بحوث في عصمة الأنبياء في ضوء الآيات القرآنية) (ج1)
الكتاب بحوث في عصمة الأنبياء
في ضوء الآيات القرآنية ج 1
تأليف: سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الكبير الشيخ
بشير حسين النجفي داخله
المطبعة:
الطبعة الأولى / ربيع 2016_1437ه-
الناشر: مؤسسة الأنوار النجفية للثقافة والتنمية
محرر الرقمي: محمد رضا راهجو
ص: 1
الكتاب بحوث في عصمة الأنبياء
في ضوء الآيات القرآنية ج 1
تأليف: سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الكبير الشيخ
بشير حسين النجفي داخله
المطبعة:
الطبعة الأولى / ربيع 2016_1437ه-
الناشر: مؤسسة الأنوار النجفية للثقافة والتنمية
محرر الرقمي: محمد رضا راهجو
ص: 2
بحوث في عصمة الأنبياء علیهم السلام
فى ضوء الآيات القرآنية»
الجزء الأول
مقتبسات من درس تفسير
سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الكبير
لشيح بشیر حسین النجفی
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 5
ص: 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون، ويَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَج.
والصلاة والسلام على النَّبِيِّ الأمي العربي الهاشمي التهامي، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً، وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.
وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ورثة كتاب الله، وخزان وحي وأمناء شريعة سيد المرسلين، الذين اصطفاهم على الناس، وأذهب عنهم الأرجاس، وطهرهم تطهيرا.
أما بعد:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وفي ظلمات الشك والريب، فكشف لنا أسرار النبوة والرسالة بمعجزات الكتاب الذي لا شك فيه ولا ارتياب.
ص: 7
إن من أهم ما يشتغل به المسلم هو التفكر في آيات الله وتدبّرها، والتأمل فيها، قال تعالى: ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا )، وهذا التدبر ينبغي أن يكون بالرجوع إلى أعلم الناس به، فقد ورد عن الإمام الباقر الله في تفسير قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، قال: عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ عَمَّنْ يَأْخُذُهُ، وأعلم الناس بكتاب الله بلا نزاع ولا خلاف فيه عند المسلمين جميعًا هم أهل بيت النبي الأعظم سلام الله عليهم، وورد في الأثر الشريف عن أمير المؤمنين الله أنّه قال لكميل بن زياد يا( كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا).
وقد انشغل أصحاب الأئمة اللا وعلماؤنا الأبرار إلى يومنا هذا ببيان آيات كتاب الله المجيد، وتفسير آي القرآن الحكيم، فجادوا بأسفارهم الرائعة، وبمداد كلماتهم انكشفت الأسرار المودعة، وانحلت الغوامض المشكلة، وانحلت عقد المسائل العويصة، والرجوع إلى رفوف المكتبة الإسلامية خير شاهد على ذلك.
واختلفت المناهج المبينة للآيات الشريفة لدى علماء التفسير، وكلّ ذائقته العلمية من اللغة والنحو والصرف والبلاغة والفلسفية، وفروعها وفروعها من الحكمة المتعالية، أو الكلامية والمنطقية.. ونحو ذلك.
حتى صار للتفسير عدة مناهج فهناك ما يعرف بمنهج التفسير الترتيبي، ويعد الأكثر شيوعًا، وهو أن يعمد المفسّر في كتاب الله إلى آيات القرآن بطريقة ترتيبية حسب وجودها في المصحف الشريف، أو حسب نزولها.
ص: 8
وهناك ما يعرف بمنهج التفسير الموضوعي بأن يعمد الكاتب إلى جمع الآيات المباركة من مواضعها في السور المختلفة، والتي تسلط الأضواء على موضوع معين.
ولهذه المنهجية فروعًا متعددة منها ما يعرف بالتفسير الموضوعي الاتحادي، والذي يهتم ببحث ودراسة أحد المواضيع القرآنية كالمعاد والإمامة.. ونحو ذلك، ومنها ما يعرف بالتفسير الموضوعي الارتباطي، وهو الذي يهتم ببحث ودراسة الارتباط بين المواضيع القرآنية مثل علاقة الإيمان والعمل.. وغير ذلك.
ولكل من هذه المناهج خصائص ومميزات تختلف بعضها عن بعض.
وما بين أيدينا هي مقتطفات لبعض من محاضرات ودروس سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الكبير الشيخ بشير حسين النجفي حالة ألقاها على ثلة من طلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف، اتبع فيها منهج التفسير لكتاب الله العزيز، نظرًا لما يمثل هذا المنهج في الأزمنة المتأخرة الموضوعي ظاهرة علمية جديدة، وإن كان لها جذور في تراثنا الشيعي، كما نجده في كتاب فقه القرآن للراوندي، أو كنز العرفان للفاضل المقداد، ومن مميزات هذه المنهجية أن تسعى إلى النظر في الأسئلة المطروحة والشبهات التي تثار من هنا وهناك، ثم تقديم الحل الأمثل، والجواب الشافي لجميع تلك المسائل.
وكان اختيار سماحة المرجع النجفي داخلة في هذه المحاضرات التفسيرية ابتداءً من موضوع عصمة الأنبياء وتنزيههم.. حيث سعى لاستقصاء الشبهات
ص: 9
المودعة في الكتب الكلامية.. وغيرها، ثم تقرير تلك الشبهات وعرض محاولات بعض الأعلام المتقدمين في الجواب عنها، وإبداء النظر والتأمل في تلك الأجوبة، ثم بعد ذلك يطرح ما يراه مناسبًا لرفع غائلة الإشكال، وقلع جذور الشبهة من أساسها.
وقد تجشم بعض تلامذة سماحة المرجع النجفي حالة ورواد مجلس بحثه لجمع تلك المحاضرات وتدوينها وترتيبها وصياغتها، ولهم منا فائق الشكر والتقدير والامتنان على ما بذلوا ، ونأمل أن يكون هذا الجهد المبارك عند مرضاة ورعاية ولي الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وفي الختام الصلاة والسلام على خير الأنام محمد وأله الطيبين الطاهرين.
مؤسسة الأنوار النجفية
قسم التأليف والتحقيق
ص: 10
بحث العصمة
العصمة لغةً.
العصمة اصطلاحاً.
المقدمة
ص: 11
ص: 12
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
إن بحث العصمة وما يترتب عليها من آثار يعد من أهم المباحث المعرفية التي لها ارتباط وثيق بالعقيدة عند الإمامية، والتي لم تخلُ منه مصنفات علمائنا الأبرار، ولما كان بحثنا في عصمة الأنبياء الله في القرآن الكريم بحثًا موضوعيًّا اقتصرنا في الكلام على الآيات التي استدل بها على نفي العصمة عنهم عليهم السلام.
ص: 13
ص: 14
وقبل الخوض في خِضَمّ البحث لا بد من تمهيد أمور:
أن البحث في الآيات الشّريفة مبني على الاعتقاد بعصمة الأنبياء الله، الأمر الأول: وأنّ هذا الأمر ثابت لهم بحكم قطعي (1)، فالنظر في الآيات الشريفة إنما يكون على ضوء هذا الحكم القطعي القائل بلزوم عصمة الأنبياء، وعليه فلا بد من تأويل الآيات التي قد يُتوهّم منها عدم عصمتهم عال، لأنه إذا ثبتت العصمة بحكم العقل القطعي وخالف النّقلُ حكم العقل لزم تأويل النقل بنحو يتوافق مع حكم العقل ولا يناقضه، ولا يمكن التنزّل عن الحكم العقليّ؛ لأن التنزل عن الحكم العقلي يؤدّي إلى طرح الشرع، باعتبار أن الالتزام بالشرع إنّما كان امتثالاً لحكم العقل، وذلك لأن العقل هو الذي دلّ على وجود الله تعالى، وأنه واحد لا شريك له، ولأن الذي ألزم بطاعة المولى عن ودلّ على لزوم إرسال الرسل ولزوم طاعتهم ودلّ على عصمتهم هو العقل، فكلُّ هذا إنما ثبت بواسطة العقل، فإذا التزمنا بطرح العقل واتباع ظاهر النقل لزم من ذلك طرحُ النّقل أيضًا، لأنّ وجوب متابعة الشّرع إنّما
------------------------
اﻷمر اﻷول: ﻻبدية تأويل اﻵيات المخالفة لحكم العقل القطعي
ص: 15
كان بواسطة العقل، فإذا طرحنا العقل وبنينا على احتمال خطئه في مدركاته القطعية لزم من ذلك طرح النقل.
وبعبارة أخرى: إذا قلنا بخطأ العقل في حكمه بلزوم عصمة الأنبياء/ لزم من تخطئته مرّةً احتمال خطئه في أحكامه ومدركاته الأخرى، وإذا بقي احتمال الخطأ فى مدركات العقل القطعية لزم انسداد باب العلم، فإنّ العلم بالأحكام الشّرعيّة والأصول الاعتقاديّة إما أن يكون بواسطة العقل أو بواسطة الشّرع ، والحال أنّ الشّرع أساسه وعماده العقل، فإذا خطأنا العقل لزم طرح الشرع، وعلى هذا الأساس التزم المحققون من علمائنا الأبرار أن النقل إذا خالف العقل القطعي فلا بد من تأويل النقل للمحافظة على حكم العقل وعدم الوقوع في طرح الشرع، لأنه في تأويلنا للنقل بما يوافق حكم العقل نكون قد حافظنا على العقل والشرع معًا، أمّا لو طرحنا العقل فلا يبقى لنا طريق إلى إثبات النقل، فنكون قد خسرناهما معًا.
ثم إنّ المخالفة بين العقل والنقل إنما هي مخالفةٌ في الظاهر، وإلا ففي الواقع لا يمكن أن يكون هناك مخالفة بين حكم العقل القطعي وبين النقل، وذلك لأن الشارع هو الذي جعل العقل رسولاً باطنيًا ومِحَكًا وطريقًا للهداية، كما أنه هو الذي جعل النقل طريقًا للهداية أيضًا، فلا يمكن التعارض والمخالفة واقعًا بين طرق الهداية المجعولة من قبله.
ومما يدل على ما تقدم ما رواه شيخنا الصدوق له في كتابه من لا يحضره الفقيه عن النبي الله أنه قال: (يا علي إنّ أوّل خلق خلقه الله عربين العقل، فقال
ص: 16
له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبَر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أحبّ إليَّ منك، بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب) (1)
وأمّا مَن يرى عدم عصمة الأنبياء الله عن الصغائر أو الكبائر أو في غير مقام تبليغ الوحي فهو في فسحة وغنى عن البحث في الآيات التي قد يُتوهّم منها عدم عصمتهم عالي ، لأنه لا تعارض بين ما يعتقده وبين الآيات، ولكن من يبني على عصمتهم الله عن الصغائر والكبائر وفي مقام تبليغ وحي الله عرين وغيره يكون من اللازم عليه تفسير الآيات التي قد يُتوهم منها خلاف ذلك.
إن النظر في الآيات الشريفة أوّلاً إنّما يكون فيما يظهر منها وفقًا لقواعد النحو والصرف والبلاغة وما توصلنا إليه، فيكون البحث أوّلَ الأمر في والبحث أولاً في الآيات على ضوء المعطيات اللغوية من نحو وصرف ولغة وبلاغة وما الآيات يكون بمقتضى ما توصلنا إليه من مدلول وظهور للآيات الشريفة، فإذا انعقد لها ظهور لا يخالف المبنى الأساس الذي دلّ عليه العقل من عصمة الأنبياء عال فبها ونعمت، وإلا فلا بد من تأويلها، كما تقدمت الإشارة إليه.
وفي المقام نشير إجمالاً إلى قاعدة عامة نافعة في ردّ أكثر ما اعتمد عليه المخطئة وما استدلوا به من الآيات في إثبات وقوع المعصية من الأنبياء/ وصدور ما ينافي العصمة منهم صلوات الله عليهم.
وحاصلها: أن أكثر الآيات التي توهّم منها صدور الذنب من الأنبياء هي آیات متشابهة؛ لكونها معارضة بحكم العقل من عدم جواز صدور الذنب
-------------------اﻷمر الثاني:النظر والبحث أوﻻ ً فی اﻵيات يكون بمقتضى ما تعطيهالضوابط اللغوية
ص: 17
من الأنبياء والمتشابه لا يجوز الركون إليه والأخذ بظاهره واتباعه، بل لا بد من إرجاعه إلى المحكم كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبَّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ )(1)، وعليه فإمّا أن يردّ المتشابه إلى المحكم القرآني أو إلى المحكم الروائي الذي نفى صدور الذنب من الأنبياء ، بل أكثر الآيات التي استدلوا بها لا ترقى إلى مرتبة الظهور حتى تحتاج إلى تأويل.
ونضرب مثلاً لذلك حتى يتضح المراد فنقول:
كلمة (عصى) إذا نُسبت إلى بعض الأنبياء فإن غير المدقق في الناحية اللغوية لمدلول هذه الكلمة قد يتوهم منها أن ثمة ذنبًا ومعصية لأمر مولوي إلزامي قد صدرت من النبي مما أوجب أن ينسب المولى إليه كلمة (عصى)، ولكن التحقيق يفضي إلى أنّ هذه الكلمة لا تستبطن هذا المعنى المتوهم؛ فإنّ المعصية قد تكون بمخالفة الأمر أو النهي المستتبع للعقاب الأخروي، وقد تكون بمخالفة الإرشاد الذي ليس فيه إلزام ولا يترتب عليه عقاب أخروي، والمعصية بمدلولها اللغوي لا تنحصر في أوّل القسمين كما قد يتوهم بل تعمّهما، فتكون موضوعة لمطلق المخالفة الأعم من المولويّة والإرشاديّة، فكلمة (عصى) وإن كانت ظاهرة في المخالفة ولكنها غير ظاهرة في المخالفة المولويّة أو الإرشادية، فهي مجملة بلحاظ نوع المخالفة،
ص: 18
فيتوقف فهم المراد من المخالفة على البحث عن القرائن حتى يتضح المراد منها، وأنها هي المخالفة الموجبة للخروج عن مقتضى العبودية والمستتبعة للعقاب الأخروي، أم أنّها الموجبة للعتاب دون العقاب؟ والقرينة العقلية المنزهة للأنبياء عن مخالفة الأوامر المولويّة توجب كون المراد بالمخالفة / المنسوبة إلى نبي من أنبياء الله مخالفة الإرشاد لا الأمر المولوي، وسيأتي تفصيل ذلك في بحث عصمة نبي الله آدم السلالة علیه السلام
الأمر الثالث:
أنه لا بد من تحديد معنى العصمة بدقة قبل الشروع في تفسير الآيات؛ لئلاً نقع في بعض الهفوات والزلات التي وقع فيها بعضهم نتيجة عدم تحديد معنی العصمة بدقة وعدم وضوحه لديه.
وقبل الكلام في معنى العصمة، ينبغي التنبيه على أننا خصصنا البحث بعصمة الأنبياء المذكورين في القرآن دون غيرهم من المعصومين كالأئمة سبب تخصيص البحث في عصمة وسائر الأنبياء الذين لم تُذكر أسماؤهم في القرآن، لأن الآيات قد تعرضت لهم دون أن تتعرّض لغيرهم.
نعم هناك مورد في القرآن الكريم فيه دلالة على اعتبار العصمة في لزوم عصمة الإمام ولزوم اتصافه بها، وهو قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتِ الإِمَامِ قرآنيًّا فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين )(1)، فنلاحظ كما نبه عليه بعض المحصلين أن إبراهي- على السلام عندما بعثه الله عرين نبياً ورسولاً واتخذه خليلاً لم يسأل ذلك أي النبوة
-------------------تنبيه: سبب تخصيص البحث في عصمة اﻷنبياء. لزوم عصمة اﻹمام قرآنيا
ص: 19
والرسالة _ لذريّته من بعده أم لا، ولكنّه لما جعله الله عرين إماما سأل وربّما يكون ذلك لأنّ الإمامة مستمرة والنبوة منقطعة.
فكان جوابه تعالى لنبيه إبراهيم علیه السلام أنه قال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وفيه دلالة على أنَّ مَن اتّصف بالظلم لا يناله عهد الإمامة؛ بناء على المقصود في الآية أن الظالم مطلقًا لا يناله عهد الإمامة.
وبتعبير آخر: إنّ هذا الاستظهار مبني على ما هو الصحيح من أن عنوان الظلم في الآية مأخوذ على نحو أن مجرد حدوث الظلم ولو آنا ما يوجب ترتب الحكم عليه دائما، وعدم صلاحية الظالم لأن يناله عهد الإمامة، فالآية الكريمة ناظرة إلى أن مجرد الاتصاف بالظلم ولو آنا ما مانع من وصول العهد ونيله، وذلك لأن الإمامة عهد الله، وأن لها خصوصيةً من بين المناصب الإلهيّة، فقد أضافها ونسبها سبحانه إلى ذاته المقدسة بقوله: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
فلما كانت الآية في مقام بيان جلالة قدر الإمامة وعظم شأنها وخطرها ورفعة محلّها، لزم أن يكون من تناله غير متلبس بالظلم مطلقا، وقد قرّر في من علم اللغة أن الخارج عن الطريق ولو آنا ما زيادةً أو نقصانا يمينًا أو شمالاً يُسمّى ظالمًا، فإنّه يقال: من زاد أو أنقص في شيء فقد أساء وظلم، ويقال: أخذ في طريق فلم يظلم يمينًا أو شمالاً، وفيما سيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.
ص: 20
ففي هذا المورد يوجد ما يدل على لزوم اتصاف الإمام بالعصمة، أما أنه هل يوجد في القرآن ما ينفي العصمة عن الإمام أو ما يُمكن أن يُستدلّ به على عدم لزوم اتصاف الإمام بها، فلم نجد ثمة شيئًا يدل على ذلك.
ثمّ أنّه إذا ارتفعت العصمة عن الأنبياء علیه السلام بما فيهم رسول صل الله علیه واله ، فلا شك ترتفع عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لأن الإمامة في الجملة دون النبوة ولا أقل نبوّة نبينا الخاتم محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فإذا ارتفعت العصمة عنه ترتفع عن الإمام، وإلاّ يلزم من بقاء العصمة للإمام وارتفاعها عن النبي الخاتم صلی الله علیه و آله، وأن يكون الإمام أفضل من سيّد المرسلين، وهذا أمر لا شك بفساده.
لا يقال أنّه يظهر من غير واحد من علمائنا أنَّ الإمامة أفضل من النبوة مطلقًا؛ باعتبار أن النبوة مقام لمن يتلقى أخبار الغيب ليوصلها إلى الناس، والرسالة مقام للنبي الذي يأتي بشريعة خاصة بواسطة وحي يوحى إليه؛ أمّا الإمامة فهي عهد من الله سبحانه وتعالى لتطبيق الأحكام الإلهية على الأرض فيما يعمّ أمور الدين والدنيا، والتأمل بمميزات وخصائص كل من هذه المقامات الثلاثة يفضي إلى أنّ الرسالة أعظم من النبوة؛ لأنها اشتملت زيادة على تلقي الوحي على أن يكون النبي صاحب شريعة عامة، ويفضي أيضًا إلى أنّ الإمامة أعظم من الرسالة؛ لأنها اشتملت على خصوصية تطبيق وقيادة المجتمع البشري وتنفيذ الوحي، فلا شك في أنها تكون أعلى الرتب والمناصب؛ فإنّ العهد من الله تبارك وتعالى في تطبيق الأحكام الإلهية أعلى درجة من تلقي الوحي والحيازة على شريعة عامة.
ص: 21
وقد روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي عن زيد الشحام، قال: سمعت أبا عبد الله الله يقول: (إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيًّا، وإن الله اتخذه نبيًّا قبل أن يتخذه رسولاً، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إمامًا، فلمّا له الأشياء قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، قال: فمِن عِظمها في عين إبراهيم الله قال: (قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ)، قال: لا يكون السفيه إمام التقي)(1)
فهذه الرواية واضحة الدلالة على أنَّ مقام الإمامة إنما ينال بعد نيل مقامات قبلها، وبعد التكامل في درجات العبودية لله حتى يصير أهلاً لنيل مقام الإمامة، فلا معنى لتأخير هذا المقام عمّا قبله من المقامات مع فرض كونه أدنى رتبةً وأقلّ عظمةً منها، فالإمامة أعطيت لإبراهيم علیهم السلام بعد مدة طويلة من نبوته ورسالته، وبعد خضوعه عليه السلام لأوامر امتحانية من الله عزوجل: (وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، فمقتضى تأخّر مقام الإمامة على النبوة والرسالة هو أنها مقام أعظم منهما ؟
لأنا نقول بعدم صحة ما جاء في السؤال من أفضلية الإمامة على النبوة مطلقًا؛ وذلك لأن النبوة والرسالة والإمامة على درجات؛ قال تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاس إِمَامًا)، ممّا يدل على أنّ إمامة إبراهيم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كانت على الإنس
ص: 22
فقط، أمّا إمامة الأئمة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من أوصياء النبي الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فهي على الإنس والجن كما ثبت ذلك من الأدلة النقلية.
فإمامة أوصياء النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أعلى وأعظم درجةً من إمامة النبي إبراهيم علیه السلام، وكذلك الرسالة الخاتمة لنبينا الكريم أعظم من غيرها من الرسالات وكذلك بعض مراتب النبوة أفضل من بعض مراتب الإمامة، وبعض مراتب الإمامة أفضل من بعض مراتب النبوة، فإن إمامة الأئمة الاثنى عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهي أعلى مراتب الإمامة _ أفضل من نبوّة إبراهيم السلام،علیه السلام وبعض مراتب النبوة كنبوّة الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهي أعلى مراتب النبوة أفضل من إمامة سليمان وداود وإبراهيم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فليس هناك أفضليّة للإمامة بالجملة على النبوة، كما أنّه ليس هناك أفضليّة للنبوة بالجملة على الإمامة، بل لكلّ من المقامين مراتب، وفي مقام التفضيل يُنظر لكل مرتبة من مرتبة المقام الآخر.
وبتعبير آخر: إنّ النبوة والإمامة بما هما من المناصب الإلهية لا بد من النظر في دائرة حجّيّة وسعة المنصب المُعطَى من الله ورجل، فقد تكون النبوة بأعلى مراتبها _كنبوة الخاتم صلی الله علیه و آله _ أوسع دائرة من الإمامة.
وأمّا كلمة (قبل) التي وردت في رواية الكليني رضی الله عنه هل فهي لا تقتضي أفضلية المرتبة اللاحقة على المرتبة السابقة بالجملة كالإمامة على النبوة مثلاً، بل هي ليست في مقام بيان أفضليّة مقام الإمامة في جميع مراتبها على مقام النبوة في جميع مراتبها، بل الرواية في مقام تفضيل مقام إمامة إبراهيم علیه السلام على مقام نبوته لا على مطلق النبوة بما فيها نبوة الخاتم صلی الله علیه و آله .
ص: 23
فإذا اتضح ما تقدَّم وهو أن محلّ كلامنا وبحثنا في خصوص الآيات الآيات المخالفة التي استُدِلَّ بها على عدم عصمة الأنبياء المذكورين في القرآن_نشرع في لحكم العقل بيان المدلول اللُّغوي لمعنى العصمة وموارد استعمالها، فنقول:
العصمة لغةً: بمعنى المنع، مأخوذ من عصم بمعنى منع، والمراد بالمنع: الحفظ، يقال: فلان ممتنع أي عنده نحو من القوة يحفظ بها نفسه، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم، في عدة مواضع، قال تعالى: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء )(1) أي يمنعني ويحفظني، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس )(2) أي يمنعك ويحفظك.
قال في الصحاح والعصمة: المنع، يقال: عصمه الطعام، أي منعه من الجوع... ثمّ قال: والعصمة الحفظ، يقال: عصمته فانعصم، واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية (3).
وقال ابن الأثير في النهاية عصم فيه من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلا الله، أي ما يعصمه من المهالك يوم القيامة، والعصمة: المنعة (4)
وليس مقصود اللغويين من المنع الترك، كما قد يتوهم، بل المراد بالمنع هو أن يكون واجدًا لقوة يحفظ بها نفسه يقال اعتصمت بالله، أي امتنعت بلطفه من المعصية، ومعنى امتنعت بلطفه أنَّ لطفه كان حافظًا لي عن الوقوع
------------------------اﻷمر اﻷول: ﻻبدية تأويل اﻵيات المخالفة لحكم العقل القطعي.ً العصمة لغة
ص: 24
في المعصية، فمرادهم من المنع الذي فسّروا العصمة به هو واجديّة الإنسان لقوة تقيه من الوقوع في المعصية، واتضح أيضًا أنه ليس المراد بالمنع الترك.
العصمة في معناها الاصطلا معناها الاصطلاحي والتي يُبحث عنها عادة في علم الكلام وأصول العقائد لا تبتعد كثيرًا عن معناها اللغوي، فالعصمة عندهم أيضًا بمعنى الامتناع عن ارتكاب الذنب، وإنّما وقع الاختلاف بينهم من جهة في بيان منشأ وسبب امتناع المعصوم عن الذنب، ومنشأ عدم ارتكابه للذنب، وأدلة ثبوتها ووجوبها.
ومن جهة أخرى وقع الاختلاف بينهم في سعة العصمة، فتشمل الصغائر والكبائر والسهو والنسيان أم لا، وكذلك في متعلّق العصمة، فتشمل العصمة في الموضوعات أم لا.
وهذا البحث حقيقة من مباحث علم الكلام، ولكن لما كان بحثنا في المقام يتعلق بالآيات القرآنية التي تمسك بها المخطئة لنسبة الخطايا في منشأ وملاك والذنوب وصدور المعاصي من الأنبياء الله، فينبغي الإشارة إجمالاً لبعض المباحث الكلاميّة وبعض كلمات المتكلمين عن العصمة، توطئةً وتمهيدا لدفع الشبهات التي أثارها ويثيرها بعض المخالفين والمشككين.
حكى الفاضل المقداد في الإرشاد عن بعض الأعلام أن سبب العصمة أمور أربعة:
الأول اختصاص نفسه وبدنه بملكة تمنعه من الأقدام على المعاصي.
الثاني: أن يكون عالمًا بالمدح على الطاعة والذم على المعصية.
الثالث: تأكيد تلك العلوم بتواتر الوحي.
---------------------------العصمةً اصطﻼحا
---------------------------لجهة اﻷولى: في منشأ ومﻼك العصمة
ص: 25
الرابع : أن يكون بحيث إذا ترك ما هو أولى عوتب عليه (1).
ثم أنه رحمه الله أبطل هذه الأقوال ثم التزم في هذا الكتاب بأن العصمة لطف يفعله الله بالمكلف كما سيأتي توضيحه.
والذي نلتزم به أنّ العصمة لا ترجع إلى العلم أو الملكة النفسانية، بل ترجع إلى أمور يجمعها نورانية روح النبي والولي. بمعنى أنّ ذات النبي والولي بطبيعتها نورانيّة لا تتوجّه إلى المعصية فضلاً عن أن تصدر منها، لا أن ذات النبي لا تصدر عنها الذنوب بلحاظ العلم أو الملكة النفسانية، بل بمقتضى نفس نورانيتها وطهارتها وصفائها وسيأتي زيادة توضيح لذلك إن شاء الله
ففي المقام أقوال، ينبغي التعرض إلى بعضها:
القول الأول: أنّ العصمة لطف، وهو قول جمهور متكلّمي الإماميّة، وإليه ذهب النوبختي رحمه الله وهو من قدماء علماء الإماميّة في كتاب الياقوت، والشيخ المفيد رحمه الله هلة في كتاب تصحيح اعتقادات الإماميّة، والسيد المرتضى رحمه الله فى بعض رسائله، والعلامة الحلّي في الباب الحادي عشر وغيره من مصنفانه .
والتعبير بأنّ العصمة لطف لا يفهم منه حقيقة منشأ الامتناع عن الذنب، ولا يعلم ما الذي أرادوه منه؛ فإنّه تعبير عام لا ينكشف من خلاله مرادهم بالدقة، بل يحتمل وجوها عدة، فقد يكون المراد باللطف كلّ ما له داعويّة إلى ترك المعصية وفعل الطاعة، كالتحلّي بالفضائل وإفاضة العلم اللدني وتتابع نزول الوحي وغير ذلك من ألطافه تعالى المعطاة لأنبيائه، ممّا له
ص: 26
داعوية لكي يختار معه النبي فعل الطاعة واجتناب المعصية دون أن توصل هذه الأمور إلى الإلجاء وسلب الاختيار. قال الفاضل في كتاب إرشاد الطالبين :
( والحق أنّ العصمة عبارة عن لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك، ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والإقدام على المعاصي، مضافًا إلى العلم بما في الطاعة من الثواب والمعصية من العقاب وخوف المؤاخذة على ترك الأولى وفعل المنسي)(1)
وكذلك عند الجمع بين كلمات العلامة حيث فسر اللطف بالملكة الموهوبة من الله عزوجل.
وهذا ما أشار إليه شارحا الباب الحادي عشر، فقد قال الفاضل المقداد في شرحه المسمّى بالنافع يوم المحشر قال: (اعلم أن المعصوم عليه السلام يشارك غيره في الألطاف المقربة، ويحصل له زائدا على ذلك لأجل ملكة نفسانية لطيفة يفعلها الله ...) (2)
وقال ابن مخدوم الحسيني في شرحه المسمّى بمفتاح الباب: (لطف يفعله الله بالمكلّف أي ملكة خلقها الله فيه لطفا...) (3)
ص: 27
فالنتيجة أنّه لم يتضح لنا مراد من فسّر العصمة باللطف. حيث فسروا اللطف الوارد في كلام المتقدمين بالملكة، ولكن المتتبع يظهر له أن مرادهم باللطف أعم من ذلك، ونَقلُ الشواهد على ذلك مما يطول به الكلام.
فُسّرت العصمة في كلمات غير واحد من علمائنا الأجلاء منهم العلامة العصمة أنها الحلّي والفاضل المقداد في بعض كتبه بأنها ملكة.
قال العلامة رحمه الله في أجوبة المسائل المهنائية العصمة: كيفية نفسانية تبعث على ملازمة التقوى والامتناع عن ارتكاب المعاصي مع قدرته على ضدّ ذلك وإمكان صدور خلافها (1).
وقال الفاضل المقداد رحمه الله: العصمة ملكة نفسانية يمنع قدرته عليه، وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، لأن العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء والطاعة من السعادة صار ذلك العلم موجبًا لرسوخها في النفس فتصير ملكة...)(2).
وبناءً على تفسيرهم للعصمة بالملكة يكون المعصوم من عنده ملكة الملكة، يتمكن بها من حفظ نفسه عن الوقوع في المعاصي مطلقًا، أو في خصوص والفرق بينا وبين الكبائر ، أو في مقام التشريع، على خلاف في ذلك يأتي التعرض إليه إن شاء الله تعالى.
---------------------القول الثاني:في العصمة أنّها دملكة بيان مراد اﻷعﻼم من الملكة، والفرق بينا وبين الحال
ص: 28
قد تقرر في كتب المعقول أنّ الملكة من الكيفيات النفسانية الراسخة التي تفترق عن الحال بالرسوخ ،والثبات، مثال ذلك: من يتصدق على فقير، فإنّ التصدق قد ينبع عن التأثر بفقره، وهذا ما يسمى حالاً لانته وعدم رسوخه، بينما من مارس هذا الأمر مدةً من الزمن تصبح عنده صفة نفسانية الملكة، فيكون تصدقه أثرًا لهذه الصفة الراسخة لا عن عارضِ راسخة وهي ما آني قد عرض في نفسه، فالفرق بين الحال في ذاتها والملكة في ذاتها يكون من جهة الرسوخ وعدمه، أما من حيث النتيجة فصاحب الملكة لا يجد صعوبة في الامتناع عن المعاصي أو صدور الخير منه، بينما صاحب الحال يجد صعوبة في ذلك، وكذلك زلّة قدم صاحب الحال أكثر من صاحب الملكة.
ثم إن الرسوخ إنما يحدث في النفس من عملية ممارسة الأفعال، وعليه فمن الغريب ما يظهر من كلام العلامة والفاضل المقداد ومن وافقهما من بنائهما على أنّ العصمة من قبيل الملكات النفسانية، فهذا القول يرد عليه إيرادان:
الإيراد الأوّل: أن كون العصمة من قبيل الملكات يقتضي أن تكون العصمة تشكيكية ذات مراتب.
بیان ذلك أنّهم لما فسّروا العصمة بالملكة النفسانية وكانت الملكات النفسانية ذات ،مراتب فالعدالة مثلاً قد تكون عند البعض متوسطة وعند الآخر قويّة، والكرم كذلك يكون متوسطا وقد يصل إلى مراتب أعلى، كالتي يوصف بها حاتم الطائي وغيره والشجاعة أيضًا قد تكون متوسطة
-----------------------اﻹيراد اﻷّول: ّأن كون العصمة من الملكات يقتضي تشكيكية العصمة
ص: 29
وقد تبلغ إلى أعلى مراتبها الممكنة كشجاعة أمير المؤمنين الله، فهذا يعني أنّ العصمة أمر تشكيكي له مراتب تتفاوت شدة وضعفًا.
ووجه فساد القول بأن العصمة تشكيكية هو أن من لوازم التشكيك الملكات الخلوّ فيما مضى؛ فإنَّ الملكات إنَّما توجد في النفس بعد أن لم تكن موجودة، ثم تشتد وتقوى، وهذا ينافي العصمة الموجودة عند المعصومين؛ فإنّها ليست من هذا القبيل، بل العصمة قوة في النبي أو الإمام لا تحصل بالاكتساب، بل هي هبة من الله ويل، والدليل على أنها هبة من وغير مكتسبة قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ -هَرَكُمْ تَطْهِيرًا فإنَّ الإرادة ههنا هي الإرادة التكوينية، وليست التشريعية؛ وهذا مما يدلّ بوضوح على أنَّ الله عز موجد للعصمة، وأنها ليست مكتسبة.
فإن قلت: إنّه بناءً على عدم صحة التشكيك في العصمة ينتفي التفاضل بين الأنبياء والأئمة، ولا ريب في وقوع التفاضل بينهم كما نطق به الكتاب الكريم وجاء في الروايات، فهل هذا إلا قول ببطلان التشكيك مطلقا؟
نقول: إنّه لا مشكلة في أن تكون العصمة تشكيكية ذات مراتب، وهذا أمر مغاير للتشكيك في الملكات؛ فإنَّ التشكيك موجود في أغلب المقولات العرضيّة ما عدا مقولة النسبة، وهو لا يقتضي الخلوّ والمسبوقية بالعدم فيما مضى، كاللون الأبيض؛ فإنَّه متفاوت شدة وضعفًا من جسم إلى آخر، وهذا التفاوت في البياض لا يعني الخلو عن أصل البياض، بخلاف الالتزام بأنَّ العصمة ملكة مشككة؛ فإنَّ هذا يقتضي الخلوّ عن أصل الملكة فيما مضى؛ لأنَّ هذه طبيعة الملكات فإنّها توجد بعد أن لم تكن موجودة وتشتد شيئًا
ص: 30
فشيئًا، فالتشكيك في نفسه لا يلازم الخلوّ، والإشكال إنما وجهناه على القول بأن العصمة ملكة فيها تشكيك، وليس على القول بالتشكيك، فإنّا نلتزم بأن العصمة ذات مرتبتين :
المرتبة الأولى: عصمة النبي الأعظم صل الله علیه والأئمة الاثني عشر والصديقة الطاهرة ، وهم في أعلى مراتب العصمة بنحو لا يصدر منهم خلاف الأولى.
المرتبة الثانية: عصمة الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم وهم في مرتبة من العصمة لا تقتضي عدم صدور خلاف الأولى.
إن منشأ وجود المرتبتين هو أنّ اللطف الإلهي الموجود عند بعض المعصومين والتسديد منه تعالى لهم أوسع دائرةً منه عند غيرهم من المعصومين، فعصمة المعصومين الأربعة عشر علیهم السلام تشمل العصمة عن ترك الأولى، بينما سائر الأنبياء علیهم السلام عصمتهم ليست شاملة لترك الأولى، وهذا نحو من التشكيك في نفس العصمة، فيكون للعصمة مرتبتان، عصمة النبي محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين وهي المرتبة العليا، ودونها عصمة غيرهم من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام.
لا يقال: أنه على هذا يلزم ههنا إشكالاً بناءً على كون العصمة ذات مراتب وهو: أن المعصوم الذي في المرتبة الأدنى لا بد أن تكون عصمته أنقص من عصمة المعصوم الذي في المرتبة الأعلى بمقتضى التفاوت بين العصمتين، فمثلاً عندما نقول أن النبي الخاتم صلی الله علیه و آله الله أعلم من موسى الله فهذا يعني موسى علیه السلام يجهل بعض ما يعلمه النبي الخاتم صلی الله علیه و آله ، فإن قلنا بأن
ص: 31
عصمة بعض الأنبياء أعلى من بعض يلزم من ذلك أن تكون عصمة النبي الذي في المرتبة الأدنى بمقتضى أنها غير كاملة محتويةً على ضد ما في المرتبة الكاملة، نظير تفاوت مراتب العلم والعدالة مما يقتضي كون الأقل علمًا جاهلاً ببعض ما يعلمه الأعلم، والأقل عدالة يفعل بعض القبائح التي يفعلها الأعدل، فكيف يمكن بنظركم تصوير نقصان عصمة صاحب المرتبة الأدنى من الأنبياء عن صاحب المرتبة الأعلى دون لزوم هذا المحذور؟
لانا نقول: إنَّ التشكيك في العصمة وكونها ذات مراتب لا يقتضي مجامعة صاحب المرتبة الأدنى لضد ما في المرتبة الأعلى، بل المرتبة الأدنى كاملة في مرتبتها، كمراتب النور شدة وضعفًا، فإن نور الشمس الشمعة ولكن ليس على نحو أن نور الشمعة مجامع لشيء من الظلام؛ فإن النور لا يجامع الظلام، وكذلك الوجود له مراتب؛ فإن وجود الواجب أشدّ من وجود الممكن ، وهذا لا يعني أن وجود الممكن مجامع للعدم؛ فإن ما به الاشتراك عين ما به الامتياز بدون مجامعة لضد أو غير ذلك، وهكذا التشكيك في عصمة الأنبياء الله ؛ فإنّ النبي الذي في المرتبة الأدنى هو كامل في مرتبته، فلا يقع منه الذنب والمعصية مطلقًا، ولكن يقع منه خلاف الأولى وهو ما اقتضى تفاوت درجة عصمته عن عصمة الذي في الدرجة العليا، بينما الذي في المرتبة العليا لا يقع منه خلاف الأولى، والمعصية لا تقع من الأدنى مطلقًا، ووقوع غير الأولى ليس معصية ليكون ضد ما في المرتبة الأعلى، فلا يصح قياس العصمة على العلم والعدالة من جهة أن تفاوت الدرجات في العصمة لا يقتضي صدور الذنب أو شيء من القبائح من صاحب المرتبة الأدنى، بل يقتضي صدور خلاف الأولى فقط.
ص: 32
إن كون العصمة من قبيل الملكات يقتضي أن لا تكون العصمة حاصلة عند المعصوم علیهم السلام من حين ولادته، وذلك لأنّ الملكات النفسانية إنما تحصل بالممارسة والمواظبة على الأفعال مقدارًا معتدا به حتى ترسخ الهيئات وتصبح ملكات وهذا ينافي ما عليه مذهب الحق من أنّ النبي معصوم من حين ولادته إلى آخر حياته، وقد ثبت أن الإمام الجواد علیه السلام تسلّم زمام الإمامة وله من العمر سبع أو ثماني أو تسع سنوات على أقوال، وقال تعالى في حق نبيه يحيى علیهم السلام : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صبيًّا ) (1)، وقال في حق روح الله عيسى علیهم السلام: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ الله: مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (2) فعيسى الله جعله الله نبيًّا وهو في المهد، وإذا جعل نبيًّا كذلك فلا شك بكونه معصوما، وأين هذا من الملكة التي تحصل بعد ممارسة الأفعال لفترة معتد بها؟
ثم إنه مع غض النظر عن ذلك، فإن تفسير العصمة بالملكة في نفسه غير قابل للالتزام به حتى مع دفعةً، والوجه في توجيه كلامهم بأنها ملكة ذلك:
أن العصمة ليست من مقولة الكيف النفساني، لأن كون العصمة كيفا نفسانيًا يقتضي أن تكون أمرًا عارضًا على الذات خارجًا عن حقيقتها، مع أن
ما ورد عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام يقتضي أن تكون نفوس الأنبياء والأئمة
-------------اﻹيراد الثاني: ّأن كون العصمة من الملكات يقتضي عدم واجدية النبي لها منذ الوﻻدة
-------------بيان وجه عدم قابلية البناء على كون العصمة من الملكات مع الغض عن الوجوده المتقّمة
ص: 33
(صلوات الله عليهم) مختلفة في جوهرها عن نفوس سائر البشر، وليس الاختلاف في العوارض مع الاشتراك في حقيقة النفس، وهذا يجزم به من تأمل في تلك النصوص.
وللسيد الطباطبائي رحمة الله علیه الرأي ينبغي الإشارة إليه، حيث ذهب إلى أن العصمة من الملكات النفسانية أيضًا، كما جاء في كتابه تفسير الميزان؛ حيث صرّح في أكثر من موضع بذلك، ويظهر من كلامه أن هذه الملكة هي العلم الموجود عند المعصوم.
وننقل كلامه ليتضح مرامه ، قال في موضع:( فالعصمة من الله سبحانه إنما بإيجاد سبب في الإنسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابًا وطاعة، وهو نوع من العلم الراسخ وهو الملكة كما مرّ) (1)
وفي موضع آخر قال: (ظاهر الآية أنّ الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ، وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة والعفّة والسخاء كل منها صورة علميّة راسخة موجبة لتحقق آثارها مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير، والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل والتلوّث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوى والدين، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي، فلا تكاد تجد متلبسًا بكمال يحجزه كماله
--------------------القول الثالث:رأي السيد الطباطبائي في العصمة.
ص: 34
من النواقص ويصونه عن الخطأ صونًا دائميًّا من غير تخلّف، وهذه سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها ونشاهدها)(1).
وفي طيّات كلامه بيّن أنّ الفرق بين العصمة وملكة العدالة الموجودة عند أهل التقى والورع، هو أن صاحب العصمة يمتنع منه وقوع المعاصي امتناعًا دائميًّا، بينما صاحب الملكة امتناعه من المعاصي غالبي غير دائمي.
والوجه في تعرضه للتفريق بين العصمة التي هي ملكة نفسانية من قبيل العلم عنده والعدالة، هو أن ملكة العدالة غير مانعة من صدور المعصية، وذلك لأنا نرى أن العادل قد يصدر منه ذنب، فكيف تكون العصمة التي هي ملكة مانعة من صدور الذنب؟
وبعبارة أخرى: لما وجد أن الملكات غير مانعة بالكلية من صدور الذنب كما هو مشاهد، وقد فسّر العصمة بالملكة اقتضى ذلك تهافتا في ،کلامه فرفعه بالتفريق بين الملكات الحاصلة عند أهل التقى والورع في كون المنع في الأول دائميًّا، وفي الثاني غالبيًّا.
ولم يبين مراده بالامتناع عند قوله: (العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه من التلبس بالمعصية).
فإنّ الامتناع إما أن يكون ذاتيًّا وإما أن يكون وقوعيًّا.
بيان ذلك: أنه قد ثبت في محلّه من علم المعقول أن الإمكان على أقسام:
إمكان ذاتي، وإمكان استعدادي، وإمكان وقوعي، وغيرها من الأقسام التي لا يهمنا التعرّض لها ههنا.
---------------تفريق السيد الطباطبائي بين العصمة ملكة العدالة. الفرق بين اﻻمتناع الذاتي واﻻمتناع الوقوعي
ص: 35
فالإمكان الذاتي يقابله الامتناع ،الذاتي والإمكان الوقوعي يقابله الامتناع الوقوعي.
والمقصود من الإمكان الذاتي: هو كون الشيء في نفسه ليس ضروري الوجود ولا ضروري العدم.
وأمّا الامتناع الذاتي: فهو كون الشيء ضروري العدم، والممتنعات الذاتية كلُّها تنتهي إلى أوّل الأوائل وهو اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، فكلُّ ما لا يلزم منه اجتماع أو ارتفاع النقيضين لا يكون ممتنعا ذاتيا.
والإمكان الوقوعي: هو كون الشيء بحيث لا يلزم من تحقق وجوده في الخارج محال.
وأمّا الامتناع الوقوعي: فهو كون الشيء بحيث لو فرض وجوده في الخارج لزم من ذلك محال، والموصوف بالامتناع وقوعًا هو ممكن ذاتا، كما لو أخبر الله عرين بموت زيد غدًا، فإن عدم موت زيد غدًا يكون ممتنعا وقوعًا، لأنه لو فرض عدم موته لزم من ذلك وترتب عليه محال، وهو عدم مطابقة ما أخبر الله به للواقع الخارجي، وهو كذب من المحال صدوره عن الله عرين؛ لأنه يقتضي إما الجهل أو العجز ، وهما مستحيلان عليه تعالى.
فعدم الموت مع كونه ممكنا ذانًا بالنسبة لزيد، ولكنه صار ممتنعا وقوعًا من جهة ترتب لازم فاسد على فرض تحققه، فيكون ذلك اللازم الممتنع قد جعل الوصف الممكن للذات ممتنعًا وقوعًا.
ص: 36
إذا عرفت ما تقدم، فما ذكره السيد الطباطبائي رحمة الله علیه _وهو أن العصمة من الكيف النفساني الذي هو العلم، بحيث يكون العلم هو المانع عن وقوع المعصية _ فيه نظر من وجوه:
الوجه الأوّل: لزوم عدم عصمة النبي منذ الولادة:
السيد رحمة الله علیه حيث فسّر العصمة بالملكة ،النفسانية، فمقتضى ذلك أن لا يكون النبي معصوماً من حين ،ولادته لأن الكيفيّات النفسانية إنّما تحصل بالممارسة كما تقدم.
فإن قلت إن السيد صاحب الميزان قد صرّح في بعض المواضع من تفسيره بأنّ العصمة أمر موهوب وليس اكتسابيًّا؛ حيث قال:
(وعلى هذا فالمراد بقوله: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، آتاك نوعًا من العلم لو لم يُؤتك إيَّاه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلّم الإنسان ما يكتسبه من العلوم، فقد بان من جميع ما قدمناه أنّ هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها ...)(1)
فمع تصريحه بأنّ العصمة موهوبة يرتفع الإشكال المتوجه إليه على تعبيره بأنها ملكة، ويُعلم أنّه يريد بالملكة الملكة الموهوبة لا المكتسبة.
قلت: إنّ المؤاخذة في كلامه (رضوان الله عليه كانت من جهة استخدامه لمصطلح الملكة النفسانية فى مقام بيانه و تفسيره العصمة التي هي
-------------------النظر فيما ذهب إليه السيدالطباطبائي
ص: 37
أمر موهوب من الله، والخروج عن المعنى المقرر لمصطلح الملكة عند أهل المعقول، فإن الملكة النفسانية التي هي من قبيل العلم لا تحصل إلاّ بالاكتساب، ولا تكون أمرًا موهوبًا عند الولادة، فاستخدام المصطلح في غير معناه المقرر عند أهله في غير محله، فكان الأولى به إما أن يستخدم المصطلح في معناه المقرّر أو يعدل عنه إلى مصطلح آخر ويعبّر عن العصمة بالهبة أو ما شابه ذلك.
وكيفما كان يمكن توجيه كلامه رحمة الله علیه وكذلك كلام من قال بأنها ملكة من الأعلام رحمة الله علیه بأن يقال:
أنّهم لا يلتزمون بأن هذه الملكة تحصل بالممارسة، بل هي هبة من الله تُجعل دفعةً واحدةً في نفس المعصوم، لا أنها تحصل تدريجيًا بالممارسة، نظير الشجاعة التي هي من الكيفيات النفسانية، ولكن هذا النحو من الكيفيات من المعلوم أنه غالبًا لا يكون بالاكتساب، بل بمقتض موجود في الذات، فإنّ معظم من يتصف بالشجاعة يولد شجاعًا، كما أن معظم من يتصف بالجبن يولد جبانًا، فكما أن ملكة الشجاعة تحصل بدون اكتساب وتوجد دفعةً واحدةً بوجود الشجاع فكذلك ملكة العصمة.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام من فسّر العصمة بالملكة.
ولكن هذا التوجيه قد لا يتلاءم مع كلمات السيد ؛ لأنه مثل للعصمة بالعدالة، وقال: إن المائز بين ملكة العصمة وملكة العدالة أنّ الامتناع عن المعاصي في العدالة غالبي بخلاف الامتناع مع العصمة فإنه دائمي، وعبر عن العصمة بالملكة ،النفسانية، وهذا ربما يمنع من توجيه كلامه على النحو الذي
---------------ما يمكن توجيه كﻼم السيد به
ص: 38
وجهناه وحملنا كلامه عليه، وهو أنّ العصمة موهبة توجد دفعةً لا تدريجيًّا، وذلك لأنّ الملكات أمور كسبيّة تحصل بعد الممارسة وترويض النفس.
وكذلك يعثر المتتبع في كلام جملة من الأعلام للعصمة عند تفسيرهم بالملكة النفسانية على عبائر لا تتوافق مع جعلهم العصمة أمرًا موهوبًا يحصل دفعةً عند المعصوم. فمثلاً أنا نجد كثرًا من علماء الإمامية - متكلمين وفلاسفة_ قد جعلوا العصمة أمرًا موهوبا من الله ورجل، كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ النوبختي وغيرهم من المتقدمين، وكذا الملا هادي السبزواري وغيره من المتأخرين، ولكن في مطاوي كلمات بعضهم يعثر المتتبع على ما ينافي موهوبيّة العصمة، ويشهد لذلك قول العلامة رجال كتابه معارج الفهم في شرح النظم عند تفسيره للعصمة؛ حيث قال: (فإذا حصلت للإنسان ملكة مانعة من الفجور والإقدام على المعاصي، وانضاف إلى تلك الملكة علم بما في الطاعة من السعادة وفي المعصية من الشقاوة، مع خوف المؤاخذة على ترك الأولى والفعل المنهي فقد تكمّلت شرائط العصمة)(1)
فالعصمة عند العلامة رحمة الله علیه هي الملكة المانعة من الفجور، واكتمالها مشروط بأن ينضاف إليها العلم بما في الطاعة من السعادة وما في المعصية من الشقاوة مع خوف المؤاخذة، وأين هذا من كونها أمرًا دفعيَّا؟! فإنّ الأمر الدفعي لا ينتظر انضمام شرائط لينتظم أمره ويكتمل، بل هذا يتلاءم مع الأمر الذي يحصل تدريجيًّا.
ص: 39
الوجه الثاني لزوم أن تكون العصمة وصفا الله وليس للمعصوم:
لو كانت المعصية ممتنعة وقوعًا للزم من ذلك أن تكون العصمة وصفا الله وليس للمعصوم.
بمعنى: أن الممتنع وقوعًا ليس امتناعه من جهة نفس الذات، فإنّه ممكن بلحاظها كما تقدم، بل امتناعه من جهة المحال المترتب على فرض وقوعه، وهو صدور الكذب من الله رحمة الله علیه حيث أخبر في كتابه الكريم بأن الأنبياء علیهم السلام لا تصدر منهم المعصية المولويّة، فهذه المحالية إنّما هي محال على الله عزوجل، وليست محالاً على النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، فتكون وصفا وتنزيها الله تعالى وليس للنبي.
بيان ذلك: أنَّ المعصية بلحاظ ذات النبي أو الإمام ممكنة ذاتا، وبلحاظ أمر خارج عن الذات وهو إخبار الله بأنه لا يعصي - ممتنعة وقوعًا؛ لأنه على فرض وقوعها يترتب محال وهو كذب المولى جل وعلا فيما أخبر به، وهذا معنى المستحيل وقوعًا، لأن ما يترتب على فرض وقوعه محال، فباختلاف لحاظ الموضوع تختلف النسبة من الإمكان إلى الامتناع الوقوعي، فإن كان الملاحظ ذات الموضوع كانت النسبة الإمكان الذاتي، وإن لوحظ مانع خارج عن ذات الموضوع كانت النسبة الامتناع الوقوعي، وإذا دُقِّقَ النظر في المحال المترتب على فرض وقوع المعصية من النبي أو الإمام يُعلم أنه كذب المولى عز وجل فيما أخبر، فيكون امتناع صدور المعصية تنزيها له جل وعلا، بينما العصمة تنزيه للمعصوم ، وليست تنزيها للباري. الوجه الثالث من لزوم أن يكون العلم مؤثرًا وليس فقط كاشفًا:
ص: 40
جعل السيد صاحب الميزان العلم مؤثرًا لأنه مناط الامتناع عن المعصية، علمًا بأنّه قد أقيمت البراهين في العلوم العقلية ولعل السيد الله نفسه ممن يقول بذلك _ على أنّ العلم كاشف وليس له أي نحو من التأثير والفاعلية.
ولقائل أن يقول: إنَّ ما اشتهر على ألسن العلماء من أنَّ العقل مدرك فقط يراد به أنه ليس له البعث والزجر الشرعيين المولويين، وأما المدرَك فما تسالم عليه أهل المعقول هو أنَّ العلم الحصولي في مرتبة العقل النظري محض كاشف بينما العلم الحضوري أو العلم الحصولي في مرتبة العقل العملي فله نحو من التأثير والداعويّة، بمعنى أنه يكون سببًا لحدوث الإرادة في نفس الفاعل، وبتعبير آخر: إنّ العقل العملي ليس مدركًا لحسن العدل فقط بل هو عندما يدرك أنه ينبغي فعل هذا الشيء لأنه عدل فلهذا الإدراك نحو من الداعوية، بمعنى أنه يكون من مقدمات تولد الشوق والإرادة في نفس الفاعل، فهو ليس محض مدرك كالعقل النظري، قال الشيخ الرئيس في رسالة الحدود: (والعقل العملي قوة للنفس هي مبدأ لتحريك القوة الشوقية إلى ما يختار من الجزئيات من أجل غاية مظنونة..)(1).
والجواب عن ذلك: إنَّ الإدراك ليس علّة لتولّد الإرادة وإلا لكان كلّ عالم بالخير مريدا وفاعلاً ،له، بل العلم إحدى مقدمات الإرادة وليس للإرادة، فإن كان المراد بكون مدركات العقل العملي مولّدة للشوق والإرادة على نحو العلّيّة فهو في غير محله وإن كان المراد أنها إحدى مقدمات الإرادة فهو صحيح، ولكنّها بذلك لا تكون مؤثرة؛ فإن المؤثر هو العلة
ص: 41
الفاعلة، وهذا ما أردناه من قولنا ليس العلم مؤثرًا، وليس المراد أنه لا مدخليّة له مطلقًا.
العلم إن كان من قبيل العلم الحصولي، فمن الواضح أنه كاشف غير مؤثر، وإن كان من قبيل العلم الحضوري فهو على ثلاثة أقسام:
العلم الحضوري وبيان أنه غير الأوّل: أن يكون العالم والمعلوم واحدا، كعلم النفس بذاتها.
الثاني: أن يكون المعلوم وصفًا للعالم، كعلم الإنسان بعلمه.
الثالث: أن يكون العالم علّة للمعلوم، كعلم العلة بمعلولها.
وهذه الأقسام الثلاثة استقرائية وليست على سبيل الحصر العقلي، ولكنها جميعًا تعطي عدم غيبة المعلوم عن العالم، وتفيد أن العلم كاشف لا مؤثر، وشأنه استجلاء كيفية المعلوم لا التأثير.
القول الرابع: وهو ما نذهب إليه ونعتقده صحيحًا: هو أنّ ذات النبي والولي بطبيعتها نورانية لا تتوجّه إلى المعصية فضلاً أنّ ذات النبي لا تصدر عنها الذنوب بلحاظ العلم أو الملكة النفسانية، بل بمقتضى نفس نورانيّتها وطهارتها وصفائها.
فالصحيح أن يقال: أنّ مشأ العصمة ملاكها ومدارها على واجديّة النبي والإمام لأمور متعددة تجمعها نورانية ذاتهما:
أولها طهارة الذات وصفائها.
الثاني: طيبة الطينة وتكوّن جسد المعصوم بخصائص معينة.
الثالث: واجديّة جميع جنود العقل التي هي جميع جنود العقل التي هي الملكات الفاضلة.
الرابع: التسديد الإلهي مباشرة أو عبر الروح من أمره الموكل بذلك.
------------------إيضاح ﻷقسام العلم الحضوري وبيان أنه غير مؤثّر
ص: 42
الخامس: حلول روح القدس فيهم.
ولما كان محل الكلام في منشأ الامتناع عن الذنوب فكل ما كان له في الامتناع عن الذنب وداعويّة لفعل الطاعة فلا بد من ملاحظته فى المقام حتى تتكوّن الصورة الصحيحة عن العصمة، وكل واحد من هذه الأمر وردت به روایات عديدة :
الطائفة الأولى: الروايات التي تحدثت عن خلق روح النبي والأئمة عال من نور عظمة الله وأبدانهم من أعلى مراتب الطينة الطيبة، والمراد بالطينة الطيبة الطبيعة والجبلّة التي تدعو إلى فعل الخير واجتناب الشر ولا تصل إلى حد الجبر.
الطائفة الثانية: الروايات التي تحدثت عن أنّ الإمام مؤيد بروح القدس وبينه وبين الله عزوجل عمود من نور يرى فيه أعمال العباد.
الطائفة الثالثة: الروايات التي جاء فيها أنّ الله قد وكل روحًا من أمره يسدد بها المعصومين :
ففي الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين الله المروية في نهج البلاغة:
(ولَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلّى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيمًا أَعْظَمَ مَلَكَ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.. )(1)
الطائفة الرابعة: الروايات التي ذكرت تأييد وتسديد المعصوم عليه السلام بروح القدس:
ص: 43
فقد روى ثقة الإسلام الكليني رحمة الله علیه في الكافي بإسناده عن جابر الجعفي، قال: قال أبو عبد الله يا جابر، إنّ الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة أصناف، وهو قول الله عزوجل: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةَ * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).
فالسابقون هم رسل الله وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح، أيدهم بروح القدس فيه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عر، وأيّدهم بروح القوّة فبه قدروا على طاعة الله، وأيّدهم بروح الشهوة فيه اشتهوا طاعة الله ورين وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون، وجعل في المؤمنين وأصحاب الميمنة روح الإيمان
فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوّة فيه قدروا على طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة فيه اشتهوا طاعة الله ...) (1).
إنّ الملاحظ أنّ هذه الأحاديث ظاهرة في أن العدالة وغيرها مما كان من قبيل الكيفيات النفسانية إنّما هو في مرتبة روح الإيمان، أما العصمة والنبوة فهما في مرتبة روح القدس، وعلى هذا فلا يصح تفسير العصمة بالملكة النفسانية سواء كانت من قبيل العلم أم العدالة أم الغريزة؛ لأنّ تفسيرهم للعصمة بالعدالة أو العلم أو الملكة النفسانية ظاهر في أنه ليس للنبي روح يختص بها وبها قوام العصمة والنبوة.
ص: 44
والحاصل: أن ملاحظة هذه الطوائف من الروايات تدل على أن قوام العصمة مطلقًا عملاً وعلما سواء في الامتناع عن المعصية أم في عدم العلمي أم السهو وغير ذلك منشؤها مجموع أمور، وهي:
نورانيّة ذواتهم، وطيب طينتهم، وحيازتهم على جميع جنود العقل وروح القدس الحال فيهم، والروح من أمره المسدّد لهم، والعصمة بقول مطلق هي ،هذه وكلّ واحد من العلماء اللذين ذكرنا آراءهم جزاهم الله خير جزاء العاملين نَظَرَ إلى جنبة واقتصر عليها، ولكن الحق النظر إلى مجموع ما نطقت به الأخبار التي يجمعها نورانية ذواتهم.
وهل روح القدس التي جاء ذكرها في الروايات أمر مغاير للمعصومين مسدد لهم كما هو ظاهر بعض الأخبار، أم أنها نفس روح المعصوم في حال تجلّي الأنوار القدسيّة عليها؟
وبعبارة أخرى: هي نفس روح المعصوم في حال اللطف والتسديد الإلهي لها، فكما أن النفس تسمّى لوّامة باعتبار ومطمئنة باعتبار آخر فكذلك روح المعصوم تسمّى بروح القدس باعتبار تجلّي الأنوار الإلهية عليها؟
ذهب إلى الثاني جملة من العلماء، منهم: المولى صالح المازندراني رحمة الله علیه في شرح شرح أصول الكافي حيث قال:
(كما أن الروح يعني أن النفس الناطقة تسمى مطمئنة ولوامة وأمارة بالسوء باعتبارات مختلفة، كذلك تسمّى روح المدرج باعتبار أنها مصدر للذهاب والمجيء وسبب للحركة في الحوائج ، وروح الشهوة باعتبار أنها مع القوّة الشهوية تشتهي طاعة الله تعالى والإتيان بالحلال من النساء وغير ذلك،
ص: 45
القدرة باعتبار أنها تقدر بسبب القدرة المعدة لها على الإتيان بما تشتهيه وروح الإيمان باعتبار أن الإيمان والعدل والخوف من الله تعالى يتحقق بها، وروح القدس باعتبار اتصافها بالقوة القدسيّة التي تتجلّى فيها لوايح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأوصياء، وهم بسببها عرفوا الأشياء كلّها كما هي وصاروا من أهل التعليم والإرشاد، ويؤيده ما ذكره بعض المحققين من أن الروح جود الله تبارك وتعالى وفيضه الصادر منه، وإنما كان روحًا لأنه مبدء كلّ فيض وراحة وحياة حقيقةً، فهو الروح التي بها قوام حقيقة النبوة...)(1).
وجعل العلامة المجلسي رحمة الله علیه الأحد المحتملات من روح القدس ان تكون نفس المعصوم، قال في البحار:
(ثمّ أعلم أنّ الروح يُطلق على النفس الناطقة وعلى النفس الحيوانية السارية في البدن على خلق عظيم، إما من جنس الملائكة أو أعظم منهم، والأرواح المذكورة هنا يمكن أن تكون أرواحا مختلفة متباينة بعضها في البدن، وبعضها خارجة عنه، أو يكون المراد بالجميع النفس الناطقة باعتبار أعمالها وأحوالها ودرجاتها ومراتبها، أو أطلقت على تلك الأحوال والدرجات، كما أنّه تُطلق عليها النفس الأمارة واللوامة والملهمة والمطمئنة بحسب درجاتها ومراتبها في الطاعة والعقل الهيولاني وبالملكة وبالفعل والمستفاد بحسب مراتبها في العلم والمعرفة، ويُحتمل أن تكون روح القوة والشهوة والمدرج كلّها الروح الحيوانية، وروح الإيمان وروح القدس
ص: 46
النفس الناطقة بحسب كمالاتها، أو تكون الأربعة سوى روح القدس مراتب النفس ، وروح القدس الخلق الأعظم، ويُحتمل أن يكون ارتباط روح القدس متفرعًا على حصول تلك الحالة القدسيّة للنفس، فتُطلق روح القدس على النفس في تلك الحالة، وعلى تلك الحالة، وعلى الجوهر القدسي الذي يحصل له الارتباط بالنفس في تلك الحالة..) (1).
فعدم صدور المعاصي منهم عليهم السلام منشؤه ذواتهم النورانية والروح التي تميزوا بها، كما نطقت بذلك الأحاديث الشريفة، وهي ليست أمرًا خارجًا عن ذواتهم فلا يتوجهون إلى المعصية أبدا حتى يكون العلم مانعا، ولا نريد بذلك إثبات أن جوهر نفوسهم عليهم السلام يمتنع منه ذاتا صدور المعصية ليلزم عدمُ الفضل وعدم الاختيار لهم في ذلك، نظير الملائكة الذين لا شهوة لهم و شهوة لهم ولا اقتضاء عندهم للمعصية على بعض الآراء، بل ما نريد إثباته أنه مع كون المعصية ليست ممتنعة ذاتًا بالنسبة إليهم، ولكن ليس مرجع عدم صدور المعصية إلى المانع المغاير لذواتهم، بل مرجعه هو نورية ذواتهم التي لا تتوجّه إلى المعصية، وفرق بين عدم صدور المعصية لمانع مع اقتضاء الذات، وبين عدم صدور المعصية لعدم اقتضاء الذات اقتضاء لا يصل إلى مرحلة الفعليّة، فإنّ نفوسهم لها قابلية صدور المعصية بالقوة التي لا تبلغ إلى مرحلة الفعليّة من جهة نفسها لا من جهة المانع، فمناط عدم صدور المعصية منهم ذواتهم النوريّة، لا أن المناط هو المانع العارض على ذواتهم الذي هو من قبيل الكيفيات النفسانية.
ص: 47
وبعبارة أخرى: إن عدم وقوع شيء من الذنوب منهم صلوات الله عليهم مع وجود دواعي التمكن من الذنب إنّما هو بسبب الخُلق الإلهي وصفاء الروح وطيب الطينة وتوالي الألطاف الإلهيّة، والتأييدات الصمدانية المسئولية على دواعي الذنوب والتمكن منها بنحو وإن كانت نفوسهم يمكن صدور الذنب منها،
ولكن هذا الإمكان والاقتضاء لا يصل إلى مرحلة الفعلية من جهة نورانية الذات لا من جهة المانع الذي يكون كالحاجز عن ارتكاب الذنب. والحاصل أن العصمة الموجودة في ذواتهم مقتض لعبور حفر المعاصي لا أنها مانع وقوعًا عن صدور المعصية؛ لأنَّ نفوسهم لا تتوجه إلى المعاصي أبدًا، كما أنّ نفوس سائر الناس لا تتوجّه إلى ما تتنفّر منه، فلا تجد تتوجه نفسه إلى أكل القاذورات؛ لأنه يدرك قبحها وطبعه يتنفّر منها، وهكذا الذنوب بنظر المعصومين عليهم السلام؛ فإنّهم يرون حقيقة الذنب أشد قبحًا من القاذورات فلا تتوجه نفوسهم النورانية إليه فضلاً عن ارتكابها.
ولا ينبغي توهّم أنّ ذلك ينفي عنهم البشريّة؛ لأنهم بشر مشتركون مع باقي أفراد الإنسان في الطبيعة الجسدية المقتضية للجوع والعطش واللذة والألم والموت وسائر الأوصاف البشرية، أما نفوسهم فمختلفة؛ حيث إنّها مجهزة بقوى ليست طارئة عليها، بل هي داخلة في كينونتها، ومن هذه القوى العصمة والنبوة، فهما من القوى التي جعلت في نفس المعصوم وليستا أمرين عارضين طارئين على نفسه، فنفس علي علیه السلام غير نفس أبي ذررحمة الله علیه ؛ فإن نفس علي علیه السلام نفس نورانية منذ أوّل وجودها في هذه الدنيا، تعلم ما لا يعلم
ص: 48
أبو ذر، ولا ترتكب غير الأولى فضلاً عن الذنوب، كبيرها وصغيرها، وكلّ ذلك لمقتض ذاتي في نفسه، وليس ذلك بأمر عارض على نفسه كما هو الحال في باقي البشر؛ فإنّهم يعلمون بعلم يسبقه جهل، ويكتسبون العدالة في وقت لم تكن ثابتةً لهم، وهكذا سائر الكيفيات النفسانية التي هي عند البشر عمومًا، أما المعصومون علیهم السلام فإن الله عز وجل جهز نفوسهم بقوة مجعولة بجعل نفوسهم؛ لأنه وكلهم بمهام عظيمةٍ.
هذا واعلم أنه يظهر من بعض الروايات أنّ المعصوم هو الممتنع بالله.
قال شيخنا الصدوق : حدثنا علي بن الفضل بن العباس البغدادي بالري المعروف بأبي الحسن الحنوطي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد بن سليمان بن الحارث، قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف العطّار، قال: حدثنا حسين الأشقر، قال: قلت لهشام بن الحكم: ما معنى قولكم: إن الإمام لا يكون إلا معصومًا؟ فقال: سألت أبا عبد الله الشلة عن ذلك فقال: المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله وقال الله تبارك وتعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (1) )(2).
ففسّر الإمام معنى المعصوم بالممتنع ،بالله وقرأ قوله تعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بالله، ومعنى اعتصمت بالله أي امتنعت بلطفه من المعصية كما تقدم عن بعض اللغويين.
ص: 49
لا يقال: إن الحكم كان بامتناع صدور المعصية، وكل ممتنع غير مقدور جبرية العصمة سواء أكان ممتنعًا ذاتيًا أم ممتنعًا وقوعيًّا، وذلك ينافي اختيار الأنبياء بناء على القول الأفعال منهم عن قصد وإرادة، ويترتب على ذلك أنه لا فضل لهم في الامتناع عن المعاصي فلا يستحقون الثواب على تركها.
فإنّه يقال: إن العصمة ترفع الداعي إلى المعصية دون القدرة عليها، فالامتناع بسبب عدم الداعي لا يسلب القدرة، وإنما يسلب الميل إلى المعصية بناءً على أنّ القدرة لا تدخل في مفهوم الإرادة، فالمحالية إنما هي من جهة نسبة الكذب إلى الله ورجل وليست المحالية من جهة ذات النبي، لأنها ممكنة بلحاظ ،ذاته وممتنعة بلحاظ آخر.
متعلَّق العصمة ثم إن ههنا ،بحث وهو: هل أنّ عصمة الأنبياء عن الكبائر والصغائر، أو عن الكبائر فقط، أو عن الكفر والكذب مع جواز الكبيرة والصغيرة؟
أقوال: ذهبت الإماميّة إلى الأوّل، والمعتزلة إلى الثاني، والأشعرية إلى الثالث.
وهل العصمة في حال التبليغ أو من حين الولادة إلى انتهاء العمر؟
ذهبت الإمامية إلى الثاني ومَن خالفهم إلى الأوّل.
وهل هو معصوم عن السهو مطلقًا، أم أنه لحكمة قد يُسهيه الله في وقت وحال معين؟
جمهور الإماميّة على أنّ المعصوم لا يرتكب الذنب عمدا أو سهوا أو الإمامية في خطا ولا يجوز عليه السهو، وخالف في ذلك من الإمامية الشيخ الصدوق متعلق العصمة وشيخه ابن الوليد، حيث قالا بأنّ أوّل درجات الغلو نفي السهو عن المعصوم.
--------------------
رد إشكال لزوم جبرية العصمة بناء على القول بامتناع صدور الذنب من المعصوم متعلﱠق العصمة ومقدار سعة دائرتها رأي جمهور اﻹمامية في متعلّق العصمة
ص: 50
قال رحمة الله علیه في مَن لا يحضره الفقيه: (وكان شيخنا محمد بن الحسن بن بن الوليد رحمة الله علیه يقول: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي، ولو جاز أن تُردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن تردّ جميع الأخبار، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة.
وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلی الله علیه و آله و سلم والردّ على منكريه إن شاء الله تعالى) (1).
ومرادهما له بالسهو : أن الله تعالى هو الذي أسهاه في حالة معيّنة لحكمةِ أن لا يعتقد الناس بألوهيته لِما يَرَوْنه من الكمالات العظيمة فيه، فيكون معنى السهو إسهاء من الله لنبيه، وليس سهوا منه.
وقد وردت عندنا روايات دلّت على سهو النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، وأنه سجد سجدتي السهو، وهذا ما دعا الشيخ الصدوق تبعًا لشيخه ابن الوليد إلى الالتزام بذلك، مفسّرًا للسهو الوارد في الروايات بالإسهاء بمعنى الإجبار على السهو، فكما أمر الله الإمام السلالة بشرب السم، وأن ذلك قد يكون الله بالتشريع، فكذلك قد يكون بالتكوين في وقت معين وفي حالةٍ معينة لأجل أن لا يُعتقد فيه الألوهية كما كانوا يقعون بمثل هذا في الأمم السابقة، فالتزم بأن الحق هو أنّ الأنبياء والأئمّة لا يقعون في خطأ أو نسيان أو سهو إلا إذا كان على نحو الإجبار من الله له في حالةٍ معينة، وهي أمر غير مستمر، ولكن هذا القول باطل؛ لما سيأتي في محله من أن هذه الروايات
ص: 51
معارضة بروايات أخرى، وتحقيق ذلك موكول إلى بحث عصمة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله صلى الله.
العصمة وسعة وببيانٍ آخر فيه نحو من التفصيل: إنّه قد اختلف المسلمون في متعلّق ودائرة العصمة على ثلاثة أقوال:
-------------------
تفصيل اﻷقوال في متعلّق العصمة وسعة دائرتها
ص: 52
القول الأوّل: وهو المنسوب إلى المعتزلة، فإنّهم جوّزوا صدور الصغائر رأي المعتزلية الأنبياء عل ، ثم اختلفوا فيما بينهم في وجه التوفيق بين وجه التوفيق بين العصمة وصدور الصغائر على أقوال:
فقال بعض: إنّ الصغائر إنّما تصدر منهم نسيانا وسهوًا.
وقال بعض آخر: إنّها تصدر منهم على سبيل القصد، ولكنها تقع محبَطة، بمعنى أنهم لا يُؤاخذون عليها يوم القيامة، وذلك بسبب كثرة فعلهم للطاعات والحسنات واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).(1)
وقال آخرون إن الصغائر تصدر منهم على سبيل التأويل، بمعنى آدم علیه السلام أوّلَ النهي عن الشجرة بالنهي عن فرد محدد، فأكل من غير الشجرة المعيّنة التي نُهي عنها، والحال أنّ النّهي كان عن نوع من أشجار الجنة، لا عن فرد خاص من جهة الخطأ في تأويله للنهي المتوجّه إليه.
فإنّ المعتزلة وإن اختلفوا في وجه صدور المعصية على هذه الآراء الثلاثة، ولكنّهم اتفقوا على صدور الصغائر منهم، نعم ربما يكون لبعضهم رأي في وجه صدور المعصية غير الذي ذكر، ولكن معظمهم على هذه الأقوال الثلاثة.
ص: 53
رأي الأشاعرة القول الثاني: وهو المنسوب إلى الأشاعرة والحشوية، وهو أنه يصدر من الأنبياء الله الصغائر والكبائر إلا الكفر والكذب، فعدم كفره يُبقيه مؤمنًا وعدم كذبه يؤمن معه تصديق ما بلغه الله.
وهذا القول هو قول جمهور الأشاعرة _حنابلة كانوا أم حنفية أم شافعيّة أم مالكية، فهذه مذاهب فقهيّة مختلفة من حيث الفروع، أما من حيث أصول الاعتقاد فجميعهم أشعريو المذهب.
القول الثالث: وهو قول الإماميّة، وهو العصمة عن الصغائر والكبائر عن عمد أو سهو أو خطأ قبل النبوة أم بعدها.
يوجد في ثنايا ومطاوي كلمات بعض الأعلام من الإمامية في مقام الجواب عن الآيات التي تمسك بها من ذهب إلى وقوع المعصية من الأنبياء علا قول، وهو أن ما صدر إنّما كان قبل النبوة، مثل ما صدر من بأن ما صدر من آدم لا فهو إنما كان قبل نبوّته، ولعلّ وجه الذهاب إلى ذلك ما رآه هذا القائل من أنّ النبوة ملازمة للإنباء والإخبار عن الله، فمن لم يكن صادعًا بالنبوة لا يكون نبيًّا، وهذا كما هو ظاهر قول بجواز وقوع المعصية قبل بالنبوة.
وفي هذا التفصيل وهو القول بجواز صدور الذنب قبل النبوة وعدم جوازه بعدها _ نظر من جهتين:
لا ملازمة بين الجهة الأولى: أن القائل بهذا الأمر لم يتحقق لديه معنى النبوة بدقة، فإن النبوة منصب إلهيّ ثابت للنبي قبل الإبلاغ والصدوع بمهام النبوة، ولا يلازم للنبي والنبوة التي هي مقام هذا المنصب الإلهي الإخبار والإعلان عنه ولا الصدوع بمهام النبوة، فإنّه
---------------
رأي اﻷشاعرة رأي اﻹماميةُ مناقشة قول بعض اﻷعﻼم في مقام الجواب عن بعض اﻵيات بأن ّ ما صدر من بعض اﻷنبياء كان قبل النبوة الجواب عن هذا القول ﻻ مﻼزمة بين المعنى اللغوي للنبي والنبوة التي هي مقام إلهي
ص: 54
لحِكَم كثيرة قد لا يأمر الله سبحان و تعالی بيًّا من أنبيائه بإعلان نبوته، ولا يوجّه إليه الله تكليفا بنشر الدين والأحكام الإلهية.
فإنّ النبوة وإن كانت مشتقة من الإنباء بمعنى الإخبار، كما نص على ذلك جملة من اللغويين منهم: ابن الأثير؛ حيث قال في النهاية:
(النبئ: فعيل بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ: الخبر؛ لأنه أنبأ عن الله أي أخبر) (1).
ولكن عندما يطلق لفظ النبي يراد به صاحب المنصب الإلهي، ولا يراد به الإخبار والصدوع بمهام المنصب، فإنّه لا يُشترط في ثبوت هذا المنصب الإعلان عنه.
الجهة الثانية: أن الأدلة التي أقيمت على وجوب العصمة تقتضي على فرض تكون هذه العصمة ثابتة قبل النبوة وبعدها على حدّ سواء، فإنّه لو سلّمنا بأنّ النبوة قد تكون بعد سنوات من وجود النبي ، وأنّ هذا المنصب الإلهي لم يكن ثابتا له من حين ولادته، ولكن دليل العصمة يقتضي امتناع صدور الذنب منه قبل النبوة.
والحاصل : أنّ القول بأن ما صدر إنّما كان قبل النبوة لا يحل المشكلة فيما نحن فيه؛ لأن دليل العصمة لدينا يوجب امتناع صدور الذنب من المعصوم من حين ولادته إلى خاتمة حياته، فلا يكون التفريق بين ما كان قبل النبوة وبعدها جوابًا عن الآيات التي تمسك بها الغير لإثبات وقوع الذنب من الانبیاءعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ
------------------
على فرض ّ التسليم بأن النبوة ليست من الوﻻدة فالعصمة من الوﻻدة
ص: 55
العصمة في إن عصمة المعصومين عل كما تشمل العصمة عن وقوع الذنب، كذلك الموضوعات تشمل العصمة عن الخطأ في الأمور العلمية وتشخيص الموضوعات الخارجية الخارجية، فهم معصومون عن الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواس وإدراكاتها، وفي الاعتباريات من العلوم، ومعصومون أيضًا الخطأ من في الأمور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر، تشخيص وعصمتهم فيها كعصمتهم عن صدور الذنب على حد سواء، فإنّ ما اقتضى عصمتهم عن صدور الذنب من الأدلة عين ما اقتضى عصمتهم عن ذلك على حد سواء، فإن دليل لزوم التنفّر من النبي والقدوة مع صدور الذنب يقتضي عدم جواز صدور الخطأ في تشخيص الموضوعات الخارجيّة أيضًا، وإلا فإنّ النفرة كما تحصل عند ارتكاب المعصوم للذنب، فإنّها تحصل مع كونه جاهلاً ببعض الموضوعات الخارجيّة، وعامة العقلاء لا يتقبلون أن يكون القدوة الذي يجب اتباعه جاهلاً ولو في الموضوعات.
وذلك إن الخطأ في الموضوعات الخارجيّة قد يوصل المعصوم إلى ارتكاب المحرّم الواقعي، فلو أنه عُرض على معصوم مثلاً سمك بحري، والحال أنه غير معصوم في الموضوعات ويمكن أن يُخطئ في تشخيصها، فظنّ أنّ هذا السمك له ،فلس وفي الواقع ليس له فلس، فيؤدي ذلك إلى أكله لما حرّم الله ،أكله، فيكون الحجّة الواجب اتباعه مغرّرًا في الحرام؛ وذلك لأن الناس إذا رأته يأكل نوعا ما من السمك، فإنّهم يعتقدون حلّية أكله، ولو أنّ الإمام قد جاءه رجل بمال مسروق وهو لا يدري أنه مسروق وتصرّف فيه، فيكون قد تصرّف فيما لا يحل له التصرف فيه، هذا بناءً على
------------------
العصمة في الموضوعات الخارجي
ص: 56
أنّ المعصوم لا يُقدم على المحرّمات الواقعية، وأمّا لو بنينا على إقدامه على الحلال الظاهري وإن كان محرّمًا واقعا فلا يتم ذلك.
ولكن البناء على ذلك مشكل؛ لأن ما يُستفاد من الأدلة الروائية هو إحاطة علم المعصوم بالموضوعات الخارجيّة، وعليه فلا يمكن أن تصل النوبة إلى القول بأنه متعبّد بالظاهر حاله حال عامة المكلّفين؛ وذلك لأن عامة المكلفين إنّما تعبدهم الشارع بالظاهر لجهلهم بالواقع، والمعصوم مع فرض علمه بالواقع لا يمكن أن يكون متعبدا بالظاهر، فإن ذلك من ثبوت فقد الموضوع، باعتبار أن موضوع الأحكام الظاهرية هو الجهل بالواقع.
ثم إنّه لو سُلّم أنّه يجوز للمعصوم أن يُقدم على ما هو حلال ظاهرا،بمعنى أن المال المسروق لما لم يعلم الإمام بأنه مسروق، فيجوز له - في الظاهر _ التصرّف فيه، ولكن الأثر الوضعي للحرام الواقعي لا ينفك عنه، فلو تصرف الإمام بما هو مسروق، فإنّ الأثر الوضعيّ للمحرّم الواقعي لا ينفك مع الجهل ، ولا يصح الالتزام بذلك، لأنه من المعلوم أن الآثار الوضعية قد تحدث في القلب نوعًا من القسوة، وفيها أيضا غير ذلك مما ينبغي تنزيه المعصوم عنه، فلا يمكن الالتزام بأنّ المعصوم يُقدم على ما هو حلال ظاهرًا وحرام واقعا.
نعم المقدار اللازم علمه به من الموضوعات الخارجية من جهة ما يدلّ عليه العقل هو المقدار الذي إذا فُرض جهلُ النبي به يلزم منه اشتباهه فيما هو ضمن دائرة تكليفه ورسالته، وأما ما هو خارج عن هذا النطاق فلا يدلّ العقل
ص: 57
على لزوم علمه به، ويكون بحثه موكولاً إلى الدليل النقلي، وإلى ما تدلّ عليه الآيات والروايات من سعة علم المعصوم.
فمنها ما هو ظاهره استثناء البداء، أو ما لا يُطلع الله ورجل أنبياءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عليه لحكمة.
ويظهر من كلمات جملة من الأعلام منهم صاحب الكفاية رحمة الله علیه أن النبي حملة الخاتم صلی الله علیه و آله وأوصياءه علل اختصوا بالاطلاع على اللوح المحفوظ دون سائر الأنبياء ، ولكنه قد يخفى عنهم بعض ما في اللوح المحفوظ لحكمة، وعلى كل حال فهذه المسألة خارجة عن محلّ البحث.
وعليه، فكلُّ خبر يرد فيه ما ينافي ذلك، ينبغي تأويله إن أمكن، وإلاّ يُردّ علمه إلى أهله.
وسيأتي شيء من تفصيل ذلك في بحث عصمة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله إن شاء الله تعالى.
استدل الإماميّة على وجوب عصمة الانبياء اللا عن الكبائر والصغائر، عمدا وسهوا، قبل البعثة وبعدها من طريق العقل بوجوه عدة، نذكر منها وجهين:
الوجه الأول: لزوم نقض الغرض من بعثة الأنبياء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فيما لو جاز صدور الذنب عنهم، بيان ذلك:
إنّه إنما بعث الأنبياء عا لتعريف الأحكام وإظهار الشرائع، وليكونوا وسائط بين الله وخلقه، ليتابعهم الناس وينقادوا إلى أوامرهم ونواهيهم، فلو لم يكونوا معصومين وأمكن صدور المعصية منهم عليهم السلام لزم من
-----------------------
أدلة وجوب العصمة
ص: 58
عدم الوثوق بأقوالهم وأفعالهم مطلقًا، وذلك لاحتمال أنه قد صدرت منهم معصية أو أخطأ أحدهم في تأدية الوحي، وإذا ارتفع الوثوق بهم ارتفع الانقياد لهم، وهذا معنى نقض الغرض من إرسالهم، فلو جاز صدور المعصية عن الواسطة التي يرسلها الحكيم للزم من ذلك أن يكون الحكيم ناقضاً لغرضه من إرسال الرسل، ونقض الحكيم لغرضه مما لا يجوز.
وبعبارة أخرى: إذا علم الله عرين أن هذا الرسول جعله واسطة بينه وبين عباده في إيصالهم إليه، وأنّه لا يتمّ له ذلك الإيصال إلا بجعله معصوما ليحصل الوثوق به، فلو لم يجعله كذلك لكان ناقضا لغرضه، ومخالفًا لما اقتضته عنايته، وهذا نقص لا يجوز على الحكيم، وحتى يحصل الوثوق والانقياد إلى الأنبياء على فيما يبلغون من الشرائع فلا بد من عدم صدور أيّ ذنب منهم، ولكي يتحقق هذا الأمر لا بد من وجود عصمة مانعة من صدور الذنب، فتجب تحصيلاً لغرض البعثة.
وهذا الدليل مستفاد من كلام المحقق الطوسي رحمة الله علیه في التجريد، حيث قال
(وتجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق في أقواله وأفعاله، فيحصل الغرض من البعثة).
وقال العلامة في شرح التجريد إن الغرض من بعثة الأنبياء علیهم السلام انما يحصل بالعصمة، فتجب العصمة تحصيلاً للغرض وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية جوزوا في أمرهم ونهيهم
ص: 59
أوامرهم، وذلك نقض للغرض من البعثة(1).
وقد أورد عليه غيرُ واحد من العلماء بأنه دليل تام على وجوب عصمة الأنبياء علیهم السلام بعد البعثة خاصة؛ لأن عمادَه على لزوم نقض الغرض من بعثة الرسل على فرض عدم عصمتهم ، فلا يشمل ما قبل البعثة؛ حيث إنه مع عدم البعثة لا يوجب صدور الذنب نقض الغرض؛ لأنّ المفروض أنّ البعثة لم تتحقق بعد حتى ينتقض الغرض منها بصدور الذنب، والمفروض أيضًا أنّ قول النبي وفعله قبل البعثة لا يكون تبليغًا عن الله وتشريعا لحلال أو حرام، فلا ينتقض الغرض بصدور الذنب على أنّ الذنوب غير المخلة بالوثوق لا ينفيها الدليل.
وفي مقام الجواب عن هذا الإيراد نقول: إنّ التفكيك بين ما قبل البعثة وما بعدها ممنوع؛ وذلك لأن مَن يُرى منه ذنب فيما سلف يرتفع الوثوق بقوله فيما سيأتي، ويبقى احتمال خطئه وكون ما أدّاه على غير ما هو عليه، ولكي يحصل الوثوق بما يؤديه بعد البعثة ينبغي أن لا يصدر منه ذنب قبلها، وإلا لارتفع الوثوق بقوله، فدليل المحقق تام من هذه الجهة، نعم جَعْلُه دليلاً عقليا في غير محله؛ لأن الأدلة العقلية ينبغي أن ترجع إلى أوّل الأوائل، وهو اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، ونقض الغرض لا يرجع إلى اجتماع أو ارتفاع النقيضين، فيكون الدليل عقلائيا وليس عقليًّا.
ص: 60
وبعبارة أخرى أنه ينبغي الالتفات إلى الفرق بين الدليل العقلي والعقلائي، وحاصله : أن كل حكم يرجع إلى أوّل الأوائل وهو امتناع اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما فهو حكم عقلي، وإلا فهو فعقلائي، فالأحكام الأحكام الناشئة عن العقلاء بما هم عقلاء وليس منشؤها الانفعالات النفسية أو الموروثات من الأعراف والتقاليد فإنَّ هذه من الأحكام العاطفيّة، بل منشؤها جهة تباني العقلاء كافة، ولما كانت الأحكام العقلائية صادرة عنهم بما هم عقلاء ومن هذه الحيثية فلا بد أن ترجع إلى حكم عقلي، ولكنه حكم عقليّ لا يرجع إلى امتناع اجتماع النقيضين أو ارتفاعها؛ لأن فرض بنائهم على تلك الأحكام من جهة ما عقلاء أن تكون أحكامهم ناشئة من الجهة العقلية.
وفرق آخر هو: أنّ الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص بينما الأحكام العقلائية قابلة للتخصيص؛ لأنها لما كانت غير راجعة إلى أوّل الأوائل فلا محذور من تخصيصها بخلاف الأحكام العقلية، وغير ذلك من الفروق التي ليس ههنا محل ذكرها.
الوجه الثاني: قاعدة اللطف الواجب في حكمة الباري عزوجل، بيان ذلك:
أن نفوس الخلق مفطورة على عدم السكون إلى مَن عُهدت منه معصية ولو فيما سلف وعدم قبول قوله وعدم الوثوق به على حد سكونها إلى مَن لم يُعهد منه معصية قط، وهذا أمر وجداني يلمسه كل فرد من البشر، فإذا يصدر من النبي ذنب قط قبل البعثة وبعدها كان ذلك أدعى للاطمئنان والقبول منه ممّن لو كان قد صدر منه ذنب قبل البعثة وهذا مما يقرب العباد
ص: 61
إلى الطاعة، ويبعدهم عن المعصية، وكلّ ما كان كذلك كان لطفا واجبًا في حكمة الباري عزوجل.
وبعبارة أخرى: إنّ العصمة بالمعنى الذي تقول به الإمامية أحسن وأرجح وأدخل في اللطف، وأدعى في اتباع الناس وعدم تنفّرهم، وحيث لا مانع منها مع إمكانها فإنّه يجب في حكمته تعالى تحققها، بل يقبح عدم تحققها؛ لأن ترجيح المرجوح دون وجود مانع من الراجح قبيح لا يصدر من المولى الحكيم.
وهذا الدليل مستفاد من كلام علم الهدى المرتضى رحمة الله علیه في تنزيه الأنبياء. قال:
إن قيل: إنّ الناس ينقادون إلى رؤسائهم وكبرائهم مع ما يرون منهم من المعاصي والزلات، ولا يوجب ذلك إعراضهم عنهم وعدم انقيادهم إليهم، فنجدهم يطيعونهم ويثقون بهم، بل إنّنا نجد أيضًا أن مَن يعتقد من بقيّة فِرق المسلمين أن الأنبياء لا يجوز عليهم الذنب قد أخذ عنهم ولم يتنفّر منهم. ذلك فالجواب عن من جهتين :
الجهة الأولى: أنّه لم يأتِ في الدليل أنّ التنفير يقتضي ارتفاع تصديق النبي وعدم امتثال أمره جملةً، فإن الناس يعلمون بإمكان صدور الذنب من العلماء، بل بصدوره منهم في العمر مرة أو مرّات، ومع ذلك نجدهم يأخذون عنهم، ولكن ما أفاده الدليل هو أن مَن وقع منه الذنب ليس على حد سواء مع من لم يقع منه ذنب قط في القبول منه والوثوق بقوله والانقياد إليه، ولا شك في أن الناس يكونون أكثر وثوقًا في مَن لم يروا منه ذنبًا قط، وأسرع
ص: 62
الانقياد إليه، وهذا مما يقربهم إلى الطاعة، وما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية لطف واجب بمقتضى حكمة المولى عزوجل.
الجهة الثانية: أن قياس حال الأنبياء والرسل علي بغيرهم قياس مع الفارق، فإن الرسل علیهم السلام بعثوا بشرائع مشتملة على الأحكام من الواجبات والمحرمات، ومكارم الأخلاق والصفات، ودعوا إليها ونهوا عن وقد جعلوا حجّةً على الخلق وأسوةً لهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، فمقتضى كونِ الغاية من الشرائع إيصال الخلق لفعل الواجب والانتهاء عن الحرام، بل وفعل المستحب والتخلّق بمكارم الأخلاق، واجتناب المكروهات والابتعاد عن مذامّ الأخلاق، أن لا يصدر من الواسطة والرّسل ما بعثوا لتأديته وأمروا به، فإنّ ذلك ينافي اللطف المقرب ما ينافي جميع للناس نحو الغاية التي وُجدت لأجلها الشرائع.
إن قيل: غاية ما يثبته الدليل العقليّ أنّ الأنبياء لا يقع منهم خطأ، ولا تصدر عنهم ،معصية، وليس ذلك من العصمة في شيء، فإن العصمة على ما ذكر قوةً إذا وجدت مع الإنسان لا تقع منه معصية، وليست القوة مجرد عدم صدور المعصية.
فالجواب: إنّ عدم صدور الذُّنب من النبي على وتيرة واحدة طيلة عمره الشريف يدلّ على وجود قوة في نفس النبي اقتضت هذا الأمر، بيان ذلك :
إنّه لا يمكن أن لا تصدر المعاصي قط من النبي دون وجود قوة ومبدأ ذاته؛ وذلك لأن أفعال الأنبياء علیهم السلام متولّدة عن اختيارهم، وليسوا
ص: 63
مجبورين عليها، ومعه لا بد من منشأ يختارون معه الطاعة دائمًا، وإلا لزم أنّهم يختارون الطاعة دائمًا مع عدم مقتض لهذا الاختيار، وهو واضح البطلان، فثبت بذلك أن معهم قوة مقتضيةً لاختيار الطاعة دائمًا وعدم فعل المعصية كذلك.
ثم إنّ ههنا دليلاً آخر وهو ملفّقٌ من العقل والنقل، بيانه:
إنّه لمّا دلّ الدليل العقليّ على لزوم عصمة الأنبياء علیهم السلام بعد البعثة، فإذا انضم إليه الوجوه النقلية الكثيرة الدالة على عصمتهم قبل البعثة ثبتت عصمتهم قبل البعثة عن المعصية مطلقًا، صغيرها وكبيرها.
وبتعبير آخر :لما جاز لنا الأخذ بأقوالهم عليهم السلام بعد البعثة بمقتضى الدليل العقلي فيُمكننا أن نثبت لهم العصمة قبل البعثة بما تدلّ عليه الأحاديث الكثيرة المُثبتة لعصمتهم قبل البعثة عن المعصية مطلقًا.
بقي أمران لا بد من التنبيه عليهما قبل الدخول في البحث عن رد شبهات المخطئة، ونفيهم لعصمة الأنبياء علیهم السلام :
بيانه: أن تقطيع آيات السور أمر تعبدي صادر من النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ولم يتمكن أحدٌ من علماء المسلمين إلى الآن من معرفة سرّ ومناط تقطيع الآيات على ما هي عليه، فإن الجملة الواحدة الصالحة لأن تكون آيةً واحدةً، قد جعلت عدة آيات بأمر منه صلی الله علیه و آله و سلم ، وأما السرّ في ذلك فعلمه عند خزنة علم الله سبحانه و تعالی وهم محمد و آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
لا يقال أنّه من المحتمل أن يكون هذا التقطيع والترتيب للآيات وقع من الصحابة أو التابعين وليس من فعل النبي.
-------------------------
اﻷول: ّفي أن تقطيع آيات السور أمر ٌ تعبدي
ص: 64
لأنا نقول: إنَّ احتمال أن يكون تقطيع الآيات وترتيبها على ما هي عليه فى المصحف من فعل بعض الصحابة متوقف على أن يكون القرآن غير مجموع في عصر النبي ، ولم يتصدَّ بنفسه الشريفة لجمعه، وهذا مرفوض رفضا قاطعًا؛ فإنَّ الأدلّة قائمة على القرآن وتقطيع الآيات وترتيبها على ما هي عليه الآن كان من النبي ، والدليل على ذلك:
أن هداية الأمة بعد النبي وبقاءها على الصراط المستقيم إنَّما يكون بالتمسك بالقرآن الكريم والعترة الطاهرة وهذا ما جاء في حديث الثقلين المتواتر، ولو فُرِضَ أنَّ النبي لم يتصدَّ لجمع القرآن وترتيب آياته فيكون تضييع الثقل الأكبر من النبي والعياذ بالله ؛ باعتبار أن العادة قاضية بأن المتصدي لجمعه إذا كان غير معصوم فيحتمل أن يُنْقِص من القرآن ويَزِيدَ فيه ويبدل بعض آياته ويغير ترتيبها وتقطيعها لعدم عصمته، والنبي صلى الطية الشام لم يمت فجأة ليقال أنّه كان ينوي جمع القرآن ولكن عاجله الموت فمنع من ذلك؛ وذلك لأنَّ النبي صلى نعطي العام قد أخبر مرات عديدة عن قرب أجله ومعه لا مجال لهذا الاحتمال .
وبعبارة أخرى: إنّ أهمّيّة القرآن في هداية الأمة تقتضي أن يكون النبي هو المباشر لجمعه وترتيب آياته وتقطيعها وغير ذلك من الأمور الموجبة لحفظ الثقل الأكبر ورسالة السماء، وخوف النبي وعنايته بهداية الأمة هو ما اقتضى أن يتكلّم في مواطن كثيرة عن الثقلين القرآن الكريم والعترة الطاهرة ويبين للأمة أهمية الثقلين وووجوب حفظهما ورعايتهما والأخذ منهما وعدم التقدم عليهما وغير ذلك مما هو موجود في كتب الحديث والتاريخ، وهذا يدل على أنَّ جمع القرآن وترتيب آياته أمر لا يمكن أن يكون النبي صلی الله علیه و آله و سلم
ص: 65
قد أهمله؛ فإنّ تركه للثقل الأكبر منثوراً مبثوئًا في العسب والأكتاف خلاف الحكمة النبوية، وتضييع للكتاب الكريم.
وممّا يؤيد ذلك ما استدل به السيد الخوئي رحمة الله علیه على أن القرآن كان مجموعًا في عصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم وهو حديث الثقلين، وذلك أنه صلی الله علیه و آله و سلم قال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا.
وما سطّر في اللخاف والعسب والأكتاف من الآيات لا يصدق عليه كتاب، بينما قد جاء التعبير في حديث الثقلين ب-(كتاب الله) مما يقتضي كان مكتوبًا مجموعا.
وإنما جعلنا هذا الأمر مؤيّداً وليس دليلاً كما جعله السيّد الأعظم رضوان الله عليه؛ لأنَّ لفظ الكتاب في لغة العرب لا ينحصر إطلاقه فيما هو مجموع بين دفتين، قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) والإنزال في الآية قد تعلَّق بالكتاب ولو كان الكتاب لغةً هو الأحرف والآيات المنقوشة المجموعة لما صدق على ما في الآية أنَّه كتاب؛ لأنَّ جمع الآيات إنَّما يكون بعد إنزالها، بينما الآية ظاهرة في أنَّ الإنزال قد تعلّق بالكتاب لا أنَّه أنزل ثمّ صار كتابًا فيما بعد عندما جمع، ثمّ إنَّ الكتاب الذي أنزل على قلب النبي كان موجودًا في عالم أرقى من عالم الدنيا وهو وجوده في اللوح المحفوظ، ووجوده هناك لا يكون بالأوصاف والخصائص التي هو عليها في عالم الدنيا، ونزوله على قلب النبيصلى الله عليه وسلم يقتضي أن يكون من قبيل المعاني؛ لأنَّ النقوش لا يكون محلّها القلب.
ص: 66
والحاصل أنه قد أطلق لفظ الكتاب على ما أنزل على قلب النبي صلى نمطية المقام من العالم الأعلى، ولو كان الكتاب لغةً منحصرًا في النقوش والكلمات والآيات المجموعة ضمن دفتين لما صدق على ما في الآية؛ لأنَّ جمعه إنّما كان بعد إنزاله، أو لكان لفظ الكتاب في الآية مجازاً ولا قرينة على ذلك.
ويؤيد ما تقدّم الأخبار التي يستفاد منها أن تقطيع السور وترتيب الآيات كان في عصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، منها:
ما رواه الصدوق في ثواب الأعمال عن عمرو بن جميع رفعه إلى عليّ بن الحسين علیه السلام ، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : من قرأ أربع آيات من أوّل البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم يرَ في نفسه وماله شيئًا يكرهه، ولا يقربه الشيطان ولا ينسى القرآن (1).
وما نقله أمين الإسلام الطبرسي في تفسيره مجمع البيان، والزمخشري في الكشاف، وغيرهما من العلماء، عن ابن عبّاس والسُّدّي أن قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (2) آخر آية نزلت من الفرقان على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، وأنَّ جبرئيل الله قال للنبي صلى الله عليه وسلم ضعها في رأس الثمانين والمأتين من البقرة(3).
وما رواه أحمد في المسند بإسناده عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا إذ شَخَصَ ببصره ثمّ صوّبه حتى كاد أن يلزقه
ص: 67
بالأرض، قال: ثمّ شَخَص ببصره فقال: أتاني جبريل عليكم فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة:( إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1).
ثمّ إنَّه كان عند النبي كتاب الوحي مما يدل على أن ترتيب الآيات كان بأمر منه؛ لأنَّه لا يعقل أن يكون كاتب الوحي هو الذي يجعل الآيات في مواضع معيّنة وفق نظره. وأما عثمان فقد جمع المسلمين على قراءة واحدة وأحرق المصاحف الآيات والسور في المصحف بعد أن كانت غير مجموعة في عصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم .
فإن قلت: إنّه اشتهر أنَّ القرآن قد جمعه أمير المؤمنين الله وعرضه على الصحابة فردّوه، وعليه فلا بد أن يكون مخالفًا للمصحف العثماني الموجود اليوم في الجملة، ولو من حيث التأليف وترتيب السور والآيات وإلا فما معنى احتفاظ الأئمة به وتوارثه إمام عن إمام حتى يظهره القائم (عجل الله فرجه الشريف) مع مطابقته تمام المطابقة للموجود بين أيدي الناس؟ وهذا يدلّ على أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو ما جمعه الصحابة وفق نظر ما كان مجموعا بأمر النبي في حياته؛ لعدم إمكان المغايرة بين ما جمعه أمير المؤمنين السلام ما جمعه النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ثم إن كان القرآن مجموعا مرتبًا في حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم فما معنى أن ينعزل أمير المؤمنين علیه السلام في بيته ليجمع ما كان مجموعا في حياته صلی الله علیه و آله و سلم .
ص: 68
قلنا: إنَّ القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين علیه السلام يشتمل على التنزيل والتفسير والتأويل، بينما المصحف الموجود مشتمل على التنزيل فقط دون التفسير والتأويل، واشتمال مصحف أمير المؤمنين علیه السلام على التفسير والتأويل هو ما دعا الصحابة لرفضه؛ لأن فيه فضائح كثير منهم، فقد روى الطبرسي في الاحتجاج:
وفي رواية أبي ذر الغفاري أنه قال: لما توفي رسول الله علیه السلام جمع علي علیه السلام القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، فلما فتحه أبو بكر خَرَجَ في أوّل صفحة فَتَحَهَا فضائح القوم، فوثب عمر وقال يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه عليه السلام وانصرف، ثمّ أحضروا زيد بن ثابت وكان قاريًا للقرآن فقال له عمر: إنَّ عليا جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار (1).
فما دعاهم إلى ردّ مصحف أمير المؤمنين الله أنَّ فيه فضائح كثير منهم، وفضائحهم ثابتة في تفسير القرآن وتأويله وليس في تنزيله؛ فإنَّ تنزيله موجود فيما بين الدفتين من القرآن الذي في أيدي الناس وفي القرآن الموجود عند أمير المؤمنين الله، وقد روي عنه الله أنه قال: وما من آية نزلت في بر أو بحر أو في سهل أو جبل إلا وقد عرفت حين نزلت، وفيما أنزلت(2)
ص: 69
فعلوم التنزيل من العلم بمواضع النزول والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين عنده عليه السلام، ولم يقل الله أو ينقل علیه السلام عن أحد من المعصومين أن القرآن الذي عندهم مغاير لما في أيدي الناس.
فما نلتزم به من المغايرة بين القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين والذي كان مجموعا في حياة النبي وهو الموجود اليوم بين أيدي المسلمين جميعًا أن في القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين عالية التفسير والتأويل، أما ما النبي والموجود بين أيدينا اليوم فغير محتو على التفسير والتأويل، وأمّا أن يكون ما جمعه أمير المؤمنين الله مغاير للموجود بين أيدينا بنقصان ما بين أيدينا أو تبديل كلماته أو تغير مواضع وترتيب الآيات فكل هذا لا يمكن الالتزام به لقيام الأدلة على بطلانه.
ففي الإيضاح للفضل ابن شاذان قال أمير المؤمنين علیه السلام يا طلحة، إن كلِّ آية أنزلها الله على محمد صلی الله علیه و آله و سلم عندي بإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخط يدي (1)
ومقتضى ذلك أن القرآن مكتوب مرتب بإملاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخط أمير المؤمنين علي علیه السلام ، وأين هذا من دعوى كونه متفرقًا في ال- والصحف وغير مرتب؟!
وأمّا الروايات التي جاء فيها أنَّ القرآن محرّف فليس المراد بالتحريف نقصان بعض آياته؛ وذلك لأن معنى التحريف لغةً غير معناه الاصطلاحي فإنَّ التحريف من الحَرْف، وهو في أصل اللغة الميل والعدول، وتحريف
ص: 70
القرآن تغيير معاني كلماته والعدول عن المعاني التي أريدت منها، وليس المراد من التحريف نقصان بعض آياته الذي هو المعنى الاصطلاحي المتأخر عن عصر النص، ولا يمكن حمل الروايات على المعاني الاصطلاحية المتأخرة.
قال الخليل ابن أحمد الفراهيدي في كتاب العين: والتحريف في القرآن تغيير الكلمة معناها (1)
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة الحاء والراء والفاء ثلاثة أصول، حد الشيء، والعدول، وتقدير الشيء.
ثمّ قال: والأصل الثاني: الانحراف عن الشيء، يقال: انحرف عنه، ينحرف انحرافا، وحرفته أنا عنه أي عدلت به عنه، ولذلك يقال: محارف، وذلك إذا حورف كسبه فميل به عنه، وذلك كتحريف الكلام، وهو عن جهته، قال الله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) (2).
فالتحريف لغةً هو العدول بالشيء عن مساره الأساسي، وتحريف القرآن عدول عن معانيه التي يدلّ عليها، وأمّا المعاني التي ذكرها المتأخرون للتحريف من النقصان وغيره فليست من المعنى اللغوي.
روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن أبي جعفر الله أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا
ص: 71
حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية(1).
:بيانه أنّ الله ورجل هو المالك المطلق، وجميع خلقه ملك وعبيد له، وهو صاحب الولاية والهيمنة المطلقة على كل شيء، قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الأنبياء السلام الذُّكُور (2)، فليس هناك فعل يقال: إنّه معصية بالنسبة إليه ، إذ ليس هناك قانون يقيده بحيث إذا خرج عنه عُد مذنبًا أو ظالمًا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا، أو يقال: إنّه معصوم إذا بقي في دائرته ولم يخالفه فإنه تعالى قال في كتابه العزيز: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (3).
وباعتبار أنه المالك المطلق والولي المهيمن على كل شيء، والحكيم أفعاله في غاية الإحكام والإتقان، ولا توشبها شائبة ظلم، فإنّه لا يُسأل عمّا يفعل، ولا تُطلق عليه كلمة معصوم.
وربّما يُتوهّم أنّ النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام بما لهم من الولاية المطلقة على الخلق على غرار ولايته ، فإنّ كلّ ما يفعلونه حسن لا من باب التقوى والتحصين الشرعيين، بل من باب أنّهم المالكون لكلّ شيء، وأن لهم الولاية المطلقة على نحو ما ثبت الله ، وبناء عليه فلا معنى للبحث عن عصمتهم، ولا يصح أن يقال : ( إنّ النبي أو الإمام علیهم السلام المعصوم، كما لا
------------------
الثاني:في أن الباري عزوجلﻻ يقيده قانون بخﻼف اﻷنبياءعلیهم السلام
ص: 72
يصح أن يقال: (أنّ الله معصوم)، لأنه والحال هذه كما أنه لا يوجد قانون يقيد أفعاله تعالى، فكذلك النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام لا يوجد قانون يقيد أفعالهم، لما ثبت لهم من الولاية المطلقة والمالكية على كل شيء، غاية الأمر أن هذه الولاية والمالكيّة ثابتةٌ لله بالذات ولهم هبة من الله عزوجل، فيكون البحث عن العصمة بحثًا لَغويَّا عبثيًّا.
وهذا التوهم في غاية الفساد والبطلان، فإنّ الالتزام بذلك مناف لكون الأنبياء علم مكلفين ومأمورين بواجبات ومحرمات ولا يجوز لهم الخروج عنها، ولم يذهب إلى ذلك أحدٌ من علمائنا، ولم يَقُم عليه برهان إلا ما نُسب إلى الشيخ أحمد الإحسائي.
خاتمة في بيان أمور
الأمر الأوّل: إذا كانت العصمة أمرًا موهوبًا منه تعالى، فما هو السبب في إفاضتها على الأنبياء والأوصياء علیهم السلام دون غيرهم، وتخصيصهم بها دون بقية البشر.
أجاب السّيد المرتضى رحمة الله علیه مع عن ذلك، فقال:
كلِّ مَن علم الله تعالى أن له لطفا يختار عنده الامتناع من القبائح، فإنه لا بد أن يفعل به وإن لم يكن نبيًّا ولا إمامًا، لأن التكليف يقتضي فعل اللطف ما دلّ عليه في مواضع كثيرة، غير أنه لا يمتنع يمتنع أن يكون في المكلفين مَن ليس في المعلوم أن شيئًا متى فعل اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف، وتكليف من لا لطف له
ص: 73
يحسن ولا يقبح، وإنما القبيح منعُ اللطف في مَن له لطف مع ثبوت التكليف(1).
وأجاب الشيخ المفيد عزوجل: بل هي ( يعني العصمة) الشيء الذي يعلم الله تعالى أنه إذا فعله بعبد من عبيده لم يُؤثر معه معصيةً له، وليس كل الخلق يُعلم هذا من حاله، بل المعلوم منهم ذلك هم الصفوة والأخيار، قال الله تعالى: (إِنَّ الذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسْنَى)، وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ»، وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأخيار )(2)
وحاصل ما أفاداه رضی الله عنهم أن الملاك في إفاضة هذا اللطف منه تعالى على بعض عباده دون بعض هو علمه لا بحال الأفراد وقابليتهم لهذا اللطف فكلّ من علم الله لك أنه متى أفيض عليه اللطف اختار عنده الامتناع عن القبائح، فحينئذ يكون من الواجب في حكمة الله إفاضة هذا اللطف عليه وإن لم يكن نبيًّا ولا إمامًا، وأما من علم أنه متى أفيض عليه ذلك الأمر الموهوب لا يختار الامتناع عن القبيح فإنّه لا يستحق الإفاضة ولا تكون واجبة في حكمة الله، وعليه فالعصمة موهبة إلهيّة تُفاض على مَن يُعلم من حاله أنّه يترك القبائح باختياره عند فيضها عليه، وهم الصفوة الأخيار من عباده الله.
وبعبارة أخرى: إن الله قد اطلع على ضمائرهم ونياتهم وما يختارونه له طاعته، وعلم أنّهم لا يؤثرون شيئًا على رضاه، وأنهم ذوات لو أفيض
ص: 74
عليهم ذلك الأمر الموهوب لاستعانوا به في طريق الطاعة وترك المعصية بمقتضى إرادتهم واختيارهم وهذا العلم كاف لتصحيح الإفاضة عليهم، بخلاف من يعلم من حاله خلاف ذلك.
وفي ما أفاده العلمان نظر حاصله أن ما أجاب به العلمان (قدس سرهما لا بأس به من الناحية الإقناعيّة الجدلية، ولكنه غيرُ تامّ ولا يحسم مادة الشبهة، وذلك لأنّ السؤال ما زال باقيًا، وهو أنه لم خلق الله الأنبياء والأوصياء علیهم السلام بنحو كان لهم قابليّة إفاضة ذلك اللطف عليهم دون غيرهم؟ فإنّ القابلية مجعولة بجعل الذات.
وبعبارة أخرى: إن علم الله عزوجل بأن بعض عباده يترك القبائح متى أفيض عليه ذلك اللّطف يرجع إلى أنّه يوجد في ذات الذي يترك القبيح مع ذا اللّطف مقتض قد جعله الله فيه حين خلقه دون غيره.
والحقيقة إنّ هذا السؤال يُدخل الناظر فيه إلى بحث القضاء والقدر؛ فإن السؤال بأنّه لِمَ خلق الله الأنبياء علیهم السلام على نحو تكون لديهم قابلية إفاضة اللطف الإلهي عليهم، وتكريمهم بالعصمة من حين ولادتهم في الدنيا، كالسؤال بأنّه لِمَ خلق الله فلانًا ذكرًا ولم يخلقه أنثى، ولِمَ خلق الله فلانًا يميل إلى الخير وخلق فلانًا يميل إلى الشر، لا بنحو يكون هذا الميل علة لصدور الخير من الأول، والشرّ من الثاني، فإنّ هذا جبر، بل بنحو لا يبلغ مرتبة العلية والإلجاء، فإنّه من المشاهد خارجًا أنّه كثيرًا ما يوجد طفلان عاشا في بيئة واحدة من الطّهارة والتربية الصالحة، ولكن ما إن بلغا سن الرشد والتمييز وجدنا أحدهما يميل إلى فعل الخير، والآخر إلى فعل الشر، فنجد
ص: 75
أحدهما يحب الذهاب مع و والده إلى المسجد، والآخر مع كونه من البيئة نفسها ينفر من ذلك، ويميل إلى اللهو والمعاصي، كما حصل مع وَلَدَي آدم علیه السلام هابيل و قابيل، حيث إنّهما ولدا في الرّحم نفسه، وعاشا في البيئة نفسها بإرشاد وتوجيه نبي من أنبياء الله ، ومع ذلك فإن أحدهما مال إلى الخير والآخر مال إلى الشر.
وهذا البحث يدخل في مباحث القضاء والقدر الذي لا تناله عقول البشر ، وإلى هذا أشار الآخوند رحمة الله علیه فى الكفاية عندما وصل إلى السؤال عن العلة في جعل السّعيد سعيدا والشقي شقيًّا، حيث قال: فانقطع سؤال: إنّه لِمَ جُعِل السعيد سعيدا والشقي شقيا ؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى( قلم اینجا رسید سر بشکست)، (هذا تعبير فارسي ترجمته: لمّا وصل القلم إلى هنا انكسر رأسه)، قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام، ومن الله الرشد والهداية، وبه الاعتصام (1).
فصاحب الكفاية رحمة الله علیه لم يقع في شبهة الجبر كما يُنسب إليه، بل أجاب عنها، ولما شارف على الدخول في بحث القضاء والقدر توقف عن ذلك، و عبارته الفارسيّة يُحتمل أن تكون إشارةً إلى أنّ هذا البحث مما قد نهى الأئمة عالم عن الدخول فيه، ففي غير واحدٍ من الأخبار التي سُئل فيها أمير
ص: 76
المؤمنين علیه السلام عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، وقال: طريق مظلم فلا تسلكه...، وقال: سر الله فلا تتكلّفه(1).
فالأولى في الجواب عن ذلك أن يُقال:
أن من لوازم المنصب المعطى إلى الأنبياء علیهم السلام أن يمدهم الله بالعصمة، فإن الله يمد عباده بألطاف مناسبة للتكليف الذي ألزمهم به، فيمد الأنبياء علیهم السلام بالعصمة، لأنّ كلاً من مقام النبوّة والرّسالة والإمامة يقتضي ذلك، ويمد زيداً وعمرًا وبكرًا بالعقل الذي هو من جملة الألطاف الإلهية، لأنه ألزمهم بتكاليف لا تتحقق منهم بدون العقل، وأمّا لِمَ اختار فلان للرّسالة والنبوّة فإنّه من القضاء الإلهي الذي لا تبلغ العقول معرفة سببه، فإن الجواب كانوا قابلين للرسالة والعصمة دون غيرهم يعود بنا إلى السؤال: لِمَ جعلهم الله قابلين لذلك دون غيرهم، فإنّ القابلية إنما هي بجعل منه تعالى لا بالاكتساب.
نعم ههنا جواب غير مستنبط بل وارد في الأخبار، وهو أت الاصطفاء الإلهي وتكريم بعض عباد الله بأنواع من النعم منه تعالى كالعلم والعصمة وتخصيصهم بالمقامات الشريفة وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه أنّ الله علم منهم الاستقامة والصبر والوفاء والقدرة على أداء وامتثال هذه الأعباء دون غيرهم؛ فلعلمه منهم الوفاء قبلهم وقدمهم وأعطاهم أجر عملهم قبل عملهم، وهذا المعنى موجود في العديد من الروايات، ففي دعاء الندبة قال عليه السلام :
ص: 77
الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقرّبتهم، وقدمت لهم الذكر العلي والثناء الجلي (1). وفي زيارة الزهراء عليها السلام يا ممتحنة امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة (2).
فالعلم الإلهي موجب لتخصيصهم وإيجادهم معصومین طاهرين متحلّين بالعلم وغيره من الصفات الكمالية، وهذا الجواب يقبل تعبدا لوروده عن المعصوم.
وأما ما أجيب به بأن استحقاق العصمة والقابلية والتكريم بالصفات الكمالية إنّما هو لامتثالهم التكاليف الإلهيّة وأسبقيتهم في تلبية النداء الإلهي في عالم الذرّ والميثاق، فكان الأسرع إجابةً النبي الخاتم صلی الله علیه و آله ، فيرد عليه مثل ما ورد سابقا بأنّه لا شك في أنّ هذه القابلية بجعل منه تعالى، فإنه هو الذي خلق النبي الخاتم صلی الله علیه و آله على نحو يكون توجهه إلى تلبية نداء الباري عزوجل أسرع من غيره، فينبغي في مثل هذه المباحث أن يسلّم العبد بأن الله سبحانه وتعالی عادل في منتهى العدل والكرم، ولا يفعل شيئًا إلا لحكمة، ولا شك في أنّ اختيار بعض عباده دون بعض للرّسالة كان لعِلل وحكم منها ما مرّ سابقًا
ص: 78
من أن منشأه العلم الإلهي ويقبل تعبّدا، وحاصل القول: بأن التعبد والتسليم في مثل هذه الأمور هو الطريق الأقوم.
الأمر الثاني: ممّا يحسن التعرّض إليه أنّه ما المراد بترك الأولى الذي يتكرر ذكره في كلمات الأعلام من المتقدمين والمتأخرين؟
في المقام أقوال:
القول الأول: ما ذكره بعض المحققين، وحاصله:
إما أن يكون سبب ترك النبي للأولى أنّه لم يدرك أولوية الأولى، فظنّ أن ما ليس بأولى أولى.
وإما أن يكون مُدركًا للأولى، إلا أنه لم يأخذ به لمانع جعل ما هو غير الأولى في الواقع أولى في الظاهر.
أمّا الأول، فلا يمكن الالتزام به؛ لأنه يفضي إلى وجود قصور في مستوى الإدراك لدى النبي، وهو عدم إدراك أولوية ما هو أولى في الواقع، وخفاء مثل هذا الأمر عن النبي يوجب نقصانا في مستوى الإدراك الذي ينبغي أن يكون عليه.
وأما الثاني فهو أن النبي مدرك لأولوية الأولى في الواقع، ولكن طرأ عليه أمر جعل غير الأولى في الواقع أولى في مرحلة الظاهر.
وبتعبير آخر: يكون قد رأى أن غير الأولى بالنسبة للواقع هو الأولى في مرحلة الظاهر، نظير مَن يعلم برجحان الصدق على الكذب، ولكن عندما أن الصدق یری يوجب موت النفس المحترمة، يجد أن الكذب هو الأولى هذه الحالة، فلا بد أن يكون مقصود العلماء من عبارة ترك الأولى، أنّه
ص: 79
ترك للأولى الواقعي، ولكنه في مرحلة الظاهر هو فاعل للأولى، فلا شك في أنّه عندما يختار المعصوم ما هو مرجوح في نفس الأمر والواقع، فإنّه يراه راجحًا في مرحلة الظاهر.
وفيه نظر من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: أن العنوان الطّارئ على الفعل - كالخوف من موت النفس المحترمة في حال الصدق - يجعل أولوية الكذب في المقام أولويّةً واقعيّةً وليست ظاهريّة، وكلام الأعلام في ترك الأولى يعني أنه هناك أولى في الواقع قد تُرك، وفعل ما هو غير الأولى، ولا معنى لإرجاع كلامهم إلى أنّ ترك الأولى لطروء العنوان جعَلَه أولى في مرحلة الظاهر، فإنّ العنوان الذي ذكر يجعل غير الأولى هو الأولى واقعًا.
وبعبارة أخرى: إنّ ترك الأولى معناه أن (أ) أولى من (ب) مع لحاظ النسبة بينهما في ذاتيهما، أما مع عروض عنوان طارئ، فهذا العنوان يجعل الفعل أولى واقعًا، وليس هذا من ترك الأولى، بل هو فعل للأولى الواقعي.
الجهة الثانية: أنّه لا معنى لأن يكون في حق الأنبياء علیهم السلام أحكام ظاهريّة وواقعيّة، فإنّ قسمة الأحكام إلى واقعية وظاهرية لو سلمنا صحتها، إنما للجاهل بالأحكام الواقعية، وأمّا مع فرض من تكون الأحكام الواقعية كلّها منكشفةً لديه كالأنبياء علي، فلا معنى لأن يكون الحكم بالنسبة إليهم منقسمًا إلى حكم واقعي وحكم ظاهري، أما فعلهم لبعض الأحكام الظاهرية التي شُرّعت لعامّة المكلفين، إنّما هي من باب التعليم أو لحكم أخرى، لا لغيبة الحكم الواقعي عنهم علیهم السلام، وبهذا اللحاظ يكونون فاعلين للأحكام
ص: 80
الواقعية حتى وإن كانوا في مقام تعليم الأحكام الظاهرية، وذلك لأن الحكم الظاهري إذا فعله الإمام في مقام التعليم، فإنّ هذا العنوان يجعل فعله حُكمًا واقعيًّا.
الجهة الثالثة: أنّه بعد ما فسّر صاحب هذا القول ترك الأولى بما عرفت، أشار إلى أنّه لا بد أنّ العلماء يريدون هذا المعنى، مع أن هذا المعنى لا يتوافق مع ما يظهر من عبائرهم، بل مع صريح بعضها، فعلم الهدى المرتضى رحمة الله علیه مثلاً فسّر فعل آدم علیه السلام ، أي الأكل من الشجرة، بأنه ترك للأمر المندوب، فهو ترك للأولى عنده، بلحاظ أنه لو لم يأكل من الشّجرة لنال ثواب الأمر المندوب المتوجّه إليه، وهذا كما هو ظاهر، ترك للأولى الواقعي، فإن ترك المندوب فعل غير أولى ،واقعا، وفي تركه حرمان من التّواب المترتب على امتثال المندوب.
قال رحمة الله علیه في تنزيه الأنبياء:
وقد بيّنا أنّ ترك الأولى ليس بذنب، وإن كان الثواب ينقص معه، فإنّ الأنبياء علیهم السلام يجوز أن يتركوا كثيرًا من النوافل، وقد يقول أحدنا لغيره إذا ترك الندب: لِمَ تركت الأفضل، ولِمَ عدلت عن الأولى؟ ولا يقتضي ذلك إنكارًا ولا قبيحا (1).
والحاصل: أن مراد العلماء من ترك الأولى هو ترك الأولى الواقعي إلى فعل غير الأولى الواقعي، وهذا لا يوجب نقصانا في مستوى إدراك النبي للأولى الواقعي، ولا يتوجه عليهم هذا المحذور.
ص: 81
بيان ذلك أن مرتبة الكمال التي تكون للنبي التارك للأولى ناقصةً بالنسبة إلى مَن هو فوقه ممّن لا يرتكب خلاف الأولى، وليست ناقصةً بالنسبة إلى مرتبته بل بالنسبة إلى من فوقه كالرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الأطهار علیهم السلام، فإن عدم صدور ترك الأولى عنهم كعدم صدور المعاصي في غاية الوضوح والانكشاف، وهذا تابع للمرتبة ولمقدار العلم والتسديد الإلهي، فآدم عليه السلام عندما رأى أنّ الأكل أولى، حصل ذلك من خلال أن مرتبته التي هو عليها تقتضي هذا النحو من الرؤية، لا أعظم من ذلك، فإنّ فوق كل ذي علم عليم، فيكون قد ضيّع الأولى الواقعي وفعل غير الأولى الواقعي، نعم، هو ظنّ أنّ ما فعله أولى، وسبب هذا الظن يرجع إلى مقدار ما أعطي من علم، ولكن ظنّه بالأولوية لا يجعل فعله أولى، لا في نفس الأمر والواقع، ولا في مرحلة الظاهر.
القول الثاني في معنى ترك الأولى ما ذكره بعض العلماء. وحاصله: أن ترك الأولى معناه في الحقيقة يرجع إلى المقولة المشهورة بين العلماء: (حسنات الأبرار سيّئات المقربين)، توضيح ذلك:
أن أنبياء الله علیهم السلام أصحاب مرتبة المقربين، فإذا فعلوا فعلاً ينافي مرتبتهم التي ينبغي أن تكون أفعالهم مناسبةً لها، كان ذلك خلافًا للأولى أن يصدر عن المقرّبين، وهذه المخالفة للأولى إنّما هي بالنسبة لمرتبة المقربين، وأمّا تلك الأفعال بدون ملاحظة مرتبتهم التي ينبغي أن تصدر الأفعال منهم مناسبةً لها، فهي بنفسها حسنات، فأكل آدم السلام من الشجرة ونداء نوح رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وغير ذلك من أفعال
ص: 82
الأنبياء علیهم السلام، إنما كانت خلاف الأولى بالنسبة إلى مرتبتهم، وأما أفعالهم في نفسها فليست خطأ ولا معصية، ولا سهوا ولا غواية، بل هي حسنات راجحة وإنما كانت غير أولى بلحاظ المرتبة العليا، والشّيء الواحد يجوز أن يكون مرجوحًا وخلاف الأولى بلحاظ واعتبار، وراجحًا بلحاظ واعتبار آخر، لجواز تغاير الصفات بتغاير مراتب المتصفين بها.
القول الثالث في معنى ترك الأولى:
وهو ما نراه صحيحًا هو أنّه عند المقايسة بين أمرين، إذا قصرنا النظر على ذاتيهما، يكون أحدهما في نفسه أرجح من الآخر، كالحياة والموت _مثلاً، فإن الحياة خير من الموت وراجحة عليه، وذلك لأن الوجود خيرٌ من العدم، ولكن قد يطرأ مقتض خارجي يجعل المرجوح راجحًا بلحاظ الغاية التي يُراد حصولها منه، فيكون الموت والتضحية في النفس في سبيل الله ،راجحًا، ورجحان هذا الأمر كان بلحاظ غايته التي يُراد تحصيلها، وليست جحيّته بمقايسته إلى نفس الحياة، فإنّ نفس الحياة خير من الموت.
وإذا أردنا تطبيق هذا الأمر على فعل آدم علیه السلام، فإن ترك الأكل من الشجرة إذا قيس إلى الأكل منها بالنظر إلى ذاتيهما، فترك الأكل أرجح؛ لأنه يؤمّن البقاء في الجنّة، بينما الأكل يوجب سلب النعم الموجودة في الجنّة، ويوجب الابتلاء بالمشقة الدنيوية، والبقاء في الجنّة خير من الابتلاء بالمشقة الدنيوية، ولكن هذا الأمر المرجوح الذي هو الأكل من الشجرة قد يعرض عليه مقتض يجعل فعله راجحًا بلحاظ الغاية الشّريفة المترتبة عليه، فإن أكل آدم لم لما كان هو الطريق إلى الترفع إلى المرتبة الأعلى من
ص: 83
العبوديّة، كان الأكل من الشَّجرة أولى بلحاظ هذه النتيجة المترتبة، وكذلك نبي الله نوح علي مثلاً كان فاعلاً للأولى بلحاظ الغاية التي ترتبت على فعله، فنداؤه - مثلاً - يكون تركا للأولى بالقياس إلى نفس ترك النداء، ولكن لمّا كان في ندائه نحو من الترفع من مقام إلى أعلى، كان نداؤه أولى بلحاظ النتيجة المترتبة على الفعل فتارك الأولى من الأنبياء علیهم السلام، هو بالحقيقة فاعل للأولى، ولكن ليس الأولى بلحاظ القياس بين ذات الأمرين، بل بالقياس إلى الغاية والنتيجة المترتبة على الفعل.
وبتعبير آخر: إنّ أفعال الأنبياء الله التي يتوهم منها المعصية إنما هي ترك للأولى، ولكن إذا نظر إلى أفعالهم باعتبار النتائج المترتبة عليها كانت أولى بهذا اللحاظ، وهو لحاظ أنها كانت أسبابًا تدعو إلى الترقي في مدارج العبوديّة، فإنّ آدم الله لو لم يأكل من الشَّجرة، وترتب علی ذلك الحزن والبكاء والندم لما حصلت النتيجة، وهي الترفّع إلى المقام الأعلى الذي هو الاجتباء الإلهى، فالأولوية بلحاظ، وترك الأولى بلحاظ آخر.
الأمر الثالث ممّا يحسن التعرض إليه: أنّه ما هو منشأ صدور خلاف الأولى من الأنبياء عليهم السلام، وهاهنا أقوال:
القول الأول: أن مقدار سعة علمهم عليهم السلام وإحاطتهم بالأشياء عليه، قد يؤدّي إلى صدور ما ينافي الأولى في بعض أفعالهم، على ما هي ومقدار التسديد الإلهي لهم هذا حده، ولمّا كان مقدار سعة علم النبي الخاتم صلی الله علیه و آله وأوصيائه علیهم السلام، وتسديد الله لهم في أعلى المراتب، وكان أعظم مما لدى الأنبياء علیهم السلام، اقتضى ذلك عدم صدور خلاف الأولى منهم، بخلاف
ص: 84
الأنبياء علیهم السلام، وهذا لا يقتضي نقصا فيهم، فإنّهم كاملون في مرتبتهم، نعم هم أدنى ممّا عليه النبي الخاتم صلی الله علیه و آله الله لو أوصياؤه علیهم السلام
القول الثاني: أن حكمة الله اقتضت أن يغيب الملك المسدد لهم في آن من الآنات، فإذا غاب صدر عنهم خِلاف الأولى فيتوبون منه ليحصل لهم الترقي في المنازل.
وبعبارة أخرى: إذا أراد الله رفع درجة نبي من أنبيائه عالي إلى ما هو ،أعلى، أمر الملك المسدّد فغاب عنه، وهذا معنى ما ورد في بعض الروايات الله وكله الله إلى نفسه طرفة عين، فوقع منه ما شاء الله، لكن لمّا كان ذلك الولي دائم المراقبة لذي الجلال مستقيم الطبيعة كامل العقل مطمئنّ النّفس، لم تقع منه المعاصي الكبائر ولا الصغائر، لبعده منها، إذ ليس للشيطان عليه سلطان، نعم إذا غاب عنه الملك فقد يقع منه خلاف الأولى، وهو ينافي الكمال، ولا يستلزم النقصان، وذلك لأنه بتلك الصفات الحميدة تام في مقامه ورتبته التي وضعه الله الله فيها ، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العتاب من ربِّ الأرباب، وعلم ذلك الوليّ أن ما صدر منه كان مرجوحًا لا ينبغي له أن يفعله فانكسر ،وأناب فاستحق بانكساره وتذلّله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية، كما قال تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب )(1)، ولو لم يغب عنه الملك المسدد لما وقعت منه الهفوة، ولو لم تقع منه الهفوة لم يرد عليه عتاب ولا ذمّ، ولو لم يرد عليه ذلك لم يحصل له
ص: 85
انكسار في نفسه، ولو لم يحصل له انكسار في نفسه لم ينل تلك الدرجة العالية، ومنه قوله صلی الله علیه و آله و سلم لو لم تذنبوا لذهب بكم، وجيء بقوم يذنبون ويستغفرون ويغفر لهم(1)
القول الثالث: أنّه قد يطرأ عنوان على غير الأولى يوجب صيرورته أولى فی مرحلة الظاهر، وهو المنشأ في تركهم عليهم السلام للأولى، وليس تركهم للأولى هو عدم العلم بأولويّته باعتبار أنّ هذا مقدار سعة علمهم، ولا غياب الملك المسدد لهم.
وفيه ما تقدم من وجوه النظر عند الكلام عن معنى ترك الأولى، فيبقى أن الأقرب هو القول الأوّل.
الأمر الرابع: ممّا يحسن التعرض إليه وهو في معنى عتاب الله عزوجل للمعصومين علیهم السلام ، وفي الغاية منه، فنقول:
إنّ المعروف والمتداول في استعمالات الناس أن الشخص إذا عاتب شخصاً آخر، أو السيد إذا عاتب عبده، فإنّه يكون في تلك الحال واجدًا عليه أو مريدا لعقوبته؛ لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه، وذلك لأنه يُعتبر عاصيا له ومُقدِمًا على مخالفة ،أمره، وأما عتابه وعمل لأنبيائه عال، فإنه ليس من هذا القبيل، بل هو عتاب يريد به ترفيعهم؛ لأنه إذا توجه إليهم بعتاب ما، علموا أنهم قد صدر منهم ما لا يناسب مقامهم، فإنّ المقربين ينبغي أن تكون أفعالهم وحركاتهم وسكناتهم كلّها موافقةً للأولى الواقعي المُراد للمولى، فإذا صدر عنهم ما ينافي الأولى كان ذلك الفعل دون أفعال المقربين، غير
ص: 86
مناسب لها وكان أقرب إلى أفعال الأبرار التي لا تليق بالأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم ، فإنّها سيّئات بالنسبة إليهم، لما ورد حسنات الأبرار سيئات المقربين(، فيوجه الباري إليهم عتابا فيثير في نفوسهم حزنًا عظيمًا يدفعهم إلى التوبة والبكاء ومناجاته تعالى، فيوجب ذلك لهم ترفّعًا ومنزلة أعلى مما كانوا فيه.
فعتابه جل وعلا عتاب تنزيه لهم عما صدر عنهم، وليس عتابا ومؤاخذةً على معصية اقترفوها أو جرم ،فعلوه، فإنّهم منزهون عن ذلك، والباري هو من نزّههم عن ذلك ونفى عنهم الغواية والضلال في محكم كتابه.
الأمر الخامس: ممّا يحسن التعرض إليه: وهو أن تقسيم العصمة إلى ذاتية واكتسابيّة أمر غير صحيح، بيان ذلك:
إن كان المراد بالعصمة التي تكتسب هو اللطف الموهوب من الله، القدس، فإنّ هذا أمر باطل ومعنى فاسد، وذلك لأن العصمة بروح عند العلماء كافةً قد قيّدت بأنّها أمرٌ موهوب منه تعالى في أوّل وجود المعصوم في الدنيا، ومن هذا القيد المأخوذ في تعريف العصمة يُعلم أنّه لا معنى لتقسيم العصمة إلى ذاتيّة واكتسابيّة، وذلك أن العصمة ليست من المقامات التي تحصل بالاكتساب والجهد، بل هي موهبة إلهيّة يُفيضها الله على من اصطفى من عباده.
نعم بالاكتساب والجهد والرياضات الشرعية يمكن تحصيل أعلى مراتب العدالة، ولكن أين العدالة وإن كانت بأعلى مراتبها من مرتبة العصمة
الي هي كالنبوة موهبة من الله ل لا تحصل بالرياضة والاكتساب؟!
ص: 87
ولعلّ منشأ هذه الشبهة توهم أنّ العصمة هي الامتناع من الوقوع في المعصية، فمن يُرى منه عدم الوقوع في المعصية زمانًا طويلاً يُتوهم أنه معصوم، وهذا الأمر باطل، حيث إن العصمة مقام وموهبة إلهيّة، وهذا الامتناع أثر من آثارها، فكل معصوم لا يُذنب وليس كلِّ مَن لا يُذنب معصومًا.
وإن كان المراد بالعصمة الاكتسابيّة، أن يسعى المؤمن بواسطة طاعة الله عزوجل، ليصل إلى مرحلة لا تصدر منه الذنوب والمعاصي، فهو أمر ممكن، ولكنّه غير العصمة التي عند الأنبياء علیهم السلام كما عرفت.
وأمّا تقسيم العصمة إلى كبرى وصغرى، فلم يُذكر له وجه، اللهم إلا أن يقال: أنّ مراد من أطلق هذا المصطلح، أن العصمة الصغرى هي عدم صدور ذنب طيلة عمر أحد الأشخاص، ممّا يكشف عن كونه من جملة المعصومين، وإن لم يقم الدليل الإثباتي على عصمته كالحوراء زينب علیهم السلام.
ولكن فيه: أن عدم صدور الذنب لا يكشف عن وجود العصمة التي هي موهبة مفاضة من الله على المعصومين عال كما تقدم، وإنما يكشف عن أعلى مراتب العدالة والعدالة بأعلى مراتبها ليست هي العصمة التي عند الأنبياء والأوصياء ، فإن أريد بمصطلح العصمة الصغرى عدم صدور الذنب مطلقًا من أحد الأفراد، وأن يكون في أعلى مراتب التقوى والعدالة والورع وطهارة القلب وصفاء النية، فلا مشاحة في الاصطلاح، وإن أريد بالمصطلح أمر وراء ذلك أعلى منه يصل إلى عصمة الأنبياء والأوصياء عالم فلا بد من إقامة الدليل عليه.
ص: 88
وإن أريد بالعصمة الصغرى عين العصمة التي عند الأنبياء والأوصياء علیهم السلام، ولكن بمرتبة أدنى فلا وجه له بناءً على عدم تشكيكية العصمة كما تقدم، وأن التفاضل والتشكيك في مراتب المعصومين علیهم السلام منشؤه مناط آخر غير العصمة نفسها التي هي معنى متواطئ.
ثم إنه لو سلم أنها تشكيكية، فادّعاء ثبوت المرتبة الأدنى من العصمة لأحد الأشخاص دون دليل وبيانٍ من معصوم رجم بالغيب، وذلك لأن العصمة بهذا المعنى أمرٌ غيبي ليست في ظاهر الخلقة لتعرف.
ص: 89
ص: 90
عصمة النبي آدم علا السلام
ص: 91
ص: 92
قد وردت قصة نبي الله آدم (على نبينا و آله وعليه السلام) في القرآن الكريم أكثر من مرّة، وحيث إننا اقتصرنا في البحث على الآيات التي قد يُتوهّم منها عدم العصمة وصدور المعصية، فسوف نتعرض هنا للموارد التي يُمكن أن يُتمسك بها لنفي العصمة عنه سلام الله عليه.
المورد الأوّل:- بحسب الترتيب الوضعي للقرآن الكريم - قوله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ )(1)
إن مادة (زلل) وردت في القرآن الكريم في عدة مواضع: (زَل _ زلَلْتُ _ أَزَلَّ _ واستزل).
فكلمة (زللت)وردت في قوله تعالى: (فَإِن زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتِ فَاعْلَمُوا أَنّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(2).
وكلمة (استزل) وردت في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضٍ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (3).
------------------------
تتبع موارد مادة زلل في القرآن
ص: 93
وكلمة (زل) وردت في قوله تعالى : ( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1).
وهذه المادة قد وردت بهيئات صرفية مختلفة على وزن استفعال وإفعال، وفَعَلَ الذي مضارعه يفعِلُ، وفَعَلَ الذي مضارعه يفعَلُ.
فُسّرت مادة (زَكل) بالذنب، وبالانحراف عن طريق الخير.
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللُّغة:
والزلّة الخطأ، لأنّ المخطئ زل عن نهج الصواب) (2).
ولكنّ المعنى الدقيق لكلمة (زَلَّ) هو مجرد استرسال القدم استرسالاً خارجًا عن قدرة الإنسان، ومن غير قصد له كمَن تنزلق رجله في الطّين، فاندفاعها لا يكون عن قصد وإرادة منه، ويقال: زلة لسان) لمَن صدرت منه كلمة من غير قصد والتفات.
قال الرّاغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن الكريم الزلّة) في الأصل استرسال الرّجل من غير قصد)، ثم قال: (وقيل للذنب من غير قصد: زلّة؛ تشبيها بزلّة الرّجل) (3).
وعليه، فالخروج عن طريق الخير ليس من المدلول الوضعي لمادة (زَل)، بل هو مصداق خارجي للمدلول الوضعي للكلمة، كاللباس فإنّه
ص: 94
موضوع لكلّ ما يُلبس، فالرداء أو العباءة ليسا من المدلول الوضعي لكلمة اللباس، بل هما مصداقان خارجيّان للمدلول الوضعي " للكلمة.
ومعنى مادة (زَلَ) موجود في بقيّة الهيئات التي تضمنتها هذه المادة، كلمة (أزل) المتعدّي : استرسال القدم وخروجها عن السيطرة بسبب الغير، ومعنى كلمة (استزل) التي هي من باب استفعال الطلب الذي يكون باللفظ أو الفعل المسبب لاسترسال القدم، كما تقول: استسقيت القوم أي الماء للشرب وتقول: استسقيت الماء، وتريد أنك ضربت الأرض لإخراج الماء، وعليه فاسترسال القدم تارةً يكون مسببًا عن الطلب اللفظي، وأخرى يكون مسببًا عن الفعل التكويني بأن يكون الغير هو المسبب التكويني لاسترسال القدم، كمن يأخذ بيد صاحبه قهرا فتنزلق وتسترسل قدمه.
واعلم أن قبح الزلّة تابع للطريق الذي كان خروج القدم عنه، لأن طريق الخير قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون أولى، فبحس- مقدار حُسن الطريق الذي خرجت عنه القدم يكون قبح الزلة.
إذا اتضح ما تقدم، فزلة قدم آدم علیه السلام في قوله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)، إِنَّما استرسال أدى إلى الخروج عن الجنّة ، لقوله تعالى (عَنْهَا)أي الجنّة، وفي الآية الكريمة نُسِب الإخراج من الجنّة إلى الشَّيطان، قال تعالى: (فَأَخْرَجَهُمَا، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى:(يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) (1).
ص: 95
وإخراج الشَّيطان لآدم عالم وحواء من الجنّة يمكن أن يكون بأحد نحوین:
الأوّل: أن يكون إخراجه لهما من الجنّة بنحو قهري، بأن أجبرهما على الخروج منها.
الثاني: أن يكون إخراجه لهما من الجنّة بنحو يكون قد فعل فعلاً كان مقدمة لخروجهما من الجنّة.
ولا يوجد في الآيات أو الروايات ما يدل على أن إخراجه لهما من الجنّة كان على النحو الأول، فتعيّن أن يكون على النحو الثاني.
ومن المعلوم أن نسبة نتيجة الفعل إلى فاعل المقدمة دون فاعل الفعل، إنما تصح إذا كان ترتب النتيجة بنحو لا دخل لإرادة الفاعل فيه، كما تقول: زيد قتل عمروا عندما رماه بالسهم فإنّ فعل زيد وهو رمي السهم كان مقدمة لموت ،عمرو، الذي يكون بسبب الثّقب الذي يعطّل عمل القلب فيؤدي إلى زهاق روحه فالسبب في تعطّل عمل القلب حقيقةً هو الذي يُحدثه السّهم في القلب، ولكن القتل يُنسب لزيد، لأنه مقدمة ترتب عليها توقف القلب دون دخالة للسّهم دخالة القاصد المريد لتعطل القلب، فإنّ السّهم ليس من ذوات الشعور، ولا إرادة له في ذلك. أمّا إذا كان الفاعل مريدا بنحو يكون الفعل صادرًا عن إرادته، فحينئذ تكون نسبة الفعل إلى فاعل المقدمة مجازاً، مثل من يعطي أداة قتل لزيد، فيذهب زيد ويقتل عمرًا، فإنّ نسبة القتل إلى مُعطي أداة القتل نسبة مجازية، لأنّ فاعل القتل - وهو زيد _ ذو إرادة، وإنّما ترتبت النتيجة بتوسط إرادته،
ص: 96
ومُعطي السكين ليس إلا مقدمة لذلك، ولا تُنسب نتيجة الفعل إلى كل مقدمة على نحو الحقيقة، فهناك فرق بين رمي السهم وإعطاء السكين، لأنّ السهم لا إرادة له ولا شعور، فتنسب نتيجة الفعل - التي هي القتل - إلى رامي السهم حقيقةً، وهو المقدمة كما بينا سابقًا، وأما إذا كان الفرض من قبيل إعطاء السكّين فلا يمكن أن تُنسب نتيجة الفعل - وهي القتل - إلى معطي السكين الذي هو المقدمة إلا على نحو المجاز، وإنما تنسب حقيقةً إلى الطاعن بالسكين.
وفي مقامنا، إنّ ما كان مقدّمة للخروج من الجنّة هو وسوسة إبليس. :وقوله : ( إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، فما صدر من إبليس كان مقدمة للخروج من الجنّة، وما صدر من آدم علیه السلام وحواء من فعل، وهو الأكل من الشجرة كان سبب خروجهما من الجنّة.
ولكن في الآية نُسِب الإخراج من الجنّة إلى الشيطان، ولم يُنسب إلى آدم اله، وهذه النسبة إنّما تصح حقيقةً إذا كان ترتب خروج آدم علیه السلام من الجنّة على إبليس لها تمام المدخليّة في ترتب النتيجة عليها، من دون أن يكون لآدم عالم قصد وإرادة فيما فعله.
على الفعل الصادر عنه من غير اختيار فتكون المقدمة التي فعلها والشاهد على أن أكلهما من الشجرة لم يكن ناتجا عن قصدهما واختيارهما، بما هو مصداق للبعد عن الجنّة، هو نسبة الإخراج إلى إبليس، وذلك لما تقدّم من أنّ المقدّمة لا تُنسب إليها النتيجة حقيقةً إلا إذا كان فاعل الفعل لا قصد له ولا اختيار فيما فعل، إذ لو فرضنا أنّ الفعل الذي
ص: 97
ترتب عليه الخروج من الجنّة كان بقصدهما واختيارهما، للزم أن يعبر المولى عزوجل - وهو أصدق الصادقين بتعبير آخر، وهو (فأخرجا أنفسهما من الجنّة) أو (فخرجا من الجنة)، ولا يقول: (فأخرجهما من الجنّة)، وإلاّ لكانت النسبة ،مجازيّة، والأصل في الكلام أن يُحمل على الحقيقة إلا أن تقوم قرينة على المجاز فتصرفه إليه وتعيّن المراد منه.
فإن أكل آدم الله من الشجرة لم يحصل منه بداعي المعصية والتمرّد على الله ل ليكون ما صدر منه ذنب، ولم يكن بداعي أنه مقدمة للخروج الجنّة، كيف؟! وإبليس قد صوّر له المُبعِدَ عن الجنّة مُبقِيًا فيها إلى الأبد، فما صدر منه كان بداعي التقرُّب منه تعالى والبقاء في جواره، ففعله كان مجرّدًا عن القصد والاختيار بلحاظ المعصية والتمرد، وبلحاظ أنّه مقدمة للخروج من الجنّة، ولذلك صح سلب القصد والاختيار عنه بلحاظ هذه الدواعي، وصحت نسبة الإخراج إلى إبليس حقيقةً.
بيان ذلك: إن نسبة الإخراج إلى إبليس إنّما كانت بسبب ووسوسته، فإنّ من وسوس وحرّض على فعل يُنسب إليه وإن لم يكن هو الفاعل، ومن دعا إلى القتل يُنسب إليه القتل وإن لم يكن هو القاتل، ولا شك بأن لإبليس مدخليّةً في خروج آدم الله من الجنّة، باعتبار أنه كان من مقدمات هذا الخروج؛ لوسوسته وتغريره، فنسب الإخراج إليه لذلك، وعليه تكون النّسبة إليه مجازيّة، وقد تعارف استعمال مثل هذا الأمر عند العرب، فهم ينسبون الفعل إلى من دعا إليه وكان مقدمةً لحصوله.
قال علم الهدى المرتضى رحمة الله علیه في أماليه:
ص: 98
(إن سأل سائل عن قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، فقال أليس ظاهر هذه الآية يقتضى آنه هو الفاعل للإيمان فيهم، لأن النور ههنا كناية عن الإيمان والطاعات، والظُّلمة كناية عن الكفر والمعاصي ولا معنى لذلك غير ما ذكرناه، وإذا كان مضيف الإخراج إليه فهو الفاعل لما كانوا به خارجين، وهذا خلاف مذهبكم).
ثمّ أجاب فقال: (ويكون وجه إضافة الإخراج إليه تعالى وإن لم يكن الإيمان من فعله من حيث بيّن ودلّ وأرشد ولطف وسهل، وقد علمنا أنه لولا هذه الأمور لم يخرج المكلف من الكفر إلى الإيمان فيصح إضافة الإخراج إليه تعالى؛ لكون ما عددناه من جهته، وعلى هذا يصح من إذا أشار على غيره بدخول بلد من البلدان، ورغبه في ذلك، وعرفه ما فيه من الصلاح والنفع ، أو بمجانبة فعل من الأفعال أن يقول: أنا أدخلت فلانا البلد الفلاني، وأنا أخرجته من كذا وأنتشته منه، ويكون وجه الإضافة ما ذكرناه من الترغيب وتقوية الدواعي...)(1).
ونحن لا نوافق على مقالة السيد جملة والصواب إن نسبة الإخراج إلى إبليس نسبة حقيقية.
توضیحه:
إن النتيجة والأثر الحاصل كَفَرْي الأوداج، أو تعطل عمل القلب، أو الاحتراق له سبب مباشر، وهو فى الأمثلة المتقدّمة السكين التي هي ! المباشر لفري الأوداج، والسهم الذي هو السبب المباشر لتعطل عمل القلب،
ص: 99
والنار التي هي السبب المباشر للاحتراق، ويوجد مقدّمة لكلِّ من هذه الأمور لها مدخليّة في حصول الأثر، كشراء السكين وتجهيزها ورمي السهم وتحضير الحطب وإشعال النار فيه، فتحقق هذه النتائج يتوقف على السبب المباشر وعلى المقدمات التي ذكرت.
وبتعبير اصطلاحي: إن النتيجة تتوقف على وجود المقتضي وهو السبب المباشر، وعلى وجود الشرط وهي المقدمات التي يتوقف تأثير المقتضي عليها؛ فإنّ النار يتوقف إحراقها على المماسة ووجود الحطب، وبعد التسالم على أنّ نسبة الأثر إلى المقتضي نسبة حقيقية كنسبة الإحراق للنار، فهل نسبة الأثر إلى الشرط نسبة حقيقية كذلك، أم أنها مجازية، أم أن في المقام تفصيل بحسب الموارد؟
والمتعيّن الاحتمال الثالث وهو وجود تفصيل بين الموارد باعتبار أنّ السبب المباشر إن لم يكن له اختيار وإرادة، ففي هذه الحالة تكون نسبة الأثر إلى المقدّمة نسبة حقيقية؛ فإنّ (زيد) الذي رمى السهم ينسب إليه القتل، وتعطّل عمل القلب حقيقة؛ لأنّ السهم الذي هو السبب المباشر من غير ذوات الشعور ، أمّا إن كان السبب المباشر ذو اختيار وإرادة فتكون نسبة النتيجة إلى المقدمة مجازية؛ فإن من يبيع السكين لزيد القاتل يكون من مقدمات ترتب أثر القتل، ولكن القتل لا ينسب للبائع؛ لأن السبب المباشر للقتل وهو زيد ذو اختيار وإرادة.
ثمّ لا بد من التنبه إلى أمر ، وهو أن نفي المعصية في المقام عن آدم علیه السلام يلزم منه نفيه عن حوّاء وإن لم تكن معصومة؛ باعتبار أن من ثبتت عصمته
ص: 100
من النساء إنما هي الزهراء (صلوات الله عليها) ومريم سلام الله عليها، ولم تثبت عصمة غيرهما من النساء.
وعلى كل حال، فإن الآيات كما لم يكن لها ظهور في صدور المعصية المولوية عن آدم علیه السلام-، كما هو الصحيح فهي على حد سواء بالنسبة إلى حواء وإن لم تثبت لدينا عصمتها.
ثم إنه لا بد من التأمل في الآيات الأربع التي وردت فيها مادة (زلل) ليتضح ما بيناه سابقا، فإنّه في الآية الأولى نُسب الزلل إلى الشَّيطان: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ، وفي بقيّة الآيات نُسب الزلل إلى الفاعل المختار، ففي قوله تعالى: _(فَإِن زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (1).
يتضح المراد من كلمة ( زللتم) في هذه الآية بالنظر إلى الآية السابقة عليها، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (2) ، فإن اتباع خطوات الشيطان أمر اختياري، ولذلك نهى عنه تعالى بقوله: ولا تَتَّبِعُوا، فإن الأمر غير الاختياري لا يقع تحت أمر المولى ونهيه، ولذلك فإنه قد نسب الزلل إليهم في قوله تعالى: (فإن كلْتُمْ ، حيث إن اتباع الشيطان أمر اختياري، فإذا حصل فلا مانع من نسبة الزلل إليهم، وهذا بخلاف الزلل في قوله تعالى:
ص: 101
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ )(1) حيث نسب الزلل إلى الشيطان.
وأما قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضٍ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)، فكلمة (استزلّهم) هنا بمعنى طَلبَ الشَّيطان منهم الزلل ودعاهم إليه، وكان واسطة طلبه الزلل رغبتهم في الحصول على الغنيمة، فجعل رغبتهم في الغنيمة وسيلةً لحصول طلبه الذي هو الزلل، ففاعل طلب الزلل هو الشّيطان، ولكن فاعل الزلل هم أنفسهم، فيكون طالب الشّيء غير فاعله، وإنّما نُسب الزلل إليهم لأنّ وقوعهم في المعصية وهي الفرار عند التقاء الجمعين وترك الرسول وحيدا كان باختيارهم ، فنُسب الزلل إليهم لا إلى الشيطان.
وأما قوله تعالى: ﴿ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلُّ قَدَمٌ بَعْدَ تُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(2).
فإنه تعالى قد نهى عن اتخاذ الأيمان دخلاً، وهو أمر واقع تحت اختيار الإنسان، فلما كان العصيان في المقام ناتجا عن أمر اختياري، وذلك بارتكاب ما نُهي عنه، نُسِب الزلل إليهم حيث قال تعالى: (فتزل قدم).
فاتضح أنّه قد نُسب الزلل في الآيات الثلاث إلى الفاعل نفسه، وهو العاصي نفسه، بينما نسب المولى عزوجل الزلل في الآية الأولى إلى الشيطان، لا إلى آدم علیه السلام وحواء، والنكتة في ذلك ما تقدم من أن الفعل إذا كان صادرًا
ص: 102
عن قصدٍ وإرادة تُنسب النتيجة إلى فاعل الفعل، وأما في الفعل الصادر عن غير قصد وإرادة فتُنسب النتيجة إلى فاعل المقدمة.
وبناءً على ما تقدم، يمكن إثبات أن الفعل الصادر عن آدم علیه السلام وحواء، حصل عن غير قصد وإرادة للتمرُّد والعصيان، بالقرينة المتقدمة، وهي نسبة الفعل إلى الشَّيطان بما مرّ تفصيلاً، وهناك قرينة أخرى في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (1)، فإن ظاهر الآية أنّ آدم لم يكن لديه عزم على المعصية، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في هذه الآية.
المورد الثاني ممّا استدل به على صدور المعصية من آدم علیه السلام : قوله تعالى: ﴿ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(2).
وفي هذه الآية ثلاث كلمات يتوهم منها صدور المعصية من نبي الله آدم علیه السلام:
الأولى: (ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) ، باعتبار أن ظلم النفس من المعاصي.
الثانية:( تَغْفِرْ لَنَا )، باعتبار أن طلب الغفران إنما يكون عن معصية قد صدرت.
الثالثة: ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، باعتبار أن الخسران هو نتيجة معصية ما قد اقترفت، والخسارة إمّا أن يراد بها الدنيوية أو الأخروية، وليس ههنا
ص: 103
معصية دنيوية، وذلك لأن الخسارة الدنيوية قد تحققت، وهي الخروج من الجنّة، فتعيّن أن تكون الخسارة أخرويّة، فإنّ الخسارة وإن كانت أعم من الدنيوية والأخروية، ولكن في المقام قرينة خارجيّة تُعيّن أن تكون أخروية.
ثمّ إنّ الخسارة الأخروية، إما أن تكون بالحرمان من الدخول إلى الجنّة، ومعناه الدخول إلى النار، وإما أن تكون بالحرمان من الثواب بسبب المعصية التي ارتُكبت، وعلى الاحتمالين يتم المطلوب، فإنّ ما اقترفاه، إمّا أن يترتب عليه العقاب الأخروي والدخول إلى النار، وإما خسران الثواب الأخروي، وعلى كلا الاحتمالين لا بد أن يكون قد وقع منهما ذنب ليترتب عليه ذلك الأثر.
والحاصل : أن الظلم يدلّ بالدلالة المطابقيّة على المعصية، وأما الغفران والخسارة فإنّهما يدلان بالدلالة الالتزاميّة عليها.
هذا غاية ما يمكن أن يُقال في تقريب الاستدلال في أنّ الآية الشّريفة دالّة على صدور المعصية من آدم علیه السلام.
ولا تنحلُّ الشّبهة بالقول بأن آدم علیه السلام كان نبيًّا بعد الخروج من الجنّة، ليكون الجواب بأن ما صدر منه سلام الله عليه كان قبل النبوة ونيله لمقام العصمة، أو أن يقال: بأنّ التكليف كان منوطًا بهبوط آدم × إلى الأرض؛ لأن ما عليه التحقيق _ كما تقدم - هو أن النبوة مقام إلهي ثابت له قبل الهبوط إلى الأرض.
ص: 104
روي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم : (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)(1)، وقال تعالى:( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (2)، فالنبي عيسى ان كان نبيًّا السلام وهو في المهد، وكذلك ليست نبوة الخاتم صلی الله علیه و آله منوطة بالصدوع بالوحي، ولا نبوة آدم الثانية منوطة بالهبوط إلى الأرض، لأنها مقام ومنصب إلهي، وليست محض الإخبار والتبليغ عمّا يوحى إلى النبي كما قيل، ولكن نبوّة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله ، وكذلك نبوّة آدم ليستا على هذا النحو، مضافًا إلى أن العصمة تكون مع النبي منذ الولادة، فلا تنحل الشبهة بزعم أن المعصية كانت قبل النبوة؛ لأنه على فرض وتسليم تأخر النبوة فإن العصمة ثابتة منذ الولادة.
وفي مقام الجواب عن الشبهة لا بد أن نأخذ كل كلمة وردت في الآية وننظر في دلالتها فنقول:
أولاً: كلمة (ظلم)
الظُّلْم لغةً: وضع الشّيء في غير موضعه، وهذا هو المعنى الشائع بين العلماء، وهو ما ذهب إليه الرّاغب الأصفهاني في معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم حيث قال:
(الظلم عند عند أهل أهل اللُّغة وكثير من العلماء وضع الشيء العلماء وضع الشيء في غير موضعه ... )(3) ، ومال إليه الزبيدي (4) كما يظهر للمتأمل فى كلامه.
------------------------
الجواب عن
الشبهة المدلول اللغوي لمادة ظلم وبيان أنّه غير مستبطن في أصل الوضع اللغوي لصدور المعصية
ص: 105
وفُسّر الظلم بالتجاوز والخروج عن الحد، سواء أكان الخروج بالزيادة أو بالنقيصة، مثل الإنسان الذي يستحق احترامًا بمقدار معيّن، فإن نُقص من احترامه عُدَّ النّقص ظلمًا، وإنْ زِيدَ في احترامه عن المقدار الذي يليق به عُدَّت الزيادة ظلمًا أيضًا، قال الرّاغب في معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم:
(والظُّلْمُ يقال في مجاوزة الحد الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، ويقال في ما يكثر وفيما يقل من التجاوز، ولهذا يستعمل في الذنب الكبير، وفي الذنب الصغير ...) (1).
والتفسير الأوّل لازم للتفسير الثاني، لأن التجاوز والخروج لازمُه المترتب عليه أن المتجاوز أمر قد وُضِعَ في غير محلّه.
فإما أن تكون مادة الظلم لها معنيين حقيقيين:
الأوّل: وضع الشيء في غير موضعه.
الثاني: الخروج والتجاوز عن الحد، فتكون الكلمة مشتركًا لفظيًّا بين معنيين حقيقيين، وحينئذٍ تكون مجملةً عند إطلاقها ما لم يكن هناك قرينة معيّنة لأحد المعنيين.
وإما أن يكون المعنى الحقيقي هو التجاوز عن الحد، ولازمه الذي هو وضع الشيء في غير موضعه معنى مجازي، فيكون اللفظ ظاهرا في المعنى الحقيقي ما لم تقم قرينة على تعيين المعنى المجازي.
ص: 106
ولكن قد يُقال: إنّ الالتزام بكون وضع الشيء في غير موضعه معنىً مجازيًا، وأن الخروج عن الحد معنى حقيقي أمر غير متعقل في نفسه.
وتوضيحه: أن وضع الشيء في غير موضعه معناه استقرار الشّيء في غير المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، وهذا الاستقرار والوضع ناشئ عن التجاوز عن الحد، لأنه يترتب على التجاوز عن الحد كون الشّيء في غير محلّه، فهو من قبيل ترتب المعلول على علته، فإن نسبة الظلم حقيقةً للعلة دون أثرها المترتب عليها، لا معنى محصل له من الجهة العقلية والعقلائية، نظير من يضرب اليتيم بغير حق ومسوّغ للضرب، فإنِ ادّعى مدع بأن حركة اليد التي توجّهت إلى خدّ اليتيم ظلم، ولكنّ الأثر المترتب على ذلك الأمر وهو كون الفعل في غير موضعه ليس ظلمًا، لاستقبح العقلاء منه ذلك، ومثل ذلك ما نحن فيه، فإن الخروج عن الحد إن كان قبيحا وظلمًا في الواقع، فنتيجته المترتبة عليه وهي كون الشيء في غير موضعه ، لا بد أن تكون قبيحةً وأنْ تُعَدّ ظلمًا أيضًا، فلا يُعقل أن تكون نسبة القبح إلى هذا الأمر مجازية مع كون نسبة القبح إلى علّته حقيقيّةً.
ولكن لا ينبغي الاعتناء بهذا التوهّم لأن المعاني اللُّغويّة لا تثبت بالأدلة العقليّة، فإنّ العقل وإن كان يمنع من التفكيك بين نسبة الظلم والقبح إلى المؤثر دون أثره، ويرى أنّ الظلم والقبح ثابتان لهما على حد سواء، ولكنّ هذا الأمر لا يثبت أنّ المعنى الموضوع له مادة (ظلم) حقيقة بالنسبة لكلا هذين المعنيين، وذلك لأن المعاني اللُّغويّة لا تثبت بواسطة التدقيقات العقليّة، بل لا بد من إثبات ذلك بواسطة قرائن الحقيقة والمجاز من التبادر
ص: 107
وصحة السلب وغيرهما، بناءً على تماميّة الدليل فيها في إثبات وتعيين الحقيقة والمجاز كما بين في محله من علم الأصول.
والأقرب أن المعنى الحقيقي للظلم هو التجاوز، ولكن ليس كل تجاوز عن الحد في جانب النقص يُعدُّ ظلمًا، فالتواضع وهو تخلّي المرء عن مكانه الذي يليق أن يكون فيه كالعالم الذي لا يجلس في صدر المجلس تواضعًا منه_ لا يتعنون بعنوان أنه ظلم، ولو كان مجرّدُ التجاوز عن الحد بأي مرتبة من مراتبه _ ظلمًا حقيقةً، لكان التواضع وكذلك الإيثار ظلما وقبيحا، ولا شك بعدم قبح ذلك.
وكذلك ليس كل تجاوز للحد من جهة الزيادة يُعدُّ ظلمًا، فلو أنّ عبدا أتعب بدنه في صلاة النوافل وأكثَرَ منها ، فإن فعله تجاوز للحد، ولكنّه تجاوز حسن ممدوح، فالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ولذلك خاطبه الله سبحانه وتعالی بقوله : ( طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآن لَتَشْقَى ) (1) ، وعليه فليس كلُّ الله ما صدق عليه التجاوز بالمعنى اللغوي يكون ظلمًا عند العقلاء ويحكمون بقبحه، فقد تكون الزيادة والنقيصة ظلمًا، وقد تكون أمرًا حسنًا محبوبًا الله عزوجل وذلك باعتبار الداعي للتجاوز عن الحد، فإن كان الداعي والغرض أمرًا حسنًا، فالخروج والتجاوز يكون حسنًا ولا يقبحه العقل ولا العقلاء، بل هو عين العدل في الواقع.
والحاصل : أنّ التجاوز أو وضع الشيء في غير موضعه، قد يكون لغايةٍ وغرض حسن وقد يكون لغايةٍ وغرض قبيح، فإن كان الأوّل فهو أمرٌ حسن
ص: 108
ممدوح، وإن كان الثاني فهو أمر قبيح مذموم، وإن كان كل منهما يصدق عليه الظلم بالمعنى اللغوي.
ثم إن هاهنا بحثًا، وهو هل أن إطلاق الظلم على وضع الشيء في غير موضعه، والتجاوز عن الحد مطلقًا لغرض حسن أو قبيح يكون إطلاقًا حقيقيًّا أم أن فيه تفصيلا، فإذا كان لغرض قبيح يكون حقيقة، وإذا كان لغرض حسن يكون مجازاً، فإنّه لا شك في أت وصف القصاص بالاعتداء مجاز في الآية الشّريفة، قال تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَات قِصَاصِ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (1)، وكذلك وصف التجاوز عن الحد ووضع الشيء في غير موضعه، فإنّه إن كان لغرض حسن ممدوح عقلاً وشرعًا يكون إطلاق الظلم عليه مجازاً، وما يهمنا في المقام أنّه كيف يتسنّى لنا أن نتبيّن ونستكشف القسم الممدوح من القسم المذموم من أفراد ومصاديق التجاوز عن الحد ووضع الشيء في غير موضعه؟
وبتعبير آخر: ما هي العلامة الدالة على أنّ هذا التجاوز عن الحد أمر حسن ممدوح، وذاك أمر قبيح مذموم؟
وفيما نحن فيه إن نسبة الظلم للنبي آدم علیه السلام لا تدل على صدور المعصية، لأنه غاية ما تدلّ عليه مادة (ظلم) المنسوبة إليه هو الخروج عن الحد، ولكن تعنون هذا الخروج بالقبح والظلم حقيقة، إنما يتوقف على
ص: 109
كون هذه الزيادة أو النقيصة التي صدرت منه قبيحة، فما هو السبيل لتبين هذا الأمر؟
والجواب: إن طريق العلم واستكشاف أنّ الخروج والتجاوز كان لغرض حسن أم قبيح، إنما هو بالنظر لجزاء المولى، فإن سخط وعاقب استكشفنا أن التجاوز كان لغرض قبيح أوجب ذما وعقابًا من المولى، وإن رضي وأثاب استكشفنا أن التجاوز كان لغرض حسن أوجب مدحا وثوابًا منه، وهذه هي طريقة العقلاء في استكشاف الخروج والتجاوز القبيح من الحسن.
فإنّ المولى إذا أمر عبده بفعل ما فتجاوز هذا العبد الحد المطلوب منه، ننظر إلى جزاء المولى، فإذا وجدناه أكرمه وأثابه على ذلك، علمنا من ذلك أن هذا العبد كان غرضه من تجاوزه الحد غرضا حسنًا أوجب مدح مولاه إيّاه وإثابته عليه، وإذا وجدناه عاقبه علمنا من ذلك أن تجاوزه كان لغرضٍ قبيح.
وفي قصة آدم ، علیه السلام ، لم نجد المولى قد عاقب نبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بعذاب على التجاوز والخروج الذي صدر منه، بل أكرمه ورفعه إلى مقام أعلى، قال تعالى: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى )(1)
والاجتباء الإلهي هو تخصيصه إيَّاه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النّعم، ولا يعقل أن يكون الاجتباء الإلهي لآدم علیه السلام بسبب معصية مولوية قد اقترفها، وإنما كان بسبب فعل حسن قد فعله آدم علیه السلام كما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله تعالى.
ص: 110
فظهر ممّا تقدّم أنّ ما فعله آدم علیه السلام كان خروجًا ممدوحًا لغرض حسنٍ.
فإن كان الظلم في اللغة مختصاً بالخروج لغرض قبيح، فإنه يكون قد نُسِبَ لآدم له في الآية مجازاً لعلاقة المشابهة، كما وصف القصاص بالاعتداء لعلاقة المشابهة، وإن كان الظَّلم أعم مما كان لغرض حسن أو قبيح وكان إطلاقه حقيقيًّا في كليهما، فيكون ما فعله آدم عالم هو الظلم الحسن الذي لا يقبّحه العقل، ولا يستحق على فعله العقاب، وإن صدق عليه الظلم لغةً.
وقد أثبتنا محله في من علم الأصول، أن الحسن والقبح ليسا أمرين ذاتيين للعدل والظلم ، وبيان ذلك موكول إلى بحوثنا في علم الأصول.
بقي شيء، وهو أنّ الظلم في الآية قد نسبه آدم الله إلى نفسه، فقال:
( ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) (1) ، ومعنى الظُّلم المنسوب إلى النفس في الآية هو إيقاع النفس في مشقة، فإن الله ل قد أباح لآدم عليه أن يأكل من ثمار الجنّة حيثما شاء إلا الأكل من الشجرة، فلمّا أكل من الشجرة ألحق بنفسه مشقة وتعبًا، وهي مشقة الحياة في الدنيا ومجاهدة إبليس فنَسب إلى نفسه الظلم، وهو إلحاق مشقة بنفسه، فإنّ الذي يُلحق مشقّة بنفسه يكون ظالمًا لها، ولكن هذا الظلم ليس قبيحًا كما عرفت فإن من يقوم الليل كلَّه يُلحق بنفسه مشقةً عظيمةً، ولكنّ هذه المشقة ممدوحةً يثاب عليها، وكذلك ما فعله آدم علیه السلام هو أنّه ألحق بنفسه مشقة يُمدح عليها، وهي مشقة العيش في الدنيا ومحاربة
------------------------
بيان معنى الظلم الذي نسبه آدم علیه السلام نفسه
ص: 111
إبليس لغرض نيل الثواب الأخروي؛ قال تعالى: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى )(1).
ثانيًا: كلمة: (وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا) (2)، الغَفْرُ في اللغة هو الستر والطَّم، ومن الواضح أنّ الطمّ لازمه الستر، لأنه بالطمّ تُستر الحفرة التي كانت في الأرض.
قال الجوهري في الصحاح (الغفر التغطية ... )(3)
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:
(غفر): الغين والفاء والرّاء: السّتر. فالغفر : الستر والغفران والغفر بمعنىً، يقال : غفر الله ذنبه غفرا ومغفرة وغفرانا )(4)
فمعنى: (وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا ): إن لم تسترنا.
فإما أن يُراد بالغفران الذي طلبه آدم علیه السلام في الآية، هو ستر الأثر الوضعيّ الذي ترتب على الخروج من الجنّة، وهو أنه ترتب على خروجه منها نحو من النقص أمام الملائكة وأمام عدوّه إبليس بل أمام نفسه، لأنه لَمّا رأى أنه أبعد عن الجنّة، تولّد في نفسه حزن عميق لما وجد في نفسه من التقصير في حق مولاه و عزوجل لمخالفة أمره غير الإلزامي، فطلب من الله سبحانه وتعالی أن يستر هذا الأمر، بأن يمده بلطف منه، يجبر به ما سببه له الخروج من الجنّة من نقص في أعين الآخرين، وهذا الطلب للغفران- كما هو واضح- لا يدلّ على
------------------------
المدلول اللغوي لكلمة غفران
بيان عدم مﻼزمة طلب الغفران لصدور المعصية
ص: 112
وقوع ذنب ومعصية مولوية من آدم السلام، وذلك لأن طلب الستر من أن يلحقه شماتة من إبليس، وأن ينظر إليه الملائكةُ نظرة من قصر في حق ،مولاه، لا يعد طلب غفران لمعصية مولويّة، فلو أن مولى أمر عبده أن يخرج من داره لا لمعصية مولويّة اقترفها ذلك العبد، بل لمصلحة يراها المولى، فإنّ هذا الخروج سيتولد منه أن يَنظُر إليه الآخرون نظرة نقص، فإذا طلب هذا العبد من مولاه ما يجبر به هذا النقص، وما يستره ويدفع به شماتة الآخرين، فلا يدلّ هذا النحو من الطلب على صدور معصية مولوية من العبد، وإنما حملنا الستر والغفران على الأثر الوضعي المترتب على خروج آدم علیه السلام من الجنة باعتبار أنّه لم يكن هناك ذنب ومعصية مولوية توجب هبوط منزلة و مقام آدم علیه السلام تجاه مولاه جل وعلا، أو توجب عذابًا أخرويًا، والاصطفاء مؤيد بل دال على ذلك.
وإما أن يُراد بالغفران في الآية، أنّ النبي آدم علیه السلام طلب الغفران الذي هو التجاوز عن الذنب والمعصية، وإنما كان طلب التجاوز عن الذنب يعبر عنه بالغفران، وذلك لأنّ الذنوب معائب للإنسان وفضائح، والغفران هو طلب لستر تلك الذنوب التي بها تكون فضيحة العبد وخزيه يوم القيامة، فإن كان ذلك الذنب والمعصية مخالفةً لأمر مولوي من الله سبحانه وتعالی ، فيعد الذنب حينئذ معصيةً مبعدةً عن الله موجبةً للعقاب، وإن كان الذنب والمعصية مخالفةً لأمر إرشادي من المولى سبحانه وتعالی فلا يكون الذنب مبعدا عن الله عزوجل ولا موجبًا للعقاب، بل غاية ما يترتب عليه أنه مشقة أوقع فيها نفسه، من جهة تفويت المصلحة التي أرشده إليها المولى سبحانه وتعالی، وهذا النوع من المخالفة لا ينافي العصمة، لأنّ العصمة هي عصمة عن مخالفة أوامر المولى عزوجل التي يجب
ص: 113
إطاعتها وهي الأوامر المولوية، أما الأوامر الإرشادية فهي ليست معصية مبعدة عن الله عزوجل ، ولا موجبة لعقابه، بل هي مخالفة المشقة كما عرفت.
ومعرفة الأمر المولوي من الإرشادي، يكون بوسائل عديدة منها بواسطة النظر إلى أن الأمر إذا أتبع ببيان ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد دنيوية، الأمر مولولي أو فيكون الأمر إرشاديًّا، وأما إذا لم يُتبع ببيان ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد دنيوية، أو ذكر أن ما يترتب عليه هو الابتعاد عن ساحة المولى عزوجل فيكون الأمر مولويًّا.
ولما كانت الآيات في صدد بيان المفسدة المترتبة على مخالفة الأمر، الشّقاء والتعب، فالأمر فيها لا شك يكون إرشاديَّا ، قال تعالى: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى )(1) ،فالمترتب على الخروج من الجنة هو الشّقاء الذي يُراد به التعب والمشقة من الدنيوية، وما يدلّ على أن المراد بالشقاء في الآية المشقة والتعب الدنيوي الآيتان اللتان جاءتا عقب هذه الآية، قال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى)،( وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضحَى )(2)، حيث بينت الآيتان أن من مقتضيات الحياة الدنيا الجوع والظمأ والعِري والضحى، وهو البروز في الشمس.
------------------------
توضيح في كيفية العلم بأن اﻷمر مولولي أو إرشادي
ص: 114
فمخالفة الأمر الإرشادي لا يتنافى مع العصمة، ولا يترتب عليه بعد عن ساحة المولى عزوجل ولا عقاب أخروي عليه.
ثم إنه لو تنزلنا، وسلّمنا بأن ظاهر كلمة (تغفر) الواردة في الآية، هو التجاوز عن المعصية المولوية كما يدعي البعض، فإن كون المخالفة معصيةً مولويّةً مشروط باجتماع عدة أمور، منها:
1- أن يكون هناك إرادة واختيار عند الفعل.
2- أن يكون هناك قصد وعزم على المخالفة.
3- أن يكون حين الإقدام ملتفتاً وعالما بترتب العقاب على فعله.
ومن الواضح أنه إذا لم يكن ملتفتا إلى الأثر المترتب، ولم يكن له عزم على المخالفة وقد انخدع للآخر، فلا يُعد العبد حينئذٍ عاصيًا ومخالفًا لأمرٍ مولوي، وهذا حال آدم كما هو ظاهر الآيات القرآنية، أما عدم العزم فقد قال الله تعالى: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما )(1) ، وأمّا الانخداع فقد قال تعالى: (فَدَلاً هُمَا بِغُرُورٍ )(2).
والمراد بالغرور الإصابة على حين غفلة، ومنشأ الغفلة، إمّا أن يكون هناك ضعف في إدراك الإنسان، وإما أن يدهم الإنسان أمر أقوى تتولّد بسببه الغفلة، بمعنى أنّ الأمر الأهمّ يُغفله عن الأمر المهم.
فاغترار آدم علیه السلام كان من القسم الثاني، إذ الأمر المهم كان إبعاد نفسه عن المشقة التي خوّفه الله عزوجل منها، وهي التی تترتب على الأكل من الشجرة،
ص: 115
والأمر الأقوى الذي دهمه هو ما جاء في قوله تعالى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (1)، فتصديق آدم علیه السلام إنما كان بسبب القسم بالله عزوجل ، وذلك لأنه لم يكن يظن أن أحدًا يُقسم بالله كذبًا لمكان عظمة الله عزوجل في قلبه عليه السلام، وقد وردت في الآية عدة تأكيدات:
الأوّل: القسم وهو: (وَقَاسَمَهُمَا)، فإن القسم في نفسه نحو من التأكيد لمضمون الخبر.
الثاني: أداة التوكيد وهي: (إنّي) .
الثالث: لام التوكيد في: (لَمِنَ).
الرابع: كلمة:( النَّاصِحِينَ ) التي تدل على أن المخبر صادق فيما ينصح، وأنه غير مخادع وغير مُوهِم خلاف الواقع، فقد استخدم الشيطان كلا من هذه التأكيدات للتغرير بآدم علیه السلام.
ثالثًا : كلمة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ):
الخُسْرُ والخُسْران لغةً: هو نقص في مقتنيات الإنسان من مال وجاه، أو نقص في نفس الإنسان من صحة وسلامة وإيمان وثواب، أو نقص فيما يأمل الإنسان أن يصل إليه ويبتغي حصوله.
قال الراغب في معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم: (الخُسْرُ والخُسْرَان: انتقاص رأس المال، ويُنسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خَسِرَ فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته)، ثمّ قال: (ويستعمل ذلك في المقتنيات
ص: 116
الخارجة كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة، والعقل والإيمان، والثواب... )(1)
فالخسران نوعان:
نوع يترتب عليه نقص ما يبتغيه الإنسان من فعله، سواء أكان غرضه من الفعل زيادة مال أم جلب أمر معنوي.
ونوع آخر يترتب عليه الصّلال والهلاك، وهو النقص في الإيمان الذي يترتب عليه الهلاك الأخروي.
وغالبًا ما يكون استعمال الخسران فيما إذا لم يحصل الإنسان ما يبتغيه من سعيه، فعندما يُقال:خسر التاجر في صفقته لا يُراد بذلك غالبًا أنه ذهب رأس ماله وكل ما يملكه، بل المراد أنه لم يحصل من الربح ما يبتغيه ويأمله. ففي قوله تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكِ لا يَبْلَى)(2)دلالة على أن غرض آدم علیه السلام من الشجرة، هو البقاء في جوار الله عزوجل والخلود في جنّته، ولما تبين له عدم وصوله إلى ذلك، طلب الغفران لكي لا يُحرم من الجوار الإلهي الأخروي، فعلق الخسران على عدم المغفرة، فالمراد بالخسارة هنا هو فوات النعيم الذي كانا فيه من جوار الله والخلود في الجنّة.
فاتضح أنه ليس المراد بالخسران هنا النقص في الإيمان، ولا الخسران المؤدّي إلى الهلاك الأخروي بالدخول إلى النّار، لأنه لم تصدر منه معصية
ص: 117
مولوية - كما تقدّم - حتى يطلب جبر هذا النوع من الخسران، بل ما وقع منه فعل لغرض حسن وهو جوار الله سبحانه وتعالی، ولكن لما لم يحصل غرضه الذي كان يأمله من جوار الله عزوجل والبقاء في الجنّة، كان ذلك خسرانا فطلب من الله سبحانه وتعالی أن يجبره بالرّحمة واللطف الإلهي.
المورد الثالث ممّا استدل به على صدور المعصية من آدم علیه السلام: قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (1).
هناك كلمتان في هذه الآية قد يُتوهم منهما المعصية، كلمة (عصى) وكلمة (غوى).
أما كلمة ( عصى ) فمعناها لغةً مخالفة الأمر.
قال ابن منظور في لسان العرب:
(والعصيان : خِلافُ الطَّاعَة عَصى العبد ربّه إذا خالف أَمْرَه...) (2).
فكل مخالفة لأمر الله ولا يُطلق عليها في اللغة: معصية وعصيان، سواء أكانت مخالفةً لأمر مولوي يترتب عليه بعد عن مقام العبودية لله وعقاب مخالفة أخروي، أم كانت مخالفةً لأمرٍ إرشادي يترتب عليه فوات المصلحة المرشد إليها دون ترتب عقاب أخروي أو بعد عن ساحته سبحانه وتعالی.
وقد تقدم فيما سبق أن النهي المتوجّه إلى آدم علیه السلام كان نهيًا إرشاديا، إرشادي وإبراز قرينة ذلك من وقد دلت على ذلك القرائن التي جاءت في الآيات المباركة، فإنّ الأمر الإرشادي هو الأمر الذي ذكر معه ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد دنيوية،
------------------------
المدلول اللغوي لكلمة(عصى) وبيان أنّها أعم من المعصية المولوية واﻹرشادية
بيان أن مخالفة آدم علیه السلام كانت مخالفة أمر إرشادي وإبراز قرينة ذلك من اﻵيات التي تعرّضت لقصته علیه السلام
ص: 118
مثال ذلك نواهي الطبيب لمريضه، فعندما ينهاه عن أكل بعض أنواع الطعام، ويبين له ما فيه من مفاسد وأضرار للبدن يكون هذا النهي من الطبيب إرشادًا للمريض إلى المفسدة الموجودة في بعض أنواع الطعام بالنسبة إليه، ومخالفة أمر الطّبيب لا تجلب سوى المفسدة البدنية للمريض، وهذه المفسدة إنّما هي آثار تكوينية قهرية لمخالفة النهي.
وقد ظهر من الآيات الشريفة أن مخالفة النّهي المتوجه إلى آدم علیه السلام ترتب عليها الوقوع في المشقة والمتاعب الدنيوية، قال تعالى: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِ جَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)(1)، فحذره تعالى من أن الخروج من الجنّة يُوصله ويوقعه بالمشقات والمتاعب الدنيوية، وعليه يكون النهي المتوجّه إلى آدم علیه السلام نهيًا إرشاديًا، لا تستلزم مخالفته بُعدًا عن الله ، عزوجل، ولا تستوجب عقابًا أخرويًا. وهناك قرينة أخرى على كون النّهي المتوجه إلى آدم ال نهيا إرشاديا، وليس نهيًا ،مولويًّا، وهي الآية التالية لقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، وهي: ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (2)، فهذه الآية جاءت معطوفةً على ما قبلها بكلمة ( ثم) التي تفيد الترتيب، وتدل على وجود نحو من الارتباط بينها وبين الآية التي قبلها، فما جاء بعد العصيان إنما هو نتيجة ترتبت على العصيان ولها ارتباط به .
ص: 119
وهذه النتيجة هي أن اجتباه ربُّه، ولو أن مخالفة آدم علیه السلام للنهي كانت معصية ،مولويّة، لكانت تُوجب بُعدًا عن الله عزوجل، وتوجب عقابًا منه عزوجل، فلا معنى لأن يكون الاجتباء مترتبا على معصية مولوية، بل لا بد أن تكون المخالفة لأمر إرشادي ترتب عليها اجتباء إلهي لآدم علیه السلام.
إن كلمة (جبى) لغةً: بمعنى جَمَعَ، يقال: جَبَيْتُ المال أي جمعته، والاجتباء هو الجمع على طريق الاصطفاء، فإنّ الجمع تارةً يكون للغثّ والسمين، وأخرى يكون للصافي غير المشوب، فإذا كان الجمع على نحو انتخاب الجيد سُمّي اجتباء.
قال الرّاغب الأصفهاني: ( والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء ...)(1).
وقال الزجاج عند بيان معنى الاجتباء في قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ ربُّكَ) (2): (معناه: يختارك ويصطفيك، وهو مشتق من جَبَيْت الشيء إذا خلصته لنفسك) (3).
فالاجتباء هنا هو الجمع بقيد الانتخاب للجيد، واجتباء الله سبحانه وتعالی هو تخصيص من الله سبحانه وتعالی العبد من عباده بأنواع من النعم والألطاف.
وعندما جاءت آية الاجتباء عقيب قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، ومترتبة عليه، فلا بد أن تكون المعصية مخالَفَةً لأمر إرشادي، وإلاّ فلا معنى للمجازاة بالخير والألطاف على معصية مولوية، وأما كيفية ترتب
ص: 120
الاجتباء على المخالفة وإن كانت إرشاديّة، باعتبار أن المخالفة مطلقًا لا يصح أن يترتب عليها مجازاة بالخير، فبيانه يتم بالالتفات إلى نكتة في المقام، وهي:
أنّ مخالفة النّهي من آدم علیه السلام نشأت من جهة قسم إبليس بالله، وذلك لما في القسم بالله من وقع عظيم على قلب آدم علیه السلام، فكان ذلك منشا للمخالفة الواقعة من آدم علیه السلام، ثم ترتب على تلك المخالفة أن اجتباه الله ، عزوجل
ولا بد أن يكون منشأ المخالفة فيه نوع من المحبوبية الله عزوجل، ليجازيه عليه بالاجتباء، وإلا فالمخالفة نفسها إذا لم تتضمّن أي نحو من أنحاء الحُسن فلا معنى للمجازاة بالخير عليها نظير مَن ينهى ولده عن الإكثار من الدرس لما يترتب على ذلك من ضرر بدني يلحق بالولد، فإذا خالف الولد أمر أبيه من جهة أنه يريد أن يُفرح قلبه بنيله علامةً مرتفعةً في الامتحان، فيحسن أن يترتب على تلك المخالفة مجازاةٌ للولد بالخير، وذلك باعتبار أن منشأ المخالفة محبوب للوالد، فجازاه عليه لا على محض المخالفة، بل باعتبار أنّ المخالفة كشفت عن حُسن سريرةٍ في الولد جعلته مستحقا للمجازاة بالخير.
وفي مقامنا إن الله مجازی نبیه آدم الله بالاجتباء والاصطفاء، وخصه بأنواع من النعم، لما وجد فيه من تعظيم للقسم الإلهي، وحُسن سريرة في جواب علم الهدى عبده.
وللسيد المرتضى رحمة الله علیه جواب عن هذه الآية الكريمة في كتابه تنزيه الأنبياء غير الجواب الذي ذكرناه، وحاصل ما أفاده قدس سره: أن عنوان
------------------------
جواب علم الهدى المرتضى رحمة الله علیه
ص: 121
العصيان كما يتحقق في مخالفة الأمر الإلزامي، فكذلك يتحقق في مخالفة الأمر الندبي.
ثم أورد على نفسه بأن ذلك يقتضي وصف الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بالعصاة، لأنهم لا ينفكون عن ترك الأمر الندبي.
وأجاب رحمة الله علیه عن هذا الإيراد بأن صدق العصيان على مخالفة الأمر الندبي مجازي، دون مخالفة الأمر الإلزامي فإنّه حقيقي، فلا يُتعدى عن مورد الإطلاق الحقيقي بأن يقال: (إنّهم عصاة)، لأن المعصية تنصرف إلى المحرّمات لكثرة استعمالها في القبائح ، فلا يجوز هذا الإطلاق، بل لا بد من تقييده بالمعصية للأوامر الندبيّة عند وصفهم بذلك.
والحاصل: أن العصمة عنده إنّما تمنع من مخالفة الأوامر الإلزامية الوجوبية، وأمّا الأوامر الندبيّة الاستحبابية فلا تقتضي العصمة امتناع صدورها عن المعصوم، فيجوز للمعصوم مخالفتها، وإن خالفها فلا توجد منافاة بينها وبين العصمة، وإن صدق عليها العصيان لغةً، صدقًا مجازيًّا.
في جواب وفي جوابه نظر من جهات أربع:
الجهة الأولى: قد التزم السيد رحمة الله علیه بأن صدق العصيان على مخالفة الأمر الندبي ،مجاز، ومن المعلوم أن المجاز يحتاج إلى قرينة، ولم يبين السيد القرينة الموجودة في الآيات والتي تقتضي صرف العصيان عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، فلا بد أنّه قد اعتمد على القرينة العقليّة التي تقتضي تنزه الأنبياء عن صدور المعاصي، فجعل القرينة العقليّة اللُّبيّة صارفةً للمعصية إلى خصوص معصية الأمر الندبي.
------------------------
النظر في جواب المرتضىرحمة الله علیه
ص: 122
وجوابه قدس سرّه لا يُلزم الغير، فإنّهم لا يلتزمون بهذة القرينة العقلية التي صرف بها المعصية إلى خصوص مخالفة الأمر الندبي، بينما جوابنا كان معتمدًا على القرائن اللفظية الملزمة لكلِّ مَن يدعي صدور المعصية من الأنبياء علیه السلام.
الجهة الثانية: أن مخالفة المعصوم للأوامر الندبيّة لا بد أن تكون لعنوان أهم قد طرأ عليه فدعاه إلى المخالفة، مثلاً: ورد استحباب أن يكون عدد التسبيحات في الرّكوع أو السجود فرديَّا، ولكن قد وردت رواية في الكافي والتهذيب بسند ينتهي إلى أبان بن تغلب: (قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام وَهُوَ يُصَلِّي فَعَدَدْتُ لَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سِتِّينَ تَسْبِيحَةً)(1)، وهذا العدد زوج، ولكن لا يصح الالتزام بأنّ الإمام علي قد ترك مندوبا وفعل مكروها، وذلك لأن الإمام علي ترك العدد المندوب لأمر أهم، وهو قد يكون لبيان أن التسبيح بعددٍ زوج أمر مباح، فإنّ هذا العنوان الأهم - وهو التعليم - يُخرج فعله عن الكراهة، ويجعله مستحبًا في نفسه لوجود مصلحة أقوى في المقام وهي التعليم.
وعليه، فإذا كانت مخالفة آدم علیه السلام في المقام من هذا القبيل، فلا يبقى الأمر المتوجّه إليه مندوبا بعد فرض طروء عنوان أهم، ومعه لا يصدق أنه عصى أمرًا مندوبًا.
الجهة الثالثة: قد ادّعى السيد رحمة الله علیه كثرة إطلاق لفظ العصاة على مرتكبي القبائح، ومعه لا يجوز إطلاق ذلك على الأنبياء علیه السلام بدون تقييد.
ص: 123
وفيه أنّ هذه الكثرة إن كانت قبل نزول القرآن، فمن اللازم أن يقرن المولى عل كلمة (عصى) بما يصرفه عن هذا المعنى وإن كانت بعد عصر النزول، فإنّ هذه الكثرة لا تضرّ بالاستعمال في عصر النزول، وكان من اللازم على السيد له أن يأتي بشاهد من القرآن على استعمال المعصية بمخالفة الأمر الندبي.
وبعبارة أخرى: إنّ القرينة لا بد أن تكون مقارنة لظرف الاستعمال حتى يمكن للمتكلّم أن يعتمد عليها، أما لو كانت متأخرةً عنه فلا تفيد، وفي الآية قد نُسبت المعصية إلى آدم علیه السلام دون تقييد، مما يكشف عن أن المعصية لا تنصرف إلى القبيح في عصر النزول، بل هي مطلق المخالفة.
الجهة الرابعة: أن جوابه مبني على ما عليه المشهور من أن تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، بخلاف ما نبني عليه من أن الملاكات ليست في متعلقات الأوامر والنواهي، بل لا يُعقل أن تكون في المتعلق، وتفصيل ذلك موكول إلى مباحث علم الأصول.
والحاصل: أنّ السيد رحمة الله علیه ذهب بعد إرجاع صيغة النهي لُبَّا إلى الأمر وفيه ما فيه إلى أن الأمر المتوجّه إلى آدم علیه السلام كان أمرًا مولويا تعبديًّا.
ولكن الحق أنّ الأمر المتوجّه إليه كان أمرًا إرشاديًا وليس أمرًا مولويًّا، وقد بيّنا فيما سبق أن ذكر المضارّ الدنيوية على مخالفة الأمر، يدلّ على كون الأمر الصادر عن المولى أمرًا إرشاديًّا وليس مولويًّا، وذلك لأن الأوامر المولويّة الصادرة عن المولى لا يُذكر معها المضار الدنيوية، بل لو ذكرت مضارّ فإنّما تكون أخرويّةً، فإنّ المتأمل بالنّواهي المولوية يجد أنها تبين
ص: 124
المضارّ الأخروية المترتبة على تركها دون ذكر المضار الدنيوية، وقد بينت الآيات الشريفة المضارّ التي ترتبت على مخالفة النّهي من وقوع آدم علیه السلام في المشقة على ما مرّ.
ثمّ إنّ ابن أبي الحديد قد اعترض على جواب السيد المرتضى رحمة الله علیه باعتراضات، كلّها معتمدة على مبناه في العصمة من جواز صدور الصغائر عن الأنبياء الله، وعلى التمسك بظاهر الآيات، حيث فسّر ظاهر الآيات بصدور المعصية من آدم علیه السلام ، واعتبر عمل السيد رحمة الله علیه مخالفةً للظاهر.
وفي الحقيقة إن اعتراضاته غير تامة، لأنّ السّيدة بعد أن أقام البرهان العقلي أو العقلائي على لزوم عصمة الأنبياء علا ، فكل آية تخالف هذا البرهان القطعي لا بد من تأويلها، كما فعل المعتزلة وابن أبي الحديد منهم، حيث أوّلوا الآيات الظاهرة بالتجسيد لأنها مخالفة للبراهين العقلية الدالة على تنزه الله عن الجسميّة، فمنشأ اعتراض ابن أبي الحديد هو جهله أو تجاهله لمسلك السيد حمله ومبناه، وفي الحقيقة إشكالاته لا تمس جوهر ما أفاده السيد هله، وإنما هي إشكالات على المبنى الذي يكون محله البحوث الكلامية.
بقي في الآية كلمة (غوى):
وقد تعرّض السيد المرتضى رحمة الله علیه للجواب عنها فقال:
(وأما قوله تعالى (فَغَوَى)، فمعناه أنه خاب لأنا نعلم أنه لو فعل ما نُدب إليه من ترك التناول من الشَّجرة لاستحق الثواب العظيم، فإذا خالف الأمر
------------------------
المدلول اللغوي لكلمة(غوى) وذكر ما أفاده السيد المرتضىقدس سره في ذلك
ص: 125
ولم يَصِرْ إلى ما نُدب إليه فقد خاب لا محالة، من حيث لم يَصِرْ إلى الثّواب الذي كان يستحق بالامتناع، ولا شبهة في أن لفظة (غوى) تحتمل الخيبة.
قال الشاعر:
فمَن يلق خيرًا يحمدِ النَّاسُ أمره ومَن يغوَ لا يعدم على الغي لائمًا) (1). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
وحاصل كلامه : أنّ الغواية التي نُسبت إلى آدم علیه السلام يُراد بها الخيبة و خسران الثّواب الذي كان يناله ما لو امتثل النّهي الندبي المتوجّه إليه بالابتعاد عن الشجرة وعدم الأكل منها، فلمّا أكل خَسِرَ ذلك الثّواب المقدّر بترك الأكل، فصدق عليه أنه خاب.
وتبعه على ذلك أمين الإسلام الطبرسي في بعض الموارد من تفسيره البيان حيث فسّر الغواية في قوله تعالى: (عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) بالخيبة، بينما فسّر الغواية في قوله تعالى:(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) بالضلال حيث قال:
(يعني النبي النبي صل، أي: ما عدل عن الحق وما فارق الهدى إلى الضلال وما غوى في ما يؤديه إليكم، ومعنى غوى ضل، وإنّما أعاده تأكيدا).
ثم قال: (وقيل: معناه ما خاب عن إصابة الرّشد، وقيل: ما خاب سعيه) (2)، مما يظهر منه تضعيفه لهذا المعنى في هذه الآية.
ص: 126
هذا ولكن الصحيح أن الغواية لغة: هي السلوك على غير السبيل السليم بسبب اغتشاش في مقام العلم، وذلك بأن يعتقد أن ما يراه مطابقا للواقع، المدلول اللغوي والحال أنه غير مطابق للواقع، وإنّما نُسب ذلك لآدم علیه السلام، لما حصل له اغتشاش بسبب قَسَم إبليس اللعين، بحيث سلك طريقًا لا يُوصله إلى البقاء جوار الله ، والشاهد على هذا التفسير لمعنى الغواية لغةً فضلاً عن كلمات اللغويين _ قول امرئ القيس في معلقته:
فقالت:
یمین الله ما لك حيلة وما إن أرى عنك الغوايةَ تنجلي (1).
فَنَسبَت إليه الغواية في البيت، لأنه كان سالكا طريقًا قد عزم معه على الفجور، وهذا من السّبل غير المرضيّة حتى عند أبناء الجاهليّة، وإنّما يُنشئ هذا السلوك ويدعو إليه التغريرُ الشَّيطاني وغلبة الأهواء المزينة للفجور بالصور الحسنى.
ولا معنى لتفسير الغواية في البيت بالخيبة والخسران، لأن نسبة الغواية إليه كانت قبل إقدامه على الاختلاء بها.
وفي الآيات لما أكل آدم علیه السلام من الشجرة، تحققت الغواية وهي سلوك لغير السبيل الذي كان ينبغي لآدم علیه السلام سلوكه، ولازم هذا السلوك خسران الجنّة.
------------------------
التحقيق في المدلول اللغوي لكلمة (غوى)
ص: 127
فالخسران لازم المعنى الوضعي لكلمة (غوى)، فإنّ مدلوله الوضعي سلوك غير السبيل السليم، ولازم هذا السلوك الخسران، وليست الكلمة مشتركًا لفظيًّا بين المعنيين.
المورد الرابع ممّا يمكن أن يُتوهم من خلاله صدور المعصية من آدم علیه السلام : قوله تعالى: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى )(1).
هناك كلمتان قد يُتوهّم منهما صدور المعصية كلمة (تاب) وكلمة (هدى).
فإنّه قد يُتوهم لابدية صدور الذنب لتصدق التوبة، وأن الهداية فرع الضّلال، وإلا لكانت من تحصيل الحاصل.
ولأجل رفع هذا التوهّم يجب الوقوف عند الكلمتين:
أما كلمة (تاب) فالتوبة لغةً معناها: الرجوع إلى الله عزوجل.
قال ابن منظور في لسان العرب:
(أصلُ تاب: عادَ إِلى الله ورَجَعَ وأناب)(2).
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:
(التاء والواو والباء كلمة واحدة تدلّ على الرّجوع) (3).
فليس في المدلول الوضعي لكلمة (تاب) الرّجوع عن خصوص المعصية والذنب، بل التوبة مطلق الرّجوع الذي قد يكون عن معصية وذنب،
------------------------
المدلول اللغوي للتوبة
ص: 128
وقد يكون عن غير ذلك كما سيأتي، فمعنى التوبة المجرّدة عن الإضافة إلى الذنب هو مطلق الرّجوع، وإلا فلو كان في المدلول الوضعي للفظ (التوبة) رجوع عن خصوص المعصية المولويّة، لما حسن الدّعاء لله تعالى بأن يجعلنا من التوابين، لأنه حسب الفرض يكون سؤالاً وطلبًا لصيرورتنا مذنبين، فلا بد أن يكون معنى التوبة الوارد في الدعاء طلب الرّجوع والانقطاع إلى الله عزوجل على كل حال، ولو لم يصدر ذنب.
فإنّه يُقال: تاب العبد إلى ربِّه وتاب الله على عبده، ولو كان معنى التوبة هو خصوص الرّجوع عن المعصية، فما معنى توبة الله على عبده؟
وعليه، فالصحيح أن معنى التوبة هو الرّجوع والإنابة إلى الله عزوجل ، ولكن رجوع متمحض بالعبودية لله ، لا مطلق ،رجوع، فتقابل الاعتذار في بعض أقسامه.
بيان ذلك:
إن الاعتذار على أنواع:
تارةً:يعتذر العبد بأن يتخذ لنفسه حجّةً على فعله بأن يقول: فعلت ولكنّي كنت مضطرًا إلى الفعل، وهو حجتي على ما فعلت.
وأخرى:يعتذر بأنّه لم يفعل، وذلك بأن ينفي صدور الفعل ويتنصل فهذان القسمان من الاعتذار لا يصدق عليهما التوبة، لأنه ليس فيهما نحو من العبودية والتذلل للّه عزوجل.
وثالثةً يكون الاعتذار باعترافه بالإساءة، ثم يعلن إقلاعه عما كان، وهذا المعنى للاعتذار إذا اجتمع مع نيّة الإقلاع عمّا كان تصدق عليه التوبة حينئذٍ.
ص: 129
وبهذا تبيّن أنّ التّوبة رجوع متمحض بالعبودية لله عزوجل.
ثمّ إنّ هذا الرجوع على مرتبتين:
المرتبة الدنيا من التوبة، وهي: الرجوع عن الذنوب والمعاصي، كبائر كانت أم صغائر.
المرتبة العُليا من التوبة وهي توبة المخلصين الله سبحانه وتعالی، ولا تكون هذه التوبة عن ذنب كبير أو صغير، بل هي رجوع عمّا يراه المخلصون من العباد نحوا من التقصير في حق المولى عزوجل، فيعتبرون ما كانوا فيه من المرتبة الدنيا من العبوديّة تقصيرًا في عبوديتهم له تعالى فيتوبون منه، وتكون هذه التوبة طريقًا للوصول إلى المرتبة العُليا من العبودية لله تعالى.
وبتعبير آخر:يكون الرّجوع عن المرتبة الدنيا من العبوديّة، والاتجاه إلى المرتبة العليا ،توبةً وهذا ما يُسمّى (توبة المخلصين).
وكلا هاتين المرتبتين من الرجوع، وهما الرّجوع عن الذنب، والرّجوع عن المرتبة الدنيا من العبوديّة إلى المرتبة العُليا، يصدق عليه لغةً أنّه توبةً إلى الله تعالى.
فإذا اتضح ما تقدّم، فمن أين يُعلم أنّ التّوبة الواردة في الآية الشريفة هی توبة من المرتبة الدنيا التي تنافي العصمة، أو أنها توبة من المرتبة العليا توبة آدم الالة التي لا تنافيها؟
ولا بد من الالتفات إلى أن هذا البحث إنّما هو عن القرينة اللفظية التي تساعد على انعقاد ظهور الآية، دون ملاحظة الأدلة العقلية الملزمة بنفي المعاصي وامتناع صدورها وقوعًا عن الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فإنه قد ذكرنا في مقدمة
------------------------
بيان أن ّ للتوبة مرتبتين
بيان القرينة اللفظية التي ّ تكشف عن أن توبة آدم علیه السلام ليست من القسم الذي ينافي العصمة
ص: 130
الكتاب أن البحث إنما يكون في الآيات بواسطة القواعد اللغوية من نحوِ وصرف وبلاغة، لنرى ما هو ظاهر الآيات بِغَض النظر عن الأدلة العقلية، فإن لها ظهور لا ينافي عصمة الأنبياء عال، كما هو الحال حتى الآن، فإنه لم تدلّ أيّةُ آيةٍ على صدور معصية مولوية من النبي آدم علیه السلام _ فبها ونعمت، وإلا ننتقل إلى الأدلة العقلية الملزمة بامتناع المعاصي من الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، ونؤوّل الآيات بنحو يتم التوافق بينها وبين العقل لأنّ المخالفة بين طرق الهداية المجعولة من قبله عزوجل- أعني بها العقل القطعي والنقل أمر غير معقول كما مر.
فالحاصل:أن البحث في المقام عن القرينة اللفظية، التي تفيد أن التوبة المنسوبة لآدم علیه السلام هي من القسم الذي لا ينافي العصمة.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن القرينة على ذلك في الآية نفسها: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (1) ، فإن توبة الله علیه السلام عليه جاءت في الآية مترتبةً على الاجتباء ومتفرّعةً عليه، وذلك يُستفاد من العطف بالفاء، ولا يعقل أن يكون الله تعالى قد اصطفى آدم علیه السلام وتفرّع على هذا الاجتباء والاصطفاء رجوع عن ذنب ومعصية مولويّة، فإنّ الاصطفاء ينافي هذا النوع من الرجوع الذي هو رجوع عن الذنوب والمعاصي.
بل من البين أيضًا، أن الاصطفاء ترتب عليه وتعقبه رجوع آدم علیه السلام من المرتبة الدنيا من العبوديّة إلى الترفّع والترقي إلى مرتبة أعلى، وقبول الله عزوجل لهذه التوبة بالترفيع للمرتبة العُليا، فإنّ هذا النّحو من الرجوع هو المناسب
ص: 131
مع الاصطفاء، حيث إنّ ورود كلمة (تاب) في الآية بعد الاجتباء قرينة واضحة على أن هذه التوبة لم تكن عن معصية.
وهذا النحو من التوبة دائم لعباد الله المخلصين، وذلك لأن العظمة الإلهيّة غير متناهية ومراتب القُرب من الله عزوجل كذلك غير متناهية فمهما صدر من العبد المخلص من أنواع الطاعات، يظل يراها غير وافية بحقه تعالى، فيتوب عنها ليرتقي إلى المرتبة الأعلى من مراتب القُرب الإلهي، وهكذا من غير انقطاع.
وبهذا المعنى يكون تفسير السّلام الوارد في زيارات النبيل تفسير السلام والأئمة عال، فإن السلام الذي يرد على لسان الزائر والداعي عند قوله: (السّلام عليكم يا أهل بيت النبوة)، أو (السلام عليك يا أمين الله في أرضه) أو (السلام على الحسين) وغير ذلك مما اشتملت عليه الزيارات إنّما هو بعد موتهم وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى، ولا معنى له إن كان السّلام دعاءً لهم بالسلامة الدنيوية؛ لأن الدعاء بالسلام متوجّه إلى أرواحهم، وأرواحهم (صلوات الله عليهم) دائمة الارتقاء في مراتب القُرب الإلهي، باعتبار أن عظمة الله على غير متناهية ومقامات القُرب منه له غير متناهية أيضًا، فيكون معنى السّلام الذي نتوجه به إليهم، هو الدعاء لهم بالاستمرار بالرقي في مراتب القُرب من الله ، فإنّهم وإن كانوا في أعلى مراتب الجنان البرزخية، ولكن الصحيح أن الترقي في مراتب القُرب ليس منحصرا في النشأة الدنيوية، بل يكون في الجنّة البرزخية، بل والأخروية.
ص: 132
قال تعالى: ﴿ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ).(1)
وببيان آخر: إن الترقي في مدارج العبودية يحتاج في تحققه وحصوله إلى عدة عوامل وهي:
1 - الإفاضة المستمرة من الله سبحانه وتعالی
2 - القابلية فى المُفاض عليه، وذلك بأن يبقى متوجها إلى الله مريدا وراغبا في الترقي.
3- ارتفاع الموانع عن هذا الترقي.
وهذه العوامل الثلاثة موجودة في المعصومين علیه السلام، فإن المقتضي من الله لا للإفاضة موجود دائمًا، والقابل في أشد مراتب الكمال والقابلية للإفاضة والموانع مرتفعة، ولكن مع كل ذلك يبقى للدعاء لهم من قبل المؤمنين أثرٌ ومدخليّةً في زيادة هذا الترقي، فإنّ السّالك إلى الله وإن كان في أعلى مراتب الكمال والاستعداد الذاتي للفيض، فلا ذلك يُؤثر دعاء غيره له في زيادة كماله وترقّيه، فإنّ كلّ مؤمن يُستحب له الدعاء للنبي في تشهده بأن يقول: (وتقبل شفاعته في أمته وارفع درجته)، ويستحبُّ له الصلاة على محمد وآله (صلوات الله عليهم) مطلقًا.
ولا معنى للصلاة والدعاء برفع الدرجة إن لم يكن لدعائنا أيُّ أثر في ذلك، بل لكان من اللغو أن يجعل الشارع استحبابًا لذكر هذه الألفاظ إن كانت مجرد لقلقة وألفاظ بلا أثر.
ص: 133
ولا ينبغي توهّم أنّ الأثر يعود على الداعي فقط، وأنه لا يعود منه شيء على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، لأنّ هذا مخالف لظاهر الأدعية، فإن الدعاء برفع الدرجة قد تعلق بدرجة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، والصلاة إنما كانت عليه، نعم للداعي ثواب في دعائه، ولكنّ الالتزام بأنّه لا يصل أثر من ذلك للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة علیه السلام ، مخالف لصريح بعض الآيات والروايات والأدعية والزيارات، وذلك من التأويلات التي لا داعي لها إلا شبهات عارضة.
وعلى كل حال، فالحاصل ممّا تقدّم أنّ التوبة المنسوبة لآدم علیه السلام معناها رجوعه من مقام ومرتبة من العبوديّة، وتوجهه إلى مرتبة أعلى منها.
وللسيد المرتضى رحمة الله علیه جواب آخر عن معنى توبة الله سبحانه وتعالی على آدم علیه السلام حاصله (1)
أنّ التوبة هي الرجوع، ولا تستلزم إسقاط العقاب، لأن إسقاط العقاب تفضّل منه تعالى وإنّما يترتب على التوبة ثواب، فمعنى توبة الله عرين على آدم علیه السلام أنه قبل توبته وضمن له ثوابها، فرجوع آدم علیه السلام كان الأمر المندوب، وذلك لأن الظاهر في كلّ من الآيتين الشريفتين في قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وقوله تعالى: (أَلَمْ أنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)، وإن كان نهيًا، إلا أنه وإن كان نهيًا، إلا أنه يرجع لبا إلى الأمر، باعتبار أنّ النّهي والأمر غير مختصين بصيغة، فقد يأمر المولى بصيغة النهي وينهى بصيغة الأمر، فإنّ الأمر الذي يكره تركه هو الواجب، وأما المندوب فلا يكره تركه، ولا يُعد تاركه مرتكبًا للقبيح.
------------------------
جواب علم الهدى المرتضى قدس سره
ص: 134
ومراده قدس سره أن توبة الله عزوجل على آدم علیه السلام، لا تعني صدور معصية منه، بل ما تقتضيه توبة الله سبحانه وتعالی عليه هو نيله للثّواب دون دلالة لها على صدور معصية من آدم لانه، لأنّ ما صدر من آدم الي هو ترك ما نُدِب إلى فعله، وهذا التّرك ليس قبيحًا ، بل فيه تفويت للثواب المقدر على فعله.
وفي جوابه رحمة الله علیه نظر من وجوه:
الوجه الأول: أن التوبة وإن ذكر في كلمات اللغويين أنّها مطلق الرّجوع، ولكن التحقيق يقتضي أنّها رجوع مستبطن لندم كما مر، إما بأن يكون النّدم داخلاً في مفهوم التوبة، كما يظهر من كلام غير واحدٍ من الأعلام، وإما أنّه شرط لتحقق التوبة، كما يظهر من كلام غيرهم، وعلى القولين لا بد من صدور فعل أوجب الندم.
الوجه الثاني: أن الرّجوع يقتضي تحقق بُعدِ ما حتّى يصدق على التائب أنه راجع، وإلا فإن الفاعل إذا لم يأتِ بفعل محرّم أو مكروه، كما لو كان الصادر فعلاً مباحًا، فلا يترتب على فعله بعد، ومعه لا يصدق عليه الرّجوع الذي هو معنى التوبة، فإن السيد قد ذهب إلى أن الأكل من الشحرة ليس أمرًا مكروها، بل هو أمر مباح ، ولم يصوّر وجه البعد الذي ترتب على هذا المباح كي يصح معه الرجوع والتوبة.
وبعبارة أخرى: إنّ الرّجوع إلى الله عزوجل لا معنى له إلا بعد فرض الابتعاد عنه، فلا بد من ذكر وجه الابتعاد وحمله على معنى يتلاءم مع الأنبياء علیه السلام ليترتب عليه الرّجوع، وهذا ما لم يتعرض له السيد رحمة الله علیه.
ص: 135
الوجه الثالث: أن كلامه رحمة الله علیه لا يتم إلا مع ملاحظة الدليل العقلي القائل بامتناع صدور المعصية من الأنبياء علیهم السلام، وجعله قرينةً لبيّةً صارفةً للتوبة عن المعصية إلى ترك المندوب والحال أنّ الذي ينفع في إلزام الغير إنما هو القرائن اللفظية لا العقلية اللُّبيّة، وذلك لأن مبانيهم في العصمة تختلف عمّا عليه مدرسة أهل البيت علیهم السلام، ومعه يمكن خدش الكلام بعدم الموافقة على القرينة اللُّبيّة.
الوجه الرابع: أن قوله بأن الأمر قد يأتي بصيغة النهي، والنهي بصيغة الأمر صحيح، إلا أن ما جعله صغرى لهذه الكبرى، وهي قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، في غير محله، فإنه رحمة الله علیه قد ادعى أن النّهي الوارد في الآية يُراد به الأمر حقيقةً، بمعنى أن قول الله عزوجل: (وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ )يراد به: (آمركما بترك الأكل)، واستدل على ذلك بأن النهي لو كان حقيقيًّا، وكان المولى عزوجل كارها للأكل، لتعلّق النّهي بالأكل بأن قال المولى عزوجل: (لا هذه الشجرة)، فلما عدل المولى عزوجل عن هذه الصيغة، وعلّق النهي على الاقتراب، وكان الاقتراب غير مكروه له جلّ وعلا حقيقةً، علم من ذلك أنه مريد لترك التناول من الشجرة، وأن هذا في الحقيقة أمرٌ باعتبار أن النهي عنده وعل هو ما كرهه المولى، والأمر ما أراده، وهنا لما انصبَّت إرادة المولى عزوجل على ترك الاقتراب من الشجرة، فهذا يعني أنه حقيقةً ولبا يكون أمرًا، وإن أبرزه جلّ وعلا بصيغة النّهي.
أما وجه عدم صحة جعل الآية مصداقًا لما أبرزه المولى عزوجل بصيغة النهي، وأنّه أراد به الأمر، فهو أنّ النّواهى تارةً تتعلّق بنفس المكروه، وأخرى تُصاغ
ص: 136
متعلقة بمقدمة المكروه لأجل المبالغة في التشديد على النهي، فتارة يقول المولى: (لا تشرب الخمر)، وأخرى يقول للمبالغة في تأكيد النهي: (لا تقرب الخمر) ، والمُراد من اللفظين هو النّهى.
وفي مقامنا، إنما نهى المولى عن الاقتراب من الشجرة مبالغةً تأكيد النهي عن الأكل منها، لا أن نهي المولى لبا وحقيقةً هو أمر بترك الأكل.
وهذا كثير الاستعمال في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِش) (1)، وقال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (2)، وقال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا )(3)، والمحرّم هو الزنا نفسه، والتصرف في مال اليتيم نفسه لا الاقتراب الحسّي منهما، فيكون تعليق النهي على الاقتراب لتأكيد النهي، لا أن تعليق النهي على الاقتراب يدل على أن النهي أمر بترك الزنا وأمر بترك مال اليتيم، فتنبه.
والشاهد على ذلك، أنه ذلك، أنه بعد تحقق الأكل من آدم علیه السلام وحواء، جاءهما الخطاب الإلهي: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَان لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِين )(4).
ص: 137
وفي المقام تتفسير للآية مغاير لما مرّ من تفسيرها، وهو ما رواه الشيخ الصدوق عن الإمام الرضا علیه السلام، قال:
(حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رضی الله عنه، قال: حدثني أبي، عن حمدان بن سليمان النيسابوري، عن علي بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا علي بن موسى علیه السلام، فقال له المأمون: يا بن،رسول الله، أليس من قولك: الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فما معنى قول الله : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) ، فقال : إِنَّ الله قال لآدم عال:( اسْكُن أنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ، وأشار لهما إلى شجرة الحنطة، فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، ولم يقل لهما : لا
من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها، وإنّما أكلا من غيرها لَمّا أن وسوس الشيطان إليهما، وقال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ،) وإنّما ينها كما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها (إلا أن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبًا (فَدَلَاهُمَا بِغُرُورٍ)، فأكلا منها ثقةً بیمینه بالله، وكان ذلك من آدم ع قبل النبوة، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء علیهم السلام قبل نزول الوحي عليهم، فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيًّا كان معصومًا لا يذنب صغيرةً
------------------------
ذكر ما رواه الصدوقرضی الله عنه في تفسير اﻵية
ص: 138
ولا كبيرةً، قال الله عزوجل: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) ، وقال : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) ...) (1)، الخبر.
وفي الراوية عدة نقاط ينبغي الوقوف عندها:
النقطة الاولى: ذُكِرَ في الرّواية أن ما صدر من آدم اللي كان قبل النبوة الأخذ برواية ونزول الوحي عليه.
وفيه أنه لو التزمنا بأنّ النبوة تتأخر عن مبدأ الولادة عند بعض الأنبياء ، إلا أن هذا الأمر ليس كليًّا، فعيسى اللي كان نبيا من مبدأ ولادته، ويظهر من الآيات أن نبوّة آدم ليست موقوفةً على هبوطه إلى الأرض، وليست متأخرةً زمانًا عن خَلقه، قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ )(2) وكان السجود لما يحمله آدم علیه السلام من المواهب الإلهية منذ أن خلقه عزوجل ، ومنها روح النبوّة التي ينفخها الله سبحانه وتعالی في جسد المعصوم علیه السلام حين خلقه، وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً )(3)، وهنا الجعل البسيط يفيد أن آدم عليم من مبدأ خلقه كان خليفةً في الأرض بنحو لا تتوقف الخلافة على الهبوط، فإن الله لك خلقه خليفةً لا أنّه خلقه أولاً، ثم جعلَه خليفةً بعد زمان متأخر عن خلقه.
------------------------
بيان الوجوه التي ﻻ يمكن معها اﻷخذ برواية الصدوة رضی الله عنه
ص: 139
النقطة الثانية: ذُكر فيها أنه علیه السلام لما نُهي نهي عن الاقتراب من الشجرة لم ينهه الله عزوجل عن عين الشجرة ولا عن جنسها، بمعنى أنه لم يُحدّد له المنهي عنه، وذلك لأنّ الإشارة قد يُراد بها الشخص، وقد يُراد بها الجنس، فجاءهما إبليس، وحلف لهما بالله كاذبًا أنّه لهما لمن الناصحين، وأن الله عزوجل لم ينههما عن عين الشجرة، بل نهاهما عن غيرها مما كان من جنسها، وما نهاهما عن غيرها إلا أن يكونا ملكين أو يكونا من الخالدين، فأكل آدم عا من الشجرة ظنا منه بأنّ النّهى تعلّق بالشجرة المعيّنة، لا بغيرها الذي هو من جنسها بسبب قسم إبليس، لأنه لم يكن قد شاهد من قبلُ مَن يحلف بالله كاذبًا، وهذا يقتضي أنّ آدم لم يفهم النّهي المتوجّه إليه من الله سبحانه وتعالی، وأن الله نهاه عن
عليكم أمرٍ مردّد بين شيئين، ولم يبيّن له متعلق النهي، ثم آخذه على هذا النحو من النّهى المُجمل بأن أهبطه من جنّته، وكلّ ذلك معارض لظاهر الآية.
النقطة الثالثة: أنّ في هذا الحديث ما يخالف أصول الإمامية لتصريح ذيله بجواز صدور الصغيرة من الأنبياء الله قبل نزول الوحي، حيث ورد فيه: (وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء علیهم السلام قبل نزول الوحي عليهم).
فهذه الأمور تمنع من الأخذ بالرواية، فإن فيها ما لا يمكن الالتزام به ممّا ظاهر الكتاب، بل فيها ما هو مخالف للأصول التي الأئمة، فضلاً عن ضعف سندها، فإن علي بن محمد بن الجهم ناصبي، قال الصدوق رحمة الله علیه بعد نقل الحديث: (والحديث عجيب من طريق علي بن محمد
ص: 140
بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت رحمة الله علیه (1)، وحمدان بن سليمان مجهول الحال.
فلا بد من ردّ علمها إلى أهلها بمقتضى أمر الأئمّة، بأن ما خالف کتاب الله فهو زخرف، وفي حديث آخر لم نقله، وفي ثالث يضرب به عرض الحائط، وفي غيرها ردُّوا علمها إلى أهلها.
هذا فيما يتعلّق بلفظة (تاب).
وأمّا (هدى)، فالهداية لغةً: إراءة الطّريق والإيصال إلى المطلوب ولها أربعة أقسام:
القسم الأوّل: الهداية العامة للمخلوقات كافةً، قال تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (2) ، وهذه الهداية هي ما يسمى بالهداية التكوينية.
القسم الثاني: الهداية التي تمثلت بالأنبياء والرسل والأئمة أنفسهم (صلوات الله عليهم أجمعين)، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بأمرنا )(3)، وهذه الهداية متعلّقة بالمكلّفين من الإنس والجن دون غيرهم من سائر المخلوقات.
------------------------.
المدلول اللغوي لكلمة هدى
أقسام الهداية
ص: 141
القسم الثالث: الهداية المتعلّقة بالمؤمنين خاصة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا َوعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) (1)، وهذه الهداية تكون بعد الإيمان، وهي بمعنى التوفيق للمزيد من الألطاف الإلهية.
القسم الرابع الهداية الأخروية، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله) (2) ، فنيل الثّواب الإلهي الأخروي هدايةً منه تعالى.
ومن الواضح أن قوله تعالى في حق نبيه آدم عليكم وهَدَى، لا يستلزم هدايةً عن معصية اقترفها؛ لما عرفت من أن أنواع الهداية عديدة، وأنّ الهداية جاءت عقيب الاجتباء والتوبة اللذين قد بيّنا المراد بهما، فلا يعقل تكون هدايةً عن ضلال وذنب، قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (3)، ففي الآية إن الله ل زاد أهل الكهف هدىً فوق هداهم، فالهداية من الله لن تكون لمن هو مؤمن ومهتد، ولا تنحصر الهداية منه لك بالهدى الذي يكون عن ضلال، فإن ذلك أدنى مراتب الهداية، وفي مقامنا الهداية المنسوبة لآدم ما كانت هداية تدرّج في سلّم العبوديّة، وارتقاء في مقاماتها.
ص: 142
المورد الخامس مما استدل به على صدور المعصية من آدم علیه السلام: ما ترتب على أكله من الشجرة:
وما ترتب على أكله من الشجرة أمران:
الأوّل: قوله تعالى : ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) (1)، وفي آية أخرى: ( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِينِ ) (2).
الثاني: قوله تعالى: ( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّة) (3)، وفي آية أخرى: (فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (4).
أمّا بالنسبة إلى ما يتعلّق بالأمر الأوّل، فالهبوط لغةً: هو الانحدار والنزول حالة عليا إلى حالة ،دنيا، أو من مكان مرتفع إلى مكانٍ منخفض على نحو بالهبوط من قهري، ويُعلم مِنْ تتبع موارد استعمال الهبوط أنّه غالبًا ما يكون على سبيل الغضّ والتقليل من شأن من أهبط بخلاف الإنزال، فإنّه استعمل غالبًا مع الأشياء الشّريفة العظيمة، قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكَ )(5)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (6) ، وقال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
------------------------
تقرية الشبهة الواردة على اﻷمر بالهبوط من الجنّة
ص: 143
فِيهَا )(1)، وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (2).
فالهبوط يشتمل على أمور ثلاثة :
الأول: الانحدار من مكان عال إلى مكان دان، سواء أكان الانحدار والهبوط حِسّيًّا أم معنويًا.
الثاني: يوجد فيه غض وتقليل من شأن من أهبط.
الثالث: غالبًا ما يكون بنحو قهري لا إرادة للهابط حال حصوله.
قال تعالى في قصة موس- موسى عالم عندما سأله قومه: (اهْبِطُوا مِصْرًا) (3)، فاستفيد التقليل من شأن من أمر بالهبوط من الآية السابقة عليها، وهي قوله تعالى: (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ )(4)، واستفيد أيضا من الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: ﴿ وَضُرَبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ )(5)
والذي يدل على وجود معنى الغض والتقليل في الهبوط وإن كان الله صلى الله عليه وسلم أمر به نبيه آدم هو أنَّ الشَّيطان مشمول في هذا الأمر، قال تعالى:(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)(6)
ص: 144
والحاصل : أنّ الأمر بالهبوط مستبطن لكون المأمور بذلك قد أتى بما يبغضه مولاه فأمر بالهبوط من الجنة.
إذا اتضح ما تقدّم، فهل مجازاة آدم علك على أكله من الشجرة بإهباطه من الجنة مناف للعصمة؟
وجوابه أنه لا منافاة بين عصمة آدم علیه السلام وبين أن يجازيه الله علیه السلام على فعله بأن يُهبطه من الجنّة، وذلك لأن الجزاء كان بسبب مخالفته للأولى، ولو كان هذا الجزاء لمخالفة أمرٍ مولوي لتحققت المنافاة بينهما.
توضيح ذلك: أنّ الله اختار لنبيه آدم علیه السلام السكنى في الجنّة، قال تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) (1)، وبين له أنواع النّعم الموجودة فيها فقال عزوجل :( إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى)(2) ، ونهاه عمّا يوجب خروجه منها فقال:عزوجل (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى )(3)، وما يختاره الله سبحانه وتعالی للعبد لا شك في كونه الأفضل له، حيث إنّ أوامر سبحانه وتعالی لا تخلو من مصالح عائدة على عبده، فيكون ما اختاره الله و لآدم علیه السلام من سكنى الجنّة، وعدم فعل ما يُخرجه منها أولى مما صدر من آدم علیه السلام، وسبب هبوطه إلى الأرض وحصول المشقة له من العيش فيها، لأنّ من المعلوم أن الله سبحانه وتعالی لا يختار إلا الراجح الأولى للعبد، فإنه وإن لم يكن ما
ص: 145
صدر من آدم علیه السلام معصيةً ،مولويّة، ولم يكن لديه عزم على ذلك، بل الشيطان دلّاه ،بغرور أي كان للتغرير من الشَّيطان مدخليّة فيه كما تقدم، إلا أن هذا الفعل وإن كان مقترنا بهذه الأمور يبقى مخالفةً لما اختاره الله عزوجل، ويكون غير أولى بالنسبة للمختار الإلهى.
فما صدر من آدم علیه السلام هو ترك لما هو أكمل وأفضل، وفعل لما هو دون السلام المختار الإلهي، وهذا معنى ترك الأولى، ولا شك ولا ريب في أن صدور ترك الأولى من عبد صالح يكشف عن كون هذا العبد ليس بمنزلة عباد الله الذين لا يصدر منهم ترك الأولى، فلا يختارون أبدا إلا ما اختاره الله عزوجل.
روي أن خليل الله إبراهيم (على نبينا وآله وعليه السلام) عندما رماه النمرود في النار، جاءه جبرائيل وهو في الهواء، فقال: (يا إبراهيم، هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال لمَ لا تطلب حاجتك منه، وليست صعوبة أشد من هذه، فقال: علمه بحالي حسبي من سؤالي)(1).
فإنّ إبراهيم علیه السلام قد فوّض الأمر إلى الله سبحانه وتعالی ، مطلقا، فما يشاؤه الله سبحانه وتعالی له فهو مسلّم له فيه بالكلية، بنحو أنه لم يوسط سببًا بينه وبين الله عزوجل، حتى ولو كان هذا السبب جبرائيل علیه السلام، بل حتى السؤال والطلب لم يجعله واسطةً بينه وبين الله عزوجل.
والحاصل: أن الأمر بالهبوط هو أثر وضعي نشأ من جهة مخالفة آدم عليه السلام للأولى ولم ينشأ من جهة تدلّ على مبغوضية المولى جل وعلا حتى تصح دعوى دلالة الأمر بالهبوط على صدور المعصية.
ص: 146
وأما ما يتعلق بالأمر الثاني، وهو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةِ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)(1)، وفي آية أخرى:(فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ )(2) ، فالملاحظ أن الله عزوجل قد اهتم بهذه الحادثة بنحو قد احتفظ بعين الألفاظ فيهما، ممّا يدلّ على أن لهذه الكلمات خصوصيّةً بنحوِ تقصر غيرُها من الكلمات عن التعبير عنها، فلا بد من التأمّل بخصوصيّات هذه الألفاظ. ولا يوجد فرق بين الآيتين إلا فى كلمة (ذاقا) و (أكلا)، وبين الكلمتين اشتراك من جهة، وامتياز من جهة أخرى.
أما الأكل، فمعناه ابتلاع الشّيء عن طريق الفم، وأما التذوّق، فمعناه أخذ الشّيء عن طريق الفم لمعرفة ،طعمه، فالقدر المشترك بينهما هو دخول الشّيء إلى الفم، وأمّا جهة الامتياز، فالتذوّق يُقصد به معرفة الطعم لا الابتلاع والإدخال إلى الجوف، ولكن ليس المراد من كلمة (ذاقا) في الآية أنّهما أخذا شيئًا من الشَّجرة لمعرفة طعمه فقط دون أن يبتلعاه، بل المراد أنّهما لما وجدا الطّعم عند الأكل منها، بدت لهما سوآتهما ،وترتب عليهما هذا الأثر بعد استشعار الطعم.
ثم إنه لا يبنغي توهم أن بقيّة الألفاظ متكرّرة، والتكرار منافي للبلاغة التي ينبغي أن يتصف القرآن الكريم بأعلى مراتبها.
------------------------
تقرير الشبهة الواردة في اﻵية التي ذكرت بدو سوءة آدمعلیه السلام
ص: 147
لأن التكرار غير موجود في القرآن باعتبار أن اللفظ يُؤتى به ثانيةً في القرآن الكريم لخصوصيّة اقتضاها السّياق القرآني، غير الخصوصية الأولى التي ذكرت فيه، فيخرج بذلك اللفظ عن التكرار لأجل دخالة الخصوصية في إعطاء اللفظ معنى غير الذي أعطاه في سياق آخر.
ولما كان بيان ذلك متوقفاً على سرد سياق الآيات التي سبقت ولحقت الآيتين، وكان الكلام فيهما يُخرجنا عن محلّ البحث، أشرنا إلى ذلك دون بیانه تفصيلاً.
إنّ التذوّق قد تعلّق بالشَّجرة، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ )، وأمّا الأكل فقد تعلّق بشيء منها:( فَأكلا مِنْهَا )، ولم تُذكر (من) التبعيضية مع (ذاقا) لأنّ الكلمة نفسها تُغني عن ذكرها، بخلاف الأكل فإنه لو لم تُذكر في الكلام (من) لتُوُهّم أنّهما أكلا جميع ثمر الشّجرة.
وأمّا قوله تعالى: بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، فالسوءة لغةً هي العورة، ومن خصائص القرآن الكريم أنه يعبّر عن مثل هذه الأشياء بالتعابير الأكثر أدبا وحشمة.
ولكن ما ينبغي التنبه إليه، هو أن آدم علیه السلام وحواء، وإن كانا يعيشان في الجنّة، فإن سوآتهما غير مخفيّة عنهما، باعتبار أن الزوجين يقترب أحدهما من الآخر، ومن الطبيعي أن لا يكون هذا الأمر من الأمور المخفية عليهما.
ولأجل ذلك، حاول بعض المفسّرين للتخلّص من هذه المشكلة تفسير قوله تعالى:( بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا )، بأنّه لمّا سقط لباس الجنّة عنهما، نظر كل منهما إلى سوءة الآخر، فبدت لهما يعني ظهر لكل واحد منهما عورة الآخر.
ص: 148
ولكن هذا التفسير يتمّ لو كانا غريبين أجنبيين عن بعضهما البعض، ولكنهما كانا زوجين، وخفاء سوءة كلّ من الزوجين عن الآخر أمر بعيد.
والجواب عن ذلك موقوف على بيان معنی:(بدت لهما).
فُسْرَ البَداء من قِبل مشهور علمائنا الأبرار بالظهور بعد الخفاء، ولمّا واجهوا مشكلةً بنسبة هذا المعنى إليه تعالى قالوا المراد بالظهور هو الإظهار للعباد، فمعنى بدا لله عزوجل أنه أظهر للعباد ما كان مخفيًّا عنهم، وأما الله سبحانه وتعالی فإن الأمور كلّها ظاهرةٌ له، ولا يوجد شيء مخفيًّا عنه لكي يظهر له بعد خفاء.
ولكن في هذا التفسير للبداء نظر من وجهين:
الأوّل: أن فِعل (بدا) لازم، وتفسيره بالمتعدّي لا معنى له، فإنّه يُفضي إلى أن (بدا) بمعنى (أبدى)، فإن الله ل وكذلك النبي والأئمة الأطهار الله ، لو أرادوا هذا المعنى لعبّروا بالإبداء بدل البداء، والمشرع أفصح وأبلغ من نطق بالضاد في أداء وإيصال المعاني، فلو أراد هذا المعنى لعبّر عنه بالإبداء.
الثاني: أنه لم نجد في الرّوايات على كثرتها، ولو روايةً واحدةً عبّرت بلفظ (الإبداء)، فهذا يكشف عن أن للفظ (البداء) خصوصيّةً في تفسير معنى البداء، بل وجدنا أن المعصومين الله في الرّوايات والزيارات قد عبّروا بهذا اللفظ ولم يستعملوا في موردٍ واحدٍ لفظ (إبداء).
والصحيح أن البداء ليس معناه مطلق الظهور، بل معناه هو الوصول إلى نتيجةٍ معينةٍ من خلال تمهيد مقدمات، سواء أكانت تلك المقدمات حسنةً أم قبيحةً.
------------------------
بيان معنى البداء
ص: 149
وبتعبير آخر: البداء هو أن تبرُزَ نتيجةً ما قد ترتبت على مقدمات سواء أكانت تلك المقدمات من أفعال الجوارح أم الجوانح.
ففي قصة يوسف (على نبينا وآله وعليه السلام)، قال تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينِ ) (1).
يعني أنهم وصلوا بعد تأمّل إلى نتيجة مفادها أن سجن يوسف علیه السلام هو الحل الوحيد لتغطية الفضيحة التي لزمتهم بعد رؤيتهم للآيات من نطق الطّفل، ومن رؤية القميص قد قُدَّ من دبر الدالّة على براءة يوسف علیه السلام ممّا نُسب إليه.
فالبداء أمرٌ تكويني يكون نتيجةً مسببةً عن مقدمات قد حصلت، وعندما يُنسب إلى الله عزوجل وعمل فمعناه إيجاد تكويني منه تعالى.
ونسبةُ هذا المعنى إلى الباري عزوجل لا حاجة معها إلى التأويل كما فعل المشهور، بأن أوّلوا البداء إلى الإبداء، فإنّه لما كان البداء من سنخ التكوينيّات المترتبة على مقدمات لها تسبيب في حصول النتيجة، فنسبته إلى الله و لا داعي معها إلى التأويل، لأنه بهذا المعنى لا تقتضي نسبة البداء إليه جهلاً، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا.
قد تعرّضنا في علم الأصول عند الكلام في حقيقة النسخ ما يفيد في بيان ذلك بشكل أوسع.
وكيفما كان ففي مقامنا في الآية الشّريفة: (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) (2) ، البداء هو بروز نتيجة تكوينيّة لمقدمات قد حصلت، بسبب التغرير من
ص: 150
الشّيطان ووسوسته والأكل من الشجرة، وهذه النتيجة هي أمر تكويني قد حصل، وهو سلب النعم التي كان يتنعم بها آدم علیه السلام في الجنّة.
ونعم الجنّة تختلف عن نعم الدنيا، فإنّ النّعم في الدنيا منوطة بطلب وسَعي، بل كلِّ نِعَم الدنيا هي سد ألم حاصل، فلذة الأكل بالحقيقة سد ألم الجوع، ولذة الشّرب سد ألم العطش، ولذة الجماع سد ألم انحباس الماء، وهكذا.
بينما نعم الجنّة نعم حقيقيّة لا تحصل بطلب وسعي، حقيقية لا تحصل بطلب وسعي، وإنّما هي رهن مشيئة الإنسان، فكلّ شيءٍ يشتهيه الإنسان يجده حاضرًا أمامه، بل إذا اشتهى غير ما كان يشتهيه ينقلب ما بين يديه إلى ما اشتهاه، ولا يتوقف حصوله على طلب من خادم أو ما شابه، بمعنى أنه لا تكون هناك حالة منتظرة ليحصل له ما يشتهيه، بل حصوله فوري تابع تكوينا لرغبته، فالنعم في الجنّة من حيث الكمية والكيفية تابعة لمشيئة الإنسان ومشتهياته، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ )(1).
نَعم، لكلِّ ما يشتهيه في ضمن مرتبته في الجنة، بمعنى أن رغباته وشهواته تكون تابعةً للمرتبة التي هو فيها، فإنّ مَن لم يكن في أعلى درجات الجنّة ليس له أن ينال ما يتنعم به أصحاب الدرجة العالية في الجنّة من الأنبياء والأوصياء علیهم السلام، وإلا لما حصل التمايز بالدرجات.
ص: 151
والنبي آدم علیه السلام كان راغبا في الأكل من الشجرة لا لاشتهاء له في نفس الأكل منها، بل لما يترتب على الأكل من البقاء في جوار الله عزوجل، حسبما له إبليس وحصلت له القناعة بذلك بسبب القسم بالله عزوجل، فأقدم على الأكل رغبةً بنعمةٍ أعظم مما هو فيها، وهي نعمة البقاء الأبدي في جوار الله تعالى، التي عبر عنها بقوله تعالى:( هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكِ لا وسوس يَبْلَى : )(1)
فالنتيجة القهرية المترتبة على الأكل، هي سلب النعم التي كان فيها، ومن جملتها اللباس الذي كان له في الجنّة، فنزع بعد الأكل من الشجرة.
وعليه فمعنى (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)، أنه بسبب حصول مقدمات من وسوسة إبليس وقَسَمِه، واقتناع آدم علیه السلام بسبب القسم بالله عزوجل، وأكله من الشجرة، ظهرت وبرزت نتيجة ذلك، وهي رفع نعم الجنّة التي تمثلت بنزع اللباس والإبعاد عن الجنّة بالهبوط إلى الأرض.
وليس المعنى كما تقدم عن بعض المفسّرين، من أنه ظهرت لكلّ واحدٍ منهما عورةُ الآخر، فإنّ الآية غيرُ ناظرةٍ ولا متوجهة إلى هذا الأمر، بل يبعد أن تكون عورة كلّ من الزوجين من الأمور المخفية بالنسبة إلى الآخر، حتى يُنسب إليها البداء.
ثم إن في الآيات الكريمة دلالةً على براءة حواء من تهمة كونها مشاركة لإبليس في إخراج آدم علیه السلام من الجنّة، كما زعم ذلك بعض من أنها لها المفسّرين، مُعتمدا على روايات هي في الحقيقة ضعيفة سندا، فإن الآيات
------------------------
تبرأة حواء مما نسب إليها في بعض المرويات من أنّها لها مدخلية كإبليس في إخراج آدم علیه السلام من الجنة
ص: 152
صريحةً في أنّ حوّاء كانت منخدعةً من الشيطان، وأن شأنها شأن آدم علیه السلام على حد سواء من جهة أنّ الشّيطان وسوس لها وقاسمها ودلاها بغرور، ولا مدخليّة لها في وقوع آدم الكلام فيما وقع فيه من تغرير الشيطان، قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، وقال تعالى: (وَقَاسَمَهُمَا )(1)، وقال تعالى (فَدَلاً هُمَا بِغُرُورٍ ) (2)، ولما جاءت الآيات بصيغة التثنية، فلا شك في ظهورها كون حواء مشتركة مع آدم الا فيما مر وليست هي السبب مع إبليس في الخروج من الجنة.
المورد السادس مما استدل به على صدور المعصية من آدم عالم : قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (3).
قد وقع الاختلاف في معنى العزم الذي لم يوجد عند آدم علیه السلام، وقد تقدّم تفسيرنا لعدم وجود العزم عند آدم بأنه لم يكن لديه قصد وإرادة للتمرد والعصيان على المولى عزوجل بالأكل من الشجرة، وبه اندفع توهم صدور المعصية، وذلك لأنّ المعصية حتى على فرض كون الأمر مولويًا لا تتحقق إلا مع قصدٍ وإرادة للتمرد على أمر المولى.
ولكن غير واحدٍ من المفسرين قال: إنّ المُراد بالعزم هو الثّبات،
فمعنى (لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (4) ، لم يثبت على العهد والأمر المتوجّه إليه بأن لا يأكل من الشجرة، وبهذا فسّروا معنى أولي العزم من الرّسل في قوله تعالى:
------------------------
تفسير(لَم نَجِدلَه عزْما)،بعدم الثبات
ص: 153
( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل)(1) ، أي أولو الثبات في المواقف الشديدة، وبعضهم فسّر العزم بالصبر.
وفسّر بعض اللغويين العزم بالقطع، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:
(عزم العين والزاء والميم أصل واحد صحيح يدل على الصريمة والقطع)، ثم قال: (ومن الباب قولهم عزمت على الجنّي، وذلك أن تقرأ عليه من عزائم القرآن وهي الآيات التي يُرجى بها قطع الآفة، (وأولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل) (2): الذين قطعوا العلائق بينهم وبين مَن لم يُؤمن من الذين بُعثوا إليهم كنوح إذ قال: ( لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا )(3)...) (4)
ولكنّ الصحيح أن معنى العزم هو القصد وعقد القلب، وما ذكر في معنى العزم هو كلمات المفسرين وبعض اللغويين من معانٍ للعزم، بأنه الثبات أو الصبر أو القطع إنما هي لوازم المعنى الحقيقي، أو من اشتباه المفهوم بالمصداق.
فإن قصد الشّيء وعقد القلب عليه، لازمه قطع العلاقة مع كل ما يعارض لوازم المعنى أو يزاحم هذا الشّيء، وذلك مثل من عزم على زيارة سيّد الشهداء علیه السلام يومَ الأربعين مشيًا على الأقدام، فلازمه أن يقطع العلاقة مع كل ما ينافي هذا كالبقاء في النجف، وكذلك يلازم هذا الأمر الصبر على مشاق الطريق وصعوباتها والآلام الحاصلة من المشي عدة أيام.
------------------------
معنى العزم لغة
الصحيح في معنى العزم هو القصدوبيان أن ما ذكر له من المعاني هي لوازم المعنى الحقيقي
ص: 154
فيكون القطع والصبر لازمين لعقد القلب لا أنّهما المعنى الحقيقي للعزم وكثيرًا ما تزل الأقلام بسبب د دقة المعنى، وعدم التفريق بينه وبين لوازمه من جهة، وبينه وبين مصاديقه من جهة أخرى.
ولإثبات كون المعنى الحقيقي لكلمة العزم هو عقد القلب والقصد، لا بد من التأمل في الآيات القرآنية المختلفة التي وردت فيها هذه الكلمة، حتى يتضح أن ما ذُكر للعزم من معان ما إلا لوازم المعنى الحقيقي أو مصاديقه، فإن عدم صحة انطباق تلك المعاني في كثير من الموارد القرآنية، يكشف عن كونها ليست من المعاني الحقيقية للكلمة بضميمة قرائن الحقيقة من تبادر ،وغيرها، فإنّ المتبادر من (عزم) قصد وعقد قلبه، لا ثبت أو صبر أو قطع، وعلى كل حال فهذا النحو من الاشتباه ليس بعزيز في كلمات العلماء وإن كانوا من المحققين.
ثم إنّه لا شك في أنّ العزم قد استُعمل في تلك المعاني من الثبات والصبر والقطع، ولكن الكلام في كونها من المعاني الحقيقية للعزم أو لا.
وقد رجحنا أن المعنى الحقيقي هو القصد وعقد القلب، وأن تلك المعاني لوازم له، فالمصير إليها يحتاج إلى قرينة، لأنها من المعاني المجازية التي تحتاج إلى قرينة ولو أن ما ذكروه كان من المعاني الحقيقية، لكان العزم مشتركا لفظيًّا بينها، وحينئذ لا بد من نصب قرينة تحدد المعنى المراد منها.
وعلى كلا الأمرين، من ذهب إلى أن معنى العزم هو الثبات أو القطع أو الصبر، لا بد له من قرينةٍ، والحال أنّ غالب الموارد القرآنية التي جاء فيها
ص: 155
لفظ العزم قد استعمل في معنى عقد القلب لقرائن موجودة في الآيات تعين المصير إلى هذا المعنى حتى لو لم نقل بأنه المعنى الحقيقي للكلمة.
من الموارد التي جاء فيها العزم بمعنى عقد القلب:
1- قوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1)، أي فإذا قصدت كلمة العزم وبيان وعقدت قلبك على أمر، فتوكل على الله ، ولا معنى لأن يكون العزم ههنا بمعنى الصبر أو القطع أو الثبات.
2- قوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)(2)، أي إذا قصد الأمر وعقدوا قلوبهم عليه، فإنّه إذا انعقدت القلوب على فعل أمرٍ وقصد، قيل: عزم الأمر، فيكون قد أسند الفعل (عزم) إلى الأمر مجازاً، وهو لأصحاب الأمر، فإنّ هذه الآية مرتبطة بما جاء قبلها من الأمر بالخروج إلى القتال، فيكون المراد بالأمر هو القتال بقرينة الآية السابقة، وجواب (إذا) محذوف تقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما عقدوا قلوبهم عليه، فلو صدقوا الله في ما أمرهم به من الجهاد، وامتثلوا أمره لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم، وقيل: معنى (عَزَمَ الأمْرُ) قصد الأمر، وجرى مجراه، وحان حينه، أي جد الأمر، فلو صدقوا حينئذ وخرجوا إلى القتال لكان فيه صلاح وخير لهم.
------------------------
تتّبع قسم اﻵيات التي ورد فيها كلمة العزم وبيان مدلولها
ص: 156
3- قوله تعالى: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاح حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أجَلَهُ) (1)، فالمراد بالعزم ههنا، إما لا تقصدوا ولا تعقدوا قلوبكم على إيجاد عقد دائم أو منقطع أو مقدماتٍ أخر قبل خروج المرأة من عدتها، وإما لا توجدوا عقد النّكاح، فيكون النّهي إما عن إيجاد عقد النكاح قبل خروج المرأة من عدتها، وإما عن ملزوم إيجاد العقد، وهو قصده وعقد قلبه عليه بنحو يكون من قبيل القصد الجازم القريب من إرادة العمل، وإلا فإن مطلق القصد لا محذور فيه، ولا معنى لأن يكون العزم ههنا بمعنى الصبر أي لا تصبروا عقدة النكاح، أو الثبات: أي لا تثبتوا عقدة النكاح كما هو واضح.
ومن الموارد التي ظُنَّ فيها أنّ العزم بمعنى الصبر قوله تعالى: ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )، بتخيّل أن العزم في الآية بمعنى الصبر لورود لفظة الصبر في الآية الكريمة وعودة اسم الإشارة عليها، ولكن إن بني على هذا فإن كلمة التقوى أقرب ، فلِمَ لمْ يُفسَّر العزم بالتقوى؟
والصحيح أن العزم فيها:
إما أن يكون بمعنى عقد القلب، وتكون الإضافة في عزم الأمور لاميّة أي بحذف اللام ، ومعناه العزم للأمور وعقد القلب لتحصيلها، فمعنى الآية: إن عقد القلب والقصد لنيل الأمور يحتاج إلى الصبر والتقوى للوصول إليه ونيله.
وبتعبير آخر إنّ ما ينزل بالإنسان ويُلم به من مصاعب وابتلاءات في الحياة الدنيا، لا بد له في أن يعقد قلبه ويقصد التخلّص منها لأجل نيل
ص: 157
الثواب وهذا لا يكون إلا مع الصبر والتقوى اللذين يكونان رفيقين لهذا القصد ومُعينَين له حتى يصل إلى مراده.
فيكون الصبر والتقوى من لوازم القصد وعقد القلب ويكونان مما يجب حصوله واقترانه مع هذا العقد والقصد لا أنّ العزم هو الصبر.
واعلم أن الصبر كما يكون على المصائب والمتاعب، كذلك يكون على الطاعة والمعصية.
على البلاء أمّا الصبر على الطاعة فيكون بتحمّل مشقّتها، وأما على المعصية فيكون بمخالفة هوى النّفس الذي يدعو إليها.
وهذا كله من أنواع الصبر الذي بينه علماء الأخلاق، وهو ممّا يجب أن يصاحبه ويلازمه الصبر وقطع العلاقة مع ما ينافيه، لينال المراد ويصل الإنسان إلى مبتغاه، وبذلك يتضح أنّ الثّبات لازم للعزم أيضا وليس معناه الحقيقي.
وإما أن يكون العزم في الآية بمعنى الأمر اللازم الواجب، فإن الصبر والتقوى من الأمور اللازمة الواجبة التي أمرت بها الشريعة الإسلامية، فيكون العزم في الآية وصفًا للصبر والتقوى بما أنهما من الأمور الواجبة اللازمة. معنى أولو العزم ومن الآيات التي وردت فيها كلمة العزم، قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ من الرسل أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل)(1).
فُسّر أولو العزم من الرّسل بأولي الثبات وأولي الصبر.
وفي هذا التفسير نظر، فإن أولي العزم خمسة، ليس منهم أنبياء الله أيوب وزكريا ويحيى ويونس ويوسف على نبينا وآله وعليهم السلام)، مع
------------------------
الصبر على نحوين:صبر على الطاعة وصبر على البﻼء
معنى أولو العزم من الرسل
ص: 158
أيوب علیه السلام قد صبر على بلاءات عظيمة، وكذلك زكريّا ويحيى ويوسف علیه السلام، بل عامة أنبياء الله علیهم السلام ، ولا سيما من تعرّض القرآن الكريم لذكره منهم علیهم السلام.
فلو صح أولي العزم بأولي الصبر أو الثبات للزم أن يكون جميع أنبياء الله علیهم السلام من أولي العزم، وذلك لأنهم كانوا على درجة عالية من الصبر على ما ابتلوا به وثبتوا عند هذه الابتلاءات.
نعم جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي، ما يمكن أن يُستظهر منه أن أولي العزم بمعنى أولي الثَّبات، حيث قال في تفسير قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل )
السلام
على السلام
(وهو نوح علیه السلام وإبراهيم علیه السلام وموسى علیه السلام و عیسی بن مریم علیه السلام و محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، ومعنى أولي العزم أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله، والإقرار بكل نبي كان قبلهم وبعدهم، وعزموا على الصبر مع التكذيب والأذى) (1) ، وذلك بأن يكون ( عزموا) فيها بمعنى ثبتوا.
ولكنّ الرّواية من حيث السند لا يمكن الاعتماد عليها، لأن تفسير على بن إبراهيم القمي رحمة الله علیه هو مؤلف من كتابين، أحدهما لعلي بن إبراهيم رحمة الله علیه ، والآخر لأبي الجارود، ولم يثبت أنّ هذا الوارد في تفسير هذه الآية من سورة الأحقاف جزء من تفسير علي بن إبراهيم رحمة الله علیه المروي عن المعصوم علیه السلام.
ثم إنّه يُحتمل أن يكون المراد بقوله (عزموا على الصبر)، أي عقدوا قلوبهم عليه وعلى تحمّل الأذى والتكذيب، فإن هذا المعنى إن لم يكن أظهر فلا يقل عن المعنى الأول ظهورًا.
ص: 159
فالصحيح أن أولي العزم يُراد بهم أولئك الذين قصدوا وبلغوا المراتب أصحاب الشّرائع، فالمقصود من: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل)هم الذين قصدوا وبلغوا المراتب العالية من القُرب الإلهي، لا أنّ غيرهم لم يصبر أو لم يثبت.
نعم روى شيخنا الصدوق رضی الله عنه في عيون أخبار الرضاء علیه السلام حديثًا يظهر منه أن أولي العزم بمعنى أولي الشرائع والعزائم، وهو:
(حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضی الله عنه، قال: حدثنا أحمد محمد بن سعيد الكوفي الهمداني، قال: حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن الرضاء علیه السلام، قال: إنّما سُمّي أولو العزم أولي العزم، لأنهم كانوا أصحاب الشرائع والعزائم، وذلك أن كل نبي بعد نوح علیه السلام، كان على شريعته ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل علیه السلام ، وكل نبي كان في أيّام إبراهيم وبعده كان على شريعته ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن موسى علیه السلام ، وكل نبي كان في زمن موسى علیه السلام وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعًا لكتابه إلى أيام عيسى علیه السلام، وكل نبي كان في أيّام أيام عيسى علیه السلام وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فهؤلاء الخمسة أولو العزم، فهم أفضل الأنبياء والرسل علي وشريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، فمن ادعى بعده نبوّةً أو أتى بعد القرآن بكتاب، فدمه مباح لكل مَن سمع ذلك منه)(1).
ص: 160
والرّواية من حيث السّند معتبرةً، فإنّ محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رجلٌ حسن على الظاهر، وأمّا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني فهو ثقةً، وعلي بن الحسن بن فضال ثقة أيضًا، وكذلك أبوه الحسن بن عليّ بن فضال ثقة.
فبمقتضى هذه الرواية يكون معنى (أولو العزم) أولي الشّرائع والعزائم.
والعزائم: أمرٌ وراء الشريعة والمراد منها أنهم أصحاب الغايات والمقاصد العالية.
وتفسير العزم بالثبات والصبر في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما غير صحيح، وقرينة ذلك كلمة (فنسي)، فإنّ النّاسي لا يُقال له: لم نجد له صبرًا على ما كلفناه به، ولم نجد له ثباتًا عليه، فإنّ ذلك فرع الالتفات واستحضار المطلوب منه، حيث إن المصيبة إذا نزلت بالإنسان ولم يصبر عليها، يُقال له غير صابر، والتكليف إذا توجه للإنسان، وكان ملتفتا إليه ولم يثبت يُقال له غير ثابت على ما كُلّف به، أما لو كان ناسيًا سواء أكان النسيان منه أم أن الله تعالى دفَعه للنسيان لمصلحة ما، فلا يصح سلب الثبات والصبر عنه وذلك لأن التكليف الذي توجه إليه يرتفع بالنسيان، ومعه لا يصح سلب الثّبات والصبر عنه، لأن هذين الوصفين فرعا عدم النسيان.
فالصحيح أن العزم ههنا بمعنى عقد القلب، أي أنه لم يكن آدم علیه السلام قاصدًا وعاقدًا قلبه على التمرد والعصيان حين أكله من الشجرة، وذلك لنسيانه ما عُهد إليه، فإنّ عدم القصد وعدم عقد القلب هو المناسب للنسيان،
ص: 161
وذلك لأن القصد والإرادة يكونان بعد التصوّر والتصديق بالفائدة، فإذا فقدت هذه المقدمات ارتفع القصد والإرادة، فمعنى (فلم نجد له عزمًا) أي لم نجد له قصدًا للتمرّد ،والعصيان، وبهذا التفسير يتم تنزيه آدم علیه السلام .
وبيان ذلك بشكل أوضح يقتضي توضيح معنى النسيان في الآية الشريفة، فنقول:
إن النسيان على أنحاء:
النحو الأوّل: وجود ضعف في قوة الذاكرة لدى الإنسان يؤدي إلى ذهاب الصورة عن الحافظة، وإلى نسيان ما كلّف به.
النحو الثاني: عدم اهتمام الإنسان بأمر بحيث لا يراه ذا قيمة، ولا يكون له وقع في قلبه، ممّا يؤدّي إلى نسيانه لا لأنّ قوّة الذاكرة ضعيفة، بل لعدم أهميّة التكليف في نفس المكلف.
النحو الثالث: أن يكون قد عرض للإنسان أمر أهم جعله يذهل عن الأمر المهم، فإنّ طبيعة كلّ ممكن هكذا، بحيث إذا واجه أمرًا على درجةٍ عالية من الأهمية لديه يجعله يذهل عن الأمر المهم.
قال الشاعر:
هَوَّنْتَ يَابْنَ أَبِي مَصَارِعَ فِتْيَتِي *** وَالجُرْحُ يُسْكِنُهُ الَّذِي هو أألم
إذا عرفت ما تقدم، فالنحوان الأول والثاني لا يُنسبان إلى أنبياء الله عز وجل، والنحو الثالث هو ما وقع فيه آدم علیه السلام، فإنه لما كان عنده البقاء في جوار الله تعالى في الجنّة ،أهم ، وكان له وقع عظيم في نفسه، وجاءه إبليس وغرّر به، وأقسم بالله أنّه لمن الناصحين، أوجب كلُّ ذلك ذهول آدم علیه السلام
------------------------
توضيح المراد بالنسيان الوارد في اﻵيات
ص: 162
عن التكليف الإرشادي الذي توجّه إليه، وهذا هو معنى النسيان في الآية، ولازمه الترك.
المورد السابع مما قد يُتوهّم منه صدور المعصية من آدم علیه السلام: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُم رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (1).
هذه الآية من الآيات التي قد يُتوهّم منها صدور معصية الشرك من آدم علیه السلام وحواء، باعتبار أن المقصود من نَفْسٍ وَاحِدَةٍ في ظاهر آدم ، والمقصود من الضمير في آية (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) حواء، وفي علي، قوله تعالى( لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا )، فإنّ (تغشاها) كناية عن الوطء، وفي قوله تعالى (حَمَلَتْ حَمْلًا حَفِيْفًا فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) يعني: فلما أحست بثقل الحمل، وفي قوله تعالى (دَعَوَاْ الله) يعني: آدم علیه السلام وحواء، وفي قوله تعالى( لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا )أي ولدًا كاملاً غير ناقص، وفي قوله تعالى (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ)أي: وقعا بالشرك.
قال بعض علمائنا الأبرار رحمة الله علیه في مقام تفسير الآية ما حاصله:
------------------------
تقريب كيفية توهم صدور الشّرك من آدم علیه السلام
ص: 163
إمّا أن يكون المقصود بالواحد في قوله تعالى:( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )، الواحد الطباطبائي رحمدلله الشخصي، أو الواحد النوعي، وعلى كلا الاحتمالين لا ترد شُبهة صدور الشرك من آدم علیه السلام.
توضيح ذلك: أن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )(1).
إما أن يكون المراد به من نفس شخصيّةٍ جزئية، وهي آدم علیه السلام، ويكون المراد من قوله تعالى (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا )(2) أي جعل حواء من آدم علیه السلام ، لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا (3)، وقوله عزوجل (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ )(4)، يكون المراد بالشرك هو النزول من المرتبة العليا من الإخلاص والتوجّه إلى الله عزوجل، وذلك لأن تربية الولد والاهتمام بأمره من تدبير الأسباب والعوامل المُبقية له، يقتضي الانصراف عن المرتبة العليا من التوجه إليه عزوجل.
وهذا النّحو من الشرك ليس شركًا في العبادة الذي هو كفر، بل هو عدم الاستمرار في التوجّه التام إلى الله ، ونزول من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا، وهذا يرجع إلى فعل غير الأولى.
وإما أن يكون المراد من قوله تعالى: (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، أي من طبيعة نوعيّةٍ واحدةٍ، وهي الإنسانيّة، وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي خلق الأنثى من نفس) هذه الطّبيعة الإنسانية، وقوله تعالى لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) أي ليسكن إليها الذكر،
------------------------
ما ذكره السيد الطباطبائي رحمة الله علیه في تفسير اﻵية
ص: 164
وذلك لأنها لو كانت من نوع آخر لما حصل السكون والأنس حينئذ، فيكون قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ )، المراد به بعض أفراد هذه الطَّبيعة النوعية من نسل آدم الله ، وحواء ، ولا يُراد بهما آدم علم وحواء، نظير قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(1)، فتكون الآية ناظرةً إلى كثير من أفراد هذه الطبيعة النوعية من بني البشر الذين يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالی في حال العُسر، ويطلبون منه تعالى الخلاص، فإذا انجلت عنهم حالة العُسر عادوا إلى التمسك بغير الله من الأسباب الظاهرية التي لا ينبغي للمؤمن أن يعلق بها قلبه، بل يلتجئ إليها المؤمن لأن الله تعالى أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها، ولكن لا ينبغي له تعليق قلبه بالأسباب، بل بمسبب الأسباب كلها وهو الله . فالآية ناظرةً إلى كثير من أفراد البشر الذين يلجؤون إلى الله ل في حال الاضطرار كالحالة التي كانت بها حواء وهي حامل ويدعون الله ، فإذا الضرّ والعُسر عادوا وجعلوا له شركاء، سواء أكان الشرك بمعنى الاعتماد على الأسباب دون الله الله أم كان عبادة لغير الله (2).
هذا ولكنّ الاحتمال الأوّل وهو أنّ المراد بالنفس الواحدة آدم علیه السلام،وحمل الشّرك على النزول من المرتبة العُليا من التوجه إلى الله يتنافى ما جاء في الآيات التي تلت هذه الآية، والتي يظهر منها أن المراد بالشرك هو الشرك بمعنى عبادة غير الله قال تعالى:( أيُشْرِكُون مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ
ص: 165
يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)(1)، وهذا المعنى من الشرك يتنزه عنه نبي الله آدم علیه السلام.
فهذا المعنى في نفسه تام لولا الآيات التي تلت هذه الآية، والتي يظهر منها أن الشرك بمعنى عبادة غير الله، فتكون هذه القرينةُ صارفةً عن الوجه الأوّل، ومعيّنة للوجه الثاني، وهو أن يكون الشّرك قد صدر من نسل آدم الان ولم يصدر منه الله، وأن المراد بالوحدة هنا الوحدة النوعية، فيكون من ذهب من علمائنا إلى هذا الوجه قد اعتمد على هذه القرينة لتعيين الوجه الثاني وجعل الوحدة المرادة في الآية وحدةً نوعيّةً، وأن الشرك الذي صدر كان من بعض أفراد هذه الطبيعة من نسل آدم علیه السلام.
ويمكن تأييد هذا التفسير بما رواه الشيخ الصدوق رضی الله عنه في عيون أخبار الرضا علیه السلام ... (فقال له المأمون فما معنى قول الله عزوجل: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا)، فقال له الرّضا علیه السلام: إن حوّاء ولدت لآدم علیه السلام خمس مئة بطنِ ذكرًا وأنثى، وإن آدم وحواء عاهدا الله كل ودعواه وقالا: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا)، من النِّسل خلْقًا سويا بريئًا من الزمانة ،والعاهة وكان ما آتاهما صنفين، صنفًا ذكرانا وصنفًا إناثًا، فجعل الصنفان الله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له ، قال الله :( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )، فقال المأمون: أشهد أنك ابن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حقا...)، انتهى موضع الحاجة من الرواية.
ص: 166
وحاصل ما في الرّواية من جواب هو أنّ الإمام علیه السلام لما بين المراد من قوله تعالى: (صَالِحًا)، وأنه هناك صنفان من النّسل ذكرانا وإناثًا، أمكن إرجاع ضمير التثنية إليه في قوله تعالى: جَعَلا لله شُرَكَاءَ باعتبار المعنى، ثم استشهد الإمام علیه السلام بقوله تعالى:( فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ )، ليبيّن أن الذين جعلوا الله تعالى شركاء جمع، وهم أولاد آدم علیه السلام.
وفي المقام جواب آخر عن الآية: وهو أن جملة (جَعَلاَ الله شُرَكَاءَ )أي جعل أولادهما له شركاء، من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فحذف لفظ الأولاد في المقام، وأقيم مقامه ضمير التثنية وحينئذ يعرب بإعرابه، وهذا جواب حسن ولكنه يفتقر إلى قرينة، بخلاف ما في الرواية فإنّ صَالِحًا) لمّا كان صنفين أمكن إرجاع ضمير التثنية في (جَعَلا) إليه، من دون حاجة إلى ادعاء الحذف الذي يحتاج إلى شاهد.
هذا حاصل الأقوال في الآية وتقريبها وما يمكن تأييدها به.
وأبرز الأقوال هو تفسير النفس الواحدة بالواحد بالنوع، ولكن بالتأمل فی كلمات الآية الكريمة يُستبعد هذا القول وبيان ذلك من جهتين:
الجهة الأولى: أنّ الواحد بالنوع يُراد به العنوان المنتزع من القدر الجامع المشترك بين أمور متعدّدة، وهذا العنوان المنتزع له وصف الوحدة، وهو ما يعبّر عنه بالواحد بالنّوع أو الواحد بالجنس، وغير ذلك من أقسام الوحدة غير الوحدة الشَّخصيّة، فزيد وبكر وعمرو أفراد متعدّدة تجمعها الطبيعة الإنسانية الواحد النوعي، فلا بد من وجود جامع وقدرِ مشترك بين الأفراد التي هي المتعدّدة المختلفة بالتشخّصات حتى يُنتزع من المتعدّد عنوان واحدٌ.
------------------------
التعليق على تفسير النفس الواحدة بالواحد بالنوع
ص: 167
فلو فرضنا أن المقصود بالنفس الواحدة في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ الواحدة) بالنوع، ليكون المعنى خلقكم من طبيعة إنسانيّةٍ واحدةٍ، للزم من ذلك مغايرةُ الزوج المجعول من هذه النفس للطبيعة الإنسانيّة، لقوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، فإن الزوج يُراد به الأنثى، وقد كان منشأ خلقها النفس الواحدة التي هي الطبيعة الإنسانية، فيقتضي ذلك أن تكون الأنثى غيرَ الطّبيعة الإنسانية وخارجةً عنها.
وبتعبير آخر:يكون معنى الآية هو الذي خلقكم من طبيعة إنسانية واحدة، وجعل من هذه الطبيعة الإنسانية زوجها، ومقتضى إضافة الزوج إلى الضمير المتصل (الهاء) الذي يعود على الطّبيعة الإنسانية أن يكون هناك مغايرةً بين الطبيعة الإنسانية والزوج المجعول منها، وإلا لكان من إضافة الشيء إلى نفسه، وعليه فلا معنى محصل لهذا التفسير.
إن قيل : إن قيد الوحدة هو للنفس التي هي منشأ جعل الزوج، ولكن في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) لم يُصَف الزوج إلى النفس بقيد الوحدة، بل أضيف إلى النّفس المجرّدة عن هذا القيد، فلا يكون الزوج خارجًا عن الطبيعة الإنسانية، والمعنى هو الذي خلقكم من طبيعة إنسانية واحدة، وجعل منها زوجها، أي جعلها من نفس هذه الطبيعة الإنسانية.
فإنّه يُقال: أنّ الآية مسوقة لبيان عظمة قدرته تعالى بأن خلق المخلوقات التي ملأت الخافقين من نفس واحدةٍ، وهو آدم علیه السلام، وجعل من السلام، هذه النفس الواحدة زوجها، والاحتمال المتقدّم يقتضي أن لا يرجع جميع البشر إلى نفس واحدة، لأنه جرد قيد الوحدة عن النفس التي جعل منها
ص: 168
الزوج، فتكون حواء قد خُلقت على النحو الذي خلق عليه آدم عال من الطبيعة، لا أنّها خُلقت من آدم الن، وعليه فلا يرجع جميع المخلوقات إلى نفس واحدة.
وبتعبير آخر: إن هذه الوحدة النوعية لا تؤدّي الغاية التي سيقت لأجلها أنّ البشر على كثرتهم الهائلة قد خُلقوا من نفس شخصيّةٍ واحدة.
الجهة الثانية: أن الأحكام التي جاءت في الآيات لا يمكن أن تُحمل على نفس واحدة بالنوع، وذلك لأن الأحكام تترتب على ما يناسبها من الموضوعات، والأحكام التي ذكرت مناسبة للفرد لا للنوع، ففي قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا)، ليس السكن حُكمًا على الطبيعة النوعية، حيث إنّه لا سَكن ولا أنس للطبيعة النوعيّة، وكذلك الحَمل والخِفّة والثّقل والدعاء، وغيرها من الأوصاف التي جاءت في الآيات إنّما هي أوصاف تناسب الفرد لا الطبيعة النوعية.
وهذا نظير الاستدلال بالخُسران على كون الحكم على الأفراد في قوله تعالى: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرِ (1) ، فإن الخُسران في الآية قرينة على أنّ الحكم ثابت للأفراد لا للطبيعة النوعية، وذلك لأن الخُسران ليس من أوصاف الطّبيعة النّوعيّة، ولذلك يُحكم بعدم إمكان أن تكون اللام جنسيّةً في الآية.
ص: 169
وههنا أمرٌ يحسُنُ التنبه إليه، وهو أنّ من النّحاة من جعل الاستثناء قرينةً على كون اللام لاستغراق الأفراد.
ولكنّ هذا وهم، فإن صحة الاستثناء متوقفةً على كون اللام للاستغراق، لا أنه يثبتُ بواسطة الاستثناء أنّ اللام للاستغراق، فإن الاستثناء دليل على عدم الاستغراق كما بيّن في محلّه من علم الأصول، فلا يكون هو المثبت لكون اللام استغراقيّةً.
فالصحيح أن كون كلمة (الإنسان) ناظرةً إلى الأفراد لا إلى الطبيعة الإنسانية إنّما هو بواسطة كلمة (خُسْر) في الآية.
واستدل على أن النفس الواحدة في الآية، يُراد بها الواحد بالنوع والطبيعة الإنسانية بأمرين:
الأمر الأوّل: هو أن الآية قد وردت في سياق الآيات التي تتحدث عن الميثاق الذي أخذه الله عزوجل من بني البشر ، ولما كانت هذه الآية معطوفةً على تلك الآيات وواقعةً فى سياقها، فلا بد أن تكون ناظرةً إلى نوع البشر، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (1) ، ثم جاء بعدها: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ، وَاحِدَةٍ )إلى آخر الآية، فمقتضى السّياق أن تكون هذه الآية ناظرةً إلى الواحد النوعي.
------------------------
ما استُدل ّ به على أن ّ المراد بالنفس الواحدة الواحدة بالنوع والجواب عنه
ص: 170
وفيه أن هذه الآية وإن وردت في سياق الآيات التي تحدثت عن الميثاق، إلاّ أنّها فُصلت عنها بآيات متعددة تتحدث عن قدرة الله عزوجل وهدايته للعباد وإضلاله كثيرًا من الناس وغير ذلك من الأحكام الناظرة إلى الأفراد، منها قوله تعالى:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) (1)، وهو بلعم بن باعوراء، وغيرها من الآيات التي لم تكن ناظرةً إلى نوع الإنسان.
وعليه، فآية: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ليست مرتبطةً بآية الميثاق.
نعم، لو وردت هذه الآية بعد آية الميثاق مباشرةً لأمكن تصحيح القرينة، ولكنّها فصلت عنها بآياتٍ عديدةٍ، فضلاً عن أن السياق في القرآن لا يصح التمسك به كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
الأمر الثاني: هو أنّه قد جاء في الآية دعاء، وهو أن يكون الولد صالحًا، قال تعالى: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، ومن اللازم أن يكون الأب والأم يعيشان في بيئة يوجد فيها الولد المؤمن أو التام الخلقة، والكافر أو الناقص الخلقة، حتى يوجد في نفس الأبوين خوف من أن يكون ولدهما كافرًا أو غير تام الخلقة، فيتوجهان إلى الله سبحانه و تعالی بالدعاء لأجل أن يرزقهما ولدا صالحًا وآدم علیه السلام وحواء لم يسبقا ببشرِ اتّصف بهذه الصفات، وذلك لأنهما أبوا البشر.
ص: 171
وعليه، فليس المقصود بالآية آدم علیه السلام وحواء، بل المقصود نوع البشر من الآباء والأمهات الذين يعرضهم الخوف فيدعُون الله عزوجل أن يرزقهما الولد الصالح.
وفيه: أنه لا يتوقف تولد الخوف في نفس الأبوين ليتوجها بالدعاء إلى الله سبحانه و تعالی على أن يعيشا في بيئة قد شاهدا فيها ولدًا كافرًا، وآخر مؤمنًا، وولدًا ناقص الخلقة وآخر تامّ الخلقة، بل يكفي علمهما بأن الولد يمكن أن يكون كذلك حتى يوجد الخوف في أنفسهما، أو يكفي أن يكونا قد سبقا بولدٍ كافر حتى يوجد الخوف في أنفسهما، ولو لم يعيشا في بيئة قد شاهدا فيها أولادًا بهذه الصفات.
وعلى كل حال، فإن ما ذكر في الأمر الثاني لا يعدو كونه احتمالاً، والاحتمال لا يعتمد عليه ما لم يصل إلى مرتبةٍ يطمأن به، فيكون قرينةً عقلائية على المدعى.
والمتحصل ممّا تقدّم أمور:
الأول: أنه من المقطوع به أن المراد بالنفس الواحدة آدم علیه السلام.
الثاني: أن الواحد في الآية ليس واحدا نوعيا لما تقدم.
الثالث: أنّ الآية واردة في مقام بيان عظمة الله عزوجل، وقدرته على خلق جميع البشر من نفس واحدة.
الرابع: أن المراد بالشرك في قوله تعالى: (جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ)هو عبادة غير الله من الأصنام، وذلك بقرينة الآيات اللاحقة، حيث قال تعالى: (فَلَمَّا أَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون
ص: 172
أيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)، فإن قوله تعالى:( أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)، أوصاف مناسبة للأصنام، ومن المعلوم أن عبادة الأصنام لم تكن في زمان آدم علیه السلام، فيكون المراد من ضمير التثنية في قوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ بعضا من نسل آدم علیه السلام في زمانٍ متأخرٍ ممن كانوا يعبدون الأصنام من دون الله، ويوجد في القرآن آيات كثيرة يكون صدرها ناظرًا إلى أمر وذيلها ناظرا الى أمر آخر، ولأجل ذلك منع الأعلام التمسك بالسياق لتحديد المعنى في القرآن.
بقي أمران يحسن التنبه إليهما:
الأمر الأوّل: أنّه فى الآيات الكريمة قد فسرنا النفس الواحدة بآدم علیه السلام ،
وزوجها بحواء، والضمير في(دَعوا الله) و (آتَاهُمَا) يعود إليهما، أما الضمير جهة وذيلها في في (جَعَلا) فيعود إلى بعض من ذريتهما ، مع أن الكلام واحدٌ متصل، فكيف جهة أخرى يكون صدر الآية في جهة، وذيلها في جهة أخرى، وهل يصح ذلك؟ فنقول: إن هذا الأسلوب البلاغي موجود في كثير من آيات القرآن الكريم، نذكر منها شاهدًا، وهو قوله تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا ونَذِيرًا)، وقوله عزوجل: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَة وَأَصِيلا) (1)، فإنّ الخطاب في الآية الأولى مع النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ خاصة، وفي الآية التالية تحوّل الخطاب إلى عامة الناس، فانصرف المولى عزوجل من مخاطبة الرسول له بقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، إلى مخاطبة
------------------------
بيان أنّ كون صدر اﻵية في جهة وذيلها في جهة أخرى أسلوب بﻼغي قرآني
ص: 173
المرسل إليهم:(لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، ثم قال: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) يعني الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، ثم قال: (وَتُسَبِّحُوهُ)يعني مرسل الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهو الله سبحانه و تعالی، ففي هاتين الآيتين الشّريفتين، لَمّا كان الخطاب الإلهي مسوقًا لبيان الحكمة من إرسال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وهي الإيمان بالله ورسوله وغير ذلك، فلا خلاف في الكلام متصل ووارد في سياقٍ ،واحدٍ فلا يمكن حينئذ أن تكون الآية: (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) كلامًا مستقلاً لا ارتباط له بالآيات السابقة، وذلك لأن الآيات السابقة قد أتي بها للحكمة المتقدمة، وكانت بمثابة علة لأن يؤمنوا، فتعين أن يكون الله سبحانه و تعالی انتقل من مخاطبة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلى مخاطبة المكلّفين.
وهذا أمرٌ غير عزيز في استعمالات البلغاء، فإن الفصيح قد ينتقل من خطاب شخص إلى خطاب غيره مع كون الكلام في سياق واحد، وقد اتصل بعضه ببعض.
الأمر الثاني: ممّا يحسن التنبه إليه: هو انه ما الحكمة في أن يعبّر القرآن بكلمات قد يُتوهّم منها صدور المعصية من الأنبياء علیهم السلام، مع قدرة من الأنبياء في القرآن الكريم البليغ على استعمال ألفاظ غير موهمة؟
أجاب البعض عن ذلك بأن الله سبحانه و تعالی استخدم هذه التعبيرات في القرآن لكي لا يقع الناس بالغلو في الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، فيكون استخدام مثل هذه التعبيرات لإلفاتهم إلى أنهم بشر عباد الله.
وفي هذا الجواب نظر لأنه إذا صدر الشرك من بعض الناس، ووقع منهم الغلو في بعض الأنبياء علیهم السلام، فكيف يصح أن يستخدم الله تعبيرا موهِما
------------------------
ما الحكمة في ورود ما يوهم صدور المعصية من اﻷنبياء علیهم السلام في القرآن الكريم
ص: 174
للمعصية في حق نبي من أنبيائه علیهم السلام، ويجعله في مقام التعريض لئلا يقع البعض في الغلو، وهل يصدر هذا من العادل الحكيم؟!
ثم إنّه لو كان الغرض من استخدام هذه التعبيرات الموهمة في حق الأنبياء علیهم السلام الإعدام مادتي الشّرك والغلو، فمن الواضح أنّ هذا الأمر لم يتحقق، وبقي الشّرك والغلو، ولم تُعدَم مادتاهما.
أضف إلى ذلك، أنه قد عَبَد بعض الناس الملائكة، ولم يستخدم الله عزوجل و تلك الألفاظ التي استخدمها مع آدم علیه السلام ، بل كذلك نبي الله عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) لم يستخدم المولى عزوجل تلك التعبيرات التي استخدمها مع آدم علیه السلام والحال أن مَن وقع الغلوّ به، واتَّخِذ ربًّا عيسى علیه السلام وليس آدم علیه السلام .
فالصحيح في الجواب عن ذلك:
أن القرآن الكريم قد نزل بأبلغ وأفصح ما يمكن أن يكون من ألفاظ و تعبيرات مؤدّيةٍ لغرض المولى سبحانه و تعالی و مراده، فالله عزوجل يختار من الألفاظ ما يعبر عن الشيء بما يليق به ويكشف عن واقع الحال على ما هو عليه بمنتهى الدقة.
فإن لم يفهم البعض ما هو المراد لأجل قصور فيه، أو لسوء تدبر في الآيات، أو لبعده عن اللغة وأساليبها وقواعدها وأساليب البلاغة التي فيها، فإنّ هذا كله بسبب قصور القابل أو تقصيره، مع أن الله عزوجل قد أمر في أكثر من مورد بالتدبّر في كتابه، وما ذلك إلا لأنه كتاب قد عبّر عن المعاني المرادة بمنتهى الدقة التي تحتاج إلى التدبُّر، وإلى تكرار النظر فيه مع
ص: 175
واجديّة المتدبّر في الآيات لمقدمات فهم الكلام العربي الفصيح، بالإضافة إلى عدم وجود الموانع من سوء السليقة أو التعصب أو الأنس بالمرتكزات الذهنيّة من مشهورات عامة أو خاصة، وغير ذلك مما يؤدي لحمل الآيات على غير معانيها التي أرادها المولى سبحانه و تعالی، بحيث يكون الناظر في القرآن يعطف القرآن على ما يراه لا أنه يجرد نفسه تجريدا تاما ليرى إلى أين توصله الآيات الكريمة.
فمنشأ الأوهام كلّها إنّما هو من القابل المتلقي للقرآن، وليس منشؤها الألفاظ القرآنية ولا تعبيراته وطرقه وأساليبه في تأدية المراد.
لا يقال: أن حاصل هذا الجواب أن سوء الفهم والتوهم إنما نشأ من المتلقي غير العارف بأساليب العربية، وليس التوهم منشأه نفس الآيات القرآنية، ولكن في القرآن يوجد المتشابه والحروف المقطعة والمجملات والعمومات والمطلقات وهذا يكشف عن أن توهّم خلاف المراد قد يكون أنَّ الآية متشابهة أو أنّها مجملة أو أنها عامة أريد منها خاص، أو مطلقة أريد منها مقيّد، فلا يصح حصر التوهّم في المتلقي دون أن يكون في القرآن ما يوجب التوهم.
لانا نقول: بأنَّ الجواب ناظر إلى غير هذا القسم من الآيات، وأما الآيات المتشابهة فحكمة وجودها في القرآن الرجوع إلى أهل الذكر، فقد روى البرقي في المحاسن بإسناده عن المعلى بن خنيس، قال:( قال أبو عبد الله عليه السلام في رسالة: فأما ما سألت عن القرآن، فذلك أيضاً من خطراتك المتفاوتة المختلفة، لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت، وكل ما سمعت فمعناه
ص: 176
على غير ما ذهبت إليه، وإنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم، ولقوم يتلونه حق تلاوته وهم الذين يؤمنون به ،ويعرفونه، وأما غيرهم فما أشدّ إشكاله عليهم، وأبعده من مذاهب قلوبهم، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: إنه ليس شيء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن، وفي ذلك تحير الخلائق أجمعون إلا من شاء الله ، وإنّما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه، وأن يعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه والناطقين عن أمره، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم...) (1).
وروى الطبرسي رحمة الله علیه في الاحتجاج عن أمير المؤمنين علیه السلام لكم في حديث الزنديق الذي جاء إليه بآي من القرآن زاعماً تناقضها، حيث قال عليه السلام في أثناء الحديث:
(إنّ الله قسم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلا من صفا ذهنه، ولطف حسه وصح تمييزه، ممّن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم، وإنَّما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمام بمن ولي أمرهم فاستكبروا عن طاعته...)(2).
بقي شيء، وهو ما معنى قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (3)؟
------------------------
كيفية خلقة حواء من آدم علیه السلام
ص: 177
وفي المقام ،روایتان بل قولان:
الأول: أن الله عزوجل خلق حواء من نفس جسد آدم علیه السلام من ضلعه الأيسر، فقد روى الشيخ الصدوق رضی الله عنه في كتابه من لا يحضره الفقيه روايةً، قال:
(وروى السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام: أن علي بن أبي طالب علیه السلام كان يورّث الخنثى فيعد أضلاعه، فإن كانت أضلاعه من أضلاع النساء بضلع ورث ميراث الرجل، لأن الرجل تنقص أضلاعه عن ضلع النساء بضلع، لأن حوّاء من ضلع آدم علیه السلام القصوى اليسرى، فنقص من أضلاعه ضلع واحد)(1).
الثاني: أن الله سبحانه و تعالی خلق حواء من فاضل الطينة التي خلق منها آدم علیه السلام .
روى العياشي في تفسيره:
(عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر علیه السلام: من أيّ شيءٍ خلق الله تعالى حواء ؟ فقال علیه السلام: أيّ شيءٍ يقول هذا الخلق؟ قلت: يقولون: إن الله خلقها من ضلع من أضلاع ،آدم علیه السلام، فقال: كذبوا، أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟
فقلت: جعلت فداك يا بن رسول الله، من أي شيءٍ خلقها؟ فقال: أخبرني أبي، عن آبائه، قال: قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : إن الله تبارك وتعالى قبض قبضةً من طين فخلطها بيمينه _وكلتا يديه يمين _فخلق منها ،آدم علیه السلام، وفضلت فضلة من الطّين فخلق منها حواء)(2).
ص: 178
وروى الصدوق رضی الله عنه في عِلل الشرائع عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الشرائع عن النبي صلى العطية الشامخبراً طويلاً في السؤال عن خلقة حوّاء، ومما جاء فيه:
(قال: فمن أين خُلِقت؟ قال: من الطينة التي فَضُلت من ضلعه الأي- الأيسر) (1).
وبناءً على الحديث الأول، تكون حواء قد خلقت من آدم علیه السلام ، فيكون معنى قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، وجعل حواء من آدم علیه السلام نفسه. وبناءً على الحديث الثاني، يكون آدم علیه السلام الثانية وحواء قد خلقا من طين واحدٍ، ولكن خُلقت حواء من فاضل طينة آدم علیه السلام بعد خلقه، فيكون معنى قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا )، بتقدير مضاف محذوف، أي وجعَل حوّاء من جنس آدم علیه السلام نفسه، وهو الطينة، فتكون (من) داخلةً على محذوف مضاف إلى ضمير الهاء، والهاء عائدة على( نفس واحدة).
ولا إشكال ثبوتًا في أن يخلق الله حواء من ضلع آدم علیه السلام ، وهو القادر على كل شيء، وهو الذي خلق عيسى علیه السلام من دون أب، بل هو الذي أخرج المخلوقات جميعًا من كتم العدم بعد أن لم تكن شيئًا، ففي مقام الثبوت لا إشكال في ذلك، ولكنّ الكلام في ما قام عليه الدليل إثباتًا من القولين، فنقول:
إنه لم يقم عندنا دليل مفيد للقطع واليقين على أحد القولين، ولكن مع ذلك فإنّه بمقتضى الصناعة لا يمكن المصير إلى القول الأول، وذلك أن ما رُوِي في خلق حوّاء من ضلع آدم علیه السلام فيه خلل من جهة السند والمضمون ذكرناه في البحث الفقهي، فيكون المتعيّن هو القول الثاني.
ص: 179
ص: 180
عصمة نبي الله نوح علیه السلام
ص: 181
ص: 182
ورد في قصة نوح علیه السلام في القرآن الكريم مورد قد توهم منه مَن ذهب إلى عدم عصمة الأنبياء علیهم السلام صدور ذنب ومعصية من نوح علیه السلام، وهو:
قوله تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ال حَقٌّ وَأَنْتَ أحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلُن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(1).
إن في قوله تعالى:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)، دلالة على أنه لم يكن ابنا له، وإذا كان كذلك، كان قول نوح علیه السلام : إنَّ ابْنِي مِنْ أهْلِي، كذبًا وهو معصية، فظاهر قوله تعالى فيه تكذيب لنوح علیه السلام ، وإذا جاز الكذب _وهو معصية_ وجه لمنع صدور المعاصي من الأنبياء علیهم السلام.
وبتعبير آخر: إن قول نوح علیه السلام في الآية الأولى: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أهْلِي)، يُعد كذبًا ويعد معصيةً، لدلالة الآية في قوله تعالى: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك على أنّه لم يكن ابنا له فظاهر الآية فيه تكذيب لنوح علیه السلام ، وإذا
------------------------
تقرير الشبهة
ص: 183
جاز عليه الكذب، فلا وجه للقول بامتناع صدور المعصية من الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وذلك لأن الكذب معصية.
ثم إن سؤال نوح علیه السلام كان معصيةً لقوله تعالى: (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(1)، وإلا لو لم يكن معصية لما وجه الله تعالى إليه هذا النّحو من الخطاب.
هذا تقرير الشّبهة، وقد أجيب عنها بما حاصله:
أن قول الله عزوجل: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)ليس نفيًا لكونه من نَسبه، وأنه ليس ابنَه حقيقةً، بمعنى أن يكون ولدًا لغيره بسبب صدور خيانة من زوجته وهي الزنا، فإنّه قد قام الدليل على تنزيه الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن نسبة الزنا لأزواجهم كرامةً لهم، فإنه وإن كانت امرأة نوح علیه السلام الله كافرةً بنص القرآن، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (2)، إلا أن الزنا لا يجوز عليها كرامةً وتنزيها لنبي الله نوح علیه السلام وليس لها.
وأيضًا لا الآيتين، بين مضمون قول الله عزوجل وقول نوح علیه السلام ، حيث إن قول الله عزوجل:(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك)، ليس معناه أنه ليس ابنا حقيقيًّا لك، بل المراد به أنه ليس من أهلك الموعودين بالنجاة، وأما قول نوح علیه السلام :( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، فإنه يعني به: من أهلي الذين قد وعدت
------------------------
ما أجيب به عن الشبهة
ص: 184
بنجاتهم، ووعدك حق لا تخلفه، وعليه فلا منافاة بين قول الله عزوجل وقول نوح علیه السلام حتى يلزم الكذب.
إن هذا الجواب صحيح من جهة، ويصلح لأن يُدفعَ به توهم صدور الكذب من نوح علیه السلام ، حيث إن ما نفاه الله عزوجل من غير ما أثبته نوح علیه السلام ، إلا أن الجواب غير تام، فإنّه يلزم منه أنّه عندما وجه الله عزوجل الخطاب إلى نوح علیه السلام بإغراق أهل الأرض، واستثنى منهم البعض حيث قال تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعَ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) (1)، لم يفهم نوح علیه السلام الله مَن المراد بالمستثنى في قوله تعالى: مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، ومَن المراد بالمستثنى منه في قوله تعالى: (وَأَهْلَكَ، فظنّ دخول ابنه في جملة الناجين، والحال أنّه كان من جملة من سبق عليه القول وكان من المغرقين.
وقد وقع بحث في علم الأصول، وهو أن الخطابات الشفهية هل هي مختصة بالحاضرين، أم أنها تشمل الغائبين والمعدومين، فذهب البعض إلى الأول والأكثر إلى الثاني، ولكن الجميع متفقون على أن المولى عندما يخاطب عبده بخطاب، فإنّه يُلقيه إليه بنحو يكون مفهومًا لديه، إلا أن لازم الجواب المتقدّم أن نوح علیه السلاما لم يفهم من أريد بالمستثنى، ولا من قصد بالمستثنى منه فى خطاب الله عزوجل له فظنّ أنّ مَن سبق عليه القول وقضى الله هي زوجته خاصةً دون ابنه والحال أنّ ابنه من جملة من استثني، فالجواب المتقدّم لم يُبَيَّن فيه ما هو منشأ ظن نوح علیه السلام كون ابنه من
------------------------
التعليق على هذا الجواب
ص: 185
الموعودين بالنّجاة، وهو بظاهره يقتضي أن نوحاً علیه السلام قد فهم من خطاب الله عزوجل غير ما أراده سبحانه.
إن قيل: إن خطاب الله عزوجل لنوح علیه السلام قد كان مجملاً، ثم جاء قوله تعالى: وَنَادَى نُوْحٌ رَبَّهُ) للتوضيح ، ولا مشكلة بأن يخاطب المولى عبده بخطاب مجمَل ثم يبينه له فيما بعد.
فالجواب: أنه لو كان الخطاب من الله عزوجل و لنوح علیه السلام مجملاً وكان المراد منه غير واضح، فإنّه عند إغراق ابنه قد صار مبيّنًا واضحًا، فلا بد أن نوحا علیه السلام بعد غرق ابنه قد علم أنه من جملة من سبق عليه القول، فما معنى سؤاله بعد ذلك بقوله: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ )، فإن التبين ورفع الإجمال قد يكون بخطاب آخر، وقد يكون بفعل، بل الفعل غالبًا ما يكون أبلغ في بيان المراد من القول، وعليه فالجواب المتقدم غير تام.
وأجاب بعض علمائنا المتأخرين عن هذه الشبهة بما حاصله مع زيادة الأعلام من توضيح منا:
إنّه في قوله تعالى: ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ )قد أمر الله و نوحا علیه السلام بأن يحمل معه في السفينة من كلّ جنس من الحيوانات زوجين ذكر وأنثى، وأن يحمل أهله أيضًا، ثم جاء بعد ذلك استثناء، وهو قوله تعالى: (إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)، وقد وقع قبل الاستثناء جملتان: (احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)، (وأَهْلَكَ)، والاستثناء
------------------------
جواب بعض اﻷعﻼم من المتأخّرين
ص: 186
الذي يأتي بعد المتعدّد محلّ كلام في علم الأصول، وهو هل أن هذا الاستثناء يعود إلى الجميع أم إلى الأخير فقط، ومع قطع النظر عن الخلاف الأصوليين، فإنّ القدر المتيقن منه أن الجملة الأخيرة تكون مشمولة للاستثناء.
فتكون جملة (وَأَهْلَكَ) مشمولةً للاستثناء قطعًا، ومعناه أنه مأمور بحمل في السفينة إلا من استثني، وهم من سبق عليه القول، فلا تكون النّجاة من الغرق لجميع أهل نوح علیه السلام، بل لخصوص من لم يسبق عليه القول، وأمّا من سبق عليه القول فقد حكم الله بغرقه في الطوفان.
ومن المعلوم أن زوجة نبي الله نوح علیه السلام كانت من جملة من سبق عليه القول لقوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ )(1).
فلا شك بدخولها في دائرة من سبق عليه القول لكفرها وخيانتها لنوح علیه السلام ، حيث كانت تخبر الناس بأنّه مجنون، وكانت تساعد الكفّار، فشمول الاستثناء لها أمر متيقن لا ريب فيه.
فتبين من ذلك أن الله عزوجل قد وعد نبيه نوحا علیه السلام بإنجاء أهله، وهم ولا شك أن عنوان الأهل يشمل الزوجة والأبناء، ولكن نوحا علیه السلام قد تخيل أن
هذا الاستثناء مختص بزوجته ولا يعم ابنه، فنادى الله بقوله: (ربي إن ابني من أهلي وإن وعدك بإنجاء أهلي حقٌّ)، فيكون نداؤه نداء من اشتد به
ص: 187
الوجد ،والحزن فطلب الفهم والاستيضاح - وليس نداء معترض - عن حقيقة الحال، إذ الحكمُ إليك وأنت أحكم الحاكمين، ولا ظلم ولا جور في ساحة حكمك وقضائك.
والحاصل: أن نداء نوح علیه السلام ، كان طلبًا لتفسير الاختلاف الظاهر بين وعد الله و بإنجاء أهله، وبين كون ابنه الذي هو من أهله من المغرقين، وهذا النّداء نشأ من جهة عدم علم نوح علیه السلام بأن ابنه من جملة من سبق عليه القول وأنه من المغرقين، وليس نداؤه معصية ولا اعتراضا على حكم عزوجل.
وما يدلّ على أن نوحا علیه السلام كان معتقدًا بكون ابنه من جملة الداخلين فى مَن كُتِب له النّجاة من أهله قوله تعالى:( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)(1)، فإن سعي نوح علیه السلام لأن يُركب ابنه في السفينة لا يمكن أن يكون مع علمه بأن ابنه من الذين حكم الله بغرقهم، فإن ذلك مخالفة لحكم الله عزوجل وقضائه، فيدل ذلك على أن نوح علیه السلاما كان يرى ابنه مؤمنًا، وإلا ما كان ليدعوه البتة إلى ركوب السفينة، فإن نوحا علیه السلام الله قد دعا الله عزوجل أن لا يترك على وجه الأرض من الكافرين ديارا، فقد جاء في قوله تعالى حكايةً عن نوح علیه السلام : ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ
ص: 188
تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا)(1)، فيكون سعيه لكي يُركِب ابنَه من جهة أنّه قد اعتقد إيمانه، وأنه من الذين وعده الله عزوجل بنجاتهم.
فبناءً على هذا التفسير ، قد بيّن الله عزوجل لنبيه نوح علیه السلام أن ابنه ليس من لأنه عمل غير صالح، وكشف له عن واقع حال ابنه من عدم كونه مؤمنًا، وأنه منافق متظاهر بالإيمان.
فإن المتأمل في الآية يجد أن الله بل قد قال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )ولم يقل: (إنّه ليس ابنك)، وهذا تأكيد على كونه ابنا لنوح علیه السلام ، ولكنه ليس من أهله المؤمنين الموعودين بالنّجاة.
والفرق بين هذا الجواب والجواب المتقدّم أنه في هذا الجواب قد ذُكر نداء نوح علیه السلام ربّه بقوله: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، وهو ظنّه بأنّه من الناجين لأنه كان يراه مؤمنًا، ولكنه في الواقع كان منافقًا، فكان نداؤه لربه لأجل أن يعلم حقيقة الأمر.
وعليه، فيكون نوح علیه السلامه قد فهم المراد من خطاب الله عزوجل المتوجّه إليه، ولكن ما وقع فيه من جهة عدم علمه بحقيقة واقع ابنه، وهذا نظير الاشتباه المتولد من الشّبهة المصداقية الذي لا يرجع بالحقيقة إلى عدم فهم التكليف المتوجّه إلى العبد.
هذا تقريب ما أجاب به بعض الأعلام من علمائنا المتأخرين رضی الله عنه، وفيه نظر.
حاصله : أن عدم علم نوح علیه السلام بنفاق ابنه، وإن أمكن تصحيحه باعتبار أن الله عزوجل قد يُخفي بعض الأشياء ويجعلها غائبةً عن نبي من أنبيائه علیهم السلام الحكمة،
------------------------
النظر في هذا الجواب
ص: 189
كما يمكن تأييده بقوله تعالى: (لاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، ولكن بملاحظة الحوار الذي دار بين نوح علیه السلام وابنه ، يتضح أن هذا الجواب غير تام- لعدم انسجامه مع الحوار الذي دار بينهما.
توضيح ذلك:
أن نوحا علیه السلام إن لم يكن عالمًا بنفاق ابنه، وظن أنه مؤمن لتظاهره بالإيمان، إلا أنه لمّا أمره بركوب السفينة رفض ابنه ذلك، ولم يقبل، وأصرّ على الانضمام إلى زمرة الكفّار، وهذا من أوضح مظاهر الكفر، فكيف لم يتبين نوح علیه السلام نفاق ابنه بعد هذا الفعل مع كون فعله صريحًا بالكفر، فإنّه قد صد قول أبيه بقوله: ( سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ)، ولم يصدقه في قوله: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ)، ففي هذا الحوار الذي دار بين نوح علیه السلام وابنه قد صدر من ابن نوح علیه السلام عدة أمورٍ تُظهر كفرَه، وهي:
الأمر الأوّل: صده لنوح علیه السلام بقوله: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي)، فإن صد أمر النبي في نفسه كفر ، لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا ) (1)، وقد روي عن الإمام الصادق الله في قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أَخْرَاكُمْ) (2) أَنه قال:
(انهزم الناس عن رسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، فغضب غضبا شديدا، وكان إذا غضب انحدر من وجهه وجبهته مثل اللؤلؤ من العرق، فنظر فإذا علي علیه السلام إلى جنبه، فقال: ما
ص: 190
لك لم تلحق ببني أبيك ؟ فقال علي علیه السلام : يا رسول الله أكفر بعد إيمان...) (1) الخبر.
نعم، عدم الامتثال لأمر النبي وصده يكونان كفرًا إذا كشفا عن عدم التصديق بنبوته، فليست مطلق المخالفة لأمر النبي كفرًا، وإلا لكان العصاة من المسلمين كفّارًا، بل المخالفة الموجبة للكفر هي المخالفة التي تستبطن عدم التصديق بنبوة النبي، وليست مطلق المخالفة موجبة للكفر.
وفي مقامنا إنّ عدم امتثال ابن نوح علیه السلام في هذا الموقف الشَّديد، مع بيان نبي الله نوح علیه السلام له أنه لا عاصم اليوم من أمر الله عزوجل فيه نحو من الكشف عن عدم تصديقه بنبوة نوح علیه السلام .
الأمر الثاني: إصراره على الانضمام إلى زمرة الكافرين، لقوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ).
والمعيّة لها :أقسام معيّة زمانية، ومعيّة مكانيّة، ومعيّة نَسَبية، ومعيّة الطاعة، ومعيّة الاتباع التي تكون مسبّبة عن العُلقة الإيمانية.
قال الله عزوجل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَینَهُم)(2)، فهذه المعيّة لا يُراد بها المعيّة الزمانية أو المكانيّة، فإنّ في أصحابه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ،منافقين، ومن أهل المدينة من مرَد على النفاق، ولا يُراد بالمعيّة المعيّة النسبية كما هو واضح، بل المراد بالمعيّة معيّة الطاعة، وكذلك في
ص: 191
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(1)المراد بالمعيّة هنا معيّة الطاعة والاتباع، وعليه فالمراد بقول نوح علیه السلام: (وَلَا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ) معيّة الطاعة واتباع الكافرين، وهذا الأمر كاشف عن عدم تصديقه بنبوة نوح علیه السلام ، وإلا لما اتبع الكافرين بل خالفهم.
الأمر الثالث: عدم تصديقه لقول أبيه: «لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ، فإنّ فِعْلَه تكذيب لقول نوح علیه السلام، وإلا فإنه لو كان مصدقًا متيقنا بصدق كلام أبيه لركب السفينة خوفًا من الغرق، وعدم تصديقه كاشف عن عدم إيمانه.
والحاصل أنه إن لم يكن نوح علیه السلام عالما بكفر ابنه فيما سبق، فإنّ الحوار الذي دار بينهما واضح الدلالة على كفره وعدم اعتقاده بنبوة أبيه، ومعه لا وجه لأن ينادي نوحٌ علیه السلام ربّه بأن ابني من أهلي إن كان المراد به طلب كشف واقع الحال، لأن الحال قد انكشف بالحوار الذي دار بينهما، وحتى لو قلنا انكشاف الحال من خلال الحوار، فلا شك في كونه قد انكشف بعد غرق ابنه، لأن الله عزوجل و قد أوحى إليه أن كل ظالم على وجه الأرض سيكون من المغرقين، ونداؤه الله كان بعد أن حال الموج بينه وبين ابنه، وبعد أن صار من المغرقين.
والتحقيق في الجواب يقتضي الوقوف عند عدة أمور:
الأمر الأوّل: ما هو المراد بقوله تعالى: (وَأَهْلَكَ).
الأمر الثاني: ما هو وجه طلب نوحٍ علیه السلام من ابنه الركوب في السفينة.
------------------------
الجواب التحقيقي
ص: 192
الأمر الثالث:هل يوجد تناف بين قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )وقول نوح علیه السلام : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي).
الأمر الرابع: ما المراد بقول نوح علیه السلام :( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ).
الأمر الخامس: ما هو وجه نداء نوح علیه السلام اللَّه : (وَنَادَى نُوْحٌ رَبَّه).
أما الأمر الأول فجوابه:
أن المراد بالأهل خاصة نوح علیه السلام ممّن كان مؤمنًا وعلى دينه، وليس المراد بالأهل خصوص الأولاد والزوجة والأقارب، فإن الآل والأهل يُستعملان في خاصة الشخص ممن كان على دينه وتابعا له، قال تعالى: (وَإِذ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرِ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آل فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (1)، وليس المراد بآل فرعون خصوص أولاده وزوجاته ومَن كان من أقاربه، بل المراد كلِّ مَن كان كافرًا وتابعا له، وعليه فالاستثناء في قوله تعالى: (إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ )(2) استثناء منقطع، يراد به من كان كافرًا.
وأما الأمر الثاني فجوابه:
أن نوحًا علیه السلام طلب من ابنه الركوب في السفينة لأنه كان يظنه مؤمنًا صالحا، وقد كان من قبل ذلك مأمورًا بإركاب أهله وهم من خاصته المؤمنين، ولم يَدْعُهُ إِلى ركوب السفينة من جهة الرابطة العاطفية التي تربطه به، فإن أفعال الأنبياء علیهم السلام لا تنطلق من جهة الأحاسيس والمشاعر، وذلك لأنهم لا يفعلون إلا ما يوحى إليهم : (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْقُونَهُ بِالْقَوْلِ
ص: 193
وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )(1)، فطلبه من ابنه أن يركب في السفينة كان من جهة أمر الله و بإركاب أهله وطاعة له جلّ وعلا، وهم خاصته من المؤمنين، ولمّا كان ظاهر حال ابنه أنه مؤمن وعلى دينه، أمره بالركوب، وظن نوح علیه السلام علالسلام بإيمان ابنه كان قبل غرقه وقبل الحوار الذي دار بينهما، أما بعد الحوار والغرق، فلا شك أن نوح علیه السلاما قد انكشف له واقع حال ابنه، وأنه كافر، ويؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾(2).
وفي المقام نكتة يحسن الالتفات إليها، وهي:
أن عباد الله المخلصين إذا شارفوا على الوقوع في شُبهةٍ من جهة عدم الإحاطة العلميّة لديهم بكل شيء، فإن الله سبحانه و تعالی قد تقتضي حكمته إخفاء بعض الأمور على أنبيائه علیهم السلام، ولكنه عزوجل والحال كذلك يمدهم بلطف منه يجعلُهم مأمن عن الوقوع فيما اشتبه عليهم، فإن نوحًا علیه السلام ظن كون ابنه من المؤمنين من جهة نفاقه، بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، ولكن الله لمده بعناية منه بنحو لم يوفّق ابنه ولم يهدِهِ إلى ما هو الأصلح له في النّجاة، فلم يكن من الناجين، ويكون نوح علیه السلام قد امتثل الأمر الإلهي بإركاب المؤمنين فقط، لأن الله و قد قدر الغرق على جميع الكفار من أهل الأرض في زمان نوح علیه السلام ، وعدم علم نوح علیه السلام بكفر ابنه واقعا قد كان يوصله إلى إركاب غير المؤمن بالسفينة، فمده الله بلطف منه بأن لم يوفق ابنه إلى التقدير الصحيح الذي يقيه من الماء بالركوب في السفينة.
ص: 194
وأمّا الأمر الثالث فجوابه بطريقين:
الأول: أنه قد وقع خلاف في حقيقة الكذب، فذهب المشهور إلى أن الكذب هو عدم مطابقة مضمون القضيّة للواقع أعم من أن يكون مطابقًا للاعتقاد أم لا وأورد عليه بقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (1)، باعتبار أن مضمون كلام المنافقين مطابق للواقع، ولكن مع ذلك فإن الله قد وصفهم بالكذب، فذهب البعض إلى أن الكذب هو عدم مطابقة مضمون القضية للاعتقاد.
هذا ولكن التحقيق أن الكذب هو قول أو فعل يُراد به إيقاع المخاطب الاعتقاد بما هو خلاف الواقع، فليست حقيقة الكذب عدم مطابقة مفاد القضيّة للواقع، بل هو القول أو العمل المقارن بقصد إيقاع المخاطب في الاعتقاد بخلاف الواقع، وعليه فمرجع التورية إلى الكذب، باعتبار أن المورّي يقصد من إلقائه الكلام أن يفهم المخاطب منه ما هو مخالف للواقع، ولكن الفرق بينهما أن أحدهما أجلى وأصرح من الآخر، وتفصيل ذلك موكول إلى ما أثبتناه في محلّه من من علم الأصول.
وما يُفيدنا في الآية أن حقيقة الكذب لا تنطبق على قول نوح علیه السلام، لأن خطابه كان مع الله عزوجل، وأن يقصد نوح علیه السلام إيقاع الله تعالى في اعتقاد مخالفة الواقع أمر محال، فلا يكون لنسبة الكذب إلى نوح علیه السلام فيما خاطب به الله عزوجل
ص: 195
معنى محصّل على مختارنا في تفسير حقيقة الكذب، ومعه لا نحتاج إلى الوجوه التي ذكرت لرفع نسبة الكذب عما نادى به نوح علیه السلام ربَّه.
ثمّ إنّه على ما ذهب إليه المشهور من أن الكذب هو عدم مطابقة مضمون القضيّة للواقع، فإنّه لا معنى لتوهم صدور الكذب من نوح علیه السلام، ولا حاجة إلى الوجوه التي ذكرت منهم لرفع الشبهة، وذلك لأن الإخبار يكون في مقامين:
المقام الأوّل: إعلام المخاطب بالواقع.
المقام الثاني: إعلام المخاطب بعلم المتكلم بالواقع، وهو ما اصطلح عليه البلاغيون ب (لازم الخبر).
ولا معنى لأن يكون نوح علیه السلام في مقام إخبار الله عزوجل و عن الواقع، ولا أن يكون في مقام إخباره بعلمه بالواقع، فإن الله سبحانه و تعالی عالم بالواقع وبلازم الخبر، بل لم يكن نوحٌ علیه السلام في مقام الإخبار أصلاً حتى ترد شبهة الكذب على ما قاله نوح علیه السلام، وذلك لأنّ كلامه ليس داخلاً في الإخباريات حتى ترد هذه الشّبهة من أصل.
ولا يُقال: إن ما حكاه الله عزوجل و من قول نوح علیه السلام : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، هو من الجمل الخبرية على ما هو المقرر بحسب القواعد اللغوية، فكيف صحَّ إخراجها منها؟
فإنه يُقال في مقام الجواب عن ذلك: إن قول نوح علیه السلام شهادة وليس خبرا، إذ الفرق بين الخبر والشهادة هو أن الخبر كشف عن الواقع، وأمّا الشهادة فهي كشف عن واقع ما مجزوم بتحققه، فإنّ الشاهد عند مثوله أمام
ص: 196
القاضي لا يُراد منه مطلق الإخبار عن الواقع وكشفه للقاضي عنه، ولا إعلام القاضي بأنه عالم بالواقع غير جاهل به بل شهادته تكون كشفًا عن اعتقاده وجزمه بواقع ما يترتب عليه أثر الشهادة.
وأما ما ذكر من أن الفرق بينهما هو أن الخبر لا يحتاج إلى تعدد، وأن الشهادة تحتاج إلى ذلك، فلا يرجع إلى بيان الفرق بين حقيقة الخبر والشّهادة، فإنّ هذا يتم بعد تحديد معنى الخبر ومعنى الشهادة، وما ذكر فإنّه حكم الشهادة وأنها محتاجة إلى تعدد، ولا يصح إثبات حقيقة الموضوع بواسطة حكم من أحكامه، فهذا مثل من يُسأل عن معنى الرجل ومعنى ،المرأة، فيُجيب بأنّه يجب على المرأة الحجاب دون الرّجل، وهو خلط حقيقة الموضوع وأحكامه التي يفترق بها عن غيره كما هو واضح.
فالشهادة تتقوم بأمرين:
الأمر الأوّل: إخبار عن واقع ما مع الجزم به.
الأمر الثاني: ترتب أثر على هذا الإخبار وهو الحكم.
بينما الإخبار قد يكون عن واقع لم يكن المخبر قد جزم به جزمًا باتا، ولذلك يصح سؤاله: هل أنت جازم متيقن فيما أخبرت عنه، وكذلك لا يكون الخبر في مقام يترتب عليه أثر حكم وقضاء بين الناس.
فنوح علیه السلام انه لم يكن في مقام الإخبار ولا الطلب من الله عزوجل، بل كان ذلك النداء لإبراز شهادة، ومعه لا معنى للبحث عن وجود تعارض بين قول الله عزوجل وقول نوح علیه السلام.
الطريق الآخر للجواب أن نقول:
ص: 197
إن قول نوح علیه السلام :( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، فيه نسبتان، أحدهما نسبة بنوته إليه، والثانية أنه من أهله.
والنسبة الأولى إنما هي على لغة طي، على ما جاء في رواية القمي بسنده قال: (أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ الأَحْمَرِ عَنْ مُوسَى بْنِ أكَيْلِ النَّمَيْرِي عَن الْعَلَاءِ بْن سَيَابَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي قَوْلِ اللَّهِ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ فَقَالَ لَيْسَ بِابْنِهِ، إِنَّمَا هُوَ ابْنُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ عَلَى لُغَةِ طَيِّ، يَقُولُونَ لَابْنِ الْمَرْأَةِ ابْنُهُ)(1).
وأما النسبة الثانية فإنّه يعني به من أهلي الذين قد وعدت بنجاتهم، ووعدك حق لا تُخلفه وعليه فلا منافاة بين قول الله عزوجل وقول نوح علیه السلام حتى يلزم الكذب.
وقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)غير ناظر إلى النسبة الأولى أصلا، فلا وجود لشبهة الكذب
فالشبهة مع النسبة الثانية، فكيف التوفيق بين قول نوح علیه السلام (إنَّ ابْنِي مِنْ أهلي)، وقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )؟
وجوابها: فأما قول نوح علیه السلام ( إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، يعني به من أهلي الذين قد وعدت بنجاتهم، ووعدك حق لا تُخلفه، وأما قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)فيعني به وعليه فلا منافاة بين قول الله وقول نوح علیه السلامه حتى يلزم الكذب.
ص: 198
وأما الأمر الرابع فجوابه:
وهو أن الوعد لا يُراد به أمر الله عزوجل بإركاب أهله في السفينة، بل الوعد إشارة إلى قوله تعالى: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )(1)، فالوعد يُراد به النجاة التي وعد الله عزوجل بها المؤمنين خاصة، أمّا الآية التي أُمِرَ فيها نوح علیه السلام بأن يُركب في السفينة من كل زوجين اثنين وأهله، فليست هي المرادة بقول نوح علیه السلام : (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ )(2).
وأمّا الأمر الخامس فجوابه:
أن نداء نوح علیه السلام لم يكن طلبا من الله عزوجل بأن يُنجي ابنَه ، لأن نداء نوح علیه السلام ربَّه كان بعد غرق ابنه كما هو واضح من سياق الآيات، قال تعالى: (وَحَال بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (3)، فإن طلب النّجاة لمن غرق ومات لا معنى له.
وعليه فمن الغريب ما في كلمات كثير من المفسرين من أن نوحٌا علیه السلام كان في مقام طلب النّجاة لابنه.
وليس هذا النداء نداءً للكشف عن واقع الحال، لأنه بعد غرق ابنه لا شك أنّه انكشف له كونه من الظَّالمين، وممن سبق عليه القول كما تقدم.
ص: 199
فالصحيح هو أن نداء نوح علیه السلام ربَّه كان تأسفًا وحُزنًا على غرق ابنه، لأنه لعظيم رحمته وعطفه حصل في نفسه حزن شديد وتأسف عظيم على عدم نجاة ابنه وموته كافرًا.
وهذا كان كالاستعداد والمشارفة على طلب الغفران لابنه، والنداء صدر من نوح علیه السلام الله الشدّة حُزنه ووجده، وكان كالمقدمة لذلك وتمهيدًا له، ولكن الله قد حال بين نوح علیه السلام وبين طلبه الغفران لابنه بقوله: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)، وبقوله: (إِنِّي أَعِظُكَ أنْ تَكُوْنَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، باعتبار أن طلب الغفران لمن لا يستحق ذلك لا يُستجاب، وأن الله عزوجل يريد تنزيه نبيه عن دعاء لا يُستجاب.
فنداء نوح علیه السلام كان كالمقدمة لطلب الغفران ، ولم يكن طلبًا حقيقةً _ لا لإنجاء ابنه من الغرق ولا لأن يغفر الله عزوجل لابنه _ ولم يصدر منه، فإن طلب المغفرة لمن لا يستحقها لا يليق بعاقل فضلاً عن نبي من أنبياء أولي العزم، وإلى هذا الأمر يشير قوله سبحانه وتعالى: (إِنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، وهو أن تفعل ما لا يليق فعله من العاقل، وليس معنى الجهل عدم العلم، كما أن الجهالة هي السفاهة وليست فقدان العلم.
وهذا النداء سببه الحزن الشديد والتأسف على موته كافرا، وكان كالمقدمة والمشارفة على الطلب، وإنّما صدر من نوح علیه السلام لعظم رحمته، نظير ما يروى عن حال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عند دعائه لقومه الكفّار: (اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون)(1).
ص: 200
ومثله ما يروى عن حال الإمام الحسين علیه السلام عندما أمر من خذله ولم ينصره بالفرار كي لا يسمع واعيتَه، لأن مَن مَن سمع واعيته علیه السلام ولم ينصره كان من الداخلين إلى جهنّم، فقد روى الشيخ الصدوق (أعلى الله مقامه) في حديث:
(ثم سار الحسين علیه السلام حتى نزل القطقطانة، فنظر إلى فسطاط مضروب، فقال: لمَن هذا الفسطاط ؟ فقيل: لعبيد الله بن الحرّ الجعفي، فأرسل إليه الحسين علیه السلام فقال أيُّها الرّجل، إنّك مذنب خاطى، وإن الله عزوجل آخذك بما أنت صانع إن لم تتب إلى الله سبحانه و تعالی في ساعتك هذه فتنصرني، ويكون جدي شفيعك بين يدي الله سبحانه و تعالی، فقال : يا بن رسول الله والله لو نصرتك لكنت أوّل مقتول بين يديك، ولكن هذا فرسي خذه إليك، فوالله ما ركبته قط وأنا أروم شيئًا إلا بلغته، ولا أرادني أحد إلا نجوت عليه، فدونك فخذه، فأعرض عنه الحسين علیه السلام بوجهه ثم قال: لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذ المضلين عضدا، ولكن فُرَّ، فلا لنا ولا علينا، فإنّه مَن سمِع واعيتنا أهل البيت ثم لم يُجِبنا كبّه الله على وجهه في نار جهنم....)(1) الخبر.
فإنّ أمر الإمام الحسين العبيد الله بن الحر بالفرار نشأ من عظيم ،رحمته، فأراد أن لا يكون هذا الشخص من الخالدين في نار جهنم.
فحال نوح علیه السلام حال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في تحسّره على قومه الذين لم يؤمنوا، قال تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات ) (2)، فإن نوحًا علیه السلام قد تحسّر على
ص: 201
موت ابنه وقومه على حالة الكفر ، وكان ذلك منه مشارفةً على الدعاء له بالغفران فحال الله سبحانه و تعالی بينه وبين ذلك، وعاتبه على هذه الحال، فإنّ المشارفة على طلب الغفران لمن لا يستحق ذلك أمر مخالف للأولى في حق نبي الله نوح علیه السلام .
ص: 202
عصمة نبي الله إبراهيم علیه السلام
ص: 203
ص: 204
ومما تعلّق به من زعم صدور المعصية من الأنبياء علیهم السلام ما ورد في القرآن الكريم من قصة إبراهيم علیه السلام ، وهي عدة موارد:
المورد الأوّل: قوله تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الأفِلِينَ فلمّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِعًا قَالَ هَذَا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين)(1).
تقرير الشبهة: أن قول إبراهيم علیه السلام : (هذا ربي)، عند إشارته للكوكب والقمر والشمس إخبار، وهذا الإخبار إما مع اعتقاده بربوبية هذه الأشياء أو بدون اعتقاده بذلك، فإن كان اعتقاد ربوبيتها فهو شرك أو كفر، وحمله على الشرك مبني على اعتقاد ربوبيتها مع الله سبحانه و تعالی وحمله على الكفر مبني على اعتقاد ربوبيتها دون الله سبحانه و تعالی.
ص: 205
وإن كان بدون هذا الاعتقاد فيكون كذبًا لمخالفته لحقيقة وواقع ما يعتقده إبراهيم علیه السلام .
وبعبارة أخرى: إن ظاهر الآيات أن قول إبراهيم علیه السلام : (هَذَا رَبِّي)، اعتقاد منه بربوبية هذه الكواكب، وهذا يخالف التوحيد، وإن كان قوله ليس عن اعتقاد فهو كذبٌ.
وعلى كلا الوجهين يلزم من ذلك صدور ذنب من نبي من الله علیهم السلام.
أجاب السيد المرتضى علم الهدى له عن هذه الشبهة بجوابين:
حاصل الأوّل منهما:
أن إبراهيم علیه السلام كان في فترة البحث والنظر، فإنّه لما وصل إلى كمال العقل وجب عليه النظر والفكر، وذلك لأنه لم يُخلق عارفا بالله ، فلما رأى كوكبًا قال: (هَذَا رَبِّي )، قول ناظر متفكر يريد الوصول إلى الحق.
ولم يقل ذلك الكلام مخبرًا، وإنما قاله على سبيل الفرض والتقدير ليتوصل إلى أنّ ما كان من صفاته أنه يغيب ويأفل لا يجوز أن يكون ربا معبودا، فإنّ مَن أراد إبطال قول ما يفرضه أولاً ثم يُبطله، وهو بفرضه له لا يكون مخبرا عن الواقع، نظير ما يقع من العلماء عند البحث عن حدوث الأجسام وقدَمِها من فرضهم كونها قديمة ليتبين فساد هذا الفرض.
النظر في جواب وفي هذا الجواب نظر، فإن ظاهر الآيات ينافي هذا الوجه، فقد جاء فيها: ( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فإبراهيم علیه السلام ان يعتقد بوجود ربِّ له يهدي ويضل، وهذا مناف لكونه غير معتقد بإله، وكونه باحثًا عنه،
------------------------
جواب علم الهدى المرتضى قدس سره
النظر في جواب المرتضى رحمة الله علیه
ص: 206
وفي الآيات التي سبقت هذه الآية ما ينافي هذا الوجه أشد المنافاة، قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبيه آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينِ ) (1)(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(2).
فإنه علیه السلام قال لأبيه آزر أن مَن يتخذ أصنامًا آلهةً فهو في ضلال مبين، وهذا قولُ موحد، وليس بقولِ باحث خالٍ عن الاعتقاد، كما أن قوله تعالى:(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (3)، ينافي كونه في فترة البحث والنظر عن الإله، فإن من أراه الله عزوجل ملكوت السماوات والأرض ليحصل له المرتبة العليا من اليقين يمتنع أن يكون غير معتقد بإله، وأن يكون باحثًا عنه.
فبعد أن نهى إبراهيم علیه السلام أباه آزر عن اتخاذ الأصنام آلهة، وبعد أن أراه الله عزوجل ملكوت السموات والأرض وحقائق الأشياء، قال تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا )(4)، فهذه الآية قد غطفت على ما قبلها
ص: 207
بفاء التفريع الدالة على الترتيب، وعلى أن ما قبلها من الآيات قد وقع في زمانٍ متأخّر عنها، وهو كما ترى ينافي كون نبي الله إبراهيم علیه السلام خاليًا عن الاعتقاد وينافي أيضاً كونه باحثًا متفكرًا يريد الوصول إلى الحق.
وهذا كلّه مع فرض إمكان أن يُخلق النبي غير موحد، وإلا فالحق أنّ أنبياء الله لا يوجدون موحدين كما دلّ على ذلك القرآن الكريم في حق عيسى بن مريم (على نبينا وآله وعليه السّلام )من نطقه في المهد، (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا )(1).
ووجه دلالة الآية: أن قوم مريم عليها السلام كانوا يستنكرون عليها أن يكون لها ولد وهي غير متزوّجة، وكانوا ينسبون إليها الفاحشة والعياذ بالله قال تعالى: ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيَّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً )، ولكن لما نطق روح (2)الله عیسی علیه السلام في المهد ألقموا الحجّة وسكتوا، وما نطق به عيسى علیه السلام هو ما حكاه القرآن الكريم: ( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيّاً ) (3)، ولم يرد في حكاية الله الكلام عيسى ال نفي ما اتهموا به أمه، ولكنّهم فهموا أن مَن يأتي بمعجز ويكون نبياً لا شك أنه طاهر المولد؛ لما هو المرتكز عندهم من الملازمة بين النبوة والطهارة
ص: 208
والنزاهة عن الرّجس، فلمّا كانت النبوة نفسها ملاكاً للنزاهة والطهارة استغني عن التصريح بذلك، ومن ثَمَّ يتبيّن أن إبراهيم علیه السلام كان كذلك.
ثم اعلم أن قوله تعالى: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَییًا)(1) ينبغي توهم شموله للأنبياء علیهم السلام، حيث إن القرآن نفسه قد دلّ على جعل النبوة لعيسى الله وهو طفل في المهد، وهذا ينافي الجهل والخلو الاعتقادات ،الحقة، فإنّ مَن يُؤتى النبوة لا يكون كذلك، فانتفى أن تكون الآية سالبةً كليّةً عامةً لجميع البشر، فيخرج عن عمومها جميع والأوصياء علیهم السلام كما خرج روح الله عيسى علیه السلام.
ثم إنه وإن كان لا يُنكر أن طريقة العلماء في الاستدلال، كثيرًا ما تكون بالسّبر والتقسيم ليتوصل بذلك إلى إبطال الفروض والوصول إلى الحق الذي يتعين التصديق به، ولكن لا يظهر من الآيات أن إبراهيم علیه السلام الله كان في هذا المقام، بل هذا مخالف لطريقة الأنبياء الله في الهداية إلى الله تعالى.
وأما ما رُوي في تفسير علي بن إبراهيم علیه السلام القمي رضی الله عنه أنه: (سُئل أبو عبد الله الا عن قول إبراهيم علیه السلام التالية: هذا ربي ، لغير الله، هل أشرك في قوله: ربي؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم علیه السلام شرك، وإنما كان في طلب ربه، وهو من غيره شركٌ) (2).
فلا بد أن يُحمل على ما لا ينافي الآية من إيمان إبراهيم علیه السلام بالله، بل وكونه من الموقنين، فإنّه يُحتمل أن يكون المطلوب شيئًا من الرِّب من باب
ص: 209
نزع الخافض، أي طالب من ربّه التوفيق والنصر، كما يُحتمل أن يكون المطلوب هو الرب نفسه، فإنه وإن كان الثاني أظهر، ولكنّ الأوّل محتملٌ ووارد في العربيّة فينبغي حمل الرواية عليه باعتبار أن الأخذ بالأظهر فيه مفسدة، وهي نسبة خلو إبراهيم علیه السلام عن الاعتقاد بالتوحيد.
وأمّا الجواب الثاني للسيد المرتضى رحمة الله علیه فحاصله:
أن قول إبراهيم علیه السلام :( هَذا ربي)، قول على سبيل الإنكار على قومه تنبيهًا لهم على أنّ ما يغيب ويأفل لا يجوز أن يكون إلها معبودا، بعد أن كان معتقدًا موقنا بالله سبحانه وتعالى، فيكون استفهاما استنكاريًا أسقط منه حرف الاستفهام للاستغناء عنه، باعتبار أن قوم إبراهيم علیه السلام يعلمون حاله من إنكاره لعبادة الأصنام، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِدُ أصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينِ )(1).
وهذا الوجه في نفسه مستقيم لا خدشة فيه، إلا أنه بحاجة لقرينة على حذف الاستفهام لم يأت بها السيد رحمة الله علیه .
نعم يؤيد هذا الوجه في الجملة ما رواه الشيخ الصدوق رضی الله عنه من حديث مناظرة الإمام الرضا علیه السلام حيث جاء فيه:
(فقال الرضاء علیه السلام التالية: إنّ إبراهيم علیه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف، صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشّمس، وذلك حين خرج من السّرب الذي أخفي فيه :( فَلَمَّا جَنِّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ )(2)، ورأى الزهرة قال: (هَذَا
------------------------
الجواب الثاني للمرتضى قدس سره
ص: 210
ربي)، على الإنكار والاستخبار،( فَلَمَّا أَفَلَ)، الكوكب (قَالَ لا أُحِبُّ الأفِلِينَ)؛ لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم، (فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِعًا قَالَ هَذَا رَبّي )،(1) على الإنكار والاستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ ، يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ)، يقول: لو لم يهدني ربّي لكنت من القوم الضالين (فلما أصبح ورَأى الشَّمْسَ بَازِغَةٌ قَالَ هَذَا هَذا ربّي أكْبَرُ )(2)، من الزّهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار فَلَمَّا أَفَلَتْ قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ) (3) ، وإنّما أراد إبراهيم علیه السلام بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحق لما كان بصفة الزّهرة والقمر والشَّمس، وإنّما تحق العبادة لخالقها وخالق السّماوات والأرض، وكان ما احتجّ به على قومه مما ألهمه الله تعالى وآتاه كما قال الله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ )(4)، فقال المأمون الله درك يا ابن رسول الله...)(5)انتهى موضع الحاجة من الخبر.
ص: 211
وعليه _إن تمّ تصحيح الرّواية _فلا مانع من الالتزام بهذا الجواب تعبّدا لورود تفسير له من المعصوم علیهم السلام، وإن لم يُظفر بقرينة على حذف الاستفهام. الجواب الأدق عن والجواب الأدق: هو أن إبراهيم علیه السلام كان معتقدًا بربوبية الله ، موحدًا موقنا، ولكن أظهر قوله: (هَذَا رَبّي)، في صورة الإقرار ليميلوا إليه ويقبلوا بيانه ولا يتهموه، فيكون قول إبراهيم علیه السلام مجاراة لقومه في مقام المحاججة، بأن أبرز قوله بصورة المقرّ المعتقد بما يراه الطرف الآخر، وذلك لأن هذا أدعى لهم للإقبال على ما يقوله والقبول منه، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينِ )(1)، وإنما قال ذلك على وجه الإنصاف في الاحتجاج دون الشك، كما يقول القائل لغيره أحدنا كاذب، وإن كان عالمًا بمن هو الكاذب في الواقع، ومثل هذا ما قاله أبو الأسود الدؤلي:
يقول الأرذلون بنو قشير طوال الدهر لا تنسى عليا أحب محمدًا حبًا شديدًا وعباسا والوصيّا الله حتى أجئ إذا بعثت على هويا لحب الله أحبّهم لحبّ وحمزة فإن يك حبّهم رشدًا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيّا
فقالوا له: أ شككت يا أبا الأسود، فقال: ألم تسمعوا الله تعالى يقول: ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، أفترون الله شك(2).
وقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم علیه السلام: (فَلَمَّا َأفَلَ قَالَ لا أَحِبُّ الأَفِلِينَ) (3) ، برهان على عدم كون الكوكب ربَّا، فإنّ الأفول من صفات الحادثات التي
------------------------
الجواب اﻷدق ّ عن الشبهة
ص: 212
يمتنع أن تكون ربَّا هاديًا مدبّرًا رازقًا، لأنها إذا أفلت انقطعت ربوبيتها لعدم بقاء التدبير الكوني مع الأفول والانقطاع عن المربوب.
وبعبارة أخرى إن البرهان مبتن على الأفول الذي هو من صفات الحادث الذي لا يكون ربًّا، بسبب أفوله وانقطاعه عن مربوبه في زمن الأفول، فيكون الانتقال والاحتجاب والاستتار دليلاً على الحدوث والفقر.
وصورة القياس :
الكوكب آفلٌ.
وكل آفل حادث ليس باله.
فالكوكب حادث ليس بإله.
فيكون برهانًا إنيَّا من المعلول إلى العلة، أي من الأفول إلى الحدوث، ومن الحدوث يُعلم أنّ لها محدثًا.
المورد الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا عَالِمِينَ )(1).
تقرير الشبهة: أن ظاهر الآية يقتضي أنّ إبراهيم علیه السلام كان فاقدا للرشد فآتاه الله إياه، وفقدان الرشد معناه الغي.
والجواب على هذا التوهّم أنّ الرشد لغةً قد فسر بالهداية واستقامة الطريق وغير ذلك.
ص: 213
قال الجوهري في الصحاح( الرشاد : خلاف الغي)(1)، وقال ابن فارس في معجم مقاييس ييس اللغة: (رشد الراء والشين والدال أصل واحد يدلّ على استقامة الطريق)(2)، وفسره الزمخشري في الكشاف ب(الاهتداء لوجوه الصلاح)(3).
فيظهر من اللغويين أن الرشد هو الاهتداء إلى الخير والصلاح.
ولكنّ الأقرب أنّه قوّة التمييز بين الحق والباطل فيقال (فلانٌ بالغ رشيد) بالغ من حيث العمر الذي تظهر فيه آثار البلوغ، ورشيد من حيث وجدانه لقوّة يميّز بها بين الحق والباطل والخير والشر.
فالآية في مورد ذكر نعمة الله عزوجل على خليله إبراهيم علیه السلام وأنه قد آتاه الرشد، وهذا لا يعني أنه قد كان خاليًا عن هذا الأمر، ولا ملازمة بين الأمرين، فإنّ هذه الآية نظير قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَاكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (4)، فإن جعل السمع والأبصار لا يعني أن الله قد خلق الإنسان خال عن هاتين الحاستين ثم بعد ذلك جعلها له، فمحض الجعل والإيتاء الإلهي لا يدلّ على ما زعمه المتوهم، بل هو على نعمة قد رزقها الله لعبده، أعم من أن يكون قد جعلها له بعد أن كان خاليًا عنها أو أنه جعلها بجعله كنعمة السمع والبصر المجعولتين حين خلق الإنسان.
ص: 214
المورد الثالث ممّا تعلّق به من زعم صدور المعصية من الأنبياء علیهم السلام: قوله تعالى في حكاية قول إبراهيم علیه السلام : (قَالُوا أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنْطِقُونَ)(1).
مفاد الشبهة: أنه لا شك بأن الأصنام جمادات لا تصدر منها الأفعال، وأن إبراهيم علیه السلام هو الذي كسر الأصنام، فنسبةُ إبراهيم علیه السلام الكسر إلى شيءٍ يجوز أن يصدر منه الفعل يكون كذبًا، وذلك لأنه عندما سُئل: أأنت فعلت هذا، أجاب: بل فعله كبيرهم، وقوله بل فعله كبيرهم) خبر نسب فيه الكسر إلى كبير الأصنام، وهو كذب لمخالفته للواقع.
ونذكر محاولات بعض الأعلام في مقام الجواب عن تلك الشبهة.
أجاب السيد المرتضى رحمة الله علیه عن هذه الشبهة بما حاصله:
أن خبر إبراهيم علیه السلام كان مشروطًا معلقًا على أمر، ولم يكن خبرًا مطلقًا، فإنّه الله أجاب بأنه فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فعلّق خبره على شرط ، والمعنى: إن كانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للكسر، فيكون هذا مثل قول أحدنا لغيره من فعل هذا؟ فيقول: زيد إن فعل كذا وكذا.
فعلق إبراهيم علیه السلام الخبر على أمر مستحيل، وهو نطق الأصنام، والمعلق على المستحيل مستحيل، وإنّما أراد بذلك تنبية قومه وتوبيخهم على عبادتهم لأصنام لا تنطق ولا تبصر ولا تسمع (2)
------------------------
تقرير الشّبهة
جواب علم الهدى المرتضى قدس سره
ص: 215
وهذا الجواب مستفاد من مرسلة صالح بن سعيد التي رواها الشيخ الصدوق في معاني الأخبار، قال: (أبي رحمة الله علیه قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن عن أبي إسحاق إبراهيم علیه السلام بن هاشم، عن صالح بن سعيد، عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبد الله علیهم السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل في قصة إبراهيم علیهم السلام : (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) قال:ما فعله ،كبيرهم، وما كذب إبراهيم علیه السلام ، فقلت : فكيف ذاك؟ قال: إنما قال إبراهيم علیه السلام فاسألوهم إن كانوا ينطقون إن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئًا فما نطقوا وما كذب إبراهيم علیه السلام) (1)
والرواية مضافًا إلى ضعف سندها في الإرسال، هي مجملة، وجواب السيد المرتضى رحمة الله علیه قد لا يوافق به الخصم وذلك لأن الشرط والتعليق كان للسؤال ولم يكن للفعل، قال تعالى:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنْطِقُون)، فالشّرط والتعليق وهو قوله تعالى: (إِن كَانُوا يَنْطِقُونَ)، إِنَّما هو للسؤال في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُمْ )، وليس للفعل في قوله تعالى: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا )، فتكون جملة( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا )قد تمّت وابْتُدِئ بقول جديد، وهو قوله تعالى (فَاسْأَلُوهُمْ)، وعُلّق السؤال على النطق، ومعه لا يتم جواب المرتضى رحمة الله علیه .
------------------------
النظر في جواب المرتضى قدس سره
ص: 216
قد وقع بحث بين الأصوليين في أنه إذا وردت جمل متعددة، ثم جاء بعدها وتعقبها استثناء أو قيد مع إمكان رجوعه إلى كلّ واحدٍ منها، فهل الظاهر أنه يرجع إلى خصوص الأخير منها، أم إلى الجميع، أم أنه لا ظهور في شيء منها، فإذا قال المولى اكرم النّحاة والفقهاء والفلاسفة إلا الفساق منهم، فهل يرجع الاستثناء إلى خصوص الأخير الفلاسفة، أم إلى الجميع، أم أنه لا ظهور له في الرّجوع إلى أي منهما، والمسألة غير مختصة بتعقب الاستثناء للجمل المتعددة ، بل كل ما يمكن أن يكون مخصصا وقيدًا كما صرح بذلك صاحب المعالم، فاختلفت آراء العلماء في ذلك.
وفي مقامنا لا يجري هذا البحث، بل يتعيّن رجوع الشرط إلى الجملة الأخيرة، وذلك لأن مورد هذا البحث فيما إذا أمكن رجوع المخصص إلى الجميع، أما مع وجود قرينة تعيّن رجوعه إلى أحد المحتملات فلا خلاف في ذلك، ولا مجرى للبحث، وفي المقام قرينة موجودة، وهي أن السؤال يتوقف على القدرة على النُّطق دون الفعل، فيكون الشرط (إن كَانُوا يَنْطِقُونَ إِنّما هو شرط وقيد للسؤال، لأنه بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع لا بد أن يكون له ، وذلك لأنّ النُّطق يناسبه أن يكون شرطًا للسؤال لا للفعل إذْ لا ارتباط ولا مناسبة بين النُّطق والفعل.
وأجيب بجواب آخر، حاصله :
أنّ الكلام المشتمل على الخبر، تارةً يكون عن جد وأخرى لا يكون كذلك، فقد يكون مضمون الكلام مقصودًا للمتكلم حقيقةً، وقد لا يكون، فإذا لم يكن مقصودًا له، ووجدت قرائن على ذلك، فلا يلزم من ذلك
------------------------
بيان الوجه في رجوع الشّرط إلى السؤال دون الفعل
جواب آخر عن الشبهة
ص: 217
الكذب، وفي المقام إنّ إبراهيم علیه السلام وقومه عبدة الأصنام يعلمون أنها لا يمكن أن يصدر منها النّطق ولا الفعل والكلام أسهل من الفعل، فإذا كانت الأصنام عاجزة عن الكلام، فهم عن فعل الكسر أعجز، وهنا في المقام قرينة على أن إبراهيم علیه السلام لم يكن قاصدا نسبة الفعل إلى الكبير عن جد، وإذا لم تكن النسبة مرادةً عن جد فلا يلزم من قوله الكذب.
وهذا الأمر قد بيّن في علم الأصول في بحثي العام والخاص، والمطلق والمقيد، بأنّه للمتكلّم إرادتان إرادة استعماليّة وإرادة جدية، فإن قال المولى: أكرم كلّ عالم، ثم قال: لا تكرم زيدًا العالم، فمشهور المتأخرين قد ذهب إلى أنّ العموم في قول المولى اكرم كل عالم، مراد بالإرادة الاستعماليّة، وقوله لا تكرم زيدًا العالم كشف عن أن الإرادة الجدية لم تكن منصبةً على العموم، وإلا لو كان المولى في كلا كلاميه الأول والثاني_ في مقام بيان المراد جدًّا له لحصل تناقض في كلامه، وببركة التفريق بين الإرادة الاستعماليّة والإرادة الجديّة ارتفع التناقض أو المجاز الذي كان يبني عليه المتقدمون من علماء الأصول.
فإبراهيم علیه السلام لم يكن في مقام بيان مراده الجدّيّ عند قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا).
وفي هذا الجواب نظر، لأنه معتمد على تقسيم الإرادة إلى إرادتين جديّة ،واستعماليّة، وهذا التقسيم غير صحيح كما بينا ذلك في من بحوثنا في علم الأصول.
------------------------
النظر في هذا الجواب
ص: 218
وحاصل النظر في هذا التقسيم باختصار هو أنه: إن كان المراد من الإرادة الاستعماليّة مجرّدَ إرادة إنشاء اللّفظ فهو ليس استعمالاً، وذلك لأن مجرد إنشاء اللّفظ ليس استعمالاً كما هو واضحٌ.
وإن كان المراد منها إرادة جعل اللفظ وجودًا تنزيليًّا للمعنى، أو علامةً على المعنى على اختلاف المباني في حقيقة الاستعمال - فهذا لا يخلو عن إرادة جديّةٍ في جعل اللفظ وجودًا تنزيليًّا للمعنى أو علامةً عليه، فلا يصلح أن يكون قسيما للإرادة الجديّة، فإذا كان هذا التقسيم باطلاً فقد بطل هذا الجواب المبتني عليه وبطلان أصل التقسيم موكول إلى المباحث الأصولية.
ثمّ إنّه سواء أكانت حقيقة الكذب إيقاع المخاطب في مخالفة الواقع كما نبني عليه_ أو أنها مخالفة مضمون القضية للواقع _كما عليه المشهور _فلا يلزم الكذب من قول إبراهيم علیه السلام .
أما على ما نبني عليه، فلأن إبراهيم علیه السلام لم يكن في مقام إيقاع عبدة الأصنام في اعتقاد أن الكبير قد صدر منه كسرُ الأصنام، لأنّ هذا الأمر لا يعتقدون به، وذلك بسبب علمهم بأنّ الأصنام لا يمكن صدور فعل منها.
وأمّا على مبنى المشهور، فلأن إبراهيم علیه السلام لم يكن في مقام الإخبار عن صدور الكسر من كبير الأصنام، بل كان في مقام الاستهزاء، أو في مقام أخذ الإقرار منهم أو غير ذلك.
فقد قال إبراهيم علیه السلام لهذا القول، إما على سبيل الاستهزاء بعبدة الأصنام، فيكون مثل من يقول لصاحبه_ وهو أمّي يعلم أنه غير قادر على الكتابة_: أنت كتبت هذا على سبيل الاستهزاء، أو يكون قوله علیه السلام لأخذ الإقرار منهم
------------------------
الجواب الصحيح على الشبهة
ص: 219
على أن معبودهم عاجز غير قادر على أبسط الأشياء، وهو النُّطق، وما يكون كذلك لا يستحق العبادة.
،وعليه، لم يكن إبراهيم علیه السلام في مقام الإخبار ليوصف قوله بالصدق أو الكذب، بل كان في مقام الاستهزاء أو أخذ الإقرار منهم، فإن الجملة قد تأتي بصيغة الخبر ولا يُراد بها الإخبار حقيقةً .
وبذلك يتضح أنّه لا يصح وصف كلام إبراهيم علیه السلام بالكذب سواء على مبنى المشهور من حقيقة الكذب أم على ما نبني عليه.
هذا وما نراه الجواب الصحيح في المقام، هو أن إبراهيم علیه السلام كان في مقام الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام من خلال كلامه، ولم يكن في مقام الاستهزاء أو أخذ الإقرار منهم.
ووجه الاستدلال أنه لو كانت الأصنام مستحقةً للعبادة لكانت قادرةً على الكلام ،والنّطق، فإن لم تكن قادرةً على ذلك فهي عن الفعل أعجز، سواء أكان فعلها كسر الأصنام أم استجابة دعاء من يدعوها، أم غير ذلك من الأمور، فهي إذن لا تستحق العبادة لعجزها، فأراد إبراهيم علیه السلام أن ينفي استحقاقها للعبادة من خلال نفي لازم من لوازم المعبود ، وهو أن يكون قادرًا، فالعاجز عن الفعل وعن دفع الضرر عن نفسه لا يستحق العبادة.
فنسبة الكسر إلى كبير الأصنام نسبةً صورية يُراد بها التمهيد لبيان المُراد من بطلان عبادة الأصنام، وهذا نظير الكنايات والمجازات والأمثال التي تُضرب لإثبات قضايا أخرى، فإن قول القائل: زيد كثير الرماد، أو مهزول الفصيل، كلام خبري لا يُراد به إثبات أن يكون في بيت زيد رماد كثير أو
ص: 220
أن يكون عنده فصيل مهزول، بل يُراد من ذلك بيان كرم زيد، فصدق وكذب هذه القضيّة لا يتوقف على وجود الرّماد والفصيل وعدمهما عند زيد، بل صدقها وكذبها متوقف على كونه كريمًا واقعا أم لا، فإنّ هذا الكلام إنّما أبرز فيه اللازم لأجل بيان وجود الملزوم، فقول القائل: زيد كثير الرّماد أو مهزولُ الفصيل، بيان للازم الكرم ، لأن من يكون كريمًا يكثر ضيوفه، ومَن يكثر ضيوفه يكثر طبخه للطعام ، ومَن يكثر طبخه للطعام يكثر الرماد عنده، فصدق هذه القضيّة متوقف على كون زيدٍ متصفا بالكرم وإن لم يكن عنده رماد كثير أو فصيل مهزول.
وهكذا قول نبي الله إبراهيم علیه السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا)، فَإِنَّه كلامٌ أريد به بيان انتفاء اللازم الذي لا بد من تحققه ليستحق الشيء أن يكون معبودا، وهو القدرة، فأبرز مراده هذا وهو الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام بصورة الإخبار، فنسب الكسر إلى الكبير نسبةً صورية غير حقيقية، فصدق وكذب إبراهيم علیه السلام لا يكون موقوفًا على صدق نسبة الكسر إلى الكبير أو عدم صدق النسبة، بل هو موقوف على صدق ملزوم كلامه الذي يرجع إليه مراده، وهو أن العاجز لا يكون معبودًا.
وزبدة القول: أنه بناءً على ما نبني عليه من حقيقة الكذب، وأنه محاولة إيقاع المخاطَب في خلاف الواقع، فخليل الرحمن إبراهيم علیه السلام لم يكن في هذا المقام كما تقدم، وبناء على كون حقيقة الكذب هي مخالفة مضمون القضيّة للواقع كما عليه المشهور يكون الجواب أن اتصاف الخبر بأنه مخالف للواقع إنّما يكون فيما إذا لم يكن الكلام مسوقا لإثبات نظرية من النظريات ودعوى من الدعاوي، فإن كان مسوقا لذلك، فصدق الكلام
ص: 221
وكذبه منوطان بصدق تلك الدعوى وكذبها، فإن كانت تلك الدّعوى صادقةً، فالكلام صادق، وإن كانت تلك الدعوى كاذبةً فالكلام كاذب.
وكلام إبراهيم علیه السلام كان في سياق بيان نظريّة التوحيد، وأن عبادة غير الله عزوجل كفر وشرك، ولا شك بصدق هذه الدعوى.
وعليه، لم يكن إبراهيم علیه السلام في قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذا)في مقام الإخبار عن الواقع حتى يصح أن يتصف بالصدق أو الكذب من هذه الجهة، بل هذا الكلام صدر منه مقدمةً وتوطئةً لمقصوده المراد من نفي استحقاق العاجز للعبادة، فيكون هذا القول من قبيل الكنايات والمجازات الموجودة في الحكم والمواعظ والقصص التي تنشأ على أساس تمثيل الحكمة بلسان بعض الموجودات التي يتبين صدقها وكذبها من خلال الغرض الذي سيقت لأجله.
فالنتيجة: أنه يوجد في الآية قرينة على أن إبراهيم علیه السلام ليس مراده هو المدلول اللغوي لقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا)، لأن قوم إبراهيم علیه السلام يعلمون أنّ كبير الأصنام لا يصدر منه فعل، وأنه من الجمادات العاجزة عن الأمر، وعليه يكون مراد إبراهيم علیه السلام لازم المدلول اللغوي للقضية، وهو العاجز غير مستحق للعبادة، فقول إبراهيم علیه السلام الله مسوق لبيان نظرية التوحيد، وقد بينها علیه السلام بإظهار عجز الأصنام، ويمكن استفادة تمكنه عليه السلام من انتزاع الإقرار من عبدة الأصنام بأنّها عاجزة ولذلك وبخهم على عبادتهم لها من قوله تعالى: ( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ
ص: 222
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أَفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُون)(1).
المورد الرابع: قوله تعالى حكايةً عن خليل الرحمن إبراهيم علیه السلام : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فقال إِنِّي سَقِيم فتولَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تقرير الشبهة تَأكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ )(2).
وقد تمسك من ذهب إلى عدم عصمة الأنبياء بهذه الآيات من جهتين
الأولى: في قوله تعالى: (فنظر نظرةً في النجوم والنظر في النجوم فعلُ المنجم وهو حرام.
الثانية: في قوله: (إِنِّي سَقِيم، وهو كذب، لأنه لم يكن سقيما، بل قال ذلك للخلاص من دعوة الكفّار للخروج معهم. أجاب السيد المرتضى مله بعدة وجوه من هذه الوجوه بأن قوله تعالى: فَنَظَرَ نظرةً فِي النُّجُوم، معناه أنه شخص ببصره إلى السماء كما يفعل المفكّر المتأمّل، فإنّ عادة المتأمّل إمّا أن ينظر إلى الأرض أو ينظر إلى السماء أثناء تأمّله، لأن ذلك مُعِين له في الوصول إلى حقيقة ما يتأمل فيه (3).
------------------------
تقرير الشبهة
جواب علم الهدى رحمة الله علیه
ص: 223
هذا الجواب نظر، وذلك لأنّ كلمة (نظر) إذا تعدت إلى المفعول بواسطة حرف الجرّ (إلى) فمعناها الرؤية والإبصار، وإذا تعدت بواسطة حرف الجر (في) فمعناها التأمل والتفكر، فقول القائل (نظرت إلى وجه فلان معناه رأيته، وأما قوله نظرت في وجه فلان) فمعناه تأملت فيه.
وفي مقامنا تعدى الفعل في الآية بواسطة حرف الجر (في) (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُوم) ممّا يعني أنّ المراد بالنّظر هو التأمّل وليس الرّؤية.
وأجاب الفاضل المقداد السيوري له في اللوامع بجواب آخر حيث قال:
(والجواب: أن النظر فيها ليس بحرام مطلقًا، بل اعتقادًا لتأثيرها، وأمّا الاستدلال بها على الصانع فلا، بل ذلك من أعظم الطاعات...)(1)، انتهى كلامه رفع مقامُه.
وحاصل ما أفاده رحمة الله علیه : أن النظر في علم النجوم ليس بحرام مطلقًا، وإنّما الحرام منه هو النظر إلى النجوم باعتقاد أنها مؤثرة بدون الله أو مع الله، فالاعتقاد بأنّ الكواكب والنجوم مؤثرة استقلالاً بدون الله عزوجل، أو أنها مؤثرة مع الله عزوجل، أو أنها مؤثرة بالتفويض إليها كفر، ولا خصوصية للنجوم والكواكب في المقام، فلو اعتقد بأنّ الدّواء مؤثر للشفاء استقلالاً بدون الله أو الله فإنّ ذلك كفر أيضًا لاتحاد المناط، وأمّا بدون هذا الاعتقاد فليس بحرام.
------------------------
النظر في جواب المرتضى رحمة الله علیه
جواب الفاضل المقداد قدس سره
ص: 224
وأمّا إذا كان النظر في النّجوم للاستدلال والتعرف من صنعه تعالى عليه فهو من هذه الجهة طاعة لقوله تعالى:( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض ) (1).
وليس في الآية ما يدل على أنّ نظر إبراهيم علیه السلام الله كان على النحو الأول، فحملُ المعترض الذي يزعم صدور الذنب من إبراهيم علیه السلام نظر إبراهيم علیه السلام في الآية على أنه نظر باعتقاد أن النّجوم والكواكب مؤثرة _ حمل بلا دليل ولا قرينة،
هذا حاصل ما أجاب به الفاضل المقداد له، وهو متين جدا.
وما نراه الأرجح في الجواب، هو أن نظر إبراهيم علیه السلام في النجوم كان نظر تأمّل، لأنها علامة على موعد قد حدده الله الله، وهذا الموعد هو ذهابه لتكسير الأصنام، وما كان ليذهب إلا بأمر منه وموعد قد حدده له، نظير ما جاء في حق النبي الخاتم صلی الله علیه و آله : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا (2)، فإنه له كان قد وعد بالتحويل عن بيت المقدس، وكان يفعل ذلك انتظارًا وتوقعًا لما وُعِدَ به، وهذا النّحو من النظر ليس من التنجيم، لأن مَن ينظر في الشّمس مثلاً ليعلم دخول وقت الزوال ليس نظره نظر تنجيم، فإن المنجم ينظر في حركات الكواكب ليستطلع أمورًا تحدث فيخبر عنها ناسبًا سبب حدوثها إلى تأثير الكواكب.
بيان ذلك: أن معرفة حصول الموعد المحدد لا يحصل بدون نظر وتأمل.
------------------------
الراجح في الجواب عن الشبهة
ص: 225
مثلاً: مَن يريد معرفة دخول وقت الزوال، فإنّ هذا الأمر لا يحصل بواسطة محض الرؤية وانطباع جرم الشمس بالعين، فإن هذا غرض من يريد رؤية الشمس، وأما من يريد معرفة دخول وقت الصلاة، فنظره مستبطن لاستدلال، فإنّه بعد رؤية جرم الشَّمس وانطباعه في العين ينظر هل أن الشَّمس انتقلت من دائرة نصف النّهار، أم لا، فإذا علم بانتقالها من دائرة نصف النّهار، ينتقل ذهنه إلى أن وقت الزوال قد دخل للملازمة بين انتقالها من دائرة نصف النهار ودخول وقت الزوال، فإنّه وإن كانت عملية التأمّل هذه تحصل عند العقل بأجزاء من الثانية، إلاّ أنّها تفكر وتأمل، وليست محض رؤية.
وينبغي التنبه إلى أن تقلب وجه خاتم النبيين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ونظره إلى السماء لم يكن نظر طالب للوحي كما ذكر ذلك بعض العلماء، وذلك لأن نزول الوحي الخاتم صلی الله علیه و آله ليس ليس معناه النزول من مكان عال إلى مكان سافل على نحو النزول الحسّي، فليس المراد بنزول الوحي كجبرائيل عليه السلام، أو نزول القرآن في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ القَدرِ (1) الحركة الأينيّة الحسيّةَ من مكان عال إلى مكان سافل، بل النزول يصدق على كلّ ما يصل من الأعلى إلى ما هو دونه، سواء أكان التفاوت في الشأن أم في مقولة الأين، فالله أعلى من كلّ شي. ء، وبعض ما يصل منه سبحانه و تعالی إلى أنبيائه علیهم السلام عبّر عنه بالنزول لا لأنّ الله مكان عال، بل لعلو مرتبته.
------------------------
نكتة في بيان أن نزول الوحي على قلب النبي الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ليس نزوﻻ ً حسًّيا
ص: 226
وبتعبير آخر إن نزول الوحي منه تعالى لو كان نزولاً حِيًّا أينيًا لاقتضى ذلك أن يكون هناك بعد مكاني بين الله عزوجل ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، ووصول الوحي منه تعالى متوقف على قطع المسافة الفاصلة بين الله ورسوله، وهذا يقتضي وجودَ الله في مكان أعلى، والالتزام بذلك باطل، فالله و منزه عن المكان والجهة لاقتضاء المكان والجهة محدوديته وإمكانه جلّ وعلا عن ذلك علوا كبيرًا.
فالصحيح أن نزول الوحي والقرآن على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ معناه ارتفاع الحواجب الناشئة عن إمكان الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووجوب وجود الله عزوجل، والمناسبة اللُّغوية للتعبير بهذا اللفظ هو الارتفاع المعنوي الله عزوجل على خلقه، فوصِف الوحي والقرآن بالنزول لهذه النّكتة والتعبير بمثل هذه الألفاظ إنّما هو من التعبيرات الكنائية التي لا يُراد بها معانيها الحقيقية.
لا يقال: إن هذا يتم فيما لو كان الوحي من الله جل وعلا مباشرة للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ دون توسط جبرائيل علیه السلام، أما لو كان الوحي بواسطة جبرائيل المتواجد في السماء والنازل إلى الأرض فلا محذور في ذلك، فإن الله يوحي الى جبرائيل القرآن وهو ينزل به إلى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وكون النزول حينئذٍ حسيًّا لا مشكلة فيه. فإنّ النازل من عنده تعالى بواسطة ملائكته يلزم منه أن تكون الملائكة في مكانٍ أعلى وليس الله، والالتزام بوجود الملائكة في مكانٍ عالٍ کالسماوات وتنزل منه نزولاً حسّيًّا لا محذور فيه، فالملائكة تأخذ الله عن بإيحاء إليها، وإلقاء في قلوبها وهي تُنزل ما ألقي إليها من الله إلى الأنبياء الله بواسطة قطعها للمسافة الفاصلة بينها وبين الأنبياء ، فنزول الوحي منه تعالى بواسطة ملائكته يلزم منه وجود الملائكة في مكانٍ عال، لا وجود الباري في مكان عال، ولا ملازمة بين الأمرين؟
ص: 227
لأنا نقول: إن وجود جبرائيل في مكان مرتفع لتلقي الوحي ثم نزوله إلى الأرض لإيصاله إلى النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يقتضي عدم إمكان الوحي من الله سبحانه إلا لمن هو في مكان مرتفع، فيعود المحذور الذي أشرنا إليه، ولا نعني بكلامنا المتقدم أن الملائكة أنّ الملائكة مجردة عن المكان والزمان.
فالحاصل:أنّ الله عزوجل قد جعل النجوم سُبلاً وعلامات للهداية، قال تعالى:( وَعَلَامَاتِ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (1)، وهذا هو الأنسب بحال أنبياء الله عالي ، أن يكون نظرهم في النجوم نظر اهتداء بها، لأن الله قد جعلها علامات وسبلاً للهداية، وليست الهداية في الآية مختصةً بمثل اهتداء السفن في جريها، أو الاهتداء إلى الجهات من الشرق والغرب والشمال والجنوب وما أشبه ذلك، بل بكل ما تصلح النّجوم في أن يكون لها مدخليّة للاهتداء إليه، وذلك لأن الأنبياء مأمورون في حياتهم الدنيوية بالالتزام في حركاتهم وسكناتهم حسب اقتضاء الماديات والجسمانيات وإن كانوا متمكنين من الاستغناء عنها بقوتهم الإعجازية، إلا أنهم لا يستخدمونها إلا حيث يأمرهم الله سبحانه وتعالى.
وأما قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم علیه السلام (فَقَالَ إِنِّي سَقِيم) (2)، فعلى مَن أن هذا الكلام كذبٌ مخالف للواقع أن يبين الدليل على أن إبراهيم علیه السلام لم يكن في ذلك الوقت مريضا، فإنّه لم يقم دليلاً على مدعاه، وهو أن إبراهيم علیه السلام لم يكن سقيما في ذلك الوقت.
ص: 228
وبعبارة أخرى: إن الكذب هو مخالفةً مضمون القضية للواقع، فوصف قول إبراهيم علیه السلام بأنه كذب فرع العلم بمخالفة القضيّة للواقع، فعلى مَن يدعي أنّه كذب أن يُقيم الدليل على مخالفة كلام إبراهيم علیه السلام للواقع، فهذه الشّبهة بالحقيقة دعوى خالية عن الدليل، ومعه نكون بغنى عن ذكر التخريجات والتأويلات التي ذكرت في هذه الآية، لأن الشبهة غير تامة من أصلها.
ومع التنزل عن ذلك يُمكن أن يُقال: أن إبراهيم علیه السلام أراد بقوله: (إني سَقِيمٌ)، لازم المرض، وهو الاضطرار والإعاقة عن الحركة، فإنّه لمّا كان مأمورًا من الله لن بالذهاب لتكسير الأصنام، فإن أمر الله مقيد له عن تلبية دعوتهم إلى الخروج معهم، فعبّر عن هذا الأمر بالمرض وأراد لازمه، وهو التقيد بأمر الله.
المورد الخامس: قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1)
إن عدول إبراهيم علیه السلام عالي عن جواب الذي حاجه عند قوله: (أنا أحْيِي وَأُمِيتُ )، إلى حجّةٍ ودليل آخر وهو قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)، دليل انقطاعه (2) وعجزه عن نصرة دليله
------------------------
تقرير الشبهة
ص: 229
الأوّل، وأيضًا كان من الواجب عليه أن يدفع تلك الشبهة ويزيلها، والإعراض عن ذلك ذنب عظيمٌ.
وبعبارة أخرى: إن إبراهيم علیه السلام قد أتى بدليل في أول كلامه، وهو قوله: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، فعندما أجابه الذي حاجه وقال:(أنا أحيي وَأُمِيتُ )، لم يردّ عليه ولم يُجِبه، بل عدل مباشرةً إلى دليل آخر، وهذا دليلُ انقطاعه وعجزه عن نصرة دليله الأوّل، وإلا فلو كان قادرًا على جوابه لما عدل إلى جواب آخر، فإن المحتج لا ينتقل إلى جواب آخر إلا إذا كان عنده قصور عن نصرة كلامه الأوّل، ثمّ إن عدوله إلى دليل آخر دون إزالة الشّبهة التي ادعاها الكافر ذنبٌ.
أجاب علم الهدى المرتضى رحمة الله علیه عن هذه الشبهة بما حاصله:
المرتضى ورس أن ما صدر من إبراهيم علیه السلام السلالة ليس انقطاعًا وعجزاً عن نصرة دليله الأوّل، بل كان قادرًا على جواب الجبّار الكافر.
بيان ذلك:
قيل: إن هذا الجبّار الكافر قد جاء برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، ثمّ قال عند ذلك: أنا أحيي ،وأميت وموه على من كان حاضرا في المجلس بذلك، وإبراهيم علیه السلام كان قادرًا أن يجيبه بأني أردت بقولي:( ربي الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، أنه يُحيي الذي لا حياة فيه، وليس مرادي استبقاء الحي، ولكن إبراهيم علیه السلام لم يفعل ذلك كيلا يلتبس الأمر على الحاضرين وتقوى شبهة الكافر، ويطول الأخذ والردّ بسبب الاشتراك اللفظي بين (أحيى) الذي هو استبقاء الحي، و(أحيى) الذي هو إحياء من لا حياة فيه، فإنه لو قال له
------------------------
جواب علم الهدى المرتضى رحمة الله علیه
ص: 230
إبراهيم علیه السلام : إن ترك الحي واستبقاءه ليس إحياءً، لأمكن للكافر أن يدعي فيقول: بل هو إحياء، وهكذا فيكثر الأخذ والردّ، ويظن الحضور ضعف الحجة عند نبي الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فإن الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ إنما بعثوا للبيان والإيضاح، وليست أمورهم مبنيّةً على لجاج الخصمين، وطلب كلّ واحدٍ منهما غلبة خصمه، فلذلك عدل مباشرةً إلى ما هو أوضح وأجلى وأبعد عن الشبهة، فقال:(فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)، فبهت الذي كفر، وسكت ولم يبقَ عنده كلام يورده ليوهم الحضور.
وقد روى علي ابن إبراهيم علیه السلام القمي رضی الله عنه في تفسيره: (إنه لما ألقى نمرود إبراهيم علیه السلام في النار، وجعلها الله عليه بردًا وسلامًا ، قال :نمرود يا إبراهيم علیه السلام من ربُّك؟ قال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، قال له نمرود: (أنا أحْيِي وأميتُ)، فقال له إبراهيم علیه السلام : كيف تحيي وتميت؟ قال: أعمد إلى رجلين ممن قد وجب عليهما القتل فأطلق عن واحد وأقتل واحدا، فأكون قد أحيت وأمت.
قال إبراهيم علیه السلام : إن كنت صادقًا فأحي الذي قتلته، ثم قال: دع هذا، فإنّ ربي يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فكان كما قال الله عزوجل: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ )، أي انقطع ، وذلك أنه علم أن الشمس أقدم منه) (1).
المورد السادس : قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
ص: 231
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لَأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ اللَّهِ تَبَرَّاً مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهُ حَلِيمٌ) (1).
إن إبراهيم علیه السلام قد استغفر لأبيه، وأبوه كان مشركا، والاستغفار لكافر غير جائز، فثبت من ذلك أن إبراهيم علیه السلام فعل ما لا يجوز فعله.
أما استغفاره لأبيه فدليله قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم علیه السلام: (وَاغْفِر لأبي إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)، وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ)، وقوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم علیه السلام : (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي).
وأمّا أن أباه كان مشركا فقد نص القرآن الكريم على ذلك في عدة آيات، وأما أن الاستغفار للمشرك لا يجوز فلقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)، فثبت من ذلك صدور ذنب من نبي الله إبراهيم علیه السلام.
أجاب عن ذلك الفاضل المقداد قدس سره بجواب حاصله :
أنه لا يلزم من تحريم الاستغفار للمشركين في شريعتنا أن تكون محرّمة المقداد ورعن في شريعة إبراهيم علیه السلام الله، والآية التي تمنع من الاستغفار مختصة بشريعة خاتم الشبهة الأنبياء لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ )، أي النبي الخاتم صلی الله علیه و آله، وذلك لأن اللام في الآية إمّا للعهد الحضوري أو الذكري، وعليه فالحكم مختص بالشريعة الخاتمة، ولعلّ هذا الحكم لم يكن في الشّرائع السابقة، فإن اختلاف أحكام
------------------------
تقرير الشّبهة
جواب الفاضل المقدادقدس سره عن الشبهة
ص: 232
الشّرائع أمرٌ لا ريب فيه، ومن المحتمل أن يكون الاستغفار للمشركين من الجزئيات المختلف فيها بين الشّرائع.
وفي جوابه نظر من جهتين:
الجهة الأولى: أنه لو كان هذا الأمر جائزاً في الشرائع السابقة ومنها شريعة إبراهيم علیه السلام لما ذكر الله عزوجل عذر إبراهيم علیه السلام في دعائه لأبيه المشرك.
وبعبارة أخرى: لو أن الاستغفار كان جائزاً لإبراهيم علیه السلام لما احتيج لبيان السبب في وجه استغفار إبراهيم علیه السلام لأبيه وبيان عذره في ذلك، فنفس ذكر سبب استغفار إبراهيم علیه السلام كاشف عن أن هذا الحكم ليس من الشّريعة الخاتمة ويدل على أنه لم يكن سائعًا في شريعة خليل الرحمن. وبتعبير آخر: لما قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) على ذلك: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ اللهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ )فإنّه بعد أن بين تعالى أنه ليس من دين الله أن يستغفر النبي للمشرك جاء في نفس السّياق عطفا على هذا الحكم تعليل لحسن استغفار إبراهيم علیه السلام لأبيه، وهذا بظاهره يفيد أن هذا الحكم مشترك بين شريعة إبراهيم علیه السلام وشريعة النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ .
الجهة الثانية: أنّه لا تحمل اللام على العهد إلا بواسطة القرينة، فإنه رواية تفسير مقتضى الأصل الأوّلي إمّا أن تُحمل اللام على الجنس أو على التزيين؛ بناء القمّي المفيدة على ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمة الله علیه من أن خصوصيّاتها تُستفاد من القرائن
------------------------
رواية تفسير القمي المفيدة في دفع الشهبة
ص: 233
فحمل اللام على العهد الذكري أو الحضوري يفتقر إلى قرينة، ولا توجد في الآية قرينة على أن اللام للعهد.
جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي علیه السلام : ما يفيد في الجواب عن هذه الشبهة، قال:
(وقوله : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ)، قال إبراهيم علیه السلام لأبيه إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك، فلما لم يدع الأصنام تبرأ
منه إبراهيم علیه السلام (1) انتهى .
وفيه:أنّ هذا الكلام لم يثبت كونه ،رواية بل لعله من كلام علي بن إبراهيم رحمة الله علیه ، وعلى تقدير أنه خبر، فحينئذٍ يُردّ علمه إلى أهله، وذلك للمعارضة بينه وبين نص القرآن، فإنّ الاستغفار قد وقع من إبراهيم علیه السلام الله، قال تعالى حكايةً عن إبراهيم علیه السلام : (وَاغْفِرْ لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ )(2)، وما جاء في كلام القميه أن إبراهيم علیه السلام له قد علّق استغفاره لأبيه على إيمانه بالله وعدم عبادته الأصنام، فلما لم يترك الأصنام تبرأ منه إبراهيم علیه السلام ، مما هو ظاهر في عدم دعاء إبراهيم علیه السلام لأبيه، وهذا مخالف لما نص عليه القرآن فيُردّ علم هذا الكلام إلى أهله.
وأجاب الشيخ الطبرسي عن الشبهة بما حاصله:
أن في قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ)، قد وقع اختلاف في صاحب وفاعل الوعد، فقيل: إن صاحب الوعد
------------------------
التعليق على الرواية
جواب الشيخ الطبرسي قدس سره
ص: 234
هو أبو إبراهيم علیه السلام، فقد وعد إبراهيم علیه السلام بالإيمان إن استغفر له، فلما تبين له أنه عدو الله وما وفي بوعده تبرأ إبراهيم علیه السلام السلام منه فداعى الاستغفار من إبراهيم علیه السلام هو وعد أبيه له بأنّه يؤمن إن استغفر له.
وقيل: إن صاحب الوعد إبراهيم علیه السلام، ولكنه كان يستغفر له مقيّدا الاستغفار بالإيمان، وهذا الوجه من الاستغفار صحيح جائز، لأنه مقيد بقيد الإيمان، ولأجل الوعد وجب عليه الوفاء، ولمّا آيس من إيمانه تبرأ منه ويقوّي كون صاحب الوعد إبراهيم علیه السلام له قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ:(لأستغفر لك) ، هذا حاصل كلام الطبرسي رحمة الله علیه.
وفيه أنّه لا يكفي لردّ الشبهة؛ فإن الآية الناهية عن الاستغفار للمشرك تعمّ قسمي الاستغفار المطلق والمقيّد.
والجواب الأصوب عن هذه الشبهة من جهتين:
الجهة الأولى بالجواب نقضاً:
وهو أن الله قد مدح خليله إبراهيم علیه السلام في الآية نفسها عند قوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ، ولا معنى لأن يمدح الله نبيه في مورد، والحال أنه قد أذنب فيه، فهذا يكشف لكلّ عاقل متأمّل أنّ الآيات لا تتحدث عن ذنب قد صدر من إبراهيم علیه السلام ، وإلا لما كان من الحكمة أن يمدحه الله وعمل في الآية نفسها.
الجهة الثانية بالجواب حلاًّ:
وهو أن صاحب الوعد هو الأب، فإنّه قد وعد إبراهيم علیه السلام بالإيمان، ولما أظهر إيمانه استغفر له إبراهيم علیه السلام عما كان قد اقترفه من الذنوب، وقرينة
------------------------
التعليق على جواب الطبرسي قدس سره
الجواب عن الشبهة
ص: 235
ذلك قوله تعالى: (وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالين)،(1) فظاهر الآية أن إبراهيم علیه السلام علي حال استغفاره كان يعتقد بعدم ضلال أبيه، وأن فترة الضلال كانت في الزمان السابق على الاستغفار، فيكون منشأ استغفار إبراهيم علیه السلام لأبيه إنّما هو إظهاره للإيمان، ولما تبيّن له حقيقة حاله، وأنه ما زال كافرًا تبرأ منه.
ويؤيد ما قلناه مرسلة ابن أبي البلاد عن بعض أصحابه قال: قال أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (ما يقول النّاس في قول الله: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لَأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ)؟ قلت: يقولون: إن إبراهيم علیه السلام وعد أباه ليستغفر له، قال: ليس هو هكذا، إن إبراهيم علیه السلام وعده أن يسلم فاستغفر له، ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّاً مِنْهُ )(2))(3)
المورد السّابع : ممّا يُتوهّم منه عدم عصمة نبي الله إبراهيم علیه السلام :
قوله تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةٌ لَكَ وَأَرنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (4).
وقوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (5).
ص: 236
مفاد الشبهة: أن دعاء إبراهيم علیه السلام وإسماعيل عَلَيْهِم السَّلاَمُ الله عزوجل أن يكونا مسلمَين دالًّ على عدم إسلامهما، وإلا لكان من طلب تحصيل الحاصل وهو ممتنع، كما أن أمره تعالى لإبراهيم علیه السلام بالإسلام معناه أنه لم يكن مسلمًا، وإلا لكان أمره به لغًوا لكونه من طلب تحصيل الحاصل، وهذا يدل على عدم كون إبراهيم علیه السلام مسلمًا.
أجيب عن هذه الشبهة: بأن هذا الأمر قد كان قبل نبوة إبراهيم علیه السلام استدعاه به إلى الإسلام، فأسلم حينئذ لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات.
وهذا الجواب في غاية الفساد لوجهين:
الوجه الأوّل: ما مرّ سابقًا وبيّناه مرارًا من أن عصمة الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ غير منوطة بنبوتهم، بل هم معصومون قبل الصدوع بالرسالة ونزول الوحي عليهم، وعليه لا يصح خلو الأنبياء الالم الاعتقادات الحقة
عن من الإيمان
بالله وتوحيده وغير ذلك قبل النبوة.
الوجه الثاني: أن خطاب الله إياه كما جاء في الآية: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (1)، إيحاء من الله إليه، لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيَا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )(2)، فقولُ الله عزوجل لإبراهيم علیه السلام: (أَسْلِم) هو وحي من الله له، ولا يصح أن يوحي الله تعالى إليه قبل إسلامه، لأن الوحي
------------------------
تقرير الشّبهة
ما أجيب به عن هذه الشبهة
النظر في الجواب
ص: 237
حال إعظام وإجلال لا يكون لمن كان خاليًا عن الإسلام غير معتقدٍ بالله وغير موحّدٍ له.
ثم إن وحي الله إليه مع كونه نبيًّا من الأنبياء؛ يقتضي أن يكون معتقدًا بالله سبحانه، اعتقادًا وجدانيا حسّيًا، ومقتضى أمره بالإسلام أن يكون غير معتقد بالله وغير موحد له، وهذا جمع بين النبوة والكفر، وهو مقطوع البطلان، وقد أجمع عليه المسلمون إلا شرذمة من الخوارج جوزوا الكفر على الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ ، فلا بد أن يكون الإسلام المأمور به إبراهيم علیه السلام ليس هو الاعتقاد بالله والانقياد لأمره بالخضوع والإقرار بجميع ما أوجب كما توهم ذلك أصحاب الشّبهة، وذلك لأن إسلام الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ بهذا المعنى أمر مفروغ عنه، بل المراد بالإسلام في الآية معنى آخر يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ولشيخ الطائفة الطوسي قدس سره جواب عن هذه الشبهة ذكرها في التبيان قائلاً: (وإنما سألا الله تعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى: أن يفعل لهما الطوسي قدير من الألطاف ما يتمسكان معه بالإسلام في مستقبل عمرهما، لأن الإسلام كان حاصلاً في وقت دعائهما) (1).
ووافقه على ذلك أمين الإسلام الطبرسي هل بقوله: (ومعنى ( أسلم) استقم على الإسلام، واثبت على التوحيد)(2).
وحاصل مراد الأعلام رضوان الله عليهم أن أمر الله لإبراهيم علیه السلام في قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ)، إنّما هو أمر بالثبات والاستمرار على
------------------------
جواب الشيخ الطوسي قدس سره
ص: 238
الإسلام، وأن دعاء إبراهيم علیه السلام وإسماعيل عَلَيْهِم السَّلاَمُ الله عزوجل بجعلهما مسلمين في قوله تعالى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، يُراد به أن يوفقهما الله إلى التمسك والثبات على الإسلام والاستمرار عليه فيما سيأتي من عمرهما بواسطة ألطافه و توفيقاته جل وعلا شأنه.
وفي هذا الجواب نظر، وهو أنّ ظاهر الأمر إحداث الفعل لا الثبات والاستمرار عليه.
بيان ذلك:
أن مادة الكلمة، وهي الحروف السيالة الموجودة في جميع تصريفات و مشتقات الكلمة تدلّ على معنى، وعندما تطرأ عليها صيغة وهيأة كهيأة الأمر فإنّها تدلّ على طلب إحداث مفاد المادة من المخاطب وليس الاستمرار، فمثل (أطعم) معناه إحداث الإطعام وإيجاده وليس الاستمرار على الإطعام، فكل مورد اشتمل على هيأة الأمر معناه طلب الإحداث ما لم تقم قرينة صارفة أو معيّنة على خلاف ذلك، بيان داعي العدول من المعنى الحقيقي إلى المجازي؛ فإن مجرد ادّعاء المجازية دون بيان قرينة المجاز وداعي العدول إليه في غير محلّه.
إن قلت: إنّ الظاهر أنّ قرينة عدول كثير من المفسرين إلى المعنى المجازي في المقام عقليّة، وهي استحالة عدم وجدان نبي الله إبراهيم علیه السلام للإسلام؛ ولذلك ذهبوا إلى أن الأمر بالإسلام بمعنى الاستمرار، وليس الإحداث.
------------------------
النظفر في جواب الشيخ الطوسي قدس سره
ص: 239
فالجواب أن نقول:إن المعنى المجازي الذي عدلوا إليه محذور عقلي، أنّ طلب الاستمرار من النبي فيه شائبة إمكان موته على الكفر، وإلاّ لكان طلبه لغوًا، فما فروا منه وقعوا فيه وعليه لا بد من أن يكون في المقام معنى غير ما ذهبوا إليه، لا ترد عليه هذه الإشكالات، مضافًا إلى أنه لا بد في صحة دعوى التجوز من داع عقلائي يستساغ في صياغة الكلام، وأصحاب هذا الرأي لم يبيّنوا لنا ذلك الداعي.
وكيفما كان فإن معنى كلمة (أسلم) وهو طلب إحداث ما تدلّ عليه المادة وهي (السين واللام والميم )وطلب الإحداث غير البقاء والاستمرار.
وأصل الشّبهة ومنشأ الخطأ الذي وقع فيه من أجاب عنها إنما هو في عدم فهم معنى الإسلام الذي أمر به إبراهيم علیه السلام، فإن الإسلام هو التسليم والانقياد والخضوع المطلق لله عزوجل، وليس معناه النطق والإقرار والشهادة بأن (لا إله إلا الله)، فإنّ الإنسان إذا نطق وشهد الله بالألوهية والتوحيد أصبح مصداقًا للمعنى اللغوي للإسلام، وليست الشهادة لله بالألوهية هي معنى الإسلام.
ويؤيّد هذا المعنى ما رواه ثقة الإسلام الكليني رحمة الله علیه في الكافي في باب نسبة الإسلام: (عن عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ بْن خَالِدٍ، عَنْ بَعْضٍ أَصْحَابِنَا رَفَعَهُ، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِين عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لأنسبَنَّ الإِسْلامَ نِسْبَةً لا يَنْسبُه أَحَدٌ قَبْلِي ولا يَنْسبُه أَحَدٌ بَعْدِي إِلا بِمِثْل ذَلِكَ، إِنَّ الإِسْلامَ هُوَ التَّسْلِيمُ والتَّسْلِيمَ هُوَ الْيَقِينُ والْيَقِينَ هُوَ التَّصْدِيقُ والتَّصْدِيقَ هُوَ الإِقْرَارُ... ) (1).
------------------------
الجواب عن الشبهة
ص: 240
والتسليم هو المرتبة العليا من مراتب العبودية لله عزوجل عمل بحيث يصبح العبد راضيًا مسلّما خاضعًا الله في كلّ ما يُطلب منه، وفي كل ما يُبتلى به من أعلى ابتلاءات ومصائب، فهذه المرتبة وهي التسليم المطلق الله التي هي مراتب العبودية هي التي كانت مصبا لطلب الله ل وأمره لخليله الله، فأراد الله منه التحلّي بها والوصول إليها، فامتثل خليل الرحمن عَلَيْهِ السَّلاَمُ هذا الأمر وسلّم لله تسليمًا مطلقًا فيما ابتلي به من الإلقاء في النّار، حتى أنه لمكان تسليمه المطلق الله لم يطلب من جبرائيل الله شيئًا، حينما وصل إليه وهو بين النار والهواء، وسأله:( ألك حاجة يا إبراهيم علیه السلام؟ فقال: أما إليك فلا)، فأراد بذلك أن تجري مشيئة الله و العالم بحاله، فإن أراد الله إنجاءه فهو مسلّم بذلك، وإن أراد أن يحترق فهو مسلّم بذلك أيضًا، فلم يطلب شيئًا من جبرائيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ. تقديمًا لإرادة الله وعل وتسليما مطلقًا له.
روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع: (قال أبو عبد الله عَلَيْهِم السَّلاَمُ: لما ألقي إبراهيم علیه السلام في النار تلقاه جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الهواء وهو يهوي، فقال: يا إبراهيم علیه السلام ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا) (1).
وكذلك في واقعة أخرى نجد نبي الله إبراهيم علیه السلام ، سلم تسليمًا مطلقًا لأمر الله له بذبح ولده إسماعيل الذي رزقه الله إياه على كبر، وكان هذا حاله في جميع وعل أموره منقادًا لأوامر الله عزوجل تمام الانقياد والخضوع الذي لا يشوبه أدنى شك وريب.
ص: 241
وهكذا هو حال الأنبياء والأوصياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فقد رُوي أن الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ لما اشتد به الحال وسقط من على ظهر جواده علی رمضاء كربلاء قبل شهادته، رفع طرفه إلى السماء وقال - وهو آخر ما دعا الله به _ :
(اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت شديد المحال، غني ،الخلائق عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء قريب الرّحمة، صادق الوعد سابق النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت محيط بما خلقت، قابل التوبة لمَن تاب إليك قادر على ما أردت ومدرك ما طلبت، شكور إذا شكرت، ذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجًا، وأرغب إليك فقيرا، وأفزع إليك خائفًا، وأبكي إليك مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا) (1).
وهذا هو التسليم الذي دونه كلّ تسليم، والصبر الذي دونه كلّ صبر، فإنّه عليه السلام قد رأى أمام ناظريه قتل أصحابه وأهل بيته وطفله الرّضيع وهو عالم بهتك حرائره وسبيهم بعد قتله، مطعون مجروح، مرمي ملقى على صحراء كربلاء تصهره الشمس بأشعتها محروق الفؤاد من العطش، مفتت الكبد، فيه مئات الجراح من الطعن بالرماح والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، وهو في تلك الحال يتوجه إلى الله صابرًا مسلّمًا إليه راضيًا بقضائه، فهذا حال أولياء الله من التسليم المطلق الله عَلَيْهِم السَّلاَمُ في كل ما ينزل بهم.
والحاصل أن المراد بالإسلام الذي أمر الله عزوجل و به نبيه إبراهيم علیه السلام وكذلك الإسلام الذي دعا إبراهيم علیه السلام وإسماعيل عَلَيْهِم السَّلاَمُ أن يجعلهما الله عليه، هو
ص: 242
المرتبة العليا من العبوديّة التي هي التسليم والانقياد والخضوع المطلق الله عزوجل وعليه بعد اتضاح المراد بالإسلام في الآيتين فلا محلّ للشبهة المتقدمة.
المورد الثامن ممّا يُتوهّم منه عدم عصمة نبي الله إبراهيم علیه السلام : قوله السلام تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَاً إِبْرَاهِيمَ إِذ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلٌّ لَهَا عَاكِفين) إلى قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم علیه السلام: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين).
مفاد الشبهة: أن الطمع في غفران الخطيئة يدل على صدور خطيئة وذنب من نبي الله إبراهيم علیه السلام، وإلا لكان الطّمع في غفران ما لم يصدر منه لغوًا، فتعيّن أن يكون قد صدر منه ذنب أوجب طمعه بالغفران ذنب أوجب طمعه بالغفران يوم القيامة، وبذلك يثبت جواز صدور الذنب من الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ بل وقوعه.
أجاب عن ذلك الفاضل المقداد في كتابه اللوامع الإلهية بأنّ هذا محمولٌ على ترك الأولى، فإنّ ترك الأولى أمر جائز على الأنبياء وليس فيه معصية، ولكنه بلحاظ المقربين أمر لا يليق بهم، فيطمعون بأن يغفر الله لهم تلك المخالفة للأولى (1).
وهذا الجواب وإن كان تامَّا بلحاظ القواعد العلميّة، لأنه لما قام الدليل العقليّ على عصمة الأنبياء فلا بد من تأويل الظواهر التي تنافي ذلك، إلا أن جواب الفاضل مثل هذه الأجوبة لا تنفع مع مدعي جواز صدور الذنب من الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ.
والجواب عن هذه الشبهة هو أن أنبياء الله ورسله والمقربين من عباده يجك يرَون أنفسهم دائمًا مقصرين في عبوديّة الله، جاء في نهج البلاغة
------------------------
تقيرر الشبهة
جواب الفاضل المقداد قدس سره
التعليق على جواب الفاضل المقداد
الجواب عن الشبهة
ص: 243
أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ، وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ، وَلَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ)، بل إن عباد الله من الأنبياء والمرسلين لو ظنّوا أنفسهم قد أدّوا حق الله من العبودية واعتقدوا أنّهم خرجوا عن دائرة التقصير لكانوا بهذا الظن خارجين عن دائرة العبودية لله تعالى (حاشاهم عن ذلك)، فمعنى أنهم قد وصلوا إلى مقام عبدوا الله فيه حق عبادته أنه لم يبق الله تعالى حق عليهم بعد، حتى يستوجب ذلك الحق عليهم أن يعبدوه.
وبعبارة أخرى: إن الظن بالخروج عن دائرة التقصير في عبودية الله معناه أنّه ليس العبد مطالبًا بعد بشيء تجاه مولاه، وهذا الظن نفسه مناف للعبوديّة، لاستبطانه معنى الاستغناء والاستقلال عن الله تعالى، لأن كل ممكن محتاج في كلّ آن آنات من وجوده إلى فيض منه عزوجل، بشتى أنواع الفيوضات، والظَّنّ بأداء حقه من العبوديّة اعتقاد بالاستغناء عنه تعالى، فإن شكر الله على نعمة إنّما هو بتوفيق وفيض منه يحتاج إلى شكرٍ آخر، وهذا الآخر بتوفيق منه تعالى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا من غير انقطاع، فإن ظن عبد من عباد الله أنه وصل إلى مقام قد أدى عبادة الله عزوجل بما هو مستحق لها لكان هذا الظَّنِّ مساوقًا لدعوى الاستقلال والاستغناء عن الله تعالى، وقد جاء في كلام إمامنا زين العابدين على بن الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (فكيف لى بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شُكر ؟! فكلما قلت لك الحمد، وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد) (1).
ص: 244
والحاصل أنه قد تبيّن ممّا تقدّم أن هذه الآية تحتمل احتمالين:
الاحتمال الأوّل: أن تكون الخطيئة التي يطمع ابراهیم عَلَيْهِ السَّلاَمُ أن يغفرها الله يوم القيامة ذنبًا من الذنوب ومحرّما من المحرمات.
الاحتمال الثاني: أن تكون الخطيئة هي اعتقاده التقصير في عبادة الله.
وكلا الاحتمالين متساويان في المقام والشبهة إنما تتمّ إن تمكن أصحابها من دفع الاحتمال الثاني وحصر الآية الكريمة في الاحتمال الأوّل.
وبذلك تكون قد انهدمت الشّبهة ، لأنه إن ورد الاحتمال بطل الاستدلال، وأيضًا لا تكون الآية مستمسكًا لهم في إثبات جواز صدور الذنب من الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ.
ثمّ إنّه لا خصوصيّة للآية التي هي مورد البحث بما تقدم، فإن هذه الشبهة قد ترد على غير واحدةٍ من الآيات، فمثلاً في كل صلاة يصليها العبد لله تعالى يقرأ الفاتحة وفيها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ)، والمصلّي سواء أكان غير معصوم أم كان معصومًا كخاتم الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة الاثني عشر ، فإنهم يدعون الله بالهداية إلى الصراط المستقيم، وطلب المهدي للهداية من طلب تحصيل للحاصل، وهو مستحيل، وطلب المستحيل لغو لا يصدر من عاقل فضلاً عن سادة العقلاء النبي الأعظم وأوصيائه الاثني عشر عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ومقتضى ذلك أن يكون الطالب للهداية ضالاً وفاقدا لها.
والجواب عن ذلك:هو أن مراتب القُرب الإلهي غير محدودة، فكلما تقدم العبد إلى الله كان هناك مراتب أخرى من القُرب، وهكذا من غير انقطاع، وذلك لأن عظمة الله عزوجل غير محدودة بحد، ومقتضى ذلك أن تكون
ص: 245
مراتب القُرب منه تعالى غير محدودة، وهذا السبيل يبقى مفتوحًا لعباد الله من الصالحين والأنبياء والمرسلين بعد موتهم، فإن السفر في مراتب الكمال والقُرب من الله تعالى غير منقطع أبدا، وهذا الارتفاع والترقي إنما يكون بهداية منه تعالى، فيطلبون هذا النحو من الهداية الخاصة لمواصلة السير والسلوك في مراتب العظمة والقُرب الإلهي، وهذا طلب حقيقي للهداية، الذي وليس المراد به الثبات على الإيمان، وهذه الهداية صادقة على العاصي يطلب منه تعالى الهداية إلى التوبة والتوفيق للإيمان، وكذلك صادقة على المهتدي الذي يسأل الله التوفيق إلى زيادة الإيمان ورفع الدرجات، قال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (1)، فإن زيادة الهدى في الآية ) كانت لأصحاب الكهف المؤمنين بالله والثَّابتين على الحق، وقال تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى )(2).
المورد التاسع: ممّا يُتوهّم منه عدم عصمة نبي الله إبراهيم علیه السلام : قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (3).
مفاد الشبهة: إن ظاهر الآية أن إبراهيم علیه السلام لم يكن من الموقنين قبل رؤية ملكوت السماوات والأرض، فإنّ اللام في قوله تعالى: (وَلِيَكُونَ) لام الغاية، فغاية إراءة إبراهيم علیه السلام ملكوت السماوات والأرض أن يكون من
------------------------
تقرير الشّبهة
ص: 246
الموقنين، فقبل الإراءة لم يكن من الموقنين وإلا لما صح أن تكون غاية الرؤية كونه من الموقنين، لأنه مع فرض كونه من الموقنين قبل الرؤية يلزم ذلك عدم صحة كون الإيقان غايةً للرؤية، لأنه من تحصيل الحاصل، فيدلّ ذلك على أنّ إبراهيم علیه السلام لم يكن من الموقنين في فترة من حياته، وخلوه عن اليقين ينافي ما ينبغي أن يكون عليه النبي من الإيمان التام.
أجيب عن الشّبهة: بأنّ رؤية السّماوات والأرض أوجدت مرتبةً أعلى من اليقين لإبراهيم علیه السلام ، ومعه لا تدل الآية على أن إبراهيم علیه السلام التي لم يكن موقنا هذه الشبهة قبل الرؤية، بل إنّ المرتبة العُليا من اليقين كانت مسلوبة عنه، وحصلت بعد رؤية ملكوت السماوات والأرض، ولا ضير في خلوه عن المرتبة العليا من اليقين وإنّما الضير في خلوه عن مطلق اليقين.
وفيه: أنّ هذا الجواب مبني على تأويل: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، الدال على حدوث أصل اليقين إلى زيادة اليقين، فإن اسم الفاعل (موقن) دال علی حدوث اليقين وصرفه عن ظاهره إلى زيادة اليقين بحاجة إلى قرينة، والحال أنها غير موجودة في المقام.
والتحقيق في الجواب: أنّ كلمة (يكون) من الأفعال الناقصة التي هي من الروابط الزمانية، فالجملة قبل دخول الفعل الناقص عليها هي كالتالي: إبراهيم علیه السلام) من (الموقنين ولم يعبر في القرآن ب- (ليتيقن) بل ب- (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين، والفرق بين الجملتين أنّ الجملة الأولى جملة فعلية لا تفيد حصول اليقين لإبراهيم علیه السلام ، بل مفادها أن إراءة الله ملكوت السماوات والأرض لإبراهيم علیه السلام عالشالية لغرض أن يتقدم إبراهيم علیه السلام لكسب اليقين، ففائدة
------------------------
ما أجيب به عن هذه الشبهة
التعليق على هذا الجواب
الجواب عن الشبهة
ص: 247
إراءة ملكوت السماوات والأرض هى أن إبراهيم علیه السلام إذا أراد أن يتيقن ، فإنّ الله قد هيّأ له ظروف وشروط التيقن، أما أنّه واقعا أصبح من الموقنين فليس هذا التعبير دلالة على ذلك، لأن غرض الإراءة يكون تيقن إبراهيم علیه السلام وذلك نظير قول القائل: إنّ إنزال الكتب وإرسال الأنبياء ليهتدي النّاس، فإن هذا النحو من التعبير لا يدلّ على حصول الهداية فعلاً للناس، بل غاية ما يدلّ عليه أن شروط الهداية قد هيّأها الله للنّاس وأما حصولها فهو منوط بإرادة النّاس واختيارهم للهداية والسعي إليها.
بخلاف الجملة الثانية، التي هي جملة اسمية مفيدة لحصول اليقين لإبراهيم علیه السلام واتصافه به، لأن الغرض فيها قد انصب على حصول اليقين الذي عبّر عنه في الآية: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين) وهذا النحو من التعبير ظاهر في أن اليقين قد حصل لإبراهيم علیه السلام فعلاً، لأن غرض المولى إنّما هو حصول اليقين لإبراهيم علیه السلام ، وليس تهيئة أسباب اليقين فقط.
ثم إن الوجه في استعمال القرآن ل(كان) من بين الأفعال الناقصة والروابط الزمانية دون أن يستعمل ليصير من الموقنين)، أو (ليصبح)، أو ليغدو)، وغيرها من الأفعال الناقصة، هو أنّ (صار) مفيدة للتحوّل، مما يدلّ على أن إبراهيم علیه السلام الله لم يكن في السابق موقنا، وكذلك (يغدو) و(يصبح) فإنّهما تدلان على أنّه لم يكن سابقا واجدًا لليقين، بخلاف الفعل الماضي الناقص (كان) الذي يُستعمل في الموارد التي يكون فيها الموضوع في نفسه مقتضيا للمحمول، ولذلك يصح أن يقال: كان الله عالما وكان الله قادرًا، وذلك لأن وجود الباري عزوجل نفسه يقتضي أن يكون عالمًا قادرًا حيَّا، بينما بقيّة
ص: 248
الأفعال الناقصة لا يصح استخدامها في هذه الأمثلة، فلا يُقال: صار الله عالمًا، وصار الله قادرًا.
وفي الآية موردُ الكلام إن وجود إبراهيم علیه السلام المقتض لليقين، لا أن يقينه متوقف على مقتض خارجي غير موجود عنده بنحو يتوقف حصول اليقين لإبراهيم علیه السلام ، بل إبراهيم علیه السلام واجد للمقتضي، وهي نفسه القدسيّة الفاعلة والمؤثرة لليقين.
نعم حصول اليقين متوقف على شرائط وارتفاع موانع وهذه طبيعة النفس البشرية وكل ممكن، وهذا غير مُخِلّ بمنزلة خليل الرحمن عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وبتعبير آخر:إن في ذات إبراهيم علیه السلام ونفسه القدسية مقتض ومؤثر في حصول اليقين، ولكن هذا المقتضي متوقف على شروط ومعدات من رؤية ملكوت السماوات والأرض؛ فإنّ هذه الرؤية إنّما هي شرط أو معد لتأثير المقتضى الموجود عند خليل الرحمن فتلك الشرائط والمعدات ليست هي الموجدة لليقين، بل المقتضي الموجود في ذات إبراهيم علیه السلام هو الموجد لها وهي من شؤونه، ولكن هذه الشرائط والمعدات إنما هي تهيّئ فاعلية المقتضي لكي يؤثر في إيجاد اليقين.
فاليقين موجود بالقوة عند إبراهيم علیه السلام ولكن خروجه من القوة إلى الفعل موقوف على شرائط ومعدات، وكون النبي في حال ترفع وترقي وازدياد دائم في العلم واليقين لا يضر، والشبهة إنّما تأتي إن كان خاليا من اليقين بالله مطلقًا، والآية تفيد حصول مرتبة من اليقين من خلال رؤية ملكوت السماوات والأرض وهذة المرتبة ليست ترقّي وازدياد لمرتبة سابقة، بل هي
ص: 249
مرتبة حادثة والموجد لها والمؤثر في حصولها هو المقتضي الموجود عند خليل الرحمن عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ورؤية الملكوت كان شرطًا في فاعلية المقتضي.
وبالدقة إن المعلول_كما هو مقرّر في العلوم العقلية من شؤن العلة ورشحاتها، وهنا علّة اليقين ومقتضيه نفس إبراهيم علیه السلام القدسيّة؛ فإبراهيم علیه السلام لم يكن فاقدًا لليقين، بل هو موجود عنده بالقوة، وفعليّته موقوفة على حصول شرائط وفقدان موانع.
إن قلت: كيف استفدتم من الآية المباركة أن الحاصل لإبراهيم علیه السلام مرتبة أعلى من اليقين بينما ظاهر الآية لا يستفاد منه إلا حصول اليقين الظاهر في أوّل مراتبه لا أعلاها؟
قلت: إن الآية أثبتت المقتضي لليقين في ذات النبي إبراهيم علیه السلام ، ووجود المقتضي بدون المُقتضى مع توفّر شرائط تأثير المقتضي غير معقول، نعم المعقول هو الخلو عن الدرجة العليا، وهذا المعنى يتوقف على إراءة إبراهيم علیه السلام ملكوت السماوات وأمّا أصل اليقين فمتوقف على النظر في الكائنات لا الوصول إلى الملكوت، وإليه يشير تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (1)، مضافًا إلى أنه قد بينا أن (كان) لا تدلّ على الحدوث ما لم يكن حادثا، وإنّما تدلّ على الاستمرار والثبات.
هذا واعلم أنّ للآية وجهين من الإعراب:
ص: 250
الوجه الأوّل: أنّ جملة: (وَلِيَكُونَ)، معطوفة على جملة محذوفة، ومن خلال السّياق الذي أتت فيه يكون تقديرها (أريناه ملكوت السماوات والأرض ليستدل وليكون من الموقنين).
الوجه الثاني: أنّ جملة: (وَلِيَكُونَ)، متعلّقة بجملة محذوفة تقديرها وليكون من الموقنين أريناه الآيات، وعليه تكون الواو استئنافية، والفعل المقدر متأخّر، بخلاف الإعراب الأوّل، فإنّ الواو فيه عاطفة، والفعل المقدر مُقدَّم.
والصحيح هو الوجه الثاني؛ لتعارف حذف الفعل لدلالة فعل آخر عليه، سواء أتقدم عليه أم تأخّر عنه، ومما يدلّ على هذا الحذف بداية الآية: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ)(1).
ثم إن الإعراب الأوّل يقتضي أن تكون غاية الرؤية أمرين؛ أحدهما الاستدلال، والآخر اليقين، ممّا يوهم أنّ يقين إبراهيم علیه السلام متوقف على الاستدلال، وهو غير صحيح.
المورد العاشر: ممّا يُتوهّم منه عدم عصمة نبي الله إبراهيم علیه السلام : قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصنام )(2).
مفاد الشبهة لو لم يكن إبراهيم علیه السلام يخاف صدور عبادة الأصنام منه لما دعا الله أن يجنّبه ذلك، فهذا يدل على عدم حصانته وعصمته من الوقوع في
------------------------
تقرير الشبهة
ص: 251
عبادة الأصنام، فإنّه لو كان لديه هذا النحو من الحصانة التي هي العصمة لما خاف الوقوع في عبادة الأصنام، ولما دعا الله أن يجنّبه ذلك.
وهذه الشبهة في غاية الوهن؛ لأنّها مبتنيةٌ على استحالة صدور المعصية من الأنبياء علا، باعتبار أنه لو كانت العصمة تفيد استحالة وامتناع صدور المعصية، لكان لهذه الشبهة مورد، ولكن قد سبق في مقدمة التفسير أن العصمة لا تقتضي استحالة صدور صدور الذنب ذاتا الذنب ذاتا من المعصوم، بل امتناع صدور الذنب منه إنما هو امتناع وقوعي، وليس امتناعا ذاتيا(1)، فصدور المعصية ممكن ذاتا بلحاظ ذات النبي وليس مستحيلاً، ولكن وقوعًا لا تصدر منهم معصية، ومعه فإن الأنبياء الا بحاجة دائمة إلى التوفيق الإلهي والألطاف والعنايات الإلهيّة، وعصمتهم غيرُ مغنيةٍ لهم عن ذلك، بل هم بحاجةٍ دائمة إلى الله تعالى، قال الله تعالى مخاطبًا نبيّه الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ :( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلا بالله ) (2).
ثمّ إنّ فضل الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ وعظمتهم إنما تكون بامتناعهم من المعصية اختيارًا مع قدرتهم عليها، وأما لو كان وقوع الذنب ممتنعًا ذانًا عليهم لما كان لهم فضل في ذلك.
وعليه، فلا تعارض بين دعائهم الله عَلَيْهِم السَّلاَمُ والتوسل به والتذلل إليه، وبين كونهم ،معصومين، ولا يكشف ذلك عن عدم وجود العصمة لديهم، بل ما
------------------------
الجواب عن الشّبهة
ص: 252
يعارض العصمة ويدلّ على عدم وجودها هو وقوع الذنب، لا الدعاء لله بأن يجنبهم عنه.
المورد الحادي عشر : ممّا يُتوهّم منه عدم عصمة نبي الله إبراهيم علیه السلام قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(1).
مفاد الشبهة: قد نسب إبراهيم علیه السلام خلق أعمال العباد إلى الله تعالى، فإنّ قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ) ظاهر في أنّ الله هو الخالق لذوات العباد، وقوله: (وَمَا تَعْمَلُونَ )ظاهرٌ في أنّ الله هو الخالق لأعمالهم التي يعملونها، وهذه مقولة الجبرية التي يزعمون فيها أنّ الله هو الخالق لأعمال العباد، وأن العباد بين يدي الله كالميت بين يدي الغسّال يقلبه كيف يشاء، فهو الذي يدفع المؤمن إلى الإيمان، والكافر إلى الكفر، وليس للعباد اختيار في ذلك، لأن الله هو الخالق لأعمالهم، وهذا الاعتقاد مخالف لاعتقاد الإمامية القائلين بأنه: (لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين، وأنّ الإنسان مخيّر في اختيار طريق الرشد أو طريق الغي، والله أجلّ من أن يخلق أعمال العباد، ثم يحاسبهم بعد ذلك عليها، لأنه من الظُّلم المنزّه عنه سبحانه، فما هو العذر في أن ينسب إبراهيم علیه السلام الله هذا الأمر إلى الله ، ظهور أنه لا يتلاءم مع كون الله عادلاً، مع وأن الإنسان مختار في دار الدنيا ويحاسب في الآخرة على اختياره.
والجواب: أن شبهة نسبة الجبر لإبراهيم علیه السلام لا تتم فيما لو كانت (ما) في قوله تعالى: (وَمَا تَعْمَلُونَ)، مصدريّةً ليكون المعنى: والله خلقكم وعملكم، ولكن الصحيح والمتعيّن أنها موصولة والعائد عليها هو الضمير المحذوف،
------------------------
تقرير الشبهة
الجواب عن الشبهة
ص: 253
والتقدير: والله خلقكم والذي تعملون فيه أي والذي هو محل عملكم وليس معنى الآية : والله خلقكم وأعمالكم. ويدل على ذلك وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ المخلوق من الله هو مادة الأصنام نفسها _سواء أكانت الأحجار أم من الأخشاب أم من غير ذلك وليس تصوير ونحت الأحجار بصورة الأصنام، فإنّه لا يرجع إلى الله تعالى، بل إلى الناحت والمصوّر لها بتلك الهيئات.
والوجه الثاني: أن الذي يعيّن أنّ (ما) موصولة وليست مصدريّةً هو أنّ الفعل بالمعنى المصدري وصف للفاعل، ولا يجوز عطف الوصف على الموصوف إلا مع التأويل، فلا يقال: جاء زيدٌ وعِلمه إلا مع التأويل، لأن عطف الصفة على الموصوف بدون تأويل خطاً، فلا بد أن يؤوّل: جاء زيد وعِلمُه) إلى (جاء زيد العالم)، أمّا جاء زيد ومعلومه كالكتاب)، أو (جاء زيد ومعموله كالكرسي) فلا يحتاج إلى تأويل، والأصل عدم التأويل، فما لم تقم قرينةٌ من عقل أو نقل موجبة له فلا ينبغي المصير إلى تأويل الظاهر.
وفي الآية لو كان المقصود بقوله تعالى: (وَمَا تَعْمَلُونَ)، المعنى المصدري، أي: ( وعملكم) لكان وصفًا لعبدة الأصنام، وعطف وصفهم وهو فعلهم وعملهم يحتاج إلى تأويل، والأصل خلافه، ووجود حرف العطف في التعبير القرآني دليل ظاهر على أن المراد بقوله: (وَمَا تَعْمَلُونَ)، ليس المعنى المصدري، وإلا لو كان المراد ذلك لما ذكر بصورة العطف، بل لعبّر عنه بالوصف أو الحال أو غير ذلك من التعبيرات المناسبة لهذا المراد، فالإتيان بالعطف في التعبير القرآني يعيّن أن (ما) موصولةٌ وليست مصدريّةً
ص: 254
والوجه الثالث: أنه قد جاء في الآية نفسها: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ)، ولو كانت (ما) مصدريّةً لكان المعبود النّحت نفسه لأن معنى الآية يكون: أتعبدون نحتكم، ومن المعلوم أنّ عبدة الأصنام لا يعبدون فعلهم ونحتهم، بل منحوتهم وهو الصنم، فهذا يعيّن كون (ما) موصولةً وليست مصدريّةً، وهذا الكلام مرتبط بقوله (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)، فيكون قرينةً مبيّنةً للمراد ب(ما) وأنها موصولة.
الوجه الرابع: أنه من الواضح بالنظر في سياق الآيات أن إبراهيم علیه السلام عالم في مقام توبیخ قومه على عبادة الأصنام، وتوبيخه لهم كان لسببين:
السبب الأوّل: وهو عبادتهم ما ينحتون، فإنّ ما يحتاج في وجوده وتحققه لفعلهم ضعيف مفتقر إليهم، فإنّ الصنم أصله مادة حجرية أو غيرها، محتاجة إلى الناحت لكي تتهيأ بهيأة معيّنة، وخليل الرحمن الثالية يوبخهم على عبادة ما يصنعونه وينحتونه بأيديهم، لأن المعبود لا بد أن يكون غنيًّا، والعباد هم المفتقرون إليه، والحال أن الصنم هو المفتقر إلى ناحته، فلا يصح أن يكون معبودا له.
السبب الثاني: وهو تركهم عبادة الله عزوجل الذي خلقهم وخلق مادة الأصنام التي هي أحجار.
وتوبيخ خليل الرحمن عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنّما يتمّ لو كان المراد ب- (وَمَا تَعْمَلُونَ )ما يعملون فيه، وأما لو كانت (ما) مصدريّةً ، فلا توبيخ لهم في كلامه الله، لأن المعنى: والله خلقكم وعملكم ، ولا ذكر للأصنام على هذا الوجه، بل إن هذا
ص: 255
يقتضي براءة قوم إبراهيم علیه السلام من معصية عبادة غير الله؛ لأن ما كان فعله من تعالى لا يجوز لنبيه التوبيخ عليه.
ثم إنّه لو تنزّلنا عن الأدلة الموجبة لكونها موصولة فغاية الأمر أنه كما يحتمل أن تكون (ما) مصدرية كذلك يحتمل أن تكون موصولة ومع ، الاحتمال يبطل الاستدلال؛ لأن استدلالهم متوقف على تعين كونها مصدرية.
المورد الثاني عشر: قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلْنَا فِي قَوْمٍ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهُ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (1).
مفاد الشبهة: أنه كيف يجوز لإبراهيم علیه السلام الله أن يجادل الله فيما أمر به وقضاه، لأن الجدال لغةً سواء أكان مفاوضةً على سبيل المنازعة والمغالبة كان مصارعة وإسقاط الإنسان صاحبَه على الجَدَالَة، وه- وهي الصلبة لا يجوز أن يكون مع الله تعالى كما هو واضح، وصدوره من إبراهيم علیه السلام ذنب ينافي العصمة.
والجواب: أنّ المراد بقوله تعالى: (يُجَادِلُنَا)، شدّة المفاوضة وإدامتها الجواب عن بين إبراهيم علیه السلام الله والملائكة، والله نسب ذلك إليه؛ لأن الملائكة رسل الله سبحانه و تعالی الا الله فإن الله قد أمر ملائكته بإنزال العذاب على قوم لوط اللة لاقترافهم الفاحشة وإصرارهم عليها، وعدم امتثالهم لأمر نبيه لوط السلامة وصدهم له عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فأخذ إبراهيم علیه السلام يفاوض الملائكة بمسألة إنزال العذاب على قوم لوط عَلَيْهِ السَّلاَمُ .
------------------------
تقرير الشّبهة
الجواب عن الشبهة
ص: 256
وفيما جادل به إبراهيم علیه السلام الملائكة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جادل الملائكة بأن قال لهم: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا، كيف إبراهيم علیه السلام تهلكونهم، فقالت له الملائكة: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا ... )(1)
الثاني: أنه جادلهم ليعلم بأي شيءٍ استحقوا عذاب الاستئصال، وهل ذلك واقع بهم لا محالة، أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة.
الثالث: أنّه جادلهم في دفع العذاب أو تأخيره لعلهم يهتدون ويتركون الفاحشة.
وعلى أي واحدٍ من هذه الأقوال لا يلزم صدور ذنب من إبراهيم علیه السلام فإنّ جداله مع الملائكة كان منشؤه الرّحمة، ولما كان إنزال العذاب على قوم لوط الالية من الأمر المحتوم المقضي أمر بالإعراض عن الجدال: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ )(2).
وما يدل على أن إبراهيم علیه السلام لم يقترف ذنبًا بجداله . الملائكة هو أن الله عزوجل مدحه لذلك فقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهُ مُنِيبٌ) (3)، فكيف عل يجوز نسبة المعصية إليه فيما كان السبب في مدح الله إياه بتلك الصفات التي ليست وراءها منزلة في باب الرّفعة.
الملائكة
ص: 257
ص: 258
عصمة نبي الله يعقوب علیه السلام
ص: 259
ص: 260
في قصة نبي الله يعقوب علیه السلام عدَّةُ مواردَ يَتَمَسَّك بها مُخَطَّيَّةُ الأنبياءِ، مُتَوَهّمين دلالتها على صدور الذنب مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
الموردُ الأوَّل: قوله تعالى حكاية عمّا قالَهُ إخوة يوسف الله : (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينِ )(1).
وفي المقام شبهتان: الأولى: أنَّ الله لقد حكى قولَ إِخْوَةِ يُوسُف، ونِسْبَتَهم الضَّلالَ إِلى أبيهم نبي الله يعقوب علیه السلام، وذلك قدح في عِصْمَتِه، واعتقاد قَدْحٌ منهم أَنَّه مُخْطِئُ أَحْكامِه، ولَوْ كانَ الأنبياءُ مُنَزَّهين عن ذلك لَما صَحَت هذه النسبة ولكان على الله جل وعلا دفع التهمة عن نبيه.
والجواب: أَنَّ الضَّلالَ الذي نَسَبَهُ إِخْوَةُ يُوسُف إلى أبيهم ليس المراد به الضَّلال عن الدين، وإنَّما أرادوا به الحَيْف، وعدمَ التَّسْوية بَيْنَهم في المَحَبَّةِ، فإِنَّ أَصْلَ الضَّلال لغةً العُدول، ولمّا عَدَلَ النبي يعقوب علیه السلام الله عن التَّسْويةِ بَيْنَهم نَسَبوا الضلال إليه، مُتَوهّمين في اعتقادهم الفاسد أنَّ ذلك خِلافُ
------------------------
تقرير ُ الشبهة اﻷولى
الجواب عن هذه الشبهة
ص: 261
العَدْلِ والإِنْصافِ وسَيَأتي بيان أنَّ هذا الأمر وهو اعتقادهم بأنَّ تَقْديم يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ من الحيف والضَّلال ليس كما توهموا، وأنَّه مُقتضى العدل. فهذا الكلامُ إِنَّما هو حكاية عما قاله إخوةُ يُوسُف العُصاة، وليس كلام الله في حق نبيه يعقوب علیه السلام عالم، فسواء أكان الضَّلالُ الذي نسبه إخوة يوسف الأبيهم بمعنى الحَيْف، وعدم التَّسْوية في العَطيّة والمَحَبَّة، أمْ كان الضَّلال عن الدين، فإنّه قولهم، واعتقادهم الذي نَطَقوا به، وهو قَوْلُ واعْتِقادِ مَنْ أَعْمَى الحَسَدُ قَلْبَه، وليس كلامَ اللهِ ليَكون حَقّاً، ولَيْسَتْ كلُّ نِسْبَةٍ خَبَريَّةٍ صادِقة، بلْ منها ما هو صادق، ومنها ما هو كاذب، وفي المقامِ إِنَّ نِسْبةَ إخوة يوسف الضَّلال إلى نبي الله يعقوب علیه السلام ال نسبة كاذبةٌ، فإنَّ فِعْلَ نَبِيِّ اللَّهُ يَعْقُوب الله مِنْ تقديم يوسف يوسف في المحبَّة، وغيرها عَيْنُ العَدْلِ والإِنصاف، كما سيأتي بیانه .
قد يقال: لو كانت نسبتهم الضلال إلى أبيهم نسبةً كاذبةً باطلة، فلم لم تُعقَّب بردّ في القرآن، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المحكي إن لم يُعَقَّب برد فهو دليل صحته.
قال الشاطبي في كتاب الموافقات (كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر ردّ لها، أو لا، فإن وقع ردّ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي ،وكذبه، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكي وصدقه.
أمّا الأوّل فظاهر، ولا يحتاج إلى برهان، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فأعقب بقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
ص: 262
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى)(1) ، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكَ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَخَرُونَ ، فردّ عليهم بقوله: ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا )(2)، إلى آخر ما هنالك، ومن قرأ القرآن وأحضره بذهنه عرف هذا بیسر .
وأمّا الثاني فظاهر أيضًا، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها، فإنّ القرآن سُمّي ،فرقاناً، وهدى، وبرهانًا، وبيانًا، وتبيانًا لكلّ شيء، وهو حجّة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم، وهذا المعنى يأبى أن يُحكى فيه ما ليس بحق، ثم لا ينبه عليه...)(3)، انتهى.
وفي المقام لم يعقب الله عزوجل على زعم إخوة يوسف من نسبتهم الضلال إلى أبيهم، ممّا يدل على صحة زعمهم؟
لأنا نقول : إن هذا الكلام ممنوع صغری و کبری.
أما الكبرى فليس صحيحًا أن كل قول باطل محكي بالقرآن إن لم يقع قبله أو بعده ردّ فهو دليل صحته؛ لأنَّ الله قد يعتمد على دلالة العقول التي يظهر بواسطتها كذب المحكي كقول إبليس (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) (4) حيث نسب الغواية إلى الله عزوجل، والله عزوجل ولا منزه عن غواية وإضلال خلقه، وهذا ما يدل عليه العقل فيُكتفى بدلالته ويكفي لبطلان هذه الكبرى المتشابهات الموجودة في القرآن التي ينبغي الرجوع فيها إلى الراسخين في العلم،
ص: 263
والعمومات والإطلاقات غير المرادة، وبالجملة إنّ القرآن كتاب نور وهدى، ولكن شرط ذلك أن يُرجع فيه إلى أهله الذين هم أهل الذكر محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين، وليس نورًا وهدى لمن نظر إليه برأيه.
وأما من جهة الصغرى في مورد بحثنا، فإنَّ ما يصلح لردّ قولهم ما جاء في القرآن من كلام يعقوب علیه السلام مع يوسف:( لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا )(1)، حيث أوضحت الآية أن إخوة يوسف سيقع منهم الكيد في حال علموا برؤيا يوسف الله، وهذا دليل على اعوجاج سيرتهم وعدم استقامة سلوكهم، وعليه فلا يُصدقوا في دعواهم.
ومفاد الشبهة الثانية: أنَّ النبي يعقوب علیه السلام قد فَضَّلَ يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ على إِخْوَتِه في المَحَبَّة ،والإحْسان، والتَّقريب، مما أدى إلى وقوع التَّبَاغُضِ، والتَّحاسُدِ ، والمَفاسِدِ العَظيمةِ التي نَطَق بها القرآن من طَرْحِهم ليوسف عالم في الجُبِّ، وبَيْعِهم له بِثَمَنٍ بَخْس ، وهذا أَمْرٌ مَعْلُومٌ في طباع البَشَر، وهو أنَّ تفضيل الأب بعض أبنائه على بَعْض يُوقِعُ التَّحَاسُدَ بَيْنَهم، وفِعْلُ النَّبيِّ يعقوب علیه السلام لما هو مَعْلُومٌ أَنَّه مفض ومؤد إلى مفاسد عظيمة، ذَنْبٌ يُنافي العصمة.
وبعبارة أخرى:إنَّ الثَّابِت في الشَّرع الحنيف أن تَفْضيلَ بَعْض الأولادِ على بَعْض إن كان يُؤدّي إلى وقوع المفاسد من الحَسَدِ، والبَغْضاء بين الأولاد، فهو مُحَرَّم، وإنْ لَمْ يكن يؤدّي إلى ذلك فهو مكروه مَرْغوب عنه،
------------------------
تقرير الشبهة الثانية
ص: 264
وعليه فَتَفْضيلُ يعقوب علیه السلام الله ليوسف الله على بقيَّة إخوته، مُخِلٌّ بالعصمة، لأنَّه فِعْل قد أدى إلى مفاسِدَ بَيْن الإخوة.
أجابِ عَلَمُ الهُدى المرتضى قدس سره وتبعه على ذلك كثير من المتأخرين _بما حاصله
أنَّ ما يُنافي العَدْلَ والاستقامة هو الحَيْفُ، وعَدَمُ التَّسْوِيةِ في التعامل الخارجيّ من الإِحْسانِ والعَطاءِ والتَّقْريب، وليس في القرآنِ ما يَدلّ على أنَّ يعقوب علیه السلام الله فَضَّلَ يوسف الله في شيءٍ من ذلك، وأمّا المَيْلُ القَلْبي إلى الأَبْناءِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْض، فلا يُنافي العدل والإستقامة، فإنّه أمر فطري غيرُ مَقْدورٍ للإنسانِ مُخالَفَتُه ، ولَمْ يُكلّف الله عباده بالعَدْلِ فِي المَيْلِ القَلْبِي، بَلْ كلفهم بالعدل في العطاء، والتَّعامل الخارجي، قال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) (1)، وإِنَّما أرادَ المَيْلَ القَلْبِيِّ الذي لا يُمْكِن للإنسانِ أنْ يَعْدِلَ فيه بين نسائه، وعليه فَلَمْ يَكُن نبي الله يعقوب علیه السلام الله مأمورًا بالتّسوية بين أولاده بالمَيْلِ القَلْبي لأنَّه ليس تَحْتَ الاختيار حتّى يُكلَّف به.
وفي كلام المرتضى نَظَر من وجوه:
الأوَّل: أَنَّه لَوْ كان الحاصلُ عندَ النّبي يعقوب علیه السلام مُجَرَّدَ المَيْل القلبي إلى يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ أكثر من إخوته، مع التّسوية بَيْنَهم في التعامل الخارجي، من المرتضى تري التقريب ،والإحْسان، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ إِخْوَةُ يوسف أنَّ يوسف السالةِ أَحَبُّ إِلى أبيهم منهم، وعليه فلا بُدَّ من الالتزام بأنَّ تَعامُل يعقوب علیه السلام السلام مع يوسف الشلة فيه ميزَةٌ أَوْجَبَت عِلْمَهم بأنَّ أباهم يُحِبُّ يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَكْثَرَ مِنْهُم، وإلا لَكَانَ
------------------------
جواب السيد المرتضى قدس سره عن الشبهة
النظر في جواب السيد المرتضىقدس سره
ص: 265
اطلاعهم على ما في قَلْبِ يعقوب علیه السلام دون أن يَظْهَر في أفعاله من العِلْمِ بالغَيْب، فإِنَّ مَا في القَلْب إِنَّما يُعْلَم بواسِطَةِ حَرَكاتِ الجَوارِحَ الدَّالة عليه، فإِنْ لَمْ يكُن في مُعاملة يعقوب علیه السلام تفضيل ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وميزة في معاملته، لما عَلِمَ إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ بذلك.
الثَّاني: أنَّه يَظْهَر من بعض الآيات والأحاديث أن في سلوك يعقوب علیه السلام مع يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ميرةٌ لَمْ تَكُنْ مع بَقيَّة إخوته، فيوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان مُفَضَّلاً عنده في التعامل الخارجي، وليس في مُجَرَّدِ المَحَبَّة، والمَيْلِ القَلْبِي، بَلْ الظَّاهر الآيات أنَّ حَوْفَه على يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وعنايته به أشد ، ولذلك كان على خوف من خُروجه مع إخوته، وعليه فجواب المرتضى ومَنْ تَبِعَهُ على ذلك غَيْرُ تام.
الثَّالث: أنَّ دَعْوى كونِ المَحَبَّة والمَيْلِ القَلْبي أمراً غَيْرَ مَقْدورٍ ، وأنَّه أمرٌ فِطْرِي يَفْعَلُه الله في الإِنسان في غَيْرِ مَحلَّه، وإلا لما كُلّفَ الإِنْسانُ بحُبِّ اللَّهِ، ورُسُلِه، والمَوَدَّة لأهْل البَيْتِ ، قال تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1)، والمَوَدَّةُ مُفَسَّرةٌ بالمحبَّة .
بعبارة أخرى: إن وقوع الحبّ والميل في القلب أمر غريزي لا مدخلية للإرادة فيه، ولكنّ الإنسان مسلّط على مناشيء ومقدمات حصول هذا الميل وعليه فيكون داخلاً تحت القدرة من باب أنَّ مقدّماته مقدورة، ولكن هذا الأمر لما كان فيه مشقة على الإنسان رفع الله عزوجل عنه تكليف هذا الأمر، وعليه
ص: 266
فقوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُ وا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )(1)، لا يراد ب- لَنْ تَسْتَطِيعُوا عدم القدرة ، بل المراد عدم تيسّر هذا الأمر؛ لأن فيه مشقةً عظيمة على الإنسان.
الرابع: أنَّه إذا كان المَيْلُ القَلْبي الحاصل عند النبي يعقوب علیه السلام ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ أكثر من إِخْوَتِهِ مِنْ فِعْل اللهِ، لَمْ تَنْحَلَّ الشَّبْهة، بَلْ بهذا الجواب تَكون قَدْ اسْتَعْصَت أكثر ، وذلك لأنَّ المُرتضى يكون قَدْ نَفى القبيح، وما يؤدي إلى الفساد وهو الميل القلبي المُوجِب لوقوع التَّباغُض بين الإخوة_ عن يعقوب علیه السلام وأضَافَه ونسبه إلى الله ، ولا شَكٍّ بِتَنَزُّهِ اللَّهُ عَنْ القَبيح، وتَعاليه عَنْ فِعْل ما يؤدّي إلى وقوع الفساد.
وقد تنبه السيد رحمة الله علیه هذا الإشكال فقال في كتابه تنزيه الأنبياء: (فإن قيل: فَكَأَنَّكُم نَفَيْتُم عن يعقوب علیه السلام القبيح والاسْتِفْساد، وأضفتموه إلى الله ، فما الجواب عن المَسْألة على هذا الوجه ؟ ) (2).
وأجاب عنه بجوابين:
الأوّل بقوله: (إنَّه لا يَمْتَنِع أن يكون الله تعالى عَلِمَ أَنَّ إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ سَيَكون بَيْنهم ذلك التَّحاسُد، والفعل القبيح على كل حال، وإن لَمْ يُفَضَّل يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ في محبَّةِ أبيه له، وإنَّما يكون ذلك استفسادًا إذا وقع عندَه الفَساد، وارتَفَعَ عند ارتفاعه...) (3)
ص: 267
والثَّاني بما حاصله : أنَّ هذا الأمر فَعَلَهُ الله تعالى من باب امتحان إخْوَة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فكلَّفَهم بتكليف شاق، وهو أَن يَتَحمَّلوا حب أبيهم ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَكْثَرَ مِنْهم، ولا يَحْسدوه، ولا يُوقعوا الضَّرَر به، لينالوا أَجْرًا أَعْظَم ممّا لَوْ انتهوا مع عَدَم تَفْضيل أبيهم الله ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فإذا كانَ خَلَقَ اللهُ عن المَيْلَ إِلى يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قلب يعقوب علیه السلام على هذا الوجه ولهذه الغاية لَمْ يَكُن أَمْرًا قبيحًا بَلْ حَسَنًا.
وفي هَذين الجوابين نَظَر:
وذلك أنَّ تَفْضيلَ يعقوب علیه السلام ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ على إخْوَتِه سواء أكان بالميل القلبي أم بالتعامل الخارجي فإنَّ هذين الجوابَيْن يَصلُحان لَرَفْع شُبْهَةِ القُبْح عَنْ فِعْل يعقوب علیه السلام من تفضيله ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَسَواء أكان تقديمُ يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ من فعل يعقوب علیه السلام أي في التعامل الخارجي أَمْ مِنْ فِعْل الله أي في المَيْلِ القَلْبي، فإنَّ هذين الجوابين إن كانا تامين فهما صالحان لَرَفْع الشَّبْهة، وعليه فلا وَجْه للذهاب إلى أن التفضيل إنَّما كان في المَيْلِ القَلْبي فِرارًا من الشَّبهة باعتبار أن هذين الجوابين على فرض كونهما تامين فإنّهما يدفعان الشبهة.
هذا فضلاً عن عدم تماميّة الجوابين فإنَّ تقديم يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ على إخوته إن كان أمرًا قَبيحًا وظُلْمًا فَإِنَّ الله لا يَفْعَلُه.
هذا واعلم أن الظلم ليس ممّا يختلف باختلاف الوجوه والدواعي على ما هو التحقيق، فإنّ من يسرق بغية إطعام الفقراء يكون فعله من الظلم، والغاية لا تجعله حسنًا، وكذلك ما نحن فيه فإنه إن كان تقديم بعض الإخوة
ص: 268
على بعض ظلمًا، فإنّ الغايات لا تبرره ولا تجعله حسنًا، والصحيح أنه ليس تقديم بعض الإخوة على بعض من الظلم مطلقًا وفي كل الأحوال، بل في هذا الأمر تفصيل فقد يكون التقديم ظلمًا، وقد يكون عين الإنصاف والعدل.
وجواب الشبهة: أن يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنَّما كان مُفَضَّلاً عند النبي يعقوب علیه السلام التحقيق في لِما تَمَيَّز به من الكمالات عن إخوته ، لِكَوْنِه نَبيّاً دون بقيَّة أولاده، وهذة سيرةً الجواب عن عبادِ الله، فإنَّهم يُقَدِّمون الأفضل، ويُميّزونَه في التعامل، وقد كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يُقدّم أمير المؤمنين عليا الله على إخْوَتِه، وعلى أصحابه، ويُميزه عنهم، فهل يصح بدعوى أنَّ في تمييز رسول الله له العلي الله، أو سَلْمان الله عنه، أو أبي ذر رضي الله عنه، داعيًا لوقوع الحَسَد والبَغْضاء بَيْن أصحابه، فكان عليه أن لا يُقدم الأفْضَل، بل يُسوّيه مع المَفْضول خَوْفًا من هذا المحذور!
ولا بدَّ من العِلْم أَنَّ التَّعامُل الخارجي عندَ أنبياء الله وأوليائه له موازين عَقْليَّة، وعقلائيّة، وشَرْعيَّة، إذا هُمْ تَعَدَّوها كانوا ظالمين (والعياذ بالله)، ومن تلك الموازين التي جَعَلَها الله عَدَمُ تَقْديم المَفْضول على الأفضل، والجاهل على العالم، وفِعْلُ يعقوب علیه السلام كان على طبق الموازين العَقْليّة والشَّرعيّة، ولَمْ يَتعداها فلا يكون ظالمًا، أو ضالاً، كما نَسَب ذلك إليه إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فإنَّ مُقتضى العدالة إعطاء كل ذي حق حقه، وليس من العدل التّسوية بَيْنَ من جُمِعَت فيه كمالات كثيرة كيوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ وبين إخوته، بَلْ العدل تفضيل يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ وتَقْديمه علَيْهم، فَشُبْهَة إِخْوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنَّما هي بظَنِّهم أنَّ العدل هو المُساواة، وهذا الأمْرُ غير صحيح، فإنَّ العَدْلَ لا يَعْني المساواة،
ص: 269
العَدْلُ وَضْعُ كلِّ شيءٍ في مَوْضِعِه ، وليس من العَدْلِ المُساواة بَيْنَ العالِم والجاهل، وبَيْنَ النَّبيِّ وغير النبي.
نعم، هناك بعض الموارد التي تَعَبَّدنا الشارع بالمساواة فيها كالإرث؛ فإنَّ لكلّ واحد من الأولاد مثل ما للآخر، فللجاهِل مثل ما للعالم، وللزوجة تُمْن ما تَرَكَ الزَّوْج، والنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَلَّفَ بَعْدَهُ تِسْعُ نساء، فلكل واحدةٍ منهنَّ التِّسْعُ من الثَّمن، سواء أكانت ذات منزلة عظيمة، كأمّ سَلَمة، أم لم تكُن كذلك كبعض نساء النبي ، فلا تفضيل في الإرث، وذلك للتعبد من الشَّارِع ، فَيُخْرَج عن مُقتضى المَوازين العَقْليَّة والعُقلائية فيه من لزوم تقديم الأفضل في خصوص ما تَعبَّدنا الشَّارِعُ فيه.
وببيان آخر نقول: لا بد من العلم أنه في مقامنا أن يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ وصي يعقوب علیه السلام وهو النبي ومَن ينبغي أن يكون ولي الأمر من بعده، ومقتضى الحكمة أن يبيّن يعقوب علیه السلام منزلة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ السلالة بشتى البيانات، فيقدمه على بقية إخوته، والتسوية في هذا المقام قبيحة؛ لأنها تغرير لِمَن في قلبه مرض بالطمع في أن يكون المبرز بعد يعقوب علیه السلام، وكذلك فعل النبي مع المؤمنين الله ؛ فإن تقديمه وتمييزه عن بقية الصحابة إنما هي ودلالات على كونه الإمام بعده ولا ينبغي في مثل هذا المقام إذا تعارض التفضيل مع خوف وقوع الحسد إلا تقديم ما هو الأهم، وهو بيان من له الأفضلية فى الإمامة والقيادة. وبعبارة أخرى: إن الحيلولة دون وقوع الحسد
ص: 270
والتباغض ليس أهم ملاكًا من بيان الإمام والقدوة فيقدم ذو الملاك الأهم في المقام: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1).
« فمَن تأمّل في سيرة أنبياء الله علل وأوليائه وجد أنها قائمة على تقديم الفاضل على المفضول.
نعم، نبي الله يعقوب علیه السلام كان يسد باب وقوع الحسد في قلب إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ مهما أمكنه ذلك، ومن ذلك نهيه ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ له أن يقص رؤياه على إخوته، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (2)، ولكن لم يكن ليخفى على إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ حرص أبيهم يعقوب علیه السلام السلالة على يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ الشلال والعناية والاهتمام الزائدان ،به ولم يكن لنبي الله يعقوب علیه السلام الله أن يخفي ذلك فإنّ بيان مكانة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ أهم من الخوف من وقوع الحسد.
الموردُ الثَّاني: ممَّا يُمْكِن أن يَتَمسَّك به المُخَطَّئَة قوله تعالى: (قَالُوا يَا أبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذَّنْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذَّنْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ)(3).
ص: 271
مفاد الشبهة: أنَّ يعقوب علیه السلام قَدْ َانَخَدع بكلام إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَوَعْدِهم بحِفْظِهِ، فَسَمَح لهم بأخذه معهم ، وقَدْ عَرَّض يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ للخَطَر بهذا الفِعْل، و انطلاءُ الخُدْعَةِ على الأنبياء الله، وتَعْريضُ يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ منافيان للعصمة.
أجيبَ: بأن يعقوب علیه السلام إِنَّما سَمَحَ ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالذَّهَابِ بَعْدَ أَخْذِ المَواثيق من إخوته بالحفاظ عليه، ممّا جَعَل قَلْبَ يعقوب علیه السلام مُطمئنا بسلامة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ إذا ذهب معهم.
النظر في الجواب وهذا الجواب في غَيْر مَحلَّه ؛ لأنَّه إقرار بانخداع يعقوب علیه السلام مِنْ قِبَل إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ بسَبَبِ العُهود والمواثيق، وليس جوابًا عن الشبهة.
ثمّ إِنَّهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمَ المُجيب أن يعقوب علیه السلام قد اطمأن قلبه بسلامة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فإنَّه مَحْضُ احتمال، وإن لَمْ يُؤيَّد بقرينة فلا قيمة له، بل يُحمل أنَّ يعقوب علیه السلام بَقِيَ خائِفًا، ومُتَوقعًا حدوث خَطَرٍ على يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما في بعض الروايات الضعيفة سندًا، منها ما رواه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة عن الإمام السجاد علي بن الحسين ع حديثاً جاء فيه: (قال يعقوب علیه السلام: (إنّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذَّنْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ)(1) ، وسف 13، حذرًا منه عليه أن يكون البلوى من لا على يعقوب علیه السلام في يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وكان يعقوب علیه السلام مستعدا للبلوى في يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ خاصة قال: فغلبت قدرة الله لا وقضاؤه، ونافذ أمره في يعقوب علیه السلام ويوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإخوته، فلم يقدر يعقوب علیه السلام على دفع البلاء عن نفسه ولا عن يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإخوته، فدفعه إليهم،
------------------------
تقرير ُ الشبهة
ما أجيب به عن الشبهة
النظر في الجواب
ص: 272
وهو لذلك كان متوقع البلاء من الله في يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ خاصة لموقعه من قلبه وحبّه له، فلما خرجوا به من منزله لحقهم مسرعًا، فانتزعه من أيديهم فضمه إليه واعتنقه وبكى، ثمّ دفعه إليهم وهو كاره، فانطلقوا به مسرعين مخافة أن بأخذه منهم ثم لا يدفعه إليهم...)، الخبر (1).
والصحيح في الجواب عن الشبهة أن يُقال: أن أفعال يعقوب علیه السلام شأنها شَأن أفعال الأنبياء جميعًا، فهي تابعة للأوامر الإلهيَّة، والسَّماحُ لإخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأَخْذِهِ إِنَّما هو أَمْرٌ من الله مأمورٌ به، وكذلك هو مأمورٌ بالصبر على ما يقع من البلاء عليه، وذلك الأمر إنما هو لمصالح، فإنَّ إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ أرادوا إطفاء نور يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ومَحْوَ اسمِه، ولكنَّ الله ل أعلى نورَه وذِكْرَه بعد إبعادهم له، وبَيْعِه بَثَمَنِ بَخْس، حيث صار الحاكم على مصر، فكان البلاء الذي ابتلي به يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو الوسيلة التي أوصله الله ل بها إلى ما وصل إليه بعد صَبْرِه وتسليمه الله عزوجل.
وهذا نَظير ما أُمِرَ به خليل الله إبراهيم علیه السلام مِنْ ذَبح إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ونظيرُ ا أمر به الحسين لنا بإخراج نسائه إلى العراق، مع عِلْمِه بأنَّه مَقْتول، وأَنَّهُنَّ سبايا، فليس سَماح النَّبي يعقوب علیه السلام بخروج يو يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ مع إخوته مع عِلْمِه بما سَيَقع عليه أعْظَم من أمر خليل الرحمن بذبح ولده إسماعيل، وأمر الحسين الله بالخروج مع نسائه.
والحاصل: أنَّ بعض تكاليف أَوْلياءِ الله مُخْتَلفةٌ عن تكاليف غَيْرهم، فإنَّهم قد يؤمرون بأوامر فيها مصالح خفيّة، والله وأولياؤه أَعْلَمُ بحقيقتها،
ص: 273
فَتَعْرِيضُ يعقوب علیه السلام ولده يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله للخَطَر، لمّا كان بأمْرٍ من الله عزوجل لحكمةٍ ومَصْلَحةٍ فهو غَيْرُ قبيح، نظير أمر الله خليله إبراهيم علیه السلام بذبح إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأي خَطَرٍ أَعْظَم من الأمر بالذبح، وكخروج الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأولاده وأهل بيته، وفيهم الأطفال وتعريضهم للخطر، ففعل النَّبي إبراهيم علیه السلام ، والإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ فيه تعريض الولد لخَطَرٍ أَعْظَم من الخَطَر الذي وقع على يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ عالية.
وأمّا الخُدعة فلم تجر على نبي الله، ولم يطمئنَّ لكلام إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ولم يَنْخَدِع بوعْدِهم فإنَّ قوله : ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّنْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (1)، فيه إشعار بأن يعقوب علیه السلام السلام عالم بما سيجري على يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ من البلاء، وليس في الآية ما يدلّ على اقتناع يعقوب علیه السلام بكلام السلام إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وتصديقه لَهُم، حتى يُدعى أنَّه انخدع، بَلْ ما تَضَمَّنته الآيات ذِكْرُ كراهيه ذهاب يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ معهم، وليس فيها ما يدل على اقتناعه بكلامهم، فَضْلاً عن أنَّ الأنبياء مأمورون بالجري على الظاهر، فَعَدَمُ صده لهم، والسَّماح ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالذهاب لعله من جهة خَوْفه أن يزيدَ الحَسَدُ في قلوبهم إذا مَنَعَهم، ومن صفاتِ المؤمِن كما ورد في الروايات عن النبي أنَّه ( غرّ كريم) (2)، بمعنى أنَّه يتصرف على ظاهر الحال، فإذا أريد الكيد به فيه ظاهرًا، وقد تمكن نبي الله يعقوب علیه السلام الله بواسطة إرسال يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ إخوته من تجنيبه القتل المحتمل صدوره منهم بسبب حسدهم له.
ص: 274
المورد الثالث: قوله تعالى:( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (1).
مفاد الشبهة : أن يعقوب علیه السلام الله بكى على يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله حتى ابيضت عيناه أنَّ وذَهَبَ نورُ بَصَرِه، وهذا إسراف في الحُزْن، ومن شَأْنِ الأنبياءِ التَّجَلُّد والصَّبْر ، وما صَدَر مِن يعقوب علیه السلام مُخالف لذلك.
أجيب عن هذه الشُّبهة بجوابين:
الأوّل: أنَّ ما أَظْهَرَه يعقوب علیه السلام التالية من الحُزْنِ يسير من كثير، وما أخفاه وتصبر عليه أكثر.
الثاني: أنَّ التَّجَلُّدَ على المصائب وإخفاء الحُزْنِ والبكاء أمورٌ مُسْتَحبَّة، وتَرْكُ المُسْتَحب ليس معصية.
وفي هذين الجوابين نَظَر، لأنَّ ظاهرهما التسليم بما ورد في الشُّبهة من أنَّ البكاء مخالف للصَّبر، وهذا الأمر غير صحيح؛ لأنَّ ما يُخالف الصَّبرَ الاعتراض على قضاء الله وليس البكاء، وقد حكى الله صلى الله عليه وسلم قَوْلَ نبيه يعقوب علیه السلام : (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ )(2)، فإذا بكى يَنْبَغِي أن يُعْلَم أن البكاء لا يُنافي الصَّبر، وإلا لما صَدَر منه، لأنَّه وَطَّن نَفْسَه الصبر الجميل، كما جاء في الآية، مما يدلُّ على أنَّ البكاء لا ينافي الصبر، وفي قصة النبي النبي موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ الخضر الله ما يدل على ان ما يُخالف الصبر هو الاعتراض.
------------------------
تقرير ُ الشبهة
الجواب على الشبهة
النظر في الجوابين
ص: 275
ويَنبغي أن يُعْلَم أيضًا أنَّ البُكاء حالة طبيعية لكل البشر، ومنهم الأنبياء الله، وإلا فلَوْ لَمْ يبكوا على ما يؤلم لكانوا مُجَرَّدين عن المشاعر، والأحاسيس، ومُنْفَكِّين عن الطبيعة البشرية، فلا يكون لهم فضل على غيرهم عند اجتنابهم ما نهوا عنه وإتيانهم بما أمروا به، بَلْ البُكاء مَظْهَرٌ من مَظاهر الرَّحمة وقد بكى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على ابنه إبراهيم علیه السلام وقال:
(إنَّ العينَ تَدمع ، والقَلْبَ يَحْزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم علیه السلام لمحزونون)(1).
وفي قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: ( ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا ) إشارةً إلى أنَّ الاعْتِراض على الله، وقولَ ما لا يُرضي الربّ هو المُنافي للصبر، ولَيْسَ البكاءَ المجرد عن ذلك.
والصَّبر قَدْ يَكون مُستحبا، وقد يكون واجبًا، كالصبر عن المعصية، والصبر في المصيبة، وليس مُسْتَحِبًّا مُطْلَقًا، بَلْ يَخْتَلِف باختلاف مُتَعلَّقه.
فَمَنْشأ الشُّبهة هو عَدَمُ وضوح مفهوم الصَّبْر، وتَوَهُم مُنافاته البكاء.
ولبيانِ عَدَمِ المُنافاة نقول:
الصَّبْرُ لغةً هو الإمساك والحَبْس ، فالصَّبر من الإِنسان هو حَبْسٌ نَفْسِه ضِمْن أَوَامِرٍ العَقْل، والشَّرْع، يقال: صَبَرْتُ نَفْسي على ذلك الأمر، أي حَبَسْتُها، وهو يَخْتَلِف باختلاف ،موارده فالصبر في المصيبة حَبْسُ النَّفْسِ عن الاضطراب، والثَّبات ضِمْن أوامر العَقْل، والشَّرع، وعدم الخُروج عن
ص: 276
حدودهما المفروضة، وهذا المعنى هو الشائع عرفًا للصَّبْر، ويُقابله الجَزَع، قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(1)، فقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون) من أبرز مظاهر الثَّبات، والتسليم لقضاءِ الله ، والبكاء لا يُنافي هذا التسليم، ولَمْ يَثْبت لا مِنْ جِهَةِ العَقْل، ولا الشَّرْع، ولا اللُّغة أَنَّ البكاء يُنافي الصبر.
ص: 277
ص: 278
عصمة نبي الله أيوب عليه السلام
ص: 279
ص: 280
عصْمَةُ نبي الله أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ
قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (1)، وقال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (2).
وفي هاتين الآيتين عدة أمورٍ تَوَهَّمَها مُخطَّئَةُ الأنبياء:
الأمرُ :الأوَّل: توهمهم ابتلاء النبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالأمراض المنفّرة:
قد فَسَّروا الضُرَّ والنُصْبَ الذي أصيب به النبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بما يَشْمُل الأمراض المُنَفِّرة، فذَهَبَ جَمْعٌ من علماء العامة إلى أنَّ اللهَ تعالى ابتلى نبيَّه أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ببدنه، فتَقَرَّحَ جميعُ بدَنِه حَتَّى خَرَجَ منه الدود، ونتنت رائحته واستوحَشَ مِنْه النَّاس، ورُمِيَ على المَرْبَلة ، ووَرَدَ ذلك في كثير من رواياتهم. والجواب عن ذلك: أنَّ ما اعتمدوا عليه من روايات لإثبات مدعاهم، إنَّما هي روايات إسرائيلية موضوعة للحَطّ من مَكانَةِ الأنبياء ، وقُدسيَّتهم، فلا يُمْكِنُ الرُّكون إليها، وأمّا أقوال مُفَسّريهم فهي باطلة، لأنه ليس في الآيات ما يَدُلُّ على ذلك صريحًا، بَلْ ولا ما يُشيرُ إليه تَلْوِيحًا ، فإِنَّ كلماتِ
------------------------
ما توهمه مخطّئة اﻷنبياء في هاتين اﻵيتين
ص: 281
الصِّرِّ والنُّصْب والعَذاب الواردة في الآيتين لا تَدلُّ على ما زَعَموهِ مِنْ تَقَرُّح جميع بَدَنِ النَّبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وخروج الدود منه، ورميه على المزبلة والعياذ بالله .
فالعذاب هو كلُّ ألم طالَ أَمَدُه مهما كان سبه، كالضَّرْب وغيره، وعليه فالعَذابُ أخص من الألم، لأنَّه ألم متصف بطولُ المُدَّةٍ، سواء استمرَّ إلى غير نهايَةٍ كعذابِ جَهَنَّم، أم انقَطَع، أمّا الألم الذي يزول بِسُرْعَة كَقَرْصَةِ البَعوضة فلا يقالُ لَهُ عَذَاب.
وأمّا النُصب فهو التَّعَب ولكن مع الانزعاج النَّفْسِي، فالفَرْقُ بَيْنه وبَيْنَ التَّعَب أنَ التَّعَبَ غير مُقترن بانزعاج نفسي، لأنَّ الإنسان قَدْ يَتْعَب مع عَدَم الانزعاج كمَنْ يَتْعَب في خِدْمَةِ حبيبه، وقَدْ يَتْعَب مع انزعاج نفسي كَمَنْ يَتْعَب في خِدمة الظَّالِم مُكْرَهاً.
وأمّا الضُرّ فهو كلُّ ما خالَفَ النَّفْع كالألم، والمَرَضِ، والهزال، والفَقْر، وقَدْ يَأْتي الضُرّ بمَعْنى الشر، لأنَّه قيل: أنَّ كلَّ ما يَسْتَعينُ به الإِنْسانُ للوصول إلى الخَيْر هو نفع، وكل ما يستعين به الإنسان للوصول إلى الشرِّ هو ضُرٌّ.
فليس في دَلالةِ هذه الكلمات الثَّلاثة لُغَةً ما زعموه ونَسبوه إلى النَّبيِّ أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فإنَّ (العذاب) ألم كما عرفت، و(النُّصْب) تَعَبِّ. بَقِيَ كَلِمَة (صُرٌ) الموضوعة لُغَةً لكلِّ ما خالَفَ النَّفْع من مَرَضِ وغيره، ولكن أن يُستفاد منها مَرَضٌ مُعيّن، كتَقَرُّح جميع البَدَن، أو خروج الدود، أو نتن الرائحة، فليس ذلك مِنْ مَدلول الأمور يحتاج لقرينَةٍ
ص: 282
والحال أنها مفقودَةٌ في المقام، وذلك لخُلُو الآيَتَيْن عن أَيَّةِ قَرِينَةٍ تَدلُّ على ذلك.
فضلاً عن أنَّ الدَّلائل العقليّة أو العُقَلائيّة الواضحة تَمْنَعُ مِنْ نِسْبَة الأمْراضِ المُنَفّرَة إلى الأنبياء الله ، وقَواعِدُ المَذْهَبِ تُنافيه، وقَدْ اسْتَدَلَّ علماؤنا رضوان الله عليهم على امتناع الأمراض المُنَفّرة على الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ من جهة أنَّ إصابتهم بالأمْراضِ المُنَفّرة مُناقِضُ لغَرَضِ المَوْلَى مِنْ بَعْثهم، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى بَعَث الأنبياء ل ليُخْرجوا الناس من الظُّلماتِ إِلى النُّور، ويَهْدوهم إلى ما يريده الله ل منهم، ويبينوا لهم الحلال والحرام ، فإذا أصابَ ذلك النَّبيَّ مَرَضٌ يَقْتضي نُفورَ النَّاس منه، كان ذلك المرض مُنافيًا لِمَا أَمَرَ به مِنْ هِداية الخَلْق، وعائقًا يَمْنَعُ من القَبولِ منه، بَلْ لكان الناس معذورين في ابتعادهم عن النَّبيِّ المُبْتَلَى بذلك المَرَض ، ولا يستحقون العقاب على عَدَمِ الأَخْذِ مِنْه.
وعليه فما ابتلي به النَّبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ من الابتلاءات هو ابتلاؤه في وولده فماتوا، وابتلاؤه في ماله حيث ذَهَبَ بأكمله، وكذلك ابتلاؤه في بَدَنِه فأصيب بعدةٍ من الأمْراضِ، وأمَّا الأَمْراضُ المُنَفّرة التي ذكروها، أو الأخوال المُنَفِّرة كَرَمْيه على المَزْبَلة، والتنفّر من رائحته والاستيحاش من رؤيَتِه، فَإِنَّ ذلك الله يُنَزِّهُ أنبياءه عن جميع (1)
وما يُؤيد هذا الأمر ما رواه الشيخ الصدوق رضی الله عنه في كتاب الخصال، قال: (حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال حدثنا الحسن بن علي السكري، قال
ص: 283
حدثنا محمد بن زكريّا الجوهري، قال حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قال :
إنَّ أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابْتُلِيَ من غير ذنب، وإنَّ الأنبياء لا يُذنبون، لأنَّهم مَعْصومون مُطَهَّرون لا يذنبون، ولا يزيغون ولا يرتكبون ذَنْبًا، صغيرًا، ولا كبيرا.
وقال : إن أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ مع جميع ما ابتلي به لم ينتن له رائحة، ولا قَبْحَت له صورة، ولا خَرَجَت منه مُدَّة من دَمٍ، ولا قيح، ولا استقذره أحدٌ رآه ه، ولا استَوْحَشَ منه أَحَدٌ ،شاهده، ولا يدوَّدُ شيء من جَسَدِهِ، وهكذا يصنع الله لك بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنما اجتنبه الناس لفَقْرِه وضَعْفِه في ظاهر ،أمره، لجهلهم بما لَهُ عند ربه تعالى ذكره من التأييد والفَرَج، وقد قال النبي : أعظم الناس بلاء الأنبياء ثُمَّ الأَمْثَل فالأمثل، وإِنَّما ابتلاه الله لك بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع النَّاسِ؛ لئلا يدعوا له الربوبيَّة إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه، متى شاهدوه ليستدلوا بذلك على أنَّ الثَّواب من الله تعالى ذكره على ضربين: استحقاق، واختصاص، ولئلاً يحتقروا ضعيفًا لضَعْفِه، ولا فقيرًا لفَقْرِه، ولا مريضًا لمَرَضِه، وليعلموا أنَّه يُسْقِم مَن يشاء، ويشفي من يشاء، متى شاء، كيف شاء، بأي سبب شاء، ويجعل ذلك عبرةً لمن يشاء، وشقاوةً لمن يشاء، وسعادةً لمن يشاء، وهو في جميع ذلك عدل في قضائه، وحكيم في أفعاله، لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم، ولا قوَّةَ لهم إلا به) (1).
ص: 284
فما وَصَلَّنا إليه من نتيجةٍ إلى هنا أنَّه ليس في الآية دلالة على ابتلاء نبي الله أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالأمراض المُنَفّرة التي زعمها مخطئة الأنبياء، وجاءَتْ في تفاسير العامة.
وأمَّا فيما يخص الجَنْبة الروائيَّة من طرقنا، ففي كتبنا ثلاث طوائف من الروايات:
طائفةٌ جاءَ فيها أنَّ النَّبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ قد ابتلي بالأمراض المُنَفّرة، منها: ما جاء في تفسير علي ابن إبراهيم علیه السلام القمي رضی الله عنه: (عن (عن أبيه، أبيه، عن ابن عن ابن فضال، عن عبد بن بحر، عن ابن مسكان عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قال: سألته عن بَليَة أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علَّةٍ كانت؟ قال: لِنِعْمَةٍ أَنْعَمَ الله عليه بها في الدنيا وأدَّى شُكْرَها، وكان في ذلك الزمان لا يُحْجَب إبليس من دون العَرْش، فلمَّا صَعَدَ، ورأى شُكْرَ أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ على نِعْمةِ، حَسَدَهُ إبليس، وقال: يا ربِّ إِنَّ أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدُّنيا، ولو حَرَمْتَهُ دنياه ما أدّى إليك شُكْرَ نِعْمَةٍ أبدا، فسلّطني على دنياه حتى تعلم أنَّه لا يؤدّي إليك شكر نعمة أبدا، فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده، قال: فانحدر إبليس فلم يُبْقِ له مالاً وولدا إلاّ أعْطَبَهُ، فازداد أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ شكرًا لله، وحَمْدَا، قال: فسلّطني على زَرْعِه، قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفَحَ فيه فاحترق، فازداد أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله شكرًا، وحمدا، فقال: يا ربّ سلّطني على غنمه، فسلّطه على غنمه ،فأهلكها، فازداد أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله شكرًا، وحمدا، وقال: يا رب سلّطني على بدنه، فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعَيْنَه، فنفخ فيه إبليس فصار قُرْحَةً واحدة من قَرنه إلى قَدَمِه، فبقي في ذلك دهراً طويلاً يحمد الله ويشكره، حتى وقع في بدنه الدود وكانت تَخْرُج من بدنه فيردّها ويقول لها:
ص: 285
ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه ، ونَتُنَ حتى أخرجه أهل القرية من القرية وألقوه في المزبلة خارج القرية، وكانت امرأته رحيمة بنت يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ بن يعقوب علیه السلام بن إسحاق بن إبراهيم علیه السلام صلوات الله عليهم أجمعين وعليها تتصدق من الناس وتأتيه بما تجده... الخبر)،(1) الخبر.
وطائفة أخرى جاءَ فيها أنَّ الله تبارك وتعالى لا يَسْلب العَقْل عن أنبيائه عَلَيْهِم السَّلاَمُ، منها: ما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي، قال: (مُحَمَّد بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْن سِنَانٍ، عَنْ عُثْمَانَ النَّوَاءِ، عَمَّنْ ذَكَرَه، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَ: إِنَّ الله يعزوجل َبْتَلِي الْمُؤْمِنَ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ ويُمِيتُه بِكُلِّ مِيتَةٍ ولا يَبْتَلِيه بِذَهَابِ عَقْلِهِ ، أَمَا تَرَى أَيُّوبَ كَيْفَ سُلْطَ إِبْلِيسُ عَلَى مَالِهِ وعَلَى وُلْدِهِ وعَلَى أَهْلِهِ وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَى عَقْلِهِ، تُرِكَ لَه لِيُوَحدَ اللَّهَ بِه).
وطائفة ثالثة جاء فيها أنَّ أنبياء الله منزهون عن الأمراض المُنفّرة، منها: ما رواه رواه الصدوق في الخصال وقد مرّ.
والصحيح أن يُؤخذ بالأخبار الصحيحة في المقام، وأن تُطرح الضعيفة، فإنَّ خبر الخصال ضعيف بالحسن بن علي السكري المهمل، وبالحسين بن المختار الواقفي الذي لم يوثق، وبجعفر بن محمد بن عمارة المهمل، كما هو واضح، وأما خبر تفسير القمي وغيره من الأخبار القريبة من مضمونه ففيها الصحيح فيؤخذ بالصحيح منها دون غيره.
ص: 286
فإن قيل كيف هذا، والدليل العقلي قائم على وجوب تنزه الأنبياء عن الأمراض المُنَفّرة؟!
فالجواب: دلیل عقلائي، وليس عَقْليًّا، والأدلة العقلائية يُمكن تخصيصها، بخلاف الأدلّة العَقْليَّة، فالدليل الدال على وجوب تنزه الأنبياء الا عن الأمراض المنفّرة دليل عقلائي يمكن تخصيصه بما إذا كان في ابتلائه بالمرض نحو من المصلحة، ولا مانع حينئذ من الابتلاء بالأمراض المُنَفّرة في حال كان في ابتلاء النبي به نحو من المصلحة، وأيّ فَرْقٍ بين ما ابتلي به الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما ابتلي به النبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فإن بلاء الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أعظم بمراحل؛ فقد صعد الشِّمْر على صدره، وحزّ نَحْره، وسُلِبَت
ثيابه، وحرقت خيامه، ورض جسده بحوافر الخيول، وسُبيَت حُرَمُه، وتُركَ جَسَده (صلوات الله عليه) على رمضاء كربلاء ثلاثة أيام بدون دفن، فتسلّط الشَّيْطان على بدن أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ كتسلّط الأشرار كالشمر، وسنان على بدن الإمام الحسين الله، ولا فَرْقَ بينهما من هذه الجهة والحكمة كما اقتضت تسلّط الأشرار على بدن سيّد الشهداء فهي اقتضت تسلّط إبليس على بَدَنِ النبي الله أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وفعل الأمراض المنفّرة فيه كان لمصلحة إظهار صبره، وما لا سلطان للشيطان عليه إنّما هو غوايةً وإضلال المُخْلَصين من عباد الله، وأمّا التسلّط على أجسادِهم في حالٍ معيَّنةٍ لمصلحة فلا مانع منه.
ولكِنَّ الأمراض المنفّرة التي جوزنا نسبتها إلى النبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وقلنا إنَّ الدليل العقلائي على التنزه لا يشملها، وهو ما كان في الابتلاء بها ضرب من المصلحة المراد بها الأمراض التي لا تبلغ درجة التنفير فيها إلى حد كبير، بحيث يوجب تنفّر النوع منه، فخروجُ الدُّود، ورَمْي نبي الله أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ على
ص: 287
المزبلة _كما جاء كثيرًا في مرويات العامة _ أمران منفّران لا نلتزم بابتلاء نبي الله أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بهما للدليل العقلائي، ولعدم ورود حديث صحيح يثبت هذا الأمر من طُرُقِنا.
وأما ابتلاؤه بتقرّح الجسد فهو وإن كان مرضاً منفّرًا بأدنى درجات التنفير، ولكنَّ الدَّليل العقلائي لا يمنع مثل هذا الحد من التنفير، ولأنه وَرَدَت بعض الأخبار الصحيحة بهذا المضمون كرواية الصدوق في العلل، فليس من الصحيح الذهاب إلى أنَّ الله عزوجل بتلى نبيه أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالأمراض المنفّرة أي ما ورد في الروايات من أنواع الأمراض، لأنَّ الدليل العقلائي يَمْنَع ابتلاءه بجميعها على اختلاف مراتبها فى التنفير ، ولأن كثيرًا من هذه الأخبار ضعاف لا يُمكن الاعتماد عليها، وليس من الصَّحيح مَنْعُ ابتلاءِ النَّبيِّ بالأمْراضِ المُنَفّرَة مُطْلَقًا، بما فيها ما يوجب أوَّل درجات التنفير كَتَقَرُّح الجَسَد، ولكن الصحيح هو القَوْل الوَسَط بينهما، وذلك بأن يقال: أَنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابْتُلِيَ بَبَعْض الأمراض المُنَفّرة التي لا تَصِلُ إلى درجة عالية من التنفير، وذلك لأنَّ الدَّليل العُقَلائيّ لا يَمْنَع مثل هذا الحد من التنفير، ولورود بعض الأخبار الصحيحة في ذلك.
الأمرُ الثاني: ممّا يُمْكِن أَن يَتَمسَّك به المُخَطَّئَة مُتَوهّمين دلالته على الذنب من الأنبياء ما حكاه تعالى عن أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الم: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أيُّوبَ إِذ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابِ ) (1).
ص: 288
مفاد الشبهة: أنَّ ما أصاب أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ في أهْلِه وماله وبَدَنِه قد عبَّرَت عنه الآية بالعذاب، وهذا يدل على كونه مُدْنِبًا، لأنَّ العَذاب كالعِقاب، إِنَّما يَلْحَق العبد بعدَ اقتِرافِه للذنب، وروى العامّة أنَّ سَبَبَ العَذاب الذي ابتلي به إِنَّما هو تركه للأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر.
وقد أجاب السيد المرتضى عن هذا الأمر بما حاصله:
أن كلمة (عذاب) لا تدلّ على العقوبة، وأن ما وقع من الألم والضرّ إِنَّما وقع جزاءً على فعل قد أتى به العبد، قال في كتابه تنزيه الأنبياء: (وأما له (العذاب) فهو أيضاً يَجْري مجرى المَضار التي يختص إطلاق ذكرها بجهةٍ دون جهة، ولهذا يُقال للظَّالِم والمُبتدئ بالظُّلم: أنَّه معذب ومضر ومُؤلِم، وربما قيل: (معاقِب) على سبيل المجاز، وليست لَفْظَة (العذاب) جاريةً مَجْرى لَفْظَةِ العِقاب)؛ لأنَّ لَفْظَةَ (العِقاب) تقتضي بظاهرها الجزاء؛ لأنها من التعقيب والمُعاقبة، ولَفْظَةُ (العذاب) ليست كذلك)(1)، انتهى كلامه رُفِعَ مقامه.
ويؤيد كلام السيد المرتضى رحمة الله علیه ما قاله الجوهري في الصحاح: (والعذاب العقوبة، وقد عذبته تعذيباً)(2).
فإنّ كلمة العقوبة جزاء على فعل لدلالة مادتها على التعقيب، أمّا العذاب فقد يقع ابتداءً وقد يقع جزاءً، ولكن إطلاقه على ما وقع جزاء مجازٌ.
------------------------
تقرير الشبهة
جواب السيد المرتضى قدس سره
ص: 289
وجواب المرتضى رحمة الله علیه متين جداً من الناحية اللُّغَوِيَّة؛ فإنَّه ليس في مادة الكلمة ما يدلّ على أنّ الألم الذي وقع جزاءً عذاب، بل العذاب من العذب؛ لأنَّ هذا الأمر يَسْلُب من الإنسان عَذب الرَّاحة، فمادة الكلمة لا تدلّ على أَزْيَدَ من وقوع الألم.
ولكن يُمكن دفع توهمهم بما تضمنته الآية نفسها، وهو أنَّ العذاب نُسب إلى الشيطان، فكَيْفَ يجوز لهم أن ينسبوه إلى الله عزوجل مدعين أنَّ ذلك منافٍ للعصمة؟! لأنَّ ما ينافي العِصْمة أن يُعَذِّب الله نبيًّا من أنبيائه بنحو يكون هو موقعًا عبده بعذاب لذنب قد اقترفَه ذلك العبد، أما ما كان للشيطان مدخليّة في وقوعه على نبي من الأنبياء كالعَذاب والألم فهو لا ينافي العصمة بوجهٍ من الوجوه.
فظاهر الآية أنَّ النبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ قد توجه إلى الله عزوجل بالدعاء بأن الشيطان قَدْ مسه بنُصب وعذاب فمِنَ الغريب جدًّا أن يُستدل بهذا الظهور على أنَّ العذاب لذنْب وَقَع من أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ استحق أن يُعَذِّبه الله عزوجل عليه مع ظهور الآية بأنَّ سَبَب العذاب هو إبليس اللعين.
بقي في الآية بَحْث: وهو أنَّه أَسدَ فيها النُّصْبُ والعذابُ إلى الشيطان، وهذا ظاهر في أنه سبب في حصول ما وقَعَ به نبي الله أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأن له مدخلية في ذلك.
هذا واختلف الأعلام رضوان الله عليهم في أنَّ ما لإبليس مدخليّة فيه ما هو ؟ فقيل : إنَّ المُراد بالنصب والعذاب اللذين كانا من تأثير الشيطان إنَّما هما التَّعَبُ النفسي؛ لأن اللعين كان يأتيه فيذكره ما كان فيه من النعيم والعافية
ص: 290
مُريدًا بذلك أن يُخْرِجَه عن الصبر والرّضا فلم يكن أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ليَنْخَدع بكلامه لعصمته، ولكن كان يتأذى من ذلك، وكان إبليس يوسوس إلى قوم أن يَتَجنّبوه، ويستقذروه، ويُخْرجوه من بينهم بدعوى أنَّه لو كان نبيًّا لَما ابتلاه الله بهذه الأمراض، ولما طال زمنها عليه.
وأمَّا المرض الذي أصيب به فهو من الله وإبليس غير قادر على إدخال المَرَض على الأجساد، وهذا قول السيد المرتضى في كتابه تنزيه كتابه تنزيه الأنبياء حَيْثُ قال: (فأما إضافته ذلك إلى الشَّيطان وإنّما ابتلاه الله تعالى به فَلَهُ وجه صحيح، لأنَّه لَمْ يُضِف المَرَض والسُّقم إلى الشَّيطان، وإنَّما أضاف إليه ما كان يستضرُّ من وسوسته ويَتْعَبُ به من تذكيره له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء، ودعائه له إلى التضجر والتبرُّم بما هو عليه، ولأنَّه كان أيضاً يوسوس إلى قومه بأن يستَقْذِروه ويَتَجَنَّبوه لما كان عليه من الأمراض البَشِعَة المَنْظَر _ ويُخْرجوه من بينهم، وكلّ هذا ضرر من جهة اللعين إبليس ...) (1)
ثم قال رحمة الله علیه : ومَنْ لا يَعْلَم أَنَّ الله تعالى لا يُسَلّط إبليس على خَلْقِه، وأنَّ إبليس لا يَقْدر على أن يَقْرَحَ الأجساد ولا أن يَفْعَلَ الأمْراض كيف يعتمد على روايته؟ فأما هذه الأمراض النازلة بأيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله، فلم تكن إلا اختبارًا وامتحانًا وتَعْريضا للتَّواب بالصبر عليها والعِوَض العظيم النفيس في مقابلتها،
ص: 291
وهذه سُنَّة الله تعالى في أصفيائه وأوليائه...)(1)، انتهى موضع الحاجة من كلامه رُفِعَ فِي الخُلْدِ مَقَامُه.
وقد علّق العلامة المجلسي في البحار على كلام المرتضى رحمة الله علیه قائلاً: (لا أعرف وجها لهذا الإنكار الفظيع والتشنيع على تلك الرواية، ولا أعرف فَرْقًا بين ما صدر من أشقياء الإنس بالنسبة إلى الأنبياء حَيْثُ خلاهم الله مع إرادتهم بمقتضى حكمته الكاملة ولم يَمْنَعْهم عنها، وبين ما نُقِلَ من تَسليط إبليس في تلك الواقعة، والجواب مشترك.
نعم، لا يجوز أن يتَسَلَّط الشيطان على أديانهم كما دلت عليه الآيات، وأما الأبدان فَلَمْ يَقُم دليل على نَفْي تَسلُّطه عليها أحياناً لضَرْب من المصلحة، وكيف لا وهو الذي يُغْري الأشرار في قتل الأخيار جميع وإضرارهم؟! وأيضًا أي دليل قام على امتناع قدرة إبليس على فِعْل يوجِبُ تقريحَ الأجساد وحدوث الأمراض، وأي فرق بين الشياطين والإنس في ذلك؟! نعم لو قيل بعدم ثبوت بعض الخصوصيات من جهة الأخبار لأمكن ذلك، لكن الحُكْم بنفيها بمجرد الاستبعاد غير موجه، والله يعلم)(2) انتهى كلامه رفع مقامه.
والحق ما أفاده العلامة المجلسي رحمة الله علیه من أنَّ لإبليس مدخليّة في الألم البدني، والمَرَض الذي أصاب نبي الله أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ولا منافاة بين استناد المَرَض إلى الأسباب الطبيعية واستناده إلى إبليس اللعين؛ لأنهما سببان
ص: 292
طوليان، ولا مانع في أن يؤثر الشَّيطان هذا التأثير في أجساد الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ في حال أقدره الله عليه وأذن له بذلك لحكمة، وهذا ما يظهر من بعض الروايات، والمُمْتَنِع على الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ أن يؤثر الشيطان في نفوسهم وأن يضلَّهم، أما أن يؤثر في أبدانهم في حالةٍ معيّنة أذن له بذلك لمصلحة كإظهار صَبْرِ النَّبي أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وجعله مثلاً للناس كي تَصْبِرَ على البلاء والفَقْر والمَرَض فلا مانع منه.
هذا فيما يخص دلالة الآية، وقد تَبَيَّن أنه ليس فيها ما يدلّ على أن ما أصاب أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ من بلاء أنَّه كان لذنب قد أذْنَبَه، بل ما أصابه إِنَّما هو لرفع درجته وجعله مَثَلاً للصَّبر ولغيره من الحِكَم، وهذا ما يمكن استفادته من مَدح أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ في آخر الآية بقوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب (1)، فلو كان أوّل الآية دالاً على كونه مذنبًا _كما زعموا لكان مَدحه عقيب ذلك موهِما أنه مدح على الذنب.
وحكمة الله ك جارية على ابتلاء أنبيائه وأوليائه بل وكل مؤمِن، وأما غير المؤمن فلا يُبتلى، والسرّ في ذلك أنَّ الله أرادَ رفع درجات أنبيائه والتكفير عن ذنوب المؤمنين فابتلاهم فالابتلاء للمؤمن قد يكون تكفيراً لذنب، وقد يكون فيه رفع درجة إن صبر على ما ابتلي به، روى الرضيه رحمة الله علیه في نهج البلاغة: (مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْت فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْر جِلْبَابًا ) (2).
ص: 293
وذلك لأن الإيمان إنَّما يتحقق بحب أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ فيوجب ذلك الابتلاء بالفقر وغيره إمّا تكفيرًا للذنوب وإمّا رفعًا للدرجات، وأما ابتلاء الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ فهو لمَحْضِ رَفْعِ الدَّرَجات.
روى العامة أن سبب ابتلاء بالمعروف ونهيه عن المنكر، حيث روى السيوطي في الدرّ المنثور بعض الأخبار، فقال:
(وأخرج ابن عساكر عن عقبة بن عامر قال: قال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: قال الله لأتوب تدري ما جُرْمك إليَّ حتى ابتليتك؟ فقال: لا يا رب، قال: لأنك دخلت على فرعون فداهَنْتَ عنده في كلمتين.
وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: إنَّما كان ذنب أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه استعان به مسكين على ظُلْم يدرؤه عنه فَلَمْ يُعِنْهُ ولم يأمر بمعروف ويَنْهَ الظَّالِم عن ظلم المسكين فابتلاه الله.
وأخرج ابن عساكر عن الليث بن سعد، قال: كان السَّبَب الذي ابتلي فيه أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه دخل أهل قريته على ملكهم وهو جبَّار من الجبابرة وذكر بعض ما كان ظلمه الناس، فكلموه فأبلغوا في كلامه ورفق أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ في كلامه له مخافة منه لزرعه فقال الله: اتقيت عبداً من عبادي من أجل زَرْعِكَ فَأَنزَلَ الله به ما أنزل من البلاء.
وأخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني، قال: أجْدَب الشَّام فكتب فرعون إلى أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أن هَلُم إلينا فإنَّ لك عندنا سعة، فأقبل بخيله وماشيته وبنيه فأقطعهم، فدخل شُعَيْب، فقال فرعون: أما تخاف أن يغضب غضبة فيغضب
ص: 294
لغضبه أهل السماوات والأرض والجبال والبحار؟ فسكت أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فلما خرجا من عنده أوحى الله إلى أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَوَسَكَتَ عن فرعون لذهابك إلى أرضه؟! استعد للبلاء، قال: فَدِيني ؟ قال : أسلِمُهُ لك، قال: لا أبالي ) (1).
وهذا كلُّه كَذِبٌ وافتراء على أنبياء الله ، فإن الآيات القرآنية والروايات المتواترة قد نَزَّهَت الأنبياء عن الذنب وغواية الشيطان لهم، ومعه لا قيمة لهذه الروايات التي رواها ابن عساكر وغيره.
وأما ما رواه العلامة المجلسي في البحار : قال النبي : أوحى الله إلى أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله : هل تدري ما ذنبك إلى حين أصابك البلاء؟ قال: لا، قال: إنك دخلت على فرعون فداهنت في كلمتين) (2)، فإنّ هذه الرواية ليست ثابتة، ولا يمكن الركون إليها، بل الأدلة العقلية والنقلية توجب ردّها وعدم الأخذ بها، فضلاً أنَّ العلامة المجلسي هو ناقل لها، ومجرد نقلها لا يعني أخذه بها واعتقاده بمضمونها، لا سيّما أنه قد نقل ما يناقضها من أنَّ أيوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابْتُلِيَ من غير ذنب، وهذا سبب عدم تعليقه عليها باعتبار أنها ظاهرة البطلان .
------------------------
التعليق على مرويات العامة
ص: 295
ص: 296
عصمة نبي شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ
ص: 297
ص: 298
في قِصَّةِ النبيِّ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِدَّةُ مَوارِدَ يُمْكِن أَن يَتَمَسَّكَ عام بها مُخَطَّئَةٌ الأنبياء:
الموردُ الأوَّل: قوله تعالى: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِ جَنَّكَ يَا شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)(1)
وفي هذا المورد شبهتان:
تَقْرِيرُ الشُّبهة الأولى: أنَّه ما مَعْنى أن يُعَلّق نبي الله شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ العود إلى ملة قومه الكُفَّار على مشيئة الله ، كما جاء في قوله تعالى حكاية عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ:( وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ، فإنَّ اللَّهَ وَ عزوجل لَا يَرْضى بالعَوْدِ إِلَى ملَّة الكُفَّار ولا يَشاء ذلك، ومعه لا معنى لتعليق العود على مشيئة عزوجل.
------------------------
الشبهة اﻷولى: تعليق العود إلى ملّة الكفّار على مشيئة اﷲ عزوجل
ص: 299
والحاصل: أنَّ لمخطئة الأنبياء أن يزعموا أن كلامَ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ فيه أَمْرَان فاسدان :
الأوّل :إمكان أن يشاء الله عَوْد شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى ملة أهْل الكفر.
والثاني: إمكان أن يعود شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى ملة أهل الكفر.
هذا، ومن ناحية أخرى قد ثبت في علم المعقول أن تعليق شيءٍ على يدل على إمكان المُعلَّق ، وإن كان المعلَّق عليه مستحيلاً، هذا فيما إذا كان التعليق حقيقيًّا وليس صوريًا، ففي الآية وإن كان المعلَّق عليه أن يشَاءَ اللهُ عودَ شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى ملة أهل الكفر - مستحيلاً، لأنَّ اللهَ لا يشاءُ ولا يرضى الكفر من عباده ، إلاّ أنَّ التَّعْليق نفسه يدلُّ على إمكانِ العَوْد.
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
الأوّل: أَنَّه إن كان المُرادُ بملة قوم شعیب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ملة نبي سابق عليه كما الكفار على سيأتي الكلام عن ذلك في الشبهة الثانية، فتعليق العود إليها على مشيئة الله لا مشيئة الله ورجل ضَيْرَ فيه، باعتبار أن شريعتهم إنَّما هي شريعة أحد الأنبياء السابقين على شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله، فإن شاءَ اللهُ تعالى الشعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ له أن يعود إلى تلك الشريعة عاد، ولا يلزم من تعليقه العودَ على مشيئة الله ، وكذا عوده إلى ملّتهم على هذا الوجه أى محذور.
الثاني: أنه إن كان قوم شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُه على ملة الكفر فالعَوْد إلى ملتهم ذَنْب، وقد مرَّ سابقًا أنَّ صدور الذنب من الأنبياء ليس مستحيلاً عقلاً، وليس أمرًا ممتنعًا في ذاته كاجتماع النقيضين، بل امتناع ذلك إنَّما هو امتناع وقوعيّ إمكانه ذاتا، وعليه لما كان صدور الذنب من شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ممكنا ذاتا
ص: 300
فتعليقه على مشيئة الله عزوجل لا محذور فيه، وإن كان لا يقع خارجًا، وما ينافي التعليق أن يكون الأمر فى نفسه مُمْتَنِعًا.
الحاصل أن تعليق شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ عودَه إلى ملة الكفار على مشيئة الله عزوجل و يدل على إمكان ذلك ذاتاً وإن كان ممتنعًا ،وقوعًا، وعليه لَمَّا كان عوده في ذاته فلا يلغو التعليق، ولكن لَغْويّة التَّعليق تثبت في حال كان عوده ممتنعا في ذاته.
تقرير الشُّبهة الثانية: أنَّ الله ل قد حكى قول شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله: (وَمَا يَكُونُ لَنَا في أن العود أَنْ نَعُودَ)(1) ، والعَوْدُ لغةً هو أنْ يَرْجِعَ الإنسان إلى ما كان فيه، والعائد إلى الشيء هو من كان فيه، قال تعالى:( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ الكفر سابقا كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ )(2) ، وعَوْدُ القمر كالعُرْجون القديم معناه عوده في آخر الشهر قوسًا دقيقًا بالنسبة للرائي كما كان قَبْلَ ذلك.
والحاصل: أنَّ العَوْدَ هو الرُّجوع، والرُّجوع لا يتحقق إلا إذا كان هناك حال أو صفةً أو غير ذلك فيما مضى، وعاد إليها الإنسان، وهذا يدل على أنَّ شعیب عَلَيْهِ السَّلاَمُ قد كان فيما مضى على ملة قومه من الكفر بالله، وهو مناف للعصمة التي يقول بها الإمامية من أن الأنبياء معصومون قبل البعثة وبعدها، وأنه لا يصدر منهم الكفر بالله فيما مضى قط ولا يصدر منهم فيما يأتي أبدا. قيل في الجواب عن هذه الشَّبهة، أنّ في الكلام تجوز، إما مجاز في الكلمة، وإما مجاز في الإسناد:
هذه الشبهة
------------------------
الشبهة الثانية في أن العود يقتضي تحقّق الكفر سابقًا
ما أجيب به عن هذه الشبهة
ص: 301
أما حمل الكلام على المجاز في الكلمة قالوا: إِنَّ العَوْدَ قد يصدق على الشَّيء الذي يُعمَل ابتداءً، وقد ذُكِرَت لذلك شواهِدٌ من شِعْرِ العَرَب.
وأما حمل الكلام على المجاز في الإسناد، فتقريره على ما نُسب ذلك إلى العلامة له، قال: (إنَّ الآية تتضمّن شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُا الله ومَن آمن معه من قومه، لقوله تعالى: ( لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) (1) ، ولا شك في أن هؤلاء المؤمنين من قومه كانوا كفارا، فكان الضمير عائدا إليهم معطوفا على ضمير الذين دخلوا في الإيمان بعد الكفر، وغلبوا الجماعة على ضمير الواحد، فكذا قول شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (إن عُدنا فِي مِلَّتِكُمْ) (2)، غلب فيه ضمير الجماعة على ضميره)(3).
نقول: إنه على كلا التقديرين، أي سواء أكان حمل الكلام على المجاز في الكلمة، أو المجاز في الإسناد، أن هذه الاستعمالات لا شك بأنَّها استعمالات مجازية، والمجاز لا يُصار إليه بدون قرينة، فلا يَنْفَع هذا في الجواب عن الشبهة.
ثم إنَّ المجاز بحاجةٍ إلى بيان النكتة البلاغية فيه، فإنَّ ادَّعاء المجاز لا من دون إبراز النكتة التي دَعَت البليغ إلى العدول من الاستعمالِ الحقيقي إلى المجازي.
ص: 302
وإن قيل: إنَّ عِصْمَةَ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ قرينة صارفة للعود الذي هو حقيقة في الرُّجوع إلى الشيء إلى معنى الابتداء بالفعل.
فالجواب: أنَّ القرينة الصارفة لا تكفي لإثبات وجه اقتضاء التعبير المجازي والعدول عن الاستعمال الحقيقي، فضلاً عن أن ذلك مصادرة؛ فإنّ الخَصْمَ لا يسلّم بالعصمة مُطْلَقًا.
وقَدْ أجيب عن هذه الشُّبهة: بأنَّه من المُمكن أن يكون قومُ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ على ملة أحد الأنبياء السابقين على شريعته ولما أرسل الله لهم شعيبًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأوجب عليهم أن يتبعوا شريعته الناسخة لشريعة ذلك النبي السابق رفضوا ذلك وأصروا على البقاء على ملتِهم التي كانوا فيها، حالهم حال النصارى واليهود الذين رفضوا شريعة النبي الخاتم صلی الله علیه .
وهذا ما أجاب به السيد دلدار علي رحمة الله علیه في كتابه عماد الإسلام حيث قال: هع (والجواب: أنه يجوز أن يكون قومه قبل بعثته في دين نبي آخر، وكان شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضًا في دينه، فلما بعثَهُ الله تعالى ترك دين النبي السابق ولا ضَيْرَ في ذلك).
ومما يمكن تأييد هذا الاحتمال به ما أورده الراغب الأصفهاني في معجم مفردات القرآن الكريم من أن الملة هي هي اسم لما شرع الله، حيث قال:
(الملة كالدين، وهو اسم لما شرع الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا به إلى جوار الله ، والفَرْق بينها وبين الدين أنَّ الملَّةَ لا تُضاف إلا إلى النبي عليه الصلاة والسلام الذي تُسند إليه نحو: (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ )(1)،
------------------------
جواب السيد دلدار علي رحمة الله علیه عن الشبهة
ص: 303
( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ أَبَائِي) (1)، ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله ولا إلى آحاد أمة النبى صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ولا تُسْتعمل إلا في حَمَلَةِ الشَّرائع دون آحادها...)(2).
وفي هذا الجواب نظر :
وذلك أن كلام شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله الذي حكاه القرآن الكريم فيه أمران لا يصحّ معهما الالتزام بما ذهب إليه السيد دلدار علي رحمة الله علیه :
الأول: قوله تعالى حكايةً لقول شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ :(أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (3)، فَلَوْ كانت ملة قوم - الله ملة أحد الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ لما كان شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ كارها لها حتى مع كونه مأمورًا بتشريعات تغاير شريعة ذلك النبي، وذلك لأن مغايرة شريعة لأخرى في الأحكام لا تقتضي كراهة نبي كل شريعة للشريعة الأخرى، فإنَّ مغايرة شريعة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله الله الشريعة موسى وعيسى علا تقتضي كراهته لتلك الشرائع التي كانت بأمر من الله ل لهما في زمانيهما، وهذا يدلُّ على أنَّ ملّة قوم شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ كانت ملَّةَ كُفْرٍ، وهذا ما اقتضى كرهه لها.
والثاني: قوله: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِن عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ )(4)، والافتراء تعمد نسبة أمر باطل إلى الله عزوجل ، وهذا الأمر يتنافى مع جواب السيّد
------------------------
النظر في جواب السيد دلدار علي
ص: 304
دلدار عليه، فإنّه لَوْ كانت شريعة قَوْمٍ شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ من الشرائع السماوية لأَحَدِ الأنبياءِ لما كان في العود إليها افتراء على الله.
ثمَّ إِنَّ كلام الراغب الأصفهاني الذي اعتبرناه مؤيدا لما ذَهَب إليه السيّد دلدار عليه في غیر محله؛ لأنَّ الدين غير الملّة، وذلك لأن الدين عند الله أمْرٌ واحد، وهو الإسلام الذي يشترك فيه جميع الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ، وهو عبارة عن أصول الاعتقاد من التوحيد والعدل والمعاد، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام)(1)، وقال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (2) ، بَيْنَما المِلَلُ متغايرة، فإنَّ ملة عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مغايرة في بعض أحكامها لملة موسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وملة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله محمد مغايرة لملة عيسى وموسى عَلَيْهِم السَّلاَمُ، و لو فسرت الملة بالدين كما زَعَمَ الراغب لاقتضى ذلك تغاير دين كل نبي عن الآخر وهو أمر واضح البطلان بديهي الفساد.
الجواب عن الشبهة
والجواب الصحيح :أن جل الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ الكنبي الله موسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ وشعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومنهم النَّبي الأعظم الله لم يثبت أنَّهم قَدْ جهروا بالدَّعوة إلى الله ومنهم السلام والتوحيد وبيّنوا أنَّهم أنبياء مُرْسَلون من قبل الله إلا في وقت متأخر من حياتهم، نعَمْ قَدْ ثبت خلاف ذلك من عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ويحيىعَلَيْهِ السَّلاَمُ فإنهما جَهَرا بالنُّبوَّة في حال صغرهما، قال تعالى حكايةً عن عيسى الله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ
ص: 305
اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا )(1)، وقال حكايةً عن يحيى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَيًّا )(2)، بخلاف باقي الأنبياء الذين كانوا الله قبل وجوب الجَهْرِ بالدَّعْوَة إلى الله وتبليغ الرسالة يتقون قومهم فلا يتبين لقومهم إيمانهم قَبْلَ ذلك، ومن هنا قال قَوْمُ شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الا: (الَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا )(3)؛ لأنهم كانوا يظنون أنَّ شعيبًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ على ملتِهم وطريقتهم، فأرادوا منه العَوْدَ إلى ما كانوا يظنّونه عليه.
المورد الثاني: قوله تعالى حكايةً عن قول النبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ لقومه: (وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودُ )(4).
تقرير الشبهة: أنّ التَّوْبةَ عُطِفَت على الاستغفار في الآية، والشَّيْءُ لا الشيء على يُعْطَف على نفسه، لا سيّما أن حَرْف العطف الذي يفيد التراخي بَيْنَ المعطوف والمعطوف عليه وهو (ثم)، فإنّه من المقرّر في علم النحو أنّ العطف يقتضي المغايرة ولذا لا يصح عَطْفُ الشيء على نفسه، فلا يُقال: (جاءني زيد وأبو حسين) في حال كان زيد هو المكنى بأبي حسين، وكذلك الأفعال؛ فإنَّ الفعل لا يُعْطَف على نفسه، وفي مقامنا الاستغفار الحال في والتوبة شيء واحد، وقد جاء في الآية عطف التوبة على الاستغفار.
وهذه الشبهة قد ذكرها غير واحد من المتقدمين منهم الرازي في كتابه عصمة الأنبياء حيث قال: (ما معنى قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
------------------------
شبهة عطف الشيء على نفسه
ص: 306
بُوا إليه) إليه ، والشيء لا يعطف على نفسه لا سيّما بالحرف الذي يقتضي التراخي وهو ثم؟)) (1) انتهى.
وهذه الشبهة لا تختص بالنبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، بل هي واردة على النظم القرآني؛ حيث حكى الله له قول شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بما جاء في الآية، فلا بد من الجواب عن الشبهة لتنزه القرآن أيضًا عن وقوع الخطأ في نَظْمِه وبيانه.
وقد أجاب الرازي عن الشُّبهة بما حاصله : أنَّ التوبة والاستغفار وإن كانا شيئًا واحدا ولكن المغايرة بينهما بالاعتبار، من حيث إن الاستغفار يُلْحَظُ أوَّلاً بما هو غرض ومقصد للإنسان، بأن يقصد ويتوجه إلى مغفرة الله، ثمَّ يَجْعَل التوبة سببًا لحصول المغفرة التي قصدها، فالمغفرة أولاً بلحاظ كونها أمرًا مطلوبًا، وآخرا بلحاظ التحقق وحصول المغفرة، قال في كتابه عصمة الأنبياء: (المعنى: اجعلوا المغفرة غرضكم الذي تتوجّهون إليه، ثمّ توصلوا بالتوبة، فالمغفرة أوّل في الطَّلَب وآخر في السبب)(2)، انتهى.
و فی ما أجاب به نَظَر فإنّه إن بنى على أنّ التوبة والمغفرة أمرً واحدٌ ومعنى فارد، فالاعتبارات واللحاظات لا توجب تعددًا حقيقيًّا يصحح عَطف أحدهما على الآخر، لأنَّ الأمور الواقعية التكوينية لا يوجب الاعتبار طروءَ تَغَيرِ وتبدل عليها، فلو اعتبر المعتبرُ أنَّ الذهب حجارة لما أثر اعتباره شيئًا على حقيقة الذهب خارجًا.
------------------------
جواب الرازي عن الشبهة
النظر في جواب الرازي
ص: 307
والجواب الصحيح:أنَّ التوبة أمرٌ مغاير للاستغفار، وليست التوبة والاستغفار معنىً واحدًا، فإنَّ التَّوْبة هي الندم على الذنب والعزم على عدم العود إليه، وأمّا الاستغفار فهو طلب المغفرة من الله سبحانه، وعليه فالشبهة غير واردة؛ لاختلاف مدلول التوبة عن مدلول الاستغفار.
المورد الثالث: قوله تعالى حكايةً عن قول النبي موسی شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ( إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عندك وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (1).
تقرير الشبهة الأولى: أنَّه لا يجوز الترديد في عَقْدِ النكاح؛ لأنَّه من العقود اللازمة كالبيع، وإن وقع الترديد فيه بَطَل، فالتَّرْدِيدُ في قول البائع جهة المُثْمَن كأن يقول: (بعتُك أحد هذين الشيئين بألف دينار) يُبْطِل البيع، وكذلك الترديد في قول البائع من جهة الثَّمن: (بعتك هذا الشيء بألف أو بألفي دينار) يُبْطِلُ البيع، وفي الآية قد اشتمل قول النبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ على أَمْرَيْن مردَّدَيْن:
الأول : قوله: (إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن).
والثاني :قوله (عَلَى أَنْ تَأجُرَني ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنَّ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عندك)، والأوّل تَرْديد في المعقود عليها، والثاني ترديد في المهر، وهذان الترديدان يبطلان عقد النكاح، فكَيْفَ صح هذا التَّرْديد من النبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ مقام عَقْدِ النّكاح مع أنَّه مُبْطِلُ للعَقْد ؟!.
------------------------
الجواب الصحيح
الشبهة اﻷولى الترديد في عقد النكاح
ص: 308
جواب السيّد المرتضى قدّس سرّه عن الشبهة
وقد أجاب علم الهدى المرتضى عن هذه الشبهة بعدة أجوبة، أهمها جوابان :
حاصل الأوّل: أنَّه يجوز أن تكون الأغنام لبنت شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهو المُتَولّي لأمرها والقابض لصداقها، بمعنى أن شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُا ل وكيل من قبل ابنته والمتولي لأمر الغنم والمحدد للمهر أيضًا والقابض له، فحينئذ تكون فائدة استئجار علي ثماني حجج للرَّعْي عائدةً للبنت؛ لأنَّها صاحبة الغنم وشعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ المتولّي لها، ومعه يرتفع الإشكال.
قال رحمة الله علیه في تنزيه الأنبياء: (ووجه آخر، وهو: أنَّه يجوز أن تكون الغنم كانت للبنت، وكان الأب المتولي لأمرها والقابض لصداقها، لأنه لا خلاف أنَّ قبض الأب مهر بنته البكر البالغ جائز ، وأنَّه ليس لأحدٍ من الأولياء ذلك غيره، وأجمعوا أنَّ بنت شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ كانت بكرًا ) (1) ، انتهى.
وحاصل الثاني: أنَّه يجوز أن تكون الغنم لشعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن وفائدة الاستئجار تعود له النا، ولكنَّه أرادَ تعويض ابنته قيمةَ رَعْي الغنم ويجعله مهرًا لها، فلو كان رعي الغنم ثماني سنوات يساوي ألف دينار مثلاً فيجعل ذلك لابنته مهرًا، فلا يكون الصداق هو الرعي نفسه بل القيمة المعوّضة وهي الألف دينار.
ص: 309
قال في تنزيه الأنبياء: يجوز أن تكون الغنم كانت لشعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ اللام ، وكانت الفائدة باستئجار من يرعاها عائدةً عليه، إلاّ أنَّه أراد أن يعوّض بنته عن قيمة رعيها فيكون ذلك مهرا لها ...)(1)، انتهى.
وفيما أجاب به رحمة الله علیه نظر:
أمّا الجواب الأوّل: فهو وإن كان فقهيًّا مستقيما، فإنَّه يجوز أن يكون شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكيلاً عن ابنته في تولي أمورها وتحديد صداقها وقبضه، ولكنّه لا يتلاءم مع ظاهر الآية التي جاء فيها: عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي، الظاهر في أنَّ موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ أجير الشعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ مما يقتضي أن يكون شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ مالكًا للغنم، لا أنَّه عليه السلام وكيل عن ابنته ممّا يقتضي أن موسى الله أجيرًا لابنته المالكة للغنم ، فلو عبّرت الآية على أن تكون أجيراً) ولم يأتِ فيها التعبير بياء المتكلم (تأجرني)، لكان ما ذكره علم الهدى مُحْتَملاً، ولا ينبغي توهم أنَّ الوكيل يكون هو المؤجّر ،حقيقة بل هو واسطة، وصاحب المال هو المؤجر.
هذا فضلاً عن استغناء الأنبياء الله عن الوكالة بما لهم من الولاية المُطْلَقة على المؤمنين، فإنَّ ولاية الأنبياء الليلة إنما هي امتداد لولاية الله ، عزوجل فلو كان جواب علم الهدى أن أفعال شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله من تحديد المهر وقبضه وغير ذلك من باب الولاية التي يراها عَلَيْهِ السَّلاَمُ لمصلحة، وهي نافذة حتى مع عدم رضا ابنته بذلك، لكان أوفق بالقواعد الفقهية.
------------------------
النظر في جواب المرتضى رحمة الله علیه
ص: 310
وولاية الأنبياء عل على المؤمنين أعظم من ولاية السيد على عبده، فإنَّه ليس للسيد ولايةً على عبده فيما يعود بالأذى عليه كأن يأمره بأمرٍ يُوجِب يُتِلِفَ له عضوًا أو يُوجب هلاگه بخلاف ولاية المعصوم الله فإنَّ له الولاية في حال رأى مصلحة في ذلك على أن يأمر المؤمن بما يؤدي إلى هلاكه.
والجواب الصحيح عن ذلك والله أعلم:
أن هناك مرحلتين في غالب المُعاملات:
الأولى: مَرْحلةُ المُساومة، والثانية: مَرْحلةُ العَقْد.
وما حكاه الباري عزوجل في كتابه الكريم من قول النبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنما هو في مرحلة المساومة، وما يدل على ذلك قول النبي موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ جوابًا لِما عَرَضه عليه النبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَان عَلَيَّ )(1)، وذلك لأنَّ المعنى أن ذلك الذي وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا جميعًا لا يَخْرُج عنه واحدٌ منا، لا أنا عمَّا شَرَطْتَ عَلَيّ، ولا أنت عمّا شرطت على نَفْسِك، وأيُّ الأجلَيْن اخترته ممّا عرضته علي ووفّيته، فلا عُدوان عليّ، أيّ لا أَلْزَمُ بأزيد مِنْه، وهذا أظهر بالمساومة منه بإنشاء العقد؛ لأن موسى الله أجابه بأنه أي الأجلين أختاره فلا عدوان علي، مما هو ظاهر في كونهما في مقام المساومة والاتفاق على النكاح.
تقرير الشبهة الثانية: أنه لا فائدة في الصداق الذي ذَكَرَهُ شعیب عَلَيْهِ السَّلاَمُ تعود علی ابنته والصِداق انما هو للانثی المعقود علیها ولیس لوليّها.
------------------------
الجواب الصحيح عن الشبهة
الشبهة الثانية: خلو عقد النكاح عن فادة عائدة على المعقود عليها
ص: 311
ما أجيب به عن وأجيب عن ذلك كما نُسِبَ إلى أبي حنيفة (1) أنَّه لم يكن استئجار النبي
موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ داقا ولكن عملاً مستقلاً شَرَطَهُ عليه النبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ منَ العَقْد.
وفي هذا الأمر خلاف، وهو أنَّه هل يجوز للولي أن يشترط على الزوج شيئًا له خارجًا عن المَهْر ، أو لا، قيل بالجواز وقيل بعدمه.
والقائلُ بالجواز مُستنده أنَّ الشَّرط خارج عن العَقْد، والمؤمنون عند شروطهم، والشرط جائِز إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّمَ حلالاً.
والقائلُ بعدم الجواز قيل أنَّ مُسْتنده أنَّ الشَّرط جزء من المَهْر، وثبوت جُزْءِ المَهْر لغير المعقود عليها مُبْطِل للعقد.
وفيه نَظَر : حيث إنَّ الشرط ليس جزءً من المهر كما هو واضح، وعليه فالأولى أن يُوَجه مُستند القائل بعدم الجواز بأنَّ الزَّواج عُلقة الطَّرَفين، وكلِّ شَرْط لا فائدة تعودُ فيه إليهما يُبْطِل العَقْد.
وأجاب الطبرسي بما حاصله: أن استئجار النبي موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو أَجْرٌ الطبرسي رحمان للنبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ على تزويجه ابنته، أي على إنشائه عقد الزواج كما هو شائع الله اليوم مِنْ أخذ رجل الدين مقدارًا من المال على إجراء عقد النكاح بين الطَّرفَيْن، فاستئجار موسى له كان أجرًا لشُعَيْب عَلَيْهِ السَّلاَمُ على نَفْسِ عَمَلِه وهو إجراء عقد النكاح وتزويجه ابنته من موسى ولم يكن ذلك صداقًا لابنة شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
فإِنَّ الواجب على الولى ملاحظة مصلحة ،البنت، وملاحظة مصلحة البنت متحققة باختيار الزَّوْج الصَّالح ووجود الصداق، ولا ينافي مصلحتها أخذ الأجرة على إجراء العقد.
------------------------
ما أجيب به عن الشبهة
جواب الشيخ الطبرسي رحمة الله علیه
ص: 312
والحاصل أنَّ في المقام قولين وتعيين الصحيح منهما موقوف على أمرين:
الأوّل: على الرأي الفقهيّ مِنْ جواز الشَّرط ضمنَ العَقْد أو عدم جوازه.
وما نراه أنَّ الشَّرْط جائز حتى وإن كان ضمن العقد، لأنَّه ليس جزءً من الثَّمَن، بل هو دافع إلى العقد أو مانع منه ليس إلا.
والثاني: ظهور الآية، والظاهر أنَّ جواب صاحب المجمع له أوفق بظاهر الآية الكريمة:( إنّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَج)، فإن الآية محتملة لأمرين:
الأوّل: أنَّ الاستئجار كان مقابل الإنكاح وهو إجراء العقد.
الثاني: أنَّ الاستئجار جزاء على قبول شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ تزويج ابنته لموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ من باب أنّه وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وعلى كلا الاحتمالين فكلام أبي حنيفة بعيد عن ظاهر الآية، فإنَّه ليس فی ظاهر الآية ما يدل على أن الاستئجار كان شَرْطًا ضمن العَقْد.
قال تعالى حكايةً عن إحدى ابنتي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ : (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (1).
توضيح الآية: أنَّه بعد أن خرج النبي موسى الله من مدينة فرعون خائفًا يترقب، ورد ماء مدين فوجد عليه جماعةً من الناس يسقون ووَجَدَ من دونهم ابنتي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ التذودان قال ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى ينصرف الناس، فسقى لهما.
------------------------
تذكرةُ وموعظةُ
ص: 313
فطلبت إحدى ابنتي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ من أبيها عَلَيْهِ السَّلاَمُ أن يستأجر النبي موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعد وجدت فيه القوة والأمانة، وقيل: إنّها قد عرفت قوته من نَزْعه للحَجَر الذي كان على البئر وكان لا يستطيع نَزْعَه إلا عدة من الرجال، وعرفت أمانته من غضه للطَّرْف.
ويُستفاد من الآية الكريمة أنّ المرأة الصالحة تسعى إلى إيجاد ما يُغنيها عن ضرورة الخروج من بيتها طلبًا للستر والعفاف، ولذلك لما وجدت إحدى ابنتي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ في النبي موسى الله القوة والأمانة، وهما أهم شرائط المستأجر؛ لأنَّ الأمانة يُحفظ بها المال، والقوة تُؤدّى بها الأعمال على أكمل وجه، فطلبت من أبيها أن يستأجره لكي لا تضطر إلى الخروج من البيت لأداء بعض الأعمال الضروريّة كسقي الماء، لأنَّ النبي شعيب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله كان شيخًا كبيرًا لا يستطيع العمل، كما في جاء في قوله تعالى: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) (1) .
وأمّا المرأة الطالحة فتسعى بكل وسيلة للخروج من بيتها.
روى صاحب دعائم الإسلام عن علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: (قال لنا رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: أي شيءٍ خيرٌ للمرأة؟ فلم يُجِبْه أحدٌ منا، فذكرتُ ذلك لفاطمة، فقالت: ما مِنْ شيءٍ خَيْرٌ للمرأة من أن لا ترى رجلاً ولا يراها، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فقال: صدقت، إنَّها بضعة مني) (2).
ص: 314
المقدمة ...7
بحث العصمة ...13
تمهيد: بحث العصمة ...15
عصمة النبي آدم علیه السلام ...93
عصمة نبي الله نوح علیه السلام ...183
عصمة نبي الله إبراهيم علیه السلام ...205
عصمةُ نبي اللهِ يَعْقوب علیه السلام ...261
قصة نبي الله شُعَيْب عليْه السلام ...299
المحتويات ...315
ص: 315