . وليس لي دخل بأكاذيب مدعي الحداثة الرجوعيين إلى عصر الغابة ، وأكاذيبها المفضوحة . حيث يدعون أن الإشكالية تكون بين طرفين ، والمشكلة مع طرف واحد ، وهذا لا أصل له مطلقا ، واختياري لهذا المعنى من الإشكالية ، إنما هو استئناس بجملة دراسات عبرت عن نقاط العثرات في الفكر بالإشكالية ، فاعتمدت هذا المعنى ، وإلا فإن اللغة غير مفيدة في هذا الجانب أيضا ، فهو مصطلح يدور مدار الجعل ، وأنا اخبر قرائي بأني استخدم هذه اللفظة بهذا المعنى ، وأكتفي بهذا القدر .

حين كتبت الموضوع لم يكن بين يدي إلا أربعة مصادر تفسيرية هي : تفسير الميزان للطباطبائي ، وتفسير الكشاف للزمخشري ، ومختصر تفسير ابن كثير للصابوني ، وتفسير الجلالين للمحلي والسيوطي ، ومن كتب اللغة لم يكن بين يدي إلا كتاب مختار الصحاح للرازي ، وقد اكتفيت بهذه التشكيلة من الكتب حينها ، وإن كانت صغيرة ؛ لأن المطلوب هو الرد السريع . وهكذا كان .

والحقيقة إنني كنت اعلم ان مثل هذه الفكرة مطروحة من قبل أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)، وفيها أحاديث كثيرة ، غير ان مشكلة السند ، والتعليقات الرجالية التي دمرت هذه الأحاديث ، وقالت عنها : ان عليها مخايل الدس والوضع ، منعتني ان أفكر في طرحها ، ولهذا لم اعتمد على كتب الأحاديث خلال الأيام الثلاثة التي كتبت فيها الرسالة.

في هذه السنة - 1427 هجرية / 2006 ميلادية - طلب مني الأستاذ الفاضل السيد محمد نجل المرحوم المبرور الشهيد والد الشهداء الأربعة السيد حسن القبانجي – رحمه الله – إعادة النظر في الرسالة ، وطبعها ضمن نشاط مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فوجدت طلبه ملزما ، ورأيه – حفظه الله - راجحاً ، وهو عمل أرجو ان أقبل به عند سادتي الكرام عليهم صلوات الله وسلامه .

وقد قمت بإعادة صياغة بعض الفقرات، وتزويد البحث بالمصادر المتنوعة ، والنصوص الإضافية المناسبة ، وإضافة فصول مهمة لتركيز الفكرة. وقد أعدت قراءة كتب الأحاديث ، والاستفادة مما طرحه أهل البيت (علیهم السّلام)، وكلامهم الذي هو في غاية الدقة والأهمية في هذا الموضوع . لا باعتبارهم أئمة في نظري - فهذا دور واضح لا يُثبت مطلوبه هنا - وإنما من أجل كونها تنبيهات عقلائية للإشكالية ، ومتطلباتها ، واستحقاقاتها ، التي تُثبت متعلقها ، رغم كل التواء في الفهم والتفسير .

ولا بد من توضيح أمر مهم جدا ، وهو ان النتيجة لا بد ان تكون بعد مقدمات سليمة ؛ ولهذا فإن نتيجة هذا البحث لا تكون إلا بمقدمات متسلسلة بتحقيق معاني وأفكار تتعلق بالموضوع ،

ص: 12

ولهذا فقد اخترت ان تكون المقدمات عبارة عن فقرات مستقلة - ابتداءً - وعنونتها ب_(الفقرات) ثم يصاغ الرابط بين كل هذه الفقرات ؛ لنصل إلى الإشكالية وإلزاماتها ، وتحقيق ما يتهرب منه السطحيون المنتسبون للإسلام ، أصحاب العقل التجريبي المادي . وذلك ؛ لأن إثبات الإشكالية يتوقف - أساساً - على معنى ليلة القدر ، وخصائصها ، واستمرارها ، وعلى ما ورد في صورتها من تنزل الملائكة على أولياء الله في الأرض ، واستمرار عملية التبليغ لاستمرار التعليل الذي ذكره الله تبارك وتعالى لليلة القدر ، وكون النازل من الأوامر يشمل التكوين والتشريع ، إلى آخر المقدمات المهمة التي تتوقف عليها الإشكالية .

ومثل هذه المقدمات تحتاج إلى أمرين أساسيين :

الأول : هو إلزام العقل التجريبي بالنتائج ، وحصره بزاوية كون الموضوع خارج حقل العقل السطحي والحسي .

والثاني : هو توضيح كل الملابسات ، ورد كل التشويشات والتشويهات ، التي لحقت بالموضوع ، سواء بشكل متعمد أو غير متعمد .

ولهذا فقد رتبت المقدمات على شكل فقرات ، في كل فقرة تبحث معلومة معينة ، لها علاقة بالموضوع ملتفتاً لمتطلب كل من الأمرين الأساسيين ، سواء كانت داخل النصوص القرآنية ككلمة : (من كل أمر) أو خارجها كوقت ليلة القدر ، وما شابه ذلك . وذلك للإلمام بكل جوانب الموضوع ، وإغلاق المنافذ التي يتهرب منها السطحيون والحسيون الذين يدعون الإسلام .

فعلى القاريء الكريم أن يكون صبورا ؛ ليصل إلى النتيجة من خلال مقدمات متسلسلة . قد تبدو مطولة لبعض القراء الكرام .

وقد كان ترتيب المقدمات بالشكل التالي :

1- ما هي الليلة المباركة ؟

2- ما هو نزول القرآن ؟ وكيف كان ؟

3- ما معنى : ﴿لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ ؟

ص: 13

4- ما معنى : ﴿يُفْرَقُ﴾ ؟

5- ما معنى : ﴿كُلُّ أَمْرٍ﴾ ؟

6- ما معنى : ﴿حكيم﴾؟

7- ما معنى : ﴿مِّنْ عندنا﴾ ؟

8- ما معنى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ ؟

9- هل ليلة القدر مستمرة في كل سنة ؟

10- ما معنى : التعليل في : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ ، ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ ، ﴿رَحْمَةً مِّن ربك﴾؟

ثم بعد هذه المقدمات ، ستتشكل الإشكالية بشكل طبيعي ، وكنتيجة حتمية لها ، وبعد ذلك نعالج الأساليب التميعية لتشويه الفكرة ، وبيان طرق التوائها .

والإشكالية هي : إن هذه المقدمات تثبت أن هناك نزولا سنويا على شخص في الأرض، يُعلمه الله بواسطة ملائكته ، كل ما يتعلق بالناس من علوم ، تتعلق بالتكليف ، أو التكوين ، وهذا الرجل هو من عباد الله المخصوصين.

فأما أن يكون موجودا ؛ فتكون كل المقدمات والنتيجة ، واقعة ، وأما أن يكون غير موجود ، فيكون الطرح القرآني لا واقع له . وهذا عدم صدق منطقي في النص مما يعني تفريغ القرآن من مصداقيته وموثوقيته .

وهنا لب الإشكالية وتمكنها .

ص: 14

الفصل الأول

اشارة

ومعادلتها العقلية

ص: 15

ص: 16

مقدمات الإشكالية

ص: 17

اشکالیة لیلة القدر ومعادلتها العقبة

ص: 18

تمهید ومقدمات علمية

تعرّض القرآن الكريم لذكر ليلة القدر ، باللفظ ، والمعنى ، في موضعين نتلوهما تبركاً واستذكاراً ، ثم نتناولهما شرحاً وتحقيقاً :

الأول : ما ورد في أول سورة الدخان معنى.

والثاني : ما ورد في سورة القدر لفظاً .

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم * أَمْراً مِّنْ عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ في شَكَ يَلْعَبُونَ﴾ [الدخان : 1 - 9] .

وقال تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْر * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أمر * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر : 1 - 5] .

ص: 19

وقد تعرض القرآن الكريم لنزول القرآن ، وتحديد الشهر الذي نزل فيه ، في هذه الآية من سورة البقرة :

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزلَ فيه القرآن هدى للنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان فَمَن شَهدَ منكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَان مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلتكملوا العدةَ وَلَتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة : 185]

ص: 20

الفقرة الأولى :

في معنى معنى الليلة المباركة

ص: 21

ص: 22

الفقرة الأولى

الليلة المباركة

أهمية هذه الفقرة :

وردت صفات ليلة القدر وخصائصها في الآيات الآنفة الذكر من سورة الدخان ، ولكن ليس باسم (ليلة القدر) وإنما باسم (الليلة المباركة) ولذا نحتاج إلى مقدمة أولية لإثبات التطابق بين ليلة القدر ، وبين الليلة المباركة ؛ لما لذلك من الأهمية في جميع التطبيقات ؛ حتى يستقيم البحث في ليلة القدر ، بناءً على معطيات آيات سورة الدخان :

ما هي الليلة المباركة :

حين نجمع جملة من النصوص القرآنية ، تتبين لنا هوية الليلة المباركة ، وأنها ليلة القدر في شهر رمضان المبارك . وهذه النصوص هي : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ ، ﴿إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ ، ﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزلَ فيه القرآن﴾.

إن الجمع بين هذه النصوص يدل على ان الليلة المباركة هي ليلة القدر ، وهي في شهر رمضان ، بدلالة التنزيل المشترك فيها بالنسبة للقرآن ، ولعل هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى بيان بالنسبة لأي مسلم يلم بآيات الله ، ولكن مولى عبد الله بن عباس (رحمه الله علیه) ، الخارجي (عكرمة الناصبي) شوش على هذه الوحدة الموضوعية ، فادعى : إنها ليلة النصف من شعبان ؛ ليشوش على وحدة الخطاب القرآني ، وعلى دراسة خصائص هذه الليلة دراسة متكاملة . فذهب المفسرون بين ناقد ، وبين من يحاول ان يجعل هذه الدعوى مقبولة ؛ لجهات عديدة . كما فعل الزمخشري حيث لم يستبعد هذا القول ، وأضاف روايات تعدد جهات البركة في ليلة النصف من شعبان ، ولكنه بعد

ص: 23

ذلك ، قال : «والقول الأكثر ان المراد بالليلة المباركة ليلة القدر»(1) وكان الأجدر به ان يقدم هذا القول كقول مشوش ، وليس كقول له وجاهة ، يحاول دعمه بمختلف نصوص الاهتمام بليلة النصف من شعبان ، وبركتها ، وأهميتها .

ولا نعرف سبباً للالتفات إلى رأي يناقض كتاب الله ، وهو بعيد عنه كل البعد!.(2)

ص: 24


1- الكشاف : 3 : 499 ، وما بعدها .
2- من الغريب أنهم يصفون (عكرمة) بأوصاف عجيبة في البعد عن الدين والقيم الأخلاقية ، ثم يبجّلونه ، ويأخذون عنه الحديث ، بل يعتمدون ما هو موقوف عليه في الصحاح - وهذه طامة كبرى - ولو كان عكرمة خارجا وكذابا فقط ؛ لتساهلنا بشأنه، وقلنا إن من يأخذ الموقوف عليه ، قد يكون له عذر وشبهة مصححة ، ونصدق توثيقهم له وتكريمهم لعلمه ، فما أكثر الرواة من الخوارج والكذابين ، المعتمدين عندهم . ولكن الذهبي وغيره يحدثونا عن شيء يشبه الخيال ، من فسقه ، وانكشاف عدم تدينه ، مما يوحي بكفره النفسي الداخلي في الدين ، وعدم اكتراثه بالله ورسالته ، ومقالاته تشبه مقالات ابن أبي العوجاء ، وجماعته من الزنادقة ، الذين يشككون بالإسلام، ويكيدون له . فهو يستهزيء بالمسلمين وبالإسلام ، ولا يعتني بنواهيه ، ويجاهر بها ، بمقولات تدل على انه لا يؤمن بالإسلام، هي مقولات الزنادقة والمشككين في ذلك الوقت وهم أصحاب الحركة المعادية للإسلام من داخل الجسد الإسلامي ، وقد اجمع النقاد على خطورة هذه الحركة النفاقية، التي تحاول تهديم البناء الديني القويم من الداخل . وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد حذر حركات الزندقة التشكيكية في الدين ، فقد نقل السيوطي عن خطر الزنادقة على أمة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : وأخرج البخاري في تاريخه : عن ابن مسعود ، قال : بعث الله نوحا فما أهلك أمته إلا الزنادقة ، ثم نبي فنبي ، والله لا يهلك هذه الأمة إلا الزنادقة » (انتهى) . ومقولاتهم معروفة ومصنفة ، فلو نظرنا إلى مقولات (عكرمة) سنجدها هي نفسها مقولات الزنادقة ، وأفكارهم الهدامة ، ونفسيتهم المعادية . وإن بدت - ظاهرا - أنها مقالات الصفرية ، المكفرين لمخالفيهم ، كفران إسلام ، لا كفران إيمان أو نعمة . أي کفر دین ، ولا كفر ،مذهب ، ولكن مجموع ما صدر عنه ، وتصريحات من حوله ، تدل على انه لا يؤمن بالدين، وليس له علاقة به . فكيف يكون عنصر تفسير ونقل لجوهر الإسلام ؟ وهذه بعض المنقولات في هذا المعنى منقولة من كتابين هما الكامل في الضعفاء وميزان الاعتدال ، فليراجعا بدقة :

1 - كان لا يصلي بنظر أيوب : «أحمد بن أبي خيثمة ، قال : رأيت في كتاب علي بن المديني ، سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : حدثوني ، والله ، عن أيوب ، أنه ذكر له عكرمة لا يحسن الصلاة ، فقال أيوب : وكان يصلي ؟»

2 - يتمنى قتل حجاج بيت الله : «حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، عن خالد بن أبي عمران ، قال : كنا بالمغرب ، وعندنا عكرمة في وقت الموسم ، فقال : وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموس يمينا وشمالا» . وهذا يذكرنا بموقف ابن أبي العوجاء وجماعته من حجيج بيت الله.

3 - يكفّر عباد الرحمن في المساجد : «ابن المديني ، عن يعقوب الحضرمي ، عن جده ، قال : وقف عكرمة على باب المسجد ، فقال : ما فيه إلا كافر» .

4 - يلعب القمار : «قال : رأيت عكرمة ، قد أقيم قائما في لعب النرد» .

5 - يسمع الأغاني وينقد الجيد منها : «قدم عكرمة البصرة ، فأتاه أيوب ، ويونس وسليمان التيمي ، غناء . فقال : أسكتوا ، ثم قال : قاتله الله لقد أجاد» .

وقد قيل عنه أنه كذاب :

1 - «وعن ابن المسيب ، أنه قال لمولاه برد : لا تكذب عليّ ، كما كذب عكرمة على ابن عباس» .

2 - «حدثنا الصلت أبو شعيب قال : سألت محمد بن سيرين عن عكرمة ، فقال : ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة ، ولكنه كذاب».

3 - «إبراهيم بن ميسرة ، عن طاووس ، قال : لو أن عبد ابن عباس اتقى الله وكف من حديثه لشدت إليه المطايا» .

4 - «حدثنا وهيب ، قال : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب ، فذكرا عكرمة ، فقال يحيى : كذاب ، وقال أيوب : لم يكن بكذاب».

وقد تمنى ابن سيرين أن يميته الله : «حدثنا الصلت بن دينار ، قال : قلت لمحمد بن سيرين : إن عكرمة يؤذينا ويسمعنا ما نكره ؛ قال : فقال لي كلاما فيه : لئن أسأل الله أن يميته وأن يريحنا منه» .

وقد كان خارجيا وداعية إلى ذلك وهو أول من ادخل قول الصفرية إلى إفريقيا.

1 - «إنما أخذ أهل إفريقية رأي الصفرية من عكرمة لما قدم عليهم».

2 - «حدثنا علان الصيقل ، حدثنا بن أبي مريم ، حدثنا ، حدثنا بن لهيعة ، عن أبي الأسود ، قال : كنت

ص: 25

أول من سبب لعكرمة الخروج إلى المغرب ، وذاك أني قدمت من مصر إلى المدينة ، فلقيني عكرمة ، وسألني عن أهل المغرب ، فأخبرته بغفلتهم ، قال : فخرج إليهم ، فكان أول ما حدث فيهم رأي الصفرية» .

3 - «قال ابن المديني : كان يرى رأي نجدة الحروري ، وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج ، قال : وادعى على ابن عباس أنه كان يرى رأي الخوارج !!! . خالد بن نزار ، حدثنا عمر بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح : إن عكرمة كان أباضيا ، أبو طالب : سمعت أحمد بن حنبل ، يقول : كان عكرمة من أعلم الناس ولكنه كان يرى رأي الصفرية».

4 - «كان عكرمة يرى رأي الخوارج فطلبه متولي المدينة فتغيب ثم داود بن الحصين حتى مات عنده».

ووصف بأنه من مرتزقة السلاطين ، «كان يأتي الأمراء فيطلب جوائزهم» .

وقد احتقره الناس في موته :

فلم يشيعه أحد ، وشيعوا شاعرا مات في نفس اليوم . هل رأيتم عالما محترما يترك الناس تشيعه ، ويشيعون شاعرا غزليا ؟؟ .

1 - «حدثنا بن أبي داود ، حدثنا سليمان بن معبد ، حدثنا الأصمعي ، عن بن أبي الزناد قال : مات كثير وعكرمة مولى بن عباس في يوم واحد . الأصمعي : قال : فشهد الناس جنازة كثير ، وتركوا جنازة عكرمة»

2 - «وروی سلیمان بن معبد السنجي ، قال : مات عكرمة ، وكثير عزة في يوم ، فشهد الناس جنازة كثير وتركوا جنازة عكرمة» .

كل هذه المعلومات موجودة نصا في كتابين في باب ترجمة عكرمة هما : الكامل في ضعفاء الرجال : 5 : 266 ، وما بعدها ، ميزان الاعتدال في نقد الرجال : 5 : 116 ، وما بعدها.

فراجع تجد العجب ، من وصفين متضادين : ثقة عالم ، كذاب يقول بمقال الزنادقة !! .

وینبغي لمثل هذا أن لا تروى عنه رواية واحدة، بكل المقاييس حتى مقاييس الخوارج ، فإنه لا يشرفهم متزندق ينسب إليهم . ولكن ، يروى له في الصحاح ما هو موقوف عليه ، أي آراءه الشخصية ، وليس فقط الرواية عن غيره . و يكفى في أمره ثبوت كونه خارجيا صفر يا متهما بالكذب ، وليس بعد ذلك غاية .

ص: 26

وكما هو واضح من النصوص المختلفة ، بالإضافة إلى وجود خصوصيات تلك الليلة المشتركة أيضا ، والتي سنوضحها لاحقا مثل : (تنزل الملائكة فيها) (من كل أمر) و (فرق الأمر الحكيم) و (كونها مباركة من جهة ، وخير من ألف شهر من جهة ثانية) أنها ليلة متجددة في كل سنة في شهر رمضان عظيمة البركة ، وهل هناك ليلة أعظم بركة من ليلة هي خير من ألف شهر . فما أبعد عكرمة عن المعاني السمحة لكتاب الله !

وقد التفت ابن كثير إلى ذلك(1) فقال : «ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان ، كما روي عن عكرمة ، فقد ابعد النجعة ، فإن نص القرآن إنها في رمضان» (انتهى) . مشيرا إلى قوله تبارك وتعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فيه القرآن ...﴾.

ص: 27


1- تفسير ابن كثير : 4 : 148 . واستشهد ابن كثير برواية أخرى غير رواية عكرمة ، وهي : ما رواه عبد الله صالح (وضاع كذاب) عن الليث (بن سعد الأصبهاني ، مولى فهيم ، أموي الهوى ، مقرب من سلاطين بني العباس ، وثقوه وبجلوه واعتبروه إماما ، وكان ثريا جدا يرتب الأموال لفقهاء السلاطين ، ويعزل الولاة بكتاب منه) عن عقيل الزهري (مجهول ، والصحيح أنه عقيل بن خالد الأموي ، ولاءً ، الشرطي في المدينة ، كأن ابن حنبل لم يرتضه في العلل ، ووثقه الباقون ، وهو عن الزهري زعيم الشرطة عند بني أمية) أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس (قال ابن المديني : له مناكير ، وقال ابن حجر : له أوهام، ووثقه ابن معين ، وابن حبان) قال : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولد وقد خرج اسمه في الموتى» . وعلق عليه قائلا : «فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض النصوص» . وقال الشوكاني في فتح القدير : 4 : 572 : «وهذا مرسل لا تقوم به حجة ولا تعارض بمثله صرائح القرآن ، وما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح» . (انتهى). أقول : لا مانع من هذه الخصوصية لليلة النصف من شعبان ، وهي لا تعارض التفريق في ليلة القدر في شهر رمضان ، فلا يعني إن حصول هذه الخاصية وهي كتابة الآجال إنما هو تعيين لليلة القدر . فالرواية أجنبية تماما . ولا يستدل بها على كونها ليلة القدر . وأقول أيضا : حتى لو كان غير مرسل فهل يمكن أن يعارض القرآن ؟ ثم إن عبد الله بن صالح ، أبو صالح المصري المتوفى 223 ه_ ، كاتب الليث ، كذاب وضاع ، راجع : (تذكرة الموضوعات : 17 ، 20 ، 44 ، 112) فكيف يحتج به ؟ وعدم صحة اتصال هذا السند ، متسلسلا تسلسلا صحيحا ، واضح ؛ لعدم الربط بين عثمان بن محمد بن المغيرة ، وبين النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وينبغي أن يكون بينه ، وبين النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) واسطتان – على أقل تقدير – ولا بد من الواسطة بين عقيل بن خالد ، وبين عثمان بن محمد ، والواسطة هو ابن شهاب الزهري ، ولعل النص الأساسي هو : (عن عقيل ، عن الزهري ، عن عثمان ...) وقد حدث خطأ من النساخ ، فكتبوا : ( عن عقيل الزهري ) . والرواية يرويها كذاب وضاع ، عن تابع للسلطان ، عن شرطي أموي ، عن رئيس في شرطة بني أمية ، عن صاحب أوهام ومناكير ، مرسلا ، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكفى بهذا السند وضاءة ونصاعة !!! . ومتن الحديث لا دلالة فيه على أن الليلة المباركة ، أو أن ليلة القدر ، كائنة في شعبان ، إذ لا مانع من تحديد الآجال في شعبان ، وفرقها في ليلة القدر ، فلا دلالة إذن في هذا الحديث على كون ليلة قدر في النصف من شعبان .

إذن ، فإن دراسة هذه الليلة بتفاصيلها ، سيكون معتمداً على كلا النصين ، في سورة الدخان ، وسورة القدر ، واعتبار ما اشتركا فيه أمر مفروغ منه ، وما تفرد به نص دون نص فهو متم، وشارح لجوانب غير منظورة في النص الثاني ، وإن ما بينهما هو ما بين المجمل والمبين ، وإن كان الأولى التعبير بالتعاضد بين النصين في تحديد الهوية والمفهوم لهذه الليلة المباركة .

قال الطباطبائي رحمه الله : « قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان : 3] المراد بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن ليلة القدر ، على ما يدل عليه قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [ القدر : 1] . وكونها مباركة ؛ ظرفيتها للخير الكثير ، الذي ينبسط على الخلق من الرحمة الواسعة ، وقد قال تعالى : ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر : 2 - 3] . وظاهر اللفظ أنها إحدى الليالي التي تدور على الأرض»(1). (انتهى)

ص: 28


1- الميزان في تفسير القرآن : 18 : 130 .

الفقرة الثانية :

ما هو نزول القرآن ؟ وكيف كان ؟

ص: 29

ص: 30

الفقرة الثانية

هو نزول القرآن ؟ ما هو نزول الملائكة ؟ وكيف كان ؟

أهمية هذه الفقرة :

هذه الفقرة ، تحاول ان تصف كل ما قيل في موضوع كيفية ، وماهية نزول القرآن على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكيف نعالج النزول مرتين ، وفيها يتبين ان هناك خطأ في فهم الروايات والنصوص ، وخلطاً بين نزول الملائكة بالأمر سنويا وبين نزول القرآن على صدر النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وسيتضح الأقوال لا يمكنها ان تكون حائلا دون تشكل الإشكالية المرتكزة على نزول الملائكة جميع سنويا إلى الأرض لتبليغ أوامر الله . وان نقاش المفسرين يدور في موضوع نزول القرآن خاصة ، وهو خارج مورد الإشكالية ، وإن كان يساعد على تشكيل تصورات معينة عما قيل ، وما هو الأمثل في المقام ؟(1)

ما هو النزول ؟ :

قال السيد الطباطبائي : «والنزول هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الإنزال والتنزيل ، ان الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) باعتبار كونه مقروءا – كما قال تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 3] ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه» .

ص: 31


1- لا يعالج هذا الموضوع موضوعة النزول عرفانيا .

كيفية نزول القرآن :

ان النصوص القرآنية - هنا - تشير إلى نزوله دفعة واحدة ، بينما توجد نصوص قرآنية أخرى تشير إلى التدريج في النزول ، و مما يؤيده تواتر تاريخ نزول القرآن من كونه نزل تدريجا ، وقد أثار هذا المعنى بعض الإشكالات ، حيث انه من الناحية الفعلية التاريخية نزل متدرجا ، وكان نزوله حسب المناسبات والأسباب ، وهناك بعض الآيات تصرح بنزوله منجماً ، مثل قوله تعالى : ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لَتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاس عَلَى مُكث وَتَزَلْنَاهُ تَنزيلا﴾ [الإسراء : 106] وقوله تعالى : ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزَلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً واحدةً كَذَلكَ لَنَثَبِّت بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا﴾ [الفرقان : 32] ومما يشير إلى ذلك بطرف ، قوله تعالى : ﴿فَإِذَا أَنزَلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ [محمد : 20] وقوله تعالى : ﴿وَإِذَا مَا أَنزَلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ﴾ [التوبة : 127] حيث الإشارة إلى النزول التدريجي المفرّق .

فكيف نفهم النزول دفعة واحدة؟ والذي هو ظاهر النصوص الدالة على نزول القرآن كله ، مع وجود النصوص الدالة على كونه نزل تدريجا (منجما) .

وعلينا ان لا ننسى ان بعض المؤرخين أشار إلى ان أول نزول القرآن هو أول سورة العلق ، وأنها لم تنزل في رمضان قطعاً، ومال بعضهم إلى ان أول النزول كان بسورة الفاتحة ، من دون تحديد لوقت النزول ، وهذا يمنع قول من ذهب إلى ان نزوله هنا يعني ابتداء نزوله كما ذهب(1) فلو كان بداية النزول هو في ليلة القدر كما يقولون ، لكان هناك قول بنزول أول آية أو سورة في تلك الليلة ، ولكن لا يوجد مثل ذلك الادعاء . فلا قيمة لهذا الاحتمال مطلقاً لمخالفة صريح القرآن ، الدال على النزول دفعة ، وسندرسه ضمن دراسة الأقوال في التوافق بين القولين .

وقد قرر السيد الطباطبائي - رحمه الله - وجه الإشكال ، فلنتبرك ونذكره كما هو :

والمراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة ، على ما هو ظاهر قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة

ص: 32


1- الكشاف : 4 : 273 .

مُبَارَكَة﴾ [ الدخان : 3] وقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة القَدْرِ﴾ [ القدر : 1] وقوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة : 185] ان النازل هو القرآن كله . ولا يدفع ذلك قوله : ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لَتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثِ وَتَزَلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾ [الإسراء : 106) وقوله : ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً واحدةً كَذَلكَ لتُثبت به فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان : 32] الظاهرين في نزوله تدريجا ، ويؤيد ذلك آيات آخر ، كقوله : ﴿فَإذا أنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ [محمد : 20] وقوله : ﴿وَإِذَا مَا أَنزَلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ﴾ [ التوبة : 127] وغير ذلك ، ويؤيد ذلك – أيضا – ما لا يحصى من الأخبار المتضمنة لأسباب النزول . وذلك أنه يمكن ان يحمل على نزول القرآن مرتين : مرة مجموعا ، وجملة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان ، ومرة تدريجا ، ونجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة وهي مدة دعوته (صلی الله علیه و آله و سلم).

لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه ، ان هذا القرآن المؤلف من السور والآيات ، بما فيه من السياقات المختلفة ، المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية ، لا يقبل النزول دفعة ، فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية ، وحوادث جزئية ، مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص وأحوال خاصة ، لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - بحيث لو اجتمعت - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - انقلبت عن تلك الموارد، وصارت غيرها ، فلا يمكن احتمال نزول القرآن ، وهو على هيئته ، وحاله بعينها ، مرة جملة ومرة نجوما .

فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب ان يفرق بين المرتين بالإجمال والتفصيل فيكون نازلا مرة إجمالا ، ومرة تفصيلا ، ونعني بهذا الإجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله تعالى : ﴿الر كتاب أَحْكَمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكيم خَبير﴾ [ هود : 1 ] وقوله : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبَيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أم الكتاب لَدَيْنَا لَعَلي حَكيمٌ﴾ [الزخرف : 3 - 4] . وقد مر الكلام في معنى الإحكام والتفصيل في تفسير سورتي هود والزخرف».(1)

ص: 33


1- الميزان : 18 : 130 .

انتهى تقرير السيد الطباطبائي لوجه الإشكال في الموضوع وأجوبته السريعة.

ولا بد - والحال هذه - من بيان أمر مهم ، وهو وجود خلط واضح بين نزول القرآن – الذي هو ظرف خاص ، وله مدة محددة - وبين نزول الملائكة سنويا ، ودوريا لتبليغ أوامر الله . ومن دون التفريق بين الأمرين ، تختلط المعاني بشكل لا يمكن الوصول معه للحقيقة ، بل تبدو النصوص متضاربة . وهذا ما سنحاول تبسيطه وتسليط الضوء عليه.

- وهنا بعد كل ما تقدم - نصل إلى السؤال القائل : ما هو سبيل التوفيق بين النصين الثابتين المتعارضين في القرآن الكريم ؟ أي بين نزوله كاملاً وبين نزوله تدريجياً .

لقد سلك المفسرون عدة طرق(1)؛ للتوفيق بين القولين وفك التعارض ، أذكر منها :

أولا : نزول القرآن الإجمالي ، ثم نزوله التفصيلي :

أورد هذا الفرض السيد الطباطبائي - رحمه الله - بنص صريح ، ولكن علينا ان نفهم كيفية اختياره لهذا المعنى .

ويمكن معرفة ذلك من مسيرة معرفة الفروض المحتملة التي طرحها . وهي : أنه حينما ذكر

ص: 34


1- لا بد من ذكر حقيقة تتعلق بالتفسير عند المسلمين ، وهي إن التفسير في حقيقته عبارة عن اجتهادات شخصية في الغالب ، وهو غير مسند لمعصوم - إلا ما ندر - بل نجد حالة غريبة عند المفسرين ، وهي أنهم لا يلتزمون قول المعصوم ، ويعتبرونه مجرد قول من الأقوال ، وهذا منهج غريب يجب التوقف عنده للدراسة . كما توجد ظاهرة ثانية ، وهي ظاهرة التقليد ، ونقل اللاحق عن السابق ، من دون تثبت - إلا نادرا - . وقد نجد مشكلة أخرى ، وهي إن المفسر قد ينقل عن سابقه ، نقلا غير دقيق في المعنى ، بحيث لا يتطابق مع السابق ، ويتحول تدريجيا إلى رأي له ، وهو غير قاصد لذلك . وكل هذه الملاحظات ، سيلمسها القاريء الكريم حين يتابع الأقوال وأنواعها في التفاسير ، فسيجد إنها اجتهادات عجيبة ، ويجد إن اغلب الأقوال عبارة عن تقليد ونقل عن السابق ، وسيجد إن بعض الأقوال قريبة جدا من بعضها ، وإنما عدم الدقة في النقل هو الذي يجعلها أقوالا مخالفة ، من دون أن يدرك المفسر ذلك ، ولكن ، لا يمكن أن نضعها في نفس الاتجاه ؛ لوجود خصيصة فيها ، تجعلها مختلفة .

النزول مرتين ، مرة مجموعاً جملة ، ومرة نجوماً ، ثم أشكل على هذا القول ، وحاول تعديله ، بالفرق بين النزول الإجمالي ، والنزول التفصيلي ، قال - رحمه الله - مستدركاً : «يمكن ان يحمل على نزول القرآن مرتين ، مرة مجموعاً وجملة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان ، ومرة تدريجياً ونجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة وهي مدة دعوته (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)». (انتهى) .

- وهنا - أشكل على هذا الاحتمال وحاول تهذيبه ، فقال : « لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه ، ان هذا القرآن المؤلف من السور والآيات، بما فيه من السياقات المختلفة ، المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية ، لا يقبل النزول دفعة ، فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية ، وحوادث جزئية ، مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص وأحوال خاصة ، لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - بحيث لو اجتمعت - زمانا ومكانا ، وغير ذلك - انقلبت عن تلك الموارد ، وصارت غيرها ، فلا يمكن احتمال نزول القرآن ، وهو على هيئته، وحاله بعينها ، مرة جملة ومرة نجوما(2)». (انتهى) .

ثم حاول توجيه هذا الاحتمال - بوجه لا يرد عليه الإشكال المذكور – فقال : «فلو قيل بنزوله مرتين ، كان من الواجب ان يفرق بين المرتين بالإجمال والتفصيل، فيكون نازلاً مرة إجمالاً ، ومرة تفصيلا ، ونعني بهذا الإجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله تعالى : ﴿كتَابٌ أَحْكَمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبير﴾ [هود : 1](3)» . (انتهى) .

ص: 35


1- الميزان : 18 : 133 . وفي هذا القول عدم تحديد ، حيث لم يبين من هو النازل عليه (القرآن المجموع) النازل جملة واحدة ، ولكن من خلال الإشكال الذي أورده يشير إلى أن النازل عليه هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه ، وقد صرح بذلك في سورة القدر ، فقد قال : «فمدلول الآيات : إن للقرآن نزولا جمليا على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، غير نزوله التدريجي الذي تم في مدة ثلاث وعشرين سنة . فيحمل هذا المبين على ذلك المجمل ؛ ليستقيم الفهم» . الميزان : 20 : 330 .
2- المیزان : 18 : 133
3- الميزان : 18 : 133 . اعتبر هذه الآية مطابقة لقوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] وهي عنده بعيدة عن التنجيم كما ذكر .

وقد أحال إلى معنى الإحكام والتفصيل ، الذي حققه في سورتي هود والزخرف ، والإحكام عنده الإبهام(1).

أقول : ان الإشكال الذي أورده العلامة الطباطبائي ، يرد على سائر صور القول بنزوله مرتين - إذا سلّم بذلك ، ولكن سيتضح أمره - سواء ما نحن فيه من الفرض ، وهو نزوله مرتين على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو نزوله مرتين ، مرة إلى السماء الدنيا ، ومرة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو نزوله مرتين ، مرة إلى أهل السماء الدنيا ، ومرة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). ففي كل هذه الفروض يرد إشكال التفصيلات المسببة لأسباب النزول من الوقائع المختلفة زماناً ومكاناً والإشكال مبني على جملة معارف تحتاج إلى دراسة مستفيضة منها :

الأول : معرفة ما هو القرآن ؟ وما المقصود منه ؟ وهل ان الذي نزل جملة ، هو نفسه الذي نزل تنجيماً ؟(2)

والثاني : طبيعة علاقة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بالله تبارك وتعالى ، أهي علاقة إنسان عادي بالله عبر وسيط ملائكي ، وليس للنبي محمد صلى الله علية وآله وسلم أية طاقات وقابليات تكوينية ، تؤهله

ص: 36


1- هناك تصريحان للسيد الطباطبائي . الأول : إن الإحكام هو الإبهام والإجمال . والثاني : هو إن الإحكام بمعنى الواحد الذي لا يتجزأ بنفسه ، وكأنه يقصد النوع الكلي بما هو كلي . قال : «فالإحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ، ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه» الميزان : 2 : 16 ، والمعنى الثاني : فرض فلسفي لا يشرح بدقة فرض المعنى الأول ، وهو الإبهام .
2- بحسب رأينا ، فإن الأمر غير محدد ، وإن القرآن صريح بأن كلام الله ، أكبر من هذا القرآن بكثير : ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مدَادًا لَكَلمَات رَبِّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْله مَدَدًا﴾ [الكهف : 109 ] ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحْرِ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان : 27] ﴿وَإِنَّهُ فِي أم الكتابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف : 4] وهذه الآيات المباركة ، تشير إلى وجود كتاب هو أصل هذا الكتاب وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر : 21] ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس : 12] .

لرسالة عالمية ، فيها عروج روحي وجسدي ، وإسراء روحي وجسدي ، بحيث تمكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى قاب قوسين أو أدنى ؟(1)

والثالث : معرفة ظاهرة الوحي ؟ وكيف تفسر من ناحية علمية وعملية ؟

إننا في نسياننا لهذه الحقائق - في معالجتنا لطبيعة التلقي للوحي - نكون قد قسنا الأفعال الإلهية ، وقسنا ظاهرة التميز والتفرد في بعض خلق الله ، بأفعال الإنسان العادي (رغم ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إنسان) - وهذا خروج كلي عن موضوع البحث - فهل يقبل ذلك عاقل ؟

فلا بد من مناقشة الفرض الذي طرحه العلامة الطباطبائي في اصل مبناه ، بامتناع المعرفة التفصيلية الله الموارد لم تقع بالزمان والمكان ، والرد هو : إن اختلاف موارد النزول لا تمنع علم الله السابق بها ، لوجود العلم التقديري والعلم بالغيب ، وإنشاء القرآن بموجب ذلك العلم التقديري ؛ وأما في العلم الشهودي فأن قضية الجهل منتفية أصلا ، بانتفاء الموضوع . فلا يصح نسبة الجهل إليه . وبهذا فلا يستدعي العلم بالأشياء قبل وقوعها الجبرية كما يتخيل الكثير من المتكلمين ، وإلا انقلب علمه جهلا كما يقولون، ويلزم من قولهم الشهير بطلان التكليف والعلم من أساسه فمشكلهم أوجد مشكلا اكبر واخطر ، وهذا البحث لا يليق بهذا الكتاب لأنه من مباحث علم الكلام العالية التي تحتاج إلى حوار طويل ومقدمات وبراهين قد تصل إلى كتاب من الحجم الكبير(2).

وعليه لا مانع من نزوله بكل التفاصيل قبل وقوعها مرة واحدة ، وهذا ما احتمله هو فيما بعد ، وسنعرض ذلك في تعداد الأقوال في هذا الموضوع .

وفي مقام محاولة تهذيب الفرض الأول ، بأنه ينبغي التفريق بن النزول الإجمالي والنزول التفصيلي ، فقد حاول التأييد ببعض النصوص القرآنية ، وقد قلت أن هذا المعنى يؤكد ما يشير إليه الكثير من المفسرين من ان النزول الأول كان لقرآن غير القرآن في النزول الثاني . وهو هنا من

ص: 37


1- الدنو القرب من حجاب النور أو من الجنة أو مما بعد سدرة المنتهى، راجع التفاسير.
2- عندي تجربة حوار حول هذا الموضوع ، وقد طال فوصل إلى ما يعادل 1700 صفحة .

حيث الإجمال والتفصيل . وهذا فيه نظر من جهة تعدد الكتاب . و كل ما طرحه من آيات لا تفيد الإجمال في النزول الأول ، بالإضافة إلى ان هذا القول نسف ما بني عليه إشكاله السابق الذكر ، المبني على اختلاف الآيات باختلاف الأسباب .

ثانيا : نزوله على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بتفصيلاته دفعة ، ثم نزل تفصيلاً آية بعد آية الموضوعاتها بحسب الأسباب :

وقد شرح هذا الفرض العلامة الطباطبائي قدس سره باستدراك واضح على الفرض السابق ، قال : «فللأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتان : مرحلة الإجمال والإبهام ومرحلة التفصيل، وليلة القدر – على ما يدل عليه قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] – ليلة تخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام إلى مرحلة الفرق والتفصيل وقد نزل فيها القرآن وهو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر . ولعلّ الله سبحانه اطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته ، وما يقارن منها نزول كل آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها ، وأطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلاً عليه دفعة واحدة وجملة قبل نزوله تدريجياً ومفرقاً ومآل هذا الوجه إطلاع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الأرض(1) ، واستقراره في مرحلة العين ، وعلى هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرتين بالإجمال والتفصيل، كما تقدم في الوجه الأول» . (انتهى).(2)

أقول : لقد تقدمت الملاحظة على إشكاله على النزول الجملي - رغم الغموض الوارد في النص ، من التوافق بين النزول الجملي والتفصيلي ، وهل هما متكرران أم ذاك مرة ، والثاني يتكرر - وبينا انه مبني على أسس غير صحيحة ، وهنا فرض فرضا صحيحا ، ولكنه بناه على أسس

ص: 38


1- أي قبل نزوله - مرة ثانية - إلى الأرض ، وإلا فإنه يوهم إن النزول الأول إلى غير الأرض ، وهذا ما ستعرف شأنه لاحقا .
2- الميزان : 18 : 134 .

غير صحيحة أيضا، وهي اعتماده على ان الحكيم بمعنى المبهم ، و لم يصرّح - كذلك - أين نزل ذلك القرآن الجملي التفصيلي على محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، هل هو في السماء أم الأرض ؟

وكلنا يعلم أن حادثة المعراج كانت بعد نزول القرآن ، فلا بد أن يكون النزول في الأرض - إذا قلنا : إن ذلك أول عهده بالسماء وهو غير معلوم - .

وأما الأساس الصحيح في هذا الفرض ، فهو إمكانية إطلاع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على كل القرآن ، ومعرفته بكل الخصوصيات المصاحبة لنزوله تفصيلاً دفعة ، وما ذلك على الله بعزيز ، واعلم ان هذا الفرض اقرب لظاهر القرآن ، وان كان يحتاج إلى بيان كثير من المقدمات العلمية والعقائدية ؛ ليتبين - الفرض أعلاه - بشكل أدق ، مع الإغماض عن تعريفه للحكيم بمعنى المبهم ، وسيأتي بعض الكلام عنه ليتضح الفرض .

ثالثا : نزوله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، دفعة واحدة ، في وقت واحد ثم بعد ذلك ، نزل مفصلاً على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) في ثلاث وعشرين سنة . أي وجود اختلاف بين زمني النزول؛وقد ذكر (ابن كثير) هذا الفرض ، فقال :

قال ابن عباس ، وغيره : انزل الله القرآن جملة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً، بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

وفي تفسير الجلالين : «... ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ﴾ [ القدر : 1] . أي القرآن جملة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا»(2).

وقد قال الطباطبائي : «وقيل : إنه نزل أولا جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم

ص: 39


1- تفسير ابن كثير : 4 : 566 .
2- تفسير الجلالين : 815 .

نزل من السماء الدنيا على الأرض ، تدريجا في ثلاث وعشرين سنة ، مدة الدعوة النبوية وهذا القول مأخوذ من الأخبار الواردة في تفسير الآيات الظاهرة في نزوله جملة .»(1) (انتهى).

أقول : الروايات الصحيحة لها منحى آخر ، ولعلها تفيد ما أفاده هو ، من أنه هو القرآن النوراني الذي لا يمسه إلا المطهرون . والروايات الصحيحة تشير إلى تكرار ليلة القدر ، وتكرار النزول والأوامر ، ومعنى هذا الفرض ينفي ذلك . فلهذا لا يمكن الركون إلى هذا الاستظهار المدعى من الروايات .

وعلى أية حال، فإن هذا القول يخالف ظاهر القرآن من نزوله على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) جملة ، وليس على غير النبي في السماء . نعم ، في غير شأن القرآن لا يشمله النص ، وهو ممكن ، ولكنه ليس مقصودا في مبحث نزول القرآن ، ومقتضى الفهم العقائدي المركوز عن نزول القرآن هو : ان الله سبحانه يرسل جبريل بوحيه إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)- سواء كان القرآن كاملا ، أو مفصلا نجوما - وأن الله لا يحده المكان ، وحاشاه ان تحده الجهات ، وان جبريل في أعلى السماوات - التي لا نفهم معناها - لأنه من أعاظم الملائكة الكرام ، وان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في الأرض ، وهناك نزولان أحدهما في ليلة القدر على النبي الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم)، والآخر في كل وقت تقتضيه الحاجة.

ان هذا الفهم لم يأت اعتباطاً ، وإنما هو منتزع من جملة هائلة من النصوص القرآنية والنبوية . غير ان رواية ابن عباس التي نقلها ابن كثير وغيره تعطي تفصيلات نزول داخل السماء ، من دون ان يكون المصدر من نفس أهل السماء المشاهدين للحالة ، فهي تشير إلى ان القرآن يصدر من اللوح المحفوظ ، وينزل إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم ينزل مفصلا إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

فهل كان القرآن في اللوح المحفوظ أولا ؟

فحسب الفهم العرفي عن النزول ، وكونه من الله ، فيكون هذا نزول أول .(2) والنزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة نزولا ثانيا.

ص: 40


1- الميزان : 18 : 131 .
2- لا أظن أن ثمة أحد يعتقد إن اللوح المحفوظ هو الله ، فلا يصير الكون فيه نزولا أولا .

ثم ما هو بيت العزة في السماء الدنيا أصلا ؟

وهذا معنى لم يرد في الإسلام إلا في هذه الرواية ، وقد بحثت عنه في كلام أهل بيت النبي عليهم السلام والأحاديث الصحيحة ، فلم أجده بحسب طاقتي ، فهو عنوان مخترع ومفهوم مبتدع لا واقع له .

ان مثل هذه الغوامض لا نستطيع البت بها ، ولكننا نطالب مدعيها ان يثبت لنا رؤيتها ، وإشرافه عليها !!! .

ولا ننسى بأن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ثان ؛ لأنه نزل قبل ذلك على اللوح المحفوظ – حسب الادعاء - ومقتضى كون النزول على النبي بواسطة جبريل ، فإن جبريل يأخذ القرآن من السماء الدنيا ، فيكون الحديث يحتوي على أكثر من نزولين ونحن نتكلم عن نزولين .

ان مثل هذا التصور يحتاج إلى نص من معصوم يخبر عن الله ، أو عن أهل السماء على اقل تقدير . فهذا القول موقوف على ابن عباس ، وهو لا يسلم من المشاكل الحقيقية التي لا تجعله أهلا للقبول . بالإضافة إلى تشويش صورة نزول القرآن وتوليد تساؤلات كثيرة منها :

هل ان القرآن في اللوح المحفوظ هو نفسه الذي في بيت العزة في السماء الدنيا ؟ وهل القرآن الذي هو في السماء الدنيا ، هو نفسه بحجمه وعدد آياته قد نزل على النبي ؟ ليس أمامنا إلا تصور ان مثل هذا التفصيل يحتاج إلى دليل شرعي أولا ، وهو - ثانيا - لا يخلو من اضطراب وتضارب مع النص القرآني في كون النزول الأول كان على الرسول أيضا.

ان هذا الرأي ولّد لنا من الغموض أكثر مما شرح لنا ، ومما يرفع إشكال التعارض بين النزول الجملي وبين النزول التفصيلي ، بل تداخلت صور النزول ، وأبهم محتواها حتى إننا لا نعلم : هل ما نزل على اللوح المحفوظ نزل إجمالاً ؟ أم تفصيلاً ؟ وبليلة القدر ، أم بليلة أخرى ؟ فيكون الأمر خارجا عن البحث في " المدلول القرآني وإنما هو كلام في مواضيع أخرى .

ثم ان هنا ملاحظة هامة جداً ، وهي ان ليلة القدر هي ليلة أرضية . فكيف يصح وصف النزول

ص: 41

على اللوح المحفوظ ، أو في السماء الدنيا بأنه وقع في ليلة القدر؟ وفي زمن موحد؟ . وهل هناك أيام وليالي في السماء أو عند الله السماء أو عند الله هي من أيامنا وليالينا الأرضية ؟ .

القرآن صريح باختلاف الزمان في السماء ، أو عند الله - تماماً - ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْف سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ﴾ [ الحج : 47 ] ﴿يُدبَّرُ الأمر مِنْ السَّمَاءِ إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِليه فِي يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة : 5] ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليه فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة﴾ [المعارج : 4]

فإذا كانت ليلة القدر سماوية ، فإذن هي كألف سنة لا كألف شهر ، وإذا كانت أرضية فما علاقتها باللوح والسماء ؟

وما لم يسند مثل هذا التفصيل إلى معصوم ، فإنه يعتبر مجرد تصورات ، أو نقل عن إسرائيليات . وفيه مشكلة تعدد النزول بأكثر من نزولين، كما يفهم من الجمع بين النصوص القرآنية وكما أشرنا إليه بوضوح .

وما قاله السيد الطباطبائي، من كون مثل هذا المعنى مروي ، إذا كان يقصد مثل هذه الرواية فالكلام هو الكلام، وإذا كان المقصود روايات صحيحة عن المعصومين ، فسيأتي حالها . وهي لا تدل على هذا الفرض ، إلا بعنوان ان هناك ليلة قدر سماوية واحدة ، غير ليالي القدر الأرضية . فهذا تحتمله بعض الروايات . ولكنه معنى غامض .

رأي في أحاديث ابن عباس رضوان الله عليه :

لنا رأي في روايات ابن عباس عامة ، وفي مروياته التفسيرية خاصة ، فرواياته تمتاز بالكثرة والمشكلات ، مثل كونها تماثل - بل تطابق أحيانا - أقوال أهل الكتاب من يهود ونصارى ، والظاهرة البارزة هي وجود رواة كذابين مشهورين ، يكذبون على ابن عباس في زمن بني أمية ، وأما في زمن بني العباس فهناك ظاهرة تملق بني العباس ، ونسبة الدين إلى جدهم (عبد الله عباس) .

إن جرداً لطرق الحديث عنه ، يبيّن لك كثرة الرواة عنه ، ممن اشتهر بالكذب والغرض

ص: 42

السياسي ، ككتاب بني أمية ، المدعومين من الدولة لتشويه الإسلام ، وقد قدمنا القول في من كان أوضح من يكذب على لسانه وهو عكرمة .

وأما من جهة المواضيع ، فإنك لو جمعت النصوص الصادرة ، وطابقتها مع خرافات أهل الكتاب ؛ لوجدت تطابقا عجيبا ، وكأن علم ابن عباس ، الموقوف عليه ، هو قراءة في روايات اليهود والنصارى ، وليس فكرا إسلاميا ، مستقى من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذه الظاهرة ليست نادرة في الإسلام كما يعلم المتتبعون .

ويصح ادعاء الإرسال في روايات ابن عباس ، وعدم صحة النسبة المباشرة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأن ابن عباس لا يمكن عده من الصحابة الواعين للصحبة ؛ بسبب سنه حينما لبى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ من نداء ربه ، فهو ابن عشر سنين حين توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يبعد ان يكون اصغر من ذلك خلال دراسة نصوصه وحياته . وما ادعاء انه ولد في الشعب ، إلا لتصحيح هذا الحجم من المرويات ، خصوصا من قبل دولة حكمها أبناءه ، غير ان السيد بن طاووس ، رأى ان ابن عباس يروي بواسطة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) ولكنه يكتم ذلك تقية ، وهذا تفسير غير مقبول عمليا بالشكل الذي طرحه ابن طاووس عليه الرحمة ، لكثرة الروايات الإسرائيلية المنسوبة إليه ، فحتى لو قلنا بعبقريته ، فهل من الصحيح ان تأخذ روايات ابن عباس في التفسير هذا الحجم العظيم ، حتى كأنه المفسر الأوحد ؟!! وأغلب روايته توراتية وكتابية . فقد أراد من نسب تلك لابن عباس أن يحسّن صورته فشوهها.

وللباحث أن يشك - لهذا السبب - في كل ما نسب إلى ابن عباس في التفسير ، قبل غيره ، وليمحص القول بما يؤيده . وان على الباحثين إعادة النظر برواياته ، وآرائه بشكل عام ، فإن غالب ما ينسب إليه إنما هو رأي له منسوب إليه ، وليس برواية . ولعل هذا النص من هذا القبيل ، ثم ما أكثر ما كذب على لسان ابن عباس رحمة الله عليه – كما بينا آنفا – وفي هذا الباب ما يوجب الكذب لتضييع الحقائق . واهم من اتهم من قبل علماء الجرح والتعديل ، بالكذب على ابن عباس ، هو عكرمة كما قلنا ولكنه ليس الوحيد كما يبدو .

ص: 43

رابعا : نزوله على أهل السماء الدنيا ، ونزوله على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أي : ان الجهتين مختلفتان :

قال الزمخشري في الكشاف : «نزوله جملة واحد في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان ينزله على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نجوماً في ثلاث وعشرين سنة(1)».

وهذا الرأي يقتضي ان يكون نزوله إلى السماء مرة واحدة ، والى النبي بعد ذلك متعددا .

فهل يشمل هذا غير القرآن ؟

وهو يختلف عن سابقه ، بإملاء جبرئيل (علیه السّلام) القرآن على السفرة في السماء الدنيا ، وهو غير إنزاله على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فينبغي الملاحظة لهذه النكتة الدقيقة . وقد عبر الزمخشري عن القول بكلمة : (روي) من دون تحديد الراوي .

وأورد ابن كثير في تفسيره(2) رواية عن تفسير ابن أبي حاتم ، عن كعب الأحبار في أخبار ليلة القدر ، وهي قصة خرافية عجيبة فيها صعود ونزول الملائكة ، وجغرافية سدرة المنتهى ، وتكلمها مع سكانها ، ومع الجنة ، وتتحيّر الشمس من جناح جبريل الأخضر ، وغير ذلك من مدعيات عجيبة . ولعلها هي اصل ما أورده الزمخشري ، من ان النزول الأول هو ما نزل به جبريل وأملاه على السفرة في السماء(3)، ثم نزل بعد ذلك على محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 44


1- الكشاف : 4 : 273 .
2- تفسیر ابن كثير : 4 : 572 .
3- إن ظاهر عبارة : ( أملاه جبريل على السفرة ... ) تعدد النزولات بتعدد السفرة ، وطبقاتهم حيث إن كل إملاء نزول ، ولو تمحل بعضهم فقال بل هو نزول واحد كالمدرس يلقي دروسه على مجموع طلبته ، فإن الإشكال باق ؛ لأن هؤلاء سفرة مرسلون لا بد لهم من مُرسَل إليه يبلغونه الرسالة . فيتعدد النزول برسالاتهم فكم عددهم ؟ ومن هو المرسل إليه ؟ وهنا قد تجاوزت النزولات الثلاث التي ذكرها ابن كثير . ولهذا فان هذا الأمر لا يتعلق بالقرآن ، ونزوله على رسول الله في ليلة القدر . وسيكون قبول مثل هذا الفرض حجة بالغة على المقابل ؛ لأنه يعني عدم الانحصار على اقل تقدير. .

أقول : ان كل ما ناقشناه في قول ابن كثير ، نقلاً عن ابن عباس يجري هنا ، ولكن رواية الزمخشري أضافت : ان النزول إلى السماء الدنيا لا علاقة له بالرسالة المحمدية ، وإنما هو إلى السفرة . فأما ما فائدة ذلك للبشر بالنزول على السَفَرة ؟ أو علاقتهم بالقرآن المنزل على صدر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ . فذلك أمر مجهول !

إلا ان يكون هذا القول مبني على التسليم بإمكان وجود (قرآنيين) لا قرآن واحد . أحدهما انزل على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بما يناسبه ، والآخر أنزل على السفرة بما يناسبهم . وإلا ، فلا معنى لإنزال هذا القرآن نفسه عليهم ، على الرغم من إننا لا قدرة عندنا على النفي والإثبات ، ولكن كما هو واضح ، فإن الأمر لا تعلق له بنا وبالقرآن المنزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأنه للسفرة . مضافا إلى إننا قدمنا القول فيما رواه ابن كثير بأن أساس قوله - وهو النزول إلى السماء الدنيا ، مستقلا - يخالف النصوص الظاهرة بالقرآن ، الدالة على ان النزولين إنما هما على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

خامسا : النزول من أم الكتاب في السماء السابعة إلى السماء الدنيا .

وقد قاله في تفسير الجلالين ، في تفسير سورة الدخان(1) وهو بخلاف ما فسره في سورة القدر ، وقد قدمنا ذلك التفسير(2).

أقول : كل ما يجري على تلك الفروض جار هنا ، غير ان استعماله لكلمة : ﴿أم الكتاب﴾ فيه إبهام ، وهي كلمة قرآنية غير مفهومة ؛ لأنها من وراء المحسوس والمعلوم للبشر.

وعلى الإجمال ، فإن عرضاً لبعض الآيات الشريفة يشعر بوجود كتاب هو اصل القرآن ، وهو غير قابل للتشابه ، بل هو أساس الأمور التكوينية القابلة للمحو والإثبات ، بما فيها القرآن الكريم ،

ص: 45


1- تفسير الجلالين : 656 : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان : 3] : هي ليلة القدر أو ليلة النصف شعبان ، نزل فيها من أم الكتاب من السماء السابعة إلى سماء الدنيا .
2- تفسير الجلالين : 815 : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ [القدر: 1] : أي القرآن جملة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا . وفيه أيضا : 38 : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزل فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] : من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فى ليلة القدر .

فيكون القرآن المنزل إلينا جزءا يسيراً من ذلك الكتاب ، والآيات هي : ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أَمُّ الكتاب وَأَخَرُ مُتَشَابِهَات﴾ [آل عمران : 7] ﴿يَمْحُوا الله ما يَشَاءُ وَيُثَتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد : 39] ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمَّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف : 4] ﴿وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ، [الحجر : 21] .

وقد فسر ﴿أُمُّ الكتاب﴾ في تفسير الجلالين بأنه اصل الكتب أي اللوح المحفوظ ، وانه في السماء السابعة(1).

والنصوص لا تساعده، فإن التحديد الذي ذكره لا أصل له ، ولا إشارة إليه ، ولا يفهم من الآيات أكثر مما ذكرنا من كونه كتاباً شاملاً لا يتغيّر ، ولا يعلم ان كان في اللوح المحفوظ ، أم في غيره ! ولا يعلم ان كان هو اصل الكتب السماوية ، أم هو اشمل ! ولا يدرى هل هو في السماء السابعة ، أم هو فيما قبلها أو بعدها !

ولا سبيل إلى المعرفة ، بمثل هذه الأمور ، إلا بإرشاد الله عبر رسله ، وذلك غير متوفر – كما هو معلوم - غير ان هذا كله لا علاقة له بنزول القرآن الجملي على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو مبحث مستقل .

سادسا : ابتداء نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان .

ذكره الشيخ الطوسي(2) في التبيان ، وقد نسبه للشعبي(3) كما فعل ذلك الزمخشري في الكشاف ، وقد بينا - سابقا - أن هذا الكلام لا يصلح ؛ لأن ما يقال عن أول سورة أنزلت ، ليس فيه أي ذكر للنزول في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهذا يدل على كون الكلام مجرد اجتهاد من الشعبي ، أو آخرين ، ولا علاقة له بدراسة نصوص القرآن نفسه.

ص: 46


1- تفسير الجلالين : 38 و 815 .
2- الطوسى : التبيان : 2 : 122 .
3- الطوسي : التبيان : 10 : 384 .

قال شيخ الأزهر الإمام محمد عبده في تفسير سورة القدر : «والقرآن كله ، والجملة منه ، وان قصرت ، كل ذلك يسمى قرانا ، ويسمى كتابا . فالضمير في أنزلناه في هذه السورة عائد إلى القرآن ... و المراد بإنزاله : الابتداء بإنزال شيء منه ، و هو المعني من قوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزل فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] أي ابتدأ فيه إنزاله(1)»

و قد بحث الدكتور إبراهيم خليفة - رئيس قسم التفسير و علوم القرآن بجامعة الأزهر - مسألة نزول القرآن ، ورجّح القول بأن المراد بنزوله في ليلة القدر ، وشهر رمضان : ابتداء نزوله ، واستند إلى ان الأقوال الأخرى لا دليل عليها إلا رواية ابن عباس ، و قال : « ... فانه لا شبهة للقائلين بالنزول الجملي إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحمل الإنزال في الآيات الثلاث عليه بالتالي ، إلا ما صح موقوفا عن ابن عباس» .(انتهى)

ثم رفض ما روى عنه ، لأنه كان یروى الإسرائيليات إلى ان قال : «فان الناس لو لم يعرفوا حديث النزول الجملي هذا ما حملوا الإنزال في هذه المواضع إلا على مألوفة فيهم من الإنزال المنجم(2)». (انتهى) .

أقول : يبدو ان الدكتور إبراهيم خليفة ، لم يلتفت إلى ظاهر القرآن من النزول الجملي في قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ [ القدر : 1] أو في قوله : ﴿الذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] .

قال الطباطبائي : «وقيل : المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة ، افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر من شهر رمضان ، فأول ما نزل من آيات القرآن - وهو سورة العلق أو سورة الحمد – نزل في ليلة القدر . وهذا القول مبني على استشعار منافاة نزول الكتاب كله في ليلة ، ونزوله التدريجي ، الذي تدل عليه الآيات السابقة ، وقد عرفت ان لا منافاة بين الآيات . على أنك خبير بأنه خلاف ظاهر الآيات».(3)

ص: 47


1- محمد عبده : تفسير جزء عم : 130 .
2- إبراهيم خليفة : الإحسان فى مباحث من علوم القرآن : 83 .
3- الميزان : 18 : 129 .

أقول : ستأتي مناقشة السيد الطباطبائي لهذا القائل . ولكن من المهم جدا ان نعرف ان سورتي العلق والفاتحة ، لم تنزلا في شهر رمضان إطلاقا(1) . وهذا القول نوع من التقول ، والفذلكة التي لا واقع من ورائها .

ص: 48


1- لم يرد ، إن أي من السورتين قد نزل في رمضان ، وإنما الوارد إن سورة العلق نزلت في شهر رجب ، وحسب النصوص ، والاستظهار من القرآن فإن سورة الفاتحة نزلت قبلها ، ولكن قد تناقش تلك التحصيلات اللفظية من النص القرآني . ومع ذلك ، فقد قال مجاهد أنها سورة مدنية وقد اعتبروا ذلك من هفواته . انظر : تفسير السمرقندي : أبو الليث السمرقندي المتوفى سنة 383ه_ : 1 : 39 . وفيه : «روي عن مجاهد ، أنه قال : سورة فاتحة الكتاب مدنية ، وروى أبو صالح ، عن ابن عباس ، أنه قال : هي مكية . ويقال نصفها نزل بمكة ، ونصفها نزل بالمدينة» وانظر أيضا : الواحدي : أسباب النزول : 11 - 12 . وفيه : «... اختلفوا فيها ، فعند الأكثرين هي مكية من أوائل ما نزل من القرآن» . وفيه أيضا : «أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد المفسر ، قال : أخبرنا الحسن بن جعفر المفسر ، قال : أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن محمود المروزي ، قال : حدثنا عبد الله بن محمود السعدي ، قال : حدثنا أبو يحيى القصري ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن الولاء بن المسيب ، عن الفضل بن عمر ، عن علي بن أبي طالب ، قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة ، من كنز تحت العرش» وبهذا الإسناد عن السعدي ، حدثنا عمرو بن صالح ، قال : حدثنا أبي، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقال : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، فقالت قريش : رض الله فاك» . ونحو هذا قاله الحسن ، وقتادة ، وعند مجاهد إن الفاتحة مدنية . قال الحسين ابن الفضل : «لكل عالم هفوة وهذه بادرة من مجاهد ؛ لأنه تفرد بهذا القول ، والعلماء على خلافه» . ومما يقطع به على أنها مكية ، قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظيمَ﴾ [الحجر : 87] يعني الفاتحة . أخبرنا محمد بن عبد الرحمن النحوي ، قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن علي الجبري ، قال : أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن أذين ، قال : حدثنا إسماعيل ابن جعفر ، قال : أخبرني العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليه أبي بن كعب أم القرآن - فقال : «والذي نفسي بيده ، ما أنزل الله في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها ، إنها لهي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته» . وسورة الحجر مكية بلا خلاف ، ولم يكن الله ليمتن على رسوله ، بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة ، ثم ينزلها بالمدينة ، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام بمكة بضع عشرة سنة ، يصلي بلا فاتحة الكتاب ، هذا مما لا تقبله العقول . (انتهى) . كما قد أورد رواية مكذوبة قبل ذلك : (حدثنا أبو عثمان سعيد بن أحمد بن محمد الزاهد ، قال : أخبرنا جدي ، قال : أخبرنا أبو عمرو الجبري ، قال : حدثنا إبراهيم بن الحارث ، وعلي بن سهل بن المغيرة ، قال : حدثنا يحيى بن بكير ، قال : حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا برز سمع مناديا يناديه : يا محمد ، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا ، فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النداء فأثبت حتى تسمع ما يقول لك ، قال : فلما برز سمع النداء : يا محمد ، فقال : لبيك ، قال : قل : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : قل الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ما الدين حتى فرغ من فاتحة الكتاب» وهذا قول علي ابن أبي طالب» . يوم أقول : هذه الرواية مرفوضة عندنا ؛ لأنها تطعن في أساس الرسالة . فتصف الرسول بالخوف ، والجبن، وتعطي لورقة بن نوفل دورا في تعليم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو من مخترعات أعداء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ للتشكيك في دعوته . و الرواية لا تنتهي لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنما تحكي قصة عنه ، موقوفة على أبي ميسرة ، وأبو ميسرة هو عمرو بن شرحبيل ، من التابعين ، وقد روى (ابن سعد) انه من أنصار معاوية ، وقد أورد له أكاذيب في نجاة من يدعون إلى النار بصريح نص رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهم أنصار جيش معاوية في صفين . فقد نقل محمد بن سعد في الطبقات الكبرى : 3 : 263 : « قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي وائل ، قال : رأى عمرو بن شرحبيل ، أبو ميسرة ، وكان من أفاضل أصحاب عبد الله المنام ، قال : رأيت كأني أدخلت الجنة ، فإذا قباب مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ ، قالوا : لذي الكلاع ، وحوشب - وكانا ممن قتل مع معاوية - قال : قلت : فأين عمار وأصحابه ؟ ، قالوا : أمامك ، قال : قلت : وقد قتل بعضهم بعضا ، قيل : إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة ، قلت : فما فعل أهل النهر ؟ قيل : لقوا برحا . قال : أخبرنا قبيصة بن عقبة ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الأعمش، عن أبي الضحى ، قال : رأى أبو ميسرة في المنام روضة خضراء ، فيها قباب مضروبة فيها عمار ، وقباب مضروبة فيها ذو الكلاع ، قال : قلت : كيف هذا وقد اقتتلوا ؟ قال : فقيل لي : وجدوا ربا واسع المغفرة» . (انتهى) . وهذه النصوص - المكذوبة قطعا - هي دعاية واضحة من دعايات حكومة ابن أبي سفيان ، مما يدل على إن هذا الرجل له القابلية على اختراع القصص لنجاة قادة بدر وحنين من المشركين ، وتوهين رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ونسبة الخوف والجبن له ، ونسبة التعليم لورقة بن نوفل ، وهذا الحديث تفرد به أبو ميسرة بهذه الخصوصية ، فحتى الرواية الغريبة عن عائشة ، في سؤال خديجة لعمها ورقة ، لا تتضمن هذا المعنى. وإبراهيم بن الحارث - الوارد اسمه في سند رواية الواحدي فيما يخص الوحي ونزوله وتعليم ورقة بن نوفل وهو من أعيان المجسمة (وهم ممن يجيزون وضع الحديث والكذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حسبة - أي احتسابا للأجر بزعمهم -) ترجمه (ابن حجر) في تهذيب التهذيب : 1 : 98 ، فقال : « إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري . روى عن أحمد بن حنبل ، وأحمد بن عمر الوكيعي ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وغيرهم . وعنه أبو داود في كتاب المسائل ، وأبو بكر الأثرم ، وأبو حاتم الرازي ، وابن أبي داود . قال الخلال: من كبار أصحاب أحمد بن حنبل ، كان أبو عبد الله يعظمه ويرفع قدره». فائدة لفضح طريقة المجسمة : قال الأميني (رحمه الله علیه) في : كتابه : (الوضاعون وأحاديثهم) : 311 - 320 : في من يضع الحديث حسبة ، وهو ممن يوصف بالصلاح ، والتقوى ، والدين عند بني أمية ، وأشياعهم : ولعل القاريء يستكثره ، أو يستعظمه ، ذاهلا عن إن وضع الحديث ، والكذب على النبي الأعظم ، وعلى الثقات من الصحابة الأولين ، والتابعين لهم بإحسان ، لا ينافي عند كثير من القوم الزهد والورع ، واتصاف الرجل بالتقوى ، بل هو شعار الصالحين ، ويتقربون به إلى المولى سبحانه ، ومن هنا قال يحيى بن سعيد القطان : ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث . وعنه : لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث ، وعنه : ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد . وقال : الوضع حسبة . وقال القرطبي في التذكار : 155 : لا التفات لما وضعه الواضعون ، واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة ، والأخبار الباطلة ، في فضل سور القرآن ، وغير ذلك من فضائل الأعمال ، وقد ارتكبها جماعة كثيرة ، وضعوا الحديث حسبة ، كما زعموا ، يدعون الناس إلى فضائل الأعمال ، كما روي عن عصمة ، نوح ابن أبي مريم المروزي ، ومحمد بن عكاشة الكرماني ، وأحمد بن عبد الله الجويباري ، وغيرهم . قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة ، عن ابن عباس في فضل سور القرآن ، سورة سورة ؟ ، فقال : «إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة» . وقال في (ص 156) : قد ذكر الحاكم ، وغيره من شيوخ المحدثين : إن رجلا من الزهاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن ، وسوره ، فقيل له : لم فعلت هذا ؟ ، فقال : رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغبهم فيه ، فقيل : فإن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : « من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، فقال : أنا ما كذبت عليه إنما كذبت له . وقال ، في التحذير من الموضوعات : وأعظمهم ضررا قوم منسوبون إلى الزهد، وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا ، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم ، وركونا إليهم ، فضلوا وأضلوا . وسمعت في (ص 268 من الغدير) قول ميسرة بن عبد ربه ، لما قيل له : من أين جئت بهذه الأحاديث ؟ ، قال : وضعتها أرغب الناس فيها ، وقوله : إني أحتسب في ذلك . وقال الحاكم : كان الحسن - الراوي عن المسيب بن واضح - ممن يضع الحديث حسبة . لسان الميزان (5 : 288) وكان نعيم بن حماد ، يضع الحديث في تقوية السنة ، راجع (ص 69) . فكأن الكذب ، والإفك ، وقول الزور ، ليست من الفواحش، ولم تكن فيها أي منقصة ، ومغمزة ، ولا تنافي شيئا من فضائل النفس ولا تمس كرامة ذويها ، فهذا حرب بن ميمون ، مجتهد عابد ، وهو أكذب الخلق . وهذا الهيثم الطائي ، يقوم عامة الليل بالصلاة ، وإذا أصبح يجلس ويكذب . وهذا محمد بن إبراهيم الشامي ، كان من الزهاد وهو الكذاب الوضاع» . فهؤلاء عينة ممن يكذب على رسول الله حسبة ، وهم من نفس منهج صاحبنا وزميله من بعده . وعلي بن سهل بن المغيرة البزاز البغدادي النسائي المتوفى سنة 270 - الوارد في سند الرواية آنفة الذكر أيضا – يروي عن رسول الله عن طريق المنام ، وهو مجهول الحال عندنا إذا لم يكن مطعونا ، وهو من عتاة مدرسة المجسمة . ويحيى بن بكير - في السند أيضا - من أزلام السلاطين ومتمذهبة الأمويين ، وقد نصوا على انه ثبت فيما يرويه عن الليث فقط ، وهذه الرواية ليست عن الليث ، وهذا هو احد المحتملين لوضع هذه الرواية . وإسرائيل - الوارد في السند أيضا - هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني ، المولود سنة 100 ، والمتوفى سنة 162 ، موثق عند بعض الشيعة ، ومجهول عند آخرين، وموثق عند بعض السنة ، كابن حنبل . ووالده يونس كان أمويا متعصبا توفي سنة 152 ، إلا أن هناك نصوصا تشهد بأن إسرائيل على عكس سيرة أبيه ، وهو يروي عن جده أبي إسحاق ، عمر بن عبد الله السبيعي الهمداني ، وهو ممن أدرك عليا وبعض الصحابة ، وروى عنهم . فالرواية - على العموم - لا اعتبار لها من جهتي السند والمعنى ، والمعنى هو الأهم ، حتى لو تحايلوا في تصحيح السند . فإن المعنى يطعن برسالة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وقدراته النفسية ، ومعرفته بنبوته ، ونفسه . وهذا كلام لا يقول به مسلم .

ص: 49

ص: 50

ص: 51

سابعا : ينزل في ليلة القدر قدر ما يحتاج إليه في تلك السنة.

نقله الشيخ الطوسي(1) على شكل (قيل) الواضح في التضعيف . وهو مخالف للنصوص القرآنية الدالة على النزول الجملي . وعلى كل حال فهو قول لا يضر بتشكيل إشكالية ليلة القدر .

ثامنا : النزول الجملي مرة في السنة ، والنزول التفصيلي يكون على مدار السنة.

وهذا المعنى فيه روايات عن أهل البيت عليهم السلام ، وهذا المعنى يمكن ان يكون تفصيلا للمعنى السابع للنزول .

تاسعا : النزول في ليلة القدر إلى السماء أولا ، ثم إلى الأرض ، على ولي الأمر (أي : في نفس الليلة) .

وقد ورد في هذا المعنى أحاديث .

الخلاصة :

ان مقتضى الجمع ، بين أدلة النزول الجملي ، وأدلة النزول التفصيلي المنجم ، هو وجود نزولين على صدر النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، الأول : كاملاً ، والثاني : متدرجاً .

وأما تفصيلات النزول الأول ، فلا تعلم إلا بدليل شرعي ، أو علمي ثابت . ولكن الروايات التي تقبل معانيها ، كمعاني غير متناقضة ، وكروايات حسنة ، أو مقبولة ، أو حجة على كل حال، هي ما كانت في المعنى الثاني ، والثامن والتاسع ، ويمكن الجمع بينها ، وذلك بفرض ان النزول التفصيلي، يكون مرة في ليلة القدر ، ومرة بحسب الحاجة ، وهذا لا مانع منه ، وهو يتماشى مع ما يعرف عن نزول الوحي متدرجا منجما ، في أجزاء السنة ، كما لا يتعارض مع نزوله في ليلة القدر . كما أنه لا مانع ان يكون هناك نزول إجمالي ، على صدر النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، في ليلة القدر الأولى ، التي واجهت النبي ، وهو يتلقى الدعوة ، وأخذت تتكرر في كل ليلة قدر ، للاستزادة ، والشرح ، والتفصيل.

وبهذا ينسجم المعنى ، مع استمرار ليلة القدر ، وخصائصها التي ذكرها الله في كتابه الكريم .

ص: 52


1- التبيان : 9 : 224 .

ويبقى أننا نجهل ما وراء ذلك من كيفيات تفصيلية ، ولا نعلم حجم القرآن الكلي الأول ، الذي نزل على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). ولا كونه هو بنفسه نزل كما نزل منجما بتفصيله . فعلم ذلك إلى الله جل جلاله ، والرسول (صلی الله علیه و آله و سلم).

على ان مما لا شك فيه - كما اشرنا آنفاً - إن كلام الله اكبر بكثير من هذا القرآن الذي بين أيدينا : ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفَدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْله مَدَدًا﴾ [الكهف : 109] ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِنْ شَجَرَةِ أَقْلَامَ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحْرَ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ الله ان اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان : 27] .

ولهذا ، لا يمكن الجزم بالكيفية التي كان عليها القرآن الكريم ، وليس في ذلك أي إشكال ، ولا ينفي إي جهة في البحث عن خصائص ليلة القدر ، وما يتطلبه برهان استمرار النزول ، والعلاقة الدائمة بين الله وخلقه عبر أولياءه .

وقد قدمنا عدم تمام الإشكال ، الذي طرح للتشكيك في نزوله دفعة واحدة في ليلة القدر ، باعتباره يتكلم عما لم يوجد بعد . كما بينا وجوه الغرابة في التفاسير المزعومة .

ومن حق كل مسلم ان يتساءل : لمصلحة من هذه التشويشات على كتاب الله ؟

ولو اقتصر الأمر على آية واحدة لهان ، ولكنه شامل لأغلب كتاب الله تقريباً ، فهل نسي محبو السنة المحمدية كتاب الله ، وضحوا به ، في سبيل إثبات روايات ركاك ، وأفكار سقيمة ، تنسب لصحابة ، أو تابعين ، حفاظا على سنة لا يمكن ان تكون سنة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، الرسول العظيم ، الذي لا ينطق عن الهوى ، والمبيّن لكتاب الله ، لا المدمر له ، والناقض لأسسه ، كما تصوره المرسلات المكذوبات . وكل ذلك من اجل نصرة المذهب السياسي، الذي يناقض الحقيقة .

ص: 53

ملحق

لقد ذكر السيد الطباطبائي في الميزان ، تحقيقه في معنى نزول القرآن ، وهو تحقيق يستحق القراءة ، ويستحق النظر ، رغم ما أوردناه من إشكالات على بعض ما قال ، فهو تحقيق جيد ، وفيه رد على إشكالات و شبهات ذكرها ولهذا السبب سنذكر النص المفيد بدون تعليق عليه باعتبار أن ما رفضناه ناقشناه سابقا وما كان عليه ملاحظات أو انه سليم لا يحتاج إلى تعليق ، غير إن السبب لإيراد النص هو توضيح الصورة بقلم احد أعلام التفسير المتميزين في العصر الحديث حيث أورد فكرة مهمة ومناقشتها ، ومناقشة ما قيل من تخرصات ، تريد نصرة اتجاه فتقوم بنفي العلم والحقيقة الدينية ، وفي هذا النص جواب بما وعدناه من مناقشة القائلين بتقارن نزول أول القرآن الملفوظ وليلة القدر وهي دعوى بلا دليل سيبين حالها نتركها للقارئ الكريم .

قال في الميزان :(1)

«قوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَان الذي أنزلَ فيه القرآن هُدًى﴾ [البقرة : 185] ﴿شَهْرُ رَمَضَان﴾ هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية ، بين شعبان وشوال ، ولم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن إلا شهر رمضان . و (النزول) هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين (الإنزال) و (التنزيل) ان الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي ، ﴿و القرآن﴾ ، اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، باعتبار كونه مقروا ، كما قال تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 3] . ويطلق على مجموع الكتاب ، وعلى أبعاضه . والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان ، وقد قال تعالى : ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّراً

ص: 54


1- الميزان : 2 : 14.

ونذيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لَتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاس عَلَى مُكْتَ وَتَزَكَّنَاهُ تَنزيلاًنَ [الإسراء : 105 - 106] .

وهو ظاهر في نزوله تدريجا ، في مجموع مدة الدعوة ، وهي ثلاث وعشرون سنة تقريبا ، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك ، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين . وربما أجيب عنه : بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا ، في شهر رمضان ، ثم نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، نجوما ، وعلى مكث ، في مدة ثلاث وعشرين سنة – مجموع مدة الدعوة – وهذا جواب مأخوذ من الروايات ، التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات . وقد أورد عليه : بأن تعقيب قوله تعالى : ﴿انزل فيه القرآن﴾ بقوله : ﴿هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان﴾ لا يساعد على ذلك ، إذ لا معنى لبقائه - على وصف الهداية والفرقان - في السماء مدة سنين . وأجيب : بأن كونه هاديا من شأنه ان يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال ، وفارقا إذا التبس حق بباطل ، لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية ، من غير فعليه التأثير ، حتى يحل أجله ، ويحين حينه ، ولهذا نظائر ، وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة ، التي كلما حان حين مادة من موادها ، أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل .

والحق ان حكم القوانين ، والدساتير ، غير حكم الخطابات ، التي لا يستقيم ان تتقدم على مقام التخاطب ، ولو زمانا يسيرا ، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل ، كقوله تعالى : ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلى اللهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ان اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة : 1] وقوله تعالى : ﴿وَإِذَا رَأَوْا تجَارَةً أو لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائمًا قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ منْ اللَّهو وَمَنْ التِّجَارَة وَاللَّهُ خَيْرُ الرازقين﴾ [الجمعة : 11] وقوله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤمنينَ رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب : 23] على ان في القرآن ناسخا ومنسوخا ، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول .

وربما أجيب عن الإشكال : ان المراد من نزول القرآن في شهر رمضان ان أول ما نزل منه نزل فيه .

ص: 55

ويرد عليه : ان المشهور عندهم ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، إنما بعث بالقرآن ، وقد بعث يوم السابع والعشرين من شهر رجب ، وبينه وبين رمضان أكثر من ثلاثين يوما ، وكيف تخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن ؟ على ان أول سورة اقرأ باسم ربك ، يشهد على أنها أول سورة نزلت ، وأنها نزلت بمصاحبة البعثة ، وكذا سورة المدثر ، تشهد أنها نزلت في أول الدعوة ، وكيف كان ، فمن المستبعد جدا ان تكون أول آية نزلت في شهر رمضان ، على ان قوله تعالى : أنزل فيه القرآن ، غير صريح الدلالة على ان المراد بالقرآن أول نازل منه ، ولا قرينة تدل عليه في الكلام ، فحمله عليه تفسير من غير دليل ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [ الدخان : 1 - 3 ] وقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ 3 [القدر : 1] فإن ظاهر هذه الآيات ، لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله ، أو إنزال أول بعض من أبعاضه ، ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك.

والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر ، فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان ، أو في ليلة منه، إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال ، الدال على الدفعة ، دون التنزيل ، كقوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] وقوله تعالى : ﴿حم : والكتاب الْمُبين * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 1 - 3] وقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1].

واعتبار الدفعة ، أما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب ، أو البعض النازل منه ، كقوله تعالى : ﴿مَاء أَنْزَلْنَاهُ من السَّمَاء﴾ [ يونس : 24] فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر - ها هنا - معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا ، ولذلك عبر عنه بالإنزال ، دون التنزيل ، وكقوله تعالى : ﴿كتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكَ لَيَدَّبَّرُوا آيَاته﴾ [ ص: 29] .

وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى ، وراء ما نفهمه بالفهم العادي ، الذي يقضى فيه بالتفرق ، والتفصيل ، والانبساط ، والتدريج ، هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ، ونازلا بالإنزال ، دون التنزيل .

ص: 56

وهذا الاحتمال الثاني ، هو اللائح من الآيات الكريمة ، كقوله تعالى : ﴿كتَابٌ أَحْكَمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود : 1] فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل ، والتفصيل ، هو جعله فصلا فصلا ، وقطعة قطعة ، فالإحكام ، كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ، ولا يتميز بعض من بعض ؛ لرجوعه إلى معنى واحد ، لا أجزاء ، ولا فصول فيه ، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل ، المشاهد في القرآن ، إنما طرأ عليه بعد كونه محكما ، غير مفصل . وأوضح منه ، قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابِ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبَّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف : 52 - 53] وقوله تعالى : ﴿وَمَا كَان هَذَا القرآن أن يُفْتَرَى من دون الله وَلَكن تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفصيل الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلى أن قال : بَل كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحيطوا بعلمه وَلَمَّا يَأْتهم تأويله﴾ [يونس : 37 - 39] .

فإن الآيات الشريفة ، وخاصة ما في سورة يونس ، ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر طاريء على الكتاب ، فنفس الكتاب شيء ، والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر ، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب ؛ لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل ، وغافلين عنه ، وسيظهر لهم يوم القيامة ، ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ، ولات حين مناص ، وفيها إشعار بأن أصل الكتاب ، تأويل تفصيل الكتاب .

وأوضح منه قوله تعالى : ﴿حم والكتابِ الْمُبِين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكيمٌ﴾ [الزخرف : 1 - 4] . فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا ، عرض عليه ، جعله مقروا عربيا ، وإنما ألبس لباس القراءة ، والعربية ؛ ليعقله الناس ، وإلا فإنه – وهو في أم الكتاب - عند الله ، علي ، لا تصعد إليه العقول ، حكيم ، لا يوجد فيه فصل وفصل . وفي الآية تعريف للكتاب المبين ، وأنه أصل القرآن العربي المبين . وفي هذا المساق – أيضا – قوله تعالى : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ - لقُرْآن كَرِيمٌ * في كتاب مكنون » لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة :

ص: 57

75 - 80] فإنه ظاهر في إن للقرآن موقعا ، هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد ، إلا المطهرون من عباد الله ، وإن التنزيل بعده ، وأما قبل التنزيل ، فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار ، وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب وفي سورة البروج ، باللوح المحفوظ ، حيث قال تعالى : ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ﴾ [البروج : 21 - 22] وهذا اللوح إنما كان محفوظا ؛ لحفظه من ورود التغير عليه ، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا ، لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ ، وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل ، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن ، وحكمه ، الخالي عن التفصيل ، أمر وراء هذا المنزل ، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك .

ثم إن هذا المعنى ، أعني : كون القرآن في مرتبة التنزيل ، بالنسبة إلى الكتاب المبين - ونحن نسميه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبس ، وبمنزلة المثال من الحقيقة ، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام ، هو المصحح لأن يطلق القرآن - أحيانا – على أصل الكتاب ، كما في - قوله تعالى : ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ﴾ إلى غير ذلك ، وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] وقوله : ﴿إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة﴾ [الدخان : 3] وقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر : 1] . على إنزال حقيقة الكتاب ، والكتاب المبين إلى قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، دفعة ، كما أنزل القرآن المفصل على قلبه ، تدريجا في مدة الدعوة النبوية . وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى : ﴿وَلَا تَعْجَلْ بالْقُرْآن من قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه : 114] وقوله تعالى : ﴿لا تُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَكَ لَتَعْجَلَ به * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذَا قَرَأَنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة : 16 - 19] فإن الآيات ظاهرة ، في إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان له علم بما سينزل عليه ، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي ، وسيأتي(1) توضيحه في المقام اللائق به - إنشاء الله تعالى -.

ص: 58


1- هذا إشارة لتحقيقه في الميزان .

وبالجملة فإن المتدبر فى الآيات القرآنية ، لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها : على كون هذا القرآن ، المنزل على النبي تدريجا ، متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة ، أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهويات، وقذارات المادة ، وأن تلك الحقيقة ، أنزلت على النبي إنزالا ، فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه . وسيجيء(1) بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران : 7] .

فهذا ما يهدي إليه التدبر ، وتدل عليه الآيات ، نعم أرباب الحديث ، والغالب من المتكلمين ، والحسيون من باحثي هذا العصر ، لما أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة ، اضطروا إلى حمل هذه الآيات ، ونظائرها، كالدالة على كون القرآن هدى، ورحمة ، ونورا ، وروحا ، ومواقع النجوم ، وكتابا مبينا ، وفي لوح محفوظ ، ونازلا من عند الله ، وفي صحف مطهره ، إلى غير ذلك من الحقائق ، على أقسام الاستعارة ، والمجاز ؛ فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا .

ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان :

قال ما محصله : إنه لا ريب إن بعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كانت مقارنة لنزول أول ما نزل من القرآن ، وأمره (صلی الله علیه و آله و سلم) بالتبليغ والإنذار ، ولا ريب إن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل ؛ لقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] ولا ريب إن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان ؛ لقوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فيه القرآن﴾ [البقرة : 185] . وجملة القرآن ، وإن لم تنزل في تلك الليلة ، لكن لما نزلت سورة الحمد فيها ، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن ، فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا ، فصح أن يقال : أنزلناه في ليلة (على أن القرآن يطلق على البعض ، كما يطلق على الكل ، بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية - أيضا - كالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، باصطلاح القرآن).(2)

ص: 59


1- هذا إشارة لتحقيقه في الميزان.
2- هذا تنصيص مقتطع لا يعرف أصله .

قال : وذلك : إن أول ما نزل من القرآن ، قوله تعالى : اقرأ باسم ربك ... الخ ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان ، نزل والنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قاصد دار خديجة ، في وسط الوادي يشاهد جبرائيل ، فأوحى إليه : قوله تعالى : اقرأ باسم ربك الذي خلق ... الخ ، ولما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله : كيف يذكر اسم ربه ؟ فتراءى له ، وعلمه بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد ، ثم علمه كيفية الصلاة ، ثم غاب عن نظره ، فصحا النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يجد مما كان يشاهده أثرا ، إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائیل ، حين الوحي ، فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس ، مأمور بهدايتهم ، ثم لما دخل البيت ، نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي ، صبيحة تلك الليلة ، وأوحى إليه قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ...﴾ (الآيات) [المدثر : 1 - 2] .

قال : فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ، ومصادفة بعثته لليلة القدر :

وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة ، من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب ، فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة ، التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة ، مخالفة للكتاب كما عرفت .

قال : وهناك روايات أخرى ، في تأييد هذه الأخبار ، تدل على إن معنى نزول القرآن في شهر رمضان :

أنه نزل فيه قبل بعثة النبي ، من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور ، وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة ، حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله ، وهذه أوهام خرافية ، دست في الأخبار ، مردودة أولا بمخالفة الكتاب ، وثانيا إن مراد القرآن باللوح المحفوظ ، هو عالم الطبيعة ، وبالبيت المعمور ، هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه) . (انتهى) ملخصا .

ولست أدري ، أي جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام أجزائه - تقبل الإصلاح ، حتى تنطبق على الحق والحقيقة بوجه ؟ فقد اتسع الخرق على الراتق . ففيه :

أولا : إن هذا التقول العجيب ، الذي تقوله في البعثة ، ونزول القرآن أول ما نزل ، وأنه صلى

ص: 60

عليه وآله وسلم ، نزل عليه : اقرأ باسم ربك ، وهو في الطريق ، ثم نزلت عليه سورة الحمد ، ثم علم الصلاة ، ثم دخل البيت، ونام تعبانا ، ثم نزلت عليه سورة المدثر ، صبيحة الليلة ، فأمر بالتبليغ ، كل ذلك تقول لا دليل عليه ، لا آية محكمة ، ولا سنة قائمة ، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجيء .

وثانيا : إنه ذكر إن من المسلم إن البعثة ، ونزول القرآن ، والأمر بالتبليغ ، مقارنة زمانا ، ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن ، وكان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ، ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر ، ولا يسعه ، أن يستند في ذلك.إلى كتاب ، ولا سنة ، وليس من المسلم ذلك.

أما السنة ؛ فلأن لازم ما طعن به في جوامع الشيعة ، بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة ، عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا ، إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة ، أو الخاصة ، إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قرنين فصاعدا فهذا في السنة ، والتاريخ - على خلوه من هذه التفاصيل – حاله أسوأ ، والدس الذي رمي به الحديث ، متطرق إليه أيضا .

وأما الكتاب ، فقصور دلالته على ما ذكره ، أوضح ، وأجلى ، بل دلالته على خلاف ما ذكره ، و تكذيب ما تقوله ظاهرة ، فإن سورة (اقرأ باسم ربك) – وهي أول سورة نزلت على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على ما ذكره أهل النقل ، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ، ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ، ولا أقل من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يصلي بمرأى من القوم، وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة ، ويذكر أمره في نادي القوم (ولا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يتقرب بها إلى ربه في باديء أمره ، إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها : ﴿أرَأَيْتَ الَّذي يَنْهَى عَبْداً إِذا صَلَّى : أَرَأَيْتَ إِن كَان عَلَى الْهُدَى * أو أمر بالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمُ بأنَّ اللهَ يَرَى * كَلا لئن لَّمْ يَنتَه لَنَسْفَعاً بالنَّاصِيَة * نَاصِيَة كَاذِبَة خَاطَئَةِ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهِ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق : 9 - 18] فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهى مصليا عن الصلاة ، ويذكر أمره في النادي ،

ص: 61

ولا ينتهي عن فعاله ، وقد كان هذا المصلي هو النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، بدليل ، قوله تعالى بعد ذلك : ﴿كَلاً لا تطعه﴾ [ العلق : 19] . فقد دلت السورة على إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن ، وقد كان على الهدى، وربما أمر بالتقوى ، وهذا هو النبوة ، ولم يسم أمره ذلك إنذارا ، فكان (صلی الله علیه و آله و سلم) نبيا ، وكان يصلي ، ولما ينزل عليه ،قرآن ، ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ، ولما يؤمر بالتبليغ . وأما سورة الحمد ، فإنها نزلت بعد ذلك بزمان ، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق ، بلا فصل ، عن خطور في قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كما ذكره هذا الباحث ، لكان حق الكلام أن يقال : «قل بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ... الخ» أو يقال : «بسم الله الرحمن الرحيم ، قل : الحمد لله رب العالمين ... الخ» ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى : ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة : 4] الخروج بقية الآيات عن الغرض ، كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف . نعم ، وقع في سورة الحجر - وهي من السور المكية ، كما تدل عليه مضامین آیاتها ، وسيجيء بيانه - قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالْقُرْآن العظيم﴾ [الحجر : 87] . والمراد بالسبع المثاني ، سورة الحمد ، وقد قوبل بها القرآن العظيم ، وفيه تمام التجليل لشأنها ، والتعظيم لخطرها ، لكنها لم تعد قرآنا ، بل سبعا من آيات القرآن ، وجزءا منه ، بدليل قوله تعالى : كتاباً متشابهاً مثاني ... الآية . [الزمر : 23] .

ومع ذلك ، فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد ، يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى : ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئين ... الآيات [الحجر : 94 - 95] ويدل ذلك ، على إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان قد كف عن الإنذار مدة ، ثم أمر به ثانيا ، بقوله تعالى : ﴿فَاصْدَع﴾.

وأما سورة المدثر ، وما تشتمل عليه ، من قوله : ﴿قُمْ فَأنذر﴾ [المدثر : 2] فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة ، كان حال هذه الآية : ﴿قُمْ فَأنذر﴾ ، حال قوله تعالى : ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ... الآية ؛ لاشتمال هذه السورة – أيضا – على قوله تعالى : ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وحيداً ... إلى آخر الآيات [المدثر : 11] وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر :

ص: 62

﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ... الخ ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق إن صدرها قد نزل في بدء الرسالة .

وثالثا : إن قوله : إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر ، من اللوح المحفوظ ، إلى البيت المعمور ، جملة واحدة ، قبل البعثة ، ثم نزول الآيات نجوما ، على رسول الله ، أخبار مجعولة خرافية ، لمخالفتها الكتاب ، وعدم استقامة مضمونها ، وان المراد باللوح المحفوظ ، هو عالم الطبيعة ، وبالبيت المعمور ، كرة الأرض ، خطأ وفرية .

أما أولا : فلأنه لا شيء - من ظاهر الكتاب - يخالف هذه الأخبار ، على ما عرفت(1).

وأما ثانيا : فلان الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة ، بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت .

وأما ثالثا : فلأن قوله : «إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة» تفسير شنيع - وإنه أضحوكة وليت شعري ، ما هو الوجه المصحح - على قوله – لتسمية عالم الطبيعة – في كلامه تعالى – لوحا محفوظا ؟ ذلك ؛ لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول ! فهو عالم الحركات ، سيال الذات ، متغير الصفات ! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا ! فالواقع خلافه ! أو لكونه محفوظا عن إطلاع غير أهله عليه ! كما يدل عليه : قوله تعالى : ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُون : لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة : 77 - 79] فإدراك المدركين فيه على السواء ! .

وبعد اللتيا والتي لم يأت هذا الباحث - في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان – بوجه محصل ، يقبله لفظ الآية ، فإن حاصل توجيهه :

إن معنى ﴿أنزل فيه القرآن﴾ : كأنما أنزل فيه القرآن ، ومعنى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة ...﴾: كأنا أنزلناه في ليلة ، وهذا شيء لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق ! .

ص: 63


1- أقول : ظاهر القرآن أن النزولين على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ولا يوجد ما يدل على النزول إلى غيره ، في موضوع نزول القرآن ، وأما بقية كلام المعترض بتفسير اللوح بالطبيعة والبيت المعمور بالكرة الأرضية ، فهو من الخرافات والكلام المفتقر الى الدليل .

ولو جاز لقائل أن يقول : نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن(1) جاز أن يقال : إن معنى نزول القرآن ، نزوله جملة واحدة . أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع – كما مر بيانه سابقا - وفي كلامه جهات أخرى من الفساد، تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام» .

انتهى كلام السيد الطباطبائي (رحمه الله علیه).

ص: 64


1- ولكن سورة الفاتحة لم تنزل ليلة القدر ، ولا في شهر رمضان !!!

الفقرة الثالثة :

معنى ليلة القدر

ص: 65

ص: 66

الفقرة الثالثة

في معنى ليلة القدر

الأقوال في معنى ليلة القدر متعددة ، نذكر منها ما وقع بأيدينا :

1 - ليلة تقدير الأمور وقضائها: أوضحه السيد الطباطبائي في الميزان : «إن المراد بالقدر التقدير ، فهي ليلة التقدير ، يقدر الله فيها حوادث السنة ، من الليلة إلى مثلها من قابل ، من حياة ، وموت ، ورزق ، وسعادة ، وشقاء ، وغير ذلك ، كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبَّكَ﴾ [الدخان : 4 - 6] فليس فرق الأمر الحكيم ، إلا إحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها للتقدير».(1)

أقول : إن تخصيص التقدير بالأمور المذكورة خلاف النصوص القرآنية كقوله : ﴿كُلُّ أمر حكيم﴾ أو قوله : ﴿مِنْ كُلِّ أمر﴾ الدال على العموم من غير تخصيص ، وسيأتي الحديث حول هذا الموضوع في محله .

وقد استفاد الطباطبائي من معنى تقدير الأمور في كل سنة ، من الليلة إلى مثلها من قابل ، بأن الليلة متكررة بتكرر السنين ، إذ لا معنى لوجود ليلة ، تقدر ما قبلها - كما هو الحال - لما بعدها ، إذا افترضناها ليلة واحدة في الكون ، بالإضافة إلى مقابلة إنزال القرآن في ليلة القدر ، مع البركات الأخرى ، يشير إلى تعددها للمقابلة ، وهذا استنتاج جيد ، يفيد في تحقيق استمرار ليلة القدر لكل سنة .

و قال إمام الجامع الأزهر محمد عبده في تفسيره :

ص: 67


1- الميزان : 20 : 378 .

سميت ليلة القدر ، إما بمعنى التقدير ؛ لأن الله ابتدأ فيها تقدير دينه ، وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه ، أو بمعنى العظمة ، والشرف من قولهم فلان له قدر ، أي له شرف ، و عظمة»(1).

أقول : هنا خصوصية في قوله : «لأن الله ابتدأ فيها تقدير دينه» وهذا كلام ذوقي ، لا دليل عليه ، وهو من أنواع تشكيل المعاني ذوقيا . ولعل السبب هو ذهاب الشيخ محمد عبدة إلى أن النزول ، إنما هو بأوامر الله ونواهيه ، أي الأمر التشريعي فقط ، وليس التكويني – وسيأتي كلامه – ولهذا يصعب عليه تصوّر ذلك ، إذا لم يقل بأن المقصود هو الابتداء فقط ، وقد أضاف دعواه بأن ليلة القدر توقفت في أول نزول ، من أجل أن يتخلّص من مشكل كبير ، وهو اعتبار النزول نبوة ثانية ، ولا تصح بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نبوة . ولكن - للأسف - فهذا المسلك لا دليل عليه ، ولا يساعده الظهور ، ولا الأحاديث ، ولا فهم المسلمين ، ولا معنى النبوة ، ولا معنى الوحي ، ولا ثبوت الوحي لغير الأنبياء ، وسيأتي مناقشة قوله ، حين نبحث استمرار ليلة القدر .

2 - (ليلة الشرف العظيم»(2): «وسميت بذلك ؛ لخطرها ، وشرفها على سائر الليالي».(3)

أقول : لعل هذا القول يعود إلى القول الثالث ، من حيث أصل اللفظة لغة .

3 - «القدر بمعنى المنزلة ، وإنما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها».(4)

4 - «القدر بمعنى الضيق» : «وسميت ليلة القدر لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة».(5)

ص: 68


1- تفسير جزء عم : 132 .
2- الجلالين : 815 .
3- الكشاف : 4 : 273 .
4- الميزان : 20 : 380 .
5- الميزان : 20 : 380 .

أقول : قد علق العلامة الطباطبائي في الميزان على القولين الأخيرين ، بقوله : «والوجهان كما ترى» . وهو تعبير عن غرابتهما .

ولعل وجه الخلل في هذه الأقوال - بما فيها القول الثاني - إن اللفظ إذا كان مشتركا بين عدة معاني ، فلا يصح منه إلا ما تدل عليه القرائن ، وما يحدده الموقع ، والأسلوب ، والفكرة المطروحة .

وكلمة القدر - هنا - واضحة تماما ، إنها بمعنى التقدير، أو الإمضاء للمقدرات بشكل عام ، أمّا المعاني الأخرى ، كالمنزلة ، والشرف ، والضيق ، فلا دليل على إرادتها مطلقا ، بل أدلة تحديد اللفظ ، كالقرائن المصاحبة ، صارفة للفظ عن معناه المغاير ، ثم إننا إذا قبلنا الأقوال الثلاثة ، أو أحدها - جدلا - فقد أوقعنا خللا في مراد السورة بالكامل ، فلا يكون مثلا معنى : ﴿منْ كُلِّ أمر﴾ من كل أمر قدره الله . بل يكون من كل أمر شرفه الله ، أو من كل أمر ضيقه الله ؛ لترابط الآيات فيما بينها . وهذا لم يقل به احد مطلقا ، فضلا عن كونه بلا معنى أصلا، كما لا يخفى على المتأمل في سياق السورة .

5 - «يقدر الله كل أمر من الحق ، والباطل ، وما يكون في تلك السنة» قاله القمي في تفسيره(1) وهذا لا يختلف عن معنى تقدير الأمور إلا في التفصيل والجمع بين تقدير التكوين وتقدير التشريع في تلك السنة .

6 - «فسر الله ليلة القدر بقوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4]» نقله الطوسي في التبيان(2) وهذا المعنى هو الأنسب من ناحية معنوية ؛ لأن تفريق كل أمر حكيم ، هو التقدير الحتمي ، أو القضاء المحتم - وسيأتي معنى المقطع من الآية حين تحقيقه بفقرات لاحقة - والمعنى يناسب كون التقدير هو فرق الأمر الحكيم ، وليس التقدير بمعنى العلم بالحوادث ، والأحكام ، أو كتابة المقادير ، من دون إمضائها ، وحتمها .

ص: 69


1- تفسير القمي : 2 : 290 .
2- التبيان : 10 : 384 .

متى هي ليلة القدر :

ولاستكمال الفائدة - ولكي لا نبقي على ما هو معلق غير مفهوم - أضفنا الآتي في موضوعة تحدید زمان هذه الليلة المباركة، إذ ليس في القرآن ما يشير إلى أكثر من أنها في شهر رمضان.

وكل ما ورد من روايات في تعيينها ، يخضع للفحص، والدراسة النشيطة ، حيث إن أغلب تلك الروايات ، لا تخلو من الحاجة إلى المناقشة ، خصوصا الاختلاف العجيب - الذي ذكره (ابن كثير) - بين الصحابة في تعيينها ، حيث ذكر جملة من التأويلات ، والاستنتاجات الغريبة ، منها : استخراج بعضهم كونها في السابع والعشرين من قوله : ﴿هي﴾ لأنها الكلمة السابعة والعشرون في السورة ، أو استدلال ابن عباس على إنها في ليلة السابع والعشرين ؛ لأن السماوات سبع ، ، والأرضين سبع ، والأسبوع سبعة أيام ، إلى آخر تلك الاستدلالات العجيبة . وقد وافقه الخليفة متعجبا من نباهته ، وحسن استنتاجه ! وجدير بالذكر، أنه ما من ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان ، إلا وقد أورد فيها رواية ، وصفها بأنها صحيحة ، أو حسنة ، أو بإسناد جيد ، وهذا من دواعي التساقط ، والتهافت ، أو الجمع ، أو التسليم بالتمويه لهذه الليلة.(1)

وقد برر المفسرون ذلك الخلاف في تعيينها ، وإخفاء وقتها ، بتشويق العباد إليها ، وزيادة ثوابهم ، بتعدد مرات تعبدهم في ليال متعددة .

وهذا الأمر لا يعنينا في هذه الإشكالية ، وان كان له أهمية عند من يطلب ثواب هذه الليلة العظيمة .

ص: 70


1- راجع تفسير ابن كثير : 4 : 534 . وما بعدها ، وستأتي بعض النصوص في تعيين ليلة القدر ، وفي علاماتها ، ومدى الإشكال في ذلك .

الفقرة الرابعة

في معنى ﴿يُفْرَقُ﴾

ص: 71

ص: 72

الفقرة الرابعة

في معنى ﴿يُفْرَقُ﴾

في قوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ .

معنى يفرق :

أولا : قال ابن كثير ، في معنى قوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ : «أي في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة ، وما يكون فيها من الآجال ، والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها»(1).

وقال الزمخشري : «ومعنى ﴿يُفْرَق﴾ : يفصل ، ويكتب . كُل أمر حكيم﴾ من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وجميع أمورهم منها ، إلى الأخرى القابلة»(2).

وقال الطباطبائي : «والفرق فصل الشيء عن الشيء ، بحيث يتمايزان ، ويقابله الأحكام ، فالأمر الحكيم : ما لا يتميز بعض أجزاءه عن بعض ، ولا تتعين خصوصياته ، وأحواله ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : ﴿وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا تُنزِّلَهُ إلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر : 21].(3)

أقول :

أ - لقد فرّق الرازي في (مختار الصحاح) بين (فرق) المخففة ، وبين المشددة ، وقال : بأن المخففة معناها البيان والتوضيح ، والمشددة معناها الفصل ، والكلمة هنا مخففة كما هو معلوم ، إلا على قراءة رواها الزمخشري ، من دون نسبة . قال : «وقريء يفرق بالتشديد(4)» وهذه صياغة توهین كما هو معلوم ، وبحسب ما هو مركوز في ذهني ، وبحسب تتبعي فإن (فَرَقَ) المخففة،

ص: 73


1- ابن كثير : 4 : 140 .
2- الكشاف : 3 : 500 .
3- الميزان : 18 : 380.
4- الكشاف : 3 : 500 .

تستخدم للمعنيين أي معنى الفصل ، ومعنى البيان ، بل لعل البيان ملازم للفصل ، والتفصيل المتكرر ، وأما (فرّق) المشددة ، فلا تستعمل إلا في التبديد ، والتشتيت ، فرق الشيء : وزعه وبدده ، وفرق الشعر بالمشط : سرحه . ومعنى ذلك أنها أخذت منحى خاصا من الفصل ، وهو المنافرة - وهذا جزء من معاناتنا مع اللغويين في تحديد الدليل ، وذلك بحث طويل لا مجال لذكره هنا .

ب - إن اختيار معنى الفصل بوصفه العام - ليشمل (التمييز والأمر) - أولى من حصره بمعنى الفصل الخاص ، والتفريق بين شيئين ، إذ أن الأوامر الإلهية قد لا تكون متعددة ، ولا نعلم مدى الخيارات في عالم الحق نفسه - رغم انه مختار في نفسه قطعا - بل إننا نعلم – وجدانا – إننا إذا كنا متأكدين من معلوم ، لا نجد لأنفسنا خيارا ، أو حتى تفكيرا في أمور متعددة ، حيث إن المعرفة حاكمة بدوية ، إذا كانت يقينية ، هذا بالنسبة للمخلوق ، أما الخالق فلا يعلم كيف علمه ، ولا يقاس ؛ لأنه خالق للمعرفة والمعرف ، ولكن بما إن اللغة هي لنا ، نحن المخلوقون ، فيمكن أن نفهم إن العالم لا ترديد عنده ، بل هو أمر واحد لا يختلف ، والفرق عنده الفصل بالمعنى العام ، من دون خصوصيات، فقد يكون بيان الأمر ، وقد يكون تحديد الأمر ، وكلها أمور محتملة بنفسها ، ولا دليل على التخصيص .

هذا ومن ، يتبين مدى ما وقع فيه العلامة الطباطبائي قدس سره ، حين قابل بين الفرق ، والإحكام ، وأن الإحكام هو الإبهام ، بينما الفصل هو التمايز . والنقاش معه طويل هنا لا يمكن الخوض فيه في مبحث غير مخصص لهذه القضية .

ج - إن البحث في ليلة القدر ، مستقل عن بحث تنزيل القرآن الذي قدمناه ، ولهذا فإننا سنعالج - هنا - مسألة نزول الملائكة ، وفرق الأمر ، وما شابه ذلك من زاوية ثانية تماما ، إلا أن بعض المفسرين يريدون الربط بينهما ، باعتبار كون ليلة القدر ، هي الظرف المناسب لنزول القرآن ، وهذا المعنى بحد ذاته لا بأس به ، ولكن مسألة القرآن إذا عولجت – هنا – فينبغي أن تعالج من زاوية كونه نازلا من الله على رسوله في ليلة القدر جملة واحدة - كما تقدم - لا بتلك

ص: 74

التشويهات والتشبيهات ، وأما المعالجة فتكون لما هو أشمل من واقعة نزول القرآن ، فإننا نبحث خصائص ليلة القدر ، من نزول ، وتقدير ، وفرق ، وأوامر ، وما شابه ذلك .

وقد بدا واضحا ، إن ابن كثير ، والزمخشري ، قد التبس عليهم الأمر ، فوصفوا النزول ، كما وصفوا به نزول القرآن ، من النزول من اللوح المحفوظ إلى السفرة في السماء الدنيا ، وزادوا الأمر إبهاما ، فخصصوا ، أو - بعبارة أدق - رووا التخصيص، فيما فرق الله من الأمر ، ولكن بشكل فيه نوع غرابة ، حيث إنهم بعد ذكر الآجال ، والأرزاق ، قالوا أمورا مبهمة ، مثل : (وما يكون فيها إلى آخرها) أو (وجميع أمورهم منها إلى الأخرى القابلة) .

وهذا نسف للتخصيص المذكور ، وإبهام من جهة ثانية، من دون تحديد . ولعل منشأ ذلك الأمر ، يعود إلى الإشكالية التي تترتب على نوع القول - هنا ، كما سنذكر لاحقا - ولذلك عمدوا إلى تعويم الألفاظ ، لئلا يضبطوا ، أو تدور عليهم دوائر الفكر ، وأما ما ذكره السيد الطباطبائي ، فإنه حاول التحديد ولنا في محاولته تلك رأي .

ولهذا ، فإن كل الإضافات التي أضافوها ، لكيفية الفصل ، والتفريق ، لاغية . وسنبين – في مبحث معنى (الأمر) ومعنى (الحكيم) - إنهم يلغون هذه التحديدات ، ويشيرون إلى أمور خطيرة جدا .

ثانيا : قال الزمخشري : «وقيل : - (أي في معنى يفرق) - يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ ، في ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبرئيل ، وكذلك الزلزال ، والصواعق ، والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب السماء الدنيا ، وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت(1)».

ومعنى ذلك توزيع المهام والأدوار على كبار الملائكة.

أقول : بالإضافة إلى ما تقدم في المناقشة ، فإن هذا القول لم يضف شيئا ؛ لأنه عبارة عن بيان كيفية الفصل ، لا أنه تقسيم له.

ص: 75


1- الكشاف : 3 : 500 .

مع إن هذه الكيفية ، وبهذا الشكل الخطير ، لابد أن تكون موثقة توثيقا تاما ، وإلا فإنه تصوير لمشاهد لم تشاهد ، ولكيفيات لا تعلم حقيقتها ، وهذا أمر خطير ، فكيف يكتفي في توثيق ذلك ب_(قيل) وان كنا لا نقول باستحالة أن تكون كذلك ، ولكن ألا ترى إنها تبسيط لأعقد المعقدات لهذا الكون العظيم ، ولفعل الله العجيب ، وتحديد لأنواع العمل بدون دليل.(1)

ثالثا : قال الزمخشري : «وعن بعضهم : يعطى كل عامل بركات أعماله ، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه ، وعلى قلوبهم هيبته(2)».

أقول : وهذا من أبعد الأقوال فهو - أولا - أجنبي تماما عن سياق الآيات ، ومفادها ، وثانيا ، فيه تخصيص شديد إلى درجة لا تبدو معها ليلة القدر شريفة ، فضلا عن كونها خير من ألف شهر ، بل الشرف للوجهاء ، وذوي البركات ، الذين استحقوا الهيبة في قلوب الناس ، وهذا نوع من أنواع التضييع لمقاصد الكتاب العزيز ، لا نطيل الكلام فيه .

الخلاصة :

إن مراجعة دقيقة لمادة (فرق) في اللغة ، تحدد معنيين ، يمكن استعمالهما - هنا - وهما : الفصل ، والبيان ، وقد بينا أن لا دليل على تخصيص معنى (الفرق) بالفصل بمعناه الخاص - كما قدمنا سابقا - وبما إن البيان يشمل الفصل والتوضيح ، وكلاهما باتجاه واحد في المعنى ، فلا نجد مندوحة من اختيار البيان للفرق هنا ، وهو ما لم يقله المفسرون ، والمسألة تتعلق بالظهور اللغوي ، لا بآراء المفسرين .

ص: 76


1- فكرة توزيع المهام على الملائكة واضحة المصدر ، فهي إما من الإسرائيليات التي تنسب إلى جبريل (علیه السّلام) كل الأذى الذي يلحق ببني الإنسان ، وهو واضح في ما نقل عن الزمخشري ، أو هي يونانية المصدر ، وثنية ، حيث تعدد المهام ونسبتها إلى الملائكة أصل في نشأة تعدد الأرباب . فإذا لم يصح دليل موثوق ينقل عن السماء فكل هذا يعتبر نوع من الخيال البشري .
2- الكشاف : 3 : 500 .

الفقرة الخامسة

معنى الأمر

ص: 77

ص: 78

الفقرة الخامسة

في معنى الأمر

الأول : الشأن .

قال الزمخشري : «كل شأن ذي حكمة ، أي : مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الحكيم صفة صاحب الأمر ، على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجازا».(1)

وهذا ما جزم به الطباطبائي ، فقال : «المراد بالأمر الشأن».(2)

أقول : يأتي الأمر بمعنى الشأن في لغة العرب - غالبا - بعد السؤال ، مثل ما أمرك ؟ أو ما أمر فلان ؟ . أما في مثل قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيم﴾ فلا معنى فيه للشأن – إطلاقا – وذلك من خلال الأسلوب أولا ، و من دخول (كل) عليها ، الصارفة عن كونه شأنا ، بل هو أمر أما بمعنى الشيء ، أو بمعنى الطلب . وبما أن معنى الشيء لم يرد ذكره عند المفسرين ، فيبدو للمبتدأ احتمالا ساقطا ، ولكنه - في الحق - احتمال وجيه ، حيث إنهم أشاروا إلى أن متعلقه كل من الأمور التكوينية والتشريعية ، وهذا أعم من الأمر بمعنى الطلب ، ولا علاقة له بمعنى الشأن . فقد قالوا : إن الأمر الصادر إنما هو تحديد الآجال ، والأرزاق ، وجميع أمور الناس – كما بينا سابقا – وهذا يناسب أن يكون الأمر بمعنى الشيء نحو قولك : (لأمر ما كان هذا) أو قولك : (إنه لأمر عجيب) وما شابه ذلك ، وقد ورد في كتاب الكافي ، عن الباقر (علیه السّلام) في قوله تعالى : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] قال : «يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى قابل».(3)

ص: 79


1- الكشاف : 3 : 500 .
2- الميزان : 18 : 135.
3- الكافي : 4 : 156 ، الميزان : 18 : 136 .

ولعل معنى الشيء أشمل ، فيوافق ما صرح به المفسرون ، من اشتمال النازل في ليلة القدر على كل أمر قدره الله فيها . ويساعده الأصل، حين الشك في التخصيص .

على أن موضوع الأصل - هنا - فيه نظر ؛ لأن ما قدمناه من قرائن تورث العلم ، والأصل العملي إنما يعمل حين لا علم .

ثانيا : الأمر بمعنى الطلب ، قال الزمخشري : «ويجوز أن يراد به الأمر ، الذي هو ضد النهي ، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا ، الذي هو مصدر يفرق ؛ لأن معنى الأمر والفرقان واحد ، من حيث انه إذا حكم بالشيء ، وكتبه ، فقد أمر به ، وأوجبه . أو حال ، من أحد الضميرين في أنزلناه ، إما من ضمير الفاعل : أي أنزلناه آمرين أمرا ، أو من ضمير المفعول : أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا إلى لما يجب أن يفعل»(1).

أقول : ظاهر هذا القول ، إن المقصود بالأمر - هنا - هو العلم بالتشريع ، وواقع الآيات لا يأباه بل يشمله ، وهو الأنسب مع قوله تعالى : ﴿أَمْرًا من عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ [الدخان : 5] .

وإنني : أحمد للزمخشري صنيعه بكلمة : «يجوز أن يراد به الأمر ، الذي هو ضد النهي» فجعله على نحو المصداق ، لا التطابق ، وهو الأولى في الاعتبار ، خصوصا وأنهم لا حظوا أن ما تنزل به الملائكة عام شامل ، لا تخصيص فيه ، بل نظر إلى البركة الدينية في ليلة القدر ، قبل البركة الدنيوية ، والمتمثلة بالأوامر التكوينية ، فقد قال الزمخشري : «والمباركة الكثيرة الخير ؛ لما يتيح الله فيها من الأمور ، التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم».(2) وقال كذلك : «وسبب ارتقاء فضلها - أي ليلة القدر - إلى هذه الغاية ، ما يوجد فيها من المصالح الدينية ، التي ذكرها ، من تنزل الملائكة ، والروح ، وفصل كل أمر حكيم»(3).

ص: 80


1- الكشاف : 3 : 500 .
2- الكشاف : 3 : 500 .
3- الكشاف : 4 : 273 .

وقد نص على عموم الإرادة التشريعية ، والتكوينية ، بقوله : ﴿من كُلِّ أمر﴾ تنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل»(1). وقال أيضا : «يفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا . وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق ، وغيرها ، من باب الرحمة ، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عزّ وعلا ؛ لأن الغرض من تكليف العباد تعريضهم للمنافع»(2). ثم استفاد من قوله تعالى : ﴿رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الدخان : 6] بأن : الربوبية تقضي الرحمة على المربوبين».(3) وهو ظاهر باستمرار الأوامر الإلهية ؛ لاستمرار السبب ، وهو الرحمة الدائمة ، وقد عبر الزمخشري عن ذلك الدوام بقوله : «لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا» .(4) وقال ابن كثير : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةِ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان : 3] «أي : معلمين الناس ما ينفعهم ، ويضرهم شرعا ؛ لتقوم حجة الله على عباده»(5) وهي التفاتة جيدة إلى ارتباط الإنذار ، والإرسال ، في قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ بليلة القدر لاحتوائها على الأوامر الدينية والإلهية».(6)

ولعل مقتضى فهم الآيات مترابطة ، أن يفهم دخول الأمور التشريعية ، بما لا لبس فيه .

وقد توقف العلامة الطباطبائي في هذا الفهم ، بقوله : «وظاهر كلام بعضهم ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ تفصيل الأمور المبينة في القرآن من معارف ، وأحكام ، وغير ذلك ، ويدفعه إن ظاهر قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ﴾ الاستمرار ، والذي يستمر في هذه الليلة – بتكررها – تفصيل الأمور

ص: 81


1- الكشاف : 4 : 273 .
2- الكشاف : 3 : 501 .
3- الكشاف : 501:3 .
4- الكشاف : 3 : 500 .
5- تفسير ابن كثير : 4 : 140.
6- لعل قوله : ﴿ِإنَّا كُنَّا مُنذرين﴾، متعلق ب_﴿أنزَلْنَاهُ﴾ ، وليس ب_﴿لَيْلَة مُبَارَكَة﴾، ولكن وروده مورد التعليل يجعله عاما ، فيصح ؛ لأن معناه : إن واجبنا أن ننذر الأقوام ، ولهذا أرسلنا القرآن في ليلة القدر ، فهي وعاء للأوامر الإلهية .

الدنيوية بعد إحكامها ، وأما المعارف ، والأحكام الإلهية ، فلا استمرار في تفصيلها ، فلو كان المراد فرقها كان الأنسب أن يقال : (فيها فرق)».(1)

وهذه بعض الملاحظات على مقولة سيدنا الطباطبائي (قدس سره):

1 - ينبغي أن لا يشك أحد ، بأن رسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) خاتمة الرسالات ، وإنها بجوهرها محفوظة إلى يوم القيامة ، ولكن الكلام في امتداد الرسالة المحمدية ، فإن إشكال سيدنا الطباطبائي مبني - على الأظهر - على توهم أن منحى ابن كثير ، والزمخشري ، إنما هو نسخ الشريعة المحمدية ، واستبدالها ، وهذا إن كان موجودا ، فهو وهم لا أصل له إطلاقا . ولو كان هذا مرادهما لما ترددنا في رفضه ، ولكن كلامهما ليس فيه هذا اللازم ؛ لأن الاستمرار لا يقتضي النسخ بالضرورة ، وهو موافق لعموم النص القرآني ، وهذا العموم ليس فيه هذا اللازم ، وسيتبين ذلك .

2 - إن غاية ما يثبت في المقام ، إن الله تعالى حكما واقعيا ، يصدره في كل واقعة ، ولا يمكن أن تخلو واقعة من حكم إلهي واقعي ، لاستحالة ابتعاد الله عن خلقه ، واستحالة تعطيل علمه وعمله ، واستحالة إيقاف إرادته سبحانه عند حد محدود ، فهل إذا توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) توقفت إرادة الله في خلقه ؟

إن دعوى إيجاد القواعد ، والأصول البديلة في مقام التكليف لهي أوهى من بيت العنكبوت ، حيث لا يجهل فقيه إن هذه القواعد والأصول بأشكالها المختلفة إنما هي سبل للعذر ويقال لها فقهياً المعذرية ، بالنسبة للمكلف الجاهل بالحكم الواقعي . وإلا فهي قد تؤدي إلى المخالفة الواقعية للأمر المولوي .

وأما ظهور الحكم الواقعي الإلهي في الواقعة ، بأي مظهر كان ، لا يعد نسخا لرسالة الإسلام ، بل هو تفصيل لكلام الله ، واستمرار في حيوية الرسالة المحمدية . وقد تكون من باب التفصيل بعد الإجمال ، أو التقييد بعد الإطلاق القابل للقيد ، أو المقيد سابقا ، وهذا لا يختلف فيه العلامة الطباطبائي مع غيره من علماء الإسلام المحققين ، وإن كانت ملاحظته - هنا - فيها ما يشعر

ص: 82


1- الميزان : 18 : 132 .

باختلافه في وجهة النظر ، وكأنه يريد القول : إن الحكم الواقعي غير مطلوب إصابته ، إذا توفر الحكم الظاهري ، وهذا لازم كلامه ، وإلا فإنه لا يقول بذلك قطعا ، ولو كان كلام العلامة الطباطبائي يؤدي إلى وجوب تعطيل الأحكام الواقعية ، والإرادة الإلهية في الوقائع المتجددة ، لنسف كل قيم العدل ، ومباني العقل ، والكتاب الكريم ، من وجوب اللطف ، ووجوب العلم ، ووجوب إثبات الإرادة له سبحانه وتعالى ، وما شابه ذلك . ولكننا لا نظن فيه ذلك بل هو من المستحيلات أن يذهب إليه العلامة (رحمه الله علیه).

وإذا كان توقفه لهذه الجهة ، التي نعلم انه لا يرتضيها ، لبطل الاستدلال برسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أساسا ، إذ لو كانت الأحكام الإلهية تصدر مرة واحدة ، ولا يجوز استمرارها لوجب الاكتفاء بالأنبياء السابقين ، ولما جاز إرسال الرسل بعد ذلك ، حتى لو ضل الناس جميعا ، فإن الأمر قد نزل ، وكفى به أمرا مفروغا ، ولما كان على الله أن يبعث في كل أمة نذيرا .

3 - إن قوله : «ظاهر كلام بعضهم» یدل على انه قول منسوب إلى البعض ، ولكن الحقيقة أنه ظاهر نصوص القرآن المجيد ، وان رده مستند إلى شبهة قوية ، فيما لو كان مقصودهم النسخ للشريعة ، ومثل هذه الشبهة لا تكون مخصصة لكلام الله ، وصارفة لظاهر النصوص . ويمكن معالجتها بانفراد ، بعد الاستفادة من ظاهر النص.

إن القول بعدم طلب الحكم الواقعي يؤدي إلى تعطيل شريعة سيد المرسلين ، وإلغائها كلية ، وذلك لبيان التالي:

في سبيل إبقاء الرسالة المحمدية ، لا بد لها من استمرار في تحديد الوقائع وأحكامها ، وتشخيص الموضوعات ، وبيان موقعها في الشريعة ، وإلا فإن القرآن قد نزل لقوم لهم ظروفهم ، وأفكارهم ، وموضوعاتهم ، وهناك إجمال ، وإطلاق ، وعمومات تحتاج إلى بيان ، وتخصيص وتقييد ، والطباطبائي نفسه ، يرى القرآن مبهما(1). ورأيه في (الإحكام) هو الإبهام - كما تقدم في النص - وسيأتي في معنى : ﴿حكيم﴾ . ولو ابتعدنا عن رأيه ، فإن أغلب الآيات القرآنية نزلت في

ص: 83


1- انظر قوله : «وقد نزل القرآن وهو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر» . الميزان : 18 : 132 .

مناقشة الموضوعات الآنية ، والتغيرات المتجددة في ذلك المجتمع الإسلامي ، حتى اعتقد بعضهم - خطأ - بأن كل الوارد مخصص بالمورد ، ورغم كل ما قيل من إن المورد لا يخصص الوارد ، وان سبب النزول لا يحدد ما نزل ... إلى آخره . فإننا لا نستطيع أن ننفي أن المخاطبين هم الحضور من المسلمين . وقد بحث العلماء كثيرا في مورد من هو المخاطب بالقرآن ، هل هو خصوص الحضور في زمن النزول ؟ أم عموم الأمة إلى يوم القيامة ؟ ودار بينهم النقاش ، وتضاربت الحجج ، ثم حاولوا تخليص أنفسهم بتمحلات ، مؤداها إن خلود الشريعة يقتضي أن يكون الخطاب موجه إلى كل مسلم مهما كان ، وفي أي زمن كان ، ولكن إذا نظر المنصف إلى آيات بعينها ، يجدها لا يمكن أن تكون كذلك ، ولا يمكن أن تتصف بالاستمرارية - ولا يعني ذلك قصور القرآن في أداء الكثير ، بل العظيم من الأحكام - إلا أن تخصيص الكثير من الآيات بوقت مخصوص ، يعد واحدا من أهم مسوغات النسخ ، الذي أثار عليه اليهود العديد من الإشكالات ، بدعواهم أن التشريع إنما هو لمصلحة إلهية ، وليس لمصلحة المُشَرَّع لهم - بفتح الراء - فلا يجوز أن تتبدل غاياته ، ولا علمه ، ولا حكمته ... الخ . وهذا كلام يفتقر إلى التحقيق ؛ لأن حقيقة الأحكام الإلهية إنما هي رحمة للعباد ، وهي تدور مع مصالحهم ، وتكوينهم . وهذا أمر مسلّم عندنا ، وإن الله سبحانه وتعالى - حسب نص الآيات المتعلقة بليلة القدر وسيأتي ذلك في تحديد الإشكالية - يصدر الأوامر ، والأحكام سواء في الكونيات ، أم في التشريعات مبينا ذلك بصورة مستمرة ، وهذا هو عين بقاء الشريعة المحمدية والرسالة الإلهية العامة : ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أو قُتلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران : 144] . فلا يجوز أن يقال : إن رسالة الله تبارك وتعالى ، انتهت بموت الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ، لا عقلا ، ولا شرعا ، وإلا فإن بطلان رسالة الله جل وعلا بموته (صلی الله علیه و آله و سلم) تستلزم بطلان الإسلام بكامله(1) للقطع

ص: 84


1- دفعا لأي توهم فإن المقصود بالرسالة الإلهية هنا الأوامر الإلهية الصادرة عن إرادته عز وجل ، والمسماة بالعلم الديني ، وهي متجددة بنص القرآن : ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن : 29] ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد : 39] ... الخ . بل إن الدليل العقلي يثبت ثبوت الاختيار الدائم الله سبحانه وتعالى ، وهو ما يعبر عنه بالبداء.

بوقوع ما لم تحط النصوص بحكمه الواقعي الإلهي ؛ لعدم الخلو من الحكم ، فلابد من استمرار العلم الديني . وإلا توقف التشريع في الحدود التي نزل فيها القرآن المجيد ، ولا يجوز التطور مهما اختلفت المواضيع التي عليها الأحكام . ولهذا نقول بوجوب بقاء الاتصال مع الله ، بشكل من الأشكال ، ولو بالعصمة ، أو التوفيق ، فإن الموقف يستدعي العلم بالوقائع المتجددة ، وأحكامها . ولعل هذا هو معنى قول الإمام الصادق عليه السلام : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.

وأما الاجتهاد فلا معنى له هنا بمعنى بقاء الشريعة بما هي هي ، كما أنه لا يغني عن حكم الله هناك ، كما أوضحنا فإن الاجتهاد يتكفل بيان تكليف المكلف ، حين يفتقر إلى العلم الواقعي ، أو إلى مراد الله في الحادثة ، وهذا يمثل التعذير ، لا التجيز . حتى لو كان مجعولا بالجعل الشرعي . يبقى أمر يداعب بعض القلوب التائهة ، وهو : أنه يمكن أن يدعي مدع بأن إدراكنا للمصالح والمفاسد ، يوجب علينا أن نحكم بأن ما أدى إليه حكمنا - وفق ذلك - فذلك حكم الله ، بناء على خلو الوقائع من حكم ، أو عدم الأمر بطلبها . وذلك وهم فظيع ، وتقول على الله ، أولا : لأن الله سبحانه وتعالى يصدر أوامره وفق إرادته ، وعلمه بمصلحتنا ، وبما اقتضاه تدبيره ، لا وفق فهمنا ومشتهياتنا ، حتى يصح ذلك القول . وثانيا لعدم التسليم بخلو الوقائع عن الأحكام – وهو مذهب أهل السنة - ولا عدم التكليف بتحصيلها - كما ذهب إليه المعتزلة - حسب نقل الغزالي ، الذي سيأتي .

وهنا نؤكد أن رسالة الله جل وعلا، هي عين رسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكنها ليست شخصه الشريف ، وليست العمومات التي تصدر من جهته الشريفة فقط . إنما هي متعلقة بالواحد القهار ، المعبود في كل حين ، ولا علاقة لها بمتعقلاتنا ، إلا بمقدار ما تعذر عليه ، وبمقدار ما فيه من حسن وقبح ذاتي ، مدرك لكل العقلاء . وفي غيره تمحل ، وتقول على الله تبارك وتعالى . قال تعالى :

ص: 85

﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مدَاداً لكَلمَات رَبِّي لَنَفَدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بمثله مدَداً﴾ [الكهف : 109] .

4 - وقد يشكل على توقف سيدنا الطباطبائي ، بقوله تعالى : ﴿منْ كُلِّ أمر﴾ ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ والكلية هنا تأبى التخصيص ، إلا بمخصص من قبل الشارع ، وهو مفقود . نعم هناك من أشكل بأن السياق هو سياق تكوين ، لا تشريع ، والجواب عليه : إن السياق ، وان كان سياق تكوين ، من نزول للملائكة وغيره ، ولكنه في النتيجة ينتهي إلى التعليم والعلم ، وهو ما يقصد في المقام من تبليغ الأمور العامة ، فالعلم لا يمكن وصفة بالتكوين المحض ؛ لأن المعلوم الذي ينزل ، هو ما يحدد الجهة ، هل هي تكوينية أم تشريعية ؟ وبما أن العلم لم يحدد بمعلومات محددة ، فلا يمكن الجزم بكونها لجهة دون أخرى ، هذا مضافا إلى الروايات الصحيحة ، التي تدل بمجملها على شمول العلم النازل لكل الأغراض ، وسيأتي في موقعه إن النصوص تدل بوضوح على أن العلم يشمل الشريعة ، والأمور الدنيوية .

الخلاصة :

إن اختيار الشيء لمعنى (الأمر) هو الأنسب لشموله ، ولمناسبة الكلية التي أكدها النص القرآني ، ولوجود رواية معتبرة في هذا المعنى ذكرناها . ولما تم توضيحه سابقا .

ص: 86

الفقرة السادسة

معنى حكيم

ص: 87

ص: 88

الفقرة السادسة

معنى حكيم

أولا : ذو الحكمة :

قال الزمخشري : «كل أمر حكيم ، كل شأن ذي حكمة ، أي : مفعول على ما تقتضيه الحكمة».(1) وعده من الإسناد المجازي ، بناءً على أن وصف الحكيم هو صفة لصاحب الأمر على الحقيقة .

أقول : الحكيم لغة ، يستخدم لمعنى صاحب الحكمة ، فهو في الحقيقة ذو الحكمة ، وإذا نسب إلى شيء كان ذلك الشيء ذا حكمة أيضا ، بمعنى أنه دال على حكمة ، وجرى على لسان العرب قولهم : «قصيدة حكيمة » أي ذات حكم ودالة عليها . وهذا نحو تطبيق المفهوم على مصادیقه ، فلا داعي لاعتباره مجازا ، والاعتذار عن هذا المجاز بنكات بيانية ، كما فعل الزمخشري في كلامه ، فقال : «ووصف الأمر به مجازا ، ﴿أَمْرًا من عندنا﴾ نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر جزلا فخما ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة ، وكسبه فخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا ، وتدبيرنا».(2)

فلا داعي لكل ذلك ، بل إن النكتة البيانية في واقعها في بيان أن الأمر نفسه ذو حكمة دال عليها ، وهو المصلحة بعينها ، وهذا نحو ترق في البيان ، يصل إلى قمة البلاغة ، وروعة الأداء ، والبلاغة عندي هي : ( ( المقصود الجليل في اللفظ الجميل ) ) .

ولكن بالتأمل ، يشكل الجزم بأن المقصود بالحكيم - هنا بالذات - هو ذو الحكمة ، وإن كان المعنى جميلا في حد ذاته ، ولكن قرينة الفرق الاختياري الحادث، تدل على عدم إرادته ؛ لأنه لو كان ذا حكمة فهو متعين ذاتا ، كما لا يخفى . فلا فرق بأمر جديد . فلو قيل إن

ص: 89


1- الكشاف : 3 : 500 .
2- الكشاف : 3 : 500 .

المصلحة حادثة له ، فلذلك فرق ، فنقول : إذا كان الفرق بأمر الله سبحانه وتعالى ، فإن ذلك تثبيت للأمر ، وكاشف عن المصلحة في حكمه ، لا أنه أوجد المصلحة في الحكم . وإذا كان بذات حكمة الأمر ، فذلك نقض للآية الدالة على وجود فاعل للفرق ، فمستحيل وقوعه في الخارج ؛ لعدم قدرة المصالح بنفسها على خلق الأشياء ، ومنها الأحكام . نعم هي دواعي للحكم ، وذلك أمر آخر غير ما قلناه في الوجهين السابقين ·

ثانيا : بمعنى محكم لا يتغير ، ولا يتبدل :

وهذا ما قاله ابن كثير(1). وقد بين هذا الرأي العلامة الطباطبائي بقوله : «وقيل المراد بكون الأمر حكيما إحكامه بعد الفرق ، لا الإحكام الذي قبل التفصيل ، والمعنى : يقضي في الليلة كل أمر محكم ، لا يتغير بزيادة ، أو نقصان ، أو غير ذلك ، هذا والأظهر ما قدمناه في المعنى»(2) .

أقول : إن ما قدمه هو أن الإحكام بمعنى الإبهام والفرق بمعنى التفصيل وقد أشرنا إلى ذلك و سنناقش هذا الأمر بعد قليل .

وأرى أن العلامة الطباطبائي وجد نفسه في مأزق خطير - هنا - لأنه سلّم بأن الأمر الحكيم هو المحكم ، وأنه - بحسب رأيه - لا يكون إلا في التكوينيات ، فلابد أن يقع في الجبر(3) لأن محكم التكوين الذي لا يتبدل منطبق على ذات المواضيع ، بخلاف محكم التشريع ، فإنه ينطبق على الأحكام ، والله تعالى مختار في تغييرها ، والعبد مختار في امتثالها ، فإن قال : إنه الأمر التشريعي توهم نسخ الشريعة ، وإن قال إنه الأمر التكويني لزمه الجبر والتعطيل . ولهذا حاول التهرب لمعنى غريب ، لا وجود له في اللغة(4) فلم يقل أحد إن الحكيم هو المبهم إطلاقا .

ص: 90


1- تفسير ابن كثير : 4 : 140.
2- الميزان : 18 : 135 .
3- قد يفهم من كلام ابن كثير ، ذهابه مذهب الجبر ، قال: «﴿أَمْرًا من عندنا﴾ أي جميع ما يكون ، ويقدره الله تعالى ، وما يوحيه ، فبأمره ، وإذنه ، وعلمه» . تفسير ابن كثير : 4 : 148 . وإنما قلنا : (قد يفهم) لأنه - كما ترى - كلاما ملتويا ، لا محصل منه ، ولا صراحة فيه ، وإن حام حول المفهوم .
4- تراجع أهم مصادر الكتب اللغوية ، وفقه اللغة ، مثل : العين ، وفقه اللغة للثعالبي ، والصحاح ، والمخصص لابن سيدة ، ولسان العرب . فإنها خالية من هذا المعنى . ويراجع بالذات لسان العرب في مادة : (حكم) .

ثالثا : الحكيم بمعنى المبهم هكذا قاله العلامة الطباطبائي :

فقد قال الطباطبائي : «والفرق فصل الشيء من الشيء ، بحيث يتمايزان ويقابله الإحكام ، فالأمر الحكيم ما لا يتميز أجزاءه عن بعض ، ولا تتعين خصوصياته وأحواله» وقال أيضا : فللأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتان : مرحلة الإجمال والإبهام ، ومرحلة التفصيل ، وليلة - حَكِيمٍ القدر - على ما يدل عليه قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ - ليلة تخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام - أي الإبهام - إلى مرحلة الفرق والتفصيل ، وقد نزل فيها القرآن ، وهو أمر من الأمور المحكمة في ليلة القدر»(1).

أقول : قد تقدم قولنا إن هذا القول لا أصل له في لغة العرب إطلاقا .

وهنا نشكل على هذا الكلام : فإذا كان القرآن مبهما ، فهل يجوز أن يترك كذلك من دون تفصيل دائم ؟

إلا أن يرى رأيا لا واقع له ، بأن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) قد فصله جميعا !

نعم ، يفهم من كلام الطباطبائي إن القرآن المبهم كان في السماء ، وأنزل على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) مفصلا في ليلة القدر ، وهذا لا علاقة له بمواصفات ليلة القدر ، وقد قلنا إن هناك فرقا بين نزول القرآن ، وبين صفات ليلة القدر العامة ، والتي منها أن يفرق فيها كل أمر حكيم ، وهذا لا علاقة له بنزول القرآن ، اللهم إلا من حيث كونه أحد مفردات ذلك الأمر . فلا رابط بين الأمر الحكيم ، وبين النزول الأول للقرآن المجيد .

بقي أن نقول أمرا مهماً ، وهو إن الجمع بين (نفرق) بمعنى (نفصل) وبين (حکیم) بمعنى : (لا يتغير) إشكال لابد من حله ، فكيف يفصل ما لا يتبدل .

والجواب على ذلك ، إننا لم نختر معنى (نفصل) بذاته في كلمة (نفرق) وإنما أخذناها بما يشمل البيان ، فلا إشكال أبداً ، ثم إننا يمكن أن نجيب على لسان من خصص الفرق في التفصيل ،

ص: 91


1- الميزان : 18 : 132 .

بأنهم يختارون الفرق قبل جعله حكيماً ، أي يكون حكيما بالفرق نفسه . واستبعاد العلامة الطباطبائي لا وجه له ، إلا لأنه اختار في معنى الإحكام الإبهام فجعله قبله . ولعل سبب وهمه ، ناشيء من هنا ، أي مما قبل الفرق، فلا بد أن يكون مبهما ، فاعتقد أنه هو الإحكام ، والأمر ليس كذلك ، ولا مجال لبحث ذلك فإنه بالفلسفة أليق ، وهو يبحث في مطالب المشيئة السابقة للإرادة ، والإرادة السابقة للقضاء والقضاء السابق للتقدير ، ونحن هنا في مرحلة التقدير فلا يناسب بحث مراحل أخرى والبحث غير مخصص لهذا الموضوع .

والخلاصة :

إن الأمر الحكيم ، هو إما أن يكون الشيء المحكم ، أو الشيء المتقن ، أو الأمر الوثيق . ومآلها إلى شيء واحد ، وهو المعنى السلبي، الذي هو عدم التبدل ، ثم بملاحظة معنى المتقن ، قد يكون هناك لحاظان ، الأول : هو الحكمة في الأمر ، والثاني : هو الإحكام وعدم التغيير فيه ، فيكون جامعا على نحو الجمع غير المنفصل . فيكون معنى الإتقان - بهذا الشكل – هو الأولى في الاختيار ؛ وذلك للإشعارين المتزامنين ، إشعار المصلحة ، وإشعار اللزوم ، الواردين في الآيات الشريفة ، إلا إذا ادعى مدع ، بأن الإتقان لا يدل على اللزوم ، ولو التزاما . فعند ذلك يتعين معنى المحكم للحكيم ، بمعنى عدم التبدل . وهو العمدة في مفاد الآيات الشريفة . وهو الأنسب مع قوله تعالى : ﴿أَمْرًا من عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ [الدخان : 5] لأن ما يرسله الله تبارك وتعالى ، من أمر ، لا بد أن يكون واحدا ، لا يتبدل خصوصا ، وإن قوله - عز وجل - : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ وارد مورد التعليل ، كما قال المفسرون ، ورسالة الله واحدة ، وهو يفهم كما تشير إليه آيات كثيرات ،كذلك من خلال السياق من أول الأمر ، وهذا ما يسمى التبادر .

وقد رأيت من المناسب أن نقرأ كلام الشيخ محمد عبده - إمام الجامع الأزهر - في معنى الأمر الحكيم ، ومعنى النذارة ، التي سنتكلم عنها لاحقا بشكل مفصل :

قال إمام الجامع الأزهر ، الشيخ محمد عبده ، في تفسير سورة القدر :

«و قد بين سبب الإنزال في آية الدخان بقوله ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] أي إننا إذا

ص: 92

خلقنا نوع الإنسان نوعا ممتازا بطبيعته ، يفارق سائر الحيوان بفطرته ، محتاجا إلى التعليم و الإرشاد بغريزته ، قد كتبنا على أنفسنا : أن نتعهده بالإنذار على السنة الرسل ، فأنزلنا القرآن ؛ لإنذار الناس بما سيلاقون جزاء لأعمالهم ، ولما تعقد عليه قلوبهم - ثوابا أو عقابا – في حياة أخرى ، بعد هذه الحياة ، ثم بين بركة الليلة ، بقوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾ [الدخان : 4] أي يفصل فيها كل حكم من أحكام الدين ، و لا يقرر فيها من الأحكام إلا ما كان حكيما ، يقف بك عند الحق ، ويبعد بك عن الباطل ، وينصرف بك عما فيه شقاؤك ، وفناؤك ، إلى ما فيه سعادتك ، وبقاؤك .

ثم حقق له الصفة ، بقوله: ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ﴾ [الدخان : 5 - 6] .

إذ كان الأمر من عند الحكيم العليم ، الذي من شأنه إرسال الرسل ، رحمة بعباده ، وقد سمع توسل نبيه إليه في هدايتهم ، فلا ريب تكون لحكمة ، أوله ، وآخره ، وباطنه ، وظاهره ، و لا شك أن ابتداء نزول القرآن ، كان فرقا بين الحق ، والباطل ، وكل ما جاء منه كان كذلك .

ثم توالى النزول بعد الليلة الأولى ، بما هو من نوع ما نزل فيها ، كما قال : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين رَحْمَةٌ مِّن رَبَّكَ﴾ فصح أن ينسب إليها ، انه يفرق فيها كل أمر حكيم ؛ لأن كل ما جاء فيها ، كان أمرا حكيما ، فرق به بين الحق والباطل ، وبداية لما يكون بعده ، من مثله ، كما صدق قوله : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاس وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان﴾ [البقرة : 185] . مع إنه لا يكون بينةً ، وفارقا بين الحق والباطل ، إلا ما ظهر للناس منه ، و هو ما نزل ، وبلغ إليهم بالفعل ، أو كان بسبيل أن يبلغ . فليس الأمر الحكيم، الذي يفرق في الليلة المباركة ، إلا أمر الدين والأحكام ، الذي سماه في البقرة : ﴿هُدًى لِّلنَّاس وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ وهذه الليلة المباركة هي بعينها ليلة القدر».(1)

انتهى كلام الشيخ محمد عبده ، إمام الجامع الأزهر .

ص: 93


1- تفسير جزء عم : 130 - 131 .

الفقرة السابعة

معنى ﴿من عندنا﴾

ص: 94

ص: 95

ص: 96

الفقرة السابعة

معنى ﴿من عندنا﴾

في البدء نذكر ، أن المفسرين كانوا قد شوشوا معنى هذه الجملة ، حيث أصبحت تتردد بين محتملات متعددة ، فهل معنى (من عندنا) أي من عند الله ؛ أم بمعنى : (بمقتضى حكمتنا) .

والحقيقة إن التخلص ، بقولهم : إنه بمقتضى الحكمة ، لا ينفي أنه من الله ؛ ولكن لأن اللفظ أصبح معقدا ، وممطوطا ، فجملة من عندنا أصبحت : «على وفق الحكمة ، والتدبير . أي أعني – بهذا الأمر - أمرا فخيما ، حاصلا على مقتضى حكمتنا ، وتدبيرنا ، وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه»(1).

إذن أصبحت جملة : (من عندنا) معقدة جدا ، ولا يمكن فهم بعدها الحقيقي ؛ لأن كل مفردات هذه الجملة تحتاج إلى تحديد ، وإلى بيان ، وإلى تأمل .

فما معنى حكمتنا ؟ وما معنى تدبيرنا ؟ وهل أتى بهذه الجملة ؛ لبيان فخامة الجملة بلاغيا ؟ أم إن لها وظيفة معنوية محددة ؟ .

الحقيقة التي هي كالشمس : إن الله - تبارك وتعالى - حين يقول : إن الأمر المنزل هو : (من عندنا) يقصد بأنه أمر (من الله) خاصة ، بكل بساطة ، وهو أمر إلهي في التشريع ، والتقدير للكونيات - كما يفهم من التعميم ومن المقارنة - فنزول القرآن ، الذي هو تشريع ، وأوامر إلهية لسانية ، أمر تشريعي ، وليس هو من قبيل : (كن فيكون) الذي هو أمر تكويني لصناعة الكون ،

ص: 97


1- روح المعاني : 25 : 114 .

ولكن لا فرق في الحقيقة بين صناعة الشريعة ، وبين صناعة الكون ، فكلها نظم من الله ؛ لتنظيم الكون ، والمخلوقات .

وهذا لا يحتاج إلى تأمل ، وشرح ، وبيان الفخامة ، حتى لو اختلف القول – بلاغيا – بين قوله (منا) أو (من الله) وبين قوله (من عندنا) فهذا أمر يسير باتجاه جوهر الدلالة النهائية .

والدلالة النهائية لا يمكن أن تكون عائمة – بالشكل الذي اقترحوه – وإنما هي أمر محدد ، يشير إلى ارتباط النزول ، والإنذار ، والإرسال بالله - مباشرة - وإن الأوامر التي احتواها النزول هي أوامر الله سبحانه وتعالى . فلا يجوز أن نغش أنفسنا ، ونذهب بعيدا في فهم النص ، فيصبح بعيدا عن توضيح الدلالة ، ليتحوّل إلى إبهام دلالة ، لنص واضح المعنى ، والمفهوم .

فإذا لم يكن معنى (من عندنا) جليا واضحا ، بأنه (أمر من الله) فما المعنى إذن ؟

ولعل الآلوسي ينبئنا بالمعنى – بشكل تفصيلي - متكلما عن الجملة القرآنية : ﴿أمرا عندنا له﴾ حيث يقول :

«والمراد بالعندية : أنه على وفق الحكمة ، والتدبير . أي أعني بهذا الأمر أمرا فخيما ، حاصلا على مقتضى حكمتنا ، وتدبيرنا . وهو بيان لزيادة فخامته ، ومدحه . وجوز حالا من ضمير كونه حالا من أمر السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له ، أو من ﴿أمر﴾ نفسه ، وصح مجيء

منه ، مع أنه نكرة ؛ لتخصصه بالوصف . على أن عموم النكرة ، المضاف إليها كل مسوغ للحالية ، من غير احتياج الوصف ، وقول السمين - إن فيه القول بالحال من المضاف إليه ، في غير المواضع المذكورة في النحو - صادر عن نظر ضعيف ؛ لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه ؛ بأن يقال : يفرق أمر حكيم ، على إرادة عموم النكرة ، في الإثبات ، كما في قوله تعالى : ﴿عَلَمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير : 14] .

وقيل : حال من : ﴿كل﴾ وأيا ما كان ، فهو مغاير لذي الحال ؛ لوصفه بقوله تعالى : ﴿من عندنا﴾ فيصح وقوعه حالا ، من غير لغوية فيه . وكونها مؤكدة ، غير متأت مع الوصفية ، كما لا يخفى على ذي الذهن السليم ، وهو على هذه الأوجه ، واحد الأمور .

ص: 98

وجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهى ، على هو ضد النهى ، على أنه واحد الأوامر ، فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية ؛ لفعل مضمر من لفظه . أي أمرنا أمرا من عندنا ، والجملة بيان لقوله سبحانه : ﴿يفرق﴾ ... الخ .

وقيل : إما أن يكون نصبا على المصدرية ل_﴿يفرق﴾ ؛ لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه ، وكذلك أمره - عز وجل - به . كأنه قيل : يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر ، وإما أن يكون على الحالية من فاعل ﴿أنزلنا﴾ أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل ؛ وفي جعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا ، تجوز فيه فخامة ، وتعقب ذلك في «الكشاف» فقال : فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها - على الثاني - ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة - على الأول - . ووجهه أن تخص بالقرآن ، ولا يجعل قوله تعالى : فيها يفرق علة للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة﴾ [الدخان : 3] على معنى فيها أنزل الكتاب المبين ، الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم ، كأنه جعل الكتاب كله أمرا ، أو ما أمر به كل المأمورات ، وفيه مبالغة حسنة ، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا . وقال الخفاجي في أمر الفصل : إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض ، وكذا على التعليل ؛ لأنه غير أجنبي . وجوز بعضهم على تقدير أن يراد بالأمر ضد النهي ، كونه مفعولا له ، والعامل فيه ﴿يفرق﴾ أو ﴿أنزلنا﴾ أو ﴿منذرين﴾».(1)

أقول : لا يخفى إن أغلب هذا تكلّف ، وتضييع لمقاصد الكتاب الحكيمة ، وليس معنى ذلك إنني أقلل من أهمية النقاش اللغوي، والبلاغي، والنحوي في الآية ، ولكن الحصيلة كانت عدم وضوح الفكرة ؛ لتعدد الاحتمالات ، وعدم الحسم . وكما هو معلوم ، فإن النحو وليد المعنى

ص: 99


1- تفسير الآلوسي: 25: 112-113.

وابنه ، فكل كلام لم نستطع تحديد إعرابه ، فهو غير محدد المعنى ، وأن المعنى متحرك ، وغير مستقر في الخانة المناسبة له.

وقد قدمنا وضوح وبساطة المعنى بأنه يقصد انه أمر من الله تعالى وبغيره لا يصح المعنى ، بل يختل الترابط بشكل ظاهر ، حتى وان كانت المعاني محتملات بأنفسها ، ولكن ليس العبرة بما هو محتمل ، وإنما بما هو قابل للتطبيق على النص بالموقع المعين .

ص: 100

الفقرة الثامنة

معنى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾

ص: 101

ص: 102

الفقرة الثامنة

معنى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾

التنزل في اللغة – قطعا – هو الهبوط من أعلى(1) وفي سبيل أن يكون الأمر متعلقا بالإنسان ، لابد أن يكون التنزل إلى الأرض . ولكن ، يبدو أن استمرار ليلة القدر إلى يوم القيامة ، أحدث إحراجا للمفسرين ، فقال بعضهم : إن النزول إنما هو إلى السماء الدنيا ، وليس إلى الأرض . وهذا ما أشار إليه (ابن كثير) - جازما - في بداية الأمر ، ولكنه وصف نزول الملائكة ، وأنهم يسلمون على المؤمنين من البشر في الأرض ، وإن علامة ذلك قشعريرة تصيبهم – فجأة – وذلك من مصافحة جبرائيل.(2) وهذا تناقض عجيب .

ص: 103


1- قال السيد الطباطبائي : «والنزول ، هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الإنزال ، والتنزيل . إن الإنزال دفعي ، والتنزيل تدريجي . والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، باعتبار كونه مقروءاً، كما قال تعالى : ﴿إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 3] ويطلق على مجموع الكتاب ، وعلى أبعاضه» . الميزان : 2 : 150 . أقول : لا اعرف من أين استدل على هذا التفريق ، بين التنزيل والإنزال.
2- انظر : تفسير ابن كثير : 4 : 572 وفيه : «ذكر أثر غريب ونبأ عجيب يتعلق بليلة القدر : رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم ، عند تفسير هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا موسى بن سعيد ، يعني الراسبي ، عن هلال بن أبي جبلة ، عن أبي عبد السلام ، عن أبيه ، عن كعب ، أنه قال : إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة ، مما يلي الجنة ، فهي على حد هواء الدنيا ، وهواء الآخرة علوها في الجنة ، وعروقها ، وأغصانها من تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل ، يعبدون الله عز وجل على أغصانها ، في كل موضع شعرة منها ملك ، ومقام جبريل ، في وسطها فينادي الله جبريل ، أن ينزل في كل ليلة القدر ، مع الملائكة ، الذين يسكنون سدرة المنتهى ، وليس فيهم ملك إلا قد أعطي الرأفة ، والرحمة للمؤمنين ، فينزلون على جبريل في ليلة القدر ، حين تغرب الشمس ، فلا تبقى بقعة في ليلة القدر ، إلا وعليها ملك ، إما ساجد ، وإما قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، إلا أن تكون كنيسة ، أو بيعة ، أو بيت نار ، أو وثن ، أو بعض أماكنكم ، التي تطرحون فيها الخبث ، أو بيت فيه سكران ، أو بيت فيه مسكر ، أو بيت فيه وثن منصوب ، أو بيت فيه جرس معلق ، أو مبولة ، أو مكان فيه كساحة البيت ، فلا يزالون ليلتهم تلك ، يدعون للمؤمنين ، والمؤمنات ، وجبريل لا يدع أحدا من المؤمنين ، إلا صافحه ، وعلامة ذلك ، من اقشعر جلده ، ورق قلبه ، ودمعت عيناه ، فإن ذلك من مصافحة جبريل. وذكر كعب ، أن من قال في ليلة القدر : لا إله إلا الله ، ثلاث مرات، غفر الله له بواحدة ، ونجا من النار بواحدة ، وأدخله الجنة بواحدة ، فقلنا لكعب الأحبار : يا أبا إسحاق صادقا ، فقال كعب الأحبار : وهل يقول لا إله إلا الله ، في ليلة القدر ، إلا كل صادق ، والذي نفسي بيده ، إن ليلة القدر لتثقل على الكافر ، والمنافق ، حتى كأنها على ظهره جبل ، فلا تزال الملائكة هكذا ، حتى يطلع الفجر ، فأول من يصعد جبريل ، حتى يكون في وجه الأفق الأعلى ، من الشمس ، فيبسط جناحيه ، وله جناحان أخضران ، لا ينشرهما إلا في تلك الساعة ، فتصير الشمس لا شعاع لها ، ثم يدعو ملكا ، ملكا ، فيصعد ، فيجتمع نور الملائكة ، ونور جناحي جبريل ، فلا تزال الشمس ، يومها ذلك ، متحيرة ، فيقيم جبريل ، ومن معه بين الأرض ، وبين السماء الدنيا ، يومهم ذلك في دعاء ، ورحمة ، واستغفار للمؤمنين ، والمؤمنات ، ولمن صام رمضان ، إيمانا ، واحتسابا ، ودعاء لمن حدث نفسه : إن عاش إلى قابل صام رمضان الله ، فإذا أمسوا دخلوا إلى السماء الدنيا ، فيجلسون ، حلقا ، حلقا ، فتجتمع إليهم ملائكة سماء الدنيا ، فيسألونهم عن ، رجل ، رجل ، وعن امرأة ، امرأة ، فيحدثونهم ، حتى يقولوا : ما فعل فلان ، وكيف وجدتموه العام ؟ فيقولون : وجدنا فلانا عام أول في هذه الليلة متعبدا ، ووجدناه العام مبتدعا ، ووجدنا فلانا ،مبتدعا ، ووجدناه العام عابدا . قال : فيكفون عن الاستغفار لذلك ، ويقبلون على الاستغفار لهذا ، ويقولون : وجدنا فلانا ، وفلانا ، يذكران الله ، ووجدنا فلانا راكعا ، وفلانا ساجدا ، ووجدناه تاليا لكتاب الله . قال : فهم كذلك يومهم ، وليلتهم ، حتى يصعدون إلى السماء الثانية ، ففي كل سماء يوم وليلة ، حتى ينتهوا مكانهم من سدرة المنتهى ، فتقول لهم سدرة المنتهى : يا سكاني حدثوني عن الناس ، وسموهم لي فإن لي عليكم حقا ، وإني أحب من أحب الله . فذكر كعب الأحبار أنهم يعدون لها ، ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم ، وأسماء آبائهم ، ثم تقبل الجنة على السدرة ، فتقول : أخبريني بما أخبرك سكانك الملائكة ، فتخبرها . قال : فتقول الجنة : رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، اللهم عجلهم إلي ، فيبلغ جبريل مكانه قبلهم، فيلهمه الله ، فيقول : وجدت فلانا ساجدا ، فاغفر له ، فيغفر له ، فيسمع جبريل جميع حملة العرش، فيقولون : رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، ومغفرته لفلان ، ويقول : يا رب وجدت فلانا ، الذي وجدته عام أول على والعبادة ، ووجدته العام قد أحدث حدثا ، وتولى عما أمر به ، فيقول الله : يا جبريل إن تاب فأعتبني ، قبل أن يموت بثلاث ساعات ، غفرت له ، فيقول جبريل لك الحمد ، إلهي أنت أرحم من جميع خلقك ، وأنت أرحم بعبادك ، من عبادك بأنفسهم ، قال : فيرتج العرش ، وما حوله ، والحجب ، والسماوات ، ومن فيهن، تقول : الحمد لله الرحيم الحمد لله الرحيم .

ص: 104

ولقد كان موقف الزمخشري - من هذا الموضوع - أعجب . حيث قال : «﴿تنزل﴾ إلى السماء الدنيا ، وقيل إلى الأرض».(1)

إن احتمال وجود المعنيين المتضادين معا ، في النص القرآني أمر قد يقلل من قيمته الإعجازية الحقيقية(2) وأنت خبير أن هذا التردد بين معنيين متضادين ، أمر بعيد عن الفكر السليم .

- وهنا - لنا وقفة مع من يقول : أنه تنزل إلى السماء فقط ، بالإضافة إلى المناقشات السابقة :

1 - ما معنى التنزل ؟ ومن أين ؟ وإلى أين ؟ خصوصا ، وإننا نفهم معنى التعدد في السماوات السبع ، بأنها ليست طبقات مادية ، بل هي رتب وجودية ، وهذا ما يقتضيه البرهان العلمي والفلسفي ، والديني . فلابد لمن يدعي مفهوم النزول إلى السماء الدنيا ، أن يتصور ذلك . وذلك لا يلزم لمن يقول بالنزول إلى الأرض ، فهو مشار إليه بالوحي ، والتماس مع الإنسان .

2 - إن التنزيل هذا - كما هو واضح - له هدف ، هو تبليغ الأمر الإلهي المتعلق بالأرض ، من

ص: 105


1- الكشاف : 4 : 273 .
2- قد يكون تعدد الاحتمالات في الآية الواحدة - بالنسبة إلينا - من جميل عظمة القرآن ، ولكنه ليس كذلك بالنسبة لمنشيء القرآن ، ومريد الكلام ، وهو الله تبارك وتعالى ، وهناك احتمالات لا تنافر بينها ، بل بينها نسبة من الترقي في المعنى ، وهذا مقبول وعظيم ، وأما أن نحتمل المتنافرين ، فهذا مما يدمر بنية القرآن الفكرية والأسلوبية . إن أي عاقل إذا سئل عن طريق ليس فيه إلا اليمين والشمال ، فهل يجيب أنه إما أن يكون يمينا أو شمالا ؟ . إذن هل أجاب على السؤال ؟ وهل سيكون لكلامه معنى لو أجاب كذلك ؟ !!

الليلة إلى ما يقابلها من السنة القادمة ، فما علاقة أهل السماء بهذا الشأن ، وعلام اهتمامهم بذلك ؟ مع ملاحظة ما يأتي في الفقرة التالية .

3 - الظاهر ، إن الأمر المنزل ، يشمل التكاليف كما أثبت ذلك المفسرون ، بل هو ظاهر القرآن ، فما حاجة أهل السماء إلى تكاليف هي تكاليفنا . وحتى لو قلنا إنها لإطلاعهم عليها ، حتى يراقبوا تصرفنا وفقها ، فإن ذلك بلا فائدة ؛ لأننا غير مكلفين تنجيزا بما نجهل.

4 - إننا بحثنا مطولا - في بحث خاص - معنى السماوات السبع ، وقد انتهينا إلى : إن معنى السماء الدنيا ، هو العالم المادي ، وما فيه من أبعاد ، وهو غير السماوات السبع ، التي تبدأ من السماء الأولى ، إلى السماء السابعة ؛ وهي لا يصح وصفها بالسماوات المادية ، بل هي من نوع وجود يختلف عن وجودنا المادي، باختصار فإن الطبقات السماوية هي طبقات في نوع الوجود ، وليس في الأبعاد والمسافات والدليل هو النزول من العرش (حيث يصوّر انه قريب من الوجود الإلهي) إلى الوجود المادي، وهذا يعني نوعيات من الوجود المتداخل ، ولهذا فالجرثومة هي في السماء الدنيا رغم صغرها وعدم رؤيتها بالعين المجردة ، كما إن أبعد الأجرام السماوية وأضخمها حجما بما فيها المجرات والسدم ، هي في السماء الدنيا .

نحن نقدر ، لغير المطلع على هذا المبحث وأسسه ومواد استنباطه ، أن لا يدرك مغزى ما قلناه - آنفا - ولكن ليعلم ، بأننا ننظر إلى ادعاء النزول إلى السماء الدنيا بالشكل الذي يصورونه - بشيء من الوعي - على انه جهل في معنى السماء .

الخلاصة :

لا معنى ، لتنزل الملائكة والروح ، إلا إلى الأرض . وإن من يدعي غير ذلك ، عليه إثبات مدعاه ، ودونه خرط القتاد

ص: 106

الفقرة التاسعة

هل ليلة القدر مستمرة ؟

ص: 107

ص: 108

الفقرة التاسعة

هل ليلة القدر مستمرة ؟

إن سياق الآيات ، واستخدام المضارعة في الأفعال - في النصوص القرآنية والأحاديث ، التي أشارت إلى ليلة القدر - يدل بما لا يقبل الشك ، على الدوام ، والاستمرار . ولم أعثر على رواية ، تدل على عدم استمرارها ، ومن العجيب إن (ابن كثير) ينسب القول بعدم استمرارها ، إلى جهلة الشيعة(1) كما يقول . ولم اعثر على رواية واحدة - عند الشيعة - تدل على القول بعدم استمرارها وهو يدعي وجود من ينكر ذلك من دون ذكر اسمه.

الأدلة القرآنية :

قال الطباطبائي قدس سره : «ويستفاد من ذلك ، إن ليلة القدر متكررة بتكرر السنين ، ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ، ليلة تقدّر فيها أمور السنة ، من الليلة إلى مثلها من قابل ، إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها ، أو ليال معدودة في طول الزمان ، تقدر فيها الحوادث الواقعة ، التي قبلها ، والتي بعدها ، وان صح فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة ، ينزل فيها القرآن جملة واحدة .

على إن قوله : ﴿يُفْرَقُ﴾ - وهو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار ، وقوله : ﴿خَيْرٌ من ألف شَهْرٍ﴾ و ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ﴾ ... إلى آخره ، يؤيد ذلك .

ص: 109


1- تفسير ابن كثير : 4 : 569 . وفيه : «ففيه دلالة على ما ذكرناه ، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة ، في كل سنة ، بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة ، من رفعها بالكلية على ، ما فهموه من الحديث ، الذي سنورده بعد من قوله (علیه السّلام): «فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم لأن المراد رفع علم وقتها عينا» . وفيه أيضا : 4 : 571 : «وقوله : «فرفعت» أي : رفع علم تعيينها لكم ، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقوله جهلة الشيعة ؛ لأنه قد قال بعد هذا : «فالتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة».

فلا وجه لما قيل : إنها كانت ليلة واحدة بعينها ، نزل فيها القرآن ، من غير أن يتكرر ، وكذلك ما قيل : إنها كانت تتكرر ، بتكرر السنين بزمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم رفعها الله ، وكذلك ما قيل : إنها واحدة بعينها ، في جميع السنة ، وكذلك ما قيل : إنها في جميع السنة ، غير أنها تتبدل ، بتكرر السنين ، فسنة في شهر رمضان ، وسنة في شهر شعبان.(1)

وقال ، أيضا في موضع آخر : «وظاهر اللفظ ، إنها إحدى التي تدور على الأرض ، وظاهر قوله : ﴿فيهَا يُفْرَقُ﴾ [الدخان : 4] الدال على الاستمرار ، أنها تتكرر ، وظاهر قوله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة : 185] أنها تتكرر ، بتكرر شهر رمضان ، فهي تتكرر ، بتكرر السنين القمرية ، وتقع في كل سنة قمرية مرة واحدة في شهر رمضان ، وأما أنها أي ليلة هي ؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك»(2).

أقول : أكتفي - هنا - بما أورده الطباطبائي، وسأترك بعض التفصيلات للتعقيب التالي .

الأدلة الحديثية :

وقد أوردناها ، استئناسا ، لا استدلالا ، دفعا لمشكلة التثبت من صحة السند . على إن فيما بين يدينا من روايات ، تكاد تصل حد التواتر ، والمطابقة في القول بما يكفي للاستدلال بها . وهذا مما يمنح الجرح فرصة في الطرح، بل إنني لم اعثر على قول منسوب للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، بانتهاء ليلة القدر بقول صريح يصلح للنقاش .

وسأثبت الروايات الشيعية ، قبل غيرها ، باعتبار ما نسب إليهم ؛ لنبين أن ذلك بعيد جدا .

وهذه بعض الروايات ، على نحو الأنموذج ، لا الاستقصاء ، فإنها كثيرة لا داعي لذكرها جميعا :

فقد أثبت الطباطبائي ، عن الكافي، رواية حمران ابن أعين ، أنه سأل أبا جعفر (علیه السّلام)، عن قول

ص: 110


1- الميزان : 20 : 308.
2- الميزان : 18 : 132.

الله تعالى : ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ . قال : ( نعم ليلة القدر ، وهي في كل سنة ، في شهر رمضان ، في العشر الأواخر».(1)

وعن عبد الله بن سنان : «فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين ، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم﴾».(2)

وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : قلت : يا رسول الله ليلة القدر شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل فيها عليهم الأمر فإذا مضوا رفعت ؟ قال : لا بل هي إلى يوم القيامة.(3)

وذكرت الرواية بلفظ آخر : عن أبي ذر أنه قال : قلت يا رسول الله ! ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء ، ينزل فيها ، فإذا قبضوا رفعت . قال : لا بل هي إلى يوم القيامة .(4)

محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد بن السياري ، عن بعض أصحابنا ، عن داود بن فرقد ، قال : حدثني يعقوب ، قال : سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر ؟ فقال : اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل عام ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.(5)

وعن حماد بن عثمان ، عن حسان بن أبي علي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر ، قال : اطلبها في تسع عشرة ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين.(6)

وفي الحديث السني :

ابن كثير : «قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل سماك الحنفي حدثني مالك بن مرثد بن عبد الله حدثني مرثد قال سأل أبا ذر قلت كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ؟ قال أنا كنت أسأل الناس عنها قلت يا رسول

ص: 111


1- الميزان : 18 : 136 ، نقلا عن الكافي : 4 : 157 : باب ليلة القدر .
2- الميزان : 18 : 137 ، مستدرك الوسائل : 7 : 471 : باب تعيين ليلة القدر .
3- بحار الأنوار - العلامة المجلسي : 25 : 97 - 98.
4- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي: 406:10.
5- تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي : 5 : 621 .
6- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي : 20 : 333 .

الله أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال : بل هي في رمضان» قلت تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : «بل هي إلى يوم القيامة» قلت في أي رمضان هي قال : «التمسوها في العشر الأول ، والعشر الآخر»(1) [ورواه النسائي ، عن * الفلاس ، عن يحيى بن سعيد القطان] .

وقد قال ابن كثير : «وفي هذا الحديث دلالة على ما ذكرناه ، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة ، في كل سنة بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة ، من رفعها بالكلية ، على ما فهموه من الحديث ، الذى سنورده بعد قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «فرفعت وعسى ان يكونوا خيركم «لأن المراد بالرفع ، رفع علم وقتها - عينا -» . انتهى.(2)

ثم روى رواية ، عن عبادة بن الصامت ، قال : خرج رسول الله ؛ ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحي رجلان من المسلمين ، فقال : (خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحی فلان ، وفلان ، فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم ، فالتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة» . انتهى.(3)

ثم علق على الحديث - قائلا : «وقوله (علیه السّلام): (فرفعت) أي : رفع علم تعيينها ، لكن لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقول جهلة الشيعة ؛ لأنه قد قال بعد هذا : «فالتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة» . انتهى.(4)

أقول :

1 - لا يوجد عند الشيعة من يقول بانتهاء ليلة القدر بوفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا أعرف من أين جاء (ابن كثير) بهذه الادعاءات . إلا إذا قصد بالشيعة ، غير الإمامية ، وهذا غير معروف عندنا .

2 - بالإضافة إلى ما ذكر ، فإن هناك روايات كثيرة ، تحث على ترقب ليلة القدر ، وثوابها مما

ص: 112


1- ابن كثير : 4 : 569 .
2- ابن كثير : 4 : 569 .
3- ابن كثير : 4 : 571 .
4- ابن كثير : 4 : 571 .

يدل على استمرارها . بالإضافة إلى سيرة المسلمين - عموما - إلى هذا الزمن ، من ترقب العشر الأواخر في شهر رمضان ، وترقب ليال معينة ، طلبا لثواب ليلة القدر ، واعتبارها مستمرة ، ومتجددة .

3 - قوله : «(فرفعت) أي : رفع علم تعيينها» هو من باب توضيح الواضحات ؛ لأن النص يقول فالتمسوها ، وهذا يعني بكل تأكيد أنها موجودة ، وعليكم تحصيلها ، بالإتيان بالمحتملات لها . وهذا الحديث يثبت كونها مستمرة .

الخلاصة :

إن الأدلة ثابتة على استمرار ليلة القدر ، وأهمها - على الإطلاق - هو الظهور القرآني في ذلك . وقد حاولت فهم السبب الذي دعا من يقول : إنها ليلة واحدة ، قد كانت وانتهت ، إلى قوله ذاك . فراجعت جميع الثغرات ، فيما سبق ، فتبين لي : أن منشأ التوهم ، هو : إن ليلة القدر ، ليلة ذكر فيها نزول القرآن ، وبما إن القرآن ، نزل مرة واحدة ، في ليلة واحدة لا تتكرر ، فليلة القدر إذن لا تتكرر .

وهذا وهم فظيع ، ويكفي إلقاء نظرة على الآيات الشريفة المتعلقة بالموضوع ؛ ليتبين : إن ليلة القدر ، ليلة مستقلة مباركة ، لها خصائص كونية ، ولها تعلق بالمعارف ، والإرادة الإلهية . وفيها تفصيلات التقديرات الإلهية ، في كل سنة بسنتها ، وهي غير مرتبطة بالقرآن ، ارتباطا موضوعيا . وإنما نزل القرآن فيها ، وهو أحد وجوه النشاط ، والخصوصية القدسية ، في هذه الليلة المباركة ، وليس هو الحدث الذي صبغ تلك الليلة بخصائص ليلة القدر ، وإنه تقسيم للخواص المذكورة الأخرى ، غير إن هذا التقسيم لفظي .

والواقع ، فإنه من باب الخصوص ، والعموم المطلق ، حيث أنه فرد من مجموع ، وهو عموم التنزل ، ومع ذلك فإن تثبيت المقابلة ، يوجب المغايرة ، كما هو معلوم ، ولا يهم بأي شكل من الأشكال ، سواء كان التنافر الكلي ، أم التداخل بكل صوره .

ص: 113

المهم ، أن النصوص تفرّق بين نزول القرآن في ليلة القدر ، وبين نزول الملائكة ببيان الأمر الإلهي . فهي ليلة القدر ، والتقدير قبل نزول القرآن ، وبعده ، وإنها ليلة تتعلق بحياتنا الأرضية ، لا بالحوادث السماوية ، بل - حسب التحقيق - لا علاقة لها بالسماء ، وأهل السماء ، غير كون الأمر نازلا - بالنزول الاعتباري المجازي - من - من السماء إلى الأرض .

وإنما قلنا : (اعتباري) لاستحالة أن يكون الله تعالى في جهة ، أو من جهة ، أو إلى جهة ، بل هو محيط بكل شيء ، ولا يحاط به . فلا معقولية للنزول ، والصعود ، إلا بالمعنى الرتبي ، أو الاعتباري . وإن السماء – نفسها – لا تعني العلو ، أو الانخفاض ، في حقيقتها ؛ لأنها رتبة وجود ، لا طبقة موجود ، حتى وإن كان أصل كلمة سماء - من الناحية اللغوية - هو الناحية اللغوية - هو ما عرف عندنا من فضاء ، يعلو رؤوسنا .

فغير غير خفي على أرباب النظر ، إن المسميات تؤخذ من المتعقلات - وفي الغالب - من المحسوسات ، وتوضع لأمور أشمل لما تعقله الواضع الأول ، أو السامع الأول - بحسب الحال فهذه كلمة (العقل) يقول عنها أهل اللسان - والعهدة عليهم – إنها مأخوذة أساسا من الوثاق وربط شيء بشيء ، ثم استعملت في نفس المعاني المربوطة ، وأخيرا استعملت في نفس الرابط وهو ما نسميه العقل الآن ، الذي نتعقل به الأمور . وهكذا حال السماء .

فإذن - نكرر القول مرة أخرى - إن النزول اعتباري ؛ للأسباب المذكورة سابقا . ولا علاقة لليلة القدر بالسماء ، رغم استخدام مفهوم النزول . ونحن مع العلامة الطباطبائي ، في عدم معقولية : أن تكون ليلة القدر ليلة واحدة ، تقدر ما قبلها ، وما بعدها . وغير خفي على المتأمل إن ظاهر الآيات ، بأنها ليلة أرضية ، منذ أن كان الإنسان ، ومنذ أن كان الإرسال ، والإنذار .

وبناءً على دقة القرآن الكريم ، أليس ينبغي أن نقول : (سلام كانت حتى مطلع الفجر) بدلا ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر : 5]؟ حينما تكون ليلة واحدة ، قد انقضى زمانها .

على إننا ، لو افترضنا - وفرض المستحيل ليس بمستحيل - إن المضارعة ، والإشارة المستمرة، لا تدل على الاستمرار ، فهي لا تدل - قطعا - على الانقطاع .

ص: 114

فكيف تولد في ذهن القائلين بانتهائها - ذلك القول ؟

هذا وإن من أغرب ما ورد في استمرار ليلة القدر ، هو القول بانتهائها بوفاة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلا يعلم مستند هذا القول ، فلا هو قول باستمرارها ، كما تدل عليه الظهورات القرآنية ، وغيرها ، ولا هو القول بأنها ليلة واحدة فقط ، بناءً على الشبهة الواهية التي ذكرناها .

وهذا القول ، منسوب لابن عباس ، في حوار مع الإمام ، أورده في كتاب الكافي للشيخ الكليني(1) في رواية ، وصفت بأنها مضعفة ، متروكة ، من أهل الحديث ، فيها نقاش بين الإمام الباقر (علیه السّلام)- ولعله الإمام السجاد (علیه السّلام)- وابن عباس ، فقال ابن عباس : «إنا نراها انتهت بوفاة الرسول» - بعد إحراجه بشأن ليلة القدر - فرد عليه الإمام بحديث ذكره به ، أنه سأل الإمام علي عن ليلة القدر ، فأجابه الإمام علي (علیه السّلام): بأنها قائمة إلى يوم القيامة . وأضاف الإمام - ولعله السجاد (علیه السّلام)- قائلا : «إن أنكرت هذا فقد استحققت النار» . فاعتذر ابن عباس بالغفلة ، عن أمر غير مهم .

أقول : إن الرواية وصفت بأنها ضعيفة جدا عند علماء الشيعة ، وسيأتي تحقيق حالها وحال سندها ، وهي حجة في معناها وقد حققنا أن هناك خللا من النساخ جعلها غير مقبولة وقد اقترحنا تصحيح الخلل ، وما نسب إلى ابن عباس وتراجع عنه معتذرا بالنسيان لا يضر ، لأنه رأي له موقوف عليه لا يؤخذ به، خصوصا بعد كون الرواية نفسها تروي التراجع وعدم الضبط للأمر ، وكان الحوار حول الإمامة وهذا حوار حساس يمكن أن يختلق المعاند فيه شتى الأعذار ليخرج عن أمر الله الثقيل .

ولا بأس أن نذكر ، إن الشيخ محمد عبده ، وهو سني وإمام الجامع الأزهر ، يشير بطرف خفي إلى القول : بأن ليلة القدر مرة واحدة ، وانتهت . وليس هو قول الشيعة ، مع ملاحظة إن رأي شيخ الأزهر متأخر زمنا وهو بلا قيمة علمية لكونه لا يستند على أي دليل بل يمشي ضد الدليل ، والظهور اللفظي .

ص: 115


1- الكافي : 1 : 242 - 248 .

لقد قرر الإمام محمد عبده ، إن (الأمر) هو : أحكام الدين ، ثم قرر بعد ذلك - بوضوح - إن المراد بتنزل الملائكة : هو تنزلها لتبليغ أحكام الدين إلى النفس الكاملة ، فلا يبقى بعد هذا ، إلا إثبات استمرار ليلة القدر ؛ ليكون هذا إثباتا لوجود نفوس كاملة ، بعد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، تتلقى أحكام الدين ، وعلومه من الملائكة السماء . وفي هذا يقول إمام الجامع الأزهر ، الشيخ محمد عبده (رحمه الله علیه):

« ﴿بإذن ربهم﴾ أي : إنما تتجلى الملائكة على تلك النفس الكاملة ، بعد أن هيأها الله ، لقبول تجليها ، وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس - كما هو معلوم – فذلك فضل الله ، يختص به من يشاء ، واختصاصه هو إذنه ، ومشيئته.

ثم إن هذا الإذن ، مبدؤه الأوامر ، والأحكام ؛ لأن الله يجلى الملائكة على النفوس ؛ لإيحاء ما يريده منها ، ولهذا قال : ﴿من كُلّ أمر﴾ أي : إن الله يظهر الملائكة والروح لرسله ، عند كل أمر ، يريد إبلاغه إلى عباده ، فيكون الإذن مبتدئا من الأمر ، على هذا المعنى .

و الأمر - هاهنا - هو الأمر في قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مرسلين﴾ [الدخان : 5].

فالكلام في الرسالة والأحكام ، لا في شيء آخر سواها . ولهذا قال بعضهم : إن ﴿من﴾ هنا ، بمعنى الباء ، أي : بكل أمر ، ولا حاجة إليه فيما قلنا».(1)

فهنا ، قد أقر الشيخ محمد عبده ، بأن الملائكة تنزل في ليلة القدر ؛ التبليغ أحكام الدين ، وأمره التشريعي إلى النفس الكاملة ، وهذا يستدعي أمورا خطيرة . ولهذا فلم يقر باستمرار ذلك ، بعد وفاة الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، و لذا قال الشيخ محمد عبده بعد ذلك :

«وإنما عبر بالمضارع ، في قوله : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ﴾ وقوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ مع إن المعنى ماض ؛ لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن ؛ لوجهين :

ص: 116


1- تفسير جزء عم : 133 .

الأول : لاستحضار الماضي ؛ لعظمته ، على نحو ما في قوله ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة : 214] فإن المضارع ، بعد الماضي ، يزيد الأمر تصويرا .

قال تأبط شرا :

ألا من مبلغ الفتيان فهم *** بما لاقيت عند رحى بطان

و إني قد لقيت الغول يهوى *** بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها كلانا نضو أين *** اخو سفر فخلى لي مكاني

فشدت شدة نحوى فأهوى *** لها كفى بمصقول يماني

فاضربها بلا دهش فخرت *** صريعا لليدين و للجران

والشاهد في قوله : (فأهوى) وقوله : (فأضربها) في حكاية الماضي .

والثاني : لأن مبدأ النزول ، كان فيها ، ولكن بقية الكتاب ، وما فيه ، من تفصيل الأوامر ، والأحكام ، كان فيما بعد .

فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها ، يستمر في مستقبل الزمان ، حتى يكمل الدين».(1)

أقول : فهو - كما يظهر - لا يقول باستمرار ليلة القدر ، أي : استمرار نزول الملائكة فيها ، وهذا خلاف ظاهر الآيات ، ولا دليل عليه ، إلا توهمه ، أنه لا يصح استمرار نزول أحكام الدين ، بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). وهذا هو المصاب الخطير كما يشير إليه.

ويقول - أيضا - للتخلص من مشكلة الحث على ترقب ليلة القدر ، في كل رمضان ، وهو ما يوحي ببقائها مدى الدهور .

يقول : «وما ورد في الأحاديث ، من ذكرها ، إنما قصد به : حث المؤمنين على إحيائها ، بالعبادة شكرا الله على ما هداهم ، بهذا الدين ، الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم ، في أثنائها ... فهي ليلة عبادة ، وخشوع ، وتذكر لنعمة الحق ، والدين» .(2)

ص: 117


1- تفسير جزء عم : 133 - 134.
2- تفسير جزء عم : 131.

أقول : - لاشك - أن هذه النصوص ، التي أوردناها للشيخ محمد عبده ، تنطوي على أمرين مهمین :

الأول : هو قوله : إن النزول يكون على النفس الكاملة ، بالأحكام الإلهية ، والأمور التشريعية . وهذا ما سأعتبره اعتراف أحد العلماء المهمين ، بأن المقصود هو : الحكم التكويني والتشريعي ، بخلاف ما يحاول البعض التخلص منه .

والثاني : هو إشارته إلى توقف ليلة القدر .

وهذا كلام لا دليل عليه ، والدليل خلافه، واستظهاره للأحاديث غريب جدا ، حيث اعتبرها للبركة ، والعبادة مع توقف النزول بالأمر . وهذا لم يقل به عالم ، ولكن يبدو إن هذا الوجه الذي تبناه هو المخرج الوحيد الذي يمكن أن يتخلص به وفق متبنياته العقائدية ، وإلا فإن قوله الأول ، لو بقي مع بقاء ليلة القدر ؛ لوجب عليه القول بوجوب وجود الإمام ، ولو بنحو إمامة الولاية الصوفية ، ومع هذا سوف لن ينفعه تصور الولاية الصوفية ؛ لأن الأمر يرتقي إلى رتبة تبليغ أمر الله ، سنويا كما ينص هو ، وليس إلى موضوع القداسة الصوفية ، والكرامات المدعاة .

ص: 118

الفقرة العاشرة

التعليل في ليلة القدر

ص: 119

ص: 120

الفقرة العاشرة

التعليل لليلة القدر

أضيفت هذه الفقرة في فترة متأخرة ، بعد استكمال أغلب عناصر البحث ، وسبب ذلك ، إن احد الفضلاء من أصدقائي من علماء السنة ، اعترض على الإشكالية ، بعد إطلاعه عليها ، قائلا : إن أساس الإشكالية يصح ، فيما إذا كان لسان النص ، على خصائص ليلة القدر ، معللا بتعليل دائم ، في إرسال الله البيان ؛ لأن نزول القرآن حدث مرة واحدة ، وانتهت ، و لا يوجد تعليل ، في نص سورة الدخان مطلقا ، فلا يصح الاستدلال بليلة القدر من هذه الجهة ، وادعى : إنه لم يقل أحد من المفسرين : إن نزول الملائكة في ليلة القدر ، معللا لقضية مستمرة ، ودائمة ، لا تخلف فيها ، حتى تستمر خصوصية التبليغ ، وتصح الإشكالية.

عندها ، كان من اللازم ، بيان ما غفل عنه الفاضل - المشار إليه - من كون أغلب المفسرين ، يقولون بالتعليل ، وإن لسان النص ، هو لسان تعليلي ، لأبسط محللي اللغة العربية ، ومنطق النص وبما أن مثل هذا الاعتراض، قد يرد في أذهان شريحة كبيرة من المنكرين ؛ فلهذا يلزم البيان .

إن أي مقدار من الفهم البسيط ، يمكن من خلاله للمتتبع الدقيق لخصوصية الخطاب القرآني ، أن يفهم : إن نص آيات سورة الدخان ، هو نص يعتمد التسبيب ، حسب المفهوم العقلي لصياغة النص ، وحسب الظهورات اللفظية . ولكننا - ولمن يختار اللجاجة في هذا الأمر – يمكن أن نبحث معه الموضوع ، بصورة مفصلة.

فحتى لو سلّمنا ، بما قاله الفاضل : من أن النص القرآني - هنا - يعتمد التوصيف ، وليس التعليل . أي : إن الإنزال ليس لأجل الإنذار ، وإنما هو لحالة الإنذار ، ولحالة الإرسال ، ولحالة الرحمة - كما توهم - فهو لم يتخلّص من التعليل ؛ لأن هذا في الواقع تعليل ، وتسبيب واضح ؛ لأن التعقيب بالإنذار ، معقب عليه برحمة الله ، تعقيب ارتباط و تلازم ، وهو يعني : إن حالة الإنذار

ص: 121

والإرسال ، المبنية على حالة رحمة الله ، هي السبب الرئيسي ؛ لإنزال الملائكة في ليلة القدر وذلك للترابط بينهما من جهة، ولمرتكزات قرآنية من جهة ثانية. ومهما حاول التنصل عن التسبيب ، سيجد أن النص يحاصره ، من الناحية البيانية ، والبلاغية .

والمعنى ، الذي أنكره ، ليس بدعا في القرآن ، بل هو الأصل ، فيما ورد في الكتاب العزيز .

فالقرآن الكريم، ربط بين العقاب الإلهي ، الذي هو نتيجة حتمية ، للتكليف بإرسال الرسل، وبين البعثة ، والبيان . وهذا الربط ، وإن كان عقليا - في الأساس - ولكنه جعله أمرا منصوصا ، لا شبهة فيه . كقوله : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . وقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشيراً وَنَذيراً وَإِن مِّنْ اُمَّة إلا خلا فيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] . وقوله تعالى : ﴿إليَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيَّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾ [الأنفال : 42] . وقوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة : 115] .

وقد رأيت ، أن أفرد ملحقا مهما ، له علاقة بهذا الإشكال ، وهو بحث قاعدة قبح العقاب بلا بیان . وما قيل في دلائلها القرآنية ، كما ذكرها المفسرون ، والمفكرون الإسلاميون .

وسوف يكون هذا الملحق ، بعد أن أضع نصوص المفسرين الصريحة ، القائلة إن الآيات الشريفة ، تفيد التعليل ، وهو ليس من عندي ، كما توهم الفاضل، الذي اعترض ، وأعتبر إن مسألة التعليل رابط وهمي ، وبانتفائه ينتفي موضوع الإشكالية . وهذا الوهم ، لا ألومه عليه كثيرا ، لأن المسألة دقيقة ، وتحتاج إلى عقل ، غير متعلق بالنظرية الحسية في التعقل.

كما لا ألومه على فهمه ؛ لأن المنهج الذي يتعامل معه في تحليل النص ، منهج انتقائي ، لا يستند على قاعدة ثابتة ، في تحليل النصوص . وهذا نقاش عميق في علم الأصول ، ليس محله هذا البحث ، ولا يناسب طرحه بشكل تفصيلي ، وإنما له مجاله الخاص.

على إن انتفاء التعليل ، لا يلغى الإشكالية ، وهى لا تتعلق بشكل كامل بالنص ، وإنما التعليل يعمق الإشكالية ، فإن النص بالنزول السنوى ، بالأوامر الإلهية ، إلى الأرض يكفى في تشكيل الإشكالية . بدون توقف على التعليل للإرسال .

ص: 122

وفي سبيل أن لا أطيل في الشرح ، سأقوم بتجميع نصوص كثيرة ، تدل على فهم المفسرين التعليل ، وعلى تبريرهم لهذا الفهم، وسبب إيراد نصوص كثيرة هو الرد الواضح على دعوى عدم وجود من يقول بالتعليل ، من المفسرين ، والمفكرين. وستثبت هذه النصوص : إنه حتى من لم يصرّح بالتعليل ، يربط النصوص بطريقة الارتباط التعليلي ، أي التوقف عليها ، وهذا يعني أنه فهم ارتكازي من ظاهر الألفاظ. وهو لا يعتمد التمحل أو التقول ، وإنما هو من حقيق النص نفسه .

لعل المشكلة الأساسية في إعراب كلمة : ﴿رَحْمَةً﴾ في قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الدخان : 6] .

فهل نصب ﴿رَحْمَةً﴾ - هنا - للمصدر ، أم للحال ، أم للمفعولية ؟

ولعلهم تصوروا : إنه إذا كان للحال ، فهو توصيف ، وإذا كان للمفعولية ، فهو تعليل ، وانفعال.

والواقع إنه سواء كان حالا ، أو مفعولا ، فهو يقوم مقام التعليل ؛ لأن مفهوم التسبيب ، والتوقف ، لا يتوقف على كون الرحمة ، تعليل أو توصيف . بل هو مفهوم ، يؤخذ من أساس الارتباط المعنوي . وإلا ، فالجمل التي يدعى إنها تعليل ، وهي قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ ، فهي جمل خبرية ، ولم يقل أحد إنها ليست خبرية ، ولكن سياقها ، ومقتضى الأسلوب ، في العربية ، هو كونها قائمة مقام التعليل ، لقضية الترابط، وتوقف شيء ، على شيء فكل من يقرأ - بسليقة سليمة - قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فى لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حكيم أمرًا مِنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الدخان : 3 - 6] يجد الترابط بين الإنزال والإنذار ، وبين الأمر من الله ، وبين الإرسال ، وبين الإرسال ، أو الكل ، وبين الرحمة ، بشكل واضح. ولا يحتاج إلى لي وتمحل في النص ؛ ليقول بهذا الترابط الدال على التعليل ، وتوقف شيء على شيء ، من خلال الصياغة البلاغية .

وأما قضية كون الرحمة حالا ، وليست للمفعولية ، فهذا لن ينفي التعليل لسببين :

ص: 123

الأول : إن التعليل ، أخذ من السياق والأسلوب ، ولم يقتصر على الموقع النحوي ، حتى يقال : إن كونه حالا ، يدل على عدم التعليل .

والثاني : إن الحالية مفعولية بنفسها ، وهي لا تنص على تجريد التوصيف من الارتباط ، فهي لا تمنع الجمع ، فالحال وصف مفعولي مرتبط ، ويبقى تخصيصه بالتعليل ، فهو بدليل خارجي ، وهذا بدهي .

فالفرق بين قضية : (جاء الرجل ماشياً) وبين (خلق الله الخلق رحمة) هو فرق خارجي ، يحدده إطار المعاني ، ودوائره . فلا يمنع الحال - في الجملة الأولى - من منع التعليل ، بينما لا يمنع الحال - في الجملة الثانية - من إثبات التعليل . وكل ذلك ، أتى من خارج قضية النحو ؛ لأن له ارتباطا بالمعاني ، ودوائرها سعة ، وضيقا . وهذا البحث، وإن كان منطقيا ، وبلاغيا - إلى حد ما - إلا إنه مما يفهمه كل البشر . فالنحو ، لا يتكفل بأطر المعاني ، وهي محالة إلى علوم اللغة الأخرى ، مع علوم الميزان ؛ لمعرفة العلاقة بين المعاني بشكل دقيق .

ومن هنا ، قد ندرك سر الاختلاف بين المفسرين. وهو : إنه إذا كان المفسر نحويا ، كان المعنى القرآني ، في أضيق صوره. وإذا كان موسوعيا ، كان المعنى القرآني منبسطا متوسعا ، بحسب مدارك ذلك الموسوعي .

وأما نصب الرحمة للمصدر ، فهنا سيقع ما هو أكثر من التعليل ، حيث إن معنى المصدرية للرحمة ، هو : كون الإرسال والإنذار نفسه (هو الرحمة) مندكا بها اندكاك فناء ، أي : إنه حين يقول : (أرسلناه رحمة) فهو يعني : (رحمناه رحمة) فنفس الإرسال ، والإنذار ، هو الرحمة بعينها . وهذا هو المستفاد ، من كونها مصدرا ، وهذا أوسع من مُدعى التعليل ، الذي أنكره الفاضل المشار إليه .

ولا ننسى ، إن بعض البلاغيين والمفسرين ، قال عن هذه الآيات : إنها من باب اللف ، والنشر ، وهو من أقسام البديع المعنوي . وهذا يعني الترابط بين الجمل ترابطا معنويا ، وشرح المتقدم

ص: 124

بالمتأخر ، وبيان المتأخر بالمتقدم، فقد قال النقاد البلاغيون : إن في الآيات طياً ، أو لفاً ونشراً . وهم يقصدون بذلك : إن المفاعيل مرتبطة بما قبلها ، والجمل ليست منفصلة معنويا . فالنص في هذه الآيات ، من قبيل قوله تعالى : ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لَتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبَّكُمْ وَلَتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ [الإسراء : 12] . ففيها الطي أولا : (بآية الليل) وثانيا : (بآية النهار) ثم جاء النشر ، بقوله : ﴿لَتَبْتَغُوا فَضْلاً من رَبَّكُمْ﴾ وهو بيان ، ومتعلق بآية النهار) وجاء بقوله : ﴿وَلَتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَالْحِسَابَ﴾ وهو متعلق (بآية الليل) وهذا النوع من اللف ، والنشر ، يسمى اللف والنشر المشوه ، بخلاف المرتب ، الذي يأتي فيه النشر بنفس ترتيب الطي .(1) وهنا نقطة مهمة جدا ، وهي : إن قوله

ص: 125


1- السيوطي : الإتقان في علوم القرآن : 2 : 251 - 252 . وفيه : «اللف والنشر : هو أن يُذكر شيئان ، أو أشياء ، إما تفصيلا بالنص، على كل واحد ، أو إجمالا ، بأن يؤتى بلفظ ، يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء ، على عدد ذلك ، كل واحد يرجع إلى واحد ، من المتقدم ، ويفوض إلى عقل السامع ، رد كل واحد إلى ما يليق به ، فالإجمالي كقوله تعالى : ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلا مَن كَان هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة : 111] أي : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة ، إلا اليهود ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة ، إلا النصارى ، وإنما سوغ الإجمال في اللف ، ثبوت العناد بين اليهود ، والنصارى ، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين ، بدخول الفريق الآخر الجنة ، فوثق بالعقل ، في أنه يرد كل قول إلى فريقه ؛ لأمن اللبس . وقائل ذلك يهود المدينة ، ونصارى نجران. قلت – والكلام بعد للسيوطي - : وقد يكون الإجمال في النشر ، لا في اللف ، بأن يؤتى بمتعدد ، ثم بلفظ يشتمل على متعدد ، يصلح لهما ، كقوله تعالى : ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾ [البقرة : 187] على قول أبي عبيدة ، إن الخيط الأسود ، أريد به الفجر الكاذب ، لا الليل ، وقد بينته في أسرار التنزيل . والتفصيلي قسمان : أحدهما : أن يكون على ترتيب اللف ، كقوله تعالى : ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَتَسْكُنُوا فِيهِ وَلَتَبْتَغُوا مِن فَضْله﴾ [القصص : 73] فالسكون راجع إلى الليل ، والابتغاء راجع إلى النهار ، وقوله تعالى : ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ إلَى عُنُقكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾ [الإسراء : 29] فاللوم راجع إلى البخل ، ومحسورا راجع إلى الإسراف ؛ لأن معناه منقطعا ، لا شيء عندك ، وقوله : ﴿أَلَمْ يَجدك يتيماً ... الآيات : [الضحى : 6 - 11] فإن قوله : ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ راجع إلى قوله : ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾ و ﴿وَأَمَّا السَّائلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾، راجع إلى قوله : وَوَجَدَكَ صَالاً له فإن المراد ، السائل عن العلم ، كما فسره مجاهد ، وغيره ، و ﴿وَأَمَّا بنعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدَّثْ﴾ راجع إلى قوله : ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ رأيت هذا المثال ، في شرح الوسيط للنووي ، المسمى بالتنقيح . والثاني : أن يكون على عكس ترتيبه ، كقوله ﴿يَوْمَ تَبْيَضُ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران : 106] وجعل منه جماعة ، قوله تعالى : ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَريبٌ﴾ [البقرة : 214] قالوا : مَتَى نَصْرُ الله﴾ قول الذين آمنوا : ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَريبٌ﴾ قول الرسول . وذكر الزمخشري ، قسما آخر كقوله تعالى : ﴿وَمَنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باللَّيْل وَالنَّهَارِ وَابْتَغَاؤُكُم مِّن فَضْله﴾ [الروم : 23] قال : هذا من باب اللف ، وتقديره : ﴿وَمِنْ آيَاتِه مَنَامُكُم﴾ ﴿وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ﴾ ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ إلا أنه فصل بين ﴿مَنَامُكُم﴾ ، ﴿وَابْتِغَاؤُكُم﴾ ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار﴾ لأنهما زمانان ، والزمان الواقع فيه كشيء واحد ، مع إقامة اللف على الاتحاد» . (انتهى) .

تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] هي جواب للقسم : ﴿والكتاب المُبين﴾ [الدخان : 2] ومعناه أقسم بالكتاب المبين ، إننا ننذر عبادنا ، فلهذا أنزلنا القرآن في الليلة المباركة ، التي يتنزل فيها أمر الله العام ، في كل سنة . فكون الإنذار ، هو جواب القسم ، يحدد معنى النص ، بالتعليل من جهة الترابط ، والتوقف .

وقد قال آخرون : إنه من باب الفصل ، من علم المعاني ، فتقع الجمل ، موقع البدل ، والبديل عن سابقاتها ، وهذا يعني : اعتماد الجمل على سابقتها ، في المعنى ، إذا كان معللا ، فهو تعليل ، وإذا لم يكن فهو غير معلل . ولكنهم يقولون : إن قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ هي جواب القسم - كما أسلفنا - فتكون في موضع التسبيب ؛ لإنزال الكتاب ، وتكون بديلا عن : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ . وتكون هذه الجملة ، جواب قسم ثان ، وهو يعني : الالتزام الإلهي بالإنذار والإرسال ، دائما . وهذا أشد ما يخشاه من يكره أن يصدق بحقيقة الصلة بين أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام ، وبين الله جل جلاله .

ص: 126

وقد وعدت، أن لا استغرق في الكلام عن الموضوع ، إنما أتركه للنصوص الكثيرة ، التي أريد البرهنة بها على : ذهاب المفسرين إلى التعليل ، بالدرجة الأولى ، مع الأهداف الثانوية ، التي لا تخلو من قوة . ولكن عليّ أن أبين للمثقف العادي، الذي لا يعرف المصطلحات ، إن التعليل يأتي بلسان المتكلمين ، تارة بلفظ التعليل ، وتارة بلفظ التسبيب ، أو التبرير ، أو الحكمة ، أو الغاية ، وتارة باستعمال أدوات التعليل ، كالحروف مثل : حرف لام التعليل(1) وفاء السببية(2) وباء السببية(3) وغيرها . فما سيرد من نصوص ، بعضها استخدم الحروف ، وبعضها استخدم نص كلمة التعليل ، والتسبيب :

النصوص الدالة على معنى التعليل في الآيات القرآنية :

ورد التعليل في ثلاث مواقع في آيات سورة الدخان:

الأول : في قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 3] تعليلا للإنزال . الثاني : في قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ [الدخان : 5] تعليلا لإرسال الأمر ، الصادر من الله . وقيل تعليل لكون الأمر ، من عند الله.

الثالث : في قوله تعالى: ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [الدخان : 6] تعليلا لفرق الأمر الحكيم ، وقيل للإرسال وقيل لصدور الأمر من الله وقيل للجميع .

وسنصنف النصوص إلى :

1 - نصوص تنص وتدل على التعليل سواء بلفظ التعليل أو بأدواته الحرفية .

2 - نصوص يفهم منها التعليل من دون تصريح .

3 - نصوص خالية من الإشارة للتعليل للأمانة العلمية ولكن الساكت لا ينفي .

ص: 127


1- كقوله تعالى : ﴿لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب : 73] .
2- نحو قوله تعالى : ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص : 15] أي بسبب وكزه قضى عليه.
3- كقوله تعالى : ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة : 38] .

وبما إن النصوص ، لم تكن مخصصة لبيان التعليل ، وإنما يرد الأمر بين ثناياها ، فيجب أن تكون النصوص بالحجم ، الذي يفي بالمطلوب . وهذا ما تم فعله :

القسم الأول :

نصوص تنص وتدل على التعليل سواء بلفظ التعليل أو بأدواته الحرفية :

قال السيد الطباطبائي (قدس سره)(1):

«وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ واقع موقع التعليل ، وهو يدل على : استمرار الإنذار منه تعالى ، قبل هذا الإنذار ، فيدل على إن نزول القرآن من عنده تعالى ، ليس ببدع ، فإنما هو إنذار ، والإنذار سنة جارية له تعالى، لم تزل تجري في السابقين ، من طريق الوحي إلى الأنبياء ، والرسل ، وبعثهم لإنذار الناس.

... وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ لا يخلو من تأييد لذلك ، ويكون تعليلا له . والمعنى : إنا أنزلناه أمرا من عندنا ؛ لأن سنتنا الجارية : إرسال الأنبياء ، والرسل .

قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي : إنزاله رحمة من ربك ، أو أنزلناه ؛ لأجل إفاضة الرحمة على الناس ، أو لاقتضاء رحمة ربك ، إنزاله . فقوله : ورَحْمَةٌ ل_﴿رَحْمَةٌ﴾ حال على المعنى الأول ، ومفعول له ، على الثاني ، والثالث . وفي قوله : ﴿من رَبِّكَ﴾ التفات من التكلم مع الغير ، إلى الغيبة ، ووجهه إظهار العناية بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن ، وهو المنذر المرسل إلى الناس».

الزمخشري(2):

« فإن قلت : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ بم يتعلق ؟

قلت : يجوز أن يكون بدلا ، من قوله - ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ - و ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ مفعولا

ص: 128


1- الميزان : 18 : 131 - 133 .
2- الكشاف : 501:3 .

له ، على معنى : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن من شأننا ، إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا ؛ لأجل الرحمة عليهم ، وأن يكون تعليلا ل_﴿إيُفْرَقُ﴾، أو لقوله : ﴿إأمْراً من عندنا﴾ و ﴿إرَحْمَةً﴾ مفعولا به. وقد وصف الرحمة بالإرسال ، كما وصفها به ، في قوله تعالى ﴿إوَمَا يُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ لَهُ من بعده﴾ [فاطر : 2] أي يفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا ، وفصل كل أمر ، من قسمة الأرزاق ، وغيرها ، من باب الرحمة ، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا ؛ لأن الغرض في تكليف العباد ، تعريضهم للمنافع ، والأصل : إنا كنا مرسلين رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، إيذانا بأن الربوبية تقتضى الرحمة على المربوبين»

الآلوسى(1):

وقوله تعالى : ﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ لاستئناف يبين المقتضى للإنزال ، وقوله تعالى : ﴿فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ : استئناف - أيضا - لبيان التخصيص بالليلة المباركة ، فكأنه قيل : أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار ، والتحذير من العقاب ، وكان إنزاله في تلك الليلة المباركة ؛ لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة ، وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ، ففي الكلام لف ونشر ، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين ، مما لا داعي إليه ، وقيل : إن جملة : ﴿فيها يُفْرَقُ﴾ ... الخ ، صفة أخرى لليلة ، وما بينهما اعتراض ، لا يضر الفصل به ، بل لا يعد الفصل به فصلا ...

والمراد بالعندية ، أنه على وفق الحكمة ، والتدبير . أي : أعني - بهذا الأمر – أمرا فخيما ، حاصلا على مقتضى حكمتنا ، وتدبيرنا . وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه ، وجوز كونه حالا ، من ، ضمير أمر السابق المستتر في حكيم ، الواقع صفة له ، أو من ﴿أمْراً﴾ نفسه ، وصح مجيء الحال منه ، مع أنه نكرة ؛ لتخصصه بالوصف ، على إن عموم النكرة، المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف. وقول السمين : إن فيه القول بالحال ، من المضاف إليه ، في غير

ص: 129


1- روح المعاني : 25 : 112 - 113.

المواضع المذكورة في النحو ، صادر عن نظر ضعيف ؛ لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه ، بأن يقال : يفرق أمر حكيم ، على إرادة عموم النكرة ، في الإثبات ، كما في قوله تعالى : ﴿عَلَمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير : 14] وقيل : حال من : ﴿كُلُّ﴾. وأيا ما كان ، فهو مغاير لذي الحال ؛ لوصفه بقوله تعالى : ﴿من عندنا﴾ له فيصح وقوعه حالا ، من غير لغوية فيه .

مِّنْ وكونها مؤكدة ، غير متأت مع الوصفية - كما لا يخفى على ذي الذهن السليم . وهو على هذه الأوجه ، واحد الأمور . وجوز أن يراد به الأمر ، الذي هو ضد النهي ، على أنه واحد الأوامر ، فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية ، لفعل مضمر من لفظه ، أي : أمرنا أمرا من عندنا . والجملة بيان لقوله سبحانه : ﴿يُفْرَقُ﴾ ... الخ . وقيل : إما أن يكون نصبا على المصدرية ل_﴿يُفْرَقُ﴾ لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه ، وكذلك أمره - عز وجل – به ، كأنه قيل : يؤمر بكل شأن مطلوب - على وجه الحكمة - أمرا ، فالأمر وضع موضع الفرقان ، المستعمل بمعنى الأمر . وإما أن يكون على الحالية من فاعل ﴿أنزَلْنَاهُ﴾ أو مفعوله ، أي : إنا أنزلناه آمرين أمرا ، أو حال كون الكتاب أمرا ، يجب أن يفعل ، وفي جعل الكتاب نفس الأمر ؛ لاشتماله عليه – أيضا – تجوز فيه فخامة . وتعقب ذلك في (الكشاف) فقال : فيه ضعف ، للفصل بالجملتين ، بين الحال ، وصاحبها ، على الثاني ، ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى ، بتلك الليلة ، على الأول . ووجهه : أن تخص بالقرآن ، ولا يجعل قوله تعالى : ﴿فيهَا يُفْرَقُ﴾ علة للإنزال في الليلة ، بل هو تفصيل لما أجمل ، في قوله سبحانه : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ [الدخان : 3] على معنى فيها أنزل الكتاب المبين ، الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة ، ولا يخفى أن فى فهمه من الآية تكلفا . وقال الخفاجي في أمر الفصل : إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض ، وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي . وجوز بعضهم على تقدير أن يراد بالأمر ضد النهي كونه مفعولا له والعامل فيه : ﴿يُفْرَق﴾ أو ﴿أنزلنا﴾ كم أو ﴿مُنذرين﴾ . وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما : ﴿أمر﴾

ص: 130

بالرفع ، وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه فيها ؛ وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ . ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ تعليل ل_﴿ يُفْرَقُ﴾ أو لقوله تعالى : ﴿أَمْراً مِّنْ عِندِنَا﴾ و ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول به ل_﴿مُرْسلين﴾ وتنوينها للتفخيم ، والجار والمجرور ، في موضع الصفة لها ، وإيقاع الإرسال عليها - هنا - كإيقاعه عليها في قوله سبحانه : ﴿مَا يَفْتَح الله للنَّاسِ مِن رَّحْمَة فَلا مُمْسكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ [فاطر : 2] والمعنى - على ما في «الكشاف » - [يفصل في 2] هذه الليلة كل أمر ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا ، وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي إن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع ، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه : أمرا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية . وفي «الكشاف» : إن قوله : يفصل ... الخ ، أو تصدر الأوامر ... الخ ، تبيين لمعنى التعليل ، على التفسيرين في ﴿يُفْرَقُ﴾ ؛ لأنه أما بمعنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها ، أو بمعنى يؤمر ، والشأن المطلوب يكون مأمورا به لا محالة ، فحاصله يرجع إلى قوله : أو تصدر الأوامر من عندنا ، لا لوجهي التعليل من تعلقه ب_ ﴿يُفْرَقُ﴾ أو ب_﴿أمراً﴾ فإن تعلقه ب_﴿أمرا﴾ إنما يصح إذا نصب على الاختصاص، وإذ ذاك ليس الأمر ما يقابل النهي ؛ لأن الأمر إذا كان المقابل ، فهو إما مصدر ، وإنما يعلل فعله ، وإما حال مؤكدة ، فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال المخصوص ، وليس المقصود ، وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه ب_﴿أَمْراً﴾ ؛ لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له - أيضا - انتهى . والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث ، كما يعرف بالتأمل ، واعتبار العادة في بيان المعنى ، جاء من : ﴿كُنا﴾ فإنه يقال : كان يفعل كذا ، لما تكرر وقوعه ، وصار عادة ، كما صرحوا به في الكتب الحديثية ، وغيرها ، ولإفادة ذلك عدل عن : (إنا مرسلون) الأخصر

ص: 131

الشيخ الطوسي (رحمه الله علیه)(1):

وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ إخبار منه تعالى : إنه يرسل الرسل ، ﴿رَحْمَة﴾ أي : نعمة . ونصبه على المصدر ، واختار الأخفش ، النصب على الحال . أي : أنزلناه آمرین راحمين . ويجوز . أن يكون نصبا ، على أنه مفعول له ، أي : أنزلناه للرحمة . وسميت النعمة رحمة ؛ لأنها بمنزلة ما يبعث على فعله ، رقة القلب على صاحبه ، ومع داعي الحكمة إلى الإحسان إليه ، يؤكد أمره» . (انتهى) .

أقول : قوله : يرسل الرسل ﴿رَحْمَة﴾ . هو ، لسان تعليل لمن تأمل . ولا نغفل إن قوله : أنزلناه للرحمة هو تعليل للإنزال بالرحمة وهذا من أهم التعليلات . وقد قلنا إن المصدر هنا قد يكون مشيرا إلى التعليل بشكل آخر.

الشيخ الطبرسي(2):

«وقوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمرٍ حَكِيمٍ﴾ جملتان مستأنفتان ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم ، كأنه قيل : إنا أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار ، وأنزلناه في هذه الليلة خصوصا ؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم . ﴿أَمْراً مِّنْ عندنا﴾ نصب على الاختصاص ، أي : أعني أمرا حاصلا من عندنا ، على ما اقتضته حكمتنا وتدبيرنا . ويجوز أن يراد به الأمر ، ضد النهي ، فوضع موضعَ مصدر ﴿يُفْرَقُ﴾ من حيث إن الأمر ، والفرقان واحد ؛ لأن من حكم بالشيء ، وكتبه فقد أمر به وأوجبه . أو : جعل حالا من أحد الضميرين في ﴿أنزلناه﴾ أي : أنزلناه في حال كونه أمرا ، بما يجب أن يفعل ، أو أنزلناه آمرين. ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ يجوز أن يكون بدلا من : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ و ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ مفعول له ، والمعنى : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا ؛ لأجل . الرحمة عليهم ، وأن يكون تعليلا ل_ ﴿يُفْرَقُ﴾ أو : لقوله : ﴿أمْراً مِّنْ عندنا﴾ و ﴿رَحْمَةً﴾

ص: 132


1- التبيان : 9 : 224 .
2- تفسير جوامع الجامع : 3 : 320 - 321 .

مفعولا به . أي : يفرق في هذه الليلة كل أمر ، أو : تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا ، وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة ، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وجل ؛ لأن الغرض من تكليف العباد تعريضهم للمنافع ، والأصل : إنا كنا مرسلين رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين . ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ﴾ وما بعده تحقيق لربوبيته وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه» .

الشيخ الطبرسي(1):

«الإعراب : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ جواب القسم ، دون قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾؛ لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه . فإن القسم تأكيد خبر بخبر آخر ، فقوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة﴾ اعتراض بين القسم وجوابه . ﴿أمراً من عندنا﴾ في انتصابه وجهان ، أحدهما : أن يكون نصبا على الحال ، وتقديره : إنا أنزلناه آمرين أمرا ، كما يقال : جاء فلان مشيا وركضا ، أي : ماشيا وراكضا وعلى هذا فيكون مصدرا موضوعا موضع الحال ، وهذا اختيار الأخفش . ويجوز أن يكون تقديره ذا أمر ، فحذف المضاف كما قال : ﴿وَلَكنَّ الْبرَّ﴾ بمعنى ذا البر ، والثاني : أن يكون منصوبا على المصدر ، لأن معنى قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ﴾ فيها يؤمر ، قد دل يفرق على يؤمر . وقوله : ﴿ورَحْمَةٌ﴾ منصوب على أنه مفعول له ، أي : أنزلناه للرحمة . وقال الأخفش : هو منصوب على الحال أي راحمين رحمة .

السيد عبد الله شبر(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ فلذا أنزلناه ﴿فِيهَا يُفْرَق﴾ يفصل ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ محكم أو ذي حكمة أمراً ، حالا من أمر ؛ لأنه موصوف ، أو من ضميره في حكيم ، ﴿مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب» .

ص: 133


1- تفسیر مجمع البيان : 9 : 102 .
2- تفسیر شبر : شرح 464 .

الشيخ جعفر السبحاني(1):

«حلف سبحانه بالكتاب مرتين ، وقال : ﴿حم * والكتاب المُبين * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 1 - 3] . ﴿حم * والكتاب المبين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف : 1 - 3] ... فالمقسم به هو الكتاب ، والمقسم عليه في الآية الأولى قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة﴾، والصلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنه منزل من﴾ جانبه - سبحانه - في ليلة مباركة. كما إن المقسم به في الآية الثانية ، هو الكتاب المبين والمقسم عليه هو الحلف على أنه سبحانه جعله قرآنا عربيا للتعقل ، والصلة بينهما واضحة ووصف الكتاب بالمبين ، دون غيره ؛ لأن الغاية من نزول الكتاب ، هو إنذارهم وتعقلهم كما جاء في الآيتين ، حيث قال : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ وقال : ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ، وهذا النوع من الغاية أى الإنذار والتعقل يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحا مفهوما لا مجهولا ومعقدا».

البغوي(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ محمدا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء ، ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ قال ابن عباس : رأفة مني بخلقي ونعمتي عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل وقال الزجاج أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة» .

النسفي(3):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ هما جملتان مستأنفتان ، ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم كأنه قيل أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار

ص: 134


1- الأقسام في القرآن الكريم : 67 - 71.
2- تفسير البغوي : 4 - 149 .
3- تفسير النسفي : 4 : 122 - 123 .

والتحذير من العقاب ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمية ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ، ومعنى يفرق : يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وجميع أمورهم ، من هذه الليلة إلى ليلة القدر ، التي تجيء في السنة المقبلة ﴿حكيم﴾ ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الحكم صفة صاحب الأمر ، على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجازا . أَمْراً مِّنْ عندنا له نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر جزلا فخما ، بأن وصفة بالحكيم ، ثم زاده جزالة وفخامة ، بأن قال : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ بدل من إنا كنا منذرين . ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ مفعول له على معنى إنا أنزلنا القرآن ؛ لان شأننا

من وعادتنا إرسال الرسل بالكتب ، إلى عبادنا ؛ لأجل الرحمة عليهم ، أو تعليل لقوله : ﴿أمْراً من عندنَا﴾ و ﴿رَحْمَةٌ﴾ مفعول به ، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله : ﴿وَمَا يُمْسِكَ فَلا مُرْسَلَ لَهُ من بَعْده﴾ [فاطر : 2] والأصل : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين» .

الرازي (1):

أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ يعني يعنى الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم إلا به ، وأما بيان إن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران : أحدهما : أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم ، والثاني : إن ذلك الأمر الحكيم مخصوصا بشرف أنه إنما يطهر من عنده ، وإليه الإشارة بقوله ﴿أَمْراً مِّنْ عندنا﴾ » ...

«ثم قال : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ يعني : إنا إنما فعلنا ذلك الإنذار ؛ لأجل إنا كنا مرسلين يعني الأنبياء . ثم قال : ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ أي للرحمة فهي نصب على أن يكون مفعولا له .

ص: 135


1- التفسير الكبير : 27 : 239 - 241 .

ابن العربي(1):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ تامة كاملة على العالمين ، بإنزاله ؛ لاستقامة أمورهم الدينية ، والدنيوية ، وصلاح معاشهم ، ومعادهم ، وظهور الخير ، والكمال ، والبركة ، والرشاد فيهم ، بسببه ، أو مرسلين إياك لرحمة كاملة شاملة عليهم».

البيضاوي(2):

﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ القرآن . والواو للعطف إن كان ﴿حم﴾ مقسما به . وإلا فللقسم ، والجواب قوله : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة﴾ ليلة القدر . أو البراءة ، ابتدأ فيها إنزاله ، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا ، من اللوح المحفوظ ، ثم أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، نجوما ، وبركتها ، لذلك فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية . ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ : استئناف يبين المقتضى للإنزال ، وكذلك قوله : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمِ﴾ فإن كونها مفرق الأمور المحكمة ، أو الملتبسة بالحكمة ، يستدعي أن ينزل فيها القرآن ، الذي هو من عظائمها .

وفيه أيضا : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ * رَحْمَةً مِّن رَبِّكَ﴾ بدل من ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ أي : أنزلنا القرآن ؛ لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد ؛ لأجل الرحمة عليهم . وضع الرب موضع الضمير ؛ للإشعار بأن الربوبية اقتضت ذلك فإنه أعظم أنواع التربية ، أو علة ب_﴿يُفْرَقُ﴾ أو ﴿أمْراً﴾. و ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول به. أي : يفصل فيها كل أمر ، أو تصدر الأوامر ﴿من عندنا﴾؛ لأن من شأننا ان نرسل رحمتنا ، فإن فصل كل أمر ، من قسمة الأرزاق وغيرها ، وصدور الأوامر الإلهية ، من باب الرحمة . وقريء : ﴿رَحْمَة﴾(3) على تلك رحمة .

ص: 136


1- تفسير ابن عربي : 2 : 231
2- تفسير البيضاوي : 5 : 157 - 160 .
3- مرفوعة ، على إنها خبر . وتقدير الجملة : تلك رحمة .

﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ يسمع أقوال العباد ، ويعلم أحوالهم ، وهو بما بعده تحقيق لربوبيته ؛ فإنها لا تحق إلا لمن هذه صفاته .

أبو حيان الأندلسي(1):

«والمعنى على هذا : أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا».

أبي السعود(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ استئناف مبين لما يقضى الإنزال ، كأنه قيل إنا أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار ، والتحذير من العقاب . وقيل جواب للقسم ، وقوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ ... الخ ، اعتراض ، وقيل جواب ثان ، بغير عاطف . ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ استئناف ، كما قبله ، فإن كونها مفرق الأمور المحكمة ، أو الملتبسة بالحكمة الموافقة لها ، يستدعى أن ينزل فيها القرآن ، الذي هو من عظائمها ، وقيل صفة أخرى لليلة ، وما بينهما اعتراض ، وهذا يدل على أنها ليلة القدر ، ومعنى يفرق : أنه يكتب ، ويفصل ، كل أمر حكيم ، من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وجمع أمورهم ، من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة .

وفيه أيضا : ﴿أمْراً مِّنْ عندنا﴾ نصب على الاختصاص. أي : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، على مقتضى حكمتنا ، وهو بيان لفخامة الإضافية ، بعد بيان فخامته الذاتية ، ويجوز كونه حالا من كل أمر ؛ لتخصيصه بالوصف ، أو من ضميره في حكيم ، وقد جوز أن يراد به مقابل النهي ، ويجعل مصدرا مؤكدا ليفرق ؛ لاتحاد الأمر والفرقان في المعنى ، أو لفعله المضمر ، لما أن الفرق به ، أو حالا منا ، أحد ضميري أنزلناه أي آمرين، أو مأمورا به . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ بدل من إنا كنا منذرين ، وقيل جواب ثالث ، وقيل مستأنف . وقوله تعالى ﴿رَحْمَةً مِّن رَبِّكَ﴾ غاية

ص: 137


1- تفسير البحر المحيط : 8 : 35 .
2- تفسير أبي السعود : 8 : 58 - 60 .

للإرسال ، متأخرة عنه ، على إن المراد بها ، الرحمة ، الواصلة إلى العبد . باعث متقدم عليه . على إن المراد مبدؤها ، أي : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب ، إلى العباد ؛ لأجل إفاضة رحمتنا عليهم ، أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ، ووضع الرب موضع الضمير ، الإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية مقتضياتها ، وإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - لتشريفه ، أو تعليل ليفرق ، أو لقوله تعالى : ﴿أَمْراً﴾ على إن قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول للإرسال ، كما في قوله تعالى : ﴿وَمَا يُمْسك فَلا مُرْسَلَ لَهُ﴾ [فاطر : 2] أي : يفرق فيها كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأن من عادتنا إرسال رحمتنا ، ولا ريب في إن کلا من قسمة الأرزاق ، وغيرها ، والأوامر الصادرة منه تعالى ، من باب الرحمة ، فإن الغاية لتكليف العباد ، تعريضهم للمنافع ، وقريء : ﴿رَحْمَة﴾ بالرفع . أي : تلك رحمة . وقوله تعالى : ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ﴾ تحقيق الربوبيته تعالى، وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته» .

الشوكاني(1):

﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ هذه الجملة ، إما بدل من قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ أو جواب ثالث للقسم ، أو مستأنفة . قال الرازي : المعنى : إنا فعلنا ذلك الإنذار ؛ لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء . ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ انتصاب رحمة على العلة . أي : أنزلناه للرحمة».

عبد الرحمن بن ناصر السعدي(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ ﴿وفيها﴾ أي : في تلك الليلة الفاضلة التي نزل فيها القرآن ، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ أي : يفصل ويميز ، ويكتب كل أمر قدري ، وشرعي ، حكم الله به.

وفيه أيضا : ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي : إن إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، التي أفضلها

ص: 138


1- فتح القدير : 4 : 570 - 571.
2- تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان : 771 - 773.

القرآن . رحمة من رب العباد بالعباد ، فما رحم الله عباده برحمة ، أجل من هدايتهم بالكتب، والرسل . وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة ، فإنه من أجل ذلك وسببه» .

الواحدي(1):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ محذرين عبادنا العقوبة ، بإنزال الكتاب . ﴿فيهَا يُفْرَقُ﴾ يفصل ، ﴿كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ محكم ، من أرزاق العباد ، وآجالهم ، وذلك أنه يدبر في تلك الليلة أمر السنة . ﴿أمراً من عندنا﴾ معناه : يفرق كل أمر حكيم ، فرقا من عندنا ، فوضع الأمر موضع الفرق ؛ لأنه أمر . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ محمدا إلى قومه ﴿رَحْمَة﴾ أي : للرحمة» .

أقول : أبعد هذه النصوص يمكن الشك في وجود التعليل في الآيات ؟

القسم الثاني:

نصوص يفهم منها التعليل من دون تصريح :

الشيخ الطبرسي (رحمه الله علیه)(2):

﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ محمدا إلى عبادنا ، كمن كان قبله من الأنبياء . ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي : رأفة منا بخلقنا ، ونعمة منا عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل . عن ابن عباس».

أقول : الباء – هنا – باء تعليل ، أي : بسبب بعثنا الرسل فقد أنعمنا عليهم . فالنص أقرب للقسم للأول ، ولكن لإيراد التعليل معكوسا ، وضعته في القسم الثاني ، فهو لم يقل : إن إرسال الرسل للرحمة ، وإنما فسره : بأن الرحمة هي بسبب إرسال الرسل .

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(3):

«أما ما هو الهدف الأساس من نزوله ؟ نهاية الآية أشارت إليه ، إذ قالت : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾

ص: 139


1- تفسير الواحدي : 2 : 981 - 982 .
2- تفسير مجمع البيان : 9 : 103 - 104.
3- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 16 : 118 - 119 .

فإن سنتنا الدائمة هي إرسال الرسل لإنذار الظالمين والمشركين ، وكان إرسال نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله و سلم) بهذا الكتاب المبين ، آخر حلقة من هذه السلسلة المباركة المقدسة . صحيح أن الأنبياء (علیهم السّلام) ينذرون من جانب ، ويبشرون من جانب آخر، لكن لما كان أساس دعوتهم ، هو مواجهة الظالمين ، والمجرمين ، ومحاربتهم ، كان أغلب كلامهم ، عن الإنذار ، والتخويف» .

أقول : السنة - هنا - هي القانون التعليلي للكون . ويقصد بها - هنا – الالتزام بإنذار الظالمين ، قبل عقوبتهم ؛ لأنه لا عقوبة ، إلا ببيان .

ابن كثير(1):

«وقوله عز وجل : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ أي : معلمين الناس ، ما ينفعهم ويضرهم شرعا ؛ لتقوم حجة الله على عباده.

وفيه أيضا : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ أي : إلى الناس رسولا ، يتلو عليهم آيات الله ، مبينات ، فإن الحاجة كانت ماسة إليه ، ولهذا قال تعالى ﴿رَحْمَةٌ مِنْ رَبَّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾».

أقول : قوله : «لتقوم حجة الله على عباده» أي : جعلها علة للحجة على العباد . فالله سبحانه حين يعاقب ، يعاقب بحجة ، ودليل ، وهو البيان . فلا عقوبة إلا بالبيان ، وهو الحجة ، والعلة لتلك الحجة ، وسيأتي بيان ذلك.

القسم الثالث :

نصوص خالية من التعليل :

مقاتل بن سلیمان(2):

يقول الله تعالى : ﴿أمْراً من عندنا﴾ يقول : كان أمرا منا ﴿إنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ يعني : منزلين هذا القرآن . أنزلناه ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ لمن آمن به ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لقولهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ به» .

ص: 140


1- تفسير ابن كثير : 4 : 148 .
2- تفسير مقاتل بن سليمان : 3 : 201 - 202 .

أقول : هذا النص ، ساكت عن التعليل.

أبو الليث السمرقندي(1):

قوله عز وجل : ﴿أَمْراً مِّنْ عندنا﴾ يعني : قضاء من عندنا ، ويقال معناه : بأمر من عندنا ، فنزع حرف الخافض ، فصار نصبا . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ يعني : الرسل إلى الخلق ، ويقال يعني الملائكة ، في تلك الليلة : ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ تعالى . ويقال إنزال الملائكة ، رحمة من الله تعالى ، ويقال الرسالة رحمة من الله تعالى ، ويقال هذا القرآن رحمة لمن آمن به» .

أقول : هذا النص ، يحتمل التعليل احتمالا ضعيفا ، يجعله في عداد الساكت عن التعليل .

أبي عبد الله محمد بن عبد بن أبي زمنين(2):

« ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ العباد من النار ، ﴿فيها﴾ يعني : ليلة القدر ﴿يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ أي : يفصل . قال الحسن : ما يريد الله أن ينزل من الوحي ، وينفذ من الأمور في سمائه ، وأرضه ، وخلقه تلك السنة ، ينزله في ليلة القدر ، إلى سمائه ، ثم ينزله في الأيام والليالي ، على قدر ، حتى يحول الحول من تلك الليلة . قوله : ﴿أَمْراً مِّنْ عندنَا * إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ الرسل إلى العباد ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ ... الآية . قال محمد : قوله : ﴿أمراً﴾ منصوب على الحال . المعنى : إنا أنزلناه آمرين أمرا . وقوله : ﴿رَحْمَةً مِّن رَبَّكَ﴾ أي : أنزلناه رحمة».

أقول : هذا النص ، ساكت عن التعليل أيضا .

السمعاني(3):

وقوله : ﴿إأمْراً مِّنْ عندنا﴾ نصب على المصدر ، كأنه قال : يفرق فرقا ، ثم وضع أمرا مكان قوله : فرقا . وقوله : ﴿من عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ أي : منزلين هذه الأشياء . قوله تعالى : ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي : إنزال القرآن رحمة من ربك».

ص: 141


1- تفسير السمرقندي : 3 : 254.
2- تفسیر ابن زمنين : 4 : 198 - 200 .
3- تفسير السمعاني : 5 : 121 - 122 .

أقول : هذا النص - كذلك - يسكت عن التعليل .

الفيروز آبادي(1):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ إنا كنا مخوفين بالقرآن . ﴿فيها﴾ في ليلة القدر ﴿يُفْرَقُ﴾ يبين ، ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم﴾ كائن من سنة إلى سنة ﴿أمْراً مِّنْ عِندِنَا﴾ بيانا منا ، نبين لجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، ما هم موكلون عليه من سنة إلى سنة ، ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ﴾ الرسل بالكتب ، ﴿رَحْمَة﴾ نعمة ، ﴿مِّن رَبَّكَ﴾ على عباده ، إرساله الرسل بالكتب».

أقول : هذا النص ساكت عن التعليل .

المحلي ، السيوطي(2):

﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ مخوفين به. ﴿فيها﴾ أي : في ليلة القدر ، أو ليلة النصف من شعبان ﴿يُفْرَق﴾ يفصل ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ محكم ، من الأرزاق ، والآجال ، وغيرهما ، التي تكون في السنة إلى مثل تلك الليلة . ﴿أمراً﴾ فرقا ، ﴿من عندنا * إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ الرسل ، محمدا ، ومن قبله . ﴿رَحْمَة﴾ رأفة بالمرسل إليهم».

أقول : هذا النص - كذلك - ساكت عن التعليل .

ص: 142


1- تنوير المقباس من تفسیر ابن عباس : 417 .
2- تفسير الجلالين : 656 - 659 .

ملحق

قاعدة قبح العقاب بلا بيان

الدليل العقلي

حين نطالعتهم من يتهمون الإمامية بالقبائح - كما يتصورون - نراهم يقولون في بعضها عن الشيعة الإمامية : «وأنهم يقولون بعدم خلو الأرض من حجة ، يحتج به الله على عباده ، وأن أئمة أهل البيت هم حجة الله على عباده عندهم ، ويسمون واحدهم الحجة»(1). بسياق يدل على أن

ص: 143


1- نجد - مثلا - في موقع : (طريق الإسلام السلفي) نبذة عن الشيعة الإمامية والتعريف بهم جاء فيه : «الغيبة : يرون أن الزمان لا يخلو من حجة الله ، عقلاً وشرعاً ، ويترتب على ذلك : إن الإمام الثاني عشر ، قد غاب في سردابه ، كما زعموا ، وأن له غيبة صغرى ، وغيبة كبرى ، وهذا من أساطيرهم» . وأنت ترى ، إن في الكلام خلطا ، وكذبا . يكاد يكون بالجملة في سطرين ، فلا عدم خلو الأرض من حجة ، أساطير شيعية ، وإنما هو دليل قرآني وعقلي . ولا يترتب على ذلك الغيبة في السرداب . وليست الغيبة مترتبة عن ذلك ، بالشكل الذي صوروه ، وإنما لكون الإمام ، آخر الأئمة الإثني عشر ، شاء الله تعالى ، أن يطيل عمره ، لزمن لا يعلمه إلا الله ، وغيبته أمر آخر ، بيد الله . ولا يدعي الشيعة إن غيبة الإمام ، كانت في سرداب أبيه ، فكل هذا الكلام ترتيب تبرعي من عندهم . ولم يَصْدُقُوا إلا في قول الشيعة : بعدم خلو الأرض من حجة . وقد وقع في تقرير ، لموقع (فيصل نور) تعريف للشيعة ، والإمامة ، فنقل عن العلامة الحلي : «فهو يجعل من لم يؤمن بأئمتهم ، أشد كفرًا من اليهود والنصارى . وقد بنى ذلك على أن الزمان ، لا يخلو من إمام . وهو إشارة إلى عقيدتهم ، بالإيمان بوجود إمامهم ، المنتظر الغائب» . وفي الكلام تصوير خاطيء ، واستهجان لقاعدة أن الزمان لا يخلو من حجة . وكأنه كلام غير المسلمين ، بينما هو من القواعد التي نطق بها القرآن ، والمبنية على قاعدة : قبح العقاب ، بلا بيان . وقاعدة : إن شأن الله - تعالى - إرسال الرسل ، والمبلغين ، في كل وقت ، وبكل أمر .

هذا القول باطل ، بل تراهم يستخفون بقائله ، ويضللونه ، ويكذبون الفكرة ، وكأنها من مقولات الكافرين.

مع إن القول : بأن الله لا يعاقب إلا بحجة ، هو قول قرآني . وإن القول : بأن الله دائم الحجة على خلقه ، هو قول قرآني - أيضا . وإن الله من شأنه - دائما - أن يرسل البيان ، والرسل ، من السماء إلى الأرض ، في كل وقت. وهذه بمجملها مقولات قرآنية ، كما برهن عليه المبحث السابق .

ومع كل هذا ، لا ندري ، ما هو وجه الغرابة في الإيمان ، أو الإقرار بعدم خلو الأرض من حجة ؟

ولكنهم - ومن أجل التشدق والتفلسف في رفض الفكرة - يلجأون إلى علم الكلام فيرفضون - أساسا - القاعدة العقلية المنطقية العقائدية التي تقول ب_(قبح العقاب بلا بيان) ويقولون إنها قاعدة مبنية على القبح ، والحسن ، الذاتيين . ولأن هذا باطل عندهم فالقاعدة – بالتالي باطلة . متناسين أن الشرع الشريف يؤيد هذه النظرية بآيات ونصوص شريفة غير قابلة للجدل ، ومتجاهلين ما يقولون به في باب : (حكم الأطفال) حيث يقولون : إنهم لا تكليف عليهم ؛ لعدم تعقلهم للبيان . فلا تجوز عقوبتهم . وقد قال الله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . فهم في ذلك ، كمن يقعد القواعد ، ثم يكون أول من يخرقها ، حيث ينسون أحكامهم في الشرع ، ويتجاهلون ما يستدلون به من القرآن عليها ، وهي – في واقع الأمر – ذات الأدلة التي توصل دون كثير عناء ، وطول أخذ ورد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان .

وهم - بعد ذلك - حين يتناولون الدليل العقلي ، يخلطون على الناس ، متعمدين ، بين ما هو منتج ، وبين ما هو غير منتج . وحين يناقشون في الدليل العقلي ، يخلطون بين موضع النزاع ، وبين ما لا خلاف فيه ، فيصورونه على انه هو موضع النزاع . وهذا بسبب عدم معرفتهم الحقيقية ،

ص: 144

بالخلاف العلمي ، وبدليل العقل نفسه ، ومتى يكون موردا للخلاف ، ومتى يكون منتجاً ، بلا خلاف . وفي سبيل ذلك ، لا بد لنا أن نفهم ، ما هو الدليل العقلي ؟ ومتى ينتج ؟ ومتى نختلف فيه ؟ وعلينا أن نستفيد - أولا - من الفهرسة التالية :

أولا : العقل العملي ومؤداه :

هذه فهرسة ضرورية، نقلت أغلبها من كتابنا (الإسلاميون والدستور) وقد أضفت لها بعض التوضيح ؛ لبيان المشكلة ، التي لا يفهمها الكثير من الناس ، في هذا المقام :

العقل : كقوة مودعة في الإنسان - على اختلاف تفاسیره ، وتعاريفه - لا شك في إنها تدور ، على قابلية الإدراك ، والتمييز ، والتذكر ، والكشف ، عن كل ما يتعلق به ، من المدركات النظرية ، والعملية . وعليه ، فلا داعي للدخول فيما دخل فيه المحققون ، من تعريف العقل ؛ لأن المهم . عندنا ، أنواع مدركاته ، ومساحة قابليته ، لهذه المدركات.

والمتفق عليه منه ، هو إدراك الكليات ، أما الجزئيات - من محسوس ، وغيره - فلا تدخل في محل النزاع ، إذ لا خلاف في إدراكها ، ولا خلاف في إنها لا تنتج حكما بنفسها . ولهذا ، لا يشتبهن أحد ، إذا ورد عنده لفظ العقل في مبحث الأدلة ، فيعتقد أنه يشمل الجزئي – خارجياً كان أو ذهنياً .(1)

وقد قسموا قابليات العقل ، وأسموها العقل - تنزلا ؛ لأن قسما من التقسيم ، يختص بالمعلوم ، وليس بالقابلية . ولكن يحسن الجري مجراهم ، وعدم اللجاجة ، وتسميتها بأقسام العقل :

ص: 145


1- كثيرا ما يناقش الرافضون لمبدأ العدل من أجل إسقاط نظرية التحسين والتقبيح العقلي بالقدرة على الخدع البصرية والحسية فيكون العقل غير مؤهل للحكم عندهم ، وهذا خروج عن الموضوع وذلك أولا : لأن استلالهم هو بالمواضيع الخارجية ، وهذا لا يصح البحث فيه وهو خارج عن البحث . والثاني إن الخدع الحسية لا تنفي الإدراك وإنما تثبت الإدراك ، ولكن هناك حدودا معينة يمكن لأدوات الحس أن تخطأ فيها فلا يعتبر الحس فيها قابلا لإدراك الموضوع الخارجي في تلك الحالة . وهذا ليس له علاقة بحكم العقل في الكليات واحكامه فيها وما يدخل في المدرك وما لا يدخل .

التقسيم الأول :

العقلي النظري : هو إدراك المدركات - كما هي في واقع نفسها - بقطع النظر عما يلحقه مما ينبغي أن يعمل . كما هو في العلوم ، والمعارف، في مقام معرفة واقع المدرك – بالفتح - وأوضح الواضحات في هذا الباب، هو مدركات علم الرياضيات .

العقلي العملي : هو إدراك ما ينبغي (أن يعمل) . ومثاله هل يحسن الأكل ، حين الجوع ، أو يحسن الشكر حين الإنعام ... وهكذا .

التقسيم الثاني :

تقسيم ، يعتمد على درجة ، وقوة حكم العقل . وهو ينقسم إلى عدة أقسام ، بحسب قوة الإدراك :

الإدراك القطعي : هو المؤدي إلى الجزم ، الطارد لاحتمال الخطأ . كعدم اجتماع النقيضين ، أو الضدين .

الإدراك الظني الناقص : وهو الترجيح ، دون الجزم .

التقسيم الثالث :

ينقسم الإدراك القطعي النظري، بحسب المعارف المكتسبة ، إلى :

الضروري ، والمسمى البديهي : وهو الذي يحصل في الذهن، من دون عمليات فكرية ونظر ، بل بمجرد أن يتصور الشيء يحصل عنده الجزم به ، مثل الواحد نصف الاثنين .

النظري ، أو ما يسمى بالكسبي : وهو ما يحصل بالاكتساب ، و إعمال الفكر ، من استنتاج ، واستقراء ، واستدلال ، ووسائل فنية ، للمعالجة الفكرية ، من معالجة لنفس المقدمات ، وترتب للمقدمات ؛ لإنتاج النتائج .

فهنا خمس حالات ، هي :

1 - نظري بديهي. 2 - نظري كسبي قطعي. 3 - نظري ظني .

4 - عملي قطعي . 5 - عملي ظني .

ص: 146

ما معنى الحسن والقبح :

المطلب الأول : المعاني ومحل النزاع :

المعنى الأول : وهو غير داخل في النزاع العلمي :

الحسن ، والقبح ، بمعنى الكمال ، والنقص . كالعلم والجهل ، والكرم والبخل ، والشجاعة والجبن ، فإن هذه صفات كمال ، ونقص ، في النفس . والعقل يدرك ذلك ؛ لأنها أمور قطعية ، ولها واقع خارجي ، من دون حاجة إلى تطابق آراء العقلاء ، من الناحية العلمية ، وهو واقع ثابت للأفعال ، ومتعلقاتها وصفاتها . فالعلم حسن ، والجهل قبيح . وهذا المعنى للحسن والقبح ، عقلي مدرك للعقل ، باستقلال . لا يختلف في ذلك الأشعري ، مع غيره . فهو عقلي عند الأشاعرة .

ملحوظة : لا يدخل في هذا المبحث ، البحث في جزئيات تلك الصفات ، التي تعتبر كمالا للنفس ، أو نقصاً.

المعنى الثاني : وهو غير داخل بالنزاع العلمي أيضاً:

الحسن و القبح ، بمعنى ما يوافق الطبع ، ويخالفه . وهذا المعنى ثابت للأفعال ، ولما يتعلق به من الأعيان . وللصفات ، بلحاظ ميل النفس إلى ما يوافق الغرض ، أو يخالفه ، ولذا يعبر عنها بالمصلحة ، والمفسدة ، عند الفاعل . وهما - بهذا المعنى - ليس لهما واقع خارجي ، بقطع النظر عن المدرك – بالفتح . ولذا يختلفان ، باختلاف الأذواق ، والأغراض . فيقال : الشرب مع العطش حسن ، ومع الارتواء غير حسن ، أو قبيح ، ويقال في المتعلقات : هذا المنظر حسن أو قبيح ؛ لأن النفس ترغب ، أو تشمئز ، حسب الأذواق ، والأغراض . والمرجع کله في ذلك ، إلى اللذة والألم ، وهذا هو معنى المصلحة والمفسدة ، عند الفاعل - كما يشرحها القوشجي في شرح التجريد - وهما ، بهذا المعنى ، عقليان عند الأشاعرة ، وغيرهم ، بلا توقف على بيان المشرع . كما ذكر ذلك الفضل بن روزبهان.(1)

ص: 147


1- أنظر المواقف للأيجي : 324 .

المعنى الثالث : وهو مورد النزاع العلمي :

ومعنى الحسن و القبح فيه ، هو : كون الفعل ، بحيث يستحق فاعله المدح ، أو الذم ، وهما بهذا المعنى ، يقعان وصفا للأفعال الاختيارية فقط ، عند العقلاء . بمعنى ، إن عقل الكل ، يدرك المدح على الحسن ، والذم على القبح . وهذا هو الذي أنكره الأشاعرة ، وأثبته العدلية ، من معتزلة ، وشيعة . وهو موطن الكلام والبحث العلمي . والكلام فيه طويل جدا . وقد اختلط كلام العلماء فيه بين الواقع والخيال ، والخطأ والصواب .

وهنا ، نبين تفصيلاً آخر ، في هذا القسم ، الذي هو محل النزاع ، بعد الفراغ من ثبوت إدراك العقل لهما :

1 - إن كان الحسن والقبح ، علة تامة للمدح والذم ، سمي ذاتياً . كحسن العدل ، وقبح الظلم .

2 - إن كان فيه اقتضاء ، إذا لم يوجد المانع ، سمي مقتضياً .

3 - إذا لم يكن شيء من هذين ، فهو لما ينطبق عليه من العنوان . كالحسن والقبح .

والمراد بالعلية ، والاقتضاء - هنا - ليس ما هو مصطلح عليه ، في علم المنطق ، وإنما المقصود ، إن عنوان الممدوح ، أو المذموم ، هو تمام موضوع الحكم ، أو له دخل في موضوعه ، لولا المانع . وليس المراد به التأثير ، والعلية . وليست كل أسباب الإدراك ، في المعنى الأخير ، داخلة في النزاع ، وهنا ، سنبين الأسباب الخمسة ، وما يدخل فيها ، وما يخرج منها :

السبب الأول : قسم منه ، يدخل النزاع العلمي ، وهو : أن يدرك العقل إن هذا الشيء كمال للنفس ، أو نقص لها ، فيدفعه ذلك إلى إدراك ما ينبغي أن يُفعل أو يُترك . وهذا المعنى ، إما أن يكون المدرَك فيه جزئيا ، فهو غير داخل في النزاع ؛ لأن العدلية يقولون : هذا أمر عاطفي ، وليس عقليا . وإما أن يكون كليا ، وهو ما سنبينه في السبب الثاني ؛ لأنهما كليهما محل النزاع .

ص: 148

السبب الثاني : قسم منه يدخل النزاع العلمي ، وهو : أن يدرك ملاءمته للنفس ، أو عدمها ، إما بذاته ، أو بما فيه من نفع ، سواء كان عاماً ، أو خاصاً ، فيدرك حسنه و قبحه تحصيلاً للمصلحة ، أو دفعاً للمفسدة . والسبب الأول ، والثاني ، ينقسمان إلى قسمين ، كما قلنا في الأول :

أولاً : أن يكون الإدراك فيه ، لواقعة جزئية . فيكون الحكم بدافع المصلحة الشخصية ، ولا دخل للعقل بإدراك الجزئيات ، فهذا خارج ما يراد من العقل - المصطلح هنا – وهو أدراك الكليات .

ثانياً : أن يكون إدراكاً لأمر كلي ، وهذا الإدراك يكون بالعقل ، ويستتبع مدحاً ، أو ذماً ، من جميع العقلاء . وهذا هو محل النزاع . وتُسمَّى أحكام العقل هذه : الآراء المحمودة ، وهي من قسم القضايا المشهورات، في علم المنطق ، وتقع في مقابل القضايا الضرورية [وليس كما توهمه قسم من الأشاعرة بدعوى أنها من الضروريات] وليعلم إنه لا واقع خارجي لهذه القضايا ، بغض النظر عن تطابق الآراء على الكمال ، أو الملاءمة للنفس ، لمصلحة عامة . وإنما هي أحكام عقلية على أمر واقع .

السبب الثالث : قسم منه يدخل النزاع العلمي ، وهو : الخلق الإنساني ، كالكرم والشجاعة ، لا بدافع الكمال والملاءمة ، بل لمجرد الخلق . فإن كان في هذا الخلق مصلحة ، أو مفسدة نوعية ، دخل في محل النزاع .

السبب الرابع : لا يدخل في النزاع العلمي ، وهو : الانفعالات النفسية ، من الرحمة والحياء وما يقابلهما ، فالعقلاء يمدحون ، ويذمون على الانفعالات ، ولكن هذا السبب ، غير داخل في النزاع ؛ لأنه لا يحتمل متابعة الشارع المقدس ، في انفعالاتهم . السبب الخامس : لا يدخل في النزاع العلمي ، وهو : العادة الجارية ، من احترام الضيف، ونحوه . والعادات تختلف بحسب الأمكنة ، والأزمنة ، والأشخاص.

هذه هي الفهرسة ، حسب موضوع ، وتقسيمات التحسين ، والتقبيح . ولكن ، ينبغي أن لا نغفل فهرسة التطبيقات ، ولو بشكل مختصر.

ص: 149

ثانيا : العقل النظري :

يواجه العقل النظري عدة قضايا أهمها :

1 – معرفة نفس الحكم الإلهي : وهذا يقول الشيعة عنه : إنه غير ممكن ؛ لأنه خارج وظيفة العقل ، فيما ينبغي أن يعلم . ولهذا لم يجيزوا الاستحسان ، كدليل شرعي ، بينما الأحناف والشافعية ، قالوا به .

2 - معرفة مناط الحكم ، والداعي إليه : وهذا ما لا يختلف من الشيعة اثنان ، على إنه خارج قدرة العقل على الإدراك ؛ فلهذا لم يجوزوا مطلقاً القياس الشرعي . لا المنطقي – باعتباره يبتني على فاقد موضوع ، وهو الدليل الذي ليس بدليل .

3 - معرفة الملازمة بين حكم ، وحكم : وهذا أمر توسع علماء الشيعة فيه ، وفي كيفياته ، وأحكامه . وأثبتوا إن قسماً منها قطعي النتيجة ، وقسماً لا يتصف بذلك . فلا حجة فيه . وهو موضوع شائك . ووضعوا له مباحث كثيرة ، في علم الأصول ، منها : مباحث المستقلات العقلية ، ومباحث غير المستقلات العقلية . وقد كان القدماء ، يلحقون به المفاهيم ، باعتبارها علاقات عقلية ، بين النص ، ومفهومه - مثلاً .

4 - معالجة وظيفة المكلف ، عند فقدان الدليل ، بمستوى العقل النظري . وتنظيم الملازمات . مهمة العقل العملي – إذن : أدراك إن هذا الشيء ، ينبغي فعله ، أو تركه ، على نحو الوضوح العقلي المجمع عليه عند العقلاء . وهو . - كما قلنا كما قلنا - ينحصر ينحصر في القضايا المشهورة ، قسم الآراء المحمودة ، التي يتطابق عليها العقلاء - كافة . وذلك من حيث : هم عقلاء .

وعليه : فإن العقل النظري ، والعقل العملي ، يشتركان في إنتاج الأحكام ، بحسب موازين دقيقة ، ولا يجوز نسبة موضوع إلى موضوع آخر . وليس كلما قيل عنه : أنه (حكم العقل) فهو منتج للنتيجة المطلوبة دائما ، ولا كل حكم للعقل ، مختلف عليه ، ومرفوض قطعيا ، عند الأشاعرة ، كما يتوهم البعض . فبعض أحكام العقل - عندهم - من الضروريات . ولهذا فإن نفي المنكرين منهم لأحكام العقل كلية ، هو جهل بمذهبهم.

ص: 150

وبعد هذه الفهرسة يحسن أن نفصل قليلا :

فالكثير يردد قولهم : «بأنهم لا يقولون بالتحسين والتقبيح الذاتيين أو العقليين» . بل يثير مشاكل موجهة لأهم تطبيق لقضية التحسين والتقبيح ، وهي قضية العدل ، ووجوبه ، والالتزام به . وقد نسي ، أو تناسى إن العدل ، هو مما يقول به كل المسلمين. وإنما الاختلاف، في تفسير العدل ، وتطبيقاته العملية . ولا يستطيع مسلم ، أن ينكر عدل الله ، فهو بنص الكتاب ، والسنة . ومن يكابر ، وينكر فإنما هو ليس بمسلم .

، ممن لا يدري مشكلته ، يحاول أن ينتقد موضوع التحسين والتقبيح ، العقليين . بل قد وما دعا بعض المتعصبين المنكرين إلا العداوات السياسية ، وخضوع بعضهم للسلاطين لتبرير جرائمهم ، والمشاغبة حتى لو أدى ذلك إلى هدم الإسلام ، وهذه القضية من هذا القبيل . فماذا يقولون للمسلمين ، إذا أنكروا عدل الله وقسطه ؟ وهو قائم بالقسط ، ولا يظلم عباده بمثقال ذرة ، كتابه العزيز . والقضية ، قضية منصوصة من الله بكتابه الكريم ، وبأقوال الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو مما تسالم عليه المسلمون . فكيف يُدعى ، بأن العدل الإلهي ، مثل عدم عقاب المطيع ، وثواب العاصي ، مبني - فقط - على قاعدة التحسين العقلي، ولعمري، كأن من يشتم الشيعة ، بأنهم يقولون بعدل الله ، يريد أن يقول بظلم الله ، من دون أن يشعر . والعياذ بالله ، من هكذا خذلان .

وهنا - لا بد أن نبين لجمهور المنزهين ، إن من ينكر الحسن و القبح ، إنما يريد أن يصنع مذهبا فجا ، لا تقبله العقول ، ويستعمل اختلال العقل ؛ لضرب عقل الإنسان الطبيعي ، ويحرك المنظومة الخرافية في عقل الإنسان ، ويستغلها ؛ ليدمر البنية العقلية السليمة من الداخل .

جهل المنكرين لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين :

ويتظاهر الكثير منهم ، أنه يفهم هذه القاعدة ، ويرد عليها ، ولا يقبلها . بينما التحسين العقلي ، لا يرد بمطلقه ، عند الأشاعرة ، وغيرهم . وإنما هناك نقطة خلاف ، دار حولها النزاع ، ونشأت بعد الأشعري بمدة . ولعل السبب ، يعود للنزاعات المذهبية مع المعتزلة ، والشيعة . وسأبين حقيقة الموضوع :

ص: 151

توجد ثلاثة معان للتحسين والتقبيح - عند الجميع بما فيهم الأشاعرة – كما قدمنا وهي كما ذكرها بعض الأشاعرة(1):

الأول : صفة الكمال والنقص يقال : العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع في أن هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأن مدركه العقل ، ولا تعلق له بالشرع . فهو تحسين ، وتقبيح عقلي ، عندنا بلا شك .

الثاني : ملائمة الغرض ومنافرته، وقد يعبر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وذلك أيضا عقلي أي يدركه العقل كالمعنى الأول . مثل شرب الماء مع العطش حسن ، وكذلك يقال منظر الخضرة والحدائق حسن لأنه ملائم لطبع النفس ولذتها . فهذا مما لا شك فيه أنه حسن عقلي عندنا .

الثالث : بمعنى كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح أو الذم . وهذا هو موضع النزاع .

فليس كل معنى من معاني التحسين والتقبيح ، باطل عندهم . حتى يزعمون النفي الكلي بلا فهم . بل إن معنيين منها ، ثابتان عند الجميع عقلا . وإن العقول تدركهما مستقلة.

ص: 152


1- السيد المرعشي : شرح إحقاق الحق : 1 : 274 . وفيه : «قال الفضل بن روزبهان [وهو من أكابر المتكلمين المتعصبين من الأشاعرة] : أقول : الحسن والقبح ، يقال لمعان ثلاثة : الأول : صفة الكمال والنقص ، يقال : العلم حسن ، والجهل قبيح ، ولا نزاع في أن هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأن مدركه العقل ، ولا تعلق له بالشرع . الثاني : ملائمة الغرض ، ومنافرته . وقد يعبر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة ، فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وذلك أيضا عقلي ، أي يدركه العقل ، كالمعنى الأول . الثالث : تعلق المدح والثواب ، بالفعل، عاجلا وآجلا، والذم والعقاب ، كذلك . فما تعلق به المدح في العاجل ، والثواب في الآجل ، يسمى حسنا . وما تعلق به الذم في العاجل ، والعقاب في الآجل قبيحا . وهذا المعنى الثالث ، هو محل النزاع . فهو عند الأشاعرة شرعي ؛ وذلك لأن أفعال العباد كلها ليس شيء منها في نفسه ، بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ، ولا ذم فاعله وعقابه ، وإنما صارت كذلك ، بواسطة أمر الشارع بها ، ونهيه عنها ، وعند المعتزلة ، ومن تابعهم من الإمامية ، عقلي» .

وهناك قسم ثالث مختلف فيه ، حتى بين أهل السنة أنفسهم . وهذا ما لا يفهمه الكثير منهم ، فيدلّس على الناس بأن قاعدة التحسين والتقبيح ، مرفوضة مطلقا في المذهب . وإن القائل بها معتزلي . بينما الأشاعرة يقولون بنوعين من الحسن والقبح العقليين ، ويختلفون في الثالث ، فقسم منهم يقول : لا يقع ، وقسم يقول : يقع .

إن صفة العدل ، هي صفة كمالية الله تبارك وتعالى(1). و لا بد من القول بها – بهذا الاعتبار – ولا يخالف أشعري في ذلك . لأننا نقول : إن صفات الكمال ، يدركها العقل ، قبل الأمر الشرعي . والعدل صفة كمال ، لا يمكن سلبها ، عن الله ؛ لأنه يدخل النقص عليه ، وهذا باطل قطعا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ولا خلاف بين اشعري ، أو عدلي في . ومن اعتقد غير ذلك ، فهو لم يتوفر على التحقيق .

وعلى هذا ، فلا حاجة لدخول صفة العدل ، في محل النزاع ، وهذا اشتباه من الأشاعرة ومخالفيهم ؛ لبحث هذه الصفة ، في القسم الثالث المختلف فيه . فإن هذا القسم ، إنما نختلف فيه في أفعال المخلوقين ، لا في الصفة نفسها ، فكيف إذا كانت الله ، سبحانه من كل نقص . فصفة العدل ، صفة كمال .

ومن أجل بيان إن هذا النزاع ، دخل في باب الكلام الغامض ، بينما هو من أوضح الواضحات . نقول : إن جميع العقول ، تدرك منذ القدم ، وبمعزل عن الشرائع ، إن من يقوم بالظلم مذموم . ومن يعدل ، ويحسن للناس ، ممدوح عند الناس عامة ، بل حتى الحيوانات الضارية ، تفهم هذا ، فإن

ص: 153


1- والصفة المناقضة هي الظلم ، وهي صفة نقص ، يجل الله عنها ، وقد نفى الله عن نفسه الظلم . فقد وصف نفسه بكونه لا يظلم ، قال عز وجل : ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة﴾ [النساء : 40] . وقال تبارك وتعالى ، أيضا : ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾ [يونس : 44] . وقال أيضا : ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف : 49] . وقال أيضا في وصف نفسه انه قائم بالقسط : ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران : 18] .

من يحسن إليها بالطعام ، والمأوى ، تألفه ، وتتروض على يديه . ومن يزجرها ، ويمنعها ، تبتعد عنه ، وتعاديه .

فلو إننا ، رأينا حاكما ظالما ، سالبا للحقوق ، معتديا على المجتمع ، في أي مجتمع كان ، حتى لو كان ذلك المجتمع ، خاليا من الشرائع ، فإن جميع أهل مملكته ، يرون إن ظلمه مذموم ، وكل البشر يرون ذلك فيه ، وهذا يعني : إن البشر ، يدركون معنى الظلم ، أولا ، ويحكمون على ذم الظالم ، ثانيا .

وهذا المعنى ، نفاه بعض الأشاعرة في المحاججات ، وأثبته الآخرون من أهل السنة ، والماتريدية(1) قولا وعملا . [راجع ترجمة أبي منصور الماتريدي]

ص: 154


1- الماتريدية : مجموعة من المقولات والأفكار ، تخالف مقولات الأشاعرة ، فهي بالتالي أشبه بالمذهب الكلامي ، تنسب إلى أبي منصور الماتريدي، محمد بن محمود (وقيل محمد) بن محمود الماتريدي الحنفي السمرقندي، المتوفى في سمرقند سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ، نسبته إلى : (ماتريد) محلة في رقند . متكلم ، وأصولي ، زعيم أصحاب المذهب الماتريدي، الذين هم أغلب الأحناف ، بينما أغلب الشافعية ، والمالكية أشاعرة . نسب إليه علم الحقيقة ، وقد نقل عنه : إنه يقول : إن معرفة الله واجبة بالعقل ، بخلاف الأشاعرة ، الذين يقولون إنها واجبة بالشرع ، وليست بالعقل . انظر : عجائب الآثار للجبرتي : 1 : 412 . وهو القائل : لا تجوز رؤية الله في المنام لغير النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) تمسكا بظاهر النصوص ؛ لعدم إمكان إثبات ، الرؤية ، بالأدلة العقلية . انظر : السيرة الحلبية للحلبي : 2 : 142 ، شرح المواقف للقاضي الجرجاني : 8: 129 ، نخبة اللثالي في شرح بدء المالي للحلبي : 41 . ونقل عنه منعه تجويز تعذيب الله للمطيع عقلا وشرعا ، بخلاف الأشاعرة الذين جوزوه عقلا ، ومنعوه شرعا . كما نسب إليه القول : إن صفات الأفعال كالخلق والرزق قديمة ، بخلاف الأشاعرة . وقوله : بعصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر . و قوله : بصحة إيمان المقلد بخلاف الأشعري . وقوله : بقدرة الشقي أن ينقلب سعيدا ، وبالعكس ، ومنعه الأشعري . وقد اختلف مع الأشعري في تفسير الكسب، حيث نفى الأشعري تأثير العبد في فعل نفسه ، بينما أثبت الماتريدي تأثيرين فيه هما : تأثير العبد في الاتصاف ، وتأثير الله في أصل الفعل ، وحركته . واختلف مع الأشعري في مسألة التكليف بما لا يطاق، فأجازه الأشعري ، ومنعه الماتريدي . وكذلك القول : إن كلام الله النفسي لا يمكن أن يسمع بحال ؛ لأنه ليس بصوت ، وما لم يكن صوتا ، لا يسمع . شرح إحقاق الحق : 1 : 165 ، و : 1 : 311 . ونقلوا عنه أيضا : نقله : إجماع العلماء على إن عليا محق في حربه لأهل الجمل ، وصفين ، وهم مبطلون ، وهذا فيه ما فيه . شرح إحقاق الحق : 31: 355 . وقد نقل الميلاني في نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار : 18 : 53 : عن كمال الدين السهالي الهندي المتوفى 1175 ه_، قول الماتريدي بالقبح والحسن العقليين ، بناء على منع الترجيح بدون مرجح ، وترجيح ثواب عمل دون آخر ، بدون مرجح باطل ، والحكيم سبحانه ، إنما يرجح لعلة في ذاتها ، وليس عبثا . له من الكتب : كتاب وهم المعتزلة . وكتاب تأويلات أهل السنة المسمى بتأويلات الماتريدي ، وكتاب تفسير الماتريدي (تأويلات القرآن) وكتاب الدرر في أصول الدين ، وكتاب العقيدة أو عقيدة الماتريدية ، وكتاب الجدل أو الرد على تهذيب الكعبي في الجدل ، وكتاب المقالات ، وكتاب التوحيد ، وإثبات الصفات ، وكتاب مأخذ الشرائع في أصول الفقه ، وكتاب شرح الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة ، وكتاب الرد على القرامطة ، وكتاب حصص الأتقياء . انظر أيضا : الأعلام للزركلي : 7 : 19 ، معجم : 7 : 19 ، معجم المؤلفين : عمر كحالة : 11 : 300 ، الأنساب للسمعاني : 3: 63 .

وقد قال بعض الأشاعرة المتعصبين : إن العقل ، لا يدرك معنى الظلم ، أولا ، وإن الله لا ينسب إليه الإدراك ، بخلاف نص القرآن ، ثانيا(1) وإن العقل ، لا يمكنه الحكم على الظلم بالذم ، ثالثا .

وهذا من نوع الهرطقات ، التي لا طائل ولا نفع منها .

ما هو الغرض - إذن - من كل هذا الإصرار على إثبات نسبة الظلم الله - تقدست أسماؤه - كما يزعمون ؟

ثم يدعون : إن الظلم نسبي ، وإن الله لا يتصف بالظلم ، لأنه يتصرف في ملكه ، والظلم تصرف في ملك الغير ، فلو عاقب المطيع ، وأثاب العاصي ، لكان عدلا.

إن مثل هذا الكلام ، غير العقلائي ، لا يساوي شيئا عند العقلاء . وهو ينفّر الناس من الإسلام . ولكنه مهم في تبرير جرائم السلاطين الجائرين

ص: 155


1- قال تعالى : ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام : 103] وهذا نقض واضح ، لتشدقهم بأن صفة الإدراك ، لا تكون الله .

فلا يفيدنا ، أن نعتمد رأي بعض المتطرفين السياسيين ، المناهضين للمعتزلة والشيعة ؛ لأجل المناهضة السياسية ، ونترك قرآننا ، وسنة نبينا ، وعقولنا ، من اجل ذلك.

وهل في إثبات ونسبة الظلم لله - جل وعلا - ومن ثم تحريف معنى الظلم ، ما ينفع الإسلام والمسلمين في شيء ؟

وهل ننصر المذهب الأشعري ، أو السني ، بنفي إدراك العقول ، لذم الظلم . وهو مخالف البديهة العقول ؟

لا يبنى على ذلك ، إلا هرطقات ، ومعان ملتوية ، لا قيمة لها . بينما القرآن والسنة ، ضد بعض هذه النتائج ، فما وافق كتاب الله ، وسنة نبيه، والعقل السليم ، نعتمده . وما خالفه من كلام المتفلسفين ، والمتنطعين ، فنتركه ، ولا كرامة .

كان ينبغي - بدلا عن الجواب الغائم ، عن إمكانية ظلم الله ، حيث الإصرار على ظلمه للبشر ، ولكن مع تغيير مسمى الظلم ، إلى عدل ، بدعوى إنه تصرف في ملك الله - أن نتصور أسباب الظلم كما يعرفها العقل . فهو لا يكون إلا بأحد هذه الأسباب ، وكلها منفية عن الله ، وهي :

1 - الجهل بقبح الظلم .

2 - الاحتياج للظلم ، مع العلم بقبحه .

3 - العجز عن القيام بالعدل .

4 - الاستهتار ، والسفاهة ، وعدم الحكمة ، وعدم المبالاة ، بإتيان الأفعال الظالمة ، رغم العلم بقبحها ، ورغم القدرة على القيام بالعدل .

وحاشا لله ، أن يلحقه أحد هذه الأسباب ؛ ليستعمل الظلم . فهو - تعالى - منزه عن الجهل ، والعجز ، وعن الاحتياج ، وما شابه ذلك .

ولهذا ، فإن جميع أفعاله ، توصف بالعدل ، والحكمة . ولا يمكن أن نوافق على وصف الله بالظلم ، أو القابلية له ، فالله غير قابل للنقص ، وهو بالتالي – تعالى عن ذلك وتقدست أسماؤه – غير قابل للظلم .

ص: 156

فالعقل يدرك معنى الظلم . وهذا من بديهيات العقول ، ومن شك في ذلك فعليه ان يقبل شكنا في عقله.

والله ، يدرك المدركات : ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدرك الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام : 103] . والعقل يحكم على الظلم بالقبح ، وعلى العدل، والقسط ، والإحسان ، بالمدح . وهذا لا يختلف فيه عاقلان .

ومن قال : إن العقل ، لا يدرك حسن الأفعال ، ومدح فاعلها ، وإن الأمر ، منوط بالشرع فقط فقد عرّض فكره لإشكال ، لا يمكن الجواب عنه ، حتى بالمغالطة. وذلك ، إذا لم يكن في العقل ، قبح الكذب الضار، وجاز على الله ، أن يكذب ، ويغدر ، ويجازي الإحسان بالسيئة . فإن إخبار الله ، بأنه صادق ، أو بأنه عادل ، لا يثبت ؛ لجواز كذبه ، وغدره - والعياذ بالله - . وهذا قول لازم ، لا مفر منه . ولهذا فإن من قال : بأن لا إدراك للحسن ، إلا بالشرع ، ينفي الحسن حتى من الشرع ؛ لأن الشرع يحتمل فيه الكذب ، وعدم الواقع ، وهذا مما جوزه من قال بهذه المقولة.

ويبدو على المتكلمين المتفلسفين ، أنهم يتظاهرون بكره العقل ، وبقصوره في الإدراك . بينما هم ، يلجأون في محاججاتهم إلى الفذلكات العقلية ، والمغالطات الأرسطية .

فإذا كان العقل ، قاصراً عن إدراك حسن الأفعال ، والحكم عليها بالمدح . فكيف يبني أحكامه ، على الأفعال ، والأعمال ؟ التي هي مدار علم الكلام ، من أي طريق أتيناه .

ولما كان علم الكلام ، يحاول أن يفسر العلاقة بين الله والإنسان ، ويحدد الحق والباطل . فإن هذا ، يستدعي معرفة الصفات ، والأفعال ، والحكم عليها . فإذا كان المنكر ، يرى قصور العقل عن ذلك ، فكيف يقوم عنده علم كلام ، أصلا ؟

إنه مجرد صف للكلمات ، من أجل إقناع من لا يعرف الحقائق ، بأن المدعي عالم ومتكلم ، على طريقة عصور الظلام، وهو في الحقيقة ، لا يهمه الحقيقة ، ولا الإسلام ، ولا يكترث فيما إذا ناقض الدين الإسلامي ، بدعوى نصرة المذهب .

وهم - بعد ذلك - يعتقدون : أن هناك مشكلا ، ينفي وجوب العدل على الله وهو معنى

ص: 157

الوجوب على الله . حيث يدعون بأن من الاعتداء على الله أن نقول بأنه يجب عليه العدل ، لأنهم يفهمون كلمة الوجوب بمعنى التكليف ، وهذا من مصائب الدهر وسنوضح هذا المطلب بشكل مختصر :

معنى الوجوب على الله عند المعتزلة والشيعة :

لقد أثيرت - في الموضوع - كلمات موهمة ، تدعي إن القول بالتحسين ، يعني إيجاب شيء على الله ، يفرض عليه خارجا ، وحين تراجع كلمات العدلية - (المعتزلة والشيعة) - في ذلك ، يتبين إن هذا وهم ، لا يقولون به .

ولهم معنى ، مقبول قرآنيا ، وعقليا ، لما يقولون . فهم لا يقولون إن الوجوب ، بمعنى إلزامه سبحانه وتعالى بذلك . وإنما بمعنى ، التزامه، وتنزيهه من النقائص . وهذا من الواجبات - كما لا يخفى - فالتزام الله بالرحمة ، والعدل، هو واجب ، وتنزيه الله من النقائص ، واجب . وحين يقولون : يجب على الله ، لا يعنون أن الله مكلف ، بهذا الأمر - كما يتوهم المنكرون - وهذا الخطأ ، ناتج عن عدم تفهم ، لمقولة العدلية . بل يعني ، إنه لا يحسن أن يوصف الله بخلافه.

وقد نفى أغلب المعتزلة ، والشيعة ، ما فهمه بعض الأشاعرة ، لمعنى الوجوب . فقد أوضح النوري التستري ، رأي العدلية ، في رده على ابن روزبهان الأشعري ، بقوله :

قد مر ، إن الوجوب الذي ذهب إليه الإمامية ، والمعتزلة ، إنما هو بمعنى : إيجاب الله - تعالى - على نفسه شيئا ، بمقتضى حكمته ، كما دل عليه ، قوله تعالى : ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَةَ﴾ [الإنعام : 12] وغير ذلك . لا بمعنى : إيجاب غيره - تعالى - شيئا عليه ، كما توهمه الأشاعرة ، والإيجاب بذلك المعنى ، مما يجب القول به ، لقيام الدليل عليه كما عرفت» .(1)

ونفى الشيخ السبحاني ، أن يكون معنى الوجوب ، هو إلزام الله ، بل هو تنزيهه ، والتزامه .

قال : «هذا ويجدر التذكير بنقطة هامة - هنا - وهي إن العقل ، لا يحكم على الله بشيء ، ولا يقول : يجب على الله أن يكون عادلا ، بل كل ما يفعله العقل - هنا - هو أن يكتشف واقعية الفعل

ص: 158


1- المرعشي : شرح الإحقاق : 1 : 287.

الإلهي . يعني : إنه بالنظر إلى كمال الله المطلق ، وتنزهه سبحانه عن كل نقص وعيب . يكتشف إن فعله كذلك في غاية الكمال ، وإنه منزة - أيضا - عن النقص ، فهو بالتالي ، سيعامل عباده بالعدل ، ولا يظلم أحدا منهم أبدا».(1)

ومن ملحقات إنكارهم ، للتحسين والتقبيح العقليين ، وتوهمهم لإنكار صفة العدل الله ، وإن إنكارها ، مما يغيض الشيعة ، والعدلية . فقد أنكروا قاعدة وجوب شكر المنعم ، التي بها قيام الدين ، وأساسه العقلي ، الذي يوجب التدين ، بدين المنعم ، والالتزام بنواميسه ، ولكي نفهم حجم المأزق الفكري ، الذي وقعوا فيه ، لابد من عرض قولهم الصريح ، في ذلك :

ص: 159


1- جعفر السبحاني : العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت(علیهم السّلام) : 95.

إنكارهم لحكم العقل

حتى في قاعدة (وجوب شكر المنعم) البديهية

التي هي أساس الديانة

وقد وصل بهم الأمر - نتيجة لطرقهم الملتوية في التفكير وإنكارهم لعدل الله – إلى إنكار قاعدة شكر المنعم ، من أجل الرد على قواعد ، تؤدي إلى الإيمان – وجوبا وعقلا – بعدم خلو الأرض من حجة الله سبحانه وتعالى .

ورغم غرابة هذا المسلك ، إلا إنه مبرر من جانبهم ؛ باعتباره ضروري لبناء منظومة فكرية ، تمنع التواصل بين الله ، وخلقه – عبر البشر - عدا من يروق لهم أن يعترفوا به ، بحسب المزاج والرأي والذوق ، ومشكلة المزاج - هذه - عندهم ، مشكلة عويصة جدا ، فإذا أراد أحدهم ، أن يعترف بالتواصل بين النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وبين الله ، قال به ، وإذا رأى أن التواصل الدائم ، غير مفيد لفكره منعه ، وقال : إن النبي ليس له إلا الوحي ، ولا تواصل مع الله بالروح ، والعلم . ولكنه إذا أراد أن يجعل من أحد جهلة الصوفية ولياً لله ، عارفا به ، راح يضفي عليه من صفات التواصل والاتصال بالله ما أمكنه ذلك ، دون النظر للأسس التي تنطلق منها هذه الفكرة .

إن إمكانية التواصل ، تهييء الأرضية اللازمة ، لعدم خلو الأرض من حجة ، حيث إن دعوى بطلان هذه القاعدة ، مبنية على عدم إمكان التواصل إلا بالوحي ، رغم كون هذا خلاف النص القرآني . فإذا بطلت الاستحالة ، فلا يبقى من محذور هناك ، وننتقل - إذ ذاك – إلى قواعد العقل الثابتة ، مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقاعدة وجوب شكر المنعم ، لتهيئة الأدلة العقلية للتكليف ، وغير ذلك.

ولكن رأيهم ، إن العقل نفسه، ينفي أهم قاعدة لبناء الدين – عقلا – وهي قاعدة وجوب شكر

ص: 160

المنعم ، التي هي أساس وجوب التكليف ، وأساس وجوب العبادة - عقلا - حتى يصح - الالتزام الشرعي . وهذا يعني إن أسس الدين فقدت هنا .

فكيف بما وراء الأسس ؟ من تواصل مع الله ، وطاعة له ، وتكليف بأوامره.

نصوص فى نفى حكم العقل :

نستعرض – هنا – من أجل بيان حقيقة الأمر ، نصوصا أشعرية ، تنفي حكم العقل حتى بالنسبة لشكر المنعم ووجوب طاعة الله :

نقل ابن حجر العسقلاني ، في فتح الباري(1) ما نصه : «وقال أبو المظفر بن السمعاني - أيضا - ما ملخصه : إن العقل ، لا يوجب شيئاً ، ولا يحرم شيئاً ، ولا حظ له في شيء من ذلك ، ولو لم يرد الشرع بحكم ، ما وجب على أحد شيء ، لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15 ] وقوله : ﴿لئَلاً يَكُونَ ِللنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل﴾ [النساء : 165] وغير ذلك من الآيات(2). فمن زعم أن دعوة رسل الله - عليهم الصلاة والسلام – إنما كانت لبيان الفروع ، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله ، دون الرسول ، ويلزمه إن وجود الرسول وعدمه ، بالنسبة إلى الدعاء إلى الله ، سواء ، وكفى بهذا ضلالا.(3) ونحن لا ننكر إن العقل يرشد

ص: 161


1- فتح الباري : 13 : 297 - 298.
2- هاتان الآيتان ، تدلان على عكس مراد السمعاني ، فهما تنصان على : أن لا يعاقب الله ، حتى يبين ، وهذا يعني عدل الله ، والتزامه العادل ، وهذا هو عين الدليل العقلي ، فتكون الآيتان مرشدتين للدليل العقلي ، لا أنهما نافيتان له.
3- أولا : لا تلازم إذا كان قصده تفصيل الشرائع ، وثانيا : إذا كان القصد هو كلي التوجه إلى الله ، فما الضير والضلال في كون العقل يرشد إلى الله ووجوب طاعته؟ وثالثا : لا يلزم إذا كان العقل يرشد لطاعة ، أن نستغني عن الرسل ؛ لأن العقل ليس من شأنه كشف تفصيل تكليف الله لنا ، والرسول مهمته نقل التكاليف التفصيلية ، وبيان الشريعة ، فما علاقة هذا بذاك ؟ ومن أين لزم أن نستغني عن الرسل ؟ .

إلى التوحيد ، وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك ، حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه(1) مع قطع النظر عن السمعيات ؛ لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب ، والأحاديث الصحيحة ، التي تواترت ، ولو بالطريق المعنوي . ولو كان كما يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها ، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات ، فإن عقلناه ، فبتوفيق الله ، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته (كذا) على وفق مراد الله سبحانه وتعالى . (انتهى قول السمعاني) .

ويؤيد كلامه ، ما أخرجه أبو داود ، عن ابن عباس : « إن رجلا ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنشدك الله ، الله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأن ندع اللات والعزى ؟ قال : نعم ، فأسلم . وأصله في الصحيحين ...» ... الخ (انتهى نص ابن حجر) .

أقول : ستأتي مناقشة هذا النص بنفسه ، في ما تناولناه من آراء حول الآية : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . وهناك سنبين خلل هذا القول ، ولكننا أوردناه – هنا – لنثبت قولهم ، بنفي دليل العقل ، حتى على عموم الشريعة . ومن النصوص أيضا :

قال الآمدي(2): الأصل الأول : في الحاكم : اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ، ولا حكم إلا ما حكم به ، ويتفرع عليه إن العقل لا يحسّن ، ولا يقبح ، ولا يوجب شكر المنعم ، وإنه لا حكم قبل ورود الشرع ، ولنرسم في كل واحد مسألة ، المسألة الأولى : مذهب أصحابنا ، وأكثر

ص: 162


1- إنكار استقلال العقل للإرشاد للتوحيد ، هو نوع هرطقة ، وكلام غامض ؛ لأنه لا معنى لمشاركة العقل وأدلته للنقل في التوحيد ، إذ لو قبل العقل ، عدم التوحيد لما نفع معه نص ولا نبوات ، فالممكن لا ينقلب إلى واجب ، إلا بالغير . ولو كان هو صفة الله، لكان مما لا يليق بالله . لأن الواجب سينقلب ممكنا ، حين يقبل الامكان . فلا معنى لعدم استقلال العقل ، إلا امكان التوحيد ، وهذا يعني إن الواجب له صفات ذاتية ممكنة وغير لازمة ، وهو ما قلناه من انقلاب الواجب إلى غيره . وهذا يعني إن المتكلمين ، لا يفكرون باللوازم الحقيقية ، حين التكلم في صفات الله ، وهم يتبرعون في التقييس ، والتحديد الله ، وكأنهم أصحاب دالة عليه ، ومعرفة شخصية بخصوصياته ، فيتكلمون بما لا يلتزمونه حين الحوار .
2- الأحكام : 1 : 79 .

العقلاء : إن الأفعال لا توصف بالحسن ، والقبح ، لذواتها . وإن العقل لا يحسّن ولا يقبح ، وإنما إطلاق اسم الحسن والقبح - عندهم - باعتبارات ثلاثة ، إضافية غير حقيقية» (انتهى) .

وقال الإمام الغزالي(1): «إن الحكم - عندنا - عبارة عن خطاب الشرع ، إذا تعلق بأفعال المكلفين ، فالحرام ، هو المقول فيه : اتركوه ولا تفعلوه . والواجب ، هو المقول فيه : افعلوه ولا تتركوه . والمباح ، هو المقول فيه : إن شئتم فافعلوه ، وإن شئتم فاتركوه . فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع ، فلا حكم ، فلهذا قلنا : العقل لا يحسّن ولا يقبح ، ولا يوجب شكر المنعم ، ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع».

أقول : بعد هذه النصوص الصريحة ، لا نحتاج إلى بيان والى حوار في محتوى هذه النصوص التي تدل على نفي الشريعة ، وإنها مجرد عملية مزاجية أو تسلط حكومي على البشر لا واقع لها .

ص: 163


1- المستصفى : 45 .

مسألة : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

فيما يلي ، نستعرض نصوصا ، تعالج أهم منظور في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والحقيقة إن النقاش يعتبر بلا جدوى حول كون هذه القاعدة شرعية أم عقلية ؛ لأنهم جميعا يقولون : إن العقل يدرك ذلك ، وإن الشرع أيّد ، وأنزل نصوصا ، تؤيد ذلك . بل انزل آية كريمة ، تدور مدار ، قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بل آیات کریمات . فما الفائدة من نكران القاعدة إذا كانت نازلة شرعا ومؤيدة عقلا ؟ .

المشكلة هي : أن هناك خللا في التفكير .

فاعتقادهم ، بأن استقلال العقل في إدراك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، باعتباره احد الأحكام العقلية على الأفعال ، سيؤدي إلى الاستغناء عن الرسول ! ! لأن هذه القاعدة تبتني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وإذا قلنا بها فقد قلنا باكتفائنا بالعقل عن الشريعة ، وما شابه ذلك ، من لوازم باطلة . فتكون النتيجة ، كما قالوا : الاستغناء عن الرسول ، والرسالة . وهذا كله وهم ، وعدم ترتيب لأولويات الفكرة .

إن إدراك قبح العمل المستند إلى الظلم ، كالعقاب بلا بيان ، لا يعني بشكل من الأشكال ، إدراك كل جزئيات المصالح والمفاسد الإنسانية ، والرسالة لم تأت لتبين لنا ما هو متسالم في عقولنا ، وإلا فستكون تحصيل حاصل ، وهذا بنفسه مرفوض عقلا ، وذوقا . وإنما جاءت الرسالة بالبيان ، لما لا يتنبه إليه العقل ، من مصالح و مفاسد ، في نظم شؤوننا .

فالعقل لا يستطيع - إذن - أن يدرك متطلبات الجسد والروح حقيقة ، ولو أدركها فبشكل سيء ، ومحدود ، بخلاف معرفة الخالق بها . وكذا الأخبار في الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، فما يدري العقل أنواع العقوبة ، وما الجنة والنار ؟ وما يدري العقل الترابط بين النفع الاجتماعي والنفع الشخصي ، بحيث يكون دفع الحق الشرعي ، زكاة لنفوس الدافعين ، وتنمية للمجتمع . إن غاية ما سيدركه العقل - في أمر كهذا - إن المجتمع بحاجة إلى حفظ نظام ، وإن حفظ النظام

ص: 164

يتطلب المال ، وإن المال يؤخذ من الجميع ليحفظوا أمنهم ، وهذا غير إن الزكاة تزكي نفس الدافع ، وتطهرها . فهناك فرق في العقل ، بين التطهير ، وبين الحفظ . وما أكثر الفروق بين الشريعة ، وبين العقل في مجالات لا قدرة للعقل على إدراكها !!

ولهذا ، فإن من يقول بالحسن و القبح العقليين ، لا يقول : إن مجرد هذا الإدراك يكفي للاكتفاء بالعقل عن الرسالة . وهذا تقول على القائلين بالحسن والقبح العقليين ، وهو من لزوم ما لا يلزم أصلا.

وهنا علينا أن نعي : أنه في كثير من الأحيان يمكن أن يفلت لسان الباحث ، فيقول ، بما لا يقبل قوله ، في مقرراته الفكرية . فمسألة قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حين تكون مقررة شرعا ، ومقبولة عقلا ، فلا مجال لنفيها ، والبناء - بعد ذلك - على هذا النفي ، وكقضية تصحيحهم إثابة العاصي ، وتعذيب المطيع ، باعتبار إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا يصح استقلالها عقلا ، فنقول فليكن إنها غير مستقلة ، كما تقولون ، ولكنها مسندة نقلا ، فكيف تتركون النقل ، وانتم تدعون الاستناد إليه ، فهل خلت القاعدة من نقل ، حتى تصيروا إلى اختراع قاعدة : جواز تعذيب المطيع ، وتنعيم العاصي ؛ للذهاب إلى عدم الإلزام العقلي في التقبيح ، فهذا كله أصبح لا يعني شيئا ، ، ما دمتم تقولون إن القبيح ما قبحه الشرع . وهذا الشرع قد قبح التعذيب ، أو قل التزم بعدم التعذيب ، بدون بيان ، وإخبار ، فكيف يصح التعذيب ، مع التعذيب ، مع الطاعة ، والالتزام ؟

إنها – في واقع الأمر وحقيقته - مفاصل سياسية ؛ لتبرئة المجرمين من الحكام ، ليس لها علاقة بالدين ، أو العقل ، بأي شكل من الأشكال .

ولا بأس أن نقرأ بعض النصوص ، التي تسلم بهذه لقاعدة ، من مختلف المذاهب وبمختلف المجالات الفكرية ، والفقهية لنرى حجم التجني في الانكار مع حقيقة الالتزام في موراد بعيدة عن الحوار كما هو هنا حيث تنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان بينما يلتزمون بنفس المعنى في معنى قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾:

ص: 165

نصوص

تشرح العلاقة بين آية : ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

وبين حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان

وقبح الظلم وتعذيب من لا يستحق

هذه مجموعة من النصوص المأخوذة من عدة مذاهب منها ما يثيت القاعدة ومنها ما ينفيها ، وهي بمجموعها تبين الإجماع عليها :

تبدأ بالذكر الحكيم :

قال الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] .

وقال – تعالى – أيضا : ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة : 115]

وقال – عز وجل - كذلك : ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَاب منْ قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَن نَذِلَّ وَنَخْرَى﴾ [طه : 134] .

وقال تعالى : ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الأنعام : 164] .

وقال - عز من قائل - : ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً﴾ [القصص : 59] .

ص: 166

المحقق الأردبيلي(1):

وقالوا : في قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ دلالة على عدم كون الحسن والقبح عقليين . ولا دلالة فيه، بينته في الأصول من عشرة أوجه .

وقلت : بل فيها دلالة على كونها عقليين إذ سوقها لبيان أن ليس الله العقاب والذم لأحد على فعل قبل بعثة الرسول ، وبيان قبح ذلك القبيح له ، وأن ذلك العقاب غير جائز عند العقلاء ، بل ذلك مذموم وقبيح ، إذ للمعاقب اعتراض معقول لا دفع له ، بأن يقول : لولا أرسلت إلينا رسولا ، وهو عين الحسن و القبح العقليين ، وأن ليس الله ما يفعل ، وإن كان قبيحا وأن لا قبيح إلا ما قبحه ، بل لا يقبح إلا قوله : لا تفعل ، ولا يحسّن إلا قوله : افعل ، وهو ظاهر ، وإلا فلا معنى حينئذ لقوله : لولا أرسلت ، وكان عقابهم معقولا ، بل لا معنى للحساب والميزان فتأمل».

السید الگلپایگانی(2):

«ويظهر ذلك - أيضا - من قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ . حيث إنه يدل : على أنه لا عذاب بدون بعث الرسول ، والآتيان بالأحكام ، وأما إبلاغها إلى كل أحد ، فليس معتبرا في العذاب ، وإنما وظيفة العباد ، هو الرجوع إلى الرسول والسؤال منه . ويدل على ذلك – أيضا – ما ورد في بعض الأخبار ، من إن مثل الإمام ، مثل الكعبة ، حيث تؤتى ، ولا تأتي» .

السيد محمد صادق الروحاني(3):

«بل حكم بإباحة ما لم يعلم أنه ممنوع عنه . ويدل على الأول - جملة من الآيات :

ص: 167


1- زبدة البيان : 348 - 349 .
2- الدر المنضود : 1 : 44 - 47 .
3- المسائل المستحدثة : 146 - 147 .

1 - قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فإن بعث الرسل بحسب الارتكاز ، والفهم العرفي ، كناية عن البيان . فمفاد الآية الشريفة : عدم العقاب ، والمؤاخذة على مخالفة التكليف ، ما لم يبين ، وبالملازمة العرفية ، تدل على عدم التكليف ، وكون ذلك الفعل مرخصا فيه .

2 - قوله تعالى : ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق : 7] . وتقريب الاستدلال به : إن المراد بالموصول : هو الحكم ، فيكون الإيتاء ، المستند إليه تعالى ، بمعنى إعلامه ، فمفاده : إن الله تعالى ، لا يوقع العباد في كلفة حكم ، لم يبينه ، وسكت عنه .

3 - قوله تعالى - مخاطبا لنبيه (صلی الله علیه و آله و سلم)، ملقنا إياه طريق الرد على الكفار ، حيث حرموا على أنفسهم أشياء : ﴿قُل لا أَجِدُ فِي مَا أَوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ [الأنعام : 145] . حيث أنه عز وجل أبطل تشريعهم ، بعدم وجدان ما حرموه ، فيما أوحى الله تعالى ، فلو لم يكن عدم وجوده كافيا في الحكم بالإباحة ، وعدم الحرمة لما صح الاستدلال».

محمد بن جعفر السامري(1):

جاء في الكليات إن الشكر العرفي هو المراد بعدم وجوب شكر المنعم عقلا إذ لو وجب عقلا لوجب قبل البعثة ، ولو وجب قبلها لعذب تاركه ، ولا تعذيب قبل الشرع(2) لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ هذا عند الأشاعرة القائلين بعدم

ص: 168


1- فضيلة الشكر الله : 10 - 11 .
2- بيان الخطأ هو : إن الترابط هنا بين إدراك شكر المنعم ، وبين آية : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فيه خلل ، وذلك : إن شكر المنعم من البديهيات البينة ، التي يعاقب الله على ما هو خلافها ؛ لكونها بينة بنفسها ، لا تحتاج إلى مبين ، هي من أصل فطرة العقل ، ولكن الآية ، تشير إلى التكاليف ، التي لم تبين ، فلا يعاقب الله عليها ، إلا بإرسال الرسول . وهنا الفارق كبير على إن أهل المعرفة ، يعتبرون العقل رسولا باطنا ، والنبي رسولا ظاهرا .

وجوب الإيمان قبل البعثة(1) إذ لا يعرف حكم من أحكام الله تعالى إلا بعد بعثة نبي فمن مات ولم تبلغه دعوة رسول ، فهو ليس من أهل النار عندهم . وأما أبو منصور الماتريدي ، وأتباعه ، وعامة مشايخ سمرقند ، فإنهم قائلون : بأن بعض الأحكام قد يعرف قبل البعثة ، بخلق الله تعالى العلم به(2) إما بلا سبب ، كوجوب تصديق النبي ، وحرمة الكذب الضار(3) وإما مع سبب ، بالنظر ، وترتيب المقدمات ، وقد لا يعرف إلا بالكتاب كأكثر الأحكام ، فيجب الإيمان بالله تعالى قبل البعثة - عقلا - حتى قال أبو حنيفة : لو لم يبعث الله رسولا ، لوجب على الخلق معرفته بعقولهم ؛ لما يرى في الآفاق والأنفس».(4)

ص: 169


1- وعلى هذا ، ينبغي نجاة المشركين قبل البعثة ، وهو ما لا يستطيعون الالتزام به . لأنهم سوف لن يكونوا كفارا ، باعتبار أنهم لم يكفروا بشيء ، كما يعتقدون.
2- لعل المقصود بخلق الله العلم به ، هو أحكام العقل ، ولكنه بعبارة ملتوية .
3- الغريب أن يقولوا : إن العلم - هنا - بلا سبب ! فكيف يكون التصديق بالنبي بلا سبب ؟ وكيف يكون حرمة الكذب الضار بلا سبب ؟ وهذا سيأتي بيان مشكلته ، بأنه محاولة لقلب الحقائق .
4- ما نقله عن أبي حنيفة يوافق العقل والنقل . ويجب شرح ما وقع النص فيه من خلط في المفاهيم . فإن إدراك العقل لكليات عقلية ، كالآراء المحمودة عند العقلاء ، يجعلها بمثابة المعرفة التامة ، فهذه لا تحتاج إلى رسالة ؛ ليتم الحديث عنها . ولكن حين يرد فيها ما يؤيدها ، فهي إما أن تكون مؤسسة ، وهذا تحصيل حاصل ، وهو باطل ، أو تكون كاشفة ، وهذا هو المطلوب ولا ثالث لهما . فقد وقع الخلط في النص ، بين شكر المنعم المدرك للعقل ، وبين جزئيات التشريع ، غير المدركة للعقل وخلط بينهما .

نصوص

تبني على هذه القاعدة أحكاماً فقهية

محيى الدين النووي(1):

« (فصل) وإن كان العدو ، ممن لم تبلغهم الدعوة ، لم يجز قتالهم ، حتى يدعوهم إلى الإسلام ، لأنه لا يلزمهم الإسلام ، قبل العلم، والدليل عليه قوله عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ولا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم ، وإن بلغتهم الدعوة ، فالأحب أن يعرض عليهم الإسلام ، لما روى سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعلى کرم الله وجهه ، يوم خيبر : «إذا نزلت بساحتهم ، فادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لإن يهدى الله بهداك ، رجلا واحدا ، خير لك من حمر النعم» وإن قاتلهم ، من غير أن يعرض عليهم الإسلام ، جاز ، لما روى نافع ، قال : «أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على بني المصطلق ، وهم غارون ، وروى ، وهم غافلون».

الشرواني والعبادي(2):

«وأما أطفال الكفار ، ففيهم أربعة أقوال ، أحدها : أنهم في الجنة ، وعليه المحققون لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقوله : ﴿وَلاَ تَزرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. »

الحطاب الرعيني(3):

«هذا الفصل ، يذكر في شروط الصلاة ، وهي على ثلاثة أقسام : شرط في الوجوب

ص: 170


1- المجموع : 19 : 285 - 286 .
2- حواشي الشرواني : 3 : 76 .
3- مواهب الجليل : 2 : 136 .

والصحة ، وشرط في الوجوب فقط ، وشرط في الصحة فقط . فأما شروط الوجوب والصحة فستة : الأول : بلوغ دعوة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.».

السرخسي(1):

«وفيه دليل ، أنه ينبغي للغزاة ، أن يبدؤا بالدعاء إلى الإسلام ، وهو على وجهين : فإن كانوا يقاتلون قوما لم تبلغهم الدعوة ، فلا يحل قتالهم ، حتى يُدعوا ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ، حتى دعاهم إلى الإسلام ؛ وهذا لأنهم لا يدرون على ماذا يقاتلون ، فربما يظنون أنهم لصوص قصدوا أموالهم ، ولو علموا أنهم يقاتلون على الدعاء إلى الدين ، ربما أجابوا ، وانقادوا للحق ، فلهذا ، يجب تقديم الدعوة ، وإن كانوا قد بلغتهم الدعوة ، فالأحسن أن يدعوهم إلى الإسلام - أيضا - فالجد والمبالغة في الإنذار ربما ينفع . وكان صلى الله عليه وسلم ، إذا قاتل قوما من المشركين ، دعاهم إلى الإسلام ، ثم اشتغل بالصلاة ، وعاد بعد الفراغ ، إلى القتال جدد الدعوة ، وان تركوا ذلك وبيتوهم ، فلا بأس بذلك ؛ لأنهم علموا على ماذا يقاتلون» .

ابن رشد الحفيد(2):

«الفصل الرابع : في شرط الحرب ، فأما شرط الحرب ، فهو بلوغ الدعوة باتفاق ، أعني : أنه لا يجوز حرابتهم ، حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة ، وذلك شيء مجتمع عليه من المسلمين ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾، وأما هل يجب تكرار الدعوة ، عند تكرار الحرب ، فإنهم اختلفوا في ذلك ، فمنهم من أوجبها ، ومنهم من استحبها ، ومنهم من لم يوجبها ، ولا استحبها . والسبب في اختلافهم : معارضة القول للفعل» .

ص: 171


1- المبسوط : 10 : 6.
2- بداية المجتهد ونهاية المقتصد : 1 : 310 .

الشيخ سيد سابق(1):

«وأما أولاد المشركين ، فهم مثل أولاد المسلمين ، في دخولهم الجنة . قال النووي : وهو المذهب الصحيح المختار ، الذي صار إليه المحققون ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وإذا كان لا يعذب العاقل ؛ لكونه لم تبلغه الدعوة ، فلأن لا يعذب غير العاقل ، من باب أولى . ولما رواه أحمد، عن خنساء بنت معاوية بن صريم ، عن عمتها ، قالت : قلت يا رسول الله : من في الجنة ؟ قال : «النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة» . قال الحافظ : إسناده حسن» .

ابن شعبة الحراني(2):

«وكل ما في القرآن ، من بلوى هذه الآيات، التي شرح أولها ، فهي اختبار ، وأمثالها في القرآن كثيرة . فهي إثبات الاختبار ، والبلوى : إن الله - جل وعز - لم يخلق الخلق عبثا ، ولا أهملهم سدى ، ولا أظهر حكمته لعبا ، وبذلك أخبر في قوله : ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ [المؤمنون : 115] . فإن قال قائل : فلم يعلم الله ما يكون من العباد ، حتى اختبرهم ؟ قلنا : بلى ، قد علم ما يكون منهم ، قبل كونه ، وذلك قوله : ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأنعام : 28] وإنما اختبرهم ليعلمهم عدله ، ولا يعذبهم إلا بحجة بعد الفعل ، وقد أخبر بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ [طه : 134] وقوله : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] . وقوله : ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذرينَ﴾ [النساء : 165 ] . فالاختبار من الله ، بالاستطاعة التي ملكها عبده ، وهو القول بين الجبر والتفويض . وبهذا نطق القرآن ، وجرت الأخبار ، عن الأئمة من آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). فإن قالوا : ما الحجة في قول الله : ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [فاطر : 8] وما أشبهها ؟

ص: 172


1- فقه السنة : 1 : 571 .
2- تحف العقول : 474 - 475 .

قيل : مجاز هذه الآيات - كلها - على معنيين : أما أحدهما فإخبار عن قدرته ، أي إنه قادر على هداية من يشاء ، وضلال من يشاء ، وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما ، لم يجب لهم ثواب ، ولا عليهم عقاب ، على نحو ما شرحنا في الكتاب ، والمعنى الآخر إن الهداية منه ، تعريفه ، كقوله : ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت : 17] أي عرفناهم ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت : 17] فلو أجبرهم على الهدى ، لم يقدروا أن يضلوا ، وليس كلما وردت آية مشتبهة ، كانت الآية حجة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها ، من ذلك قوله : ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ اُمُّ الكتاب وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تأويله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ... الآية [آل عمران : 7] ».

المولى محمد صالح المازندراني(1):

«العبث ممنوع ؛ لأن في الإرسال قطعا لعذرهم ، وإكمالا للحجة عليهم ؛ ولأن تعذيبهم منوط بالإرسال ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تَبْعَثُ رَسُولاً﴾».

وفيه أيضا(2):

«﴿عُذراً أوْ نُذراً﴾ [المرسلات : 6] علتان للبعث ، ومصدران لعذرت عذرا ، إذا محوت الإساءة ، وطمستها ، وأنذرت إنذارا ، ونذرا ، إذا علمته ، وحذرته ، وخوفته . يعني بعثه ؛ لأجل محو إساءة المطيعين ؛ لأنه رحمة للمؤمنين ، وإنذار المخالفين ، وتخويفهم على مخالفتهم ، ويحتمل أن يراد بالأول : أنه بعثه ؛ لأجل أن يكون له عذر ، في عقوبتهم وتعذيبهم ، كما قال : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾».

رفیع الدین محمد بن حيدر النائيني(3):

«ليس الله على خلقه أن يعرفوا» أي : ليس المعرفة واجبة عليهم ؛ لأنه من صنع الله تعالى ، لا

ص: 173


1- شرح أصول الكافي : 3: 255 .
2- شرح أصول الكافي : 12 : 560 .
3- الحاشية على أصول الكافي : 515 - 516 .

من صنعهم «وللخلق على الله أن يعرفهم» لأن استكمالهم ، ونجاتهم - فيما لا يكون تحت قدرتهم - لازم على الخالق ، الخير الحكيم ، القادر ، ويحكم العقل بحسنه ، وقبح تركه ، وبأنه لا يتركه الموصوف بتلك الصفات ، البتة . «و» الواجب «الله على الخلق» ومن حقوقه عليهم «إذا عرفهم أن يقبلوا» أي : يطيعوا ، وينقادوا ، ويعترفوا ، بأن ما عرفهم حق . وهذا الحديث ، وأمثاله ، دال على التحسين ، والتقبيح ، العقليين .

العلامة المجلسي(1):

«ومنها ، قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ولا يتوجه على المولود التكليف ، حتى يبلغ ، فيلزم الحجة».

محمد الريشهري(2):

9 - الحجة الكتاب : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾؛ ﴿لِيَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةوَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيَّنَة﴾ [الأنفال : 42] .

7 - الإمام الصادق (علیه السّلام): إن الله - عز وجل - احتج على الناس ، بما آتاهم ، وما عرفهم . عنه (علیه السّلام) في قوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾ [التوبة : 115] حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه».

الشيخ المحمودي(3):

«ولأجل أن لا سبيل للعقل ، إلى معرفة ذلك ، قال تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وقال : ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ من قَبْل أَن نَّذلَّ وَتَخْرَى﴾ [طه : 134] . وإلى العقل والشرع ، أشار بالفضل ، والرحمة ، بقوله عز

ص: 174


1- بحار الأنوار : 5 : 296.
2- ميزان الحكمة : 1 : 542 .
3- نهج السعادة : 8: 171.

وجل : ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لا تَبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَليلاً﴾ [النساء : 83] وعنى بالقليل : المصطفين الأخيار».

النووي(1):

«قوله ، صلى الله عليه وسلم : «ذروني ما تركتكم» دليل على إن الأصل ، عدم الوجوب ، وأنه لا حكم ، قبل ورود الشرع ، وهذا هو الصحيح ، عند محققي الأصوليين ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ . قوله ، صلى الله عليه وسلم : « فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» هذا ، من قواعد الإسلام المهمة ، ومن جوامع الكلم ، التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ، ويدخل فيها ، ما لا يحصى من الأحكام ، كالصلاة بأنواعها ، فإذا عجز عن بعض أركانها ، أو بعض شروطها ، أتى بالباقي ، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء ، أو الغسل ، غسل الممكن ، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء ، لطهارته ، أو لغسل النجاسة ، فعل الممكن ،

وإذا وجبت إزالة منكرات ، أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم ، أو نحو ذلك ، وأمكنه البعض ، فعل الممكن ، وإذا وجد ما يستر بعض عورته ، أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن ، وأشباه هذا غير منحصرة ، وهي مشهورة في كتب الفقه . والمقصود التنبيه على أصل ذلك ، وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن : 16] وأما قوله تعالى : ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تقاته﴾ [آل عمران : 102] ففيها مذهبان : أحدهما : أنها منسوخة ، بقوله تعالى : ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ والثاني : هو الصحيح ، أو الصواب ، وبه جزم المحققون : أنها ليست منسوخة ، بل قوله تعالى : ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ مفسرة لها ، ومبينة للمراد بها ، قالوا : و ﴿حَقَّ تُقاته﴾ و هو امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، ولم يأمر سبحانه وتعالى ، إلا بالمستطاع ، قال الله تعالى : ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا﴾ [البقرة : 286] وقال تعالى : ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج : 78] والله أعلم . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : «وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» فهو على إطلاقه ،

ص: 175


1- شرح مسلم : 9 : 101 - 102 .

فإن وجد عذر يبيحه ، كأكل الميتة عند الضرورة ، أو شرب الخمر عند الإكراه ، أو التلفظ بكلمة الكفر ، إذا أكره ، ونحو ذلك ، فهذا ليس منهيا عنه ، في هذا الحال ، والله أعلم».

وفيه كذلك(1):

قوله ، صلى الله عليه وسلم : «ولا شخص أحب إليه العذر من الله تعالى من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الجنة». معنى الأول : ليس أحد أحب إليه الأعذار من الله تعالى ، فالعذر - هنا – بمعنى الإعذار ، والإنذار ، قبل أخذهم بالعقوبة ، ولهذا بعث المرسلين ، كما قال سبحانه وتعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تبْعَثُ رَسُولاً﴾.

وفيه أيضا(2):

«وفي هذا الحديث ، دليل على إن الأشياء ، قبل ورود الشرع ، لا تكليف فيها بتحريم ، ولا غيره . وفي المسألة خلاف مشهور للأصوليين ، الأصح أنه لا حكم ، ولا تكليف ، قبل ورود الشرع ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تَبْعَثُ رَسُولاً﴾.

وفيه(3):

«وأما أطفال المشركين ، ففيهم ثلاثة مذاهب : قال الأكثرون : هم في النار تبعا لآبائهم ، و توقفت طائفة فيهم ، والثالث وهو الصحيح ، الذي ذهب إليه المحققون : أنهم من أهل الجنة ، ويستدل له بأشياء منها : حديث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وحوله أولاد الناس ، قالوا : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ، قال : وأولاد المشركين ، رواه البخاري في صحيحه . ومنها قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

ص: 176


1- شرح مسلم : 10 : 132 - 133.
2- شرح مسلم : 11 : 2 .
3- شرح مسلم : 16 : 207 - 208 .

ولا ! يتوجه ، على المولود ، التكليف ، ويلزمه قول الرسول : «حتى يبلغ» وهذا متفق عليه . والله أعلم» .

وفيه كذلك(1):

«وقالت طائفة : كان هذا الرجل في زمن فترة ، حين ينفع مجرد التوحيد ، ولا تكليف قبل ورود الشرع ، على المذهب الصحيح ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.

ابن حجر(2):

«ثامنها : أنهم في الجنة ، و قد تقدم القول فيه ، في باب فضل من مات له ولد ، قال النووي : و هو المذهب الصحيح المختار ، الذي صار إليه المحققون ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ و إذا كان لا يعذب العاقل ؛ لكونه لم تبلغه الدعوة ؛ فلأن لا يعذب غير العاقل ، من باب الأولى ، ...».

وفيه أيضا منكرا القاعدة(3):

«وقال أبو المظفر بن السمعاني - أيضا - ما ملخصه : إن العقل لا يوجب شيئا ، ولا يحرم شيئا ، ولاحظ له في شيء من ذلك ، ولو لم يرد الشرع بحكم ، ما وجب على أحد شيء ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15] وقوله : ﴿لئَلاً يَكُون للنَّاس عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل﴾ [النساء : 165] وغير ذلك من الآيات . فمن زعم إن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، إنما كانت لبيان الفروع ، لزمه أن يجعل العقل ، هو الداعي إلى الله ، دون الرسول ، ويلزمه أن وجود الرسول ، وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله ، سواء .

ص: 177


1- شرح مسلم : 17 : 72 .
2- فتح الباري : 3: 196 .
3- فتح الباري : 13 : 297 - 298 .

وكفى بهذا ضلالا ، ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد ، وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك ، حتى لا يصح إسلام ، إلا بطريقه ، مع قطع النظر عن السمعيات ؛ لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب ، والأحاديث الصحيحة ، التي تواترت - ولو بالطريق المعنوي . ولو كان كما يقول أولئك ؛ لبطلت السمعيات ، التي لا مجال للعقل فيها ، أو أكثرها ، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات ، فإن عقلناه فبتوفيق الله ، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته (كذا) على وفق مراد الله سبحانه وتعالى». انتهى .

أقول : ما استفاده ابن حجر - اعتمادا على قول السمعاني - من أن الحجة ، منوطة بالسمعيات ، دون الحجة العقلية ، مستدلا بهذه بآية : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فهو استدلال غير دقيق ، إذ أن العقل رسول وحجة ذاتية ، فإذا كان الأمر مما يستقل به العقل ، فلا شك إنه حجة ، وعلم ، وقد يطلق عليها الرسول الباطني ، وهو بيان كامل لا يحتاج إلى بيان ، فكل البشر لا يحتاجون إلى من يعلمهم ، إن الظلم قبيح ، فحتى الظالم - نفسه - لو وقع عليه ظلم ؛ لضج واستغاث ، واستنكر ، واستقبح ذلك . وهذا الحكم ، لا يحتاج إلى رسول ، عند كل البشر ، ومن يغالط ، ويقول : «يجوز الظلم حتى يأتيني النهي عنه» فهذا ، يغالط نفسه ، ويخاتل ربه ، ويخون قناعته ، وما عرضه ابن حجر ، يعتبر مغالطة واضحة .

نعم ، ما كان من تفصيل الأمور الشرعية ، أو الأخبار الربانية ، فلا شك أنه يحتاج إلى دليل سمعي ، ويقبح العقاب بدون بيان ، ولهذا فلا يصح الاستدلال بهذه الآية ، على نفي التحسين ، والتقبيح العقليين ، وقد أوضح ذلك الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، بلمحة سريعة بقوله التالي :

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(1):

قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ يقوم ببيان التكليف ، وإلقاء الحجة. هناك نقاش بين المفسرين ، حول نوع العذاب - المقصود هنا - وهل هو نوع من أنواع العذاب ،

ص: 178


1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 8 : 428 - 429 .

الذي يقع في الدنيا ، أو في الآخرة ، أم المقصود به هو عذاب (الإستيصال) الذي يعني العذاب الشامل ، المدمر ، كطوفان نوح مثلا ؟ إن ظاهر الآية الكريمة ، يدل على الإطلاق ، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.

وهناك نقاش آخر - أيضا - بين المفسرين ، حول قاعدة : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ وهل إن الحكم فيها يخص المسائل الشرعية ، التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط ، أو إنه يشمل جميع المسائل العقلية ، والنقلية ، في الأصول والفروع ؟ - في الواقع – إذا أردنا العمل بظاهر الآية ، الذي يفيد الإطلاق ، فينبغي القول : إنها تشمل جميع الأحكام العقلية ، والنقلية ، سواء ارتبطت بأصول ، أو فروع الدين. ومفهوم هذا الكلام : إنه حتى في المسائل العقلية البحتة ، التي يقطع (العقل المستقل) بحسنها ، وقبحها ، مثل حسن العدل، وقبح الظلم ، فإنه ما لم يأت الأنبياء ، ويؤيدون حكم العقل ، بحكم النقل ، فإن الله تبارك وتعالى، لا يجازي أحدا بالعذاب . للطفه ورحمته بالعباد . ولكن هذا الموضوع مستبعد ، وضعيف الاحتمال ، لأنه يصطدم مع قاعدة : إن المستقلات العقلية ، لا تحتاج إلى بيان الشرع ، وحكم العقل، في إتمام الحجة - في هذه الموارد – يعتبر كافيا ، ومجزيا . لذلك فلا طريق أمامنا ، إلا أن نستثني المستقلات العقلية ، عن مجال عمل القاعدة المذكورة . وإذا لم نستثن ذلك ، فسيكون معنى العذاب ، في هذه الآية هو : (عذاب الإستيصال) وسيكون المفاد الأخير للمعنى ، هو : إن الله سبحانه وتعالى ؛ لرحمته ولطفه بالعباد ، لا يهلك الظالمين ، والمنحرفين ، إلا بعد أن يبعث الأنبياء ، وتستبين جميع طرق السعادة ، والهداية ، حتى تطابق حجة الشرع ، حجة العقل المستقل ، وتتم الحجة بذلك ، من طريقي العقل ، والنقل . (فتأمل ذلك) ».

وفيه أيضا(1):

«وهنا يثار سؤال – وهو أنه مع الالتفات ، إلى إن الله (يعلم) بمستقبل كل قوم وجماعة ، فما الحاجة إلى الإمهال ؟ ثم إن الأمم السالفة ، كذبت أنبياءها ، واحدا بعد الآخر ، وبمقتضى قوله

ص: 179


1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 11 : 473 - 477 .

تعالى : ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء : 8] الوارد في نهاية تلك القصص ، إن أكثرهم لم يؤمنوا ، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين ؟! .

فالقرآن ، يجيب على هذا السؤال : بأن ذلك سنة الله ، وما أهلكنا من قرية ، إلا لها منذرون ، فنرسل الأنبياء لهم ؛ لإتمام الحجة ، وتقديم النصح ، والموعظة ؛ ليتذكروا ، ويستيقظوا من غفلتهم ذكرى . ولو كنا نأخذهم ، بدون إتمام الحجة ، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين - من قبل الله - لكان ظلما منا ، وما كنا ظالمين . فمن الظلم أن نهلك غير الظالمين ، أو نهلك الظالمين ، دون إتمام الحجة عليهم ... وما ورد في هذه الآيات ، هو - في الحقيقة - بيان للقاعدة العقلية ، المعروفة ب_(قاعدة قبح العقاب بلا بيان) وشبيه لهذه الآية ، ما جاء في الآية (15) من سورة الإسراء : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ أجل ، إن العقاب بدون البيان الكافي ، قبيح ، كما إنه ظلم ، والله العادل الحكيم ، محال أن يفعل ذلك ، أبدا . وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول ب_(أصل البراءة) ومعناه : إن كل حكم ، لم يقم عليه الدليل ، فإنه ينفى بواسطة هذا الأصل» .

العيني(1):

«السادس : أنهم في الجنة ، قال النووي : هو المذهب الصحيح المختار ، الذي صار إليه المحققون ، لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ . وإذا كان لا يعذب العاقل ؛لكونه لم تبلغه الدعوة ، فلأن لا يعذب غير العاقل ، من باب الأولى».

جلال الدين السيوطي(2):

«وقال النووي : الصحيح ، الذي ذهب إليه المحققون ، أنهم من أهل الجنة ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾... فلا يتوجه على المولود التكليف ، ويلزمه قول الرسول

ص: 180


1- عمدة القاري : 8 : 213 .
2- الديباج على مسلم : 6: 23 .

حتى يبلغ . قال : والجواب على هذا الحديث، أنه ليس فيه تصريح ، بأنهم في النار ، وحقيقة لفظه ، والله أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ولم يبلغوا ، والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ» .

وفيه أيضا(1):

«وقيل : قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش ، والخوف ، وشدة الوجع ، فلم يضبط ما يقوله ، فصار في معنى الغافل ، وهذه الحالة، لا يؤاخذ فيها ، وقيل : كان في زمن فترة ، حين ينفع مجرد التوحيد ، ولا تكليف قبل ورود الشرع ، على الصحيح ؛ لقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تبعَثَ رَسُولاً﴾»

عمرو بن أبي عاصم(2):

«وأما قوله : إن دعوى الذهبي ، لا دليل عليها ، فغير مسلم عندي ، وذلك ؛ لأن الحديث يصرح : بأن أولاد المشركين في النار . فهذا منكر ، بل باطل ؛ لمخالفته لظاهر قول الله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ، فإذا كان لا يعذب العاقل ؛ لكونه لم تبلغه الدعوة ، فلأن لا يعذب غير العاقل ، من الأولاد، من باب أولى ، ولمخالفته – أيضا – لعديد من الأحاديث ، الدالة على إن أولاد المشركين في الجنة ، فضلا من الله ورحمة . وهذا هو اختيار أهل التحقيق من العلماء ، كالنووي، والعسقلاني ، وغيرهما».

عمر بن شاهين(3):

قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ، وقوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلك الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً﴾ [القصص : 59] . قال ابن حزم : الملازمة ، والوعية ، مرفوعان عمن لم يبلغه ، حتى يبلغه ، يعني الناسخ ، فإذا بلغه فأطاع : حمد وأجر ، وإن عصى : ليم واستحق الوعيد».

ص: 181


1- الديباج على مسلم : 6 : 99 .
2- كتاب السنة : 95 .
3- ناسخ الحديث و منسوخه : 35 - 36 .

ابن عبد البر(1):

«وفي هذا الحديث - أيضا - دليل على إن الإثم مرفوع ، عمن لم يعلم ، قال الله عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾».

وفيه أيضا(2):

«وسيأتي ذكر أصول الفقهاء ، فيما يدخله الربا ، مجودا في باب ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان - إن شاء الله - وفيه إن من لم يعلم بتحريم الشيء ، فلا حرج عليه حتى يعلم ، إذا كان الشيء مما يعذر الإنسان بجهله ، من علم الخاصة ، قال عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى تبعَثَ رَسُولاً﴾».

وفيه كذلك(3):

«ومن الحجة - أيضا - في هذا ، قول الله عز وجل : ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور : 16] [التحريم : 7] ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر : 38] ومن لم يبلغ ، وقت العمل ، لم يرتهن بشيء ، وقال الله عز وجل : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص ، والحدود، والآثام ، عنهم ، في دار الدنيا ، كانت الآخرة أولى بذلك ، والله أعلم» .

السيد الطباطبائي(4):

«قوله تعالى : ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةِ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ * ذكْرَى ... الخ [الشعراء : 208 - 209] والمعنى : ما أهلكنا من قرية ، إلا في حال لها منذرون مذكرون ، تتم بهم الحجة عليهم ؛

ص: 182


1- التمهيد : 4 : 145 .
2- التمهيد : 5: 129 .
3- التمهيد : 18 : 71 .
4- تفسير الميزان : 15 : 324 - 328 .

لأنا لو أهلكناهم في غير هذه الحال ؛ لكنا ظالمين لهم ، وليس من شأننا ، أن نظلم أحدا ، فالآية في معنى قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾» .

مقاتل بن سلیمان(1):

﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ﴾ [الإسراء : 15] الخير ﴿وَمَن ضَلَّ﴾ عن الهدى ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أي على نفسه ، يقول : فعلى نفسه إثم ضلالته ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ يقول : لا تحمل نفس ، خطيئة نفس أخرى ، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ فى الدنيا أحدا و ﴿حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ لينذرهم بالعذاب في الدنيا بأنه نازل بهم ، كقوله سبحانه : ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا﴾ في الدنيا ﴿من قَرْيَة إلا لَهَا مُنذِرُونَ﴾ [الشعراء : 208] » .

عبد الرزاق الصنعاني(2):

عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : إذا كان یوم القيامة ، جمع الله أهل الفترة ، والمعتوه ، والأصم ، والأبكم ، والشيوخ ، الذين لم يدركوا الإسلام ، ثم أرسل إليهم رسولا ، أن ادخلوا النار ، قال : فيقولون كيف ، ولم يأتنا رسول ؟ قال : وأيم الله ، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ، قال : ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ .

ابن جرير الطبري(3):

بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ﴿لا تَزرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره ، ولا يؤاخذ إلا بعمله . وقوله : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً يقول تعالى ذكره : وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل ، وإقامة الحجة عليهم بالآيات ، التي تقطع عذرهم .

ص: 183


1- تفسير مقاتل بن سليمان : 2 : 252 - 253 .
2- تفسير القرآن : 2 : 374 .
3- جامع البيان : 15 : 70 - 71 .

كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ : إن الله تبارك وتعالى ، ليس يعذب أحدا ، حتى يسبق إليه من الله خبر ، ويأتيه من الله بينة ، وليس معذبا أحدا إلا بذنبه .

وفيه(1):

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي هريرة ، قال : إذا كان يوم القيامة ، جمع الله تبارك وتعالى ، نسم الذين ماتوا في الفترة ، والمعتوه ، والأصم ، والأبكم ، والشيوخ الذين جاء الإسلام ، وقد خرفوا ، ثم أرسل رسولا ، أن ادخلوا النار ، فيقولون : كيف ولم يأتنا رسول ، وأيم الله ، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل ، قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾».

الجصاص(2):

«قوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ قيل : فيه وجهان ، أحدهما : أنه لا يعذب فيما كان طريقه السمع، دون العقل ، إلا بقيام حجة السمع فيه ، من جهة الرسول ، وهذا يدل على إن من أسلم من أهل الحرب ، ولم يسمع بالصلاة ، والزكاة ، ونحوها من الشرائع السمعية ، إنه لا يلزمه قضاء شيء منها ، إذا علم ؛ لأنه لم يكن لازما له ، إلا بعد قيام حجة السمع عليه ، وبذلك وردت السنة ، في قصة أهل قبا ، حين أتاهم آت ، إن القبلة قد حولت ، وهم في الصلاة ، فاستداروا إلى الكعبة ، ولم يستأنفوا ؛ لفقد قيام الحجة عليهم ، بنسخ القبلة ، وكذلك قال أصحابنا ، فيمن أسلم في دار الحرب ، ولم يعلم بوجوب الصلاة عليه ، إنه لا قضاء عليه ، فيما ترك».

ص: 184


1- جامع البيان : 15 : 70 - 71 .
2- أحكام القرآن : 3: 253 - 255 .

أبو الليث السمرقندي(1):

«وقال : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ حجة عليهم ، مع علمه أنهم لا يطيعون ، وينذرهم على ما هم عليه من المعصية ، فإن أجابوا ، وإلا عذبوا» .

أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين(2):

«﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ تفسير الحسن : لا يعذب قوما بالاستئصال حتى يحتج عليهم بالرسل».

ص: 185


1- تفسير السمرقندي : 2 : 305 .
2- تفسیر ابن زمنين : 3: 15 .

ص: 186

حصيلة الفقرات السابقة

التعقيبات الواردة في سورة الدخان وأهميتها :

حين يتشكل المعنى ، بشكل مترابط، ومتكامل ، تبدو الصورة - للمتأمل - واضحة أكثر والإشكالية تبدأ حينما يكون هناك وضوح ، في وجود حالة نزول ملائكي ، سنوي ، على البشر ؛ للتبليغ بأوامر الله ، ونواهيه ، وتقسيم الأرزاق ، والآجال ، والحوادث . ولا بد أن تستكشف هذه الحالة ، من الوضوح ، من نفس النص ، بلا تشويه ، وبما أن النصوص في هذا المجال ، قد لحقها التشويه بشقيه المتعمد ، وغير المتعمد ، فهي - إذن - بحاجة إلى قراءة واعية ، بعد أن استكملنا دراسة كل أنواع التشويش ، والتشويه ، التي لحقت بكل الفقرات ، التي تعتمد عليها الصورة المتكاملة .

وفي سبيل استكمال الصورة ، وزيادة وضوحها ، ينبغي دراسة النص المهم ، في سورة الدخان بصورة مترابطة ، فإن فيه تعقيبات ، ومواد استهلالية مهمة جدا ، تساعدنا – بالتالي – على توجيه المعاني بصورة واضحة ، و باتجاهات متوافقة ، ومنسجمة مع نفسها ، وتثير مسألة كلامية مهمة جدا ، وهي (الرسالة الإلهية وضرورتها المستديمة) .

وقبل تشخيص مادة الاستدلال ، ومادة التعقيب ، علينا أن نقوم بتجميع الفهم ، لتلك الآيات ، جريا مع سياقها .

وهذه محاولة تفسيرية - آخذة بنظر الاعتبار ، التشخيص المتقدم للمفردات ، وإزالة التشويش ، كما تقرر في كل مفردة - يمكن اعتبارها حالة استنطاق بياني للنص بموجب مقدمات تم بيانها ، حسب التحقيق السابق، الذي حاورنا كل مفاصله :

ص: 187

الآيات المباركة من سورة الدخان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿حم﴾ : من الحروف المقطعة في القرآن . ﴿و﴾ حرف القسم ، والمقسوم به ، هو ﴿الكتاب المُبين﴾ لعظمته . ومن عظيم تناول القرآن ، فإن المقسوم به ، له دخالة ، بما يليه ، بنحو من الأنحاء . ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ أي : القرآن ، أو : الكتاب ، جملة ، على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ﴿في ليلة الله لَيْلَة مُبَارَكَة﴾ وهي ليلة القدر ، في شهر رمضان المبارك ، وهي الليلة ، التي قال فيها تعالى : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمر * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ . ﴿إِنَّا كُنَّا منذرينَ﴾ : تعليل ، أي : لكوننا منذرين . ﴿فيها﴾ أي : في ليلة القدر ، إجراءات إلهية ، خاصة منها : إن فيها ﴿يُفْرَقُ﴾ أي : يفصل ، ويميّز ، ويبين ﴿كُلُّ أمر﴾ بنوعيه الكوني ، والتشريعي . ﴿حكيم﴾ محكم ، لا تبدل فيه بعد البيان ، وهذا الأمر ، متعلق بالإرادة الإلهية الحرة . فوصفه ، بقوله : ﴿أَمْرًا من عندنَا﴾ لا من غيره سبحانه . ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسلين﴾ واقع موقع التعليل ، للأمر الصادر في ليلة القدر ، بينما قوله تعالى : ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذرين﴾ واقع موقع التعليل ، بنزول القرآن في ليلة القدر ، وكلاهما معلول ؛ لقوله تعالى : ﴿رَحْمَةٌ من رَبَّكَ﴾ أي : ذلك الإنذار ، وذلك الإرسال ، إنما التزمنا به ؛ لصفة الرحمة ، اللازمة لربك . ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لكلام مخلوقاته ، وحجتهم وهو ﴿العليم﴾ بذاته ، وبحال خلقه ، وحاجتهم إلى الرحمة . ولازم علمه ، الالتفات إلى خلقه ، ورحمتهم ، وإلا انقلبت ذاته .

وهنا ، ذكر بأن رحمته ليست في إرسال الرسل ، والمنذرين ، فقط . وإنما تشمل ، أساس رحمة الوجود ، وإدارة الكون فهو : ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من : حياة ، وموت ، وتلك حقيقة الرحمة ، الفاعلة الدائمة ، ويمكن أن الربط بين رحمة الوجود ، ورحمة إدامة الوجود ، ورحمة تهيئة الأسباب ، بإسعاد الموجودات ﴿إن كُنتُمْ﴾ عارفين ﴿مُوقِنِينَ﴾ في و معرفتكم ، بأن من يرحم ابتداءً . ، ويرحم بقاء ، وانتهاء ، إنما هو رب قائد ، لا يمكن أن يحبس رحمته عنكم ، كجزء من عباده ، فلا بد أن يسبب لكم سبل السعادة ، باستحقاقكم ، لا بالقهر

ص: 188

والغلبة - فتفقد السعادة معناها - ولا بد أن تبتني معرفتكم ، ويقينكم ، على توحيده فهو : ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ فردا صمدا ، لا خلو فيه ، ولا يحده شيء ، وهو أساس ذلك العلم . ويتحدد ذلك العلم بمعرفته من جهات متعددة .

الذي : ﴿يُحْيِ وَيُمِيتُ﴾ أجسادكم ، ابتداء ، وانتهاء ؛ وذلك استمرارا لرحمته ، من دون تخلف ، بين السبب والمسبب ، وهو ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ﴾ حقيقة(1).

ولكن هذه المعرفة التوحيدية ، ولوازمها، من إرسال الرسل ، وتخصيص ليلة خاصة لذلك الإرسال ، للتقديرات السنوية العامة ، لا تتوفر عند بعضكم ، فهم غير جادين – أساسا – في المعرفة ، ﴿بَلْ﴾ ﴿هُمْ في شَكَ يَلْعَبُونَ﴾ بالألفاظ ، والأفكار ، والأعمال .

ثم ساق الله تعالى ، تهديدا بعذاب دنيوي ، وهو يوم الدخان العظيم ، المبين لكل البشر ، والذي يحمل الرعب ، والدمار ، والعذاب . ولعلنا في هذا العصر ، أكثر إدراكا لرعب الدخان ، المنبعث من التفجيرات النووية ، والمواد الكيماوية السامة . فلا يبعد أن يكون من قبيله.

أقول : إن هذه الصيغة للفهم ، لم تكن لاعتبارات ذاتية، بل أملاها واقع الموضوع ، وواقع التفسير ، وقد احتمل هذه المعاني المفسرون ، وقد تم تعينها نتيجة التحقيق المتقدم ، بل عيّن المفسرون ذلك بأنفسهم ، خصوصا ما بعد : ﴿أَمْرًا من عندنَا﴾ مع اختلاف في الألفاظ ، وبعض التحديدات الغير مخلة ، بمجمل المفهوم العام ، من السياق العام ، وقد مر علينا آنفا ما قرأناه من أقوال : ابن كثير والزمخشري ، وما اطلعنا عليه من تفسير الطباطبائي ، وغير ذلك الكثير مما قدمنا . فليراجع : تفسير ابن كثير والكشاف والميزان وجميع التفاسير تقريبا ، في تفسيرهم لسورة الدخان .

لقد قدمنا لهذه الفقرة ، بأن هذه الآيات فيها مادة استهلالية ، لأمر مهم ، وهو أمر الرسالة ، فقد

ص: 189


1- لعل في التذكير بالربوبية العامة ، ثم التوحيد الخالص ، ثم فعله للحياة والموت ، ثم بالربوبية الخاصة بالبشر بسلالاتهم ، ترابطا موضوعيا ، وليس طرحا عشوائيا ، لموارد الرحمة. ولعل التأمل كفيل بفك مثل هذه الرموز .

تعرض لوجوب النبوة ، بناءً على دليل الرحمة ؛ لأنها صفة له تبارك وتعالى ، منتزعة من ذاته الرحيمة ، العليمة ، المستدل عليها عقلا ، بالاستقراء الكوني العام .

وهكذا ينبغي ، إعادة صياغة الدليل ، بمنظور تنازلي ، لا تصاعدي . كما طرحة القرآن الكريم ببراعة عجيبة ، نعجز - بكل تأكيد - عن مجاراته فيها ، فإننا تصاعديا ، لا نستطيع أن نضيف شيئا ، لما ورد في الكتاب الكريم ، ولكن يمكننا أن نجد فسحة ، في الدليل التنازلي .

وعليه ، سنعيد - هنا - صياغة الدليل ، بطريقة تنازلية كالتالي :

إننا إذا التفتنا ، إلى تمتعنا بنعمة الوجود ، وتمتع كل الموجودات ، في السماوات ، والأرض ، بهذه النعمة ، سيثير عندنا تساؤلا ، حول خالقنا ، وسينتهي التساؤل ، إلى الإجابة الحتمية التالية : إنه لم يكن من قبيل العبث ، خلق هذا الكون ، ولم يكن من قبيل النقص تمتعه بنعمة الوجود ، وأسبابها العجيبة ، بل صدر ذلك عن كمال مطلق ، فيه مطلق الحسن ومطلق نور الحياة ، وذلك يعني لزوم أمور متعقلة لنا ، وإن كانت غير محدودة أمامنا ، كعلمه ، وحياته ، وقدرته ، وباجتماعها نستنبط غناه ، فإذا كان غنيا ، وقد خلق من دون حاجة إلى خلق ، فلا مناص من أن يكون ابتدائه بالنعم على خلقه ، إنما هو منه رحمة ، وهذه صفة ننتزعها ، ونستكشفها ، من علاه ، وغناه ، وقدرته ، وحياته ، التي لا نقص فيها . فإذن هي صفة لازمة له ، لا ينفك عنها - إطلاقا - وهل يعقل أن تكون هذه الصفة، ابتداءً ، قبل وجودنا ، وبالتالي قبل حاجتنا ، ثم تنتفي عنه ، بعد وجودنا وحاجتنا ! - حاشاه - ومستحيل أن تتخلف الذات عن ذاتياتها ، بمفهومنا البشري فكيف يتخلف الكمال ، عن ذاته فتتعطل رحمته ، لحظة واحدة ، في عالم الحق ، والصدق ، والثبات واللا محدودية ، في العلو الكمال . فلا بد من إيجاد أسباب لسعادتنا ، ولا بد من إعطائنا ما نستحق ، من سعادة ، أو شقاء بعدله ، - وهكذا - منحنا الاختيار ، وعرض علينا رسالته ، التزاما منه بكماله ، واستحالة تخلفه - كما قلنا - فأوجب على نفسه ، بهذا المعنى من اللزوم الذاتي ، أن يلطف بعباده ، ويرحمهم ، فلا يتركهم ، من دون توجيه لما يسعدهم ، في كل حال ، وذلك عن طريق إرسال رسله ، من ملائكة ووسطاء بشريين ، وقد اقتضت حكمته ، أن ينفذ رحمته ، فيرسل

ص: 190

ملائكة في كل ليلة قدر ، من كل سنة ، بكل أوامره ، ونواهيه، وأرزاقه ، وتقديراته الكونية المتعلقة بنا ، وعلى الرغم ، من عدم معرفتنا ، سر الاختصاص بهذه الليلة – علما إن الإنذار والإرسال ، بحسب الحاجات ، غير مخصوص بتلك الليلة ، في المعالجات الآنية ، والتي نجهل صورها ، وحيثياتها ؛ لكونها فوق تصورنا ، فهي مستمرة دائما ، لاستمرار حاجتنا ، فرحمته جاهزة - دائما - ولا يختص ذلك ببعض ، دون آخر ، ولا بأمة دون أخرى :

﴿وَلكُلِّ أُمَّة رَسُولٌ﴾ [يونس : 47]. ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّة إلا خلا فيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] . إننا بهذا المنظور التنازلي ، نفهم مسار الآيات ، ذات المنظور التصاعدي في الدليل المطروح ، في أول سورة الدخان ، فإنه لم يعرض سبحانه مجرد صورة ، ومجرد فكرة ، ومجرد توصيف ، وتشخيص ، وإنما عرض مسببات ، وعرض تحليلا توحيديا ، معللا ارتباط الحكمة ، والرحمة في الكون ، به سبحانه وتعالى ، بالالتزامات ، التي لا تنفك إطلاقا ، وباستدلال بديع ، وعجيب في الاختصار ، والإفادة . فهو إلى الدليل العقلي ، أقرب .

تنبيه مهم :

تنبيه لا بد منه في ذيل هذا الدليل :

غالب الدارسين لعلم الكلام يعتقدون بأن الشيعة يعتمدون دليل اللطف كدليل أساسي في تقرير الإمامة وتعيين الإمام عقلا كما يتخيلون ، ولكن بمراجعة النصوص الصادرة عن أئمة التشيع نراهم يطرحون أدلة متعددة كدليل الرحمة ، كما هو في طرحه القرآني بهذا الشكل البديع ، وأما سبب استخدام الشيعة الإمامية في القرن الرابع وما بعده لدليل اللطف ، والتبحر فيه ، وزيادة الكلام حوله فهو لمجابهة المعتزلة ونظرائهم ممن يتفرع منهم ، حيث التزموا دليل اللطف في وجوب النبوة على الله ، وتوقفوا في إعمال نفس الدليل في الإمامة مع اتحاد المسارين وعدم المانع إطلاقا من إعمال الدليل .

بعد بیان دليل الرحمة بهذا الشكل الذي قرره القرآن الكريم حيث أن رحمة الله تقتضي إسعاد

ص: 191

خلقه العقلاء فلهذا يرسل لهم الرسل ويتواصل معهم دائما ، فلا بد من إرسال البيان بشكل مستمر ، وهو يكون بالنبي أو خليفته المطلع على سره في ليلة القدر بدون رسالة مستأنفة .

ومن أجل أن يفهم القارئ الكريم الفرق بين دليل الرحمة ودليل اللطف ، وأن دليل اللطف أفضل بكثير مما يتصورونه ويثيروه عليه من إشكالات ، يجب أن نبين معنى دليل اللطف باختصار حتى يستكشف القارئ الكريم الفرق بينهما :

تقرير دليل اللطف : بما إن تكليف العباد حسن لنظم شأنهم وحفظ نوعهم ، وجودا ومقاما وبما أن الله عالم كامل مختار فلا بد أن له في كل واقعة حكم وأنه لا يمكن منازعته ورفض حكمه ، وهذا هو عين التكليف ، وبما إن الله عادل وكامل لا يفعل القبيح ، فلا بد إذا كان قد كلّف عباده أن يبعث المبيّن للتكليف ، وان يمكن العباد من أداء التكليف . وبهذا المعنى من اللزوم العقلي يقال يجب على الله بعث الرسل لبيان التكليف وتمكين العباد من طاعته وتنفيذ أحكامه ، وليس هو من باب الوجوب التكليفي عليه - حاشاه - بل من باب لا ينبغي أن يخلو الله من العدل والكمال ، وبوجه آخر لتقرير المقدمة المشكلة عندهم : بما إن التكليف يستدعي العقاب والثواب فلا يصح ذلك بدون بيان وتمكين لأن العقاب بدون بيان ظلم ظاهر ، وهذا هو جوهر دليل اللطف ، وقد عرفوا اللطف : بأنه ما يقرب العباد من الطاعة ويبعدهم عن المعصية ، وإنما يكون ذلك - كما لا يخفى - بالبيان والتمكين . وهذا هو عينه دليل المعتزلة على وجوب بعث الرسل وهو أساس ردهم على الحشوية الذين يقولون لا يوجد مصلحة ولا دافع لإرسال الرسل ، وإنما هو أمر تعبدي محض ، ولكن حين يطبق الإمامية نفس الدليل النافذ عقلا على الإمامة باعتبارها استمرار للنبوة بيانا وتمكينا ، فهنا لا يقبل المعتزلة ذلك ، ويبدأون بالإشكالات بما يهدم أساس نظرية اللطف التي يقولون بها ، واهم نقطة يبدأون بها الإشكال هو موضوع التمكين ، غير مفرقين أن الشيعة يقولون بالتمكين بالإمامة وليس بالإمام ، أي بإقامة نظام الدولة العادلة الشرعية ونظام البيان المستمر بشكل عام ، ومن بحث دليل اللطف بأنه تمكين بالإمام وتعيينه ، فهو من باب المصداق وانجرار القلم لهذا المصداق ، وإلا فأصولهم واضحة : أنهم يقولون بوجوب

ص: 192

الإمامة بدليل اللطف . والإمام عندهم بالتعيين بالنص ، والصفات لشمائل ، ومنها العلم اللدني الخاص.

فبالإضافة لعدم فهمهم لدليل الشيعة وموضع استخدامهم لدليل اللطف ، فهم يشكلون بما لا يمكن أن يلتزموا - هم أنفسهم - بلوازم إشكالاتهم . وسوف يأتي في آخر هذا الكتاب نماذج من أجوبة الشريف المرتضى على القاضي عبد الجبار المعتزلي ، بكتاب كامل اسمه الشافي من اجل أن يبيّن خطأ إشكالاتهم .

وخلاصة إشكالهم هو : إن التمكين يوجب المباشرة الفعلية بين المبين وبين الناس ، وبما إن إمامة الشيعة طالها غيبة ظاهرة فقد بطل التمكين ، لعدم المباشرة ، فلا يصح التمسك بدليل اللطف في وجوب الإمامة .

وهم يريدون بكلامهم : إن الغيبة واقع عملي يبطل وقوع اللطف نفسه . فكيف تكون الإمامة لطفاً . وواقع حال الإمام الغائب يبطل اللطف كما يتخيلون ؟ وهذا غاية إشكالهم .

وهو إشكال سطحي جدا ، لم يفكر قائله - بقوله هذا - بأنه لم يفهم نظرية اللطف نفسها ، التي يقول بها المعتزلة أنفسهم ، لأنهم بهذا الإشكال يبطلون الديانات بموت الرسل ويبطلون قاعدة اللطف نفسها بالفترة بين الرسل الثابتة عندهم وعند جميع المسلمين .

والأساس الأولي في الرد على هذا الإشكال هو : إن قاعدة اللطف غير ناظرة أساسا للمباشرة مع المكلف ، وإلا لوجب أن يكون لكل مكلّف رسول يباشره . وهذا لا يقول به عاقل فضلا عن المعتزلة أنفسهم. وغاية ما تقرره القاعدة هو وجود المبين بنحو ما ، وهذا يتحقق بوجوب الإمامة وإقامة الدولة على أساس العدل والشرعية وإتباع الشرع بدقة بوجود إمام عدل على نحو الأصالة ، ودليل الشيعة على إمامة أئمتهم بطريق آخر لا علاقة له بهذا الموضوع .

فالشيعة لهم قولان منفصلان : الأول : وجوب الإمامة . والثاني : التمسك بصحة أدلة إمامة أئمتهم بالنصوص الصريحة من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد يضاف إليه أدلة الأفضلية والأعلمية له والاختصاص بالله ، التي لا يدانيهم فيها احد . فهذا مبحث آخر تماما وهو لا يرتبط بدليل اللطف ،

ص: 193

حتى لو تطابقت الأدلة والعناوين على شخص بعينه ، كأن تكون أدلة الإمامة وانطباقها على المبين المطلع تتفق على تحديد شخصية علي بن أبي طالب (علیه السّلام) لكونه الفرد الأمثل لوجوب الإمامة . ولتعينه كإمام ، ولكن لا شك فان الأدلة مختلفة ، والتداخل في العالم الخارجي لا يستدعي التداخل في الدليل وموضوعه.

وهذا الإشكال المعتزلي السطحي لا يمكن أن يرد على دليل الرحمة . لأن اصل الرحمة تفضّل من الله ، وقد التزم الله به حسب النص ، ومقدار الرحمة بيده وليس مفروضا عليه ، فلا يصح أي إشكال بأن الفترة أو موت الرسول أو غيبته أو غيبة خليفته أو انعزاله فقد لمفهوم الرحمة ، حيث أنه يوجد اشتباه في هذا الباب ، بينما اشتباههم في اللطف نابع من توهم المباشرة والدوام في المباشرة ، وهذا غير لازم في اللطف فإن التمكين ليس بالمباشرة ، وإنما بوجود المبين الفعلي بنحو من الأنحاء ، وبالتمكين من أداء التكاليف ، وهذا لا تؤثر فيه فترة أو غيبة.(1) إلا ان تعقل الدليل يحتاج إلى تأمل ، وفهم لمقدمات الدليل وموضوعه بشكل دقيق حتى يمكن تخيل كامل الصورة ، وهذا ما يفتقر إليه المشكلون ، بلا فهم لواقع الدليل .

ص: 194


1- ادعى بعض ظرفاء المعاندين بأنه إذا كانت غيبة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو موته لا تؤثر في حصول اللطف ، فلا حاجة للإمام إذن لكون الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) قد وجد وتوفي ، والاكتفاء بما فعله المسلمون من خروج على مبدأ النص وقد غفل هذا المتحذلق أن كلامه يعني أن لا حاجة لديانة جديدة كاليهودية والمسيحية والإسلام أصلا، والبقاء على ديانة إدريس أو آدم قبله . ونسي إن الشيعة لا يقولون قولا غير مترابط بين قيامة الإمامة ، وبين وجود الإمام ، بل يربطون بينهما ربطا عضويا ، ودليل اللطف هو دليل قيام الإمامة ، وليس وجود الإمام ، وهو يخلط هذا وذاك ، من اجل أن يشوش الفكرة أو هي بین عنده مشوشة أصلا، فيعتقد بأن دليل اللطف ، مثلا ، هو دليل إمامة المهدي (علیه السّلام) وهو ينخرم بغيبته . وكل هذا نابع عن عدم فهم معنى دليل اللطف وعدم تعيين موضوعه وعدم معرفة ما يستدل به الشيعة . فهل يحتاج من احتاج الكل إليه ، ولم يحتج إلى الكل - ذاك من جعله رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مولى على كل مؤمن ومؤمنة - إلى دليل اللطف ليدل على إمامته سلام الله عليه ؟ ولهذا على القارئ الكريم أن يراجع دليل اللطف بصورة جيدة ، وسيأتي بعض البيان اللازم فيما ناقشه السيد الشريف المرتضى في هذا الباب بالذات .

الإشكالية

ص: 195

ص: 196

الإشكالية

لقد تقدم تقرير المبادئ الآتية ، وفق النص القرآني :

1 - توجد ليلة متكررة في كل سنة ، لها بركات خاصة ، تسمى ليلة القدر.

2 - من خواص تلك الليلة : نزول الملائكة بأوامر الله ، التكوينية ، والتشريعية ، المتعلقة بأهل الأرض.

3 - في تلك الليلة المباركة ، حدث أيضا نزول القرآن ، جملة ، دفعة واحدة .

4 - في تلك الليلة ، يتم بيان ، وتفصيل الأمور ، التي أحكمها الله تعالى .

5 - إن كل تلك الخواص ، متعلقة بالإنسان في الأرض - بالدرجة الأولى - وفي زمن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان النزول عليه ، بلا أدنى شك . وإن النزول مستمر ، على ما كان عليه . وأهم ما يلفت النظر ، هو كونه إلى أهل الأرض ، دون أهل السماء . وقد بحثنا كل تلك النقاط بتفاصيلها في المقدمة.

بعد هذه المقدمات ، نقول - إذن :

على من تنزل الملائكة ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكذلك قبله ؟

وهل يعقل ، إن الله تعالى ، يصدر أوامره إلى غير مأمورين ؟

ويرسل رسله إلى من لا يتلقى ؟ فهل أرسل رسله في ليلة القدر ، إلى الحجر ، والشجر ، دون أكرم مخلوقاته ؟

ص: 197

إن الحل الوحيد ، هو وجود نائب للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، محدث ، يتلقى ذلك ، وله نفس قدسية ، قادرة على تلقي الأوامر الإلهية ، والأحكام الواقعية ، التي يريدها الله.(1)

إننا ، إذا لم نوافق على تصور هذا الحل ، فليس أمامنا إلا حالتين :

1 - إن القرآن ليس بشيء !

2 - إنه كتاب الله ، ولكن لا مفهوم له ، ولا معنى !

ذلك أن القرآن صريح ، وقد حاصرنا تماما ، بتشخيص خواص ليلة القدر ، وإبراز فعلية وقوع الإرسال ، معللا بعلة سارية ، وهي تتعلق بالله – عز وجل – لا بظروف إنسانية ، أو واقع كوني ، ولهذا فهي علة مستمرة ، ومعلولها مستمر ، وهذا المعلول ، الذي هو الإنذار والإرسال مستمر في واقعه .

فأين هذا في واقعنا ؟

وهل يدعي أحد ، تخلف المقولة القرآنية عن الواقع ؟ فتكون بذلك باطلة .

إن على القائل بذلك ، أن يراجع إسلامه ، إذا كان مسلما .

وهل يدعي أحد بأن كل تلك النصوص ، فاقدة للمعاني ، وأنها لا تعني شيئا ؟

القائل بهذا ، عليه أن يتعلم لغتنا التي نزل بها القرآن الكريم ، حتى لو كان ولد من أبوين عربيين . وعليه أن يراجع عقله ، في موازينه ، ومعاييره ، المنطقية ، والعقلية .

ملاحظة :

قال الشيخ محمد صالح المازندراني ، عن ، عن مشكلة ليلة القدر في شرح حديث للإمام سلام الله عليه(2): «لإخبارها بنزول الملائكة والروح فيها ، من كل أمر ، إلى ولي مؤيد من عند الله تعالى ، ولا يمكنهم التخلص ، إلا بأن يقولوا :

ص: 198


1- سيأتيك قريبا ملاحظة الشيخ محمد صالح المازندراني وهي تؤدي نفس مؤدى الإشكالية .
2- سيأتي تفصيل القول في الفصل الثاني .

1 - ذهبت الليلة بذهابه (صلی الله علیه و آله و سلم).

2 - أو يقولوا : ذهب النزول بذهابه .

3 - أو يقولوا : ثبت النزول إلى سلطان الجور .

4 - أو يقولوا : ثبت النزول ، لا إلى أحد.

والكل باطل .

أما الأولان ؛ فلدلالة رواياتهم - أيضا - على بقائها ، وبقاء النزول فيها ، إلى يوم القيامة ، ولإجماعهم على بقائهما كما مر .

وأما الثالث ؛ فلأن نزول الملائكة إلى الجائر ، بما يحتاج إليه الناس ، من الأوامر والنواهي ، باطل بالضرورة ، ولم يدع ذلك أحد من من الجائرين .

وأما الرابع ؛ فلأن نزولهم بالأوامر والنواهي ، لا إلى أحد من الخلق ، مما لا يتصور قطعا»(1).

أقول : بل هو عبث وسفه – حاشاه سبحانه منه.

ص: 199


1- شرح أصول الكافي : 6: 13.

ص: 200

الاعتراضات المتوَهَّمَة

ص: 201

ص: 202

الاعتراضات

قد تواجه هذه الإشكالية ، اعتراضات كثيرة ، بطرق غير مباشرة ، نتيجة قراءة فكر يحاول التخلص من إلزامات هذه الإشكالية ، بطريقة التحاشي من جوهر الإشكالية والتهويش حولها للتشويش عليها . وهي في الحقيقة اعتراضات على الإمامة بصورة عامة ، وبعضها اعتراض على ما تؤدي إليه الإشكالية ، من إثبات وجود إمام ، حتى لو كان مخفياً . وكما نعلم ، فإن الاعتراضات على الإمامة ، لم تكن لتوجد ، لولا أنها تدل صراحة على الأئمة المعصومين من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولو بحث باحث مبحث الإمامة وتطبيقها على الحكام الجائرين ، لما كان فيها أية مشكلة عندهم ، بل كانت لازمة وضرورية ، ولا يعقل غيرها عندهم - أصلا . وهم ويقاتلون أهل الأرض ، والسماء عليها . ولهذا ، فإن هناك خلطا عجيبا ، في بحث من هذا القبيل .

فحين نبحث عن الإمام الحق ، الشرعي الملتزم المفيد للمسلمين ، نجد أشكال الاعتراضات ، التي لا تنتهي ، وحين تبحث الإمارة على المسلمين ، بما فيها من نماذج الفساق ، والجلادين ، وقتلة الشعوب الإسلامية ، ومخلّفي دولة الإسلام عن الركب الحضاري ، نجد اللزوم ، وعدم وجود أي شك ، وعدم قبول أي اعتراض ، حتى لو كان الأمير ، يصلي في الناس صلاة الصبح ثمان ركعات ، ويقول للمصلين لو شئتم أن أزيدكم ، ثم يقيء الخمر في المحراب ، أو حتى لو لبست راقصة أمير المؤمنين ثيابه ، وصلّت في شيوخ المسلمين صلاة الصبح سكرانة مجنبة ، بدل الخليفة ؛ لأنه لا يستطيع الصلاة من شدة السكر ، فمثل هكذا أمير تجب إمارته ، ولا يجوز مخالفة

ص: 203

أوامره ، أو عزله ، وغاية ما يكون منهم أن يقول لك متدينهم : إن الواجب نصح الأمير ، ونستغفر الله من الذنب .

إن هذا الخلط العجيب في البحث ، يدعونا جميعا - كمسلمين ، الآن - بعد بشائر زوال سطوة الحكم باسم الدين ، والتسلط ، وقتل الناس باسم الدين ، إلى مراجعة شاملة لمجمل فكرة : شرعية الحاكم المسلم ، حسب ابسط قواعد العقل ، لمعرفة الفرق بين وجوب حفظ النظام ، وبين شرعية الحاكم الجائر .

فإذا كان الدليل على الرضا والتسليم ، ولزوم الحاكم الجائر، ومتابعته ، هو الاحتجاج بضرورة حفظ النظام ، فإن هذا الدليل لا يلزمنا أن نقبل حكم الباطل وأهله ، وتحكيم الجائرين ، بل إن النظام - بمفهومه الدقيق - لا يكون محفوظا بوجود هؤلاء وأمثالهم على رأس السلطة ، وهم إنما يحفظون أنظمتهم ، والجائر المتسلط منهم إنما يحفظ نظام سيطرته وتسلطه ، وظلمه ، وجوره على الناس ، والناس بعد مطية له ، إن كان قاسيا ذلوا ، وإن كان رحيما فرّج عنهم ، حسب مزاجه . وهذا ليس حفظ نظام ، ولا تحقيق عدل ، ولا هو نشر لدولة الحق على رؤوس العباد .

إن مشكلة العقدة من فكرة الإمامة ، تجعل كل معقول غير معقول ، وهذه العقدة ، قد كونت مجموعة هائلة من الأوهام ، والتصورات ، التي لا ترابط بينها.

نحن هنا ، لا نبحث موضوع الإمامة ، بمعناه الفقهي، ولا بمعناه الكلامي ، ولكننا مضطرون لأن نشير إلى الخلط بين المفاهيم . فالإمامة التي نقول عنها واجبة ، في علم الكلام ، هي وجوب رئاسة الناس ، بما يحفظ الدين والدنيا ، والإمامة التي تبحث في علم الفقه ، هي وجوب رئاسة الناس لحفظ النظام ، بطرق شرعية سواء بالأصالة ، أو بالبديل الشرعي .

بينما الموضوع - هنا - مختلف تماما ، وهو اصطفاء الله - تبارك وتعالى - لأشخاص معينين ؛ ليعلموا أحكامه ، ويكلفون بما يأمرهم الله ، من تبليغ ، أو عدمه.

فهو متعلق بشخص معين ، هو الإمام ، أو الولي ، أو ما شئت فسمه ، من تسميات القرب من الله ، تخبره الملائكة بأوامر الله ، ونواهيه ، وصحائف الأعمال ، والأرزاق ، والحج ،

ص: 204

والآجال . حسب النص القرآني، الذي قمنا بتحليليه ، وتفصيل نقاطه ، بتفكيك النص ، وتجميعه مرة أخرى .

ونحن – هنا – نبحث موضوعا متعلقا بإرادة الله ، وقدرته وتواصله مع خلقه ، وهذا ليس من أبحاث علم الكلام ، بصيغه الدقيقة ، المتكفلة بإقامة البراهين على صحة المذهب أو الدين ، بل هو بحث في معرفة الله ، عن طريق الله ، بعد أن نكون قد فرغنا من الإيمان بالله ، وبرسالته ، وكتابه الكريم . وهو بحث عمّن خصهم الله بينابيع علمه ، وفيض إرادته .

إنه بحث عن كرم الله في خلقه ، وعن خصوصيات الخلق ، التي لا تعزب عن الله ، وعن مهبط علم الله ، وعن مصداق قوله عز وجل : ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام : 124] الدال - ولو بطرف - على الاستمرارية في الجعل كما توضحه صيغة المضارعة .

وهذا الموضوع ، لا يحتاج إلى فلسفة ، ورد وبدل ، وإنما هو متوقف على أمور بسيطة ، منها :

1 - معرفة قول الله.

2 - ومعرفة المراد من القول ، بذوق عربي سليم، وبفهم علمي في تلقي الدين . ولا يحتاج إلى تقعر عقلي ، أو ما شابه ذلك .

فإذا ثبت أن الله يرسل ملائكته ، بشكل مستمر إلى الأرض ، بحكم الله التفصيلي ، في كل سنة ، فليس أمامنا فسحة كبيرة ، لنبدي تفلسفنا ، ورفضنا ، أو قبولنا ، على أساس من القيم العقلية ، أو الفلسفية ، المدعاة ، بل ليس أمامنا إلا السؤال ، والبحث على من تنزل الملائكة !! .

وهذا سلوك منطقي جدا ؛ لأننا لسنا في مرحلة الشك ، في أصل الرسالة ، أو أصل الكتاب .

وهنا ، يجب التنبه ، إلى إن القصد ، هو أنه بعد إثبات الضروري ، من الدين بعينه ، فسيكون البحث هو : هل هنا إنكار للضروري أم لا ؟ باعتباره يحتاج إلى تحصيل، وتأمل . فمن وجهة نظر علمية ، ودينية ، يمكن قبول ، أن يكون إنكار وجود من ينزل عليه البيان سنويا ، هو إنكار للضروري ، بعد تصريح القرآن ، باعتبار إن ظواهر القرآن، التي لا تحتاج إلى تأويل صارف ، هي نصوص قطعية وضرورية التصديق .

ص: 205

ومن يدعي إن هذا البحث، متأخر عن إثبات أصول متعددة ، فهو لم يفهم أساس البحث ؛ لأننا لا نكلم من يشك في الرسالة من أساسها ، أو من يلحد بالإسلام ، وإنما نكلم من يقتنع قناعة كلية بالقرآن ، وبما فيه من نص مقدس .

والبحث - أساسا - هو جواب السؤال ، عن إمكانية ذكر خصائص المهدي في القرآن الكريم ؛ ليصار إلى الإيمان به، كالعلم الإلهي الخاص ، ونزول الملائكة عليه . فهو بحث في النص القرآني ، لا مناقشة للنصوص الفلسفية ، وغيرها .

ولكن ديدن أهل الهوى ، أنهم يطلبون شيئا في البداية ، كالدليل القرآني المحض ، وبعد مجابهتهم به ، ينقلبون إلى فلاسفة ، ومحللين معنويين ، يرفضون النص ، ويجدون ألف إشكال في النص ، وطلبه ، ويرون إن من اللازم عدم التفكير في النص ؛ لأنه يخالف المنطق ، أو الفلسفة ، أو العقل ، وفي الحقيقة ، هو يخالف الهوى المذهبي المعلوم .

وهنا يختلقون مشكلة ، يعتقدون إنها مشكلة كبرى ، تنفي الغرض القرآني ، وهي غيبة الإمام . فما شأننا - نحن - إذا شاء الله تبارك وتعالى ، أن يكون من ينزل عليه الأوامر ، مختفيا مثلا وكيف نردّ على الله ، بأنه بما أن من ينزل عليه الأمر في خفاء منا . فما فائدته ؟ ولماذا يكون هو ؟ فأذن لا يصح يصح ما دامت لم تثبت عندنا فوائده ؟ على ان هذا الاعتراض باطل وقد قلنا ذلك سابقا .

وهكذا توجد دوامة من التساؤلات ، التي لا يراد لها نهاية ، ولا غاية ، وهي في الحقيقة ، ليست ضد الفكر الشيعي ، لأنه لا دخل له بهذا ، وإنما هو كلام ضد القرآن ، وضد الله عز وجل ، بوقاحة بالغة.

فما دخل الشيعي أو غيره بما يقوله الله في كتابه ؟

وكل الاعتراضات ، هي على ما يقوله الله ، لا على ما يقوله الشيعي ، فمن الخديعة والدجل الفكري ، أن نحوّل القضية إلى قضية مذهبية ، مختصة بالشيعة ، حتى يقبل الناس سيل الشتائم ، باعتباره الشيعة مبطلين ، كما يروّجون ، وهذا عين الدجل ، فإن الرد - هنا - هو رد على الله ، وليس هناك أدنى عذر ، يمكن التمسك به ، من قبيل اختلاف التفسير ، أو سوء الفهم بيننا ، بل هو رد

ص: 206

لكلام الله بشكل صريح ، وعلني ، بصيغة الرد على الشيعة ، فهل الشيعة هم من أنزل القرآن ، حتى يُسبون على أساس عدم معقولية الفكرة .

إن الفكرة يخبر بها الله جل جلاله في كتابه الكريم ، ولا شأن لمذهب ، أو عالم بها .

فلو اعترض معترض ، بأنه ليس هناك دليل بتطبيق القضية على الإمام المهدي (علیه السّلام)، في وقتنا ، فهذا لا ينفي وجود أصل الإشكالية ، وهو يحوم حول رفض القرآن ؛ لعدم قبول التصديق به.

ومع ذلك نقول : أولا : أنتم أهل نصوص ، ونحن أهل نص ، فبالنسبة لنا ، فقد ثبت عندنا ، بصحيح الحديث ، أنه الإمام المهدي (علیه السّلام)، فيبقى أنتم ، من ترونه في تطبيق هذه القضية ؟ ومن هو مصداقها ؟ بينوه لنرى حجتكم ، إذا كان لكم حجة ، فقد قرأنا ، كل ما عندكم ، فلم نجد إلا التشويش ، والتهرب من الموضوع ، ولا يوجد لديكم دليل واحد صحيح ، أو غير صحيح ، يدل على من تتنزل الملائكة ، فلماذا يخلو تراثكم ، من حدث مهم كهذا ، عليه بناء النبوات ، وأساس الرسالات ؟

وهو بظاهر القرآن ، أمر له علاقة باستمرار رسالة الله إلى عباده ، وطبيعة تعامله معهم دائما ، بدون انعزال عنهم .

فإن مسلك التحقق من صدور النص، ومن ثم التحقق من مفهوم النص ، لهو سلوك الهداة المهديين من البشر ، وهو سلوك أهل الإيمان ، والتصديق برسالته ، وهو خير هاد لمن يملك قلبا ، سليما ، وعقلا فاهما ، وهو من يهدي الساعي إلى رضا الله ، أن يستكشف خارطة الإيمان عند الجميع ؛ لأن من يرى الحرص على تغيير ، وتشويش الحقيقة ، يعرف بأن هناك غرضا ، لمنعه من الوصول إلى الحق . وهذا داع للسعي إلى الحق ، وكشف الحقائق ، وكشف الأغراض ، وعلاقتها بالدين ، وبرسالة الله .

إن مشكلة تغيير اتجاه البحث ، والتبدل في الفكرة ، هي مشكلة حقيقية يعاني منها الفكر الإسلامي بشكل عام ، حتى في الأبحاث العلمية الظاهرية ، حيث يعمد الباحثون لربط ما لا ربط له بالموضوع ، من أجل التخلص من اللوازم المدمرة للمذهب ، الذي يسير عليه الباحث .

ص: 207

هنا - في هذا الموضوع قد نواجه - بل واجهنا بعضها بالفعل - عدة صور من السلوك ، تجاه هذا البحث ، وقد قدمت محاولات متعددة لتغيير وجهة البحث ، وقد أوردوا إشكالات عديدة ، لو فهم مشكلوها ، بأن نفس إشكالهم ينفي دينهم ، لما أشكلوا ، ولكنهم لا يفقهون الترابط بين المفاهيم .

فإن ردهم بإشكالات ، يدعون إنها عقلية ، إنما هو نبذ لنفس طلبهم الأساس ، من قراءة النصوص القرآنية ، التي تتكفل تقريب فكرة وجود المصلح المهدي ، الذي يحصل على خبر السماء ، ومن ثم إن هذه الإشكالات ، لا ترد على الإيمان بالمهدي ، وإنما على القرآن ، فهي إشكالات على صحة القرآن ، بناء على رفضهم لفكرة ذات محور مذهبي من جهة ، وذات بعد ديني ، يمكنها أن توقف كل متدين ، عند هاوية النار ، فهو إما أن يؤمن بما انزل الله ، أو يودع إيمانه . وليس أمامه خيارات كثيرة . لأنه يتعلق بضروري من ضروريات الدين ، وهو صريح كتاب الله.

على كل حال ، فقد يواجه البحث عدة اعتراضات، اختصرها بأهم ما يتصوّر منها ، في نظرهم ، وسيكون الطرح، على شكل اعتراض ، وجواب وكأنه موجود فعلا :

اعتراض : معنى ما تؤول إليه الإشكالية : إن رسالة الإسلام لم تنته.

جواب : واضح من التعليل المشار إليه في الآيات ، إنه لا يمكن أن تنتهي رسالة الله تبارك وتعالى ، إلى عباده أبدا ، وإنها رسالة متجددة ، وفاعلة ، ومرتبطة بالله الدائم الرحمة لعباده . فما المشكلة ؟

ثم إننا ندعي ، إن رسالة الإسلام أبدية ، وندعي صلة الله بنا مباشرة ، وحسابه لنا . فما المانع من

الالتزام ، بعدم نهاية رسالة الإسلام ؟

لا شك إن استمرار رسالة الإسلام ، تستدعي ديمومتها بالمعارف الإلهية ، الصادرة منه ، والتي لا يمكن أن تلغي نبوة ، ورسالة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهي مفصلة ، وشارحة للطريق الحق . فليس هناك مانع ، من القول باستمرار رسالة الإسلام ، بل هي مستمرة ، إلا إذا قيل بأنها بمعنى

ص: 208

تعدد النبوة ، فهذا ممنوع قطعاً ، وليس هناك ما يشير في الإشكالية ، إلى نبوة مستأنفة ، وما شابه ذلك ، وإنما إلى العلم الإلهامي ، والتعليمي ؛ لشرح رسالة الإسلام ، وحسن تطبيقها .

اعتراض : يقول الله تبارك وتعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة : 3] . فكيف يتم ذلك القول مع استمرار إنزال التعاليم في ليلة القدر ؟

جواب : إن هذه الآية المباركة ، معاضدة لما جاء في سورة القدر ، والدخان ، حيث أن واقعة نزول هذه الآية ، بعد خطبة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في يوم الغدير ، أتت بعد تعيين المتلقي بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فتم الدين بإيجاد مادة استمراره ، الذي هو نص الولاية ، والإمامة التي تؤكد على الرجوع إلى المنصوص عليه ، وهو ما يعني تحقيق مقاصد ليلة القدر ومورد تطبيقها ، بحسب ما ورد في النص القرآني الشريف ، وبغير هذا المعنى ، نكون قد اتهمنا القرآن بمخالفة الواقع .

فالواقع : إن الدين لا يكتمل من جميع جهاته إلا بهذه الصورة ، و إلا فلماذا الاجتهاد ، والمذاهب الأربعة ، أو العشرة ، أو السبعين؟ بل لماذا الخلاف ؟ وكلام الله الواقعي ، لا خلاف فيه . ولهذا الموضوع مباحث مستقلة ، فعلى طالب الحقيقة ، أن يطلبها في مظانها . وسيأتي الكلام عن الخروج عن عهدة التكليف .

اعتراض : هذا يقتضي ، أن تصح دعوى نزول الملائكة على البشر ، من غير الأنبياء، وهذا ممنوع ؛ لأن الوحي ، لا يكون إلا على نبي .

جواب : هذا خطأ كلي، وقائله لم يقرأ القرآن ، ولا الحديث ، فالقرآن الكريم صرّح بتحديث الله ، والملائكة لمن هم ليسوا بأنبياء ، بل صرح بوجود من أعطاه الله علما لدنيا ، بما هو أكثر من علم النبي نفسه ، وهو بشر لم يوصف صراحة بالنبي ، كما حدث لموسى (علیه السّلام) وغلامه ، حين التقوا بمن رزقه الله علما من لدنه . وقد كلمت الملائكة مريم ، وهي ليست بنبية ، وقد كلمت

ص: 209

الملائكة المؤمنين ، وثبتت قلوبهم ، فكبرى الدليل القائلة أنه لا يكلم الله إلا نبيا أو رسولا ، غير صحيحة ، ومنع الوحي ، والإلهام لغير النبي ، غير صحيح ، ولهذا فكل الإشكال ، مبني على باطل .

اعتراض : إذن ينبغي وجود أنبياء دائما ، وهذا خلاف العقيدة الإسلامية ، بأن نبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، هي خاتمة النبوات ، وهو ، وهو خلاف كمال الدين ، بنص القرآن .

جواب : مع إننا أشرنا إلى الجواب ، من خلال البحث . سنشير الآن أنه لا إشارة إلى نبوة جديدة ، في الإشكالية . وإن إرسال الملائكة ، لا يلزم النبوة . فإن هنالك المحدثون(1)، وهنالك المعصومون ، الذين قام البرهان العقلي ، قبل النقلي على وجودهم ، بل وجوب وجودهم .

وحتى لو سلمنا ، بعدم قناعة المعترض بوجود أئمة معصومين ، فإنه ملزم وفق هذه الإشكالية، أن يتوهم وجودهم ، على نحو من الأنحاء الإجمالية ، لما تلزمه الإشكالية القرآنية ، ثم إن ادعاء وجودهم من طرف ما - خاصة إذا كان أهلا للتقوى ، والقبول كالمعصومين من أهل البيت كاف لأن يكون حجة الله على عباده ، في وجوب البحث عنهم ، وتمييزهم ؛ لأن الأمر يتعلق بطاعة الله ، لا بدراسة عبقريات ، وبراعات لقادة ، وأصحاب فنون ومعارف ، مختلف فيهم . فلا نبوة مدعاة إطلاقا . ولا تغيير لنظام الإسلام ، وإنما هناك استمرار للإسلام ، ورفد لحيويته ، ومماشاته مع تطور الإنسان في الأرض .

بل على فرضهم الذي يفرضونه ، ويقيمون عليه الإشكال ، على متعلق الإشكالية ، فإن الإسلام ناقص بنظرهم(2) ويعاني من شلل فظيع ، لعدم الإيمان بضرورة إمداده بالحياة ، وضرورة تعلقه بالله

ص: 210


1- سياتي في الفصل الأخير من هذا الكتاب بحث عن علم الأئمة ، وبحث عن دعوى التحديث ؛ لما له من الأهمية في استكمال صورة النزول في ليلة القدر ، فإلى من يتعامى نهديه فهم الراغب الأصفهاني لحديث مشهور في تحديث عمر ، وعليه أن يعرف انه لا يعرف شيئا : «وقال عليه السلام : «إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر» وإنما يعنى من يلقى في روعه من جهة الملا الأعلى شيء» . مفردات غريب القرآن : الراغب الأصفهاني : 110 .
2- إذا كان القائل يتصور نقص الإسلام ، بمعنى : أن الله لم يزوده بمادة استكماله ، واستكشاف علومه ، وأحكامه الواقعية ، فهذا باطل قطعاً، وهو هدم للإسلام بلا أدنى شبهة ، وإذا كان بمعنى ما يعرف في عرف المتأخرين بشكل آخر ، وهو قولهم الشهير الغامض بالتعريف بمناطق الفراغ التشريعي ، أي : الخلو من النص لا من الحكم ، فهذا واقع قطعاً ، وعليه مدار الاجتهاد ، والسعي لطرق التعذير . ولهذا لا يشتبهن أحد ، حين يقرأ نقص الإسلام ، بأنه النقص الذي يفرضونه ، بلا مادة كماله ، وهو مرفوض قطعا ، ويقع عليهم الإشكال ، ولا يمكن حله بنفي الأحكام ، في الوقائع ، في نفس الأمر . كما فعلوه ، واخترعوه ، مما يلزم منه لوازم تهدم الإسلام من الأساس. ونرد عليهم : بأننا نقول بكمال الإسلام ، وتمامه من هذه الناحية ، وإن لكل واقعة حكما ، وإن الله وفّق بعض عباده ، بمعرفة أحكامه ، وشرحها ، وبيانها ، لمن تعرض لها مع التوفيق ، وسيأتي بيان ذلك في الأصل ، فراجع بعد هذا الكلام .

الحي القيوم ، لا بحياة الأشخاص مهما كانوا من العظمة ، فإن الله أعظم ، وإنهم خدم لشريعة الله، و ترجمان لوحيه .

إن عدم اعتراف - الذين لا يقولون : باستمرار مادة العصمة - بنقص الإسلام ، بناء على مذهبهم ورؤياهم لجمود الإسلام ، وعدم إمداده بالعلم ، هو عدم واقعية واضحة ، وهو مجافاة للعلم ، وللحقيقة . فإن الحقيقة ظاهرة ، بأن الإسلام بشكله غير المعصوم ، الذي يفرضونه ، لا يملك حلولا شرعية واقعية ، فيما لا نص فيه ، يمكن نسبتها إلى الله ، والتعبد عليها ، لأغلب المستجدات ، بل غير المستجدات ، فهناك أحكاما فقهية ، وأمورا عقائدية ، مختلف عليها من القرن الأول للإسلام ، ولم تحل ، ولم تحسم بعد لحد الآن ، فما يقوله البعض من كمال الدين ، بدون تعيين الوصي المعصوم ، الذي تنزل عليه ملائكة الرب ، كما في سورة الدخان ، وسورة القدر ، لهو مجرد كلام ، يعتمد على اللعب بمشاعر الناس بتقديس الإسلام الرسمي ، واعتقادهم إن القول بنقصه ، هو كفر ، أو خروج عن الدين ، وهذه مغالطة كبيرة ، فإن واقع الإسلام الرسمي ، هو خلاف هذا ؛ لأن هذا الذي يسمى الإسلام الرسمي ، والذي ترعاه الدولة لحد الآن ، لا يعرف كيف يعطي شرعية لفقيه ، أو لحاكم مسلم ، فكيف يدعون انه كامل ؟

ثم إن النقص الواضح ، في الفقه ، والتفسير ، والعقيدة ، والمباحث الدينية ، فتق لا يمكن

ص: 211

رتقه ، وحاشا لله أن يكون دينه ناقصا ، بهذا الشكل ، ولا يغني تهويش المغرضين ، بادعائهم : إن الدين الرسمي، الذي ترعاه الدولة كاملا ، والقول بنقصه ، رد على الله.

ومرة أخرى نقول : حاشا لله ، أن يجعل الدين ناقصا ، وقد أكمله – جل جلاله - بتعين مادة كماله ، واستمرار مادته بليلة القدر ، وإنزال خبر السماء على أولياءه المُخْلَصين ، الذين ينزل عليهم ملائكة الرحمة ، ويخبرهم بكل أمر – أو على أقل تقدير – بتفصيل البيان ، لما يكون من تلك السنة .

إن إسلام العصمة ، هو الإسلام الكامل ، المكتمل ، الذي لا فجوة فيه ، في كيفية الخروج عن عهدة التكليف ، بخلاف إسلام الجائرين ، والخطاة ، الذي لا توجد فيه طريقة شرعية ، للخروج من عهدة التكليف ، إلا في ضروريات الإسلام . وحين نقول : إنه لا توجد طريقة للخروج ، من عهدة التكليف ، نعني ذلك ؛ لأنه حتى لو قيل ، بوجود من يحتاط من الفقهاء ، الذين يقلدهم العامة ، فإن نفس الفقيه السلطاني ، لا يوجد دليل شرعي على صحة إتباعه ، بل لا دليل على اتباعه هو ، لما توصل إليه ظنه . فالمصيبة أعظم بكثير مما يتخيله عامة المسلمين ، فلم يستطع أحد من كل فقهاء مدرسة الخلفاء ، أن يثبت أي دليل على صحة التعبد بطريقه ، وانه هو طريق الله ، بينما بنفس الوقت ، نراهم يكفّرون المسلمين ، ويكفرون بعضهم ، وكأنهم يملكون الحقيقة ، التي يعرفون ما هي ، ويقتلون الناس على إتباع مذاهبهم ، ويقصون الآخرين ، وخصوصا شيعة أهل البيت ، وشيعة المهدي ، الذين يمتلكون الحجة الشرعية الناصعة ، التي تمكنهم من القول بالحجة ، والدليل بأن حكمهم مبرء للذمة ، ومخرج عن عهدة التكليف شرعا .

فما أعجب ما نراه ، من تسامح وسلمية من عنده الحجة مع الله ، وقساوة وعدوانية وتكفير ، من لا يملك مطلقا أية حجة الله . فنرى من لا يملك حجة ، يكفّر من يملك الحجة ، بدعوى إن مخالفته له هي الكفر . وهذا ما يجب أن يقف عنده المتأمل ، وأن يفكّر المفكّر في مسألة الأديان ، فمن يريد أن يصل إلى الله ، يجد هذا السلوك الفارق ، بين المنهجين دليلا مهماً ، يهتدي به في

ص: 212

وضع يده على بداية الطريق ؛ لأن غاية ما يريده المسلم ، هو الخروج عن عهدة التكليف ، وتحقيق رضا الله ، ببرهان وسلطان مبين ، كما يطلب الله - جلا جلاله - صراحة .

وهنا - يجب أن ننتبه إلى قضية مهمة ، وهي إن الاختلاف نفسه ، ليس دليل النقص ، بل انعدام الحجة ، هو دليل النقص الحقيقي . فالاختلاف ، مع عدم الحجة ، هو ضياع ، والاختلاف مع الحجة ، هو خيار ومرونة ؛ لأن أساس الخروج من عهدة التكليف ، هو الحجة مع الله ، ومن الله ، فما دام هذا قد حصل فلا مشكلة ، سواء وقع الخلاف ، أم لا .

ولكن الحكم ، بلا حجة ، هو عدم وفاء بمقتضى التكليف ، حتى لو كان مطابقا للواقع ، فضلا عن الخلاف فيه . وهذا أمر ، يدركه قلب كل مؤمن حقيقي ، له قوة من الحب الله ، ومن اليقين بالله، ومعرفة أن الله كريم رحيم ، وفي الوقت نفسه ، هو دقيق الحساب ، شديد العقاب ، فلا بد من التقيد ، بالخروج من عهدة التكليف.

ومن لا حجة عنده، متقوّل على الله أي تقول ، ومطرود من رحمة الله ، أي طرد . فلا يجوز الخلط بين من عنده حجة ، ومن لا حجة له ، ولكن الاختلاف دليل على عدم وحدة المنهج ، أو عدم وحدة النص . سواء كان عند من يمتلك حجة ، أم من يفتقر إليها.

اعتراض : إن هذه الإشكالية ، تركز على القيادة الإسلامية ، والأمر قد حسم قديما.

جواب : إذا كان الحسم ، وفق المنهج القرآني فلا اعتراض . ولكن نبئوني ، مَنْ منَ القادة المؤسسين ، لنظام القيادة ، قد كان بمستوى ما عرضته ، خصائص ليلة القدر؟ والذي يؤدي قطعا إلى العصمة ؛ لأن من ينبئه الله بإرادته ، لا يكون إلا موفّقا ، لا اعوجاج في سلوكه ، أو رأيه ، أو عمله ، و إلا لحسب خطأه أيماناً ، ومعصيته طاعة ، كما يحدث لكثير من المقلدة بعمى . بعمى . ولنا أن نتساءل - بعد ذلك - : ما معنى هذا الحسم ؟ هل معناه : انتصار القوة الدنيوية على الشرعية الإلهية ؟ فهذا من المخازي !! وهو الحادث مع كل الأسف !!

وإن كان معنى الحسم ، هو التأصيل الفكري ، فذلك أمر غريب ؛ لأن الأمر لم يحسم ، فهناك قناعة متزايدة في العالم الإسلامي ، ومطالبة واضحة بأن لا يبنى الفكر الإسلامي على خطأ

ص: 213

السابقين ، وإنما يؤخذ الإسلام من أصوله الأصلية ، وقد اكتشف الكثيرون تلك الأخطاء ، فالذي وصل إلى الحق كثيرون ، والساعون كثيرون عسى أن يصلوا .

وكل ذلك ، يدل على إن الأمر لم يحسم ، بل أخذ يتفاعل فكريا ، وعقائديا ، وقد ظهرت خلال القرون الأربعة الماضية، العشرات من التصحيحات ، والفروض ، بل والانتهاكات ، للأصول الأساسية المتسالم عليها - حتى عند المنتصرين بقوة السيف على الشرعية الإلهية - لتصحيح صورة أخطاء ، وردت في الماضي ، في مستند شرعية القائد ، والقيادة ، وصلاحيتها .

ومعلوم ، وجود الفرق ، منذ بداية الإسلام : بين من ينظر إلى الإمامة ، بمنظور الارتباط مع الله تعالى ، وأخذ الشرعية عنه ، وبين من يراها هملا ، متروكاً لرأي البشر .

اعتراض : إنه لا يمكن ، أن يوجد معصوم عن الخطأ .

جواب : أولا : هذا رد لنص القرآن الذي درسناه آنفا ، وليس ردا على الشيعة . ثانيا : ادعاء الوجود ملزم للمعترض بالتماس الدليل بالإمكان ، فكيف إذا كان موجودا فعلا ، والوجود أدل دليل على الإمكان ، كما هو حال الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). فهل هو غير معصوم ؟ أم هو معصوم في أشياء ، وخطاء في أشياء أخرى ! كما يحلو لبعض المسلمين أن يقول : بأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) معصوم في التبليغ فقط ، ولا أدري إن كانوا يصدقون ما يقولون ، فعلا ، إذن لا عقول لهم !! فإنهم إذا تعاملوا في السوق ، بقال يكذب عليهم مرة ، في اتجاه معين ، لا يصدقونه مطلقا ، ولكنهم يقبلون بإتباع عصمة رجل ، يحتمل كذبه وخطأه ، في كل شأن ، عدا آيات الله . فما أعجب هذا الإدراك ، الذي يحسدون عليه !!!

ثم إذا كانت العصمة ، من خلال تربية ، أو جهد إنساني يمكن أن نناقش ، ولكن إذا كانت بتوفيق ، وعناية إلهية، فهل لقدرة الله من حدود .

بحسب مناقشتي ، واحتكاكي الثقافي ، مع كثير من أصحاب هذه المقولة ، في العالم الإسلامي ، لم ألمس عند هؤلاء الناس ، أي شعور بالارتباط الخاص الله ، خصوصا لأوليائه مع المخلصين ، كالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والمعصومين من أهل بيته (علیهم السّلام)، حتى إن أحدهم صرح لي قائلا : «إننا

ص: 214

نرى الرسول إنسانا عاديا ، لا قابليات له خارقة للعادة البشرية ، ولكن يأتيه ملك ، فيبلغ ، ولم يأته ملك بغير القرآن مطلقا ، ولذلك هو نفسه ، يمكن أن لا يفهم القرآن ، وهو نفسه لا يعرف الإدارة الصحيحة ، وتركها إلى الناس ، بينما الآخرون ، رأوا إن إعداد القيادة ، أمر مهم جدا ، فأوصى بعضهم إلى بعض ، أو استلبها بعضهم من بعض ، كل حسب اجتهاده ، في كيفية الحفاظ على الإسلام».(1)

والمسلم الحقيقي ، كفيل برد هذا القول لما له من لوازم خطرة ، على اصل الإسلام ، وإلا فليطلب دينا غير دين الإسلام، الذي يقول كتابه العزيز ، عن رسول الله : ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى﴾ [النجم : 3] وإنه هو المبين للكتاب العزيز ... الخ .

مع العلم ، إن أغلب من يناقش هذا الأمر ، هم جبريون ، يرون : إن آثامنا من الله . ولكنهم لا يستسيغون ، أن كمال محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعصمته التامة من الله . وأما كمال أهل بيته ، فذلك مستحيل ، لأن يكون له علاقة بالله تعالى .

لماذا ؟

سلهم يرحمك الله لعلك تجد جوابا !! .

اعتراض : إذا كان المهدي ، يختفي أكثر من ألف سنة ، للخوف ، فما الفائدة من قائد خائف مئات - بل ألوف - السنين ، لينصر الدين ؟ .

جواب : هذا الإشكال ليس إشكالا على الإشكالية وإنما هو إشكال على التطبيق وقد كان هذا التعليل من قبل الشيخ المفيد (رحمه الله علیه)، المنحصر للغيبة ، وتبعه السيد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، وقد ورد في هذا التعليل روايات ، كما وردت روايات أخرى ، خالية من التعليل بالخوف ، وعلى هذا فإن بيان ومدلول الروايات ، ينقسم في اتجاهين :

ص: 215


1- كان هذا ، في لقاء خاص مع شخصية سنية عراقية رفيعة ، رحمه الله ، وقد كان ضحية من ضحايا نظام صدام ؛ لأن هذا الرجل كان زعيما سنيا يجمع بين زعامة الدين والعشيرة ، ورائدا للتسامح مع إخوانه المسلمين . وكان صريحا وجريئا في رأيه هذا .

الأول : يقول : أنه غاب للخوف .

والثاني : يقول : إن غيابه ، لأمر يريده الله .

وبملاحظة الروايات الكثيرة ، المبشرة بالمهدي ، منذ عهود ما قبل الرسالة الإسلامية ، إلى ولادته المباركة صلوات الله عليه ، وكونه مذخورا لأمر الله ؛ كيما يكون المصلح الأكبر ، الذي تتمناه الإنسانية ، فإن روايات الغيبة للخوف ، تصبح بحاجة إلى إعادة قراءة ؛ لتبيان مداليلها .

و الأمر ، ليس محصورا بروايات الخوف فقط ، بل هناك غيرها ، فيمكن جمعها ، مع روایات التوقف على أمر الله ، فلهذا لا نطرح روايات الخوف لمجرد التوهم ، من مثل هذا الإشكال ؛ لأن الجمع ممكن ، والفكرة صحيحة ، بناء على اختلاف الموضوعين ، فإن موضوع الخوف ، هو غيبته المباشرة ، حين داهمه الشرطة في الدار ، وكان صغيرا بعمر سبعة سنوات ، أو تسع ، أو لنقل في غيبته الصغرى ، بشكل إجمالي ، وهذه ليست الغيبة عن شيعته ، وإنما هي الغياب عن الشرطة ، والظُّلَمَة .

بينما الغيبة عن البشر ، لم تكن مرتبطة بالخوف ، أو غيره ، وإنما مرتبطة ، بإرادة الله ، وإعداده ، وتهيئة الظروف المناسبة لنجاح مهمته العالمية ، الإنسانية، التي حلمت بها الديانات، وسيتبين ذلك في موضوع التبشير بالغيبة ، وبالمهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). فليس هناك ، ما يجب تسميته ، بأنه تعليل منحصر وملزم ، حتى يتم هذا الإشكال ، ولهذا فإن الإشكال، غير ثابت من أساسه ، ولا يحتاج إلى رد وبدل.(1)

ص: 216


1- إن الخلط بين الغياب من الظُّلَمَة ، حين يداهمون البيت ، وبين الغيبة التي أعدها الله ، هو خلط يجمع بين الجهل ، وبين القصد من أجل التشهير، حتى بات من المسلمات ، عند المستهزئين بفكرة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أن يدعوا بأن الإمام غاب في السرداب ، والشيعة ينتظرونه في السرداب ، أو سيظهر من السرداب ، بخلاف كل مسلمات الشيعة ، وهذا هو المضحك المبكي حقا ، حيث يتداولون كما يحلو لهم أمر عقيدة عند قوم ، لا يعرفونها ، ولا يدرون ماهي أصلا !! وإليك - أيها القاريء اللبيب - نموذجا من هذا التداول حين يهرف البعض منهم بما لا يعرف : قال ابن خلكان في تاريخه : «هو ثاني عشر الأئمة الإثني عشر ، على اعتقاد الإمامية ، المعروف بالحجة ، وهو الذي تزعم الشيعة ، أنه المنتظر ، والقائم ، والمهدي ، وهو صاحب السرداب ، عندهم ، وأقاويلهم فيه كثيرة ، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان ، من السرداب بسر من رأى ، كانت ولادته يوم الجمعة ، منتصف شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، ولما توفي أبوه كان عمره خمس سنين ، واسم أمه خمط ، وقيل نرجس ، والشيعة يقولون إنه دخل السرداب في دار أبيه ، وأمه تنظر إليه ، فلم يعد يخرج إليها ، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين (وعمره يومئذ تسع سنين ، وذكر ابن الأزرق ، في تاريخ ميافارقين ، أن الحجة المذكور ، ولد تاسع شهر ربيع الأول ، سنة ثمان وخمسين ومائتين) وقيل في ثامن شعبان ، سنة ست وخمسين ، وهو الأصح ، وإنه لما دخل السرداب ، كان عمره أربع سنين ، وقيل خمس سنين ، وقيل إنه دخل السرداب ، سنة خمس وسبعين ومائتين ، وعمره (سبع) عشر سنة ، والله أعلم . (وفيات الأعيان لابن خلكان : 4 : 176) وقال السمعاني في الأنساب : 3 : 202 : «وبها السرداب المعروف في جامعها ، الذي تزعم الشيعة ، إن مهديهم يخرج منه». والحقيقة ، إن هذه الفكرة ، لا يعتني الشيعة بها كثيرا ولا يعرفها الشيعة بهذه الكيفية ، ولا الشيعة يقولون ذلك ، وإنما هي روايات سلطانية ، تقول إنه (علیه السّلام) دخل السرداب ، وهم ينظرون إليه ، ولم يرونه ، فهذه روايتهم ، وأما الشيعة ، فإنهم يتبركون بالسرداب ؛ لأنه معبد ثلاثة من أئمتهم ، في عزلتهم . وليس لأنه غاب السرداب ، ولهم مراسم زيارة لهذا المكان المبارك، الذي باركه أئمة آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بالصلاة والعبادة . قال الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (رحمه الله علیه)، نافيا هذه الكذبة ، وشارحا لحقيقة الزيارة للسرداب ، في بيت الإمام (علیه السّلام): «لا كما قال محمود الآلوسي في تفسيره مستهزئاً : ينبغي أن توضع هذه السهام في مثل هذه «الأيام في السرداب . روح المعاني : 10 : 5 !! مشيراً إلى ما يرمون به الشيعة ، من أن الإمام غاب فيه ! ! وقد أوضحنا - غير مرة - أن من الأغلاط الشائعة عند القوم - من سلفهم إلى خلفهم وإلى اليوم - زعمهم أن الشيعة ، يعتقدون غيبة الإمام في السرداب ، مع أن السرداب لا علاقة له بغيبة الإمام أصلا، وإنما تزوره الشيعة ، وتؤدي بعض المراسم العبادية فيه ؛ لأنه موضع تهجد الإمام ، وآبائه العسكريين ، ومحل قيامهم في الأسحار ، لعبادة الحق جل شأنه» . أصل الشيعة وأصولها للشيخ كاشف الغطاء : 245 . وحقيقة القصة ، كما تتبعتها ، هي : إن شرطة ، وجلاوزة السلطان الحاقد، على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان قد بعثهم خليفتهم ، لقتل صاحب المنزل (الإمام كما يبدو) ولكنهم لم يستطيعوا ، ففي رواية أنه غاب عن نظر مدير الشرطة ، وفي ثانية قال : أنه حيل بينه وبينهم بالماء . ويبدو إنها قصة واحدة ، وردت بشكل قصتين ، الثانية مكملة للأولى ، والقصتان سنيتان سلطانيتان ، عن رشيق صاحب المادراي ، فهي قصتهم وليست قصة الشيعة ، كما هو ظاهر للعيان ، والشيعة لا يعرفون هذه القصة إلا من طريقهم ، وأما بناء عقيدة ، وتصورات عليها ، فهذا من شأنهم وخيالهم ، ولا شأن للشيعة به ، ومن يتبعهم سنيا كان ، أو شيعيا ، إن وجد ، فهو يجهل أبسط حقائق الفكر ، والتاريخ الشيعي . وهذه هي القصة بالكامل منقولة عن بحار الأنوار: 51:48: «... وحدث عن رشيق صاحب المادراي ، قال : بعث إلينا المعتضد ، ونحن ثلاثة نفر ، فأمرنا أن يركب كل واحد منا فرسا ، ويجنب آخر ، ونخرج مخففين ، لا يكون معنا قليل ، ولا كثير ، إلا على السرج مصلى (كذا) وقال لنا : الحقوا بسامرّة ، ووصف لنا محلة ودارا ، وقال : إذا أتيتموها تجدوا على الباب خادما أسود ، فاكبسوا الدار ، ومن رأيتم فيها فائتوني برأسه . فوافينا سامرة ، فوجدنا الأمر كما وصفه ، وفي الدهليز خادم أسود ، وفي يده تكة ينسجها ، فسألناه عن الدار ومن فيها ، فقال : صاحبها ، فوالله ، ما التفت إلينا ، وقل اكتراثه بنا ، فكبسنا الدار كما أمرنا ، فوجدنا دارا سرية ، ومقابل الدار ستر ، ما نظرت قط إلى أنبل منه ، كأن الأيدي رفعت عنه ، في ذلك الوقت ، ولم يكن في الدار أحد . فرفعنا الستر ، فإذا بيت كبير ، كأن بحرا فيه ، وفي أقصى البيت حصير ، قد علمنا أنه على الماء ، وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة ، قائم يصلي ، فلم يلتفت إلينا ، ولا إلى شيء من أسبابنا ، فسبق أحمد بن عبد الله ؛ ليتخطى البيت فغرق في الماء ، ومازال يضطرب ، حتى مددت يدي إليه ، فخلصته، وأخرجته ، وغشي عليه ، وبقي ساعة ، وعاد صاحبي الثاني ، إلى فعل ذلك الفعل ، فناله مثل ذلك ، وبقيت مبهوتا . فقلت لصاحب البيت : المعذرة إلى الله وإليك ، فو الله ما علمت كيف الخبر ، ولا إلى من أجيء ، وأنا تائب إلى الله ، فما التفت إلى شيء مما قلنا ، وما انفتل عما كان فيه ، فهالنا ذلك ، وانصرفنا عنه . وقد كان المعتضد ينتظرنا ، وقد تقدم إلى الحجاب : إذا وافيناه ، أن ندخل عليه ، في أي وقت كان. فوافيناه في بعض الليل ، فأدخلنا عليه ، فسألنا عن الخبر ، فحكينا له ما رأينا ، فقال : ويحكم ، لقيكم أحد قبلي ، وجرى منكم إلى أحد ، سبب أو قول ؟ قلنا : لا ، فقال : أنا نفي من جدي (أي لا جد لي) وحلف بأشد أيمان له ، أنه رجل ، إن بلغه هذا الخبر ليضربن أعناقنا ، فما جسرنا أن نحدث به إلا بعد موته. واكمل صاحب البحار السرد الروائي : عن رشيق صاحب المادراي، مثله ، وقال في موضع آخر : ثم بعثوا عسكرا أكثر ، فلما دخلوا الدار ، سمعوا من السرداب قراءة القرآن ، فاجتمعوا على بابه ، وحفظوه، حتى لا يصعد ، ولا يخرج ، وأميرهم قائم ، حتى يصلي العسكر كلهم ، فخرج (من) السكة ، التي على باب السرداب ، ومر عليهم ، فلما غاب ، قال الأمير : انزلوا عليه ، فقالوا : أليس هو مر عليك ؟ فقال : ما رأيت ، قال : ولم تركتموه ؟ قالوا : إنا حسبنا أنك تراه.

ص: 217

ص: 218

وهناك – أيضا – اعتراضات كثيرة : مبنية كلها على القول بالاجتهاد بالأصول ، في مجال التشريع . والاكتفاء بتشخيص البشر ، في مجال الموضوعات الخارجية . وإن الخطأ مغفور ، وغير مخل ... الخ .

والجواب عليها - كلها - واحد : هو عدم كفاية الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي إلا بمقدار المعذورية ، وبحدود استنفاذ الجهد ، في سبيل الوصول إلى الوظيفة . وبغير ذلك ، فإن الله في كل واقعة حكم ، وإن حكمه نافذ ولازم ، ولا تُعذر بترك الوسيلة إليه ، والاستغناء عنها ، بالتهرب إلى قواعد الرفع، والإذن ، فيما نجهل (البراءة) ... الخ .

والخطأ المغفور ، هو ما دون العمد ، ومن دون تقصير ، وإلا فسيكون لا معنى للخطأ أصلا ، وسيكون - عندها - كل خطأ صواب ، حتى لو أدى إلى قتل ثلث الأمة ، كما ذهب بعض الأئمة ، بدعوى استصلاح ثلثيها الباقيين.(1)

فكل من هو ، على هذا الاتجاه ، فهو على صواب ، حسب هذه النظرية ، وهذا أعظم من العصمة المدعاة ؛ لأنه مبنى على نظرية التصويب . وهي أن المجتهد مصيب ، حتى لو خالف حكم الله ؛ لأن الله سيغير حكمه ، وفق ظن المجتهد ، الذي قضى بذلك الأمر (انظر القول الثاني في الحاشية)(2).

ص: 219


1- جاء في الفصل الأخير من كتاب المنخول من تعليقات الأصول : الإمام الغزالي : 1 : 500 : ما نصه : «فأما [الإمام] مالك - رحمه الله - فقد استرسل على المصالح المرسلة استرسالا ، جره إلى قتل ثلث الأمة ، لاستصلاح ثلثيها ، وإلى القتل في التعزير ، والضرب ، بمجرد التهم».
2- هناك نظريتان في التصويب هما : النظرية الأولى : خلو الوقائع والأحداث ، عن الأحكام الواقعية . وهي تابعة لنظر المجتهد ، فالحكم الإلهي يدور مدار نظر المجتهد. قال الإمام أبو حامد الغزالي في المستصفى : 2 : 363 : «فالذي عليه محققو المصوبة ، أنه : ليس في الواقعة ، التي لا نص فيها ، حكم معين ، يطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي» . (انتهى) . أقول : وهذا القسم هو اختيار الشافعي ، والشافعية . وهو اختيار أبي حنيفة – أيضا – كما يظهر من مجمل المذهب . وقد سميت هذه النظرية ب_(نظرية التصويب الأشعري) ولا أعرف سبب هذه التسمية ، فهي قبل الأشعري – قطعا . النظرية الثانية : حصول الحكم في الواقع ، ولكنه معطل ، بسبب مصلحة متولدة من ظن المجتهد ، وفعلية الأحكام تابعة لظن المجتهد ، وفق المصالح ، والمفاسد ، التي يشخصها المجتهد ، وأما الأحكام الواقعية ، فلا فعلية لها ، وهي في مرحلة الشأن بلا تكليف . والتكليف على المجتهد ، قبل المكلف ، إنما هو في إعمال ظنه ، لا طلب حكم الله الواقعي !! قال الإمام أبو حامد الغزالي في المستصفى : 2 : 366 : «وذهب قوم من المصوبة ، إلى أن فيه حكما معينا ، يتوجه إليه الطلب . إذ لابد للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد إصابته ، فلذلك كان مصيبا ، وإن اخطأ ذلك الحكم المعين ، الذي لم يؤمر بإصابته . بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه» . (انتهى) . وقد نسب هذا القول إلى الشافعي ، ونسبه آخرون إلى المعتزلة ، ومن الصعب البت في ذلك . أقول : لا يخفى أن القول الثاني عجيب جدا ؛ لأن الحكم مساوق للتكليف ، وإلا فلا معنى له ، وهذا القول يقول بوجود حكم ، ولكنه لا تكليف به . فما معنى الحكم ، إذا لم يكن مكلف به ؟ وهل هو مجرد رأي يطير في الفضاء ؟ والواقع في مآل هذا القول ، هو خلو الواقعة من حكم ؛ لأنه لم يقل بعدم تنجيز الحكم ، وإنما قال بعدم التكليف به ، وإن التكليف ، كان (بسعي المجتهد) فهو بحسب ظاهر الكلام : التكليف الواقعي ، وأما غيره من تفصیلات ، فلا تكليف بها . انظر قوله : (بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه) . وهذا نوع من اللف والدوران ، حول أمر واحد ذي مؤدى واحد . بقي أن نقول : إن التكليف بالحكم الظاهري ، لا ينفي التكليف بالحكم الواقعي ، ولكن - كما هو معلوم - فإن التنجيز تابع للعلم ، فإذا حجب الحكم الواقعي ، تعين التكليف بالحكم الظاهري - عذرا لا تحقيقا - كما لا يخفى . لذلك فنحن نقول بأن المجتهد مخطيء ، إذا لم يصب الحكم الواقعي . ولكنه معذور إذا لم يقصر في تحصيل الحكم الشرعي .

فأين هذا من العصمة ؟

ص: 220

إن فيه من الخطورة ما فيه ؛ لأن المجتهد - حسب هذا الرأي - حاكم على الله ، وأحكام الله بيده ، لا أنه يعمل بأمر الله، ويطيعه ، ولو على أذى نفسه ، فداءً لله ، وأن الله ، لا يأذن له بالمخالفة الواقعية ، بل يعلمه ، ويكشف له الأمور ، بتفصيلاتها ، كما هو حال المعصوم .

والحق أقول : إن أغلب مثقفي هذا الزمن ، لا يعلمون أن مذهبهم الأساسي ، هو التصويب ، وإن أول من نادى إليه علانية ، هو الإمام أبو حنيفة ، وبنى عليه قواعد فقهية ، وفرّع عليها كثيرا ، وتبعه على ذلك القوم ، وسنورد مثالا واحدا وهو : «ولو أن كاذبا ، أشهد كاذبين زورا ، عند القاضي ، على أن فلانة ، التي هي الآن عند فلان ، وزوجته بالشياع ، والعشرة ، والشهرة ، إنما هي زوجة ذلك الكاذب ، وكان القاضي ، يعلم كذبه يقينا ، ولكنه لأمر ما حكم له : بأن هذه المرأة ، زوجته ، حلّت له بينه وبين الله ، وحرمت على زوجها ، بينه وبين الله»!!!.(1)

ص: 221


1- المنخول في تعليقات الأصول للإمام الغزالي : 1: 503 : وقد قال فيه - متحدثا عن مخالفات أبي حنيفة للشرع الإسلامي - : «ثم أردف جميع قواعد الشريعة ، بأصل هدم به شرع محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) قطعاً ، حيث قال : شهود الزور ، إذا شهدوا كاذبين، على نكاح زوجة الغير ، وقضى به القاضي مخطئا ، حلت الزوجة للمشهود له ، وإن كان عالما بالتزوير ، وحرمت على الأول ، بينه وبين الله» (انتهى) . أقول : هذه الفتوى من أبي حنيفة ، منسجمة مع نظرية التصويب . وهي نظرية ، يؤمن بها الشافعي، والغزالي - نفسه - كونه شافعيا ، وقد صرّح - من قبل - بصحة النظرية وحقيقيتها ، فلا يُعلم لماذا ينتقد هذا الأصل ، المبني على نظرية أساسية في طبيعة التشريع ؟ فالقاضي يحسب إن حكم الله هو ما غلب على ظن القاضي ، أو ما حكم به القاضي ، فحكمه سيكون حكم الله - قطعا ! ولهذا نجد أن مشكلة الغزالي ، لا تحل بسهولة ، بمجرد نقده ، وتخليه عن هذه الفتوى وهو يقول بنظرية التصويب . نعم قد يناقش ويقول : إن المقبول - عندنا - أنه يوافق ظن المجتهد ، وهنا حكم القاضي بخلاف علمه ، وظنه ! فنقول : وما يدريه ، فلعله ظن أن البينة ، شكلا ، كافية في تكوين الحكم ، لدى القاضي ، فحكم على الصيغة الشكلية لتأسيس الحكم ، أو أنه يرى مطلق متابعة الله لحكم المجتهد . ولهذا فالخطأ عليه أجر – عند المصوبة – بخلاف المخطئة كالشيعة الإمامية . ومن خلال نفس الفتوى ، يتبين إن الإجزاء - عنده - معتمد على حكم المجتهد ، وليس على ظنه ، أو علمه . ولهذا صحح الصورة الشكلية ، من المقاضاة ، واعتبر العلقة الزوجية ، قد تبدلت عند الله ، نتيجة هذه الصورة الشكلية ، من التقاضي ، بواسطة الصورة الشكلية ، من البينة . وهذا واضح من الفتوى ، ولا يحتاج إلى جدال .

ومن أراد المزيد ، عليه مراجعة كتب الفقه ، كالأشباه والنظائر في الفقه الحنفي ، والمغني في الفقه الحنبلي ، يجد ما يجعل حكم القاضي ، نافذا ، قبل حكم الله الأولي ، في موارد كثيرة ، واللبيب يفهم ذلك ، ويعرف كيف يجد موارد تطبيق تلكم النظرية . وهو سيعرف حتما خطورتها وأثرها في هدم الشريعة المقدسة .

فأين نظرية العصمة الواضحة الجلية التي تدعم بنيان الشريعة المقدسة ، من هذا الأمر العظيم ؟ ذلك إن الفرق بين المعصوم ، وبين من يقول بالتصويب ويعمل به.

هو الفرق بين عبد الله يأتمر بأمره ولا يعصيه طرفة عين أبدا ، وبين سيد يحكم على الله عز وجل برأيه ، مهما خالف الشريعة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

وكان هذا الأمر ، مدار بحث طويل ، قد تجاوز القرن السابع الهجري ، بين الإمامية المخطئة للمجتهد ، وبين غيرهم المصوبة له . ومن شاء أن يراجع كتب الأصول القديمة فإنه سيجد - هنالك - ضالته.(1)

ص: 222


1- لعل خير المصادر في هذا الباب هو : المستصفى والمنخول للإمام الغزالي . كما إنه يجب أن نشير إلى أن الزيدية ، يقولون بالتصويب - أيضا - فقد ذكر العلامة الزيدي : صارم الدين بن محمد الوزير ، في كتابه : (الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة الزكية) : إن مذهب متأخري أئمة الزيدية ، وجمهورهم : أن لا حكم في الاجتهاديات ، الله تعالى ، معين ، قبل الاجتهاد ، بل كلها حق . و أنه لا أشبه فيها عند الله تعالى ، «وإنما مراده، تابع ، لظن كل مجتهد» . وهذا نص كلامه : الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة الزكية : 291 : « [حكم الله في الاجتهاديات] (273) فصل : واختلف في المسائل الشرعية الظنية ، فقيل : الله تعالى فيها حكم معين ، قبل الاجتهاد ، فالحق فيها واحد ، وهو قول (الناصر) في رواية ، و (أبي العباس) وقديم قولي (المؤيد بالله) . ثم اختلفوا ، فعند (الأصم ، والمريسي ، وابن عليَّة ، ونفاة القياس) : إن عليه دليلاً قاطعاً . واختلفوا في مخالفه ، فقيل : معذور ، وقيل : مأزور . (الأصم) : «وينقض حكمه بمخالفته» . (بعض الفقهاء ، والأصوليين) : بل ظني ، ومخالفه معذور ، مأجور ، مخطيء . بالإضافة إلى ما طلب ، لا بالإضافة إلى ما وجب . (بعض الفقهاء ، والمتكلمين) : لا دليل عليه ، قطعي ولا ظني ، وإنما هو كدفين يصاب ، فلمصيبه أجران ، ولمخطئه أجر . وقيل : لا حكم فيها الله تعالى ، معين قبل الاجتهاد ، بل كلها حق . ثم اختلفوا ، فعند متأخري أئمتنا ، والجمهور : «أنه لا أشبه فيها عند الله تعالى ، وإنما مراده [مراد الله] تابع لظن كل مجتهد ، وكل منها أشبه ، بالنظر إلى قائله » . بعض الحنفية ، والشافعية : «بل الأشبه منها ، عند الله ، هو مراده منها ، ولقبوه : الأصوب ، والصواب ، والأشبه عند الله تعالى ، وقد يصيبه المجتهد ، وقد يخطئه ، ولذلك قالوا : أصاب ، اجتهاداً لا حكماً» . واختلفوا في تفسيره ، فقيل : ما قويت أماراته ، وقيل : الحكم ، الذي لو نص الشارع ، لم ينص إلا عليه ، وقيل : الأكثر ثواباً ، وقيل : لا يفسر ، إلا بأنه أشبه فقط . ونقل عن الفقهاء الأربعة : التصويب، والتخطئة . وقول قدماء أئمتنا ، وفعلهم ، يقتضي التصويب ، كمتأخريهم . وقد يقع في كلام بعضهم ، ما يقتضي التخطئة ، وهو رأي بعض شيعتهم ، ولذلك كانت (القاسمية) من الديلم ، و (الناصرية) من الجيل ، يخطيء بعضهم بعضاً ، إلى زمن (المهدي أبي عبد الله بن الداعي) فأوضح لهم : أن كل مجتهد مصيب، وكذلك كان جمهور (اليحيوية) باليمن ، يخطئون مخالف (يحيى) إلى زمن (المتوكل أحمد بن سليمان) . وما ورد عن الوصي، وغيره من الصحابة ، وغيرهم ، مما يقتضي خلاف التصويب ، فمتأول» . (انتهى) أقول : أغرب ما في هذا ، مخالفة الوصي صلوات الله عليه ، وتأويل كلامه ؛ لاجتهاد باطل – قطعا – يمحق الدين ويهدم أسسه. وقد رد احد أئمة الزيدية وهو الإمام الزيدي القاسم بن محمد (المتوفى عام 1029) نظرية التصويب كاجتهاد منه مقابل اجتهادهم ، حيث قال في كتابه (الإرشاد الهادي إلى سبيل الرشاد) : وأما قولهم : لا حكم الله فيها معين ، فنقول - وبالله التوفيق - : لا يخلو إما أن يكون الحكم الذي حصل بنظر المجتهد ، مما أنزل الله تعالى ، أو لا . إن كان مما أنزل الله ، بطل قولهم ، وصار معينا عند الله سبحانه . لأنه لا ينزل - سبحانه - إلا ما قد عينه ، وأثبته ، إذ خلاف ذلك لا يصدر ، إلا عن جهل ، أو ذهول ، والله تعالى منزه عنهما ، وأيضا فالله سبحانه قد أثبته ، إذ أنزله ، وعلم من حصله بنظره ، وكلَّفه أن يعمل به ، فكيف لا يكون مع ذلك معينا عنده ، وإن كان من غير ما أنزل الله - سبحانه - فليس من الشرع ، حيث لم ينزله ، وقد قال الله تعالى : ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأَوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة : 45] ونحوها ، ولم يفصل . وأما قولهم : إن مراد الله ، تابع لما أداه نظر المجتهد ، لا أن نظر المجتهد تابع لمراد الله ، فنقول - وبالله التوفيق - : لا يخلو إما أن يكون ما أداه نظر المجتهد من الحكم ، مما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو لا ، إن كان الأول ، بطل قولهم ؛ لأن جميع ما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، مراداً الله تعالى ، وذلك معلوم من الدين ضرورة ، وأيضا جميع ما جاء به الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، و صراط الله المستقيم وقد قال تعالى : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطي ، مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام : 153] وذلك نص في إتباع صراطه ، الذي هو مراده تعالى ، بلا خلاف ، وإن كان الثاني فليس من الشرع ؛ لأنه ليس مما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا من صراط الله ، الذي أمر بإتباعه وإنما هو من السبل التي قال تعالى فيها : ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكُمْ عَن سَبيله﴾ [الأنعام : 153] . وأما قول بعضهم : لأنه لا يخلو ، إما أن يريد الله سبحانه ، من كلّ ما أداه إليه نظره ، أو يريده من بعض دون بعض ، أو لا يريده من كلهم ، الثالث باطل ؛ لأنه خلاف الإجماع ، والثاني باطل – أيضا – لأنه محاباة ، ومن بها وصف الله ، كفر . فثبت الأول ، فنقول - وبالله التوفيق - : إن هذا القول لا يخلو من جهل ، أو تمويه على الجهال ، الذين لايفهمون ، لأن القائلين بتحريم الاختلاف ، يقولون إن الله يريد من كلّ ، في كل قضية ، طلب حكم واحد ، إذ أمر الله سبحانه بالاجتماع في الدين، دون التفرق ، فإن اجتمعوا عليه ، فذلك مراده منهم ، وإن أصابه بعض ، وأخطأه بعض ، فقد أصاب مراده - تعالى - المصيب ، وأخطأه المخطيء ، فهذا خارج من ذلك التقسيم .

ص: 223

ومن الجميل أن نقرأ ما قاله الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله علیه) في وصف نظرية التصويب ، وإنها تجعل من الاجتهاد ، عملية تشريع ظاهر ، وليس استكشافا لحكم الله ؛ لأنه لا حكم الله في الوقائع - حسب دعواهم - :

الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس (قدس سره)(1):

«فكرة النقص في الشريعة(2) التي قام على أساسها القول بالتصويب ، تجعل عمل الفقيه ، في مجالات الاجتهاد ، عملا تشريعيا لا اكتشافيا ، فالعقل بمعناه المنفتح ، أو الاجتهاد ، في مصطلح الاتجاه العقلي المتطرف ، لم يعد - على أساس فكرة النقص في الشريعة – كاشفا عن الحكم

ص: 224


1- المعالم الجديدة للأصول : 39 .
2- اشرنا إلى المعنى الباطل من القول بنقص الشريعة والعياذ بالله ، وحيث إن الشهيد - رضوان الله عليه – يقرر فكرهم لا فكره فقد حاكم على أساسه .

الشرعي ، إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت ، في مجالات الاجتهاد ، ليكشف عنه الاجتهاد ، وإنما هو أساس لتشريع الحكم ، من قبل المجتهد ، وفقا لما يؤدي إليه رأيه ...

وإنما نستهدف الكشف عن خطورة الاتجاه العقلي المتطرف ، وأهمية المعركة ، التي خاضتها مدرسة أهل البيت (علیهم السّلام)، ضد هذا الاتجاه، إذ لم تكن معركة ضد اتجاه أصولي فحسب ، بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة ، وتأكيد كمالها ، واستيعابها ، وشمولها لمختلف مجالات الحياة ، ولهذا استفاضت الأحاديث ، عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) في الليلية عصر تلك المعركة ، تؤكد اشتمال الشريعة على كل ما تحتاج إليه الإنسانية، من أحكام، وتنظيم ، في شتى مناحي حياتها» . (انتهى) .

أقول : ليست فكرة النقص ، هي التي قام على أساسها التصويب ، وإنما هي عليها المعالجة التبرعية لتغيير الشريعة ، وفق رغبة وظن الحاكم ، وقد بدا واضحا إن دعوى سد النقص بالتصويب ، إنما هي شماعة ، تعلّق محاولة التفافية على أسس الشريعة . لأنه يمكن سد النقص المدعىبطرق معالجة التكليف لبراءة الذمة بدون ادعاء صواب المجتهد وإتباع الله لظن المجتهد .

ويجب أن نضيف : إن تلك المعركة [ معركة التخطئة والتصويب ] هي معركة تثبيت الإسلام ، مقابل دعاوى التشريع قبالة الله ، وإن الله تابع للمشرع الأرضي، في أحكامه . وهذه المعركة واضحة في سيرها ، وفي دوافعها ، إنها مختلقة ، من أجل إعطاء صلاحيات إلهية للفقيه ، الذي يعمل تحت إمرة الحاكم ، من أجل تسهيل أموره ، باعتباره مشرعا حاكما على الله . فالقضية لم تكن مجرد اتهام الشريعة بالنقص من الأصل ، أي من الله ، وإنما خرجوا بحل بسيط جدا ، وهو كون المجتهد مشرع ، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد !!! وبعد كل هذا ، يُنتقد قول الشيعة بعصمة أئمتهم ، العصمة التي هي بمعنى التزام المعصوم بالشرع الرباني ، وعدم زيغه من مراد الله ، بأوامره ، ونواهيه . وهذا هو المعنى الواضح والدقيق

ص: 225

للعصمة ، التي يؤمن بها الشيعة ، دون أي معنى آخر ، قد يتوهمه غيرهم فيهم ، وفيما يؤمنون به ، فأين هذا من ذاك؟(1)

ص: 226


1- من الملاحظ ، إن القرآن الكريم ، عد التشريع ، بدون إذن من الله ، من الموبقات ، التي توعد الله عليها بالعذاب ، وبالتأمل في الآيات القرآنية ، نجد إن القرآن الكريم ، وصف من يفتي ، مشرعا لا مستكشفا للحكم الشرعي ، بأنه ضال ، ومشرك ، ويعبد غير الله ، وله عذاب أليم ... الخ ، وهذا الحال لا شك فيه بالنسبة للنصوص . ولكن قد يدعي البعض ، إنه لا يشمله ، باعتباره نطق بالشهادتين ، إلا أن النصوص عامة ، وصحة إسلام المرء ، هي حكم على التعامل البشري ، ولا علاقة لها بالجزاء الأخروي ، بمعنى إن النسبة إلى الإسلام ، لا تمنع من الجزاء الأخروي ، فالعقوبة هي على المخالفة ، وليست على العنوان . وعلى كل حال نحتاج ، من أجل معرفة الحقيقة ، إلى نفس صافية ، للتأمل في الآيات الشريفة. وهل تدل على نبذ المرتكب لمثلها ؟ وهل ينطبق على المشرع ، دون الكاشف عن الحكم ؟ وعن المؤصل دون المعذر ؟ فهذا متروك لضمير ، وعلم القاريء الكريم ، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصفُ السنَتْكُمُ الكَذبَ هَذَا حَلال وَهَذَا حَرَامٌ لَتَفْتَرُوا عَلَى اللَّه الْكَذبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ ليمٌ﴾ [النحل : 116 - 117] . وقال تعالى : ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهَا بغَيْر علم وَحَرَّمُوا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّه قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام : 140] . وقال تعالى : ﴿وَمِنْ الإبل اثْنَيْنِ ومن البقر التين قُلْ الذكرين حَرَّمَ أم الأنتيين أمَّا اسْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنتيين أمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَاكُمُ الله بهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى الله كَذبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بغَير علم إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام : 144] . وقال تعالى : ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبيل الله بغير علم وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أولَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان : 6] . وقال تعالى فيمن يحرّم حين لا يجد نصا : ﴿وَمَا لَكُمْ ألا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأنعام : 119] . وقال تعالى : ﴿ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْتْ حجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمهِمْ وَأَنْعَامَ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامَ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام : 138] . وقال تعالى : ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ به اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى : 21] . وقال تعالى : ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَير الحق وأن تشركوا بالله مَا لَمْ يُنَزِّلُ به سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف : 33] . والشرك نوعان : الأول شرك الألوهية ، والثاني شرك التشريع ، والآية كما الآيات التالية ، تشمل النوعين ، والسياق هو الشرك التشريع ؛ لأنه في سياق التحريم ، والتحليل ، وهو التشريع . وقال تعالى : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه مَا لَمْ يُنَزِّلُ به سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ به علم وَمَا لِلظَّالمين من نصير﴾ [الحج : 71] . وقال تعالى : ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّه مَا لَمْ يَنزَلْ به سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبَئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران : 151] . ﴿إِنَّمَا النَّسي زيَادَةٌ في الكُفْرِ يُضَلُّ به الَّذِينَ كَفَرُوا يُحلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِتُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحلُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زَيَّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكَافِرِينَ﴾ [التوبة : 37] . وهذه الآيات محل تدبر ، وتفهم ، واجتهاد في التوجيه ، والله العالم .

ص: 227

ص: 228

الفصل الثاني

حل الإشكالية بمفهوم أهل البيت (علیهم السّلام)

ص: 229

ص: 230

عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال :

«يا معشر الشيعة ، خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تفلحوا (تفلجوا) فوالله ، إنها لحجة الله - تبارك وتعالى - على الخلق ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنها لسيدة دينكم ، وإنها لغاية علمنا».(1)

وقال الإمام الباقر (علیه السّلام) عن ليلة القدر المباركة :

«فضل إيمان المؤمن ، بحمله ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ وبتفسيرها ، على من ليس مثله ، في الإيمان بها ، كفضل الإنسان على البهائم».(2)

وقال (علیه السّلام):

هي : (سورة القدر) نعم رفيق المرء ، بها يقضي دَينَه ، ويعظم دينه ، ويظهر فلجه ، ويطول عمره ، ويحسن حاله، ومن كانت أكثر كلامه ، لقي الله تعالى ، صديقا ، شهيدا .(3)

ص: 231


1- الكافي : 1 : 249 .
2- الكافي : 1 : 251 .
3- جامع أحاديث الشيعة : 15 : 129 .

ص: 232

حل الإشكالية بمفهوم أهل البيت (علیهم السّلام)

قلنا : بأن القرآن الكريم ، أوجد مشكلة عويصة ، ومعادلة خطيرة ، ولا بد من حلّها بالعين ، بعد الصفة ، وهذا غير متوفر - كما نعلم - إلا عند أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)، حيث حددوا ذلك ، وحلّوا الإشكال بكل وضوح.

وحل الإشكالية عند أهل البيت ، هو تحقق ما قاله القرآن الكريم ، من نزول الملائكة ، على عبد مؤتمن ، يبلغه الأمر ، من لدن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إلى زمننا ، إلى أن يشاء الله ، من الحساب لعباده ، المقصودين بالإنذار.

وهذا النذير ، هو الإمام (علیه السّلام)، وهو نذير من قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وليس هو مؤسس رسالة ، ولا هو نبي ، ولا يجوز إطلاق ذلك عليه .

وقد لخص مولانا الإمام الباقر (علیه السّلام)، العلاقة بين الإشكالية ، وبين الواقع . وبيّن أن الواقع العملي ، هو الذي يحل الإشكالية ، بتسلسل منطقي ، وبجواب علمي مفحم .

فلنقرأ هذه الرواية ، قبل كل قراءة ، لنعرف - الآن - مجمل جواب أهل البيت عن الإشكالية ، وبعد ذلك نبحر في كلماتهم(1):

ص: 233


1- أغلب روايات هذا الباب، مبنية على العباس بن حريش ، الذي ضعفوه ، وسنبين حال التضعيف ، وحال المعنى ، الذي عرضه في مروياته ، وانه مما لا يحتاج إلى سند ، لوضوح الحجة ، والدلالة فيه ، وهذا يغني عن السند ، وسنناقش موضوع بعض الخلل في الروايات . وسنبين أن التضعيف اجتهاد حدسي مبني على عدم تعقل الإشكالية برمتها عند بعض أوائل الجارحين ، وسنبين أن هذه الروايات مدعومة بغير روايات ابن حريش ، وهذا يعضد السند سواء بالقول بكونها شاهدا داعما مفصلا للصحيح من الرواية أو بجبرها بالروايات الصحيحة الصريحة . ومبناي القول بكليهما باعتبارين مختلفين .

الشيخ الكليني(1):

عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال :

يا معشر الشيعة ، خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تفلحوا (تفلجوا) فوالله ، إنها لحجة الله - تبارك وتعالى - على الخلق ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنها لسيدة دينكم ، وإنها لغاية ، علمنا . يا معشر الشيعة خاصموا ب_﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة إِنَّا كُنَّا منذرين﴾ [الدخان : 1 - 3 ] فإنها لولاة الأمر خاصة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). يا معشر الشيعة يقول الله تبارك وتعالى : وإن مِّنْ أُمَّة إلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] . قيل : يا أبا جعفر ، نذیرها محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). قال : صدقت ، فهل كان نذير ، وهو حي ، من البعثة في أقطار الأرض؟ .(2) فقال السائل : لا . قال أبو جعفر (علیه السّلام): أرأيت بعيثه ، أليس نذيره ، كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في بعثته من الله - عز وجل - نذير . فقال : بلى . قال : فكذلك ، لم يمت محمد ، إلا وله بعيث نذير . قال : فإن قلت لا ، فقد ضيع من في أصلاب الرجال من أمته . قال : وما يكفيهم القرآن ؟ قال : بلى، إن وجدوا له مفسرا . قال : وما فسره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال : بلى ، قد فسره لرجل واحد ، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل . وهو علي بن أبي طالب (علیه السّلام). قال السائل : يا أبا جعفر ، كأن هذا أمر خاص ، لا يحتمله العامة ؟ قال : أبى الله أن يعبد إلا سرا ، حتى يأتي إبان أجله ، الذي يظهر فيه دينه ، كما أنه كان رسول الله ، مع خديجة مستترا ، حتى أمر بالإعلان . قال

ص: 234


1- الكافي : 1 : 249 .
2- لعل المقصود : وهل وصلت نذارته إلى أقطار الأرض وهو حي ، ولكن الأقرب إن المقصود هو : (فهل كان نذير وهو حي قبل البعثة في أقطار الأرض؟) وقد وقعت (من) بدل (قبل) والسياق يدل عليه . أي وهل كان هناك نذير من الله قبل بعثة النبي فقال السائل لا.

السائل : ينبغي لصاحب هذا الدين ، أن يكتم ؟ قال : أو ما كتم علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، يوم أسلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى ظهر أمره ؟ قال : بلى . قال : فكذلك أمرنا ، حتى يبلغ الكتاب أجله . ( انتهى نص الحديث ) .

وقد شرح الرواية ، المولى الشيخ محمد صالح (رحمه الله علیه)، وقد وجدت من المناسب أن نطلع على شرحه ، ففيه بعض اللمسات الجيدة :

الشيخ محمد صالح المازندراني(1):

قوله : «خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تفلحوا (تفلجوا) » أي : تظفروا ، وتغلبوا عليهم ؛ لإخبارها بنزول الملائكة ، والروح ، فيها من كل أمر ، إلى ولي مؤيد من عند الله تعالى ، ولا يمكنهم التخلص ، إلا بأن يقولوا :

1 - ذهبت الليلة بذهابه (صلی الله علیه و آله و سلم).

2 - أو يقولوا : ذهب النزول بذهابه (صلی الله علیه و آله و سلم).

3 - أو يقولوا : ثبت النزول إلى سلطان الجور .

4 - أو يقولوا : ثبت النزول ، لا إلى أحد .

والكل باطل .

أما الأولان ؛ فلدلالة رواياتهم – أيضا – على بقائها ، وبقاء النزول فيها ، إلى يوم القيامة ، ولإجماعهم على بقائهما كما مر .

وأما الثالث ؛ فلأن نزول الملائكة إلى الجائر ، بما يحتاج إليه الناس ، من الأوامر والنواهي ، باطل بالضرورة ، ولم يدع ذلك أحد من الجائرين .

وأما الرابع ؛ فلأن نزولهم بالأوامر والنواهي ، لا إلى أحد من الخلق ، مما لا الخلق ، مما لا يتصور - قطعا .

قوله : «إنها لحجة الله على الخلق ، بعد رسول الله» حيث دلت على أن الزمان بعده ، لا يخلو من حجة ، ويحتمل أن يراد : أن رسول الله حجة الله على الخلق أولا ، لبيانه من يقوم مقامه بعده ،

ص: 235


1- شرح أصول الكافي : 6 : 12 .

ثم هذه السورة ، حجة الله عليهم بعده ، لما مر . قوله : «وإنها لسيدة دينكم» لدلالتها على أعظم أمور الدين ، وهي الخلافة ، التي تبتنى عليها سائر أموره . قوله «وإنها لغاية لعلمنا» الدلالتها على حصول علوم غير محصورة ، لهم ، في تلك الليلة ، بإخبار الملائكة ؛ أو لأن هذه العلوم ، من توابع العلوم التي كانت حاصلة لهم، وغاياتها ، فإنهم (علیهم السّلام) علموا جميع ما في اللوح المحفوظ ، من النقوش ، حتمية كانت ، أو غير حتمية ، ويجيئهم حتم غير المحتوم ، في تلك الليلة ، والله أعلم . قوله : «فإنها لولاة الأمر خاصة» لا للغواة - كما ظنه بعض النواصب - وفساد ظنه ، أظهر من أن يحتاج إلى البيان . قوله : «يقول الله تعالى : ﴿وَإن مِّنْ أُمَّة إلا خلا فيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر : 24] ». أي مضى فيها ، والأمة الجماعة الموجودون في عصر ، وفيه دلالة على أن عصرا من الأعصار ، لم يخل من نذير، فالحكمة الإلهية تقتضي أن يكون في كل أمة ، وفي كل عصر إلى يوم القيامة ، نذیر . قوله : «قيل : يا أبا جعفر ، نذيرها محمد» أي : نذير هذه الأمة ، محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يكون بعده نذیر آخر ، فلا يتم المطلوب . قوله : «أرأيت بعيثه» أي : أخبرني ، والغرض منه تقرير السائل بالمنفي ، وقد أقر به . قوله : «قال : فإن قلت لا» أي : قلت : مات محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يكن له بعيث ، لزمك القول بأنه ضيع من في أصلاب الرجال من أمته ، والقول بذلك باطل ؛ لأنه كفر ، وموجب البطلان البعثة ، ونسبة ما لا يليق به (صلی الله علیه و آله و سلم)، إليه . قوله : «قال : بلى» أي : بلى يكفيهم القرآن ، إن وجدوا له مفسرا ، يعلم ظاهر القرآن وباطنه ، ويعلم جميع ما أنزل الله تعالى فيه . قوله : «إبان أجله» إبان الشيء - بالكسر والتشديد - : وقته . (انتهى شرح العلامة المازندراني (رحمه الله علیه)) .

وسيأتي بيان السيد الطباطبائي، في شرح الكافي ، كما أثبته الشيخ علي اكبر غفاري ، وهو تلخيص الحجة ، التي بينها في هذه الإشكالية .

أقول : وهذا ، ملخص مهم للفكرة ، بكل وضوح ، حيث إن الإشكالية محلولة تماما في فكر أهل البيت (علیهم السّلام)، وحلها هو إثبات واقع القرآن ، وواقعية الطرح . يبقى ، إن من ينكر هذه الواقعية ، عليه أن يحل المشكلة ، بالطرق الملتوية ، ولكن جميع الحلول الأخرى – كما رأينا وترى – غير مقنعة ، وهي بالتالي تفشل في إيجاد الحل الدقيق .

ص: 236

نصوص أحاديث

تشير إلى الحل وإلى أهميته

الشيخ الكليني(1):

1 - محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن العباس بن الحريش(2) عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام)، قال : قال أبو عبد الله (علیه السّلام) (لعله عن أبيه (علیه السّلام)) : بينا أبي (علیه السّلام) يطوف بالكعبة ، إذا رجل معتجر(3) قد قيض الله له ، فقطع عليه أسبوعه(4) حتى ادخله إلى دار جنب الصفا ، فأرسل إلي ، فكنا ثلاثة ، فقال : مرحبا يا ابن رسول الله ، ثم وضع يده على رأسي ، وقال بارك الله فيك يا أمين الله ، بعد آبائه ، يا أبا جعفر(5) إن شئت فأخبرني ، وإن شئت فأخبرتك ، وإن شئت سلني ، وإن شئت سألتك ، وإن شئت فأصدقني ، وإن شئت صدقتك ، قال : كل ذلك أشاء . قال : فإياك أن ينطق لسانك – عند مسألتي - بأمر تضمر لي غيره . قال : إنما يفعل ذلك ، من في قلبه علمان ، يخالف أحدهما صاحبه ، وإن الله عز وجل ، أبى أن يكون له علم ، فيه اختلاف . قال : هذه مسألتي ، وقد فسرت طرفا منها . أخبرني عن هذا العلم، الذي ليس فيه اختلاف ، من يعلمه ؟ قال : أما جملة العلم ، فعند الله جل ذكره ، وأما ما لابد للعباد منه ، فعند الأوصياء . قال : ففتح الرجل عجيرته ، واستوى جالسا ، وتهلل وجهه ،

ص: 237


1- الكافي : 1 : 242 - 248 : باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها .
2- سيأتي - في ذيل الرواية - التعليق على السند ، ومشكلته ، ومشكلة الرواية التالية .
3- الاعتجارُ بالعمامة : هو أن يلفّها على رأسه ، ويراً طرفها على وجهه ، ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه . لسان العرب : عجر.
4- فقطع أسبوعه أي طوافه سبعاً .
5- أقول : هذه الكنية تدل على إن الراوي، هو الإمام الباقر (علیه السّلام)، لا الإمام الصادق (علیه السّلام)، وهذا أوقع في فهم الرواية كما احتملنا سابقا .

وقال : هذه أردت ، ولها أتيت ، زعمت أن علم ما لا اختلاف فيه من العلم ، عند الأوصياء ، فكيف يعلمونه ؟ قال : كما كان (صلی الله علیه و آله و سلم) يعلمه ، إلا أنهم لا يرون ما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يرى ، لأنه كان نبيا ، وهم محدثون ، وأنه كان يفد إلى الله عز وجل ، فيسمع الوحي ، وهم لا يسمعون ، فقال : صدقت ، يا ابن رسول الله ، سآتيك بمسألة صعبة . أخبرني عن هذا العلم ، ماله لا يظهر ؟ كما كان يظهر مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال : فضحك أبي (علیه السّلام)(1) وقال : أبى الله عز وجل أن يطلع على علمه ، إلا ممتحنا للإيمان به، كما قضى على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يصبر على أذى قومه ، ولا يجاهدهم ، إلا بأمره ، فكم من اكتتام قد اكتتم به ، حتى قيل له : اصدع بما تؤمر ، وأعرض عن المشركين(2) وأيم الله ، أن لو صدع - قبل ذلك - لكان آمنا ، ولكنه إنما نظر في الطاعة ، وخاف الخلاف ، فلذلك كف، فوددت أن عينك تكون مع مهدي هذه الأمة ، والملائكة بسيوف آل داود ، بين السماء والأرض ، تعذب أرواح الكفرة من الأموات ، وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء . ثم أخرج سيفا ، ثم قال : ما إن هذا منها . قال : فقال أبي : إي ، والذي اصطفى محمدا على البشر ، قال : فرد الرجل اعتجاره ، وقال : أنا إلياس ، ما سألتك عن أمرك ، وبي منه جهالة ، غير أني أحببت أن يكون هذا الحديث ، قوة لأصحابك ، وسأخبرك بآية أنت تعرفها ، إن خاصموا بها ، فلجوا . قال : فقال له أبي : إن شئت أخبرتك بها ؟ قال : قد شئت ، قال : إن شيعتنا ، إن قالوا لأهل الخلاف لنا : إن الله عز وجل ، يقول الرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ - إلى آخرها - فهل كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يعلم من العلم شيئا لا يعلمه في تلك الليلة ، أو يأتيه به جبرئيل (علیه السّلام) في غيرها ؟ فإنهم سيقولون : لا ، فقل لهم : فهل كان لما علم ، بد من أن يظهر ؟

ص: 238


1- قال المعلق : لعل ضحكه (علیه السّلام) كان لهذا النوع من السؤال ، الذي ظاهره الامتحان - تجاهلا - مع علمه بأنه عارف بحاله ، أو لعد المسألة صعبة ، وليست عنده (علیه السّلام) كذلك . (انتهى) .
2- قال المعلق : حاصل الجواب، إن ظهور هذا العلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) دائما ، في محل المنع ، فإنه كان في سنين ، من أول بعثه مكتتما ، إلا عن أهله ؛ لخوف عدم قبول الخلق منه ، حتى أمر بإعلانه ، وكذلك الأئمة (علیهم السّلام)، يكتمون عمن لا يقبل منهم ، حتى يؤمروا بإعلانه في زمن القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف). (انتهى) .

فيقولون : لا ، فقل لهم : فهل كان فيما أظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من علم الله عز ذكره اختلاف ؟ فان قالوا : لا ، فقل لهم : فمن حكم بحكم الله ، فيه اختلاف ، فهل خالف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فيقولون : نعم – فإن قالوا : لا ، فقد نقضوا أول كلامهم ، فقل لهم : ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم . فإن قالوا : من الراسخون في العلم ؟ فقل : من لا يختلف في علمه ، فإن قالوا فمن هو ذاك ؟ فقل : كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) صاحب ذلك ، فهل بلغ ، أو ، لا ؟ فإن قالوا : قد بلغ ، فقل : فهل مات (صلی الله علیه و آله و سلم)، والخليفة من بعده ، يعلم علما ، ليس فيه اختلاف ؟ فإن قالوا : لا ، فقل : إن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مؤيد ، ولا يستخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلا من يحكم بحكمه ، وإلا من يكون مثله ، إلا النبوة ، وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)لم يستخلف في علمه أحدا ، فقد ضيع من في أصلاب الرجال ، ممن يكون بعده. فإن قالوا لك : فإن علم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان من القرآن ، فقل : ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فيها﴾ إلى قوله : ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ ﴾ [الدخان : 1 - 5] فإن قالوا لك : لا يرسل الله عز وجل ، إلا إلى نبي ، فقل : هذا الأمر الحكيم، الذي يفرق فيه ، هو من الملائكة والروح ، التي تنزل من سماء إلى سماء ، أو من سماء إلى أرض ؟(1) فإن قالوا : من سماء إلى سماء ، فليس في السماء أحد ، يرجع من طاعة إلى معصية ، فإن قالوا : من سماء إلى أرض - وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك – فقل : فهل لهم بد ، من سيد يتحاكمون إليه ؟ فإن قالوا : فإن الخليفة ، هو حكمهم ، فقل : ﴿اللهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَات إلى النور﴾- إلى قوله - : ﴿خَالِدُونَ﴾ [البقرة : 257] لعمري ما في الأرض ، ولا في السماء ، ولي الله عز ذكره ، إلا و هو مؤيد ، ومن أيد لم يخطأ ، وما في الأرض عدو الله ، عز ذكره ، إلا وهو مخذول ، ومن خذل لم يصب ، كما أن الأمر ، لا بد من

ص: 239


1- قال المعلق : هذا إيراد سؤال على الحجة ، تقريره : إن علم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لعله كان من القرآن فحسب ، ليس مما يتجدد في ليلة القدر في شيء ، فأجاب بأن الله سبحانه يقول : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عندنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ﴾ [الدخان : 5] فهذه الآية تدل على تجدد الفرق والإرسال ، في تلك الليلة المباركة ، بإنزال الملائكة والروح فيها ، من السماء إلى الأرض دائما ، فلا بد من وجود من يرسل إليه الأمر دائما .

تنزيله من السماء ، يحكم به أهل الأرض ، كذلك لابد من وال ، فإن قالوا : لا نعرف هذا ، فقل [لهم] : قولوا ما أحببتم ، أبى الله عز وجل ، بعد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يترك العباد ، ولا حجة عليهم . قال أبو عبد الله (علیه السّلام): ثم وقف ، فقال : هاهنا يا ابن رسول الله ، باب غامض ، أرأيت إن قالوا : حجة الله : القرآن ؟ قال : إذن أقول لهم : إن القرآن ليس بناطق ، يأمر وينهى ، ولكن للقرآن أهل ، يأمرون وينهون ، وأقول : قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ، ما هي في السنة ، والحكم الذي ليس فيه اختلاف ، وليست في القرآن ، أبى الله لعلمه بتلك الفتنة ، أن تظهر في الأرض ، وليس في حكمه راد لها ، ومفرج عن أهلها . فقال : هاهنا تفلجون ، يا أبن رسول الله ، أشهد أن الله عز ذكره ، قد علم بما يصيب الخلق ، من مصيبة في الأرض ، أو في أنفسهم ، من الدين ، أو غيره ، فوضع القرآن دليلا ، قال : فقال الرجل : هل تدري يا ابن رسول الله ، دليل ما هو ؟ قال أبو جعفر (علیه السّلام): نعم ، فيه جمل الحدود، وتفسيرها ، عند الحكم ، فقال : أبى الله ، أن يصيب عبدا بمصيبة ، في دينه ، أو في نفسه ، أو [في] ماله ، ليس في أرضه من حكمه ، قاض بالصواب ، في تلك المصيبة . قال : فقال الرجل : أما في هذا الباب ، فقد فلجتهم بحجة ، إلا أن يفتري خصمكم على (علیه السّلام)، فيقول : ليس الله ، جل ذكره ، حجة ولكن أخبرني عن تفسير : ﴿لَكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ [الحديد : 23] مما خُص به علي (علیه السّلام) ﴿وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد : 23] قال : في أبي فلان ، وأصحابه ، واحدة مقدمة ، وواحدة مؤخرة : ﴿تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ مما خُص علي (علیه السّلام) ﴿وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ من الفتنة ، التي عرضت لكم ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال الرجل : أشهد أنكم أصحاب الحكم ، الذي لا اختلاف فيه ، ثم قام الرجل ، وذهب ، فلم أره» . (انتهى).(1)

ص: 240


1- ابن حريش الوارد في سند الرواية هو : الحسن بن العباس بن حريش الرازي ، وقد بالغ بعضهم في ذمه ، وذم مروياته في ليلة القدر ، معتمدين على تضعيف العياشي ، وابن الغضائري له - تضعيف العياشي هو المهم؛ لأنه لا أهمية لما يذكره ابن الغضائري، فكتابه لم تثبت نسبته إليه ، وثمة أسباب أخرى ليس هذا محلها ويبدو من خلال تتبع كلماتهم ، رضوان الله عليهم ، إن التضعيف سببه ظنهم بانحراف عقيدته ، بالغلو ، وهذا أمر مناقش ، وكان ينبغي التحقيق أكثر ، في هذا الأمر بدل الإصرار على ترك مروياته في العقيدة ، بينما يؤخذ منه في الفقه ، بل يقال إن قسما من مروياته عليها الإجماع في العمل ، وقد كان ديدن المعلق الفاضل على كتاب الكافي ، تضعيف الروايات عن ابن حريش ، وكمثال على ذلك ، فقد قال المعلق في حاشية كتاب الكافي ، عن ابن حريش : «بالحاء المهملة المفتوحة والراء المهملة المكسورة والياء المثناة من تحت الساكنة والشين المعجمة وقيل هو مصغر على وزن زبير و الرجل ضعيف جدا ، عنونه العلامة في القسم الثاني الخلاصة ، والنجاشي أيضا ، وقال ابن الغضائري : هو أبو محمد ضعيف ، روى عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام) فضل ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ كتابا مصنفا ، فاسد الألفاظ (أقول : وقد أورده الكليني في هذا الباب) تشهد مخائله ، علي أنه موضوع ، وهذا الرجل لا يلتفت إليه ، ولا يكتب حديثه . راجع : جامع الرواة : 1 : 205 . (انتهى) . أقول : لقد جمعت أغلب ما قيل في (ابن حريش) وبحثت الموضوع مطوّلا بشكل منهجي ، ولكي لا أثقل على القاريء - هنا - أكتفي بعرض النتائج التي توصلت إليها ، وهي: 1 - إن الرجل لم يطعن في علاقته الخاصة بمولانا الجواد (علیه السّلام)، بل صرحوا أنه ممن روى عن الجواد (علیه السّلام)، وقد طعنوا في عقائده ، ونسبوها إلى الغلو ، وطعن في كتابه عن ليلة القدر - بالذات - لأسباب ستأتي . فالطعن ليس طعنا سنديا ، وإنما اجتهاد في عدم قبول النص الذي رواه ، وهذا اجتهاد عليه مؤاخذات لا تخفى . 2 - الواقع الفعلي ، أن الطعن في عقيدته ، كان نتيجة إيمانه بنفس قضية ليلة القدر ، ولهذا يعود الأمر إلى كتابه نفسه ، ومعرفة مضمونه ، فقد كان قسم من الفقهاء ، لا يتحمّل أن يقال : أن الأئمة يأتيهم أمر التكوين والتشريع ، في ليلة القدر ، واعتبروا هذا غلوا ، بينما قد نص العلماء ، أنه ليس من الغلو ، وهو غلو بمفهوم من لا ينتسب للتشيع ؛ لجهلم بالمقدمات ، بل وبالنتائج . ولهذا فقد عبر الكثير من العلماء عن أن بعض تهم الغلو ، هي عين الإيمان الحقيقي ، ولا واقع لهذه التهم . وقد عرفنا أن معايير بعض المحدثين ، والفقهاء في فترة معينة ، كانت ضد أي فكرة للخصائص الثابتة لأهل البيت (علیهم السّلام)، فالقول بالعلم اللدني ، والولاية التكوينية ، ومعرفة الخبء ، وما شابه ذلك كان يعتبر غلوا في الدين ، وهذا غير صحيح ، وهو معيار فاسد ، لا يصمد أمام النقاش الحر . وقد نقل السيد محسن الأمين العاملي (رحمه الله علیه) بعض التحقيقات ، في هذا الأمر ، عن حاشية الفهرست ، فقال في أعيان الشيعة : 5 : 128 : «وفي التعليقة : فيه ما مر في الفائدة الثانية ، يعني من عد القدماء ، ما ليس غلوا من الغلو ، وقال جدي المجلسي الأول : روى الكتاب الكليني ، وأكثره من الدقيق ، لكنه مشتمل على علوم كثيرة ، ولما لم يصل إليه أفهام بعض ، رده بأنه مضطرب الألفاظ ، والذي يظهر بعد التتبع ، إن أكثر الأخبار الواردة ، عن الجواد ، والهادي ، والعسكري (علیهم السّلام)، لا يخلو من اضطراب ، تقية أو اتقاء ؛ لأن أكثرها مكاتبة ، ويمكن أن تقع في أيدي المخالفين ، ولما كان أئمتنا أفصح فصحاء العرب ، عند الجميع : ، فلو اطلعوا عليها ، لجزموا بأنها ليست منهم ، ولذا لا يسمون غالبا ، ويعبر عنهم بالرجل ، والفقيه . اه . قال : وبالجملة ، الكليني - مع أنه قال في أول الكافي ما قال - لم يذكر في باب شأن ﴿إنا أنزلناه﴾ وتفسيرها ، غير روايته ، وكتابه ، وأيضا رواه محمد بن يحيى ، ومحمد بن الحسن ، مع أنه مر عنهما ما مر ، في أحمد بن محمد بن خالد ، ورواه أحمد بن عيسى ، مع أنه صدر منه ما مر في احمد ، وغيره . وبالجملة : هؤلاء القمّيون ، رووا عنه ، وقد أشرنا إلى الأمر في ذلك ، في إبراهيم بن هاشم ، وإسماعيل بن مرار» . اه . وهذا يفيد : أن الكليني، رغم إطلاعه على الطرق المتعددة ، لنفس روايات الحسن بن العباس بن حريش ، إلا انه ترك الجميع ، واعتمد عليها ، بخلاف ما في بصائر الدرجات، وغيرها من تعدد الطرق ، وهذا يدل على القناعة بالثقة ، وصحة الرواية عنده - على اقل تقدير . 3 - المشكلة الأساسية ، التي تواجه الحكم على مرويات الحسن بن حريش، هي كتابه عن ليلة القدر ، فقد قيل : إنه صنف (مصنفا فاسد الألفاظ ، تشهد مخائله على أنه موضوع) فهذا يعني : أن الألفاظ عندهم فيها خلل ، ولعل المعنى - أيضا - كذلك ، وبالمراجعة لكل مروياته ، وجدنا أن الخلل الحقيقي ، في نص هذه الرواية الأولى، والرواية الثانية ، التي تأتي بعدها ، والمتعلقة بابن عباس ، والخلل ناتج عن أمور : الأول : كون الحدث مع الإمام الباقر (علیه السّلام)- في الرواية الثانية - وقد واجه بها ابن عباس ، وابن عباس ، لم يبلغ إمامة الباقر (علیه السّلام)، وإن عاش حتى ولادته (علیه السّلام)، وشطرا من صباه . والثاني : إن فيهما حدة ، واتهاما بالضلال ، ووصفا مشينا ، قد لا يراه البعض لائقا به ، مثل وصفه له بسخافة العقل . والثالث : احتوائها على نزول الأمر التشريعي ، وهذا لم يتعقله بعض الفقهاء ، في ذلك الوقت لشبهة ضعيفة ، وهي الترابط بين التلقي التشريعي ، وبين النبوة ، ولا يصح هذا في الأئمة (علیهم السّلام). والرابع : إن المقابل للإمام في الرواية الأولى ، هو النبي إلياس (علیه السّلام). وهذه النقاط الثلاثة مردودة جميعها : فأما الأول ، فإن الرواية الأولى ، تشير في داخلها إلى سقط في السند ، وهو أن المتحدث الإمام الباقر (علیه السّلام) عن أبيه زين العابدين (علیه السّلام)، حيث قال : «ثم وضع يده على رأسي ، وقال بارك الله فيك يا أمين الله ، بعد آبائه يا أبا جعفر» فالراوي هو أبو جعفر الباقر (علیه السّلام)، وليس الإمام الصادق (علیه السّلام) نفسه ، وهذا السقط في السند ممكن ، وواقع في الكثير من الروايات ، ومن سند الرواية الثانية ، نعرف أن سند الرواية الأولى هو نفسه ، فتحل المشكلة - أساسا - في مشكلة المقابلة مع ابن عباس ، حيث إن الأمر متعلق بالإمام زين العابدين (علیه السّلام) وهذا لا إشكال فيه ، على إن بعض العلماء ، أجاب بامكان أن يتعلق الأمر بالإمام الباقر (علیه السّلام)، في صغره ، لا في إمامته (ولكن روح الرواية يأبى مثل ذلك النقاش الحاد) ولعل الأمر فيه جواب آخر ، وهو : إن المقصود هو : (ابن) عبد الله بن عباس ، وليس عبد الله ، فقد سقطت كلمة (ابن) وعبد الله بن عباس ، له من الأولاد : العباس ، والفضل ، وعلي ، وعبيد الله ، والحسن ، وسليمان ، أو هو أحد أولاد ابن عباس ، وإن تأخروا ، كمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، الذي آلت إليه زعامة الكيسانية ، وقام بالحركات الكبيرة ، وكان قد عقد العزم على توجيه أولاده : أبو العباس السفاح ، وعبد الله المنصور ، وإبراهيم الإمام المقتول في الشام ، للقيام بتحركهم ، بالتحالف مع أبناء الحسن ، وغشهم ، وكان هذا الرجل ، مدعيا للعلم ، والإمامة – أيضا ولكن الذي يغلب على الظن : أن الأكثر قبولا هو ابن عبد الله ، ولعل الأكثر مناسبة لتوجيه مثل هذا الكلام ، هو العباس ، كبير أولاد عبد الله ، حيث أن هذا ، عاش في زمن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وكان مشاغبا مدعيا ، ووعى ما تتم المحاججة به . وبهذا ، لا يكون الإشكال الأول ورادا . ولحل الإشكال الثاني نقول : إنه بعد استشهاد سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (علیه السّلام)، حدثت حوارات حادة جدا ، بين الإمام زين العابدين (علیه السّلام)، وعمه محمد بن الحنفية ، وبعض أبناء عمه الحسن (علیه السّلام)، في شرعية الإمامة ، فلا مانع أن يحدث مثل هذا الحوار الحاد ، مع ابن عمه عبد الله بن عباس ، وقد حصلت مثل هذه الحوارات ، مع الباقر ، والصادق (علیه السّلام) - مع مخالفيهما من أبناء عمومتهما - (على أن من يعرف أسلوب ابن عباس في الحوار ، لا يستبعد أن ما ورد ، يقترب من طريقة تفكيره ، مثل ادعاءه النسيان ، والحدة في الطرح ، ونكران بعض الحقائق ، والتعالي ، فهذه من خصائصه) ولو كان الأمر ، متعلقا بالعباس ابن عبد الله عباس ، فالأمر ينطبق عليه - كليا - لما عرف عنه من ادعاء للمكانة العلمية ، مع فراغه وعدم تحصيله ، فقد روي عنه ، أنه تزوج زواج الشغار المنهي عنه شرعا ، فكيف يكون فقيها ، وعالما ؟ فمثل هذا ، يمكن أن يكون موضع تندر وسخرية ، ولكن وجود نصوص في الحديث ، من قبيل تكرار إنك (سمعتها من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)) أو : (قد عميت عينك ؛ لأنك جحدت ذلك) تدل على إن المقصود ابن عباس نفسه ، والأقرب : إن الحديث عن الإمام الصادق ، عن الإمام الباقر ، عن أبيه السجاد ، والله اعلم . فهذا بعض حل الإشكال الثاني ، وهناك الكثير مما يقال هنا . وأما الإشكال الثالث ، فمرده إلى الضعف في فهم الإسلام ، وفهم الفرق بين استمرار الشريعة ، وبين النبوة ، وهذا كلام أصبح مما لا يستحق النقاش بعد وضوح الأمر ، وقد ناقشناه في الإشكالية ، بجوانبه المتعددة ، ولا نرغب بتكرار الكلام فيه فليراجع . وأما الإشكال الرابع ، بكون المقابل للإمام في الرواية الأولى ، وهو النبي إلياس (علیه السّلام)، فهذا ليس إشكالا ، ولا يستحق التوقف عنده . ولو كان بالفعل ، هذا هو المقصود بفساد ألفاظ الرواية ، ودلالة مخايلها على الوضع ، فعلى الدنيا العفا. وبالنظر لتواتر معنى ليلة القدر ، بالشكل المطروح ، وللأخذ بروايات ابن حريش ، ولسلامة المعنى علميا ، و قرآنيا ، تعتبر هذه الروايات حجة ، ومقبولة العمل ، والاعتقاد ، وما قد يرد فيها ، من سقط ، أو تصحيف ، أو تدخل من الرواة والنساخ ، فهذا يمكن معالجته بسهولة ، وهو لا يسقط الفكرة ، ولا اعتمادها ، وموثوقيتها كما يمكن الإغضاء عن رواية مقابلة ابن عباس ، باعتبار أنها مشوشة ، وغير محددة من قبل النساخ والرواة بعيدا عن فكرة تضعيفها ، أو تركها بالكلية ، على أن بعض الفقهاء قبلوا بحكم فيها في الديات ، واعتمدوه فقهيا ، وما أقصده هو الإغضاء عنها ، لحين تحقق الصورة، فيمن قابل الإمام ؟ ومن هو الإمام المقصود في الرواية ؟ لوجود خلل ظاهر في شخوص الرواية ، ولكن يمكن حله ، واحتمال التصويب ، لكل هذه الصورة المشوشة كما اشرنا قبل قليل ، باحتمالات معقولة ، ولهذا لا تضعف ، أو تترك كليا ، ولكن تستبعد من البحث - آنيا - باعتبار هذا التشويش ، وليس باعتبار الوضع ، أو التضعيف - كما عمل بعض الفضلاء رحمهم الله - فإن فيما غيرها من الروايات (السليمة من الإشكالات) غنى للباحث ، ولا يمكن الإغضاء عنها . بل حتى مع القول : بضعف ابن حريش (وهذا بعيد جدا) فإن الروايات عنه سليمة المعنى ، وقوية الدلالة ، وفيها من نور النبوة ، وبهاء الولاية ، ما لا يخفى على عارف . وهي موافقة للكتاب العزيز ، ومسلمة في إلزامها ، وحجة مضمونها . وهذا جابر للرواية ، حيث إن صحة المضمون، جابر للرواية - قطعا . والخلاصة في التحقيق : إن جرح ابن حريش مبني على ما أورده من نص ، وهذا يمكن أن يصح فيما إذا كان النص بين البطلان ، وليس اجتهادا فيه أخذ ورد ، فانه يكون مصادرة واضحة ، وما حدث من رد إنما هو مبني على اجتهاد في التخوف من الفكرة، رغم قوتها وكثرة النصوص الصحيحة فيها وعدم وجود المانع منها كما بينا . فمثل هذا الاجتهاد لا يمكن الاعتماد عليه ولا يبنى عليه حكم في أي من الاتجاهين [التضعيف أو التوثيق] . أقول : وللتعليق على بعض جوانب الرواية فقد علق المعلق على كتاب الكافي ، بتقريره للدليل ، من خلال قول النبي إلياس : «غير إني أحببت ، أن يكون هذا الحديث ، قوة لأصحابك ، و سأخبرك بآية أنت تعرفها ، إن خاصموا بها فلجوا» . أي فازوا وظفروا - وقد عرض عرضا موجزا ، عليه بعض الملاحظات ، خصوصا فيما يتعلق بلزوم وصول البيان ، لا حصوله ، لاستعماله كلمة تبليغ ، وهذا غير مسلّم ، وقد بينا وجه الاشتباه فيه . وعلى كل حال ، فالكلام لا يخلو من فائدة ، وهو يعطي تبريرا ، وتصحيحا لمجمل الرواية ، من جهة المعنى ، الذي أشكلوا عليه ، من هذه الجهة بالذات . فقد قال في حاشية كتاب الكافي : «وتقرير هذه الحجة ، على ما يطابق عبارة الحديث، مع مقدماته المطوية ، أن يقال : قد ثبت أن الله سبحانه انزل القرآن في ليلة القدر ، على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنه كان تنزل الملائكة والروح فيها ، من كل أمر ببيان ، وتأويل ، سنة فسنة ، كما يدل عليه فعل المستقبل ، الدال على التجدد في الاستقبال . فنقول : هل كان لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، طريق إلى العلم الذي يحتاج إليه الأمة ، سوى ما يأتيه من السماء ، من عند الله سبحانه ، أما في ليلة القدر ، أو في غيرها أم لا ؟ والأول باطل ، لما أجمع عليه الأمة ، من أن علمه ليس إلا من عند الله سبحانه ، كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم : 4] فثبت الثاني . ثم نقول : فهل يجوز أن لا يظهر هذا العلم ، الذي تحتاج إليه الأمة ، أم لا بد من ظهوره لهم ؟ والأول باطل ؛ لأنه إنما يوحى إليه ليبلغ إليهم ، ويهديهم إلى الله عز وجل فثبت الثاني . ثم نقول : فهل في ذلك العلم النازل من السماء ، من عند الله - جل وعلا - إلى الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، اختلاف ، بأن يحكم في أمر ، في زمان بحكم ، ثم يحكم في ذلك الأمر بعينه ، في ذلك الزمان بعينه ، بحكم آخر يخالفه ، أم لا ؟ والأول باطل ؛ لأن الحكم ، إنما هو من عند الله - جل وعز - وهو متعال عن ذلك ، كما قال : ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عند غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ [النساء : 82] . ثم نقول : فمن حكم بحكم ، فيه اختلاف ، هل وافق رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في فعله ذلك ، وحكمه ، أم خالفه ؟ والأول باطل ؛ لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لم يكن في حكمه اختلاف ، فثبت الثاني . ثم نقول : فمن لم يكن في حكمه اختلاف ، فهل له طريق إلى ذلك الحكم ، من غير جهة الله سبحانه ، أما بواسطة ، أو بغير واسطة ، ومن دون أن يعلم تأويل المتشابه ، الذي بسببه يقع الاختلاف ، أم لا ؟ والأول باطل ، فثبت الثاني . ثم نقول : فهل يعلم تأويل المتشابه ، الذي بسببه يقع الاختلاف ، إلا الله ، والراسخون في العلم ، الذين ليس في علمهم اختلاف ، أم لا ؟ والأول باطل ؛ لأن هذا يقول : ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العلم﴾ [آل عمران : 7] . ثم نقول : فرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، الذي هو من الراسخين في العلم ، هل مات وذهب بعلمه ذلك ، ولم يبلغ طريق علمه بالمتشابه ، إلى خليفته من بعده ، أم بلغه ؟ والأول باطل ؛ لأنه لو فعل ذلك ، فقد ضيع من في أصلاب الرجال ، ممن يكون بعده ، فثبت الثاني . ثم نقول : فهل له خليفة من بعده ، كسائر آحاد الناس ، يجوز عليه الخطأ ، والاختلاف في العلم (أم) هو مؤيد من عند الله ، يحكم بحكم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأن يأتيه الملك ، ويحدثه ، من غير وحي ، ورؤية ، أو ما يجرى مجرى ذلك ، وهو مثله إلا في النبوة . والأول باطل ؛ لعدم إغنائه حينئذ ؛ لأن من يجوز عليه الخطأ ، لا يؤمن عليه الاختلاف في الحكم ، ويلزم التضييع من ذلك أيضا . فثبت الثاني . فلا بد من خليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)راسخ في العلم ، عالم بتأويل المتشابه ، مؤيدا من عند الله ، لا يجوز عليه الخطأ ، ولا الاختلاف في العلم ، يكون حجة على العباد ، وهو المطلوب» انتهى.

ص: 241

ص: 242

ص: 243

ص: 244

ص: 245

2 - عن أبي عبد الله (علیه السّلام)(1) قال : بينا أبي جالس ، وعنده نفر ، إذ استضحك ، حتى اغرورقت عيناه دموعا ، ثم قال : هل تدرون ما أضحكني ؟ قال : فقالوا : لا ، قال زعم ابن عباس ، أنه من ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت : 30] . فقلت له : هل رأيت الملائكة يا ابن عباس ، تخبرك بولايتها لك ، في الدنيا والآخرة . مع الأمن من الخوف والحزن ؟ قال : فقال : إن الله - تبارك وتعالى - يقول : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : 10] . وقد دخل في هذا جميع الأمة ، فاستضحكت . ثم قلت : صدقت يا ابن عباس ، أنشدك الله هل في حكم الله – جل ذكره - اختلاف ؟ قال : فقال : لا ، فقلت : ما ترى في رجل ، ضرب رجلا أصابعه بالسيف ، حتى سقطت ، ثم ذهب ، وأتى رجل آخر ، فأطار كفه ، فأتي به إليك ، وأنت قاض ، كيف أنت صانع ؟ قال : أقول لهذا القاطع : أعطه دية كفه ، وأقول لهذا المقطوع : صالحه على ما شئت ، وابعث به إلى ذوي عدل ، قلت : جاء الاختلاف في حكم الله - عز ذكره - ونقضت القول الأول ، أبى الله – عز ذكره - أن يحدث في خلقه شيئا من الحدود ، [و] ليس تفسيره في الأرض ، اقطع قاطع

ص: 246


1- قد يكون هناك سقط في السند ، فيكون : عن أبي عبد الله ، عن أبيه . وفي التعليق السابق ، احتملنا أن الراوي هو الإمام الباقر (علیه السّلام) لأسباب بررناها . وقد اقترحنا الإغضاء عن هذه الرواية ، لما فيها من تشويش ، ولكن ذكرناها متعمدين حتى لا نوصف بالتحيز والبتر . و يكون إسنادها - على الأرجح - هكذا : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام)، عن أبيه الجواد (علیه السّلام)، عن أبيه الرضا (علیه السّلام)، عن أبيه الكاظم (علیه السّلام)، عن أبيه أبي عبد الله الصادق (علیه السّلام)، عن أبيه الباقر (علیه السّلام):....

الكف ، أصلا ، ثم أعطه دية الأصابع ، هكذا حكم الله ، ليلة تنزل فيها أمره(1) إن جحدتها ، بعدما سمعت من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأدخلك الله النار ، كما أعمى بصرك يوم جحدتها علي بن أبي طالب . قال : فلذلك عمي بصري ، قال : وما علمك بذلك ، فوالله إن عمي بصري ، إلا من صفقة جناح الملك . قال : فاستضحكت ثم تركته يومه ، ذلك لسخافة عقله ، ثم لقيته فقلت : يا ابن عباس ، ما تكلمت بصدق مثل أمس ، قال لك علي بن أبي طالب (علیه السّلام): إن ليلة القدر في كل سنة ، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، وإن لذلك الأمر ، ولاة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقلت : من هم صل ؟ فقال : أنا ، وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون ، فقلت : لا أراها كانت إلا مع رسول الله ، فتبدى لك الملك ، الذي يحدثه فقال : كذبت يا عبد الله ، رأت عيناي الذي حدثك به علي - ولم تره عيناه ، ولكن وعا قلبه ، ووقر في سمعه - ثم صفقك بجناحه ، فعمیت . قال : فقال ابن عباس : ما اختلفنا في شيء فحكمه إلى الله ، فقلت له : فهل حَكَمَ الله في حُكم من حكمه بأمرين ؟ قال : لا ، فقلت : هاهنا هلكت ، وأهلكت .

3 – وبهذا الإسناد(2) عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال : قال الله – عز وجل – في ليلة القدر : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم﴾ [الدخان : 4] يقول : ينزل فيها كل أمر حكيم ، والمحكم ليس بشيئين ، إنما هو شيء واحد ، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف ، فحكمه من حكم الله عز وجل ، ومن حكم بأمر فيه اختلاف ، فرأى أنه مصيب ، فقد حكم بحكم الطاغوت . إنه لينزل في ليلة القدر ، إلى ولي الأمر ، تفسير الأمور سنة سنة ، يؤمر فيها في أمر نفسه ، بكذا ، وكذا ، وفي أمر الناس ، بكذا ، وكذا . وإنه ليحدث لولي الأمر ، سوى ذلك كل يوم [من] علم الله – عز وجل – الخاص ، والمكنون ، العجيب ، المخزون ، مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر ، ثم قرأ : ﴿وَلَوْ أَنَّمَا في

ص: 247


1- يرجى ملاحظة اهتمام الفقهاء في هذا النص في الديات، واعتماد الكثير من القدماء والمتأخرين عليه .
2- الإسناد هو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام):....

الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حكيم﴾ [لقمان : 27] .

4 - وبهذا الإسناد(1) عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : كان علي بن الحسين صلوات الله عليه ، يقول : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْر﴾ صدق الله - عز وجل - أنزل الله القرآن ، في ليلة القدر ، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر﴾ له قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لا أدري ، قال الله - عز وجل - : ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ ألف شَهْر﴾ ليس فيها ليلة القدر ، قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): وهل تدري لم هي خير من ألف شهر ؟ قال لا ، قال : لأنها تنزل فيها الملائكة والروح بإذن ربهم من كل أمر ، وإذا أذن الله عز وجل بشيء فقد رضيه ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ يقول : تسلم عليك - يا محمد – ملائكتي ، وروحي ، بسلامي من أول ما يهبطون إلى مطلع الفجر . ثم قال : في بعض كتابه : ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةٌ لا تُصِيبَنَّ الذينَ ظَلَمُوا منكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال : 25] في : ﴿إنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وقال في بعض كتابه : ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْله الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلَبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران : 144] يقول في الآية الأولى : إن محمدا حين يموت ، يقول أهل الخلاف لأمر الله عز وجل : مضت ليلة القدر مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهذه فتنة أصابتهم خاصة ، وبها ارتدوا على أعقابهم ؛ لأنه إن قالوا : لم تذهب ، صل فلابد أن يكون الله عز وجل فيها أمر ، وإذا أقروا بالأمر لم يكن له من صاحب بد .

5 - وعن أبي عبد الله (علیه السّلام)(2) قال : كان علي (علیه السّلام)، كثيرا ما يقول - : [ما] اجتمع التيمي ، والعدوي عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو يقرأ : ﴿إنا أنزلناه﴾ بتخشع ، وبكاء ، فيقولان : ما أشد رقتك لهذه السورة ؟ فيقول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لما رأت عيني ، ووعا قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي ،

ص: 248


1- الإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .
2- الإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

فيقولان : وما الذي رأيت، وما الذي يرى ، قال : فيكتب لهما في التراب : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ قال : ثم يقول : هل بقي شيء بعد قوله عز وجل : ﴿كُلِّ أمْر﴾ فيقولان : لا ، فيقول : هل تعلمان من المنزل إليه بذلك ؟ فيقولان : أنت يا رسول الله ، فيقول : نعم ، فيقول : هل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : فهل ينزل ذلك الأمر فيها ؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : إلى من ؟ فيقولان : لا ندري ، فيأخذ برأسي ، ويقول : إن لم تدريا فادريا، هو هذا من بعدي ، قال : فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، من شدة ما يداخلهما من الرعب.

6 - وعن أبي جعفر (علیه السّلام)(1) قال : يا معشر الشيعة ، خاصموا بسورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ تحلجوا (تفلجوا) فو الله ، إنها لحجة الله - تبارك وتعالى - على الخلق ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنها لسيدة فوالله دينكم ، وإنها لغاية علمنا ، يا معشر الشيعة خاصموا ب_﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذرينَ﴾ [الدخان : 1 - 3] فإنها لولاة الأمر خاصة بعد رسول الله له ، يا معشر الشيعة ، يقول الله تبارك وتعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير قيل : يا أبا جعفر نذيرها محمد ، قال : صدقت ، فهل كان نذير ، وهو حي ، من البعثة في أقطار الأرض ، فقال السائل : لا ، قال أبو جعفر (علیه السّلام): أرأيت بعيثه ، أليس نذيره، كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في بعثه من الله - عز وجل - نذير ، فقال : بلى ، قال : فكذلك لم يمت محمد ، إلا وله بعيث نذير ، قال : فإن قلت : لا ، فقد ضيع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من في أصلاب الرجال من أمته ، قال : وما يكفيهم القرآن ؟ قال : بلى، إن وجدوا له مفسرا ، قال : وما فسره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال : بلی ، قد فسره لرجل واحد ، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل ، وهو علي بن أبي طالب (علیه السّلام). قال السائل : يا أبا جعفر كأن هذا أمر خاص لا يحتمله العامة ؟ قال : أبى الله ، أن يعبد إلا سرا ، حتى يأتي إبان أجله ، الذي يظهر فيه دينه ، كما أنه كان رسول الله مع خديجة مستترا ، حتى أمر بالإعلان . قال السائل : ينبغي

ص: 249


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

لصاحب هذا الدين أن يكتم . قال : أوما كتم علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، يوم أسلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، حتى ظهر أمره ؟ قال : بلى ، قال : فكذلك أمرنا ، حتى يبلغ الكتاب أجله .

7 - وعن أبي جعفر (علیه السّلام)(1) قال : لقد خلق الله - جل ذكره - ليلة القدر ، أول ما خلق الدنيا ، الله ولقد خلق فيها أول نبي يكون ، وأول وصي يكون ، ولقد قضى ، أن يكون في كل سنة ليلة ، يهبط فيها بتفسير الأمور ، إلى مثلها من السنة المقبلة ، من جحد ذلك ، فقد رد على الله - عز وجل - علمه ؛ لأنه لا يقوم الأنبياء ، والرسل ، والمحدثون ، إلا أن تكون عليهم حجة ، بما يأتيهم الحجة التي يأتيهم بها جبرئيل الله ، قلت : والمحدثون أيضا ، يأتيهم جبرئيل (علیه السّلام)، تلك الليلة ، مع أو غيره من الملائكة (علیهم السّلام)؟ قال : أما الأنبياء والرسل صلى الله عليهم ، فلا شك ، ولا بد لمن سواهم ، من أول يوم خلقت فيه الأرض ، إلى آخر فناء الدنيا ، أن تكون على أهل الأرض حجة ، ينزل ذلك في تلك الليلة ، إلى من أحب من عباده . وأيم الله ، لقد نزل الروح ، والملائكة ، بالأمر في ليلة القدر ، على آدم ، وأيم الله ، ما مات آدم ، إلا وله وصي ، وكل من بعد آدم من الأنبياء ، قد أتاه الأمر فيها ، ووضع لوصيه من بعده ، وأيم الله ، إن كان النبي ليؤمر فيما يأتيه من الأمر، في تلك الليلة من آدم إلى محمد (صلی الله علیه و آله و سلم): أن أوص إلى فلان ، ولقد قال الله - عز وجل - في كتابه ، لولاة الأمر من بعد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) خاصة : ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات ليَسْتَخْلفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِن قَبْلِهِمْ ... - إلى قوله - فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور : 55] يقول : أستخلفكم لعلمي ، وديني ، وعبادتي بعد نبيكم ، كما استخلف وصاة آدم من بعده ، حتى يبعث النبي الذي يليه ﴿يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ يقول : يعبدونني بإيمان لا نبي بعد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فمن قال غير ذلك ﴿فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فقد مكن ولاة الأمر ، بعد محمد بالعلم ، و نحن هم ، فاسألونا فإن صدقناكم ، فأقروا ، وما أنتم بفاعلين . أما علمنا فظاهر ، وأما إبان أجلنا ، الذي يظهر فيه الدين منا ، حتى لا يكون بين الناس اختلاف ، فإن

ص: 250


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

له أجلا من ممر الليالي ، والأيام ، إذا أتى ظهر ، وكان الأمر واحدا . وأيم الله ، لقد قضي الأمر ، أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف ، ولذلك جعلهم شهداء على الناس ؛ ليشهد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) علينا ، ولنشهد على شيعتنا ، ولتشهد شيعتنا على الناس ، أبى الله - عز وجل - أن يكون في حكمه اختلاف ، أو بين أهل علمه تناقض . ثم قال أبو جعفر (علیه السّلام): فضل إيمان المؤمن بحمله : إنَّا أنزَلْنَاهُ وبتفسيرها ، على من ليس مثله في الإيمان بها ، كفضل الإنسان على البهائم ، وإن الله - عز وجل - ليدفع بالمؤمنين بها ، عن الجاحدين لها ، في الدنيا - لكمال عذاب الآخرة ، لمن علم أنه لا يتوب منهم - ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين ، ولا أعلم أن في هذا الزمان جهادا ، إلا الحج ، والعمرة ، والجوار .

8 - قال(1): وقال رجل لأبي جعفر (علیه السّلام): يا ابن رسول الله ، لا تغضب علي . قال : لماذا ؟ قال : لما أريد أن أسألك عنه ، قال : قل ، قال : ولا تغضب ؟ ، قال : ولا أغضب ، قال : أرأيت قولك في ليلة القدر ، وتنزل الملائكة ، والروح فيها إلى الأوصياء ، يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد علمه ؟ أو يأتونهم بأمر كان رسول الله لا يعلمه ؟ وقد علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مات ، وليس من علمه شيء إلا وعلي (علیه السّلام) له واع ، قال أبو جعفر (علیه السّلام): مالي ولك أيها الرجل ، ومن أدخلك علي ؟ قال : أدخلني عليك القضاء ، لطلب الدين ، قال : فافهم ما أقول لك : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لما أسري به ، لم يهبط حتى أعلمه الله - جل ذكره - علم ما قد كان ، وما سيكون ، وكان كثير - من علمه ذلك - جملا ، يأتي تفسيرها في ليلة القدر ، وكذلك كان علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، قد علم جمل العلم ، ويأتي تفسيره في ليالي القدر ، كما كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال السائل : أوما كان في الجمل تفسير ؟ قال : بلى ، ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله - تعالى - في ليالي القدر ، إلى النبي وإلى الأوصياء : افعل كذا وكذا ، لأمر قد كانوا علموه ، أمروا كيف يعملون فيه ؟ قلت : فسر لي هذا ، قال : لم يمت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إلا حافظا لجمله وتفسيره ، قلت : فالذي كان يأتيه في ليالي

ص: 251


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

القدر ، علم ما هو ؟ قال : الأمر ، واليسر فيما كان قد علم ، قال السائل : فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا ؟ قال : هذا مما أمروا بكتمانه ، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه ، إلا الله – عز وجل . قال السائل : فهل يعلم الأوصياء ، ما لا يعلم الأنبياء ؟ قال : لا ، وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه ، قال السائل : فهل يسعنا أن نقول : إن أحدا من الوصاة ، يعلم ما لا يعلم الآخر ؟ قال : لا ، لم يمت نبي ، إلا وعلمه في جوف وصيه ، وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم، الذي يحكم به بين العباد ، قال السائل ، و ما كانوا علموا ذلك الحكم ؟ قال : بلى قد علموه ، ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شيء منه ، حتى يؤمروا في ليالي القدر ، كيف يصنعون إلى السنة المقبلة . قال السائل : يا أبا جعفر ، لا أستطيع إنكار هذا ؟ قال أبو جعفر (علیه السّلام): من أنكره فليس منا . قال السائل : يا أبا جعفر ، أرأيت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، هل كان يأتيه في ليالي القدر شيء ، لم يكن علمه ؟ قال : لا يحل لك أن تسأل عن هذا ، أما علم ما كان ، وما سيكون فليس يموت نبي ، ولا وصي ، إلا و ، إلا والوصي الذي بعده يعلمه ، أما هذا العلم، الذي تسأل عنه ، فإن الله - عز وجل - أبى أن يطلع الأوصياء عليه ، إلا أنفسهم ، قال السائل : يا ابن رسول الله ، كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة ؟ قال : إذا أتى شهر رمضان ، فاقرأ سورة الدخان ، في كل ليلة مئة مرة ، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين ، فإنك ناظر إلى تصديق الذي سالت عنه.

9 - وقال(1): قال أبو جعفر (علیه السّلام): لما ترون من بعثه الله - عز وجل - للشقاء على أهل الضلالة ، من أجناد الشياطين ، وأزواجهم ، أكثر مما ترون خليفة الله ، الذي بعثه للعدل والصواب الملائكة ، قيل : يا أبا جعفر ، وكيف يكون شيء أكثر من الملائكة ؟ قال : كما شاء الله عز وجل ، قال السائل : يا أبا جعفر ، إني لو حدثت بعض الشيعة، بهذا الحديث ، لأنكروه ، قال : كيف ينكرونه ؟ قال : يقولون : إن الملائكة (علیهم السّلام)، أكثر من الشياطين ، قال : صدقت ، افهم عني ما أقول : إنه ليس من يوم ، ولا ليلة ، إلا وجميع الجن والشياطين ، تزور أئمة الضلالة ، ويزور

ص: 252


1- بالإسناد السابق ، وهو : محمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن حريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث) .

إمام الهدى عددهم من الملائكة ، حتى إذا أتت ليلة القدر ، فيهبط فيها من الملائكة ، إلى ولي الأمر ، خلق الله - أو قال قيض الله - عز وجل ، من الشياطين بعددهم ، ثم زاروا ولي الضلالة ، فأتوه بالإفك ، والكذب ، حتى لعله يصبح فيقول : رأيت كذا وكذا ، فلو سأل ولي الأمر عن ذلك ، لقال رأيت شيطانا أخبرك ، بكذا ، وكذا ، حتى يفسر له تفسيرا ، ويعلمه الضلالة التي هو عليها . وأيم الله ، إن من صدق بليلة القدر ، ليعلم أنها لنا خاصة ؛ لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لعلي (علیه السّلام) الحين دنا موته : هذا وليكم من بعدي ، فان أطعتموه رشدتم ، ولكن من لا يؤمن بما في ليلة القدر ، منكر ، ومن آمن بليلة القدر ، ممن على غير رأينا ، فإنه لا يسعه في الصدق ، إلا أن يقول ، إنها لنا ، ومن لم يقل فإنه كاذب ، إن الله - عز وجل - أعظم من أن ينزل الأمر مع الروح والملائكة إلى كافر فاسق ، فان قال : إنه ينزل إلى الخليفة، الذي هو عليها ، فليس قولهم ذلك بشيء ، وإن قالوا : إنه ليس ينزل إلى أحد ، فلا يكون أن ينزل شيء ، إلى غير شيء ، وإن قالوا - وسيقولون - ليس هذا بشيء ، فقد ضلوا ضلالا بعيدا .

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن الحريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): إن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، قال لابن عباس : إن ليلة القدر في كل سنة ، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاة ، بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال ابن عباس : من هم ؟ قال : أنا وأحد عشر من صلبي ، أئمة محدثون .

12 - وبهذا الإسناد(1) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأصحابه : آمنوا بليلة القدر ، إنها تكون لعلي بن أبي طالب ، ولولده الأحد عشر من بعدي(2).

ص: 253


1- وهو : محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن أبي عبد الله ، ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زیاد ، جميعا ، عن الحسن بن العباس بن الحريش ، عن أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): (الحديث).
2- تخريج : الشيخ الصدوق : كمال الدين وتمام النعمة : 280 – 281 : «حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن سهل بن زياد ، وأحمد بن محمد بن عيسى ، قالا : حدثنا الحسن بن العباس بن حريش الرازي ، عن أبي جعفر الثاني ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام : أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول لأصحابه : آمنوا بليلة القدر ، إنها تكون لعلى بن أبي طالب، وولده الأحد عشر من بعده».

روايات أخرى

وإذا كان هناك ثمة مجال ، ومظنة للجدل في الروايات آنفة الذكر ، حول دقة ، وصحة السند ، أو النسبة إلى المنابع النقية للحديث الإمامي ، فنحن - هنا - نورد هذه الروايات ، الثابتة الصحة ، بطرق أخرى لا شائبة في نسبتها ، وهي بالتالي ، تدعم - فيما جاء فيها – ما تضمنته الروايات السابقة من المعنى ، ولو بشكل مجمل :

العلامة المجلسي(1):

46 - بصائر الدرجات : عبد الله بن محمد ، عن ابن أبي الخطاب ، عن محمد بن عبد الله ، عن يونس ، عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): أرأيت من لم يقر بما يأتيكم في ليلة القدر ، كما ذكر ، ولم يجحده ؟ قال : أما إذا قامت عليه الحجة ، ممن يثق به - في علمنا - فلم يثق به ، فهو كافر ، وأما من لم يسمع ذلك ، فهو في عذر ، حتى يسمع . ثم قال (علیه السّلام): ﴿يُؤْمن بالله ويُؤمن للْمُؤمنينَ﴾ [التوبة : 61] .

محمد بن الحسن الصفار(2):

حدثنا يعقوب بن يزيد ، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن بكير ، عن ابن بكير ، عن

ص: 254


1- بحار الأنوار : 94 : 21 . وفي بصائر الدرجات : 244 .
2- بصائر الدرجات : 240 : 245 : باب ما يلقى إلى الأئمة في ليلة القدر ، مما يكون في تلك السنة ، ونزول الملائكة عليهم .

أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إن ليلة القدر ، يكتب ما يكون منها في السنة ، إلى مثلها ، من خير ، أو شر أو موت ، أو حياة ، أو مظر ، ويكتب فيها وفد الحاج ، ثم يقضى ذلك إلى أهل الأرض . فقلت : إلى مَن من أهل الأرض ؟ فقال : إلى من ترى .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن داود بن فرقد ، قال : سألته عن قول الله - عز وجل - : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ . قال : نزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة ، من موت ، أو مولود . قلت له : إلى مَن ؟ فقال : إلى مَن عسى أن يكون ؟ إن الناس - في تك الليلة - في صلاة ، ودعاء ، ومسألة ، وصاحب هذا الأمر في شغل ، تنزل الملائكة إليه ، بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها ، من كل أمر ، سلام هي له إلى أن يطلع الفجر .

حدثنا العباس بن معروف ، عن سعدان بن مسلم، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألته عن النصف من شعبان ، فقال : ما عندي فيه شيء ، ولكن إذا كانت ليلة تسع عشر ، من شهر رمضان ، قسم فيها الأرزاق ، وكتب فيها الآجال ، وخرج فيها صكاك الحاج ، واطلع الله إلى عباده فغفر الله لهم ، إلا شارب الخمر . فإذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم ، ثم ينهى ذلك ، ويمضى . قال : قلت إلى من ؟ قال : إلى صاحبكم ، ولولا ذلك لم يعلم .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن عمر بن عبد العزيز، عن يونس ، عن الحرث بن المغيرة البصري ، وعن عمرو ، عن ابن أبي عمير، عمن رواه عن هشام ، قال : قلت لأبي عبد الله الله : قول الله تعالى في كتابه : ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ . قال : تلك ليلة القدر ، يكتب فيها وفد الحاج ، وما يكون فيها من طاعة ، أو معصية ، أو موت ، أو حياة ، ويحدث الله في الليل والنهار ، وما يشاء ، ثم يلقيه إلى صاحب الأرض ، قال : الحرث بن المغيرة البصري : قلت : ومن صاحب الأرض ؟ قال : صاحبكم .

حدثنا إبراهيم بن هاشم ، عن يحيى بن أبي عمران الهمداني ، عن يونس ، عن داود بن فرقد ،

ص: 255

عن أبي المهاجر ، عن أبي الهذيل، عن أبي جعفر ، قال : قال : يا أبا الهذيل إنا لا يخفى علينا ليلة القدر ، إن الملائكة يطوفون بنا فيها .

حدثنا محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن داود بن فرقد ، قال : سألته عن ليلة القدر ، التي تنزل فيها الملائكة . فقال : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرِ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ . قال : ثم قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): مِمَن وإلى مَن وَمَا ينزل .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن الحسن بن موسى ، عن سعيد بن يسار ، قال : كنت عند المعلى بن خنيس ، إذ جاء رسول أبي عبد الله (علیه السّلام)، فقلت له : سله عن ليلة القدر . فلما رجع ، قلت له : سألته ، قال : نعم ، فأخبرني بما أردت ، وما لم أرد . قال : إن الله يقضى فيها مقادير تلك السنة ، ثم يقذف به إلى الأرض ، فقلت إلى مَن ؟ فقال لي : مَن تری؟ يا عاجز ، أو يا ضعيف .

حدثنا محمد بن عيسى ، عن علي بن إسماعيل ، عن الحسن بن موسى ، عن معلی بن خنيس ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إذا كان ليلة القدر ، كتب الله فيها ما يكون ، قال : ثم يريني به ، قال : قلت إلى مَن ، قال : إلى من ترى ، يا أحمق .

حدثنا أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، وغيره ، عن سيف بن عميره ، عن حسان ، عن ابن داود ، عن بريده ، قال : كنت جالسا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، و علي (علیه السّلام) معه ، إذ قال يا علي ، ألم أشهدك معي سبعة مواطن ، الموطن الخامس ليلة القدر ، خصصنا ببركتها ، ليست لغيرنا .

حدثنا محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن الحسن بن موسى ، عن معلی بن خنيس ،عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إذا كان ليلة القدر ، كتب الله فيها ما يكون ، ثم يريني به ، قال : قلت إلى مَن ، قال : إلى من ترى ، يا أحمق .

حدثنا سلمة بن الخطاب ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد، عن عبد الله بن القاسم ، عن محمد بن حمران ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : قلت له إن الناس يقولون : إن ليلة النصف من شعبان ،

ص: 256

تكتب فيه الآجال ، وتقسم فيه الأرزاق ، وتخرج صكاك الحاج ، فقال : ما عندنا في هذا شيء ، ولكن إذا كانت ليلة تسع عشر من شهر رمضان ، يكتب فيها الآجال ، ويقسم فيها الأرزاق ، ويخرج صكاك الحاج ، ويطلع الله على خلقه ، فلا يبقى مؤمن ، إلا غفر له ، إلا شارب مسكر ، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم أمضاه ، ثم أنهاه ، قال : قلت إلى مَن - جعلت فداك - فقال : إلى صاحبكم ، ولولا ذلك لم يعلم ما يكون في تلك السنة.

حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسن بن العباس بن الحريش ، قال : عرضت هذا الكتاب على أبي جعفر (علیه السّلام)، فأقر به ، قال : قال أبو عبد الله (علیه السّلام)، قال علي (علیه السّلام)في صبح أول ليلة القدر ، التي كانت بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): سلوني ، فوالله لأخبرنكم بما يكون ، إلى ثلاثمائة وستين يوما ، من الذر ، فما دونها ، فما فوقها ، ثم لأخبرنكم بشيء من ذلك ، لا بتكلف ، ولا برأي ، ولا بادعاء في علم ، إلا من علم الله ، وتعليمه . والله ، لا يسألني أهل التوراة ، ولا أهل الإنجيل ، ولا أهل الزبور ، ولا أهل الفرقان ، إلا فرقت بين كل أهل كتاب ، بحكم ما في كتابهم . قال : قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): أرأيت ما تعلمونه في ليلة القدر هل تمضى تلك السنة ، وبقي منه شيء ، لم تتكلموا به ؟ قال : لا ، والذي نفسي بيده لو أنه فيما علمنا في تلك الليلة : أن أنصتوا لأعدائكم ، لنصتنا ، فالنصت أشد من الكلام .

حدثنا عباد بن سليمان ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه سليمان ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إن نطفة الإمام من الجنة ، وإذا وقع من بطن أمه إلى الأرض ، وقع و هو واضع يده إلى الأرض ، رافع رأسه إلى السماء . قلت : - جعلت فداك - وَلمَ ذاك ؟ قال : إن مناديا يناديه - من جو السماء السماء ، من بطنان العرش ، من الأفق الأعلى - : يا فلان بن فلان اثبت ، فإنك صفوتي من خلقي ، وعيبة علمي، ولك ، ولمن تولاك ، أوجبت رحمتي ، ومنحت جناني ، وأحلت جواري ، ثم وعزتي ، وجلالي لأصلين من عاداك أشد عذابي ، وإن أوسعت عليهم في دنياي من سعة رزقي . قال : فإذا انقضى صوت المنادي أجابه هو : ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ

ص: 257

وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُواْ العلم قائماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران : 18] فإذا قالها أعطاه العلم الأول ، والعلم الآخر ، واستحق زيادة الروح في ليلة القدر .

حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن الحسن بن عباس بن حريش ، إنه عرضه على أبي جعفر (علیه السّلام)، فأقر به ، قال : فقال أبو عبد الله (علیه السّلام): إن القلب ، الذي يعاين ما ينزل في ليلة القدر ، لعظيم الشأن . قلت : وكيف ذاك يا أبا عبد الله ؟ قال : ليشق – والله – بطن ذلك الرجل ، ثم يؤخذ إلى قلبه ، ويكتب عليه بمداد النور ، فذلك جميع العلم ، ثم يكون القلب مصحفا للبصر ، ويكون اللسان مترجما للأذن ، إذا أراد ذلك الرجل علم شيء ، نظر ببصره ، وقلبه فكأنه ينظر في كتاب . قلت له بعد ذلك : وكيف العلم في غيرها ، أيشق القلب فيه أم لا ؟ قال : لا يشق ، لكن الله يلهم ذلك الرجل ، بالقذف في القلب ، حتى يخيل إلى الأذن أنه تكلم بما شاء الله [عمله؟](1)، والله واسع عليم .

حدثنا عبد الله بن الله محمد ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن محمد بن عبد ، عن يونس ، عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): أرأيت ، من لم يقر بما يأتكم في ليلة القدر ، كما ذكر ، ولم يجحده . قال : أما إذا قامت عليه الحجة من يثق به - في علمنا - فلم يثق به ، فهو كافر ، وأما من لا يسمع ذلك ، فهو في عذر حتى يسمع ، ثم قال (علیه السّلام): ﴿يُؤْمِنُ بِالله ويُؤمن للمؤمنينَ﴾ [التوبة : 61] .

رواية مهمة جدا :

ولعل من أهم الروايات التي بين أيدينا في هذا المعنى هي الرواية الآتية أرجو التدبر بها وكل هذه الروايات في بصائر الدرجات للصفار (رحمه الله علیه) كما قلنا :

حدثنا أحمد بن محمد ، وأحمد بن إسحاق ، عن القاسم بن يحيى ، عن بعض أصحابنا ،عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : كان علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، كثيرا ما يقول : ما التقينا عند رسول الله (علیه السّلام)، التيمي وصاحبه ، وهو يقول : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ ويتخشع ، ويبكي ، فيقولان :

ص: 258


1- كذا في الأصل .

ما أشد رقتك بهذه السورة ، فيقول : لهما إنما رققت لما رأت عيناي ، ووعاه قلبي ، ولما رأى قلب هذا من بعدي - يعني عليا (علیه السّلام)- فيقولان : أرأيت، وما الذي يرى، فيتلوا هذا الحرف : ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ قال : ثم يقول : هل بقي شيء بعد قوله - تبارك وتعالى - كل أمر ؟ فيقولان : لا ، فيقول : هل تعلمان ، من المنزول إليه بذلك ، فيقولان : لا ، والله ، يا رسول الله ، فيقول : نعم ، فهل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان : نعم ، قال : فهل تنزل الأمر فيها ؟ فيقولان : نعم ، فيقول : إلى من ؟ فيقولان : لا ندري ، فيأخذ برأسي ، فيقول : إن لم تدريا ، هو هذا من بعدي . قال : فإن كانا يفرقان تلك الليلة ، بعد رسول الله ، من شدة ما يدخلها من الرعب .

وبهذا الإسناد : قال : لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، هبط جبرئيل ، ومعه الملائكة ، والروح ، الذين كانوا يهبطون في ليلة القدر ، قال : ففتح لأمير المؤمنين (علیه السّلام) بصره ، فرآهم في منتهى السماوات إلى الأرض ، يغسلون النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) معه ، ويصلون معه عليه ، ويحفرون له ، والله ما حفر له غيرهم ، حتى إذا وضع في قبره ، نزلوا مع من نزل ، فوضعوه ، فتكلم ، وفتح لأمير المؤمنين (علیه السّلام) سمعه ، فسمعه يوصيهم به ، فبكى ، وسمعهم يقولون : لأنالوه [كذا] جهدا ، وإنما هو صاحبنا فبکی بعدك ، إلا إنه ليس يعايننا ببصره، بعد مرتنا هذه. حتى إذا مات أمير المؤمنين (علیه السّلام)، رأى الحسن ، والحسين مثل ذلك ، الذي رأى ، ورأيا النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)- أيضا - يعين الملائكة ، مثل الذي صنعوه بالنبي . حتى إذا مات الحسن ، رأى منه الحسين ، مثل ذلك . ورأى النبي ، وعليا لله يعينان الملائكة ، حتى إذا مات الحسين ، رأى علي بن الحسين منه ، مثل ذلك . ورأي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وعليا (علیه السّلام)، والحسن يعينون الملائكة ، حتى إذا مات علي بن الحسين ، رأى محمد بن علي ، مثل ذلك ، ورأى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعليا ، والحسن والحسين عليهما السلام ، يعينون الملائكة ، حتى إذا مات محمد بن علي (علیه السّلام)، رأى جعفر مثل ذلك ، ورأى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعليا (علیه السّلام)، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، يعينون الملائكة ، حتى إذا مات جعفر ، رأى موسى منه مثل ذلك ، هكذا يجري ، إلى آخرنا .

ص: 259

أهمية سورة القدر

فيما يلي استعراض سريع لأهمية سورة القدر ، وما جاء من الروايات في ثواب قراءتها ، وترقب ليلتها ، وأهمية هذه الليلة عند جميع المسلمين ، وكذلك الروايات التي أشارت إلى كونها مستمرة غير منقطعة ، مما يدلل بالتالي على الخصوصية التي تمتاز بها ، ويبرهن على أن هذه الخصوصية لم تأت من فراغ بل هي ليلة ذات شأن وهي مستمرة تمس حياة الأجيال والبشر بمختلف مراحلهم :

أولا : النصوص السنية ملخصة :

لقد رأيت أن اختصر النقل ، لما يمثل شريحة كبيرة من النصوص المتشابهة ، وسأكتفي ببعض النصوص ، ففيهما الدلالة الواضحة على فضل ليلة القدر ، وأنها باقية إلى يوم القيامة :

عبد الكريم الرافعي(1):

«ليلة القدر أفضل ليالي السنة ، خص الله تعالى بها هذه الأمة ، وهي باقية إلى يوم القيامة».

الديلمي(2):

«ابن عباس : ألا أنبئكم بأفضل الملائكة : جبرئيل ، وأفضل البشر : آدم ، وأفضل : الأيام : يوم الجمعة ، وأفضل الشهور شهر رمضان ، وأفضل الليالي : ليلة القدر ، وأفضل النساء : مريم بنت عمران» .

ص: 260


1- فتح العزيز : 6 : 476 - 479 .
2- الفردوس : 1 : 172 : 483 . وقد أوردنا بعض الروايات - هنا - من دون تعليق ، إذ أن ما يعنينا فيها هو نح موضوعنا المطروح للمناقشة والبحث حول أهمية ليلة القدر ، أما ما توزعه الرواية من التفضيل – دون مقياس معلوم - فلا شأن لنا به .

محيي الدين النووي(1):

«ويستحب طلب ليلة القدر ؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «من قام ليلة القدر ، إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . ويطلب ذلك في ليالي الوتر ، من العشر الأخير من شهر رمضان ، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «التمسوها في العشر الأخير في كل وتر» .

وبعد أن صحح النووي الحديثين وأثبت ما فيهما ، قال في الشرح :(2)

«وقال تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ فهذا بيان الآية الأولى ، ومعناه إنه يكتب للملائكة فيها ، ما يعمل في تلك السنة ، ويبين لهم ما يكون فيها ، من الأرزاق ، والآجال ، وغير ذلك ، مما سيقع في تلك السنة ، ويأمرهم الله تعالى ، بفعل ما هو من وظيفتهم ، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به ، وتقديره له ، وهذا الذي ذكرناه ، أولا من كون ليلة القدر مختصة بهذه الأمة ، ولم تكن لمن قبلها ، هو الصحيح المشهور ، الذي قطع به أصحابنا كلهم ، وجماهير العلماء ، وقال صاحب العدة من أصحابنا : اختلف الناس هل كانت ليلة القدر للأمم السالفة ، قال : والأصح ، أنها لم تكن إلا لهذه الأمة ، ثم استدل بالحديث المشهور في سبب نزول السورة» .

وقال في بقائها واستمرارها :

«ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة ، ويستحب طلبها ، والاجتهاد في إدراكها ، وقد سبق في آخر الباب ، الذي قبل هذا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان : «يجتهد في طلبها ، في العشر

ص: 261


1- المجموع : 6 : 446 - 453 .
2- قال في المجموع في نفس الصفحة وتعليقا على الحديث : ﴿الشرح﴾ حديث أبي هريرة وأبي سعيد عيد الأول وحديثه الثاني رواها كلها البخاري ومسلم وحديث عبد الله بن أنيس رواه مسلم وهو أنيس بضم الهمزة وحديث عائشة رواه أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون قال الترمذي هو حديث حسن صحيح وسيأتي فرع مستقل في ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في ليلة القدر ان شاء الله تعالى ومعني قيامها ايمانا أي تصديقا بأنها حق وطاعة واحتسابا أي طلبا لرضى الله تعالى وثوابه لا للرياء ونحوه ....

الأواخر من رمضان ، مالا يجتهد في غيره» وأنه : «كان صلى الله عليه وسلم ، إذا دخل العشر الأخير ، أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وجد ، وشد المئزر» . وهذان الحديثان في الصحيحين» .

وقال أيضا :

« (فان قيل) فأي فائدة لمعرفة صفتها ، بعد فواتها فإنها تنقضي بمطلع الفجر (فالجواب) من وجهين (أحدهما) : انه يستحب أن يكون اجتهاده في يومها ، الذي بعدها ، كاجتهاده فيها ، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى . (والثاني) : إن المشهور في المذهب ، أنها لا تنتقل ، فإذا عرفت ليلتها في سنة ، انتفع به في الاجتهاد فيها ، في السنة الآتية ، وما بعدها» .

وقال :

«يسن الإكثار من الصلاة فيها ، والدعاء ، والاجتهاد في ذلك ، وغيره من العبادات فيها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «من قام ليلة القدر ، إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ولحديث عائشة في الدعاء ، وهما صحيحان ، سبق بيانهما . ويستحب الدعاء فيها بما في حديث عائشة ، كما ذكره المصنف ، والأصحاب ، ويستحب إحياؤها بالعبادة إلى مطلع الفجر ، قال الله تعالى : ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ قال أصحابنا : معناه : إنها سلام من غروب الشمس ، إلى طلوع الفجر ، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى . قال الروياني في البحر : قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء ، والفجر ، ليلة القدر ، فقد اخذ بحظه منها ، قال الروياني : قال الشافعي في القديم : استحب أن يكون اجتهاد في يومها ، كاجتهاده في ليلتها . هذا نصه في القديم، ولا يعرف له في الجديد نص يخالفه ، وقد قدمنا في مقدمة الشرح : إن ما نص عليه في القديم ، ولم يتعرض له في الجديد ، بما يخالفه ، ولا بما يوافقه ، فهو مذهبه بلا خلاف ، والله أعلم» .

وقال - مبينا لأحكام شرعية تتصل بها مما يدلل على ثبوت وجودها واستمرارها عندهم من دون شك - :

«قال أصحابنا : إذا قال لزوجته : أنت طالق ليلة القدر ، أو لعبده : أنت حر ليلة القدر . فان قاله قبل رمضان ، أو فيه ، قبل انقضاء ليلة الحادي والعشرين من رمضان ، طلقت المرأة ، وعتق العبد

ص: 262

في أول جزء ، من الليلة الأخيرة ، من الشهر ؛ لأنه قد مرت عليهما ليلة القدر ، في إحدى ليالي العشر».(انتهى) .

أقول : النصوص المتقدمة ، لا تحتاج إلى بيان ، وشرح ، فهي وافية بنفسها ، دالة على تجدد ليلة القدر سنويا ، واستحباب ترقبها ، وفضائل تلك الليلة، وبركاتها ، لمن ترقبها وحضي بها.

ثانيا : النصوص الشيعية ملخصة :

وبعد أن استعرضنا بعضا من النصوص السنية التي تؤكد أهمية ليلة القدر ، نختار - هنا - بعضا من النصوص الشيعية في ذلك ، وهي نصوص أحاديث شريفة في ثواب قراءة سورة القدر منقولة عن بعض المصادر باختصار :

علي بن بابويه(1):

«وروي : أنه يستحب غسل ليلة إحدى وعشرين ؛ لأنها الليلة ، التي رفع فيها عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ، ودفن أمير المؤمنين علي (علیه السّلام)، وهي عندهم ليلة القدر . وليلة ثلاث وعشرين ،هي الليلة التي ترجى فيها ، وكان أبو عبد الله (علیه السّلام) يقول : «إذا صام الرجل ثلاثة وعشرين من شهر رمضان ، جاز له أن يذهب ، و يجيء في أسفاره» .

وفيه(2):

«وقال (علیه السّلام): وإذا كان الرجل على عمل ، فليدم عليه السنة ، ثم يتحول إلى غيره، إن شاء ذلك ؛ لأن ليلة القدر يكون فيها - لعامها ذلك - ما شاء الله أن يكون ، و بالله التوفيق» .

وفيه أيضا(3):

«اعلم - يرحمك الله - أن لشهر رمضان حرمة ، ليست كحرمة سائر الشهور ، لما خصه الله به ، وفضله ، وجعل فيه ليلة القدر ، والعمل فيها خير من العمل فى ألف شهر [ليس] فيها ليلة

ص: 263


1- فقه الرضا : 83 .
2- فقه الرضا : 126 .
3- فقه الرضا : 204.

القدر . فعليكم بغض الطرف ، وكف الجوارح عما نهى الله عنه ، وتلاوة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، والإكثار من ذكر الله، والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في الليل والنهار ما استطعتم».

الشيخ الصدوق(1):

قال : الصادق (علیه السّلام): اغتسل ليلة تسعة عشر من شهر رمضان ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، واجتهد أن تحييها . وذكر أن ليلة القدر ، ترجى في ليلة إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين . وقال (علیه السّلام): ليلة ثلاث وعشرين ، الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، وفيها يكتب وفد الحاج ، وما يكون من السنة إلى السنة».

المحقق الحلي(2):

«قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «إن الله تعالى اختار من الأيام يوم الجمعة ، ومن الشهور شهر رمضان ، ومن الليالي ليلة القدر ، واختار من الناس الأنبياء ، واختار من الأنبياء الرسل ، واختارني من الرسل ، واختار مني عليا ، واختار من علي الحسن والحسين ، واختار من الحسين الأوصياء ، وهم تسعة من ولده ،...» .

السيد البروجردي(3):

مجمع البيان : أبي بن كعب ، عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان ، وأحيا ليلة القدر» . الراوندي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم): مثله . الطبرسي ، عن الصادق (علیه السّلام)، أنه قال : «من قرأ هذه السورة - أي سورة القدر - في كل ليلة ، نادى مناد : استأنف العمل ، فقد غفر لك» .

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، أبي ، أبي ر رحمه الله ، عنه ، سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن سيف بن عميرة ، عن رجل ، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال : «من

ص: 264


1- الهداية : 197 : رقم : 105 : باب ما جاء في ليلة تسعة عشر وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين .
2- المعتبر : 1 : 24 .
3- جامع أحاديث الشيعة : 15 : 124 - 130 .

قرأ : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ فجهر بها صوته ، كان كالشاهر سيفه في سبيل الله – عز وجل - ومن قرأها سرا ، كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، ومن قرأها عشر مرات ، محا الله عنه ألف ذنب من ذنوبه .

أبي رحمه الله ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي ، عن إسماعيل بن سهل ، قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني (علیه السّلام): علمني شيئا ، إذا أنا قلته كنت معكم في الدنيا والآخرة ، قال : فكتب بخطه اعرفه : أكثر من تلاوة إنا أنزلناه ورطب شفيتك بالاستغفار .

أقول : هذه النصوص ، لا تحتاج إلى شرح وبيان ، وهي دالة بنفسها على فضيلة هذه الليلة واستمرارها ، وعلى فضيلة قراءة : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ﴾ وعلى بركاتها الدائمة ، غير أن حديثا ورد في هذا المجموع من الأحاديث يوجب التأمل ، وهو قول الإمام (علیه السّلام):

«وإذا كان الرجل على عمل ، فليدم عليه السنة ، ثم يتحول إلى غيره ، إن شاء ذلك ؛ لأن ليلة القدر يكون فيها - لعامها ذلك - ما شاء الله أن يكون ، و بالله التوفيق» .

ومفهوم الحديث : إن من أراد أن يعمل فلا يغيره إلى السنة المقبلة ، بعد ليلة القدر ؛ لأن التوفيق المنوط به إنما يكون مما اختاره من عمل ، ويكون المقدر ، متعلق بذلك العمل ، فعليه أن لا يغيره إلى قبيل ليلة القدر ، ليختار عملا آخر ، لتكتب له بركته ، والتوفيق له ، وهذا المعنى يحتاج إلى بسط في الكلام ، ليس محله هنا ، ولعل البعض يرى فيه مشكلة ، فإذا صح الحديث ، يعتبره معارضا بغيره فيطرحه ، غير أن هناك قراءة ، اقل مشكلة من هذا ، وهي أن المؤمن ينبغي أن يقبل توفيق الله ، فيتعرض له بمداومة العمل ليتحسسه ، إلى قبيل ليلة القدر المقبلة ، عسى أن ينال التوفيق ، ولو بعد حين ، وهذا لا ينافي إثبات اختيار العبد ، ومسؤوليته حتى يتم الإشكال ، فإن من يخطط بعلم لعمله ، لا بأس عليه ، أن يدعو الله سبحانه التوفيق فيه ، وينتظر إلى قبيل ليلة القدر ، فيشرع فيه ويلح في الدعاء أن يوفقه الله ، فعسى أن يكتب له في تلك السنة التوفيق في عمله ، فهذا المعنى مقبل ، وليس فيه مشاكل ، ويمكن أن يستفاد من الحديث - أيضا - مكافحة الفشل ، وعدم الجزع ، والتقلب بين الأعمال نتيجة العثرات ، فإذا أضفنا للثبات في العمل ، ما أقره الأئمة (علیهم السّلام) من

ص: 265

التخطيط ، والسعي ، والمثابرة في العمل في تحصيل الرزق ، باعتبار مدخلية السعي ، ودقته في النتائج بخلاف الجبرية الظاهرة المبطنة ، فإن هذه المعاني ، هي التي توضح حقيقة المراد من الحديث ، لا أنها تعارضه وتقضي عليه بالإهمال .

ص: 266

الفصل الثالث

مشكلة الغيبة والعقل الحسي التجريبي

ص: 267

ص: 268

مشكلة ما وراء الحس

لو فكرنا - حقيقة - في جذر قضية إنكار وجود من يتصل بالله ، ويتلقى ألطافه ، وفيوضه العلمية ، لوجدنا أن السبب الرئيسي لعدم التعقل ، هو طرق المعرفة ، التي يتربى عليها الإنسان المسلم .

إن كل من يشتغل بعلوم التاريخ ، وعلم المجتمع الإسلامي، يعلم إن حكام المسلمين ، يريدون للناس أن يكونوا حسيين ، وهم يستهزئون من كل فكر غيبي ، بعيد عن الحس ، وقد دربوا الناس على هذه الطريقة في التفكير ، وحين يصطدمون بثوابت الإسلام الغيبية ، يقولون : هذا من باب التصديق ، أو نصدق بالخبر ، من دون أن نعقله و نفهمه . كحال الفكر الكاثوليكي ، وهذا من اخطر ما يواجهه المسلم في حياته العلمية .

وإذا سلمنا جدلا بصحة مقولة : أن الغيب لا يمكن معرفته ، فهذا لا يعني - مطلقا - أن كل ما كان خارج الحس ، لا يعقل . ولا يمكن إدراكه ، فهذه مغالطة واضحة ، لعدم الترابط بين الغيب وبين ما وراء الحس ، وهنا نقطة الخلاف بين المنهج الحسي، الذي يؤمن به العوام من المثقفين ويدعون خلاف ذلك ، وبين علماء المسلمين ، الذين يؤمنون بالمنهج العقلي ، بمختلف اتجاهاتهم ، وتفسيراتهم لنظرية المعرفة .

على العموم ، فإن مشكلة الحسيين هي أنهم لا يتعقلون ما وراء حسهم ، حتى لو كانوا متدينين ، وليسوا بعلمانيين ، أو ليسوا بملحدين . فلو قيل لهم : إن الله أحيي ميتاً ، فسيقولون لك : هل لديك دليل؟ فتقول لهم : أن الله قد قال ذلك في كتابه . وهنا يقولون سلّمنا ؛ لأن حسّهم وقع على معرفة حسية معينة ، وهو الكتاب ، وهو أمر حسي سماعي بالنسبة لهم . ولكن لو قلت لهم : إن الولي الفلاني ، أحيى الموتى . فسيناقشون خارج كون الخبر صادقا أم لا ؟ بل سيقولون لك : إنه

ص: 269

مستحيل ، ولا يمكن أبداً . بناءً على مرجعيتهم الحسية في المعرفة ، من دون شعور منهم ، وحين تنبههم إلى أن الله يحيي الموتى، وأن العملية ممكنة أساسا ! فسيقولون لك : وهل تحوّل الولي إلى إله ؟ وقد يقولون لك : لا يجوز تحويل الإمكان إلى واقع ، وغير ذلك . بينما المنهج العلمي ، هو التحقق من صدق دعوى الإحياء مثلا ، قبل كل شيء ، وبعد ذلك تأتي مرحلة التفسير .

وكل قضية إذا فرغ من إمكانها ، لا يجوز العود إلى بحث الإمكان ، والاستبعاد مجددا ، بناءً على الاستحالة ، وإنما يكون البحث عن الوقوع ، وطرق التحقق منه . وهذا ما لا يفعله الحسي ، بل يقفز مباشرة إلى قضية استحالة حصول شيء خلاف العادة ، وخلاف الملموس من الوقائع التي عاشها . فكل غريب ، وصعب ، يعتبر مستحيلا عنده ، بطريقة لا شعورية ، ولهذا يسارع الحسي إلى رفض معاني بعيدة ، وغيبية ، تتعلق بإرادة الله المتحققة في الوجود الإنساني ، بشكل نادر.

فالحسي ، لا يؤمن - حقيقة – أن إنسانا ما يمكن أن يبقى في أتون نار ، من دون أن يحترق ؛ ولكن لأن دليلا حسيا ، وهو النقل ، قد اثبت ذلك ، فهو يسلّم بهذا الأمر ، وبهذا المقدار ، كتصديق للخبر ، وليس أكثر من ذلك ، معتبرا إن ما وصل سمعه من خبر ، يكفي لأن يقنعه ، بينما لو كان منسجما ، لرفض حتى إخبار الله ؛ لأنه – أيضا – أمر خارج عن الحس.

ولهذا نرى ، إن منهج البحث لدى بعض المسلمين السطحيين ، ينص صراحة : بأن المعاد ، ومشاهد القيامة ، وقصص الأنبياء ، هي من باب التصديق ، وليست من باب البرهان ، والبحث العلمي . وهذا المنهج ، سواء كان مسلكا علميا في نظرية المعرفة ، أو ممارسة عملية لنظرية المعرفة ، يعتبر مناقضا للإسلام والمرتكزاته ، وهو مسلك يحوّل الإسلام إلى مجرد دعاوى كهنوتية ، يجب التصديق بها مهما كانت منافية للعقل .

مسيرة البحث العلمي الجاد - إذن - تبدأ ب_(الإمكان) ثم يصار إلى البحث في (الوقوع) . وهذا هو مسير كل قضية عقلائية ، فإذا ثبت الإمكان ، انتقلنا للوقوع ، والتحقق منه ، وأدوات إثباته ، وهذه من ابسط قواعد التفكير الإنساني ، ولكن الحسي ، لا يستطيع المجارات ، فهو بعد

ص: 270

التسليم بالإمكان ، والدخول في مادة الوقوع - معرفيا - نراه ينكص ويعود ، ليدعي عدم الإمكان . بل يتهم الطرف المقابل، بأنه يستخدم الإمكان كدليل على الوقوع ، من دون التفات إلى دليل مدعي الوقوع ، وبهذا يكون مجرد قصاص خيالي ، ولا يقبل من الآخر أي براهين على الوقوع ، ويرفض سماع أي دليل ، معتبرا إن الأمر محسوم ، وهو غير ممكن مثلا ، لأنه مخالف لمداركه الحسية . وهذا نكوص على الطريق العقلي البسيط ، الذي يفكر بطريقة مباشرة . فقد رجع عن التسليم بالإمكان ، حين دخل في بحث الوقوع ، وقد يكون لا يلتفت إلى هذا المسلك المشوه ، عقليا ، وعقلائيا .

والذي يريد أن يناقش الحداثويين الجدد - وهم الغالبية من الحسيين - عليه أن يفهم طبيعة مقرراتهم الفكرية ، في نظرية المعرفة ، وكيفية إتباعهم للنمط التفكيري الممنهج عندهم ، فإذا طابق هذا السلوك ، فليعلم بأنه لا حاجة لمناقشتهم ، وإذا لم يطابق فيجب أن يعرف حقيقة مقولتهم ، في نظرية المعرفة ، وترتيب أولويات الدليل عندهم .

مشكلة غيبية الإمام كجزء من مشكلة معرفية كبيرة لها أبعاد سياسية وعقلية:

وقضية الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) تعاني من هذا الاتجاه بشكل واضح ، ومكثف ، فهي قضية فيها جانب غيبي ، لا حسي ، بشكل واضح ، وهو وقوع الغيبة ومفهومها ، وقد تفتقت عبقرية الكثير من الحسيين عن القول : إن المهدي لا وجود له ، لأن هناك غيبة ، وهي غير معقولة . كما أن ادعاء إمامة من كان عمره خمس سنوات ، أو أكثر قليلا ، أمر غير منطقي بحسب المقاييس الحسية . فكيف يعلم حقائق الشرائع ، وإدارة الناس ، من كان بعمر كهذا ؟

وكل هذا مقاييس حسية ، وتجريبية .

- وهنا - يجب أن نتفق ، أنه لولا وجود التدخل الإلهي ، ومفهوم التواصل الرباني ، لكانت كل قضية غيبية مثل قضية (الغيبة) مجالا للشك بل الرفض، لأن عقل الإنسان الحسي ، لا يكاد يصدق بقضية لا يعتاد عليها ، مهما كانت واقعية ، فالإنسان يريد ما اعتاد عليه ، ولا يريد الصحة،

ص: 271

أو الإمكان ، أو القضية المبرهنة . فهو لا يؤمن بوجود شيء لم يعتد عليه ، ويؤمن بوجود المستحيل ، إذا تكرر في . سمعه ، أو حسه ، فقد آمن الإنسان الحسي ، بأشياء لا وجود لها ، وفي بعض الأحيان مستحيلة الوجود ، لأن هناك من قال له بوجودها ، وكررها عليه باستمرار . وما أكثر الموهومات ، والمخترعات ، التي لا وجود لها ، والتي يؤمن بها البشر ، إيمانا مطلقا كأنه رآها .

ومن الطريف ، إن بعضا من هؤلاء ، ومن الحسيين المتدينين - بالذات - يؤمنون إيمانا مطلقا بتأثير الجن في حياة البشر ، بل يتجاوزون الإيمان بوجود الجن إلى ادعاء التعامل معهم عيانا (زواج ، جلب ، تسخير ، اجتماع ، وغير ذلك من الخزعبلات ...) ويوميا بشكل عجيب ، مع أن الجن مستور ، والاتصال بهم ، يحتاج إلى ألف دليل ، بمستوى الدليل القرآني ، الذي أقر بمخاطبة الجن للرسول ولم يشر إلى التعامل الحسي معهم كالزواج ، ولو أخذنا السلوك السلفي - مثلا - في الحوار ، فإنهم حين يدافعون عن دعواهم مشاهداتهم الجن ، يستدلون بأن الرسول قد شاهدهم ، وأن الله - تبارك وتعالى - ذكر ذلك ، ويصرون على أن هذا الاستدلال صحيح ، ومنتج . ولكنهم ينسون أنهم ينفون كرامات أهل البيت (علیهم السّلام)، التي يستدل عليها بأدلة أهم من هذه ، فيعترضون على من يقول : إن الله – سبحانه – قد ذكر ثبوت الكرامات للأولياء من غير الرسل كما ذكر كرامات الرسل ، قائلين : فأين الرسل من أناس عاديين ؟ وما شابه ذلك ، بينما أهل البيت (علیهم السّلام) وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، ليسوا من على الأشخاص العاديين ، وفيهم نصوص ثابتة عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من الصفات ، والكرامات ما لم يرد في أحد من المسلمين . على أن منهج إثبات الكرامات ، ليس منهجا عقليا ، وإنما هو منهج نقلي ، ولكن هذه الإجابات ، ترد على من يمنع الكرامات أصلا ، أو من يمنعها لغير الرسل ، فنراهم يسارعون لنفي أصل الموضوع ، باعتبار أن من تنسب له الكرامة ، إنسان عادي ، لا يجوز نسبة الكرامة إليه ، فيتحوّل إلى البحث إلى مناقشة وجدل من دون جدوى .

وأين هذه الدعوى ، من دعاواهم الفارغة المليئة بالكذب ، والدجل ، في ملاقاة الجن واستخدامهم ؛ لأن الجن معناه الاستتار ، ومادتهم غير مرئية ، ولا نعلم أن الرسول رآهم بشكل

ص: 272

مادي كثيف بحت ، وإنما هناك احتمال للكشف عن بصره ، وهذا احتمال يبطل استدلالهم على طريقتهم في التفكير.(1)

إنها النظرية الحسية ، التي تبتني على القناعة الشخصية ، بكل دوافعها وآلياتها ، من دون نظر إلى واقع الحال ، والبرهان الصحيح على الإحساس نفسه ، وبعبارة مختصرة : إن الفكر الحسي مبني على خداع العقل والحواس ، وليس على ما يسمونه ذات الحواس والإحساس بها ، ولهذا فهناك تناقضات في المحسوسات عندهم ، حيث يرفضون المبرهن عليه ، وقد يعتبرونه ممتنعا ، ويقبلون المستحيل ، والممتنع ، ويعتبرونه واقعاً .

إن معضلة الخروج عن العقل الحسي ، عند الإنسان غير القادر على استغلال العقل ، بطريقة ذاتية ، لهي مشكلة المشاكل ، وهي أم مصائبه السياسية ، والدينية ، والتربوية ، والاقتصادية ، ولعلي بت أؤمن أن جزءً مهماً من أسباب الفقر ، والتخلف ، والتبعية للإنسان ، هو عدم تشغيل المنظومة العقلية الصرفة ، المرتبة عنده ، وتعطيلها كليا ، أو جزئيا ، بينما من يمتاز بالنهوض الاقتصادي ، والاجتماعي ، والسياسي ، فهو من يشغل منظومته العقلية في جزئها ، الذي يوفر الصعود في ذلك الاتجاه ، حين لا تكون المكانة ، مسألة حظ ، أو وراثة ، وأما التسلّقيون ، فهؤلاء - أيضا - قد شغلوا منظومة عقلية ، لا حسية، بالقدر الذي يوفر ذلك ، من النهوض المحدود .

ص: 273


1- إن نظرية إمكانية تشكل الجن ، بأشكال مادية كثيفة ، لم تثبت في عالم المادة ، علميا ، بشكل قطعي ، ولكن ما ثبت ، هو وجود أثر لهم ، تم رصده - علمياً - وقد يكون الأثر ، على شكل شبح صوري ، وقد يكون على شكل طاقات ، أو صور تحت الحمراء ، وما شابه ذلك . وكل البحوث في هذا الباب ، غير قاطعة النتيجة ، وفيها أخذ ورد ، وهي موطن اهتمام من قبل العلماء ، من أجل الوصول إلى نتائج جازمة في الموضوع . ومن المفارقة فان الحسيين ، والجهلة ، ينكرون اشد الإنكار على من يطالبهم بالدليل ، على دعواهم الاتصال الجسدي بالجن ، الذي يدعونه ، كما يدعون التزاوج بهم وغير ذلك ، وعلى كل حال ، ونحن – هنا – لسنا في مقام إنكار أو تأييد هذه الظواهر ، ولكننا نستنكر العقلية التي تنظر بعين عوراء ، فالاتصال بالجن من قبل العصاة القذرين دينيا ، وأخلاقيا ممكن !!! ، بينما اتصال الأولياء بالملائكة ، أو غير ذلك ، يعتبر من المستحيلات عندهم !!! هذه هي إفرازات العقل الحسي المذهبي النفعي المتعصب .

فالاستهانة بتقدير خطورة المنهج الحسي في التفكير ، جريمة حقيقية في حياة البشر، والمستهين : إما أن يكون حسّيا ، لا يدرك ما يجري في الدنيا ، أو إنه خبيث ، يعرف إن خير وسيلة للسيطرة على عقول الناس ، وتحويلهم إلى خدم ، ورعاع، ينعقون مع كل ناعق ، هو الإبقاء على طريقة التفكير الحسي ، وتنويم المنظومة العقلية الصرفة في الإنسان ، والتي وهبها الله - تعالى له ، لكرامته ورفعته . وليس من باب الصدف، أن يصرّح معاوية بن أبي سفيان ، بأنه يريد من الناس أن لا يفرّقوا بين الناقة ، والجمل.(1)

إنه منهج تنويم ، وتعطيل المنظومة العقلية الصرفة ، ولهذا نرى بعضا من المذاهب الإسلامية ، تفرعت عن نظرية معاوية هذه، تعلّم روادها حتى مماتهم ، أن لا فرق بين الوجود والعدم ، كقولهم : إن العبد مجبور على اختياره ، وإنه لا تأثير للمؤثر على الأثر ، ومن قال بهذا التأثير ، فقد أشرك بالله .

ومن ذلك ما قاله أحد الزاجين أنفسهم في زحام الفكر ، المنحدرين من سلافة فكر من لا يفرّق بين الناقة والجمل : «إن الباري لو كان علة تامة للعالم ، لكان العالم قديماً بالشخص ، ولما وجد في العالم تغير متعاقب ؛ لأن العلة التامة يجب أن يصاحبها معلولها في الوجود ، ويستحيل أن يتخلف عنها» . (انتهى) .(2)

ص: 274


1- في مروج الذهب - في وصف معاوية - : 3 : 41 : (وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق - في حالة منصرفهم عن صفين - فتعلق به رجل من دمشق ، فقال : هذه ناقتي ، أخذت مني بصفين ! فارتفع أمرهما إلى معاوية ، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته . فقضى معاوية على الكوفي ، وأمره بتسليم البعير إليه . فقال الكوفي : أصلحك الله ، إنه جمل ، وليس بناقة . فقال معاوية : هذا حكم قد مضى ، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره ، وسأله عن ثمن بعيره ، فدفع إليه ضعفه ، وبره وأحسن إليه ، وقال له : أبلغ عليا أني أقاتله بمائة ألف ، ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل !!) .
2- سعيد عبد اللطيف فودة : الكاشف الصغير : 89 .

لقد أراد أن ينفي أزلية المادة ، فاعتمد أن يكون الله شريك في الخلق ، لحل هذه القضية المشكلة عنده بكل بساطة ، ونفى أن يكون الله علة تامة للخلق بل هو مع غيره يكون العلة ، من دون تفريق ، أو إحساس بالذنب الشركي ، فهو يؤمن بأنه موحد ، مع برهنته على وجوب وجود الشريك الله ، بل وجوده الفعلي، وإلا لكان العالم قديما ، وأن الله ليس بعلة تامة للكون . وهذا الفكر نفسه ، حين يأتي إلى فعل الإنسان الاختياري ، ينفي الاختيار، ويقول : إن القول بالاختيار ، هو شراكة الله في فعله ! ومن قال بأن الله يشاركه أحد في فعله ، فكلامه شرك لا يجوز !! وحين يُسأل عن مصدر إلهاماته العجيبة هذه ، يقول لك إن مصدره هو العقل ، الذي هو الحس والنقل عنده ، وأنه لا شيء وراء الحس والنقل . وأما ما يسمى بالعقل وراء الحس والنقل ، فهذا باطل ... باطل ... باطل !

ولكي نعرف مستوى التفكير الحسي ، وقبوله بالعجاب ، والمتناقضات ، نجول جولة قصيرة في حديقة التناقض العجيبة ؛ لنبرهن إن العقل الحسي ، يتمتع بصفات عجيبة ، في تناول المعلومات ، فقد قالوا في تعريف الوجود ، الذي هو من أبده البديهيات ، ما يضحك الثكلى ، ولا يرون في ذلك نشازاً ، فمن أقوالهم في ذلك : «والوجود هو حال واجبة للذات ، ما دامت الذات غير معللة بعلة».(1) والمعنى : إنه لا يتصف بالوجود ، إلا من كانت ذاته غير معلله ، أي قديم قدم الله ، هذا أولاً ، ثم إن الوجود نفسه ، ليس بموجود عندهم ، بل يشوبه العدم، فلا تعجب من ذلك ؛ لأنه عندهم حال يحتمل الوجود ، والعدم حيث إن تعريفهم ل_(الحال المذكورة) هو : «صفة ثابتة في الخارج عن الذهن ، تقوم بموجود ، وليست موجودة بالاستقلال ، ولا معدومة عدما صرفا ، بل هي واسطة بين الموجود ، والمعدوم ، أي إنها لم تبلغ درجة الموجود ، ولم تنحط إلى درجة المعدوم ، ولعدم بلوغها درجة المعدوم ، لا تمكن رؤيتها».(2)

ص: 275


1- تهذيب شرح السنوسية : 30 .
2- تهذيب شرح السنوسية : 63 .

هذه هي نتائج العقل الحسي ، ولو قرأت أكثر ، فستجد أن هناك ما هو أعجب ، بالنسبة لمن يشغل منظومته العقلية ، وهو غير عجيب بالنسبة للحسي ، فهو يبادل بين المحسوسات ، فيرى المسموع ، ويسمع المرئي ، ويشم الملموس ، ويلمس المسموع . وهكذا ، تتبادل عنده صيغ المدركات ، والعلاقة بين أدواتها وتفسيرها ، فلننظر لهذا النص العجيب ، الذي يقول إن الله يرى سمعه ، فيقول قائلهم : «فيسمع - سبحانه - ويرى في الأزل ذاته العلية ، وجميع صفاته الوجودية ، التي منها سمعه...».(1)

فلو قال : إن صفاته عين ذاته ، ولا فرق بين صفاته ، لأمكن أن نجد لها متسعا في المنظومة العقلية ، باعتبار وحدة الله وذاته ، من دون أن نقول انه يسمع المرئي ، أو يرى المسموع ، أو يرى سمعه نفسه ، وإنما نقول يعلم كل شيء ، ولا تخفى عليه خافية .

ولكن من يقول : إن صفاته غير ذاته ، وإن صفة السمع نفسه ، حال (لا موجود ، ولا معدوم) فهم يقولون : (كونه سميعا : هي حال واجبة للذات)(2) فكيف يُرى الحال ، وهو مما لا تمكن رؤيته عندهم ؟ فقد قال في نفس الموضوع : إن الحال (لم تنحط إلى درجة المعدوم ، ولعدم بلوغها درجة المعدوم لا تمكن رؤيتها) ومع ذلك فالله - عنده - يشاهد سمعه بصريا ، ويشاهد علمه بصريا . ويسمع بصره حسا سمعيا ، ويسمع ذاته ! .

فكيف نحل هذا الشكل العجيب اللاعقلاني ؟ القائل : إن السمع حال ، لا يمكن رؤيته (لأنه لا موجود ولا معدوم) وفي نفس الوقت : إن الله يرى سمعه ، الذي هو حال ، لا يرى ! ! .

إن هذا الحال ، قد يبدو مضحكا ، ومستنكرا ، لمن لم يتعمق بمقالات المذاهب الإسلامية ، لكنه واقع حال ، متحكم في مفاصل الثقافة ، لدى المسلمين بشكل عام . فرغم الاستنكار الأولي ، للمثقف العادي ، حين تطرح عليه الفكرة ابتداءً ، ولكنه ما أن يراجع الثقافات الإسلامية العقائدية ، ويلتزم بها ، فسيتحوّل ، وسيجد نفسه مصطفا مع اللامعقول ، الذي استنكره سابقا ، متمسكا به ،

ص: 276


1- تهذيب شرح السنوسية : 54 .
2- تهذيب شرح السنوسية : 62 .

مدافعا عنه ، متعقلا له ، ويستغرب من عدم فهم الناس ، لمثل : (يسمع ذاته) و (يرى سمعه) فهذه الأمور عنده صحيحة ، وهذا حال طبيعي ، لمن يريد أن يثبت هويته ، مهما كانت غير معقولة ؛ لأنه يرى انتماءه لمجموعته ، أهم بكثير من تحقيق المعقول ، وفرزه عن غير المعقول ، وبهذا الاصطفاف ، سيرفض المعقول ، حين يكون مستنكرا مرفوضا من المجموعة البشرية ، التي ينتمي إليها .

وفي الحقيقة ، قد لا يكون عند الحسي مانع من الإيمان بما هو غير معقول ، ولكنه سيرفض المعقول ، أو المبرهن عليه ، إذا كان ضمن مجموعة لا ينتمي إليها ، وهذا السلوك بمجمله ، يدل على أن المنهج الحسي متفش بين الناس ، وهو ليس منهجا لتلمس الحقائق ، وإنما هو طريقة تفكير ، لتكوين حالة رضا نفسي عن المعلومة ، نتيجة المدركات الحسية بدون تمييز فهو، لا يؤمن بمسائل يتم البرهنة عليها عقليا ، ومنطقيا ، ولكنه يؤمن بالمستحيلات ؛ لأن آخرين يقولون له ذلك ، وهو يتعقل ما يقوله الآخرون ، باعتباره معلوما حسيا ، فكل ما يسمعه من جهة يرتاح إليها ، فهو معقول ، باعتباره دخل حسه السمعي ، وهو مرتاح للمصدر ، وهذا غاية ما يريد ، فليس صحيحا ما يشاع ، من أن المنهج الحسي هو طريقة تفكير عقلية ، أو نظرية معرفة محددة ، وإنما هو طريقة تلق حسي صرف ، بغض النظر عن قيمة المدرك بواسطة هذه الطريقة . أو قل طريقة رضى بالمعلومة ، نتيجة لرضا النفس بحقيقة انتمائها الحزبي ، أو الاجتماعي ، أو السياسي .

ويتحكم بهذا المنهج نوازع كثيرة ، تكونها الرغبات ، والتحزبات ، والإنحيازات ، بل – في الحقيقة - تشكلها الدعايات، والتأثيرات الخارجية ، من دون شعور بالحاجة للتمحيص ، أو اتخاذ القرار الشخصي المستقل ، المبني على القدرة العقلية الحقيقية ، بل إن قراره متخذ من قبل من يوجه فكره . وهذا الموضوع خطير جدا ، من ناحية حضارية ، وسياسية .

لهذا فقد كان من ذكاء الحكام، أن وفروا وسائل المنهج الحسي للناس ، حتى يبقونهم بهذه الحالة العجيبة ، فيدعمون قيادات فكرية ، تقول بهذا التناقض الصارخ ، وبهذه المقولات ، التي لا يتوفر فيها أدنى متطلبات العقل ، والذوق الإنساني في التعاطي مع الأفكار . ولعل هذا هو السر ، في

ص: 277

رضا الناس عن حكامهم الظلمة الجائرين ، وعن جميع ما يقومون به من جرائم ، ومن أمور حمقاء خرقاء ، لا تتصف بأي نوع من الحكمة ، والعقل ، والذوق ، واللياقة في التعامل ، فلا يحس المجتمع العربي، أي غضاضة فيما يراه ، ويسمعه عن حكام على درجات رفيعة من المسؤولية ، يتشاتمون فيما بينهم في المؤتمرات ، والاجتماعات ، بشتائم العيارين ، وأبناء الشوارع ، على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام العالمية ، ومن الأمم والشعوب الأخرى ، من دون أن يقف المجتمع العربي المسلم ، للحظة واحدة ، ليسأل : لماذا تُحكم الجماهير ، والشعوب المسلمة – التي كان لها الدور العظيم في بناء الحضارة البشرية عبر التاريخ - من قبل هذه الحثالات القادمة من عالم الجريمة والانحطاط الأخلاقي ؟؟

إن هذا المنهج ، يجب أن لا يفرح به الحكام ، لأنه سيتحوّل يوماً ما ، إلى سيف مسلط على رقابهم ، فإن هذه العقول التي ربيت على المنهج الحسي ، والذي تحركه الدعاية والمعلومات الواردة على الإنسان ، يعتبر جهاز التقاط مفتوح ، يمكن استغلاله من قبل من يمتلك القوة الأكبر في الدعاية ، فيسيره بعكس الاتجاه ، الذي يريده الحكام ، وسيكون هو سبب سقوطهم ، بدون فهم ، من العقول المتلقية ، لأسباب الإسقاط ، وإنما هي كالببغاوات تفعل ما يقال لها ، وتتخذ القرار الذي وجهت به ، عبر وسائل الاتصال . وهذا ما حدث على مر العصور.

والدارس الحقيقي لمشكلات التفكير الإنساني ، ومناهج المعرفة ، ومواطن الثغرات فيها ، وكيفية التلاعب بالعقول ، يدرك جيدا السبب الحقيقي لشن قادة المسلمين ، وغيرهم في العالم المتخلف ، الحرب على العولمة ، واعتبارها أمرا خطيرا ، وتحذير الناس منها ، وإقامة هالة من الغموض حولها ، وشتمها بوسائل الإعلام ، مبررين ذلك بأن العولمة جزء من مؤامرة دولية ، يقصد بها تدمير القيم ، وتكريس الهيمنة الاستعمارية ، والخضوع للإمبريالية الدولية ، كما يدعون .

كل هذا الهلع والتبرير ، لا يلتقي مع الحقيقة ، والهلع الحقيقي هو من إمكانية استغلال العقول التي تقبل التأثير .

إنهم يعلمون أن الكتلة الإنسانية قوة جبارة ، يمكنها تدمير الكيانات والتخندقات ، مهما كانت

ص: 278

حصينة ، ولكنهم يعرفون - أيضا - أن الكتلة الإنسانية يحكمها كم هائل من قوانين العقل الجمعي ، والسطحية الحسية ، وتقبل التربية ، والتربية المعاكسة ، وقوانين التواصل ، ونقل المعلومات ، والعواطف ، والخوف ، والرضا النفسي بين البشر .

العولمة مارد عملاق ، قادر على الوصول إلى عقول الناس بأفكار مغايرة ، من خلال التواصل الإنساني ، وتشكيل منظومات فكرية جديدة ، يخشاها الباطل ، ويهلع منها ؛ لأن فيها إمكانية الكشف عن الحقائق ، وهي بالتالي قادرة على سلب الحاكم أدوات القمع والسيطرة على المجتمعات المضطهدة بالباطل ، ولذلك فهو يخشى انعدام تأثيره ، وتحوّل الكتلة البشرية عليه ، نتيجة الانفتاح الثقافي ، والعولمة الاتصالية ، التي تغزو كيان المجتمعات ، بطريقة خارجة عن هیمنته.

ولهذا أرى : إن العولمة هي نصير لكل صاحب حق ، في إيصال صوته المظلوم ، إلى من يسمعه ويهتم به من جماهير البشر ، وهي بالتالي فك لقيود من ضربت من دونهم الأسوار الحديدية ، لتبقيهم بعيدا عن المعرفة الحقيقية .

فقضية التربية على المعرفة الحسية ، وإبقائها ، وعدم تعليم الناس للمقاييس العقلية ، والتجرد عن الحاجات النفسية ، والمادية ، والاجتماعية ، هي قضية سياسية بالدرجة الأولى ، ومن ثم هي قضية (إدارة)(1) من يريد الانتفاع بالمصالح ، التي يكونها من خلال تجميع الكتل البشرية على طاعته ، شخصيا، بمختلف الحجج . وهي قضية مصالح من جهة ، وقضية حرب حضارية ضارية من جهة ثانية ، لكنها - أيضا - سلاح فعال ، ضد الظالمين الذين يستغلون العولمة أبشع استغلال ، فهم يخافون استغلال الآخرين لها.

ص: 279


1- من المفارقات أنه وفي غضون أزمة المظاهرات ضد العولمة وضد منتدى دافوس ، فقد أعلن زعماء العالم الغربي المتقدم ، في دافوس سنة 2005 ميلادية ، بأنهم بحثوا خطر العولمة على الحضارة الغربية ، والديمقراطية ، ووجوب التصدي له . بعكس ما يفهمه عامة الناس من أن العولمة ، هي لصالح الدول الكبرى فقط ، بل أن الدول المتقدمة تخاف من هذه العولمة أيضا ، لأنها سلاح ذو حدين ، حيث تذوب الفوارق والحدود للمعرفة ، وهذا يجعل التمايز بين الأمم منعدماً مع مرور الزمن ، وهو اخطر ما يواجه الدول المتقدمة ، حيث إن معنى تقدمها هو : وجود الدول المتخلفة .

فالحكام ، والجهات الإعلامية ، تخشى من العقل السطحي ، إذا سيطرت عليه قوى خارجة عن سيطرتها ، وكل ما يجري ، عبارة عن صراع للسيطرة على عقول الناس ، بتسطيحها ، وقلب المفاهيم ، وجعلها تقبل التبرير غير المنطقي . ولهذا فان إبقاء السطحية ، أمر مطلوب ، ولكن الخوف من غزوه أمر مبرر ، باعتبار أن العقل السطحي ، لا يمانع من قلب المفاهيم ، والانقلاب على من يقدسه سابقا ، نتيجة نشر دعايات ، مهما كانت صحيحة ، أو كاذبة.

ومن هنا يتبين ، أن طرح مسألة الإمام المهدي (علیه السّلام)، وغيرها على المجتمعات الحسية ، قضية الله معقدة نسبيا ، حيث يكلّم العالم مجتمعا ، تمّت تربيته على المنهج الحسي ، الذي يزرع فيه الظن أن هذه القضية ، هي ضد منهج العقل ، أو يقال له - إيحاء ، أو مباشرة - : إن منهجك في التفكير ، هو منهج علمي رائع ، ومنسجم ، ويعتمد الوسطية ، بخلاف الفكر المتطرف ، الذي يؤمن بأمور غيبية ، وما شابه ذلك ، من الإيهامات، التي يوهمون بها مجتمعاتنا ، بينما في نفس الوقت ، لا يستطيع الثبات الفكري على رأي ، لتلمس الحقيقة ، فقد تمت تربية الناس على عدم الثبات على فكرة ، وعلى عدم التمييز الحقيقي للخطأ ، والصواب ، وللمصلحة ، والمفسدة ، فكل ساعة يمكن أن ينقلب إلى عكس ما كان يعتمده ، ويدافع عنه .

وقد قمت شخصيا بتجارب ، في مجتمعات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط ، متحديا مجاميع من الناس ليختبروا طريقة تفكيرهم، فأعرض لهم الرأي بأدلته ، فيقولون : هذا صحيح ، ويساعدوني فيأتون بشواهد مؤيدة ، ثم أعرض لهم الرأي المخالف تماما ، فيقولون : صحيح ، ويأتون بشواهد مؤيدة جدا ، ثم أقلب القضية ، فاعرض رأيا ثالثا ، فيتأكدون من صحته ، وأعود لأعرض الرأي الأول ، والثاني ، فيتفانون في التطبيل له ، وحين أخبرهم بأنهم خسروا الرهان ، ولم يفوزوا في الامتحان ، يتناقشون ويختلفون ، ويتبين بأن القضية لم تكن فكرية ، وإنما مجرد طرح أفكار.

ص: 280

إن هذه الكارثة العقلية في الاستدلال ، وتحقيق المعرفة ، هي ظاهرة غارقة في القدم ، وموغلة في عمق التاريخ. ولكن، لا ينبغي أن تكون بنفس حدتها في زمننا هذا ، بعد انفتاح وسائل المعرفة ، ووصول بركات العولمة إلينا ، والأمر يعود - في الحقيقة - إلى عدم تعليم الإنسان ، لطريق التفكير السليم ، بشكل حقيقي ، ومرتب ، ليستطيع الثبات في عالم متغيّر . ولهذا وجدت إن من يعمل في علوم البرمجة - بشكل حقيقي - يتعامل بسهولة مع الأفكار ، التي تحتاج إلى ترتيب في الاستدلال ، وفي الوصول للنتيجة ، وقد يقتنع بصورة سلسة في الحوارات ، وذلك ؛ لأنهم يدرسون ترتيب الأفكار ، ولو جزئيا بمقدار حاجتهم المهنية ، وحين يكون مبطلا ، ومتحزبا أراه يعترف بأنه يواجه صعوبة معينة ؛ لأن طريقة تفكيره المرتبة ، اصطدمت مع حواجز التربية على القوالب الجاهزة للفكر ، الذي يصعب عليه الخروج من شرنقته ، ولهذا يتهرب بمواضيع ثانوية ، طلبا لعدم الدخول في فهم الحقائق ؛ لأنها بدأت تصطدم بواقعه الداخلي ، الذي تربى عليه من الباطل.

وفي سبيل أن نحاور ذاتنا ، حوارا داخليا مقنعا ، علينا أن نواجه قضايا مهمة في طبيعة التفكير . فأول سؤال يجب أن نسأل أنفسنا به : هل الغيبة مستحيلة عقلا ؟ أم هي ممكنة ؟ . والسؤال الثاني ، الذي يجب أن نسأل أنفسنا به : هل هناك غيبة حدثت فعلا ؟ وهل هناك قناعة خارج حدود التمذهب الضيق لوجود غيبة فعلية ؟

ثم نحاول أن ندرس القيمة الحقيقة للنصوص الدالة على التبشير بالغيبة ، ابتداءً ، قبل وقوعها ، ثم على النصوص الدالة على وقوع الغيبة ، انتهاء .

وبعد أن نخرج من حوارنا الداخلي مع أنفسنا ، علينا أن نتحرر من مرض الاستخفاف والسطحية ، ونركز على الحقيقة القرآنية ، وعلى أن الغيبة لم تكن عملية طارئة مفاجئة في وجودها الواقعي للبشر ، فتحتاج إلى تفسير أرضي لتحوّل الحالة ، وإنما هي عملية مدروسة ، منصوص عليها قبل حدوثها ، وهي من قبل الله ، لأمر يعلمه الله ، وهو خارج نطاق القدرة العقلية ، التي نمتلكها ؛ لأنها خارج نطاق المألوف ، فهي ليست ذات ، مرتبطة بنا فقط، وإنما هي حقيقة ،

ص: 281

ذات علاقة كونية، مرتبطة بإرادة الله ، فالعقل إذا كان يدرك الحسن والقبح ، ويدرك الحقائق ، لا يعني ذلك أبدا أنه قادر على إدراك ما هو خارج مجاله ، فمسألة وقوع الغيبة ، والنصوص عليها ، يدركها عقلنا ، ونتلمسها علميا ، وحسيا . ولكن تفسير أحكام هذه الحالة ، يحتاج إلى معرفة من الله ، ونحن لم نجد لها - بالفعل - تفسيرا واضحا صريحا من الله . ولذا ، فإن جميع التفسيرات ، تبقى للحكمة الظاهرة لنا ، والمصلحة البينة لبني الإنسان ، والسبب في ذلك كونها تفسيرات ذوقية ، واجتهادات شخصية ، خاضعة لميزان الخطأ والصواب . ولهذا ، لا يمكن من خلالها ، تشكيل أي إشكالية ، بناءً على التصورات الظنية ، لسبب هذه الظاهرة ، أو لشكلها .

، فإن السؤال لا يتوجه على الله بقول القائلين : ما فائدة أن يرسل الله ملائكته الكرام بالتكاليف السنوية ، لشخص غائب ، ومختف عن البشر ، في حين إن التكاليف موجهة للبشر ؟

ولهذا مر علينا في مسألة التصويب ، إن بعض من يقول بالتصويب ، يرى إن الله أحكاما في الواقع ، ولكن الإنسان غير مكلف بها ، وهو - أي المصوّب - يعتمد هذه النظرية ، ليؤسس مذهبا عجيبا ، في قلب منظومة الشريعة ، وتحويلها من كونها صادرة عن الله تبارك وتعالى ، إلى كون الله – عز وجل – تابعا للمشرع الأرضي ، ولم يسأل القائل بهذا القول نفسه : ما فائدة الحكم بدون تكليف ؟ مع أن مثل هذا السؤال - هنا - أكثر وجاهة من السؤال عن الغيبة ؛ وذلك لأن في النظرية الثانية للتصويب - القائلة بوجود حكم بدون تكليف - مشكلة التفريق بين الحكم ، والتكليف ، وهما لا يفترقان - عقلا وواقعا - لأن الحكم هو أساس التكليف ، والتكليف تابع قهري للحكم ، والقائل بنظرية التصويب الثانية يقول : بأن هناك حكما بدون تكليف كما بينا .

ومثل هذا لا يحتاج إلى توقف على تعليم، ونزول أمر إلهي به ؛ لأن توقف التكليف ، وتكوين تكليف إلهي ، بموجب حكم حاكم أرضي يعمل بظنه ، يعني عملية خروج عن نفس المسيرة الإسلامية ، وعن تفسير الإسلام ، كدين سماوي صرف ؛ ولأن العقل لا يرى علاقة بين الإنسان ، وبين الحكم ، حينما لا يكون تكليفا . ولو أننا افترضنا أن هناك الآلاف من الأحكام ولكنها لسبب أو لآخر لا تكون ملزمة للإنسان وهو غير مكلف بها ، فما علاقته إذ ذاك بها ، وهل

ص: 282

ستكون جوهر شريعته ، وهل يصح أن تتضمن الشرائع - سماوية كانت أو أرضية - أحكاما معطلة لا يعمل بها ، ولا يُكلّف أتباعها بالتزام العمل بها ؟

بينما نزول التكاليف على بشر معين ، مع وجود مانع بين البشر وبين تبليغ الأمر ، لا يعني - مطلقا - أن الأمر لم يصل، أو أنه لا فائدة فيه ؛ وذلك لعدم توحد العلة ، وعدم انحصارها في نزول أحكام الله إلى الأرض بالنشر ، وإلا لكان يجب إبلاغ كل إنسان ، عن الله مباشرة ، لتحل هذه المشكلة . وهذا لم ولن يحدث ؛ لأنه غير لازم عقلا .

ولو أردنا أن نوضح الفكرة ، بشكل مبسط ، فينبغي أن نفترض أن الله – تبارك وتعالى – قد قصر - حاشاه جل وعلا - بإرساله الرسل في مناطق محدودة من الأرض ، وفي زمن محدود ، بحيث لم يبلّغ بصورة واضحة ، لجميع البشر . فيكون إرسال الرسالات غير كاف في الحجة على البشر ، وتكون الديانات مجرد عملية ناقصة، لا تكون حجة كافية على الإنسان ، الموجود في كل بقاع الأرض . بالتالي فإن كل رسالات الله ، تكون غير مفيدة لعقابه وجزائه ، ويكون التزامه بالبيان ناقصا ، حسب هذا الفهم السطحي ، وهذا الإشكال ، هو وليد طبيعي لإشكال عدم جدوى النزول ، والتبليغ ، لرجل غائب . ولا يعلم حجم المجتمع الذي يتواصل معه ، ولا كيفية التواصل معهم . فلا يصح - إذن - استعمال عدم الإطلاع ، دليلا على العدم، فكون مساحة الصلة بالإمام الغائب غير معروفة ، لا يعني - أبدا - أنها منفية ، لعدم المعرفة ، وهذا استعمال سيء لأساس سيء ، وهو استعمالهم عدم العلم ، دليلا على انعدام الموضوع ، والذي لا يمكن أن يقول به صاحب منهج عقلي ، ومنطقي للتفكير .

وقبل أن ندخل في مجالات بحث خاصة بالغيبة وحيثياتها لابد لنا من إعادة ترتيب أفكارنا وفق المنهج التالي :

نتساءل أولا عن الأسس التي يجب أن نسلكها في بحث قضية الغيبة ، معرفيا ، لنحل إشكالاتها ، علميا ، ونفسيا .

ص: 283

ثم نتطرق إلى إمكان وقوع الغيبة بكل صورها ، فإذا ثبت عدم الإمكان ، بطل الكلام بها ، وإذا ثبت الإمكان ، انتقل البحث إلى مرحلة ثانية .

لابد أن تكون الغيبة مبشر بها ، كتهيئة عقلية للبشر ، وأن تكون مدعاة . وهي يجب أن تكون مقرونة بالشواهد ، والأدلة ، التي يطمئن الإنسان بوقوع الإخبار ، والتبشير بها ، لشخص معلوم نسبت أو تنسب إليه .

فإذا وصلنا إلى هذه المرحلة ، لا يحسن بنا – إذ ذاك – إلا التسليم بوقوع الغيبة ، وأنها ليست لعباً ، أو دعوى باطلة ، وإنما هي ظاهرة كونية نادرة ، لها علاقة بالدين ، وبالكون ، و يجب دراستها ، والتمحيص في معطياتها .

هذا ما يفرضه العقل ، مما يسوقه من ترتيب ، يفرض على الحس ، وعلى غير الحس الإذعان له . فإذا نظرنا – ولو باختصار واقتضاب - إلى هذه المراحل ، خرجنا بالتالي منها كما سيأتي في الصفحات اللاحقة ، بنتائج تناقض المنهج الحسي التسطيحي .

ص: 284

هل الغيبة

من المرفوض عقلا ؟

لو أردنا أن نحلل فكرة الغيبة ، والدليل على إمكان وقوعها ، واستمرارها ، لا بد لنا أن نبحث – أولا - في إمكانية أمرين مهمين، هما : الاختفاء الحسي ، وطول العمر ، الملازم لغيبة طويلة الأمد .

فالاختفاء الحسي ، تارة يكون باختفاء الهوية ، وهذا لا يمكن تصوّر عدم إمكانه ، وإنما هو طبيعة كل مجهول ، فمن يأتيني ، وأنا لا أعرف شكله ، لا يمكنني أن أعرفه ، ما لم أصل إلى معرّف له ، وهذا أمر طبيعي ، لا يحتاج إلى مزيد من البحث فهذا النوع من الاختفاء ، هو ما عليه كل التخفي البشري ، بل ، والحيواني - أيضا - من تغيير اللون ، والصورة ، والشكل ، وإيهام الحس ، بأن هذا الشيء هو غيره تماما . والتخفي بهذه الطريقة ، هو دأب كل من يتخفى من أعداءه ، أو لأية أسباب أخرى تخصه . وهذا النوع ليس ممكنا فقط ، بل هو واقع ، نعيشه في كل مجالات حياتنا ، في الإنسان ، والحيوان ، والنبات .

وتارة يكون الاختفاء ، باختفاء الجسد ، وما هو عليه (الخفاء البصري) وهنا ، قد يشكك من لا علم له بحقائق الأمور ، بحقيقة وقوعه أو إمكان ذلك . ولكن من يعرف الحقائق ، ويطلع على الدراسات ، والثوابت في المعرفة الإنسانية ، يجد أن هذه الحالة ، واقعة ، فضلا عن القول بإمكان وقوعها ، أو حدوثها .

وقبل كل شيء ، لا بد لنا أن ننبه إلى أننا لا نتكلم عن ظاهرة اختفاء مجردة ، وإنما نتكلم عن حالة تكوينية ، متعلقة بإرادة الله - تبارك وتعالى - وقدرته . وهنا يجب البحث ، انطلاقا من أن هذا ، هو أمر الله ، وأن الله قادر على تحقيق مثل هذا الإخفاء .

ص: 285

وعليه فإن بحث مسألة : أن هذا الاختفاء أمر إلهي ، تتعلق ببحث التبشير بذلك ، والنصوص الدالة على تعلق إرادة الله ، بهذا الخفاء .

وأما مسألة البحث في قدرة الله على الإخفاء ، فهذا بحث لا يليق بمسلم . بل لا يليق بعاقل يعرف الله ، وقدرته . وهو أمر لا يجوز التفكير في استحالته عليه ، بأي شكل من الإشكال. فالله - تبارك وتعالى - هو خالق الأجسام ، وخصائصها ، وهو من يستطيع تمكين الخصائص ، أو عدمها ، فليس يليق بعاقل ، أن يدعي بأن الله - جل جلاله - غير قادر على إخفاء عبد من عباده ، بناءً على تصورنا البشري ، أن الطبيعة الفيزيائية الظاهرة ، تقتضي الصورة المرئية للجسم .

فقد كانت الطبيعة الفيزيائية ، تقتضي إحراق إبراهيم (علیه السّلام) بالنار الهائلة ، ولكن ذلك لم يتحقق ، وكانت عليه بردا ، وسلاما .

والطبيعة الفيزيائية ، تقتضي عدم انتقال الأشياء بطريقة الاختفاء ، من مكان ، والظهور في مكان آخر ، يقع على بعد مئات ، أو آلاف الأميال ، كما حدث لنقل عرش بلقيس ، في طرفة عين ، إلى مجلس سليمان (علیه السّلام).

والطبیعة الفیزیائیة - أیضا - لا تقبل أن ینشق ماء البحر یبسا، لبني إسرائیل، لیعبروا فیه، علی أرض صلبة ، وقد حدث ذلك ، وتغيرت قوانين الفيزياء والطبيعة .

والطبيعة الفيزيائية ، والأحيائية ، تقتضي أن الشجرة لا تتكلم ، بينما نجد أنها تكلمت لموسى (علیه السّلام)، وقالت : إني أنا الله ، وكانت مصدرا منفعلا ، بقدرة الله.

له والقوانين الحياتية لا تقتضي أن تتكلم الحيوانات ، ولكن الهدهد تكلم ، والنملة تحدثت - كذلك - وسمعهما نبي الله سليمان (علیه السّلام).

والقوانين الفيزيائية - أيضا - تقتضي أن الجن لا يُرى ؛ لأنه مستور دون أنظار وأبصار البشر ، وهو من خلقة ، ومادة غير مادتنا ، لا ترى بالعين ، ولكن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التقاهم ، ومن قبله سليمان (علیه السّلام)، وهو الذي حبس مردتهم في قوارير .(1)

ص: 286


1- إن هذه ظاهرة غير مفسرة - أصلا - ولكنها واقعة - فعلا . وقد أستغلها الكثير من الدجالين ، للترويج بين بسطاء المسلمين والدعوى بارتباطهم بالجن جسديا ، والحقيقة هي أن الارتباط - إذا حدث – فهو روحي ، وملكوتي ، ومن وجود غير الوجود الجسمي المعروف ، وبهذا يمكن تفسير قوله تعالى : ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ من الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن : 6] . فالارتباط الملكوتي ، أو الروحي ، موجود ، والتأثير ، والتأثر موجود – أيضا – كما تدل عليه النصوص الدينية ، والدراسات الباراسيكولوجية الحديثة ، التي قدرت إمكانية التواصل ، عن طرق خارج جسد الإنسان على أن قضية الارتباط بالجن ، قضية غير ذات قيمة ؛ لأن الجن مخلوق مكلف مثلنا ، فيه الجاهل ، والعالم بخلاف الملائكة المكرمين . فدعوى الكرامات بالارتباط بالجن ، قد تنقلب إلى عكسها ؛ لأنها عبارة عن ارتباط بالجهل ، والضلال ، والظلام ، في غالب أصحاب الدعوات العلنية بخلاف من لا يكشف ذلك لأنه يعرف إن هذا الأمر ليس بشيء تجاه كرامة الله.

والقائمة طويلة في مخالفة ، ومغايرة قوانين الطبيعة ، بأمر إلهي منصوص ، فليس في المخالفة ، أي مجال للتساؤل عن قدرة الله عليها ، حتى بالنسبة للحسي ، الذي لا يعقل إلا المألوف ، لأنه يؤمن من خلال النقل ، أو رؤية العين ، بقدرة ، وبكيفية اختراق القوانين الفيزيائية والطبيعية ، بتدخل من الله تعالى .(1)

ص: 287


1- المشكلة الحقيقية ، إن من يعترض على كثير مما هو خارج الحس ، والطبيعة ، نجده يؤمن بشكل أو بآخر ، بما هو أبعد بكثير مما هو مطلوب ، من العاقل السوي ، كقولهم بتأثير السحر ، والشياطين ، على تغيير الكونيات ، بحيث يؤمنون بقدرة الساحر ، والشيطان على قلب حقائق الأشياء . ومن ذلك ، نقرأ مقتطفا مما ذكره المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله علیه)، في كتابه هذه في كتابه (هذه هي الوهابية) : 106 - 108 : حيث قال : «ويعتقد الوهابية بالسحر ، والساحر . وتعلم السحر عندهم سهل للغاية ، بشرط أن يكفر الإنسان ، ويأتي بأعظم المعاصي ، مثل أن يضع المصحف الشريف في كنيف ، ونحوه – والعياذ بالله – وقدمنا فيما سبق أقوالهم حين قابلنا بينها ، وبين ما يدعو به الشيعة ، عند قبور الأئمة الأطهار - راجع فقرة الشيعة والمناجاة من هذا الفصل - والآن ننقل ما ذكره الصنعاني ، كحجة دامغة على اعتقادهم بالسحر ، وطريق تعلمه ، قال في صفحة (51) من كتابة (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) ما نصه بالحرف الواحد : «قد ثبت في الأحاديث : أن الشياطين ، والجان يتشكلون بأشكال الحية ، والثعبان . وهذا أمر مقطوع بوقوعه ، فهم - أي الشياطين ، الثعابين التي يشاهدها الإنسان، في أيدي المجاذيب ، وقد يكون ذلك من باب السحر ، وهو أنواع ، و ، وتعلمه ليس بالعسير، بل بابه الأعظم : هو الكفر بالله ، وإهانة ما : هو الكفر بالله ، وإهانة ما عظم الله من جعل مصحف في كنيف ونحوه ، فلا يغتر من يشاهد ما يعظم في عينيه ، من أحوال المجاذيب ، من الأمور التي يراها ، خوارق ، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال ، وهكذا يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها» . ومعنى قوله : «يقلبون الأعيان بالأسحار» أن الساحر يستطيع أن يقلب الإنسان حجرا ، والحجر إنسانا . وبدون حقد ، ولا ثورة أعصاب ، وبكل لطف وهدوء ، أدعوك أيها القاريء ، أن تقرأ ما جاء في هذا الكتاب بالذات ، الذي ألفه الصنعاني ، ليطهر الاعتقاد من أدران الإلحاد ، أن تقرأ ما جاء في صفحة (48) وهذا هو : «إن المشاهد ، والقباب على القبور، هي أعظم ذريعة إلى الشرك ، والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام ، وخراب بنيانه» . اقرأ هذا ، وقارن بينه وبين قوله : «تعلم السحر سهل يسير ، وبابه الكفر ، وجعل المصحف في (كذا) ... اقرأ ، وقارن بين من يعتقد ، أن في رفع القباب على قبر الرسول ، وآله الأبرار تعظيما لشعائر الله ، وبين من يعتقد بالسحر ، على الشكل الذي رسمه الصنعاني ، وأن سبيل السحر ، هي إهانة القرآن ، على الصورة التي صورها ، في كتابه ، وإن من فعل ذلك يقول للشيء فيكون ... اقرأ ، وقارن ، ثم احكم بعقلك ، وفطرتك ، وخبرنا عن صورة المشرك ، التي ارتسمت في خاطرك للوهلة الأولى ، لأحد الاثنين ، وأنت تقرأ وتقارن ، وقل لنا : أي الاعتقادين ذريعة للشرك ، والإلحاد ، ووسيلة لهدم الإسلام ، و خراب بنيانه ؟ وأي الرجلين يجب أن يطهر اعتقاده ، من أدران الإلحاد ؟» . (انتهى) أقول : إن شرح الشيخ مغنية ، لقوله : «يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها» يعتبر احتمالا وجيها لمفهوم النص ، وواقع النصوص تؤيد ما ذكره هذا الانقلاب، بالاسم ، والشكل ، فانظر ولا تتعجب فيما قاله الفخر الرازي في تفسيره : 3 : 213 : «وأما أهل السنة ، فقد جوزوا أن يقدر الساحر ، على أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حمارا ، والحمار إنسانا» . وفي تكملة نص الصنعاني ، ما هو أكثر غرابة من التحليل ، ونسبة التكوين ، ب_(كن فيكون) فقد قال في نفس الصفحة : «فلا يغتر من يشاهد ما يعظم في عينية ، من أحوال المجاذيب ، من الأمور التي يراها خوارق ، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال . وهكذا الذين يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها ، وقد ملأ سحرة فرعون الوادي بالثعابين ، والحيات ، حتى أوجس في نفسه خيفة موسى (علیه السّلام). وقد وصفه الله ، بأنه سحر عظيم . والسحر يفعل أعظم من هذا ، فإنه قد ذكر ابن بطوطة ، وغيره ، أنه شاهد في بلاد الهند قوما ، توقد لهم النار العظيمة ، فيلبسون الثياب الرقيقة ، ويخوضون في تلك النار ، ويخرجون ، وثيابهم كأنها لم يمسها شيء . بل ذكر ، أنه رأى أناسا ، عند بعض ملوك الهند ، أتى بولدين معه ، ثم قطعمها عضوا، عضوا ، ثم رمى بكل عضو ، إلى جهة فرقا ، حتى لم ير أحد شيئا ، من تلك الأعضاء ، ثم صاح ، وبكى ، فلم يشعر الحاضرون ، إلا وقد نزل كل عضو علي انفراده، وانظم إلى الآخر ، حتى قام كل واحد منهما ، على عادته ، حيا ، سويا . أقول : أفعال هذا الساحر الهندي أقوى من كرامات النبي إبراهيم ! وفي كتاب الصنعاني - أيضا : وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، بسنده ، أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبه ، فجعل يدخل في جوف بقرة ، ويخرج ، فرآه جندب رضي الله عنه ، فذهب إلى بيته فاشتمل على سيفه ، فلما دخل الساحر في البقرة ، قال جندب :﴿أفتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء : 3] ثم ضرب وسط البقرة ، فقطعها ، وقطع الساحر معها ، فان-ذعر الناس ، فحبسه الوليد ، وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه ، كان على السجن رجل نصراني ، فلما رأى جندبا ، يقوم الليل ، ويصبح صائما ، قال النصراني : والله ، إن قوما هذا شرهم لقوم صدق فوكل بالسجن رجلا ، ودخل الكوفة ، فسأل عن أفضل أهلها فقالوا : الأشعث بن قيس ، فاستضافه فرأى أبا محمد ، يعني الأشعث ، ينام الليل ويصبح فيدعو بغدائه ، فخرج من عنده ، وسأل : أي أهل الكوفة أفضل ؟ فقالوا : جرير بن عبد الله ، فوجده ينام الليل ، ثم يصبح فيدعو بغدائه . فاستقبل القبلة ، فقال : ربي رب جندب ، وديني دين جندب ، وأسلم . وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ، بمغايرة في القصة ، فذكر بسنده إلى الأسود ، أن الوليد بن عقبة كان في العراق ، يلعب بين يديه ساحر ، فكان يضرب رأس الرجل ، ثم يصيح به ، فيقوم صارخا ، فيرد إليه رأسه . فقال الناس : سبحان الله ! يحي الموتى ! ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فما كان من الغد اشتمل على سيفه ، فذهب يلعب لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه ، فضرب عنقه ، وقال : إن كان صادقا ، فليحي نفسه ! فأمر به الوليد دينارا ، صاحب السجن ، فسجنه . بل أعجب من هذا ، ما أخرجه الحافظ البيهقي ، بإسناده في قصة طويلة ، وفيها إن امرأة ، تعلمت السحر من الملكين ببابل ، هاروت وماروت ، وأنها أخذت قمحا ، فقالت له : بعد أن ألقته في الأرض : اطلع ، فطلع ، فقالت : أحقل ، فأحقل ، ثم تركته ، ثم قالت إيبس ، فيبس ، ثم قالت له : اطحن ، فاطحن ، ثم قالت له : اختبز فاختبز . وكانت لا تريد شيئا ، إلا كان» . (انتهى) ما أورده الصنعاني الذي يدعي: إن من يقول : بأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأهل بيته (علیهم السّلام)، قادرون على الكرامة ، فقد أشرك !! بينما يرى إن الساحر ، كلما يريد شيئا كان !! ومن الطرائف ، أن رواية المرأة ، التي ذكرها ، والتي تريد الشيء فيكون ، أنها امرأة جاءت إلى السيدة عائشة زوج الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لتسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن حالها ، لأنها نالت هذه الرتبة العظيمة ، بإتباع قول رجلين مقلوبين ، بأن تبول على التنور ، فبعد بولها على التنور ، خرج إيمانها على شكل فارس ، من جسدها وبقيت بلا إيمان ، وتولّدت عندها قدرة : (كن فيكون) . وهي الآن خائفة على إيمانها - الذي خرج منها كالفارس - وتريده ، ولا تريد مرتبة : (كن فيكون) فلم يستطع أحد من الصحابة ، أن يجيبها . وقد وصف ابن كثير الرواية ، في تفسيره : 1 : 146 - 147 : فقال : «فهذا إسناد جيد ، إلى عائشة رضي الله عنها . وقد استدل بهذا الأثر ، من ذهب إلى أن الساحر ، له تمكّن في قلب الأعيان ؛ لأن هذه المرأة ، بذرت ، واستغلت في الحال» .

ص: 288

ص: 289

وكم قد حصل لعباد الله في حياتهم ، من دلائل ، تعتبر نوعا من الخوارق للعادة ، للنجاة ، أو حدوث ما لا يقبله العقل من توقيت ، أو تهديف في الحوادث . بحيث يكون خارقا للعادة ، نقتنع بحدوثه ، أن الله أراد النجاة ، ودفع البلاء في ذلك الوقت ، لغرابة الموقف فعلا .

والإخفاء ، لا يختلف - من هذه الناحية - أبدا .

وهنا ننتقل إلى بحث لا نطيل فيه ؛ لأنه بحث مستقل ، يحتاج إلى كتب ، ومجلدات ، وذلك لدراسة ظاهرة اختفاء الأجسام المرئية ، وسنشير إلى الماعات فيه ، تكفي العاقل أن يتنبه للربط بين المعلومات ، التي تمر عليه .

إن العلماء ، لا زالوا يدرسون تفسير ظواهر كثيرة ، سميت الظواهر الروحية ، أو الظواهر الخارقة ، ومن بينها ظواهر التخفي، والاختفاء الكلي للأجسام ، وقد عبروا عن هذه الدراسات ، باسم علم الباراسيكولوجي ، أو أسماء أخرى ، ترتبط بالتأثير غير الفيزيائي ، في الكون الفيزيائي .

لقد أيقن الباحثون ، بوقوع حالات من التخفي ، أو من التأثيرات من قبل أجسام ، أو قوى مختفية تماما علينا ، وقد وصل الحال ، إلى تصوير بعضها بالصور المتحركة ، لدراستها ، وقد صورت - أيضا - بالأشعة المختلفة مثل الأشعة تحت الحمراء ، أو أشعة جاما ، أو أشعة أكس ، وما شابه ذلك ، وتبين وجود وقائع وحقائق ، وهنا انطلق العلماء ليس بطريقة تفكير متسلسلة ؛ لأنهم لم يتساءلوا عن الإمكان ، وإنما تساءلوا عن صدق إخبار من يخبر عن هذه الظواهر ، وحين ثبتت هذه الظواهر ، بدأوا في إيجاد تفسير لها ، بعيدا عن التفكير البزينطي ، في التشكيك بالواقع ؛ لأن ما عندهم من معطيات معلوماتية ، تمثل واقعا يجب تفسيره ، بشكل يتوافق مع وقوع الظاهرة .

وهناك عشرات التفسيرات ، لمثل هذه الظواهر ، ابتداء من فلسفة الضوء ، واختراقه للأجسام ،

ص: 290

أو انعكاسه عنها ، حيث افترض بعضهم ، أن هذه الأجسام المختفية ، إما أن تكون لها القابلية على امتصاص الضوء ، أو أنها تسمح بنفاذ الضوء إلى الفراغ الذري داخلها ، أو أنها تسيل ، وتشتت الضوء حول الجسم ؛ ليذهب في نفس اتجاهه، من دون انعكاس ، كما لو انحنى قليلا ، كما ينحني تيار الماء عن الجسد الواقف ، وسط التيار ، وقد تفرّع من هذه النظريات ، محاولات تجريبية في التطبيقات التقنية الحديثة ، وقد تم اعتماد هذه النظريات ، في بناء الطائرات ، التي لا يكتشفها الرادار ، بنفس هذه التصورات ، من هندسة تمكن من امتصاص الضوء ، أو الذبذبة الرادارية ، ومن تحويل بسيط لتيار الضوء ، حول جسد الطائرة ، وغير ذلك ، بل إن هناك الآن دراسات ، لمراقبة مواد سرية ، يمكنها تغيير تيار الضوء ، لأي شكل كان ، بدون حاجة لهندسة معينة ، تسمح بتكوين انفراج في الحزمة الضوئية ، حول الجسم . وهي دراسات سرية ، لا نعلم شيئا عن مقدار النجاح فيها ، ولكن - بشكل أولي - تم الإعلان عن نجاح التجارب المخبرية ، لقسم من التجارب في الحالة الساكنة .

وهذه المعطيات العلمية ، لم تكن مبنية عن فراغ . ولكن ، في المجال الإنساني الفعلي ، فإن الاختفاء حقيقة ، ثبتت المصادقة عليها ، علميا ، ودينيا . فالخفاء الذي يمارسه الرهبان المسيحيون المعروفون ، وكذا كهنة اليهود ، والظواهر المشابهة عند بعض كهنة الهنود ، ما يمارسه فقراء الهنود ، بما يسمى بطاقية الإخفاء ، وإما ما ثبت لبعض الأولياء المسلمين ، وما نقل عنهم ، فهو كثير جدا ، إلى حد ضرورة التيقن من الوقوع . (منبهين إلى وقوع الاختفاء البصري لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)في ساعة هجرته وهذا أهم من جميع ما قيل ويقال ، فليراجع) .

وبعد أن كانت حكايات الاختفاء ، مجرد حكاية ، وقناعة شخصية ، لبعض الأفراد ، الذين تعاملوا مع الحالة ، وتيقنوا منها ، فقد أصبحت - اليوم - حالة تدرس مخبريا ، بشكل جاد ، وترصد لها الميزانيات الكبيرة ، فهناك مراكز دراسات ، لتفسير الظاهرة والاستفادة منها ، وليس للتأكد منها فقط ، فقد انتهى هذا الدور نهائيا.(1)

ص: 291


1- نشرت الأهالي المصرية في عددها يوم 23 / 10 / 2006 على الصفحة الأخيرة ، وصحيفة الوفاق - علوم وتكنولوجيا - السنة العاشرة - العدد : 2634 - الاثنين / 29/ رمضان / 127 - 23 / 10 / 2006 : خبرا بعنوان : تصميم جهاز يجعل الأشياء غير مرئية . قالت فيه : نجح علماء أمريكيون وبريطانيون ، في تصميم جهاز قادر على لعب دور رداء الإخفاء ، وحجب الأغراض الموضوعة فيه عن الأنظار ، عبر تقنية ثورية جديدة ، تستند على تشتيت الضوء، ومنع الانعكاسات ووفقا لشبكة (سي أن أن) الأمريكية ، فإن الجهاز عبارة عن خليط معدني خاص ، يضاف إليه أجزاء من السيراميك ، والتفلون ، والألياف ، وهو سيكون قادرا عند الانتهاء من تطويره ، على إخفاء نفسه ، والأغراض التي يحتويها ، بالإضافة إلى ظله الخاص ، بحيث يصبح من المستحيل رؤيته ، أو الشعور بوجوده . وقال صاحب المشروع (ديفيد شيوريغ) : إن الجهاز يقوم ببعثرة الضوء ، والتموجات المنعكسة عن الأشياء ، وبالتالي يجعلها مخفية ، حيث إن العين البشرية ، تعجز عن رؤية الأشياء ، إلا بعد انعكاس الضوء عليها وأوضح إن التقنية ، التي اخترعها ، ترتكز على تركيبة معدنية خاصة ، تختلف عن تقنية الشبح ، المستعملة في بعض أنواع الطائرات الحربية ، والتي تلجأ إلى تقليص مقدار انعكاس الموجات القصيرة ، عن جسم الطائرات تفاديا لرصد الرادارات لها. وأضاف شيوريغ : إن التقنية الجديدة، تقوم على تغليف كامل للأغراض المطلوب إخفائها ، بحيث تتشتت عنها التموجات الضوئية ، بصورة مشابهة لما يحدث ، حين تمر مياه النهر حول صخرة في وسطه ... وذكر بأن الجهاز ، نجح في تجربته الأولى ، في إخفاء اسطوانة نحاسية ، بشكل شبه کامل . ويسعى العلماء المشرفون على المشروع ، إلى تحسينه في الفترة المقبلة ، بحيث ينجح ليس في إخفاء الأغراض فحسب، بل وفي إخفاء الظلال الناتجة عنه . ويطمح الفريق العلمي ، الذي صمم الجهاز ، إلى تطوير نماذج مستقبلية منه ، تنجح في إخفاء البشر ، وبذلك يكونوا قد حققوا إحدى العجائب ، التي طالما كان الناس يتندرون بها في القصص الخرافية .

إننا لا نريد - هنا - أن نغرق في تفسير الظاهرة ، والتمكن من فهم طبيعتها ، وأسبابها ، وهل هي أسباب مسيطر عليها ، أم هي خارج السيطرة ؟ وإنما نريد : أن نفهم قضية مهمة ، وهي أن ظاهرة الإخفاء البصري للأجسام موجودة ، وهي محل دراسة علمية ، واعتراف علمي ، والوجود أدل دليل على الإمكان .

وبهذا ، ينهار - تماما وكليا - الجزء الأول من التشكيك في الغيبية ، ولا مجال لعاقل أن يدخل

ص: 292

من هذا الباب . ويبقى الأمر الثاني الذي عادة ما يكون مدعاة للتشكيك في الغيبة وحدوثها ، وهو طول العمر وعدم كونه مألوفاً .

و نحن نواجه هنا - أيضا - مشكلة معرفية أخرى ، فحين يقال : إن نوحا (علیه السّلام)، عاش يدعو قومه 950 عاما ، وعاش بعدها كما قيل : ثلاثمئة ، أو خمسمئة ، أو ألف ، أو ألفي سنة ، للتدليل على إمكانية وقوع مثل ذلك ، يكون الرد السطحي الحاضر : وهل المهدي مثل نوحه (علیه السّلام)؟ ولمن يرد – عادة - بمثل هذا التساؤل الغريب ، نقول : إن البحث هو عن إمكانية الوقوع ، وليس عن التماثل ، والتشابه بين حالتين ! ومثل هذا الرد الغريب لا يؤدي بنا إلى إدراك حقيقة الأمر ، فأين البحث في إمكانية أن يطول عمر الإنسان إلى مثل هذه المدة المديدة ، من التساؤل عن التشابه والتماثل بين نوح (علیه السّلام)، والمهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

إن المسألة - برمتها ترتكز على إثبات إمكانية الوقوع ، وهو - هنا - إمكانية أن يعيش الإنسان عمرا طويلا كعمر نوح (علیه السّلام)، وهذا الأمر ثابت لا جدال فيه ، وقد أشار إليه القرآن الكريم بوضوح لا لبس فيه ، ولما كان الأمر كذلك بالنسبة إلى نوح (علیه السّلام)، فلا يبعد أبدا أن يقع مثيله ، أو أن تكون هناك حالات مشابهة له ، وهذا ثابت ، دلت عليه الشواهد الكثيرة التي تمثلها بصورة دقيقة قصة نبي الله نوحه (علیه السّلام).

فإذا أضيفت قصة الخضر ا وغيرها من القصص والشواهد الأخرى ، إلى ما تقدم من قصة نوح عال ، خرج الأمر عن الندرة إلى الكثرة ، وعن دليل الوقوع الواحد إلى شيوع الأدلة ، مما لا يبقي مجالا للقول باستحالة الإمكان ، ومما يفرض علينا التسليم بصحة ، وإمكانية ، ووقوع مثل هذا الأمر.

وبحسب الروايات حول قضية الخضر (علیه السّلام)، ينبغي أن يكون عمره إلى يومنا هذا قد تجاوز الألفي سنة (بل هناك أقوال تدل على أن عمره يزيد عن اثني عشر ألف عام لأنه الابن الصلبي لآدم كما يقولون ، وسيأتي الكلام فيه)) ومما يثير الغرابة حقيقة في هذا الموضوع أن ابن تيمية أنكر وجود الخضر ، ونفى الروايات التي أشارت إلى لقاءه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعضها صحيح ،

ص: 293

والملاحظ في بحوث هذه القصة وحيثياتها ، أن البعض يحاول أن يثبت بقاء الخضر (علیه السّلام) حيا إلى زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومع ذلك فإن مثل هذا البقاء ، يكون دليلا على طول عمر خارق ، فقد قيل عنه انه سابق للمسيح بمئات السنين ، وزمن بعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان في القرن السابع الميلادي فهو قد عاش ما يقارب الألف سنة ، في ذلك الوقت ، ونفي إمكانية بقاءه حيا إلى زمننا هذا ، لا يعني - أبدا - أنه لم يعش مدة طويلة وعمرا مديدا قد يكون تجاوز الألف عام . وهذا بالتالي دليل إمكان للوقوع ينبغي الأخذ به .

وأما قصة عيسى (علیه السّلام) وكونه حيا إلى الآن ، وقصة إدريس (علیه السّلام)، الذي رفعه الله مكانا عليا ، وهو حي يرزق الآن . فهذه حالات جاءت بنصوص قرآنية ، ونبوية ثابتة ، ومن يريد أن يشكك فيها ، فعليه أن يشكك في كل منظومته الإسلامية ، ولا تجوز التجزئة ، وأحادية النظر ، بحيث ترفض هنا ، وتقبل هناك ! والقضية نفس القضية.

هذا بالإضافة إلى أن كتب التاريخ تعج بروايات المعمرين الخارقين للعادة . وها هم بيننا في جبال القوقاز ، مئات المعمرين الخارقين ، وقد تحدثت الأنباء عن بعضهم ، بأنه عاش أكثر من 130 سنة ، وقد أجرت إحدى الصحف لقاء مع معمر قوقازي ، قيل إن عمره أكثر من 150 سنة ، وانه لا زال يمارس نشاطه اليومي ، في الزراعة ، وما شابه ذلك . ومثل هذه الحالات تعتبر خارقة للعادة فالإنسان - اليوم - رغم تحسن صحته ، وارتفاع متوسط العمر ، فانه يكاد أن يكون بمتوسط عمر 66 سنة ، في الدول الراقية الغنية ، بينما في الدول الفقيرة يبلغ اقل من أربعين سنة . وعلى كل حال فإن من النادر البقاء بحدود 120 سنة .

وهذه المعلومات ، لا تحتاج إلى إسناد ؛ لأن على المعترض أن يبحث عنها في نشرات منظمات الصحة العالمية ، وسيجد ما يسره من المفارقة بين متوسط العمر ، وبين أعمار معمرين أصحاء بكامل قواهم العقلية ، والبدنية . وهنا قد نوجّه السؤال لعلماء الحياة وأسرارها عن جوابهم عن سر الموت والحياة لدى البشر لندرس إمكانية بقاء الإنسان حياً مدة مئات ، أو آلاف السنين .

ص: 294

لعل غير المطلعين سيفاجئون بجواب العلماء العجيب . وهو قولهم : إن ما يحيرنا هو سر الموت ، وليس سر الحياة ؛ لأن الأصل الذي نراه في التكوين الداخلي للجين الوراثي ، الذي يرسم حياة الإنسان ، هو الحياة الكاملة ، وعدم الموت ، ولكن ما يفاجئنا ، هو إصدار أوامر، وإيعازات برمجية ، من داخل الجين الوراثي ، لتخريب الجسد ، وهذا ما لا نفهم سببه ، ولعل للتوازن البيئي دخلا في الأمر ، فقد جعل الله فينا برنامج الموت ، وإلا فأن كل خلية ، وكل نسيج له قابلية عجيبة للتجدد ، والمحافظة على البقاء ، بما فيها ما كان يعتقد بأنه لا يتجدد ، وهو خلايا الأعصاب ، والدماغ ، فقد تبيّن إنها أيضا رغم كونها مقفلة برمجيا ، إلا انها قابلة للتجدد كغيرها، وقد وجدوا إن علاجات الكآبة ، قد بنت خلايا عصبية جديدة ، في نسيج كان ميتا يقينا ، ويعتقد انه غير قابل للحياة ، فحتى الخلية التي تموت يمكن استبدالها بخلايا أخرى من نفس النوع . ولكن هذا إنجاز طبي في بواكير حدوثه .

ونظام التجديد والإصلاح داخل الجسم ، هو نظام متقن ، وإلا لمات الإنسان ، في بداية عمره . والمشكلة في اختلال هذا النظام .

وبهذا يتبين لنا ، أن النظام الأساسي ، هو بقاء الحياة ، وسر الموت ، هو المعجزة الإلهية التي لا يعرف مداها ، ولا كنهها . فما يحدث للمعمرين ، هو التفلت من سر الموت ، والبقاء على الطبيعة الأساسية ، لبناء الكيان الحي، بواسطة الشفرة البرمجية للحياة.

يمكن القول - إذن - إن ما يحدث في قضية الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ربما يكون عدم حصول المعجزة العجيبة ، التي تحصل لنا جميعا ، بحسب فهم العلماء ، وهنا خروج عن القانون الذي يحكمنا بالموت ، وهذا هو الأصل .(1)

ص: 295


1- نشر موقع ال_(بي بي سي أونلاين) - في 1/4/ 2000 - مقالا بعنوان : طب المستقبل يهدف إلى خداع الموت ، وهو تقرير يبين أن سر الموت ، هو ما يجب إزالته ، والتأثير عليه . جاء فيه : ترى كم سيكون عمر أطفال القرن الحادي والعشرين ؟ لن يرضى الباحثون في مجال الطب ، في القرن الحادي والعشرين - ببساطة - بمعالجة العلل ، والأمراض فحسب، بل سيهدفون إلى خداع الموت ذاته ، فقد أصبح العلماء الآن أقرب إلى فهم الآليات البيولوجية ، التي تعمل على الهرم، وتساعد على الموت . قبل عدة عقود ، لم يكن أحد يفكر في أننا نستطيع زيادة سنوات العمر ، وكان يعتقد أن فترة الحياة القصوى لبني البشر ، تبلغ نحو مئة ذلك إلى ما يعرف بالساعة الجينية ، التي لا تقبل التغيير ، ولكن بعض الاكتشافات الحديثة عام ، ويرجع أجبرت العلماء ، على إعادة النظر في نظرياتهم الخاصة بكبر السن . فقد عثر العلماء – بالفعل - على بعض الجينات ، التي لها دور في تأخير عملية الهرم ، في حيوانات المختبرات ، وبعد عدد من التجارب على هذه الحيوانات : ذبابة الفاكهة تحدت الموت في المختبر : تمكن العلماء من إيجاد سلالات فائقة ، من الناحية العضوية ، منها ذبابات الفواكه ، التي يمكن أن تعمر ضعف حياتها الطبيعية المعتادة ، وتموت وهي في كامل صحتها . وفي مختبر آخر ، اكتشف العلماء فئرانا ، يمكنها إعادة توليد أجزاء من أجسامها ، وتصلح - باضطراد - الأضرار ، التي أفسدها العمر خلال عملية الهرم ، وعلى الرغم من الجدل ، الذي تثيره هذه الاكتشافات ، فإن بعض العلماء واثقون من نتائج بحوثهم ، ويمكن توسيع نطاقها لتشمل أجيال المستقبل ، من بني الإنسان . فهم عملية الهرم ، خلال دراسة حالات الهرم المبكر ، التي تسرع بطريقة مذهلة ، عملية الهرم في الأطفال : الأطفال المصابون بالهرم المبكر ، يكبرون قبل الأوان ، وهذه الحالة تؤدي إلى ظهور أعراض الهرم عليهم ، وموتهم في سن صغيرة ، وقد تمكن العلماء ، من التعرف - أكثر - على الأسباب التي تجعل خلايانا تتوقف عن الانقسام ، وتبدأ في الموت ، واكتشف العلماء ، إن عملية الهرم يتحكم فيها جزء من الحامض النووي ،يسمى التليمير ، وهو يوقف الحامض النووي عن التهريء ، في كل مرة ينقسم فيها ، وبعد كل انقسام للخلية - مع ذلك ذلك - يصبح التليمير أقصر من ذي قبل . وفي النهاية يقصر إلى درجة حرجة ، ولا يستطيع حماية الحامض النووي من التهريء والبلى . وعند هذه النقطة تموت الخلية، وفي حالات الأطفال المصابين بالهرم المبكر ، تكون التليميرات لديهم شديدة القصر ، بطريقة غير طبيعية ، ولذلك يتسارع موت الخلايا ، مما يؤدي إلى زيادة عملية الهرم . وقد تمكن بعض العلماء ، من عكس مسار هذه العملية لبعض الوقت ، في بعض الخلايا في المختبر ، وقد استطاعوا ذلك ، عن طريق استخدام الهندسة الوراثية في تعديل إنزيم يسمى تليميريس ، يستطيع إعادة بناء التليميرات . ولكن هذا الإنزيم ، لا يوجد بصفة طبيعية في خلايا الكبار ، وإنما يوجد في خلايا الحيوانات المنوية ، والبويضات ، والأجنة النامية ، ويقول عالم البيولوجي الدكتور جيري شاي ، من جامعة تكساس ، وأحد المشاركين في الدراسة ، إننا أدركنا - لأول مرة – أن بإمكاننا التحكم في هرم الخلايا ، فلو وضعنا التليميريس في الخلايا الطبيعية ، لاستطاعت هذه الخلايا الاستمرار ، والبقاء . ولكن ، هل يمكن أن يصبح هذا ، علاجا قابلا للتحقق في المستقبل ؟ لا يعلم أحد ، كيف يمكن وضع الجينات ، داخل كل خلية في الإنسان الحي . وإذا استطاع العلماء ذلك ، فسيكون هناك مخاطرة الإصابة بالسرطان ، التي تسببها الخلايا ، التي لا تموت ، وتستمر في الانقسام، بطريقة غير محكومة . ولكن أكثر الإنجازات الواعدة - الآن - تأتي من قبل الباحثين ، الذين اكتشفوا طريقة حقن خلايا الإنسان الأولية - وهي خلايا الأجنة ، التي لديها القدرة على إصلاح ، واستبدال أي نسيج في جسم الإنسان – في مخ المصابين بالسكتة الدماغية ، مما يؤدي علاج الأضرار التي تصيب المخ . هذه العملية في المستقبل ، قد تقلب جوانب كثيرة من عملية الهرم ، وهناك بالفعل عدد من الهرمونات ، والحمية الغذائية ، والعلاجات ، مطروحة في الأسواق ، وجميعها تدعي إطالة العمر. بعض هذه الأشياء قد يساعد ، لكن معظمها ليس له مفعول . لكننا استطعنا عن طريق الرعاية الصحية ، والطب الحديث ، أن نعيش أكثر مما يقدره التطور الطبيعي لنا . غير أن السؤال ، الذي يجب طرحه – هنا – هو إن كان أحد مجالات البحوث سيمنحنا الخلود في القرن الحادي والعشرين . يقول البروفيسر لي سيلفر ، من جامعة برينستون الأمريكية : إن أي محاولة لبلوغ الخلود ، تسير عكس الطبيعة ، فالموت - في رأيه - ينسجم تماما مع التطور ، إذ إننا نورث جيناتنا للأجيال القادمة ، وإن لم نمت ، فسنظل موجودين ، نصارع أطفالنا على الحياة ، وهذا ليس أمرا جيدا لعملية التطور . وقد نشر موقع ال_(بي بي سي أونلاين) - في 3/8/ 2001 - مقالا آخر بعنوان : إطالة عمر الديدان فأل حسن للبشر ، جين إضافي يمد بعمر الديدان ، جاء فيه : تمكن فريق من العلماء من إطالة عمر بعض الديدان ، مما قد يوفر مدخلا ، لمعرفة أسرار الشيخوخة لدى البشر . وقد وجد العلماء ، أن حياة بعض أنواع الطفيليات، التي تسمى بالديدان المستديرة ، تطول بمقدار خمسين بالمئة ، عند إدخال جين مضاد للكبر ، من الخميرة إليها ، ويسعى الفريق العلمي ، وهو من معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا ، في الولايات المتحدة، إلى إحداث تغيير في التركيب الجيني للفئران ، لمعرفة ما إذا كان بالإمكان ، الحصول على نتائج متشابهة ، في حيوانات أكثر تطورا من الديدان ، وقد يوفر هذا البحث ، أدلة وراثية، توضح أسرار ظاهرة الشيخوخة ، عند الإنسان ، كما قد يسرع في إنتاج عقاقير ، تساعد في تأجيلها ، وتتلخص التجربة ، بإدخال نسخ إضافية ، من جين خاص بالخميرة ، يدعى (سي آي آر) إلى الديدان . ويستند ذلك ، إلى أن الخمائر ، التي توجد فيها نسختان من ذلك الجين ، تعيش أمدا أطول ، من تلك التي لا يوجد فيها الجين نفسه . الخمائر والديدان : وقد تمكن فريق البحث، من إطالة مدة حياة الديدان ، من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع ، بإدخال قطعة مصنعة ، من حامض (دي أن أيه) يتضمن جين الخميرة المذكور. ويقول ليونارد جوارنتي ، الذي يقود فريق البحث : إنه في حالة إدخال قطعة إضافية من الجين إلى الدودة ، فإن ذلك سيطيل من عمرها أكثر . وتعد النتائج ، التي توصل إليها البحث مدهشة ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ، أن الطفيليات ، رغم بساطة تركيبها ، أكثر تعقيدا من الخمائر ، ذات الخلية الواحدة. ويعتقد العلماء أن الشيخوخة لدى الكائنات المتطورة ، بما فيها البشر ، قد تكون مرتبطة بجينات مشابهة للجين موضوع البحث، ويعلق جوارنتي على ذلك بالقول : إن ما ينطبق على الخميرة ، والطفيلي ، ينطبق على جميع الكائنات ؛ لأنهما ينتميان إلى فرعين متباعدين في شجرة الحياة . الفئران أيضا : ويجري الفريق - الآن - تجاربه على التركيب الوراثي للفئران ، لدراسة ظاهرة الشيخوخة ويعتقد بعض الخبراء ، بأن البحث المنشور في مجلة – نيتشر - العلمية ، قد يوفر مدخلا لمعرفة شيخوخة البشر . ويرى ديفيد جيمز ، من كلية يونيفرستي كوليدج ، في جامعة لندن : أن البحث يوضح على الأقل ، حقيقة اشتراك عدد من الكائنات ، بالجينات التي تحدد ظاهرة الشيخوخة . ونشر موقع ال_(بي بي سي أونلاين) - في 2001/8/28 - تقريرا بعنوان : جينات مسؤولة عن طول العمر ، يؤكد اكتشاف جينات العمر ، وهي جينات تحدد العمر ، يمكن التدخل فيها ، لإيقاف أسباب الأمراض ، والموت . وكان مما جاء فيه : جزء بسيط من الشفرة الجينية يحمل مفتاح سر عملية : قال علماء أمريكيون : إن دراسة جينات الأشقاء المعمرين ، قد تساعد العلماء ، على فهم ظاهرة طول العمر . وأكد باحثون ، يعملون في أربعة مراكز للبحوث العلمية ، في الولايات المتحدة ، أنهم توصلوا إلى تحديد شفرات جينية معينة ، قد تلعب دورا مهما في الطريقة ، التي يتقدم فيها البشر في العمر . وقام فريق العلماء بدراسة التركيبات الجينية ، لمجموعة من الأشقاء ، والشقيقات المعمرين ، بلغت ثلاثمئة وثمانية أشخاص ، عاشوا إلى عمر التسعين على الأقل ، ومنهم من بلغ الثامنة والتسعين عاما ، فوجد العلماء ، أن عددا كبيرا من المعمرين ، قد ورثوا مجموعة من الجينات في الكروموسوم الرابع . ويأمل العلماء ، أن تساعد هذه النتائج ، التي نشرت في مجلة أكاديمية العلوم القومية الأمريكية ، على تحديد الجينات ، التي يمكن أن تساعد في المستقبل ، على التوصل إلى إيجاد علاج للأمراض ، التي تظهر في سن الشيخوخة ، مثل أمراض القلب ، والزهايمر. لیست محض صدفة : وقال البروفسور لويس كونكل ، الذي أشرف على الدراسة : إن نسبة وجود جينات مشتركة للأشقاء ، بلغت خمسة وتسعين بالمئة ، وهي نسبة لا يمكن اعتبارها محض صدفة . وأضاف كونكل : أنه من الواضح الآن ،وجود علاقة بین طول العمر ، والتركيبة الجينية للمعمرين. وأكد أنه إذا كان هناك شخصا واحدا ، معمرا في العائلة ، بلغ عمر المئة عام ، فعلى الأغلب ، سيكون له شقيقين ، أو ثلاثة ، يعيشون لعمر المئة ، أيضا . وفي الوقت ، الذي يعتبر فيه هؤلاء الأشقاء ، محظوظين لتوارثهم جينات تطيل من عمرهم ، فهم محظوظون - أيضا - لعدم توارثهم جينات أمراض قاتلة ، مثل أمراض القلب ، والجلطة ، والسرطان ، والزهايمر. تحديات مستقبلية : وقال كونكل : إن العمل الشاق ، يبدأ الآن ؛ لأنه يتوجب على العلماء ، العثور على الجينات المسؤولة عن طول العمر ، ضمن نطاق منطقة الكروموسوم الرابع ، وهي عملية معقدة للغاية ؛ لوجود أكثر من خمسمئة جين في تلك المنطقة . يذكر أنه ، لم تقم أية محاولة في الماضي ، لتمديد عمر البشر ، عبر إجراء تعديلات جينية ، ولكن العلماء يأملون التوصل إلى عمل ذلك ، بتعديل عدد من الجينات ، فقط . وقد تمكن العلماء - سابقا - من تطويل عمر مخلوقات بسيطة التركيب ، مثل الدودة الخيطية ، وحشرة الفواكه . هذا الهامش طويل جدا لا يمكن أن ينفع كثيرا . والقول بالبرهان المنطقي الكلامي أولى منه ، إذ الأصل فيما خلق الله تعالى من الأحياء ، الحياة ، والموت طاريء يطرأ عليها ، والله تعالى هو القادر على منعه عمن يشاء . وكفى بالله قادرا وقديرا .

ص: 296

ص: 297

ص: 298

ولو فرضنا ، أنه ليس الأصل في الكائن الحي ، أن يبقى معمرا ، كما تعمر السلحفاة ، والقرش مئات السنين ، كما يقال ، أو كما يقال إن القرش لا يمرض ، حتى لو تعرض لبتر في لحمه ، فهو قادر على التعويض ، كما يعوّض الأبرص السام ذيله ، إذا انقطع . لنفترض أن القانون ، هو الانتهاء بزمن معين ، وهذا يعني ، بأنه منوط بتوقيت برمجي داخل جسم الكائن الحي ، وبما إننا نتكلم عن تدخل الله في هذا الإنسان ، الذي هو المهدي (علیه السّلام)، فلا مانع عقلا ، ولا واقعا من إجراء تعديل

ص: 299

بالتوقيت في داخل الجين الوراثي ، ليكون أطول بكثير من المعروف ، والمعهود في البشر . وهذا كل القضية .(1)

ص: 300


1- قد تكشف لنا العلوم المستمرة في التحديث أسبابا أكثر وضوحا لمثل هذه الظاهرة من تأخر موت بعض البشر إلى آلاف السنين كنوح (علیه السّلام) والخضر (علیه السّلام) والكثير من المعمرين الذين ذكرتهم النصوص التاريخية أو من ثبت تعميره أكثر من الحد المعروف ، فهناك العشرات من المعمرين الذين ذاع صيتهم وكان إلى زمن قريب يوجد من المعمرين في بلاد القوقاس من يزيد عمره عن 150 عاما . وبحث طول الأعمار توثيقا مما لا ينبغي لمشتغل أن ينشغل في إثباته ، لأنه من باب توضيح الواضحات وهذا معيب . ولكن المهم هو اخذ العبرة وتمحيص الموضوع علميا . في سنة 2000 ميلادية أعلن عن ثبوت ما يسمى بالفوقوراثية نتيجة افتراض وجود المفاتيح أو المحولات الفوق جينية ، وأصل الفكرة هي : أنهم قبل سنة 2000 بمدة طويلة وجدوا أمورا محيرة في علم الوراثة منها أن المورثات موجودة فعلا، ولكنها تارة تعمل وأخرى لا تعمل ، بدون تفسير مقنع ، فخمنوا وجود مفاتيح تغلق أو تفتح كل المنظومة التي في ذلك المورث (الجين) ولكن إلى سنة 2000 لم يحصل دليل علمي على هذا التخمين ، وفي سنة ألفين تواصل علماء بين بريطانيا والسويد لدراسة وثائق صحية لقرية نائية في السويد ، سجلت لمئات السنين من السجل الصحي للقرية ، و كانت تسجل كل شيء عن المجتمع حتى الغذاء والطقس وحالات الرخاء والقحط والوزن والصحة والأعمار وطبيعة الغذاء منذ الولادة حتى الممات لكل فرد بل وصورهم بمختلف الأعمار مما يعطي ملامح واضحة للتأثر بحالة بيئية معينة كالتعرض للحر والبرد والجوع وغير ذلك ، فدرست هذه الوثائق بدقة فعُرف أن التغيرات البيئية تتحكم بفتح وإغلاق بعض المورثات ، وان المورثات التي تم التحكم بها نتيجة الضغوط البيئية تورّث لأجيال تالية ، وحين أثبتت الوثائق ذلك انتقلوا إلى التجارب المعملية فثبت أن المورثات التي تم إيقافها انتقلت موقوفة في أربعة أجيال في الفئران ، وهنا نشأ علم أسموه (الفوقوراثية) نتيجة المفاتيح أو المحولات المتمركزة فوق الجين المسؤول ، وقد قرروا أن هذا المفتاح عبارة عن مادة كيماوية بسيطة جدا تلتصق بالجين فتوقف فاعليته وهذه المادة المفتاح يضعها الجسم بموجب آلية غير مفهومة تتحرك استجابة للظروف البيئية والاجتماعية والأعمال المكتسبة الفردية . إن إثبات وجود مفاتيح أو محولات (إغلاق / فتح) عمل الجين الوراثي يمكن أن يفسر لنا الغوامض مثل إيقاف أو تحريك مورثات جين الموت والشيخوخة الموجودة في الإنسان المعمر وهذا يعني إن جين إنهاء الحياة المبرمج لو تعرض لمحول جيني فسوف يكتسب الكائن قدرة كبيرة على البقاء حياً باعتبار إن اصل الخلقة كما يقول العلماء هو البقاء بعناصر الإصلاح والتعويض الذاتيين لدى الكائن الحي . ونظرية المحولات فوق الوراثية يمكنها ان تسد خللا في المعرفة ، نتيجة وجود مجاهيل كثيرة في علم الوراثة . منها تفسير القدرة على التكيف مع وجود الجينات الأصلية التي يفترض أنها متحكمة في الكائن الحي . ولهذا يقول مكتشف هذه المحولات : (نحن نغير فكرة ماهية الوراثة فلا يمكنك في الحياة وفي ظل نمو وعيش عاديين أن تعزل الجينة عن التأثير البيئي ، فهما متشابكان) للتعبير عن القدرة المتجددة في التأثير بالجين ، وهذا يضع التأثير على الجين وإيقاف عمله في دائرة الإمكان ، مما يبعد فكرة الاستحالة لحصوله ، وبهذا فهناك قدر متيقن من العلم يقول أن لا استحالة لبقاء الإنسان آلاف أو ملايين السنين بشكل خاص وعناية خاصة ، ويبقى السبب في التأثير على هذه الجينات ووضع المؤثرات هل هو طبيعي ؟ أم بتدخل من الخالق ؟ والدلائل تشير إلى وجود ما هو طبيعي من بقاء بعض الناس أكثر من 120 سنة ، وكذلك إلى ما هو بتدخل الهي كحال الخضر ونوح والمسيح وآدم والمهدي عليهم السلام جميعا . وهذا يقرّب الفكرة أكثر ، على إنا بالأساس اخترنا بالنسبة للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) احتمال التنقل بين العوالم المتوازية وهذه العوالم لا تحكمها نفس قوانيننا وزمننا حتى يأتي هذا الإشكال ...

فلا غرابة مطلقا ، في طول عمر بشر ما ، بل هو واقع فعلا ، والغريب أن ينكر ، ويستبعد عقلنا الحسي السطحي ، ما هو موجود فعلا ، ومتحقق على صعيد الواقع ، ويوافقه التفسير العلمي .

فهذا الباب الثاني ، من أبواب التشكيك بالغيبة ، قد انتفى – أيضا . ولم يبق شيء، يمكن أن يكون مصدر نفي ، واستحالة ، لتحقق الغيبة . وهنا أحب أن أعرض لقضية بسيطة جدا ، وهي : إننا حين نستدل على الإمكان ، فهو للرد على القول بعدم الإمكان . وهذا الرد ، لا يصلح أن يكون دليلا على الوقوع ، ولا نريده أصلا .

إنما دليل الوقوع هو أمر آخر سنأتي إليه ، وقد ذكرت هذا التنبيه ، بسبب ما جرى من حوار ، بعد أن سلّمت الإشكالية إلى المعترض . فقد حاول تفريغ الإشكالية ، بشكل سطحي ، بدعوى أن الإشكالية تثبت الإمكان ، واتهمنا بالقفز من الإمكان إلى الوقوع ، وقد جرى هذا الحوار بيني ، وبينه .

ص: 301

قلت له : لنبحث - أولا - في الإمكان ، وبعد ذلك في الوقوع ، وفسرت له : أن الدليل العقلي ، يجعل كل ذلك موقع الإمكان ، بالإضافة إلى وقوعه ، لغير الإمام ، مما يثبت الإمكان .

فقال لي - فورا - : إنكم تستدلون على الوقوع بالإمكان ، فكل شيء ممكن ، ولكن ، إذا كان غياب المهدي ممكنا ، فهل يعني أنه واقع فعلا ، وعلينا تصديق ذلك ؟

فقلت له : إنك تتكلم عن موضوع آخر ؛ لأن اعتراضك الأساسي هو : عدم إمكان البقاء والغيبة ، وقد أتيتك بدليل الإمكان ، وهذه شواهد على الإمكان ، فلم نقل : إن دليل الإمكان ، هو دليل الوقوع حتى تُشكل إشكالك هذا ، إنما الإشكال عليك ؛ لأنك نفيت الإمكان أساساً ، وحين أتيتك بدليل الإمكان ، بدأت تتهمني : بأنني أريد أن أقنعك بالوقوع ، من خلال الإمكان ، وهذا هروب منك ، وعدم وحدة موضوع ، في الدليل والمدعى.

ولهذا فقد نجد داخلنا حسا معينا ، يقول لنا : إذا ثبت الإمكان، فلا يعني صدق قضية الغيبة ، ونحن نقول معه ، وهو كذلك، ولهذا فإن صدق الغيبة ، لا يستدل له بإمكانها ، وإنما أنت ، يا عقلي ، قد استبعدت الغيبة بناء على عدم الإمكان، وعدم الحصول، ولكن التأمل في المعلومات ، يدل على الوقوع ، وعلى الإمكان معا ، فيكون هذا الباب مسدودا علينا ، ولا يمكننا إيقاف قضية غيبة الإمام ، من أجلها .

ولهذا ننتقل إلى المرحلة الثانية ، وهي إثبات الوقوع ، ومقدماته .

ص: 302

الغيبة في الإسلام والديانات السماوية

في بحث موضوع كهذا ، تواجهنا حقائق مهمة ، لا يمكن القفز عليها وتجاوزها ، وهذه الحقائق ، نجدها - أولا - في تراث المسلمين في الصدر الأول للإسلام ، ويدلنا عليها تساؤلنا عن معنى أن ينفي أحد التابعين ، قضية المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وغيبته ؟ في تلك الحقبة المتقدمة من التراث الفكري والعقائدي لدى المسلمين ، ألا يعني هذا وجود الفكرة وتفاصيلها كاملة في ما احتفظ به المسلمون الأوائل من تراث النبوة ، وأحاديث وروايات زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، مما يدل - بالتالي - على وجود فكرة المهدي وما يتعلق بها من التفاصيل في زمنه (صلی الله علیه و آله و سلم) وبعده قليلا ، وهم مختلفون فيها بين مثبت وناف لها . ؟

ثم ما معنى أن تقول فرق كبيرة من المسلمين - في الصدر الأول للإسلام ، أيضا – ما قالته الكيسانية في موت محمد بن الحنفية (رحمه الله علیه)؟ من أنه غاب غيبة ، سيرجع منها . وكذا الناووسية حين له قالوا بأن الإمام الصادق هو المهدي ، وأنه غاب وسيرجع المهدي (علیه السّلام)، وأنه غاب وسيرجع.(1) ألا يعني ذلك أن العقل المسلم ،

ص: 303


1- الكيسانية : فرقة ، ومذهب انتشر بعد مقتل الإمام الحسين (علیه السّلام)، يقال إن من رجالاته المختار الثقفي ، وهو مذهب يعتقد أن المهدي، هو محمد بن الحنفية ، وأنه لم يمت بل غاب وسيرجع . وأنه حي يرزق في جبل رضوى ، وكان لهذا المذهب أتباع كثر ، منهم كثير عزة ، والسيد الحميري ، الذي رجع عن مذهبه إلى الإمامية بعد لقاءه الإمام الصادق (علیه السّلام). وفي كتاب السرائر لابن إدريس الحلي : 3 : 162 : «الكيسانية ، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية ، وأنه اليوم حي ، وهو المهدي الذي يظهر ، والناووسية ، القائلون بأن جعفر بن محمد (علیه السّلام) لم يمت ، وهو المهدي» . وفي تحرير الأحكام للعلامة الحلي : 3: 302 - 303 : الهامش : «الكيسانية هم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية ، ويزعمون انه اليوم حي ، وهو المهدي الذي يظهر» . وفي جامع المقاصد للمحقق الكركي : 9 : شرح : 42 - 46 : «وأعلم أن الكيسانية - ينسبون إلى كيسان مولى أمير المؤمنين (علیه السّلام)، ويقال أنه تلميذ محمد بن الحنفية - يقولون بغيبة محمد رضي الله عنه» .

كان مهياً منذ مدة ، لفكرة الغيبة ، التي اختمرت فيه حتى وصلت إلى مستوى التطبيق الفعلي للفكرة ، والإيمان بها . ؟؟

ما معنى أن يسمى المسلون أبناءهم بالمهدي ، تيمناً به ، أو طلبا لأن يكون هو ؟ كما فعل المنصور ، حين سمى ابنه المهدي ، لغرض سياسي ديني معروف . لا شك أن ذلك مما يسمي بالشياع ، والتعميم الثقافي ، نتيجة التبشير بالمهدي ، وغيبته .

لقد كان الأمويون يسمون الثوار عليهم بال_(مهدي) باعتبار المهدي عدو بني أمية لأنهم يشعرون داخليا أنهم أعداء رسول الله وذريته ، فحين اعدم زيد بن علي رحمه الله قال شاعر الأمويين(1):

صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة *** ولم نر مهديا على الجذع يصلب

ففكرة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وفكرة غيبته ، كانت متمكنة جدا من الشعور الإسلامي ، بسبب تأكيد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لها ، ولهذا اخترع أصحاب الباطل غيبات موازية كما في قصة غيبة محمد بن الحنفية بعد وفاته ، ولو كان اختراعهم غير مقبول في أصل القصة ، لقيل لهم بأن فعلهم بدعة ، ولثارت عليهم المنتديات الثقافية الإسلامية التي لا شك في إخلاصها أو تلك التي لا شك استغلالها لمثل هذا الحدث لأسباب سياسية ، ولكن النقاش كان معهم حول ثبوت الوفاة ، وهو رد عملي على ادعاء الغيبة لأي كان . ونرى - مثلا - أن السيد الحميري كان قد رجع عن إيمانه بمقولة غيبة ابن الحنفية ، لثبوت علم ، وصحة إمامة الصادق (علیه السّلام)، وقد سأله فنفى أن يكون هو

ص: 304


1- الإصابة لابن حجر : 2 : 182 ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر : 15 : 135 .

الغائب ، وإن الغائب سيكون السادس من ولده ، وهو محمد بن الحسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وهذا طريق ثان ، للرد على غيبة محمد بن الحنفية ، وهو يعتمد الخبر بعدم كونه هو المصداق ، من قبل العالم.(1)

هذا الموضوع ، وبهذا الشكل من التركيز ، في ذهن المسلمين ، لم يكن بدون جذور ، وأسس فكرية ، ونصوص أساسية ، تساعد على تبني تأويلات صحيحة ، أو أخرى مزورة ، بل كان بنصوص ثابتة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إلى درجة أعتبر فيها أن حديث المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) من المتواتر ، بل اعتبره السلفيون - وهم أشد أعداء المهدي، والنظرية المهدوية ، عداوة - : : أنه من ضرورات الدين ، وإنكاره إنكار للدين .

والأبعد من ذلك ، أن فكرة المهدي المنقذ للبشرية ، الذي سيظهر فجأة ، بعد خفاء ، واستتار ، هي فكرة سابقة لدين الإسلام ، وقامت عليها ديانات ، وزيد فيها ، ونقص ، كما زيد فيها ، ونقص في الإسلام ، فهي فكرة عالمية بالنسبة للديانات السماوية ، وما نبع منها ، ولهذا علينا أن نمر مرورا عابرا على ما لدى الأديان الأخرى من الأفكار ، لنرى مدى التبشير بالغائب المنتظر ، ولا نستقصي ذلك ؛ لطول البحث في هذا الموضوع . ولنبدأ ، بالقول بوقوع الغيبية علميا وعمليا ومن ثم بالتبشير بالغيبة متسلسلا في الأديان المعترف بها .

ص: 305


1- الصراط المستقيم - علي بن يونس العاملي : 2 : 229 . وأسند عبد الواحد ، إلى السيد الحميري ، قال : كنت أقول بالغلو ، وأعتقد غيبة ابن الحنفية ، فلما صح عندي بالدلائل ، التي شاهدت من الصادق(علیه السّلام) أنه الإمام ،سألته عن الغيبة ، فقال : ستقع بالسادس من ولدي ، وهو الثاني عشر من الأئمة ، لم يخرج من الدنيا حتى يطهرها ، فرجعت عما كنت [عليه] .

التبشير بالغيبة

قلنا : إن الديانات الأخرى ، تحدثت عن الغيبة ، وبشرت برجعة الغائب ، مدة طويلة ، وهذا يحتاج إلى بسط بعض الأقوال ، وتحقيق الأمور فيها ، ولعل أول ما يمكن أن نشير إليه ، هو ما أثير ، واشتهر من غيبة إدريس (علیه السّلام)، والتبشير برجعته ، باعتباره أول الأنبياء ، الذين ثبتوا قواعد النبوة بين البشر . وقد اعترف بذلك كتاب ، أرادوا أن يسيئوا لفكرة الغيبة والرجعة ، فاثبتوا أنها كانت لديانات سابقة ، ونسبوها - أولا - لهرمس ، وهو إدريس (علیه السّلام) نفسه ، فجاءت القضية على العكس مما يريدون ، وهي أن هذه الفكرة ثابتة ، في الديانات فكرا ، ووقوعا ، وهذا من أعجب استدلالات الظلم ، والظلال ، حيث يستدل بما يثبت الفكرة ، على كونها غير ثابتة ، وذلك انطلاقا المغالطة التالية : إن أية فكرة ، تنسب لمن لا نحب ، إذا وجدنا لها قولا في السابقين ، فهي مأخوذة عنهم ، وهي ضلال مبين، باعتبار أن الديانات السابقة، باتت منسوخة ، فيمكن أن نقول : إن الفكرة نفسها ، أصبحت ضالة ، وباطلة ، وهذه مغالطة ، لا يمكن درجها بالمغالطات الصعبة ؛ لأنها مكشوفة ، وبيّنة البطلان ، فليس كل ما كان من الديانات السابقة ، باطل ، حتى لو لم يرد له ذكر ، والثانية إن الإسلام في الأعم الأغلب منه ، وافق الديانات السابقة ، فلماذا يظن أن القول الموجود في الديانات السابقة باطل؟ وأخيرا ، فإن هذه الأقوال ، التي لا يستسيغها البعض ، لما فيها من تدعيم لأفكار لا يؤمن بها ، ويعاديها ، لم تكن وليدة الديانات في الحقيقة ، وإنما هي وليدة

ص: 306

نصوص نبوية ، وقرآنية ثابتة ، فإن فكرة الرجعة - التي ينكرونها أشد الإنكار - ورد وقوعها ، فضلا عن إمكانها في القرآن الكريم ، في أكثر من سبع مواضع(1) وكذا الولاية ، والإمامة ، والعصمة ، ونصرة الله ، والعلم اللدني ، فكلها واردة في القرآن ، بشكل صريح ، وليس تلميحا ، ولهذا علينا الآن ، أن ندرس الكثير من صور الغيبة ، والتبشير بها تاريخيا ، ودينيا ، ولنبدأ بالنبي إدريس (علیه السّلام) (هرمس):

ص: 307


1- منها قوله تعالى : ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةِ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِنَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لمْ يَتَسَنَّة وانظُرْ إِلى حِمَارِكَ وَلَنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إلى العظام كيف تُنشِرُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أعْلَمُ أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة : 259] .

إدريس (علیه السّلام)

قال تعالى :

﴿وَاذْكُرْ فِي الكتاب إدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم : 56 - 57] . ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكَفْلِ كُلِّ مِنْ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالحين﴾ [الأنبياء : 85] .

لا شك إن الله - تبارك وتعالى - ذكر في هاتين الآيتين ، مقاما عظيما لإدريس (علیه السّلام)، فوصفه بأنه نبي ، وصديق ، ومن الصابرين ، ومن المرحومين ، ورفعه الله مكانا عليا . وكعادة المفسرين ، فإنهم لا يفهمون معنى الكلام العربي ، فيحتملون عشرات الاحتمالات في كل لفظة ، إلى درجة انعدام الرؤية، ويضيفون إليها الروايات الإسرائيلية ، وغيرها مما يشوش المعنى . فلا نريد الآن أن ندخل في مناهج المفسرين ، وقد تقدم الكثير منها في طرح الإشكالية .

ما يهمنا هو قوله تعالى : ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَليًّا﴾ [مريم : 57] فقد اختلفوا(1) - هنا - هل الرفع معنوي ، أم جسدي ، وإذا كانت جسديا : فما معنى رفعه ؟ هل هو إصعاده إلى السماء ؟ وهل هو في عداد الأحياء ، أم الأموات ؟ إلى آخر الخلاف.

والنصوص المعتمدة ، والمؤيدة بظاهر الكتاب العزيز ، أن النبي إدريس (علیه السّلام)، ارتفع إلى السماء حيا ، من دون موت ، وهذا المعنى ، هو نفسه الغيبة ، أي إنه خرج من عالم المادة ، إلى عالم ثان ، مع بقاءه بحياته ، وله تعلق جسدي مختلف ، وهو مبحث قررناها في مباحث ظاهرة

ص: 308


1- اختلف المفسرون في معنى : ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَليًّا﴾، ولكنهم اتفقوا ، انه ليس بمعنى الموت ، فقسم قال إلى الجنة مباشرة . مناقب ابن شهر آشوب : 1 : 153 . وقسم قال إلى السماء . مناقب ابن شهر آشوب : 1 : 184 . وقد أورد العيني في تحفة القاري : 15 : 128 : كل هذه المعاني ، وأضاف معنى آخر ، هو إن الارتفاع - هنا - الرفعة في المكانة ، ولكنه روى : أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، رآه مرتفعا - حين المعراج - في السماء الرابعة ، مما يؤيد نظرية ارتفاعه إلى السماء ، كعيسى (علیه السّلام) وهو حي يرزق . وسار على ذلك جميع المفسرين .

الوحي ، وتفسيرها ، وكونها انتقال بين عالمين ، وجوديين ، مختلفين في الصفات ، وإن تقاربا في الطبقة الوجودية .

والحقيقة ، إن الدارس لكتب التاريخ القديم، يجد أن الديانات السابقة ، وخصوصا المصرية ، تؤمن بداية ، أن النبي إدريس (علیه السّلام)، وقد يسمى عندهم «اوزريس»(1) و «هرمس»(2) وغير ذلك

ص: 309


1- اسم اوزريس ، من أكثر الأسماء إيهاما ؛ لأنه تارة يكون لهرمس ، وتارة لإله الخير عند المصريين ، والذي يبدو واضحا ، إن الآلهة المصرية ، هي آلهة تجسيمية ، أصلها إنساني . ولهذا ، فليس بمستبعد ، أن يتحوّل القديس في الوجدان الشعبي إلى إله ، تنسج حوله الخرافات ، كما هو ملاحظ عند جميع الوثنيين تقريبا . ويلاحظ التشابه الصوتي ، بين إدريس ، وأوزريس .
2- قالوا : إن هناك ثلاث شخصيات ، سميت بهرمس . الأول منهم : هو النبي إدريس (علیه السّلام)، والاثنان الآخران ، هما من الحكماء المتأخرين عنه ، وقيل هما من الأنبياء - أيضا . وقد وصف النبي إدريس (هرمس المثلث بالحكمة) بأوصاف كثيرة ، وأن له كتب، وتآليف تدرس إلى الآن ، وبعضها مطبوع ، وهذه بعض المقتطفات ، مع التعليقات على ما جاء في أمر النبي إدريس (علیه السّلام)، وكونه هرمس الأول نفسه : المناوي : فيض القدير شرح الجامع الصغير : 3 : 125 - 126 : «قال ابن فضل الله : كان إدريس 125 يسمى هرمس المثلث ، كان نبيا ، وحكيما ، وملكا ، ووزيرا . قال أبو معشر : هو أول من تكلم في الأشياء العلوية ، من الحركات النجومية ، وأول من عمل الكيمياء ، وأول من بنى الهياكل ، ومجد الله فيها ، وأول من نظر في الطب ، وتكلم فيه ، وأنذر بالطوفان ، وكان يسكن صعيد مصر ، فبنى هناك الأهرام ، والبرابي ، وصور الصناعات ، وأشار إلى صفات العلوم لمن بعده حرصا منه ، على تخليدها بعده ، وخيفة أن يذهب فيها جميع رسمها من العالم ، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة ، ثم رفعه مكانا عليا» . (انتهى) . أقول : كيف يكون ملكا ووزيرا في آن واحد ؟ . وأما كتبه : ففي فهرست ابن النديم : 418 : «كتب هرمس في الصنعة : كتاب هرمس إلى ابنه في الصنعة . كتاب الذهب السائل . كتاب إلى طاط في الصنعة . كتاب عمل العنقود . كتاب الأسرار . كتاب الهاديطوس . كتاب الملاطيس . كتاب الاسطماخس . كتاب السلماطس . کتاب ارمینس تلمیذ هرمس . کتاب نیلادس تلميذ هرمس في رأي هرمس . كتاب الادخيقي . كتاب دمانوس لهرمس . اسطانس» (انتهى) . وقد ذكر كتبه حاج خليفة ، وآغا بزرك الطهراني . وفي معجم المطبوعات العربية لإلياس سركيس : 2 : 1475 : «أن فيليمون الكاتب ، أحد رهبان دير المخلص (ب . م .) عنى بنشر كتاب زجر النفس ، لهرمس الحكيم» . (انتهى) . أقول : لعل في بعض هذه الكتب ، خلط بين عدة هرامسة ، والله أعلم . ويركز المؤرخون على إنجازات النبي إدريس الحضارية ، والإنسانية ، وقد نسبوا إليه اغلب الإنجازات الحضارية ، ومما يجب التنبيه إليه ، إن قصص الأنبياء القدماء ، فيها الكثير من الغموض ، والخيال ، ولكن من ناحية نصية ، فإن قيمة هذه النصوص لا تختلف عن قيمة النصوص ، التي اعتمدها بعض من نظر حديثا ، في الهرمسية ، ومفاهيمها فكلها روايات قديمة ، وغير معتمدة من ناحية الدقة العقلية والعلمية . فهذه بتلك ، وليس من حق أحد ، أن يقول : إن هذه أقوال ضعيفة ؛ لأنه من قال : إن تلك - التي يعتمدها ويحللها أولئك - أكثر قوة وأدق ؟ إن بعض ترجمات إدريس (علیه السّلام)، تكشف بوضوح عن عمق تأثيره الحضاري في تاريخ البشرية ، ومع ذلك فهو - كما يقولون - أرسى قواعد الغيبة ، والرجعة ، والعصمة ، وهو أعظم مبتكر ، ومبتدع في تاريخ البشرية ، حيث وضع أوليات الحضارة كلها ، من طب ، وأدب ، وشعر ، وكتابة ، وكيمياء ، وعمارة ، وسكن ، وملبس ، ومطبخ ، وتنظيم الدولة ، وشرائع قانونية ، وعسكرية ، والسياسة المدنية العمرانية (تنظيم المدن) وأصول التجارة ، والصناعة ، مثل : الخياطة، وصناعة الرماح ، والأسلحة ، وصناعة الجلود ، وصناعة السفن وعلم إلهي غيبي ، وغير ذلك ، مما سأورده ، أو مما سأهمله ؛ لطول قائمة النصوص في هذا الباب. كشف الظنون : 1 : 25 : وكان أقرب عهد إليه إدريس (علیه السّلام)، فكتب بالقلم ، وأشهر عنه من العلوم، ما لم يشهر عن غيره ، ولقب بهرمس الهرامسة ، والمثلث بالنعمة ؛ لأنه كان نبيا ، ملكا ، حكيما . وجميع العلوم ، التي ظهرت قبل الطوفان ، إنما صدرت عنه ، في قول كثير من العلماء ، وهو هرمس الأول ، أعني إدريس ابن يرد بن مهلايل بن انوش بن شيث بن آدم (علیه السّلام)، المتمكن بصعيد مصر الأعلى ، وقالوا : إنه أول من تكلم في الأجرام العلوية ، والحركات النجومية ، وأول من بنى الهياكل ، وعبد الله تعالى فيها ، وأول من نظر في الطب ، وألف لأهل زمانه قصائد في البسائط ، والمركبات ، وأنذر بالطوفان ، ورأى أن آفة سماوية تلحق الأرض ، فخاف ذهاب العلم ، فبنى الأهرام ، التي في صعيد مصر الأعلى ، وصور فيها جميع الصناعات ، والآلات ، ورسم صفات العلوم ، والكمالات حرصا على تخليدها ، ثم كان الطوفان ، وانقرض الناس ، فلم يبق علم ، ولا أثر ، سوی من في السفينة من البشر ، وذلك مذهب جميع الناس ، إلا المجوس ، فإنهم لا يقولون بعموم الطوفان ، ثم أخذ يتدرج الاستئناف ، والإعادة فعاد ما اندرس من العلم ، إلى ما كان عليه من الفضل ، والزيادة فأصبح مؤسس البنيان ، مشيد الأركان ، لا زال مؤيدا بالملة الإسلامية ، إلى يوم الحشر ، والميزان . (انتهى) . أقول : إن اغلب ما ذكر في إنجازات النبي إدريس عليه السلام تحتاج إلى تحقيق لأنها لا تتصف بالدقة ، كما قلنا ، وقد ننقل إخبارا متداخلة يأخذ بعض الكتاب من بعض بسبب التعليق الخاص أو الإضافة الفكرية لما فهمه الكاتب المنقول عنه ليضيف معنى جديدا ولهذا سنستمر بالنقل : الميزان : 14 : 71 - 73 : ويسمى (علیه السّلام) ب_( هرمس ) . قال القفطي، في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، في ترجمة إدريس : اختلف الحكماء في مولده ، ومنشئه ، وعمن أخذ العلم ، قبل النبوة . فقالت فرقة : ولد بمصر ، وسموه هرمس الهرامسة ، ومولده بمنف ، وقالوا : هو باليونانية إرميس ، وعرب بهرمس ، ومعنى إرميس عطارد ، وقال آخرون : اسمه باليونانية طرميس ، وهو عند العبرانيين خنوخ ، والعرب أخنوخ ، وسماه الله عز وجل في كتابه العربي المبين إدريس . وقال هؤلاء : إن معلمه اسمه الغوثاذيمون (آجا ممنون) وقيل : أغثاذيمون المصري ، ولم يذكروا من كان هذا الرجل ؟ إلا أنهم قالوا : إنه أحد الأنبياء اليونانيين ، والمصريين ، وسموه أيضا أورين الثاني ، وإدريس عندهم أورين الثالث ، وتفسير غوثاذيمون السعيد الجد ، وقالوا : خرج هرمس من مصر ، وجاب الأرض كلها ثم عاد إليها ، ورفعه الله إليه بها ، وذلك بعد اثنين وثمانين سنة من عمره . وقالت فرقه أخرى : إن إدريس ، ولد ببابل ونشأ بها ، وإنه أخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم ، وهو جد جد أبيه ؛ لأن إدريس ابن یارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث . قال الشهرستاني : إن أغثاذيمون هو شيث . ولما كبر إدريس ، آتاه الله النبوة ، فنهى المفسدين من بني آدم ، عن مخالفتهم شريعة آدم ، وشيث ، فأطاعه أقلهم ، وخالفه جلهم ، فنوى الرحلة عنهم ، وأمر من أطاعه منهم بذلك ، فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم ، فقالوا له : وأين نجد إذا رحلنا مثل بابل ؟ وبابل بالسريانية النهر ، وكأنهم عنوا بذلك دجلة ، والفرات ، فقال : إذا هاجرنا الله ، رزقنا غيره . فخرج ، وخرجوا ، وساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم ، الذي سمى بابليون ، فرأوا النيل ، ورأوا واديا خاليا من ساكن ، فوقف إدريس على النيل ، وسبح الله ، وقال لجماعته بابليون ، وأختلف في تفسيره ، فقيل : نهر كبير ، وقيل : نهر كنهر کم ، وقيل : نهر مبارك ، وقيل : إن يون في السريانية ، مثل أفعل ، التي للمبالغة في كلام العرب ، وكأن معناه نهر أكبر ، فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون ، وسائر فرق الأمم على ذلك ، إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر ، نسبة إلى مصر بن حام ، النازل به بعد الطوفان ، والله أعلم بكل ذلك . وأقام إدريس ، ومن معه بمصر ، يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وطاعة الله عز وجل . وتكلم الناس في أيامه باثنين وسبعين لسانا ، وعلمه الله عز وجل منطقهم ؛ ليعلم كل فرقة منهم بلسانها ، ورسم لهم تمدين المدن ، وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية ، وقرر لهم قواعدها ، فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها ، وكانت عدة المدن ، التي أنشئت في زمانه مئة مدينة ، وثماني وثمانين مدينة ، أصغرها الرها، وعلمهم العلوم . وهو أول من استخرج الحكمة ، وعلم النجوم فإن الله عز وجل أفهمه سر الفلك ، وتركيبه ، ونقط اجتماع الكواكب فيه ، وأفهمه عدد السنين ، والحساب ، ولولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك . وأقام للأمم سننا في كل إقليم، تليق كل سنة بأهلها ، وقسم الأرض أربعة أرباع ، وجعل على كل ربع ملكا ، يسوس أمر المعمور من ذلك الربع ، وتقدم إلى كل ملك ، بأن يلزم أهل كل ربع ، بشريعة ، سأذكر بعضها ، وأسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا : الأول إيلاوس، وتفسيره الرحيم ، والثاني أوس ، والثالث سقلبيوس ، والرابع أوس آمون ، وقيل : إيلاوس آمون ، وقيل : يسيلوخس ، وهو آمون الملك . انتهى موضع الحاجة . وهذه أحاديث ، وأنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ ، لا يعول عليها ذاك التعويل ، غير أن بقاء ذكره الحي ، بين الفلاسفة ، وأهل العلم جيلا بعد جيل ، وتعظيمهم له ، واحترامهم لساحته، وإنهاء هم أصول العلم إليه ، يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم ، الذين ساقوا العالم الإنساني ، إلى ساحة التفكر الاستدلالي ، والإمعان في البحث عن المعارف الإلهية ، أو هو أولهم (علیه السّلام)». تفسیر شبر : شرح : 303 : «﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ﴾ [مريم : 56] : هذا جد أبي نوح ، ويسمى هرمس ، وهو أول من خط بالقلم ، وخاط الثياب». فهرست ابن النديم : 417 : «إن أول من تكلم على علم الصنعة هرمس الحكيم البابلي ، المنتقل إلى مصر ، عند افتراق الناس عن بابل، وانه ملك مصر ، وكان حكيما فيلسوفا ، وإن الصنعة صحت له ، وله في ذلك عدة كتب ، وإنه نظر في خواص الأشياء ، وروحانياتها ، وصح له ببحثه ، ونظره ، علم صناعة الكيمياء ، ووقف على عمل الطلسمات ، وله في ذلك كتب كثيرة» . معجم المطبوعات العربية : 2 : 1890 : هرمس المثلث ، أو الثالث (الحكيم) Hermes Trismegistus . قال القفطي في أخبار العلماء : هذا هو هرمس الثالث ، وهو الذي يسمي المثلث بالحكمة ؛ لأنه جاء ثالث الهراسة الحكماء ، والبابلي هو الثاني . وهذا رجل من حكماء مصر بعد الطوفان . وكان فيلسوفا جوالا في البلاد، قديم العهد عالما بالبلاد ، ونصبها ، وطبائع أهلها . له كتاب جليل في صناعة الكيميا ، وكتاب في الحيوانات ذوات السموم ، وهو من علماء هذا الإقليم (إقليم مصر) . وقال المصريون : إن استلبيادس ، الذي يعظم أمره يونان ، كان تلميذا لهرمس المصري، هذا وإنه رحل إلى مصر ، من بلاد بونان ، واستفاد منه ما استفاد ، ثم عاد إلى بلاد يونان ، فزاده غرائب ، ما أتى به من العلوم . وقال العلماء المحققون : إن هذا الاسم ، منحوت منه طوت أحد الآلهة المصريين ، الذي ينسب إليه علم الكتابة ، وسائر العلوم، واتخذه اليونان ، وجعلوه من آلهتهم ، ولقبوه بالمثلث الحكمة ، ونسب إليه الكتب الآتي بيانها : 1 - رسالة معاتبة النفس : وهي رسالة ، يخاطب فيها النفس ، تشتمل على حكم الفلسفة ، واللفظيات الروحانية ، ومعها ترجمة باللغة الألمانية ، للأستاذ فلايشر ليبسيك 1870 ص 10 و 37. 2 - زجر النفس - أنظر ما بعده كتاب نفع البر 3 - كتاب السبع كواكب السيارة - طبع حجر مصر 1297 4 - كتاب نفع البرية على الحروف الأبجدية ، المسمى بكتاب الحرف للحكيم هرمس - طبع حجر مصر 1271 ، وطبع في بيروت موسوما بزجر النفس لهرمس الحكيم صححه وعلق حواشيه الخوري فيليمون الكاتب 1903. أقول : فمن كان هذا عطاءه للبشرية ، وهذا إحسانه ، كما ينقلون بإجماع وتسليم، فلا بد أن تدرس نظرياته ، بشيء من الاحترام ، أو التأمل على أقل تقدير ، وليس بطريقة الغمز ، واللمز ، واعتبار أفكاره سبة ، وتخريبا دينيا ، بينما هو - كما أشارت النصوص آنفة الذكر - لب الدين ، والحضارة ، ومن يتكلم عنه لا يساوي في سوق المنطق ، والعلم شيئا.

ص: 310

ص: 311

ص: 312

من الأسماء ، وهو أهم الأنبياء عندهم ، يجلونه إلى درجة التقديس ، والغلو فيه ، وقد روى الكتاب الحداثويون ، عن كتب السابقين ، أنهم يقولون : إنه نبي غاب ، ليعود في آخر الدنيا (الدينونة) ليقيم الحق ، والعدل . وهذا ثابت عندهم ، إلى درجة أنهم يعتبرون الهرمسية ، مساوقة للغيبة والرجعة ، وهذا اعتراف منهم بوجود فكرة الغيبة - دينيا - وترسخها في الأديان ، تبشيرا ، ووقوعا . ونحن لا نريد منهم أكثر من هذا الاعتراف . وقد غلا فيه المصريون ، واعتمدوه نائبا لله ثم ، ألهوه(1) .ومن الطرائف المثيرة للدهشة إن

ص: 313


1- يبدو إن اليونان ألهوه - أيضا - أو اعتبروه ابن الإله ، وقد ترجمه الأب فردينان توتل في المنجد في الأعلام : :728 باب الهاء بعدها الراء ، فقال : «هرمس Hermes : ابن زفس ومايا . إله الفصاحة ، والتجارة عند اليونان ، ورسول الآلهة ، سماه الرومان مركور» وحين ترجم النبي إدريس (علیه السّلام)، ذكر أنه يشابه هرمس عند قدماء المصريين ، حيث يبدو إن النصوص، فيها تداخل ، فقال : 29 : «إدريس : نبي صديق ، من نسل شيت بن آدم ، ذكر في القرآن ، ينسبون إليه إيجاد علم الكيمياء ، وبعض الفنون، وبناء المدن ، وفي ما يُروى انه يشابه هرمس ، عند قدماء المصريين ، واليونان ، وأخنوخ في التوراة . عاش أكثر من 300 سنة».

مفكرين يسمون أنفسهم من أهل الثقافة الحداثوية ، حين رأوا إن فكرة الهرمسية ، أو الإدريسية ، تقول بغيبة هرمس ، وعودته للحق ، أو لعلهم عثروا انه يقول بغيبة المصلح وعودة لنشر العدل في الأرض ، اعتبروا أن أصل الفكر الشيعي ، هو هرمسية دخيلة !!! .

ولم يستح بعضهم ، أن اتهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، بفتح باب الهرمسية على الإسلام ، حين لم يوافق الخلفاء على طريقتهم ، وهذا منتهى التسطيح الفكري . فما علاقة هذا بذاك ؟؟

إن من ثوابت الدين، وأهم ما تجب معرفته عن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، من قبل كل مسلم ، مهما كان مذهبه : أن علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، لم يكن إلا خلاصة صافية لعلم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، في كل أفكاره ومفاهيمه ، فاتهامه أنه أول من فتح الباب للهرمسية بالشكل القبيح الذي يعتقده ، هو اتهام للرسول الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، بلا ورع ، أو وازع من دين ، أو يقين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

على أية حال، فإن مثل هذا القول ، يعد من قبيل قلب الحقائق ، وتزييف المفاهيم ، وقد ردج عليه من قبل ، علماء كبار - ناهيك عن هؤلاء الذين كبروا في عين أنفسهم – وكم من طائفية مقيتة ، تحكمت من قبل بعقول أمثال الجاحظ وابن خلدون ، وهذا ليس بالجديد في تاريخنا وحاضرنا .

إن أي توافق لفكرة ما في موروثنا الإسلامي، مع فكرة قديمة من موروثات أديان التوحيد السماوية لا يعني أبدا أن هذه الفكرة باطلة ، لمجرد كونها معمول بها في الأديان السابقة ، بل قد تكون هي من الدين الواحد ، فالتوحيد والنبوة ، والصلاة ، والعبادات ، والأخلاق ، والروحانيات ، مما نادت بها جميع الأديان ، وعلى قياس هذا المنطق ، تكون جميعها باطلة شريرة .

ص: 314

لقد ابتليت الثقافة الإسلامية والعربية بالذات ، ومنذ عهود ، بالبعض ممن تصوروا في أنفسهم القدرة على تطويع حوادث التاريخ، وقراءتها وفق ما يلائم ميولهم ، ورغباتهم ، التي تعب من مياه الطائفية الآسنة ، والغريب في الأمر أن هؤلاء الذين يفترض بهم - بعد أن امتلكوا ناصية العلم ، وأدوات المعرفة وآليات ، ومناهج البحث العلمي ، ودرسوا كل ذلك في مدارس الغرب الحديثة - أن يكونوا علماء منصفين ، تراهم ينبذون حقائق التاريخ وراء ظهورهم ، ويلجأون إلى أهوائهم المريضة ، ومعارفهم الناقصة ، وما رسخ في أذهانهم من خزعبلات ، ليتأولوا التاريخ كيف ما شاءوا .

والذي يواجهنا من دعاوى هؤلاء وأمثالهم - في موضوع الهرمسية بالذات – دعوى غريبة تقول : إن الهرمسية أثرت في اليهودية ، والمسيحية ، وهي انحراف في الأديان ، ولا عجب بعد ذلك أن نرى مثل هذه الدعوى تشتط تبعا لميولها الطائفية بالذات فتصوّر لنا كيف أن الهرمسية هي حركة هدم وانحراف في كل الأديان السماوية وهي كذلك في الإسلام متمثلة ب_(الشيعة) ولا عجب أيضا أن تتجاهل مثل هذه الدعاوى الأصول التاريخية للهرمسية فتنسبها إلى الفرس لتكتمل عناصر المشهد (الشيعي - الفارسي) . ولا بأس أن يكون الخلط بين «هرمس» و «هرمز» الفارسي، دليلا موثقا لمثل هذا الزعم ، حتى وإن كان ذلك بعيدا كل البعد عن الحقائق والوقائع التاريخية ، والعلم بعد ذلك ماهو إلا أداة من أدوات خدمة الجماعة ، وسلاح من أسلحة حربها ضد أعدائها .

بقي أن نشير إلى جانب مهم أغفله الجمع من هؤلاء ، وهو أنهم لا يملكون دليلا واضحا على منافاة الأفكار الهرمسية للعقائد الدينية الإسلامية ، وإذا سلمنا بما نسب إليها من أصول مدعاة في (الغيبة ، والعصمة ، والارتباط بالله ، مثلا) - كما قالوا - فما هو العيب في ذلك ، إذا كانت من دین الله الواحد ، الذي لا يختلف عند الله ، ولا يتغاير ، سواء كان يهوديا ، أو نصرانيا ، أو هرمسيا ، ومن قال أن التوحيد - مثلا - كعقيدة أساسية في الأديان جميعها ، لا يصلح أن يكون متماثلا ،

ص: 315

ولا بد أن يكون التوحيد ، وغيره من العقائد ، مختلفا في الإسلام ، عنه في المسيحية ، واليهودية ، والهرمسية ، أليس كل هذا صادر عن الله الواحد الأحد ؟ !

والنتيجة التي نريدها ، من هذه الخلطات التي يتحفنا بها هؤلاء ، هي إثبات غيبة النبي إدريس (علیه السّلام)، وأنه غاب إلى هذا اليوم - كما أشارت النصوص قرآنية في : ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَليًّا﴾ [مريم: 57] - لثبوت التفسير ، بأنه ارتفع في السماء ، وليست رفعته ، رفعة مقام فقط ،وهي قضية دينية ، نقلت عنه في جميع الأديان ، بحيث أصبحت قضية الغيبة ، والرجعة ، مرتبطة به ، على مدى الأجيال . وهذا هو جوهر الموضوع .

نقرأ أ - هنا - مقالا لبعض الحداثويين ؛ لنرى الاعتراف بعلاقة النبي هرمس (إدريس) بالغيبة والرجعة ، ولنرى مقدار الخطأ في التشخيص ، وفي تناول الفكرة علميا ، وعمليا ، إذ سنجد إن أغلب الأقوال ، تعتمد على الخيال ، والترابط من غير رابط:(1)

يرى سعيد كحل - تبعا للجابري - : أن ليس لليهودية الماسونية ، دور في القضاء على الإسلام في ، بواسطة الشيعة ، والصوفية ، والمجسمة !! ليرد المهد ، ونشوب الخلافات ، وإنما هي ! على الثوابت التاريخية ، الثابتة في دور اليهود وأثره في حياة المسلمين السياسية ، وليرد على النظرية ، التي تقول : إن الماسونية، قررت القضاء على الإسلام ، عبر إظهار الإسلام ، والسيطرة على الحكام المسلمين ، وعلى أفكارهم ، وحديثهم ، ومفاهيمهم ، وبدأت الإسرائيليات بالظهور تبعا لذلك ، يقول سعيد كحل :

قال : «من هنا نفهم أن الصراع السياسي بين المسلمين هو الذي خلق الحاجة إلى توظيف المعتقدات (الهرمسية) وليس كما ظن الأستاذ طلابي : أن معتقدات الماسونية ، هي التي خلقت أسباب هذا الصراع . وهذا ما أكد عليه د . الجابري بقوله : «لقد أدركت الأرستقراطية الفارسية ،

ص: 316


1- مقال لسعيد كحل وجزء من مقال ثان له - أيضا - والأول نشر بعنوان : مطارحة من صميم المصارحة . حوار مع صديق إسلامي منشور على الانترنت يحصل عليه أي مستكشف عن الألفاظ الدليلية آنفة الذكر . وهو مقال مطول نختصر هنا أهم النقاط التي تطرق اليها :

التي ركبت التشيع ل_(آل البيت) في ثورتها على الدولة الأموية ، أن السلطة في المجتمع العربي الإسلامي - آنذاك - هي بالدرجة الأولى للإيديولوجيا . فالإيديولوجيا (هي هنا الدين الإسلامي) وهي التي تصنع القوة المادية : تخفف من الصراعات القبلية ، وتدفعها إلى تجاوز نفسها ، وتقمع الصراعات الطبقية ، أو توجهها وجهة خارجية (الفتوحات) . ولذلك قررت أن تخوض الصراع في مصدر قوة الدولة العربية ، أي في المجال الإيديولوجي ذاته ، سلاحها في ذلك تراثها الثقافي الديني المبني على الغنوصية(1) هكذا شنت الأرستقراطية الفارسية ، الموتورة

ص: 317


1- في سبيل إيجاد تفسير دقيق لكلمة الغنوصية التي تذم مسيحيا وإسلاميا لم أجد من حددها بدقة ، ولكن هناك جملة معالم يمكن أن تؤطر الفكرة التي تسمى غنوصية : (فهي تفسير عرفاني للدين يغرق في التواصل مع الله ، ويتمشى مع الفكر الصوفي في جانبه الفلسفي القائم على الوحدة وانكشاف العلم والولاية التكوينية للولي كما يظهر من مجمل النقد لها من قبل الكنيسة) فقد وصف مجمع الكنائس الشرقية الغنوصية بقوله : (من المعلوم أن الغنوصية كانت تبدو على العموم تعليما سريا يحمل الذين تلقوا أصوله ، بعد القيام ببعض أعمال تطهير النفس ، على الانفتاح للخلاص بالإطلاع على الحقائق الدينية الكبرى أو بانخطاف النفس . وكانت تلك المذاهب تبعث على نفور شديد من الأمور المادية أو الجسدية وتعدها هي والشر شيئا واحدا.) الكتاب المقدس - مجمع الكنائس الشرقية : 284 ، وقالت أيضا : (يجب على المسيحيين ، ليردوا على ادعاءات الغنوصية الكاذبة ، أن يجهدوا لينموا ويرسخوا فيهم ذلك (العرفان) الحقيقي ، وهو يقين الإيمان كما قال بعض الكتبة : «إن المسيحي الكامل لم يبق في الظلام ، بل هو في النور : إنه يعلم».) . إذن حسب هذا النص يوجد عرفانان . الأول : كاذب . والثاني : حقيقي يجب إتباعه ! ولكن ما هي صفات العرفانين ؟ أليس ادعاء الكنيسة بأنها تملك الحقيقة الإلهية والصوت الإلهي المنشور في البرية يخرج من قلب الكنيسة الرسولية عرفانا اخطر مما يقولونه عن عرفان الغنوصية ... وقد فسّر السيد ادريس الحسيني وقد فسّر السيد ادريس الحسيني المغربي (وهو باحث مسلم) الغنوصية بتوصيفه التالي : (وليست الغنوصية في اصطلاحها الأول سوى جنوسيس العرفان ، وهو الاسم الذي أطلقه الغنوص على أنفسهم في القرن الثاني للميلاد . وهو مذهب منتقى من كثير من الاتجاهات الفلسفية والدينية ، كالزرادشتية والأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية ووجود أشكال من الاعتقادات كوحدة الوجود ، وهي أساس الاعتقاد الثنوي الزرادشتي) لقد شيعني الحسين (علیه السّلام) - إدريس الحسيني المغربي : 88 . وعلى كل حال فالذي يبدو أن الكنيسة الكاثوليكية تشن جملات كبيرة على الكنيسة البروتستانتية متهمة لها بنفس التهم للغنوصية حيث أن البروتستانت يرون أن الإنسان قادر على استلهام النص الإلهي ، وهذا ما تنكره الكنيسة الكاثوليكية ، وتعتبره تجاوزا وادعاء للعلم اللدني ، وهو اندساس يهودي في المسيحية كما تقول الكنيسة الشرقية . فقال مجمع الكنائس الشرقية : (ومهما يكن من أمر الرأي القائل أن قيرنتس هو المقصود في رسائل يوحنا ، فإن التيار الذي يرجح أن هذه الرسائل تستهدفه يمت بصلة إلى تلك النزعة المتهودة التي مهدت السبيل للعرفان ، والتي قاومتها منذ ذلك العهد رسائل بولس في السجن ورسائله الرعائية ، والتي بعدئذ إلى النظريات الغنوصية الكبيرة في القرن الثاني . ( الكتاب المقدس - مجمع الكنائس الشرقية : 761 . وعلى كل حال فان التشاتم بالغنوصية غير مفهوم وغير محدد لأن نفس الغنوصية غير محددة . وقد رأينا في الكنيسة المعمدانية دعوة لاستقبال قيامة المسيح في فلسطين منذ أكثر من قرن وقد سميت هذه الحركات بالغنوصية أيضا ، فهل لأنها تعتمد استشفافاً للمستقبل سميت بذلك ؟ أم أن جزءا من الغنوصية هو انتظار المخلص انتظارا شخصيا ؟ فهذه أمور غير واضحة للباحثين بشكل جيد .

هجوما إيديولوجيا واسع النطاق(1) مستعملة تراثها الثقافي الديني ، الزرادوشتي . المانوي . المزدكي . والهدف ، هو التشكيك في الدين العربي ، وهدمه ، وصولا إلى الإطاحة بسلطة العرب ودولتهم . الجابري : نحن والتراث : 51 .

إذن ، تأثير الهرمسية ، بمختلف عقائدها على اليهود ، والمسلمين ثابت ، وخاصة فرق الشيعة . يقول الجابري : «ونجد تأثير هرمسية أهل حران في الشيعة - أيضا - وخاصة الإسماعيلية ، الذين لم يعد الآن شك في نسبة رسائل إخوان الصفا إليهم . وكما يقول كوربان ، فلقد كانت الشيعة أول من (تهرمس) في الإسلام ، وقد ظهرت الهرمسية لديهم ، وكأنها (حكمة لدنية أي : فلسفة نبوية») . الجابري : نحن والتراث : 179 .

أما ما يتعلق بالماسونية في اليمن ، التي قال عنها د . طلابي : «فكان محفل سبأ الماسوني باليمن . هذا المحفل، الذي عقد مؤتمرا سريا بسبأ ، فيه تقرر إنزال فرقة يهودية إلى المدينة المنورة ، بقيادة كعب بن ماتع بن هيوع ، لتشهر إسلامها». فإنها ليست سوى اليهودية ، وقد تهر مست . وهذا ما أكد عليه الجابري : «ولا بد من التأكيد - هنا - على حضور المعتقدات

ص: 318


1- من الواضح أنه يقصد بالهجوم الإيديولوجي هو الهجوم الإسلامي الديني على الفكر القومي العشائري ، ولا ادري ماذا يريد الأستاذ بهذا التلميح الغريب ؟

اليهودية ، في هذا التراث ، خصوصا ، وقد كانت اليهودية المتهرمسة ، منتشرة في اليمن ، وبين سكانه منذ عصور سابقة» . الجابري : العقل السياسي العربي : 297.

إذن ، لما كانت اليهودية في اليمن (متهرمسة) كان طبيعيا ، أن تتخذ (الإسرائيليات) مضمونا هر مسيا ، سواء تعلق الأمر بالرجعة ، أو العلم اللدني ، أو الكشف ، وغيرها من المعتقدات . ولا تخرج عن هذا الإطار، الأفكار ، التي عمل على نشرها عبد الله بن سبأ ، أو كعب الأحبار ، أو وهب بن المنبه . يقول الجابري : «إذا استعرضنا الدور الذي قام به في العصر نفسه ، كل من كعب الأحبار ، وهو يهودي من اليمن كذلك ، ووهب بن المنبه ، وهو يمني - أيضا - من أصل فارسي ، في نشر (الإسرائيليات) في أواسط الصحابة ، والعامة ، وقد روى عنهما ، ابن عباس ، وأبو هريرة ، وغيرهما ، إذا استحضرنا هذا الدور، الذي قامت به هاتان الشخصيتان ، فإننا لا نستغرب ، أن تكون هناك شخصية ثالثة ، من (مُسلمة اليهود) اليمنيين ، قامت في ميدان السياسة بسوء نية ، أو حسن نية سيئة ، بمثل ما قام به ، وهب بن منبه ، وكعب الأحبار في مجال التفسير والحديث ، وقصص الأنبياء ... الخ . خصوصا ، ونحن نعلم ، أن من جملة (إسرائيليات) السياسة : القول بالرجعة ، والوصية ، والمهدي» . الجابري : العقل السياسي العربي : 233 .

لقد تجاهل الأستاذ طلابي ؟ عنصر الموروث الثقافي القديم ، وأثره في بروز الفرق الباطنية ، وعزى الأمر كله إلى (مؤامرة) الماسونية على الإسلام ، والمسلمين ، بل جعل من الماسونية (محرك) التاريخ ، وصانع الأحداث . في حين يؤكد الأستاذ الجابري أن : الهرمسية كانت من أقوى التيارات في الموروث القديم، وقد احتلت مواقع أساسية ، ولو في صورتها العامية ، في جل المناطق التي أسلم أهلها ، من مصر إلى فارس ، كما كانت لها مراكز (عالمية) قبل الإسلام ، في فلسطين، وأفامية ، وحران ، وغيرها . لقد انتقلت الهرمسية – إذن - إلى الثقافة العربية الإسلامية ، ضمن ذلك (المركب الجيولوجي (كذا في المصدر)) من الآراء ، والملل ، والنحل ، الذي نتحدث عنه - هنا - باسم : (الموروث القديم) ... فلقد حاربها أهل

ص: 319

السنة ، وبكيفية عامة ، المتمسكون ب_(المقول) الديني البياني العربي ، محاربة شديدة ، لأنها كانت تشكل الخلفية النظرية ، لآراء الشيعة ، والفرق الباطنية» . الجابري : بنية العقل العربي: 188.

وبذلك تكون الهرمسية ، قد احتلت المواقع الرئيسية ، في الثقافة العربية الإسلامية ، عبر تعدد أشكال حضورها ، في هذه الثقافة. كما يبين الأستاذ الجابري : «فمن الغلاة الأوائل ، إلى الرافضة ، والجهمية ، وبعض التيارات (المجسمة) إلى مؤسسي التصوف النظري الأوائل ، إلى رسائل إخوان الصفا . إلى الفلسفة الإسماعيلية ، في أعلى مراحل نضجها ، إلى التيارات الصوفية الباطنية ، والفلسفة الإشراقية ، مرورا بأصحاب الحلول ، وأصحاب ، وحدة الشهود» . الجابري : بنية العقل العربي : 209 ، 210 .

ينبغي القول - إذن - إن الصراع بين المسلمين حول السلطة ، لم تتسبب فيه (الماسونية) كما لم يكن من تخطيط عبد الله بن سبأ ، أو كعب بن ماتع بن هيوع اليهودي . إذ أن هذا الصراع نشب مباشرة ، عقب الإعلان عن وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). وإذا تمكن المسلمون ، من تجاوزه ، بمبايعة أبي بكر خليفة ، فإنهم لم يقضوا على أسبابه . وهذا ما عبر عنه الشهرستاني بقوله : «أعظم خلاف بين الأمة ، خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام ، على قاعدة دينية ، مثل ما سل على الإمامة في كل زمان» . الملل والنحل : 22.

وقال :

إن موقف علي بن أبي طالب، من مبايعة أبي بكر ، هو الذي سيفتح باب استيراد المعتقدات الهرمسية ، وتوظيفها في الصراع السياسي ، والإيديولوجي حول السلطة وبسبب الأطماع السياسية ، والقناعات الإيديولوجية ، التي ترفض الاحتكام إلى الديمقراطية ، عانت الأمة الإسلامية ، من الاستبداد والقهر» .

وقال في مقال آخر :

يقول الدكتور عابد الجابري : «وهكذا نخلص إلى النتيجة التالية ، وهي أن عبد الله بن سبأ ، شخصية حقيقية ، وهو يهودي من اليمن ، زمن عثمان ، أو قبله ، ونشر فكرة (الوصي) ... الخ .

ص: 320

ثم صار يحوم حول علي بن أبي طالب، بعد أن تولى الخلافة . ولكن عندما بدأ يغالي في حقه ، نفاه إلى المدائن . وعندما اغتيل علي ، نشر فكرة الرجعة والوصية.(1) فكان بذلك الأصل الأول ، ل_(الغلو) في حق علي . وستقوم على أفكاره هذه ، جملة آراء ، و (عقائد) في الإمام ، والإمامة ، اكتست طابعا ميثولوجيا» . الجابري : العقل السياسي العربي : 235 .

وكون عبد الله بن سبأ يهوديا ، لا يعني بالضرورة أنه ماسوني(2). بدليل أن مسألة الظاهر والباطن ، ليست من وضع الماسونية ، أو من تأليف عبد الله بن سبأ ، بل هي ذات أصل ومنشأ هر مسي - نسبة إلى هرمس.

وفي هذا يؤكد ، ويقول د . الجابري : إن عبارة : «الولاية باطن النبوة» : «تلخص بصورة مكثفة جدا ، كل الجهد الفكري، الذي بذله العرفانيون الإسلاميون ، من شيعة وإسماعيلية ، ومتصوفة ، من أجل إعطاء قالب إسلامي ، للموروث العرفاني السابق على الإسلام ، والهرمسي منه بصفة خاصة . ذلك أن الرؤية العرفانية الإسلامية للعالم ، للكون ، والإنسان ، والزمان ، والتاريخ ، إذا كانت تتخذ من الزوج النبوة / الولاية ، إطارا لها فإن المادة الموظفة ، داخل هذا الإطار ، هي عناصر تنتمي مباشرة ، وفي أحيان كثيرة ، علنا ، وصراحة ، إلى التراث الهرمسي » . الجابري : بنية العقل العربي : 328 . (انتهى) .

أقول : هذا الكلام الهلامي ، الذي يضرب بعضه بعضا ، لا يمكن ان يثبت في الحوار ، فغاية ما يعتمد عليه ، هو التشابه ، إذ يقوم بالربط الإلزامي على أساس التشابه ، وكان الأولى به ، أن يلتفت

ص: 321


1- لا يعرف الاستاذ الجابري ، أن خرافة عبد الله بن سبأ ، توقفت ، وضاع أثرها ، قبل وفاة الإمام علي (علیه السّلام) بنصوص المخترعين للسيناريو الطريف ، في تأثيره على المسلمين ، وقيادته لهم . فلا اثر لذكره بعد صفين .
2- علميا لا يوجد تطابق بين اليهودية والماسونية ، ولكن الاستدلالات التي نقرأها غريبة نوعا ما ، فإن اجتماع الماسونية في سبأ وقرارهم باختراق الإسلام يدل على الهرمسية وليس الماسونية عندهم ، وأن عبد الله بن سبأ حين اختفى كليا قبل وفاة الإمام علي بن يقال إن الإمام أعدمه في حياته ، يكون قد نشر الهرمسية بعد وفاة الإمام علي !! فهذا الموقف الفكري الى كك الذي يفتقر إلى ابسط قواعد الاستقامة الفكرية يدعونا لأن نبتسم من جميع المقولات وطرق معالجتها

إلى أنه جعل الهرمسية ، أقوى الديانات كما يحاول تصويرها ، وهي أعمقها في التأريخ ، وقد أخذت بها كل الديانات كما ينقل هو ، وهذا لا يقتضي - هنا - أن يكون تأثيرها منتقل بين الديانات فقط ، وهي أفكار باطلة ، بل لعلها عين الدين الصحيح ، ولهذا نادى بها الرسل ، واتباعهم . وهو - هنا - لا يستطيع أن ينفي هذا بأي دليل، خصوصا إذا ثبت أن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه ، بشر بالمهدي ، والرجعة ، وبالعصمة وهو الذي : ما ينطق عن الهوى . فالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، هو أول هر مسي في نظره المعرفي ، وكل ما أتى به من إدعاءات ، عن نقل الهرمسية إلى الإسلام ، عن طريق الشيعة ، ليس له أي شاهد ، يمكن أن يثبت في الحوار ، فلا يساعده أي دليل مطلقا ، وأي واقع تأريخي ، ولا يستطيع أن يثبت مصدرية أفكار الشيعة ، بعيدا عن أفكار أهل البيت (علیهم السّلام)، ونصوصهم ، يوم كان الفرس غارقون في التسنن . ومع ذلك ، فقد وقع في سطحية واضحة ، فلم يبق مذهبا في الإسلام ، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ، إلا وقال عنه إنه من نتاج الهرمسية ، وهو بهذا جعل كل المسلمين هر مسيين ، من مجسمة، ومنزهة، وعدلية ، وجبرية ، وعقلية ، ونقلية ، فكلهم هر مسيون .

لنقرأ نصه الطريف إذ يقول : «فمن الغلاة الأوائل ، إلى الرافضة ، والجهمية ، وبعض التيارات (المجسمة) إلى مؤسسي التصوف النظري الأوائل ، إلى رسائل إخوان الصفا ، إلى الفلسفة الإسماعيلية ، في أعلى مراحل نضجها ، إلى التيارات الصوفية الباطنية ، والفلسفة الإشراقية ، مرورا بأصحاب الحلول ، وأصحاب وحدة الشهود» .

إذا كان هؤلاء كلهم هر مسيون فمن بقي في الإسلام ؟ لعله لا يدري ، إن هذه هي كل التيارات الإسلامية . فهم السنة ، والشيعة ، بكل فرقهم .

ولكن ماذا نصنع لنصيب المسلمين ، أن ينسب هؤلاء السطحيون لهم ، وهم في السطحية ، وعدم الترابط ، وعدم الثبات ، بهذا الشكل الغريب .

إن هذا النص الطويل ، يمكن مناقشته بكتاب كامل، ولكن لا يبعد وصفه ، بجمل قصيرة - أيضا .

ص: 322

وهذا البحث اراد أن ينفي فأثبت ، حيث أثبت وجود مؤامرة ماسونية على الاسلام ، من قبل اليهود ، وحاول التنصل ، والتبرير برأيه ؛ لأنه لا يعقل أن الخليفة يستجيب للمؤامرة !!! ولكنه شدد على أن أركان المؤامرة ، هم الحاشية الخاصة للخليفة (كعب الأحبار ، ووهب بن منبه) وأراد أن يعمم ، فأتى بشخصية مختلف في وجودها - أصلا - لعدم كونها معروفة ، أو مروي عنها أو في شأنها بطرق صحيحة بخلاف الشخصيات الماسونية ، التي وصفها ، ونقل الاجتماع الماسوني من أجلها في اليمن ، وكيف قرروا تخريب الإسلام ، ولكن الأفكار التي طرحها الاثنان ، الذين قال عنهم إنهم انبثقوا من المجمع الماسوني ، كانت ضد الأفكار الشيعية خاصة وضد امام التشيع علي بن ابي طالب (علیه السّلام)، التي وصفها بالهرمسية ، فكان هؤلاء الذين ادعى أنهم هر مسيون ، ضد الوصية ، وضد الرجعة ، وضد العصمة ، وضد العلم الإلهي للإمام ، وضد الإمامة ، فقد خلط علينا الأفكار ، فلا يعرف من مع من ؟

فهؤلاء الماسنيون ، الذين تهرمسوا - كما يزعم - قرروا تخريب الإسلام ، عبر الثقافة ، والسياسة ، والقرب من خليفة المسلمين القوي ، كما حققه خياله ، فانتحلوا الإسلام ، ووقفوا في الصف المعادي للهرمسية (الهرمسيون - في نظره - هم شيعة علي ، القائلون بالرجعة ، والعلم الإلهي ، والعصمة) وعادوا كل الأفكار الهرمسية ، وتبين أن الهرمسية مرفوضة من قبلهم . فأين هر مسيتهم التي يدعيها لهم ؟ لقد فشل - تماما - في لصق صفة الهرمسية بهم ، ولم يبق لهم إلا ماسونيتهم . وهذا هو الخيال المنتاقض ، ونقض الغرض ، حيث أراد أن يثبت هرمسية الماسونية ، فاثبت ماسونيتهم ، وأن الماسونية ، عدوة الهرمسية ، من دون أن يشعر . على أن من نَسب إليهم الهرمسية ، لا يعرفون الهرمسية ، ولا أصلها ، ولا علاقة لهم بها ، كما لا يعرفها الغالبية العظمى من البشر علماء ، وعامة ، إذ لا شيء يمكن أن يثبت - واقعيا - عن وجودها ، ووجود أفكارها ، وقوة هذه الأفكار ، وانتشارها بهذه السعة ، اللهم الا ما يعرفه الجابري ، الذي لم يذكر لنا من المصادر المعتبرة كتابا ، أو مصدرا ، أو ورقة مخطوطة ، دونت عليها أفكار الهرمسية تلك ، وإنما الذي

ص: 323

يؤمن به أتباع مذهب أهل البيت (علیهم السّلام)، أفكار ، وأحاديث قالها رسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، ونقلها أهل بيته (علیهم السّلام) عنه ، كما نقلتها المصادر الأخرى ، وإن لم يؤمن بها أصحاب تلك المصادر .

والحقيقة إن العاقل الحكيم ، يعجب أشد العجب من هذا الذي يقوله الجابري بلا دليل أو نسبة إلى أحد ، وما أشبه ما يقوله بالخرافة التي تستثير عقول المراهقين ، وتحرك في المتلقي رغبة غريزية في معرفة ما يمكن أن يكون أسرارا مذهلة .

يقول : «فكان محفل سبأ الماسوني باليمن . هذا المحفل، الذي عقد مؤتمرا سريا بسبأ ، فيه تقرر إنزال فرقة يهودية ، إلى المدينة المنورة، بقيادة كعب بن ماتع بن هيوع ، لتشهر إسلامها».

ولو سلمنا باطلاع الجابري على مؤتمرات ذلك العصر ، ووثائقها ، وما حدث فيها ، فإن الأمر سيكون - عند ذاك - معكوسا تماما لديه ، إذ أن الهرمسيون عنده عملوا ضد الهرمسية ، ولكنه أتى بشخصية عبد الله بن سبأ الهلامية الخيالية ، ليرقع بها الحدث، ويثير ضبابا كثيفا على الفكرة ، ويخلط الحابل بالنابل ، بما يشبه قصص المخابرات ، والمغامرات البوليسية.

وعلى أقل تقدير ، فإن شخصية ابن سبأ خيالية في عملها ، وتأثيرها في الأحداث ، حيث لا يوجد أي واقع تاريخي ، يشير إلى هذا التأثير ، والى تكوين فرقة تؤمن به، على انه من المستحيل ، نقل حقيقة أفكاره ، إذا كان موجودا ؛ لأنه لا يوجد في التاريخ المنضبط ، أية مؤشرات لأقواله ، عدا ما قيل عنه ، بتأليه الإمام علي (علیه السّلام)، وإعدامه على يد الإمام علي (علیه السّلام)؛ لأنه كافر . فأين هذا من ذاك ؟ .

والجابري ينسب إلى ابن سبأ أفكارا هرمسية ، وينفي عنه كونه ماسونيا ، مع أنه شخصية وهمية ، بينما لم ينف الماسونية عن كعب، ووهب . وإنما قال : إن هذه الماسونية تهرمست ، واثبت لها الهرمسية ، وهم المخالفون للأقوال الهرمسية . واكتفى بذلك . قال : «وكون عبد الله بن سبأ يهوديا ، لا يعني بالضرورة أنه ماسوني . بدليل أن مسألة الظاهر والباطن ، ليست من وضع الماسونية ، أو من تأليف عبد الله بن سبأ ، بل هي ذات أصل ، ومنشأ هرمسي - نسبة إلى هرمس» . وكان كل همه أن لا يربط بين الماسونية ، وما حدث من انقلابات في السلطة ، وأخذ

ص: 324

يبرر - في نص لم أنقله بالكامل - بالقول إن الصراع على السلطة كان صراعا قبليا لئيما ، وكان يشترك فيه حتى النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأنه اقصائي أراد أن يقصي القبائل الأخرى ، فأقصت هذه القبائل جماعته ، وعترته .

وقد اهتدى بهذه السطحية الفجة ، إلى أن من جملة «إسرائيليات» السياسة : القول بالرجعة ، والوصية ، والمهدي ، وهنا نتسائل : مَن من اليهود نشر فكرة المهدي ، والوصية ، والرجعة ونقل كل ذلك عن الفكر الإسرائيلي ؟ هل هو علي بن أبي طالب ، أم هو عمار بن ياسر؟ أم حذيفة بن اليمان ؟ أم المقداد ؟ أم جابر الأنصاري ؟ أم هل هو رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه؟ عليه أن يثبت صدور هذه الأفكار عن غيرهم !!! ومن أين له هذه الدعاوى التي لا يستطيع مطلقا أن يثبت شيئا منها ؟ ثم هل أصبح الرواة ، الصحيحو الرواية - عندهم - أمثال كعب ، ووهب ، وتلميذهما : أبو هريرة ، من الكذابين المخربين للإسلام كما يقول الجابري وكحل ؟ أم أن الماسونية أرادت أن تحيي النظام الإسلامي ، ضد الهرمسية ؟ كما تشير إلى ذلك استنتاجاته العجيبة . الحقيقة لا يمكننا أن نعرف ونحن نقرأ مثل هذه الاستنتاجات من مع من ؟ ومن ضد من ؟ هل الهرمسيون ضد الهرمسية؟ وهل الماسونيون ضد الماسونية؟ وهل المسلمون ضد الإسلام؟ ما هذا الهراء الكلامي الذي ليس له أول ولا آخر؟

أراد الجابري أن يمدح فذم ، وأراد أن يبرر فأثبت التهمة، وأراد أن يحسّن الصورة فأساء تصوير ما يريد تحسينه . فكعب الأحبار ، وزير الخليفة عمر بن الخطاب ، هرمسي ، وكذا وهب بن منبه ، وقد تبعهما ابن عباس ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وخلق كثير من الصحابة ، وقد مارس الصحابة – خصوصا الخلفاء الأربعة – حربا قبلية على السلطة ، ضد دينهم ، بمعايير القبيلة ، لا بمعايير الإسلام !!! هذا هو ما يعترف ، ويصرح به رغم تناقضاته.

والطريف في كل هذا ، اننا لولا ما أخبرنا به لم نكن - كما هي الغالبية العظمى من المسلمين - نعلم بأمر الماسونية ، وأظن أن الماسونية وحدها هي التي تعلم - ان هناك حركة ماسونية ، و اجتماع ماسوني في اليمن ، قرر الدخول في الإسلام ! ولم نكن نعلم - أيضا - أن هذا المجمع

ص: 325

الماسوني، قرر أن يبعث كعب بن ماتع ، وهو من خيار أصحاب الخليفة ، لتخريب الإسلام من الداخل . والمشكلة أن هذا الذي أفرزه الاجتماع الماسوني ، كما يذهب سعيد كحل ناقدا بلا نفي محملا بافكار الأستاذ الجابري ، لم يكن قد أيّد الأفكار الهرمسية ، التي نقلها علي بن ابي طالب (علیه السّلام)، والكثير من الصحابة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، بل حاربها ، ووقف مع الطرف المقابل لعلي بن أبي طالب (علیه السّلام)، بعكس ما يحلل الدكتور محمد عابد الجابري بحسب السطحية التلفقية للتاريخ ، وللأفكار . فكيف أصبحت الهرمسية تحارب نفسها ؟

وهناك حقيقة نسيها محمد عابد الجابري ، وهي إن الذين حاربوا الدولة الأموية في إيران ، لم يكونوا من الفرس أصلا ، وإنما هم من قبائل العرب في خراسان ونواحيها ، من مذحج ، والأزد ، وخزاعة ، والأشعريين ، والأسديين ، وغيرهم من العرب ، الناقمين على بني أمية ، وهم القيادات العسكرية ، والسياسية ، والدينية العربية في بلاد فارس ، وكانوا جميعا تحت قيادة محمد ذي النفس الزكية ، من بني الحسن بن علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، وبالإدارة المباشرة للأخوين ، السفاح ، والمنصور ، من بني العباس . وكانت تدار الثورات من المدينة المنورة ، وليس من البيوت الارسقراطية الفارسية ، كما سماها ، بحسب خياله الخصب . وكل ما قاله ، لم يكن إلا جهلا بحقائق التاريخ ، أو كذبا مكشوفا .

وهناك أمر مهم آخر ، وهو أنه لم يستطع أن يكشف عن هوية هرمس ، فقد أخفى حقيقة أنه النبي إدريس ، وهو مرسل من الله ، وقد صوره كقوة شيطانية عجيبة ، دمرت الأديان في العالم ، شرقا وغربا ، ومع هذا لم يستطع أن يثبت أن أفكار هرمس خاطئة ، أو أنها منحولة له ، ولم يشر إلى عظمة وأهمية هرمس ، وكونه من العظام الذين خدموا البشرية ، حيث حول العالم إلى الحضارة . كما تكتب عنه الكتب القديمة .

وهو - فيما كتب - ينال من الهرمسية ، وكأنها فكرة قذرة ، لا تمت إلى الرحمن بصلة ، وكل ما أتى به إنما هي أفكار قال بها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السّلام)، من عصمة (وما ينطق عن الا الله الهوى) وولاية وغيبة وغير ذلك .

ص: 326

ولعل كل باحث متثبت ، يعلم أن القائل بمثل مقولات الجابري ، وكحل ، لا يملك في ذلك أية نصوص حقيقية ، أو دالة تدل على صحة تحليله ، بأن أفكار الشيعة ، هي افكار منحولة .

وهو - أي الجابري - لا يتمكن من نقد فكر هرمس نفسه ، بهذه المقولات التي ينال منها ، ويعتبرها أساس التخريب الإسلامي - كما يدعي - متجاهلا النصوص الخطيرة نفسها ، التي أوردها في الأسباب الأخرى ، التي قالها بوضوح ، وهو لا يعلم ما يقول .

والواقع - وهذا من الطرافة بمكان - أنه لا دليل - ذو قيمة - لديه على أن الهرمسية نفسها ، تعنى بالرجعة ، والعصمة ، والإمامة ، وغير ذلك ، مما ادعاه ؛ لعدم توفر النصوص الحقيقية ، وعلى الأخص النصوص الدينية المعتمدة ؛ لبعد العهد ، وعدم وضوح ديانة هرمس ، بشكل دقيق . وما ورد من كتبه يجب دراستها جيدا ، لاستنتاج أفكاره ، على أن الكتب المنسوبة لهرمس ، يقال أنها ليس كلها لهرمس الأول ، بل قد تكون للهرمسين آخرين، على أن كل منهم حكيم متأله ، وصاحب ديانة فاضلة.

وإذا كان يشير من طرف ، أن الهرمسية هي الفكر اليوناني الوثني ، فهو وهم كبير ، وما أبعدهذا ، عن ذاك .

هذه مداخلة بين المعاني يسهل نقدها ، فتبين أن كل هذا الكلام ، ما هو الا فقاعة ، لا تنطوي على ثقل علمي ، أو فكري .

وكل هذا الذي تكلّفوه ، وتوهموه ، إنما هو لدفع تهمة أن اليهود ، قد تدخلوا في تخريب البنية الإسلامية ، في أيام الخليفة عمر بن الخطاب ، وكان دفاعهم يثبت التهم حسب طريقتهم، فإن عدم نفي الاجتماع الماسوني ، والقرار بإرسال شخصيات للتدخل والتخريب ، وكونهم وصلوا بالفعل ، وكان لهم عظيم الأثر في الإسلام ، وفي الفكر الإسلامي ، بحيث أصبح من المألوف ، أن توصف جملة كبيرة من الروايات ، التي شرحت الدين ، والكتاب المقدس ، بأنها (اسرائيليات) من صنع كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وصحائفه الكتابية الشهيرة ، فإن هذا هو الواقع الحقيقي ، المتصل إلى اليوم ، هو الذي يشكو منه المفكرون

ص: 327

الإسلاميون ، ومن نتائجه المدمرة لدين الإسلام ، وما جر من مآسي ، حتى مقتل الخليفة عمر بن الخطاب ، إذ أن البحث التاريخي الدقيق أثبت أن إشارة ما صدرت من كعب الأحبار له ، بأنه سيقتل بعد ثلاث ، وقتل الخليفة بالفعل عندها(1)وتم إلصاق التهمة برجل آخر مسلم ، من موالي

ص: 328


1- في النسخة الإنجليزية من الموسوعة اليهودية ، عن كعب الأحبار : «إنه من جنوب جزيرة العرب ، عاش زمن عمر بن الخطاب ، الخليفة الثاني (634 - 644 م) وعثمان بن عفان ، الخليفة الثالث (644 - 656م) . كان كعب ينحدر على الأرجح من الحميريين المتهودين . تحوّل إلى الإسلام أثناء حكم عمر . تشير صفة الأحبار (جمع حبر = عالم ديني يهودي غير مسلم (إلى أنه كان مصنفا بين العلماء . وبالفعل ، فأقوال عديدة للحاخامين ، وكلمات من الأغاداه (الأدب الديني اليهودي غير التشريعي ، مقابل الهالاخا التشريعية) مذكورة باسمه ، في الأدب الإسلامي ، الأمر الذي نستنتج منه ، أنه كان يعرف الشرع الشفوي (التلمود) . كان كعب أحد أتباع عمر ، حين دخل الأخير القدس ، وبناء على طلبه ، حدد له المكان ، الذي كان الهيكل قائما عليه . وبحسب التقاليد ، فقد حاول المسيحيون إخفاءه عن الفاتحين . وحين تم الكشف عن هذا الموقع ، حاول كعب حث عمر على بناء المسجد (مسجد عمر) شمال الصخرة ، بحيث تحول القبلة إليها بدلا عن مكة . لكن عمر رفض هذا الاقتراح، معتبرا أنه موحى بميول يهودية . ثم وبخ كعب بقسوة ، وجعل قبلة المسجد ، في مقدمة جبل الهيكل (جنوب الصخرة) . ونسب الجغرافي الهمذاني ، إلى كعب ، قولا يشهد على توقيرة للصخرة : (قال الله للصخرة : أنت عرشي ، ومنك صعدت إلى السماء ...) . وبحسب الطبري ، وابن الأثير ، ظل كعب مع عمر حتى قتل . وقد حذر عمر ، قبل الهجوم عليه بأيام ، من أنه سيموت قريبا . وكان كعب حاضرا ، في بلاط الخليفة الثالث . وهناك كانت له بعض المشاحنات ، مع مسلم تقي ، هو أبو ذر . يقول البلاذري : (إن عثمان ، سأل كعب ما إذا كان يسمح للحاكم ، بأن يأخذ نقودا من بيت مال المسلمين ، إذا كان بحاجة لذلك، على أن يردها فيما بعد . ولم يجد كعب غضاضة في هذا العمل . فقال له أبو ذر عندئذ : أتعلمنا يابن اليهود ؟) . روى الطبري ، والمسعودي ، حوادث مشابهة . وهذه الحوادث (إضافة إلى القصة المذكورة آنفا حول القبلة) تظهر أن موقف المؤرخين من كعب ، لم يكن متجانسا . ينظر إليه كأنموذج بدئي (للإنتهازية اليهودية) . أما (موسوعة الإسلام ، النسخة الانجليزية) فتقول : إن كعب الأحبار ) جاء إلى المدينة أثناء خلافة عمر بن الخطاب ، ثم رافقه إلى القدس عام 636م (الطبري 1 / 2408) . وبعد تحوّله (إلى الإسلام) صار على علاقة وطيدة بالخليفة ، حيث تنبأ له بموته قبل ثلاثة أيام . حاول معاوية جذبه إلى دمشق ، ليكون مستشارا له ، لكن يبدو أنه انسحب إلى حمص ، حيث مات (طبري 3 / 2473) . إنهم عمر كعباً بالتهود ، حين تعامل مع جبل الهيكل في القدس ، كمكان مقدس (طبري 2408/1 - 2409) . ذلك ما قاله الإسرائيليون ، والمستشرقون المعاصرون ، عن كعب الأحبار : فما الذي يقوله الكتاب العرب المسلمون المعاصرون عنه ؟ يقول أحمد أمين - على سبيل المثال : «كعب الأحبار ، أو كعب بن ماتع ، يهودي من اليمن ، ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المدينة ، ثم إلى الشام ، وقد أخذها عنه اثنان ، هما أكبر من نشر علمه : ابن عباس - وهذا يعلل ما في تفسيره من الإسرائيليات - وأبو هريرة . كل تعاليمه كانت شفوية ، وما نقل عنه ، يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهودية، وأساطيرها . جاء في الطبقات الكبرى [7: 79] حكاية عن رجل دخل المسجد ، فإذا عامر بن عبد الله بن عبد القيس جالسا إلى كتب ، وبينها سفر من أسفار التوراة ، وكعب يقرأ . وقد لاحظ بعض الباحثين ، أن بعض الثقاة كابن قتيبة ، والنووي ، لا يروي عنه أبدا ... ويروي ابن جرير ، أنه جاء إلى عمر بن الخطاب ، قبل مقتله بثلاثة أيام، وقال له : اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام . قال : وما يدريك ؟ قال : أجده في كتاب الله عز وجل في التوراة . قال عمر : إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة ؟! قال : اللهم لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك ، وأنه قد فني أجلك» .

عمر بن الخطاب ، وخاضته ، والعاملين في بيته بتصنيع أثاثه ، وهو أبو لؤلؤة ، الذي قتله عبيد الله بن عمر خطأ ، بينما القاتل كان قد قتل في المسجد ، فور وقوع الحادثة .

إن مثل هذه الملابسات ، في الاعتداء على الاسلام ، والفكر الإسلامي والفكر الإسلامي، لم يحلها مقالا كحل ، ولا مقالات الدكتور الجابري ، وإنما أثبتت التهم ، وعمقت الشك فيها ، وأكدت الحاجة الملحة لدراستها من جديد ، بطرق علمية دقيقة ، وتحقيق أصيل.

ومع أن أهم قضية في التخريب، هي تخريب العقائد ، وبما أن عقائد المسلمين تفرعت عن الخلاف فيمن يخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، بشكل أساسي ، إلا أن الجابري انتهى إلى أن الخلاف كان قبليا . فتحوّل دفاعه عن الصحابة ، وعدم تأثرهم باليهودية ، إلى اتهام للصحابة أنفسهم ، بالمروق عن الدين بالقبلية ، وسوء الإيمان ، وانفلات الأمر ، بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، بغير ضوابط دينية . وهذا من سوء توفيق المفكرين الحداثويين .

ص: 329

ولتوضيح الرؤية من السلوك السطحي في التحليل التاريخي المبني على الدعايات ووجهة نظر الطغاة من دون تمييز فقد رأت أن انقل مقتطفات مما قاله السيد إدريس الحسيني في كتابه شيعني الحسين (علیه السّلام) حيث أدرك السطحية فيما طرحه محمد عابد الجابري ، ومن سار بمسكله (وقد رغبت ان أضع نقدا بغير قلمي فرأيت الأنسب الذي أمامي هو كلام السيد إدريس والنص يعبر عن رأيه) :

السيد إدريس الحسيني المغربي(1):

وسقطت ورقة التوت !

كلمة البدء سنحاول ضبط النفس في معركة (إعادة تحليل التاريخ) لنخبة القراءات ذات البعد الاستعراضي . وذات التطلع الايديولوجي . نريد أن نحلل فقط . ونركب في عمق الحدث لا خارجه . أي لا نركب من أجل نتيجة خارجة عن إطار الحدث ! لنجعل صورتها الحقيقية واضحة للعيان . أنا هنا أتناول المسألة (الشيعية) من وجهة نظر تاريخية ، وليس من وجهة نظر مذهبية ، أي ما هي المسألة وما خلفيات نشوئها من خلال الحدث وصورتها الحقيقية . والتحليل والتركيب ، وهما عمليتان مزدوجتان ، ليستا سوى إجراء منهجي للكشف عن الحدث ، مجردا عن الأوهام التي تعلقت به . إذا ، نحن لا نقوم بعملية تركيبية على التاريخ الإسلامي ، وهي العملية التي تطغى على أغلب مؤرخي هذا التاريخ ، وإنما نريد أن نحلل . والعملية التحليلية ، ليس سوى تفكيك للمركب التاريخي الموضوعي ، من أجل الوصول إلى أجزائه البسيطة ، التي ساهمت في تكوينه .

ولهذا سنبدأ بشبهة الأطروحة (السبئية) المفتراة ، على (الشيعة) وعلى تهمة الأصل الغنوصي والثنوي الفارسي للتشيع . كما ذهب غفير من المؤرخين القدماء ونقل عنهم بعض المعاصرين ، من ذوي النظر الموروث ! . هل أصل الشيعة سبئية ، وغنوص ، وزرادشتية إيرانية ؟ .

ص: 330


1- إدريس الحسيني المغربي : لقد شيعني الحسين (علیه السّلام) : 69 - 72 .

أظن أن الذين قالوا بذلك ، كانوا (بهلوانيين) أكثر مما هم مؤرخون ففي عصر استخدام العقل والمعايير العلمية ، الطرحات الغنوصية والسبئية ! تدل على ركاكة عقل وفجاجة فكر ! وربما جهل أغلبهم (التاريخ) مستقلا عن (المذهبية) . أو مستقلا عن المدرسة الأموية ، ولعله جهل الغنوص والزرادشتية معا ! .

يحاول الكثير من المؤرخين إبراز (السبئية) كمفتاح لفهم الظاهرة (الشيعية) وذلك لأنها أقرب المفاهيم إلى المؤرخ (البهلواني) حيث لا تكلفه عناء البحث فيكتفي بالقشور ، ويستنكفي عن الغوص في الأعماق .

وقصة السبئية ، إن رجلا يهوديا من صنعاء باليمن ، أمه حبشية ، لذلك سمي بابن السوداء كان قد أظهر إسلامه في عهد عثمان . وخاض عملية نشر الأفكار الهدامة ، مستعينا بمفاهيم يهودية . وكان أحد مصادر القلاقل ، والفرقة في زمن عثمان . وعلى هذا المنوال ، حبك مؤرخون كثر أساطيرهم يقول : الجابري(1). وإن وإن جميع من له إلمام بأحداث القرن الهجري الأول يعرف كيف ، أن مصادرنا التاريخية ، أو بعضها على الأقل المصادر السنية عموما تجعل (الفتنة) زمن عثمان ، من تدبير شخص اسمه عبد الله بن سبأ) ثم قال أيضا : وقد أطلقت مصادرنا التاريخية على حركة المعارضة لمعاوية اسم (السبئية) نسبة إلى عبد الله بن سبأ هذا(2) ويبدو أن الجابري الذي دخل التراث من (خشمه) لم يستطع التحرر من التقليد الموروث . فهو لم يجتهد من وراء تلك الموروثات التاريخية الجاهزة. مع أنه في مقدمة العقل السياسي العربي حاول جهده ليقنع القارئ ، بأنه سيعتمد أرقى ما أنتجت العلوم الإنسانية من مناهج في سبر المعرفة . بل وأين هي علمويته واركيولوجيته ، التي اعتمدهما لقراءة التراث . وهل (ميشل فوكو) على (اورباويته) وماركس على (ماديته) وباشلار على (قطائعه) يستطيع أن يقرأ التاريخ من زاوية (السنة) فقط كذلك تلتقي النظرة التقليدية بالنظرة (الحداثوية) في الموقف ضد الشيعة في التاريخ !

ص: 331


1- العقل السياسي العربي : 207 .
2- العقل السياسي العربي : 207 . أقول وعلى هذا يكون علي (علیه السّلام) ، وأبو ذر (رضی الله عنه) السبئية الأول .

والجابري يعبر عن هذا التقليد _(الموروث) مصادرنا المصادر السنية عموما ! ! والإلمام الذي عرضه كمقدمة لطرحته (البهلوانية) هو الالمام المبتور عن جميع من له إلمام بأحداث القرن الهجري الأول (فهذا الالمام الذي يتحدث عنه (الجابري) هو إلمام واحدي يناقض مفهوم (الالمام) الموضوعي ! . نقول للجابري إنك تدعونا إلى الالمام . ولن يحصل هذا إلا ضمن المصادر السنية ، أي المصادر المعادية للشيعة وهذا انحراف موضوعي يكشف عن النزوة المذهبية الجامحة . ولذلك لا يستحي أن يتقدم بتساؤل تحليلي : (كيف نفسر الطابع الغنوصي الهرمسي الذي طغى على (التشيع منذ وقت مبكر ؟)(1). فهو يفسر ، حقائق جاهزة ، ويبحث لها عن المسوغات العلموية الايديولوجية من دون التفكير في طرح السؤال خلف هذه الحقائق ، ومناقشتها في ذاتها ، وإلى أي حد هي موضوعية ! فالبناء منذ البداية مذهبي خلافا لما ادعاه من حياد وهذا هو البؤس التاريخي كما يحترفه (حداثيو) السنة(2).

ولم أكن أعلم أن الجابري إلى هذا المستوى من البساطة في تقبل الحقائق التاريخية . هل هو فعلا مخلص في طرحته ؟ أم أنه يستغل الفراغ المعرفي في بيئة يحدد المذهب وعيها التاريخي .

يقول : بأن السبئية هم أول من أطلق على علي بن أبي طالب ، لقب (الوصي) ! . سوف نبين ! للجابري ، أنه يرمي الكلام على عواهنه ، وبأنه لا يحسن قراءة التاريخ . فهو لم يأت بجديد بقدر ما ارتبط بمصادر أهل السنة والجماعة . مع أنه تفلسف في أكثر من قضية في التاريخ الإسلامي .

فهذا إن دل على شئ فإنما يدل على العجز والكسل في التماس الحقيقة التاريخية ، عن طريق الجهد والجهاد (العلمي) ! . والذين استلهم منهم الجابري وغيره من المعاصرين (قذيفة) السبئية هم مؤرخو السنة فقط .

ص: 332


1- نفس المصدر : 213.
2- مشكلة التراث وأزمة المنهج ، د . الجابري نموذجا : هاني إدريس ، البصائر : العدد 8 ، صيف 1413 ه_ -1992 م .

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية : (وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الأحزاب على عثمان أن رجلا يقال له : عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأظهر الإسلام وصار إلى مصر فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه)(1).

إنني لا أزال أتتبع حقيقة السبئية ، حتى وجدتها أبأس (تلفيقة) في تاريخ الإسلام . بحيث سرعان ما تلاشى تماسكها ، وتداعى صرحها التلفيقي . لينتهي إلى مصدر مجهول ، كمجهولية (ابن سبأ) نفسه.

والذين ربطوا بين التشيع والسبئية ، ليسوا إلا مستهلكين ، لبضاعة أموية عتيقة .

يقول د. إبراهيم بيضون : والسبئية ، أسطورة كانت أم حقيقة ، فهي على هامش التشيع ومتناقضة في الصميم مع الفكر الشيعي ، بخلفيته السياسية البحتة .(2)

لقد أجاد المؤرخون السنة ، تقنية التصوير التاريخي التركيبي حينما جعلوا من (عبد الله بن سبأ) صورة تبلغ حد الأسطورة . بحيث جعلوا منه شخصية قادرة على النفوذ في اللاشعور الإسلامي . لإعادة تشكيله . وجعلوا منه مرجعا لأفكار كانت هي المرتكز الأساسي للمعارضة ، التي تزعمها كبار الصحابة ، ضد عثمان ! . ولما كانت معارضة عثمان ، ذات مسلك جماهيري . تقدمه رجال من كبار الصحابة ، حاول المؤرخون السنة ، التلفيق على عادتهم والتهجم على أحد أكابر الصحابة ، وهو أبو ذر الغفاري واعتبروا عبد الله بن سبأ ، هو ملهم ، أفكار أبي ذر (رضی الله عنه)وهو الذي حرضه على معاوية بالشام وبالتالي على خلافة عثمان . وهم يردون بذلك القول بأن أبا ذر (رضی الله عنه) لم يكن على بينه من دينه . وكان يحتاج إلى رجل يهودي ، حديث الإسلام ، ليعلمه أحكام الدين . وليلقنه شعارات قرآنية كقوله تعالى : (وبشر الذين يكنزون الذهب والفضة) . وأبو ذر (رضی الله عنه) المعروف بتشدده في الدين إلى درجة الرفض المطلق لآراء الخلفاء، لم يكن كما

ص: 333


1- البداية والنهاية لابن كثير : 7 : 167.
2- الدولة الأموية والمعارضة : 45 ، الطبعة الثانية (1405 ه_ - 1985 م) بيروت.

صوره أولئك الذين كانوا يريدون تبرير كل الأحداث التي وقعت في عصر عثمان واختزالها ، بنوع من التعسف ، في حركة موسادية ، لعبد الله بن سبأ .

يقول د . طه حسين : ( ومن أغرب ما يروى من أمر عبد الله بن سبأ هذا أنه هو الذي لقن أبا ذر نقد معاوية فيما كان يقول من أن المال هو مال الله وعلمه أن الصواب أن يقول إنه مال المسلمين، ومن هذا التلقين إلى أن يقال أنه الذي لقن أبا ذر مذهبه كله في نقد الأمراء والأغنياء وتبشير الكانزين للذهب والفضة بمكاو من نار ، وما أعرف إسراف يشبه هذا الاسراف)(1). ثم يستطرد قائلا : (فما كان أبو ذر في حاجة إلى طارئ محدث في الإسلام ليعلمه أن للفقراء على الأغنياء حقوقا . وأن الله يبشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم ، لم يكن أبو ذر بحاجة إلى هذا الطارئ ليعلمه هذه الحقائق الأولية من حقائق الإسلام . وأبو ذر سبق الأنصار جميعا وسبق كثيرا جدا من المهاجرين إلى الإسلام . وهو قد صحب النبي فأطال صحبته ، وحفظ القرآن فأحسن حفظه ، وروى السنة فأتقن روايتها . وعرف من الحلال والحرام ما عرف غيره من أصحاب النبي الذين لزموه فأحسنوا لزومه)(2). ولكي يتبين لنا ما إذا كان أبو ذر الغفاري (رضی الله عنه) في حاجة إلى من يعلمه الدين من أهل الكتاب المندسين . ما جاء في الرواية : إن أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلى المدينة : لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يكتفي بذلك حتى يعطي السائل ويطعم الجائع وينفق من حاله في سبيل الله . وكان كعب الأحبار حاضرا هذا الحديث ، فقال : من أدى الفريضة فحسبه فغضب أبو ذر ، وقال لكعب : يا ابن اليهودية ما أنت وهذا أتعلمنا ديننا ! ثم وجأه بمحجنة)(3). يقول د. طه . حسین ، معلقا على هذه الرواية : فأعجب لرجل من أصحاب النبي ينكر على كعب أن يجادل في الدين ، ثم يتلقى الدين

ص: 334


1- إسلاميات طه حسين : 761 ، الطبعة الأولى ، شباط 1967 م ، منشورات دار الأدب بيروت .
2- المصدر نفسه : 791 .
3- راجع مروج الذهب للمسعودي .

نفسه عن عبد الله بن سبأ)(1). ثم قال : (وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة)(2). وهكذا السياسة ، أن يتحول أبو ذر الغفاري (رضی الله عنه) إلى رجل مراهق ، مشاغب ، يتحرك بالوشاية . يقول الطبري : ( إن ابن السوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك ، وإن ابن السوداء هذا أتى أبا الدرداء ، وعبادة بن ، وعبادة بن الصامت فلم يسمعا لقوله ، وأخذه عبادة إلى معاوية وقال له : هذا والله الذي بعث إليك أبا ذر ) . وقد ذكرت روايات ابن سبأ في غير مكان من تراث أهل السنة والجماعة . فقد ذكره ابن خلدون في مقدمته ، وابن الأثير في تأريخه وأبو الفداء في مختصره . إننا لم نعثر على تفاصيل شافية في هذا الباب، تخلو من التناقض أو نقص في الإسناد . إذ أن خبر (ابن سبأ) لم يجر في كتب التاريخ الكبرى مجرى المتواترات . بل وإن كثيرا من كتب التاريخ المهمة التي ذكرت أحداث هذه الحقبة ، لم تشر إليه يقول طه حسين(3).

ويخيل إلي إن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديدا . وأول ما نلاحظه إنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان ، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه . ولم يذكره البلاذري في (الأنساب) وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا . وذكره الطبري عن سيف بن عمر ، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر إن خبر (عبد الله بن سبأ) تقلص في تسلسله النهائي ، ليستقر في مصدر واحد ، هو (سيف بن عمر) وبأن كل من قال بهذا الرأي إنما رجع إليه من دون استشكال . فابن الأثير ، وهو واحد من الذين قالوا بفكرة (السبئية) أخذها من أبي جعفر الطبري . يقول بن الأثير : (فابتدأت بالتاريخ

ص: 335


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه : 760 .

الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري ، إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه ، والمرجوع عند الاختلاف إليه ، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه . لم أخل بترجمة واحدة منها(1))».(2)

وقد تعرض السيد ادريس الحسيني لدعوى الجابري وغيره في الارتباط بين الفرس والتشيع كما يزعمون ، وقد وصف هذه المقولات بالسطحية وقائليها بالسطحيين الكسالى الذين لا يجيدون حتى محاكمة ما يلقنون من أكاذيب . فقد كتب فصلا بعنوان(3): (التأثير الفارسي في التشيع) !

يقولون : بأن الفرس ما زالوا يحتفظون بالعداوة للعرب ، ولذلك تبنوا نظرية المعارضة . وجهدوا من أجل بلورتها وإعادة صيوغها . فكان أن أدخلوا في التشيع أفكارا زرادشتية ، كتلك التي تضفي على الأئمة طابعا خاصا كالعصمة ، والوصية . وقالوا بأن ذلك منسجم مع ديانتهم ، التي تعتبر (الملوك) ذوي خصائص تفوق عامة الناس . وكان تمسكهم بخط أهل البيت (علیهم السّلام) وميلهم إليهم . يعود إلى القرابة التي تجسدت في تزاوج الأئمة بالفرس (كشهر بانويه) الفارسية الساسانية ، بنت الملك (يازدجرد) آخر ملوك الساسانيين . والتي أنجب منها الإمام الحسين (علیه السّلام) الإمام زين العابدين (علیه السّلام).(4)

وهذه الشبهة ، كشبهة (السبئية) يمكن أن تؤثر على عقول مفلسة في المعرفة التاريخية. وليس ثمة عاقل يستطيع ادعاء هذه (الشبهة) من دون (رطانة) ! .

ص: 336


1- تاريخ ابن الأثير : 5 ، الطبعة المصرية ، سنة 1348 ه_ .
2- لقد شيعني الحسين (علیه السّلام): 69 - 72 .
3- لقد شيعني الحسين (علیه السّلام): 88 - 92 .
4- أقول : لقد بينت إن القائمين بالثورة على الأمويين لم يكن فيهم من الفرس إلا الأتباع وأما القيادات فهم القبائل العربية الموالية للأنصار ولبني هاشم من قبائل اليمن والعراق الذين هجرهم وظلمهم بنو أمية وقوادهم . مع العلم أن بنت الملك يزدجرد لم تكن الوحيدة التي تزوجت ابن علي بن أبي طالب عليهما السلام ، بل هن ثلاثة حررن من قبل الخليفة عثمان تكريما لهن وتزوجن أبناء (أبي بكر) و (عمر) و (علي) . ولكن تأبى العقلية الطائفية إلا النظر بعين عوراء.

فلا بد أن يفتشوا لنا في التشيع عن مواطن تجلي الفكر (الثنوي) الفارسي ، وأين مقولتا النور والظلمة اللتان تعتبران ركنا في العقيدة الثنوية الفارسية ، وأساسا للمذهب الزرادشتي ! ؟

وربما قالوا إن هذا الفكر ، تسرب بفعل التأثير الغنوصي على التشيع . والذين لفقوا فكرة (الغنوصية) والقوها على (التشيع) هم بلا شك قوم سطحيون . أو كسالى لا يتعبون أنفسهم ، لإقناع أتباعهم . ولعل وجود بعض نقاط التشابه والتجانس في بعض مفردات الأديان والفلسفات ، تجعل بعض قصار النظر يتهمون التشيع بالغنوصية أو الزرادشتية . والظاهر أن الذين نسبوا التشيع إلى الحركة الغنوصية هم الذين اطلعوا على الجانب (العرفاني) من التشيع ، كما تجلى في أسفار صدر المتألهين ، وكذلك عند السهروردي .

وليست الغنوصية في اصطلاحها الأول سوى جنوسيس العرفان ، وهو الاسم الذي أطلقه الغنوص على أنفسهم في القرن الثاني للميلاد . وهو مذهب منتقى من كثير من الاتجاهات الفلسفية والدينية ، كالزرادشتية والأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية ووجود أشكال من الاعتقادات كوحدة الوجود ، وهي أساس الاعتقاد الثنوي الزرادشتي ، وهذا لا يعني أن التشيع هو صنيعة لهكذا مذاهب .

إذ أن العرفان الشيعي كالتصوف السني ، لا يمثل أساس المذهبين ، وأن العرفان الشيعي لا يختلف عن التصوف السني ، فهذا الأخير ، منه تأثر العرفانيون الشيعة . وابن عربي ، المالكي ، السني ، أكثر الذين قالوا بوحدة الوجود ، وكذا بن سبعين . أما باقي الأفكار الغنوصية ، كالهلانية، والفيثاغورية . فليس لها أثر على التشيع إطلاقا . بقدر ما توجد بعض مفرداتها في المذاهب الأخرى ، ولم أكن أتصور كيف ربط بعض (مهرجي) التأريخ ، بين التيار الفارسي والشيعي ، معتبرين الأول أساسا وروحا للثاني . ولم نفهم بعد ذلك أين كان الفرس يوم (الجمل) وصفين ، والنهروان وكربلاء . وهي حروب إسلامية بين الشيعة ومعارضيهم من العرب . ويرى أصحاب هذه الرؤية ، إن سبب ذلك راجع ، لضعف الفرس أمام العرب ، وعجزهم عن الاستقلال الذاتي . فكانوا

ص: 337

يعملون على دعم تيار أهل البيت (علیهم السّلام) من أجل القضاء على دولة الخلافة ، كتمهيد لاستقلالهم بينما التاريخ يثبت أن الفرس استطاعوا بعد مئة سنة من فتح (فارس) بناء قوة عسكرية . هذه القوة هي التي أسقطت الدولة الأموية وسلمتها للعباسيين . وكانوا حريين بأن يستبدوا بها ، أو لا أقل ، يلتمسوا من خلالها استقلالهم الذاتي(1) . ولم يكن الفرس يخططون للاستقلال عن الخلافة إلا في العصور المتأخرة ، حيث بات وضع الخلافة نزاعا إلى العروبة أكثر من التزامه الإسلامي ! وبعد ما واجهه الأعاجم من مضايقات وانتهاكات لحقوقهم في ظل الخلافة العثمانية المتأخرة ! .(2) وبقي أغلبية المجوس على دينهم طوال الخلافة ، حتى إذا استقلوا دخل أغلبهم إلى الإسلام ، وحسن إيمانهم ... فقد بدأ الاستقلال السياسي منذ أوائل القرن الثالث الهجري ، وكان كثير من الفرس باقين إلى ذلك الحين على ما لهم من دين من المجوسية والمسيحية والصابئية وحتى البوذية)(3) بينما إيران في زمن استقلالها ، وبالضبط في العهد الصفوي ، دخل أغلبها الإسلام(4). وبقي الفرس المسلمون ، متشددين ضد الأفكار الثنوية والمجوسية إلى أن أسقطوا آخر قلاع

ص: 338


1- أقول : أن الفرس لم يكونوا قادة في الثورات على الأمويين.
2- أقول : لتصحيح المعلومة فان الفرس تحكموا في دولة العباسيين بعد 100 سنة من قيامها بسبب العباسيين أنفسهم ، حيث كانوا يستبعدون العرب من القيادات ، ويتناوبون مرة مع الترك ومرة مع الفرس ، وأما بعد الغزو المغولي فلم يكن الفرس هم القادة حتى أهدى تيمورلنك منطقة أردبيل للسيد صفي الدين العاملي الطرابلسي جد الصفويين ، ومن ثم بنى الصفويون الشاميون دولة مناوئة للعثمانيين ، ولعل المناوئة كانت على أساس وراثة العداء المغولي مع إخوانهم العثمانيين (وهم من أصل مغولي أو تتاري - أيضا) وقد يضاف إليه المقدار الهائل من الطائفية التي مارسها العثمانيون ، التي لم تسمح لأي معتز بعقيدته أن يصافحهم على جرائمهم العنصرية والطائفية، حيث دمروا غير الاتراك في العالم الإسلامي ، ودمر وحقر الشيعة والكثير من المذاهب غير المذهب الحنفي على ايدي العثمانيين ، وقد كان هناك تحالفا إيرانيا (شيعيا) ومصريا (شافعيا) ضد العثمانيين في عدة فترات بسبب عنصريتهم وطائفيتهم.
3- إيران والإسلام ، مرتضى المطهري : 93 .
4- الذين اعتمد عليهم الأمويون في قتل آل البيت كانوا عناصر أعجمية ومنها بعض الفارسين وشمر بن ذي الجوشن ، الذي قطع رأس الحسين (علیه السّلام) كان فارسيا .

الإمبراطورية الإيرانية ليعيدوا للإسلام مجده ويحرروا (اللغة) و (التاريخ) العربيين من الأسر (الشاهنشاهي) ولم تكن لدى الفرس مواقف غير متوازية في تعاطفهم مع الأئمة. وأمهاتهم . ولم تكن (شهربانويه) بأفضل من (نرجس الرومية) أم الإمام المهدي ، في التصور الفارسي الإسلامي(1).

لقد بدأ الانحراف يبدد التصور الأموي والعباسي ، للعنصر الأعجمي . وظنا أنهما ملكا الشعوب والأعراف الأخرى ، بعروبتهما وإسلامهم . فراحا ، يكبران أمر العروبة ، فارضين أعرافهما على الشعوب الأخرى . والعنصر الفارسي العريق في الحضارة والتمدن ، لم يكن ليسمح للعربي بأن يستذله ويستعبده . لذلك اشرأبت الفتنة بعنقها ، وطلت . فانبعث الصراع بين النزوع الأموي وبعده العثماني القومي وبين النزوع الفارسي، الذي كان مستاء من الانحراف في الخلافة ، منحازا بذلك إلى محور آل البيت (علیهم السّلام)! يقول الأستاذ مرتضى المطهري(2) : (وإن أكثر أهالي طبرستان وشمال إيران كانوا لم يتعرفوا على الإسلام إلى ما بعد القرن الثالث ولذلك فهم كانوا يحاربون عساكر الخلفاء . وبقي أكثر أهالي كرمان إلى ما بعد عهد الأمويين على المجوسية . وكان أكثر أهل فارس وشيراز على عهد الاصطخري (صاحب كتاب المسالك والممالك) من المجوس) .

ولم يكن التشيع من إبداع الفرس إلا عند مهرجي التاريخ ، والعرب سباقون إلى التشيع . وهم . الذين أدخلوه إلى فارس . والدليل على ذلك ، إن معظم علماء السنة الكبار في التفسير والحديث والأدب ، واللغة . هم من فارس . وبقيت إيران على السنة الأموية في سب علي (علیه السّلام) ولعنه في المساجد وعلى المنابر . بل إن بعض المدن الإيرانية رفضت أن تحيد عن لعن الإمام علي (علیه السّلام) في عهد عمر بن عبد العزيز . وأبت الاستجابة لقراره كأصفهان ! .

وارتبط الفرس بعدها (بعد تلك الفترة) بالأئمة ، وقدموا كل من ينتسب إليهم من (السادة)

ص: 339


1- المصدر السابق .
2- الإسلام وإيران : 1 : 92 ، ترجمة : محمد هادي اليوسفي الغروي ، قسم العلاقات الدولية منظمة الإعلام الإسلامي.

العرب . وأحيوا اللغة العربية أكثر من العرب . ومنهم روادها الكبار مثل سيبويه النحوي ، وصاحب القاموس المحيط الفيروز آبادي ، والزمخشري رائد البلاغة . وخصتهم النبوءة الرسولية ، بمديح خاص ، وربطت مصير الإسلام بهم . ومما ورد فيهم من القرآن ، إنهم القوم الذين قال فيهم الله تعالى : ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد : 38] .

ذكر الزمخشري في تفسيره إنه سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن القوم ، وكان سلمان الفارسي إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، وقال : «هذا وقومه والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطا بالثريا ، لتناوله رجال من فارس»(1).

وذكر الرازي في تفسيره : روي أن الرسول صلى الله عليه وآله سئل عمن يستبدل بهم إن تولوا ، وسلمان إلى جنبه فقال : «هذا وقومه ثم قال : لو كان الإيمان منوطا بالثريا لناله رجال من فارس»(2).

ومثل ذلك ذكر ابن كثير في تفسيره ، إذ قال ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة : قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله تلا هذه الآية ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ قال : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي (رضی الله عنه) ثم قال : «هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا ، لتناوله رجال من الفرس»(3). وذكر صاحب التبيان : «وقيل : مثل سلمان وأشباهه من أبناء فارس ، ولم يجز الزجاج أن يستبدل الملائكة ، لأنه لا يعبر بالقوم عن الملائكة ، لا يكونون أمثالكم ، لأنهم يكونون مؤمنين مطيعين، وأنتم كفار عاصون».(4) وكذلك أخرجه الترمذي والحاكم والطبري وابن حبان .

ص: 340


1- الكشاف للزمخشري : 4 : 330 : تفسير سورة محمد ، الآية : 36 - 38 ، دار الكتاب العربي بيروت.
2- التفسير الكبير للرازي : 28 : 76 ، دار الكتب العلمية ، طهران .
3- تفسير ابن كثير : 4 : 196 ، دار القلم بيروت.
4- التبيان الطوسي : 9 : 311 ، دار إحياء التراث العربي .

وإخلاص الفرس للإسلام ، ما زلنا نراه في وضح النهار ، في إيران وأفغانستان وسبق الفرس العرب اليوم في تشكيل دولتهم الإسلامية وفكروا في تصدير الثورة والوعي الإسلامي إلى باقي الشعوب العربية ، وهذا هو عين الإعجاز في نبوءة القرآن. وبالنتيجة ، تتلاشى النظرة التعسفية للتاريخ الإسلامي ، تلك التي تصور الفرس على أساس إنهم هم الذين اختلقوا (التشيع) بحكم عدائهم للإسلام والعرب . وهاهم دون الرجوع إلى التاريخ بإمكانهم الرجوع إلى مجوسيتهم ، وهم في موقع قوة . ولو فعلوا ذلك ، لأراحوا أطرافا عربية ، ولكنهم لا يفعلون ! فالتشيع في النهاية ، هو الصيغة التي احتوت المسلمين الطلائع ، المعارضين للخلافة المنحرفة . وهو وليد (المدينة) والمناطق العربية ، ولم يدخل إلى إيران سوى في العهود المتأخرة ولم يزدهر التشيع في إيران سوى مع تكوين الدولة الصفوية (1502م) وسوف يتبين لنا ، إن التشيع له جذوره في عمق الرسالة الإسلامية المحمدية . وإن ما أورده الخصوم ، إن هي إلا أساطير الأولين ، أعادوا لوكها على ألسنتهم ، والله متم نوره ولو كره الحاقدون !».(1)

ص: 341


1- لقد شيعني الحسين : 88 - 92 .

نوح (علیه السّلام)

واحتمال غیبته

ينتهي النص القرآني - دائما - فيما يتعلق بالنبي نوح (علیه السّلام)، إلى نقطة رسو السفينة ، ونجاته ، وقومه الذين معه في سفينته ، ويسكت عن حياة نوح (علیه السّلام) بعد ذلك .

فهنا يتولد تساؤل مهم ، لا يتعلق فقط في طول عمر النبي نوح (علیه السّلام)، كل هذه الآلاف من السنين ، وإنما يتعلق بالتساؤل : أين كان النبي نوح (علیه السّلام)، بعد أن أسس مجتمعا جديدا ، متوسعا ، متكاثرا بمرور الزمن بعد الطوفان ؟

نحن - هنا - لا نكلم من لا يؤمن بالطوفان ، وبنوح (علیه السّلام)، بحجة أن مداركه لم تلامس ، وتشاهد الحدث ، وإنما نكلم مسلمين ، لهم ثوابت دينية ، وعقلية ، ولكنهم يشككون في مسلماتهم التاريخية ، والفكرية ؛ لأغراض خاصة بهم ، مع إنه ينبغي أن تكون مثل هذه الوقائع معلومة معروفة للمسلم ، لما تفرضه النصوص ، سواء كانت الصريحة منها ، أو ما كان مستنبطا ، استنباطا صحيحا، وفق معطيات صحيحة.

ما نلاحظه - إذن - أن النصوص الإسلامية الأساسية ، لم يرد فيها ذكر مفصل أو شارح لحياة نوح (علیه السّلام) بعد الطوفان ، وهذا أمر غريب جدا ! وغرابته تأتي من الروايات التاريخية ؛ لكونه عاش – كما قيل – بعد الطوفان 350 عام ، وقيل أكثر من 500 سنة.(1)

ص: 342


1- في عمر نوح أقوال كثيرة ، وفي بقاءه بعد الطوفان - أيضا أقوال كثيرة - وقد ذكر الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأصولها : 225 - 227 : أن أقل الروايات في عمر نوح أنه ألف وستمئة عام ، وقد وصل بها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام ، قال : «وكأنهم ينسون أو يتناسون حديث عمر نوح الذي لبث في قومه بنص الكتاب ألف سنة إلا خمسين عاما ، وأقل ما قيل في عمره : ألف وستمائة سنة ، وقيل أكثر إلى ثلاثة آلاف . وقد روى علماء الحديث من السنة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك » . انتهى . وقد أرجع الأقوال في الهامش إلى : تفسير الكشاف للزمخشري : 3 : 200 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 3 : 418 ، زاد المسير لابن الجوزي : 6 : 261 .

إن مثل هذه الفترة ، تفرض نفسها في التعاطي مع الشخصية القيادية ، والأبوية ، الحامية ، والراعية للمجتمع الجديد، الذي توسع ، وأصبح تعداد نفوسه بمئات الألوف ، إذا لم يكن بالملايين .

نعلم يقينا أن عمرا بمقدار خمسين سنة ، لإنسان نشيط في العطاء ، يمكن أن يجعل الساحات الثقافية والدينية في حالة حراك ، ونشاط غير طبيعي ، فكيف بمثل هذا العمر الطويل لنبي مؤسس؟ والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن - حقيقة - في هذا المقام هو : لماذا يسكت تاريخ البشرية عن هذه الفترة الطويلة من حياة نبي عظيم مؤسس كنوح (علیه السّلام)، المكلف بنقض أسس البناء الحضاري القديم كاملة، واستئصال كل ما يمت إليه بصلة ، وإعادة تأسيس المجتمع البشري ، وبناء حضارته ، وفق قيم جديدة ؟ خاصة إذا قيس ذلك بما ذكرته المدونات التاريخية عن إدريس النبي (علیه السّلام) (هرمس) - الذي يفترض أنه سابق على نوح (علیه السّلام).

ولو افترضنا أن مباديء ، وعلوم ، وأدبيات ، ووثائق دعوته الناس – التي امتدت طوال 950 سنة - إلى الإيمان بالله - تبارك وتعالى - وعبادته ، وإلى قيم الحق والعدل والخير ، قد فقدت بأثر الطوفان العظيم ، ولم يبق لها ذكر ، فأين هي - إذن - آثار منجزات نوح (علیه السّلام)، في الفترة التي عاشها بعد الطوفان - (350 - 500 سنة) - عاملا ومكافحا من أجل بناء المجتمع الجديد ؟ وأين هي أفكاره ، وحكمته ، وتعاليمه ، طوال تلك الفترة المديدة بعد الطوفان ، والتي ستكون – من دون شك - حافلة بالأحداث ، التي تحكمها ضرورة الاكتشاف ، والتأسيس ، والجدة ، والمغايرة لما كان قبل الطوفان ؟ .

لماذا بقيت تعاليم ، وصحف إدريس (علیه السّلام) (هرمس) تعمل بين البشر ، وبمختلف الديانات والحضارات ، ولا يوجد نص واحد ، سواء كان قصيرا ، أو مطولا ، لما بعد الطوفان ؟! ما عدا ما

ص: 343

هو مثبت ببعض كتب الإسرائيليين ، من مخاز وأكاذيب يلصقونها به ، إذ أن النبي العظيم نوح (علیه السّلام) في كتبهم ، شيخ مسن يسكر بشدة ، ويفقد الوعي ، ويضحك منه أحد أبناءه - وهو حام - فيسود لونه ، ليكون من بعد أبا للزنج ، وما شابه ذلك من خرافات ، أو أمور لا قيمة لها في مجال تقييم العباقرة ، والقادة ، وتأثيرهم ، و لا ترقى إلى مستوى الحكمة ، والمعرفة ، التي يفترض أن ينطوي عليها نبي مرسل ، ورسول من أولي العزم ، وشيخا حكيما عاش تجربة حياتية تجاوزت الألف عام ، وأب ثان للبشرية ، أعاد بناءها ، وشكل ملامح حضارتها الجديدة .

وفي مسألة غياب الإشارة الواضحة ، والدلائل ، أو الآثار التي تركها لنا نوح (علیه السّلام) بعد الطوفان ، الله وأين كان ؟ وكيف عاش ؟ احتمالات، بعضها لا يمكن أن يصدق في حق هذا النبي العظيم ، مثل أن نحتمل أنه ترك رسالته ، أو تغير طبعه ، وما شابه ذلك . والاحتمال الأقرب ، هو أنه قد اعتزل الناس ، والحياة العامة ، وغاب غيبة لا يعرف بها إلا الخاصة ، من أصحابه ، وأبنائه . هكذا يقتضي العقل ، والوجدان . ولكن هذا الاحتمال لم يرد فيه نص ديني معتمد كالقرآن.(1)

وبرغم أن العقل ينحاز لمثل هذا الاحتمال ، لكنه لم يكن مؤيدا برواية تاريخية ، أو نص أدبي قديم ، قبل اكتشاف ملحمة جلجامش السومرية ، التي تروي قصة غيبة ، واعتزال النبي نوح (علیه السّلام) بعد الطوفان ، وتنسب له الخلود . والملحمة ليست نصاً دينيا ، أو نصا موثوقا ، ولكن - مما لا شك فيه - هو قدم هذا النص ، وهو الأقرب إلى زمن نوح (علیه السّلام)، بشكل كبير ، وهو نص يدل على وجود النبي نوح (علیه السّلام)، في زمن القصة نفسها ، وأن نوحا قد نال درجة الخلود ، وهذا يعني أنه قد مضى على وجوده أكثر من ألف سنة بعد الطوفان(2).

ص: 344


1- الملاحظ ، أن النصوص الدينية المعتمدة ، والواضحة ، تتوقف عند رسو سفينة النبي نوح ، ولا تتكلم عما جرى بعد ذلك .
2- يذكر الجيولوجيون : أن هناك طوفانان ، الأول : حدث قبل أحد عشر ألف سنة ، والثاني حدث قبل تسعة إلى سبعة آلاف سنة ، ويصفون الثاني بأنه الأشد تدميرا في منطقة الشرق الأوسط . ولكن اكتشافات ألاسكا الحديثة دلت إن الطوفان الذي وقع في حدود عشرة آلاف قبل الميلاد ، هو الأعنف وهو الذي غمر الكثير من اليابسة بالمياه فقد ارتفع منسوب البحر حوالي ألف متر نتيجة سقوط جبال الجليد في القطب الشمالي نتيجة تراكم جليدي خطير يصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف متر ارتفاعا فأحدث عدم توازن في توزيع الثقل على الكرة الأرضية فحدثت اهتزازات خطيرة تهدمت فيها الجبال الثلجية وحدث تصدع كبير في صفائح الكرة الأرضية ، مما أحدث زلازل وبراكين كبرى نشرت النيران والحرائق وارتفاع درجات الحرارة في شمال أمريكا وأوربا واسيا ، فزادت عملية ذوبان الثلوج فارتفع منسوب البحر بحدود ثلاثة آلاف قدم أي ألف متر فغمرت مناطق واسعة بالمياه في أمريكا وفي أسيا وفي أوربا ، حتى أنهم يقولون بأن اليابسة كانت متصلة بين ما بعد ايرلندا وبريطانيا بأوربا ، وأول من نادى بهذه النظرية هو العالم الألماني ارنست هايكيل سنة 1970 ميلادية ، وقد أصبحت هذه الفكرة مدعاة إلهام للمفكر ألبرت انشتاين ، وهي نظرية يمكن التحقق منها في العصر الحديث ، قد ادعت مراكز البحوث أنها نظرية لها نصيب كبير من الصحة . وهذا يمكن أن يشكل جوابا لما يدعى من غرق حضارة كاملة في شرق الصين واليابان أسمها حضارة (مو) (MU Civilization) ويدعى إن غرقها كان قبل ثلاثين ألف سنة مما يعني إن الإنسانية والحضارة موجودة قبل هذا التاريخ ، وأن اصل الإنسان من تلك الحضارة ، والثغرة في هذا الادعاء هو أن الغرق الكبير قد وقع كما قلنا بما لا يتعدى 12 ألف سنة حسب مكتشفات (آلاسكا) . وهذا يجعل هذه الحضارة ضمن الزمن الحضاري الإنساني الذي اخترناه وهو بحدود 15 ألف سنة . لهذا فإن نظرية الأصل الإنساني الآتي من اليابان وشرق الصين وشعوب (الملايو) بدلالة حضارة (مو) لا قيمة لها لوجود خلل معرفي . فغاية ما يستدلون به : أن غرق حضارة (مو) المتقدمة كان قبل ثلاثين ألف سنة ، وهذا تقدم في الزمن يدل على أنهم الأصل، ولم يثبت هذا الادعاء ، والحقيقة ان الدراسات تقول أن ارتفاع منسوب المياه المسبب للغرق ، كان في حدود عشرة آلاف سنة قبل الميلاد ، وهذا حدث بعد التكوّن البشري (نزول آدم) بآلاف السنين ، فلا يمكن الاستدلال بغرق هذه الحضارة ووجودها على تقدمها الزمني وكونها هي الأصل . وقد اثبت الفحص الكروسومي العالمي للأجناس البشرية بما فيها أجناس الملايو وكل الشعوب الصفراء والحمراء والسوداء ، أن جميع أجناس البشر تعود لصفات إنسان شرق البحر المتوسط ، الأسمر المتوسط الطول والبنية ذو الملامح الشرق أوسطية المعروفة ، فلا يوجد أدلة يقينية على كون حضارة (مو) أصل البشرية . مع ملاحظة مهمة : وهي إن البحث في الحضارات الغارقة هي بحوث جديدة بدأت بشكل حقيقي قبل عشرة سنوات وهي بحوث مبنية على أسس ظنية وغير ثابتة ومتضاربة فالبحوث عن حضارة (مو) تقول أنها تنتمي لما قبل ثلاثين ألف عام ، بينما البحث في المدن الغارقة في السواحل الهندية تدعي أنها قبل تسعة آلاف وخمسمائة عام (وهذا التأريخ يتناسب مع تأريخ الانهيار الثلجي الثاني) بينما هناك مدن غارقة في البحر المتوسط يدعى أنها قبل الميلاد بحدود ألفي عام ، وهذا يدل على عدم وجود رؤية واضحة لتأريخ هذه الحضارات ، ولكن من المؤكد أن هذه المدن الغارقة تكذب دعوى عدم وقوع الطوفان العام ، والاستهزاء بالكتب المقدسة ، فإذا لم يكن هناك طوفان عام فلماذا غرقت هذه المدن في مختلف القارات ؟ فهل بنيت تحت الماء في أول بناءها ؟ فهذه المدن تكذب دعاواهم وتثبت حقيقة الطوفان.

ص: 345

كل هذا يعطي للقصة بعدا منطقيا ، وإذا أضفنا التطابق الكبير في أجزاء قصة الطوفان ، وما قبلها ، مع النص الديني الاسلامي المعتمد ، تكون ذات بعد أقرب للتفكير بها . وهذا التطابق أصبح عند الغربيين عبارة عن أصل خرافي للقصة القرآنية ، من دون أن يعرفوا عدم اتصال الرسول محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بتلك الحضارة ، وبغيرها من الديانات، بل عدم اتصال مجتمع النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)بكامله ، بأي نوع من الحضارة ، فضلا عن اتصاله بحضارات متطورة .

وهذا التطابق - من وجهة نظر المسلمين - يعطي لقصة جلجامش ، بعض المصداقية ، وقد يدعوهم إلى مراجعة الترجمات ، التي ربما قد تكون أخلت بالنصوص الحقيقية ، بحيث خرجت عن إطارها الصحيح إلى إطار وثني ، فتطابق النصين ، يدعونا للتأمل في كل هذه الترجمات ، مما يجعلنا نميل إلى ما نشر مؤخرا ، من كون الترجمات لم تكن دقيقة تماما ، وأن القصة في الأساس توحيدية ، تم التلاعب ببعض ألفاظها . وهذا ليس من شأننا - هنا - ولكن هذه الإلماعة ، مهمة لما في التعارض بين شخصية النبي نوح التوحيدية ، وشخصية الحكيم الذي قصده جلجامش ، والذي روى له ما حدث في قصة الطوفان .

والتعارض - في الحقيقة - أمر جوهري، وهو يتركز في نقطة أساسية ، إذ أن الذي حدث معه الطوفان ، ونبهه الله إلى صناعة السفينة ، وحمل الأزواج من الأحياء لحفظ نوعهم ، هو وثني ، ومتعلق بآلهة وثنية ، وهذا يستحق التنويه إلى الاحتمال السابق ، بالنسبة للترجمة . وأما ما وقع بها من اختلاف ، فيمكن أن يكون محلولا ، بطرق عقلائية : مثل كون الناجي معه زوجته - مع أن القرآن يقول : أن زوجته هلكت - أنها زوجة ثانية خصوصا ، إذا علمنا أن سام بن نوح ، ولد قبل الطوفان ، وإن بقية أبنائه ، ولدوا بعد الطوفان ، وهكذا يمكن حل الكثير من التعارض الظاهري في بعض خصوصيات القصة.

ص: 346

بقي أمر مهم ، وهو كيف عرفنا أن حكيم قصة جلجامش (أو تنا بشتم) هو نفسه النبي نوح (علیه السّلام)؟

كل الباحثين يقولون : إن تطابق قصة فريدة ، لشخص فريد في العالم ، يحدث معه هذا الحدث الفريد ، يعني اتحاد الشخصية .

فإذا أضفنا تصريح المسلمين ، وأصحاب الديانات الأخرى أن كلمة (نوح) لم تكن اسما للنبي ، بل هي صفة أطلقت عليه ، وإن اسمه مختلف فيه ، أو غير معروف ، فلا يوجد أي تعارض ، يدفع هذا التطابق في الشخصية.

في نص ملحمة جلجامش ، ما يشير إلى أن جلجامش ، يروي أنه سعى للقاء النبي نوح ، الذي يسميه (أو تنا بشتم Utanapishtim)(1) . فقد ورد في القصة : أن اتنابشتم ، مختف في جزيرة ، لا يصلها أي أحد ؛ لأنها وسط بحر مميت ، وإنه كان خالدا ، وقد التقاه جلجامش في تلك الفترة 1600 - 2500 قبل الميلاد (التاريخ مختلف فيه ، ولا أراه دقيقا) وهذا يعني : أنه التقاه بعد ألفى ألفي سنة من ولادته - تقريبا - حسب تسلسل التاريخ الإنساني ، والحضاري . والقصة تؤيد الاحتمال العقلي بأن النبي نوح (علیه السّلام)، غاب عن قومه ، واعتزل بعد الطوفان ، بفترة غير معلومة ، وبقي حيا فترة طويلة .

ملخص قصة جلجامش حسب النسخة الآشورية :

إن جلجامش ، الفتى السومري ، أراد أن يعمل شيئاً بطوليا ، يخلد ذكراه ، ويجعله مثار إعجاب الأبطال ، فقرر أن يفاتح (أنكيدو) صديقه ، ونده في القوة لهذا الفعل الشجاع ، وقرر محاربة الغول (خمبابا) في غابة الأرز الغربية (في الترجمة الغربية [جبل لبنان]) . وبعد مغامرة إقناع لأنكيدو ، ولحكماء المدينة ، وسفر خطير ، اجتازا المخاطر العظيمة ، فقطعا رأس الغول في الغابة الغربية ، وقدماه قربانا للشمس ، فتعشقته الإلهة (عشتار) وأرادت إغراءه ، فرفض ؛ لأنه يعتقد أنها

ص: 347


1- سيأتي أن التطابق بين القصتين يفرض اتحاد الاسمين المختلفين ، مع أن اسم نوح ، ليس اسما ، وإنما هو صفة ، كما ورد في الروايات ، فيمكن أن يكون أو تنا بشتم اسما ، بينما نوح صفة ، فلا تعارض .

خانت معشوقيها السابقين ، وردا على الإهانة ، دبرت له عشتار مكيدة ، وبعثت (الثور السماوي) ليعيث فسادا في المدينة ، فتصدى له الصديقان ، جلجامش ، وأنكيدو ، فقتلاه ، وقدما قلب الثور السماوي قربانا ، ولكن الآلهة ، غضبت فقررت موت أحد البطلين ؛ لأنه قتل ثورا سماويا ، وتم اختيار أنكيدو ، فمات.

وهنا حزن جلجامش ، وبدأ يفكر في الموت ، وسر الحياة ، وازداد قلقه لهذه الفكرة ، وبدأت في حياته رحلة جديدة ، وأخذ يطلب الحياة ، والشباب ، ففكر في الوصول إلى (نوح) الذي تسميه الملحمة : (اتنا بشتم) Utanapishtim) ليسأله عن سر الخلود ، الذي هو فيه . وبدأ السعي الفعلي ، لهذه الرحلة الخطرة ، والعجيبة .

تعرف جلجامش على ساقية الآلهة : (سيدوري) التي تعرف الطريق إلى جزيرة (أو تنا بشتم) - أو النبي نوح حسب المطابقة الإسلامية للقصة – وبعد تعارف معها ، تخبره بوجود الملاح الخاص ، الذي يعرف طريق الجزيرة التي يسكن فيها (أو تنا بشتم) مع زوجته ، خالدين . فيأتي إلى الملاح ( أورشنابي ( مسرعا ، فيتعثر ، ويدوس على الألواح السحرية (المطلسمة) التي تحفظ المركب ، حال السفر في بحر الموت ، فتتكسر الألواح ، التي فيها الطلاسم الحافظة للمركب من مخاطر الموت في البحر . وحين طلب منه الوصول إلى ( او تنابشتم ) قال له : إن الألواح الحافظة للرحلة ، قد تكسرت فلا يمكن الآن ، ولكن الملاح خطرت له فكرة ، وهي : أن يقود جلجامش المركب ، بطريقة تجعله لا يمس الماء المميت ، فاخترع له أعوادا طويلة هي (المردي في أهوار العراق الجنوبية ( يدفع بها المركب ، وهكذا وصل إلى (اتنا بشتم) وسأله عن سر الخلود ، فحدثه (اتنابشتم) عن قصة الطوفان ، بتفصيل مقارب للتفصيل القرآني (طغيان الناس ، وكفرهم بالله وإخبار الله له بوجوب صنع بوجوب صنع سفينة ، يحمل بها الأجناس الحية لبقائها ، وحدوث الطوفان الرهيب ، ثم رسو السفينة على جبل ، ومدح الله له ، ونجاة الجنس البشري) وأن الآلهة منحته الخلود ، هو ، وزوجته جزاء ذلك .

بعد إلحاح جلجامش بطلب سر الخلود ، أشفقت زوجة نوح على جلجامش ، البطل ، الفتى ،

ص: 348

فطلبت من نوح أن يعلمه طريقة معرفة سر الخلود ، فعرفه طريقة أخذ عشبة الخلود من قاع البحر ، فسارع جلجامش إليها ، ووصل لها ، وحازها ، بعد ألم وجروح ، ولكنه في الطريق نزل يستحم في النهر ، فجاءت أفعى ، فسرقت عشبة الخلود . وخسر جلجامش الخلود نتيجة تفريطه ، وشعر - متيقناً وحزيناً - أن مصير الإنسان الفناء .(1)

ص: 349


1- إن أفضل ترجمة للملحمة هي ترجمة المرحوم الأستاذ طه باقر ، ولكن يلاحظ على الملحمة أمور منها : إن النسخ الأصلية للقصة تالفة ، ولم تكن واضحة المعالم ، ومنها : إن النسخة المعتمدة هي الألواح الفخارية في مكتبة آشور بانيبال في الموصل ، وهي قصة مترجمة عن الأكدية إلى الآشورية ، وكان آشور – كما يبدو - وثنيا ، والقصة فيها ملامح من الوثنية ، وهنا يرد في الذهن أن في النسخة الآشورية ، تحريفا ، يتطلبه دين ، وفكر ، وعواطف الآشوريين ، حين ترجموها ، بينما اللغة الأصلية للملحمة هي اللغة الأكدية ، وهذا ما أكده طه باقر ، حين قال : (إن النص الأكدي أفضل من النص الآشوري ، وفيه غنى مختلف) ومنها : إن هناك ملاحظات على الآثاريين ، الذين ترجموا النص الآشوري نفسه ، وهي أنهم يفسرون النصوص - جميعا في الغالب - بمفردات وأفكار وثنية ، فهم يستبدلون كلمة الملائكة ، بالآلهة ، والإله ، بالآلهة بالجمع ، وغير ذلك ، من تحريفاتهم . (مع وجود مناقشة في تفسير كلمة (إيل) الملحقة بالكلمات المقدسة القديمة ، فهل هي تعني الله ؟ أم تعني التعريف ، كما في (أل) التعريف العربية ؟ وعلى أية حال - فإن إلحاق كلمة (إيل ، أو ثيل) بالأسماء في تلك الديانات ، لم تكن مصدر وثنية ، كما يحاول تفسيرها الآثاريون ، والمؤرخون ، فكلمات مثل : جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، وإسرائيل ، لم تكن معناها آلهة ، أو إنها الآلهة المختصة ، بكذا ، وكذا ، وإنما تعبر عن أسماء مرتبطة بالله ، كعبد الله ، ومجد الله ، وكرم الله ، عندنا في اللغة العربية . ولهذا ، فلا يمكن الركون إلى فهمهم للقضية) . وفي كتاب موجز تاريخ العراق القديم ، ما يؤيد وجود هذا النحت ، في اللغة السومرية ، وإنه أساس لغة السومريين ، قال : (ولغة السومريين ، وهم أصحاب أقدم حضارة أصيلة متطوّرة في العالم ، من اللغات التي تعرف بالملتصقة Agglutinative . ومن خصائص الإلصاق فيها أنه كثيرا ما يدمج مفردتين ، لتصبحا كلمة واحدة ، يستند معناها إلى معاني الكلمات الداخلة في تركيبها ، مثل (لوكال) أي : الملك ، المكونة من (لو) أي : الرجل و (كال) أي : العظيم ، و (إي - كال) تعني : القصر ، أو الهيكل ، مكونة من كلمة (إي) وهي البيت ، و (كال) العظيم . ثم إن الجمل فيها تتألف - أيضا - بطريقة إلصاق الضمائر ، والأدوات إلى جذر الفعل، بحيث يصير الجميع كلمة واحدة » يمكن أن يراجع في كل ذلك : http : //www . Iraqi government . org/iraqibreif . htm. ويظهر أن الآثاريين ، يعتقدون أن جميع الديانات السابقة ، هي ديانات وثنية ، فيبنون تحقيقاتهم على ذلك ، وهذا خطأ ، إما جهلا ، أو تعمدا فالبشرية تعرف الديانات، والحضارات التوحيدية، منذ فترات طويلة جدا ، وقد وصل بهم الأمر ، أن يصوروا الديانات التوحيدية ، بأنها وثنية ، فحتى حين يترجمون نصوصا يهودية توحيدية ، يتكلمون عن الآلهة ، وليس عن الله . بل قد وجدناهم يعرضون بالإسلام ، والقرآن في بعض الأحيان ، بأنه دين قريب من الوثنية، لتوهم تعدد في الآلهة يشتقونه من فهمهم للألفاظ ، أو من أحداث ، وشخصيات يعتقدون بأنها أصل الإسلام ، مثل كون المسيح الدجال ، كان صحابيا ، ومشاركا في الفتوحات الإسلامية ، مع إن الدين الإسلامي ، هو إن الدين الإسلامي، هو من حارب الوثنية ، وقضى عليها في الجزيرة العربية ، وغيرها من المناطق التي ساد فيها. وهنا لي ملاحظة وهي : إن قصة جلجامش، بما هي هي ، لا يمكن الجزم بواسطتها ، أنها صدرت من موحد ولكن لا يمكن الوثوق بهذا الحجم من الوثنية ، التي تنسب لنبي التوحيد نوح (علیه السّلام). حيث يفصل صراع الآلهة ، وتفصيل مراتبهم ، ومهامهم ، إلا إذا كان المقصود بذلك الملائكة ، وليس الآلهة ، بالمفهوم الوثني ، كملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، وقد ترجمت خطأ باسم الآلهة . وان ما يصوره صراعا ، إنما هو حوار ملائكي ، كما حدث مع آدم . وأما المعلومات عن شريعة نوح (علیه السّلام)، التي وردت في الإسلام ، فقد لخصها الإمام الباقر (علیه السّلام): «كانت شريعة نوح (علیه السّلام)، أن يعبد الله بالتوحيد ، والإخلاص ، وخلع الأنداد ، وهي الفطرة ، التي فطر الناس عليها ، وأخذ ميثاقه على نوح (علیه السّلام)، والنبيين أن يعبدوا الله ، ولا يشركوا به شيئا ، وأمره بالصلاة ، والأمر ، والنهي والحرام والحلال ، ولم يفرض عليه أحكام حدود ، ولا فرض مواريث ، فهذه شريعته » محمد الريشهري : ميزان الحكمة : 4 : 3040 .

والقصة بما هي ، لا يمكن اعتمادها دينيا ، ولكن فيها قضية مهمة ، وهي اعتمادها على مسلمة شعبية - على أقل تقدير - لقضية يسلّم بها المسلمون ، وكل المتدينين بالديانات السماوية ، وهي قصة طول عمر نوح ، وبقاءه فترة طويلة جدا تراوحت بين 350 إلى 500 عام ، بعد الطوفان(1) بالإضافة إلى تفسير ظاهرة عدم التواصل معه ، كل

ص: 350


1- يفهم من خلال أحداث ، وتواريخ ملحمة جلجامش ، أنهم يؤمنون ببقاء نوح آلاف السنين ، بعد الطوفان فجلجامش عاش في حدود 2700 قبل الميلاد ، وقيل ربما 4000 قبل الميلاد ، ولكن الملحمة ، كتبت في حدود 2700 قبل الميلاد ، والطوفان الكبير حدث بين فترة 12000 - 7000 قبل الميلاد . والفرق واضح ، بين أقصى ما يمكن لذكر تأريخ ملحمة جلجامش ، وأقل ما يمكن لتأريخ الطوفان المدمر ، وهو كما يتضح بحدود ثلاثة آلاف سنة . فكيف إذا أخذنا بأبعد تأريخ للطوفان ، وأقرب تأريخ لملحمة جلجامش؟

هذه الفترة ، بالاختفاء ، والاعتزال، وربما الغيبة ، وهو ما يعطي بعدا منطقيا ، وجوابا شافيا ، لانقطاع الاتصال ، والخبر الحقيقي عنه . فتكون هذه القصة قد سدت فراغا معرفيا يحدث خللا كبيرا في دراسة حياة النبي نوح .

إن هذا الاختفاء ، والابتعاد عن الناس مع البقاء حياً ، هو الغيبة بذاتها.

ففكرة غيبة النبي نوح واختفاءه - إذن - كانت سائدة في زمن جلجامش . وهذه لم تكن وليدة خدعة ، أو غير ذلك ، وإنما هي وليدة الواقع ، أو إنها - على أقل تقدير – نتيجة المسموعات المنقولة ، بين المجتمعات إلى درجة الشياع . خصوصا إذا أضفنا تطابق قصة الطوفان ، مع ما ورد في القرآن الكريم ، مما يوحي بالمصداقية لها ، للمنقول عن نوح (علیه السّلام) (أتنا بشتم Utanapishtim).

فلنقل : إن ملحمة جلجامش خيالية ، ولعلها كذلك.

ولكن كاتبها أو راويها ، اعتمد - في جزء منها – على شياع معرفي ، لقصة وردت في الأديان السماوية الثلاث ، المتأخرة عن زمنه ، بزمن طويل جدا . وبنى عليها خياله ، وهذا يثبت أصل قضية الطوفان ، وصاحبها . وأن لها جانب موضوعي ، لا يمكن إنكاره . ولا يمكن أن ننسى ، إن زمن نشوء القصة ، كان في زمن وجود النبي نوح (علیه السّلام) ، وفي أواخر أيامه - كما يبدو - أي منذ أكثر من أربعة آلاف سنة ، هذا من ناحية موضوعية ، ومعرفية(1).

ص: 351


1- لا استغرب كباحث ، أن تكون ولادة نوح بحدود عشرة آلاف سنة قبل الميلاد . وليس قبل ستة آلاف سنة كما هو نصوص التوراتيين . وذلك للخلاف في نشوء خلقة آدم (علیه السّلام)، هل هو قبل 12 ألف سنة أي بحدود 15 ألف سنة ، لما يقتضيه تتبع نشوء الإنسان الحالي ؟ أم قبل سبعة آلاف سنة ، لما تقتضيه نصوص المؤرخين؟ إن الحفريات ، والأدلة تشير إلى وجود هذا الإنسان ، في بيئات سكنية ، ومستوطنات ، أنشئت بشكل حضري ، وعلى شكل قرى ، عرفت تدجين الحيوانات ، والعمل الزراعي ، والمجتمع المنظم ، بحدود الألف التاسع قبل الميلاد ، أي : قبل أحد عشر ألف سنة ، ثم توالت مظاهر التحضر تباعا ، كما هي اكتشافات في قرى مثل : زاوي جمي، شانیدار ، ملفعات ، قرمز ،درة، نمريك، وقرية جرمو ، وهنا أنقل ما قاله في موجز تاريخ العراق القديم، والذي يدل على وجود الإنسان المتحضر ، قبل أحد عشر ألف سنة ، كما هو بين في هذا النص : «بدأ عصر الزراعة في بلاد الرافدين ، وهو أول عهد للإنسان بتعلم الزراعة ، بحدود سنة 9000 قبل الميلاد ، وتطور حوالي سنة 5500 قبل الميلاد . في قرية (جرمو) في شمالي العراق ، في أواسط العصر الحجري الحديث . ومن البديهي ، أن تكون الزراعة عصرئذ محدودة ، وعلى نطاق ضيق جدا» . [العراق في التأريخ : بقلم د. عبد العزيز حميد صالح] وتعليقي على هذا النص : إن سر العثور على التطور في منطقة (جرمو) دون المناطق السومرية الدافئة ، هو أن (جرمو) في منطقة مرتفعة ، ولعلها لم يدفنها طمي الطوفان ، كما دفن مناطق (سومر) فضاعت به آثار القرى الزراعية ، قبل ذلك بآلاف السنين . والعلم ، والعقل ، يستنتج إن الإنسان انتقل من المناطق الأكثر تكييفا للمعيشة جنوبا ، إلى المناطق الباردة الأقل تكيفا للمعيشة في الشمال ، ك_(جرمو) وغيرها ، نتيجة كوارث طبيعية ، كالطوفان ، أو غيرها (أو لاحتمال ان تكون (جرمو) وغيرها قد نشأت بعد الطوفان متفادية المناطق المنخفظة وهذا احتمال وارد اذا ثبت ان الطوفان كان قبل 12 ألف سنة (وهذا بشكل عام يعني عدم صحة نظرية التوراتيين ، في تقدير عمر البشرية ، والتي تقول : إن البشرية - منذ نزول آدم - لها سبعة آلاف سنة فقط ، ومما يؤيد ما ذهبنا إليه (لقد قمت بدراسة مستقلة في عمر البشرية بشكلها الإنساني الحالي فلم استطع أن ابعد أكثر من 15 ألف سنة وهذا يساعد على استيعاب زمن الطوفان الأول والثاني كما سيتبين) هو إن الدراسات الجيولوجية ، أوضحت وجود طوفان مائي رهيب في العراق ، قبل أحد عشر ألف سنة ، وقد نشرت الويكوبيديا ، معلومات أرادت نفي الطوفان الأرضي ، فأثبتته . قال : «تشير الأبحاث الجيولوجية ، واستنادا إلى دراسة المتحجرات ، وعلم طبقات الأرض ، إن هناك دلائل على حدوث فيضان، في منطقة الشرق الأوسط، في العصور القديمة ، ولكن الأبحاث ، لم تؤكد المعتقد الديني السائد ، إن الطوفان المذكور ، قد شمل جميع أصقاع الأرض . وتشير دراسات من جامعة كولومبيا ، في الولايات المتحدة ، إن البحر الأسود ، كان عبارة عن بحيرة في العصر الجليدي ، وإن درجة حرارة الأرض بدأت بالارتفاع قبل حوالي 12000 عاما ، وبدأت الكتل الجليدية بالذوبان ، وإنه قبل ما يقارب 7000 عاما ، حدث امتداد لمياه البحر المتوسط ، وحدث طوفان باتجاه تركيا ، وكانت قوة الطوفان ، معادلة لما يقارب 200 مرة ، قوة شلالات نياجارا . وتشير دراسة المتحجرات ، إلى حدوث سلسلة من الفيضانات ، بين عامي ، بين عامي 2000 إلى 4000 قبل الميلاد، في ما كان يسمى سابقا بلاد ما بين النهرين ، والتي كانت تشمل الأرض الواقعة ، بين نهري دجلة والفرات، بما في ضمنها أراضي تقع الآن في سوريا، وتركيا، والعراق ، وإنه من المحتمل جدا ، أن تكون قصة الطوفان ، قد نشأت عن إحدى هذه الفيضانات ، وتركت آثارا واضحة في كتابات ، وأساطير ، ومعتقدات هذه المنطقة ، في الشرق الأوسط» . أقول : وهناك معلومات أكثر دقة من هذه المعلومات تشير إلى وجود اضطراب في قشرة الأرض وفي حركتها في تلك الفترة أدى إلى انهيار الجبال الجليدية الكبرى وارتفاع منسوب مياه البحر أكثر من ألف متر وغرق مساحات كبرى من اليابسة ، فدعوى عدم الدليل على وجود غرق شامل في الكرة الأرضية لا تساعد عليه التحقيقات العلمية بل التحقيق يدل على غرق قارات وأراض كبرى حتى إن أكثر من ثلث أوربا القديمة قد غرق وهو الآن تحت البحر ، وهذه الإثباتات عن العثور على حضارة (مو) الغارقة قبالة السواحل الشرقية لكوريا والصين ، والمدن الغارقة في سواحل الهند وفي سواحل أوربا والبحر المتوسط ، فكيف تدعي الموسوعة عدم وجود دليل على شمول الطوفان للأرض؟ أنه نوع من الكذب العلمي والسطحية للتشويش على الأديان السماوية . أقول : إن وصف هذا الانهيار الجليدي الهائل، والذي أحدث موجة مياه عالية جدا ، ك_(تسونامي) بارتفاع آلاف الأمتار كفيل بأن يمتد ليشمل جميع الأرض . وهذا الانهيار ، هو الذي يتوافق مع وصف كارثة بشرية ، شملت جميع الأرض أو لنقل الأرض القديمة ، المأهولة بالسكان . وإذا كان الطوفان الكبير ، قبل اثنا عشر ألف أو سبعة آلاف عام (بالتحديد عشرة آلاف قبل الميلاد أو سبعة آلاف قبل الميلاد) وإن جلجماش عاش في الفترة 2500 قبل الميلاد ، فبهذا يكون نوح قد عمّر كثيرا بعد الطوفان ، بما قد يقارب عدة آلاف من السنين ، بناءً على هذه المعطيات ، فلو كان باقيا لزمن جلجامش ، فقد كان عمره الإجمالي ، أكثر من أربعة آلاف عام . والله اعلم .

ص: 352

وقد يناقش البعض ليقول كيف يثبت أصل القضية ؟ وهي قصة خيالية ؟!(1)

ص: 353


1- هناك رأي يقول : إن قصة جلجامش ، ليست قصة خيالية ، وإنما هي إضافة أدبية ، لقصة حقيقية ، وهذا الرأي ، يمهد ، فيقول : «يرى عالم الحضارة الرافدية ، الأستاذ (طه باقر) في كتابه الموسوم : (تاريخ العراق القديم) أن مدينة (سومر) هي أول مدينة حقيقية في التاريخ ، ويثبت العالم الأمريكي (صموئيل نوح كريمر) في كتابه الموسوم: (من ألواح سومر) أن تنقيب البعثات الأثرية ، في وادي الرافدين ، أكد بوضوح لا يقبل الشك ، من خلال التكوينات الأركيولوجية ، أن (أوروك) كانت أكبر المدن السومرية ، في الفترة الزمنية التي تعرف ب_(عصر السلالات) ويضيف العالم (الكسندر ها يدل) في كتابه : (ملحمة جلجامش) قائلا : (أوروك) هي أعرق مدينة ، في أرقى حضارة مدينية ، وصلت قمة ازدهارها . ويصف الدكتور (سلطان محيسن) في كتابه : (عصور ما قبل التاريخ) الصادر عن جامعة دمشق : أن (أريدو) بلغت في نهاية فترة (تل العبيد) حجما كبيرا ، بمقياس ذلك العصر، حيث نافت مساحتها عن العشرة هكتارات ، ووصل عدد سكانها ، إلى أربعة آلاف نسمة ، وهذا أكبر تجمع سكاني ، حققته الحضارة الإنسانية ، حتى ذلك الوقت ، في أي بقعة من العالم ، ومع (أوروك) تبدأ حضارة المدينة ، وتترسخ أولى تقاليد الحضارة العالمية ، التي مازلنا نعيشها ، حتى يومنا هذا ، وعن (أوروك) التي كان يحيط بها سور عظيم ، بني في عام 2600 ق . م ، وكان يقدر عدد سكانها آنذاك ، بأكثر من 60 ألف نسمة ، فإذا عرفنا ، أن سكان مدينة (روما) إبان العصر القيصري ، لم يتجاوز 150 ألف نسمة، أدركنا أية عظمة ، بلغتها مدينة (أوروك) في ذلك الوقت المبكر ، من تفاصيل ذاك التاريخ المكتوب ، على ألواح الطين السومرية . و (أوروك) هي المدينة السومرية ، التي شهدت ولادة عدة أساطير ، وملاحم ، ومن بينها ملحمة جلجامش ، التي عثر على ألواحها مطمورة ، تحت أنقاض قصر الملك الآشوري (آشور بنيبال) بعد تدميره ، إثر الهجوم الكاسح ، الذي تعرض له ، على أيدي الكلدانيين ، وذلك في العام 612 قبل الميلاد . الألواح ، واللقى ، والكتابات المسمارية ، التي تمثل الحضارة السومرية ، تؤكد بشكل قاطع ، أن جلجامش لم يكن صنع خيال ، أو خيط وهم ، أو ابتكار ، أو محاكاة ، كما يدعى البعض ، بل هو شخصية حقيقية ، ذات حضور خارق ، وهي من لحم ودم ، وذات حس بشري ، يستند إلى إرث حضاري واضح ، وفي بداية القرن الماضي ، عثرت بعثات التنقيب الأثرية ، على الألواح ، التي تضم النصوص المتعلقة ، بتفاصيل الأسطورة السومرية ، التي أشار أليها العالم العراقي المبرز (طه باقر) في كتبه ، وأبحاثة ، وأخص منها : (ملحمة جلجامش) والملحمة المقصودة ، هي نص شعري طويل مكتوب باللغات السومرية والآكادية والبابلية ، وموزع على إثني عشر لوحا فخاريا ، ويعتقد بعض العلماء ، أن ثمة ألواح أخرى ، لازالت مفقودة ، أو هي أصابها العطب ، والتلف . كما أن (طه باقر) والدكتور (سامي سعيد الأحمد) اختصاصي اللغة الأكادية ، وأستاذ التاريخ القديم ، في جامعة بغداد ، بذل كلاهما جهدا كبيرا ، لاستكمال المعاني ، والأحداث في الألواح ، التي فقدت بعض السطور ، أو الكلمات، ويعود الفضل في وصول الملحمة إلى الأجيال اللاحقة ، إلى الملك الأديب آشور بنيبال ، صاحب أكبر مكتبة في تلك الفترة ، حيث جمع فيها الأدبيات الجيدة ، التي تمثل قيمة معرفية ، حيث تم إحصاء ما يزيد عن ثلاثمائة رقيم ، من شتى نماذج المعرفة ، وحوالي مائتي قاموس ، ومئة من نصوص الصلوات، وحوالي مئة رقيم، تحوي أدعية وتعاويذ ، وتجاوز عدد النصوص المعنية بالآداب الأربعين ، بينها ملحمة جلجامش ، وقد ألزم الملك الآشوري شباب مملكته ، بدراسة وتمعن ملحمة جلجامش ، معتبرا أنها تفتح العقل، على ارتياد المغامرة ، والعلم ، المقرونتين ، بالشجاعة ، والذكاء . وهناك أدلة أدلة ، توصل أليها علماء الآثار ، تفيد إلى وجود تقليد ، يتعلق بإقامة دورة رياضية ، للتسابق على شرف جلجامش ، في شهر آب من كل عام، يتبارى خلالها الشباب في فنون القتال ، والمصارعة ، وسباق العربات ، وكذلك ألعاب القوى ، وقد بقيت تلك التقاليد قائمة ، في الإمبراطورية الآشورية ، التي كانت تسمي شهر آب ، بشهر جلجامش السومري ...» . أعظم الأساطير والملاحم الإنسانية - د . شاكر الحاج مخلف .

ص: 354

فأقول : إن ظهور هذه الملحمة ، بين الشعوب في ذلك الوقت ، سيواجه بانتقادات لاذعة ، لو كانت مبنية على خلاف المسموعات الشعبية ، والثقافية في وقتها ، وهذه هي طبيعة الإنسان ، ولكن حين تكون مبنية على قضية ، وصلت إلى حد الشياع ، والتسليم بها بشكل مطلق ، لا نجد عندها أي اعتراض ، وهذا شأن أي قصة خيالية ، تعتمد القصص الواقعية في السرد ، من أجل الدمج بين الواقع ، والخيال . ولهذا لم نسمع ، أن هناك أي اعتراض ، حول هذه القضية بالذات ، لا في السابقين ، ولا في اللاحقين . ويجب أن لا ننسى التأييد للقصة ، من قبل ديانات ، نعتقد أن كتبها نزلت من الله ، لتروي القصة على نحو الإجمال .

الخلاصة : أن المنطق العقلي ، والنصوص المصاحبة ، وفحوى الأحاديث ، تفرض وجود احتجاب ، وغيبة واقعية ، للنبي نوح (علیه السّلام). وهذا ليس اكتشافا خياليا ، وإنما هو فرض ، يحل إشكالية حقيقية ، بحل مستند إلى مقولات سابقة ، لعهود تاريخية ، لما قبل الديانات الثلاث ، ولز من أقرب لزمن نوح (علیه السّلام)، وما قد يعترض عليه المتنطعون ، من كون النصوص غير إسلامية ، فعليهم أن يفسروا لنا ، معنى اقتراب النص السومري ، من النص القرآني ، في وصف الطوفان وعليهم أن يبرروا لنا ، رفضهم للاستفادة من نص قبل حدوث الديانات الثلاثة ، يقترب من النص القرآني ، أكثر مما يقترب من النص التوراتي ؟ ومن المعلوم إن تفسير كل هذا الإنكار ، والتنطع ، هو كونه يثبت قضية ، لا يريدونها ، وهم على استعداد لترك صريح القرآن ، من أجل هذه القضية ، والذهاب إلى ماهو أبعد من ذلك ، والقفز على الظواهر .

ص: 355

وعلى كل حال ، ليست هذه هي الغيبة الوحيدة ، ليكون بنقضها انتقاض الكل . وإنما هناك غيبات أخرى ، يعضد بعضها بعضا.

ص: 356

اختفاء النبي يونس (علیه السّلام)

من القصص التي يرويها لنا القرآن الكريم، مستعرضا أحداثها بأسلوب أدبي مشحون بلحظات درامية مؤثرة ، قصة نبي الله يونس (علیه السّلام)، وفيها أن النبي اختفى في ظروف غامضة ، وكان من الممكن أن يبقى في بطن الحوت ، حيا ، إلى ما شاء الله ، آلافا من السنين ، يقول - تبارك وتعالى - في سورة الصافات :

﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَق إلى الفُلْك المَشْحُونَ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُليمٌ * فَلَوْلاً أَنَّهُ كَان من الْمُسَبِّحينَ * لَلَبِثَ في بطنه إلى يَوْم يُبْعَثُونَ * فَنَبَدْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينِ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلى مِائَةِ أَلف ، أو يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حين﴾ [الصافات : 139 - 148] .

وقصة النبي يونس (علیه السّلام)، واضحة في اختفائه في بطن حوت (نون) . ولكن ، وهناك إشارة غريبة ، ترافق هذا الاختفاء الغامض ، وهو التصريح بوجود قابلية ، لبقائه ، وبقاء الحوت ، إلى يوم البعث على حاله ، وهذا أمر يحتاج من المسلم المنصف ، أن يفكر فيه جيدا ، قال تعالى : ﴿فَلَوْلاً أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ .

هنا ، نحن أمام ظاهرة غريبة ، وفريدة ، وهي الوعد ، بأن النبي يونس ، كان يمكن أن يخلد في بطن الحوت - الذي ينبغي أن يكون نفسه قابلا للبقاء - لولا أنه من المسبحين ، فأخرجه الله نتيجة تسبيحه ، وهذا لا يحتاج إلى أدلة ، فالنص ظاهر ، وواضح.(1)

ما معنى أن يكون قابلا للبقاء ، في بطن حوت إلى يوم البعث ؟

ص: 357


1- لا نعلم ، هل من المنطقي التساؤل عن نوع هذا الحوت ، الذي له قابلية البقاء إلى يوم يبعثون ؟ وهل هو حوت من لحم ، ودم ، أم هو حوت رمزي ؟ ظاهر القرآن بأنه حوت حيواني ، ولا يمكن الجزم .

- هنا - يمكن نقول : إن هذه الآية الكريمة، تثبت إمكانية البقاء حيا ، وإمكانية الاختفاء ، مع كونه نبيا ، مرسلا ، لم تسقط نبوته ، بالاختفاء .

والآية حين عالجت الإمكان ، قالت بوقوع الغيبة ، والعيش في ظرف ، لا يمكن وصفه بأنه ظرف قابل للمعيشة البشرية ، وهو بطن حوت كبير .

يمكن أن يدعي المدعي ، بأن النص السابق يتنافى مع نص آخر في القرآن ، مفاده أنه لولا رحمة الله ، لنبذ الحوت يونس في العراء ، وهذا قد يتعارض مع الآية السابقة ، ومفادها ، لولا كونه من المسبحين ، لبقي في بطن الحوت ، إلى يوم يبعث الخلق . قال تعالى : ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نعْمَةٌ مِنْ رَبِّه لَنُبذ بالْعَرَاء وَهُوَ مَدْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالحين﴾ [ القلم : 48 - 50] .

والجواب عن هذا : أن لا تعارض في الأمر ، فإن الآية الأولى ، تنظر إلى كون التسبيح الله جعله خارج دائرة الخلود في بطن الحوت ، وهو نوع من العذاب الإنساني ، كما نفهمه بالفطرة ، بينما الآية الثانية ، تنص على إن رحمة الله ، ونعمته وقتت زمن ، ومكان إنزال يونس (علیه السّلام)، في مكان أخضر فيه حياة ، ولولا تلك الرحمة ، لنبذ في العراء ، وهو مكان لا حياة فيه . فلا تعارض مطلقا ، أي لو أراد أن يبقيه معذبا ، في بطن الحوت ، لبقي إلى يوم يبعثون ، ولو أراد الله أن يهلكه لنبذه في العراء .

وهذه مجموعة من نصوص ، تدل على أن ليونس غيبة قصيرة ، ويبدو أن أهمية هذه الغيبة ، هو وعيد الله ، بإمكانية أن تكون ليوم يبعثون ، ولكن أمرا من الله ، كان قد حصل فى هذا الشأن :

فقد روى في بحار الأنوار ، قصة يونس بسند العياشي ، إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهي قصة طويلة جدا ، سنقتطع منها بعض مواضع الحاجة :

ص: 358

العلامة المجلسي(1):

تفسير العياشي : عن أبي عبيدة الحذاء ، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال : سمعته يقول : وجدنا في بعض كتب أمير المؤمنين (علیه السّلام)، قال : حدثني رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أن جبرئيل (علیه السّلام) حدثه ، أن يونس بن متى (علیه السّلام)، بعثه الله إلى قومه، وهو ابن ثلاثين سنة ، وكان رجلا يعتريه الحدة ، وكان قليل الصبر على قومه ، والمداراة لهم ، عاجزا عما حمل من ثقل حمل أوقار النبوة ، وأعلامها ، وأنه يفسخ تحتها كما يفسخ الجذع تحت حمله ، وأنه أقام فيهم ، يدعوهم إلى الإيمان بالله ، والتصديق به ، وإتباعه ، ثلاثا وثلاثين سنة ، فلم يؤمن به ، ولم يتبعه من قومه إلا رجلان : اسم أحدهما روبيل ، واسم الآخر تنوخا ، وكان روبيل من أهل بيت العلم ، والنبوة ، والحكمة ، وكان قديم الصحبة ليونس بن متى ، من قبل أن يبعثه الله بالنبوة ، وكان تنوخا ، رجلا مستضعفا عابدا ، زاهدا ، منهمكا في العبادة ، وليس له علم ، ولا حكم».

وذكر - بعد ذلك - قصة طويلة جدا ، وممتعة حقا ، ملخصها : إن النبي يونس (علیه السّلام)، رغب في إهلاك قومه ، نتيجة كفرهم ، وعتوهم ، فوعده الله بذلك ، وأخبر هو قومه ، ولكن مستشاره الأمين ، نبه الناس للعذاب ، وذكرهم الله ، فضجوا بالاستغفار ، والبكاء ، حين رأوا بدايات الكارثة ، فعفا الله عنهم ، وحين جاءهم يونس ، ليتأكد من هلاكهم ، وجدهم بأتم حال ، فهرب مستحييا ، معتقدا في نفسه الخذلان ، فحصل له، أن التقمه الحوت ، وحدث له ما حدث ، ورجع إلى قومه ، وقد آمنوا به ، وحسن حالهم .

وفيه أيضا :

«قال أبو عبيدة : قلت لأبي جعفر (علیه السّلام): كم كان غاب يونس عن قومه ، حتى رجع إليهم بالنبوة ، والرسالة ، فآمنوا به ، وصدقوه ؟ قال : أربعة أسابيع».

وقد ذكر الإمام الرضا (علیه السّلام)، تصحيحا لرواية راو ، اتهمه بالكذب ، على الإمام الصادق ، حيث

ص: 359


1- بحار الأنوار : 14 : 392 - 397 .

قال : إن لصاحب هذا الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، غيبة كغيبة يونس (علیه السّلام)، وهذا التشبيه بالغيبة ، له توظيف عقلي واضح ، وهو نفي استحالة الغيبة ، بوقوعها - فعلا - من النبي يونس (علیه السّلام):

مسند الإمام الرضا (علیه السّلام)(1):

عنه ، عن أبي عمر ، وقال : سمعت حمدويه ، قال : حدثني علي بن محمد بن قتيبة ، قال : حدثني الفضل ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الواسطي، ومحمد بن يونس قالا ، حدثنا الحسن بن قياما الصيرفي ، قال : سألت أبا الحسن الرضا (علیه السّلام)، وقلت : جعلت فداك ما فعل أبوك ؟ قال : مضى ، كما مضى آباؤه . فقلت : كيف أصنع بحديث ، حدثني به زرعة ابن محمد الحضرمي ، سماعة بن مهران ، أن أبا عبد الله (علیه السّلام)، قال : إن ابني هذا ، فيه شبه من خمسة أنبياء : يحسد كما حسد يوسف (علیه السّلام)، و غاب كما غاب يونس ، وذكر ثلاثة أخر ؟ قال : كذب زرعة ، ليس هكذا حديث سماعة ، إنما قال : صاحب هذا الأمر - يعنى القائم (علیه السّلام)- فيه شبه من خمسة أنبياء ، لم يقل ابني» .

وقد بيّن (السيد اللواساني) قضية مهمة ، وهي أن ذكر غيبة يونس ، ليست للمقارنة بالزمن ، وما شابه ذلك ، وإنما لإثبات الإمكانية ، فما دامت الغيبة ممكنة ليونس (علیه السّلام)، فهي ممكنة لغيرة ، ولهذا لا مجال للاعتراض، بأن غيبة يونس (علیه السّلام) قصيرة ، لأقل من شهر ، بينما غيبة المهدي (علیه السّلام) طويلة ، تجاوزت الألف عام . فهذا لا علاقة له بما يراد ، من إثبات غيبة يونس :

السيد اللواساني(2):

ولا مجال لنقض المعارضة ، بالفرق بين غيبته ، وغيبة هذا الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، بقصر مدة غيبة يونس (علیه السّلام)، وطول زمان غيبة الإمام ، بأن يقال بإمكان الأول ، دون الثاني ، فإن الفرق غير فارق ، وذلك لوضوح أنه ليس في طول الزمان ، والقصر فيه ، من حيث الإمكان ، وعدمه ، ما يوجب

ص: 360


1- مسند الإمام الرضا (علیه السّلام) : الشيخ عزيز الله عطاردي : 2 : 435 .
2- نور الأفهام في علم الكلام : 2 : 142 - 143 . الشرح .

الفرق ، في قدرته تعالى، فإن المولى، الذي أدام حياة ذاك النبي (علیه السّلام)، في غيبته ، وحده منفردا ، في المغارات، والبراري مع حاجته التامة ، إلى جميع لوازم البشرية ، قادر – أيضا – على إدامة حياة هذا الوصي ، كذلك، من غير عجز ، ولا فتور ، فأمعن النظر» .

ص: 361

الخضرة (علیه السّلام)

قد يتبادر إلى ذهن القاريء الكريم ، إنني سأبحث عن عمر الخضر (علیه السّلام). وهل هو موجود إلى الله الآن أم لا ؟ وإنكار البخاري لبقاء الخضر لزمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)(1) ومتابعة ابن تيمية له ، واعتباره أن ذلك حقيقة ، تسقط دليل من استدل بطول عمر الخضر (علیه السّلام) على إمكانية أن يطول - كذلك إلى هذا الحد - عمر المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

ولكن - في الحقيقة - إن هذا غير منظور بالنسبة لي ، بالمقام الأول ، وإنما أريد أن أنبه إلى غيبة الخضر في زمن موسى (علیه السّلام)، وبعد ذلك سأعرج إلى ما قيل عن غيبته ، حتى إلى زمن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، بل إلى زمننا كما يقال . وقد يقتضي هذا العرض لزوم الترابط بين هذه الغيبة ، وبين العمر الطويل ؛ لأنها غيبة تمتد لآلاف من السنين ، وهناك من يبرهن على إنه (علیه السّلام) موجود لهذا الزمن ، وهذا يرد عرضا وهو موكول المحله في البحث . خلاصة الفكرة هي : إن قصة العبد الصالح ، الذي قابله موسى (علیه السّلام)، من وراء البحر ، والذي لديه علم من لدن الله ، كان مختفيا عن الناس ، ولم يعرفه أحد ، إلى أن عرف الله نبيه موسى (علیه السّلام) به ، وكشف العبد الصالح ، لموسى ، علمه الذي علمه الله ، وأحكامه بالحكم الواقعي ، وليس الظاهري ، وكما يبدو من مسيرة الحدث، فإنه قد عمل بما يخالف الشريعة ، من العمل بالظاهر ، وهذا من خصائص من له ولاية، وعلم من الله . ويتصرف بحسب ولايته . كقتله لغلام لم يفعل شيئاً يستحق القتل ، وإنما سيعمل الشر مستقبلا . وقد اعترض عليه موسى (علیه السّلام) بموجب الشريعة ،

ص: 362


1- يبدو أن عنده قاعدة تقول : عدم العثور على الدليل ، دليل على عدم وجوده ، وإلا فلا معنى إنكاره ما اشتهر عندهم ، والدليل على وجود مثل هذه القاعدة عنده ، هو اعتباره لروايات ضعيفة السند بل موضوعة ، وغير تامة الدلالة ، معارضة لهذا المتواتر المشهور ، وسيأتي بيان الرواية المعارضة ، وحالها في الدلالة ، في طي كلامنا لبيان المعالجة الغريبة ، لهذا الموضوع .

ولكن العبد الصالح أثبث له محدودية علمه ، بالأمور الباطنة ، مما يدل – بالتالي – على التفاوت بين الأنبياء ، والأولياء في العلم .

هذا الرجل – الذي قابله النبي موسى (علیه السّلام)- يعرفه المسيحيون ، واليهود ، ويقولون : إنه الخضر (علیه السّلام). وقد غلب عند المسلمين - كذلك - أنه الخضر ، وفيه نصوص.(1) وما وقع فيه من الاختلاف ، فهو اختلاف تسمية ، أو أقوال ضعيفة ، وجدت للتشويش كالعادة .

ويضاف إلى كونه غائبا عن الناس أن عمره في زمن موسى (علیه السّلام)، قد تجاوز مئات ، وقد قيل الله آلاف الأعوام . وهذه قضية قرآنية ، وليست حديثا ليشك في سنده ، أو يتمحل المتمحل في فهمه ، ونقض دلالته . فالموضوع - إذن - ثابت بثبوت القرآن الكريم . وهو واضح ، وضوح الشمس في رابعة النهار ، إنه ولي من أولياء الله المكرمين بالعلم اللدني ، قد اختفى عن الناس ، ولم يحض بلقائه ، إلا الأنبياء ، كالنبي موسى (علیه السّلام)، وقد أعطى النبي موسى (علیه السّلام)، درسا قاسيا في العلم ، والعلاقة بالله . فما هو - إذن - تفسير من يشكك بالغيبة - أصلا - لغيبة الخضر (علیه السّلام) الواضحة قرآنیا ؟

لنقرأ الآيات القرآنية بأناة ، وهي وحدها كافية ، أن تثبت الغيبة ، والعلم اللدني الغيبي ، وطول العمر ، باعتبار التطبيق على الخضر ، فإنه قد ولد في زمن إبراهيم (علیه السّلام)، أو في زمن نوح (علیه السّلام)، أو في زمن آدم (علیه السّلام)، بحسب روايات متضاربة :

قال تعالى في سورة الكهف في قصة العبد الصالح الخضر (علیه السّلام) مع موسى ، وفتاه :

﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لَفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْن أوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنهمَا نَسيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لفَتَاهُ آتنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ

ص: 363


1- في الأعم الأغلب أنه الخضر (علیه السّلام)، وهناك من قال إنه اليسع ، أو إلياس ، ولكن من قال ذلك ، جعل الخضر ، واليسع ، متحدان وقد وحد بعضهم بين الخضر ، وإلياس ، والنتيجة أن الخلاف خلاف أسماء وانه هو الخضر (علیه السّلام).

أذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدْنَا عَلَمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَن ممَّا عَلّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحط به خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَحْدثَ لَكَ مِنْهُ ذكرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفينَة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا رَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُدْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لأَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنكَ سَأَنَبتُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلكَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُوْمَنَيْنَ فَخَشِيَنَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ الغُلاَمَيْنِ يَتيمين في المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَان أبوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنرَهُمَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف : 60 - 82] .

والقصة بكل وضوح – وبحسب النص القرآني - هي أن موسى (علیه السّلام)، وفتاه ، قد طلبا رجلا موفقا ، والتقيا - بعد سفر متعب ، فيه مشاكل مربكة - بهذا الرجل ، الذي هو من العلماء المجهولين ، قد رزقه الله - تعالى - العلم اللدني الحقيقي ، المسمى بالانكشاف للمعلوم ، فطلب منه موسى (علیه السّلام) المصاحبة ، على أن يعلمه مما علمه الله ، فقال له الرجل الصالح : إنه لا يستطيع تحمّل العلم الذي معه ، وبدأت الرحلة ، التي وردت في القرآن ، وما ورد فيها من مشاكل علمية ، وفكرية ، لم تحل رموزها لحد هذا التأريخ ، عدا القول : بأن العبد الصالح (علیه السّلام) كان مكلفا بالأمر

ص: 364

الواقعي المكلف ، بينما النبي موسى (علیه السّلام) مكلف بالأمر الظاهري . ولهذا لم يسكت موسى (علیه السّلام)، وكان دائم الاعتراض ، وكذلك لم نوفق نحن - كبشر - من استيضاح هذه المخالفات ، باعتباره-ا ف-وق تصورنا ، إذ إنها تتعلق بعلم إلهي ، ممنوح ، يختلف عن نظمنا الفكرية ، ودساتيرنا الفقهية ، فقتل الطفل - عندنا - غير جائز ، حتى لو كان سيرهق أبويه ؛ لأنه العقوبة ، لا تجوز ، قبل الجناية ، ولا جناية هنا ، مع إن نوع الجناية المستقبلية ، غير واضح ، إذ إنه لو كانت الجناية عصيان الوالدين ، وإيذائهما ، فقط ، فهذا مما لا يحكم عليه بالموت، أصلا ، وإذا كان هو الكفر بالله ، وليس بالوالدين ، وبالنعم ، فيرجع الأمر إلى أحكام الردة ، أو الكفر في بلاد الكفر ، وهل كل كافر يجب قتله فورا ؟ ولكنها - على كال حال - من مسائل العقوبة قبل الجناية - كما قلنا - فالمسألة غير متعلقة بعلم طبيعي أبدا . وعلى كل حال فإن هذا العبد الصالح ، هو الخضر (علیه السّلام) كما نصت عليه النصوص ، في هذا الشأن .

وهنا ، نلحظ أمورا مهمة منها : أولا : إنه كان عبدا مخفيا عن الناس ، وغائبا ، إلا عمن يوفقهم للقائه . وثانيا : أنه طويل عمر ، لأنه أما معاصر للنبي إبراهيم (علیه السّلام)، أو معاصر للنبي نوح (علیه السّلام)، أو قبله كما في الروايات - وعلى كل حال - فهو ليس مولودا في زمن موسى ، كما عليه إجماع أهل النقل . ولو فرضنا انه في زمن موسى ، فتبقى قضية غيبته عن الناس ، وعدم معرفة هويته ، بحيث لم يطلع عليه ، وعلى علمه إلا النبي موسى (علیه السّلام)، وباستثناء هذا لم يرد أي خبر ، أو رواية ، تدل حدوث اتصال علمي ، أو عملي ، مع الناس ، مع وجود تصريح في الروايات باختفائه ، وطلب موسى للرجل المختفي، وهذه هي الغيبة بعينها ، وليس بعد النص القرآني الواضح من حاجة إلى دليل .

ومن يريد أن يغطي الشمس بغربال ، يمكنه أن يدعي عدم فهمه ، لكون الخضر (علیه السّلام) في غيبة خلال النص القرآني ، حيث يدعي أن رؤية النبي موسى (علیه السّلام) له ، لا تنفي رؤية الآخرين له ، ولهذا فلا غيبة ، فلو وجد مثل هكذا معترض ، فهو لم يلتفت لأمور منها :

ص: 365

أولا : كون هذا العبد - صاحب العلم اللدني - لم يحض بلقائه ، أو معرفته عن قرب ، أصحاب الدراسات ، والديانات ، بأنفسهم ، مع إنه طويل عمر ، وقد يكون عمر لزمن موسى (علیه السّلام)، أكثر من ستمئة عام . وهذا الانقطاع ، وعدم التواصل ، هو الغيبة ذاتها.

وثانيا : إن اللقاء بالخضر (علیه السّلام)، لم يكن لقاء شخص معروف ، بل هو – بحسب النص القرآني - عبد من عباد الله ، وقد أخفى الله هويته في القصة ؛ للتعبير عن خفاء الهوية على موسى (علیه السّلام) ، وإنما عرفه بالوحي ، بدليل أنه عرف أنه صاحب علم لدني ، ولهذا طلب منه أن يعلمه ، ومعناه أنه لم يلتق به اعتباطا ، وإنما لتشخيص الله له ، عبر الرسالة السماوية ، فمن لا يستطيع الناس التعرف عليه ، إلا بإخبار من الله - تبارك وتعالى - عبر ملائكته هو في حالة من الاختفاء ، والغياب - قطعا . وهذا ظاهر من دون تأمل ؛ لأن النص القرآني ناطق به ، مثل كونه قد علم أن هذا الشخص عنده علم لدني ، وقد سلّم له بذلك ، وطلب منه تعليمه : ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةٌ مِنْ عِنْدنَا وَعَلَّمْنَاهُ منْ لَدْنَا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَن ممَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خَيْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لك أَمْرًا﴾.

وهذا التسليم له دلالته ، من نبي يوحى إليه ، في زمن استقامة نبوته ، واكتمالها ، بعد أن صاحب فتاه يوشع بن نون ، وهو من صغار أصحابه . فلو كان متيسرا لكل بشر أن يجتمع ، ويطلع على الخضر ، في زمن موسى (علیه السّلام) لما احتاج إلى إخبار إلهي ؛ ليطلعه على أن عند هذا العبد الصالح علم لدني ، يجب عليه أن ينقاد له ، وهو ينقاد له كتلميذ - بشكل واضح من النص.(1)

ص: 366


1- هناك من قال : إن الخضر (علیه السّلام) نبي ، وهناك من نفى ذلك ، وهذا لا يقدم ، ولا يؤخر ، ويرى بعضهم ، في قوله تعالى : ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف : 82] إشعار عن أمر الله - تعالى - وهو النبوة ، إلا أن تكون النبوة ، أخص من التبليغ الإلهي ، وهو المختار ، ولهذا فالمسألة فيها خلاف ، وليس من نص يدل بوضوح على نبوة الخضر . وفي تفسير القرطبي : 11 : 39 - 41 : «قوله تعالى : ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ يقتضي أن الخضر نبي ، وقد تقدم الخلاف في ذلك» .

فمن أراد القول - جزما بلا دليل - إن النص خال من الإشارة على غيبة الخضر موسى (علیه السّلام) في زمن موسى (علیه السّلام)، فهو إنما يجزم بأمر ، لا يحق له الجزم فيه ، إلا تعنتا.

ولكن بالنسبة للمسلمين ، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهم يروون عن أصحاب الديانات الأخرى ، تسالمهم على بقاء الخضر ، وتواصله مع الأولياء ، ويرى المسلمون أنه كان على اتصال بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعضا من الصحابة ، وربما الأولياء ، إلى يومنا هذا ، وهو غائب عن الناس ، ولا يقدح في ذلك إنكار البخاري لبقائه (علیه السّلام)، إلى زمن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو لا يمكنه – أولا - أن ينفي بقاءه لما قبل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ببرهة وجيزة ؛ لعدم وجود دليل عنده قطعا ، وثانيا : إنما نفى ذلك لما يدعيه من عدم صحة الأحاديث ، التي روت حوادث الاتصال بين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وبين الخضر (علیه السّلام)، وهذا مردود ؛ لأن عدم الصحة ، لا تعني صحة العدم ؛ ولأن الأمر فيه مسألة انحياز واضحة ، حيث إن رواة الأحاديث ممن لا يرون العثمانية – وهو مما يعتبر جريمة في نظر البخاري، الذي يروي عن ابن حريز ، ويوثقه ، وهو اللاعن عليا ، دبر كل صلاة سبعين مرة - هؤلاء الرواة مردودون برأي البخاري، بحسب طريقته في غربلة النصوص الحديثية بموجب معيار معاداة علي ، وشيعته ، ومذهبه ، وإتباع وصايا معاوية المؤكدة على رفض كل ما يتصل بأبي تراب (علیه السّلام)، والروايات - كما نعلم - قد وردتهم عن طريق علي (علیه السّلام) نفسه . فالمسألة - إذن - متعلقة بالميول السياسية في التعامل مع الحديث .

وعلى هذا، فليس بذي قيمة - إذن - تشكيك البخاري ببقاء الخضر (علیه السّلام) إلى زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، واختفاءه ، وغيبته ، إلا عن الأولياء ، وأما استغلال هذا التشكيك ، من قبل ابن تيمية ، ومن والاه ؛ لاعتقادهم أن نفي بقاء الخضر (علیه السّلام)، يسقط الدليل على بقاء المهدي (علیه السّلام)، فهذا من الوهم الساقط ؛ لأن أساس التشكيك ، مشكوك فيه ، وهو غير علمي ، ومردود سنيا ، قبل أن يرده الشيعي ؛ ولأن نفي طول عمر الخضر (علیه السّلام)، لا يستطيع أن ينفي طول عمر نوح (علیه السّلام) المنصوص عليه في كتاب الله تعالى ، كما قلنا في مسألة البقاء ، وطول العمر ، فهذا فيه نص قرآني ، وهو يثبت عدم الاستحالة ، فلا مجال للنفي ، بناءً على الاستحالة ، بالإضافة لطول الأعمار التي ذكرها

ص: 367

التاريخ ، وسلّم بها كل المؤرخين ، مثل عمر آدم ، وإدريس (علیهما السّلام)، وشداد بن عاد ، وغير ذلك ومثل ذكر المعمرين الذين ذكرتهم كتب التاريخ ، بتسليم واضح ، لم يستطع ابن تيمية الاعتراض عليه . فهذا النفي لا يقدم ولا يؤخر في شيء . وهو استغلال غير ناجح ، لقضية لا يستطيع إثباتها ، بل الأدلة قائمة بإثبات الضد من مقولته .

وعلى كل حال ، فإن ما قصدناه من غيبة الخضر (علیه السّلام)، ما هو متيقن من غيبته في زمن النبي موسی (علیه السّلام)، وإنه منعزل في مكان ، لا يعرفه من يرغب بذلك ، إلا بأمر الله . ولكن لو ثبت غيبته في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو إنه مازال غائبا لحد الآن ، فهذا فيه زيادة تأكيد . غير أن النصوص التاريخية ، والدينية ، أصابها الكثير من التشويش ، باعتبار إن التحكم بها - دائما - بيد دائما - بيد السلطان ، والمحدثين ، وهؤلاء ضد فكرة بقاء الخضر حياً ، ولهذا يسعون جاهدين إلى إخفاء الروايات ، و اختلاق روايات لا صحة لها ، تنسب لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، من باب الكذب له - حسبة(1) - لقمع

ص: 368


1- وجد في تاريخ المسلمين من يقول بجواز الكذب قربة إلى الله - والعياذ بالله من ذلك ما ذكره الشيخ الأميني في كتابه الغدير : 5 : 275 - 276 ، حيث قال : «وقال القرطبي في التذكار : 155 : لا التفات لما وضعه الواضعون واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة والأخبار الباطلة في فضل سورة القرآن وغير ذلك من فضائل الأعمال ، وقد ارتكبها جماعة كثيرة وضعوا الحديث حسبة كما زعموا ، يدعون الناس إلى فضائل الأعمال كما روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي ، ومحمد بن عكاشة الكرماني ، وأحمد بن عبد الله الجويباري ، وغيرهم . قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة ؟ فقال : إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة . وقال في : 156 : قد ذكر الحاكم وغيره من شيوخ المحدثين : إن رجلا من الزهاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن وسوره فقيل له : لم فعلت هذا ؟ فقال : رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغبهم فيه فقيل : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار . فقال : أنا ما كذبت عليه إنما كذبت له ، وقال في التحذير من الموضوعات : وأعظمهم ضر را قوم منسوبون إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا ، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونا إليهم فضلوا وأضلوا .» . نكتفي بهذا القدر .

المخالفين من الصوفية، وقد يجد القاريء الكريم أن النقاش - الدائر بين الصوفية والمحدثين - هو حوار من لا لقاء بينهم، وتضارب في كل قول ، فكل يدعي الإجماع ، والدليل اليقيني ، ويقيم الشبهات على الطرف الآخر ، بدون نتيجة حقيقية ، وكل هذا يُردّ بحديث واحد ، صحيح ، ورد في صحيح مسلم(1) يقرر فيه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إن الخضر سيقابل الدجال ، في آخر الزمان ، وإنه يصرح ، بأن الخضر سمع من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنباء الدجال . وهذا تصريح.

ما بعده تصريح.

ولمزيد من الفائدة - في هذا الموضوع - لا بأس بالإطلاع على مناقشة طريفة ، قام بها الشيخ علي بن يونس العاملي (رحمه الله علیه) المسألة نفي بقاء الخضر (علیه السّلام) واعتمادهم على رواية مكذوبة ، صرحوا بضعفها ، أو كذبها ، وهي قوله (صلی الله علیه و آله و سلم)- بزعمهم - : «لو كان الخضر حيا لزارني»(2) ورده برواية صحيحة - عندهم - تدل بنص ورد بلسان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على أن الخضر سمع الحديث (صلی الله علیه و آله و سلم) صريحا ، ولهذا ذكر في الصحابة ، وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم(3) . لكن مصيبتنا في العلم ، تبقى من أعظم مصائب المسلمين ، حين يترك العلماء منهجهم في اعتماد الصحاح ، ويميلون إلى المكذوبات ، لا لشيء إلا للرد على الشيعة أو الصوفية .

وقد نبه علماء الشيعة - رضوان الله تعالى عليهم - إلى هذا التناقض ، وأشاروا إلى أن صحيح الرواية تقول : إن الخضر (علیه السّلام) روى عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في زمنه :

نقرأ ما كتبه الشيخ علي بن يونس العاملي (رحمه الله علیه) في الصراط المستقيم(4):

«قالوا : إنما أجرى الله عادته بالتطويل ، في غير هذه الأمة ، قلنا : لا يضرنا ذلك بحال ، مع اتفاق الأكثر على بقاء الخضر ، والدجال ، على أن ذلك وإن لم يقع لغيره ، لم يدل على نفيه عنه ،

ص: 369


1- صحیح مسلم : 8: 199 وسيأتي نص الحديث
2- تفسير الآلوسي : 15 : 321 : وفيه : «وشاع الاستدلال بخبر لو كان الخضر حيا لزارني وهو 15 : كما قال الحفاظ خبر موضوع لا أصل له ولو صح لأغنى عن القيل والقال ، ولانقطع به الخصام والجدال» .
3- صحیح مسلم : 8: 199 وسيأتي نص الحديث .
4- الصراط المستقيم : 2 : 221 - 222 .

ويكون معجزة له ، فإن كل المعجزات خوارق للعادات . قالوا : نمنع حياة الخضر ؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله : «لو كان الخضر حيا لزارني» قلنا : أخرج مسلم(1)، عن النبي صلى الله عليه وآله ، في الدجال : أنه محرم عليه أن يدخل المدينة ، فينتهي إلى بعض السباخ ، فيخرج إليه رجل هو خیر الناس ، فيقول : أشهد أنك الدجال ، الذي حدثنا النبي بحديثه . فيقول الدجال : إن قتلت هذا ، ثم أحييته ، أتشكون في أمري ؟ فيقولون : لا ، فيقتله ، ثم يحييه ، فيقول : ما كنت فيك قط ، أشد بصيرة مني الآن ، فيريد الدجال قتله ثانيا ، فلا يسلط عليه ، فقال إبراهيم بن سعد : يقال : هذا

ص: 370


1- صحیح مسلم : 8 : 199 : . وفيه : (حدثني) عمرو الناقد ، والحسن الحلواني ، وعبد بن حميد ، وألفاظهم متقاربة ، والسياق لعبد ، قال : حدثني ، وقال الآخران : حدثنا يعقوب - (وهو ابن إبراهيم بن سعد) – حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، اخبرني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة ، أن أبا سعيد الخدري ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوما ، حديثا طويلا عن الدجال ، فكان فيما حدثنا ، قال : يأتي ، وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ، فينتهي إلى بعض السباخ ، التي تلي المدينة ، فيخرج إليه يومئذ رجل ، هو خير الناس ، أو من خير الناس ، فيقول له أشهد أنك الدجال ، الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديثه ، فيقول الدجال : أرأيتم إن قتلت هذا ، ثم أحييته ، أتشكون في الأمر ، فيقولون لا ، قال : فيقتله ، ثم يحييه ، فيقول ، حين يحييه : والله ما كنت فيك قط ، أشد بصيرة مني الآن ، قال : فيريد الدجال أن يقتله ، فلا يسلط عليه ، قال أبو إسحاق ، يقال إن هذا الرجل : هو الخضر عليه السلام . أقول : كلمة : (يقال) تعني - هنا - الشياع بين الرواة والمحدثين . وقد شرح العسقلاني ، في الإصابة : 2 : 273 : ما قاله ابن إسحاق ، قال : «وقال إبراهيم بن محمد بن سفيان الراوي عن مسلم ، عقب روايته عن مسلم لحديث أبي سعيد فيه قصته الذي يقتله الدجال : يقال إن هذا الرجل الخضر . وقال عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي سعيد ، في قصة الدجال ، الحديث بطوله ، وفيه قصة الذي يقتله ، وفي آخره: قال معمر : بلغني أنه يجعل على حلقه صفيحة من نحاس ، وبلغني أنه الخضر ، وهذا عزاه النووي ، لمسند معمر ، فأوهم أن له فيه سندا ، وإنما هو من قول معمر» . انتهى . ثم ذكر العديد من الأحاديث الموقوفة ، التي تدل على مثل هذا . وقد أكثر - كما أكثر الكتاب في القصص عن الخضر - حتى لتظن أن كل من يغيب ، هو الخضر.

الرجل الخضر . وذكر قول الخضر : «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله» دل حديثه على اجتماعه برسول الله صلى الله عليه وآله ، وفيه تكذيب : لو كان حيا لزارني» . انتهى .(1)

وعلى أية حال – لا يهمنا النزاع الدائر بين الصوفية ، والمحدثين ، حول الأدلة الغريبة المتداولة فيما بينهم على بقاء ، أو عدم بقاء الخضر (علیه السّلام) إلى هذا اليوم ، ولكن من الطريف أن نعرف – هنا - أن ابن تيمية ، يستنكر بقاء الخضر إلى زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأن الخضر لم يحضر المعارك والجهاد ، وكأنه يعلم من هم الجنود ، الذين نصر الله - تعالى - بهم دينه ونبيه (صلی الله علیه و آله و سلم)، من إنس ، وجن ، وملائكة ، والذين صرح القرآن الكريم بعدم إمكانية أن نراهم نحن ، قال - تعالى -: ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة : 40] .

ومن القضايا الغريبة إن الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني يؤيد إنكار بقاء الخضر (علیه السّلام) إلى زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد أيد أدلة النافين ، ورد بالكثير من الأجوبة عليها ، وأبقى على بعضها ، ولم يمنعه ذلك من تأييد الإنكار بطرقة مزاجية ، فيها التفاف على الدليل النصي ، الذي ينقله ويوثقه هو ، ولكنه يبرر الإنكار على أساس الإشكالات مع صدق النقل عنده . ومن ذلك – مثلا – أنه يروي إجازته للصلاة البشيشية عن الخضر (علیه السّلام) نفسه !!! قال(2):

«ومما ينبي على اجتماعه - عليه السلام - بالكاملين من أهل الله تعالى ، بعض طرق إجازتنا ، بالصلاة البشيشية ، فإني أرويها من بعض الطرق ، عن شيخي علاء الدين علي أفندي الموصلي ،

ص: 371


1- لم نتطرق للإثبات الشيعي لبقاء الخضر (علیه السّلام) لسبب إن النقاش متوجه مع المنكرين ، ومع ذلك فإن من يريد أن يطلع على الإثباتات الشيعية فيمكنه مراجعة الكافي في الصحيحة : 1 : 525 ، والكافي : 3 : 222 ، وبصائر الدرجات للصفار : 424 ، وعيون أخبار الرضا للصدوق : 1 : 12 ، وعيون اخبار الرضا 3: 56 ، وتهذيب الأحكام : 3 : 252 ، والأمالي للشيخ الطوسي : 51 ، ووسائل الشيعة للحر العاملي : 12 : 85 ، ونوادر المعجزات لمحمد بن جرير الطبري الشيعي : 15 - 19 ، وقد ورد على لسان الإمام زين العابدين (علیه السّلام) في الصحيفة السجادية في دعاء : (الاحتراز عن المخافة ، والخلاص من المهالك) صفحة : 399 ما يدل على سياحة الخضر بين البلدان . وهناك موارد أخرى اكتفينا بهذا .
2- تفسير الآلوسي : 15 : 327.

عن شيخه ، ووالده صلاح الدين يوسف أفندي الموصلي ، عن شيخه خاتمة المرشدين السيد علي البندينجي ، عن نبي الله تعالى الخضر عليه السلام !!! عن الولي الكامل الشيخ عبد السلام بن بشيش ، قدس سره» . انتهى .

لا نريد – هنا - أن ندخل في جدل حول معجزات مشايخ الآلوسي واختصاصهم بالأنبياء ، حين يجتمعون بهم ، ويروون عنهم الأحاديث ، لكننا نتساءل عن القوانين التي تحكم صحة العلم عند الآلو الآلوسي وغير وغيره ، كيف تسوغ له أن يروي عن من أنكر وجوده - صراحة - في زمننا ؟

والأشد غرابة من هذا ، قوله بإمكانية أن يلتقي (الكامل) بالمهدي (علیه السّلام)، وهو الذي لم يولد بعد – كما يراه الآلوسي وغيره منهم – قال(1):

«وادعى الشيخ الأكبر – قدس سره - الاجتماع مع أكثر الأنبياء - عليهم السلام - لاسيما مع إدريس - عليه السلام - فقد ذكر أنه اجتمع به مرارا ، وأخذ منه علما كثيرا ، بل قد يجتمع (الكامل) بمن لم يولد بعد كالمهدي ، وقد ذكر الشيخ الأكبر – أيضا – اجتماعه معه (يعني الخضر) . انتهى .

وهنا - نروي ما رواه الآلوسي من أدلة المثبتين الروائية ، قال(2):

«وشاع الاستدلال بخبر : «لو كان الخضر حيا لزارني» . وهو - كما قال الحفاظ - خبر موضوع لا أصل له ، ولو صح لأغنى عن القيل والقال ، ولا نقطع به الخصام ، والجدال . وذهب جمهور العلماء إلى أن-ه حي ، موجود بين أظهرنا ، وذلك متفق عليه عند الصوفية – قدس-ت أسرارهم - قاله النووي . ونقل عن الثعلبي المفسر : أن الخضر نبي معمر ، على جميع الأقوال ، محجوب عن أبصار أكثر الرجال . وقال ابن الصلاح : هو حي اليوم ، عند جماهير العلماء ، والعامة معهم في ذلك ؛ وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين . واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة منها : ما أخرجه الدارقطني في الأفراد ، وابن عساكر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، أنه

ص: 372


1- تفسير الآلوسي روح المعاني : 15 : 327 .
2- تفسير الآلوسي روح المعاني : 15 : 322 .

قال : الخضر ابن آدم لصلبه ، ونُسيء له في أجله ، حتى يكذب الدجال ، ومثله لا يقال من قبل الرأي . ومنها : ما أخرجه ابن عساكر ، عن ابن إسحق ، قال : حدثنا أصحابنا ، أن آدم - عليه السلام - لما حضره الموت ، جمع بنيه ، فقال : يا بني ، إن الله - تعالى - منزل على أهل الأرض عذابا ، فليكن جسدي معكم في المغارة ، حتى إذا هبطتم فابعثوا بي ، وادفنوني بأرض الشام ، فكان جسده معهم ، فلما بعث الله تعالى نوحا ، ضم ذلك الجسد ، وأرسل الله - تعالى - الطوفان على الأرض ، فغرقت زمانا ، فجاء نوح ، حتى نزل بابل ، وأوصى بنيه الثلاثة ، أن يذهبوا بجسده ، إلى المغار ، الذي أمرهم أن يدفنوه به ، فقالوا : الأرض وحشة ، لا أنيس بها ، ولا نهتدي الطريق ، ولكن كف حتى يأمن الناس ، ويكثروا ، فقال لهم نوح : إن آدم قد دعا الله – تعالى – أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة ، فلم يزل جسد آدم ، حتى كان الخضر ، هو الذي تولى دفنه ، فأنجز الله تعالى له ما وعده ، فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا ، وفي هذا سبب طول بقائه ، وكأنه سبب بعيد . وإلا ، فالمشهور فيه ، أنه شرب من عين الحياة ، حين دخل الظلمة مع ذي القرنين ، وكان على مقدمته . ومنها ما أخرجه الخطيب ، وابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه ، وكرم وجهه ، قال : بينا أنا أطوف بالبيت ، إذا رجل متعلق بأستار الكعبة ، يقول : يا من لا يشغله سمع عن سمع ، ويا من لا تغلطه المسائل ، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين ، أذقني برد عفوك ، وحلاوة رحمتك ، قلت : يا عبد الله أعد الكلام ، قال : أسمعته ؟ قلت : نعم ، قال : والذي نفس الخضر بيده - وكان هو الخضر - لا يقولهن عبد ، دبر الصلاة المكتوبة ، إلا غفرت ذنوبه ، وإن كانت مثل رمل عالج ، وعدد المطر ، وورق الشجر . ومنها ما نقله الثعلبي ، عن ابن عباس ، قال : قال علي كرم الله تعالى وجهه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما توفي ، وأخذنا في جهازه ، خرج الناس ، وخلا الموضع ، فلما وضعته على المغتسل ، إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت ، بأعلى صوته : لا تغسلوا محمدا ، فإنه طاهر طهر ، فوقع في قلبي شيء من ذلك ، وقلت : ويلك من أنت فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، بهذا أمرنا ، وهذه سنته ، وإذا بهاتف آخر ، يهتف بي من زاوية البيت ، بأعلى صوته : غسلوا محمدا ، فإن الهاتف الأول ، كان إبليس الملعون حسد

ص: 373

محمدا صلى الله عليه وسلم ، أن يدخل قبره مغسولا ، فقلت : جزاك الله تعالى خيرا ، قد أخبرتني بأن ذلك إبليس ، فمن أنت ؟ قال : أنا الخضر ، حضرت جنازة محمد صلى الله عليه وسلم . ومنها : ما أخرجه الحاكم في المستدرك ، عن جابر ، قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمع الصحابة ، دخل رجل أشهب اللحية ، جسيم صبيح ، فتخطى رقابهم ، فبكى ثم التفت إلى الصحابة ، فقال : إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة ، وعوضا من كل فائت ، وخلفا من كل هالك ، فإلى الله تعالى فأنيبوا ، وإليه تعالى فارغبوا ، ونظره - سبحانه - إليكم في البلاء فانظروا ، فإنما المصاب من لم يجبر ، فقال أبو بكر ، وعلي رضي الله تعالى عنهما : هذا الخضر عليه السلام . ومنها : ما أخرجه ابن عساكر : أن إلياس ، والخضر ، يصومان شهر رمضان ، في بيت المقدس ، ويحجان في كل سنة ، ويشربان من زمزم ، شربة ، تكفيهما إلى مثلها من قابل . ومنها : ما أخرجه ابن عساكر – أيضا – والعقيلي ، والدارقطني في الأفراد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يلتقي الخضر وإلياس ، كل عام في الموسم ، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ، ويتفرقان عن هذه الكلمات ، باسم الله ، ما شاء الله ، لا يسوق الخير إلا الله ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله . ومنها : ما أخرجه ابن عساكر بسنده ، عن محمد بن المنكدر ، قال : بينما عمر بن الخطاب ، يصلي على جنازة ، إذا بهاتف يهتف من خلفه ، لا تسبقنا بالصلاة يرحمك الله تعالى . فانتظره حتى لحق بالصف الأول ، فكبر عمر ، وكبر الناس معه ، فقال الهاتف : إن تعذبه فكثيرا عصاك ، وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك ، فنظر عمر وأصحابه إلى الرجل ، فلما دفن الميت ، وسوى عليه التراب ، قال : طوبى لك يا صاحب القبر ، إن لم تكن عريفا ، أو جابيا ، أو خازنا ، أو كاتبا ، أو شرطيا ، فقال عمر : خذوا لي الرجل ، نسأله عن صلاته ، وكلامه هذا ، عمن هو ؟ فتوارى عنهم ، فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع . فقال عمر : هذا والله ، الذي حدثنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم . والاستدلال بهذا ، مبني على أنه عنى بالمحدث عنه ، الخضر عليه السلام ، إلى غير ذلك . وكثير مما ذكر ، وإن لم يدل على أنه حي اليوم ، بل يدل على أنه كان حيا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، ولا يلزم من حياته إذ ذاك ، حياته اليوم، إلا أنه يكفي في رد الخصم ، إذ هو ينفي

ص: 374

حياته إذ ذاك ، كما ينفي حياته اليوم . نعم ، إذا كان عندنا من يثبتها إذ ذاك ، وينفيها الآن ، لم ينفع ما ذكر معه ، لكن ليس عندنا من هو كذلك ، وحكايات الصالحين من التابعين ، والصوفية في الاجتماع به ، والأخذ عنه في سائر الأعصار ، أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر» . انتهى .

وقد ناقش القرطبي ، ما ذهب إليه البخاري، من الاستفادة من حديث : «لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» على موت الخضر ، بأنه عام مخصص بالدجال ، وعيسى ، والخضر ، وغيرهم للنصوص القطعية ، وعلى ما فسره من العام المخصص ، لا يكون دليلا على موت الخضر ، ويمكن إضافة من أعمارهم تجاوزت المئة ، وهم أحياء في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولما كسلمان الفارسي (رضی الله عنه) فيكون الحديث مخصصا ، أما بالنصوص ، أو الواقع ، كما يفترض من مفهوم التخصيص ، قال القرطبي(1):

قلت : إلى هذا ذهب البخاري ، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي ، والصحيح ، القول الثاني ، وهو ، وهو أنه حي على ما نذكره على ما نذكره . وهذا الحديث خرجه مسلم في صحيحه ، عن عبد الله بن عمر ، قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم ، قام ، فقال : « أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مئة سنة منها ، لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر : فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك ، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث ، عن ، عن مئة سنة ، وإنما قال [رسول الله] عليه الصلاة والسلام : « لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن . ورواه - أيضا - من حديث جابر بن عبد الله ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول ، قبل أن يموت بشهر : «تسألوني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله ، وأقسم بالله ، ما على الأرض من نفس منفوسة ، تأتي عليها مئة سنة» . وفي أخرى ، قال سالم : تذاكرنا أنها : «هي مخلوقة يومئذ» . وفي أخرى : «ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مئة سنة ، وهي حية يومئذ ) . وفسرها عبد الرحمن ،

ص: 375


1- تفسير القرطبي : 11 : 41 - 45 .

صاحب السقاية ، قال : نقص العمر .(1) وعن أبي سعيد الخدري ، نحو هذا الحديث . قال علماؤنا : وحاصل ما تضمنه هذا الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام ، أخبر قبل موته بشهر أن كل من كان من بني آدم ، موجودا في ذلك لا يزيد عمره على مئة سنة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «ما من نفس منفوسة» وهذا اللفظ ، لا يتناول الملائكة ، ولا الجن ، إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك ، ولا الحيوان غير العاقل ، لقوله : «ممن هو على ظهر الأرض أحد» وهذا إنما يقال ، بأصل وضعه على من يعقل ، فتعين أن المراد بنو آدم وقد بين ابن عمر هذا المعنى ، فقال : يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن . ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول : إن الخضر حي لعموم قوله : «ما من نفس منفوسة» لان العموم ، وإن كان مؤكد الاستغراق ، فليس نصا فيه ، بل هو قابل للتخصيص . فكما لم يتناول عيسى عليه السلام ، فإنه لم يمت ، ولم يقتل فهو حي بنص القرآن ، ومعناه ، ولا يتناول الدجال أنه حي ، بدليل حديث الجساسة ، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام ، وليس مشاهد للناس ، ولا ممن يخالطهم ، حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة

ص: 376


1- إذا صح هذا الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فيبدو أنه قاله بشكل لم يفهمه الحاضرون ، لكونه سرا ، أو رمزا ، لأمر يتعلق بالساعة ، وما يجري فيها ، فكل فسره بما يراه ، وبحدوده في الفهم ، ولهذا تحرك النص بهذا الشكل ، وكل هذه النصوص مبهمة ، وغير منطقية ، ولا علاقة لها بالواقع ، إذا كان المقصود بها هو الشهادة ، بعدم بقاء إنسان عمره أكثر من مئة عام ، وهذا لا يمكن تفسيره ، لعدم صدقه الواقعي ، فهذا سلمان الفارسي (رضی الله عنه) عمره أكثر من مئة عام، وهو لم يمت إلا بعد وفاة الرسول بمدة طويلة . والقائمة تطول . وقد ذكر ذلك القرطبي ، بعنوان : تخصيص العام . ولعل مثل هذه الأحاديث - في غالبها الأعم - مثيرة للشك والريبة ، في القصد والمغزى من روايتها ، بهذه الطريقة ، مقرونة بفهم قاصر ، منقول معها ، ولا ندري ، هل الهدف في هذا تضييع بعض خصائص الأسرار النبوية بقصد ، أم أن وراء الأكمة ما وراءها ، إذ أن في مثلها اتهام بعدم الدقة فيما يقوله الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، فكيف يقول الرسول الأعظم بهذا ، وبين يديه من عمره فوق المئة ؟! هذا الحديث - إذن - وبهذا الفهم ، لا يصح مطلقا ؛ لأنه يخالف الواقع على أقل تقدير ومن المستحيل أن نصف ما يخالف الواقع ، بأنه صحيح الصدور ؛ لأن هذا اتهام – والعياذ بالله – لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)في كل رسالته .

بعضهم بعضا ، فمثل هذا العموم ، لا يتناوله . وقد قيل : إن أصحاب الكهف أحياء ، ويحجون مع عيسى عليه الصلاة والسلام ، كما تقدم . وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس ، كما ذكرنا . وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي ، في كتاب (العرائس) له : والصحيح أن الخضر نبي معمر ، محجوب عن الأبصار . وروى محمد بن المتوكل ، عن [ضمرة بن ربيعة] عن عبد الله ابن [شوذب] قال : الخضر عليه السلام من ولد فارس ، وإلياس من بني إسرائيل ، يلتقيان كل عام في الموسم . وعن عمرو بن دينار ، قال : إن الخضر ، وإلياس ، لا يزالان حيين في الأرض ما ما دام القرآن على الأرض ، فإذا رفع ماتا . وقد ذكر شيخنا الإمام ، أبو محمد عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي اللخمي ، في شرح الرسالة له للقشيري ، حكايات كثيرة ، عن جماعة من الصالحين والصالحات ، بأنهم رأوا الخضر عليه السلام ، ولقوه ، يفيد مجموعها غلبة الظن بحياته ، مع ما ذكره النقاش ، والثعلبي ، وغيرهما . وقد جاء في صحيح مسلم : «أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ ، التي تلي المدينة ، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو - من خير الناس» الحديث . وفي آخره ، قال أبو إسحاق : يعني أن هذا الرجل هو الخضر . وذكر ابن أبي الدنيا ، في كتاب الهواتف : بسند يرفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، أنه لقي الخضر ، وعلمه هذا الدعاء ، وذكر أن فيه ثوابا عظيما، ومغفرة ، ورحمة لمن قاله ، في أثر كل صلاة ، وهو : يا من لا يشغله سمع عن سمع ، ويا من لا تغلطه المسائل ، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين ، أذقني برد عفوك ، وحلاوة مغفرتك . وذكر - أيضا - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، في الدعاء بعينه ، نحوا مما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، في سماعه من الخضر .

وذكر - أيضا - اجتماع إلياس مع النبي عليه الصلاة والسلام . وإذا جاز بقاء إلياس ، إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، جاز بقاء الخضر ، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول ، وأنهما يقولان عند افتراقهما : «ما شاء الله ما شاء الله ، لا يصرف السوء إلا الله ، ما شاء الله ما شاء الله ، ما يكون من نعمة فمن الله ، ما شاء الله ما شاء الله ، توكلت على الله ، حسبنا الله ونعم الوكيل» . وأما خبر إلياس فيأتي في (الصافات) إن شاء الله تعالى . وذكر أبو عمر ابن عبد البر ، في كتاب

ص: 377

(التمهيد) عن علي رضي الله تعالى عنه ، قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت ، يسمعون صوته ، ولا يرون شخصه : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم أهل البيت ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ [آل عمران : 185] - الآية – إن الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب . فكانوا يرون أنه الخضر عليه الصلاة السلام . يعني أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام» . انتهى .

ونؤكد - هنا - إن ما يهمنا ، هو إثبات غيبة الخضر ، وتعقل لقاءه بالخواص ، عند من يستنكر غيبة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ولقاءه بالخواص . هذا هو جوهر المطلب .

ص: 378

النبي إلياس (علیه السّلام)

﴿وَإنَّ البَاسَ لَمنْ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَقَوْمه ألا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْه في الآخرينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات : 123 - 132] .

اختلفت أقوال العلماء في النبي إلياس (علیه السّلام) هل هو الخضر نفسه ؟ أم هو أخوه ؟ كما قال السدي . أم انه مجرد صديق ورفيق له ؟

وصورة هذا الرسول المنصوص على رسالته قرآنيا مشوشة وغير واضحة المعالم ، بحيث لا يعرف من هو ؟ ولا أين كان ؟ ولا ماهية رسالته ، ولا قصة حياته !

فعلى كل حال فإن إلياس ذكر في القرآن بأنه من المرسلين ، وليس مجرد عبد صالح .

ولعل من المفيد أن انقل نص من يريد نفي بقاءه من اجل أن أبين أمران : الأول : مدا الاضطراب في تناول قصة هذا النبي الكريم ، والثاني : هو الاصرار على عدم بقاءه بأدلة مضحكة من قبيل النفي الانتقائي للنصوص ، والأحاديث الصحيحة عندهم . فاترك ذلك لابن كثير في كتابه التاريخي البداية والنهاية ، فهو يروي كل ما قيل عنه من صحيح أو مكذوب وخرافة . وهو يتبنى مذهب عدم بقاءه لأسباب نفسية ومذهبية هو اعرف بها . وخلاصة ما سنستنتجه من بحثه أنه نبي غائب مستور في فترة من فترات حياته ، وهذا مسلّم بين المسلمين ، وانه نبي غامض لا يصح في قصته شيء وكأنه لا شيء عنده ، مع انه من المرسلين بنص القرآن الكريم :

ص: 379

ابن كثير في تاريخه(1):

«وأما(2) الياس فقال الله تعالى بعد قصة موسى وهرون من سورة الصافات : ﴿وَإنَّ إلْيَاسَ لمنْ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لقَوْمه ألا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالقين * اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْه في الآخرين * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات : 123 - 132].

قال علماء النسب : هو الياس التشبي ، ويقال ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون ، وقيل الياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران .

قالوا : وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق فدعاهم إلى الله عز وجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا . وقيل كانت امرأة اسمها بعل والأول أصح . ولهذا قال لهم : ﴿ألا تتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبِّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ [الصافات : 124 - 126] فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله فيقال إنه هرب منهم واختفى عنهم .

قال أبو يعقوب الأذرعي ، عن يزيد بن عبد الصمد ، عن هشام بن عمار قال : وسمعت من يذكر عن كعب الأحبار أنه قال : إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين ، حتى أهلك الله الملك وولى غيره ، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام ، فأسلم ، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم ، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم . وقال ابن أبي الدنيا حدثني أبو محمد القاسم بن هاشم ، حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن بعض

ص: 380


1- البداية والنهاية : 1: 393 - 396 .
2- في تاريخ الطبري : 1 : 239 : «كان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل . وقال ابن قتيبة في المعارف : إلياس من سبط يوشع بن نون بعثه الله في أهل بعلبك وكانوا يعبدون صنما يقال له بعل وملكهم اسمه أحب وامرأته أزبيل . أما الطبري فيقول أن أحاب أحد ملوك بني إسرائيل واسم امرأته ازبل فقد كان يسمع منه ويصدقه - دون سائر ملوك بني إسرائيل الذين عبدوا بعل . أقول : بعلا ليس من أصنام بني اسرائيل كما هو معروف ولا اعرف اين اصنف معلومة الهامش لكتاب ابن كثير .

مشيخة دمشق قال : أقام إلياس عليه السلام هاربا من قومه في كهف جبل عشرين ليلة . أو قال أربعين ليلة - تأتيه الغربان برزقه .

وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي : أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه قال : أول نبي بعث إدريس ، ثم نوح ثم إبراهيم ، ثم إسماعيل وإسحق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم إلياس التشبي بن العازر بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام هكذا قال وفي هذا الترتيب .

وقال مكحول عن كعب : أربعة أنبياء أحياء اثنان في الأرض إلياس والخضر ، واثنان في السماء إدريس وعيسى [عليهم السلام] .

وقد قدمنا قول من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام في شهر رمضان ببيت المقدس، وأنهما يحجان كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل .

وأوردنا الحديث الذي فيه انهما يجتمعان بعرفات كل سنة . وبينا أنه لم يصح شيء من ذلك ، وأن الذي يقوم عليه الدليل : أن الخضر مات ، وكذلك إلياس عليهما السلام(1).

وما ذكره وهب بن منبه وغيره : أنه لما دعا ربه عز وجل أن يقبضه إليه لما كذبوه وآذوه ، فجاءته دابة لونها لون النار فركبها وجعل الله له ريشا وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار ملكيا بشريا سماويا أرضيا وأوصى إلى اليسع بن أخطوب(2) ففي هذا نظر وهو من الإسرائيلات التي لا تصدق ولا تكذب بل الظاهر أن صحتها بعيدة والله أعلم(3).

ص: 381


1- أقول : قد تبين من مبحث الخضر عليه السلام انه لا يوجد دليل على وفاته وكذلك إلياس ، وقد اعتمدوا عدم الدليل دليلا على العدم .
2- روى الخبر ابن الأثير في الكامل : 1 : 214.
3- كيف لا يصدق ولا يكذب ؟ وعنده ادلة مضادة كما يظهر ومنها كونه لا يعقل عنده .

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي(1) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني(2) ببخارا حدثنا عبد الله بن محمود ، حدثنا عبدان بن سنان ، حدثني أحمد بن عبد الله البرقي ، حدثنا يزيد بن يزيد البلوي ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي عن مكحول ، عن أنس بن مالك قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفورة المثاب لها قال : فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع فقال لي : من أنت ؟ فقلت : أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأين هو ؟ قلت : هوذا يسمع كلامك قال فأته فأقرته السلام وقل له أخوك إلياس يقرئك السلام . قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم [عليه] . ثم قعدا يتحادثان فقال له يا رسول الله إني ما آكل في [السنة] إلا يوما وهذا يوم فطري فاكل أنا وأنت قال : فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبز وحوت وكرفس فأكلا وأطعماني وصلينا العصر ، ثم ودعه [ثم رأيته] مر في السحاب نحو السماء . فقد كفانا البيهقي(3) أمره وقال : هذا حديث ضعيف بمرة . والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين . وهذا مما يستدرك به على المستدرك(4) فإنه حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه . ومعناه لا يصح أيضا

ص: 382


1- دلائل النبوة : 5 : 421 .
2- كذا في الأصول : وفي دلائل البيهقي : البغدادي البرقي - في الدلائل الرقي . يزيد بن يزيد البلوي : في الدلائل : يزيد العلوي .
3- ما بين معكوفين في الحديث من دلائل البيهقي . عقب البيهقي بعد تمام الحديث قال : قلت : هذا الذي روي في هذا الحديث في قدرة الله تعالى جائز وبما خص الله عز وجل به رسوله من المعجزات يشبه ، إلا أن إسناد هذا الحديث ضعيف بمرة .
4- قال الذهبي في الميزان : 4 : 441 : عن يزيد بن يزيد عن أبي إسحاق الفزاري بحديث باطل أخرجه الحاكم في مستدركه .. فما استحي الحاكم من الله يصحح مثل هذا ثم قال الذهبي في تلخيص المستدرك : هذا موضوع ، قبح الله من وضعه ، وما كنت أحسب أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا . ورواه ابن الجوزي في الموضوعات : 1 : 200 . وقال : حديث موضوع لا أصل له .

فقد تقدم في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في السماء إلى أن قال : ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» وفيه أنه لم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان هو الذي ذهب إليه . وهذا لا يصح لأنه كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الأنبياء . وفيه أنه يأكل في السنة مرة وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب وفيما تقدم عن بعضهم أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر . وهذه أشياء متعارضة وكلها باطلة لا يصح شئ منها(1).

ص: 383


1- أقول : لم يبينوا سبب التضعيف ولم يفندوا قول الحاكم النيسابوري بأن الحديث على شرط الشيخين !! فكل ما قاموا به اتهامه بأنه موضوع وانه مردود ، وقد حاولوا أن يجدوا اختلافات اسموها تناقضا بينما هي غير متناقضة ، فانه إذا كان يشرب في السنة مرة واحدة ويأكل مرة واحدة فأين التناقض في ذلك؟ على كل حال لا بد ان عندهم سببا لهذه الحدة في النقد وسب الحاكم بهذا الشكل البذيء ، على إن بعض رواياتهم حجة عليهم ، ولكن لا يتبعون طريقهم في الحجة ، حيث كما نرى فقد انقلبوا فجأة من رجال سند إلى ناقدين نقدا من داخل النص ، وهذا ليس من طريقهم مطلقا فمبناهم إذا صح الحديث يقولون به حتى لو خالف العقل . وهنا أبين مسألة مهمة جدا : وهي إن نفس ابن كثير لو كان هواه مع تصحيح هذا الحديث لقال إن في الحديث زيادة لم تثبت ، وهو حديث تابعه عليه فلان وفلان ، وقد اجمع أهل الحديث على قبوله . فقصة طول النبي إلياس مردودة من نفس الحديث حيث إن طوله ثلاثمائة ذراع أي حوالي 138 مترا وقد تعانق مع النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي كان بطول متوسط بحدود 8 ، 1 مترا فكيف يتعانق هذان الطولان ؟ ويمكن الأخذ من الحديث الآتي بعده بأنه أطول من النبي بثلاثة اذرع فتحوّل بفعل النساخ إلى طوله ثلاثمائة ذراع ، فلا بد أن يكون الرقم مقحما عن طريق الخطأ، وإلا فإن الراوي لا عقل له حتى لو كان كذابا . وهذا سبب وجيه لنفي الزيادة غير المعقولة في الحديث والجمع مع الأحاديث الأخرى لتصحيح الخطأ ، لا لنفي الحديث كله ، وهذا حسب طريقتهم في التفكير وفي إثبات ما يريدون . فإنهم لا يفكرون مطلقا حين يُقَرَّم الله عندهم فيكون طوله ستون ذراعا على طول ادم ، ويكون أمردا قططا ، فهذا لا مشكلة فيه، وعلى أي حال فإن من يتغافل عن حديث رجم القردة لقردة زانية في صحيح البخاري يمكنه أن يتغافل عن خرافة الطول هذه . ولكن هناك نزعة غير واضحة في تكذيب خبر بقاء إلياس والخضر رغم صحة الأحاديث فيهما وعدم صحة الأحاديث في موتهما ، وإنما هي استنطاق نصوص ضعيفة بما لا دلالة فيها على المطلوب ، ولعل من يقرأ لوازم طول العمر هذا وبقاء النبي الغائب المتواصل مع الأولياء والصالحين فسيفهم سر هذه الحملة ، وهي واضحة التمذهب وسد الباب على مسألة في غاية الخطورة .

وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى واعترف بضعفها وهذا عجب منه كيف تكلم عليه فإنه أورده من طريق حسين بن عرفة ، عن هانئ بن الحسن ، عن بقية ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن واثلة ، عن ابن الأسقع فذكر نحو هذا مطولا وفيه أن ذلك كان في غزوة تبوك وأنه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان قالا : فإذا هو أعلى جسما بذراعين أو ثلاثة واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الإبل وفيه أنه لما اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا من طعام الجنة وقال : إن لي في كل أربعين يوما أكلة وفي المائدة خبز ورمان وعنب وموز ورطب وبقل ما عدا الكراث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله : عن الخضر فقال : عهدي به عام أول وقال لي إنك ستلقاه قبلي فأقرئه مني السلام . وهذا يدل على أن الخضر وإلياس بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث لم يجتمعا به إلى سنة تسع من الهجرة وهذا لا يسوغ شرعا(1) وهذا موضوع - أيضا .

وقد أورد ابن عساكر طرقا فيمن اجتمع بإلياس من العباد وكلها لا يفرح بها لضعف إسنادها أو لجهالة المسند إليه فيها . ومن أحسنها ما قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني بشر بن معاذ حدثنا حماد بن واقد عن ثابت قال : كنا مع ثابت قال : كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة فدخلت حائطا أصلي فيه ركعتين فافتتحت : ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْب شَدِيد العقاب ذي الطَّوْل﴾ [غافر : 1 - 2] . فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء ، عليه مقطعات يمنية ، فقال لي إذا قلت غافر الذنب فقل : يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي . وإذا قلت قابل التوب فقل : يا قابل التوب تقبل توبتي . وإذا قلت شديد العقاب فقل : يا شديد العقاب لا تعاقبني . وإذا قلت ذي

ص: 384


1- أقول : لماذا لا يسوغ شرعا ؟ هل السبب هو ثبوت لقائهما بالنبي قبل ذلك ؟ إذن هذا اعتراف بوجوده في زمن النبي ويكفي هذا الاعتراف في إثباته . أم صدر حكم شرعي بعدم جواز لقاء النبي بإلياس في السنة التاسعة للهجرة ؟

الطول فقل : يا ذا الطول تطول علي برحمة ، فالتفت فإذا لا أحد وخرجت فسألت : مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية ؟ فقالوا ما مر بنا أحد ، فكانوا لا يرون إلا أنه الياس.(1)وقوله تعالى : ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات : 127] أي للعذاب إما في الدنيا والآخرة أو في الآخرة . والأول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون . وقوله : ﴿إلا عباد الله المُخلصين﴾ [الصافات : 128] أي إلا من آمن منهم وقوله : ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ [الصافات : 129] أي أبقينا بعده ذكرا حسنا له في العالمين فلا يذكر إلا بخير ولهذا قال : ﴿سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسين﴾ [الصافات : 130] أي سلام على الياس العرب تلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا إسماعيل وإسماعين وإسرائيل وإسرائين وإلياس والياسين . ومن قرأ سلام علی آل ياسين أي على آل محمد وقرأ ابن مسعود وغيره سلام على ادراسين . ونقل عنه من طريق إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود انه قال : الياس هو إدريس وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم وحكاه قتادة ومحمد بن إسحاق والصحيح أنه غيره كما تقدم والله أعلم» . انتهى كلام ابن كثير .

أقول : الذي يفيدنا أن ابن كثير باعتباره من المتعصبين والمتأثرين برأي ابن تيمية اثبت لنا وجود الياس حيث اراد نفيه بذكر بقاءه في حديث على شرط الشيخين . وعليه يكون غائبا الى زمن النبي على اقل تقدير . واما رفض ابن كثير فهو اجتهاد بخلاف مبناه كمحدث حشوي .

أقول : وقد ورد احاديث كثيرة عن غير طرق أهل السنة تدل على بقاء النبي إلياس إلى زمن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكن على اقل تقدير انه اختفى عن قومه مدة من الزمن ، وإن كانت قصيرة ، وهذا يكفي لاثبات غيبة نبي ، وهو المطلوب عندنا.

ص: 385


1- أقول : هذه الرواية الصحيحة عنده تروي إجماع المسلمين على وجود إلياس زمن بن الزبير ، وهذا يرد كل شكوك وعدم ارتياح ابن كثير للقول بوجوده .

النبي عيسى (علیه السّلام)

إن صعود عيسى للسماء حيا ، لم يقتل ، بحسب نصوص الإسلام الأساسية ، لهو الغيبة بعينها ، ولا تحتاج إلى أي نقاش ، قال تعالى : ﴿وَقَوْلهمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسيحَ عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا انْبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقيناً﴾ [النساء : 157].

وهذا أمر واضح ، حقيقته : إن عيسى (علیه السّلام) محجوب عن الناس ، وأما عند النصارى ، فالأمر لا يختلف كثيرا ، عما في أيدي المسلمين ، لأنهم يقولون : إنه قام من قبره في اليوم الثالث، وهو حي الآن ، فهم مختلفون مع المسلمين في ثلاثة أيام فقط ، وكل قضيتهم ، إنهم يريدون أن يثبتوا إن المسيح تألم ، وتعذب ، حاملا ذنوب البشر ، بدلا عنهم ؛ ليرفع عنهم التكاليف ؛ لأنه هو من حمل عنهم عذاب الخطايا ، وهذه نظرية ، تحتاج إلى مراجعة عقلية ، في أمرين أساسيين :

الأول : هو نفي الشريعة ، وهذا يتناقض مع تأكيد المسيح (علیه السّلام)، بأنه جاء للعمل بالناموس ، وهو الشريعة .

والثاني : هو تعذيب غير الجاني ، وغير المستحق . وهذا ممنوع على الله ، وقد تقدّم الكلام فيه ، وهذا كله ينفي من الأساس، قضية الصلب، والثلاثة أيام ، التي قام بعدها المسيح - بزعمهم - والتي اختلفوا فيها مع المسلمين .

وعلينا - إذن - أن نختصر الاستدلال بغيبة عيسى (علیه السّلام) بما قاله علي بن يونس العاملي ، في كتابه الصراط المستقيم(1):

ص: 386


1- الصراط المستقيم : 2 : 222 .

«ثم نرجع ، ونقول : عيسى - أيضا - حي إلى الآن ، قال الضحاك ، وجماعة - أيضا - من مفسري المخالف ، في قوله تعالى : ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران : 55] أي بعد إنزالك من السماء ، وقال الكلبي ، والحسن ، وابن جريج : رافعك من الدنيا ، إلي من غير موت . ويؤكد ذلك ، ما رواه الفرا في كتابه ، شرح السنة ، وأخرجه البخاري ، ومسلم في صحيحيهما ، عن أبي هريرة ، قول النبي صلى الله عليه وآله : «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم ، وإمامكم منكم ؟» . وفي تفسير : ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إلا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء : 159] قال ابن المرتضى : قال قوم: الهاء في ﴿مَوْته﴾ كناية عن عيسى ، أي قبل موت عيسى ، عند نزوله من السماء ، في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد ، إلا آمن به حتى يكون به الملة واحدة ، ملة الإسلام ، ويقع الأمنة في الناس ، حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، وتلعب الصبيان بالحيات . ولا شك أن هذه المقالة ، معها ظاهر الآية ، إذ لم يؤمن بها منهم ، منذ نزولها إلى الآن ، فلا بد من كون ذلك في آخر الزمان ، وفي الحديث : «ينزل عيسى في ثوبين ، مهرودين أي مصبوغين بالهرد ، وهو الزعفران» . انتهى .

ص: 387

مشكلة الأعور الدجال

عند منتقدي فكرة بقاء المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)

الدجال أو المسيح الدجال : صحابي ولد في زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)

وشارك في الفتح الإسلامي

غاب وسيخرج في زمن المهدي في آخر الزمان

وهو صائد أو صاف بن صياد .

هذه القضية ، معضلة حقيقية ، لمن ينكر إمكان غيبة المهدي (علیه السّلام)، فضلا عن وقوعها(1) وذلك لأنه يؤمن - بلا أدنى مجال للشك - أن المسيح الدجال ، ولد في زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وصحبه ، وأسمه صائد بن صياد ، ويسمى – أيضا – صاف بن صياد . وكان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يحذر منه ،

ص: 388


1- لابأس أن نذكر - هنا - بما ناقش به القرطبي ، في مجال رد دعوى عدم بقاء الخضر (علیه السّلام)، لما نسب لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من حديث ، حيث قال عنه : إنه عام ، قابل للتخصيص ، بالمسيح ، وبالدجال ، الذي هو من المتيقنات ، ببقاء شخصه حيا ، لمدة طويلة غير متعقلة : تفسير القرطبي : 11 : 41 - 45 : «لأن العموم ، وإن كان مؤكد الاستغراق ، فليس نصا فيه ، بل هو قابل للتخصيص . فكما لم يتناول عيسى عليه السلام ، فإنه لم يمت ، ولم يقتل ، فهو حي بنص القرآن ، ومعناه ، ولا يتناول الدجال ، مع أنه حي بدليل ، حديث الجساسة ، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام ، وليس مشاهد للناس» .

وقد اختلط بالمسلمين ، وشارك في الفتوحات ، وقد فتحت مدينة (سوس) على يديه(1) وبقي مع الأحداث ، وقد اعتبر حدیث صائد ابن صياد من الصحاح ، كما اعتبر حديث الدجال المعروف ، بحديث الجساسة - أيضا - من الصحاح ، ولهذا فقد اخذ حيزا في الحديث ، وفي الملاحم والفتن ، وفي توصيف أشراط الساعة ، وآخر الزمان ، وزمن المهدي ، والمسيح عليهما السلام ، وغير ذلك ، وقد قامت دراسات على هذا الموضوع ، كلها تؤكد التسليم اليقيني ، بشخصية الدجال ، وكونه موجودا ، وحيا ، في زمن الرسول وهو باق إلى زمن ظهور المهدي ، ليحارب المهدي (علیه السّلام)، ويُقتل على يد المسيح (علیه السّلام)، ومن جملة هذه الدراسات ، دراسة الأستاذ سعيد أيوب ، وهي دراسة ضخمة ، بعنوان : (عقيدة المسيح الدجال) تقع في 596 صفحة ، يبحث فيها ، خبايا قضية الدجال ، وقد حاول ربط واقع ما عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في زمنه وبين ارتباط كات صائد بن صياد ، مع قضية الجساسة بنفس تفسير ابن حجر للظاهرة الغريبة ، بأن الدجال في حديث الجساسة ، هو نفسه صائد بن صياد ، رغم اختلاف المظهر ، والمكان ، والزمان ، باعتباره ساحرا، شيطانيا ، يتمظهر بمظاهر متعددة ، وقد ربط الأحداث بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، بما ورد في حديث الجساسة ، حيث ربط بين من قابل الدجال - ببلاهة - في رحلة تميم الداري ، وبين كونهم أنفسهم ، أعوان معاوية ، والحجاج ، والظلمة المزورين للإسلام ، وربط بين كون الدجال ابن صياد في جيش أبي موسى الأشعري ، وبين كون أبي موسى الأشعري يرتكب مخالفة النصوص الصريحة ، التي بين يديه، ليقول نتركها لهوى الناس ، فيتحكم الهوى ، بما يدمر رسالة الإسلام ، من الجذور .(2) وقد ذهب سعيد أيوب ، إلى أن عدم استجابة لخم ، وجذام ،

ص: 389


1- تاريخ الطبري : 3: 186 - 187 .
2- ذلك في حادثة التحكيم الشهيرة ، في صفين ، حين رفض النصوص ، التي اطلع عليها شفاها من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقال أخلع علي بن أبي طالب المنصوص عليه ، وأتركها لهوى الناس ، بينما قال خادعه ، عمر بن العاص : إنه يثبت معاوية ، ويبقيه على الناس ، ولم يكن معاوية - أصلا - متعرضا للخلافة ، أو طالبا لها ، إنما حارب الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، للاستئثار بالشام والبقاء واليا عليها ؛ ولأن الإمام (علیه السّلام) لم يقره على باطله ، وتسلطه على مقدرات المسلمين ، وما كان بعد ذلك ، أثبتت صحة ما يراه أمير المؤمنين (علیه السّلام)، من أن معاوية لم يكن إلا كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ممن يدعو إلى نار جهنم ، وممن خرب النظام الإسلامي ، وأحدث الشرخ ال- في الإسلام ، وحوّل الدولة الإسلامية إلى قيصرية ، وملك عضوض .

الموصوفتان بالعنجهية ، والغباء ، لدواعي الفتك بالمسيح الدجال ، حين قابلهم بصحبة تميم الداري(1) جعلتهم قادة ، وجنود معاوية ، كما قرره في الصفحة : 419 ، من كتابه (عقيدة المسيح الدجال) .

وبقي الدجال - بحسب مروياتهم - حتى اختفى في موقعة الحرة ، التي استبيحت فيها مقدسات المسلمين ، وشرفهم ، وشرف بناتهم العذارى العفيفات اللواتي فقدن عذريتهن ، بهجوم من يسمون أنفسهم بالمسلمين ، بينما كان يقودهم المسيح الدجال ، بالاتفاق مع أمير المسلمين .(2)

ص: 390


1-
2- صحیح مسلم : باب خروج الدجال ومكثه في الأرض : 8 : 201 . وفيه خبر الجساسة ، التي أخبرت تميم الداري ، والمسافرين معه ، من لخم وجذام، بوجود الدجال في دير وحده ... الخ . أقول : حديث الجساسة لا يثبت عندنا ، وهو حجة على من يثبت عنده ، وقد واجه المحدثون مشكلة ، في كون حديث الجساسة ، يقول : إن الدجال رجل كبير ، موجود في جزيرة ، مربوط في دير ، بينما حديث صائد بن صياد يقول : إنه طفل في زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنه صحابي ، وقد أكدوا إنه شارك في الفتوحات . واحتمل العسقلاني ، في فتح الباري ، أن يكون الدجال شيطانا ، يتشكل بأشكال الناس ، ولكن روايات صائد بن صياد - كما هو معلوم - تقول : إنه بشر منا ، من لحم ودم، له قدرات خارقة ، ولد زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد سأل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أمه عن حمله ، وولادته . بينما رواية الجساسة ، تقول : إنه رجل كبير ، في نفس الفترة الزمنية ، معدّ للخروج على الإسلام ، ويخبر بالمغيبات ، وهو محتجز في جزيرة ، وفرض إنه شيطان متشكل - كما احتمل العسقلاني - يفتح الباب للادعاء بالقول : إن كل باطل هو الدجال نفسه ، بينما الظاهر إنه شخصية معينة ، ولهذا نرى إن معالجة سعيد أيوب ، فيها بعض التغاضي عن موضوع الجساسة ، إلا أن يكون قد اقتنع بتحليل العسقلاني . حيث قال في فتح الباري : 13 : 328 : «أقرب ما يجمع به ، بین ما تضمنه حديث تميم ، وكون ابن صياد هو الدجال : إن الدجال بعينه ، هو الذي شاهده تميم موثوقاً ، وإن ابن صياد هو شيطان ، تبدى في صورة الدجال ، في تلك المدة ، إلى أن توجه إلى أصبهان ، فاستتر مع قرينه ، إلى أن تجيء المدة ، التي قدر الله تعالى خروجه فيها» . انتهى . مع العلم إن سعيد أيوب ، أورد هذا التحليل للموقف ، من قبل العسقلاني ، ولم يرده .

ولعل من يقرأ كتاب الأستاذ سعيد أيوب ، يراه غارقا في الخيال ، ولكن هناك حقيقة مهمة جدا ، وهي التقاء الأسماء الواردة في الروايات بشكل محير ، فلخم وجذام هم من كان مع تميم الداري ، حين قابل الدابة الجساسة ، وقابل الدجال فلم يتأثر أهل لخم وجذام ، لا بمنظر الجساسة ، ولا بمقالات الدجال ، بينما تأثر تميم ، وأسلم (يبدو أن سعيد أيوب يبني على صحة رواية الجساسة) .

وبعيدا عن هذه الرواية ، فان لخم وجذام، هم مَنْ غدرَ برسول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في معان ، وبعد ذلك تحالفوا مع الروم ، لتكون معركة مؤتة الدامية للمسلمين ، ثم شن عليهم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حربا ، في غزوة تبوك ، فهربوا مع الروم ، ولم يلق رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، كيدا ، فعاد ، ثم جهز لهم جيش أسامة بن زيد وبعث به ، ولم ينفذه المسلمون ، بحجج واهية ، حتى انتقل (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الرفيق الأعلى ، وقد وصفهم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأنهم من أولاد سبأ ، ممن (شأموا) وقل حظهم في الدين ، ومن ثم تحولوا إلى أنصار معاوية يقاتلون الحق ، ويدافعون عن الباطل ، وقد أسسوا أسس الخلل الإسلامي ، من الأخذ بالقشور ، وترك اللباب ، فهم من اخترع الطرب على صوت الحجاج ، حين يقرأ القرآن ، بينما لا يكادون يفهمون من كلام الله حرفا، ويقتلون عباد الله المخلصين ، ويفضحون أعراضهم بلا سبب حقيقي ، إلا نصر القوة الغاشمة . فهذه الوقائع موجودة بالفعل . وهي تترابط بينها وبين كون الدجال يقابلهم في قصة الجساسة ، وكون صائد بن صياد ، الذي

ص: 391

حذر منه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان في نفس الجيش ، وفي نفس الاتجاه ، فهذه الوقائع ، لعلها جعلت من ربط المفاهيم ، عند سعيد أيوب ، أكثر وضوحا عند من لم تتوفر له.(1)

ولعلنا نظلم الأستاذ سعيد أيوب ، إذا لم نقف مع الكثير من وقفاته المهمة بالفعل ، فالربط بين كون الدجال في جيش أبي موسى الأشعري ، وإن أهل الكتاب طلبوه بالاسم ، والصفة ، وبرهن لهم أنه الدجال ، وفتح السلاسل ، بمجرد غضبه ، وبين إن أبا موسى الأشعري ، هو نفسه من سلّم الحُكْم ، إلى من يدعو المسلمين إلى نار جهنم بصريح النص النبوي ، وكون هذا الجيش ، الذي يدعو إلى النار ، والفتنة ، يتكون من نفس القبيلتين ، اللتين قابلتا الدجال في حديث الجساسة ، ببلاهة وتقبل ، فهذا الربط لقضايا مبثوثة في كتب التاريخ، والحديث ، لهو ربط عقلاني ، ومهما ابتعد خيال الأستاذ سعيد أيوب عن الواقع في الكثير من الروابط ، ولكنه لم يبتعد – هنا – فهذه وقائع ، تحتاج إلى تأمل شديد ، وهي ارتباطات تتبين بنتائجها أكثر مما تتبين بوقائعها ، ولكن الوقائع تفسر هذه النتائج المترابطة ، بشكل عجيب.

ويبدو إن مشكلة الدجال ، شكلت معضلة فكرية ، فقد تجاذب رأيهم بين أن يكون الدجال ، هو صائد بن صياد ، وبين أن لا يكون هو المسيح الدجال نفسه ، وإنما الدجال هو ما ورد في حديث تميم الداري، من أمر الجساسة ، وهذا الاختلاف يعود لسببين ، الأول : هو غرابة الترابط بین الشخصيتين . والثاني : هو محاولة التخلص من قضية أساسية ، وهي كون الدجال – دائما – في . جند الباطل ، وبما إنه مع أبي موسى الأشعري ، الذي سلّم الحكم لمعاوية ، وهو في جند يزيد يوم الحرة ، والدجال قابل قيادات جيش معاوية ، لخم وجذام ، في زمن النبي ، وبشرهم بانتصاره على

ص: 392


1- يمكن مراجعة هذه الأحداث ، في كتب الحديث ، والتأريخ ، بشكل مفصل ، فإن البحث غير مخصص ل الآن لهذا الموضوع ، وعلى سبيل المثال، يمكن مراجعة الأنساب للسمعاني 1 : 29 ، وعبد الله بن سبأ للعلامة الشيخ علي آل محسن الفصل الثالث (سبأ والسبئيون) وتفسير التبيان: 88 ، والبحار : 14 : 117 ، و 33 : 259 ، وإعلام الورى بأعلام الهدى : 1 : 212 ، وغيرها الكثير من المصادر التاريخية ، والحديثية ، ومصادر السيرة .

الإسلام ، وانتصار الباطل ، فهو في الجانب الذي يراد تلميعه، وتغطية مساويه ، بينما الدجال معهم - دائما - .

ونحن لا يهمنا هذا الاختلاف ، فكلاهما سواء ، إن كانا رجلا واحدا ، أو رجلين ، فهما أحياء في زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)- كما تزعم الروايات الموثقة في الصحاح والمسانيد - وقد غابا عن الأنظار، فأما الذي في خبر الجساسة ، فقد كان غائبا في زمن النبي نفسه ، وأما صائد بن صياد ، فقد غاب بعد موقعة الحرة ، الفظيعة ، التي هتكت حرمة الصحابة ، وأحباب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، على يد حاكم يدعي الإسلام ، ويأتم به المسلمون من أهل الأهواء .

اختلاف الشخصيتين - إذن - أو اتحادهما ، لا يعني شيئاً بالنسبة لقضية الغيبة ، وكذا قضية طول العمر ، فكلاهما يشتركان بهذا من دون نكير ، عند من ينكر قضية الإمام المهدي ، الذي تواتر الخبر به عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، مع فارق بسيط ، هو - وبحسب قصة صائد بن صياد - إن هذا الرجل أطول عمرا من المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بأكثر من 250 سنة . بينما رجل الجساسة ، أطول عمرا بكثير ، فقد يكون الفارق أكثر من ألف سنة ، ولكن الموازين العلمية ، تقتضي أن يعتمد حديث صائد بن صياد ، ولا يعتمد حديث الجساسة لأسباب تتعلق بالسند ، وحديث ابن صياد ، مجمع على صحته .

والغريب في الاختلاف ، هو إن من يصر ، على أن صائد ابن صياد ، هو الدجال ، إنما هم الصحابة أنفسهم ، خصوصا ، خاصة أحباب الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعض من يأخذ عنهم من الصحابة ، بينما من يصر على أنه ليس الدجال نفسه ، بل هو دجال من الدجالين ، هم من متأخري المتأخرين ، من المقلدة والمتمذهبين المتعصبين ، الذين يتبعون جيش من يدعو إلى النار ، وقيادات لخم وجذام .

وللتنوير ، بخصوص اعتماد الصحابة ، لكون ابن صياد هو الدجال بنفسه ، بالإضافة إلى ما تقدم ، من قصة فتح السوس ، التي يعتمدون روايتها ، نورد - هنا - مجموعة من أحاديث صحيحة، تبين إن الصحابة ، يصرون على أن صائد ابن صياد ، هو الدجال بعينه :

من ذلك ما أخرجه الشيخان ، البخاري، ومسلم ، في صحيحيهما: قيل لجابر بن عبد الله : إنه

ص: 393

أسلم . فقال : وإن أسلم . فقيل : انه دخل مكة ، وكان في المدينة . فقال : وإن دخل . فقد أخرج الشيخان ، عن محمد بن المنكدر ، قال : رأيت جابر بن عبد الله ، يحلف بالله إن ابن الصائد الدجال . قلت : تحلف بالله ؟! قال : إني سمعت عمر ، يحلف على ذلك، عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم .(1)

وأخرج أبو داود ، بإسناد صحيح ، عن ابن عمر ، أنه كان يقول : والله ما أشك إن ابن صياد ، هو المسيح الدجال .(2)

ومما أخرجه الشيخان ، البخاري ومسلم ، في صحيحيهما ، عن ابن عمر ، إن عمر ، قال : دعني يا رسول الله أضرب عنقه - أي ابن الصياد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن يكنه ، فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه ، فلا خير لك في قتله .(3)وأصرح من ذلك ، رواية ابن مسعود ، في صحيح مسلم ، بلفظ : «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه ، فإن يكن الذي تخاف ، لن تستطيع قتله.(4)

ومما أخرجه مسلم ، في الصحيح ، عن نافع ، قال : لقي ابن عمر ، ابن صياد في بعض طرق المدينة . فقال له قولا أغضبه ، فانتفخ حتى ملأ السكة . فدخل ابن عمر على حفصة ، وقد بلغها فقالت له : رحمك الله ، ما أردت من ابن صائد ، أما علمت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إنما يخرج من غضبة يغضبها.(5)

ومما أخرجه مسلم في الصحيح ، عن أبي سعيد الخدري ، إن ابن صياد ، قال له : أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو كافر ؟ وأنا مسلم ، أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه

ص: 394


1- صحيح البخاري : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة : 8 : 137 ، صحیح مسلم : باب ذکر ابن صیاد : 8 : 189 ، سنن أبي داوود السجستاني : باب في الأمر والنهي : 2 : 322 رقم الحديث : (4331) .
2- سنن أبي داوود السجستاني : باب في الأمر والنهي : 2 : 322 رقم الحديث : (4330) .
3- صحيح البخاري : باب في الجنائز : 2 : 69 ، صحیح مسلم : باب ذكر ابن صیاد : 8: 189 .
4- صحیح مسلم : باب ذکر ابن صیاد : 8: 189 .
5- صحیح مسلم : باب ذكر الدجال وصفته وما معه : 8 : 194 .

وسلم : هو عقيم لا يولد له ؟ وقد تركت ولدي بالمدينة ، أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل المدينة ، ولا مكة ؟ وقد أقبلت من المدينة ، وأنا أريد مكة . قال أبو سعيد الخدري : حتى كدت أن أعذره . ثم قال : أما والله ، إني لأعرفه ، وأعرف مولده ، وأين هو الآن . قال : قلت له تباً لك ، سائر اليوم .(1)

وفي رواية أخرى ، عند مسلم في صحيحه : أما والله ، إني لأعلم الآن حيث هو ، وأعرف أباه وأمه . قال : وقيل له : أيسرك أنك ذاك الرجل ؟ قال : فقال لو عرض علي ، ما كرهت .(2)

ومما أخرجه الشيخان - أيضا - عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي عليه الصلاة والسلام ، قال لابن صياد : تشهد أني رسول الله ؟ فنظر إليه ابن صياد ، فقال : أشهد أنك رسول الأميين . فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم : أتشهد أني رسول الله ؟ فرفضه . وقال : آمنت بالله وبرسله.(3)

ومن ذلك - أيضا - ما أخرجه الشيخان ، عن ابن عمر : أن النبي عليه الصلاة والسلام ، قال لابن صياد : ماذا ترى ؟ قال ابن صياد : يأتيني صادق وكاذب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خلط عليك الأمر.(4)

ص: 395


1- صحیح مسلم : باب ذکر ابن صیاد : 8 : 191 .
2- صحیح مسلم : باب ذکر ابن صیاد : 8: 191 .
3- صحيح البخاري : باب الجنائز : 2 : 96 . وكرره في باب دعاء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وفي كتاب الأدب ، صحيح مسلم : باب ذكر ابن صیاد : 8: 192 ، سنن أبي داوود : باب آخر في ذكر ابن صياد : 2 : 321 : الحديث بالرقم : 4329 ، سنن الترمذي : باب ما جاء في ذكر ابن صياد : 3 : 352 . وقد ذكر الحديث في مصنف عبد الرزاق ، وفي الأدب المفرد للبخاري ، وفي المعجم الكبير ، ومسند الشاميين للطبراني ، وفي تاريخ دمشق لابن عساكر ، وفي الإصابة لابن حجر ، وغيرها من كتب الأحاديث .
4- صحيح البخاري : باب الجنائز : 2 : 97 . وكرره في باب دعاء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وفي كتاب الأدب ، صحيح مسلم : باب ذکر ابن صیاد : 8: 192 ، سنن أبي داوود : باب آخر في ذكر ابن صياد : 2 : 321 : الحديث بالرقم : 4329.

ويلاحظ على الحديثين الأخيرين ، أنهما لا يدلان على تسميته بالدجال ، وإنما هما عرض لسلوك الدجال ، ومراقبة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) له ، و يدلان على توقف صائد ابن صياد في إعلان إسلامه ، وإنه يخاطب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، بلغة العدو ، في وقت لا يتسنى ذلك لصبي أن يواجه نبيا ، دانت له الجيوش ، والأمم .

وأما الأدلة النافية ، لكون صائد بن صياد ، هو الدجال، فأغلبها من نوع التشويش ، وعدم وضوح الرؤية . ولعله من قبيل نسبة تهمة النسيان – والعياذ بالله - لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فكما نسي ليلة القدر ، فقد نسي الدجال ، وحقيقته ، وهذا ما يلفقونه مرويا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد روى الطبراني في معجمه فقال(1): «الفلتان بن عاصم ، قال : أتينا النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). فخرج ، في وجهه الغضب ... فقال : إني خرجت إليكم ، وقد تبينت لي ليلة القدر ، ومسيح الضلالة ، فخرجت لأ بينها لكم ... فلقيت بسدة المسجد رجلين ، يتلاحيان ، معهما الشيطان ، فحجزت بينهما ، فنسيتها» .

ومن المحتمل إن قصة حضور الدجال، في الفتوح الإسلامية ، إنما هي قصة مفتراة ، موضوعة ، لا يخفى على المتعقل الغرض من وراءها ، فهي تفتح الباب على مصراعيه ، للتشكيك بأسس الرسالة الإسلامية المقدسة ، فما هو دفاعنا - لو سلمنا بما جاء في هذه القصة الكاذبة - أمام من يريد أن يطعن بالرسالة ، والرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، ويقول إنه هو الدجال – حاشاه – وإن جيوشه تفتح المدائن بالسحر ، وبغضب الدجال ، وضربه الأرض برجليه ، وما إلى ذلك ؟ ! هذا مع علمنا إن النصوص التوراتية ، أو التلمودية ، لا تغفل ذكر الدجال ، بل تذكره على إنه هو السامري ، وإنه باق إلى يوم يقتله المسيح المخلص ، في القدس ، أو غيرها.

إن الاعتراف ، والتسليم بأن صائد بن صياد ، هو الدجال - حقا ، وإنه كان موجودا في زمن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، لا يعني – بالضرورة - صحة ما قيل ، حول مشاركته في الفتوح ، وإنه يفتح

ص: 396


1- المعجم الكبير للطبراني : 18 : 857 .

البلدان بالسحر ، ولو صحت هذه الرواية ، لوجدنا أنفسنا أمام إشكالين ، ينبغي معالجتهما ، بشكل مقنع :

الأول : كيف يصح لأفراد الجيش الإسلامي الفاتح ، وهم - كما يفترض – خيرة المسلمين ، من أهل الجهاد ، والمرابطة ، أن يقبلوا بوجود الدجال بينهم جنديا ، يقاتل معهم ؟

الرواية لم تسجل - في هذا الصدد - اعتراضا إسلاميا واحدا على مثل هذا الوجود ، غير المرغوب فيه - قطعا !

والثاني : إن السهولة ، واليسر ، الذين تم بهما فتح أسوار المدينة ، بتأثير الدجال ، وسحره ، ينبغي أن يشكلان ،ثقلا ، وأهمية عسكرية ، يستثمرها القادة ، في فتوحات أخرى ، أو يشكلان - في الأقل - دافعا للغبطة ، والسرور ، والفرح ، في صفوف أفراد الجيش الفاتح ، وهذا - أيضا - لم تسجله الرواية ، ولم تشر إليه !

لا نجد - إذن - في طيات هذه الرواية ، ولا في كتب التاريخ ، ما يفسر لنا كل هذا ، بل على العكس من ذلك ، نجد إن ذكر صائد بن صياد - الفاتح ، والمستبسل في قتال الكفار ، والمجاهد في أفراد الجيش الإسلامي - توقف نهائيا ، حتى قيل إنهم فقدوا أثره ، بعد واقعة الحرة ، وهذا لا يتناسب مع ما حصل من تكسير سلاسل ، أسوار السوس ، وانتصار المسلمين ، بالسحر ! كما يدعي سيف بن عمرو التميمي . ولهذا فهذه القصة ، لا تضفي أي بعد ذي قيمة حقيقية للإسلام . ولكنها - في الوقت نفسه - تعطي الأعداء فرص نمو الخيال ، وتزوير الحقائق ، بالتمسك بقشة .

هذا الادعاء الباطل ، أثار الأستاذ سعيد أيوب ، ومن أجله ، كتب كتابه (عقيدة المسيح الدجال) كما يصرّح ، عدة مرات ، فقد قال في المقدمة :

«لقد قرأت ، وسمعت ، إن المبشرين النصارى ، يروجون في بلاد المسلمين ، أكذوبة تقول : بأن محمد ، نبي المسلمين ، هو المسيح الدجال ! وبتتبعي لهذه الأكذوبة ، وجدت بأن لها جذورا ، عند القوم ، ففي عام 1142 ، كلف بطرس المكرم ، بعض طلبته بترجمة القران الكريم ، ومن ترجمة لاتينية ، وضع بطرس موجزا لتعاليم الإسلام ، وكان يعتبر إن محمدا هو المسيح الدجال

ص: 397

(منتجمري وات 100 ، 1 - 105 - فضل الإسلام على الحضارة) وبطرس هذا هو أسقف دير كلوني (يوشع براور - عالم المصلين) الذي روج للحرب الصليبية ، وديره هو الذي خرج جميع الباباوات ، الذين قادوها ، وبعد قرنين من الزمان ، جاء كروتيش ليردد نفس المقولة (مونتجمري وات - 100 - فضل الإسلام) وبعد ثلاثة قرون، وضعت ترجمة إنجليزية للقرآن (إلكساندر روس عام 1649 ، والترجمة الفرنسية - أندريه سور ، في نفس العام) من خلال ترجمة فرنسية ، قالوا في مقدمتها :

أيها القاريء الكريم ، ها قد وصل المسيح الدجال ، العربي الكبير ، أخيرا بعد ألف سنة ، عبر فرنسا إلى انجلترا] (عالم الفكر 1 / 1984 ص 66) وفي عام 1984 ، خرجت علينا كبرى المجلات القاهرية المصورة ، برواية تبشيرية ، تقول فيها المبشرة جين داكسون : بأن هناك دينا ، سيكون قبل ظهور المسيح الدجال . هذا الدين ليس الدين المسيحي ، بل نوع آخر من التوحيد ، بني على قوة الله العليا ، أو توحيد الله العلي القدير ، وإن هذا الدين هو دين المسيح الدجال ، ثم جاء بعد ذلك ، في أحد تفاسير أهل الكتاب ، إن بعض أساتذة الكاثوليك ، يعتبرون إن محمدا ، نبي المسلمين ، هو المسيح الدجال . (آخر ساعة 26 - 9 - 1984) .

وبدأت هذه المقولة ، تنتشر بين المسلمين في أفريقيا ، وفي الهند، وفي بعض دول الخليج ، وأندنوسيا .

وكنت أتعجب أنهم يفعلون هذا . لو كان الجسد حيا ، ولكن الجسد قد مات ! لا خطر منه . فالمسلمون قد انزووا عن حركة الحياة ، بعد أن عطلوا الأسباب عندهم ، وافتتنوا في الأسباب عند معسكرات الكفر الإلحاد . فلماذا يذبح القتيل إذن ؟ ولكنني دهشت ، عندما عرفت السبب . قالوا :

«إن هناك مدا إسلاميا يفور ، ولم يعد هناك من يؤدي ضريبة الذل كاملة ! وعرف المسلمون إن للكرامة ضريبة باهضة ، فجنحوا إليها ، وكثيرا ما يؤدونها من دمائهم» ومن هنا ، كان لا بد أن أبحث لي عن معول ! أكشف به الدجل في صوره ، وفي أي مكان كان . وفي البداية ، أقرر إن

ص: 398

هذه الدعوى الضالة ، التي أطلقوها ، تقتلع من جذورها ، أمام أيسر تحقيق ، يقوم به أقل المسلمين شأنا ، وأنا من أقل المسلمين شأنا».(1) انتهى كلام الأستاذ سعيد أيوب .

وهنا أقول : إن أي عدو ، لا يشعر بالمسؤولية الضميرية ، والأخروية ، تجاه عدوه ، يمكنه أن يستغل أي ثغرة ، أو قصة ، ليضيف إليها الخيال ، فكيف إذا وجد قصة توافق هواه ، مثل كون المسيح الدجال يقود جيوش المسلمين ، ويفتح البلدان بسحره الشيطاني . ولهذا فإن في طيات الحديث ، والتأريخ الإسلامي المزور ، ما يساعد على دعاوى الكافرين ، ويفتح الأبواب الوهمية ، للهجوم على الإسلام ، وليس هذا هو الباب الوحيد ، فصفات الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، التي تعرضها كتب الحديث ، تجعل منه (صلی الله علیه و آله و سلم) أضحوكة ، لو أردنا أن نتغافل ، ونصدقها ، مثل كونه مسحورا لمدة ، لا يعرف ما يقول ، ومثل كونه غضوبا ، يقلب الله لعنه ، إلى رحمة للملعون ، ومثل كونه يحاول الانتحار ، لمجرد تأخر الوحي عليه ، ومثل خروجه بمشقص كالمجنون ، في طلب من اطلع على شباك بيته ، وكذلك قضايا كثيرة ، تتعلق بظاهرة الوحي ، مثل قصة الغرانيق ، التي ينفونها تارة ، ويثبتونها أخرى ، ومثل دعوى غرامه بالنساء ، بعد أن كبر في السن ، وأشياء كثيرة ، هي مادة دسمة للهجوم على الإسلام ، يوجد من يوفرها لهم ، من داخل الكيان الإسلامي ، وهذا يدل على الاختراق للفكر الإسلامي، والمشكلة إن الدولة الإسلامية ، هي المسؤول الأول ، عن هذا حجم الاختراق ، بل هي من صنعه من البدايات . وهذا يفسر مدى الهوة الحقيقية ، بين الحاكم الحاكم ، وبين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث الحاكم يحكم ، باسم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، بينما يصنع أفكارا ، ومجاميع فكرية ، مهمتها الأساسية تدمير الإسلام من الداخل ، والإساءة لرسوله الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد لا نبالغ ، إذا قلنا بأننا ، لو جمعنا كل هذه السيئات ، التي ألصقت بالإسلام ، وبنبي المسلمين ، لكانت الصورة مشوهة ، لا تقبل التعديل ، ولا تقبل أي تبرير ، بل سيكون الحكم – فورا – بأنه دين المجانين ، وأهل الباطل ، ولكن هيهات ثم هيهات ، أن تصلح الأدلة الكاذبة ، المزروعة داخل التراث الإسلامي ؛ لتكون هادمة لدين الله ، والصورة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، الرجل العظيم ، الذي لم

ص: 399


1- عقيدة المسيح الدجال : 9 - 11 .

يأت الدهر بمثيله – مطلقا ، وقد قيض الله - تعالى - من أهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم)، من دفع هذه الشبهات الملصقة بالإسلام ، فنفى تحريف المحرفين ، ومحا زيف المزيفين - بحمد الله.

إن بحث هذه القضية ، يحتاج إلى دراسات متكاملة ، ولكن هذه الإشارة ، كانت ضرورية ، لبيان مسألة مهمة ، وهي تفسير التخادم بين أعداء النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) من خارج الإسلام ، ومن داخله ، في تكوين صورة ، غير قابلة للإصلاح، وهدم كل البنى الفكرية ، والقانونية ، الإسلامية ، بأحاديث ، وقصص خرافية ، ودعاوى زائفة ، وأكاذيب .

علينا - قبل أن نهاجم أعدائنا - أن ننقي ثيابنا من هذا الدرن ، وأن ننفي زيف المزيفين ، وأن تخضع التراث الإسلامي للتقييم ، على أساس مقدار التخادم ، بين المطروح المدسوس ، وبين الهجمة ، التي يقوم بها أعداء الإسلام . ولكننا نعلم علم اليقين إن هناك فرقا إسلامية ، لا تقبل إعادة تقييم التراث ، على أساس نفي التزييف على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأنهم يقولون : بأنه سوف يسقط مذهبهم من الاعتبار ، حين ينفى هذا الكم الهائل من النصوص . فلا ندري ما فائدة بقاء مذهب ، إذا سقط أساس الدين ؟

ولهذا ، فإن دفاع الأستاذ سعيد أيوب ، فيه خلل ، حيث لم يعزل الفكر المندس ، والنصوص المفتعلة لنفي التهمة . وإنما أثبت التهمة، بإثباته للنصوص ، ولكن جعلها تهمة لمن خالف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وحاربه ، وحارب أهل بيته ، طيلة حياتهم ، وهذا يحتاج إلى مقدمة ثانية منه ، وإلى تحديد منهج ، إلا إذا كان قد قدّر ، إن عقول العامة ، لا تستطيع تصوّر هذه الجريمة ، ومصدرها . فأراد أن يعطي جرعات من التفكير ، عسى أن يصل القاريء إلى النتيجة الحتمية ، التي يقتضيها مسار التفكير . وهذا يحتاج إلى قراء أذكياء ، وما أقلهم في العالم الإسلامي ، الذي لا يفرّق بين الناقة ، والجمل .

ص: 400

كارثة

المسيح الدجال

صحابي مسلم مجاهد

وهو فوق الجرح والتعديل ، كبقية الصحابة العدول المجاهدين ، وابنه إمام أئمة الدين ، وشيخ الإمام مالك ، اتفقوا على توثيقه ، وكان لا يفضل عليه أحدا ، وقدموه على غيره .

حين يصنع الطغاة ، وأنصارهم دينا ما ، فإن تركيبة ذلك الدين ، ستكون تركيبة عجيبة غريبة ؛ لأنه سيكون دينا مرقعا ، مجتمعا من أوصال متناثرة ، لا جامع بينها . وهنا نقطة جديرة بالانتباه ، تتعلق بهذا الدجال ، وكيف إن الدين أصبح به ، مرقّعا بشكل عجيب!!

والدجال ، أو المسيح الدجال صاف بن صياد ، مما لا شك في كفره ، وقد قال بعض الصحابة : إنهم لا يشكون في كفره ، وفي كونه الدجال ، حتى لو صلى وصام ، وإذا شك أحد في قصة الجساسة ؛ لإعراض البخاري عنها ، فلا يشكنَّ أحد - ممن ليس لديه إلا طريق الصحاح - بكون صاف ، أو صائد بن صياد ، هو الدجال.

ولكننا حين نطلع على ترجمته ، نرى العجائب والغرائب ، فقد شكك أعاظم رجال الجرح والتعديل ، في كونه الدجال ، ووصفوه بالإسلام ، والجهاد ، وأداء الفروض . وأعرضوا عن كل هذه الروايات الصحيحة .

ص: 401

ولما كان الصحابي : هو من لقي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مؤمناً به ومات على الإسلام(1)... وهذا هو تعريفهم للصحابي . وحكم الصحابي - عندهم - : العدالة المطلقة ، التي لا تقبل الجرح ، ولا التعديل(2) فالصحابي عدل ، لا يحتاج إلى توثيق في رواته رواياته . ولما كان ابن صياد - كما نجده في ترجمته – قد لقي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم اسلم ، وآمن به ، ومات على الإسلام ، وجاهد ، وحج ، وهو عين المسيح الدجال ، فهو على هذا ثقة لا يحتاج إلى تعديل ، مطلقا ! .

هذه النتيجة الطريفة، توصلنا إلى وثاقة الشيطان نفسه . ويا له من ترقيع عجيب ! ولكن ، هل نقف عند هذا الحد ؟ لا أبداً . فابن الدجال كان ثقة – أيضا – بل أكثر من ثقة ، وكان الإمام مالك بن انس، لا يفضل عليه غيره !

ابن الدجال - إذن - أهم رواة المسلمين ، ولا يفضل عليه مالك ابن انس ، أيا ممن عاصره ، من العترة الزكية ، ومن التابعين المخلصين !

لقد أدرك مالك بن أنس ثلاثة أو أربعة من الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم هم : زين العابدين ، والباقر ، والصادق ، والكاظم في آخر أيام مالك ، فهؤلاء ليسو عدلا لابن الدجال ، عند

ص: 402


1- ابن حجر الإصابة : 1 : 6 - 8 .
2- إلا إذا كان محبا لعلي بن أبي طالب (علیه السّلام) متفانيا له . فقد جرح البخاري وضعف أول رجل بالغ ، آمن بمحمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو هند بن أبي هالة ، ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وابن زوجته خديجة ، من أبي هالة ، وقيل هو ابن أختها ، وكان عمره حين آمن عشرين سنة ، أو أقل بسنتين ، بينما كان عُمر علي (علیه السّلام) ثلاث عشرة سنة ، حين آمن ، وأسلم ، ولم يضعفوه ويخرجوه عن القاعدة، إلا لكونه متفانيا في حب علي ، وقد قتل بين يديه فى معركة الجمل . كما ضعفوا صحابة أجلاء مثل حجر بن عدي ، وغيره ، من أنصار أمير المؤمنين (علیه السّلام). ولو أخذنا بمعايير بن حجر للصحبة ، لوجدنا أنهم يضعفون صحابة كثر ، ليسوا على هواهم ، بخلاف مقولتهم في تعديل كل الصحابة ، ومعيار ابن حجر ، أنه قال : «وقد قدَّمْتُ غير مرة أنهم كانوا لا يؤمرون في ذلك الزمان إلا الصحابة» الإصابة : 1 : 445 و 2 : 603 و 2 : 136 . ويبدو إن ابن حجر ، استند في إثبات الصحبة - بهذا المعيار - حسب ابن أبي شيبة ، الذي قال : «كانوا لا يؤمرون في المغازي ، إلا الصحابة» الإصابة : 1 : 9 . ولكن هذا محذوف - الآن - من مصنف ابن أبي شيبة !!! وقد روى ابن كثير ، ما يدل على عرفهم ، بأنهم لا يؤمرون إلا صحابيا . البداية والنهاية : 4 : 25 .

مالك . ولا أعرف كيف يمكن أن يحتاط إنسان لدينه ، وهو يرى إن من حارب الإسلام في بدر وأحد ، إماما يمكن يقتدي به ، وإن الدجال وابنه رجال تقوى ، وأهل علم ودين ، تؤخذ عنهم الأحاديث ولا يفضل عليهم أحد ، ولا يرقى إليهم الجرح ؟

ولكي لا يكون كلامنا جزافا ، وبلا دليل ، ولكي لا نتهم أننا نلقي الكلام على عواهنه ، نقرأ معا هذه التراجم ، والحكم بعد ذلك للعقل لو رضينا به حاكما :

الحافظ ابن حجر(1):

الترمذي ، وابن ماجة ، عمارة بن عبد الله بن صياد الأنصاري أبو أيوب المدني ، روى عن جابر بن عبد الله ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء بن يسار ، وعنه الضحاك بن عثمان الحزامي ، ومالك بن أنس، ومحمد بن ينعقد الغفاري ، والوليد بن كثير المدني ، قال بن معين ، والنسائي : ثقة . وقال أبو حاتم : صالح الحديث ، وقال ابن سعد : كان ثقة ، قليل الحديث ، وكان مالك بن ، أنس لا يقدم عليه في الفضل أحدا ! وكانوا يقولون : نحن بنو شهيب بن النجار ، فدفعهم بنو النجار ، فهم اليوم حلفاء بني مالك بن النجار ، ولا يدري ممن هم !! وعبد الله بن صياد ، هو الذي ولد مختونا ، مسرورا فأتاه النبي ، فقال : قد خبأت لك خبيئا ، فقال : الدخ ، فقال اخسأ . وهو الذي قيل : إنه الدجال ، وقد أسلم عبد الله ، وحج ، وغزا مع المسلمين ، وأقام بالمدينة(2). ومات عمارة في خلافة مروان بن محمد ، وذكره بن حبان في الثقات ، له عندهما حديث واحد في الأضحية ، قلت : قول ابن سعد في عبد الله بن صياد ، يوهم أنه مات على الإسلام ، بالمدينة وقد ذكر غيره ، في ترجمته أنه خرج إلى أصبهان ، وأن اليهود

ص: 403


1- تهذيب التهذيب : 7 : 366 .
2- يعني ان الدجال عنده صحابي مسلم مجاهد في سبيل الله وقد أدى الفروض الشرعية واحمزها الحج والجهاد فهو من خيار المؤمنين . فماذا نريد بعد أكثر من هذا ؟ يعني هو ممن لا يشك في توثيقه وهو القائد المجاهد! والصحيح يقول انه الدجال الذي سيظهر آخر الزمان بروايات متعدد كما أسلفنا . ولا ندري ما حكمه عندهم إذا خرج قبل خروج المهدي لنصرة اليهود ؟

تلقوه ، وقالوا هذا ملكنا ، الذي نستفتح به على العرب ، وأدخلوه البلد ليلا ، ومعه الطبول ، والشموع ، ثم لم يعرف له خبر ، بعد ذلك ، ذكر أبو نعيم في تاريخ أصبهان ، بسنده ، وقد بسطت ترجمته في كتابي في الصحابة ؛ لأن صاحب التجريد ، ذكره مختصرا ، نعم ، أخرج أبو داود بسند صحيح ، عن جابر ، قال : فقدنا بن صياد يوم الحرة ، ومن طريق بن أبي سلمة ، قال شهد جابر أن بن صياد هو الدجال ، فقلت : إنه قد مات ، قال : وإن مات قلت : فإنه قد أسلم ، قال : وإن أسلم . وقال الآجري : قلت لأبي داود : عمارة بن صياد ، من ولد بن صياد ، قال بلغني هذا ، عن ابن سعد . وسألت أحمد بن صالح ، عن هذا ، فأنكره ، ولم يكن له به أدنى علم . وذكر الزبير بن بكار ، في أول نسب قريش : إن بن صياد ، يعني عمارة هذا ، وابن حزم ، يعني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، استبا(1) . فقال بن حزم ، لابن صياد : لستم منا ، وقال بن صياد ، لابن حزم لستم من العرب، فبلغ الوليد ، وهو خليفة ، فكتب : إن زعم بن حزم ، أنهم من ولد إسماعيل ، فحد له بن صياد ، وإن أنكر ، فلا ، فإنا لا نعرف عربيا ، إلا من ولد إسماعيل . فزعم بن حزم ، من إنهم ولد إسماعيل ، فحد له بن صياد».

أقول : لا ندري ، أنبكي ، أم نضحك ، من هذه الترجمة العجيبة ، المتناقضة ، التي لا يعرف لها أصل ، ولا معنى . إلا تبرئة ابن صياد ، من كونه الدجال ، مع وجود النقيض . فإنما هو صحابي مؤمن . ولم يعالج قضية كون اليهود تلقوه في أصبهان . وقالوا إنه ملكنا ، واختفى عندهم ، وهذا - قطعا - بعد حادثة فتح السوس(2) وانكشاف كونه المسيح الدجال اليهودي ، فعلا.

وخلاصة ما نخرج به ، من هذه الترجمة : إن ابن صياد ، رجل مسلم ، ممن أدرك الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، مجاهد ، حاج الله ، مجاور لمسجد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقبره ، فهو في قلب الإيمان ، ومن عناصر الدين ، وما شاء الله ! .

ص: 404


1- أي : تسابا . سب أحدهما الآخر.
2- فتحت السوس ، قبل أن تفتح أصبهان ، وهي أقرب للعراق ، من أصبهان ، بكثير .

ومن ذلك - أيضا . قال الحافظ ابن حجر(1):

«عمارة بن عبد الله بن صياد ، أبو أيوب المدني بن صياد ، أبو أيوب المدني، ثقة فاضل ، من الرابعة ، مات بعد الثلاثين، وأبوه هو الذي كان يقال : إنه الدجال» .

أقول : يعلم ابن حجر ، علم اليقين ، القيمة الحقيقية ، للصحاح المنسوبة للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وللصحابة بما فيهم الخليفة عمر بن الخطاب، الذي كان يحلف بالله ، إنه الدجال . فكيف تحوّلت عنده ، هذه الكمية من الصحاح المتفق عليها ، إلى (يقال) الدالة على التمريض ، وتضعيف الصحاح . أم أن هذا كله من أجل عيون الدجال ؟

الذهبي(2):

«عمارة بن عبد الله بن صياد ، هو ولد الذي ظن أنه الدجال ، عن جابر ، وعن ابن المسيب ، وعنه مالك ، وجماعة ، وثقه ابن معين ، وقال ابن سعد ، كان مالك ، لا يقدم عليه الفضل أحدا ، وهم أحدا ، وهم حلفاء بني النجار ، مات زمن مروان الحمار» .

أقول : الذهبي - هنا - كذب ما في الصحيحين ، بشكل أصرح من تشكيك ابن حجر ؛ لأنه نسب القول : (إنه الدجال) بقوله : «كان يظن» وينبغي أن هذا الظن ، ذهب بثبوت العلم ، عنده ، بحسب طريقة الفهم الإنساني . وهذا تكذيب للبخاري ومسلم ، من أجل أن يوثق الدجّال . حيث إنه عندهم صحابي ، مسلم ، مجاهد.

النووي(3):

«ابن صياد ، الذي يقال له الدجال ، اسمه عبد الله ، ولقبه صاف ، وقد ذكره الحافظ عبد الغني المقدسي ، في ترجمة ابنه عمارة بن عبد الله بن صياد ، وعمارة هذا ثقة، واتفقوا على

ص: 405


1- تقريب التهذيب : 1 : 711 .
2- الكاشف : 2 : 54 .
3- الأسماء واللغات : 2 : 571 .

توثیقه ، روى عنه مالك ، في الموطأ ، في كتاب الأضحية ، حديث أبي أيوب الأنصاري : «الشاة تكفي عن أهل البيت في الأضحية» يتمم من الإكمال للمقدسي» .

أقول : النووي - أيضا - مرض القول ، بأنه الدجّال بكلمة : (يقال) فأين أصبحت الصحاح ؟ حين يجمع هؤلاء العلماء على تكذيبها !.

أبن الأثير(1):

(عبد الله) بن صياد أورده ابن شاهين وقال هو ابن صائد كان أبوه من اليهود لا يدرى ممن هو وهو الذي يقول بعض الناس انه الدجال ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعور مختونا من ولده عمارة بن عبد الله بن صياد من خيار المسلمين من أصحاب سعيد بن المسيب روى عنه مالك وغيره .

ص: 406


1- أسد الغابة : 3 : 187 .

غيبة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)

يوم هاجر

إنها غيبة لحظية ، وقصيرة ، قد لا تتجاوز اللحظات ، في موقفين : الأول : حين خرج من بيته ، والمشركون على باب داره ، يريدون الفتك به ، فلم يروه ، وكان قد حثا التراب في وجوههم التراب فلم يشعروا به . والثاني : حين كان مختفيا بالغار ، مع صاحبه ، ولم يستطع المشركون معرفة وجوده ، رغم توفّر دلائل القيافة ، على وجوده هناك . ففي الأول كان غيابا عن الحس – بالكامل . وفي الثاني كان غيابا بخداع الحس ، ولهذا استنتجوا عدم وجوده ، على العكس من على العكس من أدلة القيافة ، التي دلتهم على مكان تواجده .

القضية - في طرح هذا الموضوع - هي : تصوير القدرة على الاختفاء بالجسد ، حيث حصل بالفعل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وجعل الله بين المشركين وبين النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) سدا من حجاب قدرته ، فاختفى عن أنظارهم . رغم أنه وضع التراب على رؤوسهم ، فلم يشعروا به .

إن ثبوت هذه الحادثة ، يكفي تماما للجواب على من يقول باستحالة الغياب الحسي ، والاختفاء أمام الحواس ، فهذا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، اختفى عن الحس أمام مردة قريش ، وفتيانهم الذين أرادوا قتله .

وكل ما نقوله هو : إن الوقوع ، يدل على الإمكان . ولا نريد من هذا الحدث الشهير ، أكثر من هذا ، حتى لا نستغرق في مناقشات ، لا طائل من ورائها - مع وجود الحقائق الواضحة .

بحث في بعض خصوصيات حديث خروج النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من البيت ، وفداء علي بن أبي طالب (علیه السّلام) له (صلی الله علیه و آله و سلم):

أورد هذه الحادثة ، ابن هشام في سيرته ، مرسلا لها إرسال المسلمات ، وقد رواها أكثر من حافظ ، وهي مروية عن ابن عباس ، وعلي بن أبي طالب (علیه السّلام)، والسيدة عائشة ، وسراقة بن مالك ،

ص: 407

غير إن الطبري، رواها مسندة إلى محمد بن كعب القرظي، موقوفة عليه ، عن طريق ابن إسحاق ، وتبعه الكثير من الحفاظ ، وقد علق ابن كثير ، على ما نقله الطبري ، عن ابن إسحاق ، فقال(1):

«وهذه القصة ، التي ذكرها ابن إسحاق ، قد رواها الواقدي، بأسانيده ، عن عائشة ، وابن عباس ، وعلي ، وسراقة بن مالك بن جشعم ، وغيرهم ، دخل حديث بعضهم في بعض ، فذكر نحو ما تقدم».

» ورواية ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد ، عن محمد القرظي، فيها مشكلتان ، الأولى : إنها لابن إسحاق ، الذي يرفضون روايته ، حين لا يعجبهم حديثه ، ويقبلونه بقوة حين يعجبهم . وهو يرويها عن يزيد بن زياد المديني ، وهو موثق ، ولكن اختلط اسمه ، باسم غيره ، ممن لا يوثقونه ، فوقع فيه كلام ، وجرت شبهات(2). وعلى كل حال - فالرواية بحسب موازيين علم الحديث ، بدون تلاعب ، أو تحيّز ، لا تنحط عن رتبة الحسن ، إذا لم تكن صحيحة ، فرواتها موصوفون بالتدين ، وهم ثقاة عندهم ، وسبب التوقف الحقيقي ، فيهم هو جهة المذهب ، أو المذاق السياسي . وقد وصف الألباني هذا السند ، بالحسن(3) ومن أراد مزيدا من البحث ، في مشكلة يزيد بن زياد ،

ص: 408


1- البداية والنهاية : 3: 216 - 217 .
2- تراجع كتب الرجال في من اسمه يزيد بن زياد ، والاشتباه في يزيد بن أبي زياد ، وسيأتي بعض التحقيق في عموم الرواية .
3- ضعيف سنن الترمذي : 281 : الحديث بالرقم 438 - 2604 . وفيه : «حدثنا هناد ، أخبرنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق . حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثني من سمع علي ابن أبي طالب يقول : ... » ثم أورد الحديث ، وقال : «هذا حديث حسن ، غريب» . وقد علق عليه ، في التعليق الرغيب (ضعيف - التعليق الرغيب : 3 : 109 - 110) . وفي ضعيف سنن الترمذي : 282 . واصفا راويه ، وهو المديني ، بالثقة . قال في 440 - 2607 : حدثنا هناد . أخبرنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثني من سمع علي ابن أبي طالب ... ثم أورد الحديث ، وقال : «هذا حديث حسن ، غريب . يزيد بن زياد هذا هو ابن ميسرة ، وهو مديني . وقد روى عنه مالك بن أنس ، وغير واحد من أهل العلم . ويزيد بن زياد الدمشقي، الذي روى عن الزهري ، روى عنه وكيع ، ومروان بن معاوية» . أقول : والمديني ثقة ، والدمشقي لم يوثقوه ، والكوفي كان شيعيا ، لم يقبلوا منه رغم تقواه ، قال المناوي في فيض القدير ، شرح الجامع الصغير : 3 : 58 : «وفيه يزيد بن زياد ، فإن كان المدني فثقة ، أو الدمشقي ، ففي الكاشف واه» . أقول : وحتى الشامي الدمشقي ، ففيه قولان : فان الحاكم ، وغيره ، وثقه ، بينما لم يوثقه آخرون . ففي فيض القدير : 1 : 293 : «وقال الحاكم : صحيح، ورده الذهبي ، في التلخيص، بأن فيه يزيد بن زياد ، شامي ، متروك ، وقال في المهذب : هو واه ، وقد وثقه النسائي . انتهى . وسبقه الترمذي ، فقال في العلل : فيه يزيد بن زياد ، سألت عنه محمدا ، يعني البخاري ، فقال منكر الحديث ، ذاهبه . وقال ابن حجر : فيه يزيد بن زیاد ، ضعیف ، وقال فيه البخاري ، منكر الحديث (وش) متروك ، وذكر الخزرجي الأنصاري اليمني ، في خلاصة تذهيب تهذيب الكمال : 431 : التفريق بين المتحدين اسما ، فقال : (ع خ س ق) : يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، الأشجعي ، الكوفي ، عن زبيد اليامي ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعنه أبو معاوية ، و وكيع ، وثقه أحمد ، وابن معين (بخ ت كن) يزيد بن زياد ، أو ابن أبي زياد المدني ، عن محمد بن كعب ، وعنه مالك ، وثقه النسائي (د ق) يزيد بن زياد ، أو ابن أبي زياد الدمشقي ، عن الزهري ، وعيسى بن قائد ، وعنه مروان بن معاوية ، وأبو نعيم ، قال البخاري منكر الحديث (خت م ع أ) يزيد بن أبي زياد الهاشمي ، عن مولاه عبد الله بن الحرث بن نوفل ، وأبي جحيفة ، وعنه زائدة بن قدامة ، وأبو عوانة ، وابن فضيل ، وقال : كان من أئمة الشيعة الكبار ، وقال ابن عدي يكتب حديثه ، وقال الحافظ شمس الدين الذهبي ، هو صدوق رديء الحفظ ، قال مطين ، مات سنة سبع وثلاثين ومئة ، روى له مسلم ، مقرونا . انتهى . ومنه يتضح أن ليس في الحديث ، علة حقيقية ! .

ويزيد بن أبي زياد ، فعليه أن ينظر في الهامش المتقدم، فقد وقع بهذا الاسم عدة رواة ، وقد اختلطت فيهم الأحكام . ولكن صاحب هذه الرواية هو الثقة.(1)

ص: 409


1- وقد عزاها إلى ابن كعب القرظي ، بدون ذكر السند ، ابن أبي حاتم في تفسيره : 10 : 3118 ، ورواها القرطبي في تفسيره : 10 : 269 ، ونقلها عن سيرة ابن هشام ، أبي حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط : 6 : 39 ، وذكرها ابن سيد الناس ، في كتابه عيون الأثر : 1 : 233 .

وقد أضاف القرطبي ، قصة طريفة ، وقعت له في حياته ، لتصديق قصة اختفاء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، جسديا ، ببركة خواص أوائل سورة يس . فقال(1):

«ولقد اتفق لي ، ببلادنا الأندلس ، بحصن منثور ، من أعمال قرطبة ، مثل هذا . وذلك أني هربت أمام العدو ، وانحزت إلى ناحية عنه ، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان ، وأنا في فضاء من الأرض ، قاعد ليس يسترني عنهما شيء ، وأنا أقرأ أول سورة يس ، وغير ذلك من القرآن ، فعبرا عليّ ثم رجعا ، من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر : هذا (ديبله) يعنون شيطانا . وأعمى الله - عز وجل - أبصارهم ، فلم يروني ، والحمد لله ، حمدا كثيرا ، على ذلك» .

خلاصة ما تقدم أن هذه القصة الصحيحة ، التي رويت في الاختفاء الجسدي ، لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن أعين الكفار، عن هي قصة شارحة ، ومبينة ، لقضية مهمة ، وهي حقيقة إمكانية غيبة المهدي عن أعين الناس ، مع الوجود الجسدي الظاهر ، وهذه الحالة ، لا تختلف عن حالة اختفاء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، مع صاحبه في الغار . ولكن كما قلنا : إن القصة هنا - اختفاء جسدي وفي قصة الغار ، اختفاء من نوع آخر ، وهو تشويش معلومات ، وانحراف الذهن ، عن معرفة الموجود الخارجي .

ص: 410


1- تفسير القرطبي : 10 : 270.

أحاديث في غيبة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)

بعد أن أصبح من الواضح تماما ، أن الغيبة أمر ممكن الوقوع ، غير مستبعد ، ولا يتنافى مع العقل البشري ، وتجربته التاريخية ، في ذلك ، كما أشارت إلى ذلك وقائع الغيبات الكثيرة للأنبياء ، والأولياء ، والتي مرت علينا في الفصل السابق ، نكتفي بسرد بعض الأحاديث ، المروية من الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بأسانيد صحيحة ، والدالة بنفسها ، على ما نريد :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «المهدي من ولدي، تكون له غيبة ، وحيرة تضل فيها الأمم ، يأتي بذخيرة الأنبياء عليهم السلام ، فيملؤها عدلا ، وقسطا ، كما ملئت جورا ، وظلما».(1)

وقد ورد هذا الحديث بألفاظ أخرى منها :

«المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خلقا ، وخلقا ، تكون به (له) غيبة ، وحيرة تضل فيها الأمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب ، يملؤها عدلا ، وقسطا كما ملئت جورا ، وظلما».(2)

ص: 411


1- ورد هذا الحديث ، مسندا في كمال الدين : 1 : 287 : ب 25 ح 5 - حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار النيسابوري ، قال : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري ، قال : حدثنا حمدان بن سليمان النيسابوري ، عن محمد بن إسماعيل بزيع ، عن صالح بن عقبة ، عن أبيه ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، عن أبيه سيد العابدين علي بن الحسين ، عن أبيه سيد الشهداء الحسين بن علي ، عن أبيه سيد الأوصياء ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)... والحديث في : فرائد السمطين : 2 : 335 : ح 587 . ينابيع المودة : 488 ب 94 - عن غاية المرام . المفردات : «أي تكون له غيبة ، وتكون في أثنائها حيرة الأمم وضلالها . وذخيرة الأنبياء : مواريثهم من الكتب، والعلم ، وغيرها، كما يأتي .
2- ذكره في كمال الدين : 1 : 286 ب 25 ح 1 - حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور ، رضي الله عنه ، قال : حدثنا الحسين بن محمد بن عامر ، عن عمه عبد الله بن عامر ، عن محمد بن أبي بن أبي عمير ، عن أبي جميلة المفضل بن صالح ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله : ...

وقد ورد بصيغة ثالثة :

«... تكون له غيبة ... حتى تضل الخلق عن أديانهم ، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب ، يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما ، وجورا» .(1)

وفي هامش الصواعق المحرقة ، ذكر محقق الكتاب ، إن أهل السنة يؤمنون بغيبتين للمهدي ! تختلفان عن إيمان الشيعة ، بالغيبتين المعروفتين عندهم ، قال :

(وأخرج) أحمد ، والماوردي ، أنه صلى الله عليه وسلم ، قال : أبشروا بالمهدي ، رجل من قريش من عترتي ، يخرج في اختلاف من الناس ، وزلزال ، فيملأ الأرض عدلا ، و قسطا ، كما ملئت جورا ، وظلما ، ويرضى عنه ساكن السماء ، وساكن الأرض ، يقسم المال صحاحا ، بالسوية يملأ قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، غنى ، ويسعهم عدله ، حتى يأمر مناديا ، فينادي فيقول له : من له في مال حاجة ، فما يقوم من الناس ، إلا رجل ، فيقول انت السدان ، يعني الخازن ، فقل له إن المهدي يأمرك ، أن تعطيني مالا ، فيقول له أحث فيحثي مالا يستطيع أن

ص: 412


1- ذكره في كمال الدين : 1 : 287 : ب 25 ح 4 - حدثنا أبي ، ومحمد بن الحسن ، ومحمد بن موسى المتوكل رضي الله عنهم ، قالوا : حدثنا سعد بن عبد الله ، وعبد الله بن جعفر الحميري ، ومحمد بن يحيى العطار ، جميعا ، قالوا : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، وإبراهيم بن هاشم ، وأحمد بن أبي عبد الله البرقي ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، جميعا ، قالوا : حدثنا أبو علي الحسن بن محبوب السراد ، عن داود بن الحصين ، عن أبي بصير ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله : ... والحديث في : العدد القوية : 70 : الحديث : 106 ، مرسلا عن جابر ، عن النبي صلى الله ... : عليه وآله : . . . وهو أيضا في : إثبات الهداة : 3 : 460 ب 32 ف 5 ح 103 ، ينابيع المودة : 488 ، و 493 ب 94 - عن غاية المرام .

يحمله ، فيلقي ، حتى يكون قدر ما يستطيع أن يحمل ، فيخرج به ، فيقول : كنت أجشع أمة محمد نفسا ، أو عجز ، كلهم دعي إلى هذا المال ، فتركه غيري ، فيرد عليه ، فيقول له : إنا لا نقبل شيئا أعطيناه ، فيلبث في ذلك ستا ، أو سبعا ، أو ثمانيا ، أو تسع سنين ، و لا خير في الحياة بعده» .(1)

وقد علق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف ، محقق الكتاب ، بهامش الحديث ، فقال :

«اختفاء العسكري ، وظهوره لخواص الشيعة ، يناقض ما روي عن أبي عبد الله الحسين ، بأنه لا يعرفه إلا الأولياء ، وما يروى عن الباقر . واختفائه ، هو ما ذكره علماء السنة في المهدي ، من أنه يغيب غيبة طويله ، وأخرى قصيرة يختفي بجبال الطائف ، ثم يظهر ، ويختفي بجبال مكة ، ولا يسمي ظهور العسكري لخواص شيعته ، ظهورا ، وليس بسرداب بذي طوى ، كما يقولونه ، ولظهوره علامات ، ذكرها السيوطي ، والبرزنجي ، في الإشاعة.(2)

ص: 413


1- الصواعق المحرقة : 166 . الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ، للمحدث الشهير أحمد بن حجر الهيتمي المكي . المتوفي سنة 974 ه_. خرّج أحاديثه ، وعلق حواشيه ، وقدم له : عبد الوهاب عبد اللطيف، الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر ، ط 2 ، 1385 ه_ – 1965م .
2- الصواعق المحرقة : 166 : هامش الصفحة .

أدلة وقوع الغيبة

بعد هذه الأحاديث الشريفة ، والإخبار بالغيبة ، فإن من المنطق ، وضرورات العقل - تماما . أن تحدث هذه الغيبة المشار إليها في زمن ما ؛ لتكون القضية المنطقية متحققة ، وتسمى قضية صادقة ، يتطابق فيها نسبة المحمول للموضوع ، مع الواقع الخارجي ، فعند ذلك ، تكتسب القضية صفة القطع ، واليقين المعرفي ، لمن لم يصدق بقول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو الأنبياء (علیهم السّلام)، وسواء بادعاء عدم صحة السند ، أو عدم تعقل القضية ، أو بإنكار قول الأنبياء (علیهم السّلام)، فكله سواء ، من الناحية المنطقية ، ويحتاج إلى نفس التسلسل المنطقي ، مع فارق اختصار بعض الحلقات ، فإن من يصدق بقول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، يختصر جملة إجراءات ، ولكنه يبقى ، يحتاج إلى إثبات صدور البشارة ، ويحتاج إلى تحقق البشارة . وتحقق البشارة يجب أن يثبت بالطريقة التالية :

1 - وجود نصوص تدل على المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، بالاسم ، والنسب .

2 - ثبوت تحقق هذا الوجود ، لهذا المنصوص عليه ، بالولادة ، والتعايش .

3 - فإذا ثبت الأصلان السابقان ، ثبت بشكل ذاتي ، أنه صاحب الغيبة ، فلا يحتاج إلى أكثر من دعوى الغيبة ؛ لأنها نتيجة حتمية للمقدمات ، من البشارة ، والتحقق (بالتسمية ، والتعيين ، والوجود ، من ولادة ، وتعايش) .

ولكن ، من أجل قطع الشك في هذه النتيجة ، عند من يشكك ، فيجب ذكر التواصل ، بعد ادعاء الغيبة ، وهذا يعتمد على طرق الإثبات الخبرية ، المعتمدة عند البشر ، وأرقى هذه الطرق ، هي طريق نقل الثقة عن ، مع العلم ، إنه لا يثبت شيء في الدنيا إن لم تثبت هذه الطريق ؛ بل لا حقيقة تاريخية - مطلقا ، على إن هذه الطرق ، هي أکثر طرق إثبات التاريخ تشددا ؛ لأن هناك ما هو أقل من هذا المعيار تشددا ، ويؤخذ به عند محقق التاريخ ، ووقائعه ، بل عند جميع العقلاء،

ص: 414

فيما إذا أرادوا إثبات حدث ، كطرق القرائن الدالة ، بل ما هو أدنى منها مرتبة ، من الطرق الظنية ، كالآثار ، والدلائل الأخر ، التي يأخذ بها المحققون ، في إثبات الوقائع التاريخية . فإذا ثبتت هذه الطريق ، أو جملة طرق معرفية لثبوت الواقع التاريخي الخارجي ، فلا مجال إلا التسليم بوقوع الغيبة ، فضلا عن إمكانها ، والبشارة بها .

وهذه سلسة متكاملة ، لا بد من الترابط بينها ، ولا يصح إغفال بحث حلقاتها ، لمن يريد أن يبحث بطريقة علمية ، ولا يجوز عكس القضايا ، بطريقة مقلوبة ، كما وقع لبعض المذاهب الإسلامية ، وتابعيهم في تناول هذه القضية . فإن بعض المذاهب الإسلامية ، تعاملت مع هذه القضية بشكل غريب ، من ناحية منطقية ، فمثلا هم يثبتون صحة نصوص البشارة بالمهدي (علیه السّلام) ، وغيبته ، وبعد أن يصلوا إلى اسمه محمد بن الحسن (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ويسلمون بوقوع ولادته ، لكنهم يشككون في غيبته ، بحجة إن ادعاء الغيبة ، إنما هو ادعاء صدر عن نوابه من أجل المال . وهؤلاء الذين يعتبرهم التاريخ ثقات ، ومن أتقى الناس ، وأمثلهم طريقة ، هم كاذبون – كما زعموا - بسبب حب المال . وعليه - كما استدلوا - لا أصل لأحاديث المهدي . وهذا الشكل من الاستدلال ، خلط للأوراق ، وخرق لكل تفكير وتسلسل منطقي .

هنا – يفاجيء المرء ، بالرجوع القهقرى ، بواسطة دليل ظني ، غير صحيح ، على أصل البشارة ، وأصل أحاديث المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فإذا أراد قائلهم أن يجامل ، وأن يتلون فيقول : إن هذه القضية ، تثبت إن أصل قضية المهدي، غامضة ، ومشوشة ، ولا يمكن معرفتها ، ولا طريقة التعامل معها ، حتى لو لم ننفي أحاديث البشارة بالمهدي ، بشكل إجمالي . وهذا يثبت إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حينما تكلم عن المهدي ، بهذه الصراحة ، والوضوح ، والتكرار بكثرة ، لم يضع أي تكليف على المسلمين ، تجاه هذه القضية ، مما يبقيه إخبارا عبثيا مزعجا ، لا داعي له ، وهو يشوش فكر المسلمين ، بقضية يدعى أنها قضية ارتكازية، والنتيجة هي قضية غير مطلوبة - أصلا ، وأقل من هامشية ، فكيف تكون قضية مركزية ، في فكر المسلم ، وهي غير مطلوبة منه ، بأي موقف كان ؟ .

وعلى هذا - يكون النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، قد فعل عكس ما هو مأمور به من البيان ، وهذا اللازم ، لا يهم

ص: 415

أصحاب هذا الاتجاه السلبي ، تجاه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بل الأنبياء (علیهم السّلام)، والرسالات ، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن البشارة لم تكن على لسانه الشريف وحده (صلی الله علیه و آله و سلم) بل على لسان أنبياء آخرين ، وفي رسالات أخرى ، بل وفي عموم الديانات كما سيتضح ذلك في الفصل التالي .

هذا المسار الفكري ، كثيرا ما يقع في شرك عشوائية التفكير ، إذ لا يهمه ، ولا يعتني أبدا أن ينعكس تفكيره في أي مرحلة من المراحل ، وأن يقفز من مرحلة إلى أخرى ، بعيدا عن المنطق ، والتفكير السليم ، وهذه هي العبثية في الفكر بأجلى صورها .

نستطيع أن نمثل لهذه القضية ، بأمثلة واقعية ، لفكر العوام ، والجهلة ، حين لا يميزون تسلسل الأفكار . فمثلا حين نقول : إن الطبيب الفلاني حاذق ، إنما نقول ذلك لشهادة جامعته ، وشهادة زملائه الأطباء ، وشهادة المرضى الذين عالجهم ، ولكن سرعان ما نسمع من العوام : إن هذا الطبيب لا يفهم ، بدليل إنه طبب فلان ، فوصف له وصفة ناقصة ، فانتكست صحته ، وبعد التحقيق ، يتبين أن المريض ، لم يلتزم بتوصيات الطبيب ، وسمع نصيحة زائر له ، بأخذ دواء إضافي ، سبب له ما لا يمكن السيطرة عليه . وما أكثر ما يمر بنا مثل هذا الحدث في الحياة الواقعية بالفعل . ولقد كنت أتصور إن هذا شأن الشرق الغارق بالجهل حسب ، ولكن بعد الخبرة الحياتية ، تبين لي أنه حالة شائعة عالميا ، عند كل السطحيين ، والجهلة في العالم ، حتى في أكثر الدول تقدما . وهذا يشبه - إلى حد بعيد - ما يقوم به بعض أصحاب المذاهب ، تجاه قضية الغيبة ، فهم يحاولون نفيها ، بأدلة فلسفية ، خيالية ، غير متحدة الموضوع مع المدعى ، ولا تثبت في النقاش ، وبسببها ينفون أصل القضية الثابتة ، بالأدلة النصوصية عندهم ، كما هو حال الطبيب الثابتة براعته بالشهادات العلمية ، بدليل لا يمت إلى أصل القضية بصلة ، بل هو يثبت عكسها .

وهكذا فادعاء عدم وثاقة نواب الإمام ، لاحتمال الاستفادة المالية ، هو من أوهن الطرق المنطقية ؛ لأن الوثاقة تنفي الاحتمال المذكور ، فكيف يكون الاحتمال نافيا للوثاقة ؟ ثم إن البحث في احتمال الخيانة المالية ، لا يمكن أن يكون جزءً من دليل النفي ؛ لأن هذا الادعاء ، لا يكفي فيه الاحتمال - أولا - بل يجب أن يكون محققا ، وأنّى لهم هذا ؟ ثم إن الأمر ، لا يتعلق في

ص: 416

الحقيقة بالنواب الأربعة فقط ، بل بمجموع علماء ، وفقهاء المذهب ، الذين فيهم من هو أكثر علما ، وأعظم شأنا ، من النواب ، وتسليم كل هذا المجموع بصحة نيابتهم ، لم يكن عن جهل ، عند العلماء منهم ، بل العالم بل العالم تصرفه عين العلم ، ثم كما يظهر ، من مجمل تصرف علماء الشيعة بأنهم كانوا يمتحنون النواب ، بقضايا لا تقبل الشك ، من قبيل الخوارق ، والمعجزات ، واختبار الأمانة ، والصدق ، بالإضافة إلى تيقنهم ، من خلال اللقاء السري، لقادة الشيعة بالإمام ، إخبار الإمام نفسه عن وكلاءه ، وتوثيقهم ، أو نفي بعضهم . أي باللقاء السري مع خاصته ، الذين لا شبهة أقوى فيهم ، وهم من ينشر الخبر ، وحين يكون اللقاء بهذا الحجم، يكتسب صفة التواتر ، التي أدلة المعرفة .

نأتي إلى معالجة التسلسل المنطقي لإثبات وقوع الغيبة ، مع عدم الاستشهاد بالنصوص - متعمدين - لأن البحث خارج عن هذا ؛ ولأن النصوص تملأ مجلدات ، وهم ، وهي موجودة بكتب مستقلة ، يمكن الركون إليها ، ودراستها ، مع إننا سنذكر ما يتعلق بالبشارة به (علیه السّلام).

1 - تسمية الإمام ، وتخصيص سلسلة آبائه، وهذا ثابت لمن درس النصوص ، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وعن الأئمة الأطهار (علیهم السّلام)، واحدا بعد واحد ، بأنه محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن (علي بن أبي طالب) الذي جعل الله ذرية نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم)، في عقبه ، كرامة من الله ، لا تقل أعجوبة و عن أية كرامة للأنبياء . وهذا التعيين ، إذا ناقش فيه المزوّرون ، ورضي بتزويرهم العقلاء من طالبي الحق والحقيقة ، فإن معنى ذلك ، هو التسليم بكذب التاريخ ، وعدم صدقه ، إذ لا حقيقة تبقى ، ولا دين ، ولا وجود لأي معنى للتاريخ في الحاضر .

2 - إثبات ولادة الإمام ، وثبوت وجوده ، وهذا بسيط من ناحية معرفية ، فإن شهادة المولدة ، وشهادة الأهل ، بثبوت النسب - خصوصا الأب - هي مما يعتبر شرعا ، وقانونا ، وواقعا ، في إثبات النسب ، والوجود ، فإذا أراد الحاكم الشرعي ، أن يثبت نسب إنسان عادي ، فماذا يفعل ، غي-ر ثبوت الفراش الشرعي ، وشهادة الوالدة ، وإقرار الأب ؟ وهذه الأمور ، حاصلة - تماما .

ص: 417

فكيف إذا أضفنا إليها ، استحضار الإمام العسكري (علیه السّلام)، الزعماء الشيعة ، وأعيانهم ، وإطلاعهم على إمامهم المقبل ، وتكلّمهم معه (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، واستمرار ذلك طيلة حياة الإمام العسكري (علیه السّلام)، وبعد وفاته ، حيث ظهر الإمام المهدي (علیه السّلام) ظهورا قصيرا للعامة ، يوم دفن أبيه (علیه السّلام)، وبعد ذلك التواصل مع الشيعة ، عبر أوثق ، وأهم ، نواب الإمام الحسن العسكري ، والإمام الهادي ، وهو العبد الصالح عثمان بن سعيد العمري الأسدي ، رضوان الله عليه ، المشهور بالفضل ، والإيمان ، والوثاقة ، بشهادة إمامين سابقين، على الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، مما يجعل قضية التشكيك فيه ، قضية تجزيئية ، غير ناظرة للواقع الحقيقي ، وهكذا الحال في محمد بن عثمان ، ابنه ، وفي الحسين بن روح ، وفي السمري ، رضوان الله عليهم أجمعين، فهم من أوثق الناس في الأمانة ، والتدين ، والصلاح ، بموجب أشد المعايير المتبعة ، في تحديد الوثاقة .

هذه الحال ، لا تدع أي مجال للشك ، ولكن بعض أصحاب المذاهب ، والأهواء - الذين لا تعنيهم الحقيقة العلمية ، بقدر ما يعنيهم التشكيك - شككوا في ولادة الإمام (علیه السّلام)؛ لأن من كان نائبا عنه يستلم أموال الإمام ، ويسلمها إليه ؟ وكأن هذه الحال ، تهمة ، بدخول المال في القضية ! وشککوا به ؛ لأن الإمام العسكري (علیه السّلام) لم يتزوج ، ونسوا بأن المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ابن سرية ، وليس ابن زوجة ! وكأن المشككين ، جاءوا من جزر الواق واق ، فلا يعرفون أن ابن الأمة ، ابن شرعي ، وأن العديد من أئمة الشيعة ، هم أبناء إماء ، مثل الإمام زين العابدين ، والكاظم ، والجواد (علیهم السّلام)، وشككوا ؛ لأن الإمام نفى أمام محضر الجواسيس ، وجود ولد له ، وكأنهم ينتظرون من الإمام أن يقدم بقية الله الأعظم (علیه السّلام)، إلى جلاوزة الشيطان ؛ ليقضوا عليه !! ومن الطبيعي ، والمنطقي - تماما - أن ينفي الإمام (علیه السّلام) ولده ، في مورد الاجتماع العام، وفي وجود الجواسيس ، وقد استدلوا على عدم الولادة ، بعدم ذكر لعبه مع الأطفال في الشارع ، وهذا استدلال عجيب صادر عن عقل قاصر ، لا يدرك حجم المسألة ، وقد كرره من لا يستطيع أن يثبت أي حقيقة تاريخية ، بما فيه ولادته من أبيه (علیه السّلام) بموجب معاييره ، فهل يستطيعون إثبات لعب الأنبياء مع الصبيان ، أو لعب النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أو لعب الأئمة ، بل هل يستطيعون إثبات روايات لعب معاوية ، وعبد الملك بن

ص: 418

مروان ، وأبي حنيفة ، والشافعي في الشوارع مع الصبيان ، على أن حال الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مختلف تماما ، لما وكل به أمر السماء ، وللشأن الذي هو عليه ، ناهيك عن ضرورة إخفاءه ، هذه الضرورة التاريخية التي أرادها الله - تعالى - قبل أن يطبقها الإمام العسكري على ولده المبارك .

كما استدلوا على عدم ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) باختلاف أسماء أمه ، فهي ذات عدة أسماء ، وعليه فالإمام المهدي (علیه السّلام) غير مولود !! وقد نسي هؤلاء السطحيون ، أن السبية تأخذ اسماً جديدا ، عند كل نخاس ، وعند كل مالك . وهي كبقية السبي ، لها اسمها الذي سماها به أبواها ، وأسمائها التي سماها بها النخاسون ، واسمها الذي سماها به الإمام العسكري (علیه السّلام)، فما المشكلة في تعدد أسماء أمة تباع في الأسواق كبقية الإماء؟

والحقيقة ، إن هذه أهم مصادر تشكيكهم ، في ولادته ، وفي الطعن بالإمام ، وبالإمامة ، وبحقيقة التشيع - كما يقولون - وهي أقرب إلى الفكاهة، منها إلى الأدلة ، التي تستطيع أن تنفي الواقع . وبعضها ، لو جردناه عن كثرة الكلام ، و التشويشات ، لكان قضايا هزلية ، يمكن أن تكون من الطرف ، والملح ، التي يتسامر بها المتسامرون ، وإلا ما ذا يمكن أن يسمى - سوى هذا - التشكيك بولادة الإمام ؛ لأن أمه (الأمة) لها عدة أسماء ؟ وما الذي يقال لمن ينفي وجود من شهدت الأدلة الشرعية ، والعقلية ، والقانونية ، والواقعية بوجوده ، بسبب عدم ورود روايات ، للعبه بين الصبيان ؟ هذه كلها - في واقع الأمر - ليست سوى طرف ، وفكاهات ، تدل على المستوى العقلي ، لمن يصدق أنها أدلة علمية ، على نفي الحقيقة.

ثبوت الغيبة :

وهذا يفهم من الكلام السابق . فالغيبة واقعة - أصلا - منذ بداية حياته ، وقد تم إخفاء الإمام (علیه السّلام)، من قبل والده (علیه السّلام)، واستمر الاختفاء ، والغيبة ، مع التواصل المحدود ، مع القيادات الشيعية ، وأهل الوساطة الموثقين ، وقد كان الواقع من الاختفاء ، والانتظار لأمر الله الكبير لإصلاح البشرية ، يتطابق ويتوافق ، مع ما ورد من نصوص ، عن المعصومين (علیهم السّلام)، في طريقة الغيبة ، وأهدافها ، وأسرارها ، وقد وقعت للشيعة ، حلولا ، وتواصلا معجزا ، مع الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، في

ص: 419

غيبته الصغرى ، التي كان فيها يتواصل مع شيعته ، عبر نوابه ، وهذه الحالة ، قد سلّم بها الكثير من العلماء ، المخالفين للمذهب الشيعي .

وأما بالنسبة للغيبة الكبرى ، فإن وقوعها كان بإعلان معجز ، حيث حدد الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وقت وفاة نائبه السمري ، رضوان الله عليه ، بعد ستة أيام ، وستقع بعدها الغيبة(1) وفعلا وقع ذلك ، وتمت الغيبة ، التي وعدنا بها الأنبياء ، والنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، والأئمة الطاهرين (علیهم السّلام)، ولكن في سبيل أن يزول الشك ، من قلوب المؤمنين ، كانت تحدث بعض اللقاءات بالإمام ، من دون قصد ، أو من دون أن يكون هناك وكالة ، أو سفارة ، لتثبيت الوجود، في قلوب المؤمنين ، وليأتيهم الرد على التشكيك ، بكونه مات ، أو هلك ، كما يتصور من لا يؤمن بهذه الظاهرة الغريبة ، التي صنعها الله في البشرية ، في عصرنا تقريبا ، إذا استثنينا الإيمان بوجود الخضر ، و إلياس عليهما السلام ، أو الدجال . وإلا فإن ما حدث لهم ، ظواهر مشابهة لظاهرة بقاء الإمام ، وغيبته.

واكتفي بهذا القدر من الإشارات المهمة، في وقوع الغيبة للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، من دون الخوض في النصوص - كما قلت ؛ لأن هذا الموضوع ، يستحق كتبا طوالا ، وليس كتابا واحدا . أو مبحثا واحدا في كتاب ، يكون فيه أحد المقدمات التوضيحية الكثيرة ، لموضوع أصل فكرة الإمام المهدي ، وعلاقته بالله - تعالى - ودينه . ومن الجدير بالانتباه فان ما سننقل عن البشارة بالإمام المهدي ستستبطن قضية الغيبة والظهور ، والنابه لا يفوته ذلك .

ص: 420


1- جاء في رسالة الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) إلى أبي الحسن السمري ، رضوان الله عليه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، يا علي بن محمد السمري ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنك ميت ، ما بينك ، وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ، ولا توص إلى أحد ، فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ، وذلك بعد طول الأمد ، وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جوراً ، وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة ، ألا فمن ادعى المشاهدة، قبل خروج السفياني ، والصيحة فهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق : 516 . وقد عد الشيعة الأيام ، فكان كما قال عليه السلام ، وقد وقعت الغيبة الكبرى ، بعد هذه الرسالة ، ووقع ما كتبه (علیه السّلام)، من ادعاء بعض الشيعة للسفارة ، كذبا ، وقد فضح الله كل من كذب على الإمام (علیه السّلام)، ببركته ، وتوفيق الله.

الفصل الرابع

البشارة في الإمام المهدي عليه السلام

ص: 421

ص: 422

البشارة في الإمام المهدي عليه السلام

ليس من المعيب أن نسأل فنقول : إذا كانت قضية الإمام المهدي (علیه السّلام)، تشكل محورا قرآنيا ، وإشكالية كبيرة ، فهل ورد لهذه الإشكالية ذكر في التراث الفكري الديني ، سواء كان ذلك قبل الإسلام أم بعده ؟

الحقيقة ، إن قضية الإمام المهدي ، قضية مسلّم بها ، متسالم عليها ، عند الجميع ، حتى عند من ينفي المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) من الوجود أو التعيين ، غاية ما في الأمر ، إنهم يفهمون كلمة : (سيظهر) على أنها : (سيولد) وهذا من أعجب ما يلاقيه الخداع الفكري البشري .

إن عشرات ، أو مئات الروايات، التي وردت عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لا يوجد فيها رواية واحدة ، تقول إنه : (سيولد) في آخر الزمان ؛ ليملأ الأرض عدلا ، وإنما جميعها يقول : إنه (يظهر في آخر الزمان) . واللغة العربية ، التي طلّقها العقل السطحي ، ترى بكل وضوح ، أن الظهور إنما يكون بعد خفاء ، بينما الولادة تكون بعد أن لم يكن الإنسان موجودا ، ولكن بقدرة قادر ، تحوّل معنى الظهور ، إلى معنى الولادة المتأخرة ، وحين تسأل من يرى هذا الرأي ، سيقول لك بسرعة مدهشة ، إن هذا هو مذهبنا ، والعجيب إنه لا يقبل أن تسأله عن سر هذا المذهب في القضية ؟ ومن أين استقاه ؟

فإذا كان مذهبا نصياً ، فأين النص الذي يقول إنه (سيولد) ؟

وإذا كان مذهباً تحليليا ، فأي مذهب تحليلي ، يقلب الظهور بعد الخفاء ، إلى الولادة بعد العدم ؟

إنها رغبة فكرية ، لمناوئة خصم فكري ، ليس لها أي دليل أو برهان ، ولا تستند لأي منطق

ص: 423

سليم ، فما دام القائل : إن روايات المهدي - إجمالا - من المتواترات ، فمن أين له سيناريو الولادة الغامض ؟ فهو إما أن يؤمن بصحة أحاديث المهدي ، وكثرتها ، وعليه أن يؤمن بالظهور بعد الخفاء ، كما هو نص الأحاديث ، أو يؤمن بأن هذه الأحاديث كلها، ضعيفة مطروحة ، فليس له أن يؤمن بالمهدي ، من أصل الموضوع ، أو يستدل بأنه سيولد ، وليس له أن يقول : إن أحاديث المهدي متواترة ، ومن ضروريات الدين، كما هو إيمانهم بأنها من الضروريات . فالقضية لا تتجزأ ؛ لأن النصوص التي وصفت بالصحة والتواتر ، هي نصوص صريحة بأنه سيظهر وليس سيولد .

وبهذا الشكل ، نحن أمام حركة هلامية للفكر ، تثبت المهدي بقوة من جهة إثبات النصوص وتنفيه بقوة من جهة تحوير النص، ليتحوّل المهدي من (مختف) إلى (غير مولود) . وأصل هذه الخدعة ، هو تحويل مفهوم (الظهور) إلى مفهوم (الولادة) .

وهنا نقطة حساسة ، وهي إنهم ينتظرون ولادته ، بدون أي معيار لمعرفة هذا المنتظر ، ولعل هذا السبب نفسه ، قد مكّن الكثيرين من ادعاء المهدوية في أهل السنة ، وقد راقبنا إن كل من يدعي المهدوية من الشيعة – على قلتهم – قد فعل فعلته هذه ، بدفع وتحريك من حكومات ، وقوى سنية معروفة . تدفع بهذا الاتجاه ، كجزء من صراع فكري مع الشيعة ، من أجل تشويش فكرة ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ولم يدر بخلدهم ، إن الشيعة لا ينخدعون بهذه الألاعيب ؛ لأن عندهم معايير خاصة للظهور ، ولأن المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)- عندهم – موجود بالفعل . وحين يريد الظهور ، يقبل بالامتحان ، والمعجز ، وغير ذلك ، ولا يكون ذلك إلا وفق معايير ، ومقارنة حوادث كونية ، لا تخطيء . فعليه يجب أن يعرف من يدعي المهدوية ، أنه لا يغش إلا نفسه .

وفي سبيل أن ندرس النصوص ، حول ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، علينا أن نركز على قضية مهمة جدا ، ا، وهي البشارة بالمصلح العالمي ، بشكل عام ، وربط هذه البشارة بالنصوص ، التي تدل على تطبيق النبي وأهل بيته على ظهور مهدي آل محمد (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وعلى تسميته ، وتحديده ، بشكل لا شائبة فيه . وذلك ليكون الترابط واضحا ، في مجمل الديانات ، التي وردت فيها نصوص ، سواء

ص: 424

كنا نعترف بها ، كاليهودية ، والنصرانية ، أو لا نعترف بها ، كالمجوسية ، والهندوسية ، والبوذية . وبعد ذلك نقوم بقراءة النصوص الإسلامية، خصوصا الشيعية منها ؛ لأنها نصوص صدرت من أصحاب نفس المقولة ، التي ترى ضرورة وجود المهدي ، وغيبته .

أصبح - إذن - فهرس النصوص هو :

أولا : إن نفهم إشارات كثيرة في الأديان ، غير دين الإسلام سواء ما كان منها معترف به إسلاميا ، أو غير معترف ، تنص على انتظار منقذ للبشرية ، يأتي في آخر الزمان ، ليسود العدل ، والرخاء للعنصر البشري ، ويضع ميزان العدل، والتفكير السليم ، لدى المجتمعات الإنسانية .

بمر لقد نا - آنفا - تحقيق تهمة الهرمسية ، لكل من يقول بالغيبة ، ولكل من يقول بظهور المصلح في آخر الزمان . وهرمس - كما قدمنا - هو النبي إدريس عليه السلام ، وهو من أوائل الأنبياء أصحاب الرسالات السماوية ، وهذا الموضوع ، أخذ حجما كبيرا في الكتاب ، ولهذا لا نعيد الحوار والمناقشة فيه ، ونعتبره مقدمة لما سنذكره ، تقدمت لسبب آخر فمن أراد فليراجعها . ونبدأ - بعد ذلك – بالديانات السماوية المعروفة ، المعترف بها إسلاميا ، ونبدأها بالدين اليهودي ، وبعض ما جاء في كتبه من إشارات وتصريح . ثم نأتي إلى النصوص ، حسب الديانات الموجودة بين البشر .

ثانيا : النصوص الإسلامية سنية وشيعية في البشارة بالظهور .

فحين يثبت هذا الحجم من النصوص في المهدي سواء فيما قبل الإسلام او في الإسلام ، فلا يبقى أي شك بان الإشكالية قائمة من جهة ومحلولة من جهة ثانية ، ولكن السواد في القلوب يمنع المبطل من الوصول للحقيقة .

وهنا ينعقد فرعان في الموضوع تبعا لهذا الفهرس :

الأول : البشارة بالمصلح في الأديان .

والثاني : البشارة بالمصلح في الدين الإسلامي .

ص: 425

ص: 426

أولا : المصلح المنقذ في الديانات

ص: 427

ص: 428

المصلح المنقذ في الديانة اليهودية

وهنا ، لابد من مقدمة ، لمن لم يطلع على أسس النصوص اليهودية ، والمسيحية ، وذلك لوجود تشابك واتحاد من جهة ، ولوجود اختلاف في الاعتراف بكتب معينة ، أو الاختلاف على ترجمة ، أو تفسير لنصوص معينة ، بين الديانتين .

- وبشكل عام - فإن كل مصادر الديانة اليهودية الأساسية ، وهي العهد القديم ، تعتبر من مصادر التشريع ، والدراسة ، والعقيدة لدى الديانة المسيحية ، وليس العكس ، فلا يعترف اليهود بالعهد الجديد ، وهذا لن يلغي حقيقة : إن العهد الجديد ، يمثل دراسة تاريخية ، وفكرية لنفس المجتمع اليهودي ، السائد حين ظهر السيد المسيح عليه السلام . ولا يستطيع أي يهودي أن ينكر إن المجتمع اليهودي، كان كما ذكر في العهد الجديد ، بغض النظر عن التفاصيل الجزئية ، أو التفسير المختلف للأحداث. أو القناعة بصحة الدعاوى ، بين الطرفين .

غير إن هناك كتب يهودية، مستقلة ، لم يعترف بها النصارى ، إما لأنها متأخرة عن ظهور المسيح ، أو لأنها كانت من إنتاج الصدوقيين ، الذين أنكروا ، وتشددوا على المسيح ، بعكس الفريسيين ، الذين تحاوروا معه ، ووقعت فيهم بلبلة فكرية ، فآمن بعضهم به ، وأنكره الآخرون ، منهم أشد الإنكار ، كما في كتب العهد الجديد .

وهذه الكتب اليهودية المنفردة، فيها حقائق مخفية ، ونصوص ، تعتبر مشكلة حقيقية للديانة اليهودية ، ولهذا فهي في طور الكمون السري ، لرفع الحرج على الفكر اليهودي ، ولمسح الدليل بالكامل حتى لا تقام عليهم الحجة ، بشكل واضح ، وبيّن ، وحتى لا يبدو الخلل واضحا ، أمام أبنائهم ، فضلا عن خصومهم الفكرين ، من مسيحيين ، ومسلمين ، ومنها : مسألة البشارة بالنبي عیسی (علیه السّلام) ، والبشارة بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، والبشارة بالمصلح ، الذي يظهر في آخر الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

ان إن مسألة البشارة بمصلح كبير عظيم ، كانت هي أساس الشرعية لدعوى السيد المسيح (علیه السّلام)، كما يقول النصارى . وكانت أفعال المسيح (علیه السّلام) مؤيدة لهذه البشارة بالمقدس الآتي ، من قبل

ص: 429

الرب ، الذي اسمه : (مسيّا) في زمن السيد المسيح (علیه السّلام)(1) . بينما المسلمون ، يقولون إن المسيح (علیه السّلام)، مؤيد من الله منذ ولادته ، بالمعجز الخارق ، وليس بأفعاله بعد أن كبر . فكان هو بذاته بشارة ، ولا يحتاج إلى الاستدلال بالبشارة ، فإن من ينطقه الله في طفولته - بهذا الشكل - وجريان أفعال غريبة على يديه ، له دلالة على الخصوصية التكوينية ، والدعوى المنفردة ، التي تحمل دليلها بنفسها ، فلهذا لا يعتقد المسلمون أن أساس التصديق بالنبي عيسى (علیه السّلام)، هو البشارات المؤيدة بالنعمة أو الكرامة ، كما يقول المسيحيون ، ولذلك فهم يرون أن تطبيق المسيحيين ، كلمة : (مسيّا) على المسيح (علیه السّلام)، فيها الكثير من المجازفة العلمية . بحسب صيغتهم ، لعرض رسالة النبي عيسى (علیه السّلام) من طفولته ، بعكس ما ينص عليه القرآن الكريم ، والذي يظهره بأنه مخلوق غير عادي ، إطلاقا . ولهذا فان كلمة : (مسيّا) تبقى في فراغ تطبيقي ، حتى مع ظهور المسيح (علیه السّلام)، وهذا يؤيده اليهود . ولكن ليس من هذا الاتجاه . وإنما لأنهم لا يقبلون بأي دعوى ، تخرج عن سلطانهم ومرجعيتهم ، ولا يفكرون بالاندماج بالدعوة الجديدة ، فيما إذا كانت تنطبق عليها حقيقة القول ، بتحقق وجود : (المسيا) .

فالمشكلة - إذن - مشكلة كيان سياسي، وقيادي وزعامة ، ينهدم بالاعتراف بظهور النبي الجديد .

ولو أردنا أن ندرس الكتب المفردة لليهود ، فسيأخذ منا ذلك الكثير من المساحة ، بما هو خارج موضوعنا ، ولا بأس أن نشير إن من الكتب المنفردة لليهودية ، كتاب : (نبؤة هيلد) وتعريبه (وحي الطفل) . وهو كتاب يحكي تنبؤات أحد أطفال اليهود ، قبل ظهور نبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، بحدود سبعين سنة تقريبا ، وتعتبر هذه القصة ذات مغزى كبير ، حيث إنهم

ص: 430


1- سيتبين فيما بعد ، لماذا قلت : «في زمن السيد المسيح» ؟ لأن اللفظة أخذت ترجمات ، وإطلاقات ، في لغات متعددة ، بمفهوم ، أو لفظ واحد . فقد لا تكون - صوتيا - هي نفس (مسيا) في أوقات أخرى ، غير زمن المسيح ، أو في مكان آخر ، غير مكان المسيح . وسيأتي إن لفظها في الحقيقة هو : حمادا ، أو حمدا ، وهذا لا يتلاءم إلا مع محمد ، أو أحمد.

يحتفظون بها ، ولا يعملون بموجبها ، مع تقديسهم لها ، وكان في كلام الطفل نصوصا واضحة ، بظهور النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبانتشار رسالته ، ومن ثم تحوّلها إلى رسالة عالمية ، بعد ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). وهذا الكتاب ، يحتاج إلى دراسة متفرّغة ، ليس موقعها هذا البحث ، الذي يريد أن يشير إشارات عابرة ، إلى حقيقة الانتظار للمصلح العالمي، الذي ينشر الدين الواحد في جميع العالم .(1)

ص: 431


1- لقد عرض المرحوم الشيخ اغا برزگ الطهراني رضوان الله عليه هذا الكتاب ، من خلال عرضه لترجمة قصة هذا الطفل باسم : (وحي كودك) . وقد بيّن أسس القصة العبرية المترجمة ، والإشارات التي فيها ، سواء بظهور النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أو بموضوع حتمية الانتشار العالمي لرسالته بواسطة الإمام المهدي عليه السلام . قال الطهراني في الذريعة : 25 : 62 : باب (وحي) : رقم 326 : «وحى كودك : أي تنبؤات طفل . قصة فارسية ، مندرجة في : ص 291 - 346 من كتاب إقامة الشهود في رد اليهود ذ 2 : 263 الذي . هو ترجمة لكتاب منقول رضائى ذ 23 : 152 ، والمترجم بالفارسية ، هو السيد على بن الحسين الحسيني الطهراني من سادات اخوى : (1238 - 1306) بطهران ، الذي ترجمناه في نقباء البشر : ص 1412 . قال فيه : «إنه ترجم الكتاب هذا من العبرية إلى الفارسية ، بمساعدة فاضلين ، أحدهما ابن أخ المؤلف لأصل الكتاب ، وهو محمد جعفر . و الآخر محمد على الكاشاني الأصل ، الطهراني المسكن ، الشهير بملاً آقاجاني . وجعل للكتاب مقدمة ، فيها شيء من قواعد الخط العبري ، واللغة العبرية . وقال عن أصل الكتاب : «انه كان قد ألفه أحد علماء اليهود ، ببلدة يزد ، بعد أن أسلم في عام 1238 ، وتسمى محمد رضا ، واشتهر بجديد الإسلام . وقد ألف هذا الكتاب باللغة العبرية ، في الرد على اليهود ، و أدرج فيه بعنوان : نبوة هيلد ، تنبؤات طفل ، وهو طفل ، قال عنه : إنه ولد ببعض قرى أورشليم ، بيت المقدس ، قبل بعثة نبينا (صلی الله علیه و آله و سلم) بسبعين عاما ، وسجد بعد الولادة ، ثم رفع رأسه ، وتكلم بعجائب فزجره ، أبوه ربى بن حاس ، ومنعه عن الكلام ، فسكت اثني عشر عاما ، ثم تكلم بأمر أبيه بتلك الملاحم والتنبؤات ، من بعثة النبي ، وعلائمه ، وصفاته ، ووقائع زمانه ، إلى آخر الزمان ، وظهور الحجة المهدي، إجمالا ، ورمزا ، ودونت تلك الكلمات ، في ثلاثة فصول ، كل ، فصل 22 بابا ، بعدد حروف الأبجد في اللغتين العبرية ، والسريانية ، أي إلى آخر قرشت ، وطبعت ضمن كتب اليهود . ثم حصلت نسخته ، عند هذا العالم اليهودي ، المستبصر ، والمتسمى ب_(محمد رضا جدید الإسلام) بیزد ، فشرح هذا الرجل ، من مجموع الكتاب ، الكلمات الأربع والعشرين فقط ، وبين رموزها ، ولم يشرح الباقي ، ثم أدرج ما شرحه ، في هذا الكتاب ، الذي ألفه بطهران ، بعد استبصاره ، وإسلامه ، باسم فتح على شاه ، في الرد على اليهود ، ولم يمهله الأجل لترجمته الباقي ، فترجمه علي بن الحسين الاخوي ، في عصر ناصر الدین شاه ، وطبعه 1292 باسم إقامة الشهود ، وقال المترجم بالفارسية : إن من الاتفاق ، وقوع إسلام المؤلف ، وولادة المترجم الفارسي في سنة واحدة هي 1238 . هذا ، وقد نقل عن كتاب : (وحى كودك) الملا محمد تقي الكاشاني، المترجم في النقباء : ص 253 ، وصاحب جامع الأصول ذ41 : 5 . فقد قال في كتابه هداية الجاحدين : «إني طلبت كتاب : (وحى كودك) من أصدقائي ، من اليهود ، فأبوا ، حتى أتاني : به رجل جديد الإسلام ، فطبعته ضمن كتابي هداية الطالبين ، بطهران 1307 . و مر في ذ 152 : 20 محضر الشهود لعالم يزدي آخر ، معاصر لمحمد رضا جديد الإسلام مؤلف منقول رضائي إدعى فيه : إن والده - أيضا - كان يهوديا ، وأسلم . و مر أيضا أنيس الأعلام 452 : 2 الجديد إسلام آخر ، لكنه رد فيه على بعض مطالب (وحى كودك) هذا) .

وفي سبيل عرض النصوص ، سوف نعتمد على النصوص المشتركة ، بين الديانتين اليهودية والنصرانية . لبيان حقيقة انتظار الديانتين للمصلح العالمي ، مع الإشارة العابرة لبعض الخصوصيات . لما ذكرناه من تداخل النصوص بين الديانتين .

ومن الجدير بالذكر إن صورة هذه النصوص في الديانتين ، مؤيدة ، ومذكورة في القرآن الكريم ، فمنها : ما ذكره الله سبحانه من حقيقة انتصار الصالحين في الأرض ، ونسب ذلك للزبور . وهم الورثة الحقيقيون ، حسب القرآن الكريم، الذي كان يقرأ على مسامع اليهود ، يوميا ، وهم سكوت ، لا يعترضون بشيء - مطلقا - وذلك حين قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور من بَعْد الذِّكْر أَنَّ الْأَرْضِ يَرثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء : 105] . فلم يصدر منهم نفي ، حيث نسب الله – سبحانه – في القرآن الكريم القول إلى المزامير . فهي إما أن تكون خالية منها ، وهذا مأخذ كبير على القرآن في حينه ، وإما أن تكون صحيحة ، وهم يؤمنون بها ، وهذه حكاية عن انتظارهم للمصلح الصالح ، الذي يرث الأرض جميعها . والاستدلال ليس في النص القرآني ، وإنما في کونه جابههم بها . ولم ينفوا ذلك ؛ لأنه حقيقة كانت موجودة عندهم . وسكوتهم علامة على صحة القضية ؛ لأنهم يتربصون الفرصة ، للإيقاع بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يوجد أكبر من فرصة هذا الادعاء .

ص: 432

أقول : كيف ينفون ذلك ؟ وهو نص في الزبور ، إذ يقول(1) : «الصديقون يرثون الأرض، ويسكنونها إلى الأبد»:

إذن ، فإن انتظار (مسيّا) الموعود لنصرة الحق ، وتديين العالم بأكمله ، هو من مسلمات الفكر اليهودي ، وقد كانت المجاميع اليهودية في كل مرة ، تظن أن أحد الرسل ، هو (المسيا) فتقع خلافات شديدة بينهم . كما وقع الخلاف في كون يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا (علیه السّلام)) هو (المسيّا) أم لا ؟ وهو مبدأ انشقاق مجاميع كثيرة من اليهود ، مثل المجموعة الدينية المعروفة ب_(الصابئة) في وادي الرافدين .

ووقع الخلاف على المسيح ، هل هو (المسيا) أم لا ؟ وهناك خلافات أخر ، تتعلق بشخصيات أخرى .

وقد كان اليهود في الجزيرة العربية ، ينتظرون النبي الموعود (المسيا) وحين ظهر النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، رفضوا أن يكون هو (المسيا) قائلين : يجب أن يكون (المسيا) من بني إسرائيل وقيل ان بعضه سمّى ابنه محمدا لتتحقق النبوءة ، مع أنه لم يرد في التوراة مثل هذا الشرط ! و هذا يدل على أن أصل الحكم عندهم ، ثابت ، ولكن الاختلاف في التطبيق ، والمصاديق .

فهل (المسيّا) هو يحيى بن زكريا (علیه السّلام)؟

أم هو المسيح عيسى بن مريم (علیه السّلام)؟

أم هو النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)؟

أم هو الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؟

هذه الأسئلة شكلت - بالتالي - مواضيع تطبيقية ، محيّرة ، بالنسبة للديانة اليهودية . فمن اليهود من اعتبر الأمر منتهيا ، وآمن بيحيى صابئا ، ومنهم من آمن بعيسى بن مريم متنصرا ؟ أو من آمن بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، مسلما ، بناءً على هذه التطبيقات !

لقد كانت المجاميع اليهودية في حالة انتظار دائم ، ولا زالت لحد الآن . فحالة انتظار اليهود

ص: 433


1- المزامير 29 : 37 .

للمصلح، كانت في أشدها حين ولد يحيى ، وكذلك حين ولد عيسى ، وكتب التاريخ ، تحدثنا - بما لا مجال فيه للشك - إن اليهود كانوا ينتظرون ظهور (المسيا - النبي الموعود) في مكة ، أو المدينة ، قبل ولادة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وقبل ظهور دعوته ، وكانوا يرجون أن يكون (المسيا) منهم . وقد سمّى بعضهم ابنه محمدا ، عسى أن يكون هو.

فمن هذه الجهة ، لا نحتاج إلى استدلال بالنصوص، على انتظارهم للمصلح، ولكن جرت عادة بعض المؤمنين ، أن يورد نصوصا ، تفيد هذه الحقيقة، ولا أدري لماذا نحتاج لمثل هذه النصوص ؟ ما دامت المعارك التي أثارها اليهود ، على ثلاثة أنبياء ، هي نفيهم لكون ذلك النبي هو (المسيا) وهذا يكفي – تماما - على حقيقة تسليمهم بانتظار المصلح : (المسيا) . وإن فكرة المصلح العالمي ، من المسلمات التي لا شك فيها ، عندهم .

من هو (مسيّا) ؟ وما قصته ؟

القصة ليست معقدة ، ولكنها تحتاج إلى تبسيط ، وربط بسيط ؛ ليفهم القاريء الكريم ، كلّ النصوص الآتية ، بشكل مترابط . ف_(مسيا) هو اسم آرامي ، أو سرياني ، لا تظهر ترجمته إلا من خلال العبرية ، وسيأتي معناه . واليهود ينتظرون (مسيا) . كما أن النصارى - أيضا - ينتظرون (البركليت) أو (الباركليت) . والمسلمون ، كما تبين لنا آنفا ، ينتظرون كذلك (المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)) .

ونحن سنبحث – هنا - هذا الترابط الغريب ، بين هذه المسميات :

(مسيّا) كلمة آرامية ، أو سريانية ، معناها : (محمد) أو (أحمد) وكتبت : (حمدا) باللغة العبرية كما سيأتي . و (البركليت) كلمة يونانية ، معناها (أفعل) التفضيل من (حَمَدَ) أي : (أحمد) أو (محمد) كما سيأتي الاعتراف بذلك . و (محمد) هو (محمد) سواء كان النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو حفيده الإمام المهدي (علیه السّلام)، ولا مشكلة في تعدد المسميين ، لاختلاف نوع البشارتين ، أو لاتحاد الديانة ، والتبشير ، وكأن الزمن يتوقف عند (محمد) .

إذن نحن أمام حالة تطابق في المعنى ، وفي اللفظ - في بعض الأحيان - كما هو حال كتابة : (مسيّا) في اللغة العبرية . ف_(مسيّا) لم تكتب في العبرية (حمدا) اعتباطا . وإنما هي الترجمة

ص: 434

الحرفية للكلمة الآرامية ، أو السريانية . فلهذا كتبت : (حمدا) . وليس اعتباطا - أيضا - حين يقال : إن (البركليت) هو (أحمد) وإنما لأن (البركليت) هو (أحمد) بالذات . والتفسير المذهبي ، لاسم المصلح ، المنتظر ، ولظهوره في اليهودية الحاضرة : هو الحيرة ، والترقب في انتظار (مسيا) وعدم معرفته ، بل استحالة معرفته حتى لو ظهر . لأنهم دمروا معنى الكلمة (الاسم) التي ينتظرون صاحبها .

والتفسير المذهبي المسيحي ، الحالي ، لاسم المصلح ، هو إن المصلح المنتظر ، إذا كان (مسيا) فقد ظهر ، وهو نفسه المسيح (علیه السّلام)، رغم الغموض في التطبيق ، وإذا كان (البركليت) فهو قد ظهر للتلاميذ . وهو روح القدس . وهم يفرقون - ظاهرا - بين (مسيا) و (البركليت) . مع أن معناهما في اللغات - مدار الكلمات - واحد ، وهو (محمد) أو (أحمد) . والتفسير المذهبي الإسلامي ، مختلف حول شخصية المصلح المنتظر . ولكنه مجمع على إن اسمه محمد المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

إلا أن أغلب علماء المسلمين يقولون : إن (مسيّا) و (البركليت) هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). وهذا مصدر اضطراب لدى المسلمين . لعدم التطابق ، مع قضية شمول دينه لكل الأرض ، وستأتي معالجة ذلك .

- فهنا - ثلاثة أسماء ، تجب دراستها ؛ لرؤية نقاط اللقاء ، والافتراق بينها . لتكون دالة على الشخصية المنتظرة . وهل هي شخصية واحدة ، أم شخصيات متعددة ؟

ولو تجرد الإنسان من الميول الشخصية ، والتمذهب ، فإنه سيخلص إلى نتيجة خطيرة جدا . وهي إن الشخصيات المنتظرة ، هي شخصية واحدة ، ولا فرق بينهم أبدا . وهذه النتيجة ، خطيرة على مستوى الديانات الثلاث . ف_(المسيا) هو : (البركليت) وهو : (روح الحق) وهو : (محمد المهدي المنتظر) . وقد لا يقبل هذه النتيجة كل من المسلمين ، والمسيحيين ، واليهود ، لما استقر في أذهانهم من الاختلاف في صورة الأشخاص .

لننظر إلى مواصفات (مسيّا) حتى نطابق بشكل دقيق :

ص: 435

مسيا : مصلح من الله ، ينشر العدل ، والسلام على كل الأرض ، في آخر الزمان ، وينتشر الخير في زمنه .

ولننظر إلى (البركليت) فإنه : مصلح إلهي ، يمثل روح الحق ، والحقيقة ، سيأتي آخر الزمان ، لنشر العدل ، والحقيقة ، ويخضع جميع الأمم ، بسلامه ، وينشر الخيرات في الأرض .

والمهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف): يأتي في آخر الزمان ، لينشر العدل ، والحق في كل الأرض ، ويخضع جميع الأمم ، وينشر الخير في كل الأرض .

فإخضاع العالم كله ، وجمع كلمته ، ونشر العدل، والخير هي صفات كل واحد من هؤلاء ، في آخر الزمان . وهذه صفات شخص واحد ، منتظر ، من قبل جميع منتظر ، من قبل جميع الديانات ، إذ لا يمكن التعدد ، في نفس الوقت ، لمثل هذه الحالة ؛ لأن كل دين ، يقول : إنه واحد ، لا يتعدد ، في زمن واحد ، هو آخر الزمان ، وفي جميع الأرض ، فلا مكان لغيره . وهم متفقون على هذا .

وهنا - نجد أنفسنا في استنتاج جديد ، قد لا يرغب اليهودي ، أو المسيحي ، في التفكير به . وهذا مفهوم ؛ لأن معناه التحوّل القهري ، عن الديانة التي يتمسك بها ، باستبعاد فهمه الشخصي ، لشخصية المصلح المنتظر . ولكن لماذا لا يقبل المسلمون – أيضا – هذه النتيجة ؟

أن المسلمين (سنة ، وشيعة) يقولون : إن (مسيا) و (البركليت) هو المشكلة تقع بسبب النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ذاته ، وليس المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). فهي بشارة بالدين الحنيف . وليست بشارة بالمنقذ صل الأخير ، حامل لواء محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). وهنا يقع المسلمون (سنة ، وشيعة) في اضطراب ، لابد من حلّه ، لتكون النظرة منسجمة - تماما .

أهل السنة ، يرون بلا خلاف : أن كل مواصفات (مسيّا) و (البركليت) هي للنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يقبلون التفكير في التناقضات ، التي تنشأ بين النص ، والواقع ، فالنص ينص على صله أن مهمة (البركليت) عالمية ، وحاسمة ، وهو يُخضع جميع العالم ، وإنه يقطع حجة جميع الأمم ، وتبقى حجته فقط . وهذا لم يحدث للنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فتطبيقها عليه فيه تكلّف ظاهر ، وإغفال

ص: 436

هذه الحقيقة ، يعني سقوط التطبيق . وسقوط الاستدلال ، فإن المسلمين حين يقولون : إن (البركليت) هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) يخسرون قوة نص إلهي ، وجد في كتب اليهود ، والنصارى ، قبل النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بمئات السنين .

ولكن لابد من حل لهذه القضية ، بالنسبة لأهل السنة وهو لحد الآن بلا حل ..

والشيعة يقولون : إنه النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وحين يصلون إلى الإمام المهدي (علیه السّلام)، يقولون : إن هذه الأسماء ، هي للمهدي - أيضا ، لأنه يرونه ينطبق عليه لموضوع إخضاع العالم ، وعندهم نصوص على تطبيقه على المهدي . وهذا اضطراب واضح.(1) وعلينا حل كل هذه المشكلات الآن ؛ لنفهم القضية بشكل صحيح ، وبلا عوائق فكرية ، أو نفسية.

وقبل كل شيء ، يجب أن ننبه إلى أن المتتبع ، يرى فرقا في النصوص التوراتية ، وغيرها ، بين النص على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبين النص على الإمام محمد المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فتارة هناك نص على (أحمد) وهو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وتارة على (أحمد) وهو محمد المهدي ، والتفريق هو في الصفات ، والزمن ، وقوة الانتشار ، فحين تكون البشارة براكب الحمار ، وراكب الجمل - مثلا - فهذه محصورة بالنبي عيسى (علیه السّلام)، والنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)- قطعا - ولا علاقة للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بها ، ولكن حين تكون البشارة ، بمن يأتي آخر الزمان ، ليطوّع الأرض جميعها ، فهذا لا يكون إلا

ص: 437


1- لا بأس أن نشير لما كررناه في هذا الكتاب - دفعا للالتباس . وذلك بما أن هذه الكلمات - لغويا - هي نص على كلمة (محمد) أو (أحمد) فلا مانع - مطلقا - أن تكون في النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) كصاحب رسالة ، بينما يكون المهدي ، هو نفس النبي محمد اعتبارا ؛ لأنه هو صاحب نشر نفس الرسالة عالميا ، وبهذا الاعتبار ، فهذه الألفاظ تكون نصا على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكن الصفات التطبيقية ، هي في الإمام محمد (علیه السّلام) وريث النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبهذا يصح الاستدلال ، بهذه النصوص ، على نبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) لعدم الفصل الحقيقي بين رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و بين المهدي (علیه السّلام). وسيأتي : أن النص على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) في غير هذه النصوص ، موجود في الكتب القديمة ، وقد استدل بها جمع من القساوسة ، الذين تحولوا إلى الإسلام ، وقالوا : إنهم كانوا يدرسون هذه النصوص ، على أساس أنها بشارة بالنبي الموعود ، وهي لا تنطبق إلا على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) خصوصا .

للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، الامتداد الحقيقي لرسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعليه فالفكر الإسلامي يحتاج إلى إعادة بحث ، وتنقيب ، لمعالجة ظاهرة اتحاد اسمين أو شخصين ، في النصوص الدينية القديمة ، ومحاولة التفريق بينها بدقة ، ومحاولة إيجاد صدقية الإخبار القرآني ، بنبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه.

وكما هناك تفريق كبير ، بين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، والإمام محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهناك إتحاد – أيضا – يجب أن لا نغفل عنه ، وهذا الاتحاد، ناشئ عن كون النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، هو صاحب الرسالة ، والإمام محمد المهدي (علیه السّلام) هو صاحب النشر العالمي ، والتمكين في الأرض قاطبة وبصورة عامة . فهما يمثلان قطبي الإسلام ابتداءً ، وتعميما على الأرض ، فالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، بشر بأن يكون هو صاحب السيادة على الأرض . ولكن من الناحية الواقعية ، سيكون ذلك على يد ابنه الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فهذا الاتحاد قد يفسر - جزئيا - التبشير بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإن دينه سينتشر على جميع الأمم ، ويعم الأرض . وهو ما يثير مشكلة خلط النص ، بين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).(1) ولهذا ، فلو ورد ما لا يمكن إلا أن يكون تبشيرا ، بمحمد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وإنه سيملأ الأرض عدلا ، فيكون تبشيرا بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، من جهة كونه إماما عاما ، وهو صاحب الرسالة ، التي ستنتشر على يد ابنه الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، في جميع بقاع الأرض .

وهنا ، يجب أن نلتفت لقضية غاية في الأهمية ، وهي إن القرآن الكريم ، صرّح بأن النبي عيسى (علیه السّلام) بشر بنبي بعده أسمه (أحمد) . وهذا النص ، الذي لم يكذب في وقتها من قبل الكنيسة ، رغم الاتصال المؤكد ، بل والتنازع ، بين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والكنيسة ، والوصول إلى مرحلة المحاججة ، والمباهلة ، كما هو الحال مع قساوسة نجران ، ولكن لم يجرؤ أحد من الكنيسة ، ولا من غيرها ، على نفي هذا القول ، إلا بعد خمسة قرون ، أو أكثر ، فيجب أن يكون

ص: 438


1- هذا التطابق ، قد يدعونا إلى التفكير في سر المنع الشديد ، من تسمية الإمام المهدي (علیه السّلام) باسمه الحقيقي : (محمد ، أو أحمد) .

موجودا في الإنجيل - قطعا - ولكن في أي إنجيل، وفي أي موقع منه ؟ فهذا ما نسميه تغيير التراث لمصالح سياسية.

فهذا ما خفي على الجميع، نتيجة تحرّك النصوص الإنجيلية بالترجمة . ولعله موجود في النصوص نفسها ، التي يستدل بها المسلمون . ولكن حركة النصوص ، وتغيير ألفاظها ، حَرَمَ الجميع من الكشف الواضح ، أو هناك إضافات ، أو حذف ، أو هو بنصوص غير موجودة – أصلا ، أو أن الإنجيل ، الذي يستدل به القرآن ، هو غير هذه الأناجيل . فقد كان الإنجيل المتداول بين نصارى العرب ، هو إنجيل بطرس ، الذي حرمته الكنيسة ، بعد مدة من ظهور النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأخفي هذا الإنجيل كليا ، من الساحة الكنسية(1). فعليه ، يجب أن نكون حذرين ، إزاء التطابق بين النص

ص: 439


1- اعتبر انجيل بطرس من الأناجيل المنحولة ، وقد نشر جزء منه بالإنجليزية ، يتعلق بموضوع (الصلب) فيه اختلاف واضح مع طرح الأناجيل المعترف بها من حيث عقيدة تحمل الألم لفداء المحبين . وقد تعرض السيد ابو مالك الموسوي في بحثه [(الإنجيل) بشارة السيد المسيح] فعرف الاناجيل المنحولة وتعرض لانجيل بطرس ، فقال : أولاً : الأناجيل غير القانونية : .. اعترف كاتب البشارة لوقا بأن هناك آخرون ألفوا وكتبوا حول بشارة السيد المسيح عليه السلام ، ومن يراجع تاريخ الكنيسة الأولى والأحداث التي تعاقبت إلى يوم انعقاد مجمع نيقية المسكوني يجد ذكراً لبعض أسماء تلك الكتب ، ولكن للأسف عمدوا إلى إلغاء وإتلاف معظمها بعد إقرار اعتبارية وقانونية الأسفار الأربعة والرسائل المعروفة في الكتاب المقدس بالعهد الجديد . وأصدر الإمبراطور الروماني قراره بقتل كل من يحتفظ أو يخبئ نسخة من تلك الأناجيل ولهذا السبب أطلق عليها اسم الأناجيل المحرمة أو المنحولة (الأبوكريفا) . ورد في قاموس الكتاب المقدس : الأناجيل غير القانونية : يدخل تحت هذا العنوان كل ما كتبه بعض الكتاب في العصر المسيحي المبكر بعد العصر الرسولي ، بما يختص بأخبار سيرة مخلصنا ، ونسبوه إلى غيرهم كأنجيل يعقوب وأنجيل نيقوديموس وأنجيل الأبيونيين وأنجيل المصريين وأنجيل العبرانيين وأنجيل الناسيين وإنجيل بطرس وإنجيل توما وإنجيل الطفولية وهو إنجيل عربي . والمظنون أن إنجيل يعقوب كتب في القرن الثاني . وأما موضوع هذه الأناجيل فوصف لحالة يوسف والعذراء مريم ، والعجائب التي عملها المسيح في حداثته ، وما شاهده في الهاوية وغير هذه مما يرضي عقول السذج ومن شابههم من العامة الذين يرتاحون إلى مثل هذه الأساطير وأخبار القصصيين . أما نقص هذه الأناجيل فظاهر لأنها تناقض روح المخلص وحياته على أنها دليل على صحة الأسفار القانونية دلالة النقود الزائفة على وجود النقود الصحيحة الحقيقية الخالصة . انتهى ثم ذكر الاناجيل ومنها انجيل بطرس وما عثر عليه من اوراق تنسب له ، قائلا : إنجيل بطرس : اكتشف جزء منه عام 1889 بمقبرة راهب أخميم بصعيد مصر ، وهي تروي عن آلام السيد المسيح وموته ودفنه . ! وقد رفضت الكنيسة هذا الإنجيل الأبوكريفي بالرغم من ذكره لقصة صلب السيد المسيح لأسباب عديدة أهمها ما ورد في هذا الإنجيل من إنكار لإنسانية السيد المسيح الكاملة وأنه لم يشعر بألم وهو على الصليب وهو يؤيد بشكل كبير نظرية يتبناها بعض العلماء من أن المصلوب كان السيد المسيح ولكنه لم يتألم بل كان حاله كحال نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما ألقوه في النار .) انتهى المطلوب .

القرآني ، وبين نصوص الأناجيل ، والكتب المقدسة المتوفرة - حاليا . فلا نسلم حين النفي للنص ولا نسلّم حين يتشبث المتشبث بما هو موجود في النص المتداول المعترف به ، لمشكلة تحريك النصوص بشكل دائم .

فيجب علينا - وفق ذلك - أن نميز بين ألفاظ وردت في الكتب المقدسة ، وقد قيل إنها تنطبق على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو الإمام المهدي (علیه السّلام)، وأن نختبرها ، ونختبر صفاتها ، ليتميّز ذلك بدقة .

على إنني أنبه إلى أن هذا البحث ، ليس مخصصا لمناقشة هذه القضية ؛ لأن هذه القضية ، تأخذ بحثا طويلا جدا ، حيث إن الحوار، حول إثبات النصوص التوراتية ، والإنجيلية - في النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بشكل عام - دخلت في نفق الصراعات ، والتحريك للألفاظ والمعاني ، والتعقيد الشديد في تناول النص الكنسي ، لتحركه الهلامي ، ولتداخل الكثير من المعاني ، التي يجب الرجوع إلى أصول ألفاظها ، بصورة دقيقة . فهناك الكثير من الألفاظ ، والكلمات التي دخلت في دهاليز الظلام ، فلا يعرف لها قرار ، مثل إصرارهم على أن روح الحق - الكلمة المهمة في النص الإنجيلي - هو الروح القدس نفسه . وأن الروح القدس ، هو جبرائيل (علیه السّلام)، ويدعون في نفس

ص: 440

الوقت أن روح الحق هو الله المتجسد بالمادة (الله المتجسد = المسيح) الذي لا يحده مكان ، ولا زمان ، فكيف يكون هذا ؟ أيكون جبرائيل هو الله ؟ وهو المسيح نفسه؟(1) وكيف يكون متجسدا ،

ص: 441


1- هذه المشكلة ، نابعة - أيضا - من النصوص المضطربة نتيجة الترجمة . ففي إنجيل يوحنا ، الإصحاح : 14 ، العدد : 26 : «و أما المعزي الروح القدس، الذي سيرسله الأب باسمي ، فهو يعلمكم كل شيء ، و يذكركم بكل ما قلته لكم» . بينما في العدد : 17 ، من الإصحاح نفسه 14 من إنجيل يوحنا : «روح الحق ، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله ؛ لأنه لا يراه ، و لا يعرفه ، و أما أنتم فتعرفونه ؛ لأنه ماكث معكم ، و يكون فيكم» . وهم يفسرون روح الحق في هذا النص : بأنه لا يمكن أن يحده زمان ، ولا مكان ، وهو روح الله نفسه بينما يقولون : بأن روح القدس ، هو جبرائيل ، أو الملاك . ولهذا فإن تداخل ثلاثة آلهة - في التسمية ، والعنوان - أصبح لازما ، بعد مثل هذا التفكيك ، والجمع . فروح الحق ، هو الله ، وهو الروح القدس جبرائيل ، وهو نفسه الكلمة المتجسدة ، المسيح روح الحق ، وهذه النتيجة حتمية ، لمثل هكذا (تفكيك ، وجمع) في النصوص حتى يمكن التخلص من التناقض . وقد أورد أحد القساوسة المحاورين ، تفسيره لروح الحق - بكل صراحة – وقد فسره بأنه روح من الله أو روح من الحق ، بنفي الفرق بين الصفة ، والإضافة والظرفية . وهو يكتب في الانترنت باسم مستعار باسم : (DAVADA CADAVRA) يشرح فكرة روح الحق : فهو روحا غير مرئيا (كذا) للبشر ، وغير ماديا (كذا) و غير ملموسا (كذا) . والحق - هنا - هو الله ، فهو روح الله ، الذي انبثق ، أي يصدر من ذات الله الأب : «رُوحُ الحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الأَبِ يَنْبَشِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» (يوحنا 15 / 26) ... اقتطاع ... «الروح القدس» (يوحنا 14 / 26) أي : روح الله القدوس ، كما يوصف دائمًا . ثانيا : فهو غير محدود بمكان ، و زمان : «وأنا أطلب مِنَ الأب فَيُعْطِيكُمْ مُعَرِّياً آخَرَ : ( anno napakantov - allon Parakleton) لِيَمْكُتُ مَعَكُمْ إِلى الأَبَدِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَن يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ» (يوحنا 14 / 16 و 17)» . انتهى كلام القس . وفيه شيء عجيب ، وهو إنه اعتبر : أن المسيح غير مرئي ، وغير معروف ؟! وهذه حيرة عجيبة ، في تشخيص (الله ، والمسيح ، وروح القدس) لأن المسيح مرئي ، ومعروف ، بينما النص يقول : إن روح الحق ، غير معروف ، وغير مرئي ، فإذا كان المسيح هو الله ، فإنه مرئي ، وإذا كان روح الحق غير مرئي ، فكيف يرى الله نفسه ، ما دم المنبثق منه غير مرئي ؟ إنها خلطة يصعب تصورها ، ولكن المسيحيين ، يرون ان العزاء في ذلك ، هو (قبول الإيمان بها) فالإيمان هو القبول ، حتى لما لا يقبله العقل ، ولا قدرة له على تصوّره ، ورغم تناقض الفهم فيه . والدليل عندهم المحبة ، والرؤية القلبية ، وليس التناسق المنطقي للصورة، فعندهم أنه لمقبول جدا ، أن يكون المسيح ، هو روح الحق ، ويخبرهم بأنه سيأتي روح الحق ، يبشرهم بكل الأمور من قبله . فمَنْ بعث مَنْ ؟ هذا غير مهم ، المهم الحب ، والقناعة القلبية . (يمكن لمن يريد المزيد أن يراجع الدراسات ، والحوارات الكثيرة ، حول هذا الموضوع) .

والله غير مرئي عندهم ، وممتنع عن التعريف ؟ وهذا مثال بسيط لمطبات فكرية ، خارجة عن اختصاص هذا الكتاب .

وعلينا - الآن - أن نقوم بإطلالة سريعة ، لنلمس النصوص بحس خاص ، لنرى مواقع التطبيق في هذه النصوص . بشكل غير تخصصي ، وغير مستكفي للبحث ؛ لأنه بحث طويل ، يحتاج إلى تخصص دقيق ، ودراسات ، تتوفر فيها القدرة على قراءة النصوص ، بعدة لغات (الآرامية ، والكلدانية ، والآشورية ، والسريانية ، والعبرية ، واليونانية ، والرومانية ، والفرعونية ، والقبطية القديمة ، والحديثة ، والعربية ، والإنجليزية، والفرنسية ، والألمانية ، والروسية السلافية) حتى يصل الباحث إلى نقطة بداية صحيحة ، والى نتائج ، يوثق بها لبعثرة البحوث بين لغات عديدة ، وضياع النصوص في التنقل ، بين لغات بعضها بائد ، لا وجود له ، إلا عند علماء الآثار .

ص: 442

نصوص واضحة

في التبشير بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)

سوف أختار - هنا - نصين ، وأدرج معهما بعض تعليقات الشيخ محمد جواد البلاغي ، قدس الله نفسه الزكية ، من كتابه الرحلة المدرسية :

النص الأول من التوراة

الذي ينطبق على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)

البشارة بنبي ليس من بني إسرائيل لا ينطق عن الهوى

الفصل الثامن عشر من سفر التثنية :

«نبيا من وسطك(1) من إخوتك ، مثلي ، يقيم لك الله إلهك ، له تسمعون ككل ما سألت من الله إلهك بحوريب ، بيوم الاجتماع ، قائلا : لا أعود أسمع صوت الله ، إلهي ، والنار العظيمة هذه ، لا أراها بعد ، ولا أموت ، قال الله لي : أحسنوا الذي تكلموا ، نبيا أقيم لهم من وسط أخوتهم ، مثلك ، وأعطي كلامي بفمه، ويكلمهم كل الذي أوصيه ، ويكون الإنسان ، الذي لا يسمع كلامي ، الذي يتكلم به باسمي ، أنا أطالبه ، أما النبي الذي يطغى ، ويتكلم باسمي ، الكلام الذي لم أوصه ، أن يتكلمه ، والذي يتكلم باسم آلهة أخرى ، يموت النبي هو . وإن قلت بقلبك :

ص: 443


1- سياتي تصحيح الشيخ البلاغي لترجمة كلمة من (وسطك) بانها من (قربك) التي تعني من أقربائك أو أبناء عمومتك . ولكن يد المترجمين جعلتها بهذه الصورة المشوهة والنصوص العبرية لا تساعد عليها بل هي نص يصح ترجمته من أقربائك أو عمومتك.

كيف أعرف الكلام ، الذي لم يتكلم به الله . الذي يتكلم به النبي باسم الله ، ولا يكون ، ولا يجيء ، هو ذلك الكلام ، الذي لم يتكلم به الله . بل بطغيان تكلم به النبي ، لا تخف منه» .

أقول : في العهد الجديد ، يخبر أنه المسيح . وقد احتج بطرس ، بكلام التوراة ، على نبوة المسيح ، وإنه هو النبي المشار إليه ، كما في الفصل الثالث ، من أعمال الرسل ، في العدد الثاني والعشرين ، والثالث والعشرين . وكذا استفانوس ، في خطبته الشهيرة ، قبل استشهاده رضوان الله عليه ، كما في العدد السابع والثلاثين ، من الفصل السابع ، من أعمال الرسل.

المشكلة في هذه الدعوى : إن الصفات ، والنصوص ، لا تدع مجالا للشك ، بعدم انطباقها على المسيح (علیه السّلام)، وإنما المقصود به النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذلك لما يلي :

يقول النص : إن ذلك النبي ، من إخوة بني إسرائيل ، لا من بني إسرائيل ، والمسيح باعتبار ولادته من أمه ، يكون من بني إسرائيل ، وأولادهم ، لا من إخوتهم . وقد أشكل الشيخ البلاغي على لسان القس قائلا : وماذا تصنع بقول التوراة لبني إسرائيل : من وسطك ؟ فإنه يقتضي أن يكون ذلك النبي ، من شعب بني إسرائيل ، ومن وسطهم.(1)

فأجاب بلسان عمانوئيل : يا سيدي ، الموجود في الأصل : (مقربك) ولفظ : (الوسط) يعبر عنه في الأصل العبراني بلفظ (توك) . ويكفينا صراحة التوراة المتكرر ، بكون ذلك النبي من أخوة بنى إسرائيل.

فالقضية – إذن – كما يقرر الشيخ البلاغي ، هي – أيضا – تغيير ترجمة ، فأين كلمة : (مقربك) من كلمة : (توك) التي تعني : (وسطك) ؟

أقول : إن قوله تعالى : ﴿إن هو إلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم : 4] يتطابق مع ما ورد في هُوَ التوراة : «وأعطي كلامي بفمه ، ويكلمهم كل الذي أوصيه ، ويكون الإنسان ، الذي لا يسمع كلامي ، الذي يتكلم به باسمي ، أنا أطالبه». وهذا ، لا يدعيه النصارى ، لمن يعرف طريقتهم ،

ص: 444


1- كل ما ننقله عن الشيخ محمد جواد البلاغي (رحمه الله علیه)، هو من كتابه الرحلة المدرسية : 1 : 70 - 73 . وليعلم ذلك ، في هذا الباب ، من الدليل بالنص على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وستأتي نصوص عن هذا الكتاب ، ننقل صفحاتها .

ويتأمل في أقوالهم(1) فهم يقولون إن المسيح يقولون إن المسيح ، هو الله نفسه . وإنه ليس الله نفسه . وإنه ليس مرسلا من الله ليتكلم نيابة عنه ، أو إنه يعمل بوصية الله . فهذا لا يناسب اعتقادهم الحالي .

وهو كذلك لا يناسب اعتقاد بعض المسلمين في المسيح (علیه السّلام)، ممن لا يرتضون القول بعصمة الأنبياء التامة ، وهم - بالضرورة - لا يرون ذلك فيه (علیه السّلام).(2)

إلا أن الأمر مختلف عند الشيعة ؛ لأنهم يقولون بعصمة المسيح (علیه السّلام) التامة ، ولهذا فهو عندهم قابل لأن يكون متكلما عن الله ، لا ينطق عن الهوى ، هذا من حيث الإمكان ، والقبول . ولكن هذه الصفة ، بهذا الاعتبار الاستدلالي، تحتاج إلى نص مسيحي صحيح النسبة وواضح الدلالة ، ليكون النص المشار إليه قابلا للتطبيق على المسيح ، مسيحيا . وهذا مفقود ، حسب ما يظهر ، والله العالم .

والسر في ذلك ، إن النص وضح أن رسالة هذا النبي ، شمولية في عطائها ، وفي توجهها ، وهذا ينطبق على رسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يمكن أن يكون لرسالة النبي عيسى (علیه السّلام) المحدودة لبني إسرائيل ، وبتعاليم روحية فقط ، لأن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) هو نبي مرسل للعالمين كافة ، وجاء بمختلف التعاليم الجامعة ، من النواحي التشريعية ، والعقائدية، والقلبية ، والأخلاقية ، والفلسفية الشاملة ، وهذا يتضح من نصوص رسالتة (صلی الله علیه و آله و سلم) المقدسة ، الحاملة لكل هذه الاتجاهات الشاملة . بينما نبوة النبي عيسى (علیه السّلام)، تفتقر لذلك ، ففي ناحية التبليغ ، فهي مخصصة لبني إسرائيل ابتداء ، ولكن مجمع الرسل ، قال : إن رسالة (يسوع) أصبحت قابلة للأمم (الأميين من الأمة) بإجماع المجمع الكنسي في القدس ، بعد رحيل المسيح بمدة ، قيل تصل إلى تسع سنوات ، حسب القس بطرس سمعان ، في كتابه : (إنجيل برنابا) . وأما محتوى رسالته ، فهو غير شامل لكل نواحي الحياة . حيث يقول المسيح : إنه جاء متمماً للناموس . أي إن شريعته تتميمية . وقد فسّر الكثير من

ص: 445


1- تقدم ما في إنجيل (برنابا) إنه يقول : «بأنه لا ينطق من نفسه» . ولكن هذا الإنجيل ، ليس بحجة على المسيحيين ، ولا على المسلمين ، ويبقى مأزقا فكريا للمسيحية . وقد ذكرت ذلك في كتابي : (انجيل برنابا - مأزق للمسيحية ، ووهم للمسلمين) .
2- لا يخفى أن اغلب المذاهب الإسلامية - باستثناء مذهب أهل البيت (علیهم السّلام)- لا ترى العصمة التامة في أحد ، حتى في الأنبياء .

العلماء ذلك ، بسبب انحراف اليهودية ، نحو العقل المادي ، فجاء المسيح بالمتمم الروحي ، لسد هذا الفراغ ، وهذا فيه تأمل - عندي ؛ لأننا لا نعرف حقيقة دعوة المسيح نفسها ، وإنما نعرف دعوة الكنيسة التراكمية ، التي يجب دراسة تطور ادعاءاتها ، سنة بعد سنة ؛ لنعرف ما هي أصول الدعوة المسيحية ؟ فقد تكون عالمية بالأساس ، أو قد تكون محصورة (بخراف) بني إسرائيل ، كما ورد على لسان المسيح (علیه السّلام)، وتحولها إلى عالمية ، إنما هو تجرؤ وادعاء على المسيح نفسه فالقضية - من وجهة نظري - غامضة جدا .

وعلى كل حال - لا يصح تطبيق النص المذكور على المسيح (علیه السّلام) ، والمسيحية ؛ لأن المسيحية تعترف بأنها ليست دينا تنظيميا للحياة ، وإنما هو دين هداية قلبية ، وخلاص أخروي ، وهذا لا يناسب الإشارة إلى كلية الشريعة عند النبي المبعوث ، في النص التوراتي المبحوث - هنا .

وقد ذكر الشيخ البلاغية (رحمه الله علیه) إشكالات أخرى ، ملخصها إن الإنجيل ينطق بأمور مخالفة لهذا النص ، مثل إن الإنجيل أخبر إن المسيح أخبرهم : إنه يبقى في بطن الأرض ، ثلاثة أيام . بينما – في أبعد تقدير للأناجيل - فانه بقي يومين فقط . وبهذا لم ينطق المسيح بما أراده الله ، لأنه – يستحيل أن ينطق الله ، بما لا صحة لوقوعه.(1)

وذكر الشيخ البلاغي - أيضا - إن الإنجيل ذكر إن المسيح ادعى آلهة متعددة . وهذا لا ينطق به الله . ففي يوحنا ، الفصل العاشر ، يذكر إن اليهود قالوا للمسيح : «إنك ، وأنت إنسان ، تجعل نفسك إلها . أجابهم : أليس مكتوبا في ناموسكم ، أنا قلت : إنكم آلهة . إن قال : آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ، ولا يمكن أن ينقض المكتوب» . وهذا نص صريح ، بأنهم آلهة ، وهذا وصف دائم لهم . وقد أورد بأن الناظر إلى المزمور الثاني والثمانين ، يعرف إن قوله :

ص: 446


1- الرحلة المدرسية : 1 : 71 .

أنا قلت : إنكم آلهة ( إنما هو وارد مورد الإنكار ، والتوبيخ على المتكبرين على الله ، برياستهم بين الناس بصورة الرياسة الروحانية .(1)

وكذلك أورد الشيخ البلاغي ، إشكالا شهيرا ، في ترجمة آية في المزمور (الزبور) حيث إن المسيح نطق بأن الرب له رب . وهذا تعدد أرباب . وهو مخالف - قطعا - لدين التوحيد ، الذي جاء به الله ، وهذا يستحيل أن يخرج من نبي . ولكنه استأنف بأن هذه ترجمة خاطئة ، ومحرفة للجملة الأصلية في التوراة . فالنص الذي استدل عليه الشيخ البلاغي هو :

إنجيل متى : 22 : 41

«وفيما كان الفريسيون مجتمعين ، سألهم يسوع قائلا : ماذا تظنون في المسيح ، ابن من هو . قالوا له : ابن داود . قال لهم : فكيف يدعوه داود بالروح ربا قائلا : قال الرب لربي : اجلس عن يميني ، حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك ، فإن كان داود يدعوه ربا ، فكيف يكون ابنه . فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة ، ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة».

فهذا استدلال بتعدد الآلهة .

ثم يستدرك الشيخ البلاغي (رحمه الله علیه)، بأن القضية كلها ، فيها تحريف كبير ، فقد أورد نص الآية ، التي يقال إن المسيح استدل بها ، بحسب النص العبري للمزمور : «قال الرب لربي اجلس عن يميني» بأنها وردت في العبرية بهذه الصيغة :

«نأم يهوه لادناي شب ليميني».

وترجمتها : «أوحى الله لسيدي اجلس ليميني» . فلم يقل : لربي ، بل قال : لسيدي . والسيد يجوز أن يكون من البشر . وأين معنى السيد ؟ وأين معنى الرب ؟ وإذا كان هذا التحريف هينا ، فما هو التحريف القبيح ؟.(2)

وهنا - قال البلاغي في قصته الطريفة : «يا سيدي القس ، فأناجيلنا تبين لنا : إن المسيح ليس

ص: 447


1- الرحلة المدرسية : 1 : 72.
2- الرحلة المدرسية : 1 : 71 .

هو النبي الصالح الموعود به في التوراة . بل مقتضاها - وحاشا المسيح - أنه هو ضد ذلك النبي الصالح . يا سيدي ، وهل يكون صالحا من يقول : بتعدد الآلهة ، والأرباب ، ويحرف الكتب المقدسة ، ويحمل ما فيها ، على غير معناه ، فيتقول عليها ، لكي يموه احتجاجه الإشراكي الواهي . يا سيدي ، التوراة تقول : إن بني إسرائيل ، ارتعبوا من سماع كلام الله ، وما صادفوه في ذلك أهوال العظمة ، والآيات، والنار العظيمة ، وطلبوا من الله أن يكون كلامه ، بغير هذا النحو ، فأجابهم إلى ذلك وقال : أجعل كلامي في فم ذلك النبي . يا سيدي ، وبمقتضى العهد القديم ، والعهد الجديد : إن المسيح ، ومن قبله من الأنبياء ، لم يجعل الله كلامه في فمهم ، كما كان يتكلم من الشجرة ، والجبل ، بل كان المسيح ، والذين قبله من الأنبياء ، يتكلمون بكلامهم المستند إلى الإلهام».(1)

أقول : : إن دراسة النص وحده ، كافية في إثبات أن النبي المقصود ، ليس هو النبي عيسى (علیه السّلام) أولا ؛ لأن النبي المقصود ، ليس من بني إسرائيل ، وعيسى (علیه السّلام) من بني إسرائيل - من جهة الأم على الأقل ، أو كما يقولون هم إنه من بني إسرائيل - وهذه إشارة مهمة ، وحيوية(2). وثانيا : إن صفة هذا النبي ، أنه كان تكلم بوحي من الله ، والمسيح لم يكن يتكلم بأمر الله – بحسب النصوص المسيحية - وإنما هو الله نفسه ، وأما من كان لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا و يوحى ، إنما هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). وثالثا : إن رسالتة شاملة ، وعمومية ، من خلال الكلية ، التي عناها بقوله : «ككل ما سألت من الله إلهك».(3) وبما بعده، مما يدل على كلية ما يطلبه الإنسان من الله . وهذا هو الأهم ، وهو لا ينطبق إلا على رسالة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). ولعل الأمر

ص: 448


1- الرحلة المدرسية : 1 : 72 .
2- نصت التوراة على : إن إسماعيل ، هو أخو بني إسرائيل : «وأمام جميع إخوته يسكن» (تكوين 16 / 12). «أمام جميع إخوته نزل» (تكوين 25 / 18) .
3- الفصل الثامن عشر من سفر التثنية .

الثالث هو الحد الفاصل، الذي لا يقبل الجدل ، في تعيين كون هذا النص ، في النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) خاصة .

وما ذكره المرحوم البلاغي، من إشكالات ، إنما تصح بناء على نصوص الأناجيل المختلف في ترجمتها ، وفي محتواها ، وهذا لا ينفع التطبيق ، من الناحية الحقيقية كما هي ، وإنما ينفع للمحاججة – فقط ، ، على إن إشكاله بالتحريف للنصوص ، ينفي نفس الإشكالات ، التي أوردها ، ولهذا فإنني أرى أن النص واضح وصريح ، ولا يمكن أن ينطبق على المسيح (علیه السّلام)، حتى لو تم الاستدلال به من قبل النصارى ، لعدم انطباقه كليا عليه ، وإنما ينطبق كليا على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).

وعلى كل حال فإن الإشكال بروايات عن النبي عيسى (علیه السّلام)، تنسب إليه الكفر ، والعصيان ، لا تصح ؛ لما نعرف من إمكان التحريف في النص ، والذي وقع في أغلب الأديان ، حتى دين الإسلام . ويمكن أن يتمسك بمثل ذلك ، من يريد المشاغبة ، بما ورد من أكاذيب على الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، لوجود روايات صحيحة كثيرة ، عند بعض المسلمين ، تثبت للنبي محمد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)- حاشاه – شتى أنواع الكفر ، والعصيان . وهذا لا ينفع في مقام الحقيقة ؛ لأن النصوص التي يدعى تها ، لا تثبت ، ولا يمكن أن تثبت ، فهي منفية – أصلا وموضوعا . ولعل جل الخلاف الشيعي السني ، حول الموروث إنما هو لهذه الجهة . أي جهة عدم ثبوت هذه الروايات ، الموصوفة بالصحيحة ، للنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لأنها تنفي دينه ، وتنفي وجوده ، وهي معارضة أشد المعارضة ، بنصوص أكثر صراحة منها ، ومن منبع أصفى ، وأصدق من منابعها المشبوهة ، مما يدل على كذبها . وقد يكون هذا حال المسيحية نفسها ، ولكن لأن الكنيسة الحالية انتصرت على كنائس كثيرة ، مثل الاريوسية الموحدة ، وغيرها ، فلا يمكن الجزم بأن هذا الموصوف في الكنيسة الحالية ، هو المسيح نفسه ، فقد يكون المسيح ، هو الموصوف الآريوسي ، الذي يكفّره أصحاب الكنيسة الحالية ، بمختلف مذاهبهم . على أن المذاهب المسيحية الحالية ، فيها الكثير من الاختلاف ، حول النصوص ، وثبوتها ، وقوتها التفسيرية ، مما لا يصح اعتبار أي صورة من خارج

ص: 449

تمذهبهم ، هي الصورة العامة للمسيح (علیه السّلام). ولهذا فلا أميل إلى ما قام به البلاغي قدس الله نفسه الزكية ، في هذا الجانب ، من استخدام إساءتهم لصورة المسيح (علیه السّلام)؛ لتكون دليلا على عدم المطابقة في النص المذكور ، فهو لا يحتاج لكل هذا .

وهنا - أنوه أن أعظم إشكال ، يشكل به النصارى على نص سفر التثنية ، هو كلمة : (من وسطك) ويتفننون في مفادها . وإنها تنهى عن الاقتراب من النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، بينما تبين أنها - أصلا - لم تكن كلمة : (من وسطك) وإنما هي كلمة : (مقربك) بلفظها العبراني ، وتعني أقربائك ، وهي تدل على أبناء العمومة . فتكون كل الإشكالات المسيحية ، لا موضوع لها - أصلا - باعتبار أن الكلمة ، التي يتمسكون بها لا أساس لها .

النص الثاني من التوراة

الذي ينطبق على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)

راكب الحمار ، وراكب البعير

ومشكلة تحريف الترجمة والنص

ورد في سفر اشعياء الإصحاح : 21 : 6 : «لأنه هكذا قال لي السيد : اذهب أقم الحارس ؛ ليخبر بما يرى . فرأى ركابا ، أزواج فرسان ، ركاب حمير ، رکاب جمال ، فأصغى إصغاء شديدا» .

هذا النص المضطرب - في الحقيقة - هو نص معوج ، لنص مفيد ، ومهم ، يدل - بكل وضوح - بمجيء النبيين : راكب الحمار ، وراكب البعير . وهما عيسى (علیه السّلام)، محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).

هنا – اثبت نص ما ذكره العلامة البلاغي (رحمه الله علیه)، فهو مفيد جدا(1):

ص: 450


1- الرحلة المدرسة : 1 : 73.

«عمانوئيل : يا سيدي، إن تراجمنا المقدسة ، ومترجمينا المقدسين ، قد وجدنا الأغراض تدفعهم ، إلى التحريف الواضح الفاضح . فمن ذلك - يا سيدي ، ما ذكرناه من قولهم : «قال الرب لربي» ومن ذلك تحريفهم للعدد السابع من الفصل الحادي والعشرين من كتاب أشعيا : «في الوحي من جهة برية البحر» فعمدوا إلى قوله : «زوج فرسان : راكب حمار ، وراكب جمل» فحرفوه إلى قولهم : «أزواج فرسان ، رکاب حمير ، وركاب جمال» مع إن الأصل العبراني ، يقول هكذا : «ورأه ركب صمد ركب حمور وركب جمل» فإن لفظ ركاب بالعبرانية : «ركبيم» ومع الاضافة : «ركبي» . انظر - أقلها - سفر القضاء في الأصل العبراني : 5 : 10 و 10 : 4 و 12 : 14. ولفظ جمال : «جمليم» . انظر - أقلها - سفر التكوين : 12 : 16و24 : 30 و 31 و 35 . ولفظ الحمير: «حموریم» - انظر - أقلها - تك : 24 : 35، وعد : 31 : 28 و 30 و 4 و 39 ولفظ حمار : «حمور» انظر - أقلها - خر :22 8 و 9 و لفظ الجمل : «جمل» . انظر - أقلها - لا: 4:11 وتث : 14 : 7».(1)

- هنا - يتضح أن التحريف الكبير ، الذي وقع للجملة ، فجعلها مضطربة ، قد تم – كما هو واضح - بقلب المفرد إلى جمع ، وهو أحد أهم أسباب الاضطراب . فإذا أعيدت الجملة إلى أصلها بصيغة المفرد يتضح أن الرب - تبارك وتعالى – أوصى بالإخبار بالنبوءة ، بمجيء راكب الحمار (عيسى (علیه السّلام)) وراكب الجمل (محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)) . وهذا نص خاص في النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكن القلب كان متعمداً ، وموظفا ؛ لإبعاد الاستدلال للمسيحيين ، والمسلمين بصحة النبوّتين ، على أن هذه الجملة شملتها دراسات كثيرة لا مجال لاستعراضها - هنا ؛ لأن الصياغة ، والقصة التنبوئية ، لم ، لم تكن كما هو مطروح بالنص العربي ، بواسطة ترجمة عجيبة غريبة .

فكما أشار البلاغي (رحمه الله علیه) أن النص يتعلق بالنبوءة الآتية من البرية ، من جهة البحر . ولعل هذا النص كان منشؤه في مصر ، والله العالم . وهذا يُترك للدراسات الخاصة . وهنا - نكرر التنويه إلى أن البحث ، لا يشمل هذا الموضوع ، وإنما أوردناه للإشارة فقط ، لا للاستيفاء .

ص: 451


1- المختصرات في النص : (تك [تكوين] عد [عدد] ... الخ) هي مختصرات أسماء الأسفار في الكتاب المقدس . أبقينا عليها كما هي ؛ للأمانة في نقل النص .

نصوص متعددة ينبغي تفسيرها بأنها تبشر بالإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)

سواء كانت واضحة جدا أو فيها خفاء

في سفر حجي النبي : «وَأَزَلْزِلُ كُلَّ الأُمَمِ. وَيَأْتِي مُشتَهَى كُلِّ الأُمَمِ فَأَمْلأُ هَذَا البَيْتَ مَجْداً قَالَ رَبِّ الْجُنُود» . (حجي : 7/2)

الكلمة الاصلية ل_(مشتهى) هي : (مسيا) وقد ترجمت إلى : (مشتهى) من الترجمة العبرية ، بينما كلمة : (مشتهى) و (مسيّا) تلفظ بالعبرية : (حمدا emdah) و (مشتهى) هي ترجمة غير دقيقة للكلمة ، لا تخلو من القصد ، باعتبار أن هذا النص صريح بلفظ : (محمد) أو (أحمد) من الجذر (حمد) . والقرآن الكريم استشهد بمثل هذا الاسم بما ورد على لسان عیسی (علیه السّلام)، فهنا حالة تفادي للدليل الواضح الصريح بتغيير اللفظ ، وذلك للتطابق بين هذا اللفظ ، وبين لفظ : (محمد) أو (أحمد) وبين التنصيص على وجود البشارة ، التي أخفوها في النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بالذات .

وبمثل هذا التحريف في الترجمة ، أو التحوّل من اللفظ ، إلى الترجمة ، يتم العبور على خطورة إبقاء مثل هذا النص على الديانتين المسيحية، واليهودية . وهذا حسب ب فهم كل من المسيحيين ، واليهود ، والمسلمين إذ يعتقدون أنها بشارة بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكن الذي يبدو إن البشارة هي ب_(محمد المهدي (علیه السّلام)) باعتبار لوازم النص . وعلينا أن نقرأ ما قيل ، ثم نتأمل في كلامهم :

يقول الدكتور نصر الله أبو طالب في كتابه : (تباشير الإنجيل ، والتوراة بالإسلام ، ورسوله محمد)(1):

ص: 452


1- تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام ورسوله محمد : 509 .

«نقل م . ا . يوسف، في كتابه بالإنجليزية : (مخطوطات البحر الميت) ص : 110 ، عن السیر (گودفری هیگین sir godfrey Higgins) في كتابه : (anacalypsis) : بأن اسم (المسيّا) الذي سيأتي بعد عيسى ، قد ظهر في فصل : 2 : آية : 7 : «ويأتي مشتهى كل الأمم».

الحروف العبرية - هنا - (حمد hmd) من النص العبري (لكلمة مشتهى بهذا التطابق . ومشتهى ما هي إلا ترجمة عربية غريبة للنص العبري - إضافة توضيحية) علق عليها (گودفری هیگین) بقوله :

From this root, The pretended prophet mohammed or mohamet had his name " sir hggin says, " here Mohammed is name, there is no expressly foretold by haggi, and by name interpolation here. there is no evading this clear text and its meaning.

وهو ما يمكن ترجمته إلى ما يلي : «من هذا الجذر – يعنى كلمة : (حمد) – فإن هاهنا إخبارا واضحا عن (محمد) بواسطة (حجى النبي) بالاسم ، و بدون أي إدخالات على النص ، ولا مهرب من هذا النص الواضح ، ومعناه ، وما يعنيه»(1). انتهى .

إذن ، ما قاله «السیر گودفری هیگین» - من أن كلمة : (مشتهى) تنطق بالعبرية : (حمادا) وهذا لا مهرب منه كما صرح وهو يعني ما يقول – يشير دون لبس إلى وجود تحريف متعمد . ولعل في لفظ : (حمدا) مشترك لفظي ، بين : (مشتهى) وبين (محمود) - كما هي العلاقة الواضحة في المعنى – فاختاروا ما يبعد عن فهم المسلمين ، بشكل متعمد ، كما حدث في : (البركليت) ولهذا ، فقد اعتبر «السیر گودفری هیگین» أن ذلك ذكرا صريحا لاسم الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

وهذا الكلام ، يحتاج إلى براهين ، تدل على حصر كلمة : (حمدا) بمعنى : (مشتهى) باللغة العبرية ؛ ليصح استدلالهم على صحة ترجمتهم ، إذ المعروف أن الجذر : (حَمَدَ) متطابق بين العبرية والعربية ، حتى أن يهود العراق ، كانوا يقولون : (الحمد لله) بقلب (الحاء) (خاء) كما

ص: 453


1- أضفنا إلى النص المنقول عن كتاب الدكتور أبو طالب بعض الأقواس لإبراز الأسماء ، وإظهارها .

هو معروف في التباين البسيط في بعض ألفاظ اللغتين ، بقلب الحروف وهو يعني أنهم يستعملون الحمد بنفس المعنى العربي . وهذا بحث يطول . فالاستعمال لجذر : (حمد) واحد في اللغتين كما يبدو ، وقد يلاحظ الدارس ، أن المحمود ، هو : الذي يحمده الناس ، أي الذي يهوى الناس صفته ، ويشتهونها . فلعلهم ترجموها بلازم (الحمد) والتطابق بين الحمد والاشتهاء ، تطابق مصداق ، كما ترجموا ، ويمكن أن نعتمد على تقارب اللغتين العربية ، والعبرية واتحاد أصولهما اللغوية . فاللغة العربية - أيضا - يمكنها أن تقول : إن محمود الناس ، هو مشتهاهم ، ولا غبار على ذلك ؛ لأن الحمد ، والاشتهاء ، متعلقات صفات نفسية ، تنطلق من الرغبة في الصفة ، وحسنها في النفس . فكل حسن عقلا ، بتطابق رأي العقلاء ، فهو محمود ممدوح ، وهو مشتهى ، مرغوب أيضا . والسر في ذلك واضح ، وهو كونها من متعلقات صفات النفس ، وإقبالها على الشيء .

وما يعنيه «السیر گودفری هیگین» بقوله : «إخبارا واضحا عن محمد بواسطة حجي النبي ، بالاسم» . هو : إن المعنى يكون كذلك في حال استظهاره ، وقراءته ، من دون تدخلات ترجمية ، أو تحريف صوتي ، فإن الكلمة مكتوبة بالعبرية ، بالأصل : (حمدا) بدلا عن : (مشتهى) فتكون الترجمة مع تثبيت (حمدا) هكذا : «وَيَأْتي [حمدا - (المحمود ، أو محمد ، أو أحمد)] كُلّ الأمم ، فَأَمْلأُ هَذَا الْبَيْتَ مَجْداً ، قَالَ رَبُّ الْجُنُود» . فهنا ، يتفق الباحثون الغربيون ، مع الإسلاميين ، في أن المقصود ، هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) باعتبار كلمة (حمدا) . وقد أغفلوا كلمة : «كل الأمم» التي تحتاج إلى تأمل ، فهي لا تناسب الدعوات الخاصة ببني إسرائيل.

أقول : لو تدبرنا الجملة جيدا ، لوجدناها تتقارب مع النص التالي ، الذي جمعناه من عدة نصوص ، وفيه : «فيأتي محمد المهدي ، فيملأ الأرض عدلا ، وخيرا ، بعد أن ملأت ظلما ، وجورا ، ويملأ بيت إبراهيم (علیه السّلام)، بمجد الله ، وتحقيق وعده» .

ولا مناص من أن يتم فهم النص بهذه الكيفية ؛ لأنه محمود كل الأمم ، كما تنص عليه الجملة ، وليس محمود أمة معينة ، ليمكن تطبيق الفرض على أهل ديانته - مثلا . فلا يمكن أن يكون محمود كل الأمم ، إلا أن يُخضع جميع الأمم ، وتقبله جميع الأمم ، وهو لا ينطبق – بحسب

ص: 454

نصوص المسلمين - إلا على الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). فمن وجهة نظر إسلامية ، ليس أمام المسلم ، في تطبيق هذا النص ، إلا أن يفسره بالإمام (محمد المهدي (علیه السّلام)) . ولكن من وجهة نظر غير المسلمين ، ومن لا يعرف خصائص الإسلام ، يمكن أن يختلط عندهم الأمر ، بين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، والإمام محمد (علیه السّلام، باعتبارهم يركزون على تطبيق لفظة : (ح م د) على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، باعتباره صاحب الديانة المعروفة ، التي جاءت باسم الإسلام . ولاعتبار التحدي بوجود لفظ : (أحمد) في بشارة الدين السابق ، كما هو في نص القرآن الكريم(1).

المشكلة ، إن من طبق النص على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، انطلق من فهم (مشتهى) العربية ، أي الذي يشتهيه كل الناس ، وحسبوا أن صفات النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) مشتهاة من جميع مشتهاة من جميع الناس ، وهذا صحيح في ذاته ، ولكن ، يجب أن يكون الانطلاق من الحمد - أولا - ويجب أن يفهم أن النص فيه طبيعة انتظار ، سواء كان (مشتهى) أو (محمود) - ثانيا .

إن نص جملة : «وَيَأْتِي [حمدا - (المحمود ، أو محمد ، أو أحمد)] كُلّ الأُمَمِ ، فَأَمْلأُ هَذَا الْبَيْتَ مَجْداً ، قَالَ رَبُّ الْجُنُود» . تفيد انتظار الأمم ، لمثل هذه الشخصية ، والتطلع إليها ، سواء بلفظ : (حمد) أو لفظ : (الاشتهاء) الترجمة غير الدقيقة ل_(حمد) . وهذا الانتظار العالمي ، الذي يتحقق للجميع ، ويفرض نفسه على الجميع ، هو ظهور المهدي (علیه السّلام)، ولكن لو كان الانتظار لما هو حق ، بقطع النظر عن السيطرة الفعلية على الأمم ، فانه ينطبق على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث

ص: 455


1- نشير إلى أن التسمية الواردة في القرآن ، إنما هي في الإنجيل ، وليست في التوراة : ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف : 6] . وهذه الآية ، تشكل معضلة حقيقية للكنيسة ؛ لأنها على مسمع منها ومرأى ، ولم تنكرها ، ولم تكذب القرآن ، إلا بعد إجراء عدة تصحيحات ، في كتبهم ، بعد خمسة قرون ، من نزول القرآن، وهذه الظاهرة لم تدرس جيدا ، ولم يلتفت إليها المسلمون بشكل دقيق ؛ لتشكل تيارا بحثيا ، في أصل النفي ومتى بدأ ؟ ولماذا بدأ ؟ وكيف بدأ ؟ فحسب علمي ، حتى الحروب الصليبية ، لم يتطرقوا إلى أن القرآن ، كذب وادعى أن المسيح بشر بأحمد . بينما سبوا النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ووصفوه بالكاهن الكذاب ، ووصفوه بالمسيح الدجال ، لتعزيز قوة المهاجمين الصليبيين .

كانوا ينتظرون ظهور النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه - أيضا ، سواء كانت الصورة مشوشة عندهم ، خالطين بين الشخصيتين ، أو إنها واضحة.

إن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، هو النبي الذي يُرسل برسالة الله الخاتمة ، ودينه هو الخاتم . وهو الدين الذي سيظهر في آخر المطاف ، على يد الإمام محمد المهدي (علیه السّلام). وهذا الفهم ، غير بعيد عن أهل الكتاب - قبل ظهور النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) - في انتظاره ، وترقب إرسال الله له . وهو أحد موارد الله الاتحاد الحقيقي ، بين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام محمد (علیه السّلام)، كما أشرنا سابقا ، مرارا لئلا يقع الخلط .

وقد ورد في المزمور : 72 من مزامير داود (علیه السّلام) ما هو بشارة بملك في آخر الزمان ، يمسح كل مظالم التاريخ ، رغم ورود كلمات غير مفهومة ، وستكون متناقضة ، حين تثبت مثل الإشارة ، إلى ابن الملك(1). وقد وضعت نصين ، من نسختين مختلفتين ، من كتاب مزامير داود ، حتى نأخذ بالقدر المتيقن من النص ، ونفهم طبيعة الاختلافات في القراءة، وفي ترجمة الكتب المقدسة ،

ص: 456


1- كلمة الملك ، وابن الملك ، التي تمسك بها اليهود والنصارى ، بتفسيرها على أنها تعني داود نفسه ، وابنه سليمان (علیهما السّلام)، غير منحصرة بهما ، إذ أن ترجمة كلمة : (ملك) - كلما وردت في الكتاب المقدس ، وكما هو الحال في كلمة : (رب) - تعرضت - أيضا - لمشكلة عدم الدقة في الترجمة ، وهذا واضح في ترجمات النصوص القديمة . فهي قد تعني في حقيقتها (النبي) و (المصلح) و (الإمام) وهذا يمكن تطبيقه بسهولة على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وابنه المهدي (صلی الله علیه و آله و سلم) هذا بالإضافة إلى أن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان ملكا رئيسا على قومه - حقيقة ، والمهدي (صلی الله علیه و آله و سلم)، منصوص عليه كذلك ، وسيكون ملك العالم اجمع ، فلا ينحصر الأمر بالتفسير اليهودي ، حتى يكون حجة في بابه . ولهذا لا يليق التمسك بكون ذكر : (ابن الملك) في النص، يحرف النص بأكمله عن الفهم الطبيعي . ومع ذلك ، فإن ما ذكره في الصلوات ، من صفات وأحداث ، كنشر العدل في جميع العالم ، والى الأبد ، لا ينطبق على داوود ، ولا على سليمان (علیهما السّلام). وهذا يجعل من النص، نصا غير منسجم - إطلاقا - إذا فُسّر بكونه موجّه لهما إذ يصبح كل ما قيل ، بعد السطر الأول ، لا واقع له ، ولا معنى - مطلقا .

التي تشكل معضلة حقيقية ، في التعاطي مع نصوص الكتاب المقدس ، كما في الجدول التالي، للمقابلة بين النصين :

اللهم أعط شريعتك للملك وعدلك لابنالملك ... ليحكم بين شعبك بالعدل ولعبادك الملك المساكين بالحق...

فلتحمل الجبال والآكام السلام للشعب في ظل العدل ....

ليحكم المساكين الشعب بالحق ويخلص البائسين ويسحق الظالم ! ...

يخشونك ما دامت الشمس وقدام القمر

على مر الأجيال والعصور!

سيكون كالمطر يهطل على العشب وكالغيث الوارف الذي يروي الأرض العطشى!...

يشرق في أيامه الأبرار ويعم السلام إلى يوم يختفي القمر من الوجود .

ويملك من البحر إلى البصر (كذا وعله البحر) ومن النهر إلى أقاصي الأرض ...

أمامه يجثوا أهل الصحراء ويلحس أعداؤه التراب ....

ملوك ترسيس والجزائر يدفعون سبأ وشبا يقدمون الهدايا ....

يسجد له كل الملوك ، وتخدمه كل الأمم ..

لأنه ينجي الفقير المستغيث به والمسكين الذي لا معين له ...

1 - اللهم أعط أحكامك للملك وبرك لابن الملك

2 - يدين شعبك بالعدل و مساكينك بالحق

3 - تحمل الجبال سلاما للشعب و الآكام بالبر

4 - يقضي لمساكين الشعب يخلص بني البائسين ويسحق الظالم

5 - يخشونك ما دامت الشمس وما أنار القمر إلى دور فدور

6 - ينزل مثل المطر على الجزاز و مثل الغيوث الذارفة على الأرض

7 - يشرق في أيامه الصديق و كثرة السلام إلى أن يضمحل القمر

8 - و يملك من البحر إلى البحر و من النهر إلى أقاصي الأرض

9 - أمامه تجثو أهل البرية و أعداؤه يلحسون التراب

10 - ملوك ترشيش و الجزائر يرسلون تقدمة ملوك شبا وسبا يقدمون هدية

11 - و يسجد له كل الملوك ، كل الأمم تتعبد له

12 - لأنه ينجي الفقير المستغيث و المسكين الذي لا معين له

ص: 457

يشفق على الضعفاء والبائسين ويخلص أنفس الفقراء ...

ويحررهم من الظلم والجور وتكرم دماؤهم في عينيه ...

فليعش طويلاً وليعط له ذهب سبأ ، وليصل عليه دائماً وليبارك كل يوم ...

فليكثر القمح والبر في البلاد حتى أعالي البلاد ! ولتتمايل سنابل القمح كأشجار جبل لبنان! وليشرق الرجال في المدينة كحشائش الحقول ! ...

ويبقى اسمه أبد الدهر ، وينتشر ذكره واسمه أبداً ما بقيت الشمس مضيئة !

وليتبارك به الجميع ، وجميع الأمم تنادي باسمه سعيدة ...

13 - يشفق على المسكين و البائس و يخلص أنفس الفقراء

14- من الظلم والخطف يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه

15 - و يعيش و يعطيه من ذهب شبا و يصلي لأجله دائما اليوم كله يباركه

16 - تكون حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال تتمايل مثل لبنان ثمرتها و يزهرون من المدينة مثل عشب الأرض

17 - يكون اسمه إلى الدهر قدام الشمس يمتد اسمه و يتباركون به كل أمم الأرض يطوبونه

18 - مبارك الرب الله اله إسرائيل الصانع العجائب وحده

19 - و مبارك اسم مجده إلى الدهر و لتمتليء الأرض كلها من مجده(1)

النص - إذن - يدل على انتظار مصلح قوي ، قادر على تسيير قوى الخير للبشر ، وأهم ما فيه ، الأبدية ، والشمول لكل الأرض : «لتمتليء الأرض كلها ، جميع الأمم» والنهاية الحاسمة ، وإغداق الخيرات العامة ، على عموم الناس ، وهذه خصوصيات ، لا تنطبق على داود ، ولا على ابنه سليمان (علیهما السّلام)، كما يرغبون في الإيحاء به ، هذه الأيام ، باعتبار ذكر : (الملك) . والنص لا ينطبق على يحيى ، ولا على عيسى (علیهما السّلام)، ولا على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فالنص واضح بإشارته إلى ملك يُخضع الأرض جميعها ، وتطيعه الطبيعة بنعم فائضة . وهذا لم يحدث لحد الآن ، ولأن عملية

ص: 458


1- واضح - تماما - الاختلاف بين النصين في الكتاب الواحد .

الإصلاح المقصودة ، تكون بها إنهاء كل الجدل الديني ، والسعي لتطبيق دين الله في الأرض . وهذا - أيضا - لم يحدث بهذه الصورة. أي توحيد القلوب ، مع توحيد الله ، وتوحيد القوة ، وتوحيد الإرادة .

وقد قلنا : إن المجتمع اليهودي، الذي عاصر المسيح (علیه السّلام)، يمثل المجتمع اليهودي ، المتمسك بالمباديء اليهودية - بشكل واضح ، فالنصوص المسيحية - التي صدرت ممن واجه المسيح (علیه السّلام) بحسب العهد الجديد – تمثل رأي الشارع اليهودي في وقته . ولهذا فإن النصوص ، التي تفيد انتظار اليهود ل_(مسيّا) المصلح ، في وقت المسيح ، تمثل اعتقاد الشعب اليهودي ، الذي آمن بالمسيح أنه (مسيّا) نفسه ، وهذا الترقب اليهودي يعتبر دليلا يهوديا – نصرانيا ، مشتركا ، على وجود النصوص المشتركة ، للبشارة بالمنقذ (المسيا) وليس دليلا نصرانيا صرفا . وقد ورد في أماكن متعددة ، منها ما في يوحنا ، الإصحاح الأول:

«40 : كان اندراوس أخو سمعان بطرس ، واحدا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا ، وتبعاه 410 : هذا وجد أولا أخاه سمعان ، فقال له : قد وجدنا مسيا ، الذي تفسيره المسيح».

وقد ورد أن المسيح قال : أنا هو (مسيا) . بناء على تفسير : (المسيا) بالمسيح ! كما ورد على لسان السائلة نفسها ، لنقرأ في إنجيل يوحنا الإصحاح الرابع :

«4 : 25 : قالت له المرأة : أنا أعلم أن (مسيّا) الذي يقال له المسيح ، يأتي . فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء . 4 : 26 : قال لها يسوع : أنا الذي أكلمك هو . 4 : 27 : وعند ذلك ، جاء تلاميذه ، وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة ، ولكن لم يقل أحد : ماذا تطلب ، أو لماذا تتكلم معها . 4 : 28 : فتركت المرأة جرتها ، ومضت إلى المدينة ، وقالت للناس 4 : 29 : هلموا ، انظروا إنسانا قال لي : كل ما فعلت ألعل هذا هو المسيح ؟» . انتهى النص .

والنص ، يقول بصراحة : إن المسيح ، قال للمرأة : إنني أنا هو (المسيح) وهي قد فسرته باللفظ بأنه (مسيّا) وهذا يعني أنه قال : إنه (مسيّا) في رأيها اما اجتهادا منها أو للتطابق في نظرها

ص: 459

بين (المسيح) و (مسيا) كما يظهر من النص ، ولكن يلاحظ في آخر النص أنها لم تكن متأكدة من كونه المسيح (ألعل هذا هو المسيح؟) لأنه اخبرها بالمغيبات.(1)

هذا النص يدل بوضوح على انتظار (مسيّا) بغض النظر عن التشابك ، والاختلاف في النقل ، أو في فهم النص . ولكن بهذا الشكل من النص ، يصبح تطبيقه على المسيح ، غير واضح النص ، لسببين :

الأول : إن شهادة عيسى على انه المسيح (مسيا) هو من باب توقف الشيء على نفسه ، فيحتاج إلى دعم خارجي، وهذا لا يتحقق بالمقولة المسيحية ، وإنما يتحقق بالمقولة الإسلامية ، التي تقول إن المسيح نفسه ، دلیل علی رسالته ، باعتبار كونه معجزة في ولادته ، وليس بالبشارة به ، المصدقة بالمعجزة المتأخرة ، أو بفعل الأعاجيب . نعم ، لا مانع من البشارة به ، في النصوص القديمة ، ولكن يجب أن تكون هذه البشارة صريحة ، لم تنلها يد التحريف ، ولا تدخل ، ولا تأثير الأحد من البشر فيها . فالمسيح نصرانيا لا دليل عليه في البداية إلا بدعواه هو فقط ، ولم تكن المعجزات دليلا عليه وإنما أتت ككرامات له حسب الفهم النصراني . وهذا خلل منطقي . بينما المسلمون يرون خصوصية للسيد المسيح في هذه الناحية ، وهي أن البرهان أقيم عليه قبل الدعوى بخلاف الكثير من الأنبياء الذين احتاجوا إلى المعجز للبرهان على صحة الادعاء .

والثاني : عدم صراحة القول ، بأنه : (مسيّا) نفسه ؛ فلعله قال انا المسيح وليس ليقرها على فهمها إن مسيا هو المسيح . للتعارض الحاصل بين كون (مسيا) هو (البركليت) نفسه وانه يقيم

ص: 460


1- من الطبيعي أن يحلّ شك ، واضطراب عند أصحاب ديانة معنية ، حين يداهمهم دين جديد ، أو نبي جديد ، وقد واجه ظهور السيد المسيح (علیه السّلام) اضطرابا في تشخيصه ، كما ينص العهد الجديد . من ذلك ما في إنجيل يوحنا : 7 : 40 - 43 : «40 فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الكلامَ قَالُوا : «هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبيُّ [المسيا ؟]» 410 آخَرُونَ قَالُوا : «هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ» . وَآخَرُونَ قَالُوا : «العَلَّ الْمَسيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ 42 أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَمِنْ بَيْتِ لَحْمِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَان دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي الْمَسِيحُ ؟» 43 فَحَدَثَ انْشَقَاقِ فِي الْجَمْعِ السَببه».

الدينونة على كل الأرض ، كما قدمنا في النصوص ، وبين كونه (علیه السّلام) يبشر بمجيء (البركليت) بعده ، فهذا يعقد الصورة في هذا النص الغامض - تماما . ولكنه لا ينفي – أبدا - كونهم ينتظرون (مسيا) وإن (مسيّا) مقدس عند الشعب اليهودي، الذي قابل ، وحاور المسيح . كما هو مقدس عند المسيح نفسه.

استدلال المسيحيين على صحة إيمانهم بالمسيح ، باعتباره (مسيّا) المنتظر نفسه - حسب اشعياء - . يتبين إن العملية - في حقيقتها - عملية قراءة نص غامض ، يبشر بمجيء (مسيّا) لإنقاذ الناس من العذاب. وفي أحد نصوص اشعياء عن ( مسيّا ) يقول : إنه يتحمّل كل أنواع العذاب من أجل إنقاذ الأرض ، والبشر . وبما أن الفكر المسيحي الكنسي ، يقول : إن الصلب ، هو كذلك ، ألم ، وفداء من أجل الإنقاذ ، فالبشارة هذه - إذن - صادقة بالمسيح – تماما . كما يفهمون .

والمشكلة في هذا الاستدلال ، هي :

مسألة العذاب والتعذيب بالمسيح (علیه السّلام)، فقد تعذب الكثير من الأنبياء ، أولا : لا يصح حصر والأولياء بعد أشعياء النبي ، وبشتى أنواع العذاب النفسي والجسدي ، ولو أردنا تعداد الآلام الجسدية ، والنفسية ، والروحية للأنبياء لامتلأت بها الكتب ، وكل عذاب لحق بنبي ، إنما هو كفارة عن أمته ، وشفاعة لمحبيه ، وأتباعه فلا انحصار - أيضا - في هذه القضية . ولهذا ، يعتبر هذا الدليل ، مما لا ينضبط في فرد محدد ، إلا بالنص عليه ؛ لأنه صفة قابلة للتطبيق ، على كثيرين ، وتحتاج إلى نص واضح . ونص اشعياء هو صفة وليس تعيينا .

وثانيا : هناك مشكلة في تشكيل صورة (مسيّا) فإن صورته المرسومة ، هي في الشخص له قدرة بسط كل الحق ، على كل الأرض ، لآخر الزمن . ويجب أن يقع فعلا ، وليس خيالا . وهذا لم يقع – قطعا – لكل الأنبياء ، بما فيهم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). ومن هنا ، لا نستطيع تطبيقه على نبي ، أو الله ولي ، مر على الكرة الأرضية حتى الآن . فالوعد باق ، وهو لا ينطبق إلا على صفة المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، الذي يملؤها عدلا ، بعد ما ملئت جورا ، بوضوح النصوص الإسلامية . وهذا وعد يتطابق مع جميع الديانات .

ص: 461

وأخيرا ، هناك ملاحظة على مجمل النظرية ، التي يريد أن يستدل بها القس عبد المسيح أبو الخير في كتابه : (هل صلب المسيح حقيقة أم شُبّه لهم ؟) . هذه الملاحظة : إن الدليل من أشعياء ، لم يتبين صدقه في حياة المسيح كلها ، إلا بعد وقوع الصلب المزعوم . [لأنه صفة عامة ، لم تكن تصلح للتطبيق ، إلا بعد الآلام ، كما يشرح القس عبد المسيح] . وهذا تأخر في الدليل عن وقت الحاجة . وهو قبيح ، إذا استتبع العقاب على المخالف ؛ لأن الحاجة هي قطع الشك باليقين ، في كون المسيح هو (مسيّا) الموعود قبل صلبه ؛ ليؤمن به من تعرض لهم بالدعوة . ليكون تام الحجة ، بالشكل الذي يطرحونه ، فلماذا تأخر إلى ما بعد صلبه ؟ ليمكن تطبيق النص عليه ، بعد أن كفروا به. هذا من ناحية عقلية منطقية فيه مشكلة ، لسنا بصدد بحثها .

هو - إذن - يريد أن يخبرنا أن اليهود كانوا ، ولا زالوا ينتظرون (المسيا) حتى بعد ولادة المسيح - أيضا . والكنيسة ترى أنه ينطبق على المسيح - فقط . وما نريده – نحن – هو إثبات انتظار اليهود للمصلح العالمي ، وهذه مقتطفات مما كتبه القس عبد المسيح بسيط أبو الخير(1):

«كما أجمع علماء اليهود ، عبر تاريخهم السابق للمسيح ، واللاحق له ، أن هذا الإصحاح نبوة عن (المسيّا) المنتظر ، وقد لخص القمص روفائيل البرموسي ، في كتابه : (أمّا إسرائيل فلا يعرف : 119 - 128) خلاصة رأي علماء اليهود ، كالآتي : «كل الرابيين - ما عدا راشي ، الذي رأى أن العبد المتألم ، هو شعب إسرائيل - يرون أن هذه المقاطع ، من سفر إشعياء ، تصف آلام (المسيّا) كشخص فردي». ويُضيف أنه جاء ، في ترجوم يوناثان ، الذي يعود للقرن الأول : «هوذا عبدي المسيا يعقل» كما أن الرابي دون أتسحاق (حوالي 1500 م) يقر ، ويقول ، بدون تحفظ : «إن غالبية الرابيين ، في ميدراشيهم ، يقرون أن النبوة ، تشير إلى المسيا» . وقال الرابي سيمون ابن يوخيا ، من القرن الثاني الميلادي : «في جنة عدن ، يوجد مكان يسمى : (مكان أبناء الأوجاع والآلام) . في هذا المكان سيدخل المسيا ، ويجمع كل الآلام ، والأوجاع ، والتأديبات ، التي لشعب إسرائيل ، وكلها ستوضع عليه ، وبالتالي يأخذها لنفسه ، عوضا عن شعب

ص: 462


1- هل صلب المسيح حقيقة أم شُبه لهم ؟ : 116 - 117 .

إسرائيل ، لا يستطيع أحد أن يخلّص إسرائيل من تأديباته ؛ لعصيانهم الناموس ، إلا هو ، المسيا ، وهذا هو الذي كتب عنه : (لكن أحزاننا ، حملها ، وأوجاعنا تحملها)» . وينقل عن تلمود بابل : «إن المتألم ، هو (المسيا) ما هو اسمه ؟ إنَّه عبد يهوه المتألم» . كما قيل عنه : «لكن أحزاننا حملها ، وأوجاعنا تحملها» . أمّا مدراش كوهين ، حينما يشرح : (إشعياء : 5/53) يضع الكلمات التالية ، على فم إيليا النبي ، حيث يقول إيليا ل_(المسيا) : «أنت أبرّ من أن تتألم وتُجرح . كيف كلّي القدرة يُعاقب هكذا ، من أجل خطايا إسرائيل ، ويُكتب عنك : «مجروح لأجل معاصينا . مسحوق لأجل آثامنا» . إلى أن يحين الوقت حيث تأتي نهاية الأمم» . ويقول رابي يا فيث ابن عالي : «بالنسبة لرأيي فأنا أنحاز إلي رابي بنيامين النهاوندي ، في تفسيره لهذا الإصحاح ، كونه يشير إلى (المسيا) . فالنبي إشعياء يريد أن يُفهمنا شيئين : في المرحلة الأولى : إن (المسيا) هو الوحيد الذي سيصل إلي أعلى درجة من الكرامة ، والمجد ، لكن بعد محن طويلة ومريرة، ثانياً : هذه المحن ، ستوضع عليه كعلامة ، لدرجة لو وجد نفسه تحت نير هذه المحن ، وظل مطيعا وتقيا في تصرفاته ، وأفعاله ، يُعرف أنه هو المختار ، والتعبير : (عبدي) يعود إلى (المسيا)» . وفي كتاب : (Bereshith Rabba) . يقول مؤلفه رابي موشی ها درشان «إن القدوس ، أعطى فرصة ل_(المسيّا) أن يُخلّص النفوس، ولكن بضربات ، وتأديبات عديدة ، يقول : «على الفور قَبلَ (المسيّا) تأديبات ، وضربات المحبة ، كما هو مكتوب : «ظلم ، أما هو فتذلل ، ولم يفتح فاه»(1) عندما أخطأ شعب إسرائيل ، طلب (المسيا) لهم الرحمة ، والمغفرة ، كما هو مكتوب : «وبحبره شفينا» . وقوله : «وهو حمل خطية كثيرين ، وشفع في المذنبين» .

وهكذا ، يؤكد لنا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ، من خلال نبوات أنبياء العهد القديم، وتطبيق المسيح لها على نفسه ، وتأكيد تلاميذه ورسله بعد ذلك(2) على أن اليهود ،

ص: 463


1- كيف يكون يطابق المسيح بينما هو قد تكلم وعاتب ربه على ألمه بقوله : (أي ربي لم شبقتني) أي : لمَ تركتني ؟
2- قلنا إن هذا مشكل ، من ناحية سلامة الدليل ، حيث الشهادة من نفس المشهود له ، والتأكيد من المقتنعين به ، بعد وفاته ، وهو دور باطل ، وتوقف للشيء على نفسه ؛ لكونه وقع طبق ما يعتقدون من نص ، حسب فهم القس الفاضل أبو الخير .

عندما صلبوا المسيح ، فقد تمموا كل ما سبق ، وتنبأ به عنه ، جميع الأنبياء ، أنه لابد : «أن ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَمُ كَثِيراً وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ ، (لو : 22/9)»(1).

فهذا النص ، الذي عرضه القس عبد المسيح أبو الخير ، يوفر مساحة للتأمل ، والفهم العميق ، لمدى مشكلة انتظار المصلح ، المجهول الهوية ، والمختلف في هويته ، بدون الرجوع إلى نصوص صريحة ، من الباري عز وجل ، بخلاف النظرية الإمامية ، التي تؤكد وجود النص بالاسم ، والصفة .

ملاحظة : بحسب معرفتي ، بالعقل السطحي الهلامي، الذي يسيطر على تفكير المحاوريين المتمذهبين ، فإنني أتوقع أن يقول قائل منهم : أتعتبر هذه نصوصا على المهدي (علیه السّلام)؟ فأقول : إنني اعتبرتها نصوصا على المصلح ، بكل وضوح ، وأوجدت أرضية للتفكير في مؤدى النصوص ، وجذور الكلمات ، بما يؤدّي إلى صورة واضحة ، نتيجة تقاطع البيانات بالضرورة . وكل يأخذ بحسب موقفه مع الله جل جلاله . ولكن ، ليخبرني السائل : أيسمي هذه النصوص ، نصاً على عيسى ، أو يحيى ، أو أي نبي آخر يريدونه ، بنفس مقياس السائل ؟ مع أن النص قابل للتطبيق على المهدي (علیه السّلام) أكثر، لطول المحنة . فأين محنة يوم ، أو يومين من محنة ألف ، أو آلاف السنين ؟ والنص يقول : «بعد محن طويلة ومريرة». فالجواب هو الجواب . رغم الفرق بين الاستدلالين .

ص: 464


1- قلنا : إن هذا دليل ، تأخر عن وقت الحاجة ، وهو قبيح عقلا .

المصلح في الديانة المسيحية

أهم نص يدور حوله فكر متكامل في المسيحية ، هو انتظار (الفارقليط ، البركليت الباركليت) وهذا (البركليت) في الحقيقة ، سيقوم بتطويع جميع الناس للدين، وسيحاسب المجرمين ، ويقوم بالقسطاس .

طبعا تُرجم (البركليت) في الكتب المسيحية ، ب_(المعزي ، والمسلي) ولكن المسلمين تمسكوا بأن المقصود به هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وينفي المسيحيون ذلك.

ونحن - هنا بتجرد تام - نريد أن نعرف ما قصة هذا اللفظ ؟

فهو إما أن يكون عبارة عن لفظين متقاربين : (البركليت، الباركليت) أحدهما : (أحمد) . أو إنه لفظ واحد ، يحمل معنين ، ولهذا تمسك المسلمون به .

ومن الطريف من باب : (أراد أن ينفي ، فأثبت) : إن مستشرقا شاتماً للنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، اعترف باعتراف طريف ، إذ اعتبر أن معلم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، خلط بين لفظين متشابهين ، أحدهما بدون امتداد ، ويعني بهما كلمتي : (باركليتوس) و (بريكليتوس)(1) والتي بدون امتداد تعني : (أحمد) والثانية تعني : (المعزي) فهو قد أثبت التشابه الصوتي ، إلى درجة شبيهة بالتطابق بين كلمتين ، إحداهما تعني : (أحمد) أو (محمد) أو (المحمود) وهذا يعني إن استدلال المسلمين ، لم يكن من فراغ . وإنما يستند إلى لفظ ، متفق على كون أحد صيغتيه الصوتيتين ، هو

ص: 465


1- الفرق بينهما من ناحية صوتية ، هو الفرق بين الفتحة والكسرة . وفي اللغة الإنجليزية هو الفرق بين E وبين A ، ولعله الأمر نفسه ، في اللغة اللاتينية الأصل . وهذا من أبسط موارد التصحيف ، التي تواجه الأخطاء الكتابية في النقل ، فما أكثر تصحيف (حسن) ب (حسين) في كتب الحديث؟ وهو أصعب تصحيفا لأن الاختلاف ليس بمستوى الفتحة والكسرة . ولا يمكن الجزم - بناء على هذا ، في تحويل الكلمة ، إلى الجهة التي لا تعجب المستخدم . فهذا استخدام انتقائي، غير مبرر ، وهو ليس مسلكا دينيا ، فالمتدين ليس أمام لعبة كلمات متقاطعة ، وإنما هو أمام نص ديني ، هو حجة عليه أمام الله.

(محمد) . يبقى أنه هل هو ما يقول به المسيحيون ؟ أم ما يقول به المسلمون ؟ وهذا يحتاج إلى دليل نفي قاطع ، بكونه ليس اللفظ ، الذي يعني : (محمدا) . لأن المحتمل يحتاج إلى دليل نفي حتى ينتفي.

والسبب في الشك ، في القائل ، هو توفر القصد ، والمنفعة في تغيير اللفظ ، وأما ادعائهم أن معلم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، خلط بين لفظين ، فهذا أول الكلام .

فهل سمع هذا المستشرق كلمة ( بركليت ) أو ( باركليت ) من النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو من معلمه ، حتى يقول ما قال ؟

المشكلة إن الدلائل تشير - بكل تأكيد - إلى أن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، مرسل من الله ، وليس لديه أي معرفة بكتب السابقين . ولم يتفرد ، أو يدرس هذه الكتب المعقدة اللفظ ، نتيجة تعدد الترجمات . ولهذا فان افتراض هذا المستشرق ، ما هو إلا ضرب من الخيال ، الذي يثبت المطلوب رغم أنه يسعى لنفيه.(1)

ص: 466


1- ذكر المستشرق ( tisdall ) في كتابه : (the original sources of quran) : 190 : Muhammed was misled by some " ignorant but zealous proselyte or " other disciple, who ,16 confounded" the word used in these verses " (joun xiv,), 26' xvi, 7 with another " greek word, which might without " a very great stretch of the " imagination, be interpreted by the * Arabic word " ahmad " the greatly praised ويمكن ترجمة هذا النص إلى : «إن (محمدا ) ضلل من قبل معلم جاهل، حيث قرأ نص يوحنا : 15 : 26 و : 16 : 7 بكلمة يونانية ، بدون امتداد ، متخيلا أنها تعني (أحمد) العربية ، وهي الممدوح جدا (المحمود - أفعل التفضيل من حمد) . والمقصود بذلك - طبعا - (بريكليتيوس) التي ترجموها ب_(المعزي) . ويلاحظ على هذا النص ، أنه لم يحدد اللفظين ، وإنما أشار - فقط - إلى أن أحدهما فيه امتداد ، يدل على كلمة : (أحمد) بينما الآخر لا يدل على ذلك . والنص يتهم المعلم المفترض للنبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)! بأنه اختار لفظة - تناسب مدعاه - اعتقادا منه بأن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) أو معلمه المزعوم ، هو مؤلف القرآن ، جهلا منه بطبيعة كل من القرآن، وبيئة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) الثقافية ، على أن وجود الاحتمال ، يبطل استدلاله ، فلماذا لا يقول بأنهم اختاروا غيرها ، من أجل التخلص من هذه المصيبة العظيمة عليهم ؛ لوجود الاحتمال بها ؟

ولو سأل أحد : فما علاقة النص على اسم النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، بالنص على الإمام المهدي ؟

وهنا - أقول : إن في النص ما يدل على أن محمدا - هنا - ليس هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنما ابنه محمد المهدي ، لما يحصل على يديه ، فالتفسير الأشمل للنص ، هو : إن النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، إذا كان هو : (البركليت) وهو : (المسيّا) الموعود(1) فإن ذلك لا يتم في التطبيق ، إلا بشريعته ، عبر ابنه الإمام المهدي (علیه السّلام)، الذي ينشر شريعة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، على كل العالم ، وهذا الفهم ناتج من ضرورة الاختلاف في التطبيق ، بين النص والواقع .

وبهذا التفسير ، يمكن أن نفهم أن (البركليت) الذي هو (مسيّا) والذي سيظهر آخر الزمان ، برسالة عامة ، ويقمع الباطل ، ويبيّن جميع الحق - بلا استثناء - يصح أن يكون هو محمد الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، الذي هو المطبق الحقيقي لشريعة محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). وهذا بسبب ملحقات النص ، إذا صح النص نفسه.

فلنبحث في صفات (البركليت) أو (الباركليت) في إنجيل يوحنا الإصحاح الخامس عشر والسادس عشر ، ونحن نورد النص كاملا - هنا - من أجل المزيد من الفائدة(2):

«ومتى جاء المعزي (بركليت) الذي سأرسله أنا إليكم ، من الأب روح الحق(3) الذي من عند الأب الأب ينبثق ، فهو يشهد لي(4) / وتشهدون أنتم أيضا ؛ لأنكم معي من الابتداء (5)/ قد كلمتكم

ص: 467


1- ذكرنا آنفا : أن (بركليت) في اللغة اليونانية ، هي (أفعل) التفضيل من (أفعل) التفضيل من (حمد) و (مسيا) في اللغة العبرية ، هي : (حمدا) وتلفظ بهذا اللفظ – بالضبط.
2- الآيات : 15 : 26 - 16: 13 من إنجيل يوحنا.
3- إن كلمة روح الحق ، تختلف - بكل وضوح - عن روح القدس. وعليه : فإن تفسير (البركليت) بروح القدس ، الذي ظهر لرسل المسيح ، وحواريه ، يعتبر تزويرا للنص . وهو يوجد مشكلة حقيقية ، لانجيل يوحنا . وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
4- هذا يعني أنه يستحيل أن يكون هو المسيح نفسه ، كما فسر في بعض التفسيرات الغريبة ، بأن ( البركيلت ) الذي ظهر للرسل هو المسيح ؛ لأنه يرسله . وسيشهد له ، فلا يمكن اعتباره نفسه ، باتحاد الرسول ، والمرسل . وهذا غير معقول- أصلا.
5- هذا يعني : أنه يستحيل أن يكون هو نفسه أحد رسل المسيح ؛ لأنهم سيشهدون مع روح الحق ، الذي هو ( البركليت ( فإذا لم يكن هو روح القدس الملاك ، ولا يكون هو المسيح نفسه ، ولا يكون هو أحد الرسل ، والحواريين ، فإذن القضية أصبحت واضحة ، فالحديث عن شخصية أخرى ، والأحرى بالمسيحية أن تفكر بدراستها ، والتعرف عليها . ولعله بالوصل إلى الحقيقة تزول الضغائن لاتحاد المطلوب من الجميع فلا مشكلة حقيقية في إيمان الديانات.

بهذا ؛ لكي لا تعثروا / سيخرجونكم من المجامع ، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم ، أنه يقدم خدمة الله / وسيفعلون هذا بكم ؛ لأنهم لم يعرفوا الأب ، ولا عرفوني / لكني قد كلمتكم بهذا ؛ حتى إذا جاءت الساعة ، تذكرون أني أنا قلته لكم ، ولم أقل لكم من البداية ؛ لأني كنت معكم / وأما الآن ، فأنا ماض إلى الذي أرسلني ، وليس أحد منكم ، يسألني أين تمضي / لكن ؛ لأني قلت لكم هذا ، قد ملأ الحزن قلوبكم / لكني أقول لكم الحق : إنه خير لكم أن أنطلق ؛ لأنه إن لم انطلق ، لا يأتيكم المعزي (بركليت) ولكن إن ذهبت ، أرسله إليكم(1)/ ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية ، وعلى بر وعلى دينونة / أما على خطية ؛ فلأنهم لا يؤمنون بي / وأما على بر ؛ فلأني ذاهب إلى أبي ، ولا ترونني أيضا / وأما على دينونة ؛ فلأن رئيس هذا العالم ، قد دين / إن لي أمورا كثيرة أيضا ؛ لأقول لكم ، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن / و أما متى جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية(2)».

ص: 468


1- هذا النص يدل على عدم الاجتماع - أصلا - بين المسيح ، و (البركليت) بينما المسيح ، وروح القدس ، مجتمعان ، وكان معه ، ومعهم ، وقد شاهده الحواريون ، وشاهد الناس آياته . فتكون كل التفسيرات ، عبارة عن إسقاط مذهبي على النص ، من أجل إكمال صورة ، غير تامة الأجزاء .
2- هذا المقطع من النص ، يوضح فرقا بين محمد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبين محمد المهدي الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ لأنه يقول بانقطاع حجة الباطل في العالم ، وبالتكلم بالعلم اللدني، دون العلم الظاهري ، وهذا من صفات المهدي (علیه السّلام)، وليس من صفات النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).

رغم وجود خلل في السياق وفي التراكيب اللغوية وفي ترابط لمعاني فإن الجمل الأخيرة من النص ، يجب التفكير فيها وتفسيرها جيدا، فهي تتحدث عن الإفصاح عن جميع الحق . وهذا يعني محو أي مجال للمغالطة . فهو – أي المذكور في النص - يتكلّم بموجب العلم اللدني . بخلاف تكليف عموم الأنبياء ، والأئمة ، والمصلحين . ويتكلّم بالمغيبات للأشخاص ، وهذا يقتضي الحكم بموجبها ، وهو الحكم وفق العلم اللدني. وهذا لا نطبق إلا على المهدي (علیه السّلام)، وفق النصوص ؛ ولأن هذا النص مخالف لواقع كل من تقدم من أهل البلاغ .

لقد نقل الدكتور نصر الله أبو طالب في كتابه آنف الذكر ، وبحسب ما ذكر في لفائف البحر الميت ، التي سميت بمخطوطات قمران . نصا من المخطوطة رقم : 15 ، يقول(1):

the dead sea scriptures page 15:

"the prophet that is to arise at the end of days"

وتصح ترجمة هذا النص ، بالشكل التالي :

«النبي (أو القديس) الذي سيظهر في نهاية العالم) .

إن نهاية العالم ، التي اتفقت الأديان الثلاثة ، على تحديدها ، كزمن لظهور المصلح المنقذ العالمي ، يجعل كل النصوص المتقدمة ، لا تنطبق على أحد من الأنبياء ، إلا إذا ثبت النص على نبي محدد بالصفة ، بدون نهاية العالم ، ولكن النصوص عكس هذا .

وهذا هو ما قلناه ، من طريقة التمييز في البشارة ب_(أحمد) بين النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، صاحب الشريعة الشاملة ، وبين الإمام محمد (عليها السلام)، صاحب التطبيق الشامل على البشر ، وإنقاذ البشرية من الجور ، والظلم .

ص: 469


1- تباشير الإنجيل ، والتوراة بالإسلام ، ورسوله محمد : 509 .

المنقذ في معتقدات الزرادشتية

وردت عندهم ثلاثة أسماء للظهور في آخر الزمان :

جاء في كتاب (شابو هرجان) وهو من الكتب المانوية المقدسة عندهم : « ... (خرد شهر إيزد) لابد أن يظهر في آخر الزمان ، وينشر العدل في العالم ...)

وعن (سوشيانت) وهو من الكتب الزرادشتية المقدسة عندهم ، جاء فيه :

«... استوت ارت ، سوشيانت ، أو المنقذ العظيم . سوشيانس ، أو موعود آخر الزمان ... وسيلة ، وعلاج جميع الآلام به ، يقتلع جذور الألم ، والمرض ، والعجز ، والظلم ، والكفر ، يهلك ، ويسقط الرجال الأنجاس ...» .

وفي رسالة (جامسب) صفحة 121:

«... سينشر (شوشیيانت(1)المنقذ الدين في العالم ، فكراً ، وقولاً ، وسلوكاً» .

لقد ورد في الروايات الإسلامية ، إن الديانة الزرادشتية ، ديانة سماوية ، حرفها ملوكهم ، إلى دين وضعي . وهناك بعض الأحكام تتعلق بأصحاب هذه الديانة ، مثل كونهم يحاسبون محاسبة أهل الكتاب في الذمة ، وغيرها ، عند بعض الفقهاء . وقد عدهم بعض الفقهاء ، الذين يفتقرون إلى التحقيق ، مشركين أصليين ، بدون كتاب سماوي ، ولا شك أن ذلك بسبب ما وصل إليهم من معرفة بعض عقائدهم ، مثل الثنوية ، فهو شرك في الألوهية ، لا ينكر ، غير أن الحكم الشرع يبنى على الأصل ، فكثير من الديانات ، قد آثرت تعدد الآلهة ، حتى المسلمين فإن بعضهم عد الله ، تسعا وتسعين إلها ، وبعضهم عد الآلهة عشرين إلها ، باسم الصفات القديمة المستقلة عن الله ،

ص: 470


1- سوشیانت : قد تكون بمعنى الداعم ، أو المساند ، إذ أن معنى المقطع الأول منها : (سو) هو الطرف أو الجهة ، و (شيانت): مكونة من من مقطعين : (شانه) وتعني فيما تعنيه : الكاهل أو المتن ، و (التاء) التي هي ضمير التملك للمخاطب ، ومجموع المعنى وفق ذاك ، هو : المساند ، أو (الذي يدعمك) وهو معنى المنقذ بشكل من الأشكال.

وبعضهم يعبد إلهاً مجسما ، لا يعرفه الله ، ولا يعرفه الإسلام . ومع ذلك فحكمهم حكم الأصل وهو الإسلام . وهذه مسألة فقهية ، يختلف فيها نظر الفقهاء ، فلا ينبغي الخوض فيها – هنا ، ونتركها إلى محلها اللائق بها ، في كتب الدراسات الفقهية المعمقة .

ص: 471

المنقذ في المعتقدات الهندية

أنقل - هنا - تلخيص ما وجدته على موقع (شبكة الإمام المهدي) في ما يتعلق بهذه الديانة ، والعهدة على الموقع بما يلي :

«جاء الحديث حول المنقذ ، والموعود في أعراف الهنود ، وكتبهم ، مثل كتاب : (مهابهارتا) وكتاب : (بورانه ها) حيث قالوا :

«تذهب الأديان جميعاً ، إلى أنه في نهاية كل مرحلة من مراحل التاريخ ، يتجه البشر نحو الانحطاط المعنوي ، والأخلاقي ، وحيث يكونون في حال هبوط فطري ، وابتعاد عن المبدأ ، ويمضون في حركتهم مضي الأحجار الهابطة ، نحو الأسفل ، فلا يمكنهم أنفسهم ، أن يضعوا نهاية لهذه الحركة التنازلية ، والهبوط المعنوي ، والأخلاقي . إذن لابد من يوم ، تظهر فيه شخصية معنوية ، على مستوى رفيع ، تستلهم مبدأ الوحي ، وتنتشل العالم من ظلمات الجهل ، والضياع ، والظلم ، والتجاوز ، وقد أشير لهذه الحقائق في تعاليم كل دين ، إشارة رمزية منسجمة ، مع المعتقدات ، والقيم الأخرى ، انسجاماً كاملاً .

فمثلاً : في الديانة الهندية ، وفي كتب : (بورانا) (burana) شرح تفصيلي ، حول مرحلة العصر الكالي (Kali) يعني : آخر مرحلة ، قبل ظهور (أو تاراي) و (يشنو العاشر)».

ص: 472

المنقذ في المعتقدات الصينية

ورد في كتاب : (أوبانيشاد) : صفحة : 54 : من المقدمة ، ما يلي:

«... حينما يمتليء العالم بالظلم ، يظهر الشخص الكامل ، الذي يسمى : (يترتنكر : المبشر) ليقضي على الفساد ، ويؤسس للعدل ، والطهر سيُنجي (كريشنا) العالم ، حينما يظهر البراهميتون .)

وجاء في كتاب : (ريك ودا ، ماندالاي) ص : 4 و : 24:

«يظهر (ويشنو) بين الناس ... يحمل بيده سيفاً ، كما الشهاب المذنب ، ويضع في اليد الأخرى خاتماً براقاً ، حينما يظهر ، تكسف الشمس ، ويخسف القمر ، وتهتز الأرض».

ص: 473

ص: 474

ثانيا : المنقذ المهدي في النصوص الإسلامية

ص: 475

ص: 476

الحديث القدسي:

1 - عن الحسين بن علي (علیه السّلام) عن علي بن أبي طالب (علیه السّلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث طويل ، قال : ... فقلت يا رب : ومن أوصيائي ، فنوديت يا محمد : أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي ، فنظرت ، وأنا بين يدي ربي - جل جلاله - إلى ساق العرش ، فرأيت اثني عشر نورا ، في كل نور سطر أخضر ، عليه اسم وصي من أوصيائي ، أولهم : علي بن أبي طالب ، و آخر هم مهدي أمتي ، فقلت يا رب هؤلاء أوصيائي من بعدي ؟ فنوديت يا محمد هؤلاء أوليائي ، وأوصيائي ، وحججي بعدك على بريتي ، وهم أوصياؤك ، وخلفاؤك ، وخير خلقي بعدك ، وعزتي وجلالي ، لأظهرن بهم ديني ، ولأعلين بهم كلمتي ، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأمكنته مشارق الأرض ، ومغاربها ، ولأسخرن له الرياح ، ولأذللن له السحاب الصعاب ، ولأرقينه في الأسباب ، ولأنصرنه بجندي ، ولأمدنه بملائكتي ، حتى تعلو دعوتي ، ويجتمع الخلق على توحيدي ، ثم لأديمن ملكه ، ولأداولن الأيام بين أوليائي ، إلى يوم القيامة.(1)

وفي رواية أخرى :

... فقلت : يا رب ، ومن أوصيائي ؟ فنوديت : يا محمد ، أوصياؤك المكتوبون على ساق العرش ، فنظرت ، وأنا بين يدي ربي إلى ساق العرش ، فإذا اثنا عشر نورا ، في كل نور سطر أخضر ، مكتوب عليه اسم كل وصي من أوصيائي ، أولهم علي بن أبي طالب ، وآخرهم مهدي أمتي، فقلت : يا رب ، أهؤلاء أوصيائي من بعدي ؟ فنوديت : يا محمد ، هؤلاء أوليائي ، وأحبائي ، وأصفيائي ، وحججي بعدك على بريتي ، وهم أوصياؤك ، وخلفاؤك ، وخير خلقي بعدك ، وعزتي ، وجلالي ، لأظهرت بهم ديني ، ولأعلين بهم كلمتي ، ولأطهرت الأرض بآخرهم من أعدائي .(2)

ص: 477


1- علل الشرائع : 1 : 4 - 7 .
2- كمال الدين : 1 : 255 .

2 - عن عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لما عرج بي إلى السماء السابعة ، ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومن السدرة إلى حجب النور ، ناداني ربي - جل جلاله - : يا محمد ، أنت عبدي ، وأنا ربك ، فلي فاخضع ، وإياي فاعبد ، وعلي فتوكل ، وبي فثق ، فإني قد رضيت بك عبدا ، وحبيبا ، ورسولا ، ونبيا ، وبأخيك علي خليفة ، وبابا ... وبالقائم منكم ، أعمر أرضي وبه أطهر الأرض من أعدائي ، وأورثها أوليائي ، وبه أجعل كلمة الذين كفروا بي السفلى ، وكلمتي العليا ، وبه أحيي عبادي ، وبلادي ، بعلمي ، وبه أظهر الكنوز ، والذخائر ، بمشيئتي ، وإياه أظهر على الأسرار ، والضمائر ، بإرادتي ، وأمده بملائكتي ، لتؤيده على إنفاذ أمري ، وإعلان ديني . ذلك وليي حقا ، ومهدي عبادي صدقا.(1)

ص: 478


1- أمالي الشيخ الصدوق : 4 - 5 : المجلس : 92 الحديث : 2 .

ما ورد من الحديث في المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)

حمد الشريف

ننقل فيما يلي بعض النصوص الواردة في كتب الحديث من الفريقين ، والتي تصرح ، أو تشير إلى ما ورد من حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذكر الإمام المهدي (علیه السّلام):

أولا : المشهور من الحديث السني :

ذلك ما جاء من في صحيح البخاري(1):

باب ما يحذر من الغدر ، وقوله تعالى : ﴿وَإِن يُريدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ...﴾ الآية . [الأنفال : 62] .

حدثنا الحميدي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر ، قال سمعت بسر بن عبيد الله ، أنه سمع أبا إدريس أبا إدريس ، قال : سمعت عوف ابن مالك ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة تبوك ، وهو في قبة من ادم ، فقال أعدد ستا بين يدي الساعة ، موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان ، يأخذ فيكم كقُعَاص الغنم(2) ثم استفاضة المال ، حتى يعطى الرجل مئة دينار ، فيظل ساخطا ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني

ص: 479


1- صحيح البخاري : 4 : 68 - 69 .
2- القُعَاصُ : داء يأخذ الغنم لا يُلْبتها أن تموت . لسان العرب : قعص .

الأصفر ، فيغدرون ، فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية إثنا عشر ألفا . انتهى ما جاء في البخاري .

وشرحه ابن حجر في فتح الباري فقال(1):

(قوله غاية) أي راية ، وسميت بذلك لأنها غاية المتبع ، إذا وقفت وقف . ووقع في حديث ذي مخبر بكسر الميم ، وسكون المعجمة ، وفتح الموحدة ، عند أبي داود ، في نحو هذا الحديث ، بلفظ راية بدل غاية ، وفي أوله : ستصالحون الروم صلحا أمنا ، ثم تغزون أنتم ، وهم عدوا ، فتنصرون ، ثم تنزلون مرجا، فيرفع رجل من أهل الصليب ، الصليب فيقول : غلب الصليب ، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه ، فيدفعه ، فعند ذلك تغدر الروم ، ويجتمعون للملحمة ، فيأتون ، فذكره. ولابن ماجة ، من حديث أبي هريرة ، مرفوعا : إذا وقعت الملاحم ، بعث الله بعثا من الموالي ، يؤيد الله بهم الدين ، وله من حديث معاذ بن جبل ، مرفوعا : الملحمة الكبرى ، وفتح القسطنطينية ، وخروج الدجال في سبعة أشهر . وله من حديث عبد الله بن بسر ، رفعه : بين الملحمة ، وفتح المدينة ست سنين ، ويخرج الدجال في السابعة ، وإسناده أصح من إسناد حديث معاذ . قال ابن الجوزي ، رواه بعضهم : غابة ، بموحدة ، بدل التحتانية ، والغابة الأجمة ، كأنه شبه كثرة الرماح بالأجمة ، وقال الخطابي ، الغابة الغيضة ، فاستعيرت للرايات ، ترفع لرؤساء الجيش ، لما يشرع معها من الرماح ، وجملة العدد المشار إليه ، تسعمائة ألف وستون ألفا ، ولعل أصله ألف ألف ، فألغيت كسوره ، ووقع مثله في رواية ابن ماجة ، من حديث ذي مخبر ، ولفظه : فيجتمعون للملحمة ، فيأتون تحت ثمانين غابة ، تحت كل غابة اثنا عشر ألفا ، ووقع عند الإسماعيلي من وجه آخر ، عن الوليد بن مسلم ، قال تذاكرنا هذا الحديث ، وشيخا من شيوخ المدينة ، فقال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أنه كان يقول في هذا الحديث : مكان فتح بيت المقدس ، عمران بيت المقدس ، قال المهلب فيه : إن الغدر من أشراط الساعة ، وفيه أشياء من علامات النبوة ، قد ظهر أكثرها ، وقال ابن المنير : أما قصة الروم ، فلم تجتمع إلى الآن ، ولا بلغنا أنهم غزوا

ص: 480


1- فتح الباري: ابن حجر : 6 : 198 - 200 .

في البر في هذا العدد ، فهي من الأمور التي لم تقع بعد ، وفيه بشارة ونذارة ، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمؤمنين ، مع كثرة ذلك الجيش ، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين ، سيكون أضعاف ما هو عليه ، ووقع في رواية للحاكم ، من طريق الشعبي ، عن عوف بن مالك ، في هذا الحديث : أن عوف بن مالك ، قال لمعاذ في طاعون عمواس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لي : اعدد ستا بين يدي الساعة ، فقد وقع منهن ثلاث ، يعني موته صلى الله عليه وسلم ، وفتح بيت المقدس ، والطاعون ، قال : وبقي ثلاث فقال له معاذ : إن لهذا أهلا . ووقع في الفتن ، لنعيم بن حماد ، أن هذه القصة تكون في زمن المهدي ، على يد ملك من آل هرقل .

وشرحه العيني في عمدة القاري ، فقال(1):

قوله : (غاية) بالغين المعجمة ، وبالياء ، آخر الحروف : الراية ، وقال ابن الجوزي: رواه بعضهم بالباء الموحدة ، وهي الأجمة ، وشبه كثرة الرماح للعسكر بها ، فاستعيرت له ، يعني : يأتون قريبا من ألف ألف رجل ، قاله الكرماني ، وقال غيره : الجملة في الحساب تسعمائة ألف وستون ألفا ، وقال الخطابي : الغاية الغيضة ، فاستعيرت للرايات ترفع لرؤساء الجيش . وقال الجواليقي : غاية وراية واحد ؛ لأنها غاية المتبع ، إذا وقفت وقف وإذا مشت تبعها ، وهذه الست المذكورة ظهرت منها الخمس : موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وفتح بيت المقدس ، والموتان كان في طاعون عمواس زمن عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه ، مات فيه سبعون ألفا في ثلاثة أيام ، واستفاضة المال كانت في خلافة عثمان ، رضي الله تعالى عنه ، عند تلك الفتوح العظيمة ، والفتنة استمرت بعده ، والسادسة لم تجيء بعد ، وروى ابن دحية ، من حديث حذيفة ، مرفوعا : أن الله تعالى يرسل ملك الروم ، وهو الخامس من أولاد هرقل ، يقال له : صمارة ، فيرغب إلى المهدي في الصلح ، وذلك لظهور المسلمين على المشركين ، فيصالحه إلى سبعة أعوام ، فيضع عليهم ﴿الجزْيَةَ عَن يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة : 29] . ولا يبقى لرومي حرمة ، ويكسر لهم الصليب ، ثم يرجع المسلمون إلى دمشق ، فإذا هم كذلك ، إذا رجل من الروم قد التفت ، فرأى أبناء الروم

ص: 481


1- عمدة القاري : العيني : 15 : 99 - 100 ، الحديث بالرقم : 6713 .

وبناتهم في القيود ، فرفع الصليب ، ورفع صوته ، وقال : ألا من كان يعبد الصليب فلينصره ، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيكسر الصليب ، ويقول : الله أغلب وأعز ، فحينئذ يغدرون ، وهم أولى بالغدر ، فيجتمع عند ذلك ملوك الروم خفية ، فيأتون إلى بلاد المسلمين ، وهم على غفلة ، مقيمين على الصلح ، فيأتون إلى أنطاكية ، في اثني عشر ألف راية ، تحت كل راية اثني عشر ألفا ، فعند ذلك يبعث المهدي إلى أهل الشام ، والحجاز ، والكوفة ، والبصرة ، والعراق ، يستنصر بهم ، فيبعث إليه أهل الشرق : أنه قد جاءنا عدو من أهل خراسان ، شغلنا عنك . فيأتي إليه بعض أهل الكوفة ، والبصرة ، فيخرج بهم إلى دمشق ، وقد مكث الروم فيها أربعين يوما يفسدون ، ويقتلون ، فينزل الله صبره على المسلمين ، فيخرجون إليهم ، فيشتد الحرب بينهم ، ويستشهد من المسلمين خلق كثير ، فيا لها من وقعة ، ومقتلة ما أعظمها ، وأعظم هولها ، ويرتد من العرب يومئذ أربع قبائل : سليم ، وفهد ، وغسان ، وطي، فيلحقون بالروم ، ثم إن الله ينزل الصبر ، والنصر ، والظفر على المؤمنين ، ويغضب على الكافرين ، فعصابة المسلمين يومئذ ، خير خلق الله تعالى ، والمخلصين من عباده ، وليس فيهم مارد ، ولا مارق ، ولا شارد ، ولا مرتاب ، ولا منافق ، ثم إن المسلمين يدخلون إلى بلاد الروم ، ويكبرون على المدائن ، والحصون ، فتقع أسوارها بقدرة الله تعالى ، فيدخلون المدائن والحصون ، ويغنمون الأموال ، ويسبون النساء والأطفال ، وتكون أيام المهدي أربعين سنة : عشر منها بالمغرب ، واثني عشر سنة بالمدينة ، واثني عشر سنة بالكوفة ، وستة بمكة ، وتكون منيته فجاءة .

وفيه ، وفي صحيح مسلم النيسابوري - أيضا(1):

حدثنا ابن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب، عن نافع مولى أبي قتادة

ص: 482


1- صحيح البخاري : 4 : 143 ، صحیح مسلم : 1 : 94 ، وهو أيضا في مسند أحمد : 2 : 336 ، وعون المعبود : 11 : 309 ، وصحيح ابن حبان : 15 : 213 ، والمعجم الأوسط للطبراني : 9 : 86 ، والجامع الصغير للسيوطي : 2 : 299 ، الحديث بالرقم : 6440 ، وكنز العمال : 14 : 334 ، الحديث بالرقم : 38845 .

الأنصاري : أن أبا هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم ، وإمامكم منكم».

ذلك ما جاء من في مسند أحمد بن حنبل(1):

حدثنا عبد الله ، حدثني ، أبي ، ثنا فضل بن دكين ، ثنا ياسين العجلي ، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المهدي منا أهل البيت ، يصلحه الله في ليلة».

وفيه(2):

حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، قال : سمعت زيدا أبا الحواري ، قال : سمعت أبا الصديق ، يحدث عن أبي سعيد الخدري ، قال : خشينا أن يكون بعد فينا حدث ، فسألنا رسول الله صلى عليه وسلم ، فقال : يخرج المهدي في أمتي ، خمسا ، أو سبعا ، أو تسعا - زيد الشك - قال : قلت : أي شيء ؟ قال : سنين ، ثم قال : يرسل السماء عليهم مدرارا ، ولا تدخر الأرض من بناتها شيئا ، ويكون المال كدوسا ، قال : يجيء الرجل إليه ، فيقول : يا مهدي ، أعطني ، أعطني . قال : فيحثى له في ثوبه ، ما استطاع أن يحمل».

وفيه(3):

حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، ثنا وكيع ، عن شريك ، عن علي بن زيد ، عن أبي قلابة ، عن ثوبان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الرايات السود ، قد جاءت من قبل خراسان ، فائتوها ، فإن فيها خليفة الله المهدي».

ص: 483


1- مسند أحمد : 1 : 84.
2- مسند احمد : 3 : 21 - 22 .
3- مسند احمد : 5 : 277 .

ما جاء من ذلك في باب خروج المهدي ، في سنن ابن ماجة ، محمد بن يزيد القزويني(1):

حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا معاوية بن هشام ، ثنا علي بن صالح ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل فتية من بني هاشم ، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ، أغرورقت عيناه ، وتغير لونه . قال : فقلت : ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه ، فقال : «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا . وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء ، وتشريدا ، وتطريدا . حتى يأتي قوم من قبل المشرق ، معهم رايات سود، فيسألون الخير ، فلا يعطونه ، فيقاتلون فينصرون ، فيعطون ما سألوا ، فلا يقبلونه ، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي ، فيملؤها قسطا ، كما ملؤوها جورا ، فمن أدرك ذلك منكم ، فليأتهم ، ولو حبوا على الثلج».(2)

وفيه(3):

حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، ثنا محمد بن مروان العقيلي ، ثنا عمارة بن أبي حفصة ، عن زيد العمى ، عن أبي صديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يكون في أمتي المهدي . إن قصر ، فسبع ، وإلا فتسع ، فتنعم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط ، تؤتي أكلها ، ولا تدخر منهم شيئا ، والمال يومئذ كدوس ، فيقوم الرجل ، فيقول : يا مهدي ! أعطني . فيقول : خذ» .

ص: 484


1- سنن ابن ماجة : 2 : 1366 : باب خروج المهدي.
2- سنن ابن ماجة : 2 : 1366 : باب خروج المهدي، الحديث بالرقم : 4082 . وعلق عليه فقال : «في الزوائد : إسناده ضعيف ؛ لضعف يزيد بن أبي زياد الكوفي . لكن لم ينفرد يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم . فقد رواه الحاكم في المستدرك ، من طريق عمر بن قيس ، عن الحكم ، عن إبراهيم».
3- سنن ابن ماجة : 2 : 1366 - 1367 : باب خروج المهدي ، الحديث بالرقم : 4083 .

وفيه(1):

حدثنا محمد بن يحيى ، وأحمد بن يوسف ، قالا : ثنا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقتتل عند كنزكم ثلاثة . كلهم ابن خليفة ، ثم لا يصير إلى واحد منهم ، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق ، فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم» ثم ذكر شيئا ، لا أحفظه . فقال : فإذا رأيتموه ، فبايعوه ، ولو حبوا على الثلج ، فإنه خليفة الله ، المهدي» .

وفيه(2):

حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا أبو داود الحفري ، ثنا ياسين ، عن إبراهيم ابن محمد بن الحنفية ، عن أبيه ، عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المهدي منا ، أهل البيت ، يصلحه الله في ليلة».

وفيه(3):

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا أحمد بن عبد الملك ، ثنا أبو المليح الرقي ، عن زياد بن بيان ، عن علي بن نفيل ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كنا عند أم سلمة ، فتذاكرنا المهدي ، فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : «المهدي من ولد فاطمة».

ص: 485


1- سنن ابن ماجة : 2 : 1367 : باب خروج المهدي، الحديث بالرقم : 4084 . وعلق عليه فقال : «في الزوائد : هذا إسناد صحيح . رجاله ثقات . ورواه الحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط الشيخين» .
2- سنن ابن ماجة : 2 : 1367 : باب خروج المهدي ، الحديث بالرقم : 4085 . وعلق عليه فقال : «في الزوائد : قال البخاري في التاريخ ، عقب حديث إبراهيم بن محمد بن الحنفية ، هذا في إسناده نظر . وذكره ابن حبان في الثقات ، ووثق العجلي ، قال البخاري : فيه نظر ، ولا أعلم له حديثا غير هذا . وقال ابن معين ، وأبو زرعة : لا بأس به ، وأبو داود الحفري ، اسمه عمر بن سعد ، احتج به مسلم في صحيحه ، وباقيهم ثقات.
3- سنن ابن ماجة : 2 : 1368 : باب خروج المهدي ، الحديث بالرقم : 4086.

وفيه(1):

حدثنا هدية بن عبد الوهاب ، ثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر ، عن علي بن زياد اليمامي ، عن عكرمة بن عمار ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : «نحن ، ولد عبد المطلب ، سادة أهل الجنة ، أنا وحمزة ، وعلي ، وجعفر ، والحسن ، والحسين ، والمهدي» .

وفيه(2):

حدثنا حرملة بن يحيى المصري ، وإبراهيم بن سعيد الجوهري ، قالا : ثنا أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني ، ثنا ابن لهيعة ، عن أبي زرعة عمرو بن جابر الحضرمي ، عن عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يخرج ناس من المشرق ، فيوطئون للمهدي» يعني سلطانه .

ما جاء من ذلك في كتاب المهدي ، في سنن أبي داود ، ابن الأشعث السجستاني(3):

حدثنا مسدد ، أن عمر بن عبيد ، حدثهم ، ح ، وثنا محمد بن العلاء ، ثنا أبو بكر ، يعني : ابن عياش ، ح ، وثنا مسدد ، ثنا يحيى ، عن سفيان ، ح ، وثنا أحمد بن إبراهيم ، ثنا عبيد الله بن موسی، أخبرنا زائدة ، ح ، وثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثني عبيد الله بن موسى ، عن فطر ، المعنى واحد ، كلهم عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «لو لم يبق

ص: 486


1- سنن ابن ماجة : 2 : 1368 : باب خروج المهدي ، الحديث بالرقم : 4087 . وعلق عليه فقال : «في الزوائد : في إسناده مقال ، وعلي بن زياد ، لم أر من وثقه ، ولا من جرحه ، وباقي رجال الإسناد موثقون» . والحديث في غيبة الطوسي : 183 ، عن محمد بن علي ، عن عثمان بن أحمد السماك ، عن إبراهيم بن عبد الله الهاشمي ، عن الحسن بن الفضل البوصرائي ، عن سعد بن عبد الحميد الأنصاري ، عن عبد الله بن زیاد اليمامي ، عن عكرمة بن عمار ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك .
2- سنن ابن ماجة : 2 : 1368 : باب خروج المهدي ، الحديث بالرقم : 4088 . وعلق عليه فقال : « في الزوائد : في إسناده عمرو بن جابر الحضرمي ، وعبد الله بن لهيعة ، وهما ضعيفان .
3- سنن أبي داود : 2 : 309 - 311 : كتاب المهدي .

من الدنيا إلا يوم قال زائدة في حديثه : «لطول الله ذلك اليوم» ثم اتفقوا : «حتى يبعث فيه رجلا مني» أو : «من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي» زاد في حديث فطر : «يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا» . وقال في حديث سفيان : «لا تذهب ، أو لا تنقضي ، الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي» قال أبو داود : لفظ عمر ، وأبي بكر ، بمعنى سفيان.(1)

وفيه(2):

حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا الفضل بن دكين ، ثنا فطر عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، عن علي رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا» .

وفيه(3):

حدثنا أحمد بن إبراهيم ، ثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، ثنا أبو المليح الحسن بن عمر ، عن زياد بن بيان ، عن علي بن نفيل ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم سلمة ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : «المهدي من عترتي ، من ولد فاطمة».

وفيه(4):

حدثنا سهل بن تمام بن بزيع ، ثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يملك سبع سنين».

ص: 487


1- سنن أبي داود : 2 : 309 - 310 ، الحديث بالرقم : 4282 .
2- سنن أبي داود : 2 : 310 ، الحديث بالرقم : 4283.
3- سنن أبي داود : 2 : 310 ، الحديث بالرقم : 4284 . وعلق عليه ، فقال : «قال عبد الله بن جعفر : وسمعت أبا المليح يثني على على بن نفيل ، ويذكر منه صلاحا».
4- سنن أبي داود : 2 : 310 ، الحديث بالرقم : 4285 .

وفيه(1):

حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن صاحب له ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «يكون اختلاف عند موت خليفة ، فيخرج رجل من أهل المدينة، هاربا إلى مكة ، فيأتيه ناس من أهل مكة ، فيخرجونه ، وهو كاره ، فيبايعونه بين الركن والمقام ، ويبعث إليه بعث من الشام ، فيخسف بهم بالبيداء ، بين مكة والمدينة ، فإذا رأى الناس ذلك ، أتاه أبدال الشام ، وعصائب أهل العراق ، فيبايعونه بين الركن والمقام ، ثم ينشأ رجل من قريش ، أخواله كلب ، فيبعث إليهم بعثا ، فيظهرون عليهم ، وذلك بعث كلب ، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب ، فيقسم المال ، ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض ، فيلبث سبع سنين ، ثم يتوفى ، ويصلي عليه المسلمون» قال أبو داود : قال بعضهم عن هشام : «تسع سنين» وقال بعضهم : «سبع سنين».

ما جاء من ذلك في سنن الترمذي(2):

حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد محمد القرشي ، أخبرنا أبي، أخبرنا سفيان الثوري ، عن عصام بن

ص: 488


1- سنن أبي داود : 2 : 310 - 311 ، الحديث بالرقم : 4286 ، وبعده بالرقم : 4287 ، وفيه : حدثنا هارون بن عبد الله ، ثنا عبد الصمد ، عن همام ، عن قتادة ، بهذا الحديث ، وقال : «تسع سنين» . قال أبو داود : وقال غير معاذ ، عن هشام : «تسع سنين» . وبعده بالرقم : 4288 ، وفيه : حدثنا ابن المثنى ، ثنا عمرو بن عاصم ، ثنا أبو العوام ، ثنا قتادة ، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بهذا الحديث . وحديث معاذ أتم . وبعده بالرقم : 4289 ، وفيه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن عبيد الله بن القبطية ، عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بقصة جيش الخسف ، قلت : يا رسول الله ، فكيف بمن كان كارها ؟ قال : «يخسف بهم ، ولكن يبعث يوم القيامة على نيته».
2- سنن الترمذي : 3 : 343 - 344 : باب ما جاء في المهدي .

بهدلة ، عن زر ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تذهب الدنيا ، حتی يملك العرب رجل من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي».(1)

وفيه(2):

حدثنا عبد الجبار بن العلاء العطار ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «يلي رجل من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي» . قال عاصم : أخبرنا أبو صالح ، عن أبي هريرة ، قال : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوما لطول الله ذلك اليوم ، حتى يلي» .

وفيه(3):

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا شعبة ، قال : سمعت زيدا العمى ، قال : سمعت أبا الصديق الناجي ، يحدث عن أبي سعيد الخدري ، قال : «خشينا أن يكون بعد نبينا حدث ، فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إن في أمتي المهدي يخرج ، يعيش خمسا ، أو سبعا ، أو تسعا - زيد الشاك - قال : قلنا : وما ذاك . قال : «سنين» قال : فيجيء إليه الرجل فيقول : يا مهدي أعطني ، أعطني ، قال فيحثي له في ثوبه ، ما استطاع أن يحمله».

ما جاء من ذلك في مستدرك الحاكم النيسابوري(4):

أخبرنا أبو عبد الله الصفار ، ثنا محمد بن إبراهيم بن أرومة ، ثنا الحسين بن حفص ، ثنا سفيان ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان رضي الله عنه ، قال : قال

ص: 489


1- سنن الترمذي : 3: 343 : الحديث بالرقم : 2331 . وعلق عليه ، فقال : «وفي الباب ، عن علي ، وأبي سعيد ، وأم سلمة ، وأبي هريرة ، هذا حديث صحيح» .
2- سنن الترمذي : 3 : 343 : الحديث بالرقم : 2332 . وعلق عليه ، فقال : «هذا حديث حسن صحيح».
3- سنن الترمذي : 3 : 343 - 344 : الحديث بالرقم : 2333 . وعلق عليه ، فقال : «هذا حديث حسن . وقد روى من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأبو الصديق الناجي اسمه بكر بن عمرو ، ويقال بكر بن قيس . هذا حديث حسن صحيح».
4- المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 463 - 504 .

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «یقتتل عند كنزكم ثلاثة ، كلهم ابن خليفة ، ثم لا يصير إلى واحد منهم ، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق ، فيقاتلونكم قتالا لم يقاتله قوم» ثم ذكر شيئا ، فقال : «إذا رأيتموه فبايعوه ، ولو حبوا على الثلج ، فإنه خليفة الله المهدي».(1)

وفيه(2):

أخبرني أبو بكر بن دارم الحافظ ، بالكوفة ، ثنا محمد بن عثمان بن سعيد القرشي ، ثنا يزيد بن محمد الثقفي ، ثنا حبان ابن سدير ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن الحكم عن إبراهيم ، عن علقمة بن قيس ، وعبيدة السلماني ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : أتينا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فخرج إلينا مستبشرا ، يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شيء إلا أخبرنا به ، ولا سكتنا إلا ابتدأنا ، حتى مرت فتية من بني هاشم ، فيهم الحسن والحسين ، فلما رآهم التزمهم ، وانهملت عيناه ، فقلنا : يا رسول الله ، ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه ، فقال : إنا أهل بيت ، اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي ، تطريدا ، أو تشريدا في البلاد ، تى ترتفع رايات سود من المشرق ، فيسألون الحق فلا يعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه ، فيقاتلون ، فينصرون ، فمن أدركه منكم ، أو من أعقابكم ، فليأت إمام أهل بيتي ، ولو حبوا على الثلج ، فإنها رايات هدى ، يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، فيملك الأرض ، فيملأها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما .

وفيه(3):

أخبرني الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي ، أنبأ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن

ص: 490


1- المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 463 - 464 . وعلق عليه ، فقال : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين».
2- المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 464 .
3- المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 465 ، وعلق عليه ، فقال : «هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه» .

حيدر الحميري ، بالكوفة ، ثنا القاسم بن خليفة ، ثنا أبو يحيى عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني ، ثنا عمر بن عبيد الله العدوي ، عن معاوية بن قرة ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال نبي (صلی الله علیه و آله و سلم): «ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم ، لم يسمع بلاء أشد منه ، حتى تضيق عنهم الأرض الرحبة ، وحتى يملأ الأرض جورا وظلما ، لا يجد المؤمن ملجأ يلتجيء إليه من الظلم ، فيبعث الله عز وجل رجلا من عترتي ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، يرضى عنه ساكن السماء ، وساكن الأرض ، لا تدخر الأرض من بذرها شيئا الا أخرجته ، ولا السماء من قطرها شيئا الاصبه الله عليهم مدرارا ، يعيش فيهم سبع سنين ، أو ثمان أو تسع ، تتمنى الأحياء الأموات ، مما صنع الله عز وجل ، بأهل الأرض من خيره.

وفيه(1):

وأخبرني محمد بن المؤمل ، ثنا الفضل بن محمد الشعراني ، ثنا نعيم بن حماد ، ثنا الوليد ورشدين (قالا) : ثنا ابن لهيعة ، عن أبي قبيل ، عن أبي رومان ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : يظهر السفياني على الشام ، ثم يكون بينهم وقعة بقرقيسا ، حتى تشبع طير السماء ، وسباع الأرض من جيفهم ، ثم ينفتق عليهم فتق من خلفهم ، فتقبل طائفة منهم ، حتى يدخلوا ارض خراسان ، وتقبل خيل السفياني في طلب أهل خراسان ، ويقتلون شيعة آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بالكوفة ، ثم يخرج أهل خراسان في طلب المهدي .

وفيه(2):

أخبرنا الحسين بن يعقوب بن يوسف العدل ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، ثنا عبد الوهاب بن

ص: 491


1- المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 501 - 502 .
2- المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 502 ، وعلق عليه ، فقال : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» .

عطاء ، أنبأ خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان رضي الله عنه ، قال : إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأتوها ، ولو حبوا ، فإن فيها خليفة الله المهدي .

وفيه(1):

أخبرني محمد بن المؤمل ، ثنا الفضل بن محمد ، ثنا نعيم بن حماد ، ثنا أبو يوسف المقدسي ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): « في ذي القعدة تجاذب القبائل ، وتغادر ، فينهب الحاج ، فتكون ملحمة بمنى ، يكثر فيها القتلى ، ويسيل فيها الدماء ، حتى تسيل دماؤهم على عقبة الجمرة ، وحتى يهرب صاحبهم ، فيأتي بين الركن والمقام ، فيبايع وهو كاره ، يقال له : إن أبيت ضربنا عنقك ، يبايعه مثل عدة أهل بدر ، يرضى عنهم ساكن السماء ، وساكن الأرض ) قال أبو يوسف فحدثني محمد بن عبد الله ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال : «يحج الناس معا ، ويرفون معا ، على غير إمام فبينما هم نزول بمنى ، إذ أخذهم كالكلب ، فثارت القبائل ، بعضها إلى بعض ، واقتتلوا حتى تسيل العقبة دما ، فيفزعون إلى خيرهم ، فيأتونه ، وهو ملصق وجهه إلى الكعبة، يبكي ، كأني أنظر إلى دموعه ، فيقولون : هلم فلنبايعك ، فيقول : ويحكم كم عهد قد نقضتموه ، وكم دم قد سفكتموه ، فيبايع كرها ، فإذا أدركتموه ، فبايعوه ، فإنه المهدي في الأرض ، والمهدي في السماء».

ما جاء من ذلك في مجمع الزوائد للهيثمي(2):

عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبشركم بالمهدي ، يبعث على اختلاف من الناس ، وزلازل ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يرضى عنه ساكن السماء ، وساكن الأرض ، يقسم المال صحاحا» قال له رجل : ما صحاحا ، قال : «بالسوية بين الناس ، ويملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غناء ، ويسعهم عدله ، حتى

ص: 492


1- المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 504 .
2- مجمع الزوائد : الهيثمي : 7: 313 - 317 ، باب ما جاء في المهدي .

يأمر مناديا ، فينادي ، فيقول : من له في مال حاجة ، فما يقول من الناس إلا رجل واحد ، فيقول : أنا فيقول انت السدان ، يعني الخازن ، فقل له : إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا ، فيقول له : أحث ، حتى إذا جعله في حجره ، وائتزره ندم ، فيقول : كنت أجشع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو عجز عني ما وسعهم» . قال : «فيرده ، فلا يقبل منه ، فيقال له : إنا لا نأخذ شيئا أعطيناه ، فيكون كذلك سبع سنين ، أو ثمان سنين ، أو تسع سنين ، ثم لا خير في العيش بعده» . أو قال : ثم لا خير في الحياة بعده».(1)

وفيه(2):

وعنه(3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ليقومن على أمتي من أهل بيتي ، أقنى ، أجلى ، يوسع الأرض عدلا ، كما وسعت ظلما وجورا ، يملك سبع سنين».

وفيه(4):

وعن أم سلمة ، قالت : قال رسول صلى الله عليه وسلم : «يبايع لرجل بين مكة والمقام ، عدة أهل بدر ، فيأتيه عصايب أهل العراق ، وأبدال أهل الشام ، فيغزوهم جيش من أهل الشام ، حتى إذا كانوا بالبيداء ، خسف بهم ، فيغزوهم رجل من قريش ، أخواله من كلب ، فيلتقون فيهزمهم الله ، فالخائب من خاب من غنيمة كلب» .

أحاديث أخرى متفرقة ، من مصادر سنية :

عن أنس بن مالك ، قال سمعت رسول الله ، يقول : «نحن [سبعة] ولد عبد المطلب

ص: 493


1- مجمع الزوائد : الهيثمي : 7 : 313 - 314 ، وعلق عليه فقال : «رواه الترمذي وغيره باختصار كثير . رواه أحمد بأسانيد ، وأبو يعلى باختصار كثير ، ورجالهما ثقات» .
2- مجمع الزوائد : الهيثمي : 7 : 314 ، وعلق عليه فقال : «رواه أبو يعلى ، وفيه عدي بن أبي عمارة ، قال العقيلي : حديثه اضطراب ، وبقية رجاله ، رجال الصحيح».
3- أبو سعيد الخدري .
4- مجمع الزوائد : الهيثمي : 7 : 314 ، وعلق عليه فقال : «في الصحيح طرف منه . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط باختصار ، وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وضعفه جماعة ، وبقية رجاله رجال الصحيح .

سادات أهل الجنة ، أنا وأخي علي ، وعمي حمزة ، وجعفر ، والحسن ، و الحسين ، والمهدي».(1)

عن أبى هريرة ، قال : قال رسول الله : «لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة ، لملك فيها رجل من أهل بيتي».(2)

عن ثوبان ، قال : قال رسول الله : «يقتتل عند كنزكم ثلاثة ، كلهم ابن خليفة ، ثم لا يصير إلى واحد منهم ، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق ، فيقتلونكم قتلا ، لم يقتله قوم ، ثم يجيء خليفة الله المهدي ، فإذا سمعتم به ، فأتوه ، فبايعوه ، ولو حبوا على الثلج ، فإنه خليفة الله المهدي».(3)

عن ثوبان ، قال : قال رسول الله : تجيء الرايات السود من قبل المشرق ، كأن قلوبهم زبر الحديد ، فمن سمع بهم ، فليأتهم فيبايعهم ، ولو حبوا على الثلج».(4)

عن علي بن حوشب ، سمع مكحولا ، يحدث عن علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، قال : «قلت : يا رسول الله ، المهدي ، أمنا آل محمد المهدي، أم من غيرنا ؟ فقال رسول الله : لا ، بل منا ، بنا يختم

ص: 494


1- سنن ابن ماجة : 2 : 1368 ، الحديث بالرقم : 4087 ، المستدرك للحاكم النيسابوري : 3 : 211 ، کنز العمال : 12 : 97 ، الحديث بالرقم : 34162 ، ينابيع المودة : القندووزي : 3 : 267 ، الحديث بالرقم : 19 .
2- صحيح ابن حبان : 13 : 285 ، المعجم الكبير : الطبراني : 10 : 133: الحديث بالرقم : 10216 ، باختلاف يسير في اللفظ ، كنز العمال : المتقي الهندي : 14 : 269 ، الحديث بالرقم : 38683 . وعزاه السيوطي في العرف الوردي - أيضا للحسن بن سفيان في مسنده ، وله شواهد من حديثه ، ومن حديث حذيفة ، بالرقم : 6 و : 20 و : 58 .
3- سنن ابن ماجة : 2 : 1367 : الحديث بالرقم : 4084 ، المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 464 ، وفيه : «هذا حديث صحيح» : على شرط الشيخين» الدر المنثور : السيوطي : 6 : 58 ، البيان للكنجي : 101 ، الحديث بالرقم : 49 . قال ابن كثير في النهاية : 26 : «تفرد به ابن ماجة ، وهذا إسناد قوي صحيح» . وقال البوصيري في زوائده : 1442 : «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».
4- مسند أحمد : 5 : 277 ، بلفظ آخر ، عقد الدرر للسلمي : 129 ، وفيه : «أخرجه الحافظ أبو نعيم في صفة المهدي». وعزاه السيوطي في العرف الوردي - أيضا - للحسن بن سفيان في مسنده.

الله به الدین ، كما فتح بنا ، وبنا ينقذون من الفتن ، كما أنقذوا من الشرك ، و بنا يؤلف الله بين قلوبهم ، بعد عداوة الفتنة ، أخوانا ، كما ألف بينهم ، بعد عداوة الشرك ، وبنا يصبحون بعد عداوة الفتنة ، إخوانا ، كما أصبحوا ، بعد عداوة الشرك ، إخوانا في دينهم».(1)

عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله : «لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لطول الله تلك الليلة ، حتى يملك رجل من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملؤها قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ، ويقسم المال بالسوية ، ويجعل الله الغنى في قلوب هذه الأمة ، فيمكث سبعا ، أو تسعا ، ثم لا خير في الحياة بعد المهدي»(2).

عن أبي هريرة ، عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : «لا تقوم الساعة ، حتى يملك رجل من أهل بيتي ، يفتح القسطنطينية ، وجبل الديلم».(3)

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : «سيكون بعدي خلفاء ، ومن بعد الأمراء ملوك ، ومن بعد الملوك جبابرة ، ثم يخرج رجل من أهل بيتي ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ، ثم يؤمر بعده القحطاني ، فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه».(4)

عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله : «منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه».(5)

ص: 495


1- المعجم الأوسط : 1 : 57 ، بسند مختلف . كنز العمال : 14 : 598 : الحديث بالرقم : 39682 ، عقد الدرر : 25 ، وفيه : «أخرجه جماعة من الحفاظ في كتبهم ، منهم أبو القاسم الطبراني ، وأبو نعيم الأصبهاني ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم ، وأبو عبد الله نعيم بن حماد ، وغيرهم» . ورواه أيضا في : 145 . . ورواه أيضا في : 145 عن أمير المؤمنين بن أبي طالب عليه السلام ، مرسلا ، وقال فيه : «أخرجه الحافظ أبو بكر البيهقي».
2- عقد الدرر : 169 ، وفيه : «أخرجه الحافظ أبو نعيم في صفة المهدي».
3- عقد الدرر : 19 ، وفيه : «أخرجه الحافظ أبو نعيم».
4- كنز العمال : 14 : 265 : الحديث بالرقم : 38667 ، الجامع الصغير للسيوطي : 2 : 62 .
5- كنز العمال : 14 : 266 : الحديث بالرقم : 38673 ، عن أبي نعيم في كتاب المهدي ، عن أبي سعيد ، ينابيع : المودة : 2 : 101 : الحديث بالرقم : 266 ، و : 3 : 299 : الحديث بالرقم : 16.

عن جابر ، قال : قال رسول الله : «ينزل عيسى بن مريم ، فيقول أميرهم المهدي : تعال صل بنا ، فيقول : ألا و إن بعضكم على بعض أمراء ، تكرمة لهذه الأمة».(1)

عن أبي جعفر المنصور ، عن جده عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله : «لن تهلك أمة أنا أولها ، وعيسى ، وعيسى في آخرها ، والمهدي في وسطها».(2)

عن أبي سعيد : «المهدي أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يملك سبع سنين» .(3)

عن حذيفة : «المهدي رجل من ولدي ، وجهه كالكوكب الدري».(4)

ص: 496


1- مسند أحمد : 3 : 345 ، عن أبي الزبير عن جابر باختلاف يسير في اللفظ ، الدر المنثور : 2 : 245 ، تاريخ دمشق: ابن عساکر : 47 : 500 ، 50 ، ينابيع المودة : 3 : 299 : الحديث بالرقم : 13 ، عن الكنجي ، و : 3 : 392 ، الحديث بالرقم : 35 ، فيض القدير : 6: 513 ، الحديث بالرقم : 9770 ، باختلاف في اللفظ.
2- الجامع الصغير : 2 : 423 ، الحديث بالرقم : 7384 ، فيض القدير : 5 : 383 : الحديث بالرقم : 7384 ، ينابيع المودة : 2 : 100 : الحديث بالرقم : 262 ، وفيه - أيضا - عن أبي جعفر المنصور : 3 : 298 : الحديث بالرقم : 11.
3- كنز العمال : 14 : 264 ، الحديث بالرقم : 38665.
4- كنز العمال : 14 : 264 ، الحديث بالرقم : 38666 .

ثانيا : بعض الأحاديث المشهورة

فى التراث الشيعي

الشيخ الكليني(1):

(2)... عن يمان التمار ، قال : كنا عند أبي عبد الله عليه السلام جلوسا ، فقال لنا : «إن لصاحب هذا الأمر غيبة ، المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد» ثم قال هكذا بيده . «فأيكم يمسك شوك القتاد بيده ؟» ثم أطرق مليا ، ثم قال : «إن لصاحب هذا الأمر غيبة ، فليتق الله عبد ، وليتمسك بدينه» .(3)

عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام ، قال : إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم ، لا يزيلكم عنها أحد ، يا بني إنه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة ، حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به ، إنما هو محنة من الله عز وجل ، امتحن بها خلقه ، لو علم آباؤكم وأجدادكم دينا أصح من هذا لا تبعوه» قال : فقلت : يا سيدي من الخامس من ولد السابع ؟ فقال : «يا بني ! عقولكم تصغر عن هذا ، وأحلامكم تضيق عن حمله ، ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه» .(4)

عن المفضل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام ، يقول : «إياكم والتنويه ، أما والله ليغيبن إمامكم سنينا من دهركم ، ولتمحصن حتى يقال : مات ، قتل ، هلك ، بأي واد سلك ؟

ص: 497


1- الكافي : 1 : 335 - 340 : باب في الغيبة .
2- لم نذكر سند الحديث - هنا - توخيا للاختصار ، واكتفينا بذكر المصدر ، فمن أراد السند ، فسيجده فيه.
3- الكافي : 1 : 335 - 336 ، والحديث في الإمامة والتبصرة : ابن بابويه القمي : 126 ، وكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق : 346 ، وغيبة الطوسي : 455 ، والبحار : 52 : 111 .
4- الكافي : 1 : 336 .

ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ، ولتكفأن كما تكفأ السفن في أمواج البحر ، فلا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه ، وكتب في قلبه الإيمان ، وأيده بروح منه ، ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة ، لا يدرى أي من أي» قال : فبكيت ، ثم قلت : فكيف نصنع ؟ قال : فنظر إلى شمس داخلة في الصفة ، فقال : «يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس» قلت : نعم ، فقال : والله لأمرنا أبين من هذه الشمس .(1)

عن سدير الصيرفي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إن في صاحب هذا الأمر شبها من يوسف عليه السلام ، قال قلت له : كأنك تذكره حياته أو غيبته ؟ قال : فقال لي : وما تنكر من ذلك ، هذه الأمة أشباه الخنازير ، إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أسباطا أولاد الأنبياء تاجروا يوسف ، وبايعوه وخاطبوه ، وهم إخوته ، وهو أخوهم ، فلم يعرفوه حتى قال : أنا يوسف وهذا أخي ، فما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يفعل الله عز وجل بحجته في وقت من الأوقات كما فعل بيوسف ، إن يوسف عليه السلام كان إليه ملك مصر وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوما ، فلو أراد أن يعلمه لقدر على ذلك ، لقد سار يعقوب عليه السلام وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر ، فما تنكر هذه الأمة أن يفعل الله عز وجل بحجته كما فعل بيوسف ، أن يمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم حتى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف ، ﴿قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُف قَالَ أَنَا يُوسُف ﴾ [يوسف : 90] .(2)

عن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إن للغلام غيبة قبل أن يقوم ، قال : قلت ولم ؟ قال : يخاف – وأومأ بيده إلى بطنه – ثم قال : يا زرارة وهو المنتظر ، وهو الذي يشك في ولادته ، منهم من يقول : مات أبوه بلا خلف ومنهم من يقول : حمل ، ومنهم من يقول : إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين ، وهو المنتظر غير أن الله عز وجل يحب أن يمتحن الشيعة ، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة ، قال : قلت : جعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شئ اعمل ؟ قال : يا زرارة إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء «اللهم عرفني نفسك ، فإنك إن لم تعرفني نفسك

ص: 498


1- الكافي : 1 : 336 .
2- الکافی : 1 : 337.

لم أعرف نبيك ، اللهم عرفني رسولك ، فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك ، اللهم عرفني حجتك ، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني » ثم قال : يا زرارة لابد من قتل غلام بالمدينة ، قلت : جعلت فداك أليس يقتله جيش السفياني ؟ قال : لا ولكن يقتله جيش آل بني فلان يجيء حتى يدخل المدينة ، فيأخذ الغلام فيقتله ، فإذا قتله بغيا وعدوانا وظلما لا يمهلون ، فعند ذلك توقع الفرج إن شاء الله.(1)

عن عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : يفقد الناس إمامهم ، يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه.(2)

عن الأصبغ بن نباتة قال : أتيت أمير المؤمنين عليه السلام ، فوجدته متفكرا ينكت في الأرض ، فقلت ، يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكرا تنكت في الأرض ، أرغبة منك فيها ؟ فقال : لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط ، ولكني فكرت في مولود يكون من ظهري ، الحادي عشر من ولدي ، هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، تكون له غيبة وحيرة ، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! وكم تكون الحيرة والغيبة ؟ قال : ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين ، فقلت : وإن هذا لكائن ؟ فقال : نعم كما أنه مخلوق وأنى لك بهذا الامر يا أصبغ أولئك خيار هذه الأمة مع خيار أبرار هذه العترة ، فقلت : ثم ما يكون بعد ذلك فقال : ثم يفعل الله ما يشاء فإن له بداء ات، وإرادات ، وغايات ونهايات .(3)

عن معروف بن خربوذ ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال «إنما نحن كنجوم السماء كلما غاب نجم طلع نجم ، حتى إذا أشرتم بأصابعكم وملتم بأعناقكم ، غيب الله عنكم نجمكم ، فاستوت بنو عبد المطلب ، فلم يعرف أي من أي ، فإذا طلع نجمكم فاحمدوا ربكم .(4)

ص: 499


1- الكافي : 1 : 337 .
2- الكافي : 1 : 337 - 338 .
3- الكافي : 1 : 338 .
4- الكافي : 1 : 338 .

عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إن بلغكم عن صاحب هذا الأمر غيبة فلا تنكروها .(1)

عن عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : للقائم غيبتان ، يشهد في إحداهما المواسم ، يرى الناس ولا يرونه .(2)

عن أبي إسحاق السبيعي ، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ممن يوثق به أن أمير المؤمنين عليه السلام تكلم بهذا الكلام وحفظ عنه وخطب به على منبر الكوفة : اللهم إنه لا بد لك من حجج في أرضك ، حجة بعد حجة على خلقك ، يهدونهم إلى دينك ، ويعلمونهم علمك كيلا يتفرق أتباع أوليائك ، ظاهر غير مطاع ، أو مكتتم يترقب ، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم ، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة ، فهم بها عاملون . ويقول عليه السلام في هذه الخطبة في موضع آخر : فيمن هذا ؟ ولهذا يأزر العلم إذا لم يوجد له حملة يحفظونه ويروونه ، كما سمعوه من العلماء ويصدقون عليهم فيه ، اللهم فإني لاعلم أن العلم لا يأزر كله ولا ينقطع مواده وإنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك ، ظاهر ليس بالمطاع ، أو خائف مغمور(3) كيلا تبطل حجتك ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم بل أين هم ؟ وكم هم ؟ أولئك الأقلون عددا ، الأعظمون عند الله قدرا .

عن أيوب بن نوح قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : إني أرجو أن تكون صاحب هذا الأمر ، وأن يسوقه الله إليك بغير سيف ، فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك ، فقال : ما منا أحد اختلفت إليه الكتب ، وأشير إليه بالأصابع ، وسئل عن المسائل ، وحملت إليه الأموال ، إلا

ص: 500


1- الكافي : 1 : 338 - 339.
2- الكافي : 1 : 339 .
3- الكافي : 1 : 339 .

اغتيل ، أو مات على فراشه ، حتى يبعث الله لهذا الأمر غلاما منا ، خفي الولادة والمنشأ ، غير خفي في نسبه.(1)

عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : يقوم القائم وليس لأحد في عنقه عهد ولا عقد ولا بيعة.(2)

عن منصور ، عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قلت : إذا أصبحت وأمسيت لا أرى إماما أنتم به ما أصنع ؟ قال : فأحب من كنت تحب وابغض من كنت تبغض ، حتى يظهره الله عز وجل .(3)

عن زرارة قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : اعرف إمامك فإنك إذا عرفت لم يضرك ، تقدم هذا الأمر أو تأخر .(4)

عن داود بن القاسم الجعفري قال : سمعت أبا الحسن العسكري عليه السلام يقول : الخلف من بعدي الحسن ، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ؟ فقلت : ولم جعلني الله فداك ؟ قال : إنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه ، فقلت : فكيف نذكره ؟ فقال : قولوا : الحجة من آل محمد صلوات الله عليه وسلامه.(5)

عن عبد الرحمن ابن كثير قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه مهزم ، فقال

ص: 501


1- الكافي : 1 : 402 .
2- الكافي : 1 : 402 .
3- الكافي : 1 : 402 .
4- الكافي : 1 : 371 - 372 : باب : انه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر . والحديث في غيبة النعماني : 350 ، باب : 25 ، وغيبة الطوسي : 460 ، وهو - أيضا - في شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي : 560:3.
5- الكافي : 1 : 332 - 333 : باب في النهي عن الاسم .

له : جعلت فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر ، متى هو ؟ فقال : يا مهزم كذب الوقاتون، وهلك المستعجلون ، ونجا المسلمون.(1)

عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : يكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي ، تاسعهم قائمهم .(2)

عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : نحن اثنا عشر إماما منهم حسن ، وحسين ، ثم الأئمة من ولد الحسين عليه السلام .(3)

عن أبي سعيد رفعه ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من ولدي اثنا عشر نقيبا ، نجباء ، محدثون ، مفهمون ، آخرهم القائم بالحق يملاها عدلا كما ملئت جورا .(4)

الشيخ الصدوق(5):

حدثنا أبو علي ، أحمد بن الحسن بن علي بن عبد ربه ، قال : حدثنا أبو زيد محمد بن يحيى بن خلف بن يزيد المروزي ، بالري ، في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثمائة ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، في سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، المعروف بإسحاق بن راهويه ، قال : حدثني يحيى بن يحيى ، قال : حدثنا هشام بن خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : بينا نحن عند عبد الله بن مسعود ، نعرض مصاحفنا عليه ، إذ قال له فتى شاب : هل عهد إليكم نبيكم (صلی الله علیه و آله و سلم)، كم يكون من بعده خليفة ؟ قال : إنك لحدث السن ، وإن هذا لشيء ما سألني عنه أحد قبلك، نعم ، عهد إلينا نبينا (صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه يكون بعده اثنا عشر خليفة ، بعدد نقباء بني إسرائيل .(6)

ص: 502


1- الكافي : 1 : 369 .
2- الكافي : 1 : 533 .
3- الكافي : 1 : 533.
4- الكافي : 1 : 534 .
5- كمال الدين وتمام النعمة : 250 ، وما بعدها .
6- كمال الدين وتمام النعمة : 270 - 271 . أوردنا سند هذا الحديث - بالذات - من أجل وضوح الصورة ، والحديث ، وأمثاله في الإثني عشر خليفة ، مشهور ، معروف ، في المصادر السنية ، وقد نقله أحمد في مسنده : 5 : 86 ، 88، 89 ، 92 ، 106 ، عن جابر بن سمرة . وهو منقول عنه – أيضا – في صحيح مسلم - - النيسابوري : 6: 3 ، وسنن أبي داود السجستاني : 2 : 309 : كتاب المهدي : الحديث بالرقم : 4279 ، ومستدرك الحاكم : 3 : 617 ، 618 ، وشرح النووي على مسلم : 12 : 201 . ومصادر أخرى . ورواه الشيخ الصدوق (رحمه الله علیه) - أيضا - بأكثر من سند مرفوعا مرة إلى جابر بن سمرة ، ومرة إلى عبد الله بن مسعود ، ومن ذلك ما رواه في كمال الدين وتمام النعمة : 271 - 279 ، وفيه : «حدثنا أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال البغدادي ، قال : حدثنا محمد بن عبدوس الحراني ، قال : حدثنا عبد الغفار بن الحكم ، قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي . عن عمه قيس بن عبيد ، قال : كنا جلوسا في حلقة فيها عبد الله بن مسعود ، فجاء أعرابي ، فقال : أيكم عبد الله ؟ فقال : عبد الله بن مسعود : أنا عبد الله ، قال : هل حدثكم نبيكم (صلی الله علیه و آله و سلم) كم يكون بعده من الخلفاء؟ قال : نعم اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل. حدثنا أبو القاسم عتاب بن محمد الحافظ ، قال : حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل ، ومحمد بن عبد الله بن سوار ، ابن وراق النفيلي ، قالوا : حدثنا عبد الغفار بن الحكم ، قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي . قال عتاب : وحدثنا إسحاق بن محمد الأنماطي ، قال : حدثنا يوسف بن موسى ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث بن سوار ، عن الشعبي . قال عتاب : وحدثنا الحسين ابن محمد الحراني ، قال : حدثنا أيوب بن محمد الوزان ، قال : حدثنا سعيد بن مسلمة ، قال : حدثنا أشعث بن سوار ، عن الشعبي كلهم ، قالوا : عن عمه قيس بن عبيد . قال أبو القاسم عتاب : وهذا حديث مطرف ، قال : كنا جلوسا في المسجد ، ومعنا عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فقال : فيكم عبد الله (بن مسعود) قال : نعم أنا عبد الله فما حاجتك ؟ قال : يا عبد الله أخبركم نبيكم (صلی الله علیه و آله و سلم) كم يكون فيكم من خليفة ؟ قال : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ قدمت العراق ، نعم اثنا عشر خليفة ، عدة نقباء بني إسرائيل ، قال أبو عروبة في حديثه : نعم عدة نقباء بني إسرائيل، قال جرير ، عن أشعث ، عن ابن مسعود ، عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : الخلفاء بعدي اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل . حدثنا أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد ربه النيسابوري ، قال : حدثنا أبو القاسم هارون بن إسحاق - يعني الهمداني - قال : حدثنا عمي إبراهيم بن محمد ، عن زياد بن علاقة ، وعبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، قال : كنت مع أبي عند النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فسمعته يقول : يكون بعدي اثنا عشرا أميرا ، ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي : ما الذي أخفى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : قال : كلهم من قریش. حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال : حدثنا أبو علي محمد بن علي بن إسماعيل الكسري المروزي ، قال : حدثنا سهل بن عمار النيسابوري ، قال : حدثنا عمرو بن عبد الله بن رزين ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن عمرو ، عن الشعبي ، عن جابر بن سمرة ، قال : جئت مع أبي إلى المسجد ، ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يخطب ، فسمعته يقول : يكون من بعدي اثنا عشر - يعني أميرا - ثم خفض من صوته ، فلم أدر ما يقول ، فقلت لأبي: ما قال ؟ قال : قال : كلهم من قريش . حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق الدينوري ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن شاذان ، قال : حدثنا الوليد بن هشام، قال حدثنا محمد بن ذكوان ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن سيرين ، عن جابر ابن سمرة ، قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله ، فقال : يلي هذا الأمر اثنا عشر ، قال : فصرخ الناس ، فلم أسمع ما قال ، فقلت لأبي - وكان أقرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مني - : ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فقال : قال : كلهم من قريش ، وكلهم لا يرى مثله . قال الشيخ الصدوق (رحمه الله علیه): وقد أخرجت الطرق في هذا الحديث من طريق عبد الله بن مسعود ، ومن طريق جابر بن سمرة في كتاب النص على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام بالإمامة . وفيه - أيضا - : حدثنا عبد الله بن محمد الصائغ ، قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن سعيد ، قال : حدثنا الحسن بن علي بن زياد ، قال : حدثنا إسماعيل الطيان ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثني سفيان ، عن برد ، عن مكحول ، أنه قيل له : إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، قال مكحول : نعم ، وذكر لفظة أخرى . حدثنا عبد الله بن محمد الصائغ ، قال : حدثني أبو الحسين أحمد بن محمد بن يحيى القصراني ، قال : حدثني أبو علي بشر بن موسى بن صالح ، قال : حدثنا أبو الوليد خلف بن الوليد البصري ، عن إسرائيل ، عن سماك ، قال : سمعت جابر بن سمرة ، يقول : سمعت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، يقول : يقوم من بعدي اثنا عشر أميرا ، ثم تكلم بكلمة لم أفهمها ، فسألت القوم ، فقالوا : قال : كلهم من قريش . حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن يحيى القصراني ، قال : حدثنا أبو علي الحسين بن الكميت بن بهلول الموصلي ، قال : حدثنا غسان بن الربيع ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الله مولى عامر الشعبي ، عن عامر عن جابر ، أنه قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لا يزال أمر أمتي ظاهرا حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش. حدثنا محمد بن عمر الحافظ ، قال الحافظ ، قال : حدثني أبو بكر محمد بن علي المقري - كان يلقب بقطاة - قال : حدثني أحمد بن محمد بن يحيى السوسي محمد بن يحيى السوسي ، قال : حدثنا عبد العزيز ابن أبان ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : سألت عبد الله : هل أخبرك النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كم بعده خليفة ؟ قال نعم اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش . وفيه : 282 : حدثنا أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان ، قال : حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب ، قال : حدثنا الفضل بن الصقر العبدي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عباية بن ربعي ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أنا سيد النبيين ، وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين ، وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر ، أولهم علي بن أبي طالب ، وآخرهم القائم ، عليهم السلام . وانظر - أيضا - ما نقله النعماني في كتاب الغيبة : 104 - 111 ، عن المصادر السنية في حديث الاثني عشر .

ص: 503

ص: 504

حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور ، قال : حدثنا الحسين بن محمد بن عامر ، عن المعلي بن محمد البصري ، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الله الحكم ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن خلفائي و أوصيائي ، وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر : أولهم أخي ، وآخرهم ولدي ، قيل : يا رسول الله ومن أخوك ؟ قال : علي بن أبي طالب ، قيل : فمن ولدك ؟ قال : المهدي الذي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، والذي بعثني بالحق نبيا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه عيسى بن مريم فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب .(1)

عن ابن عباس في حديث يطول(2) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله .... فأوحى الله

ص: 505


1- كمال الدين وتمام النعمة : 280 . والأحاديث المتضمنة لمعنى : (لو لم يبق إلا يوم) أو (لو لم تبق إلا ليلة) كثيرة جدا ، أوردها أصحاب الحديث من الفريقين ، من ذلك ما نقلناه - آنفا - عن سنن ابن ماجة : 2 : 1368 ، الحديث بالرقم : 4087 ، وهو - أيضا - في المستدرك للحاكم النيسابوري : 3 : 211 ، وفي كنز العمال : 12 : 97 ، الحديث بالرقم : 34162 ، وفي ينابيع المودة : 3 : 267 ، الحديث بالرقم : 19 . وهو في غيبة الطوسي : 180 ، عن أبي هريرة . وفي : 181 ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود ، مثله.
2- الحديث ، من أحاديث المعراج، وهو طويل جدا ، وقد اقتصرنا على موضع الحاجة منه .

تعالى إلي يا محمد إني قد قضيت في عبادي قبل أن أخلقهم ، وقضائي ماض فيهم ، لأهلك به(1) من أشاء وأهدي به من أشاء. وقد آتيته علمك من بعدك وجعلته وزيرك وخليفتك من بعدك على أهلك وأمتك ، عزيمة مني (لأدخل الجنة من أحبه و) لا ادخل الجنة من أبغضه و عاداه وأنكر ولايته بعدك ، فمن أبغضه أبغضك ، ومن أبغضك أبغضني ، ومن عاداه فقد عاداك ، ومن عاداك فقد عاداني ، ومن أحبه فقد أحبك ، ومن أحبك فقد أحبني ، وقد جعلت له هذه الفضيلة ، وأعطيتك أن أخرج من صلبه أحد عشر مهديا كلهم من ذريتك من البكر البتول ، وآخر رجل منهم يصلي خلفه عيسى بن مريم ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت منهم ظلما وجورا ، أنجي به من الهلكة ، وأهدي به من الضلالة، وأبرئ به من العمى ، وأشفي به المريض ، فقلت : إلهي وسيدي متى يكون ذلك ؟ فأوحى الله عز وجل : يكون ذلك إذا رفع العلم ، وظهر الجهل ، وكثر القراء ، وقل العمل ، وكثر القتل ...»(2).

عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري ، يقول : لما أنزل الله عز وجل على نبيه محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَوْلِي الأمْر مِنكُمْ﴾ [النساء : 59] قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ؟ فقال عليه السلام : هم خلفائي يا جابر ، وأئمة المسلمين بعدي أولهم علي بن أبي طالب ، ثم الحسن والحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ، و ستدر که با جابر ، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى ابن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميي ، وكنيي حجة الله في أرضه ، وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ، ذاك الذي يفتح الله - تعالى ذكره - على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان ، قال جابر : فقلت له : يا رسول الله

ص: 506


1- سياق الحديث ، يشير إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 251 .

فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقال عليه السلام : أي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ، ومخزون علمه ، فاكتمه إلا عن أهله .(1)

عن جابر ابن يزيد الجعفي، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : ... فقلت : يا رسول الله أرشدني إلى النجاة ، فقال : يا ابن سمرة إذا اختلف الأهواء ، وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم من بعدي ، وهو الفاروق الذي يميز به بين الحق والباطل ، من سأله أجابه ومن استر شده أرشده، ومن طلب الحق عنده وجده ، ومن التمس الهدى لديه صادفه ، ومن لجأ إليه أمنه ، ومن استمسك به نجاه، و من اقتدی به هداه، یا ابن سمرة سلم منكم من سلم له ، ووالاه ، وهلك من رد عليه وعاداه ، يا ابن سمرة إن عليا مني ، روحه من روحي ، وطينته من طينتي ، وهو أخي وأنا أخوه ، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وإن منه إمامي أمتي وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين تاسعهم قائم أمتي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.(2)

عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)... (3) وجعل من صلب الحسين أئمة يقومون بأمري ، ويحفظون وصيتي ، التاسع منهم قائم أهل بيتي ، ومهدي أمتي ، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله يظهر بعد غيبة طويلة وحيرة مضلة ، فيعلن أمر الله ، ويظهر دين الله عز وجل ، يؤيد بنصر الله وينصر بملائكة الله ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.(4)

عن يحيى بن أبي القاسم ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده (علیهم السّلام)، قال : قال

ص: 507


1- كمال الدين وتمام النعمة : 253 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 257 .
3- اقتصرنا على ما احتجنا إليه من الحديث في هذا المورد .
4- كمال الدين وتمام النعمة : 257 - 258.

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): الأئمة بعالي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم ، هم خلفائي وأوصيائي وأوليائي ، وحجج الله على أمتي بعدي ، المقر بهم مؤمن ، والمنكر لهم كافر.(1)

عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «أنا سيد من خلق الله عز وجل ، وأنا خير من جبرئيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وحملة العرش ، وجميع ملائكة الله المقربين ، وأنبياء الله المرسلين ، وأنا صاحب الشفاعة ، والحوض الشريف ، وأنا ، وعلي ، أبوا هذه الأمة . من عرفنا فقد عرف الله عز وجل ، ومن أنكرنا فقد أنكر الله عز وجل ، ومن علي سبطا أمتي ، وسيدا شباب أهل الجنة : الحسن ، والحسين ، ومن ولد الحسين تسعة أئمة ، طاعتهم طاعتي ، ومعصيتهم معصيتي ، تاسعهم قائمهم ، ومهديهم .(2)

عن سليم ابن قيس الهلالي ، عن سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، قال : دخلت على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فإذا الحسين بن علي على فخذه ، وهو يقبل عينيه ويلثم فاه ، ويقول : أنت سيد ابن سيد ، أنت إمام ابن إمام (أخو إمام) أبو أئمة ، أنت حجة الله ، ابن حجته ، وأبو حجج تسعة من صلبك ، تاسعهم قائمهم .(3)

علي بن عاصم ، عن محمد بن علي بن موسى ، عن أبيه علي بن موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي (علیهما السّلام)، قال : دخلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعنده أبي بن كعب ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ... (4)إمام تقي نقي بار مرضي هاد مهدي أول العدل وآخره ، يصدق الله عز وجل ويصدقه الله في قوله ، يخرج من تهامة حتى تظهر الدلائل والعلامات وله بالطالقان كنوز لا ذهب ولا فضة إلا

ص: 508


1- كمال الدين وتمام النعمة : 259 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 261 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 262 .
4- اقتصرنا على موضع الحاجة من الحديث .

خيول مطهمة ، ورجال مسومة ، يجمع الله عز وجل له من أقاصي البلاد على عدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، معه صحيفة مختومة فيه عدد أصحابه بأسمائهم وأنسابهم وبلدانهم وصنائعهم وكلامهم وكناهم ، كرارون ، مجدون في طاعته ، فقال له أبي : وما دلائله وعلاماته يا رسول الله ؟ قال : له علم إذا حان وقت خروجه انتشر ذلك العلم من نفسه وأنطقه الله تبارك وتعالى فناداه العلم أخرج يا ولي الله فاقتل أعداء الله ، وله رايتان و علامتان وله سيف مغمد ، فإذا حان وقت خروجه ذلك السيف من غمده ، وأنطقه الله عز وجل فناداه السيف : أخرج يا ولي الله فلا يحل لك أن اقتلع عن أعداء الله فيخرج و يقتل أعداء الله حيث ثقفهم ويقيم حدود الله ويحكم بحكم الله يخرج وجبرئيل عن يمنيه وميكائل عن يساره وشعيب وصالح على مقدمه ، فسوف تذكرون ما أقول لكم و أفوض أمري إلى الله عز وجل ولو بعد حين ، يا أبي طوبى لمن لقيه ، وطوبى لمن أحبه ، وطوبى لمن قال به.(1)

حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد قال : أخبرني القاسم بن محمد بن حماد قال : حدثنا غياث بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحسين بن زيد بن علي، عن جعفر بن محمد ، آبائه عليهم السلام ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم):...(2) وكيف تهلك أمة أنا أولها ، واثنا عشر من بعدي من السعداء ، وأولي الألباب ، والمسيح عيسى بن مريم آخرها ، ولكن يهلك بین ذلك نتج الهرج ، ليسوا مني ولست منهم.(3)

ص: 509


1- كمال الدين وتمام النعمة : 264 - 269 .
2- لم نورد مقدمة الحديث اختصارا .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 269 - 270 ، وقد مر ما يشبهه – آنفا – 270 ، وقد مر ما يشبهه - آنفا - في الأحاديث المنقولة عن المصادر السنية ، ولكن بلفظ مختلف ، كما في الجامع الصغير : 2 : 423 ، الحديث بالرقم : 7384 ، فيض القدير : 5 : 383 : الحديث بالرقم : 7384 ، ينابيع المودة : 2 : 100 : الحديث بالرقم 10 : الحديث بالرقم : 262 ، وفيه – أيضا – عن أبي جعفر المنصور : 3 : 298 : الحديث بالرقم : 11 . وأعاد الشيخ الصدوق (رحمه الله علیه) ذكر هذا الحديث مرة أخرى بلفظ آخر ، وبسند مختلف : عن الحسن بن موسى الخشاب ، عن أبي المثنى النخعي عن زيد بن علي بن الحسين (علیه السّلام). انظر : كمال الدين وتمام النعمة : 282 .

الحسن بن العباس بن حريش الرازي ، عن أبي جعفر الثاني ، عن أبيه ، عن آبائه (علیهم السّلام): أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، يقول لأصحابه : آمنوا بليلة القدر ، إنها تكون لعلي بن أبي طالب وولده الأحد عشر من بعده .(1)

عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس خلقا ، وخلقا ، تكون به غيبة ، وحيرة تضل فيها الأمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب ، يملأها عدلا وقسطا ، كما ملئت جورا وظلما.(2)

عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : طوبی لمن أدرك قائم أهل بيتي، وهو يأتم به في غيبته ، قبل قيامه ، ويتولى أولياءه ، يعادي أعداءه ، ذلك من رفقائي ، وذوي مودتي ، وأكرم أمتي علي يوم القيامة.(3)

حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، عن علي بن عثمان ، عن محمد بن الفرات ، عن ثابت بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن علي بن أبي طالب عليه السلام إمام أمتي ، وخليفتي عليها من بعدي ، ومن ولده القائم المنتظر ، الذي يملأ الله

ص: 510


1- كمال الدين وتمام النعمة : 281 . وقد مر الكلام حول هذا الحديث وأضرابه في الفصل الثاني من هذا الكتاب . وتكراره - هنا - لما فيه من الدلالة على عدد الأئمة صلوات الله عليهم .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 286 . وقد مر - آنفا - في الفصل الثالث . والأحاديث التي تتضمن معنى : (اسمه اسمي) كثيرة جدا ، ومروية بطرق الفريقين ، منها ما ذكرناه - آنفا - نقلا عن الترمذي ، الحاكم النيسابوري ، وغيرهما . انظر : سنن الترمذي : 3 : 343 : الحديث بالرقم : 2331 ، المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 464.
3- كمال الدين وتمام النعمة : 286 .

به الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورا وظلما ، والذي بعثني بالحق بشيرا ، إن الثابتين على القول به في زمان غيبته ، لأعز من الكبريت الأحمر ، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ، وللقائم من ولدك غيبة ؟ قال : إي وربي ، وليمحص الله الذين آمنوا ، ويمحق الكافرين ، يا جابر إن هذا الامر (أمر) من أمر الله وسر من سر الله ، مطوي عن عباد الله ، فإياك والشك فيه ، فإن الشك في أمر الله – عز وجل – كفر .(1)

عن سعد بن طريف ، عن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : بينا نحن ذات يوم حول أمير المؤمنين (علیه السّلام) في مسجد الكوفة ، إذ قال : يا أهل الكوفة ، لقد حباكم الله عز وجل بما لم يحب به أحدا ، ففضل مصلاكم ، وهو بيت آدم ، وبيت نوح ، وبيت إدريس ، ومصلى إبراهيم الخليل ، ومصلى أخي الخضر (علیه السّلام)، ومصلاي ، وإن مسجدكم هذا أحد الأربعة مساجد التي اختارها الله عز وجل لأهلها ، وكأني به يوم القيامة في ثوبين أبيضين شبيه بالمحرم ، يشفع لأهله ولمن صلى فيه ، فلا ترد شفاعته ، ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه ، وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدي من ولدي ، ومصلى كل مؤمن ، ولا يبقى على الأرض مؤمن إلا كان به ، أو حن قلبه إليه ، فلا تهجروه ، وتقربوا إلى الله عز وجل بالصلاة فيه، وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم ، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة ، لأتوه من أقطار الأرض ولو حبوا على الثلج.(2)

عن مالك بن عطية ، عن أبان بن تغلب ، قال : قال أبو عبد الله (علیه السّلام): سيأتي مسجد جدكم هذا - يعني مكة - ثلاثمائة وثلاثة عشر ، يعلم أهل مكة أنهم لم يلدهم آباؤهم ، ولا أجدادهم ، عليهم السيوف مكتوب على كل سيف كلمة تفتح ألف كلمة تبعث الريح فتنادي بكل واد : هذا المهدي يقضي بقضاء آل داود ، لا يسأل عليه بينة .(3)

ص: 511


1- كمال الدين وتمام النعمة : 287 - 288 ، وقد أثبتنا سنده لأهميته ، ولاختلاف طريق روايته . وهو في بحار الأنوار: 38 : 127 ، و : 51: 73 ، نقلا عن كمال الدين وتمام النعمة .
2- الأمالي : الشيخ الصدوق : 298 ، والحديث في روضة الواعظين للفتال النيسابوري : 337 ، وفي وسائل الشيعة للحر العاملي : 3: 526 ، و : 5: 258 .
3- الخصال : الشيخ الصدوق : 649 . والحديث في بصائر الدرجات : 329 : باب فيه الكلمة التي علم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أمير المؤمنين (علیه السّلام): الحديث بالرقم .

وقال الصادق (علیه السّلام): «أول ما يظهر القائم (علیه السّلام) من العدل : أن ينادي مناديه : أن يسلم أصحاب النافلة ، لأصحاب الفريضة ، الحجر الأسود والطواف بالبيت» .(1)

عن يحيى بن أبي القاسم ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده (علیهم السّلام)، قال : «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): الأئمة بعدي اثنا عشر ، أولهم علي بن أبي طالب ، وآخرهم القائم ، فهم خلفائي ، وأوصيائي ، وأوليائي ، وحجج الله على أمتي بعدي ، المقر بهم مؤمن ، والمنكر لهم کافر .(2)

الشيخ الطوسي:

عن العلاء بن بشير المرادي ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلزال يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض.(3)

عن عمارة بن جوين العبدي، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول

ص: 512


1- من لا يحضره الفقيه : الشيخ الصدوق : 2 : 525 ، الحديث بالرقم : 3132 ، وهو في الكافي في نوادر الطواف : 4 : 427 ، وفي وسائل الشيعة : 13 : 328 ، وفي بحار الأنوار : 52 : 374 ، نقلا عن الكافي .
2- من لا يحضره الفقيه : 4 : 180 ، وقد مر - آنفا - التحقيق فيه .
3- الغيبة : الشيخ الطوسي : 178 ، وقد مر - آنفا - في المستدرك : الحاكم النيسابوري : 4 : 465 ، عن معاوية بن قرة عن أبي الصديق الناجي ، عن الخدري . ومثله - أيضا - في كنز العمال : 14 : 262 ، الحديث بالرقم : 38653 ، عن البارودي ، عن الخدري . وفي الغيبة للطوسي - أيضا : 179 : 137 : عن الناجي يعني أبا الصديق ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أبشروا بالمهدي - قال : ثلاثا - يخرج على حين اختلاف من الناس ، وزلزال شديد ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، يملأ قلوب عباده عبادة ، ويسعهم عدله . والحديث فى دلائل الإمامة للطبري : 468 ، عن المعلى بن أبي المعلى ، عن أبي الصديق الناجي ، عن الخدري . وهو في بحار الأنوار : 51 : 74 ، نقلا عن الطوسي .

على المنبر : إن المهدي من عترتي من أهل بيتي يخرج في آخر الزمان ينزل له من السماء قطرها ، وتخرج له الأرض بذرها ، فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملاها القوم ظلما وجورا .(1)

عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث طويل : فعند ذلك خروج المهدي وهو رجل من ولد هذا - وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب (علیه السّلام)- به يمحق الله الكذب ، ويذهب الزمان الكلب ، وبه يخرج ذل الرق من أعناقكم . ثم قال : أنا أول هذه الأمة والمهدي أوسطها ، وعيسى آخرها ، وبين ذلك شيخ أعوج.(2)

عن حبة العرني ، قال : خرج أمير المؤمنين (علیه السّلام) إلى الحيرة ، فقال : لتصلن هذه ، بهذه ، وأومأ بيده إلى الكوفة ، والحيرة ، حتى يباع الذراع فيما بينهما بدنانير ، وليبنين بالحيرة مسجد له خمسمائة باب يصلي فيه خليفة القائم عجل الله تعالى فرجه ؛ لأن مسجد الكوفة ليضيق عنهم، ...(3)

عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال : إن القائم (علیه السّلام) إذا قام ، رد البيت الحرام إلى أساسه ، ورد مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى أساسه ، ورد مسجد الكوفة إلى أساسه ، وقال أبو بصير :

موضع التمارين من المسجد.(4)

ص: 513


1- الغيبة : الشيخ الطوسي : 180 ، ومثله في مسند أحمد : 3 : 27 ، عن الناجي ، عن الخدري .
2- الغيبة للطوسي : 185 ، الحديث في بحار الأنوار : 51 : 75 ، نقلا عنه ، أما ما هو قريب منه ، خاصة قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): أنا أول هذه الأمة ... الخ . فحديث : كيف تهلك أمة أنا أولها ... الخ» نقلناه - آنفا - عن كمال الدين وتمام النعمة : 269 - 270 ، وفي الأحاديث المنقولة عن المصادر السنية ، ولكن بلفظ مختلف ، كما في الجامع الصغير : 2 : 423 ، الحديث بالرقم : 7384 ، فيض القدير : 5 : 383 : الحديث بالرقم : 7384 ، ينابيع المودة : 2 : 100 : الحديث بالرقم : 262 ، وفيه - أيضا - عن أبي جعفر المنصور : 3 : 298 : الحديث بالرقم : 11 . وقد يكون مما انفرد الشيخ بنقله - بهذا السند - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - لقيام الحجة .
3- تهذيب الأحكام : الشيخ الطوسي : 3 : 254 .
4- تهذيب الأحكام : الشيخ الطوسي : 5 : 452 . والحديث في الكافي : 4 : 543 ، والبحار : 97 : 459 ، نقلا عن الكافي .

عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر (علیه السّلام) عن القائم عجل الله فرجه ، إذا قام ، بأي سيرة في الناس ؟ فقال : بسيرة ما سار به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى يظهر الإسلام ، قلت : وما كانت سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال : أبطل ما كان في الجاهلية، واستقبل الناس بالعدل ، وكذلك القائم (علیه السّلام)، إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ، مما كان في أيدي الناس ، ويستقبل بهم العدل .(1)

عن الحسن بن هارون ، قال : كنت عند أبي عبد الله (علیه السّلام) جالسا ، فسأله معلى بن خنيس : أيسير القائم بخلاف سيرة علي (علیه السّلام)؟ قال : نعم ، وذلك أن عليا (علیه السّلام) سار بالمن ، والكف ؛ لأنه علم أن شيعته سيظهر عليهم ، وإن القائم إذا قام ، سار فيهم بالسيف ، والسبي ، وذلك أنه يعلم أن شيعته لم يظهر عليهم من بعده أبدا .(2)

شعيب العقرقوفي عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال أبو عبد الله (علیه السّلام): لن تبقى الأرض إلا وفيها منا عالم يعرف الحق من الباطل ، قال : إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقية الدم ، فلا تقية . وأيم الله ، لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل إنما نتقي ، ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم ، ولو قد قام القائم (علیه السّلام) ما احتاج إلى مسائلتكم ما احتاج إلى مسائلتكم عن ذلك ، ولأقام في كثير منكم من أهل النفاق ، حد الله.(3)

ص: 514


1- تهذيب الأحكام : 6 : 154.
2- تهذيب الأحكام : 6 : 154 .
3- تهذيب الأحكام : 6 : 172 . والحديث في وسائل الشيعة : 16 : 235 .

ما ورد من الحديث في ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن ثعلبة بن ميمون ، عن مالك الجهني ، عن الحارث بن المغيرة النصري ، عن الأصبغ ابن نباتة قال : أتيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) فوجدته متفكرا ينكت في الأرض ، فقلت : يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكرا تنكت في الأرض أرغبت فيها ؟ فقال : لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط ولكن فكرت في مولود يكون من ظهري الحادي عشر من ولدي ، هو المهدي يملأها عدلا كما ملئت جورا وظلما، تكون له حيرة وغيبة ، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون ، فقلت : يا أمير المؤمنين وإن هذا لكائن ؟ فقال : نعم كما أنه مخلوق وأنى لك بالعلم بهذا الأمر يا أصبغ أولئك خيار هذه الأمة مع إبرار هذه العترة ، قلت : وما يكون بعد ذلك ؟ قال : ثم يفعل الله ما يشاء فإن له إرادات وغايات ونهايات .(1)

عن كميل بن زياد – بطرق كثيرة(2) - قال : أخذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) بيدي فأخرجني إلى ظهر الكوفة ، فلما أصحر ، تنفس ، ثم قال : يا كميل ، إن هذه القلوب أوعية

ص: 515


1- كمال الدين وتمام النعمة : 289 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 290 - 294 . وطرقه هي 294 . وطرقه هي : حدثنا أبي ، ومحمد بن الحسن ، ومحمد بن علي ماجيلويه ، رضي الله عنهم ، قالوا : حدثنا محمد بن أبي القاسم ماجيلويه ، عن محمد بن علي الكوفي القرشي المقرئ ، عن نصر بن مزاحم المنقري ، عن عمر بن سعد ، عن فضيل بن خديج ، عن كميل بن - زياد النخعي . . وحدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، عن محمد بن الحسن الصفار ، وسعد بن عبد الله ، وعبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، وإبراهيم بن هاشم جميعا ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن عبد الرحمن بن جندب الفزاري، عن كميل بن زياد النخعي . وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصر بن عبد الوهاب القرشي قال : أخبرني أبو بكر محمد بن داود بن سليمان النيسابوري قال : حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري القاضي بالري قال : حدثنا أبو نعيم ضرار بن صرد التيمي قال : حدثنا عاصم بن حميد الحناط ، عن أبي حمزة ، عن عبد الرحمن بن جندب الفزاري، عن كميل ابن زياد النخعي . وحدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن - هاشم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الرحمن بن جندب الفزاري ، عن كميل بن زياد النخعي . وحدثنا الشيخ أبو سعيد محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن - الصلت القمي رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن العباس الهروي قال : حدثنا أبو - عبد الله محمد بن إسحاق بن سعيد السعدي قال : حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي قال : حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي - حمزة الثمالي ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن كميل بن زياد النخعي - واللفظ لفضيل ابن خديج . وفيه - أيضا - وحدثنا بهذا الحديث أبو أحمد القاسم بن محمد بن أحمد السراج الهمداني ، بهمدان ، قال : حدثنا أبو أحمد القاسم بن (أبي) صالح قال : حدثنا موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري قال : حدثنا أبو نعيم ضرار بن صرد قال : حدثنا عاصم بن حميد الحناط ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن عبد الرحمن بن جندب الفزاري، عن كميل بن زياد النخعي . وفي رواية عبد الرحمن بن جندب : انصرف إذا شئت . وأخبرنا بهذا الحديث الحاكم أبو محمد بكر بن علي بن محمد بن الفضل الحنفي الشاشي (بإيلاق) قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزاز الشافعي بمدينة السلام قال : حدثنا موسى بن إسحاق القاضي قال : حدثنا ضرار بن صرد ، عن عاصم بن حميد الحناط ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن عبد الرحمن بن جندب الفزاري عن كميل بن زياد النخعي قال : أخد علي بن أبي طالب (علیه السّلام) بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبانة ، فلما أصحر جلس ، ثم تنفس ، ثم قال : يا كميل بن زياد احفظ ما أقول لك : القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، الناس ثلاثة فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق . وذكر الحديث بطوله إلى آخره . وحدثنا بهذا الحديث أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الأسواري بإيلاق قال : حدثنا مكي بن أحمد بن سعدويه البرذعي قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسن المشرقي قال : حدثنا محمد بن إدريس أبو حاتم قال : حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي : عن ثابت بن أبي صفية ، عن عبد - الرحمن بن جندب ، عن كميل بن زياد قال : أخذ بيدي علي بن أبي طالب (علیه السّلام) فأخرجنى إلى ناحية الجبانة ، فلما أصحر جلس ، ثم تنفس ، ثم قال : يا کمیل بن - زیاد : القلوب أوعية فخيرها أوعاها . وذكر الحديث بطوله إلى آخره مثله . وحدثنا بهذا الحديث أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصقر الصائغ العدل قال : حدثنا موسى بن إسحاق القاضي ، عن ضرار بن صرد ، عن عاصم بن حميد الحناط ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن عبد الرحمن بن جندب الفزاري ، عن كميل بن زياد النخعي ، وذكر الحديث بطوله إلى آخره . وحدثنا بهذا الحديث الحاكم أبو محمد بكر بن علي بن محمد بن الفضل الحنفي الشاشي بإيلاق قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزاز الشافعي بمدينة السلام قال : حدثنا بشر بن موسى أبو علي الأسدي قال : حدثنا عبد الله بن - الهيثم قال : حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن محمد بن أحمد النخعي قال : حدثنا عبد الله بن - الفضل بن عبد الله بن أبي الهياج بن محمد بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قال : حدثنا هشام بن محمد السائب أبو منذر الكلبي ، عن أبي مخنف لوط بن يحيى ، عن فضيل بن خديج ، عن كميل بن زياد النخعى قال : أخذ بيدي امير المؤمنين علي . أبي طالب (علیه السّلام) بالكوفة فخرجنا حتى انتهينا إلى الجبانة . وذكر فيه : «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة ظاهر (مشهور) أو باطن مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيناته وقال في الله وبيناته» وقال في آخره : انصرف إذا شئت . وحدثني أبي رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد عن عبد الله بن الفضل بن عيسى ، عن عبد الله النوفلي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن هشام الكلبي ، عن أبي مخنف لوط بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن كميل بن زياد أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال له في كلام طويل : «اللهم إنك لا تخلي الأرض من قائم بحجة إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيناته . حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال : حدثني عمي محمد بن أبي - القاسم ، عن محمد بن علي الكوفي ، عن نصر بن مزاحم ، عن أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن كميل بن زياد النخعي قال : قال لي أمير المؤمنين (علیه السّلام) - في كلام (له) طويل - : اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم الله بحجة ظاهر (مشهور) أو خاف مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيناته (وقال في آخره : انصرف إذا شئت) . حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رضي الله عنه قال : حدثنا الحسين بن محمد ابن عامر ، عن عمه عبد الله بن عامر ، عن محمد بن أبي عمير، عن أبان بن عثمان الأحمر عن عبد الرحمن بن جندب ، عن كميل بن زياد النخعي قال : سمعت عليا (علیه السّلام) يقول في آخر كلام له : اللهم إنك لا تخلي الأرض من قائم بحجة ظاهر أو خاف مغمور لئلا تبطل حججك وبيناتك . وحدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي قال : حدثنا عبد الله بن أحمد قال : حدثنا أبو زهير عبد الرحمن بن موسى البرقي قال : حدثنا محمد بن الزيات، عن أبي صالح ، عن كميل بن زياد قال : قال أمير المؤمنين (علیه السّلام) في كلام طويل : اللهم إنك لا تخلي الأرض من قائم بحجة إما ظاهر أو خاف مغمور لئلا تبطل حججك و بيناتك . ولهذا الحديث طرق كثيرة .

ص: 516

ص: 517

فخيرها أوعاها ، احفظ عني ما أقول لك : الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يتسضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى رکن وثيق ، یا کميل العلم خير من المال ، العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، يا كميل محبة العلم دين يدان به ، يكسب الإنسان به الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، وصنيع المال يزول بزواله ، يا كميل مات خزان الأموال ، وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة ، هاه ، إن ههنا - وأشار بيده إلى صدره - لعلما جما لو أصبت له حملة ، بل أصبت لقنا غير مأمون عليه ، يستعمل آلة الدين للدنيا ، ومستظهرا بحجج الله - عز وجل - على خلقه ، وبنعمه على أوليائه ؛ ليتخذه الضعفاء وليجة دون ولي الحق . أو منقادا لحملة العلم لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، ألا لاذا ، ولا ذاك ، أو منهوما باللذات ، سلس القياد للشهوات . أو مغرما ، بالجمع والادخار ، ليسا من رعاة الدين في شيء ، أقرب شيء شبها بهما الأنعام السائمة ، كذلك يموت العلم ، بموت حامليه . اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم بحجة (إما) ظاهر مشهور ، أو خاف مغمور ، لئلا تبطل حجج الله ، وبيناته ، وكم ذا ، وأين أولئك ، أولئك - والله ، الأقلون عددا ، والأعظمون خطرا ، بهم يحفظ الله حججه ، وبيناته ، حتى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقائق الأمور ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون (و) صحبوا الدنيا بأبدان ، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ، يا كميل ، أولئك خلفاء الله فى أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه ، آه ، شوقا إلى رؤيتهم ، وأستغفر الله لي ولكم.(1)

حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه قال : حدثنا أحمد بن إدريس قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مالك الفزاري الكوفي قال : حدثني إسحاق بن محمد الصيرفي ، عن أبي هاشم ، عن

ص: 518


1- والحديث نقله الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه في النهج : باب المختار من حكم أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، بالرقم : (147) .

فرات بن أحنف ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه ذكر القائم (علیه السّلام) فقال : أما ليغيبن حتى يقول الجاهل : ما الله في آل محمد حاجة.(1)

حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن موسى بن عمران رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن محمد بن عبد الحميد ، و عبد الصمد بن محمد جميعا ، عن حنان بن سدير ، عن علي بن الحزور ، عن الأصبغ بن – نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين (علیه السّلام) يقول : صاحب هذا الأمر الشريد الطريد الفريد الوحيد .(2)

حدثنا محمد بن أحمد الشيباني رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن جعفر الكوفي قال : حدثنا سهل بن زياد الآدمي قال : حدثنا عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضي الله عنه ، عن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي - طالب عليهم السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال : للقائم منا غيبة أمدها طويل كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته ، يطلبون المرعى فلا يجدونه ، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة ثم قال (علیه السّلام): إن القائم منا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة فلذلك تخفى ولادته و يغيب شخصه.(3)

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي ابن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عن الحسين بن خالد ، عن علي بن - موسى الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام : إنه قال : التاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحق ، المظهر للدين ، والباسط للعدل ، قال الحسين : فقلت له : يا

ص: 519


1- كمال الدين وتمام النعمة : 303 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 303 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 303 . وفيه بطريق ثان ، قال : حدثنا علي بن أحمد بن موسى رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن جعفر الكوفي عن عبد الله بن موسى الروياني ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن محمد بن علي الرضا، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام بهذا الحديث مثله سواء .

أمير المؤمنين وإن ذلك لكائن ؟ فقال (علیه السّلام): إي و الذي بعث محمدا (صلی الله علیه و آله و سلم) بالنبوة واصطفاه على جميع البرية ولكن بعد غيبة وحيرة فلا يثبت فيها على دينه إلا المخلصون المباشرون لروح اليقين الذين أخذ الله عز وجل ميثاقهم بولايتنا وكتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه .(1)

حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن سهل بن زياد الآدمي ، وأحمد بن محمد بن عيسى قالا : حدثنا الحسن بن العباس ابن الحريش الرازي ، عن أبي جعفر محمد بن علي الثاني ، عن آبائه عليهم السلام.

أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال لابن عباس : إن ليلة القدر في كل سنة وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال ابن عباس : من هم ؟ قال : أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون .(2)

ص: 520


1- كمال الدين وتمام النعمة : 304 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 305 . وقد مر - آنفا - في فصول سابقة .

عن سيدة نساء العالمين الزهراء البتول صلوات الله عليها

حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال : حدثنا الحسن بن إسماعيل قال : حدثنا أبو عمرو سعيد بن محمد بن نصر القطان قال : حدثنا عبد الله بن محمد السلمي قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال : حدثنا محمد بن - سعيد بن محمد قال : حدثنا العباس بن أبي عمرو ، عن صدقة بن أبي موسى ، عن أبي نضرة قال : لما احتضر أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام عند الوفاة دعا بابنه الصادق (علیه السّلام)، فعهد إليه عهدا فقال له أخوه زيد بن علي بن الحسين : لو امتثلت في تمثال الحسن والحسين عليهما السلام لرجوت أن لا تكون أتيت منكرا ، فقال : يا أبا الحسن إن الأمانات ليست بالتمثال ، ولا العهود بالرسوم ، وإنما هي أمور سابقة عن حجج الله تبارك وتعالى ، ثم دعا بجابر بن عبد الله فقال له : يا جابر حدثنا بما عاينت في الصحيفة ؟ فقال له جابر : نعم يا أبا جعفر دخلت على مولاتي فاطمة عليهما السلام لأهنئها بمولود الحسن (علیه السّلام) فإذا هي بصحيفة بيدها من درة بيضاء ، فقلت : يا سيدة النسوان ما هذه الصحيفة التي أراها معك ؟ قالت : فيها أسماء الأئمة من ولدي فقلت لها : ناوليني لأنظر فيها ، قالت : يا جابر لولا النهي أفعل لكنه نهي أن يمسها إلا نبي أو وصي نبي ، أو أهل بيت نبي ، ولكنه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها . قال جابر : فقرأت فإذا فيها : «أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفى ، أمه آمنة بنت وهب . أبو الحسن علي بن أبي طالب المرتضى ، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف . أبو محمد الحسن بن علي البر . أبو عبد الله الحسين بن علي التقي ، أمهما فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، أبو محمد علي بن الحسين العدل ، أمه شهربانويه بنت يزدجرد ابن شاهنشاه ، أبو جعفر محمد بن علي الباقر ، أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن - أبي طالب . أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن - أبي بكر . أبو إبراهيم موسى بن جعفر

ص: 521

الثقة ، أمه جارية اسمها حميدة . أبو الحسن علي بن موسى الرضا ، أمه جارية اسمها نجمة . أبو جعفر محمد بن علي الزكي ، أمه جارية اسمها خيزران . أبو الحسن علي بن محمد الأمين ، أمه جارية اسمها سوسن أبو محمد الحسن بن علي الرفيق ، أمه جارية اسمها سمانة وتكنى بأم الحسن . أبو القاسم محمد بن الحسن ، هو حجة الله تعالى على خلقه القائم ، أمه جارية اسمها نرجس صلوات الله عليهم أجمعين .

حدثنا أبي ، ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما قالا : حدثنا سعد بن عبد الله ، وعبد الله بن جعفر الحميري جميعا ، عن أبي الحسن صالح بن أبي حماد ، والحسن بن – طريف جميعا ، عن بكر بن صالح . وحدثنا أبي ، ومحمد بن موسى بن المتوكل ، ومحمد بن علي ماجيلويه ، وأحمد ابن علي بن إبراهيم ، والحسن بن إبراهيم بن ناتانة ، وأحمد بن زياد الهمداني رضي الله عنهم قالوا : حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن هشام، عن بكر بن - صالح ، عن عبد الرحمن بن سالم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال : قال أبي (علیه السّلام) الجابر بن عبد الله الأنصاري : إن لي إليك حاجة فمتى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها ، فقال له جابر : في أي الأوقات شئت ، فخلى به أبو جعفر (علیه السّلام)، قال له : يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد (ي) أمي فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وما أخبرتك به أنه في ذلك اللوح مكتوبا ، فقال جابر : أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أهنئها بولادة الحسين (علیه السّلام) فرأيت في يدها لوحا أخضر ظننت أنه من زمرد ، ورأيت فيه كتابة بيضاء شبيهة بنور الشمس ، فقلت لها : بأبي أنت وأمي يا بنت رسول الله ما هذا اللوح ؟ فقالت : هذا اللوح أهداه الله عز وجل إلى رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني وأسماء الأوصياء من ولدي ، فأعطانيه أبي ليسرني بذلك . قال جابر : فأعطتنيه أمك فاطمة عليهما السلام فقرأته وانتسخته فقال له أبي (علیه السّلام): فهل لك يا جابر أن تعرضه على ؟ فقال : نعم ، فمشى معه أبي (علیه السّلام) حتى انتهى إلى منزل جابر فأخرج إلى أبي صحيفة من رق ، فقال : يا جابر انظر أنت في كتابك لأقرأه أنا عليك ، فنظر جابر في نسخته فقرأه عليه أبي (علیه السّلام) فوالله ما خالف حرف حرفا ، قال جابر : فاني أشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا :

ص: 522

بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من : هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نوره وسفيره وحجابه ودليله ، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين ، عظم يا محمد أسمائي ، واشكر نعمائي ، ولا تجحد آلائي ، إني أنا الله لا إله إلا أنا قاصم الجبارين (ومبير المتكبرين) ومذل الظالمين وديان يوم الدين ، إني أنا الله لا إله إلا أنا فمن رجا غير فضلي ، أو خاف غير عدلي عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فإياي فاعبد وعلي فتوكل، إني لم أبعث نبيا فأكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا وإني فضلتك على الأنبياء ، وفضلت وصيك على الأوصياء وأكرمتك بشبليك بعده وبسبطيك الحسن والحسين ، وجعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه ، وجعلت حسينا خازن وحيي ، وأكرمته بالشهادة ، وختمت له بالسعادة ، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة ، جعلت كلمتي التامة معه ، والحجة البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب ، أولهم علي سيد العابدين ، وزين أوليائي الماضين، وابنه سمي جده المحمود ، محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمتي ، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد علي ، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر ، ولأسرنه في أوليائه و أشياعه وأنصاره وانتحبت بعد موسى فتنة عمياء حندس ، لان خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى ، وأن أوليائي لا يشقون أبدا ، ألا ومن جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي ، ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي ، وويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسى وحبيبي وخيرتي (ألا) إن المكذب بالثامن مكذب بكل أوليائي . وعلي وليي وناصري ، ومن أضع عليه أعباء النبوة وأمتحنه بالاضطلاع ، يقتله عفريت مستكبر ، يدفن بالمدينة التي بناها العبد الصالح ذو القرنين إلى جنب شر خلقي ، حق القول مني لأقرن عينه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ، فهو وارث علمي ومعدن حكمتي وموضع سري وحجتي على خلقي ، جعلت الجنة مثواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار ، وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري، والشاهد في خلقي ، وأميني على وحيي ، أخرج منه الداعي إلي سبيلي والخازن العلمي الحسن ، ثم أكمل ذلك بابنه رحمة للعالمين ، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب ، ستذل أوليائي في زمانه ويتهادون رؤوسهم كما تهادى رؤوس الترك والديلم فيقتلون ويحرقون

ص: 523

ويكونون خائفين مرعوبين وجلين ، تصبغ الأرض من دمائهم ، ويفشو الويل والرنين في نسائهم أولئك أوليائي حقا ، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس ، وبهم أكشف الزلازل ، وأرفع عنهم الآصار والأغلال ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . قال عبد الرحمن بن سالم قال أبو بصير : لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك فصنه إلا عن أهله .

حدثنا علي بن الحسين بن شاذويه المؤدب ، وأحمد بن هارون القاضي رضي الله عنهما قالا : حدثنا محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ابن مالك الفزاري الكوفي ، عن السلولي ، عن درست بن عبد الحميد ، عن عبد الله بن القاسم ، عن عبد الله بن جبلة ، عن أبي السفاتج ، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : دخلت على مولاتي فاطمة الله وقد أمها لوح يكاد ضوؤه يغشي الابصار ، فيه اثنا عشر اسما ثلاثة في ظاهره وثلاثة في باطنه ، وثلاثة أسماء في آخره ، وثلاثة أسماء في طرفه ، فعددتها فإذا هي اثنا عشر اسما ، فقلت : أسماء من هؤلاء ؟ قالت : هذه أسماء الأوصياء أولهم ابن عمي وأحد عشر من ولدي ، آخرهم القائم (صلوات الله عليهم أجمعين) قال جابر ، فرأيت فيها محمدا محمدا محمدا في ثلاثة مواضع ، وعليا وعليا وعليا وعليا في أربعة مواضع .

و حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي الله عنه قال : حدثني أبي ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : دخلت على فاطمة عليهما السلام وبين يديها لوح (مكتوب) فيه أسماء الأوصياء فعددت اثني عشر آخرهم القائم ، ثلاثة منهم محمد وأربعة منهم علي عليهم السلام.

و حدثنا أبو محمد الحسن بن حمزة العلوي رضي الله عنه قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسين بن درست السروي ، عن جعفر بن محمد بن مالك قال : حدثنا محمد بن عمران الكوفي ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، وصفوان بن يحيى ، عن إسحاق بن – عمار ، عن أبي عبد الله

ص: 524

الصادق (علیه السّلام) أنه قال : يا إسحاق ألا أبشرك ، قلت : بلی جعلت فداك يا ابن رسول الله فقال : وجدنا صحيفة بإملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخط أمير المؤمنين (علیه السّلام) فيها : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من الله العزيز الحكيم ، وذكر حديث اللوح كما ذكرته في هذا الباب مثله سواء إلا أنه قال في آخره ، ثم قال الصادق (علیه السّلام) : يا إسحاق هذا دين الملائكة والرسل فصنه عن غير أهله يصنك الله ويصلح بالك ، ثم قال (علیه السّلام): من دان بهذا أمن عقاب الله عز وجل.

عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن علي بن الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قال : حدثني عبد الله بن محمد بن جعفر ، عن أبيه عن جده أن محمد بن علي باقر العلم عليهما السلام جمع ولده وفيهم عمهم زيد بن علي ، ثم أخرج كتابا إليهم بخط علي (علیه السّلام) وإملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مكتوب فيه : هذا كتاب من الله العزيز الحكيم العليم - (وذكر) حديث اللوح إلى موضع الذي يقول فيه : ﴿أولَئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة : 157] . ثم قال في آخره قال عبد العظيم : العجب كل العجب لمحمد بن جعفر وخروجه إذ سمع أباه (علیه السّلام)يقول هكذا ويحكيه ، ثم قال : هذا سر الله ودينه ودين ملائكته فصنه إلا عن أهله وأوليائه.

حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه قال : حدثنا أبي، عن أحمد ابن محمد بن عيسى ، وإبراهيم بن هاشم جميعا ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر (علیه السّلام) ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : دخلت على فاطمة (عليها السلام) و بين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء ، فعددت اثني عشر اسما آخرهم القائم ، ثلاثة منهم محمد ، وأربعة منهم علي صلوات الله عليهم (أجمعين) .

ص: 525

الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام

عن حنان بن سدير ، عن أبيه سدير بن حكيم ، عن أبيه ، عن أبي سعيد عقيصا قال : لما صالح الحسن بن علي عليهما السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس ، فلامه بعضهم على بيعته ، فقال (علیه السّلام): ويحكم ما تدرون ما عملت والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألا تعلمون أنني إمامكم مفترض الطاعة عليكم وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علي ؟ قالوا : بلى ، قال : أما علمتم أن الخضر (علیه السّلام) لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطا لموسى بن عمران إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصوابا ، أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي روح الله عيسى بن مريم (علیه السّلام) خلفه ، فإن الله عز وجل يخفي ولادته ، ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء ، يطيل الله عمره في غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة ، ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير.(1)

ص: 526


1- كمال الدين وتمام النعمة : 316 .

الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام

عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام قال : قال الحسين بن علي عليهما السلام : في التاسع من ولدي سنة من يوسف ، وسنة من موسى بن عمران عليهما السلام وهو قائمنا أهل البيت ، يصلح الله تبارك وتعالى أمره في ليلة واحدة .(1)

وكيع بن الجراح ، عن الربيع بن سعد ، عن عبد الرحمن بن سليط قال : قال الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام منا اثنا عشر مهديا أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وآخرهم التاسع من ولدي ، وهو الإمام القائم بالحق ، يحيي الله به الأرض بعد موتها ، ويظهر به دين الحق على الدين كله ولو كره المشركون ، له غيبة يرتد فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون ، فيؤذون ويقال لهم : ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أما إن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).(2)

عن يحيى بن وثاب ، عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت الحسين بن علي عليهما السلام يقول : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله عز وجل ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي ، فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، كذلك سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول .(3)

ص: 527


1- كمال الدين وتمام النعمة : 317 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 317 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 318 .

سيد العابدين علي بن الحسين عليهما السلام

حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن موسى بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : حدثنا أبو علي محمد بن همام قال : حدثنا أحمد بن محمد النوفلي قال : حدثنا أحمد بن هلال ، عن عثمان بن عيسى الكلابي ، عن خالد بن نجيح ، عن حمزة بن - حمران ، عن أبيه (حمران بن أعين) عن سعيد بن جبير قال : سمعت سيد العابدين علي بن الحسين عليهما السلام يقول : في القائم منا سنن من الأنبياء (سنة من أبينا آدم (علیه السّلام)، و) سنة من نوح ، وسنة من إبراهيم ، وسنة من موسى ، وسنة الله من عيسى ، وسنة من أيوب ، وسنة من محمد صلوات الله عليهم ، فأما (من آدم و) نوح فطول العمر وأما من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس ، وأما من موسى ، فالخوف والغيبة وأما من عیسی فاختلاف الناس فيه ، وأما من أيوب فالفرج بعد البلوى ، وأما من محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) فالخروج بالسيف.(1)

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن - إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن بسطام بن مرة ، عن عمرو بن ثابت قال : قال علي بن - الحسين سيد العابدين عليهما السلام : من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله عز وجل أجر ألف شهيد من شهداء بدر واحد.(2)

ص: 528


1- كمال الدين وتمام النعمة : 322 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 323.

أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام

محمد بن إسحاق ، عن إسحاق ، عن أسيد بن ثعلبة ، عن أم هانئ قالت : لقيت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فسألته عن هذه الآية : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّس﴾؟ فقال : إمام يخنس في زمانه عند انقضاء من علمه سنة ستين ومائتين ، ثم يبدو كالشهاب الوقاد في ظلمة الليل فإن أدركت ذلك قرت عيناك.(1)

حدثنا أحمد بن هارون الفامي، وعلي بن الحسين بن شاذويه المؤدب ، وجعفر بن محمد بن مسرور ، وجعفر بن الحسين رضي الله عنهم قالوا : حدثنا محمد بن عبد الله ابن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن أيوب بن نوح ، عن العباس بن عامر القصباني . وحدثنا جعفر بن علي بن الحسن بن علي عبد الله بن المغيرة الكوفي قال : حدثني جدي الحسن بن علي بن عبد الله ، عن العباس بن عامر القصباني عن موسى ابن هلال الضبي ، عن عبد الله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر (علیه السّلام): إن شيعتك بالعراق كثيرون فوالله ما في أهل بيتك مثلك فكيف لا تخرج ؟ فقال : يا عبد الله بن عطاء قد أمكنت الحشو من أذنيك ، والله ما أنا بصاحبكم ، قلت : فمن صاحبنا ؟ قال : انظروا من تخفى على الناس ولادته فهو صاحبكم .(2)

ص: 529


1- كمال الدين وتمام النعمة : 325 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 325 .

حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، عن عبد الله بن حماد الأنصاري ، ومحمد بن سنان جميعا ، عن أبي الجارود زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال : قال لي : يا أبا الجارود إذا دارت الفلك ، وقال الناس : مات القائم أو هلك ، بأي واد سلك ، وقال الطالب : أنى يكون ذلك وقد بليت عظامه فعند ذلك فارجوه ، فإذا سمعتم به فأتوه ولو حبوا على الثلج .(1)

عن سليمان بن داود ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر (علیه السّلام) يقول : في صاحب هذا الامر الله أربع سنن من أربعة أنبياء عليهم السلام : سنة من موسى وسنة من عيسى ، وسنة من يوسف ، وسنة من محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). فأما من موسى: فخائف يترقب ، وأما من يوسف فالحبس ، وأما من عيسى فيقال : إنه مات ، ولم يمت ، وأما من محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) فالسيف.(2)

وحدثنا محمد بن محمد بن عصام رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن يعقوب (الكليني) قال : حدثنا القاسم بن العلاء قال : حدثنا إسماعيل بن علي القزويني قال : حدثني علي بن إسماعيل ، عن عاصم بن حميد الحناط ، عن محمد بن مسلم الثقفي الطحان قال : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلى الله عليه وعليهم ، فقال لي مبتدئا : يا محمد بن مسلم إن في القائم من آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) شبها من خمسة من الرسل : يونس بن متى ، ويوسف بن يعقوب ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، صلوات الله عليهم : . فأما شبهه من يونس بن متی : فرجوعه من غيبته وهو شاب بعد كبر السن ، و و أما شبهه من يوسف بن يعقوب عليهما السلام : فالغيبة من خاصته وعامته ، واختفاؤه من إخوته وإشكال أمره على أبيه يعقوب عليهما السلام مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله وشيعته . وأما شبهه من موسى (علیه السّلام) فدوام خوفه ، وطول غيبته ، وخفاء ولادته ، وتعب شيعته من بعده مما لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن الله عز وجل في ظهوره ونصره وأيده على عدوه . وأما شبهه من عيسى (علیه السّلام)

ص: 530


1- كمال الدين وتمام النعمة : 326 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 326 - 327 .

فاختلاف من اختلف فيه ، حتى قالت طائفة منهم : ما ولد ، وقالت طائفة : مات ، وقالت طائفة : قتل وصلب . وأما شبهة من جده المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم) فخروجه بالسيف ، وقتله أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، والجبارين والطواغيت، وأنه ينصر بالسيف والرعب ، وأنه لا ترد له راية . وإن منعلامات خروجه : خروج السفياني من الشام ، وخروج اليماني (من اليمن) وصيحة من السماء في شهر رمضان ، ومناد ينادي من السماء باسمه واسم أبيه.(1)

عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه ، عن المغيرة ، عن المفضل بن صالح ، عن جابر عن أبي جعفر الباقر (علیه السّلام) أنه قال : يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم ، فيا طوبي للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان ، إن أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم البارئ جل جلاله فيقول : عبادي وإمائي ! آمنتم بسري وصدقتم بغيبي ، فأبشروا بحسن الثواب مني ، فأنتم عبادي وإمائي حقا منكم أتقبل ، وعنكم أعفو ، ولكم أغفر ، وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع عنهم البلاء ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي ، قال جابر : فقلت : يا ابن رسول الله فما أفضل ما يستعمله المؤمن ذلك الزمان ؟ قال : حفظ اللسان ولزوم البيت.(2)

حدثنا محمد بن محمد بن عصام رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني قال : حدثنا القاسم بن العلاء قال : حدثني إسماعيل بن علي القزويني قال : حدثني علي بن إسماعيل ، عن عاصم بن حميد الحناط ، عن محمد بن مسلم الثقفي قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام يقول : القائم منا منصور بالرعب ، مؤيد بالنصر تطوي له الأرض وتظهر له الكنوز ، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله عز وجل به دينه على الدين كله ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرض خراب إلا قد عمر ، و ينزل روح الله عيسى بن مريم (علیه السّلام) فيصلي خلفه ، قال : قلت : يا ابن رسول الله متى يخرج قائمكم ؟ قال : إذا تشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، واكتفى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وركب ذوات الفروج السروج ، وقبلت

ص: 531


1- كمال الدين وتمام النعمة : 327 - 328 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 330 .

شهادات الزور، وردت شهادات العدول ، واستخف الناس بالدماء وارتكان الزنا وأكل الربا ، واتقي الأشرار مخافة ألسنتهم ، وخروج السفياني من الشام ، واليماني من اليمن ، وخسف بالبيداء ، وقتل غلام من آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بين الركن والمقام ، اسمه محمد بن الحسن النفس الزكية ، وجاءت صيحة من السماء بأن الحق فيه وفي شيعته ، فعند ذلك خروج قائمنا ، فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة ، واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا . وأول ما ينطق به هذه الآية : ﴿بَقيَّةُ الله - لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [هود : 86] ثم يقول : أنا بقية الله في أرضه وخليفته وحجته عليكم فلا يسلم عليه مسلم إلا قال : السلام عليك يا بقية الله في أرضه ، فإذا اجتمع إليه العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج ، فلا يبقى في الأرض معبود دون الله عز وجل من صنم (ووثن) وغيره إلا وقعت فيه نار فاحترق . وذلك بعد غيبة طويلة ليعلم الله من يطيعه بالغيب ويؤمن به.(1)

ص: 532


1- كمال الدين وتمام النعمة : 330 - 331.

الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام

حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه ، قال : حدثنا أبي ، عن أيوب بن نوح ، عن محمد بن سنان ، عن صفوان بن مهران ، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال : من أقر بجميع الأئمة وجحد المهدي كان كمن أقر بجميع الأنبياء وجحد محمدا (صلی الله علیه و آله و سلم) نبوته ، فقيل له : يا ابن رسول الله فمن المهدي من ولدك ؟ قال : الخامس من ولد السابع ، يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته .(1)

حدثنا علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله البرقي قال : حدثنا أبي ، عن جدي أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه محمد بن خالد ، عن محمد بن سنان ، وأبي علي الزراد جميعا ، عن إبراهيم الكرخي قال : دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام وإني لجالس عنده إذ دخل أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام وهو غلام ، فقمت إليه فقبلته وجلست فقال أبو عبد الله (علیه السّلام): يا إبراهيم أما إنه (ل_ (صاحبك من بعدي ، أما ليهلكن فيه أقوام ويسعد (فيه) آخرون ، فلعن الله قاتله وضاعف على روحه العذاب ، أما ليخرجن الله من صلبه خير أهل الأرض في زمانه ، سمي جده ، ووارث علمه وأحكامه وفضائله (و) معدن الإمامة ، ورأس الحكمة ، يقتله جبار بني فلان ، بعد عجائب طريفة حسدا له ، ولكن الله (عز وجل) بالغ أمره ولو كره المشركون . يخرج الله من صلبه تكملة اثني عشر إماما مهديا ، اختصهم الله بكرامته وأحلهم دار قدسه المنتظر للثاني عشر منهم كالشاهر سيفه بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يذب عنه . قال : فدخل

ص: 533


1- كمال الدين وتمام النعمة : 333.

رجل من موالي بني أمية ، فانقطع الكلام فعدت إلى أبي عبد الله (علیه السّلام) إحدى عشرة مرة أريد منه أن يستتم الكلام فما قدرت على ذلك ، فلما كان قابل السنة الثانية دخلت عليه وهو جالس فقال : يا إبراهيم هو المفرج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد ، وبلاء طويل ، وجزع وخوف ، فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان . حسبك يا إبراهيم . قال إبراهيم : فما رجعت بشئ أسر من هذا لقلبي ولا أقر لعيني.(1)

حدثنا أبي ، ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما قالا : حدثنا سعد بن عبد الله الله وعبد وعبد الله بن جعفر الحميري جميعا ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن خالد ، عن محمد ابن سنان ، عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال : أقرب ما يكون العباد من الله عز وجل وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجة الله عز وجل ، فلم يظهر لهم ولم يعلموا بمكانه ، وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجج الله (عنهم وبيناته) فعندها فتوقعوا الفرج صباحا ومساء ، وإن أشد ما يكون غضب الله تعالى على أعدائه إذا افتقدوا حجة الله فلم يظهر لهم ، وقد علم أن أولياءه لا يرتابون ، ولو علم أنهم يرتابون لما غيب عنهم حجته طرفة عين ، ولا يكون ذلك إلا على رأس شرار الناس.(2)

حدثنا علي بن أحمد الدقاق رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن – أبي عبد الله الكوفي ، عن - سهل بن زياد الآدمي ، عن الحسن بن محبوب، عن عبد العزيز العبدي ، عن عبد الله بن أبي يعفور قال : قال أبو عبد الله الصادق (علیه السّلام): من أقر بالأئمة من آبائي وولدي وجحد المهدي من ولدي كان كمن أقر بجميع الأنبياء وجحد محمدا (صلی الله علیه و آله و سلم) نبوته . فقلت : يا سيدي ومن المهدي من ولدك ؟ قال : الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ، ولا يحل لكم تسميته .(3)

ص: 534


1- كمال الدين وتمام النعمة : 334 - 335 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 337 - 338 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 338 . وقد مر أنفا ...

حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن هلال ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن فضالة بن أيوب، عن سدير قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول : إن في القائم شبه من يوسف (علیه السّلام) قلت : كأنك تذكر خبره أو غيبته ؟ فقال لي : ما تنكر من ذلك هذه الأمة أشباه الخنازير، إن إخوة يوسف كانوا أسباطا أولاد أنبياء ، تاجروا يوسف وبايعوه وهم إخوته وهو أخوهم فلم يعرفوه حتى قال لهم : ﴿أنا يُوسُفُ﴾ فما تنكر هذه الأمة أنه يكون الله عز وجل في وقت من الأوقات يريد أن يستر حجته ، لقد كان يوسف (علیه السّلام) إليه ملك مصر ، وكان بينه وبين ولده مسيرة ثمانية عشر يوما فلو أراد الله عز وجل أن يعرفه مكانه لقدر على ذلك ، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة مسيرة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر ، فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله عز وجل يفعل بحجته ما فعل بيوسف أن يكون يسير في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه ، حتى يأذن الله عز وجل أن يعرفهم بنفسه كما أذن ليوسف حتى قال لهم : ﴿هَلْ علمتُم مَّا فَعَلْتُم بُيُوسُف وأخيه إذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُواْ أَإِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أخي﴾ [يوسف : 89 - 90].(1)

حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي الله عنه قال : حدثنا أبي ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن أبي عمير، عن صفوان بن مهران الجمال قال : قال الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام : أما والله ليغيبين عنكم مهديكم حتى يقول الجاهل منكم : ما الله في آل محمد ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما.(2)

حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال : حدثنا حمدان بن سليمان، عن محمد بن إسماعيل ابن بزيع ، عن حيان السراج ، عن ، عن السيد بن محمد الحميري - في حديث طويل - يقول فيه : قلت للصادق جعفر بن محمد عليهما السلام : يا ابن رسول الله قد روي لنا أخبار عن آبائك عليهم السلام في الغيبة وصحة

ص: 535


1- كمال الدين وتمام النعمة : 341.
2- كمال الدين وتمام النعمة : 341 - 342 .

كونها فأخبرني بمن تقع ؟ فقال (علیه السّلام): «إن الغيبة ستقع بالسادس من ولدي ، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وآخرهم القائم بالحق ، بقية الله في الأرض ، و صاحب الزمان ، والله لو بقي في غيبته ما بقي نوح في قومه لم يخرج من الدنيا حتى يظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما».(1)

حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن - إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد ، عن صالح بن محمد ، عن هانئ التمار قال : قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): إن لصاحب هذا الامر غيبة فليتق الله عبد وليتمسك بدينه.(2)

حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن عبد الله الكوفي قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي ، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول : إن سنن الأنبياء عليهم السلام بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منا أهل البيت حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة . قال أبو بصير : فقلت : يا ابن رسول الله ومن القائم منكم أهل البيت ؟ فقال : يا أبا بصير هو الخامس من ولد ابني موسى ، ذلك ابن سيدة الإماء ، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون ، ثم يظهره الله عز وجل فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها ، وينزل روح الله عيسى بن مريم (علیه السّلام) فیصلى خلفه وتشرق الأرض بنور ربها ، ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله عز وجل عبد الله فيها ، ويكون الدين كله لله ولو كره المشركون .(3)

حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما قالا : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن صالح بن محمد ، عن هانئ التمار قال : قال أبو عبد الله (علیه السّلام):

ص: 536


1- كمال الدين وتمام النعمة : 342 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 343 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 345 - 346 .

إن لصاحب هذا الامر غيبة ، المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد ، ثم قال - هكذا بيده - ثم قال : (إن) لصاحب هذا الامر غيبة فليتق الله عبد وليتمسك بدينه.(1)

ص: 537


1- كمال الدين وتمام النعمة : 346 - 347 . وقد مر....

أبو الحسن موسى بن جعفر صلوات الله عليه

الحسن ابن موسى الخشاب ، عن العباس بن عامر القصباني قال : سمعت أبا الحسن موسى ابن جعفر عليهما السلام يقول : «صاحب هذا الأمر من يقول الناس : لم يولد بعد».(1)

علي بن حسان ، عن داود بن كثير الرقي ، قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (علیهما السّلام) عن صاحب هذا الأمر قال : «هو الطريد الوحيد الغريب الغائب عن أهله ، الموتور بأبيه (علیه السّلام)».(2)

عن صالح بن السندي ، عن يونس بن عبد الرحمن قال : دخلت على موسى بن جعفر (علیهما السّلام)فقلت له : يا ابن رسول الله أنت القائم بالحق ؟ فقال : «أنا القائم بالحق ولكن القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله عز وجل ويملأها عدلا كما ملئت جورا وظلما هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفا على نفسه ، يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون . ثم قال : طوبى لشيعتنا ، المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا ، الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا ، أولئك منا ونحن منهم ، قد رضوا بنا ،أئمة ، ورضينا بهم شيعة ، فطوبى لهم ، ثم طوبى لهم ، وهم والله معنا في درجاتنا يوم القيامة» .(3)

ص: 538


1- كمال الدين وتمام النعمة : 360 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 361 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 361 .

الرضا علي بن موسى عليهما السلام

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن يعقوب بن يزيد ، عن أيوب بن نوح قال : قلت للرضا (علیه السّلام): إنا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر وأن يرده الله عز وجل إليك من غير سيف ، فقد عز وجل إليك من غير سيف ، فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك ، فقال : «ما منا أحد اختلفت إليه الكتب ، وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع ، وحملت إليه الأموال إلا اغتيل أو مات على فراشه حتى يبعث الله عز وجل لهذا الأمر رجلا خفي المولد والمنشأ غير خفي في نسبه».(1)

حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا جعفر ابن محمد بن مالك الفزاري ، عن علي بن الحسن بن فضال ، عن الريان بن الصلت قال : سمعته يقول : سئل أبو الحسن الرضا (علیه السّلام) عن القائم (علیه السّلام) فقال : «لا یری جسمه ولا يسمى باسمه» .(2)

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي ابن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عن الحسين بن خالد قال : قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام : لا دين لمن لا ورع له ، ولا إيمان لمن لا تقية له ، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية فقيل له : يا ابن رسول الله إلى متى ؟ قال : إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت ، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا . فقيل له : يا ابن رسول الله ومن القائم منكم أهل البيت ؟ قال الرابع من ولدي ابن - سيدة الإماء ، يطهر الله به الأرض من كل جور ، ويقدسها من كل ظلم ، [وهو] الذي يشك الناس في ولادته ، وهو صاحب الغيبة قبل خروجه ، فإذا خرج

ص: 539


1- كمال الدين وتمام النعمة : 370 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 370 .

أشرقت الأرض بنوره ، ووضع ميزان العدل بين الناس فلا يظلم أحد أحدا ، وهو الذي تطوي له الأرض ولا يكون له ظل ، وهو الذي ينادي مناد من السماء يسمعه جميع أهل الأرض بالدعاء إليه يقول : ألا إن حجة الله قد ظهر عند بيت الله فاتبعوه ، فإن الحق معه وفيه ، وهو قول الله عز وجل : ﴿إِن نَّشَأْنُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء : 4] .(1)

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي ابن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول : أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (علیهما السّلام) قصيدتي التي أولها :

مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات

فلما انتهيت إلى قولي :

خروج إمام لا محالة خارج *** يقوم على اسم الله والبركات

يميز فينا كل حق وباطل *** ويجزي على النعماء والنقمات

بكى الرضا (علیه السّلام) بكاء شديدا ، ثم رفع رأسه إلي فقال لي : يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الامام ومتى يقوم ؟ فقلت : لا يا مولاي إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلا [كما ملئت جورا] . فقال : يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله عز وجل ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا . وأما « متى ؟ » فإخبار عن الوقت ، فقد حدثني أبي ، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قيل له : يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال (علیه السّلام): مثله مثل الساعة التي : ﴿لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تأتيكُمْ إِلا بَغْتَةً﴾ [الأعراف : 187] .(2)

ص: 540


1- كمال الدين وتمام النعمة : 371 - 372 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 372 – 373.

عن الريان بن الصلت قال : قلت للرضا (علیه السّلام): أنت صاحب هذا الأمر ؟ فقال : أنا صاحب هذا الأمر ، ولكني لست بالذي أملاها عدلا كما ملئت جورا ، وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني ، وإن القائم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان ، قويا في بدنه حتى لو مد يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها ، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها ، يكون معه عصا موسى ، وخاتم سليمان عليهما السلام . ذاك الرابع من ولدي ، يغيبه الله في ستره ما شاء ، ثم يظهره فيملأ [به] الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما .(1)

ص: 541


1- كمال الدين وتمام النعمة : 376 .

أبو جعفر الثاني محمد بن علي الجواد صلوات الله عليه

حدثنا علي بن أحمد بن موسى الدقاق رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن هارون الصوفي قال : حدثنا أبو تراب عبد الله موسى الروياني قال : حدثنا عبد العظيم بن عبد : الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام [الحسني] قال : دخلت على سيدي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب عليهم السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم أهو المهدي أو غيره فابتدائي فقال لي : يا أبا القاسم إن القائم منا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته ، ويطاع في ظهوره ، وهو الثالث من ولدي ، والذي بعث محمدا (صلی الله علیه و آله و سلم) بالنبوة وخصنا بالإمامة إنه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، وإن الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة ، كما أصلح أمر كليمه موسى (علیه السّلام) إذ ذهب ليقتبس لأهله نارا فرجع وهو رسول نبي ، ثم قال (علیه السّلام): أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج.(1)

حدثنا عبد الواحد بن محمد العبدوس العطار رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال : حدثنا حمدان بن سليمان قال : حدثنا الصقر ابن أبي دلف قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (علیه السّلام) يقول : إن الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري ، وقوله قولي ، وطاعته طاعتي ، والامام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه ، وقوله قول أبيه ، وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت . فقلت له : يا ابن رسول - الله فمن الامام بعد الحسن ؟ فبكي (علیه السّلام) بكاء شديدا ، ثم قال : إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر . فقلت له : يا ابن رسول الله لم سمي القائم ؟ قال : لأنه

ص: 542


1- كمال الدين وتمام النعمة : 377 .

يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته . فقلت له : ولم سمي المنتظر ؟ قال ؟ لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون ، ويكذب فيها الوقاتون ، ويهلك فيها المستعجلون ، و ينجو فيها المسلمون .(1)

ص: 543


1- كمال الدين وتمام النعمة : 378 .

أبو الحسن علي بن محمد الهادي صلوات الله عليه

حدثنا علي بن أحمد بن موسى الدقاق ، وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنهما قالا : حدثنا محمد بن هارون الصوفي قال : حدثنا أبو تراب عبد الله بن موسى الروياني ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال : دخلت علي سيدي علي بن محمد (علیهما السّلام) فلما بصر بي قال لي : مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا قال : فقلت له : يا ابن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضيا ثبت عليه حتى ألقي الله عز وجل فقال : هات يا أبا القاسم ، فقلت : إني أقول : إن الله تبارك وتعالى واحد ، ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين حد الإبطال وحد التشبيه ، وإنه ليس بجسم ولا صورة ، ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ، ومصور الصور ، و خالق الأعراض والجواهر ، ورب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ، وإن محمدا (صلی الله علیه و آله و سلم) عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبي بعده إلي يوم القيامة ، وإن شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة . وأقول : إن الإمام والخليفة وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم أنت يا مولاي . فقال له : ومن بعدي الحسن ابني فكيف للناس بالخلف من بعده ؟ قال : فقلت : وكيف ذاك يا مولاي ؟ قال (علیه السّلام): لأنه لا يرى شخصه ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، قال : فقلت : أقررت وأقول : إن وليهم ولي الله ، وعدوهم عدو الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله وأقول : إن المعراج حق ، والمسألة في القبر حق ، وإن الجنة حق ، والنار حق ، والصراط حق ،

ص: 544

والميزان حق ﴿وَأنَّ السَّاعَةَ آتية لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور﴾ [الحج : 7] . وأقول : إن الفرائض الواجبة بعد الولاية : الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فقال علي بن محمد (علیهما السّلام): يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فأثبت عليه ، ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و [في] الآخرة .(1)

حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن محمد ابن عمر الكاتب ، عن علي بن محمد الصيمري، عن علي بن مهزیار قال : كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر (علیه السّلام) أسأله عن الفرج ، فكتب إلى : إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين ، فتوقعوا الفرج.(2)

حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد العلوي ، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : سمعت أبا الحسن صاحب العسكر اللي يقول : الخلف من بعدي ابني الحسن فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ؟ فقلت : ولم جعلني الله فداك ؟ فقال : لأنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه ، قلت : فكيف نذكره ؟ قال : قولوا : الحجة من آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).(3)

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد الموصلي قال : حدثنا الصقر بن أبي دلف قال : سمعت علي بن محمد بن علي الرضا (علیهم السّلام) يقول : إن الإمام بعدي الحسن ابني ، و بعد الحسن ابنه القائم ، الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.(4)

ص: 545


1- كمال الدين وتمام النعمة : 379 - 380.
2- كمال الدين وتمام النعمة : 380 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 381 .
4- كمال الدين وتمام النعمة : 383 .

أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام

حدثنا علي بن عبد الله الوراق قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد ابن إسحاق بن سعد الأشعري ، قال : دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (علیهما السّلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف [من] بعده ، فقال لي مبتدئا : يا أحمد بن إسحاق إن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم الله ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجة الله على خلقه ، به يدفع البلاء عن أهل الأرض ، و به ينزل الغيث ، وبه يخرج بركات الأرض . قال : فقلت له : يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك ؟ فنهض (علیه السّلام) مسرعا فدخل البيت ، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كان وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين ، فقال : يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا ، إنه سمي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكنيه ، الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما . يا أحمد بن إسحاق مثله في هذه الأمة مثل الخضر (علیه السّلام)، ومثله مثل ذي القرنين ، والله ليغيبن غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلا من ثبته الله عز وجل على القول بإمامته ، ووفقه [فيها] للدعاء بتعجيل فرجه . فقال أحمد بن إسحاق : فقلت له : يا مولاي فهل من علامة يطمئن إليها قلبي ؟ فنطق الغلام (علیه السّلام) بلسان عربي فصيح ، فقال : أنا بقية الله في أرضه ، والمنتقم من الله أعدائه ، فلا تطلب أثرا بعد عين يا أحمد بن إسحاق . فقال أحمد بن إسحاق : فخرجت مسرورا فرحا ، فلما كان من الغد عدت إليه فقلت له : يا ابن رسول الله لقد عظم سروري بما مننت [به] على فما السنة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين ؟ فقال : طول الغيبة يا أحمد ، قلت : يا ابن رسول الله وإن غيبته لتطول ؟ قال : إي وربي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به ولا يبقى إلا من أخذ الله عز وجل عهده لولايتنا ، وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه يا أحمد بن إسحاق :

ص: 546

هذا أمر من أمر الله وسر من سر الله ، وغيب من غيب الله ، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غدا في عليين.(1)

حدثنا أبو طالب المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي السمرقندي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود ، عن أبيه محمد بن مسعود العياشي قال : حدثنا آدم ابن محمد البلخي قال : حدثني علي بن الحسين بن هارون الدقاق قال : حدثنا جعفر بن محمد بن عبد الله بن قاسم بن إبراهيم بن مالك الاشتر قال : حدثني يعقوب بن منقوش قال : دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (علیهما السّلام) وهو جالس على دكان في الدار ، وعن يمينه بیت علیه ستر مسبل ، فقلت له : [يا] سيدي من صاحب هذا الأمر ؟ فقال : ارفع الستر ، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك ، واضح الجبين ، أبيض الوجه ، دري المقلتين ، شثن الكفين ، معطوف الركبتين ، في خده الأيمن خال ، وفي رأسه ذؤابة ، فجلس على فخذ أبي محمد (علیه السّلام) ثم قال لي : هذا صاحبكم ، ثم وثب فقال له : يا بني ادخل إلى الوقت المعلوم ، فدخل البيت وأنا أنظر إليه ، ثم قال لي : يا يعقوب انظر من في البيت ، فدخلت فما رأيت أحدا.(2)

حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي السمرقندي رضي الله عنه قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود العياشي ، عن أبيه ، عن أحمد بن علي بن كلثوم ، عن علي بن أحمد الرازي ، عن أحمد بن إسحاق بن سعد قال : سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (علیهما السّلام) يقول : الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي ، أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خلقا وخلقا ، ويحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ، ثم يظهره فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما .(3)

ص: 547


1- كمال الدين وتمام النعمة : 384 - 385 . وفيه : «قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : لم أسمع بهذا الحديث إلا من علي بن عبد الله الوراق وجدت بخطه مثبتا فسألته عنه ، فرواه لي عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد ابن إسحاق رضي الله عنه كما ذكرته .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 407 .
3- كمال الدين وتمام النعمة : 409 .

حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا موسى بن جعفر بن وهب البغدادي قال : سمعت أبا محمد الحسن ابن علي (علیهما السّلام) يقول : كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف مني ، أما إن المقر بالأئمة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) المنكر لولدي كمن أقر بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، والمنكر لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كمن أنكر جميع أنبياء الله لان طاعة آخرنا كطاعة أولنا ، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا . أما إن لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلا من عصمه الله عز وجل .(1)

حدثنا علي بن أحمد بن محمد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا سهل بن زياد الآدمي قال : حدثنا الحسن بن محبوب ، حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار قال : حدثني جعفر بن محمد بن مالك الفزاري قال : حدثني معاوية بن حكيم ، ومحمد ابن أيوب بن نوح ومحمد بن عثمان العمري رضي الله عنه قالوا : عرض علينا أبو محمد الحسن بن علي (علیهما السّلام) ونحن في منزله وكنا أربعين رجلا فقال : هذا إمامكم من بعدي ، وخليفتي عليكم ، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا ، أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا ، قالوا : فخرجنا من عنده فما مضت إلا أيام قلائل حتى مضي أبو محمد (علیه السّلام)(2).

ص: 548


1- كمال الدين وتمام النعمة : 409 .
2- كمال الدين وتمام النعمة : 410 .

الفصل الخامس

في علم الأئمة ومشكلة العلم من الله

ص: 549

ص: 550

الإشكالية ، جعلتنا إمام قضية مهمة ، قد يُعبّر عنها البعض أنها خطيرة للغاية ، وهي قضية العلم اللدني بمعنى تعليم الله الخاص لولي من أوليائه ، فما أكثر الاستنكار لمن قال بهذه الحالة خصوصا حين ينسب هذا العلم لآل الرسول المعصومين منهم فقط ، بينما لا نكير حين يقال أن ابن تيمية مطلع على ما في اللوح المحفوظ ، وقد بلغ من العجائب أن تُؤلف كتب ومقالات تقول بأن القول بالعلم الخاص والعلم اللدني هو كفر ويشتم بألفاظ لا يفهم معناها مثل الغنوصية والباطنية ويقولون إن هذا هو ادعاء لعلم الغيب وهذا لا يعلمه إلا الله ، والقول به كفر ، إلى آخر هذه الترهات التي ينفيها القرآن نفيا قاطعا ، ولكن حين ينسبون العلم بالمغيبات والإطلاع على ما في اللوح المحفوظ فسيجدون كل المبررات التي يستنكرونها نفسها ، فكيف بنا إذا وصلنا إلى مفاد ليلة القدر التي تجعل المسألة أكثر تعقيدا لمن يقول إن هذا كفر أو خروج عن الدين وما شابه ذلك ، لأن مفاد ليلة القدر هو ضرورة أن يكون هناك تواصل بين إنسان وبين الله فيخبره بكل ما يطلبه الله بالعلم اللدني وغيره .

فهذا ليس استدلالا فلسفيا ، وإنما هو صريح القول القرآني وشرط المعادلة التي قلناها ، وهي إما إن يكون القرآن صحيحا فهناك من يخبره الله في ليلة القدر (كائنا من يكون) وإما أن لا يكون هناك احد يتلقى من الله فيكون القرآن غير صحيح ، ويسقط من الاعتبار ، فيصبح قولهم بكفر من يقول بحصول العلم من الله ونزول الملائكة بتعليم بشر لا يستند إلى نفس الإسلام ، وإنما إلى ديانة لم نكتشفها بعد لحد الآن.

فهل ينطبق مفاد آيات ليلة القدر على أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) من حصول العلمي اللدني والإخبار بالمغيبات والتواصل مع خبر السماء .

لو تتبعنا مسيرة أهل البيت (علیهم السّلام) وما صدر عنهم لتيقنا بوجود سر خاص وعلم خاص عندهم ، يعرفون به الكثير من الخبايا ، فمن يقتنع بمثل هذه الروايات الصحيحة عند أهل البيت (علیهم السّلام) يستطيع أن يكمل التتبع على هذا الأساس ، ومن لا يؤمن ويشكك في هذه الروايات ، فنقول له : لا بأس

ص: 551

عليك ، ولكن عليك أن تبين لنا : هل هذا العلم المنسوب للائمة ممتنع حتى لا تصدق ؟ أم هناك من أخبرك خبر اليقين إن كل هذه الروايات كاذبة بالدليل والبرهان والحس والوجدان ؟

طبعا لا هذا العلم مستحيل .

ولا يوجد من يستطيع تكذيب الأخبار الصحيحة بطريق علمي . بل بطرق شهوانية .

لو كان تلقي العلم من الله مستحيلا لما صحت نبوة ، ولما صح دين ، ولو كان يمتنع وجود الصالحين الذين ينتخبهم الله لسره ، لما كان هناك صالح أصلا ، لا نبي ولا غيره ، فالامتناع يعني نفي الرسالات والديانات ، بل العقول . لأن الواقع والوجدان يدلان على وجود حالة التلقي بشكل عام ، والوجود أدل دليل على الامكان ، فلا استحالة ولا امتناع .

فيبقى إن التشكيك ودعوى الاستحالة أو الامتناع أو على اقل تقدير عدم العادة . كلها أدوات للتعبير عن الكراهية، وعدم راحة النفس لفكرة تربى على نقضها المشكك . والتربية من أسوء ما يمكن في حرف العقول ونقص قيمتها العلمية . واهم تربية سيئة عند المسلمين - من أتباع السلطة - هي نبذ أهل البيت (علیهم السّلام) الذين امرنا الله بطاعتهم وحبهم .

فلهذا سوف نلغي هنا موضوع التشكيك ودعاوى الاستحالة وغير ذلك لئلا نخوض في سخافات كثيرة لا طائل منها . فيكيفنا ردهم بصریح قوله تعالى : ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا علمًا﴾ [الكهف : 65] . فعليهم أن يثبتوا أن هذه الآية خاصة بنبي أو أنها لا تعني وجود العلم اللدني عند بعض عباد الله الصالحين الذين ينتخبهم الله.

وسوف نتجه لقضية واحدة وهي قول بعض الدجالين : أن العلم بالخفيات أو العلم من الله هو علم بالغيب وهو باطل ، مستندين إلى متشابه القرآن ، متغاضين عن التعارض الذي ينبغي أن يجمع ويفرّق ، ويخرج بنتيجة معاكسة تماما لما ارادوه منها .

فقد استدلوا بقوله تعالى : ﴿عَالمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبه أحَدًا﴾ [الجن : 26] . بقولهم : إن هذه الآية نافية لعلم الغيب لغير الله.

وقوله تعالى : ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكَ إِنْ

ص: 552

أتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام : 50] . بقولهم : إن هذه الآية تنقل اعتراف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) انه لا يعلم الغيب .

وقوله تعالى : ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ من وَرَقَة إِلا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْب وَلَا يَابِس إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام : 59] . بقولهم : إن هذه الآية نافية لعلم الغيب لغير الله.

وقوله تعالى : ﴿... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمنوا بالله وَرُسُله وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران : 179] . بقولهم : إن هذه الآية صريحة في ان الله لا يطلع عباده على الغيب.

وقوله تعالى : ﴿قُلْ لا أملك لنَفْسي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188] . بقولهم : إن هذا اعتراف بعدم علم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الغيب .

وقوله تعالى : ﴿... فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْب لله ..﴾ [يونس : 20] . بقولهم : إن هذه تحصر الغيب بالله .

وقوله تعالى : ﴿ وَلَله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾ [هود : 123]. بقولهم : إن هذه تحصر الغيب بالله.

فهذه الآيات هي غاية ما يستدلون به ، وهي آيات لا تفيد في المدعى مطلقا ، وسنأتي إلى تقریب دليلهم والى نقضه.

و تقریب دليليهم : إن هذه الآيات تنفي علم الغيب عن البشر فلهذا لا يجوز القول به لأحد من البشر . وهذا الفهم السطحي للآيات مردود بشكل مبسط . وهو أن العلم المخصوص بالله إنما هو غيبه الخاص الذي لم يخبر ملائكته ورسله ، فهذا لا يمكن معرفته ، فكيف يمكن معرفة ما لم يظهره الله.

وهذا هو مفاد الآيات الشريفة التي يحاولون المغالطة بها .

ص: 553

ومن يراجع السياق والنزول والمعنى يجد أنه لا يمكن أن تدل هذه الآيات على التعميم الذي يدعونه وإنما هي معاني لها خصوصياتها ، كنفي الإطلاع على غيب الله وهذا مسلّم ، أو نفي الاطلاع العام لغيب عن الأنبياء والأولياء وهذا مسلم ، أو نفي اطلاع الله للمشركين على الغيب وهذا لا شائبة عليه ، وهكذا .

وبمقابل هذه النصوص فقد قد اخبر الله رسله وملائكته وعباده الصالحين وأطلعهم على أسرار الكون والنفوس والأفعال . بطريقة فعلية تثبت الواقع المعارض لظاهر تلك النصوص ، التي يدعون ظهورها في تعميم امتناع علم الغيب .

وهل النبي والصالح المقرب إلا عبد من عباده يطلع على ما يطلعه الله ؟

وقد نسوا آيات قرآنية صريحة معارضة لكلية المفهوم من تلك الآيات (لو كان لها إطلاق كما يدعى) بأن الله يطلع عباده على غيبه وأن من أطلعه الله على غيبه لا يبخل بغيبه على عباد الله الصالحين المخصوصين مثل قوله تعالى في وصف حقيقة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْب بضَنين﴾ [التكوير : 24] .(1)

وقد صرّح القرآن الكريم بأن الله يوحي الغيب الى نبيه الكريم : ﴿ذَلكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحيه إلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف : 102] .

﴿تلكَ منْ أَنْبَاء الغَيْبِ نُوحيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْل هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العاقبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود : 49]

ص: 554


1- مع ملاحظة أن ما يرونه عن بعض الصحابة و التابعين عن أن قصد الآية أنه غير متهم في الإخبار بالغيب - كما روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم والضحاك - لا لأنه مبني على قراءة الآية بالضاء لا بالضاد يصح المثبتة في كتاب الله ، وفي هذه الحالة لا يشك احد بأن معناه ليس محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بممنوع أو ممتنع عن الغيب . راجع التبيان للطوسي: 287:10 .. مع ملاحظة إن عدم اتهام النبي بنقل الغيب كما يقولون هو إثبات لتلقيه الغيب أيضا وهذا يبطل دعواهم الاستحالة والممانعة العقائدية من معرفة العبد الغيب.

وقد نفى الله أن يطلع الناس العاديين على الغيب ، ولكنه يجتبي من رسله من يطلعه على غيبه وشرائعه وهدايته : ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَدَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميرَ الْخَبيثَ من الطَّيِّب وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب وَلَكنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُله مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران : 179](1). هذه الآية بلحاظ متعلق المستثنى تثبت إطلاع رسله على الغيب بنحو من الأنحاء .

فليس المشكلة في إمكانية إطلاع الله لبعض عباده على بعض غيبه ، ولكن المشكلة فيمن يدعي استحالة أو منع العبد من إطلاع الله على غيبه !!

فإذا كان الله يستحيل عليه إطلاع العبد على سره فما معنى النبوات والشرائع الغائبة عن الإنسان ؟

إن من يعرض مثل هذه الافكار الساذجة على جهلة المسلمين . ويدعي استحالة علم الغيب ، لا يعرف الدين ، ولا يعرف الإسلام ، القائم بالأساس على إطلاع الله للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على الغيب سواء كان كتشريع أو كان كمعجزات آنية تثبت الصلة غير الطبيعية مع الله ، ومن لا يعرف ذلك فهو لم يتعرف سيرة المسلمين بكل صنوفهم .

وهنا لابد من طرح مسألة في غاية الخطورة وهي أن للغيب عدة معاني ، وكل معنى له حكمه ولا يجوز استخدام اشتراك اللفظ لتكوين حكم موحد على مواضيع متعددة بحجة كونها تحت لفظ واحد .

فالغيب يختلف معانيه :

فمنه ما هو غيب عن الإنسان وهو كل ما غاب عن حسه

ص: 555


1- لابد من التعليق على هذه الآية الشريفة : ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُله مَنْ يَشَاءُ فَآمنوا بالله وَرُسُله وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران : 179] . ومعناها إن الله يخاطب قريش والمشركين بأن الله لا يطلعهم على المغيبات وهم مشركون . ولكنه يصطفي من عباده من يشاء ليمتحن به الناس ويميز الخبيث من الطيب ، ليطلعه على غيبه ورسالته . فلا يصح فهمهم لهذه الآية بأنها تنفي إطلاع الله غيبه لأولياءه بل العكس هو الصحيح.

ومنه ما هو غيب عن جنس البشر ، وهو ما لا وسيلة طبيعية للوصول إليه وإن أمكن بوسائل غير طبيعية .

وهذان النوعان يمكن تحصيل الغيب فيهما . فما كان مجهولا للإنسان يمكن معرفته إذا توفرت وسائل المعرفة فهذا علم بالغيب بواسطة ، وما كان مجهولا عن جنس الإنسان مع القدرة على معرفته ، فهذا أيضا يمكن تحصيله سواء بالآلة أو بالإخبار .

ومن الغيب ما كان على نحو مختصات الله كصفاته وألطافه وأفعاله التي اخبر بها ملائكته ورسله فهي لا تعلم إلا لخاصته ممن اخبرهم فإذا اخبروا عموم البشر حصل العلم بالغيب ، وإذا لم يخبروا بقي غيبا عليهم .

ومنه ما كان مختصا بالله فهذا لا يعلمه احد غير الله .

وبهذا الشكل يمكن معرفة كل ما وقع من كلمة غيب في القرآن .

فانها قد استعملت حتى بمعنى السر مثل : (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة : 94] . أي في السر.

و (ذَلكَ ليَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائنين﴾ [يوسف : 52] . أي في السر بين العبد وربه.

و ﴿.... لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة : الله 94 ] . أي في السر بينه وبين الله.

و ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء : 49] . أ ي بالسر بينهم وبين الله.

و ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيم﴾ [يس: 11 ] . أي بالسر بينه وبين الله.

و ﴿... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافظات للْغَيْب بمَا حَفِظَ الله ...﴾ [النساء : 34] . لعل المعنى هنا حافظات لغيبة ازواجهن ، أو انه لحفظ الناموس في النفي بين العبد وربه .

ص: 556

فهنا الاستعمال واضح أنه يعني السر الإنساني مقابل العلن .

ولكن قد استعمل الغيب بمعنى علم الغيب الذي عند الله :

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة : 3] . فهذا غيب الله وليس ما غاب عن الإنسان كالآيات السابقة ، وهو إما القيامة أو الشريعة من الله .

﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِنْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة : 33] . وهذا غيب الله وليس الإنسان كالسابق ، وهو غيب شامل وقد أطلعهم الله على بعض سره المتعلق بآدم .

﴿ذلكَ منْ أَنْبَاء الغَيْبِ نُوحيه إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران : 44] . وهذا غيب الله يطلعه بالوحي لرسوله الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم).

﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْب وَلَا يَابس إلا في كتاب مُبين﴾ [الأنعام : 59] . وهذا الغيب بمعنى الغيب الخاص بالله بشكل عام ، ولكن مفاتح الغيب عند الله ولا يعلم بها احد.

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾ [الأنعام : 73] . هذا غيب الله بشكل عام .

﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأْنَا اللَّهُ مِنْ اخباركُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّون إلى عَالم الغَيْبِ وَالشَّهَادَة فَيُنَبِّئُكُمْ بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة : 94] . وهذا غيب الله.

﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة : 105] . وهذا غيب الله.

ص: 557

﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاً أَنْزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبَّه فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّه فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظرينَ﴾ [يونس : 20] . وهذا غيب الله .

﴿تلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العاقبة للْمُتَّقِينَ﴾ [هود : 49] . وهذا غيب الله الذي يطلع لنبيه الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم).

﴿ولله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود : 123] . وهذا غيب الله.

﴿ذَلكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف : 102] . وهذا ليس غيب الإنسان وإنما غيب الله.

﴿عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة الْكَبِيرُ الْمُتَعَالي﴾ [الرعد : 9] . وهذا ليس غيب الإنسان وإنما غیب الله.

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ قَديرٌ﴾ [النحل : 77] . وهذا ليس غيب الإنسان وإنما غيب الله.

﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مريم : 61] . وهذا ليس غيب الإنسان وانما غيب الله .

﴿أاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا﴾ [مريم : 78] . وهذا ليس غيب الإنسان وإنما غیب الله.

﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَاوَات وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّان يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65] . وهذا ليس غيب الإنسان وإنما غيب الله.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالم الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مَثْقَالُ ذرة في السَّمَاوَاتِ وَلا في الأرْض وَلا أَصْغَرُ من ذَلكَ وَلا أَكْبَرُ إلا في كتاب مُبين﴾ [سبأ : 3] . وهذا ليس غيب الإنسان وإنما غيب الله .

﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْته إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا حَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ

ص: 558

أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ [سبأ : 14] . وهذا ليس غيب الإنسان وإنما غيب الله .

﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بالْغَيْب منْ مَكَان بَعيد﴾ [سبأ : 53] . وهذا غيب الله .

﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [فاطر : 38] . وهذا غیب الله .

﴿أمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الطور : 41] . وهذا غيب الله.

﴿أعنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ [النجم : 35]. ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ [القلم : 47]. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبه أحَدًا﴾ [الجن : 26] . ﴿إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفَهُ رَصَدًا﴾ [الجن : 27] . ﴿ليَعْلَمَ أَن فَقَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاَت رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن : 28] . ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْب بضنين﴾ [التكوير : 24) ﴿الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْب ويُقيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة : 3]. ﴿ذلك من أنباء الغَيْبِ نُوحيه إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران : 44] . وهذا كله من غيب الله .

بملاحظة هذه النصوص جميعها يتبين إن غيب الله على أنواع فمنه غيب لا يطلع الله عليه احد ، وغيب يطلعه لخاصته فقط ، وغيب يبشر به كافة البشر كأحكامه وما ورد في كتبه من أخبار الغيب كالقيامة وعذاب القبر أو ما اخبر من مما هو في علم الغيب من حوادث كقصة غلبة الروم على الفرس أو إن الأرض يرثها عباد الله الصالحين او قصة الدابة وبعض اشراط الساعة وغير ذلك مما هو من الغيب وقد نشر لعموم البشر عبر انبياءه.

وقد يدعي مدعي إن هذا ليس علم الإنسان بالغيب وإنما هو علم الله اخبر به . وقائل هذا القول لا يفرق بين الناقة والجمل ، فأولا : لا يدعي احد ان علم الغيب بالله بلا واسطة يمكن لغير الله وثانيا ان العلم الإنساني هو حصول المعلوم عنده وهذا هو مدار فهم الإنسان وقد حصل بالفعل بالإخبار فكيف لا يكون علما أو إيمانا بالغيب ، وثالثا إن الله وصف المؤمنين مرارا بأنهم يؤمنون بالغيب،

ص: 559

فكيف يؤمن بدون معرفة ولو إجمالية بمعنى حصول مجمل الشيء ، كحصول يوم القيامة وهو معلوم لكل مؤمن والا فان هذا المؤمن الذي يدعي انه يؤمن بما لا يتعقل ولو اجمالا فهو اقرب للبهائم وهو ليس مدار التكليف ، فقد سلب ما به التكليف بحمد الله ، فأراح واستراح . وكانت صفة الإيمان فيه بالمعنى العام الذي فيه إيمان الشجر والحجر ممن يسبح الله.

ولتكملة الموضع لمن لا يدي كيفية علم أهل البيت (علیهم السّلام) فقد بعث لي سماحة الحجة الشيخ حسن بن عبد الله العجمي العماني حفظه الله وسدد خطاه ، بحثا لطيفا موجزا في علم الأئمة (علیهم السّلام) ضمنه تناقض من ينفي ذلك ، بإثباته لمن يعتقد ، حتى لو كان كذبا ، وهذا من المفارقات العجيبة حيث إن من ينكر حصول العلم اللدني لدى الإنسان بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، يثبت له نفسه هذا العلم اللدني ، سواء بادعائه نفسه ، أو بادعاء أتباعه له ، وهذا من علامات الباطل ومجانبة الحق ، والنظر بنظرة أحادية غير مبالية بالمفارقة الصارخة.

ص: 560

بحث طريف حول علم الأئمة الطاهرين عليهم السلام

«مهدى لي بتفضل سماحة الشيخ حسن بن عبد الله العجمي حفظه الله»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين .

إن الأئمة الإثني عشر الطاهرين ، من أهل البيت (علیهم السّلام)، أعلم الناس – مطلقاً – بمعارف الشريعة الإسلامية الغراء ، وأحكامها وتعاليمها ، وبالقرآن الكريم وتفسير آياته ، وبيانها ، ومعانيها ، - ، وكانوا - أيضاً - على علم وإطلاع على الكثير من الحقائق ، وعلى معرفة بعلوم مختلفة ، كالعلوم السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والصحية ، والتاريخية ، وغيرها . بل إنهم أخبروا ببعض الأمور التي لا سبيل إلى العلم بها ، إلا طريق الغيب ، ولم يذكر لنا التاريخ أن واحداً منهم (علیهم السّلام)، تتلمذ على يد واحد من العلماء ، من سائر الناس ، فعلمهم بكل ذلك علم لدني ، مستمد من خلال طرق عديدة ، وهي :

1 - ما ورثوه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، من علوم ، إما مشافهة ، أو كتابة . حيث تلقى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) الكثير من العلوم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، الذي هو بدوره تلقاها عن الله عزّ وجل ، من طريق الوحي ، فقد روى الحاكم النيسابوري ، في المستدرك على الصحيحين ، بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه : أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : «أنا مدينة العلم ، وعلي بابها ، فمن أراد المدينة ، فليأت الباب».

ص: 561

قال الحاكم النيسابوري : «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»(1) وروى الترمذي ، في جامعه الصحيح ، بسنده عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام): أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : أنا دار الحكمة وعلي بابها»(2).

ومن طرق الشيعة ، روى الشيخ الصدوق (رحمه الله علیه)، بسند صحيح ، عن الإمام الصادق (علیه السّلام): أنه قال : «علم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علياً الله ألف باب ، يفتح كل باب ألف باب»(3).

وفي رواية أخرى ، رواها الصدوق (رحمه الله علیه)، بسند موثق ، عن ذريح المحاربي : أنه قال : «سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام)، يقول : نحن ورثة الأنبياء ، ثم قال : جلل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على علي (علیه السّلام) الله ثوباً ، ثم علّمه ألف كلمة ، كل كلمة يفتح ألف كلمة»(4).

وورث سائر الأئمة الطاهرين ، عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ما ورثه من علم ، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ففي الخبر الصحيح ، الذي رواه العلامة الصفار ، في بصائر الدرجات ، ومن طريقه العلامة الكليني، في الكافي ، عن محمد بن مسلم ، قال : «سمعت أبا جعفر (علیه السّلام)، يقول : نزل جبرئيل على محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، برمانتين من الجنة ، فلقيه علي (علیه السّلام) فقال له : ما هاتان الرمانتان ؟ قال : أما هذه فالنبوة ، ليس لك فيها نصيب ، وأما هذه فالعلم ، ثم فلقها رسول الله له ، فأعطاه نصفها ، وأخذ نصفها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم قال : أنت شريكي فيه ، وأنا شريكك فيه ، قال : فلم يعلم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حرفاً ، إلا علّمه علياً (علیه السّلام)، ثم انتهى ذلك العلم إلينا ، ثم وضع يده على صدره»(5).

وروی محمد بن الحسن الصفار ، في كتابه بصائر الدرجات ، بسند صحيح ، عن الفضيل بن يسار ، عن الإمام الصادق (علیه السّلام): أنه قال : «إنا لو كنا نفتي الناس برأينا ، وهوانا ، لكنّا من الهالكين ،

ص: 562


1- المستدرك على الصحيحين 3 : 137 ، حديث رقم : 4637 .
2- الجامع الصحيح للترمذي (سنن الترمذي) : 5 : 637 ، حديث رقم : 3723 .
3- الخصال : 648 ، ورواه الصفار في بصائر الدرجات : 286 ، بسند صحيح – أيضاً.
4- الخصال : 650 - 651.
5- بصائر الدرجات : 289 ، الكافي : 1 : 163.

ولكنّها آثار رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأصول علم ، نتوارثها كابر عن كابر ، نكتنزها كما يكنز الناس ذهبهم ، وفضتهم»(1).

وروی ، بسند صحيح عن جابر الجعفي ، عن الإمام الباقر (علیه السّلام): أنه قال : «يا جابر ، والله ، لو كنا نحدث الناس ، أو حدثنا برأينا ، لكنا من الهالكين ، ولكنّا نحدثهم بآثار عندنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، يتوارثها كابر عن كابر ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم ، وفضتهم»(2).

وفي رواية أخرى صحيحة ، رواها بسنده ، عن أبي يزيد الأحول ، عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السّلام): أنه قال : «إنا لو كنا نفتي الناس برأينا ، وهوانا ، لكنا من الهالكين ، ولكنها آثار من رسول الله ، [و] أصول علم، نتوارثها كابر عن كابر ، نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم ، وفضتهم»(3).

وفي رواية صحيحة ، رواها ثقة الإسلام العلامة الكليني، في كتابه الكافي ، بسنده ، عن قتيبة قال : «سأل رجل أبا عبد الله (علیه السّلام) عن مسألة فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟! فقال له : مه ، ما أجيبك فيه من شيء ، فهو عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، لسنا من أرأيت في شيء»(4).

وروى الشيخ الصدوق ، بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السّلام)، عن أبيه الباقر (علیه السّلام): أنه قال : «إن الله تعالى علماً خاصاً ، وعلماً عاماً ، فأما العلم الخاص ، فالعلم الذي لم يطلع عليه ملائكته المقربين ، وأنبيائه المرسلين ، وأما علمه العام ، فإنّه علمه ، الذي أطلع عليه ملائكته المقربين ، وأنبياءه المرسلين ، وقد وقع إلينا من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)».(5)

ص: 563


1- بصائر الدرجات : 284 .
2- بصائر الدرجات : 285.
3- بصائر الدرجات : 284 .
4- الكافي : 1 : 58 .
5- التوحيد : 138 .

كما انتقلت إليهم ، مجموعة من الكتب ، والصحف ، والأوعية ، التي تتضمن علوماً مختلفة ، ورثوها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فقد أخرج العلامة الكليني . في الكافي ، والعلامة الصفار في بصائر الدرجات ، كلاهما ، عن أبي بصير ، بسند صحيح : أنه قال : إن الإمام الصادق (علیه السّلام) قال له : «يا أبا محمد ، إن الله عزّ وجل ، لم يعط الأنبياء شيئاً ، إلا وقد أعطاه محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : وقد أعطى محمداً جميع ما أعطى الأنبياء ، ومنها الصحف التي قال الله عزّ وجل : ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى : 19] . قلت : جعلت فداك هي الألواح ؟ قال : نعم»(1).

وروى العلامة الصفار ، في بصائر الدرجات ، وثقة الإسلام العلامة الكليني ، في الكافي ، بسند صحيح ، عن أبي عبيدة الحذاء ، قال : «سأل أبا عبد الله بعض أصحابنا عن الجفر ، فقال : هو جلد ثور ، مملوء علماً ، فقال له : فالجامعة ؟ قال : تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً ، في عرض الأديم ، مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضية ، إلا وهي فيها حتى إرش الخدش . قال : فمصحف فاطمة ؟ فسكت طويلاً ، ثم قال : إنكم لتبحثون عما تريدون ، وعمّا لا تريدون ، إن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خمسة وسبعين يوماً ، وكان دخلها حزن شديد على أبيها ، وكان جبرائيل (علیه السّلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ، ويطيب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها ، وكان علي يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة»(2).

2 - الإلهام، وهو ما يلقى في قلب الإمام ، من علم ، ومعرفة.

3 - تحديث الملائكة.

فهما - الإلهام ، وتحديث الملائكة - أيضاً ، مصدران من مصادر علم الإمام المعصوم (علیه السّلام)، أثبتت ذلك الرّوايات الصحيحة ، الواردة عنهم (علیهم السّلام)، منها :

ص: 564


1- الكافي : 1 : 225 ، بصائر الدرجات : 156 .
2- الكافي : 1 : 241 ، بصائر الدرجات : 174 .

ما رواة العلامة الصفار ، في بصائر الدرجات ، بسند صحيح ، عن الحارث بن المغيرة ، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السّلام): أنه قال : «إن الأرض ، لا تترك بغير عالم . قلت : الذي يعلمه عالمكم ما هو ؟ قال : وراثة من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومن علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، علم يستغني عن الناس ، ولا يستغني الناس عنه . قلت : وحكمة ، يقذف في صدره ، أو ينكت في أذنه ، قال : ذاك ، وذاك»(1).

وما رواه الصفار ، في بصائر الدرجات ، بسند صحيح ، عن الإمام علي بن موسى الرضا (علیه السّلام): أنه قال : «الأئمة ، علماء ، صادقون ، مفهمون ، محدثون»(2).

وما رواه النعماني ، في كتابه الغيبة ، بسند موثق ، عن زرارة بن أعين ، رضي الله عنه ، عن الإمام الباقر (علیه السّلام)، عن آبائه الطاهرين ، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أنه قال : «إن من أهل بيتي إثني عشر محدثاً» . فقال له رجل ، يقال له عبد الله بن زيد، وكان أخا علي بن الحسين عليهما السلام ، من الرضاعة ، سبحان الله ! محدثا ؟ - كالمنكر لذلك - قال : فأقبل عليه أبو جعفر (علیه السّلام)، فقال له : أما والله ، إن ابن أمك كان كذلك - يعني : علي بن الحسين (علیهما السّلام)»(3).

وما رواه الصفار ، في بصائر الدرجات ، بسند صحيح ، عن الحارث بن المغيرة النصري ، قال : «قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): جعلت فداك ، الذي يسأل عنه الإمام ، وليس عنده فيه شيء ، من أين يعلمه ؟ قال : ينكت في القلب نكتاً ، أو ينقر في الأذن نقراً»(4).

وما رواه العلامة الكليني، في الكافي ، بسند صحيح ، عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام): قال : «مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه : ماض ، وغابر ، وحادث . فأما الماضي ، فمفسّر ، وأمّا الغابر ،

ص: 565


1- بصائر الدرجات : 307 .
2- بصائر الدرجات : 302 ، ورواه العلامة الكليني في الكافي : 1 : 271 .
3- الغيبة للنعماني : 66 .
4- بصائر الدرجات : 299 .

فمزبور ، وأما الحادث ، فقذف في القلوب ، ونقر في الأسماع ، وهو أفضل علمنا ، ولا نبي بعد نبينا»(1).

وما رواه الشيخ الكليني، في الكافي ، بسند صحيح ، عن أبي بصير : أنه قال : «سألت أبا عبد الله (علیه السّلام)، عن قول الله تبارك وتعالى : ﴿وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكتابُ وَلا الأيمَانُ﴾ [الشورى : 52] . قال : خلق من خلق الله عز وجل ، أعظم من جبرائيل ، وميكائيل ، كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، يخبره ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعده»(2).

وفي رواية الصفار ، في بصائر الدرجات ، بسنده الصحيح ، عن محمد بن مسلم ، عن الإمام أبي جعفر الباقر (علیه السّلام): «في قول الله عزّ وجل وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً منْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكتَابُ وَلا الأَيْمَانُ» . فقال : خلق من خلق الله ، أعظم من جبرائيل ، وميكائيل ، كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، يخبره ، ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعده»(3).

إزالة وهم :

و توهم بعضهم ، أن هناك تلازماً ، بين النبوة ، وتحديث الملائكة ، بمعنى أن كل من حدث ، من قبل الملائكة ، يلزم أن يكون نبياً ، ولذلك نجده ، يتهم الشيعة ، بالقول : بأنهم لا يعتقدون بختم النبوة ، بنبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لما ورد عندهم من آثار ، تفيد أن الأئمة من أهل البيت (علیهم السّلام)، كانوا على اتصال ببعض الملائكة ، الذين كانوا يحدثونهم ، وينقلون إليهم التوجيهات ، والتسديدات الربانية .

والحق أنه ، لا تلازم بين النبوة ، وتحديث الملائكة ، بالمعنى الذي أشرنا إليه ، فليس كل من حدثته الملائكة ، يلزم أن يكون نبيّاً ، فقد أخبرنا القرآن المجيد ، عن بعض النساء ، اللاتي حدثن

ص: 566


1- الكافي : 1 : 264.
2- الكافي : 1 : 273 .
3- بصائر الدرجات : 419 .

من قبل الملائكة ، وأوحى الله سبحانه وتعالى ، إلى بعضهن ، ولسن بنبيات . فقد أخبر القرآن ، عن أن الملائكة ، حدثت السيدة مريم (عليها السلام)، وأخبرتها باصطفاء الله تعالى لها ، وتطهيرها ، واصطفائها على نساء العالمين ، قال تعالى : ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نسَاء الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران : 42] . ويخبرنا بأن الملائكة حدثتها ، وبشرتها ، بابنها المسيح عيسى (علیه السّلام)، قال تعالى : ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران : 45] ويخبرنا بأن الملائكة ، حدثت زوجة إبراهيم (علیه السّلام)، وبشرتها بأن الله سيرزقها الولد ، قال تعالى : ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشِّرْنَاهَا بِإِسْحَاق وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلهُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبينَ منْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتَ إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ﴾ [هود : 71 - 73] ويخبرنا بأن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى أم موسى (علیه السّلام)، قال تعالى : ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمَّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَالْقِيه في الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إلَيْكَ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص : 7] .

فهذه نماذج من النساء ، حدثنا القرآن الكريم عنهن ، ولم يكن نبيات ، ومع ذلك ، شاهدن الملائكة وحدثنهم ، أو أوحي إلى بعضهن ، بطريق آخر ، غير التحديث ، وهذا مما لا يمكن أن ينكره أحد ، بعد أن أخبر عنه كتاب الله المجيد .

مفارقة غريبة:

وروى البخاري في صحيحه ، بسنده ، عن أبي هريرة ، قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد كان فيما قبلكم من الأمم ، ناس محدثون ، فإن يك في أمتي أحدٌ ، فإنّه عمر ، زاد زكريا بن أبي زائدة ، عن سعد ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبي صلى الله عليه

ص: 567

وسلم : لقد كان فيمن كان قبلكم ، من بني إسرائيل ، رجال يكلمون ، من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أمتي منهم أحد ، فعمر»(1).

وهذه الرواية، تؤيد ما قلناه ، من أنه لا يلزم من تحديث الملائكة ، وتكليمها لشخص ، أن يكون نبياً ، فهي تثبت أن جماعة ، من بني إسرائيل، ليسوا بأنبياء ، ومع ذلك ، كانوا يحدثون، ويكلمون ، من قبل الملائكة.

وذهب البعض ، إلى أن المراد بالتحديث ، والكلام ، في هذه الرواية ، هو الإلهام ، ولكنه بعيد(2)؛ لأن حقيقة التحديث ، والكلام ، غير حقيقة الإلهام ، وذهب شراح البخاري ، كالقسطلاني في إرشاد الساري ، إلى أن الكلام المنسوب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، في ذيل الرواية : «فإن يكن من أمتي منهم ، فعمر» هو إثبات ذلك لعمر ، وليس نفيه عنه ، قال القسطلاني : «وليس قوله : فإن يكن ، للترديد ، بل للتأكيد»(3) فهم يثبتون ما أثبتته الرواية ، من تحديث ، وتكليم ، من قبل الملائكة ، لجماعة من بني إسرائيل ، يثبتونه لعمر بن الخطاب ، ويزعمون أن الملائكة تحدثه ، وعليه ، يكون لازم قول إحسان الهي ظهير الذي شتم الشيعة بالقول بالعلم اللدني وانه نبوة باطلة ، وهو يعتقد بهذه الرواية : أنّ كل من قال : بأن عمر محدثاً ، يكون غير معتقد بختم النبوة ، فهل سيلتزم إحسان الهي ظهير ، أو غيره ، ممن يقولون برأيه ، بذلك ، ويثبتون لكل أصحاب هذا القول ، من أهل السنة عدم اعتقاد ختم النبوة ، بنبوة النبي الأكرم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، أم أن المكيال هنا آخر ؟!

ص: 568


1- صحيح البخاري : 3 : 1349 ، حديث رقم : 3486.
2- أقول ودعوى الإلهام يثبت بطلان كلامهم - أيضا - (بعدم إطلاع على الغيب الخاصة وبامتناع العلم اللدني من الله) .
3- إرشاد الساری : 8: 179.

مفارقات أخرى :

ورووا ، أن الله عزّ وجل ، أرسل ملكاً لرجل ، يخبره بحبّه - سبحانه وتعالى – له ، ففي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : «أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً ، فلما أتى عليه ، قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي ، في هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال : لا تربها ؟ قال : لا ، غير أني أحببته في الله عزّ وجل ، قال : فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك ، كما أحببته فيه»(1).

ورووا ، أن الملائكة ، كانت تسلم على بعض الصحابة ، من ذلك ما أخرجه مسلم ابن الحجاج ، في صحيحه ، عن عمران بن الحصين ، أنه قال : «... وقد كان يسلّم علي ، حتى اکتویت ، فتُركْتُ ، ثم تركت الكي ، فعاد»(2).

قال النووي ، في شرح ، وبيان معنى كلام ابن الحصين : «ومعنى الحديث : إن عمران بن الحصين رضي الله عنه ، كانت به بواسير ، فكان يصبر على المهمات ، وكانت الملائكة ، تسلم عليه ، فاکتوى ، فانقطع سلامهم عليه ، ثم ترك الكي ، فعاد سلامهم عليه»(3).

ورووا ، أن الملائكة ، علمت حذيفة بن اليمان ، دعاءً في تحميد الله ، ففي مسند أحمد ، بسنده ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : بينما أنا أصلي ، إذ سمعت متكلماً ، يقول : اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، بيدك الخير كله ، إليك يرجع الأمر كله ، علانيته ، وسره ، فأهل أن تحمد ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم اغفر لي ، جميع ما

ص: 569


1- صحیح مسلم : 4 : 1988 ، برقم : 2567 ، صحيح ابن حبان : 2 : 331 ، برقم : 572 ، و : 2 : 337 ، برقم : 576 ، مسند أحمد : 2 : 408 ، برقم : 9280 . وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : «إسناده صحیح ، على شرط مسلم» و : 2 : 462 ، برقم : 9959 . وقال الأرنؤوط : «إسناده صحيح» مسند إسحاق بن راهويه : 1 : 114 ، برقم : 27 ، الأدب المفرد : 1 : 128 ، برقم : 350 ، مصنف ابن أبي شيبة : 7 : 64 ، برقم : 34223 .
2- صحیح مسلم : 2 : 899 ، برقم : 1226 .
3- شرح النووي على صحیح مسلم : 8 : 206 .

مضى من ذنبي ، واعصمني فيما بقي من عمري ، وارزقني عملاً زاكياً ، ترضى به عني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذاك ملك ، يعلمك تحميد ربك»(1).

توضیح :

إن القول بختم النبوة ، بنبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، من ضروريات مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، فرواياتهم ، وكتب علمائهم ، المؤلفة في بيان عقيدة المذهب ، أو المؤلفة في خصوص نبوة النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم)، تشهد على أن خاتم الأنبياء ، هو محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلا نبي بعده ، وعلى هذه العقيدة إجماعهم ، واتفاقهم ، وتسالمهم ، ولا يوجد قائل منهم ، لا من عامتهم ، ولا علمائهم ، من يدعي ، أو يزعم عدم ختم النبوة ، بالنبي المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو يدعى نبوة أحد بعده .

خلاصة وبيان واضح :

إن علم الأئمة الطاهرين (علیهم السّلام)، علم لدني ، من الله سبحانه وتعالى ، كعلم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، اكتسبوه من خلال الطرق ، التي أشرنا إليها .

وعليه ، فليس هناك ما يمنع ، أن يطلع الأئمة (علیهم السّلام)، على بعض الأمور الغيبية ، من خلال مصادر علمهم المذكورة ، وعلماء أهل السنة ، يعترفون بأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، قد أخبر بعض الصحابة ، ببعض المغيبات ، وأطلعهم على بعض المخفيات ، فهذا القسطلاني ، في كتابه إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ، عند شرحه لقول أبي هريرة ، الذي رواه البخاري في صحيحه : «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاء ين ، فأما أحدهما ، فبثثته ، وأما الآخر ، فلو بثته لقطع هذا البلعوم» يقول : «... وأراد بالوعاء الأول ، ما حفظه وأراد بالوعاء الأول ، ما حفظه من الأحاديث ، وبالثاني ، ما كتمه من أخبار الفتن ، وأشراط الساعة ، وما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام ، من فساد الدين على يدي

ص: 570


1- مسند أحمد : 5 : 395 ، رواية رقم : 23403 .

أغيلمة ، من سفهاء قريش ، وقد كان أبو هريرة ، يقول : لو شئت أن أسميهم بأسمائهم ، أو المراد ، الأحاديث التي فيها تبيين أمراء الجور ، وأحوالهم وذمهم ، وقد كان أبو هريرة ، يكني عن بعض ذلك ، ولا يصرّح ، خوفاً على نفسه منهم ...»(1).

ورووا ، أن حذيفة بن اليمان ، قال : «والله إني لأعلم الناس بكل فتنة، هي كائنة فيما بيني ، وبين الساعة ...»(2).

وروی مسلم ، وغيره ، عن عمرو بن أخطب ، قال : «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الفجر ، وصعد المنبر ، فخطبنا ، حتى حضرت الظهر ، فنزل ، فصلى ، ثم صعد المنبر ، فخطبنا حتى حضرت العصر ، ثم نزل ، فصلى ، ثم صعد المنبر ، فخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبرنا بما كان ، وبما هو كائن ، فأعلمنا ، أحفظنا»(3).

فإذا كان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، قد أخبر أبا هريرة ، بأسماء بعض أمراء الجور ، الذين يأتون بعده ، وبعض أحوالهم ، وغير ذلك من الأمور ، والفتن ، والأحداث ، التي ستحدث ، في مستقبل الزمان ، مما أطلع عليه ، من قبل الوحي ، وأخبر الصحابة بما كان ، وبما هو كائن ، وكان حذيفة ، يعلم بكل فتنة ، هي كائنة فيما بينه وبين الساعة ، فمن باب أولى ، أنه أطلع علياً (علیه السّلام)، بمثل ذلك ، وأخبره بالكثير من الوقائع ، والأحداث ، والفتن ، والأمور ، التي ستقع ، وتحدث ، فيما يأتي من الزمان ، وبما كان ، وبما يكون إلى يوم القيامة ؛ لكونه (علیه السّلام)، خليفته (صلی الله علیه و آله و سلم)، والإمام على الأمة ، الله والقائم بشؤونها ، وأمورها بعده ، فهو أولى بأن يعلم ، مثل هذه الأمور ؛ لحكم منصبه القيادي هذا ، وانتقل ذلك إلى الأئمة الطاهرين ، من بعده (علیهم السّلام)- أيضاً ؛ لكونهم قادة الأمة ، فكل إمام ،

ص: 571


1- إرشاد الساري : 1 : 317 .
2- صحیح مسلم : 4 : 2216 ، برقم : 2891 ، المستدرك على الصحيحين : 4 : 518 ، برقم : 8454 ، مسند أحمد: 5: 388 ، برقم : 23339 ، مسند الشاميين : 4 : 130 ، برقم : 2917 ، فتح الباري : 6 : 607 ، تاریخ دمشق : ،351 ، و : 12 : 266 ، السنن الواردة في الفتن : 1 : 233 ، الفتن : 1 : 28 برقم 3 ، سير أعلام النبلاء : 2 : 365 ، تهذيب الكمال : 5 : 501 ، الدر المنثور : 7 : 480 .
3- صحيح مسلم : 4 : 2217 ، برقم : 2892 : : ، صحيح ابن حبان : 15 : 9 ، برقم : 6638 .

ينقل هذه العلوم ، إلى اللاحق ، إما مشافهة ، أو عن طريق الكتب ، التي ورثوها من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، إضافة إلى ذلك ، ما يطلع عليه الإمام ، من مخفيات ، وغيبيات من طريق الإلهام ، والتحديث من قبل الملائكة.

بحث روائي وآراء فقهاء العترة :

وقد ثبت في الآثار المروية عنهم (علیهم السّلام)، أنهم أطلعوا على مثل هذه الأمور ، كما وثبت أنهم (علیهم السّلام)، أخبروا ببعض ما يعد أمراً غيبياً ، وإخبارهم بذلك ليس لأنهم يعلمون الغيب ، بالذات ، وإنما لأنهم أطلعوا عليه ، ممن يعلم الغيب بالذات ، وهو الله عز وجل .

قال الشيخ المفيد (رحمه الله علیه): «إن الأئمة من آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ، ويعرفون ما يكون ، قبل كونه ، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ، ولا شرطاً في إمامتهم ، وإنّما أكرمهم الله تعالى ، وأعلمهم إياه ؛ للطف في طاعتهم ، والتمسك بإمامتهم ، وليس ذلك بواجب - عقلاً ، ولكنه وجب لهم ، من جهة السماع ، فأما إطلاق القول عليهم ، بأنهم يعلمون الغيب ، فهو منكر ، بين الفساد ؛ لأن الوصف بذلك ، إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد ، وهذا لا يكون إلا الله عزّ وجل ، وعلى هذا جماعة أهل الإمامة ، إلا من شذ عنهم ، من المفوّضة ، ومن انتمى إليهم ، من الغلاة»(1).

وقال العلامة الطبرسي (رحمه الله علیه)، رداً على من اتهم الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، بأنهم يدعون علم الغيب لأئمتهم : «إنّ هذا القول ، ظلم منه لهؤلاء القوم - يعني الشيعة - ولا نعلم أحداً منهم ، بل أحداً من أهل الإسلام ، يصف أحداً من الناس بعلم الغيب ، ومن وصف مخلوقاً بذلك ، فقد فارق الدين ، والشيعة الإمامية براء من هذا القول ، فمن نسبهم إلى ذلك ، فالله فيما بينه ، وبينهم»(2).

ص: 572


1- أوائل المقالات : 67 .
2- تفسیر مجمع البيان : 3 : 447 .

وقال أيضاً : «ولا نعلم أحداً منهم - يعني الشيعة - استجاز الوصف ، بعلم الغيب ، لأحد من الخلق ، فإنما يستحق الوصف بذلك ، من يعلم جميع المخلوقات، وهذه صفة القديم سبحانه ، العالم لذاته ، لا يشركه فيها أحد من المخلوقين ، ومن اعتقد أن غير الله سبحانه ، يشركه في هذه الصفة ، خارج على ملة الإسلام»(1).

وقال العلامة المجلسي (رحمه الله علیه): «اعلم أن الغلو في النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، والأئمة (علیهم السّلام)، إنما يكون بالقول بإلوهيتهم ، أو بكونهم شركاء الله تعالى، في المعبودية ، أو في الخلق ، والرّزق ، أو أن الله تعالى ، حل فيهم ، أو اتّحد بهم ، أو أنهم يعلمون الغيب ، بغير وحي ، أو إلهام من الله تعالى ، أو بالقول بأن معرفتهم ، تغني عن جميع الطاعات ، ولا تكليف معها بترك المعاصي ، والقول بكل منها ، إلحاد ، وكفر ، وخروج عن الدين ، كما دلّت عليه الأدلة العقلية ، والآيات والأخبار»(2).

وقال الشيخ محمد تقي فلسفي (رحمه الله علیه): «إن علم الغيب ، في هذا العالم بأسره ، يختص به وحده ، وإن أي موجود آخر ، أرضياً كان ، أو سماوياً ، بشراً كان ، أو من غير البشر ، لا علم له بالغيب ، ولا يمكنه الدخول في هذا المجال المقدس ، بصورة مستقلة ، من تلقاء ذاته».

وقال : «ولكن هناك بعض الأشخاص ، يحظون - إلى حد ما - بمعرفة بعض الأمور الغيبية ، وذلك وفقاً لما تسمح به مشيئة الله سبحانه وتعالى ، وإرادته ، وهذا ما نصت عليه ، بعض آيات القرآن الكريم : ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران : 179] ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول﴾ [الجن : 26 - 27] . إذن ، فالطريقة الأولى ، للإطلاع على غيب العالم ، هي : أن يأذن الله سبحانه بذلك . فهناك أشخاص مقربون من الله ، وأوليائه المنتجبين الكرام ، تحدثوا خلال فترة

ص: 573


1- تفسیر مجمع البيان : 5: 353 .
2- بحار الأنوار : 25 : 346 .

وجودهم ، في هذه الدنيا ، عن الأمور الغيبية ، وهذا كان بإذن الله سبحانه وتعالى ، واستناداً إلى الإلهام الرباني»(1).

وقال الشيخ محمد جواد مغنية : «إنّ كلمة الغيب ، لا تدل على معناها فحسب ، بل تدل - أيضاً - ، على أن الغيب الله وحده ، وبالإضافة إلى هذه الدلالة ، فإن أقرب الناس إلى ربّه ، يعلن للأجيال ، بأنه أمام الغيب بشر ، لا فرق بينه وبين غيره من الناس ، ثم لا يكتفي بهذا الإعلان ، بل يستدل على ذلك ، بالحس ، والوجدان ، وهو أنه لو علم الغيب ، لعرف عواقب الأمور»(2). وقال : «فلا يكون إخبار الرسول به - بالأمور الغيبية - علماً بالغيب ، بل نقلاً عمّن يعلم الغيب ، والفرق بعيد ، بين مصدر العلم ، وبين النقل عن مصدره ، لأن الأول أصل ، والثاني فرع»(3).

وقال السيد محمد جواد فضل الله : «والواقع ، الذي لا جدال فيه ، أن علم الغيب ، من حيث كونه صفة ذاتية ، مما يختص به سبحانه وتعالى ، الذي هو عالم الغيب ، والشهادة ، دون أن يشاركه فيه ، أي موجود ، مهما كانت منزلته ، ومهما كان مقامه ، ومعنى علم الغيب - هنا - هو انكشاف واقع الأشياء ذاتاً ، دون الحاجة إلى الاستعانة بأي شيء آخر ، لتحقيق ذلك الانكشاف ، ولا يمكن نسبة علم الغيب ، بهذا المعنى ، للأئمة فإنه الغلو ، بل هو الشرك بعينه . أما علم الغيب ، بمعنى انكشاف الواقع ، في بعض الحالات، للنبي ، أو الإمام ، بمعونة من الله ، لاقتضاء بعض الضرورات الرسالية ، أو لإظهار تميز النبي ، أو الإمام ، عن غيره من البشر ، الذي ربما يكون في بعض الحالات ، ضرورة رسالية ملحة ، فلا نرى أي محالية ، في نسبته للأئمة ، بل هو أمر ممكن عقلاً ، قابلية ، ووقوعاً ، فإذا ثبت إمكانه العقلي ، ثبت إمكانه الوقوعي – بالضرورة . ويظهر من هذا ، أن الإتهام الظالم ، الذي ألصقه بعض كتبة التاريخ - من القدماء والمحدثين – بالشيعة ، من

ص: 574


1- المعاد بين الرّوح والجسد : 1 : 273 - 274 .
2- الكاشف : 3 : 431 - 432 .
3- الكاشف : 3: 433 .

أنهم يعتقدون في أئمتهم علم الغيب ، هو من الصفات المختصة بالله سبحانه وتعالى ، لا يعدو كونه تجن مفتعل ، وتجاوز على الحقيقة»(1).

وقال السيد أمير محمد الكاظمي : «ليس في الشيعة ، من يقول بأن الأئمة (علیهم السّلام)، يعلمون علم الغيب ، من عند أنفسهم ، ومن ينسب ذلك إليهم ، فهو مفتر عليهم ؛ لأن علم الغيب ، مخصوص بالله وحده ، وإنما يقولون : إنّهم ينبئون عن بعض المغيبات ، بتعليم الله لهم ، وليس في هذا شيء من الغلو ، وإلا كان ما قصه الله تعالى ، عن نبيه عيسى (علیه السّلام)، بقوله : ﴿وَأَنبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدخرُونَ في بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران : 49] غلواً باطلاً ، وهو كفر صراح»(2).

وقال العلامة الطباطبائي (رحمه الله علیه): «وأما قوله : ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلا اللهُ﴾ [النمل : 65] فلا يدل إلا على اختصاص علم الغيب بالذات ، به تعالی ، کسائر آیات اختصاص الغيب به ، ولا ينفي على الغير به ، بتعليم منه تعالى ، كما يشير إليه قوله : ﴿عَالمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول﴾ [الجن : 26 - 27] . وقد حكى الله سبحانه ، نحواً من هذه الأخبار ، عن المسيح (علیه السّلام)، إذ قال : ﴿وَأَنبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ [آل عمران : 49] . ومن المعلوم ، أن القائل : إن النبي (علیه السّلام)، كان يخبر الناس بما يكون ، في نحو لا ينفي كون ذلك ، بتعليم من الله له . وقد تواترت الأخبار على تفرقها . وتنوعها ، من طرق الفريقين، على إخباره (صلی الله علیه و آله و سلم)، بكثير من الحوادث المستقبلية»(3).

قال الشيخ غلام رضا كاردان : «تعتقد الشيعة الإمامية ، بأن الله عز وجل وحده ، يعلم الغيب ، والشهادة ، ولا أحد غيره ، يعلم - ذاتاً - بشيء ، وإنما علم كل عالم ، وجميع الكمالات الأخرى ، وأصحابها مملوكة لله عزّ وجل ، ولكن قد يُعلم الله عزّ وجل ، بعض الأشخاص من علمه ، بحسب المصلحة ، كما يقول القرآن المجيد : ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لیطلعکم عَلَى الْغَيْبِ وَلَكنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ

ص: 575


1- الإمام الصادق خصائصه ومميزاته : 75 - 76 .
2- محاورة عقائدية : 32 .
3- تفسير الميزان : 15: 393 .

رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران : 179] . أو كما في قوله : ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * ارْتَضَى مِنْ رَسُول﴾ [الجن : 26 - 27] . فالمستفاد من الآيتين : أن الله عزّ وجل ، قد يصطفي أحداً من أنبيائه ، فيطلعه على الغيب»(1).

وما يظهر من الرّوايات ، أنهم (علیهم السّلام) يعلمون الغيب ، فهو ناظر ليس إلى علم الغيب الذاتي ، وإنما إلى العلم بالغيب بإطلاع لهم ، ممن يعلم الغيب بالذات، وهو الله سبحانه ، أو بإخبار لهم ، ممن أطلع على الغيب ، من عالم الغيب بالذات . ومن كل ما أوردناه ، يظهر جواب ما ورد في مضمون بعض الروايات ، من أنهم (علیهم السّلام) أخبروا ببعض المخفيات ، والمغيبات .

ولقد نفى الأئمة (علیهم السّلام)، عن أنفسهم ، علمهم الذاتي ، والاستقلالي بالغيب ، وأثبتوا علمهم ببعضه ، بتعليم من الله عزّ وجل لهم ، ففي الرواية الصحيحة ، التي رواها الصفار ، في بصائر الدرجات ، بسنده ، عن ضريس ، قال : «كنت مع أبي بصير عند أبي جعفر (علیه السّلام) فقال له أبو بصير : بما يعلم عالمكم جعلت فداك ؟ قال : يا أبا محمد ، إن عالمنا لا يعلم الغيب ، ولو وكل الله عالمنا إلى نفسه ، كان كبعضكم ، ولكن يحدث إليه ساعة ، بعد ساعة»(2).

وفي الرّواية الصحيحة ، التي رواها الكشي ، في رجاله ، قال : «حمدويه ، قال : حدثنا يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير، عن المغيرة ، قال : كنت عند أبي الحسن (علیه السّلام)، أنا ، ويحيى بن عبد الله بن الحسن ، فقال يحيى : جعلت فداك ، إنهم يزعمون(3) أنك تعلم الغيب ، فقال : سبحان الله، سبحان الله ، ضع يدك على رأسي ، فو الله ما بقيت شعرة في جسدي ، ولا في رأسي ، إلا قامت ، قال : ثم قال : لا والله، ما هي إلا رواية عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)»(4).

ص: 576


1- الرّد على شبهات الوهابية : 15 - 16 .
2- بصائر الدرجات : 345.
3- الذين زعموا ، للأئمة (علیهم السّلام)، العلم الذاتي بالغيب هم الغلاة ، وقد تبرأ الأئمة (علیهم السّلام)، منهم والشيعة تبعاً لأئمتهم ، تبرؤوا من هؤلاء الغلاة ، وأقوالهم ، وعقائدهم ، وحكموا بكفرهم ، ومروقهم من الدين .
4- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): 2 : 587.

وفي رواية أخرى صحيحة ، رواها الكشي ، عن «حمدويه ، قال : حدثنا يعقوب ، عن ابن أبي عمير ، عن شعيب ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): إنهم يقولون : تعلم قطر المطر، وعدد النجوم ، وورق الشجر ، ووزن ما في البحر ، وعدد التراب ، فرفع يده إلى السماء ، وقال : سبحان الله ، سبحان الله ، لا والله ، ما يعلم هذا إلا الله»(1).

توضيح في حكم القول بالتحديث والإلهام عند المسلمين :

ثم إن قول الشيعة : إن أئمتهم محدثون ، أو ملهمون ، لا يعد غلواً في الأئمة (علیهم السّلام)، فقد مرّ عليك ، أن أهل السنة ، أثبتوا التحديث ، أو الإلهام لعمر بن الخطاب ، كما رووا ، أنه علم بوضع جيش المسلمين ، الذي أرسله بقيادة سارية ، والجيش بعيد عنه آلاف الأميال ، وهو في المدينة ، في المسجد ، يخطب على المنبر ، فأصدر توجيهاته لقائد جيشه من مكانه !! يقول أبو الفداء ، عبد الرقيب بن علي الإبي : «وقال عبد الله بن أحمد ، في زوائده على الفضائل (355) : حدثنا أبو : عمرو الحارث بن مسكين المصري ، ثنا ابن وهب ، عن يحيى ابن أيوب ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر بن عمر : أن عمر بن الخطاب ، بعث جيشاً ، وأمر عليهم رجلاً ، يدعى سارية ، قال : فبينا عمر يخطب الناس يوماً ، قال : فجعل يصيح وهو على المنبر : يا ساري الجبل ، يا ساري الجبل ، فقدم رسول الجيش ، فسأله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لقينا عدونا ، فهزمنا فإذا بصايح ، يصيح : يا ساري الجبل ، يا ساري الجبل ، فأسندنا ظهورنا بالجبل ، فهزمهم الله ، فقيل لعمر – يعني ابن الخطاب - إنك كنت تصيح بذلك . قال ابن عجلان : وحدثني إياس بن معاوية بن قرة ، بمثل ذلك . هذا أثر ، إسناده حسن ، رواه الآجري في الشريعة : 3 : 97 ، وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية : 7 : 131 ، وقال : هذا إسناد جيد حسن ، وعزاه الحافظ في الإصابة : 2 : 3 إلى البيهقي في الدلائل ، واللالكائي في شرح السنة : 9 : 127 ، والزين عاقولي في فوائده ، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء ، وحرملة في جمعه لحديث ابن وهب ، وقال : وهو إسناد حسن» .

ص: 577


1- اختيار معرفة الرجال : 2 : 588 .

ثم ذكر تحسين الشيخ محمد الألباني للرواية ، في تعليقه على أحاديث المشكاة ، وأنه رد في سلسلته الصحيحة ، على من أنكرها ، كما ذكر - أيضاً - تحسين ابن حجر لإسنادها(1).

فهذه الرواية - كما هو واضح من تحسين العديد من علماء أهل السنة لها – أنها رواية معتبرة عندهم ، وعليه نسأل ، ونقول : كيف علم عمر بن الخطاب ، بوضع الجيش ، الأمر الذي دعاه إلى أن يصيح ، وهو على منبر المسجد : يا ساري الجبل ، يا ساري الجبل ، منبهاً قائد جيشه ، ومرشداً له ، لتجنيبه الهزيمة ، وتمكينه من النصر على الأعداء ؟! فلا يخلو الأمر - إن صح - من طريقين لهذا العلم ، ولا ثالث لهما(2) وهما الإلهام ، والتحديث ، فإن زعموا أن علمه بذلك ، كان عن طريق الإلهام، فنقول لهم : لقد ثبت عند الشيعة الأدلة الصحيحة ، والصريحة أن أئمتهم الإثني عشر من أهل البيت (علیهم السّلام) ملهمون ، فيكون ما ورد في الروايات من إخبارهم (علیهم السّلام) ببعض المغيبات ، قد يكون من هذا الطريق ، وإن كان هذا الزعم ، من أهل السنة ، لا يعد غلواً في عمر ، فكذلك - أيضاً - قول الشيعة في أئمتهم ، لا يعد غلواً فيهم (علیهم السّلام).

وإن ادعوا أن علمه - عمر - بذلك ، كان عن طريق التحديث ؛ لأنه ثبت عنهم أن عمر محدث ، فنقول لهم : لقد ثبت عند الشيعة - أيضاً - بالأدلة الصحيحة ، أن أئمتهم (علیهم السّلام) محدثون ، فيكون بعض ما ورد في رواياتهم ، من إخبارهم (علیهم السّلام)، ببعض المغيبات من هذا الطريق ، فإن كان ادعاؤهم التحديث لعمر ، لا يعد غلواً في عمر فكذلك قول الشيعة ، لا يعد غلواً في الأئمة (علیهم السّلام).

ورووا : «أن عمر بن الخطاب ، قال لرجل ما اسمك ؟ فقال جمرة ، فقال ابن من ؟ فقال ابن شهاب ، قال ممن ؟ قال من الحرقة ، قال أين مسكنك ؟ قال بحرة النار ؟ قال بأيها ؟ قال

ص: 578


1- كرامات الأولياء للإبي : 68 - 69.
2- لأن علم الغيب الذاتي ، من مختصات الله عز وجل ، فلا عالم بالغيب بالذات ، إلا هو سبحانه ، فلا عمر ، ولا غيره ، يملك هذا النوع من العلم بالغيب ، فينحصر العلم بذلك ، من خلال الطريقين المذكورين فقط.

بذات لظى ، قال عمر : أدرك أهلك ، فقد احترقوا ، قال : فكان كما قال عمر بن الخطاب» !(1). وتعليقنا على هذه الرواية ، هو نفس تعليقنا على الرواية السابقة.

فإن ما ينفيه الوهابية وغيرهم من المتعصبة بلا علم ، عن أئمتنا ، من إطلاعهم على بعض الغيبيات ، ويتهمون الشيعة لروايتهم لذلك ، أو قولهم به بالغلو في الأئمة ، وما شاكل ذلك من اتهامات، يثبتونه لعلمائهم ، ويعتبرونه نوعاً من الفراسة !

واليهم هذه الشذرات الجميلة مما كتبته أقلامهم ، بما يسرهم من نسبة الكفر والقول بالنبوة وغير ذلك إلى من يقول بالعلم اللدني والإطلاع على الغيب ، من أجل أن يروا الجزء الآخر من الحقيقة المغيبة :

ص: 579


1- موطأ مالك : 2 : 973 ، عون المعبود : 10 : 296 ، تاريخ دمشق : 44 : 281 ، أخبار المدينة : 400 ، مصنف عبد الرزاق : 11 : 43 ، رواية رقم : 19864 ، كنز العمال : 12 : 290 ، رواية رقم : 35982 ، الإصابة في تمييز الصحابة : 1 : 539 : ترجمة جمرة بن شهاب ، الصواعق المحرقة : 1 : 249 ، زاد المعاد : 2 : 338 ، تاریخ الخلفاء : 126 .

غلو ابن تيمية في نفسه

وغلو مقلديه المتعصبين له فيه

وادعاء أنه اطلع على اللوح المحفوظ وبواطن النفوس

والعياذ بالله تعالى

من يقرأ إنتاج ابن تيمية من كتب ومقالات وأخبار عنه (عليها السلام) يجد فيها خليط عجيب من الجهل والتناقض والدعوى والكذب والتكذيب للصادقين والادعاء على الله ورسوله والصالحين وقلة الدين والتكفير للمسلمين والتلذذ بقتلهم وغير ذلك من البوائق التي تجعله في صف مخالف لأهل الإيمان واليقين الذين كرمهم الله بكرامته ، وهو ينكر اشد النكير على القائلين بكرامة أهل البيت وعلمهم اللدني ، ولكن نراه ينسب لنفسه العلم اللدني وإطلاعه على الغيب واللوح المحفوظ ومعرفة خبايا النفوس (وكل ما قرأه لأهل البيت (علیهم السّلام) واستنكره وكذبه نسبه لنفسه) ونسب له ذلك أيضا أتباعه من المغالين فيه ، ونُسب له - كل ما يرده من قصص - مما لا يمكن التأكد من صحتها ، لكون الرواة من المغالين فيه ، وممن لا دين لهم حتى يؤتمنوا بنقل ، ولكن بعض النقل معلوم الكذب يقينا . مثل ادعاءه ان المغول الذين هجموا على دمشق ليسوا بمسلمين وإن أهل الشام مسلمون ، بينما المغول قد اسلموا قبل اربعين سنة تقريبا من حادثة المعركة المزعومة ولم يهجموا على الشام وهم كفار باعترافه في رسائله بأنهم يؤدون الصلاة والصيام، وهذا يكشف عن كذب القصة بكاملها ، والقصص الآتية تحتوي على أكاذيب أخرى لسنا بصددها ، ولكن مما يجب التنبه إليه : غلو ابن تيمية في نفسه ، وغلو أتباعه فيه ، حتى وصل الأمر به ، وبأتباعه ، أن يقولوا : بأنه مطلع على اللوح المحفوظ ، وأنه يطلع على البواطن ، وما في النفوس ، ويبصر ته ، ببصيرته ، تنزل الأمر بين طبقات السماء والأرض ! وهذه خصائص تفوق خصائص الأنبياء ! وهو مما أنكره على أئمة اهل البيت (علیهم السّلام) و على الصالحين من عباد الله الذين يسميهم الصوفية لشو صورة الصلحاء فيخلط بين الناس .

ص: 580

إخباره بالمغيبات وإطلاعه على اللوح المحفوظ

ومن ذلك ، قول ابن قيم الجوزية ، تلميذ ابن تيمية الوفي، في : «مدارج السالكين : 2 : 489» وهو يتحدث عن فراسة أستاذه ابن تيمية الحراني : ما نصه :

«ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ، ابن تيمية (رحمه الله علیه)، أموراً عجيبة ، وما لم أشاهده منها ، أعظم ، وأعظم ، ووقائع فراسته ، تستدعي سفراً ضخماً . أخبر أصحابه بدخول التتار الشام ، سنة تسع وتسعين وستمائة ، وأن جيوش المسلمين تُكسر ، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ، ولا عام ، وأن كلب الجيش ، وحدته في الأموال ، وهذا ، قبل أن يهم التتار بالحركة(1) ثم أخبر الناس ، والأمراء ، سنة اثنتين وسبعمائة ، لما تحرك التتار ، وقصدوا الشام ، أن الدائرة ، والهزيمة عليهم ، وأن الظفر ، والنصر للمسلمين ، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يميناً ؛ فيقال له : قل إن شاء الله ! فيقول : إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً ، وسمعته يقول ذلك ، قال : فلما أكثروا على ، قلت : لا تكثروا ، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة ، وأن النصر لجيوش الإسلام(2) قال : وأطعمت بعض الأمراء ، والعسكر حلاوة النصر ، قبل خروجهم إلى لقاء العدو ، وكانت فراسته الجزئية ، في خلال هاتين الواقعتين ، مثل المطر».(3)

ص: 581


1- أي أنه يعلم الأمور قبل حصولها بزمن ! نسأل الله تعالى السلامة !!
2- هذه الجملة ، التي تحتها خط ، قام ابن كثير بحذفها ، من هذه القصة ؛ لشناعتها ! ويبقى هذا التصرف خيانة في النقل ، يقبلونها من أجل الترقيع لأمر خطير في نظرهم .
3- وكلام ابن القيم هذا ، صريح ، في أن ابن تيمية ، أخبر ببعض الأمور ، التي لا سبيل إلى الإطلاع عليها ، إلا من خلال الإطلاع على الغيب ، مثل إخباره بما في الضمائر ، وأنه قد جزم بوقوع بعض الأمور ، التي أخبر عندها ، جزماً ، باتاً ، فعندما قيل له : قل : إن شاء الله ، قال : «إن شاء الله تحقيقاً ، لا تعليقاً» ! فتأمل يرحمك الله برحمته الواسعة . كما يظهر من كلام ابن القيم ، أن ابن تيمية ، له إطلاع على ما في اللوح المحفوظ ، أو بعضه ، وهذا ظاهر من قوله : «لا تكثروا ، كتب الله تعالى ، في اللوح المحفوظ، أنهم مهزومون ، في هذه الكرة ، وأن النصر لجيوش الإسلام» ! وهذا الذي يزعم ابن القيم ، حصوله لشيخه ابن تيمية، بعيد كل البعد عن الفراسة . واذا كان النص لجيوش الإسلام فلابد أن المقابل كافر ، ولكن ابن تيمية نفسه يقر بان المغول في زمنه يصلون ويصومون ويجاهدون في الثغور !!! فكيف سيفسرون هذا الكذب المكشوف؟ انظر ما قاله في مجموع الفتاوى ج : 22 ص : 51 (فإن التتار يتكلمون بالشهادتين ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين) ويؤكد هذا بقوله : (مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وان كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فان الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) مجموع الفتاوى : 11: 33 . وقال في نفس الصفحة مبينا سبب تكفيره التتار ووجوب قتالهم بتكراره في ثلاث فتاوى في كتابه بعد صفحة 509 من الجزء 28 من كتابه مجموع الفتاوى ما يصف فيه المغول وسبب اتهامهم بقوله : (وقد اظهروا الرفض ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين وذكروا عليا وأظهروا الدعوة للاثنى عشر الذين تزعم الرافضة أنهم أئمة معصومون) . فهم إذن متشيعة في اعتقاده ، ولهذا ينسب لهم الكفر كذبا ، وينسب لهم الفجور وكل قبيح ، وقد استدل بأنهم رغم إقامتهم الشهادة ، إلا أنهم فسقة لا يعملون ببعض الشرائع ، واستدل بفقه أبي بكر بقتل من يمنع الزكاة ، مع إن كل الفقهاء اجمعوا على تخطئة أبي بكر ، وانه لا يوجد صحابي واحد وافق أبا بكر في عمله ، حتى عمر وعثمان وعلي ، فلم يجيزوا الحرب على الفاسق وإباحة دمه وماله ، ولكن ابن تيمية قال إن دم المخالف له وماله وعرضه مباح بدليل إباحة دم من يخالف أبا بكر في زمنه . وهو بهذا الحكم كان كالأعور ، فقد نسي فسق وفجور امراء المسلمين الذين يعتز بهم مع انه نفسه يعترف ان سبب هجوم المغول على المسلمين هو فساد الحكام من اتباع مذهبه وانانيتهم في اشارة واضحة لما فعله محمد خوارزم شاه وقواده بالرسل المغول الطالبين الصداقة من قتل وسلب ونهب وفجور ، فلك أن تعجب وأنت تطالع قول بن تيمية في : السياسة الشرعية ج : 1 ص : 80 (.... وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير او كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه ويحمونه وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم ولا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناوئهم فيرون في تسليم المتسجير بهم إلى من يناوئهم ذلا أو عجزا وهذا على الإطلاق جاهلية محضة وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر انه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذلك سبب دخول الترك المغول دار الإسلام واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا ... ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى من كان يريد العزة فلله العزة جميعا وقال الله تعالى عن المنافقين يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل والله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام.) أقول : إذا كان يعرف إن سبب غزو المغول هو الحمية الجاهلية عند حكام الحواضر لما وراء النهر فلماذا يلوم الشيعة على ما لا دخل لهم به من الغزو المغولي ، يمكن للقارئ الكريم أن يراجع كتاب : (الشيعة هم الذين ردوا الغزو المغولي..) لسماحة الفاضل الشيخ علي الكوراني ، فهذه المعلومات التي كتبها ابن تيمية بيده تثبت كذب ادعاءه نفسه ، وأن المغول في زمنه لم يكونوا كفارا ، وإنما هم على خلاف مذهبه ، فمن كان هذا كذبه المفضوح وبخط يديه ، فكيف تكون له كرامات إلهية كما يدعي ؟؟ إلا ان تكون من قبيل السحر وأعمال المنجمين ، وينسبها الله ، وهذا النوع من التنجيم - أي نسبة العلوم الغريبة الى الله وكرامته - هو المعروف عنه حكم الكفر في الساحر وقد نص الفقهاء بأن أي ساحر ينسب سحره وألعابه السحرية إلى الله فهو كافر ، أو إن القصص كلها أكاذيب لا صحة لها . ولكن ما يهمنا هو العَوَر الفكري ، حيث يقبلون هذه الإطلالة على اللوح المحفوظ ممن يشهد على نفسه بالكذب ، بينما لا يقبلون ممن ينص رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) انه مدينة علم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وانه موطن تنزل ليلة القدر بالخبر من السماء وهو علي بن ابي طالب بطل الاسلام وناصره الأول فيدعي ان جميع ما ينسب اليه من كرامات باطلة ومكذوبة اختلقها الشيعة حتى لو كانت في صحاح أهل السنة . فمثل علي بن أبي طالب وابنيه سيدي شباب أهل الجنة عندهم لا يستحقون الكرامة من الله ، بعكس من يكذب علنا ، ويدعي كفر قوم يشهد بأنهم مسلمون يشهدون الشهادتين . وعلى العاقل أن يقارن .

ص: 582

فابن تيمية بهذا قد اطلع على اللوح المحفوظ ، والله تعالى يقول : ﴿أاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَن عَهْداً﴾ [مريم : 78] . والله تعالى يقول: ﴿فَلاَ يُظْهرُ عَلَى غَيْبه أحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى

ص: 583

من رَّسُول﴾ [الجن : 26 - 27] . فهل نسي استدلاله على بطلان من يقول بمعرفة البشر للغيب حتى للرسول ؟ .

ابن تيمية يعلم متى يموت ويعلم انه يحبس

وقال ابن القيم :

«ولما طلب إلى الديار المصرية ، وأريد قتله ، بعد ما أنضجت له القدور ، وقلبت له الأمور ، اجتمع أصحابه ، لوداعه ، وقالوا : قد تواترت الكتب ، بأن القوم عاملون على قتلك ، فقال : والله ، لا يصلون إلى ذلك أبداً ، قالوا : أفتحبس ؟ قال : نعم ، ويطول حبسي ، ثم أخرج ، وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس ، سمعته يقول ذلك ... » .

وقال ابن القيم :

«ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك ، أخبروه بذلك ، وقالوا : الآن بلغ مراده منك ، فسجد الله شكراً ، وأطال ، فقيل له : ما سبب هذه السجدة ؟ فقال هذا بداية ذله ، ومفارقة عزه ، من الآن ، وقرب زوال أمره ، فقيل له : متى هذا ؟ قال لا تربط خيول الجند على القرط ، حتى تغلب دولته ، فوقع الأمر ، مثل ما أخبر به ، سمعت ذلك منه...».

«وقال مرة : يدخل علي أصحابي ، وغيرهم ، فأرى في وجوههم ، وأعينهم ، أموراً ، لا أذكرها لهم ، فقلت له : أو غيري ، لو أخبرتهم ؟ فقال : أتريدون أن أكون معرفاً ، كمعرف الولاة ؟ وقلت له يوماً : لو عاملتنا بذلك ، لكان أدعى إلى الاستقامة ، والصلاح ، فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة ، أو قال : شهراً.»

إخباره عما في الضمائر ومعرفة سر المخلوق

وقال ابن القيم ، في الصفحة التالية ، بعد ذلك :

«وأخبرنى غير مَرَّة ، بأمور باطنة ، تختص بي ، مما عزمت عليه ، ولم ينطق به لساني ، وأخبرني ببعض حوادث كبار ، تجري في المستقبل ، ولم يعين أوقاتها ، وقد رأيت

ص: 584

بعضها ، وأنا أنتظر بقيتها ، وما شاهده كبار أصحابه ، من ذلك أضعاف ، أضعاف ، ما شاهدته ، والله أعلم».

لو قال هذا الكلام - اليوم - أحد ، أو نقله عن بعض العلماء السابقين ، في بعض الأولياء ، أو بعض الصوفية ، أو بعض أئمة آل البيت (علیهم السّلام)، لرفع الوهابية عقيرتهم ، في إنكار ذلك ، وادعوا بأن هذا من خرافات ، وشركيات ، وبدع الدجالين !!

غلو أتباع ابن تيمية فيه

فهم يحسبون أنه يرى تنزل الأمر بين طبقات السماء والأرض وهو من خصائص ليلة القدر ، وأنه أفضل من تحت السماء وهذا يشمل الأنبياء كما لا يخفى :

وقال تلميذه ، ابن شيخ الحزامين الحنبلي ، في رسالة كتبها ، خاطب فيها تلاميذ ابن تيمية(1): «أصبحتم إخواني ، تحت سنجق رسول الله ، إن شاء الله تعالى ، مع شيخكم ، وإمامكم ، وشيخنا وإمامنا المبدوء بذكره رضي الله عنه ، قد تميزتم عن جميع أهل الأرض ، فقهائها ، وفقرائها ، وصوفيتها ، وعوامها ، بالدين الصحيح . وقد عرفتم ما أحدث الناس ، من الأحداث فأنتم اليوم ، في مقابلة الجهمية من الفقهاء ، نصرتم الله ورسوله ، في حفظ ما أضاعوه من دين الله ، تصلحون ما أفسدوه ، من تعطيل صفات الله ... فشيخكم ، أيدكم الله تعالى ، عارف بذلك ، عارف بأحكام الله الشرعية ، عارف بأحكامه القدرية(2) عارف بأحكام أسمائه ، وصفاته الذاتية ، ومثل هذا العارف قد يبصر ببصيرته ، تنزل الأمر بين طبقات السماء والأرض ... فوالله ، ثم

ص: 585


1- أوردها ابن عبد الهادي في كتابه : العقود الدرية : 1 : 318 . وكذا أوردها زهير الشاويش ، في التعليق على (الرد الوافر) : 131 . [طبع المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة 1411ه_] إلا أن زهيراً ، حذف منها بعض الكلمات !! وعزاها للعقود الدرية : 291 ، وهذا اشتباه .
2- يعني : أنه عارف ، وعالم بالقدر ، وبما سيحصل من الأمور !!

والله ، ثم والله ، لم ير تحت أديم السماء ، مثل شيخكم علماً ، وعملاً ، وحالاً ، وخلقاً ، واتباعاً ، وكرماً ، وحلماً في حق نفسه ، وقياماً في حق الله ، عند انتهاك حرماته...».

ومنه تعلم ، كيف يغلو به هؤلاء ! ويصفونه بأنه يبصر تنزل أمر الله ، ما بين السماء والأرض !!

ابن تيمية يعلم بخفايا القلوب التي هي من علم الغيب

ويقول الحافظ عمر بن علي البزار في كتابه : «الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية» في الفصل التاسع ، تحت عنوان : «في ذكر بعض كراماته وفراسته» : «أخبرني غير واحد من الثقات ، ببعض ما شاهده من كراماته ، وأنا أذكر بعضها على سبيل الإختصار ، وأبدأ من ذلك ببعض ما شاهدته . فمنها اثنين ، جرى بيني ، وبين بعض الفضلاء ، منازعة في عدة مسائل ، وطال كلامنا فيها ، وجعلنا نقطع الكلام في كل مسألة ، بأن نرجع إلى الشيخ ، وما يرجحه من القول فيها ، ثم أن الشيخ رضي الله عنه ، حضر ، فلما هممنا بسؤاله عن ذلك ، سبقنا هو ، وشرع يذكر لنا مسألة ، مسألة كما كنا فيه ، وجعل يذكر غالب ما أوردناه ، في كل مسألة ، ويذكر أقوال العلماء ، ثم يرجح منها ، ما يرجحه الدليل ، حتى أتى على آخر ما أردنا أن نسأله عنه ، وبين لنا ، ما قصدنا أن نستعلمه منه ، فبقيت أنا ، وصاحبي ، ومن حضرنا أولا ، مبهوتين متعجبين مما كاشفنا به ، وأظهره الله عليه ، مما كان في خواطرنا . وكنت في خلال الأيام ، التي صحبته فيها ، إذا بحث مسألة ، يحضر لي إيراد ، فما یستتم خاطري به ، حتى يشرع ، فيورده ، ويذكر الجواب ، من عدة وجوه .

ابن تيمية يكشف عن حال اتباعه الفقراء

فيساعدهم قبل أن يعرفوه

وحدثني الشيخ الصالح المقريء أحمد بن الحريمي ، أنه سافر إلى دمشق ، قال : فاتفق أني لما قدمتها ، لم يكن معي شيء من النفقة البتة ، وأنا لا أعرف أحداً من أهلها ، فجعلت أمشي في زقاق منها كالحائر ، فإذا بشيخ ، قد أقبل نحوي مسرعاً ، فسلم ، وهش في وجهي ، ووضع في يدي صرة ، فيها دراهم صالحة ، وقال لي أنفق هذه الآن ، وخلي خاطرك مما أنت فيه ، فإن الله لا يضيعك ، ثم رد على أثره ، كأنه ما جاء إلا من أجلي ، فدعوت له ، وفرحت بذلك ، وقلت لبعض

ص: 586

من رأيته من الناس : من هذا الشيخ ؟ فقال وكأنك لا تعرفه ، هذا ابن تيمية ، لي مدة طويلة ، لم أره اجتاز بهذا الدرب . وكان جل قصدي ، من سفري إلى دمشق ، لقاءه ، فتحققت أن الله أظهره علي ، وعلى حالي ، فما احتجت بعدها إلى أحد ، مدة إقامتي بدمشق ، بل فتح الله علي ، من حيث لا احتسب ، واستدللت فيما بعد عليه ، وقصدت زيارته والسلام عليه ، فكان يكرمني ، ويسألني عن حالي ، فأحمد الله تعالى إليه.

وحدثني الشيخ العالم المقريء تقي الدين عبد الله ابن الشيخ الصالح المقريء احمد بن سعيد ، قال : سافرت إلى مصر ، حين كان الشيخ مقيماً بها ، فاتفق أني قدمتها ليلاً ، وأنا مثقل مريض ، فأنزلت في بعض الأمكنة ، فلم ألبث أن سمعت من ينادي باسمي ، وكنيتي ، فأجبته ، وأنا ضعيف ، فدخل إلى جماعة من أصحاب الشيخ ، ممن كنت قد اجتم.ت ببعضهم في دمشق ، فقلت كيف عرفتم بقدومي ، وأنا قدمت هذه الساعة ، فذكروا : أن الشيخ أخبرنا بأنك قدمت ، وأنت مريض ، وأمرنا أن نسرع بنقلك ، وما رأينا أحداً جاء ، ولا أخبرنا بشيء ، فعلمت أن ذلك من کرامات الشيخ رضي الله عنه وحدثني - أيضاً - قال : مرضت بدمشق ، إذ كنت فيها ، مرضة شديدة ، منعتني حتى من الجلوس ، فلم أشعر إلا والشيخ عند رأسي ، وأنا مثقل مشتد بالحمى ، والمرض ، فدعا لي ، وقال جاءت العافية ، فما هو إلا أن فارقني ، وجاءت العافية ، وشفيت من وقتي» .

وقال : «وحدثني - أيضاً - قال : أخبرني الشيخ ابن عماد الدين المقريء المطرز ، قال : قدمت على الشيخ ، ومعي حينئذ نفقة ، فسلمت عليه ، فرد علي ، ورحب بي ، وأدناني ، ولم يسألني : هل معك نفقة أم لا ، فلما كان بعد أيام ، ونفدت نفقتي ، أردت أن أخرج من مجلسه ، بعد أن صليت مع الناس وراءه ، فمنعني وأجلسني دونهم ، فلما خلا المجلس ، دفع إلي جملة دراهم ، وقال : أنت الآن بغير نفقة ، فارتفق بهذه ، فعجبت من ذلك ، وعلمت أن الله كشفه على حالي أولاً ، لما كان معي نفقة ، وآخراً لما نفدت ، واحتجت إلى نفقة .

ص: 587

ابن تيمية يكشف عن المستقبل

وحدثني من لا أتهمه ، أن الشيخ رضي الله عنه ، حين نزل المغ-ل بالشام ؛ لأخذ دمشق ، وغيرها ، رجف أهلها ، وخافوا خوفاً شديداً ، وجاء إليه جماعة منهم ، وسألوه الدعاء للمسلمين ، فتوجه إلى الله ، ثم قال : أبشروا ، فإن الله يأتيكم بالنصر ، في اليوم الفلاني ، بعد ثالثة حتى ترون الرؤوس معبأة ، بعضها فوق بعض . قال الذي حدثني : فوالذي نفسي بيده ، أو كما حلف ، ما مضى إلا ثلاث مثل قوله ، حتى رأينا رؤوسهم ، كما قال الشيخ ، على ظاهر دمشق ، معبأة بعضها فوق بعض .

وحدثني الشيخ الصالح الورع عثمان بن أحمد بن عيسى النساج ، أن الشيخ رضي الله عنه ،كان يعود المرضى بالبيمارستان بدمشق ، في كل أسبوع ، فجاء على عادته ، فعادهم ، فوصل إلى شاب منهم ، فدعا له فشفي سريعاً ، وجاء إلى الشيخ يقصد السلام عليه ، فلما رآه ، هش له ، وأدناه ، ثم دفع إليه نفقة ، وقال : قد شفاك الله ، فعاهد الله ، أن تعجل الرجوع إلى بلدك ، أيجوز أن تترك زوجتك ، وبناتك أربعاً ، ضيعة ، وتقيم هاهنا ؟ فقبل يده ، وقال : يا سيدي ، أنا تائب إلى الله على يدك ، وقال الفتى : وعجبت مما كاشفني به ، وكنت قد تركتهم بلا نفقة ، ولم يكن قد عرف بحالي أحد من أهل دمشق .

وحدثني من أثق به ، أن الشيخ رضي الله عنه ، أخبر عن بعض القضاة ، أنه قد مضى متوجهاً إلى مصر المحروسة ؛ ليقلد القضاء ، وأنه سمعه يقول : حال ما أصل إلى البلد قاضياً ، أحكم بقتل فلان ، رجل معين ، من فضلاء أهل العلم ، والدين ، قد أجمع الناس على علمه ، وزهده ، وورعه ، ولكن حصل في قلب القاضي منه من الشحناء ، والعداوة ، ما صوب له الحكم بقتله ، فعظم ذلك على من سمعه ، خوفاً من وقوع ما عزم عليه من القتل ، لمثل هذا الرجل الصالح ، وحذرا على القاضي ، أن يوقعه الهوى ، والشيطان في ذلك ، فيلقى الله متلبساً بدم حرام ، وفتك بمسلم معصوم الدم ، بيقين ، وكرهوا وقوع مثل ذلك ، لما فيه من عظيم المفاسد ، فأبلغ الشيخ رضي الله عنه هذا الخبر بصفته ، فقال : إن الله لا يمكنه مما قصد ، ولا يصل إلى مصر حياً ، فبقى بين القاضى ، وبين

ص: 588

مصر قدر يسير ، وأدركه الموت ، فمات قبل وصولها ، كما أجرى الله تعالى ، على لسان الشيخ رضي الله عنه» .

انتهى البحث المُهدى من قبل سماحة العلامة الشيخ حسن بن عبد الله العجمي العماني حفظه الله تعالى .

ص: 589

ص: 590

ص: 591

ملحق

في رحاب كتاب الشافي للسيد المرتضى

جانب معالجة العلاقة بين الغيبة واللطف

ص: 592

لقد ناقش السيد المرتضى رحمه الله القاضي عبد الجبار المعتزلي في موضوع الإمامة وكان اغلب مناقشة القاضي عبد الجبار في الجزء الأول تدور حول قوله ببطلان دليل اللطف لغيبة الإمام ، لأنه ربط بين اللطف وبين وجوب المباشرة ، فهو يرى إن الغيبة تعطل اللطف ، واللطف لا يمكن تعطيله بشيء ، فالغيبة دليل على عدم صحة دليل الإمامة باعتبار أن دليل الإمامة متوقف على اللطف . وهذا ملخص ما يريده القاضي عبد الجبار .

والسيد المرتضى رحمه الله بيّن أن أدلة القاضي كلها تسير خارج الفكرة المطروحة ، وقد بين ذلك بشكل وافي، في كتابه الشافي في الإمامة ، وقد عرض السيد المرتضى توضيحات وردود وأدلة ، متنوعة ومتداخلة بحجم كبير جدا ، وبلغة اختصاصية ، ليست باليسيرة على ذهن القاريء العادي . وقد قام علماء شيعة بارزون بتلخيصه تارة وبشرح التلخيص تارة أخرى .

والحقيقة أن ما كتبه السيد المرتضى ينبغي الوقوف عليه لأسباب مهمة منها : بيان أن شبهة العلاقة بین اللطف والمباشرة هي شبة قديمة لها أكثر من ألف ومائة عام ، ولم يكن لها قوة محرجة كما يتخيلها الواهمون ، ومن يقرأ الشافي يجد إن القضية كانت مدار بحوث مطولة ومعمقة بين العلماء ، ولم تكن وليدة وقتها ، وإنما هي أفكار موروثة لعدة أجيال قبل السيد المرتضى ، فقد تعرّض لنفس الشبهات قبله الشيخ المفيد وقبله علماء آخرون ردوا على احد أئمة الزيدية المعتزلة ، الذين ذهبوا نفس مذهب القاضي عبد الجبار ، نافين العلاقة بين اللطف والمباشرة وعدم معقوليتها أصلا .

ومن الأسباب لدراسة كتاب الشافى هو بيان جواب الشيعة من ذلك الوقت ، وان لا صلة حقيقية بين اللطف وبين المباشرة .

ومنها : أن ادعاءات القوم قديما وحديثا واحدة وهي ببناء واحد ، تعتمد تخيل صورة خاطئة عن مقولة الشيعة ، والبناء على الصورة الخاطئة التي تخيلوها ، وتبدأ المناقشات عليها ، بينما لا

ص: 593

يقول الشيعة أصلا بما يناقشون . ويبدو أنه عبارة عن صورة مشوهة ينتقدونها ويحاولون تحطيمها ليس لها علاقة أو معرفة بالتشيع .

وما اخترته من نصوص مقتطعة تعرض اعتراضات المعتزلة وهي توضح بصورة جلية تخلي هذا المعتزلي الكبير عن مبانية بل مباني العقل الإنساني من اجل أن ينكر فقط ، وهذا ديدن المتمذهبة المدعين للعقلانية ، ونعم ما فعل الشريف السيد المرتضى بكشف لوازم كلامه من هدم الدين والميول للشيوع وترك الأديان والضوابط الإنسانية والاجتماعية بخيالات غريبة لا تصدق من عاقل.

ص: 594

مقاطع من الجزء الأول من كتاب الشافي

اعتراض القاضي عبد الجبار يبدأ بقول السيد المرتضى (أما قوله) غالبا ، والجواب غالبا يكون مدمجا ، وسوف أحاول فصل الجواب بكلمة الجواب.

فأما قوله : «إن كون الإمام مع الجهل به غير معتبر لأنه بمنزلة غيره عند المكلف [فإذا كانت الحال هذه] فلا بد من العلم بالإمام».

فإن الجواب : أن الواجب على الله تعالى أن يوجب العلم به ، ويمكن منه ، فإن فرط المكلف بالعلم به لم يكن معذورا وإن أخرج نفسه من الانتفاع به ، والتمكن من لقائه بأمر يتمكن من إزالته لم يكن أيضا معذورا ، ولا سقطت الحجة عنه.(1)

قوله : «إن ذلك يؤدي إلى أن يعذر كل من لم يعرف إمامه لأنه لم يزح علته» .

الجواب : وإنما كان يصح كلامه لو كان : كل من لا يعرف الإمام لا يتمكن من معرفته ولا سبيل له إلى الانتفاع به ، فأما والأمر بخلاف ذلك فلا إشكال في لزوم الحجة له بتفريطه . وهذا كما يقوله جماعتنا في المعرفة : إن حصولها هو اللطف ، ولا عذر لمن لم تحصل له إذا فرط في التوصل إليها من حيث كان متمكنا من تحصيلها . فأما إلزامه إيجاب أئمة عدة بحسب حاجة المكلفين فغير لازم لو فطن لموضع عمدتنا ، لأن الذي يقتضيه العقل والاعتبار الذي ذكرناه اللطف بوجود الرئاسة لا عددا مخصوصا فيها ، ولا رئاسة مخصوصة ، وإنما يرجع في صفات الرؤساء وأعدادهم إلى أدلة أخر ، فليس يمتنع قيام الدليل على أن الإمام يجب أن يكون واحدا في العالم ،

ص: 595


1- الشافي : 44 .

ويكون أمراؤه وخلفاؤه في الأطراف - إذا كان من ورائهم – يغنون عن وجود جماعة من الأئمة ، وكل ذلك غير قادح في أن الرئاسة لطف على ما ذهبنا إليه.(1)

فأما قوله : «لأنهم إذا قالوا : إن الإمام واحد ففي الحال التي تظهر إمامته لا يخلو من أن يقف كل العالم عليه ، أو بعضهم ، ووقوف الجميع غير ممكن ، فيجب أن تكون العلة غير مزاحة ، إلى آخر كلامه...».

الجواب : فأول ما نقول في ذلك : إنا لا نوجب إمامة واحد في الزمان بالدليل الذي دلنا على وجوب الرئاسة في الجملة ، وإنما المرجع في ذلك إلى أمور أخر إنا لا نوجب إمامة واحد في الزمان بالدليل الذي دلنا على وجوب الرئاسة في الجملة ، وإنما المرجع في ذلك إلى أمور أخر .

وقد يجوز أن تختلف المصلحة فيه ، فيكون تارة إماما واحدا ، وتارة جماعة ، فإن أراد بما يسأل عنه من حال ظهور إمامته ، ولزوم الحجة لها ابتداء الإمامة ، وأول الأئمة ففي ذلك الحال إذا لم يتمكن الجميع من العلم بحال الإمام الظاهر في أحد المواضع قد يجوز عندنا بل يجب إقامة أئمة عدة لتكون علة الجميع مزاحة . فأما أن يسأل عن الأحوال التي تلي الابتداء من حيث لم يمكن من هو في أطراف البلاد العلم بحال الإمام وظهوره عند حصول النص عليه ونصبه إماما فعندنا أن هؤلاء - وإن لم يتمكنوا من العلم بما ذكر في الحال - فهم عالمون بإمامة الإمام الذي هو قبل ذلك الإمام الظاهر ، ومتصرفون من قبل أمرائه وولاته ، وبحسب تدبيرهم ، وهذا كاف لهم

في مصلحتهم ، وليس يتصل بهم فقد الإمام وموته إلا مع اتصال غيره وظهوره ، وقيامه بهم مقامه ، فليس يخلو في حال من الأحوال من المعرفة بالإمام ، وإنما كان في كلامه شبهة لو أمكن أن يتصل بهم فقد الإمام ، ويعروا من اعتقاد إمامته من غير أن يتصل بهم قيام الإمام الآخر مقامه ، فأما والأمر على ما ذكرناه فالقدح بمثل ذلك ساقط . فأما تعلقه بالفترة بين الرسل فبعيد لأن المعلوم من حال الفترة هو خلو الزمان من النبي لا من الإمام ، فمن أين «أن الفترة إذا ثبتت في الرسل وجبت

ص: 596


1- الشافي : 45 .

في الأئمة» ؟ وهذا يلزم من جعل النبوة في كل حال واجبة دون ما اعتبرناه . فأما حكايته عنا ما نذهب به من كون الإمام لطفا ، وقوله : «إن جعلتموه لطفا على وجه يعم أمكنكم هذا القول ، وإلا فيجب أن تجوزوا في ذلك خلو بعض الأزمنة منه ، أو بعض المكلفين».(1)

ثم قوله من بعد ذلك : «لم نقل إن هذه المعرفة لطف إلا بدليل ، فبينوا أن مثله من الأدلة قائم [فيما ذكرتم] ليتم ما ذكرتم ...».

الجواب : فالإمامة عندنا لطف في الدين ، والذي يدل على ذلك أنا وجدنا أن الناس متى خلوا من الرؤساء ومن يفزعون إليه في تدبيرهم وسياستهم اضطربت أحوالهم ، وتكدرت عيشتهم ، وفشا فيهم فعل القبيح . وظهر منهم الظلم والبغي ، وأنهم متى كان لهم رئيس أو رؤساء يرجعون إليهم في أمورهم كانوا إلى الصلاح أقرب ، ومن الفساد أبعد ، وهذا أمر يعم كل قبيل وبلدة وكل زمان وحال ، فقد ثبت أن وجود الرؤساء لطف بحسب ما نذهب إليه .

فأما تعلقه اللطف في المعرفة وإيجابه علينا إلحاق الإمامة بها في ذلك فبعيد ، لأن بعموم المعرفة لم تعم كل تكليف ، ومكلف من حيث كانت لطفا ، بل من حيث اختصت بما أوجب ذلك فيها.(2)

ص: 597


1- الشافي : 46 .
2- أقول : يقصد الشريف هنا عدم انحصار اللطف بالبيان وإنما هو مكون من جزأين (السلطان والبيان) والسلطان ضرورة للطف كما المعرفة ، ولو كان مكونا من البيان فقط لصح كلام القاضي الذي يدعي أن اللطف منحصر به ، فهذا ملخص جواب الشريف قدس الله نفسه ، و أقول : بل حتى لو انحصر البيان به فلا يصح كلام القاضي عبد الجبار وذلك أن القاضي يدعي أن اللطف المقصود عند المعتزلة يشمل البيان بأدلة ثانوية ولهذا لا يصح اعتبار اللطف دليلا أوليا على وجوب الإمامة ، بقوله «لم نقل إن هذه المعرفة لطف إلا بدليل ، فبينوا أن مثله من الأدلة قائم [فيما ذكرتم] ليتم ما ذكرتم ...» وهذا خطأ لكون البيان يتعلق بموضوع الحجة مع الله في التكليف وهو أولى فيها وهنا جوهر الطاعة فلا طاعة وتقريب من النجاة الأخروية إلا بالبيان ، وكذلك هو شريك أساسي في النجاة الدنيوية فلا لطف بدون اجتماع (البيان والسلطان) فالمعرفة بالشريعة وبيانها هي الأساس المتين لصلاح الأمة إذ إن سلطة الفاجر لا ينتظم فيها أمر الناس إلا بمقدار ما يريده الفاجر ، فقد لا يهتم الفاجر بالسلب والنهب وهتك الأعراض والأموال ، وكل ما يريده هو سلامة سلطانه ، فيؤدي إلى فساد الأمة رغم وجود انتظام ظاهر ، وهذا هو حال الأمة الإسلامية في اغلب عهودها ، وهذا محسوس ملموس ضرورة في كل من عرفناهم من سلاطين ورؤساء في العالم الإسلامي ، لأنهم لا يريدون المعرفة ويكرهونها ، فضلا عن المعرفة الحقة بالشريعة الصادقة ، وهو أهم أسباب تأخر الأمة الإسلامية ، وليس أدل من حكم الأئمة اليمن أكثر من ألف سنة ، معتقدين انهم يطبقون الشرع الشريف وليس كسلاطين بني عثمان الذين يعرفون انهم لا يحكمون بشرع الإسلام إلا شكليا وانتقائيا ، ولكن أئمة اليمن كانوا يحكمون بحكم شرعية تامة في نظرهم وشريعة مقننة ولكنها بلا علم الهي حقيقي وهم يعترفون بذلك ، وهذا هو البيان لحكم الله الواقعي الذي يطلب ، فقد وجدنا بلادهم اكثر بلدان العالم تأخرا بشكل يدعو للعجب الشديد ، ولو قايسنا إنتاجهم مع إنتاج الأمم الكافرة لوصلنا إلى نتيجة خطيرة وهي سقوط الإسلام وارتفاع نظم الكفر في الحكم ، ونتحداهم أن يثبتوا خلاف هذه النظرة من الواقع ، فالواقع وحكم العقل يؤيدان اعتبار البيان جزءا حقيقيا من اللطف ، وهو والسلطان يكملان بعضهما ، فلا لطف في النجاة الدنيوية بسلطان بلا بيان ولا لطف ببيان بلا سلطان ، بخلاف النجاة الدينية فيكفي فيها البيان ، فكيف يدعي القاضى ما يدعيه؟

وليس بممتنع في الألطاف أن يختلف بعضها ، فيكون بعضها عاما من كل وجه ، وبعضها خاصا من كل وجه ، وبعض آخر عاما من وجه وخاصا من وجه آخر . فمثال ما هو عام من كل وجه المعرفة ، فإنها تعم كل مكلف وتكليف أمكن أن تكون لطفا فيه ، ويعم أيضا الأحوال . فأما ما يعم من وجه ويخص من آخر كالصلاة لأنها تجب على كل مكلف غير معذور بحصول منع أو ما يجري مجراه ، وليس يمكن القطع على عموم كونها لطفا في كل تكليف ، بل لا يمتنع أن تكون خاصة في التكليف ، وإن كانت عامة في المكلفين ، فأما الأحوال فمما لا شبهة في أنها ليست بعامة لها لوجودنا أحوالا لا يجب فيها فعل الصلاة بل لا يحسن ، فأما الأحوال التي لا يجب فيها فهي الأحوال التي لم توقت للصلاة الواجبة . وأما التي لا يحسن فيها فهي التي نهى الله عز وجل عن الصلاة مع حضورها .

فأما ما هو خاص من كل وجه فكخلق الولد لزيد ، أو تثمير مال عمرو ، فإنه لا يمتنع أن يكون لطفا في بعض تكاليفه ، بل في واحد منها ، وكذلك لا يمتنع أن يكون له لطفا دون غيره من

ص: 598

الناس ، وكذلك أيضا في الأحوال حتى يكون لطفا في حال ولا يكون لطفا في أخرى ، فإذا ثبتت هذه الجملة فما المانع من أن يكون وجود الإمام لطفا لكل مكلف كان على صفته من يجوز فيه فعل القبيح وفي كل حال وإن جوزنا اختصاصه ببعض التكاليف دون بعض ، فليس يجب إذا سوينا بينه وبين المعرفة لما ألزمنا الخصوم أن يكون مختصا بمكلف دون آخر ، وبحال دون حال ، وكان قصدنا بذلك إلحاقه بالمعرفة في شمول من اختص بالصفة التي ذكرناها من المكلفين وعموم الأحوال أن يلزمنا التسوية بينه وبين المعرفة في كل وجه . على أنا لم يظهر لنا القطع على كون الإمام لطفا في كل الأفعال والتكاليف لظهوره فيما يتعلق بأفعال الجوارح لأنه لا يمتنع أيضا أن يكون لطفا فيما يختص القلوب من الاعتقادات والقصود ، لأن المعلوم من حال الناس أن صلاح سرائرهم كالتابع لصلاح ظواهرهم، واستقامة أمورهم . وحسن طريقتهم فيما يقع من أفعالهم الظاهرة من أبر الدواعي إلى استقامة ضمائرهم أيضا ، وعلى هذا يمكن أن يكون الإمام لطفا في الكل . وإنما تكلفنا ما تقدم من الكلام حيث كان هذا الوجه كأنه غير مقطوع عليه ، ومما يمكن أن يعترض التجويز فيه بخلاف ما قررناه.(1)

فأما قوله : «ولا فرق بين من قال : الإمامة لطف وبين من قال مثله في الإمارة ، وسائر من يقوم بشئ من أمور الدين، وبين من يقول ذلك في إمام واحد ، وبين من يقول في إمامين أو أئمة ...» .

الجواب : فقد تقدم من كلامنا ما يفسده ، وبينا أن العقول دالة على وجوب الرئاسة في الجملة ، وليست دالة على عدد الرؤساء ولا صفاتهم . والإمارة وما جرى مجراها من أمر الولايات رئاسة في الدين ، ومكان اللطف بها والانتفاع ظاهر ، وإنما لم نجعل إمام الكل ورئيس الجميع بصفة الأمراء لعلل أخر سنذكرها إن شاء الله تعالى ، وإنما كان يلزم كلامه لو كنا نجعل الدليل على وجوب الإمامة بصفاتها التي تختص بها ما قدمناه من وجوب الرئاسة فيقال : «إن العقول لا تفرق فيما أوجبتموه بين رئاسة الإمام والأمير ورئاسة واحد وجماعة».

ص: 599


1- الشافي : 47 - 49 .

فأما إذا عولنا في وجوب الرئاسة في الجملة على ما ذكرناه ، وفي صفات الرئيس وعدد الرؤساء على غيره لم يلزمنا كلامه .

فأما تكراره القول «بأن معرفة الإمام لا تمكن جميع المكلفين إذا كان واحدا».

فقد بينا ما فيه ، وفصلنا الكلام تفصيلا يزيل الشبهة.(1)

فأما قوله : «فقد كان يجب على هذا القول أن يتمكن كل مكلف من معرفة الأمور من قبله ، ومتى قالوا لنا : يجب ذلك في حال دون حال ، قيل لهم : فجوزوه في قوم دون قوم» .

إلى قوله - : «وقد كان يجب على هذا التعليل أن نعرف إمام زماننا ، وإلا فيجب أن نكون معذورين» .

الجواب : فقد تقدم شئ من الكلام على معناه ، وجملته : أن معرفة الإمام ومعرفة فة ما يؤديه وإن لم يحصلا لكل أحد فإن الجميع متمكنون من حصول المعرفة له ، واستماع الأدلة منه ، لأنهم قادرون على إزالة خوفه فيمكن عند ذلك من الظهور ، والدلالة على نفسه . وبيان ما يلزمه بیانه ، فارتفاع المعرفة به ، وبما يؤديه إذا كان يرجع إلينا ، وكنا متمكنين من إزالته لم يجب ما ظنه من ثبوت عذر من لم يعرف إمام زمانه .

فأما قوله : «إن خبرهم – أعني خبر الأئمة – أغني عن مشاهدة الإمام ، فخبر الرسول والتواتر بأن يغني عن الإمام أولى ...».

الجواب : فقدمنا ما يفصل به بين الأمرين ، وبينا الفرق بين لزوم الحجة بالأخبار التي يكون الإمام من ورائها ، وحاضرا لها ، ومتمكنا من استدراك ما يقع فيها من الغلط وبين الأخبار التي لا إمام من ورائها ، ولا معصوم يرجع إليه عند وقوع الغلط فيها ، وهذا فرق واضح في استغنائها عن مشاهدة الإمام بالخبر عنه إذا كان موجودا وعدم استغنائنا عن الرسول بالأخبار بعد وفاته إذا لم يكن في الزمان إمام يتلافى ما يقع من الغلط فيها .

فأما قوله : «فإن قالوا : إنا لا نقول : إن الإمام مصلحة من حيث ظننتم لكن لما نعلمه من أن

ص: 600


1- الشافي : 50 .

اجتماع الكلمة على رئيس واحد مطاع أقرب إلى التآلف على الخير والطاعة ، والعدول عن الظلم والفساد ، إلى آخر السؤال)...»(1)

ثم قوله : «قيل لهم : لكن الوجه الذي له قلنا : إنها لطف - يعني المعرفة - يختص كل مكلف ، وكل فعل من أفعاله ، إذ لا أحد من العقلاء إلا وهو عالم أن خوف المضرة صارف ، ورجاء المنفعة داع ، إلى آخر كلامه ...» .

الجواب : فقد بينا فيما مضى اختلاف الألطاف في عمومها وخصوصها وأنه لا يجب حمل بعضها على بعض ، وبينا غرضنا في تشبيه الإمامة بالمعرفة ، والوجه الذي من أجله جمعنا بينهما ، وأنه لا يلزمنا عليه التسوية بينهما من كل وجه ، وأن ذلك وإن تعذر لم يقدح في كون الإمامة لطفا من الوجه الذي ذكرناه .

فأما قوله : «لا أحد من العقلاء إلا وهو عالم أن خوف المضرة صارف ورجاء المنفعة داع» .

الجواب : فكذلك ، لا أحد من العقلاء إلا وهو عالم بأن وجود الرؤساء وانبساط أيديهم مقلل لوقوع الظلم والفساد ، والبغي والعدوان ، أو رافع لذلك ، فإن حمل نفسه حامل لنصرة مذهب له فاسد على أن يدفع ما ذكرناه في الرئاسة ، وما يعلمه العقلاء من وجود الصلاح بها لم يجد فرقا بينه وبين من حمل نفسه أيضا على مثل ذلك فيما ذكر من خوف المضرة وكونه صارفا ، ورجاء المنفعة وكونه داعيا.(2)

فأما قوله : ( ويبين ذلك أن المعرفة أو جبنا كونها مصلحة للكل فليز مهم في الإمام أن يكون من مصالحه إمام ثان ، ومتى جوزوا استغناءه عن إمام لزم ذلك في غيره ...».

الجواب : فبعيد عن الصواب لأن الوجه الذي من أجله أوجبنا كون الإمام لطفا لا يتعدى إلى الإمام ، لأنه إنما يكون لطفا لمن لا يؤمن منه فعل القبيح دون من كان ذلك مأمونا منه . فكيف

ص: 601


1- الشافي : 50 - 52 .
2- الشافي : 52 - 53 .

يلزمنا القول بحاجة الإمام إلى إمام مع عصمته وكماله ، وأماننا من وقوع شئ من القبيح منه قياسا على حاجة الرعية التي لا يؤمن منها كل ما ذكرناه ؟

ولو قيل أيضا : إن الإمام إنما ارتفعت حاجته إلى إمام من حيث لم يصح فيه أن يكون تابعا مأموما ، وذلك لأن الدليل قد دل على أن الإمام لا بد من أن يكون معصوما كاملا وافرا غير مفتقر في شئ من ضروب العلم والفضل إلى غيره ، وإذا كان ذلك ثابتا فلو كان له إمام لم يكن بد من أن يكون مقتديا به في بعض الأفعال ، ومستفيدا منه بعض العلوم . ومحتاجا إليه في تكميل أمر لم يحصل عليه ، لأنه لا يجوز أن يكون إمام لا يفتقر إليه في شئ من هذه الخلال . وإذا كانت صفات الإمام التي قدمناها تحيل حاجته إلى غيره في شئ مما عددناه . والرجوع إليه في قليل منه وكثير استحال أن يكون للإمام إمام من هذا الوجه ، وجرى ما ذكرناه هاهنا مجرى قولهم : «إن المعرفة لطف في كل تكليف سوى التكاليف التي تقدمها ، مثل تكليف النظر في طريقها وما جرى مجراه» ولما خرجت المعرفة من أن تكون لطفا في بعض التكليف من حيث لم يصح أن يكون لطفا فيه وقام غيرها مقامها في اللطف ولم يلزم على ذلك أن لا يكون لطفا فيما يصح أن يكون لطفا فيه لم يمتنع أيضا أن يكون الإمام لطفا لكل مكلف صح فيه معنى الاقتداء والائتمام لغيره وإن لم يكن لطفا لمن لا يصح ذلك فيه من الأئمة والأنبياء بل قام لهم غير الإمامة في اللطف مقامها لكان وجها قويا معتمدا .(1)

فأما قوله : «ويلزمهم على علتهم أن الله تعالى لو كلف مكلفا واحدا لاستغنى عن إمام ، لأن الإلفة والفرقة إنما يصحان في الجماعة ...» .

الجواب : فطريف [كلامه] لأن الذي حكاه عنا من الاستدلال لم نقتصر فيه على ذكر الفرقة عند عدم الإمام فقط ، بل قد ذكرنا أيضا وقوع الظلم والفساد ، وفعل الخير والطاعات . فهب

ص: 602


1- الشافي : 53 - 54 .

أن الألفة والفرقة إنما تصحان في الجماعة ولا تصحان في الواحد أما يصح في الواحد فعل الطاعة وتجنب المعصية ؟ فهذا سهو من صاحب الكتاب!(1)

فأما قوله : «لأن في العقلاء من إذا ترك واختياره ، ولم يحصل تابعا لغيره ومنقادا له يكون أقرب إلى الصلاح . ومتى قهر على اتباع غيره كان من الصلاح أبعد ...» .

الجواب : فإنا لا نشك أن من العقلاء من إذا قهر على اتباع غيره لم يستقم حاله ، وكان إلى الفساد أقرب ، غير أنه وإن لم يصلح حاله على من قهر على اتباعه لنفاره عنه وكراهته له أو لغير ذلك فلا بد من أن يكون ممن يصلح حاله أو يستقيم على غيره ممن يرتضيه ويميل إليه ، ويؤثر رئاسته والانقياد له ، وما ذكره إنما يكون قدحا في قول من قال : «إن الصلاح حاصل عند وجود كل رئيس كائنا من كان» ولم نقل بهذا فيقدح به في قولنا والموضع الذي يحتاج إلى تحصيله ، أن حال الناس لا يجوز أن يكون مع فقد رئيس ما في الجملة كحالهم عند وجوده ، وإن كان لا يمتنع أن يكرهوا رئيسا دون رئيس ويفسدوا(2) عند رئاسة دون رئاسة ، والذي يبين هذا ويكشفه أن الذي يفسدون ويضطربون عند إقامة بعض الرؤساء لو أقيم لهم من يختارونه ونصب لهم من يرضونه لسكنوا إليه ، وصلحوا عليه ، فدل ذلك على أن فسادهم عند رئاسة من كرهوه لم يكن استفرغ لأمر يتعلق بأصل الرئاسة . وجملة الرؤساء ، بل لأجل رئيس دون رئيس ، وهؤلاء الخوارج(3) مع خلعهم لطاعة السلطان ومروقهم عن كلمته لم يخلوا من الرؤساء ونصب الأمراء ، ورؤساؤهم في كل وقت بعد آخر معروفون .

ص: 603


1- الشافي : 54.
2- ونفدوا ، خ ل : ولعله نافدوا من نافده أي استفرغ جهده في الخصومة ، ومنه الحديث (إن نافذتهم نافذوك) ورويت بالقاف يقال : ناقده : أي ناقشه.
3- الخوارج : كل من خرج على الإمام الحق ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي ويقدمون ذلك على كل طاعة ، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك ، ويكفرون أصحاب الكبائر وهم عدة فرق ولكل فرقة فروع منهم المحكمة والأزارقة والصفرية تجد تفصيل ذلك في الكامل للمبرد وشرح نهج البلاغة والملل والنحل للشهرستاني : 1 : 115 .

وكذلك من لم يزل عن هذه الطبقة من أهل الذعارة(1) والتلصص(2) لا بد أن يكون لهم رئيس يفزعون إلى رأيه ، وكبير يتدبرون بتدبيره . فمن نازع منهم الإمامية فيما ادعيناه أولا من أنه لا يجوز أن يكون حكم وجود الرئاسة في الجملة حكم ارتفاعها(3) نبهناه على غفلته ، ورفعه لما هو ثابت في عقله ، وإن خالفنا في الثاني وهو أن بعض العقلاء قد يكره بعض الرؤساء ، ولا ينقاد له ، ويفسد عند ولايته لم يضرنا خلافه لأنا قد بينا أن ذلك - وإن صح – فهو غير قادح في طريقنا.(4)

فأما قوله : «وبعد ، فيلزمهم على هذه الطريقة إثبات أئمة ، لأن المتعالم(5) أن أهل كل بلد إذا كان لهم رئيس يشارف(6) أحوالهم ، ولا يغيب عنهم ويأخذ حالا بعد حال على أيديهم [ويقوم المعوج منهم ، ويزيل الشتات(7) عنهم] إنهم أقرب إلى الصلاح من أن يكون الرئيس في العالم واحدا .

الجواب : فقد بينا فيما سلف بطلان التعلق بهذا المعنى ، وقلنا : إن العقول لا تدل على إثبات عدد في الأئمة والرؤساء دون عدد ، وأنه موقوف على ما يعلمه الله تعالى من الصلاح وليس يجب ما ظنه من اعتبار ما يوجب وجود الرئيس في كل مكان وفي كل بلد ، لأنه إن أراد بذلك أن رئاسة ما يجب في كل بلد فهو صحيح ، وعندنا أن الإمام وإن كان واحدا فيجب عليه أن يستخلف الخلفاء في البلدان . ويؤمر الأمراء في الأمصار . وإن أراد أنه لا بد من أن يكون الرئيس في كل

ص: 604


1- الذعارة - بفتح الذال المعجمة والعين المهملة - : التخويف ولعلها تصحيف الدغارة بالدال المهملة والغين المعجمة - من الدغرة : وهي أخذ الشيء اختلاسا . أقول : المعنى الأول أليق بحفظ الناظم.
2- اللص : فعل الشئ في تستر وخفاء ، والسدات [كذا] يفعلون ذلك كذلك .
3- الارتفاع - هنا - عدم الوجود ويلاحظ أن هذه الكلمة تكررت في الكتاب.
4- الشافي : 55 - 56 .
5- تعالم القوم الأمر : علموا به ، فهو متعالم .
6- يقال : شارف : اطلع عليه من فوق .
7- الشتات : التفرق .

موضع بصفة رئيس الكل وإمام الجميع فهو اقتراح طريف لا يدل عليه العقل ، ولا يجب علينا التزامه من حيث أوجبنا الرئاسة في الجملة ، والذي نبينه فيما بعد بمشيئة الله تعالى عند مصيرنا إلى موضعه من صفة إمام الكل وأحواله وما يجب أن يكون عليه يكشف عن أن تلك الصفات لا يجب أن تكون لخلفائه والولاة من قبله .

فأما قوله : «ومتى قالوا : إن الإمام يولى في كل بلد ، قلنا لهم : ربما كان الصلاح أن يتبع الرؤساء بعضهم بعضا ، وينقاد بعضهم لبعض ، لأن من حق الرئيس أن يتميز في ذلك عن الرعية ...» .

الجواب : فلسنا ننكر أن يكون الصلاح في بعض الأحوال على جهة تقدير ما ذكره ، وإذا وقع ذلك نصب الله تعالى في كل بلد إماما له صفات إمام الجميع ، فإن العقل يسوغ ذلك ولا يمنع منه ، بل لا يمتنع أن ينصب الله تعالى لكل واحد من الناس إماما ، وإنما الذي منعنا منه أن يكون ذلك واجبا ، فأما أن يكون جائزا فمما لا يضرنا ولا ينفع صاحب الكتاب.(1)

فأما قوله : «فلو جاز لبعضهم أن يكون تابعا لبعض ، جاز في أولهم أن يكون تابعا للجماعة ، إذا أرادوا نصبه ، فمن أين لا بد من إمام من قبله تعالى ؟ ...».

الجواب : فهو رجوع إلى الظن علينا إيجاب النص على الإمام من قبل الله تعالى من حيث أوجبنا الرئاسة في الجملة وحصول اللطف بها ، وقد ذكرنا أن الطريقين مختلفان(2). وأن الذي به نوجب النص عليه ليس هو الذي دل على ثبوت اللطف في الرئاسة على سبيل الجملة ، على أن الذي ذكره من قوله : «جاز في أولهم أن يكون تابعا للجماعة إذا أرادوا نصبه» تصريح منه باتباع الإمام ، وانقياده لمن يريد نصبه من الرعية على آكد الوجوه التي لم يزل أصحابنا يسومون(3) أهل

ص: 605


1- الشافي : 57 - 58 .
2- أقول كرر السيد المرتضى اعتراضه على عدم التفريق بين القول بوجوب الإمامة وهو عقلي وبين القول بتعيين الإمام من الله وهو نقلي ولا نخلط بينهما بينما المخالف خلط مرارا وتكرارا وهو مصر على الخلط .
3- سامه به : كلفه به ، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشر .

مذهبه التزامها ، والقول بها . فيمتنعون لأنه جعل اتباعه للجماعة إذ أرادوا نصبه كاتباع الرعايا أمراءه وخلفاءه لهم ، ونحن نعلم أن اتباع هؤلاء وانقيادهم هو على سبيل الطاعة والتصرف بين أمرهم ونهيهم ، فإن كان قد نشط أن يجعل حكم الإمام مع من يختاره وينصبه حكم الرعية مع الأمير ومن جرى مجراه من الولاة فما بقي من الشناعة موضع لم يصر إليه ، وقد زاد على ما أراده أصحابنا من أهل مذهبه في التزام هذا المعنى .

القاضي عبد الجبار يتبنى تنظير ماركس للشيوعية في الحياة البشرية من اجل النقض على الشيعة فقط .

فأما قوله : «ولو أن قائلا قال : المعلوم أنهم ينصبون رئيسا عند الحوادث لا في كل حال ، وأنهم مع سلامة أحوالهم قد لا يفعلون ذلك ، فإذا وقعوا في محاربة ومنازعة فعلوه لكان ، أقرب مما قالوه ،...» .(1)

الجواب : فقد بينا أن الأمر الذي يحتاج فيه إلى إمام ليس مما يحدث في حال دون حال ، بل هو عام في الأحوال فكيف يصح ما ذكروه ؟ .

ص: 606


1- أقول : هذا هو خلاصة تنظير ماركس للشيوعية وإلغاء الدولة والملكية . وهو نوع من الخبال وإنكار الواقع وادعاء المثالية البشرية كما ادعاها ماركس حيث نظر لوصول البشر إلى عدم حاجتهم للحكومة لعدم وجود الخصومة أصلا . ثم يا ليته يقبل أن يتحنى زعماءه وقت عدم الحاجة لهم ومعلوم انهم لا حاجة لهم أصلا لأنهم اصل الفساد .

وبعد ، فكيف يجوز الاستغناء عن الإمام في حال الأمن وارتفاع الحاجة إلى الحرب والمنازعة وما جرى مجراهما ونحن نعلم أن حال الأمن لا يعدم فيها التظالم والتغالب ، وامتداد يد القوي إلى الضعيف إلى سائر ما يستغنى عن ذكره من وجوه الفساد التي لا يمتنع الأمن منها ولا يحيل وقوعها ؟ وإذا كان كل هذا متوقعا ممكنا ووجود من يهاب مكانه ، وتخشى سطوته ، أو يوقر في نفسه . ويستحيى من مجاهرته يرفع ذلك أو يقلله فقد بطل ما ظنه من اختصاص الحاجة إليه بحال دون أخرى ، على أنه لا فرق بين من قال : إن الإمام قد يجوز أن يستغنى عنه في الأمن عند الاستغناء من الحرب وبين من قال : وقد يجوز أيضا أن يستغنى عنه في الحرب وغيرها مما يدعي أنه يحتاج إليه فيه ، وما يصحح الحاجة إليه في الحرب والمنازعات بمثله يصحح الحاجة إليه في جميع الأحوال.

وقوله : «لأنهم مع سلامة الأحوال قد لا يفعلون ذلك» .

الجواب : لا ينكر غير أنهم إذا لم يفعلوه أعقبهم من الضرر والانتشار ما هو معروف ولم یکن احتجاجنا بفعلهم حسب ، وإنما احتجاجنا أنهم يفعلون ذلك . ويبادرون إليه لوجوبه في عقولهم . ومتى أغفلوه تبينوا عن مضرته ، على أنهم إذا لم يفعلوا ذلك علموا من أنفسهم أنهم مهملون ، وتاركون لما يجب في عقولهم ، وأنهم مستعملون الهوى ، ومتبعون له ، كما يعلمون - إذا كانوا عقلاء وارتكبوا الظلم وما جرى مجراه في القبائح في العقول - أنهم فاعلون لما يقتضي عقولهم خلافه . وأنهم في ذلك عاملون على الهوى ، ومائلون مع الطباع ولا يخل ذلك بمعرفتهم بقبح ما صنعوه فكذلك حكمهم إذا أهملوا أمر الإمامة وتوانوا عن إقامة الرؤساء مثل ذلك.(1)

فأما قوله : «لو أن قائلا قال : فزعهم إلى نصب رئيس كفزعهم إلى الاستبدال به إذا كرهوا منه أمرا» .

وقوله : «ولو أن قائلا قال : كل فرقة تفزع إلى رئيس غير الذي تفزع إليه سائر الفرق فيجب إثبات رئيس لكل فرقة لكان أقرب مما ذكروه ، ...»

ص: 607


1- الشافي : 65 - 66 .

الجواب : فقد تكرر منا الكلام عليه لتكراره له . وجملته : أن يظن أن طريقتنا في إثبات الإمامة ، وما نوجبها به هي طريقتنا إلى إثبات صفات الإمام التي يختص بها . وكون عليه نص من قبل الله تعالى ، وهذا ظن منه بعيد.

وأما قوله : «ولو أن قائلا قال : المتقرر في العقول أنهم ينصبون رئيسا عند ظنهم الحاجة إليه كما ينصبون وكيلا عند ذلك . ولذلك لو ظنوا الغنى عنه لم يتكلفوه ، ...»(1).

الجواب : فقد بينا أنهم عالمون بالحاجة إلى الإمام والرئيس لا ظانون ، وأن حاجتهم إلى ذلك لا تختلف باختلاف الأوقات . فإن الاستغناء عن الرؤساء لا يجوز أن يتخيله عاقل ، وذلك كاف .(2)

وقوله في من يصلح للإمامة : «إذا كان المعلوم أنه يصير إماما قد يتناوله الخطاب» .

الجواب : تصريح بأن من لا يعلم من حاله أن يصير إماما لم يتناوله الخطاب ، وهذا نقض لأصل الباب الذي شرع في نصرته . والاستدلال عليه ، بل لأكثر الأصول لأنه يوجب عليه لو علم الله تعالى من حال أهل العقد ومن يصلح للإمامة بأنهم لا يقيمون إماما ولا يختارون أحدا للإمامة أن يكونوا معذورين في ترك الإمامة من حيث لم يكونوا مخاطبين بها .

لأنهم إنما يلزمهم الحرج بترك الاختيار إذا كانوا مخاطبين بإقامة الحدود والتوصل إلى إقامتها .

وصاحب الكتاب لم يزل يجهد نفسه حتى صرح بما يوجب سقوط الإمامة ، ويبسط عذر من ترك إقامتها ، وعدل عن الاهتمام بها ، ويجب عليه - أيضا - أن يكون كل من علم تعالى حاله أنه لا يفعل بعض العبادات غير مخاطب بها ولا مكلف ، وفي هذا من هدم الدين ما فيه .(3)

ص: 608


1- أقول : كأن الرجل نسي أنه معتزلي واخذ يقول بمقالة الإباحيين الذين يرون السياسة مصلحة وقتية والأصل هو الإباحية أو شيوع الحكم كما فسره الشيوعيون !!!
2- الشافي : 66.
3- أقول : لازم ما فعله القاضي عبد الجبار هو قول الشيوعيين وهو نقض للفكر المعتزلي نفسه ، وهذا هو نتيجة التعصب حيث يجر التعصب لنقض الفكر وانقلاب الحال إلى خلافها ، ولكنه هنا تطرق لما هو ابعد من الشيوعية حيث أسس لنفي التكليف أصلا، وهذا لا يقول به حتى الشيوعي لأن الشيوعية رغم قولها بنفي الملكية والدولة إلا انها لا تستطيع نفي التكليف والالتزام أمام القانون .

ص: 609

ص: 610

الخاتمة

ص: 611

ص: 612

بعد بيان المقدمة ومفرداتها تحقيقا ، طرحنا الإشكالية ، ونحن لا نريد إلا إثبات أن القرآن كتاب الله وان النص القرآني ، يقتضي أن لا تخلو الأرض من حجة ينزل عليه الله بيان الكتاب العزيز الذي فيه تبيان كل شيء ، فلابد أن يكون التبيان بالمبين لا بنفسه ، وإلا لبطل القرآن للمخالفة الواقعية . وبغير ذلك تكون الإشكالية قد حطمت القرآن الكريم من الأساس ، وهذا أمر فظيع لا أظن أن مسلما محبا الله يرضاه.

ثم تطرقنا إلى بعض الاعتراضات الواهية وأهملنا الكثير منها لأنها أوهى وإن بدت فخمة في الألفاظ مترابطة المعاني ، وذلك لسبب بسيط جدا هو مخالفة كل تلك الاعتراضات لكتاب الله ، وفق الإشكالية المطروحة على أن جوابها جاهز أيضا .

نعم نحن لم ندع مجالا ، فيما يتعلق بتحديد تلك المفردات ، والبناء عليها لأنها الأساس .

فعلى المنصف أن يتحقق من تلك المفردات الواردة في كتاب الله العزيز فإن وجدها كما هي في البحث فلزمته الإشكالية وإن وجد دليلا قاطعا خلاف ما تم بيانه في تلك المفردات فمن حقنا عليه إرشادنا إليه كما أن من حقه علينا إجابته إذا وجدنا فيما ذكر التباسا نبينه له . والحق أحق أن يتبع مهما كانت جذورنا الثقافية . ونحن لا نريد تأسيس نظرية هنا وإنما دراسة نص ولكل وجهته وأصوله التي لا يجوز المداخلة بينهما .

الإشكال الذي أفرزه النص بفحواه ومؤداه بكل بساطة عبارة عن معادلة بسيطة ، وهي : أن القرآن صرّح بليلة قدر مستمرة فيها تنزل تفاصيل الأحكام الإلهية على بشر حي في الأرض .

فإما أن يكون القرآن سليم، فيجب أن يكون هناك مهدي .

وإذا لم يكن هناك مهدي ، فالقرآن غير صحيح . أي لابد من الحكم بتصديق القرآن من خلال وجود المهدي ، وإلا فليجد المنكر - بعد ثبوت كل هذا - دينا آخر غير الإسلام ، فذلك أفضل له واقرب لطبيعته .

ص: 613

هذه المعادلة رغم قساوتها لكنها واقعية . وهي واجبة عقلا وذوقا ، ومن يملك أدنى مسكة من العقل يعرف إن هذه المعادلة لازمة ومتينة .

إن قضية المهدي إذن هي قضية قرآنية في لازم النص القرآني حتى لو لم يكن النص باسم المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فدعوى عدم ورود فكرة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)في القرآن ، هي امتداد طبيعي للسطحية ولعدم إجادة القراءة لكتاب الله وتحكيم الاذواق الفاسدة المعتمدة على خلفية تربوية قاصرة في ترتيب الفكر والمنهج الاستدلالي ، والتربية على السطحية وابتلاع الموروث ، بكل ما فيه من خلل بحيث لا يفرق المرء بين الممكن والواقع ، ولا بين المستحيل والوقوع فقد يؤمن السطحي باستحالة ما هو واقع فان طول أعمار بشر لمئات السنين بل آلاف السنين مما يؤمن به السطحي مع أنه يؤمن باستحالة ذلك في الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وكذلك يؤمن بغيبة شياطين وبشر أشرار وبقائهم بین الأحياء ويؤمن بتفاعلهم وبظهورهم للبشر ، ولكنه يؤمن بنفس الوقت باستحالة أن یقع ذلك للمهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف). إنها انتقائية بسبب المنهج السطحي للتعامل مع الأفكار والأحداث وعدم الانسجام الفكري بين مفردات الموروث الفكري . ويمكن القول إن بعضهم يمنعه التوفيق وسوء الطوية للوصول إلى ابسط الأفكار والنتائج الصحيحة في الفكر الإنساني.

إن هذه الدراسة هي محطة تفكير داخلي وحوار داخلي للذهن المسلم ، ولهذا أرى أن تبدأ عزيزي القاريء قراءة الكتيب من جديد مهما كنت قد استوعبت الموضوع لأن الحوار الداخلي يتطلب إعادة ذاتية للمراجعة ، واستكمال الأفكار ، لعلك تجد الخطأ والصواب بدون أن تستعين بأحد ، وإنما من خلال حوارك الداخلي مع نفسك.

فإلى قراءة أخرى تحاور فيها ذاتك بما هو مطروح من أفكار .

فإذا كانت هذه هي الثانية أو الثالثة فإنك قد اكتشفت الفكرة في ذلك بأوضح مما عرضه كاتب هذه السطور ، لأنك بدأت بحوار الذات وباستخراج المنهج الإبداعي في التلقي لتحكم على النصوص ، والأفكار بشكل سليم .

ص: 614

محتويات الكتاب

المقدمة ... 7

الفصل الأول :

اشكالية ليلة القدر ومعادلتها العقلية ... 15

ملحق :

قاعدة قبح العقاب بلا بيان ... 143

الإشكالية ... 195

الفصل الثاني :

حل الإشكالية بمفهوم أهل البيت عليهم السلام ... 229

الفصل الثالث :

مشكلة الغيبة والعقل الحسي التجريبي ... 267

الفصل الرابع :

البشارة في الإمام المهدي عليه السلام ... 421

الفصل الخامس :

في علم

علم الأئمة ومشكلة العلم من الله ... 549

ملحق :

في جانب معالجة العلاقة بين الغيبة واللطف ... 591

الخاتمة ... 607

محتويات الكتاب ... 612

ص: 615

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.