سرشناسه:مهدي، عبدالزهرا
عنوان و نام پديدآور:الهجوم على بيت فاطمة عليهاالسلام/ عبدالزهرا مهدي
مشخصات نشر:تهران: حر، 1378.
مشخصات ظاهری:[528] ص.جدول
شابک:964-6885-02-9 ؛ 964-6885-02-9
وضعیت فهرست نویسی:فهرستنویسی قبلی
يادداشت:عربی
يادداشت:ص. ع. به انگلیسی:...Abdo Al - Zahra Mahdi. The Attack on Fatima's house.
یادداشت:کتابنامه: ص. [495] - 510؛ همچنین به صورت زیرنویس
موضوع:فاطمه زهرا(س)، 13؟ قبل از هجرت - ق 11
فاطمه زهرا(س)، 13؟ قبل از هجرت - 11ق. -- احادیث
رده بندی کنگره:BP27/2/م 86ه3
رده بندی دیویی:297/973
شماره کتابشناسی ملی:م 78-24088
الهجوم على بيت فاطمة عليهاالسلام
عبد الزهراء مهدي
محرر رقمي:محمد المنصوري
الطبعة الاُولى جمادى الثانية 1420 ه - 2000 م ( قم )
الطبعة الثانية المحقّقة 1421 ه - 2002 م ( كويت )
الطبعة الثالثة 1424 ه -
2003 م ( كويت )
الطبعة الرابعة منقحة ومزيدة 1425 ه - 2004 م ( قم )أخي في الإيمان ..
الكتاب هبة مشروطة بقراءة مازاد على نصفه إلاّ إذا كان للمكتبات العامّة أو المراكز العلمية.. وشكراً
ص: 1
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ
ص: 3
ص: 4
السلام على البتولة الشهيدة ..
ابنة نبيّ الرحمة ..
وزوجة الوصيّ الحجّة ..
ووالدة السادة الأئمة ..
السلام عليك يا فاطمة الزهراء ! ابنة النبيّ المصطفى ..
السلام عليك وعلى أبيك ..
السلام عليك وعلى بعلك وبنيك ..
السلام عليك أيّتها الممتحنة ..
السلام عليك أيّتها المظلومة الصابرة ..
لعن اللّه من منعك حقّك ، ودفعك عن إرثك ..
ولعن اللّه من ظلمك وأعنتك ، وغصصك بريقك ، وأدخل الذلّ بيتك ..
ولعن اللّه من رضي بذلك ، وشايع فيه ، واختاره وأعان عليه .. وألحقهم
بدرك الجحيم .
إني أتقرّب إلى اللّه سبحانه بولايتكم أهل البيت وبالبراءة من أعدائكم من الجنّ والإنس .. وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين .
المزار الكبير : 82 ؛ مصباح الزائر : 53 ؛ وعنه في بحارالأنوار : 100/198 مع اختلاف يسير .
ص: 5
قال اللّه تبارك وتعالى :
« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا
بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤذَنَ لَكُمْ »
الأحزاب (33) : 53
--------------------------------------------
وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :
« ألا إنّ فاطمة عليهاالسلام بابها بابي
وبيتها بيتي ، فمن هتكه فقد هتك حجاب اللّه »
الطرف : 19 ، وعنه في بحار الأنوار : 22/477
ص: 6
قال سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :
« واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الّذي تركه ،
ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذي نقضه ،
ولن تمسكوا به حتّى تعرفوا الّذي نبذه .. ».
نهج البلاغة : 63 خطبة : 147 ، الكافي : 8/390 ، وعنه في بحار الأنوار : 77/371
--------------------------------------------
عن الإمام أبي جعفر عليه السلام :
« من لم يعرف سوء ما أُتي إلينا من ظلمنا وذهاب حقّنا ،
وما رُكبنا به ، فهو شريك من أتى إلينا في ما ولينا به .. »
عقاب الأعمال : 208 ، وعنه في بحار الأنوار : 27/55
ص: 7
ص: 8
إليكَ ..
يا من لم يُوْلَدْ مثله مولود بضغط .. ثم زجر .. ثم مسمار ! ..
يا من لم يستضئ من الدهر سوى البلاء .. ولم يُستقبل منه إلاّ الجفاء .. ولم يورّث إلاّ العناء ! ..
يا من أسقطوا بسقطه كل مثل الإنسانيّة .. ومبادئ الرحمة .. وأُسس الشرف ! ..
يا من حرموه من أن يستهلّ ولو بصرخة .. أو يتظلّم ولو بآه .. أو يتكلّم ولو ببنت شفة ! ..
يا من كمّموا صرخته .. وخنقوا عبرته .. وأطفئوا بصيص نظرته ! ..
يا من تمثّلت بشهادته كل معاني القسوة .. والحقد .. والجناية ! ..
يا من أعدموا به كل مثل الرحمة .. والحنان .. والحبّ ! ..
يا من بدمه أُمضي أحقّيّة الصادقين .. ومنه بزغ نور المستشهدين .. وبه بدء سجلّ الخالدين ! ..
يا من ولد مظلوماً .. ومات محروماً ! ..
يا من حُكم عليه بتعفير القبر وخفائه .. إلى يوم نشر لوائه ! ..
يا برهان الظلامة .. وعنوان القداسة .. وديوان الشرف ! ..
يا شريك أُمَّه في الشهادة .. وصنو أبيه في الظلامة .. وسبَّاق أخويه في الجهاد ! ..
يا قتيل الهدف .. والمبدء .. والولاء ! ..
إليكَ ..
يابن طه وحيدر والزهراء .. يا أخا شبّر وشبير .. يا مشبّر .. يا محسن بن علي ..
وريقات ولائى وودّي وإخلاصي ..
عبد أُمِّك و أبيك
ص: 9
ص: 10
الفصل الأول : الوحي يحذِّر .. ويخبر
19 - 44
الفصل الثاني : الانقلاب على الأعقاب
45 - 97
الفصل الثالث : تفصيل قضيّة الهجوم
99 - 150
الفصل الرابع : جملة من النصوص والآثار في مأساة الهجوم
151 - 364
الفصل الخامس : تظلّم أهل البيت
365 - 431
الفصل السادس : شبهات .. وردود
433 - 489
الخاتمة : الكتب الجامعة لروايات الهجوم وأسنادها
491 - 494
الفهرس التفصيلي
509 - 523
ص: 11
ص: 12
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وآله الطاهرين ، لاسيّما ابن عمه وصهره وسيد أوصيائه وخليفته - بلا فصل - من بعده أمير المؤمنين ، ويعسوب الدين ، وإمام المتقين ، وأوّل المظلومين .. وكذا ابنته سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، السيدة الجليلة ، ذات الأحزان الكثيرة في المدة القليلة ، المظلومة المغصوبة ، المضطهدة المقهورة ، الصدّيقة الشهيدة ، الإنسية الحوراء ، فاطمة الزهراء عليهاالسلام .
واللعن الدائم على أعدائهم ومخالفيهم ومعانديهم وظالميهم ، وغاصبي حقوقهم ، ومنكري فضائلهم ومناقبهم ، ومدّعي شؤونهم ومراتبهم .. من الأولين والآخرين أجمعين ، إلى يوم الدين .
وبعد ؛ لا ريب أن لبعض الحوادث التاريخية موقعية خاصة في المعارف الدينية بحيث يستند إليها في المباحث الكلامية، فلا يكون الفحص فيها والتحقيق حولها من شؤون أهل السيرة خاصة ، بل المتكلمون والمحدثون وغيرهم يبحثون عن مدى صحتها وكيفية وقوعها .. لأهميتها عندهم ؛ ومن هذه الوقائع ما وقع بعد وفاة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ، وكيفية البيعة لأبي بكر وموقف أهل البيت عليهم السلام مع تلك البيعة وكذا سائر المسلمين ..
ص: 13
ويلزمنا أن نذكر - قبل الشروع - أنا لا نرضى بالتفرقة بين المسلمين ، ونبرأ إلى اللّه ممن يوقع بينهم العدواة والشحناء .. ولكن هل يوجب هذا أن نسدّ باب التحقيق ؟!
أو نكمم الحق أو نخفي الواقع .. ؟ !
وهل يكون مثل هذا مبرّراً للمنع عن البحث المنطقي بإيراد الآيات وما اتفق الفريقان على نقله وقبوله من الآثار والروايات ؟!
الحقّ أن السكوت أمام هذه الحوادث والحمل على الصحة في جميع ما صدر من الصحابة يمنعنا من الوصول إلى الحقائق ، بل يوقعنا في الخطأ في فهم المعارف الدينية ، فيجب علينا طرح العصبية والأهواء وملاحظة الأدلة المقبولة عند الجميع .. ثم القضاء بالإنصاف .
* * *
ثم إني رأيت كثيراً عند مراجعتي للكتب الاعتقادية والكلامية - فضلاً عن التاريخية والحديثية - ذكر وقعة الهجوم على بيت فاطمة عليهاالسلام عند امتناع أمير المؤمنين عليه السلامعن البيعة لأبي بكر ، كما وقد احتج بها ، ووجدت جملة من أعلام العامة يصرّون على إنكارها وردّ الروايات الواردة فيها وتضعيفها . . وإن كانت في الكتب المعتبرة عندهم وجاءت عن ثقاتهم ، فانكشف لي أهمية هذا الموضوع وأنّه لم يكن مجرّد قضيّة تاريخية فحسب ، كيف ولها آثار مهمّة في عقائدنا وفي مبحث الأمامة الكبرى ؛ إذ بها يثبت عدم بيعة أمير المؤمنين عليه السلام لأبيبكر اختياراً ، وإنما بايع إجباراً
بعد أن وصل الحال إلى أن أحرقوا باب الدار وأرادوا إحراق البيت على أهله .. وجرّوه إلى المسجد .. وفُعل ما فُعل بحليلته .. وبعد فقد ناصره وجنده و.. وهذا الذي يؤكّد عليه أمير المؤمنين عليه السلام في خطبه ، كما يأتي قوله عليه السلام : « مازلت مظلوماً منذ قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. » .
قال ابن أبي الحديد - بعد ذكر ما قالهُ أمير المؤمنين عليه السلام في التألّم و التظلم عمن تقدم عليه مثل قوله : « ما زلت مظلوماً .. » و« صبرت وفي الحلق شجى وفي العين قذى .. » ، « اللّهم إنّى أستعديك على قريش .. » ، « لقد ظُلِمْت عدد الحجر والمدر .. » - :
ص: 14
وكان المرتضى - يريد السيد المرتضى صاحب الشافي - إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنّما ظفر بملك الدنيا ، ويودعها في كتبه وتصانيفه .(1)
ومن تصفّح كتب العامّة يجد أن طائفة منهم يحكون بيعة أمير المؤمنين عليه السلام لأبي بكر بنحو من التدليس والتحريف ، ويوقعون القارئين الغافلين عن الحقائق في الاشتباه فيتوهّمون :
أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ؛ وإن كان لا يرى أبا بكر أهلاً للخلافة ولكنّه رضي ببيعة النّاس له .
ولم ينافس خيراً ساقه اللّه إلى أبي بكر !!
والمبايعة له وقعت في حال الاختيار !!
بل نادى أبو بكر واستقال الناس بيعتهم له . . ولكن أمير المؤمنين عليه السلام وبقيّة المسلمين أبوا عن الإقالة !!
نعم ، هذه وامثالها - وما أكثرها - أكاذيب اختلقها أقوام ونقلها آخرون من دون تدبّر وتفهّم ، تشبّثوا بها .. لكنّهم غافلون : « يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ » .(2)
فإذا أثبتنا بالدليل القطعي مظلوميتهم عليهم السلام .. وأنه عليه السلام لم يبايع أبا بكر بالطوع والاختيار ، فلا يبقى مجال لهذه الخزعبلات والتسويلات .
ومن هنا ترى القوم قد غضبوا على فاطمة عليهاالسلام (3) - التي يغضب اللّه لغضبها ويرضى لرضاها - ، إذ هي الّتي كشفت للناس عن هذه الحقائق المخفيّة ، وأظهرت بواطن الأُمور :
بدفاعها عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قبل إخراجه وعند إخراجه من البيت ..
ص: 15
وبحضورها في المسجد واعتراضها على أبي بكر ..
وببكائها ليلاً ونهاراً ! ..
وبإلقاءها الخطبة الفدكية الرائعة ، ليميز الناس الحق عن الباطل ..
وبإيصائها بدفنها ليلاً و ..
ولعل من أهمّ ما صنعته بالهيئة الحاكمة وصيتها الخطيرة التي تُعدّ - بحقّ - من أهمّ ما أبقاه لنا التاريخ سنداً ومسنداً لبيان فداحة المصاب .. بل كانت سبباً لكل ما
أكنّه القوم من حقد وضغينة في صدورهم عليها وعلى شيعتها مما لا يعلمه إلاّ اللّه ..
وإلاّ فلماذا لم يصلّ عليها أبو بكر وعمر ؟! وكذا سائر النّاس الذين خذلوها وخذلوا بعلها وقعدوا عن نصرة عترة نبيّهم عليهم السلام ؟!
ولماذا أُخفي قبرها إلى يومك هذا ؟!
ولماذا .. ثم ماذا .. ؟!
* * *
ثم إنّي رأيت أنْ أُوّلف كتاباً يشتمل على مصادر وصمة الهجوم من كتب الفريقين بحيث يكون كافياً لمن أراد الوقوف على الحقّ والصواب ، وهادياً لمن اجتنب الاعتساف ، مع اعترافي بالعجز والقصور وعدم إحصائي لكل ما هو المقصود .
ثم رأيت إخبار النبي صلى الله عليه و آله بما يجري على أهل بيته عليهم السلام في روايات كثيرة فقدّمته في الفصل الأول ، وحيث كان بعض ما وقع قبل وفاته صلى الله عليه و آله مرتبطاً بما نحن فيه ؛ لذا أوردته في الفصل الثاني ، ورأيت أن أسرد الوقائع بحسب وقوعها تاريخياً في الفصل الثالث ، ثم ذكرت مصادرها .. أي ما وقفت عليه من الروايات والأقوال والأشعار من مصادرها الأوليه مرتباً لها بحسب وفيات المؤلفين وذلك ما عقدنا له الفصل الرابع ، وبعد كلّ رواية نذكر من رواها عن المؤلّف السابق أو عن غيره .
وإن كانت للمؤلّف المذكور في العنوان رواية من الروايات التي سبق بيانها فنشير إلى رقمها .
وأتبعته بما وقفت عليه من شكوى أمير المؤمنين عليه السلام والسيدة فاطمة
ص: 16
الزهراء
عليهاالسلام .. وإيصائها بالدفن ليلاً في الفصل الخامس . ثم ذكرت بعض ما أُورد من الشبهات في وقوع تلك القضايا وأجبت عنها مجملاً في الفصل السادس .
تنبيهات :
الأُول : كان مسعاي أن تكون أُصول المطالب المنقولة ممّا اتّفقت عليه كتب الفريقين ، وإن كانت بعض الجزئيات مختصّة بأحدهما ، إلاّ أن ما نستدل به موجود في كتب القوم غالباً ، نعم إنّهم فتحوا لأنفسهم باب التأويلات ، ويجيبون عمّا يستدل الشيعة به بما يتفردون بنقله ، وهذا كما ترى لا يجدي شيئاً .
الثاني : إن المقصود الأوّلي من هذا الكتاب هو ذكر نصوص الروايات وكلمات القدماء والاحتجاج بها ، وما نقلناه عن بعض المتأخّرين إنّما كان استطراداً ، لاسيّما إذا روى رواية لم نجدها في كتب القدماء ، أو أشار إلى إجماع أو شهرة . وذكرنا بعض المتأخّرين من أهل السنّة ليُعلم مدى اعتبار الروايات وقيمتها عند متأخريهم .
الثالث : إذا راجعت البحار - طبع بيروت - تجد أنه ينقص عمّا طُبع في إيران من مجلد 57 إلى آخره ثلاث مجلدات ، فمجلد 54 طبع بيروت يوافق 57 طبع ايران .. وهكذا .
الرابع : لم نقتصر في رمز (خ) على بيان اختلاف النسخ - كما هو المتعارف - بل عمّمناه لما إذا كان منشأه اختلاف ألفاظ الروايات باختلاف مصادره ، أو لتعدد نسخ البدل بسبب تعدد الطبعات لكتاب واحد .
الخامس : نذكر عقيب الأسماء المقدسة ما يناسبها من التحيات والصلوات ، سواء أكانت في المصدر المنقول عنه أم لا .
والمرجوّ لمن راجع هذا الكتاب أن ينظر إليه بعين الإنصاف ويحذر عن الاعتساف ويأخذ بيدنا لما فيه من نقص و سهو ، و يرشدنا لما فيه مما يحتاج إلى الإصلاح إذ نحن لا نريد إلاّ بيان الواقع والحق ، والحق أحق أن يتبع .. واللّه من وراء القصد .
ص: 17
تنبيه ضروري
نحن لا نعتمد على روابات العامّة لعدم اعتبارها عندنا والغرض من نقلها إلزامهم بها والاحتجاج عليهم بها.
نعم إذا كان ما رووه ممّا اتفق على نقله الخاصّة والعامّة نأخذ بها وأمّا اذاتفرّدوا بنقل شيء فلا نذكره إلاّ لإلزامهم بها من دون أن نعتقد به .
استشكل الفضل بن روزبهان الخجندي على العلاّمة الحلّي قدس سره فقال : والعجب أنّ هذا الرجل لا ينقل حديثا إلاّ من جماعة أهل السنّة . فردّ عليه الشيخ المظفر رحمه الله: ... فمن عدم تفرقته بين البحث الإلزامي وغيره ؛ فإنّ المصنّف قدس سره إنّما ينقل عن كتبهم لإلزامهم لا لحاجة به إليها؛ لغناه عنها بالأدلَّة القطعيّة .(1)
وقال الشيخ المظفر رحمه الله- أيضا - : إن أخبارهم غير صالحة للاستدلال بها على شيء من مطالبهم ؛ لأن منتقى أخبارهم ما جمعته الصحاح الستة وهي مشتملة على أنواع من الخلل ، ساقطة عن الاعتبار البتة .(2)
وقال صاحب الجواهر قدس سره : ظاهر الأصحاب عدم الالتفات إلى أخبار العامة وان انجبرت !!(3)
وقال الشيخ الحرّ العاملي رحمه الله : تواترت الأحاديث عن أئمتنا بالنهي عن رواية أحاديث العامّة وإن كانت في مدح أهل البيت عليهم السلام وعن العمل بها ، بل ورد عنهم الأمر بمخالفتها إذا لم يكن عندنا دليل يوافقها .(4)
ص: 18
ص: 19
ص: 20
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « أُذكِّركم اللّه في أهل بيتي » .(1)
وقال صلى الله عليه و آله : « أيها الناس ! لا تأتوني غداً بالدنيا تزفّونها زفّاً ويأتي أهل بيتي شعثاً غبراً مقهورين مظلومين تسيل دماؤهم ... أيّها الناس ! اللّه .. اللّه في أهل بيتي » .(2)
وقال صلى الله عليه و آله : « استوصوا بأهل بيتي خيراً فإنّي أخاصمكم عنهم غداً .. ومن أكن خصمه أخصمه .. ومن أخصمه دخل النار » .(3)
وقال صلى الله عليه و آله : « احفظوني في عترتي وذرّيتي ، فمن حفظني فيهم حفظه اللّه ، ألا لعنة اللّه على من آذاني فيهم .. » - ثلاثاً - .(4)
وقال صلى الله عليه و آله - في حديث الثقلين بعد ذكر العترة - : « .. فلا تقتلوهم ولا تغزوهم »، وفي رواية : « لا تعمدوهم ولا تقصروا عنهم ولا تقهروهم .. فإني قد سألت لهما اللطيف الخبير فأعطاني : ناصرهما لي ناصر ، وخاذلهما لي خاذل ، ووليّهما لي وليّ ، وعدوّهما لي عدوّ » .(5)
ص: 21
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً » .(1)
وقال صلى الله عليه و آله : « .. إلى اللّه أشكوا المنكرين لفضلهم والمضيّعين لحرمتهم بعدي ، كفى باللّه وليّاً وناصراً لعترتي وأئمّة أُمّتي ومنتقماً من الجاحدين لحقّهم « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .. » » .(2)
عقاب من آذى أهل البيت عليهم السلام(3)
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « الويل لظالمي أهل بيتي ، عذابهم مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار » .(4)
وقال صلى الله عليه و آله : « إنّ اللّه حرّم الجنّة على من ظلم أهل بيتي أو قاتلهم أو أغار عليهم أو سبّهم » .(5)
وقال صلى الله عليه و آله : « ستة لعنتهم ، لعنهم اللّه وكلّ نبيّ مجاب ... والمستحلّ من عترتي ما حرّم اللّه .. » .(6)
وقال صلى الله عليه و آله : « اشتدّ غضب اللّه على من آذاني في عترتي » .(7)
وقال صلى الله عليه و آله : « من آذاني في أهلي فقد آذى اللّه » .(8)
ص: 22
وقال صلى الله عليه و آله : « اشتدّ غضب اللّه على من أراق دمي وآذاني في عترتي » .(1)
روى يونس بن حباب ، عن أنس بن مالك ، قال : كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعليّ بن أبي طالب عليه السلام معنا ، فمررنا بحديقة ، فقال علي عليه السلام : « يا رسول اللّه ! ألا ترى ما أحسن هذه الحديقة ؟ » فقال : « إن حديقتك في الجنّة أحسن منها .. » حتى مررنا بسبع حدائق ، يقول عليّ عليه السلام ما قال ويجيبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما أجابه ، ثم إن رسول اللّه وقف فوقفنا ، فوضع رأسه على رأس علي وبكى .. فقال عليّ عليه السلام : « ما يبكيك يا رسول اللّه ؟! » قال : « ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني » .
وزاد سليم :(2) « أحقاد بدر وترات أُحد ... وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أُسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ، فاصبر لظلم قريش إيّاك وتظاهرهم عليك ، فإنّك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه ، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه ، وإنّ موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلّوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، وإن لم يجد أعواناً أن يكفّ يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم » .(3)
وروى الخوارزمي في مناقبه أنه صلى الله عليه و آله قال لأمير المؤمنين عليه السلام : « اتق الضغائن التي لك في صدور من لايظهرها إلاّ بعد موتي « أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّه ُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ »(4)»، ثم بكى صلى الله عليه و آله ، فقيل : ممَّ بكاؤ يا رسول اللّه ؟ ! قال : « أخبرني جبرئيل أنهم يظلمونهويمنعونه حقه ويقاتلونه ويقتلون ولده ويظلمونهم بعده » .(5)
ص: 23
وقال أمير المؤنين عليه السلام : « نشدتكم باللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله كما قال لي : « إنّ اللّه أمرني بولاية عليّ ، فولايته ولايتي وولايتي ولاية ربّي، عهد عهده إليّ ربّي وأمرني أن أُبلّغكموه، فهل سمعتم ؟ » قالوا : نعم ، قد سمعناه.
قال : « أما إنّ فيكم من يقول : قد سمعت وهو يحمل الناس على كتفيه ويعاديه ! » ، قالوا : يا رسول اللّه ! أخبرنا بهم. قال : « أما إنّ ربّي قد أخبرني بهم ، وأمرني بالإعراض عنهم لأمر قد سبق، وإنّما يكتفي أحدكم بما يجد لعليّ في قلبه » .(1)
وروى أبو جعفر الإسكافي : إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دخل على فاطمة عليهاالسلام ، فوجد علياً نائماً ، فذهبت تنبهه ، فقال : « دعيه ! فربّ سهر له بعدي طويل وربّ جفوة لأهل بيتي
من أجله شديدة .. » فبكت ، فقال : « لا تبكي ! فإنكما معي وفي موقف الكرامة عندي » .(2)
عن أبي سعيد الخدري ؛ قال : ذكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوماً لعلي عليه السلام ما يلقى بعده من العنت فأطال ، فقال له عليه السلام : « أُنشدك اللّه والرحم - يا رسول اللّه ! - لمّا دعوت اللّه أن يقبضني إليه قبلك ! .. » قال : « كيف أسأله في أجل مؤجّل ؟! » .(3)
قال النبي صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام : « أما إنّك ستلقى بعدي جهداً » . قال عليه السلام : « في سلامة من ديني ؟ ! » ، قال : « في سلامة من دينك » .(4)
ص: 24
وعنه صلى الله عليه و آله : « يا علي ! ابشر بالسعادة ، فإنك مظلوم بعدي ، ومقتول » .(1)
وقال صلى الله عليه و آله : « أنت وصيّي من بعدي ، وأنت المظلوم المضطهد بعدي » .(2)
وفي حديث مولانا علي بن الحسين السجاد عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « قال لي جبرائيل : يا محمّد ! إن أخاك مضطهد بعدك مغلوب على أُمّتك ، متعوب من أعدائك .. » .(3)
وقال : « يا عليّ إنّك من بعدي مغلوب مغصوب تصبر على الأذى في اللّه وفيّ محتسباً أجرك غير ضائع، فجزاك اللّه عن الإسلام خيرا » .(4)
وعن الإمام الحسين بن علي ، عن أبيه عليهماالسلام قال : « لمّا نزلت : « الم * أحَسِبَ النَّاسُ .. »(5) إلى آخر الآيات ، قلت : يارسول اللّه ! ما هذه الفتنة ؟
قال : « يا علي ! إنك مبتلى ومبتلى بك ، وإنك مخاصم فأعدّ للخصومة » .(6)
وعن مولانا الصادق عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام ، قال : قال النبي صلى الله عليه و آله لفاطمة عليهاالسلام : « إنّ زوجك يلاقي بعدي .. كذا ، ويلاقي بعدي .. كذا .. » فخبّرها بما يلقى بعده .
فقالت : « يا رسول اللّه ! ألا تدعو اللّه أن يصرف ذلك عنه ؟
فقال : قد سألت اللّه ذلك له ، فقال : إنّه مبتلى ومبتلى به » .(7)
روى سدير الصيرفي ، عن أبي جعفر محمّد بن علي عليه السلام هما ، قال : اشتكىعلي عليه السلامشكاة ، فعاده أبو بكر وعمر وخرجا من عنده فأتيا النبي صلى الله عليه و آله، فسألهما : « من
ص: 25
أين جئتما ؟ » قال :(1) عدنا علياً ، قال : « كيف رأيتماه ؟ » قالا : رأيناه يُخاف عليه مما به ، فقال : « كلاّ إنه لن يموت حتى يوسع غدراً وبغياً ، وليكوننّ في هذه الاُمّة عبرة يعتبر به الناس من بعده » .(2)
وفي رواية : إنه عاد النبي صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام ، فقال عمر : يا رسول اللّه ! ما علي إلاّ لما به ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لا والذي نفسي بيده - يا عمر ! - لا يموت حتى يُملأ غيظاً ، ويُوسَّع غدراً ، ويوجد من بعدي صابراً » .(3)
ورووا عن القاسم بن جندب ، عن أنس بن مالك ، قال : مرض علي عليه السلام فثقل ، فجلست عند رأسه فدخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله - ومعه الناس فامتلأ البيت - فقمت من مجلسي فجلس فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فغمز أبو بكر عمر فقام فقال : يا رسول اللّه ! إنّك كنت عهدت إلينا في هذا عهداً وإنّا لا نراه إلاّ لما به ، فإن كان شيء فإلى مَنْ ؟ فسكت
رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلم يجبه ، فغمزه الثانية فكذلك ، ثم الثالثة . فرفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله رأسه ، ثم قال : « إنّ هذا لا يموت من وجعه هذا ولا يموت حتّى تملياه غيظاً ، وتوسعاه غدراً ، وتجداه صابراً » .(4)
وفي رواية سليم : « ثمّ تجداه صابراً قوّاماً ، ولا يموت حتّى يلقى منكما هنات وهنات ، ولا يموت إلاّ شهيداً مقتولاً » .(5)
قيل لأمير المؤمنين عليه السلام في علّة جلوسه عنهم ، قال عليه السلام : « إنّي ذكرت قولالنبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ القوم نقضوا أمرك ، واستبدّوا بها دونك ، وعصوني فيك ، فعليك
ص: 26
بالصبر حتى ينزل الأمر ، فإنهم سيغدرون بك وأنت تعيش على ملّتي وتُقتل على سنّتي .. » .(1)
وعنه صلى الله عليه و آله : « يابن اليمان ! إنّ قريشاً لاح(2) صدورها ، ولا ترضى قلوبها ، ولا تجرى ألسنتها ببيعة عليّ وموالاته إلاّ على الكره والعيّ والطغيان » .(3)
وعنه عليه السلام : « قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله : عليك بالصبر حتى ينزل الأمر ، ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك ، فإنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي .. كذلك أخبرني جبرئيل عن ربّي » .(4)
وفي رواية قال : سمعت علياً يقول : « أما وربّ السماء والأرض .. - ثلاثاً - إنه لعهد النبي الأُمّي إليّ : لتغدرنّ بك الأُمّة من بعدي » .(5)
وعنه عليه السلام : « أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأُمّي إليّ : إنّ الأُمّة ستغدر بك من بعدي » .(6)
عن عبد اللّه بن الغنوي : إنّ علياً عليه السلام خطب بالرحبة ، فقال : « أيّها النّاس ! إنكم قد أبيتم إلاّ أن أقولها : وربّ السماء والأرض إنّ من عهد النبي الأُميّ إليّ : أن
ص: 27
الأُمّة ستغدر بك بعدي » .
قال ابن أبي الحديد : وقد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ أو بقريب منه .(1)
وفي رواية : « .. وأمّا التي أخافها عليك فغدرة(2) قريش بك بعدي يا علي » .(3)
وقال أميرالمؤنين عليه السلام : « لقد علم المستحفظون من أصحاب النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله أنّه ليس فيهم رجل له منقبة إلا وقد شركته فيها وفضّلته، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم .. . وأمّا الثامنة والعشرون : فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى وعدني فيك وعداً لن يخلفه : جعلني نبيًّا وجعلك وصيّا، وستلقى من أُمّتي من بعدي ما لقي موسى من فرعون، فاصبر واحتسب حتّى تلقاني فأُوالي من والاك وأُعادي من عاداك .. » .(4)
وقال عليه السلام : « يابن قيس ! ... أخبرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما الأُمة صانعة بعده ، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم ولا أشدّ استيقانا مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول اللّه صلى الله عليه و آلهأشدّ يقينا مني بما عاينت وشهدت ! فقلت : يا رسول اللّه ! فما تعهد إليّ إذا كان ذلك ؟ قال : « إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعوانا فكفّ يدك واحقن دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب اللّه وسنتي أعوانا » ..
« وأخبرني أن الأُمة ستخذلني وتبايع غيري » ..
« وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الأُمة سيصيرون بعده بمنزلة
ص: 28
هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه ، إذ قال له موسى عليه السلام : « يا هارُونُ ما مَنَعَك إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي * قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي »(1) وإنما يعني : أن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلّوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم ، وإن لم يجد أعوانا أن يكفّ يده ويحقن دمه ولا يفرّق بينهم ، وإني خشيت أن يقول ذلك أخي رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لِمَ فرّقت بين الأُمة ولم ترقب قولي ، وقد عهدت إليك أنك إن لم تجد أعوانا أن تكفّ يدك وتحقن دمك ودم أهلك وشيعتك ؟ ! فلمّا قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه ، وأنا مشغول برسول اللّه بغسله .. » .(2)
وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: « يا أخي ! أنت ستبقى بعدي وستلقى من قريش شدّة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك ، فإن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك ، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفّ يدك ولا تلق بها إلى التهلكة ، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى .. ولك بهارون أُسوة حسنة إذا استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه وهم بمنزلة العجل ومن تبعه » .
« يا علي ! إن اللّه تبارك وتعالى قد قضي الفرقة والاختلاف على هذه الأُمة ، ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من هذه الأُمة ، ولا ينازع في شى من
أمره ، ولا يجحد المفضول لذي الفضل فضله ، ولو شاء لعجّل النقمة وكان منه التغيير حتى يكذّب الظالم ويعلم الحقّ أين مصيره ، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار القرار ، « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُوا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنى » ،(3) فقال علي عليه السلام : الحمد للّه ؛ شكرا على نعمائه وصبرا على بلائه » .(4)
ص: 29
وروى جابر ، عن أبى جعفر ، عن أبيه عليهماالسلام : « قال النبي صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام : « كيف بك - يا علي ! - إذ ولّوها من بعدي فلانا ؟ » ، قال : « هذا سيفي أحول بينهم وبينها » ، قال النبي صلى الله عليه و آله : «أو تكون صابرا محتسبا فهو خير لك منها » ، قال على عليه السلام: « فإذا كان خيرا لي فأصبر وأحتسب » .(1)
وقال أحمد بن همّام : أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر فقلت : يا أبا عمارة ! كان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف ؟ فقال : يا أبا ثعلبة ! إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثوا، فو اللّه لعلي بن أبي طالب عليه السلام كان أحقّ بالخلافة من أبي بكر كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحقّ بالنبوّة من أبي جهل ! ! قال : وأزيدك إنّا كنّا ذات يوم عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله فجاء عليّ عليه السلام وأبو بكر وعمر إلى باب رسول اللّه صلى الله عليه و آله فدخل أبوبكر ، ثم دخل عمر ، ثم دخل عليّ عليه السلام على إثرهما ، فكأنّما سفي على وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله الرماد ! ثم قال : « يا عليّ ! أيتقدّمانك هذان وقد أمّرك اللّه عليهما ؟ ! » قال أبو بكر : نسيت يا رسول اللّه ! وقال عمر : سهوت يا رسول اللّه ! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « ما نسيتما ولا سهوتما ، وكأنّي بكما قد استلبتما ملكه ، وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء اللّه وأعداء رسوله .. وكأنّي بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار بعضهم يضرب وجوه بعض بالسيف على الدنيا .. ولكأنّي بأهل بيتي وهم المقهورون المتشتّتون في أقطارها .. وذلك لأمر قد قضي. . » ، ثم بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى سالت دموعه، ثم قال : « يا عليّ ! الصبر.. الصبر.. حتى ينزل الأمر ولا قوّة إلا باللّه العليّ العظيم، فإنّ لك من الأجر في كلّ يوم ما لا يحصيه كاتباك، فإذا أمكنك الأمر فالسيف .. السيف.. فالقتل .. القتل .. حتى يفيئوا إلى أمر اللّه وأمر رسوله، فإنّك على الحقّ ومن ناواك على الباطل، وكذلك ذريّتك من بعدك إلى يوم القيامة » .(2)
ص: 30
لقد كانت السيدة الزكية فاطمة الزهراء عليهاالسلام تعلم ما يجري عليها وعلى بعلها .. كيف لا ؟! وقد أخذ اللّه عهدهم على تلك المصائب في عالم الأظلّة والأشباح(1) ولعلّ إليه أشار مولانا أبو جعفر عليه السلام بقوله : « السلام عليك يا ممتحنة ؛ امتحنك الّذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك به صابرة .. » .(2)
وأخبر اللّه تعالى نبيّه صلى الله عليه و آله ليلة المعراج بما يجري عليه وعلى أهل بيته عليهم السلام ، وأخبر النبي صلى الله عليه و آله أهل البيت عليهم السلام .. بل وسائر الناس مراراً في مجالس شتّى . بل وأخذ العهد منهم - على الصبر - بمحضر من الملائكة المقرّبين عليهم السلام بأمر اللّه تعالى قبل وفاته ، ولذا ترى السيّدة فاطمة عليهاالسلام خائفة عمّا يجري عليها بعد أبيها مترقبة ، فتبكي وتقول : « يا أبة ! أخشى الضيعة بعدك .. »(3) وإليك ما أخبر النبي صلى الله عليه و آله بوقوعه :
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « وأمّا ابنتي فاطمة ؛ فإنها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وهي بضعة منّي ، وهي نور عيني ، وهي ثمرة فؤادي ، وهي روحي التي بين جنبيّ ، وهي الحوراء الإنسيّة ..
وإنّي لمّا رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي ، كأنّي بها وقد دَخل الذلّ بيتها ، وانتُهكت حرمتها ، وغُصبت حقّها ، ومُنعت إرثها ، وكُسرت جنبها ، وأسقطت جنينها ، وهي تنادي يا محمداه ! فلا تجاب .. وتستغيث فلا تغاث .
ص: 31
فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية ، تتذكر انقطاعَ الوحي عن بيتها مرة ، وتتذكر فراقي أُخرى .. وتستوحش إذا جنّها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدت بالقرآن .. ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة .. فعند ذلك يؤنسها اللّه تعالى ذكره بالملائكة ، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران ، فتقول :
يا فاطمة ! إنّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ، يا فاطمة ! اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين .
.. ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض ، فيبعث اللّه عزّ وجلّ إليها مريم بنت عمران تمرّضها وتؤنسها في علّتها ، فتقول عند ذلك : يا ربّ إني سئمت الحياة وتبرمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي .. فيلحقها اللّه عزّ وجل بي ، فتكون أوّل من يلحقني من أهل بيتي ، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة .. فأقول عند ذلك :
اللّهمّ العن من ظلمها ، وعاقب من غصبها ، وذلّل من أذلّها ، وخلّد في نارك من ضرب جنبيها حتى ألقت ولدها .. فتقول الملائكة عند ذلك : آمين .. » .(1)
وعنه صلى الله عليه و آله : « أشكو إلى اللّه جحود أُمتي لأخي ، وتظاهرهم عليه ، وظلمهم له ، وأخذهم حقّه » .
قال : فقلنا له : يا رسول اللّه ! ويكون ذلك ؟! قال : « نعم ، يقتل مظلوماً ، من بعد أن يملأ غيظاً ويوجد عند ذلك صابراً » .
قال : فلمّا سمعت ذلك فاطمة أقبلت حتى دخلت من وراء الحجاب وهي باكية ، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « ما يبكيك يا بنيّة ؟ » قالت : « سمعتك تقول في ابن عمي وولدي ما تقول .. » قال : « وأنت تُظلمين .. وعن حقّك تُدفعين .. وأنت أوّل أهل بيتي
ص: 32
لحوقاً بي بعد أربعين . يا فاطمة ! أنا سلم لمن سالمك وحرب لمن حاربك .. أستودعك اللّه وجبرئيل وصالح المؤمنين » .
قال - سلمان وهو راوي الحديث - : قلت : يا رسول اللّه ! من صالح المؤمنين ؟ قال : « علي بن أبي طالب » .(1)
عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : « بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إذ التفت إلينا فبكى ،
فقلت : ما يبكيك يا رسول اللّه ؟!
فقال : أبكي مما يصنع بكم بعدي .
فقلت : وما ذاك يا رسول اللّه ؟!
قال : أبكي من ضربتك على القرن ، ولطم فاطمة خدّها ، وطعنة الحسن في الفخذ والسم الذي يسقى ، وقتل الحسين ..
قال : فبكى أهل البيت جميعاً ، فقلت : يا رسول اللّه ! ما خلقنا ربّنا إلاّ للبلاء ؟! قال ابشر - يا علي ! - فإن اللّه عزّ وجل قد عهد إليّ : إنه لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق » .(2)
قال ابن عباس : لمّا رجعنا من حجّة الوداع جلسنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله في مسجده ، قال : « .. أيّها الناس ! اللّه اللّه في عترتي وأهل بيتي ، فإنّ فاطمة بضعة منّي ، وولديها عضداي ، وأنا وبعلها كالضوء .. اللّهم ارحم من رحمهم ، ولا تغفر لمن ظلمهم ... » ثمّ دمعت عيناه ، قال : « وكأنّي أنظر الحال » .(3)
ص: 33
عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه و آله ؛ قيل له : إن اللّه مختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك .. ؟ قال : أُسلّم لأمرك يا ربّ ! ولا قوّة لي على الصبر إلاّ بك .. » إلى أن قال :
« وأما الثالثة ؛ فما يلقى أهل بيتك من بعدك من القتل ، أما أخوك ؛ فيلقى من أُمّتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجهد والظلم .. وآخر ذلك القتل .
فقال : يا ربّ ! سلّمت وقبلت ، ومنك التوفيق والصبر .
وأما ابنتك ؛ فتظلم وتحرم ويؤخذ حقّها غصباً - الذي تجعله لها - وتُضرب وهي حامل ، ويُدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن .. ثم يمسّها هوان وذلّ .. ثم لا تجد مانعاً ، وتطرح ما في بطنها من الضرب ، وتموت من ذلك الضرب .
قال : « إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »(1) قبلت يا ربّ ! وسلّمت ، ومنّك التوفيق والصبر ... » ثم قال :
« وأما ابنتك ؛ فإني أوقفها عند عرشي فيقال لها : إنّ اللّه قد حكّمك في خلقه ، فمن ظلمك وظلم وُلدك فاحكمي فيه بما أحببت .. فإني أُجيز حكومتك فيهم ، فتشهد العرصة ؛ فإذا أوقف من ظلمها أمرت به إلى النار .. » إلى أن قال :
« وأوّل من يحكّم فيه محسن بن علي عليه السلام في قاتله ، ثم في قنفذ ، فيؤتيان هو وصاحبه ، فيُضربان بسياط من نار لو وقع سوط منها على البحار لغلت من مشرقها إلى مغربها، ولو وضعت على جبال الدنيا لذابت حتّى تصير رماداً، فيُضربان بها..»(2)
عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام ، قال : سمعت جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، يقول : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « إذا كان يوم القيامة تقبل ابنتي فاطمة على ناقة من نوق
ص: 34
الجنة ... فتسير حتى تحاذي عرش ربّها جلّ جلاله ، فتزج(1) بنفسها عن ناقتها، وتقول : « إلهي وسيدي ! احكم بيني وبين من ظلمني .. اللهم احكم بيني وبين من قتل ولدي .. » فإذا النداء من قبل اللّه جلّ جلاله : يا حبيبتي وابنة حبيبي ! سليني تعطي ، واشفعي تشفّعي ، فوعزّتي وجلالي لا جازني ظلم ظالم .. » .(2)
روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، قال : دخلت فاطمة عليهاالسلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وهو في سكرات الموت - فانكبّت عليه تبكي ، ففتح عينه وأفاق ثم قال :
« يا بنيّة ! أنت المظلومة بعدي .. وأنت المستضعفة بعدي .. فمن آذاك فقد آذاني ، ومن غاظك فقد غاظني ، ومن سرّك فقد سرّني ، ومن برّك فقد برّني ، ومن جفاك فقد جفاني ، ومن وصلك فقد وصلني ، ومن قطعك فقد قطعني ، ومن أنصفك فقد أنصفني ، ومن ظلمك فقد ظلمني ؛ لأنك مني وأنا منك ، وأنت بضعة مني ، وروحي التي بين جنبيّ » .
ثم قال صلى الله عليه و آله : « إلى اللّه أشكو ظالميك من أُمّتي » .
ثم دخل الحسن والحسين عليهماالسلام فانكبّا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهما يبكيان ويقولان : « أنفسنا لنفسك الفداء يا رسول اللّه ! » ، فذهب علي عليه السلام لينحّيهما عنه ، فرفع رأسه إليه ، ثم قال : « دعهما - يا أخي ! - يشمّاني وأشمّهما .. ويتزوّدان منّي وأتزوّد منهما ، فإنهما مقتولان بعدي ظلماً وعدواناً .. فلعنة اللّه على من يقتلهما » ، ثم قال: « يا علي ! أنت المظلوم بعدي ، وأنا خصم لمن أنت خصمه يوم القيامة » .(3)
وفي رواية أُخرى ، عن أبي جعفر الباقر عن آبائه: - بعد قوله صلى الله عليه و آله وأتزوّد منهما - :
ص: 35
« .. فسيلقيان من بعدي زلزالاً ، وأمراً عضالاً ، فلعن اللّه من يخيفهما ..(1) اللّهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين » .(2)
روي عن عيسى بن داود النجّار ، عن موسى بن جعفر ، عن أبيه عليهماالسلام ، قال : « جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأغلق عليهم الباب ، وقال : يا أهلي ويا أهل اللّه ! إنّ اللّه عزّ وجلّ يقرأ عليكم السلام ، وهذا جبرئيل معكم في البيت ، ويقول : إن اللّه عزّ وجلّ يقول : إنّي قد جعلتُ عدوّكم لكم فتنة فما تقولون ؟ قالوا : نصبر - يا رسول للّه ! - لأمر اللّه وما نزل من قضائه حتّى نقدم على اللّه عزّ وجلّ ونستكمل جزيل ثوابه فقد سمعناه يَعِدُ الصابرين الخير كلّه .. فبكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى سمع نحيبه من خارج البيت ، فنزلت هذه الآية : « وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً »(3) .. » .
روى الشيخ المفيد ، عن الشيخ الصدوق ، عن أبيه ، عن أحمد بن ادريس ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن ابن أبي عمير ، عن أبان بن عثمان ، عن أبان بن تغلب ، عن عكرمة ، عن عبد اللّه بن العباس ، قال : لمّا حضرت رسول اللّه صلى الله عليه و آله الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته ، فقيل : يا رسول اللّه ! ما يبكيك ؟!
فقال : « أبكي لذرّيتي وما تصنع بهم شرار أُمتي من بعدي .. كأني بفاطمة بنتي - وقد ظلمت بعدي - وهي تنادي : يا أبتاه ! يا أبتاه ! .. فلا يعينها أحد من أُمتي » .
فسمعت ذلك فاطمة عليهاالسلام فبكت ، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « لا تبكيَنْ يا بنية ! » ،
ص: 36
فقالت : « لست أبكي لما يصنع بي من بعدك ، ولكني أبكي لفراقك يا رسول اللّه » ، فقال لها : « ابشري - يا بنت محمد ! - بسرعة اللحاق بي ، فإنك أوّل من يلحق بي من أهل بيتي » .(1)
عن موسى بن جعفر ، عن أبيه عليه السلام ، قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : .. يا عليّ ! ما أنت صانع لو قد تأمّر القوم عليك بعدي ، وتقدّموا عليك ، وبَعث إليك طاغيتُهم يدعوك إلى البيعة ثم لبّبت بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل .. مذموماً ، مخذولاً ، محزوناً ، مهموماً .. وبعد ذلك ينزل بهذه - أي بفاطمة عليهاالسلام - الذلّ ؟! » .
قال : فلمّا سمعت فاطمة ما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله صرخت وبكت ، فبكى رسول اللّه صلى الله عليه و آلهلبكائها ، وقال : « يا بنية ! لا تبكيَنْ ولا تؤذَينْ جلساءك من الملائكة ، هذا جبرئيل بكى لبكائك وميكائيل وصاحب سرّ اللّه إسرافيل ، يا بنية ! لا تبكيَنْ فقد بكت السماوات والأرض لبكائك » .(2)
عن موسى بن جعفر ، عن أبيه عليهماالسلام قال : « لمّا كانت الليلة التي قبض النبي صلى الله عليه و آله في صبيحتها ، دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأغلق عليه وعليهم الباب .. »
قال علي عليه السلام : « فما لبثت أن نادتني فاطمة عليهاالسلام فدخلت على النبي صلى الله عليه و آله - وهو يجود بنفسه - فبكيت ولم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال يجود بنفسه ، فقال لي : « ما يبكيك يا علي ! ؟ ليس هذا أوان البكاء .. فقد حان الفراق بيني وبينك ، فأستودعك اللّه يا أخي ! فقد اختارني ربّى ما عنده .. وإنّما بكائي وغمي وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي ، فقد أجمع القوم على ظلمكم ، وقد استودعكم اللّه وقَبِلَكُم مني وديعة . يا علي ! إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك ،
ص: 37
فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة .. »
ثم ضمّها إليه ، وقبل رأسها وقال : « فداك أبو ك يا فاطمة ! .. » فعلا صوتها بالبكاء ، ثم ضمّها إليه وقال : « أما واللّه لينتقمنّ اللّه ربّي ، وليغضبن لغضبك ، فالويل ، ثم
الويل ، ثم الويل للظالمين .. » ثم بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
قال علي عليه السلام : « فواللّه لقد حسبت بضعة مني قد ذهبت لبكائه ، حتى هملت عيناه مثل المطر حتى بلّت دموعه لحيته وملاءة كانت عليه ، وهو يلتزم فاطمة لا يفارقها ورأسه على صدري وأنا مسنده ، والحسن والحسين يقبلان قدميه ويبكيان بأعلى أصواتهما .. ».
قال علي عليه السلام : « فلو قلت أن جبرئيل في البيت لصدقت .. لأني كنت أسمع بكاء ونغمة لا أعرفها ، وكنت أعلم أنها أصوات الملائكة لا أشك فيها ، لأن جبرئيل لم يكن في مثل تلك الليلة يفارق النبي صلى الله عليه و آله ، ولقد رأيت بكاءً منها أحسب أن السموات والأرضين قد بكت لها » .
ثم قال لها : يا بنية ! اللّه خليفتي عليكم وهو خير خليفة ، والذي بعثني بالحق لقد بكى لبكائك عرش اللّه وما حوله من الملائكة والسموات والأرضون وما فيهما » .(1)
وقال صلى الله عليه و آله : « يا فاطمة ! والذي بعثني بالحقّ لأقومَنّ بخصومة أعدائك ، وليندمنّ قوم أخذوا حقّك ، وقطعوا مودّتك ، وكذبوا عليَّ ، وليختلجنَّ دوني فأقول : أُمتي ..
أُمتي ، فيقال : إنّهم بدّلوا وصاروا إلى السعير » .(2)
وبالإسناد عنه صلى الله عليه و آله ، أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام : « أنفذ لما أمرتك به فاطمة .. فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل عليه السلام .. واعلم - يا علي ! - إني راضٍ عمّن رضيت عنه
ص: 38
ابنتي فاطمة ، وكذلك ربّي وملائكته .
يا علي ! ويل لمن ظلمها ! .. وويل لمن ابتزها حقها ! .. وويل لمن هتك حرمتها .. ! وويل لمن أحرق بابها ! .. وويل لمن آذى خليلها ! .. وويل لمن شاقها وبارزها ! ..
اللّهم إني منهم بريء وهم مني براء » .
ثم سمّاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. وضمّ فاطمة إليه والحسن والحسين عليهم السلام ، وقال : « اللّهمّ إنّي لهم ولمن شايعهم سلم ، وزعيم بأنهم يدخلون الجنّة ، وعدوّ وحرب لمن عاداهم وظلمهم وتقدّمهم أو تأخّر عنهم وعن شيعتهم ، زعيم بأنّهم يدخلون النار ، ثم - واللّه - يا فاطمة لا أرضى حتى ترضي .. ثم لا واللّه لا أرضى حتى ترضي .. ثم لا واللّه لا أرضى حتى ترضي .. » .(1)
عن سلمان الفارسي ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « يا سلمان ! من أحبّ فاطمة ابنتي فهو في الجنّة معي ، ومن أبغضها فهو في النار ..
يا سلمان ! حبّ فاطمة ينفع في مائة من المواطن ..(2) أيسر تلك المواطن الموت ، والقبر ، والميزان ، والمحشر ، والصراط ، والمحاسبة ، فمن رضيت عنه ابنتي فاطمة رضيت عنه ، ومن رضيت عنه رضي اللّه عنه ، ومن غضبت عليه فاطمة غضبت عليه ، ومن غضبت عليه غضب اللّه عليه . يا سلمان ! ويل لمن يظلمها ويظلم بعلها أمير المؤمنين علياً عليه السلام ويظلم ذرّيتها وشيعتها ! .. » .(3)
وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « .. يا ابنتي ! لقد أخبرني جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ أنك أوّل من يلحقني(4) من أهل بيتي ، فالويل كلّه لمن ظلمك .. والفوز العظيم
ص: 39
لمن نصرك .. » .(1)
في رواية مولانا الإمام الكاظم ، عن أبيه الإمام الصادق عليهماالسلام - عند ذكر الوصية المختومة التي نزل بها جبرئيل مع أُمناء اللّه تعالى من الملائكة عليهم السلام والأمر بإخراج كل من عند النبي صلى الله عليه و آله غير أمير المؤمنين عليه السلام ، وفاطمة عليهاالسلام في ما بين الستر والباب - ..
قال النبي صلى الله عليه و آله : « إنّ جبرئيل وميكائيل في ما بيني وبينك الآن وهما حاضران ، معهما الملائكة المقرّبون لأُشهدهم عليك ، فقال : نعم ، ليشهدوا وأنا - بأبي أنت وأُمي - أُشهدهم .. فأشهدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. وكان في ما اشترط عليه النبي بأمر جبرئيل عليه السلام في ما أمر اللّه عزّ وجلّ أن قال له :
يا علي ! تفي بما فيها ... على الصبر منك ، وعلى كظم الغيظ ، وعلى ذهاب حقي(2) وغصب خمسك ، وانتهاك حرمتك .. »
فقال : « نعم ، يا رسول اللّه ! » .
فقال أمير المؤمنين : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لقد سمعت جبرئيل عليه السلام يقول للنبي صلى الله عليه و آله : يا محمّد ! عرّفه أنَّه ينتهك(3) الحرمة - وهي حرمة اللّه وحرمة رسول اللّه - ، وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط » .
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل ، حتى سقطت على وجهي وقلت : نعم ، قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة ، وعطلت السنن ،
ومزّق الكتاب ، وهدمت الكعبة ، وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط .. صابراًمحتسباً أبداً حتى أقدم عليك » .(4)
ص: 40
ثم دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاطمة والحسن والحسين وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين ، فقالوا مثل قوله .. فختمت الوصية .
فقلت : أكان في الوصية توثبهم وخلافهم على أمير المؤمنين عليه السلام ؟!
فقال : « نعم - واللّه ! شيئاً .. شيئاً وحرفاً .. حرفاً ؛ أما سمعت قول اللّه عزّ وجل : « إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ » .(1)
واللّه لقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين وفاطمة عليهماالسلام : أليس قد فهمتما ما تقدّمت به إليكما وقبلتماه ؟ فقالا : بلى وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا » .(2)
عن عبد اللّه بن عباس - في حديث - أنه قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام : « يا أخي ! إن قريشا ستظاهر عليكم وتجتمع كلمتهم على ظلمك وقهرك .. » ، ثم أقبل على ابنته ، فقال : « إنك أوّل من يلحقني من أهل بيتي ، وأنت سيدة نساء أهل الجنّة ، وسترين بعدي ظلماً وغيظاً حتى تُضربي ويُكسر ضلع من أضلاعك .. لعن اللّه قاتلك ، ولعن اللّه
الآمر والراضي والمعين والمظاهر عليك .. وظالم بعلك وابنيك ..» .(3)
وفي رواية أبي ذر ؛ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :
« .. يا فاطمة ! لا تبكي - فداك أبوك - .. فأنت أوّل من تلحقين بي مظلومة
ص: 41
مغصوبة ، وسوف تظهر بعدي حسيكة النفاق ، ويسمل جلباب الدين ، وأنت أوّل من يرد عليّ الحوض .. » .(1)
وقال صلى الله عليه و آله - قبل وفاته - مخاطباً أهل بيته عليهم السلام : « أما إنكم المقهورون والمستضعفون بعدي » .(2)
عن عمار قال : لمّا حضر رسول اللّه صلى الله عليه و آله الوفاة دعا بعلي عليه السلام فسارّه طويلاً ، ثم قال : « يا علي ! أنت وصيي ووارثي ، قد أعطاك اللّه علمي وفهمي ، فإذا متُّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم وغُصبتَ على حقك .. » فبكت فاطمة عليهاالسلام وبكى الحسن والحسين عليهماالسلام ، فقال لفاطمة : « يا سيدة النسوان ! ممّ بكاؤك ؟! » .
قالت : « يا أبة ! أخشى الضيعة بعدك » .
قال : « ابشري يا فاطمة ! فإنك أوّل من يلحقني من أهل بيتي ، لا تبكي ولا تحزني فإنك سيدة نساء أهل الجنة ، وأباك سيد الأنبياء ، وابن عمّك خير الأوصياء ، وابناك سيدا شباب أهل الجنة ، ومن صلب الحسين يخرج اللّه الأئمة التسعة مطهرون معصومون ، ومنها مهدي هذه الأُمة » .(3)
ص: 42
وفي رواية جابر بن عبد اللّه - بعد قولها : أخشى الضيعة من بعدك - .
قال : « يا حبيبتي ! لا تبكيَنْ ... وقد سألت ربّي عزّ وجلّ أن تكوني أوّل من يلحقني من أهل بيتي ، ألا إنك بضعة منّي ، فمن آذاك فقد آذاني .. »
ثم قال جابر - بعد ذكر عيادة الشيخين لها - : فرفعت يديها إلى السماء وقالت : « اللّهمّ إنّي أُشهدك أنهما قد آذياني ، وغصبا حقّي .. » ثم أعرضت عنهما فلم تكلمهما
بعد ذلك .(1)
قال العلاّمة المجلسي : أقول : وجدت بخط الشيخ محمّد بن علي الجبعي ، نقلاً من خط الشهيد - رفع اللّه درجته - نقلا من مصباح الشيخ أبي منصور - طاب ثراه - قال : روي انه دخل النبي صلى الله عليه و آلهيوماً إلى فاطمة عليهاالسلام فهيّأت له طعاماً من تمر وقرص وسمن ، فاجتمعوا على الأكل هو وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، فلمّا أكلوا .. سجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأطال سجوده ، ثم بكى ، ثم ضحك ، ثم جلس وكان أجرأهم في الكلام عليّ عليه السلام ، فقال :
« يا رسول اللّه ! رأينا منك اليوم ما لم نره قبل ذلك ؟! »
فقال صلى الله عليه و آله : « إني لمّا أكلت معكم فرحت وسررت بسلامتكم واجتماعكم فسجدت للّه تعالى شكراً ، فهبط جبرئيل عليه السلام يقول : سجدت شكراً لفرحك بأهلك ؟ فقلت : نعم .
فقال : ألا أُخبرك بما يجري عليهم بعدك ؟ فقلت : بلى يا أخي ! يا جبرئيل!.
فقال : أما ابنتك ؛ فهي أوّل أهلك لحاقاً بك .. بعد أن تظلم ، ويؤخذ حقّها ، وتمنع إرثها ، ويظلم بعلها ، ويكسر ضلعها .
وأما ابن عمّك ؛ فيظلم ، ويمنع حقّه ، ويقتل .
ص: 43
وأما الحسن ؛ فإنه يظلم ، ويمنع حقّه ، ويقتل بالسم .
وأما الحسين ؛ فإنه يظلم ، ويمنع حقه ، وتقتل عترته ، وتطؤه الخيول ، وينهب رحله وتسبى نساؤه وذراريه ، ويدفن مرمّلاً بدمه ، ويدفنه الغرباء .. » .(1)
وقريب منها ما رواه ابن أبي جمهور الاحسائي مختصراً .(2)
ص: 44
ص: 45
ص: 46
قالت السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام : « أَلَئِنْ مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله أَمتُّم دينه ؟ !! ... تلك نازلة أعلن بها كتاب اللّه قبل موته ، وأنبأكم بها قبل وفاته ، فقال : « وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ » .(1)
وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : « حتّى إذا قبض اللّه رسوله ، رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أُمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصِّ أساسه ، فبنوه في غير موضعه .. معادن كل خطيئة ، وأبواب كلّ ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنّة من آل فرعون .. من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين » .(2)
ودلّتنا النصوص المتواترة - بين الفريقين - إلى هذا الانقلاب الذي أُشير إليه في القرآن ، وصرّحت به الأحاديث ، وقام عليه الوجدان .. وإليك بعضها :
خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : « يا أيّها النّاس ! إنّكم محشورون إلى اللّه عُراةً حفاة
ص: 47
عزّلاً ،(1) ثم تلا : « كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ » .(2)
ثمّ قال : « ألا وإنّ أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإنّه يجاء برجال من أُمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ أصحابي ! .. فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : « وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ »(3) فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم » .(4)
وقال صلى الله عليه و آله : « أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت إليهم لأُناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي ربّ أصحابي ! .. فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » .(5)
وقال صلى الله عليه و آله : « ليردنّ على الحوض رجال ممّن صاحبني ، حتّى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : أي ربّ ! أصحابي أصحابي ! فليقالنّ لي : إنّك لا تدري
ما أحدثوا بعدك » .
وفي بعض الروايات : « فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي » .(6)
وقال صلى الله عليه و آله : « أنا فرطكم على الحوض ، مَنْ مَرّ عليّ شرب ، ومَنْ شرب لم يظمأ أبداً ، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثمّ يحال بيني وبينهم ، فأقول : فإنّهم منّي ،فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي » .(7)
ص: 48
وقال صلى الله عليه و آله : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي » .
أو قال : « من أُمّتي » فَيُحلَّؤُن(1) عن الحوض ، فأقول : يا ربّ أصحابي ! فيقول : لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى » .(2)
قال صلى الله عليه و آله : « بينا أنا قائم [ على الحوض ] إذا زمرة .. حتّى إذا عرفتهم ، خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال لهم : هلمّ ، قلت : إلى أين ؟! قال : إلى النار واللّه ، فقلت : وما شأنهم ؟! قال : إنّهم قد ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ..
ثم إذا زمرة أُخرى ؛ حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال لهم : هلمّ ، فقلت : إلى أين ؟! قال : إلى النار واللّه ، قلت : ما شأنهم ؟ ! قال : إنّهم قد ارتدّوا على أدبارهم .. فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » .(3)
وقال صلى الله عليه و آله : « ترد عليَّ أُمّتي الحوض وأنا أذود الناس كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله ... وليصدنّ عنّي طائفة منكم فلا يصلون ، فأقول : يا ربّ ! هؤلاء من أصحابي .. فيجيئني ملك فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟! » .(4)
وقال صلى الله عليه و آله : « إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم ، ليقتطعنّ دوني رجالاً ، فلأقولنَّ : أي ربّ منّي ومن أُمّتي ، فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ما زالوا
يرجعون على أعقابهم » .(5)
وقال صلى الله عليه و آله : « إنّي على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم ، وسيؤخذ ناس دوني ، فأقول : يا ربّ ! منّي ومن أُمّتي .. » .
وفي رواية : فأقول : أصحابي ! .. فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ، واللّه مابرحوا يرجعون على أعقابهم » .(6)
ص: 49
وقال صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع : « لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » .(1)
قال أُبيّ بن كعب : كنّا مع النبي صلى الله عليه و آله وإنّما وجهنا واحد ، فلمّا قُبض نظرنا هكذا .. وهكذا .(2)
وقال أنس: ما نفضنا عن النبي صلى الله عليه و آله الأيدي - إنّا لفي دفنه - حتّى أنكرنا قلوبنا.(3)
وعن أبي وائل ؛ عن حذيفة ، قال : قلت : يا أبا عبد اللّه ! النفاق اليوم أكثر أم على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ قال : فضرب بيده على جبهته ، وقال : أوه ! وهو اليوم ظاهر ، إنّهم كانوا يستخفونه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .(4)
ثم إنّ اللّه عزّ وجلّ قال : « وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ
ص: 50
مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ » .(1)
وفي هذا ما يستدلّ به على أنّ الأصحاب قد اختلفوا من بعد النبي صلى الله عليه و آله ؛ فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ؛ لاتّفاق الفريقين على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : « والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة » .
وقال صلى الله عليه و آله : « كلّ ما كان في الأمم السالفة فإنّه يكون في هذه الأمّة مثله ، حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة » .(2)
والعجب مما رواه ابن عساكر ، عن ابن عباس ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه و آله - وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية - إذ أقبل علي عليه السلام فقال ، النبي صلى الله عليه و آله لمعاوية : « أتحبّ علياً ؟ » قال : نعم . قال : « إنها ستكون بينكم هنيهة » . قال معاوية : فما بعد ذلك يا رسول اللّه .. ؟! قال : « عفواللّه ورضوانه ! .. » قال : رضينا بقضاء اللّه ورضوانه ... فعند ذلك نزلت هذه الآية : « وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ » !!.(3)
ولا نشك في أنهم حرّفوا الرواية عن وجهها - إن كانت - إذ صرّح في هذه الآية الشريفة بكفر بعضهم ، فكيف يشمل الجميعَ عفو اللّه ورضوانه ؟ ! مع أن الرواية تسند
الذنب في القتال إلى القضاء الإلهي ! وهي إنّما تتمّ على مبناهم الجبري ! وعقيدتهم في الصحابة ! وتنزيههم للمنافقين والكافرين ! ..
كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصرّح بخلافة أمير المؤمنين عليه السلام وإمامته - بأمر من اللّه تعالى -
ص: 51
طيلة حياته ،(1) ومن اليوم الذي دعا أقاربه إلى الإسلام ،(2) وفي السنة العاشرة من الهجرة أمر اللّه رسوله صلى الله عليه و آله أن يحجّ بالنّاس ، فحجّ معه جمع كثير من المسلمين في تلك السنة .
فلمّا دخل مكّة وأقام بها يوماً واحداً هبط جبرئيل عليه السلام بأوّل سورة العنكبوت ، فقال : « يا محمّد ! اقرأ : « بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم * أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ » .(3)
فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « يا جبرئيل ! وما هذه الفتنة ؟! » فقال : يا محمّد ! إنّ اللّه يقرئك السلام ، ويقول : إنّي ما أرسلت نبيّاً إلاّ أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف
على أُمّته من بعده من يقوم مقامه ، ويحيي لهم سنّته وأحكامه ، وهو يأمرك أن تنصب لأُمّتك من بعدك علي بن أبي طالب عليه السلام وتَعْهَد إليه ، فهو الخليفة القائم برعيّتك وأُمّتك إن أطاعوا وإن عصوه .. وسيفعلون ذلك ، وهي الفتنة التي تلوت الآي فيها ، وإنّ اللّه عزّ وجلّ يأمرك أن تعلّمه جميع ما علّمك وتستحفظه جميع ما حفظك واستودعك ،
ص: 52
فإنّه الأمين المؤتمن ، يا محمّد ! إنّي اخترتك من عبادي نبياً واخترته لك وصيّاً » .
وكان من عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يقيم عليّا عليه السلام وينصبه للناس بالمدينة ، فنزل جبرئيل فقرأ عليه : « يا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّه ُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّه َ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِيْنَ » .(1)
فنزل بغدير خم وصلى بالناس وأمرهم أن يجتمعوا إليه ، فخطب الناس فحمد اللّه وأثنى عليه ، ووعظ فأبلغ في الموعظة ، ونعى إلى الأُمّة نفسه ، وقال : « قد دُعيت
ويوشك أن أُجيب ، وقد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي ؛ كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فإنّهما لن يفترقا حتّى
يردا عليّ الحوض » .(2)
ودعا عليّاً عليه السلام ورفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يد علي عليه السلام اليسرى بيده اليمنى ورفع صوته بالولاء لعليّ عليه السلام على الناس أجمعين ، وفرض طاعته عليهم ، وأمرهم أن لا يتخلّفوا عليه بعده ، وخبّرهم أنّ ذلك عن أمر اللّه عزّ وجلّ .(3)
ثمّ نادى بأعلى صوته : « ألستُ أولى بكم منكم بأنفسكم .. ؟ قالوا : اللّهمّ بلى ، فقال لهم - على النسق من غير فصل وقد أخذ بضبعي أمير المؤمنين عليه السلام فرفعهما حتّى
بان بياض إبطيهما - : « فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهمَّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » ، ثمّ نزل صلى الله عليه و آله وكان وقت الظهيرة فصلّى ركعتين ، ثمّ زالت الشمس فأذّن مؤُذِّنه لصلاة الظهر فصلّى بهم الظهر وجلس عليه السلام في خيمته ، وأمر عليّاً عليه السلام أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً .. فيهنّئوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين .. ففعل الناس ذلك كلّهم .. ثمّ أمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين .. ففعلن ، وكان في من أطنب في تهنيته بالمقام عمر بن الخطاب وأظهر له
ص: 53
من المسرّة به ، وقال في ما قال : بخ بخ لك يا علي ! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة !(1)
واجتمع قوم من المنافقين وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يطيعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ما عرض عليهم من ولاية علي عليه السلام بعده ، فلمّا رجعوا من الحجّ ودخلوا المدينة كتبوا صحيفة بينهم ، وكان أوّل ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب عليه السلام وأنّ الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ليس بخارج منهم ،(2) وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً أصحاب العقبة وعشرون رجلاً آخر ، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة ابن الجرّاح وجعلوه أمينهم عليها .
قال حذيفة : حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعيمة - امرأة أبي بكر - : إنّ القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا في ذلك - وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبّرونه في ذلك - حتّى اجتمع رأيهم على ذلك ، فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم .
وأهمّ ما فيها : هذا ما اتّفق عليه الملأ من أصحاب محمّد [ صلى الله عليه و آله ] من المهاجرين والأنصار بعد أن أجهدوا في رأيهم ، وتشاوروا في أمرهم نظراً منهم إلى الإسلام وأهله ، ليقتدي بهم من يأتي بعدهم .
إنّ اللّه لمّا أكمل دينه قبض النبي صلى الله عليه و آله إليه من غير أن يستخلف أحداً وجعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه ونصحه لهم ، والذي يجب
ص: 54
على المسلمين عند مضيّ خليفة من الخلفاء أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح فيتشاوروا في أُمورهم ، فمن رأوه مستحقّاً للخلافة ولّوه أُمورهم .
فإن ادّعى مدّع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله استخلف رجلاً بعينه نصبه للناس ونصّ عليه باسمه فقد أبطل في قوله وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
ولا يكون قربى النبي صلى الله عليه و آله سبب استحقاق الخلافة والإمامة ؛ لأنّ اللّه يقول : « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ » .(1)
فمن كره ما ذُكر وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه كائناً من كان !! ..
ثمّ دُفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح ليوجّه بها إلى مكّة .(2)
ثمّ انصرفوا .. وصلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالناس صلاة الفجر ، ثمّ جلس في مجلسه يذكر اللّه تعالى حتىّ طلعت الشمس ، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، فقال له : « بخ بخ من مثلك وقد أصبحت أمين هذه الأُمّة ! » ثمّ تلا : « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ » » .(3)
« لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الأُمة « يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً » » .(4)
ثمّ قال : « لقد أصبح في هذه الأُمّة في يومي هذا قوم ضاهوهم في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية وعلّقوها في الكعبة، وإنّ اللّه تعالى يمتّعهم ليبتليهم ويبتلي من يأتي بعدهم تفرقة بين الخبيث والطيّب ، ولولا أنّه سبحانه أمرني بالإعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه لقدّمتهم فضربت أعناقهم » .
ص: 55
قال حذيفة : فواللّه لقد رأينا هؤلاء النفر - عند قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله هذه المقالة - وقد أخذتهم الرعدة فما يملك أحد منهم نفسه شيئاً ، ولم يخفَ على أحد ممّن حضر مجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك اليوم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إيّاهم عنى بقوله .. ولهم ضرب تلك الأمثال .(1)
أقول : وإلى هذا أشار أُبي بن كعب في كلمته المشهورة : ألا هلك أهل العقدة واللّه ما آسى عليهم إنّما آسى على من يضلّون .(2)
ويظهر من سائر الروايات أنّهم تعاقدوا قبل ذلك أيضاً في الكعبة في عدد يسير ؛ وهم : عمر ، وأبو بكر ، وأبو عبيدة ، وسالم ، ومعاذ بن جبل ، وعبدالرّحمن بن عوف ،
ص: 56
والمغيرة بن شعبة ..(1)
أقول : ويدلّك على تعاقد القوم وتدبيرهم في أمر الخلافة من قبل أُمور :
الأوّل : إحالة كل واحد من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة أمر الخلافة إلى الآخر وعرض البيعة عليه ، من دون مشاورة سائر الناس ، فهل يكون اتّفاق هؤلاء الثلاثة وبعض من عاونهم إجماع المسلمين ؟!
وهل كانوا وكلاء المسلمين في انتخاب الخليفة ؟!
وهل يكون اعتبار الشورى مختصاً بتشاور هؤلاء ؟!
الثاني : إنكار عمر وفاة النبي صلى الله عليه و آله قبل مجيء أبي بكر لإغفال الناس عن أمر الخلافة ، فما زال يتكلّم ويتوعّد المنافقين - بزعمه - ، حتّى ازبدّ شدقاه !!(2) وسكوته بعد مجيء أبي بكر .
وفي رواية : وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه ،(3) بل في غير واحد من المصادر أنه دعا إلى بيعة أبي بكر عقيب ذلك من دون فصل .(4)
الثالث : مسارعة أبي بكر إلى الكلام عقيب ذكر وفاة النبي صلى الله عليه و آله ، وترشيحه نفسه لأمر الخلافة ، وفي رواية انّه قال : ألا وإنّ محمّداً صلى الله عليه و آله قد مضى لسبيله ، ولابدّ لهذا الأمر من قائم يقوم به ، فدبّروا وانظروا وهاتوا ما عندكم رحمكم اللّه .(5)
الرابع : مواضع من كلام عمر حين حكاية قضايا السقيفة ، مثل قوله : هيأت كلاماً .. أو : وكنت قد زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها .. وفي بعض الروايات :
ص: 57
أُريد أن أُقدمها بين يدي أبي بكر ..(1)
فإنّها تدلّ على توطئتهم مسبقاً في أمر الخلافة ، وتدبيرهم لها ، نعم لتلبيس الأمر على الناس يقول عمر : واللّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قالها في بديهته .
أو قولته المشهورة : كانت بيعة أبي بكر فلتة .
وقد صرّح عثمان - في أوّل مرّة صعد المنبر - ، بأنّ أبا بكر وعمر كانا يهيّئان أنفسهما للخلافة ؛ قال الجاحظ وغيره : إنّ عثمان صعد المنبر فارتجّ عليه .. فقال : إنّ
أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً .. سآتيكم الخطبة على وجهها !!(2)
الخامس : إنّ عمر هو الذي كان يحثّ أبا بكر أن يصعد المنبر ، فلم يزل به حتّى صعد المنبر ،(3) وفي رواية أنس : لقد رأيت عمر يزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً ..(4) ثمّ تراه يصعد المنبر ويتكلّم قبل أبي بكر ويدعو الناس إلى مبايعته ،(5) بل صرّح أبو بكر بذلك حينما قال لعمر : أنت كلّفتني هذا الأمر .(6)
السادس : تولّى عمر جميع الأُمور زمن خلافة أبي بكر ، قال ابن عبد ربّه : وكان على أمره كلّه وعلى القضاء عمر بن الخطّاب .(7)
بل خالفه في غير واحد من القضايا ، فلم يجترئ أبو بكر أن يدافع عن نفسه ويردّ حكم عمر ، فلمّا قيل له : أنت الخليفة أم عمر ؟!
أجاب : بل عمر .. ولكنّه أبى !!
ص: 58
وفي رواية : بل هو إن شاء .
وفي أُخرى : بل هو ولو شاء كان .
وفي غيرها : الأمير عمر غير أنّ الطاعة لي !!
أو : إنّا لانجيز إلاّ ما أجازه عمر .(1)
السابع : ولعلّه أهمّها ما قاله عمر قبل وفاته : لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته ! .. لو كان سالم حيّاً استخلفته ! .. وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل !(2)
ثم عقد النبي صلى الله عليه و آله الإمرة لأُسامة بن زيد بن حارثة قبل وفاته ، وأمّره .. وندبه أن يخرج بجمهور الأُمّة إلى حيث أُصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه على إخراج جماعة من مقدّمي المهاجرين والأنصار في معسكره حتّى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرئاسة ، ويطمع في التقدّم على الناس بالإمارة، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ولا ينازعه في حقّه منازع .(3)
فجمع أُولئك النفر - أي أصحاب الصحيفة - ومن مالأهم على علي عليه السلام وطابقهم على عدواته ، ومن كان من الطلقاء والمنافقين - وكانوا زهاء أربعة آلاف رجل - فجعلهم تحت يدي أُسامة بن زيد مولاه وأمّرهُ عليهم .(4) وقد نصّ على أن فيهم أبي بكر وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، و.. .(5)
ص: 59
وجدّ صلى الله عليه و آله في إخراجهم ، [ بل ] وأمر أُسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف ، وحثّ الناس على الخروج إليه والمسير معه ، وحذّرهم من التلوّم والإبطاء عنه .. فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفّي فيها ، فلمّا أحسّ بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام واتّبعه جماعة من الناس وتوجّه إلى البقيع فقال :
« السلام عليكم أهل القبور .. ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس .. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أوّلها ! .. » ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً .(1)
أقول : لنا أن نتساءل من أعلام أهل الخلاف الذين دوّنوا هذه الرواية في كتبهم ، ما هذه الفتن التي أقبلت .. يتبع آخرها أوّلها ؟! أليست إشارة إلى ما صنعه أصحاب السقيفة ؟ أليست هي مسألة الخلافة الكبرى والإمامة العظمى .. التي لا تصيبن الذين ظلموا خاصة ؟ ! بلى ، وكانوا هم السبب لوقوع جميع الفتن التي حدثت وتوالت بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آلهإلى يومنا هذا وبعد هذا .. اليوم .. يتبع آخرها أوّلها .
ثم أنه قد خلا أبو بكر وعمرو أبو عبيدة بأُسامة وجماعة من أصحابه - وكانوا في الطريق - فقالوا : إلى أين ننطلق ونخلّي المدينة ، ونحن أحوج ما كنّا إليها وإلى المقام
ص: 60
بها ؟! فقال لهم أُسامة : وما ذلك ؟ قالوا : إنّ رسول اللّه قد نزل به الموت ، واللّه لئن خلّينا المدينة لتحدثنّ بها أُمور لا يمكن إصلاحها ، ننظر ما يكون من أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آلهثم المسير بين أيدينا ! فرجع القوم إلى المعسكر الأوّل ، وأقاموا به وبعثوا رسولاً يتعرّف لهم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأتى الرسول إلى عائشة فسألها عن ذلك سرّاً ، فقالت : امض إلى أبي وعمر ومن معهما وقل لهما : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد ثقل فلا يبرحنّ أحد منكم ، وأنا أُعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت .. واشتدّت علّة رسول اللّه صلى الله عليه و آلهفدعت عائشة صهيبا ، فقالت : امض إلى أبي بكر وأَعْلِمْه أنّ محمداً في حال لا يرجى .. فهلمّ إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم ، وليكن دخولكم في اللّيل سرّاً .. فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة ورسول اللّه صلى الله عليه و آلهقد ثقل ، فأفاق بعض الإفاقة فقال صلى الله عليه و آله: « لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شرٌّ عظيم » ، فقيل له : وما هو يا رسول اللّه ؟ فقال : « إنّ الذين كانوا في جيش أُسامة قد رجع منهم نفر يخالفون عن أمري ، ألا إنّي إلى اللّه منهم بريء .. ويحكم ! نفّذوا جيش أُسامة .. » فلم يزل يقول
ذلك حتّى قالها مرّات كثيرة .
فلمّا أصبح رسول اللّه صلى الله عليه و آله من ليلته أذّن بلال ثمّ أتاه يخبره كعادته فوجده قد ثقل ، ومُنع من الدخول إليه ، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد ثقل في مرضه وليس يطيق النهوض إلى المسجد وعلي بن أبي طالب عليه السلامقد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس ، فاخرج أنت إلى المسجد فصلِّ بالناس ، فإنّها حالة تهنئك وحجّة لك بعد اليوم .
فلم يشعر الناس - وهم في المسجد ينتظرون رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو عليّاً عليه السلاميصلّي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه - إذ دخل أبو بكر المسجد وقال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آلهقد ثقل وقد أمرني أن أُصلّي بالناس ! .. فقال له رجل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله : وأنّى ذلك ! وأنت في جيش أُسامة ، ولا واللّه لا أعلم أحداً بعث إليك ولا أمرك بالصلاة ! ..
ثمّ نادى الناس بلال ، فقال : على رسلكم - رحمكم اللّه - لأستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ذلك ، ثمّ أسرع حتّى أتى الباب فدقّه دقّاً شديداً ، فسمعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : « ما
ص: 61
هذا الدقّ العنيف ؟! فانظروا ما هو ؟ » ، قال فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب .. فإذا بلال ، قال ما وراءك يا بلال ؟ فقا ل: إنّ أبا بكر قد دخل المسجد وقد تقدّم حتّى
وقف في مقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وزعم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمره بذلك ، فقال : أو ليس أبو بكر مع جيش أُسامة ، هذا هو واللّه الشرّ العظيم الذي طرق البارحة المدينة ، لقد أخبرنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك ، ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه ، فقال صلى الله عليه و آله : « ما وراءك يا بلال ؟ » .. فأخبر رسول اللّه الخبر ، فقال : « أقيموني .. أقيموني .. اخرجوا بي إلى المسجد ، والذي نفسي بيده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن » .
ثمّ خرج معصوب الرأس يتهادى بين عليٍّ والفضل بن العباس ، ورجلاه تجرّان في الأرض حتّى دخل المسجد - وأبو بكر قائم في مقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقد أطاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب والنفر الذين دخلوا - وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي بلال ، فلمّا رأى الناس رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد دخل المسجد - وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض - أعظموا ذلك ، وتقدّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله فجذب أبا بكر من ورائه فنحّاه عن المحراب ، وأقبل أبو بكر والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأقبل الناس فصلّوا خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو جالس ،(1) فكبّر وابتدأ الصلاة التي كان ابتدأها أبو بكر ، ولم يبن على ما مضى من فعاله ، فلمّا سلّم انصرف إلى منزله ، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد من المسلمين ،
ص: 62
ثمّ قال : « ألم آمر أن تنفذوا جيش أُسامة ؟! » فقالوا : بلى يا رسول اللّه ، قال : « فلم تأخّرتم عن أمري ؟! » قال أبو بكر : إنّي كنت قد خرجت ثمّ رجعت لأُجدّد بك عهداً، وقال عمر : يا رسول اللّه ! إنّي لم أخرج لأنّني لم أُحبّ أن أسأل عنك الركب ، فقال
النبي صلى الله عليه و آله : « نفّذوا جيش أُسامة .. نفّذوا جيش أُسامة .. » يكرّرها ثلاث مرات ، ثمّ أُغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف ، فمكث هنيئة مغمى عليه ، وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ونساء المسلمين وجميع من حضر من المسلمين .(1)
وعندما أفاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله نظر إلى من كان حوله ، ثمّ قال : « ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً » ، ثمّ أُغمي عليه ، فقال عمر : إنّه يهجر !!(2) لا تأتوه بشيء فإنّه قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه ! .. فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول اللّه .. ومنهم من يقول ما قال عمر! ..
فلمّا كثر اللغط والاختلاف ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « قوموا عنّي » .(3)
ص: 63
قال بعضهم : ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول اللّه ؟ فقال : « أ بعد الذي قلتم .. ؟! لا ، ولكنّي أُوصيكم بأهل بيتي خيراً » ، وأعرض بوجهه عن القوم فنهضوا ، وبقي عنده العباس والفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب وأهل بيته خاصّة ، فقال له العبّاس : يا رسول اللّه ! إن يكن هذا الأمر فينا مستقراً من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم إنّه نُغلب عليه فأوص بنا ، فقال صلى الله عليه و آله : « أنتم المستضعفون من بعدي » .(1)
فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .(2)
أقول : الكلام حول هذه الرزية طويل الذيل(3) ولكن لا يسعنا ترك أُمور :
الأول : لا ريب في كون هذا العمل من عمر مصداقاً لمخالفة النبي صلى الله عليه و آله ومشاقة له ، بل مخالفة لقول اللّه تعالى : « وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى » ؛(4) وتقديماً على اللّه عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه و آلهبزعم أنّه أعرف بمصالح الأمّة من اللّه ورسوله ! ! وقد قال اللّه تعالى : « وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً »(5) وقال سبحانه : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(6) وقال عزّ وجلّ : « وَما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً » .(7)
ص: 64
الثاني : إنّ ما اعتذر به المخالفون عن عمر(1) لا يجدي شيئاً بعد دراسة وملاحظة الرواية بأنحائها المختلفة ؛ فقد روى الطبراني بإسناده عن عمر بن الخطّاب ، قال : لمّا مرض النبي صلى الله عليه و آله قال : « ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبدا» ، فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة ، ثمّ قال : « ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعد أبداً » ، فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟! فقلت : إنّكنّ صويحبات يوسف عليه السلام ، إذا مرض رسول اللّه صلى الله عليه و آلهعصرتنّ أعينكنّ وإذا أصبح(2) ركبتنّ عنقه . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم » .(3)
وروى في موضع أخر: فقالت امرأة ممّن حضر : ويحكم ! عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إليكم .. فقال بعض القوم: اسكتي فإنّه لا عقل لك . فقال صلى الله عليه و آله : « أنتم لا أحلام لكم».(4)
الثالث : لنا أن نسائل عمر : لماذا لم يكن القرآن كافياً لحلّ معضلات الأُمّة حينما اختارك أبو بكر للخلافة ؟! ولماذا لم تقل إنّه يهجر ، مع أنّه غشي عليه أثناء كتابة
عثمان الوصاية ؟! ولماذا لم تكتف بالقرآن حين جعلتَ الأمر شورى بين ستّة من الصحابة ؟! ولماذا .. ؟!
الرابع : روي عن ابن طيفور الخراساني البغدادي (المتوفى 280) أنّ عمر قال لابن عبّاس : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها .. هل بقي في نفسه [ أي أمير المؤمنين عليه السلام ] شيء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أيزعم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آلهنصّ عليه ؟ قلت : نعم ، وأزيدك سألت أبي عمّا يدّعيه ، فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان
من رسول اللّه صلى الله عليه و آلهفي أمره ذرو(5) من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان
ص: 65
يَربَعُ [ يزيغ ] في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام !! لا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها .. فعلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم ! ..
ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد مسنداً .(1)
ثمّ حجب الناس عن النبي صلى الله عليه و آله وثقل في مرضه ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام لا يفارقه إلاّ لضرورة ، فقام في بعض شؤونه .. فأفاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله إفاقةً فافتقد عليّاً عليه السلام ، فقال - وأزواجه حوله - : « ادعوا لي أخي وصاحبي » ، - وفي بعض الروايات : « خليلي » - وعاوده الضعف ، فأصمت ، فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر ! .. فُدعي ودخل عليه وقعد عند رأسه ، فلمّا فتح عينه نظر إليه فأعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر فقال : لو كان له إليّ حاجة لأفضى بها إليّ .. فلمّا خرج أعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله القول ثانية ، وقال : « ادعوا لي أخي وصاحبي » ، فقالت حفصة : ادعوا له عمر ! فدعي فلمّا حضر ورآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله أعرض عنه .. فانصرف .
ثم قال : « ادعوا لي أخي وصاحبي » ، فقالت أُمّ سلمة - رضي اللّه عنها - : ادعوا له عليّاً عليه السلام ، إنّه لا يريد غيره ، فدُعي أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا دنا منه أومأ إليه فأكبّ عليه فناجاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله طويلاً ، ثمّ قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول اللّه صلى الله عليه و آلهفلمّا أغفى خرج ، فقال له النّاس : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟فقال : « علّمني ألف باب من العلم ، فتح لي من كلّ باب ألف باب .. وأوصاني بما
ص: 66
أنا قائم به إن شاء اللّه تعالى » .(1)
ثمّ ثقل وحضره الموت - وأمير المؤمنين عليه السلام حاضر عنده - فلمّا قرب خروج نفسه قال له : « ضع - يا علي ! - رأسي في حجرك فقد جاء أمر اللّه .. » .(2)
فقضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويد أمير المؤمنين عليه السلام اليمنى تحت حنكه ، وفاضت نفسه فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها .. ثمّ وجّهه .. وغمّضه .. ومدّ عليه إزاره ، واشتغل بالنظر في أمره .(3)
قال أبو جعفر عليه السلام : « لمّا قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله بات آل محمّد صلى الله عليه و آله بأطول ليلة حتّى ظنّوا أن لا سماء تظلّهم ، ولا أرض تقلّهم ؛ لانّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتر الأقربين والأبعدين في اللّه » .(4)
روى جميع أصحاب السيرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمّا تُوفّي كان أبو بكر في منزله بالسُّنْح ،(5) فقال عمر بن الخطاب : ما مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولا يموت حتّى يظهر دينه على الدين كلّه وليرجعنّ فليقطعنّ أيدي الرجال وأرجلهم ممن أرجف بموته .. لا أسمع رجلاً يقول مات رسول اللّه إلاّ ضربته بسيفي .. فلا يزال يتكلّم ويتوعّد المنافقين- بزعمه - حتّى ازبدّ شدقاه ،(6) فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال :
ص: 67
بأبي وأُمي طبت حيّاً وميّتاً ، واللّه لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً ، ثمّ خرج والناس حول عمر وهو يقول لهم : إنّه لم يمت .. ويحلف ! فقال له : أيّها الحالف ! على رسلك ، ثمّ قال : من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لا يموت ، قال اللّه تعالى : « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ »(1) وقال : « أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ » .(2)
قال عمر : فواللّه ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض ، وعلمت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد مات .(3)
أقول : لقد اتّفق أهل السير من العامّة على نقل هذه الواقعة ، و لا شكّ أن عمر لم يكن جاهلاً بوفاة النبي صلى الله عليه و آله واقعاً ، كيف وقد صرّح النبي صلى الله عليه و آله - لاسيما في حجّة الوداع وبعدها - بأنّه يموت عن قريب ، فقال : « إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب » ؟!(4) كما وأن ظهور وصاياه صلى الله عليه و آله في دنوّ أجله ممّا لا يقبل الإنكار
بوجه ، بل قد فهم عمر ذلك حين نادى : حسبنا كتاب اللّه ! أي نحن غير محتاجين إلى وصيّتك .. إذ يكفينا القرآن بعد وفاتك ! ..
فما هذا الإنكار واللفّ والدوران إلاّ حيلة سياسيّة صدرت منه أولاً وتبعه شرذمة من أصحابه ومن تواطى معه .. ولعلّها دبّرت بليل .
ويدلّك على ما ذكرنا ادّعاؤهم أنهم سمعوا هذه الآية من أبي بكر لأوّل مرّة ، إذ نقلوا عن عمر أنّه قال : واللّه ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر تلاها [ أي تلا قوله تعالى :
ص: 68
« وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ ... » ] فعقرت حتّى ما تقلّني رجلاي ، وحتّى أهويت إلى الأرض ، وفي رواية : فعثرت وأنا قائم حتّى خررت إلى الأرض ، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد مات ! ..(1)
ونسبوا إلى ابن عباس أنّه قال : واللّه لكأنّ الناس لم يسمعوا أنّ اللّه أنزل هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر ، فتلقّاها منه النّاس كلّهم .(2)
والحال أنّ هذه الآية نزلت يوم أُحد حين فرّ عمر مع من فر - بعد أن قالوا : قتل محمّد صلى الله عليه و آله(3) - فكان عمر ممّن يقول بقتله هناك وينكره هنا !! بل عمر نفسه روى نزول هذه الآية الشريفة يوم أُحد حينما رجع بعد فراره إلى النبي صلى الله عليه و آله .(4)
ولا يصغى بعد وضوح الحال إلى مقالة الذين يخدعون أنفسهم فيقولون : عرضت عليه هذه الحالة للدهشة التي غلبته من وفاة النبي صلى الله عليه و آله !!
ويزيدك وضوحاً أن المستفاد من روايات العامة أنّ هذه الحيلة تلقّاها عمر من عايشة حين دخل هو والمغيرة عليها ، فقال عمر : يا عايشة ! ما لنبيّ اللّه ؟ قالت :
غشي عليه .(5)
ص: 69
نعم استعان عمر بمثل هذا كي يشغل الناس به ويذهلهم عن أمر الخلافة ، فلمّا جاء أبو بكر وزال ما خاف منه أظهر عند الناس أنّه كان جاهلاً بالوفاة .. ولذا صُرّح
في بعض الروايات أنّه دعا الناس إلى بيعة أبي بكر عقيب ذلك .(1)
ومن هنا قال ابن أبي الحديد : إنّ عمر كان أجلّ قدراً من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة ، ولكنّه لمّا علم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتقلّب(2) أقوام عليها ، إمّا من الأنصار أو غيرهم ... فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأن أظهر ما أظهره ... ومثل هذا الكلام يقع في الوهم فيصدّ عن كثير من العزم ! ..(3)
ثمّ قال أبو بكر عقيب ذلك - مخاطباً أهل البيت عليهم السلام - : عندكم صاحبكم ، وفي بعض النصوص : دونكم صاحبكم .. فأمرهم يغسّلونه ، ثمّ خرج !! فاجتمع إليه المهاجرون أو من اجتمع منهم ، فقال : انطلقوا إلى إخواننا من الأنصار فإنّ لهم في هذا الحقّ نصيباً .(4)
والعجب من القوم ؛ إذ كان اللازم عليهم رعاية حرمة النبي صلى الله عليه و آله بالاشتغال بتجهيزه وتدفينه وإقامة الماتم على فقده .. لا أن يشتغلوا بمؤامرات ويحوكوا الحيل - وبكل وسيلة - لغصب الخلافة .. واليك بعض الآثار في ذلك ؛ وهي كثيرة جدّاً :
ص: 70
منها : ما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « عقدوا لأنفسهم عقداً ضجّت به أصواتهم واختصّت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منّا بني عبد المطلّب أو مشاركة في رأي أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ، فعلوا ذلك .. وأنا برسول اللّه صلى الله عليه و آله مشغول ، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنّه كان أهمّها وأحقّ ما بدئ به منها فكان هذا أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزيّة وفاجع المصيبة وفقد من لا خلف منه إلاّ اللّه تبارك وتعالى فصبرت عليها » .(1)
ومنها : ما قال عليه السلام في جواب القوم : « أفكنت أدع رسول اللّه صلى الله عليه و آله مسجّى لا أُواريه وأخرج أُنازع سلطانه ؟! » .(2)
ومنها : ما قالت السيدة فاطمة عليهاالسلام : « ما رأيت كاليوم قطّ .. حضروا أسوأ محضر ، وتركوا نبيّهم صلى الله عليه و آله جنازة بين أظهرنا ، واستبدّوا بالأمر دوننا » .(3)
ومنها : ما قاله مولانا الإمام أبو جعفر عليه السلام : « فصلّوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتّى الصباح ويوم الثلاثاء ، حتّى صلّى عليه الأقرباء والخواص ، ولم يحضر أهل السقيفة ، وكان علي عليه السلام أنفذ إليهم بريدة ، وإنّما تمّت بيعتهم بعد دفنه » .(4)
ومنها : ما قاله أبو ذؤيب الهذلي : وقدمتُ المدينة - ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا بالإحرام - فقلت : مه ؟! فقيل : قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. فجئت إلى المسجد فوجدته خالياً ، فأتيت بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأصبته مُرْتجا(5) وقدخلا به أهله ، فقلت : أين النّاس ؟! فقيل لي : هم في سقيفة بني ساعدة .. .(6)
ومنها : قول عبد اللّه بن الحسن : واللّه ما صلّيا [ أي أبو بكر وعمر ] على
ص: 71
رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولقد مكث ثلاثاً ما دفنوه !! إنّه شغلهم ما كانا يبرمان ! ..(1)
ومنها : ما رواه ابن شيبة (المتوفى 235) عن عروة أنّه قال : إنّ أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي صلى الله عليه و آله ، وكانا في الأنصار [ يعني سقيفة بني ساعدة الذين هم من الأنصار ]فدفن قبل أن يرجعا .(2)
وقال الأعمش : قبض نبيّهم صلى الله عليه و آله فلم يكن لهم همّ إلاّ أن يقولوا : منّا أمير ومنكم أمير ! .. وما أظنّهم يفلحون .(3)
قال ابن شهاب الزهري : توفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله حين زاغت الشمس يوم الاثنين ، فشغل الناس عن دفنه بشبّان الأنصار فلم يدفن حتّى كانت العتمة ولم يله إلاّ أقاربه ، ولقد سمعت بنو غَنْم(4) صريف المساحي حين حُفر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وإنّهم لفي بيوتهم ! ..(5)
بل وروى الجميع عن عائشة أنّها قالت : واللّه ما علمنا بدفن النبي صلى الله عليه و آله حتّى سمعنا صوت المساحي ليلة الأربعاء !!(6)
وهذا هو السرّ في إرجاع عمر كعب الأحبار إلى أمير المؤمنين عليه السلام لمّا سأله عنغسل النبي صلى الله عليه و آله ودفنه ،(7) إذ لم يكن حاضراً .. ولم يكن عالماً بكيفيّة تجهيزه صلى الله عليه و آله .قال البلاذري : وانحاز المهاجرون إلى أبي بكر ... ورسول اللّه صلى الله عليه و آله في بيته لم يفرغ من أمره ، فأتى آت إلى أبي بكر فقال : أدرك النّاس قبل أن يتفاقم الأمر .(8)
ص: 72
وقال : بينا المهاجرون في حجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وقد قبضه اللّه إليه ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام والعبّاس متشاغلان به - إذ جاء معن بن عدي وعويم بن ساعدة ، فقالا لأبي بكر : باب فتنة إن لم يغلقه اللّه بك فلن يغلق أبداً ! ... فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح حتّى جاؤوا السقيفة ..(1)
وقال : فبايع الناس أبا بكر وأتوا به المسجد يبايعونه ، فسمع العباس وعلي عليه السلام التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل النبي صلى الله عليه و آله !! فقال علي عليه السلام : « ما هذا ؟ » قال العباس : ما رئي مثل هذا قطّ ، ما قلت لك ..(2)
وقال المقدسي : ووقع الاختلاف في الناس فانحاز هذا الحيّ من الأنصار إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وانحاز علي عليه السلام وطلحة والزبير في بيت فاطمة عليهاالسلام ، وانحاز سائر المهاجرين إلى أبي بكر .. كلّ يدّعي الإمارة لنفسه ، فجاء المغيرة بن شعبة فقال : إن كان لكم بالناس حاجة فأدركوهم ! فتركوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله كما هو وأغلقوا الباب دونه ، وأسرع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح إلى سقيفة بني ساعدة .(3)
قال الشيخ المفيد رحمه الله : ولم يحضر دفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أكثر الناس لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك.
وأصبحت فاطمة عليهاالسلام تنادي : « واسوء صباحاه !! » ، فسمعها أبو بكر ، فقال لها : إنّ صباحك لصباح سوء !
واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب عليه السلام برسول اللّه صلى الله عليه و آله وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله فتبادروا إلى ولاية الأمر ، واتفق لأبي بكر ما اتفق لاختلاف الأنصار في ما بينهم وكراهية الطلقاء والمؤلّفة قلوبهم من تأخر الأمر
ص: 73
حتّى يفرغ بنو هاشم فيستقرّ الأمر مقرّه .(1)
وقال الشهرستاني عند ذكر البيعة : .. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان مشغولاً بما أمره النبي صلى الله عليه و آله من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره .(2)
وقال الهيثمي : ثمّ خلّوا بينه وبين أهل بيته فغسله علي بن أبي طالب عليه السلام .(3)
قال ابن كثير : فصل ؛ في ذكر أُمور مهمّة وقعت بعد وفاته وقبل دفنه ، ومن أعظمها وأجلّها وأيمنها بركة على الإسلام وأهله بيعة أبي بكر !!!(4)
وقال في موضع آخر : توفي عليه السلام يوم الاثنين ، ودفن يوم الأربعاء .. عليه غير واحد من الأئمة خلفاً وسلفاً ، ثمّ قال : وهو المشهور عن الجمهور .(5)
قال أحمد أمين : ولم يكن علي عليه السلام حاضراً هذا الاجتماع [ أي السقيفة ]لاشتغاله هو وأهل بيته في جهاز رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأخذ العدّة لدفنه ، فلمّا بلغه خبر البيعة لأبي بكر لم يرض عنها .(6)
.. والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى .(7)
ومن الطرائف ما رواه ابن سعد وغيره ، قال : جاء علي بن أبي طالب عليه السلام يوماًمتقنعاً متحازناً ، فقال أبو بكر : أراك متحازناً ؟!! فقال علي عليه السلام : « إنّه عناني ما لم يعنك !! » قال أبو بكر : اسمعوا ما يقول ، أُنشدكم اللّه أترون أحداً كان أحزن على رسول اللّه صلى الله عليه و آله منّي!!(8)
ص: 74
قالوا : ثمّ اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : نولّي هذا الأمر من بعد محمّد صلى الله عليه و آله سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض ، قال : فلمّا اجتمعوا ، قال لابنه - أو لبعض بني عمّه - : إنى لا أقدر لشكواي أن أُسْمع القوم كلّهم كلامي ، ولكنّ تلقَّ منّي قولي فأسمعْهم ، فكان يتكلّم ويحفظ الرجل قوله فيرتفع به صوته ويُسمع به أصحابه ، فقال - بعد أن حمد اللّه وأنثى عليه - : يا معشر الأنصار ! إنّ محمّداً صلى الله عليه و آله لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان فما آمن به قومه إلاّ رجال قليل .. واللّه ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله ، ولا أن يعزّوا دينه ،ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عمّوا به ، حتّى إذا أراد بكم ربّكم الفضيلة ، وساق إليكم الكرامة ، وخصّكم بالنعمة ، ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه ، وكنتم أشدّ الناس على عدوّه منهم ، وأثقله على عدوّه من غيركم ، حتّى استقامت العرب لأمر اللّه طوعاً وكرهاً ،وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً ، وحتّى أثخن اللّه لرسوله بكم الأرض ، ودانت بأسيافكم له العرب ، وتوفّاه اللّه إليه وهو عنكم راض ، وبكم قرير عين ، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس ، فإنّه لكم دون الناس ..
فأجابوه بأجمعهم بأن : قد وُفّقت في الرأي وأصبت في القول ولن نَعْدوا ما رأيت .. نولّيك هذا الأمر فإنّك فينا متّبع ، ولصالح المؤمنين رضا .ثمّ إنّهم ترادّوا الكلام ، فقالوا : فإن أبت مهاجرة قريش ، فقالوا : نحن المهاجرون وصحابة رسول اللّه الأوّلون ، ونحن عشيرته وأولياؤه .. فعلام تنازعوننا الأمر من بعده ؟!
فقالت طائفة منهم : فإنا نقول إذاً : منّا أمير ومنكم أمير ، ولن نرضى بدون هذا أبداً ، فقال سعد بن عبادة حين سمعها : هذا أوّل الوهن .
ص: 75
وأتى عمر ؛ الخبر فأرسل إلى أبي بكر(1) فمضيا مسرعين نحوهم(2) - مع أبي عبيدة بن الجراح - وهم مجتمعون ، فقال عمر بن الخطاب : أتيناهم وقد كنت زوّرت كلاماً أردت أن أقوم به فيهم ، فلمّا اندفعت إليهم ذهبت لأبتدئالمنطق ، فقال لي أبو بكر : رويداً حتّى أتكلّم .. ثمّ انطق بعد ما أحببت ، فنطق ، فقال عمر : فما شيء كنت أُريد أن أقول به إلاّ وقد أتى به أو زاد عليه .
قال عبد اللّه بن عبد الرّحمن : فبدأ أبو بكر فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ اللّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله رسولاً إلى خلقه ، وشهيداً على أُمّته ليعبدوا اللّه ويوحّدوه ، وهم يعبدون من دونه آلهة شتّى يزعمون أنّها لمن عبدها شافعة ولهم نافعة ، وإنّما هي من حجر منحوت ، وخشب منجور ، ثمّ قرأ : « وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعاؤنا عِنْدَ اللّهِ »(3) وقالوا : « ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى »(4) فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخصّ اللّه المهاجرين الأوّلين منقومه بتصديقه والإيمان به ، والمواساة له ، والصبر معه على شدّة أذى قومهم لهم ، وتكذيبهم إيّاه ، وكلّ الناس لهم مخالف ، وعليهم زار ، فلم يستوحشوا لقلّة عددهم ، وتشذّب الناس عنهم ، وإجماع قومهم عليهم .. فهم أوّل من عبد اللّه في الأرض وآمن باللّه وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم في ذلك إلاّ ظالم ، وأنتم - يا معشر الأنصار - من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام ، رضيكم اللّه أنصاراً لدينه ورسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم
ص: 76
جلّة أزواجه وأصحابه ، وليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم .. فنحن الأُمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون(1) بمشورة ، ولا يقضى دونكم الأُمور ! ..
وفي رواية : قال أبو بكر : إنّ اللّه جلّ ثناؤه بعث محمّدا صلى الله عليه و آله بالهدى ودين الحقّ ، فدعا إلى الإسلام ، فأخذ اللّه تعالى بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعا إليه ، فكنّا معشر
المهاجرين أوّل الناس إسلاماً ، والناس لنا فيه تبع ، ونحن عشيرة رسول اللّه ، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنساباً ، ليست قبيلة من قبائل العرب إلاّ ولقريش فيها ولادة . وأنتم أيضاً - واللّه - الذين آووا ونصروا ، وأنتم وزراؤنا في الدين ، ووزراء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنتم إخواننا في كتاب اللّه تعالى ، وشركاؤنا في دين اللّه عزّ وجلّ ، وفي ما كنّا فيه من سرّاء وضرّاء ، واللّه ما كنّا في خير قطّ إلاّ وكنتم معنا فيه ، فأنتم أحبّ الناس إلينا ، وأكرمهم علينا ، وأحقّ الناس بالرضا بقضاء اللّه تعالى ، والتسليم
لأمر اللّه عزّ وجلّ ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين ، وهم أحقّ الناس فلا تحسدوهم ، وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة ، واللّه مازلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين ، وأنتم أحقّ الناس ألاّ يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم ، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خيرٍ ساقه اللّه تعالى إليهم ! . .
فقال الأنصار : واللّه ما نحسدكم على خيرٍ ساقه اللّه إليكم ، وإنّا لَكَما وصفت ... ولكنّا نشفق ممّا بعد اليوم ، ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منّا ولا منكم ،فلو جعلتم اليوم رجلاً منّا ورجلاً منكم بايعنا ورضينا ، على أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار ، فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبداً ما بقيت هذه الأُمّة ، كان ذلك أجدر أن يعدل في أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله ، وأن يكون بعضنا يتبع بعضاً ، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري ، ويشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي .
فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا معشر الأنصار ! املكوا عليكم أمركم فإنّ الناس في ظلّكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولا يصدر أحد إلاّ عن
ص: 77
رأيكم ، أنتم أهل العزّة والمنعة ، وأُولو العدد والكثرة ، وذوو البأس والنجدة ، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أُموركم ، فإن أبى هؤلاء إلاَّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير .
فقال عمر : هيهات لا يجتمع سيفان في غمد ، واللّه لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيها من غيركم ، ولا تمنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، لنا بذلك الحجّة الظاهرة على من خالفنا ، والسلطان المبين على من نازعنا ، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ونحن أُولياؤه وعشيرته إلاّ مدل بباطل ، أو متجانف لإثم ، أو متورّط في الهلكة ! ..
فقام الحباب بن المنذر - ثانية - فقال : يا معشر الأنصار ! امسكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا الجاهل وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، وإن أبوا أن يكون منّا أمير ومنهم أمير فاجلوهم عن بلادكم وتولّوا هذا الأمر عليهم ، فأنتم واللّه أحقّ به منهم ، فقد دان بأسيافكم قبل هذا الوقت من لم يكن يدين بغيرها ، وإنّا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، واللّه لئن ردّ أحد قولي لأحطمنّ أنفه بالسيف ..
فقال عمر : إذن يقتلك اللّه ، فقال : بل إيّاك يقتل .(1)
فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ! إنّكم أوّل من نصر فلا تكونوا أوّل من بدّلأو غيّر ! ..(2)
قال : فلمّا رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من أمر سعد بن عبادة - وكان حاسداً له ، وكان من سادة الخزرج - قام فقال : أيّها الأنصار !
إنّا وإن كنّا ذوي سابقة فإنّا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلاّ رضى ربّنا ، وطاعة نبيناً ،
ص: 78
ولا ينبغي لنا أن نستظهر بذلك على الناس ، ولا نبتغي به عوضاً من الدنيا ، إنّ محمّداً رجل من قريش وقومه أحقّ بميراث أمره ، وأيم اللّه لا يراني اللّه أُنازعهم هذا الأمر .. فاتقوا اللّه ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم .
فقام أبو بكر وقال : هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم .
فقالا : واللّه لا نتولّى هذا الأمر عليك ، وأنت أفضل المهاجرين ، وثاني اثنين ، وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله على الصلاة - والصلاة أفضل الدين - ابسط يدك نبايعك..(1)
فلمّا بسط يده وذهبا يبايعانه ، سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ! عقّتك عقاق ، واللّه ما اضطرك إلى هذا إلاّ الحسد لابن عمّك .
فلمّا رأت الأوس أنّ رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع قام أُسيد بن حضير - وهو رئيس الأوس - فبايع حسداً لسعد أيضاً ومنافسة له أن يلي الأمر ، فبايعت الأوس كلّها لمّا بايع أُسيد ، فأقبل الناس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر .
وفي رواية : وبايعه عمر وبايعه الناس .. فقالت الأنصار - أو بعض الأنصار - : لا نبايع إلاّ عليّاً عليه السلام .(2)وفي رواية أُخرى : فكثر القول حتّى كادت الحرب تقع بينهم ، وأوعد بعضهم بعضاً .(3)
وكادوا يطأون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتقوا سعداً لا تطأوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله اللّه .. ثمّ قام على رأسه فقال : لقد هممت أن أطاك حتّى تندر عضدك . فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر ، ثمّ قال : واللّه لئن حصحصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة .
ص: 79
فقال أبو بكر : مهلاً يا عمر ! الرفق هاهنا أبلغ .. فأعرض عنه .
وقال سعد : أما واللّه لو أرى من قوّة ما أقوى على النهوض لسمعتم منّي بأقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك ، أما واللّه إذاً لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع ، احملوني من هذا المكان .. فحملوه فأدخلوه داره .. وترك أياماً ، ثمّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك ، فقال : أما واللّه [ لا واللّه ]حتّى أرميكم بما في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأُقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ، ولا أفعل ، وأيم اللّه ! لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتّى أُعرض على ربّي ، وأعلم ما حسابي . فلمّا أُتي أبو بكر بذلك قال له عمر : لا تدعه حتّى يبايع ، فقال له بشير بن سعد : إنّه قد لجّ وأبى ، فليس يبايعكم حتّى يقتل ، وليس بمقتول حتّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته ، فليس تركه بضارّكم إنّما هو رجل واحد ، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه .
وكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ، ولا يحجّ معهم ، ويفيض فلا يفيض معهم بإفاضتهم ، فلم يزل كذلك حتّى هلك أبو بكر .(1)
قال عمر - ضمن خطبة له - : قد بلغني أنّ قائلاً منكم يقول : لو قد مات عمر بايعت فلاناً ، فلا يغترنّ امرؤٌ أن يقول : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة .. ألا وإنّها كانت
ص: 80
كذلك .. ألا وإن اللّه عزّ وجلّ وقى شرّها ، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر . ألا وإنّه كان من خبرنا حين توفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ علياً والزبير ومن كان معهما تخلّفوا في بيت فاطمة عليهاالسلام بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتخلّف عنّا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت له : يا أبا بكر ! انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمّهم حتّى لَقِيَنا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلت : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين ، فقلت :
واللّه لنأتينّهم .. فانطلقنا حتّى جئناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا هم مجتمعون ، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ قالوا : وجع .. فلمّا جلسنا قام خطيبهم فأثنى على اللّه عزّ وجلّ بما هو أهله ، وقال : أمّا بعد ، فنحن أنصار اللّه عزّ وجلّ ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت دافّة منكم يريدون أن يخزلونا(1) من أصلنا ، ويحضنونا من الأمر .. فلمّا سكت أردت أن أتكلّم ، وقد كنت زوّرت(2) مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بينيدي أبي بكر ، وقد كنت أُداري منه بعض الحد ، وهو كان أحلم مني وأوقر ، فقال أبو بكر : على رسلك .. فكرهت أن أغضبه ، وكان أعلم مني وأوقر ، واللّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قالها في بديهته وأفضل حتى سكت .
فقال : أمّا بعد ؛ فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيّهما شئتم .. وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، فلم أكره مما قال غيرها ، وكان - واللّه - أن أقدّم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحبّ إليّ من أن
ص: 81
أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر إلاّ أن تغيّر نفسي عند الموت .(1) فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ! .. وكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات حتّى خشيت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر .. فبسط يده فبايعتُه وبايعه المهاجرون ، ثمّ بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعداً ! فقلت : قتل اللّه سعداً .
قال عمر : واللّه ما وجدنا في ما حضرنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم - ولم تكن بيعة - أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى ، وإمّا أن نخالفهم فيكون فيه فساد ، فمن بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا !!(2)
ملاحظة :
قيل : إن الدعوة إلى سعد بن عبادة إنّما كانت بعد أن علموا بدفع الخلافة عن أهل البيت عليهم السلام ، ففي الرواية : أنّ الأنصار قالوا : إذا لم تسلّموها لعليّ عليه السلام فصاحبنا أحقّ بها ، وقال سعد : ما دعوت إلى نفسي إلاّ بعد ما رأيتكم قد دفعتموها عن أهل بيت نبيّكم .(3) وورد في كتاب عمر إلى معاوية - بعد أن شهد عمر وجماعة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آلهقال : الإمامة بالاختيار - قالت الأنصار : نحن أحقّ من قريش ... وقال قوم : منّا أمير ومنكم أمير .(4)
ص: 82
قال البراء بن عازب : لمّا قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله تخوّفت أن يتظاهر قريش على إخراج هذا الأمرمن بني هاشم ، فأخذني ما يأخذ الواله الثكول مع مابي من الحزن لوفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فجعلت أتردّد وأرمق وجوه الناس ،وقد خلا الهاشميون برسول اللّه صلى الله عليه و آله لغسله وتحنيطه ، وقد بلغني الذي كان من قول سعد بن عبادة ومن اتبعه من جملة أصحابه ، فلم أحفل بهم وعلمت أنّه لا يؤول إلى شيء ، فجعلت أتردّد بينهم وبين المسجد وأتفقّد وجوه قريش ، وكأنّي لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر ، ثمّ لم ألبث حتّى إذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأُزر الصنعانية ، لا يمرّ بهم أحد إلاّ خبطوه ، فإذا عرفوه مدّوا يده على يد أبي بكر شاء ذلك أم أبى ! .. فأنكرت عند ذلك عقلي جزعاً منه مع المصيبة برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فخرجت مسرعاً حتّى أتيت المسجد ، ثمّ أتيت بني هاشم والباب مغلق دونهم ، فضربت الباب ضرباً عنيفاً ، وقلت : يا أهل البيت ! .. فخرج إليّ الفضل بن العباس ، فقلت : قد بايع الناس أبا بكر ! فقال العباس : قد تربت أيديكم منها آخر الدهر .(1)وفي رواية : ثمّ إنّ عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي : إنّ أبا بكر قد بويع له فهلمّوا إلى البيعة .. فينثال الناس فيبايعون ، فعرف أنّ جماعة في بيوت مستترون ، فكان يقصدهم في جمع فيكبسهم ويحضرهم في المسجد فيبايعون .(2)
قال الشيخ المفيد : روى أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي ، عن محمّد بن سائب الكلبي وأبي صالح ، ورواه أيضاً عن رجاله ، عن زائدة بن قدامة ، قال : كان جماعة من الأعراب قد دخلوا المدينة ليمتاروا منها ، فشغل الناس عنهم بموت رسول اللّه صلى الله عليه و آله فشهدوا البيعة وحضروا الأمر فأنفذ إليهم عمر واستدعاهم ، وقال لهم : خذوا بالحظّ
ص: 83
والمعونة على بيعة خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، واخرجوا إلى الناس واحشروهم ليبايعوا فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه ..
قال : فواللّه لقد رأيت الأعراب قد تحزّموا واتّشحوا بالأُزر الصنعانية وأخذوا بأيديهم الخشب وخرجوا حتّى خبطوا النّاس خبطاً ، وجاؤوا بهم مكرهين إلى البيعة ..
ثم قال الشيخ المفيد : وأمثال ما ذكرناه من الأخبار في قهر الناس على بيعة أبي بكر وحملهم عليها بالاضطرار كثيرة ، ولو رمنا إيرادها لم يتّسع لهذا الكتاب .(1)
وقال الجوهري عند ذكر السقيفة : فوثب رجل من الأنصار فقال : أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب .. فأُخذ ووُطى ءَ في بطنه ودسّوا في فيه التراب !!(2)
وقال يحيى بن الحسين الهاشمي ( الهادي الزيدي ) (المتوفّي 298) : ثمّ نهض أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن نهض معهم من أهل السقيفة محتزمين بالأُزر معهم المخاصر ، لا يمرّون بأحد ولا يلقونه إلاّ خبطوه وقالوا : بايع ! .. من غير أن يشاور أو يعلم خبراً ..فأين الإجماع من هذا الفعل ؟ !(3)
وقال ابن شهرآشوب المازندراني : ورُوي : أنّه [أي أبا سفيان] دخل المسجد ، فإذا القوم قد أقبلوا بأجمعهم وهم يعترضون كلّ من رأوه فيقدّمونه يبايع ، شاء ذلك أم أبى !! ..(4)
بل ترى إشارة عابرة إلى ذلك في كلام عايشة ، فقد روى البخاري عنها حديث السقيفة .. وفيها : قالت : لقد خوّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً .. فردّهم اللّه بذلك .(5)
ص: 84
لقد حاول جمع كثير من العامّة كتمان تخلّف من تخلّف عن بيعة أبي بكر وإثبات إجماع المسلمين عليها ورضاهم بها ، إذ بنوا مشروعية خلافته واغتصابه على هذا الإجماع المدعى عندهم ، لادّعائهم أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال : لا تجتمع أُمّتي على الضلال ! .. ولذلك اضطرّوا إلى القول بأنّه : ما خالف على أبي بكر أحد إلاّ مرتدّ أو من كان قد ارتدّ !!(1)
والمتتبِّع في كتب أهل السنّة يجدها مشحونة بذكر تخلّف وجوه الأصحاب وعدم رضاهم بالبيعة .
روى البخاري ومسلم والطبري .. وغيرهم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وبني هاشم جميعاً لم يبايعوا أبا بكر في حياة فاطمة عليهاالسلام ..(2) أي ستّة أشهر على رواياتهم .
قال المقدسي : ولم يبايع علي عليه السلام أبا بكر مالم يدفن فاطمة عليهاالسلام ، وذكر ابن دأب(3)
ص: 85
أنها ماتت عاتبة على أبي بكر وعمر .(1)
قال المسعودي : لمّا بُويع أبو بكر في يوم السقيفة وجدّدت البيعة له يوم الثلاثاء على العامّة ، خرج عليٌّ عليه السلام فقال : « أفسدتَ علينا أُمورنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقّاً ؟! » فقال أبو بكر : بلى ، ولكنّي خشيت الفتنة !(2) وكان للمهاجرين والأنصار يوم السقيفة خطب طويل ومجاذبة في الإمامة ، وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع ، ولم يبايعه أحدمن بني هاشم حتّى ماتت فاطمة عليهاالسلام .(3)
وقال اليعقوبي : جاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم ، وقال : يا معشر بني هاشم ! .. بويع أبو بكر ؟ ! فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمّد صلى الله عليه و آله ، فقال العباس : فعلوها .. وربّ الكعبة .
وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في علي عليه السلام ، فلمّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس ، - وكان لسان قريش - فقال : يا معشر قريش ! إنّه ما حقّت لكمالخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم .
وقام عتبة بن أبي لهب فقال :
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أوّل الناس إيماناً وسابقة *** وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً بالنبي ، ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به *** وليس في القوم ما فيه من الحسن(4)
ص: 86
وروى الزبير بن بكار عن محمّد بن إسحاق أنه قال : إن أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة !!
قال : وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال الفضل بن العباس : يا معشر قريش ! وخصوصاً يا بني تيم ! إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوة ونحن أهلها دونكم ، ولو طالبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا حسداً منهم لنا وحقداً علينا ، وإنّا لنعلم إنّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه .(1)
وروى - أيضاً - الزبير بن بكار ضمن رواية : قال زيد بن أرقم : إنا لنعلم إنّ منقريش من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد .. علي بن أبي طالب عليه السلام .(2)
وذكر الواقدي أن زيد بن أرقم قال - عقيب بيعة السقيفة لعبد الرّحمن بن عوف - : يا ابن عوف ! لولا أن علي بن أبي طالب وغيره من بني هاشم اشتغلوا بدفن النبي صلى الله عليه و آله وبحزنهم عليه فجلسوا في منازلهم ما طمع فيها من طمع !!(3)
قال اليعقوبي : وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب عليه السلام ، منهم العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ،
ص: 87
وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبيّ ابن كعب ..(1) وغيرهم .(2)
بل يظهر من عبارة بعض العامة تخلّف جمع كثير ، قال ابن عبد البرّ : وتخلف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش .. ثم ذكر علياً عليه السلام والزبير
وطلحة وخالد بن سعيد .. .(3)
وقال محب الدين الطبري : وتخلّف ... سعد بن عبادة في طائفة من الخزرج وعلي بن أبي طالب وابناه عليهم السلام وبنو هاشم والزبير وطلحة وسلمان وعمار وأبوذروالمقداد .. وغيرهم من المهاجرين ، وخالد بن سعيد بن العاص .(4)
وقال محمّد أبو الفضل محمّد - من أعلام العامة في القرن الثامن والتاسع - : إنّ علياً عليه السلام كان في غاية الشجاعة ومعه فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وكثير من أكابر الصحابة ، حتى روي عنهم أنّه اجتمع عنده سبعمائة من الأكابر مريدين إمامته .. إلى أن قال : أجاب الشيعة : بأنه وإن كان معه سبعمائة لكن جميع عوام الصحابة مع أبي بكر ، وكانوا أكثر من ثلاثين ألفاً فأين القدرة .. ؟!(5)
ثم إنّ اثني عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدّمه على عليّ بن أبي طالب عليه السلام .(6)
ص: 88
من المهاجرين ؛ خالد بن سعيد بن العاص ،(1) والمقداد بن الأسود ، وأُبيّ بن كعب ، وعمّار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبد اللّه بن مسعود ،(2) وبريدة الأسلمي .
ومن الأنصار ؛ خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو الهيثم بن التيهان .(3)
فلمّا صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم في أمره ، فقال بعضهم : هلاّ نأتيه فننزلهعن منبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقال آخرون : إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم ، وقد قال اللّه عزّ وجلّ : « وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »(4) ولكن امضوا بنا إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام نستشيره ونستطلع أمره ، فأتوا عليّاً عليه السلام ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ! ضيّعت نفسك .. وتركت حقّاً أنت أولى به ! .. وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فإنّ الحقّ حقّك وأنت أولى بالأمر منه ، لأنّا سمعنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يميل مع الحقّ كيف مال » ، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك .
فقال لهم علي عليه السلام : « لو فعلتم ذلك ما كنتم إلاّ حرباً لهم ، ولا كنتم إلاّ كالكحل في العين ، أو كالملح في الزاد ، وقد اتفقت عليه الأُمّة التاركة لقول نبيّها ، والكاذبة على ربّها ، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلاّ السكوت لما يعلمون من وغر صدور
ص: 89
القوم وبغضهم للّه عزّ وجلّ ولأهل بيت نبيّه .. وإنّهم يطالبون بثارات الجاهليّة ، واللّه لو فعلتم ذلك لشهّروا سيوفهم مستعدّين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتّى قهروني وغلبوني على نفسي ولبّبوني وقالوا لي : بايع وإلاّ قتلناك !! فلم أجد حيلة إلاّ أنّ أدفع القوم عن نفسي ، وذاك أنّي ذكرت قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « يا عليّ ! إنّ القوم نقضوا أمرك ، واستبدّوا بها دونك وعصوني فيك ، فعليك بالصبر حتّى ينزل اللّه الأمر ، وإنّهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك ، فإنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي .. كذلك أخبرني جبرئيل عليه السلام من ربّي تبارك وتعالى » .
وفي رواية : « وإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى ، وإنّ الأُمّة من بعدي بمنزلة هارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه ، فقلت : يا رسول اللّه ! فما تعهد إليّ إذا كان ذلك ؟ فقال : إن وجدتَ أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً كفّ يدك واحقن حتّى تلحق بي مظلوماً .. »
« ولمّا تُوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثمّ آليتيميناً أن لا أرتدي إلاّ للصلاة حتّى أجمع القرآن .. ففعلت ، ثمّ أخذت بيد فاطمة وابنيّ الحسن والحسين عليهماالسلام فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقّي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلاّ أربعة رهط منهم : سلمان ، وعمار ، والمقداد وأبو ذر .. فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرّفوه ما سمعتم من قول رسولكم صلى الله عليه و آله ولا تدعوه في الشبهة من أمره ليكون ذلك أوكد للحجّة ، وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا وردوا عليه » .
فسار القوم حتّى أحدقوا بمنبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وكان يوم الجمعة - ، فلمّا صعد أبو بكر قاموا وتكلّموا ببيانات شافية وافية ، فأوّل من تكلّم كان خالد بن سعيد بن العاص ، وقال : اتّق اللّه يا أبا بكر ! فقد علمت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال - ونحن محتوشوه يوم قريظة ، حين فتح اللّه له وقد قَتَل علي عليه السلام يومئذ عدّة من صناديد رجالهم وأُولي البأس والنجدة منهم - : « يا معاشر المهاجرين والأنصار ! إنّي موصّيكم بوصية فاحفظوها ، ومودّعكم أمراً فاحفظوه ، ألا إنّ علي بن أبي طالب عليه السلام أميركم ، بعدي
ص: 90
وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربّي ، ألا وإنّكم إن لم تحفظوا فيه وصيّتي وتوازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم ، واضطرب عليكم أمر دينكم ، ووليكم شراركم ، ألا إنّ أهل بيتي هم الوارثون لأمري ، والعالمون بأمر أُمّتي من بعدي ، اللّهمّ من أطاعهم من أُمّتي وحفظ فيهم وصيّتي فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي ، يدركون به نور الآخرة ، اللّهمّ ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنّة التي عرضها كعرض السماء والأرض » .
فقال له عمر بن الخطّاب : اسكت يا خالد ! فلست من أهل المشورة ولا ممن يقتدى برأيه ، فقال خالد : اسكت - يا ابن الخطاب ! - فإنّك تنطق عن لسان غيرك ، وأيم اللّه لقد عَلمَتْ قريش إنّك من ألأمها حسباً ، وأدناها منصباً ، وأخسّها قدراً ، وأخملها ذكراً ، وأقلّهم غناءً عن اللّه ورسوله ، وإنّك لجبان في الحروب ، بخيل بالمال ، لئيم العنصر ، ما لك في قريش من فخر ولا في الحروب من ذكر ، وإنّك في هذا الأمربمنزلة « الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللّه َ رَبَّ الْعالَمِينَ * فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ » .(1)
فأبلس عمر ، وجلس خالد بن سعيد .
ثم احتجّ عليه بقية المهاجرين والأنصار ..
قال الصادق عليه السلام : « فأُفحم أبو بكر على المنبر حتّى لم يُحر جواباً ، ثمّ قال : ولّيتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني . فقال عمر بن الخطاب : انزل عنها - يا لكع ! - إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لِمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ واللّه لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة » .
« فنزل ثمّ أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فلمّا كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل وقال لهم : ما جلوسكم ؟ فقد طمع فيها - واللّه - بنو هاشم .. وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة
ص: 91
ومعه ألف رجل .. وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل .. فما زال يجتمع رجل رجل حتّى اجتمع أربعة آلاف رجل ، فخرجوا شاهرين أسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب ، حتى وقفوا بمسجد النبي صلى الله عليه و آله ، فقال عمر : واللّه يا صحابة عليّ ! لئن ذهب الرجل منكم يتكلّم بالذي تكلّم به بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه . فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص ... [ وجرى بينهما كلام ] ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « اجلس - يا خالد ! - فقد عرف اللّه مقامك وشكر لك سعيك » ، فجلس ، وقام إليه سلمان الفارسي ... [ فتكلّم ] ، فهمّ به عمر بن الخطاب فوثب إليه أمير المؤمنين عليه السلام وأخذ بمجامع ثوبه ثمّ جلد به الأرض ، ثمّ قال : « يا ابن صهاك الحبشية ! لولا كتاب من اللّه سبق وعهد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله تقدّم لأريتك أيّنا أضعف ناصراً وأقلّ عدداً » ، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : « انصرفوا رحمكم اللّه ، فواللّه لا دخلت المسجد إلاّ كما دخل أخواي موسىوهارون إذ قال له أصحابه : [ ف- ]« إِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ » ،(1) واللّه لا أدخل إلاّ لزيارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو لقضية أقضيها فإنّه لا يجوز لحجّة أقامه رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يترك الناس في حيرة » .(2)
روى الجوهري عن جرير بن المغيرة : إنّ سلمان والزبير والأنصار كان هواهم
ص: 92
أن يبايعوا عليّاً عليه السلام .(1)
وروى ابن أبي الحديد عن الزبير بن بكّار : لمّا بويع أبو بكر واستقرّ أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ، ولام بعضهم بعضاً ، وذكروا علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهتفوا باسمه وأنّه في داره لم يخرج إليهم ، وجزع لذلك المهاجرون ! .. وكثر في ذلك الكلام .(2)
وفي رواية أُخرى عنه - بعد ذكر البيعة لأبي بكر يوم الوفاة - : فلمّا كان آخر النهار افترقوا إلى منازلهم فاجتمع قوم من الأنصار وقوم من المهاجرين فتعاتبوافي ما بينهم .. .(3)
ويظهر من رواية البراء بن عازب - أيضاً - أنّ جماعة من الأصحاب اجتمعوا في تلك الليلّة - أي الليلة الأُولى من وفاة النبي صلى الله عليه و آله - وتكلّموا حول مسألة الخلافة ، وأرادوا الوقوف أمام دسيسة القوم وإبطال مخططهم في البيعة لأبي بكر ، إلاّ أنّهم لم يقدروا على ذلك .
روى سليم بن قيس والجوهري في كتابه السقيفة عن البَرَاء بن عازب ضمن رواية : .. فلمّا كان الليل خرجت إلى المسجد فلمّا صرت فيه تذكّرت أنّي كنت أسمع همهمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالقرآن ، فانبعثت من مكاني ، فخرجت نحو الفضاء ، فوجدت نفراً يتناجون ، فلمّا دنوت منهم سكتوا ، فانصرفت عنهم فعرفوني وما عرفتهم ، فدعوني فأتيتهم وإذا المقداد وأبوذر وسلمان وعمّار بن ياسر وعبادة بن الصامت وحذيفة بن اليمان والزبير بن العوام ، وحذيفة يقول : واللّه ليفعلنّ ما أخبرتكم به .. فواللّه ما كذبت ولا كذّبت ، وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين والأنصار ، فقال حذيفة : انطلقوا بنا إلى أُبي بن كعب فقد علم مثل ما علمت ..
ص: 93
فانطلقوا إلى أُبي بن كعب وضربنا عليه بابه ، فأتى حتّى صار خلف الباب ، ثمّ قال : من أنتم ؟ فكلّمه المقداد ، فقال : ما جاء بك ؟ فقال : افتح فإنّ الأمر الذي جئنا فيه أعظم من أن يجري وراء الباب ، فقال : ما أنا بفاتح بابي ، وقد علمت ما جئتم له ، وما
أنا بفاتح بابي ، كأنكم أردتم النظر في هذا العقد ؟ فقلنا : نعم ، فقال : أفيكم حذيفة ؟! فقلنا : نعم ، فقال : القول ما قال حذيفة ، فأمّا أنا فلا أفتح بابي حتى يجري عليّ ما هو جار عليه ، وما يكون بعدها شرّ منها ، وإلى اللّه - جلّ ثناؤه - المشتكى . قال : فرجعوا ، ثمّ دخل أُبي بن كعب بيته .(1)وجاء جماعة من المهاجرين والأنصار - وفي رواية : أربعون رجلاً - إلى أمير المؤمنين عليه السلام يدعونه إلى البيعة ، فقالوا له : أنت - واللّه - أمير المؤمنين .. وأنت - واللّه - أحقّ الناس وأولاهم بالنبي صلى الله عليه و آله .. هلمّ يدك نبايعك ؛ فواللّه لنموتنّ قدّامك ، لا واللّه لا نعطي أحداً طاعة بعدك . قال عليه السلام : « ولم ؟ » قالوا : إنّا سمعنا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيك يوم غدير . قال عليه السلام : « وتفعلون ؟ » قالوا : نعم . قال عليه السلام : « إن كنتم صادقين فاغدوا عليّ غداً محلّقين .. » . فما أتاه إلاّ سلمان وأبوذر والمقداد ، وفي بعض الروايات : الزبير ، وفي بعضها : جاء عمّار بعد الظهر فضرب يده على صدره ، ثم قال له : « ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة ؟! ارجعوا ، فلا حاجة لي فيكم ، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس ، فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد ! ؟ » .(2)
كان موقف الخليفة والحزب الظافر في قبال هؤلاء المتخلّفين وغيرهم ، - ولاسيّما الذين يرون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وحده هو الذي يستحقّ الخلافة دون
ص: 94
غيره - أن يفرّقوا بينهم ، فالعبّاس مثلاً يُخدع بتطميعه ، ثمّ الآخرون يُكرهون على البيعة بالتهديد والإرهاب أو القتل ولو بواسطة الجن ! ..
قال اليعقوبي : وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب ، وأبي عبيدة ابن الجراح ، والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي ؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجّة لكم على عليٍّ ، إذا مال معكم . فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتّى دخلوا على العباس ليلاً ، فحمد أبو بكر اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : إنّ اللّه بعث محمداً نبياً وللمؤمنين وليّاً ، فمنّ عليهم بكونه بين أظهرهم ، حتى اختار لهما عنده ، فخلّى على النّاس أُموراً ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين ، فاختاروني عليهم والياً ولأُمورهم راعياً ، فوليت ذلك ، وما أخاف بعون اللّه وتشديده وهناً ، ولا حيرة ، ولا جبناً « وَما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ »(1) وما أنفكّ(2) يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامّة المسلين ، يتّخذكم لجأً ، فتكون حصنه المنيع ، وخطبه البديع . فإمّا دخلتم مع الناس في ما اجتمعوا عليه ، وإمّا صرفتموهم عمّا مالوا إليه ، ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عمّ رسول اللّه - وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا الأمر عنكم - وعلى رسلكم بني هاشم ، فإنّ رسول اللّه منّا ومنكم .
فقال عمر بن الخطاب : إي واللّه وأُخرى ، إنّا لم نأتكم لحاجة إليكم ولكن كرهاً أن يكون الطعن في ما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم .
ص: 95
فحمد العباس اللّه وأثنى عليه ، وقال : إنّ اللّه بعث محمّداً - كما وصفت - نبياً وللمؤمنين وليّاً ، فمنَّ على أُمّته به ، حتّى قبضه اللّه إليه ، واختار له ما عنده ، فخلّى على المسلمين أُمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحقّ ، لا مائلين عنه بزيغ الهوى ، فإن كنت برسول اللّه طلبت فحقّنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، فما تقدّمنا في أمرك فرضا ،(1) ولا حللنا وسطاً ، ولا برحنا سخطاً .(2)
وإن كان هذا الأمر إنّما وجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنّا كارهين . ما أبعد قولك من : أنّهم طعنوا عليك من قولك : إنّهم اختاروك ومالوا إليك ؛ وما أبعد تسميتكب- :خليفة رسول اللّه من قولك : خلّى على الناس أُمورهم ليختاروا فاختاروك !
فأمّا ما قلت: إنك تجعله لي ،(3) فإن كان حقّا للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإنّ رسول اللّه من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها!..(4) فخرجوا من عنده .(5)
أقول : الظاهر أنّ لسياسة التطميع كانت مدخلية في تمامية الأمر بالنسبة إلى سائر الناس أيضاً ، فقد روى السيوطي عن مجاهد : أنّ أبا بكر قال في خطبته : إنّي لأرجو أن تشبعوا من الجبن والزيت !..(6)
وخاطب الأنصار - بعد خطبة الزهراء عليهاالسلام - فقال: .. فاغدوا على أعطياتكم!..(7)
وقد نقل غير واحد من العامّة عن القاسم بن محمّد ، قال : .. فلمّا اجتمع الناس
ص: 96
على أبي بكر قسّم بين الناس قسماً ، فبعث إلى عجوز من بني عدي بن النجار [ قسمها ] مع زيد بن ثابت ، فقالت : ما هذا ؟ قال : قسم قسّمه أبو بكر للنساء ؟
فقالت : أتراشونني عن ديني ؟ فقالوا : لا ، فقالت : أتخافون أن أدع ما أنا عليه ؟ فقالوا : لا ، فقالت : واللّه لا آخذ منه شيئاً أبداً ..(1)
ص: 97
ص: 98
ص: 99
ص: 100
ملحوظة : سبق وأن أشرنا إلى أنا في غالب هذه النصوص المنقولة هنا - أي في الفصل الثالث - قمنا بعملية تجميع مقاطع من مصادر متعددة ثم ضمّ بعضها إلى الآخر ، مشيرين إلى ذلك في الهامش ، فكل مقطوعة يراجع بها مصدرها ، فتدبر .
لمّا فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من دفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أقام في منزله بما عهد إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ،(1) واجتمع إليه جماعة من بني هاشم والأصحاب من المهاجرين والأنصار(2) - كالعبّاس ،(3) والزبير ،(4) والمقداد ،(5) وطلحة ،(6) وسعد بن أبي وقّاص ..(7) - فإنّهم غضبوا من بيعة أبي بكر ،(8) وأرادوا التحيّز عنه وإظهار
ص: 101
الخلاف عليه ،(1) وأن يبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام .(2) وقد أشار إلى ذلك معاوية في كتابه إلى أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : وما يوم المسلمين منك بواحد ، لقد حسدت أبا بكر ! .. والتويت عليه ، ورمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك عنه ، واستغويت عصابة من الناس حتّى تأخروا عن بيعته ..(3)
فذهب إليهم عمر في جماعة ممن بايع ، فيهم أُسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة .. فألفوهم مجتمعين ، فقالوا لهم : بايعوا أبا بكر ! فقد بايعه النّاس ! فوثب الزبير إلى
سيفه ، فقال عمر : عليكم بالكلب فاكفونا شرّه .. فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السيف من يده ، فأخذه عمر فضرب به الأرض فكسره ،(4) وأحدقوا بمن كان هناك من بني هاشم ومضوا بجماعتهم إلى أبي بكر ، فلمّا حضروا قالوا : بايعوا أبا بكر ! فقد بايعه الناس ، وأيم اللّه لئن أبيتم ذلك لنحاكمنّكم بالسيف .. فلمّا رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع ،(5) حتّى لم يبق ممن حضر إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له : بايع أبا بكر ، فقال علي عليه السلام : « أنا أحقّ بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ؟! ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم
ص: 102
لمكانكم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأعطوكم المقادة ، وسلّموا لكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار ، أنا أولى برسول اللّه صلى الله عليه و آله حيّاً وميّتاً . (وأنا وصيّه ووزيره ، ومستودع سرّه وعلمه ، وأنا الصدِّيق الأكبر ، أوّل من آمن به وصدّقه ، وأحسنكم بلاءا في جهاد المشركين ، وأعرفكم بالكتاب والسنّة ، وأفقهكم في الدِّين ، وأعلمكم بعواقب الأُمور ، وأذربكم لساناً ، وأثبتكم جناناً ، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر .. ؟!)(1) أنصفونا - إن كنتم تخافون اللّه - من أنفسكم ، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم ، وإلاّ فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون .. ».
(فقال عمر : أما لك بأهل بيتك أُسوة .. ؟! فقال علي عليه السلام : « سلوهم عن ذلك .. » ، فابتدر القوم الذين بايعوا من بني هاشم ، فقالوا : ما بيعتنا بحجّة على علي عليه السلام .. ومعاذ اللّه أن نقول أنّا نوازيه في الهجرة وحسن الجهاد ، والمحل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله)(2) فقال
عمر : إنّك لست متروكاً حتّى تبايع طوعاً أو كرهاً . فقال علي عليه السلام : « احلب حلباً لك شطره ، اشدد له اليوم ليردّ عليك غداً ، إذاً واللّه لا أقبل قولك ، ولا أحفل بمقامك .. ولا أُبايع » ، فقال أبو بكر : مهلاً يا أبا الحسن ! ما نشدّد عليك ولا نكرهك . فقام أبو عبيدة إلى علي عليه السلام فقال : يا ابن عم ! لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك ولكنّك حدث السنّ - وكان لعليٍّ عليه السلام يومئذ ثلاث وثلاثون سنة - وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك ،(3) وهو أحمل لثقل هذا الأمر ، وقد مضى الأمر بما فيه ، فسلِّم له ، فإن عمّرك اللّه لسلّموا هذا الأمر إليك ، ولا يختلف عليك اثنان بعد هذا إلاّ وأنت به خليق وله حقيق ... (ولا تبعث الفتنة قبل أوان الفتنة ، قد عرفت ما في قلوب العرب وغيرهم عليك) .(4)
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « يا معاشر المهاجرين والأنصار ! اللّه اللّه (لا تنسوا عهد
ص: 103
نبيّكم إليكم في أمري و)(1) لا تخرجوا سلطان محمّد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم وتدفعوا أهله عن حقّه ومقامه في الناس ، يا معاشر الجمع ! (إنّ اللّه قضى وحكم ونبيّه أعلم وأنتم تعلمون)(2) إنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ، أما كان منّا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، المضطلع بأمر الرعية ؟ واللّه إنّه لفينا لا فيكم ، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعداً ، وتفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم . فقال بشير بن سعد الأنصاري ( - الذي وطّأ الأمر لأبي بكر - وقالت جماعة الأنصار) :(3) يا أبا الحسن ! لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك قبل الانضمام لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان .
( .. فقال علي عليه السلام : « يا هؤلاء ! أكنتُ أدع رسول اللّه صلى الله عليه و آله مسجّى لا أُواريه وأخرج أُنازع في سلطانه ؟!! ») .(4)
وفي رواية : « لَبيعتي كانت قبل بيعة أبي بكر ، شهدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمر اللّه بها ، أو ليس قد بايعني ؟! ... فما بالهما يدّعيان ما ليس لهما وليسا بأهله » .(5)
(« واللّه ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحلّ ما استحللتموه ، ولا علمت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ترك يوم غدير خم لأحد حجّة ، ولا لقائل مقالاً ، فأُنشد اللّه رجلاً سمع النبي صلى الله عليه و آله يوم غدير خم يقول : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » .. أن يشهد بما سمع » .
قال زيد بن أرقم : فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك ، وكنت ممّن سمع القول منرسول اللّه صلى الله عليه و آله فكتمت الشهادة يومئذ فذهب بصري .
قال : وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشي عمر أن يصغى إلى قول
ص: 104
علي عليه السلام ، ففسخ المجلس وقال : إنّ اللّه تعالى يقلّب القلوب والأبصار ، ولا يزال - يا أبا الحسن ! - ترغب عن قول الجماعة . فانصرفوا يومهم ذلك) .(1)
فجلس أمير المؤمنين عليه السلام في بيته ، واشتغل بجمع القرآن - كما أوصاه النبي صلى الله عليه و آله - من يومه ذلك - وهو اليوم الثالث من وفاة النبي صلى الله عليه و آله ، أي يوم الأربعاء -(2) فأكثر الناس في تخلّفه عن بيعة أبي بكر ، واشتدّ أبو بكر وعمر عليه في ذلك ، فخرجت أُمّ مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر وقالت :
كانت أُمور وأنباء وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
ص: 105
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب(1)
قالوا : وكان الزبير والمقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى علي عليه السلام فيتشاورون ويتراجعون أُمورهم ، فجاء عمر وكلّم فاطمة الزهراء عليهاالسلام وحلف لها وقال : إن اجتمع هؤلاء النفر عندكم آمر بإحراق البيت عليهم ..(2)
وفي رواية : أن يهدم البيت عليهم .. .(3)
فوقفت فاطمة عليهاالسلام على بابها فقالت : « لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم
تردّوا لنا حقّاً » .(4)
وفي رواية : « .. وقطعتم أمركم في ما بينكم فلم تؤمّرونا ولم تروا لنا حقّنا ، كأنّكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم ، واللّه لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيّكم، واللّه حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة » .(5)
علي فليبايع ، فإنّا لسنا في شيء حتّى يبايع .. ولو قد بايع أمنّاه .(1)
وفي رواية : يا هذا ! ليس في يديك شيء منه مالم يبايعك علي ، فابعث إليه حتّى يأتيك فيبايعك ، فإنّما هؤلاء رعاع .. فبعث إليه قنفذاً ، فقال له : اذهب فقل لعليّ : أجب خليفة رسول اللّه ، فذهب قنفذ فما لبث أن رجع فقال لأبي بكر : قال لك : « ما خلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحداً غيري ،(2) لسريع ما كذبتم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله » .(3)
وفي رواية ابن عباس : قال علي عليه السلام : « ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وارتددتم ، واللّه ما استخلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله غيري ، فارجع - يا قنفذ ! - فإنّما أنت رسول ، فقل له : قال لك علي عليه السلام : واللّه ما استخلفك رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإنّك لتعلم مَنْ خليفة رسول اللّه » ، فأقبل قنفذ إلى أبي بكر فبلّغه الرسالة فقال أبو بكر : صدق علي ! .. ما استخلفني رسول اللّه صلى الله عليه و آله .(4)
وفي رواية أُخرى : لمّا جاء قنفذ قال لفاطمة عليهاالسلام : أنا قنفذ رسول أبي بكر ابن أبي قحافة خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، قولي لعليّ : يدعوك خليفة رسول اللّه ! .. قال علي عليه السلام : « قولي : ما أسرع ما ادّعيت ما لم تكن بالأمس ، حين خاطبت الأنصار في ظلّة بني ساعدة ودعوت صاحبيك عمر وأبا عبيدة » . فقالت فاطمة ذلك . فرجع قنفذ ، فقال عمر : ارجع إليه فقل : خليفة المسلمين يدعوك .
فردّ قنفذ إلى عليّ فأدّى الرسالة ، فقال علي عليه السلام : « من استخلف متسخلَفاً فهو دون من استخلفه ، وليس للمستخلَف أن يتأمّر على المستخلِف .. » فلم يسمع له ولم يطع .(5)
فبكي أبو بكر طويلاً ! ..(6) فغضب عمر ووثب وقام ، وقال : ألا تضمّ هذا
ص: 107
المتخلّف عنك بالبيعة ؟! .. فقال أبو بكر : اجلس ، ثم قال لقنفذ : اذهب إليه فقل له : أجب أمير المؤمنين أبا بكر .. فأقبل قنفذ حتّى دخل على علي عليه السلام فأبلغه الرسالة ، فقال : « كذب واللّه ! انطلق إليه فقل له : لقد تسمّيت باسم ليس لك ، فقد علمت أنّ أمير المؤمنين غيرك .. » فرجع قفنذ فأخبرهما .(1)
وفي رواية سلمان عنه عليه السلام : « سبحان اللّه ! ما - واللّه - طال العهد فينسى ، واللّه إنّه ليعلم إنّ هذا الاسم لا يصلح إلاّ لي ، ولقد أمّره رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وهو سابع سبعة - فسلّموا عليّ بإمره المؤمنين ، فاستفهم هو وصاحبه من بين السبعة ، فقالا : أمر من اللّه ورسوله ، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « نعم حقّاً من اللّه ورسوله إنّه أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وصاحب لواء الغرّ المحجّلين ، يقعده اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءَه الجنّة وأعداءه النار » .(2)
فوثب عمر غضبان فقال : واللّه إنّي لعارف بسخفه ! .. وضعف رأيه ! .. وإنّه لا يستقيم لنا أمر حتّى نقتله .. فخلّني آتيك برأسه ، فقال أبو بكر : اجلس ! فأبى ، فأقسم عليه فجلس ، ثمّ قال : يا قنفذ ! انطلق فقل له : أجب أبا بكر .. فأقبل قنفذ فقال : يا علي ! أجب أبا بكر ، فقال علي عليه السلام : « إنّي لفي شغل عنه ، وما كنت ُ بالذي أترك وصيّة خليلي وأخي وأنطلق إلى أبي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور» .(3)
وفي رواية : قال أبو بكر : ارجع إليه فقل : أجب ! فإنّ الناس قد أجمعوا على بيعتهم إيّاه ، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يبايعونه وقريش ، وإنّما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم ، وذهب إليه قنفذ فما لبث أن رجع ، فقال : قال لك : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لي وأوصاني إذا واريته في حفرته : أن لا أخرج من بيتي حتّى أُؤلف كتاب اللّه فإنّه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل .. » .(4)
ص: 108
أقول : يستفاد من ظاهر بعض الروايات وقوع الهجوم الأخير في هذا اليوم ، لذكره عقيب هذه المراسلات ، كما يظهر من كلام المسعودي ، ولكن روى سليم عن سلمان أنّ إرسالهم كان بعد عرض القرآن عليهم ، قال سلمان :
لمّا بعث إليه علي عليه السلام : « إني مشغول وقد آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلاّ للصلاة حتى أُؤلف القرآن وأجمعه .. » سكتوا عنه أياماً ، فجمعه في ثوب واحد وختمه ، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله فنادى علي عليه السلام بأعلى صوته : « أيّها الناس ! إنّي لم أزل منذ قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله مشغولاً بغسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد ، فلم ينزل اللّه على رسوله آية منه إلاّ وقد جمعتها ، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعلّمني تأويلها .. » .
ثم قال علي عليه السلام : « لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنا عن هذا غافلين ، لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكم إلى نصرتي .. ولم أُذكّركم حقّي .. ولم أدعُكم إلى كتاب اللّه من فاتحته إلى خاتمته » فقال له عمر : ما أغنانا بما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه !
ثم دخل علي عليه السلام بيته .(1)
ثم ذكر مراودات القوم معه كما مرّ .. وقال : فسكتوا عنه يومهم ذلك .
قال سلمان : فلمّا كان الليل حمل علي عليه السلام فاطمة عليهاالسلام على حمار ، وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين عليهماالسلام ، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلاّ أتاه في منزله ، فناشدهم اللّه حقّه ودعاهم إلى نصرته ، فما استجاب منهم رجل غيرنا أربعة ، فإنّا حلقنا رؤوسنا ، وبذلنا له نصرتنا ، فلمّا أن رأى علي عليه السلام خذلان الناس إيّاه وتركهم
ص: 109
نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه لزم بيته .(1)
وفي رواية ابن قتيبة : خرج علي عليه السلام يحمل فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله على دابّة ليلاً يدور [ بها ] في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول اللّه ! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ! .. فيقول علي عليه السلام : « أفكنت أدع رسول اللّه صلى الله عليه و آله في بيته لم أدفنه وأخرج أُنازع الناس سلطانه .. ؟! » . فقالت فاطمة عليهاالسلام : « ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، وقد صنعوا ما اللّه حسيبهم وطالبهم » .(2)
الهجوم الثاني
الهجوم الثاني(3)
ثمّ أُخبر أبو بكر باجتماع بعض المتخلّفين عند أمير المؤمنين عليه السلام فبعث إليهم عمر بن الخطاب في جمع كثير ،(4) فجاء فناداهم فأبوا أن يخرجوا ، فدعا عمر بالحطب ، فقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنها على من فيها .. فقيل له :
ص: 110
يا أبا حفص ! إنّ فيها فاطمة ! فقال : وإن ؟!!(1)
ثمّ استأذن عمر أن يدخل عليهم فلم يُؤذن له ، فشغب وأجلب .(2)
فخرج إليه الزبير مصلتاً سيفه ،(3) وقال : لا أغمده حتّى يُبايَع علي عليه السلام ..(4) وشدّ على عمر ليضربه بالسيف ، فرماه خالد بن الوليد بصخرة فأصابت قفاه وسقط السيف من يده .(5)
وفي رواية : ففرّ عمر من بين يديه - حسب عادته - وتبعه الزبير فعثر بصخرة في طريقه فسقط لوجهه .(6)
وفي رواية أُخرى : زلّت قدمه وسقط إلى الأرض ،
فقال أبو بكر : عليكم بالكلب .(7) وفي رواية : فنادى عمر : دونكم الكلب ..(8) فوثبوا عليه(9) وأحاطوا به وكانوا أربعين رجلاً ،(10) فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ،(11) فندر السيف من يده ،(12) فقال عمر : خذوا سيفهواضربوا به الحجر ..(13)
ص: 111
وفي رواية : صاح به أبو بكر - وهو على المنبر - : اضربوا به الحجر ،(1)
فأخذ سلمة بن أسلم سيفه فضربه على صخرة أو جدار ،(2) فكسره .
وفي رواية أُخرى : إنّ محمّد بن سلمة هو الّذي كسره ..(3)
وفي رواية ثالثة : إنّ عمر ضرب بسيفه صخرة فكسره .(4)
فخرج من كان في الدار فبايعوا(5) إلاّ عليّ عليه السلام .
فقال عمر لأبي بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع .. ؟!(6) وإن لم تفعل لأفعلن ! ثم خرج مغضباً وجعل ينادي القبائل والعشائر : أجيبوا خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! فأجابه الناس من كل ناحية ومكان ! .. فاجتمعوا عند مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله فدخل على أبي بكر ، وقال : قد جمعت لك الخيل والرجال ..(7) فقال له أبو بكر : من نرسل إليه ؟ قال عمر : نرسل إليه قنفذاً فهو رجل فظّ غليظ جاف من الطلقاء ، أحد بني عدي بن كعب ، فأرسله وأرسل معه أعواناً ،(8) وقال له : أخرجهم من البيت .. فإن خرجوا وإلاّ فاجمع الأحطاب على بابه ، وأعلمهم : إنّهم إن لم يخرجوا للبيعة أضرمتالبيت عليهم ناراً .(9)
ص: 112
فانطلق قنفذ واستأذن على علي عليه السلام فأبى أن يأذن لهم ، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر - وهما جالسان في المسجد والناس حولهما - فقالوا : لم يؤذن لنا ، فقال
عمر : اذهبوا ! فإن أذن لكم وإلاّ فادخلوا بغير إذن .. فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت فاطمة عليهاالسلام : « أُحرّج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن .. » فرجعوا وثبت قنفذ ، فقالوا : إنّ فاطمة قالت : .. كذا وكذا .. فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن .
فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء ..؟! ثم أمر أُناساً حوله بتحصيل الحطب .(1)
وفي رواية : فوثب عمر غضبان .. فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً ،(2) فقال أبو بكر لعمر : إئتني به بأعنف العنف ! ..(3) وأخرجهم وإن أبوا فقاتلهم ،(4) فخرج في جماعة(5) كثيرة(6) من الصحابة(7) من المهاجرين والأنصار ،(8) والطلقاء ،(9) والمنافقين ،(10) وسفلة ا لأعراب وبقايا الأحزاب .(11)
وفي رواية : إنّهم كانوا ثلاثمائة .(12) وقيل غير ذلك ، منهم :
ص: 113
1 - عمر بن الخطاب(1)
2 - خالد بن الوليد(2)
3 - قنفذ(3)
4 - عبد الرحمن بن عوف(4)
5 - أُسيد بن حضير(5) الأشهلي(6)
6 - سلمة بن سلامة بن وقش الأشهلي(7)
7 - سلمة بن أسلم ،(8) وفي الروايات : سلمة بن أسلم بن جريش الأشهلي(9)
8 - المغيرة بن شعبة(10)
9 - أبو عبيد ة بن الجراح(11)
10 - ثابت بن قيس بن شماس(12)
ص: 114
11 - محمد بن مسلمة(1)
12 - سالم مولى أبي حذيفة(2)
13 - أسلم العدوي(3)
14 - عياش بن ربيعة(4)
15 - هرمز الفارسي (جدّ عمرو بن أبي المقدام)(5)
16 - عثمان بن عفان(6)
17 - زياد بن لبيد(7)
18 - عبد اللّه بن أبي ربيعة(8)
19 - عبد اللّه بن زمعة(9)
20 - سعد بن مالك(10)
21 - حماد(11)
22 - عبدالرحمن بن أبي بكر(12)
وذكروا بعضهم أبا بكر أيضاً ،(13) وكذا زيد بن ثابت .(14)
فقال لهم عمر : هلمّوا في جمع الحطب ..(15)
ص: 115
فأتوا بالحطب ،(1) والنار ،(2) وجاء عمر ومعه فتيلة .(3)
وفي رواية : أقبل بقبس من نار ،(4) وهو يقول : إن أبوا أن يخرجوا فيبايعوا أحرقت عليهم البيت .. فقيل له : إنّ في البيت فاطمة ، أفتحرقها ؟! قال : سنلتقي أنا وفاطمة !!(5)
فساروا إلى منزل علي عليه السلام وقد عزموا على إحراق البيت بمن فيه .(6)
قال أُبي بن كعب : فسمعنا صهيل الخيل ، وقعقعة اللجم ، واصطفاق الأسنّة ، فخرجنا من منازلنا مشتملين بأرديتنا مع القوم حتى وافوا منزل علي عليه السلام ..(7) وكانت فاطمة عليهاالسلام قاعدة خلف الباب ، قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ،(8) فلمّا رأتهم أغلقت الباب في وجوههم ، وهي لا تشكّ أن لا يدخل عليها إلاّ بإذنها ،(9) فقرعوا الباب قرعاً شديداً(10) ورفعوا أصواتهم وخاطبوا من فيالبيت بخطابات شتّى ،(11) ودعوهم إلى بيعة أبي بكر .(12)
وصاح عمر : يابن أبي طالب ! افتح الباب ! ..(13)
ص: 116
واللّه لئن لم تفتحوا لنحرقّنه بالنار ! ..(1)
والذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم ! ..(2)
اخرج - يا علي ! - إلى ما أجمع عليه المسلمون وإلاّ قتلناك ! ..(3)
إن لم تخرج يابن أبي طالب وتدخل مع الناس لأحرقنّ البيت بمن فيه ! ..(4)
يابن أبي طالب ! افتح الباب وإلاّ أحرقت عليك دارك ! ..(5)
واللّه لتخرجنّ إلى البيعة ولتبايعنّ خليفة رسول اللّه وإلاّ أضرمت عليك النار .(6)
يا علي ! اخرج وإلاّ أحرقنا البيت بالنار ! ..(7)
فخرجت فاطمة عليهاالسلام فوقفت من وراء الباب ، فقالت : « أيها الضالّون المكذّبون ! ماذا تقولون ؟ وأيّ شيء تريدون ؟ »
فقال عمر : يا فاطمة !
فقالت : « ما تشاء يا عمر ؟ ».
قال : ما بال ابن عمّك قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب ؟
فقالت : « طغيانك - يا شقيّ ! - أخرجني وألزمك الحجّة .. وكلّ ضالّ غوي».
فقال : دعي عنك الأباطيل وأساطير النساء !! وقولي لعلي يخرج ..
فقالت : « لاحبّ ولاكرامة ، أبحزب الشيطان تخوّفني يا عمر ؟! وكان حزب الشيطان ضعيفاً » .
فقال : إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل وأضرمتها ناراً على أهل هذا البيت
ص: 117
وأحرق من فيه ، أو يقاد علي إلى البيعة ! ..(1)
فقالت فاطمة عليهاالسلام : « يا عمر ! ما لنا ولك لا تدعنا وما نحن فيه ؟ »
فقال : افتحي الباب وإلاّ أحرقنا عليكم بيتكم ..(2)
فقالت فاطمة عليهاالسلام : « أفتحرق عليّ ولدي ؟! »(3)
فقال : إي واللّه أو ليخرجنّ وليبايعنّ .(4)
وفي رواية : « يابن الخطاب ! أتراك محرقاً عليَّ بابي ؟! » قال : نعم .(5)
قالت : « ويحك يا عمر ! ما هذه الجرأة على اللّه وعلى رسوله ؟! تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتطفئ نور اللّه واللّه متمّ نوره ؟! » .
فقال : كفّي يا فاطمة ! فليس محمّد حاضراً ! ولا الملائكة آتية بالأمر والنهي والزجر من عند اللّه ! وما عليّ إلاّ كأحد من المسلمين ، فاختاري إن شئت خروجه لبيعة أبي بكر أو إحراقكم جميعاً ! ..
فقالت - وهي باكية - : « اللّهم إليك نشكو فقد نبيّك ورسولك وصفيّك ، وارتداد أُمّته علينا ، ومنعهم إيّانا حقّنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيّك المرسل » .
فقال لها عمر : دعي عنك - يا فاطمة ! - حمقات(6) النساء ! فلم يكن اللّه ليجمع لكم النبوّة والخلافة !! ..(7)
فقالت : « يا عمر ! أما تتقي اللّه عزّ وجلّ .. تدخل على بيتي ، وتهجم على داري ؟! » فأبى أن ينصرف .(8)
ص: 118
ثم أمر عمر بجعل الحطب حوالي البيت .. وانطلق هو بنار(1) وأخذ يصيح : أحرقوا دارها بمن فيها .(2)
فنادت فاطمة عليهاالسلام بأعلى صوتها : « يا أبت ! يا رسول اللّه ! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » .
فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءَها انصرفوا باكين ، وبقي عمر ومعه قوم ،(3) ودعا بالنار وأضرمها في الباب ،(4) فأخذت النار في خشب الباب ،(5) ودخل الدخان البيت ،(6) فدخل قنفذ يده يروم فتح الباب ..(7)
فأخذت فاطمة عليهاالسلام بعضادتي الباب تمنعهم من فتحه ، وقالت : « ناشدتكم اللّه وبأبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن تكفّوا عنا وتنصرفوا » .
فأخذ عمر السوط من قنفذ وضرب به عضدها ، فالتوى السوط على يديها حتى صار كالدملج(8) الأسود .(9)
فضرب عمر الباب برجله فكسره ،(10) وفاطمة عليهاالسلام قد ألصقت أحشاءهابالباب تترسه ، فركل الباب برجله(11) وعصرها بين الباب والحائط عصرة شديدة
ص: 119
قاسية حتى كادت روحها أن تخرج من شدّة العصرة ، ونبت المسمار في صدرها(1) ونبع الدم من صدرها وثدييها ،(2) فسقطت لوجهها - والنار تسعر(3) - ، فصرخت صرخة جعلت أعلى المدينة أسفلها ، وصاحت : « يا أبتاه ! يا رسول اللّه ! هكذا يصنع بحبيبتك وابنتك .. آه ! يا فضّة ! إليك فخذيني فقد واللّه قتل ما في أحشائي » ، ثم
استندت إلى الجدار وهي تمخض ،(4) وكانت حاملة بالمحسن لستة أشهر فأسقطته ،(5) فدخل عمر وصفق على خدّها صفقة من ظاهر الخمار ، فانقطع قرطها وتناثرت إلى الأرض .(6)
فخرج أمير المؤمنين عليه السلام من داخل الدار محمرّ العين حاسراً ، حتى ألقى ملاءته عليها وضمّها إلى صدره وصاح بفضّة : « يا فضة ! مولاتك ! فاقبلي منها ما تقبله النساء فقد جاءها المخاض من الرفسة وردّ الباب ، فأسقطت محسناً » .
وقال عليه السلام : « إنّه لاحق بجدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيشكو اليه » .
وقال لفضة : « واريه بقعر البيت » .(7)
ثم وثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيب عمر ، ثم هزّه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله ، فذكر قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وما أوصاه به من الصبر والطاعة ، فقال : « والذي أكرم محمّداً صلى الله عليه و آله بالنبوة - يا ابن صهاك ! - لولا كتاب من اللّه سبق وعهد عهده إليّرسول اللّه صلى الله عليه و آله لعلمت أنك لا تدخل بيتي » .
ص: 120
فأرسل عمر يستغيث ، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوّف أن يخرج عليّ عليه السلام بسيفه ، لما قد عرف من بأسه وشدّته ، فقال أبو بكر لقنفذ : ارجع ، فإن خرج وإلاّ فاقتحم عليه بيته ، فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم النار !
فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وثار علي عليه السلام إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه - وهم كثيرون - ، فتناول بعض سيوفهم فكاثروه .(1)
فقال عمر لعلي عليه السلام : قم فبايع لأبي بكر .. فتلكّأ واحتبس ، فأخذ بيده ، وقال : قم ! فأبى أن يقوم ،(2) فألقوا في عنقه حبلاً .(3)
وفي رواية : جعلوا حمائل سيفه في عنقه .(4)
وفي غير واحد من النصوص : أخرجوه ملبّباً(5) بثيابه يجرّونه إلى المسجد .
فصاحت فاطمة عليهاالسلام وناشدتهم اللّه (6) وحالت بينهم وبين بعلها ، وقالت : « واللّه لا أدعكم تجرّون ابن عمّي ظلماً ، ويلكم ما أسرع ما خنتم اللّه ورسوله فينا أهل البيت .. » وبزعمها أنّها تخلّصه من أيديهم ،(7) فتركه أكثر القوم لأجلها .
فأمر عمر قنفذاً أن يضربها بسوطه ، فضربها بالسوط على ظهرها وجنبيها إلىأن أنهكها وأثر في جسمها الشريف .(8)
ص: 121
وفي رواية : ضربها قنفذ على وجهها وأصاب عينها .(1)
وفي رواية أُخرى : ألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ودفعها فكسر ضلعاً من جنبها .. فألقت جنيناً من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة .(2)
وفي روايات أُخرى : ضربها على رأسها أو ذراعها أو كتفها ، أو عضدها وبقي أثر السوط في عضدها مثل الدملج ،(3) أو لكزها بنعل السيف ، وأنّ الضرب الصادر منه كان السبب في إسقاط جنينها ،(4) أو كان أقوى سبب في ذلك .(5)
وفي رواية : ضربها خالد بن الوليد - أيضاً - بغلاف السيف .
وفي رواية : ضغطها خالد بن الوليد خلف الباب فصاحت .. ولذا أسند بعض الثقاة إسقاط الحمل إلى خالد أيضاً .(6)
وفي رواية : ضربها المغيرة بن شعبة حتى أدماها ، أو دفع الباب على بطنها .. ولذا أُسند الإسقاط إليه أيضاً .(7)
وفي رواية : التفت عمر إلى من حوله وقال : اضربوا فاطمة !!.. فانهالت السياطعلى حبيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبضعته حتى أدموا جسمها ، وبقيت آثار العصرة القاسية
ص: 122
والصدمة المريرة تنخر في جسم فاطمة ، فأصبحت مريضة عليلة حزينة .(1)
وفي عدّة من الروايات : ضرب عمر بالغلاف على جنبها ، وبالسوط على ذراعها ،(2) واسودّ متنها من أثر الضرب(3) وبقي إلى أن قبضت .(4)
قال سلمان : فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون !! ما فيهم إلاّ باك ، غير عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ، وعمر يقول : إنّا لسنا من النساء ومن رأيهنّ في شيء .(5)
هائج الغضب ، شديد الصبر ، كاظم الغيظ ..(1) فجيء به تعباً ..(2)
وفي رواية : .. يمضي به ركضاً ..(3)
واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة من الرجال ،(4) فما مرّ بمجلس من المجالس إلاّ يقال له : انطلق فبايع ! ..(5)
واتّبعه سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار وبريدة ، وهم يقولون : ما أسرع ما خنتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأخرجتم الضغائن التي في صدوركم .
وقال بريدة بن الخصيب الأسلمي : يا عمر ! أتيت على أخي رسول اللّه ووصيّه وعلى ابنته فتضربها .. ؟! وأنت الذي تعرفك قريش بما تعرفك به !(6)
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يتألّم ويتظلّم ويستنجد ويستصرخ ،(7) وهو يقول : « أما واللّه لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لم [ لن ] تصلوا إلى هذا أبداً ، أما واللّه ما ألوم نفسي في جهادكم ولو كنت استمسك من أربعين رجلاً لفرّقت جماعتكم ، ولكن لعن اللّه أقواماً بايعوني ثم خذلوني .. » .(8)
ويقول أيضاً : « واجعفراه ! .. ولا جعفر لي اليوم ، واحمزتاه ! .. ولا حمزة لي اليوم .. » .(9)
ص: 124
فمرّوا به على قبر النبي صلى الله عليه و آله ، فوقف عند القبر ، وقال : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي »(1) » .
فخرجت يد من قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعرفون أنها يده ، وصوت يعرفون أنه صوته نحو أبي بكر : « يا هذا ! « أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ
رَجُلاً » ؟! . . » .(2)
قال عدي بن حاتم : ما رحمت أحداً رحمتي علياً حين أُتي به ملبّبا ..(3)
وقال سلمان حينما رأى ذلك : أيصنع ذا بهذا ؟ واللّه لو أقسم على اللّه لانطبقت ذه على ذه [ أي السماء على الأرض ] !!(4)
وقال أبوذر : ليت السيوف عادت بأيدينا ثانية .(5)
فخرجت فاطمة عليهاالسلام واضعة قميص رسول اللّه صلى الله عليه و آله على رأسها آخذة بيدي ابنيها - وهي تبكي وتصيح فنهنهت من الناس - فما بقيت هاشمية إلاّ خرجت معها فصرخت وولولت ونادت : « يا أبا بكر ! ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. واللّه لا أُكلّم عمر حتى ألقى اللّه ..(6) خلّوا عن ابن عمّي .. ما لي ولك يا أبا بكر ؟! أتريد أن تؤتم ابنيّ وترملني من زوجي ؟! واللّه لئن لم تكفّ عنه لأنشرنّ شعري ، ولأشقنّ جيبي ، ولآتينّ قبر أبي ، ولأصيحنّ إلى ربّي .. فما صالح بأكرم على اللّه من ابن عمّي ، ولا ناقة صالح بأكرم على اللّه منّي ، ولا الفصيل بأكرمعلى اللّه من ولدي .. ».
ص: 125
فقال علي عليه السلام لسلمان : « أدرك ابنة محمّد صلى الله عليه و آله ، فإني أرى جنبتي المدينة تكفئان ، واللّه إن نشرت شعرها ، وشقّت جيبها ، وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربّها ، لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها .. » .
فأدركها سلمان رضى الله عنه فقال : يا بنت محمّد ! إن اللّه بعث أباك رحمةً .. فارجعي .
فقالت : « يا سلمان ! يريدون قتل عليٍ ، ما عَلَيّ صبر » .
فقال سلمان : إنّي أخاف أن يخسف بالمدينة ، وعلي عليه السلام بعثني إليك يأمرك أن ترجعني إلى بيتك .
فقالت :« إذاً أرجع وأصبر وأسمع له وأُطيع » .(1)
قال أبو جعفر عليه السلام : « واللّه لو نشرت شعرها لماتوا طرّاً » .(2)
وفي رواية : عدلت بعد ذلك إلى قبر أبيها ، فأشارت إليه بحزنة ونحيب وهي تقول :
« نفسي على زفراتها محبوسة *** يا ليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياة وإنما *** أبكي مخافة أن تطول حياتي »
ثم قالت : « وا أسفاه عليك يا أبتاه ، وأُثكل حبيبك أبو الحسن المؤتمن ، وأبو سبطيك الحسن والحسين ، ومن ربّيته صغيراً وواخيته كبيراً ، وأجلّ أحبّائك لديك ، وأحبّ أصحابك عليك ، أوّلهم سبقاً إلى الإسلام ومهاجرةً إليك يا خير الأنام .. فها هو يساق في الأسر كما يقاد البعير » .
ثم إنها أنّت أنّةً وقالت : « وامحمداه ! .. واحبيباه ! .. ، وا أباه ! .. وا أبا القاسماه ! .. وا أحمداه ! .. وا قلّة ناصراه ! .. وا غوثاه ! .. وا طول كربتاه ! .. وا حزناه ! ..
وا مصيبتاه ! .. وا سوء صباحاه ! .. » وخرّت مغشيةً عليها ، فضجّ الناس بالبكاء
ص: 126
والنحيب ، وصار المسجد مأتماً .(1)
وفي رواية : وأصبحت فاطمة عليهاالسلام تنادي : « وا سوء صباحاه ! .. » ،(2) فسمعها أبو بكر فقال لها : إنّ صباحك لصباح سوء !! ..(3)
ثم انتهى بعليّ عليه السلام إلى أبي بكر فأجلسوه بين يديه(4) - وعمر قائم بالسيف على رأسه - وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل والمغيرة بن شعبة وأُسيد بن حضير وبشير بن سعد .. وسائر الناس حول أبي بكر عليهم السلاح ، فقال علي عليه السلام : « ما أسرع ما توثّبتم على أهل بيت نبيّكم ! يا أبا بكر ! بأيّ حقّ .. وبأيّ ميراث .. وبأيّ سابقة تحثّ الناس إلى بيعتك ؟! ألم تبايعني بالأمس بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ » .(5)
فجلس عمر على ركبتيه وحسر عن ذراعيه ،(6) وانتهر علياً عليه السلام وقال له : بايع ودع عنك هذه الأباطيل !! ..
فقال له عليه السلام : « فإن لم أفعل فما أنتم صانعون ؟ » .
قالوا : نقتلك ذلاًّ وصغاراً !! ..
وفي بعض الروايات : قال أبو بكر - وفي بعضها قال عمر - : إذاً واللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك .
ص: 127
فقال : « إذاً تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله » .
قال أبو بكر - أو عمر ؛ على اختلاف النصوص - : أمّا عبد اللّه فنعم ، أمّا أخا رسول اللّه فلا !..(1)
فقال علي عليه السلام : « أما واللّه لولا قضاء من اللّه سبق وعهد عهده إليّ خليلي لست أجوزه لعلمت أيّنا أضعف ناصراً وأقلّ عدداً » .
ثم أقبل علي عليه السلام عليهم ، فقال : « يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار ! أُنشدكم اللّه أسمعتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول يوم غدير خم .. كذا وكذا ، وفي غزوة تبوك .. كذا وكذا .. » فلم يدع علي عليه السلام شيئاً قاله فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله علانية للعامّة إلاّ ذكّرهم إيّاه . فقالوا : اللّهم نعم ، فلمّا تخوّف أبو بكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه .. بادرهم
فقال : كلّما قلت حقّ ، قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا ، ولكن قد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول بعد هذا : إنّا أهل بيت اصطفانا اللّه وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإنّ اللّه لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوّة والخلافة .
فقال علي عليه السلام : « هل أحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله شهد هذا معك ؟ » .
فقال عمر : صدق خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد سمعنا هذا منه كما قال .
وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل : قد سمعنا ذلك من رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
فقال علي عليه السلام : « لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي قد تعاقدتم عليها في الكعبة إن قتل اللّه محمداً أو مات لتزونّ هذا الأمر عنّا أهل البيت .
فقال أبو بكر : فما علمك بذلك ؟! ما اطلعناك عليها ؟!
فقال علي عليه السلام : « أنت يا زبير .. وأنت يا سلمان .. وأنت يا أبا ذر .. وأنت يا مقداد .. أسألكم باللّه وبالإسلام أما سمعتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول ذلك وأنتم تسمعون :
ص: 128
« إن فلاناً وفلاناً .. - حتى عدّ هؤلاء الخمسة - قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا فيه وتعاقدوا على ما صنعوا ؟ » فقالوا : اللّهم نعم ، قد سمعنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « إنّهم قد تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا وكتبوا بينهم كتاباً إن قُتلتُ أو متُّ أن يزووا عنك هذا يا علي » ، فقلتَ : « بأبي أنت يا رسول اللّه ! فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل ؟ » فقال لك : « إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم ، وإن لم تجد أعواناً فبايعهم واحقن دمك » .
فقال علي عليه السلام : « أما واللّه لو أنّ أُؤلئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في اللّه ، ولكن - أما واللّه - لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة . وفي ما يكذّب قولكم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله قول اللّه : « أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً »(1) فالكتاب : النبوّة ، والحكمة : السنّة ، والملك : الخلافة ، ونحن آل إبراهيم .. » .
فقام بريدة فقال : يا عمر ! ألستما اللذين قال لكما رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « انطلقا إلى علي عليه السلامفسلّما عليه بإمرة المؤمنين » ، فقلتما : أعن أمر اللّه وأمر رسوله ؟ فقال : « نعم » .
فقال أبوبكر : قد كان ذلك يا بريدة ولكنّك غبت وشهدنا والأمر يحدث بعده الأمر.
وفي رواية قال أبو بكر : قد كان ذلك ؛ ولكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال - بعد ذلك - : لا يجتمع لأهل بيتي الخلافة والنبوة .
فقال : واللّه ما قال هذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
فقال عمر : ما أنت وهذا يا بريده ! وما يدخلك في هذا ؟
قال بريدة: واللّه لاسكنت فيبلدة أنتم فيها أُمراء.. فأمر به عمر فضُرب وأُخرج .
ثم قام سلمان فقال : يا أبا بكر ! اتق اللّه وقم عن هذا المجلس ودعه لأهله ، يأكلوا به رغداً إلى يوم القيامة ، لا يختلف على هذه الاُمة سيفان .. فلم يجبه أبو بكر ، فأعاد
ص: 129
سلمان فقال مثلها ، فانتهره عمر وقال : ما لك ولهذا الأمر وما يدخلك في ما هاهنا ؟ فقال : مهلاً يا عمر ! قم يا أبا بكر عن هذا المجلس ودعه لأهله يأكلوا به - واللّه - خضراً إلى يوم القيامة ، وإن أبيتم لتحلبنّ به دماً ، وليطمعنّ فيه الطلقاء والطرداء والمنافقون ، واللّه لو أعلم أني أدفع ضيماً أو أُعزّ للّه ديناً لوضعت سيفي على عاتقي ثم ضربت به قدماً قدماً ، أتثبون على وصيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟!! فابشروا بالبلاء .. واقنطوا من الرخاء .
ثم قام أبو ذر فقال : أيّتها الأُمّة المتحيرة بعد نبيّها صلى الله عليه و آله ، المخذولة بعصيانها ! .. إنّ اللّه يقول : « إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(1) وآل محمّد صلى الله عليه و آله الأخلاف من نوح ، وآل إبراهيم من إبراهيم ، والصفوة والسلالة من إسماعيل ، وعترة النبي محمّد صلى الله عليه و آله ، أهل بيت النبوّة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة ، والجبال المنصوبة ، والكعبة المستورة ، والعين الصافية ، والنجوم الهادية ، والشجرة المباركة ، أضاء نورها ، وبورك زيتها .. محمّد صلى الله عليه و آله خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم ، وعلي وصيّ الأوصياء وإمام المتقين ، وقائد الغرّ المحجلين ، وهو الصديق الأكبر ، والفاروق الأعظم ، ووصيّ محمّد صلى الله عليه و آلهووارث علمه ، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ، كما قال اللّه تعالى : « النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ »(2) فقدّموا من قدّم اللّه ، وأخّروا من أخّر اللّه ، واجعلوا الولاية والوزارة لمن جعل اللّه ..
ثم قام أبو ذر والمقداد وعمار فقالوا لعليّ عليه السلام : ما تأمر ؟ واللّه إن أمرتنا لنضربنّ بالسيف حتى نُقتل . فقال علي عليه السلام : « كفّوا رحمكم اللّه ! واذكروا عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وما أوصاكم به .. » فكفّوا .
ص: 130
وأقبلت أُمّ أيمن النوبية - حاضنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وأُمّ سلمة فقالتا : يا عتيق ! ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمّد .. فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد ، وقال : ما لنا وللنساء ؟!(1)
ثم قام عمر فقال لأبي بكر - وهو جالس فوق المنبر - : ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك أو تأمر به فتضرب عنقه .. ؟ والحسن والحسين عليهماالسلامقائمان ، فلمّا سمعا مقالة عمر بكيا ، فضمّهما عليه السلام إلى صدره ، فقال : « لا تبكيا فواللّه ما يقدران على قتل أبيكما » .
ثم قال عمر : قم يابن أبي طالب فبايع .
فقال عليه السلام : « فإن لم أفعل ؟ » .
قال : اذاً واللّه نضرب عنقك ..(2) فاحتج عليهم ثلاث مرّات(3) فالتفت علي عليه السلام إلى القبر ، وقال : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي »(4) ».
وورد في بعض الروايات أنه عليه السلام قرأ هذه الآية قبل ذلك ،(5) وفي بعضها بعده ،(6) ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : « اللّهم اشهد » .(7)
فمدّوا يده كرهاً فقبض على أنامله وعسر عليهم فتحها فراموا بأجمعهم فتحها فلم يقدروا ، فمسح أبو بكر عليها وهي مضمومة .(8)
ص: 131
وفي رواية : لمّا بلغ ذلك العباس بن عبد المطلب أقبل مسرعاً يهرول ويقول : ارفقوا بابن أخي ولكم عليّ أن يبايعكم .. فأخذ هو بيد علي عليه السلام فمسحها على يد أبي بكر ثمّ خلّوه مغضباً .(1)
ثم قال علي عليه السلام : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : ليجئنّ قوم من أصحابي من أهل العلية والمكانة منّي ليمرّوا على الصراط فإذا رأيتهم ورأوني .. وعرفتهم وعرفوني ..
اختلجوا دوني فأقول : أي ربّ أصحابي .. أصحابي ! فيقال : ما تدري ما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم حيث فارقتهم ، فأقول : بُعداً وسُحقاً » .(2)
وأما فاطمة عليهاالسلام ؛ فبقيت آثار العصرة القاسية في جسمها ، وأصبحت مريضة عليلة حزينة،(3) ولزمت الفراش ، ونحل جسمها ، وذاب لحمها ، وصارت كالخيال،(4) ومرضت مرضاً شديداً ، ولم تدع أحداً ممن آذاها يدخل عليها ،(5) بل جاءها العباس بن عبد المطلب عائدا فقيل له : إنّها ثقيلة وليس يدخل عليها أحد !(6)
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يكتم أمرها ، ويخفي خبرها ، ويمرّضها بنفسه ، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس سرّاً .(7)
ص: 132
فما رئيت ضاحكة إلى أن قبضت ،(1) وما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول - لولديها - : « أين أبوكما الذي كان يُكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة ؟ أين أبوكما
الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما ؟ فلا يدعكما تمشيان على الأرض ، ولا أراه يفتح هذا الباب أبدا ، ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما » .(2)
و رأت في منامها النبي صلى الله عليه و آله قالت : « فشكوت إليه ما نالنا من بعده ، فقال لي : « لكم الآخرة التي أُعدت للمتقين ، وإنك قادمة عليّ عن قريب » .(3)
وكان من دعائها في شكواها :
« يا ربّ ! إني سئمت الحياة وتبرّمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي .. » .(4)
« يا حيّ ! يا قيّوم ! برحمتك أستغيث فأغثني ، اللهم زحزحني عن النار ، وأدخلني الجنة ، وألحقني بأبي محمد صلى الله عليه و آله » ، فكان أمير المؤنين عليه السلام يقول لها : « يعافيك اللّه ويُبقيك .. » فتقول : « يا أبا الحسن ! ما أسرع اللحاق باللّه ! » .(5)
فأتيا علياً عليه السلاموقالا : قد كان بيننا وبينها ما قد علمت ، فإن رأيت أن تأذن لنا فنعتذر إليها من ذنبنا .(1)
وفي رواية : فلمّا رأى ذلك أبو بكر أعطى اللّه عهداً لا يظلّه سقف بيت حتى يدخل على فاطمة عليه السلام ويترضّاها ، فبات ليلة في الصقيع(2) ما أظلّه شيء .
ثم إن عمر أتى علياً عليه السلام فقال له : إنّ أبا بكر شيخ رقيق القلب ! وقد كان مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الغار فله صحبة ، وقد أتيناها غير هذه المرّة مراراً نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا حتى ندخل عليها فنتراضى ، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل ، قال : « نعم » .
فدخل علي عليه السلام على فاطمة عليهاالسلام فقال : « يا بنت رسول اللّه ! قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت .. وقد تردّدا مراراً كثيرة ... ورددتِهما ولم تأذني لهما ، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك » .
فقالت : « واللّه لا آذن لهما ولا أكلّمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني .. » فألحّ عليها علي عليه السلام(3) وقال : « فإنّي ضمنت لهما ذلك » ، قالت : « إن كنت قد ضمنت لهما شيئاً .. فالبيت بيتك ، والنساء تتبع الرجال ، لا أُخالف عليك بشيء ، فائذن لمن أحببت » .
فخرج علي عليه السلام فأذن لهما ، فلمّا وقع بصرهما على فاطمة عليهاالسلام سلّما عليها .. فلم تردّ عليهما وحوّلت وجهها الكريم عنهما !! فتحوّلا واستقبلا وجهها ، حتى فعلت مراراً ، وقالت : « يا علي ! جاف الثوب(4) .. » وقالت لنسوة حولها : « حوّلنوجهي .. » فلمّا حوّلن وجهها حَوَّلا إليها ، فقال أبو بكر : يا بنت رسول اللّه ! إنّما أتيناكِ
ص: 134
ابتغاء مرضاتكِ ، واجتناب سخطكِ ، نسألكِ أن تغفري لنا وتصفحي عمّا كان منّا إليكِ .
قالت : « لا أُكلمكما من رأسي كلمة واحدة حتى ألقى أبي .. وأشكوكما إليه .. وأشكو صنعكما وفعالكما وما ارتكبتما منّي » .
قالا : إنا جئنا معتذرين مبتغين مرضاتك فاغفري واصفحي عنّا ولا تؤاخذينا بما كان منا .
وفي رواية : اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا وتخرجي سخيمتك .
فالتفتت إلى علي عليه السلام وقالت : « إنّي لا أُكلمهما من رأسي كلمة حتى أسألهما عن شيء سمعاه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. فإنْ صدقاني رأيت رأيي .. » .
قالا : اللّهم ذلك لها ، وإنّا لا نقول إلاّ حقّاً ولا نشهد إلاّ صدقاً .
فقالت : « أُنشدكما باللّه ! هل سمعتما النبي صلى الله عليه و آله يقول : « فاطمة بضعة منّي وأنا منها ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه ، ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي ، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي ؟! » .
قالا : اللّهم نعم .
فقالت : « الحمد للّه » ، ثم قالت : « اللّهم إنّي أُشهدك ، فاشهدوا يا من حضرني ، أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي ، واللّه لا أُكلمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي
فأشكوكما إليه بما صنعتما به وبي وارتكبتما مني .. » .
فدعا أبو بكر بالويل والثبور ، وقال : ليت أُمّي لم تلدني ، فقال عمر : عجباً للناس كيف ولّوك أُمورهم وأنت شيخ قد خرفت ، تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها !! ..(1)
وفي رواية : قالت : « نشدتكما اللّه ! ألم تسمعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمَنْ أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومَنْ أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومَنْ أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ » قالا : نعم .
ص: 135
قالت : « فإني أُشهد اللّه وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني .. ولئن لقيت النبي صلى الله عليه و آله لأشكونّكما إليه » .
فانتحب أبو بكر يبكي ، وهي تقول : « واللّه لأدعونّ اللّه عليك في كل صلاة أُصلّيها » .(1)
فلمّا خرجا قالت لأمير المؤمنين عليه السلام : « هل صنعت ما أردت ؟ » قال : « نعم » ، قالت : « فهل أنت صانع ما آمرك به ؟ » قال : « نعم » ، قالت : « فإنّي أُنشدك اللّه ألاّ يصلّيا على جنازتي .. ولا يقوما على قبري » .(2)
ص: 136
فلمّا نعيت إليها نفسها دعت أُم أيمن وأسماء بنت عميس ، ووجّهت خلف علي عليه السلام وأحضرته ، فقالت : « يا ابن عمّ ! إنه قد نعيت إليّ نفسي ، وإني لا أرى ما بي إلا أنني
لاحق بأبي ساعة بعد ساعة ، وأنا أُوصيك بأشياء في قلبي .. » .
فقال لها علي عليه السلام : « أُوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه ! » ، فجلس عند رأسها ، وأخرج من كان في البيت .
ثم قالت : « يا ابن عمّ ! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني » ، فقال عليه السلام : « معاذ اللّه ! أنت أعلم باللّه وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفا من اللّه من أن أُوبّخك بمخالفتي .. قد عزّ عليّ مفارقتك وتفقّدك إلاّ أنه أمر لابدّ منه .. واللّه
جدّدت عليّ مصيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقد عظمت وفاتك وفقدك ف- « إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »(1) من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها ! هذه واللّه مصيبة لا عزاء لها ، ورزية لا خلف لها .. » .
ثم بكيا جميعا ساعة ، وأخذ علي عليه السلام رأسها وضمّها إلى صدره ثم قال : « أوصيني بما شئت ، فإنكِ تجدني فيها أمضي كما أمرتني به ، وأختار أمركِ على أمري » .
فقالت : « جزاك اللّه عنّي خير الجزاء يا ابن عم رسول اللّه ! أُوصيك أولاً أن تتزوّج بعدي بابنة أُختي أمامة فإنها تكون لولدي مثلي ، فإن الرجال لابدّ لهم من النساء » .
« أُوصيك - يا ابن عمّ ! - أن تتّخذ لي نعشا ؛(2) فقد رأيت الملائكة صوّروا
ص: 137
صورته » . فقال لها : « صفيه لي » .. فوصفته ، فاتخذه لها .
« فإذا أنا متّ فتولّ أنت غسلي .. » .(1)
« أُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي ، فإنهم عدوّي وعدوّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولا تترك أن يصلّي عليّ أحد منهم ولا من أتباعهم ، وادفنّي في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار » ،(2) ووصّته بأن يعفي قبرها ،(3) وقالت : « جهّزني ، وصلّ عليّ ، وأنزلني قبري وألحدني ، وسوّ التراب عليّ ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء ، فإنها ساعة يحتاج الميّت فيها إلى أُنس الأحياء » .
« وأنا أستودعك اللّه تعالى وأُوصيك في ولدي خيرا » ، ثم ضمّت إليها أُم كلثوم فقالت : « إذا بلغت ، فلها ما في المنزل ، ثم اللّه لها » .(4)
قالوا : فلمّا كان اليوم الذي ماتت فيه قالت لسلمى امرأة أبي رافع : « هيّئي لي
ص: 138
ماءً » ، فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ، ثم قالت : « إيتيني بثيابي الجدد » ، فلبستها ، ثم أتت البيت الذي كانت فيه ، فقالت : « افرشي لي في وسطه » ، ثمّ اضطجعت واستقبلت القبلة ووضعت يدها تحت خدّها ، وقالت : « إني مقبوضة الآن فلا أُكشفنّ » ..(1)
وفي بعض الروايات : أنها قالت : « لا يكشفنّ أحد لي كتفاً » .(2)
ولعلّها تريد بذلك أن تغسل الدم عن ثيابها وجسدها ، وتمنع عن كشف كتفها لتخفي على أمير المؤمنين المظلوم عليه السلام ما أصابها من الضربات الصادرة عن المهاجمين على بيتها ، لاسيّما الأثر الباقي في كتفها من غمد السيف أو السياط ، ولبست ثيابها الجدد لئلاّ يرى ثيابها المضرّجة بالدم !
حين الوفاة
ولمّا حضرتها الوفاة قالت لأسماء : « إن جبرئيل أتى النبي صلى الله عليه و آله - لمّا حضرته الوفاة - بكافور من الجنة فقسّمه أثلاثا : ثُلثا لنفسه ، وثلثا لعلي ، وثلثا لي .. يا أسماء ! إيتيني ببقية حنوط والدي من موضع .. كذا وكذا فضعيه عند رأسي » ، فوضعته ، ثمّ تسجّت بثوبها ، وقالت : « انتظريني هنيهة وادعيني فإن أجبتك وإلاّ فاعلمي أني قد قدمت على أبي صلى الله عليه و آله » ، فانتظرتها هنيهة ثمّ نادتها فلم تجبها .
فنادت : يا بنت محمد المصطفى ! .. يا بنت أكرم من حملته النساء ! .. يا بنت خير من وطئ الحصا ! .. يا بنت من كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ! .. فلم تجبها ، فكشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدنيا ! فوقعت عليها تقبّلها وهي
ص: 139
تقول : فاطمة ! إذا قدمت على أبيك رسول اللّه فأقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام ..
فبينا هي كذلك إذ دخل الحسن والحسين عليهماالسلام فقالا : « يا أسماء ! ما ينيم أُمّنا في هذه الساعة ؟ ! » قالت : يا ابني رسول اللّه ! ليست أُمّكما نائمة ، قد فارقت الدنيا . فوقع عليها الحسن عليه السلام يقبّلها مرة ويقول : « يا أُمّاه ! كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني » ... وأقبل الحسين عليه السلام يقبّل رجلها ويقول : « يا أُمّاه ! أنا ابنك الحسين .. كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت » .
فقالت لهما أسماء : يا ابني رسول اللّه ! انطلقا إلى أبيكما علي عليه السلام فأخبراه بموت أُمّكما .. فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء ، فابتدرهما جميع الصحابة فقالوا : ما يبكيكما يا ابني رسول اللّه ! لا أبكى اللّه أعينكما .. لعلّكما نظرتما إلى موقف جدّكما فبكيتما شوقا إليه ؟ ! فقالا : « لا .. أو ليس قد ماتت أُمّنا فاطمة صلوات
الله عليها ؟ ! » فوقع علي عليه السلام على وجهه ، يقول : « بمن العزاء يا بنت محمد ! كنت بكِ أتعزّى .. ففيمَ العزاء من بعدك ؟ ! » ثم قال :
« لكل اجتماع من خليلين فرقة *** وكل الذي دون الفراق قليل
وإن افتقادي فاطما بعد أحمد *** دليل على أن لا يدوم خليل »(1)
وفي رواية :
ثم إن أمير المؤنين عليه السلام صلّى صلاة الظهر وأقبل يريد المنزل إذا استقبلته الجواري باكيات حزينات ، فقال لهن : « ما الخبر ؟ وما لي أراكن متغيّرات الوجوه والصور ؟ !»
فقلن : يا أمير المؤنين ! أدرك ابنة عمك الزهراء عليهاالسلام .. وما نظنّك تدركها ، فأقبل أمير المؤنين عليه السلام مسرعا حتى دخل عليها ، وإذا بها ملقاة على فراشها وهي تقبض يمينا وتمدّ شمالاً .. فألقى الرداء عن عاتقه والعمامة عن رأسه وحلّ أزراره وأقبل حتى أخذ رأسها وتركه في حجره وناداها : « يا زهراء ! » فلم تكلّمه ، فناداها : « يا بنت محمد المصطفى ! » فلم تكلّمه ، فناداها : « يا بنت من حمل الزكاة في طرف ردائه وبذلها على
ص: 140
الفقراء ! » فلم تكلّمه ، فناداها : « يا ابنة من صلّى بالملائكة في السماء مثنى مثنى ! » فلم تكلّمه ، فناداها : « يا فاطمة ! كلّميني فأنا ابن عمّك علي بن أبي طالب » ، ففتحت عينيها في وجهه ونظرت إليه وبكت وبكى .. وقال : « ما الذي تجدينه ؟ ! فأنا ابن عمّك علي بن أبي طالب » ، فقالت : « يا ابن العمّ ! إني أجد الموت الذي لابدّ منه ولا محيص
عنه .. وأنا أعلم أنك بعدي لا تصبر على قلّة التزويج ، فإن أنت تزوّجت امرأة اجعل لها يوما وليلة واجعل لأولادي يوما وليلة .. يا أبا الحسن ! ولا تصح في وجوههما .. فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين ، فإنهما بالأمس فقدا جدّهما واليوم يفقدان أُمهما ..
فالويل لأُمة تقتلهما وتبغضهما » ، ثم أنشأت تقول :
« ابكني إن بكيت يا خير هادي *** وأسبل الدمع فهو يوم الفراق
يا قرين البتول ! أُوصيك بالنسل *** فقد أصبحا حليف اشتياق
ابكني وابك لليتامى ولا *** تنس قتيل العدى بطفّ العراق
فارقوا فأصبحوا يتامى حيارى *** يحلف اللّه فهو يوم الفراق »(1)
ولمّا حضرتها الوفاة بكت ، فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام : « يا سيدتي ! ما يبكيك ؟ »
قالت : « أبكي لما تلقى بعدي » .
فقال لها : « لا تبكي ! فواللّه إن ذلك لصغير في ذات اللّه » .(2)
ص: 141
فسمعوا حسّ الملائكة ! ووجدوا رائحة طيّبة كأطيب ما يكون من الطيب ..(1) فنظرت نظرا حادّا .. ثم قالت : « أترون ما أرى ؟ » فقيل لها : ماترى ؟ قالت : « هذه مواكب أهل السماوات .. وهذا جبرئيل .. وهذا رسول اللّه .. ويقول : « يا بنية ! اقدمي فما أمامك خير لك » ، ثم أقبلت تقول : « وعليكم السلام .. يا ابن عم ! قد أتاني جبرئيل مسلّما وقال لي : « السلام يقرأ عليك السلام يا حبيبة حبيب اللّه وثمرة فؤده ! اليوم تلحقين بالرفيع الأعلى وجنة المأوى »، ثم انصرف عني » .
ثم قالت : « وعليكم السلام .. يا ابن عم ! هذا - واللّه - ميكائيل وقال لي كقول صاحبه » .
ثم قالت : « وعليكم السلام .. - وفتحت عينيها فتحا شديدا - يا ابن عم ! هذا والله الحق ، وهذا عزرائيل قد نشر جناحه بالمشرق والمغرب ... عليك السلام يا قابض الأرواح ! عجّل بي ولا تعذّبني » .
ثم قالت : « إليك ربّي لا إلى النار .. اللهم مع رسولك .. اللهم في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام ..» ثم غمضت عينيها ومدّت يديها ورجليها كأنها لم تكن حيّة قطّ .(2)
وفي رواية : أنها لمّا توفّيت ، شقّت أسماء جيبها وخرجت ، فتلقّاها الحسن والحسين عليهماالسلام فقالا : « أين أُمنا ؟ » فسكتت ، فدخلا البيت فإذا هي ممتدّة .. فحرّكها الحسين عليه السلام فإذا هي ميّتة ! فقال : « يا أخاه ! آجرك الله في الوالدة » ، وخرجا يناديان: « يا محمداه ! .. يا أحمداه ! .. اليوم جدّد لنا موتك ؛ إذ ماتت أُمّنا » ثم أخبرا عليا عليه السلام وهو في المسجد ، فغشي عليه حتى رشّ عليه الماء ، ثم أفاق ، فحملهما حتى أدخلهما بيت فاطمة ، وعند رأسها أسماء تبكي وتقول : وايتامى محمد ! كنا نتعزّى بفاطمة بعد موت جدّكما فبمن نتعزّى بعدها ؟ !
فكشف علي عليه السلام عن وجهها فإذا برقعة عند رأسها فنظر فيها فإذا فيها :
ص: 142
« بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله أوصت وهي تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حقّ والنار حقّ ،
« وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ » .(1)
يا علي ! أنا فاطمة بنت محمد ، زوّجني الله منك لأكون لك في الدنيا والآخرة ، أنت أولى بي من غيري ، حنّطني وغسّلني وكفّنّي بالليل وصلّ عليّ وادفنيّ بالليل ، ولا تُعلم أحدا وأستودعك الله ، واقرأ على ولدي السلام إلى يوم القيامة » .(2)
فصاحت أهل المدينة صيحة واحدة ، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخوا صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهنّ ! وهنّ يقلن : يا سيدتاه ! يا بنت رسول اللّه ! وأقبل الناس إلى علي عليه السلام ، وهو جالس والحسن والحسين عليهماالسلام بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما ، وخرجت أُم كلثوم - وعليها بُرقعة ، وتجرّ ذيلها .. متجلّلة برداء عليها تسحبها(3) - وهي تقول : يا أبتاه ! يا رسول
اللّه! الآن حقّا فقدناك فقدا لا لقاء بعده أبدا !
واجتمع الناس ، فجلسوا وهم يضجّون وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلّون عليها ، فخرج أبو ذر وقال : انصرفوا .. فإن ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أُخّر إخراجها في هذه العشية ، فقام الناس وانصرفوا .(4)
وجاءت عائشة تريد أن تدخل عليها ، فقالت أسماء : لا تدخلي .. فكلّمت عائشة أبا بكر ، فقالت : إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين ابنة رسول اللّه عليهاالسلام ! فقالت أسماء : إنها أمرتني أن لا يدخل عليها أحد .(5)
ص: 143
ثم أتى العباس فقال لأمير المؤنين عليه السلام : ما تريد أن تصنع ؟ قال : « أُخرجها ليلاً » ، فذكر العباس كلمةً خوّفه بها من أبي بكر وعمر(1)] ولكنه عليه السلام لم يعبأ بذلك ، [فلمّا أن هدأت العيون ومضى شطر من الليل غسّلها علي عليه السلام وسكبت الماء أسماء بنت عميس .. ،(2) وحينما كان مشغولاً بتغسيلها بكى بكاءً عالياً ، ثم خرج ودموعه تسيل على خدّيه ، فلمّا سُئل عن ذلك أجاب بأنّه وجد آثار السياط والرفسة والضربات بجسمها .(3)
قال علي عليه السلام : « واللّه لقد أخذت في أمرها وغسّلتها في قميصها ولم أكشفه عنها ، فواللّه لقد كانت ميمونة طاهرة مطهّرة ، ثم حنّطتها من فضلة حنوط رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكفّنتها وأدرجتها في أكفانها ، فلمّا هممت أن أعقد الرداء ناديت : « يا أُم كلثوم ! يا زينب ! يا سكينة ! !يا فضة ! يا حسن ! يا حسين ! .. هلمّوا تزوّدوا من أُمّكم .. فهذا
الفراق واللقاء في الجنة .. » فأقبل الحسن والحسين عليهماالسلام وهما يناديان : « وا حسرتى لا تنطفئ أبدا من فقد جدّنا محمد المصطفى وأُمّنا فاطمة الزهراء .. يا أُم الحسن ! يا أُم
الحسين ! إذا لقيت جدّنا محمد المصطفى فأقرئيه منا السلام وقولي له : « إنا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا .. » .
فقال أمير المؤنين عليه السلام : « إني أُشهد اللّه أنّها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّا .. وإذا بهاتف من السماء ينادي : يا أبا الحسن ! ارفعهما عنها
فلقد أبكيا واللّه ملائكة السماوات ! فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب .. » .
قال عليه السلام : « فرفعتهما عن صدرها ، وجعلت أعقد الرداء وأنا أُنشد بهذه الأبيات :
فراقك أعظم الأشياء عندي *** وفقدك فاطم أدهى الثكول
ص: 144
سأبكي حسرة وأنوح شجوا *** على خلّ مضى أسنى سبيل
ألا يا عين جودي وأسعديني *** فحزني دائم أبكي خليلي »(1)ثم وضعها علي عليه السلام على السرير وقال - للحسن عليه السلام - : « ادع لي أبا ذر » ، فدعاه ليحملاه إلى المصلى ، - وفي رواية : أنه عليه السلام صلّى عليها في دارها(2) - فلمّا فرغ من جهازها أخرج الجنازة وأشعل النار في جريد النخل ومشى مع الجنازة بالنار ،(3) فأخرجها علي والحسن والحسين عليهم السلام ولم يشهدها إلاّ خواصّه ،(4) فصلّى عليها أمير المؤنين عليه السلام فكان يكبّر تكبيرة فيكبّر جبرئيل تكبيرة والملائكة المقرّبون .. إلى أن كبّر أمير المؤنين عليه السلام خمسا .(5)
ثم صلّى ركعتين ورفع يديه إلى السماء فنادى : « هذه بنت نبيك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور » ، فأضاءت الأرض ميلا في ميل .. فلمّا أرادوا أن يدفنوها نودوا
من بقعة من البقيع : « إليّ .. إلي .. فقد رفع تربتها مني.. » ، فنظروا فإذا هي بقبر محفور ، فحملوا السرير إليها ليدفنوها ، فخرجت يد فتناولتها ،(6) فوضعها علي عليه السلام في القبر ، وقال : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ، بسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه محمد بن عبد اللّه .. سلّمتك - أيتها الصديقة ! - إلى من هو أولى بك مني ، ورضيت لك بما رضي
ص: 145
اللّه تعالى لك ، ثم قرأ : « مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى » .(1)
وقال : « اللهم إني راض عن ابنة نبيك .. اللهم إنها قد أُوحشت فآنسها ، اللهم إنها قد هُجرت فصِلْها ، اللهم إنها قد ظُلمت فاحكم لها وأنت خير الحاكمين » .(2)
ثمّ جلس على شفير القبر فقال : « يا أرض ! استودعتك وديعتي هذه بنت رسول اللّه .. » فنودي منها : يا علي ! أنا أرفق بها منك .. فارجع ولا تهتمّ .(3)
فدفنها أمير المؤمنين عليه السلام سرّا وعفى موضع قبرها .. وسوّى قبرها مع الأرض مستويا .. وسوّى حواليها قبورا مزوّرة حتى لا يعرف قبرها .. فغيّبوا قبرها ..(4) فلمّا نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : « السلام عليك يا رسول اللّه منّي والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك ، وقرّة عينك ، وزائرتك ، والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار اللّه لها سرعة
اللحاق بك .. قلّ يا رسول اللّه ! عن صفيّتك صبري ، وضعف عن سيّدة النساء تجلّدي ، إلاّ أن في التأسّي لي بسنّتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزّي ، ولقد وسّدتك في ملحود قبرك ، بعد أن فاضت نفسك على صدري ، وغمّضتك بيدي ، وتولّيت أمرك بنفسي ، نعم وفي كتاب اللّه أنعم القبول « إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »(5) .. قد استُرجِعَت الوديعة ، وأُخذت الرهينة ، وأُخلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء » .
« يا رسول اللّه ! أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، لا يبرح الحزن من قلبي أو
ص: 146
يختار اللّه لي دارك الّتي فيها أنت مقيم ، كمد مقيّح ، وهمّ مهيّج ، سرعان ما فرّق بيننا وإلى اللّه أشكو .. » .
« وستنبئك ابنتك بتظاهر أُمّتك عليّ وعلى هضمها حقّها .. فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول و « يَحْكُم اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ » .(1)
« سلام عليك - يا رسول اللّه ! - سلام مودّع ، لاسئم ولا قال ، فإنْ أنصرف فلا عن ملالة ، وإنْ أقم فلا عن سوء ظنّي بما وعد اللّه الصابرين - الصبر أيمن وأجمل -
ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً ، والتلبّث عنده معكوفاً ،
ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة .. فبعين اللّه تدفن بنتك سرّاً .. ويهتضم حقّها قهراً .. ويمنع إرثها جهراً .. ولم يطل العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى اللّه - يا رسول اللّه - المشتكى ، وفيك أجمل العزاء .. فصلوات اللّه عليها وعليك ورحمة اللّه وبركاته» .(2)
وأنشأ يقول :
« أرى علل الدنيا عليّ كثيرة *** وصاحبها حتى الممات عليل
لكل اجتماع من خليلين فرقة *** وإن بقائي عندكم لقليل
وإن افتقادي فاطما بعد أحمد *** دليل على أن لا يدوم خليل »(3)
وقال :
« نفسي على زفراتها محبوسة *** يا ليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياة وإنما *** أبكي مخافة أن تطول حياتي »(4)
ص: 147
وأمر بقبرها فرشّ عليه الماء ، ثم جلس عند قبرها باكيا حزينا ، فأخذ العباس بيده فانصرف به .(1)
فرجع وانسدّ القبر واستوى بالأرض .. فلَم يعلم أين كان إلى يوم القيامة .(2)
ثم إن المسلمين لمّا علموا بوفاتها عليهاالسلام جاءوا إلى البقيع فوجدوا فيه أربعين قبرا جددا ! فأُشكل عليهم قبرها من سائر القبور ، فضجّ الناس .. ولام بعضهم بعضا ، وقالوا : لم يخلف نبيكم فيكم إلاّ بنتا واحدة ، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها .. ولا نعرف قبرها لنزورها !
وأقبل أُناس - منهم أبو بكر وعمر - إلى بيت فاطمة عليهاالسلام ليحضروا الصلاة عليها ، فالتقى المقداد بأبي بكر فقال له : نحن قد دفنّاها ليلاً .
فالتفت عمر إلى أبي بكر وقال : ألم أقل لك : إنهم سيدفنونها ليلاً .. ؟ !
قال المقداد : إنّ فاطمة عليهاالسلام أوصت بذلك لكي لا تصلّيا عليها .
فرفع عمر يده يضرب المقداد على رأسه ووجهه حتى تعب عمر وخلّصه الحاضرون من يده .. فقام المقداد أمامهم وقال : خرجت بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الدنيا والدم يسيل من ظهرها وجنبها لما ضربتموها بالسيف والسياط .. أنا عندكم أحقر من عليّ وفاطمة عليهماالسلام ..
ثم قال ولاة الأمر منهم : هاتوا(3) من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلّي عليها ونزور قبرها ، فبلغ ذلك أمير المؤنين عليه السلام فخرج مغضبا قد
احمرّت عيناه ودرّت أوداجه ، وعليه قباه الأصفر الذي كان يلبسه في كل كريهة - وهو متوكئ على سيفه ذي الفقار - حتى ورد البقيع ، فسار إلى الناس النذير ، وقالوا :
ص: 148
هذا علي بن أبي طالب قد أقبل - كما ترونه - يقسم باللّه : لئن حوّل من هذه القبور حجر ليضعنّ السيف على غابر الآخر ! فأقبل أبو بكر وعمر إليه ، فقالا له : واللّه ما
تركت شيئا من غوائلنا ومساءتنا .. وما هذا إلاّ من شيء في صدرك علينا ! هل هذا إلاّ كما غسّلت رسول اللّه صلى الله عليه و آله دوننا ولم تدخلنا معك ! وكما علّمت ابنك أن يصيح بأبي بكر أن : « انزل عن منبر أبي » ؟ !
فقال لهما علي عليه السلام : « كان الليل وكرهت أن أشخصكم » ، فقال له عمر : ما هذا ، ولكن شحناء في صدرك !
فقال أمير المؤنين عليه السلام : « أمّا إذا أبيتما فإنها استحلفتني بحقّ اللّه وحرمة رسوله وبحقّها عليّ أن لا تشهدا جنازتها ، فهي التي استأذنت لكما عليها فقد رأيتما ما كان من كلامها لكما ، واللّه لقد أوصتني أن لا تحضرا جنازتها ولا الصلاة عليها ، وما كنت الذي أُخالف أمرها ووصيتها إليّ فيكما » .
فقال عمر : ما لك يا أبا الحسن ؟ ! واللّه لننبشنّ قبرها ولنصلينّ عليها.
فقال عليّ عليه السلام : « أما واللّه ما دام قلبي بين جوانحي وذو الفقار في يدي فإنّك لا تصل إلى نبشها، فأنت أعلم » .
قال : دع عنك هذه الهمهمة .. أنا أمضي إلى المقابر فأُنبشها حتى أُصلّي عليها .
فضرب علي عليه السلام بيده إلى جوامع ثوبه فهزّه ثم ضرب به الأرض ، وقال له : « يا ابن السوداء ! أمّا حقّي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم ، وأمّا قبر فاطمة ، فو الذي نفس علي بيده لئن رمت وأصحابك شيئا من ذلك لأسقينّ الأرض من دمائكم ، فإن شئت فاعرض يا عمر ! .. واللّه لو ذهبت تروم من ذلك شيئا - وعلمت أنك لا تصل إلى ذلك حتى يندر عنك الذي فيه عيناك - فإني كنت لا أُعاملك إلا بالسيف قبل أن تصل إلى شيء من ذلك » .
فقال أبو بكر : يا أبا الحسن ! بحق ّرسول اللّه وبحق من فوق العرش إلاّ خلّيت عنه ، فإنا غير فاعلين شيئا تكرهه . فخلّى عنه ، وتفرّق الناس ولم يعودوا إلى ذلك .(1)
ص: 149
قال عمار : مضيت الى دار سيدي ومولاي أمير المؤنين عليه السلام فاستأذنت الدخول عليه ؟ فأذن لي .. فدخلت عليه ، فوجدته جالسا جلسة الحزين الكئيب والحسن عليه السلام عن يمينه والحسين عليه السلام عن شماله وهو تارة يلتفت الى الحسين عليه السلام ويبكي . . فلمّا نظرت إلى حاله وحال ولده ، لم أملك نفسي دون أن أخذتني العبرة وبكيت بكاءً شديدا ، فلما سكن نشيجي قلت : سيدي ! أتأذن لي بالكلام ؟ قال : « تكلّم يا أبا اليقظان » ، قلت : سيدي ! إنكم تأمرون بالصبر على المصيبة ، فما هذا الحزن الطويل ؟ وإن شيعتك لا يقرّ لهم قرار باحتجابك عنهم ، وقد شقّ ذلك عليهم .
قال : فالتفت إليّ ، وقال : « يا عمار ! إن العزاء عن مثل من فقدتُه لعزيز ، إني فقدت رسول اللّه صلى الله عليه و آله بفقد فاطمة عليهاالسلام، إنها كانت لي عزاء وسلوة ، وكانت إذا نطقت ملأت سمعي بصوت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وإذا مشت لم تخرم مشيته ، وإني ما أحسستُ تألم(1) الفراق إلاّ بفراقها ، وإن أعظم ما لقيت من مصيبتها . . . إني لمّا وضعتها على المغتسل وجدت ضلعا من أضلاعها مكسورا ، وجنبها قد اسودّ من ضرب السياط .. وكانت تخفي ذلك علي مخافة أن يشتدّ حزني ، وما نظرت عيناي إلى الحسن والحسين الاّ وخنقتني العبرة ، وما نظرت إلى زينب باكية الاّ وأخذتني الرقّة عليها » . ثم خرج عليه السلاممع عمار فاستبشر الشيعة بذلك .(2)
ص: 150
ص: 151
ص: 152
ندرج في هذا الفصل ما رواه العامّة في هذه الفاجعة ، أو ما ورد في الكتب المعتمدة عندهم وإن لم يكن مؤلفها منهم ، مثل مروج الذهب للمسعودي ، وتاريخ اليعقوبي .. ونحوهما ، وعند التصفّح لمصادرهم تجدهم قائلين بما نقلنا عنهم ، أو تلقّوا ما رووه بالقبول ، بل صرّح بعضهم بصحّة ما رواه أو حسّنه ..
ثمّ نذكر كلام من حكم بضعف بعض الروايات أو نسبها إلى الشيعة .. وهو إقرار ضمني بوجودها ، ونلحق ذاك ببعض الروايات عن الشيعة ، سواء أكان المؤلّف من الفرقة الحقّة الاثني عشريّة أو الزيديّة أو الإسماعيلية ..
وليُعلم قبل سرد النصوص أنه لا يتوقّع مُمن مُلئ قلبه حبّ الخلفاء والصحابة أن يروي لنا القضية كاملة تامّة ، إذ حبّ الشيء يُعمي ويصمّ . خصوصاً وإنّهم يقولون بعدالة جميع الصحابة ! وأنّ اللّه تعالى غفر جميع ذنوبهم وإنْ تعمّدوها ! فيجب السكوت عمّا صدر عنهم ، بل يجب محوه وإعدامه . وإن أمكنهم إنكاره لأنكروه ، وإلاّ فيحرّفونه أو يأوّلونه ويذكرون له توجيهات بعيدة .. وإنْ عجزوا عن هذا وذاك نهوا عن نقله واستماعه وكتابته .. وإلاّ فهم يضعّفون غالب رواته أو كلهم .. ، وهذا هو السرّ في قلّة ما وصل إلينا منها ، فيترك البعض منهم نقله للتحفّظ على شؤونهم أو مجاملة لخلفاء الجور ، أو طمعاً بالتقرب إلى مواليهم ، ويُعرض البعض الآخر خوفاً أو تقية ..
ومع كل هذا ظهر من بين الكتمين ما ملأ الخافقين ..
ص: 153
فأدنى إشارة للموضوع في رواياتهم كاف للطالب المنصف .. وبالدقّة في القرائن والشواهد - مع ضمّ المنقولات المختلفة - نصل إلى المطلوب .
ولنا بحث وعودة في تفصيل هذا الإجمال يأتي في الفصل السادس .
[ 1 ]روى في كتابه المغازي [ عن ابن شهاب الزهري ] بإسناد جيّد عن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف ،(1) قال : إنّ رجالاً من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر ، منهم علي عليه السلام والزبير ، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومعهما السلاح ، فجاءهما عمر بن الخطاب في عصابة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أُسيد بن حُضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان ، وثابت بن قيس بن شمّاس الخزرجي .. ، فكلّموهما حتّى أخذ أحدهم سيف الزبير فضرب به الحجر حتّى كسره ، [ ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم و .. ] .
رواه عنه أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي(2) (المتوفى 634) .
وأحمد بن عبد اللّه المحبّ الطبري(3) (المتوفى 694)
والإمام محمّد بن يوسف الصالحي الشامي(4) (المتوفى 942)
والشيخ حسين بن محمّد الدياربكري(5) (المتوفى 982)
ص: 154
وعبد الملك بن حسين العصامي المكّي(1) (المتوفى 1111)
ويأتي مع زيادات عن الجوهري في الرواية المرقّمة [ 25 ] .
[ 2 ]وروى موسى بن عقبة ، عن سعد بن إبراهيم ، قال : حدّثني إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف : أنّ عبد الرّحمن بن عوف كان مع عمر [ ذلك اليوم ] وأنّ محمّد بن مسلمة كان معهم ، وأنّه هو الذي كسر سيف الزبير ، [ ثم قام أبو بكر واعتذر إليهم .. ] .
رواه الحاكم (المتوفى 405) وقال : صحيح على شرط الشيخين .(2)
والحافظ البيهقي(3) (المتوفى 458)
والمحبّ الطبري(4) (المتوفى 694)
والحافظ الذهبي(5) (المتوفى 748)
وأبو الفداء ابن كثير الدمشقي (المتوفى 774) وقال : إسناد جيّد .(6)
والحافظ السيوطي(7) (المتوفى 911)
والمتقي الهندي(8) (المتوفى 975)
وا لكاندهلوي .(9)
ورواه أبو بكر الجوهري (المتوفى 323) رواه عنه ابن أبي الحديد .(10)
ص: 155
[ 3 [ ] روى في كتاب الأخبار ] عن ابن عايشة ، عن أبيه ، عن حماد بن سلمة ،(1) قال : كان عروة بن الزبير(2) يعذّر أخاه - إذا جرى ذكر بني هاشم وحصره إياهم في الشعب وجمعه لهم الحطب لتحريقهم - ويقول : إنما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته كما أُرهب بنوهاشم وجُمع لهم الحطب لإحراقهم إذ هُم أبوا البيعة في ما سلف .
رواه عنه المسعودي (المتوفى 346) وقال :
وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان .(3)
ورواه ابن أبي الحديد بنحو أوضح ، فقال : قال المسعودي : وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد اللّه في حصر بني هاشم في الشعب وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول : إنما أراد بذلك ألاّ تنتشر الكلمة ولا يختلف المسلمون وأن يدخلوا في الطاعة فتكون الكلمة واحدة ! كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم ، لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار !! ..(4)
ص: 156
[ 4 ]روى بسنده(1) عن داود بن الحصين :(2) .. وغضب علي عليه السلام والزبير ودخلا بيت فاطمة عليهاالسلام وتخلّفا عن البيعة ، فجاءهم عمر في عصابة فيهم أُسيد بن خضير(3) وسلمة بن أسلم بن جريش الأشهلي ، فصاح عمر : اخرجوا أو لنحرقنّها عليكم ، فأبوا أن يخرجوا ، فصاحت بهم فاطمة وناشدتهم اللّه .. فأمر عمر سلمة بن أسلم فدخل عليهما وأخذ سيف أحدهما فضرب به الجدار حتى كسره ، ثم أخرجهما يسوقهما حتى بايعا .
رواه عنه الطبري الإمامي(4) (المتوفى أوائل القرن الرابع)
ومحمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني (المتوفى 588) .(5)
والسيد ابن طاووس (المتوفى 664) .(6)
[ 5 ]وروى الواقدي عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ،(7) قال : .. وكان جماعة يجتمعون في بيت فاطمة عليهاالسلام وقت السقيفة ، فقال عمر : وأيم اللّه لئن اجتمع هؤلاء عندك لنفتحل(8) البيت عليهم وليهدمنّ البيت أو لنحرقنّ .. فلمّاسمعوا ذلك انصرفوا .
ص: 157
رواه عنه ابن شهر آشوب المازندارني(1) (المتوفى 588)
وروى الواقدي قطعة من الرواية الآتية تحت رقم : [ 12 ] .
[ 6 ]في كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام : .. وعلى كلّهم بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وقولك الهجر ، و[ في ]تنفسّك الصعداء ، و[ في ] إبطائك عن الخلفاء ، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل
المخشوش(2) حتى تبايع وأنت كاره ! ..(3)
رواه من العامّة ؛ أحمد بن أعثم الكوفي(4) (المتوفى 314)
وابن عبد ربه الأندلسي(5) (المتوفى 328)
والخطيب الخوارزمي(6) (المتوفى 568)
وابن أبي الحديد(7) (المتوفى 656)
والقلقشندي(8) (المتوفى 821)
والباعوني الشافعي(9) (المتوفى 871)ومن الشيعة :
الشيخ المفيد(10) (المتوفى 413)
ص: 158
والحسيني الزيدي(1) (المتوفى 670)
والعلاّمة البياضي(2) (المتوفى 877)
[ 7 ]وأجاب أمير المؤمنين عليه السلام عنه : « أما بعد ، فقد أتاني كتابك .. وقلت : إني كنت أُقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أُبايع .. ولعمر اللّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه .. وهذه حجّتي إلى غيرك » .(3)
رواه من العامّة ؛ ابن حمدون(4) (المتوفى 562)
وابن أبي الحديد(5) (المتوفى 656)
والنويري(6) (المتوفى 737)
والقلقشندي(7) (المتوفى 821)
والباعوني الشافعي(8) (المتوفى 871)
ومن الشيعة :
السيّد الرضي(9) (المتوفى 406)
وأبو الصلاح الحلبي(10) (المتوفى 447)
والشيخ الطبرسي(11) (القرن السادس)
ص: 159
وابن حمزة الزيدي(1) (المتوفى 614)
وحسام الدين المحلّي(2) (المتوفى 652)
والحسينى الزيدي(3) (المتوفى 670)
[ 8 ]وروى المنقري في كتاب معاوية إلى محمّد بن أبي بكر : .. فلمّا اختار اللّه لنبيّه صلى الله عليه و آله ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأبلج(4) حجّته ، [ و ] قبضه(5) إليه - صلوات اللّه عليه - فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه ، وخالفه على أمره . على ذلك اتقفا واتسقا . ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما ، فأبطأ عنهما ، وتلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، وأرادا به العظيم ! ..(6)
ورواه علي بن الحسين المسعودي(7) (المتوفى 346)
وابن أبي الحديد(8) (المتوفى 656)
وأبو بكر الدواداري(9) (المتوفى 732)
ومن الشيعة :
الشيخ المفيد(10) (المتوفى 413)
[ 9 ]وروى المنقري ، عن محمّد بن عبيد اللّه ، عن الجرجاني [ قال عمرو بن العاص لمعاوية ] : وقد سمعته أنا وأنت : وهو [ يعني أمير المؤمنين عليه السلام ]يقول :
ص: 160
« لو استمكنت من أربعين رجلاً ! .. » ، فذكر أمراً ، يعني لو أنّ معي أربعين رجلاً يوم
فتش البيت - يعني بيت فاطمة عليهاالسلام - .(1)
وأشار إليه ابن أبي الحديد ، وقال : ذكره كثير من أرباب السنّة .(2)
قد جرت سيرة العقلاء على الأخذ بما يقوله الإنسان إقراراً على نفسه واعترافاً بجنايته ، ولم يختلف في هذا اثنان . ودلّتنا الآثار الواردة في غير واحد من كتب العامة
والشيعة أنّ أبا بكر اعترف عند موته بالهجوم على بيت فاطمة عليهاالسلام وأظهر الندامة .
[ 10 ]عن عبد الرّحمن بن عوف ، عن أبي بكر حال احتضاره : إنّي لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتها ... فوددت أنّي لم أكشف(3) بيت فاطمة عن شيء(4) وإن كانوا(5) أغلقوه على الحرب .(6)
وفي رواية : وذكر [ أي أبو بكر ] في ذلك كلاماً كثيراً .
.. ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر ، فكان أميراً وكنت وزيراً ... ووددت أنّي كنت سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمن هذا الأمر ! فلا ينازعه أحد ، ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب .
ص: 161
رواه مع اختلاف يسير مفصّلاً أو مختصراً كثير من علماء الفريقين .
من العامّة :
الحافظ أبو عبيد(1) (المتوفى 224)
الحافظ سعيد بن منصور (المتوفى 227) وقال : حديث حسن .(2)
حميد بن زنجويه(3) (المتوفى 251)
ابن قتيبة الدينوري(4) (المتوفى 276)
اليعقوبي(5) (المتوفى 292)
الطبري(6) (المتوفى 310)
الجوهري(7) (المتوفى 323)
ابن عبد ربّه الأندلسي(8) (المتوفى 328)
خيثمة بن سليمان الإطرابلسي(9) (المتوفى 343)
المسعودي(10) (المتوفى 346)
الطبراني(11) (المتوفى 360)
ص: 162
الحافظ ابن عساكر(1) (المتوفى 571) وقال : أخبرنا جماعة في كتبهم ..
ضياء الدين المقدسي الحنبلي(2) (المتوفى 643) وقال : هذا حديث حسن .
وابن أبي الحديد(3) (المتوفى 656)
الحافظ الذهبي(4) (المتوفى 748)
ابن كثير الدمشقي(5) (المتوفى 774)
السيوطي(6) (المتوفى 911)
المتقي الهندي(7) (المتوفى 975)
العصامي المكّي(8) (المتوفى 1111)
خير اللّه طلفاح(9)
محمد حسين هيكل(10)
ومن الشيعة :
فضل بن شاذان(11) (المتوفى 260)
الشيخ الصدوق(12) (المتوفى 381)
ص: 163
أبو الصلاح الحلبي(1) (المتوفى 447)
الشيخ الطوسي(2) (المتوفى 460)
ابن شهر آشوب المازندراني(3) (المتوفى 588) وقال : عليه إجماع الأُمّة .(4)
بعض علماء الزيدية عنه أبو جعفر النقيب(5) (القرن السابع)
الحسيني الزيدي(6) (المتوفى 670) وقال : الحديث معروف .
عماد الدين الطبري(7) (القرن السابع)
العلاّمة الحلّي(8) (المتوفى 726)
الحسن بن محمّد الديلمي(9) (المتوفى 771)
عزّ الدين المهلبي الحلّي(10) (المتوفى بعد 840)
العلاّمة البياضي(11) (المتوفى 877)
الشيخ مفلح .. ابن صلاح البحراني(12) (القرن التاسع)
أحمد بن تاج الدين الأسترآبادي(13) (القرن العاشر)
ص: 164
المحقق الكركي(1) (المتوفى 940)
العلاّمة المجلسي(2) (المتوفى 1111)
.. وغيرهم منّا ومنهم .. .
فالرواية كما ترى مشهورة بين الفريقين ، وقد حكموا باعتبارها ، أو تلقّوها بالقبول ، فلا قيمة لمناقشة بعضهم فيها لوجود علوان بن داود في سندها كما صدر من العقيلي ،(3) وتبعه الذهبي ،(4) والهيثمي ،(5) وابن حجر العسقلاني ؛(6) إذ يرد عليهم :
أوّلاً : وثّقه ابن حبان في الثقات .
وثانياً : لم يذكره ابن عدي في كتابه الكامل في الضعفاء مع أنه قال في المقدّمة : أنا ذاكر في كتابي هذا كل من ذكر بضرب من الضعف .. ولا يبقى من الرواة الذين لم أذكرهم إلاّ من هو ثقة أو صدوق .
وثالثاً : يروي عن علوان أعلام أهل السنّة ورجال البخاري ومسلم .. كما يظهر من مراجعة ترجمته في ميزان الاعتدال ولسان الميزان .(7)
أقول : وعقد أبو الصلاح الحلبي(8) والعلاّمة المجلسي(9) باباً في ما أظهره أبو بكروعمر من الندامة عند الموت ، والمتتبّع فى كتب أهل السنّة يجد كثيراً منها مروية من طرقهم ، وإن حملها بعضهم على محامل لا يناسبها ، وعليك بالتأمّل في ما رواه
ص: 165
السيوطي(1) لتعرف حقيقة الحال فيها .
[ 11 ]عن أسلم : إنّه حين بويع لأبي بكر - بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله - كان علي والزبير يدخلون على فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويشاورونها ويرجعون في أمرهم .
وفي رواية : كان الزبير والمقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى عليّ عليه السلام - وهو في بيت فاطمة عليهاالسلام - فيتشاورون ويتراجعون أُمورهم ، فلمّا بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال :
يا بنت رسول اللّه ! ما من أحد أحبّ إليّ من أبيك وما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك ! .. وأيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم البيت .(2)
فلمّا خرج عمر جاؤوها ؛ قالت : « تعلمون أنّ عمر قد جاءني وقد حلف باللّه لئن عدتم ليحرقنّ عليكم البيت ؟(3) وأيم اللّه ليمضينّ ما حلف عليه ، فانصرفوا راشدين
فتروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ . .» فانصرفوا عنها ولم يرجعوا إليها حتّى بايعوا لأبي بكر .(4)
رواه من العامّة ؛ عثمان بن أبي شيبة (المتوفى 239) في السنن ، عنه إبراهيم بن عبد اللّه اليمني الشافعي(5) (القرن العاشر)
وأحمد بن عمرو بن الضحّاك (ابن أبي عاصم الشيباني)(6) (المتوفى 287)
ص: 166
وأبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري(1) (المتوفى 323)
والسيوطي(2) (المتوفى 911)
والمتّقي الهندي(3) (المتوفى 975)
والمحدث الشاه ولي اللّه الدهلوي(4) (المتوفى 1176)
ورواه غير واحد من العامّة محرفاً ، كما صنع أحمد بن حنبل (المتوفى 241) فإنّه ذكر الرواية بعينها وقال بدل (تهديد عمر بإحراق الدار) : وكلّمها .(5)
وكذا ابن عبد البرّ(6) (المتوفى 463)
والنويري(7) (المتوفى 733)
والصفدي(8) (المتوفى 764)
فإنّهم ذكروا أيضاً بدل التهديد بالإحراق : ولئن بلغني لأفعلنّ وأفعلنّ .
ورواه من الشيعة :
ابن حمزة الزيدي(9) (المتوفى 614)
ومحمّد بن أحمد بن علي بن الوليد الزيدي(10) (المتوفى 623)
والمنصور باللّه الحسن بن بدر الدين الحسيني(11) (المتوفى 670) ، وفي روايتهما زيادة التهديد بهدم البيت .
ص: 167
والسيد أحمد بن طاووس(1) (المتوفى 673) مختصراً .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
أبو محمّد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري(2) ( المتوفى 276 ه . )
[ 12 ]بسنده عن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأنصاري(3) - في رواية طويلة يذكر فيها السقيفة وما جري فيها وبعدها - : وأما علي عليه السلام والعباس بن عبد المطلب ومن معهما من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام ، فذهب إليهم عمر في عصابة فيهم أُسيد بن حضير وسلمة بن أسلم .. فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبا بكر .. فأبوا ، فخرج الزبير بن العوام بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرجل فخذوه .. فوثب عليه سلمة بن أسلم ، فأخذ السيف من يده ؛ فضرب به الجدار ، وانطلقوا به فبايع ، وذهب بنو هاشم أيضاً فبايعوا .
ثم إنّ علياً عليه السلام أُتي به إلى أبي بكر ، وهو يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسوله » ، فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال : « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أُبايعكم وأنتم أولى
بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه و آله ، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما
كان محمّد صلى الله عليه و آله منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميّتاً فأنصفونا إن كنتم
ص: 168
تؤمنون ، وإلاّ فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون » .
فقال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع .
فقال له علي عليه السلام : « احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردّده عليك غداً » . ثم قال : « واللّه - يا عمر ! - لا أقبل قولك ولا أُبايعه » .
فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أُكرهك ، فقال أبو عبيدة ابن الجراح لعليّ عليه السلام : يابن عمّ ! إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلمّ لأبي بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء ، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق .. في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك !! ..
فقال علي عليه السلام : « اللّه اللّه يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا سلطان محمّد صلى الله عليه و آله في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فواللّه - يا معشر المهاجرين ! - لنحن أحقّ الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسوية ، وإنّه واللّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه ، فتزدادوا من الحقّ بُعداً .. »
فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك - يا علي ! - قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان .
.. إلى أن قال : .. وإنّ أبا بكر تفقد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علي عليه السلام ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار علي عليه السلام ، فأبوا أن يخرجوا .
فدعا بالحطب ، وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص ! إنّ فيها فاطمة ! قال : وإن !! ..
فخرجوا فبايعوا إلاّ علياً عليه السلام فإنه زعم أنه قال : « حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتّى أجمع القرآن » ، فوقفت فاطمة عليهاالسلام على بابها ، فقالت : « لا عهد
ص: 169
لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم .. تركتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردّوا لنا حقّاً » .
فأتى عمر أبا بكر ، فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة ؟ فقال أبو بكر لقنفذ - وهو مولى له - : اذهب فادع لي علياً ، قال : فذهب إلى علي ، فقال له : « ما حاجتك ؟ » فقال : يدعوك خليفة رسول اللّه ، فقال علي عليه السلام : « لَسَريع ما كَذَبتم على رسول اللّه ! » فرجع فأبلغ الرسالة ، قال : فبكى أبو بكر طويلاً . فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه ، فقل له : خليفة رسول اللّه يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ ، فأدّى ما أمر به ، فرفع عليّ عليه السلام صوته فقال : « سبحان اللّه ! لقد ادّعى ما ليس له » ، فرجع قنفذ ، فأبلغ الرسالة ، فبكى أبو بكر طويلاً .
ثم قام عمر ، فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة عليه السلام ، فدقّوا الباب ، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : « يا أبت ! يا رسول اللّه ! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟! » فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها ، انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم تنصدع ، وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا علياً عليه السلام ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : « إن أنا لم أفعله فمه ؟ » قالوا : إذاً واللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك ، فقال : « إذاً تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله » ، قال عمر : أما عبد اللّه فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ؟ فقال : لا أُكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه . فلحق عليّ بقبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصيح ويبكي ، وينادي : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي » » .(1)
فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها .. فانطلقا جميعاً ، فاستأذنا على فاطمة عليهاالسلام ، فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً عليه السلام فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا
ص: 170
قعدا عندها ، حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها ، فلم تردّ عليهما السلام !!
فتكلّم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول اللّه ! واللّه إن قرابة رسول اللّه أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنك لِأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أني متّ ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفكِ وأعرف فضلكِ وشرفكِ وأمنعكِ حقّكِ وميراثكِ من رسول اللّه إلاّ أني سمعت أباك رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: لانورّث ، ما تركنا فهو صدقة ! ..
فقالت : « أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله تعرفانه وتفعلان به ؟ » قالا : نعم . فقالت : « نشدتكما اللّه ألم تسمعا رسول اللّه يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ »
قالا : نعم ، سمعناه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، قالت : « فإنّي أُشهد اللّه وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه .. » .
فقال أبو بكر : أنا عائذ باللّه تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة .. ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : « واللّه لأدعونّ اللّه عليك في كلّ صلاة أُصلّيها » ،(1) ثم خرج باكياً فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته ، مسروراً بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي .
قالوا : يا خليفة رسول اللّه !! إنّ هذا الأمر لا يستقيم ، وأنت أعلمنا بذلك !! إنه إن كان هذا لم يقم للّه دين !!(2)
ص: 171
فقال : واللّه لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بتّ ليلة ولي في عنق مسلم بيعة بعدما سمعت ورأيت من فاطمة .
قال : فلم يبايع علي عليه السلام حتى ماتت فاطمة عليهاالسلام ، ولم تمكث بعد أبيها إلاّ خمساً وسبعين ليلة .(1)
وروى غير واحد من علماء الفريقين قسماً وافراً منها ، منهم :
الواقدي(2) (المتوفى 207)
وأحمد بن أعثم الكوفي(3) (المتوفى 314)
وأبو بكر الجوهري(4) (المتوفى 323)
والمير خواند(5) (القرن التاسع)
وغياث الدين البلخي المعروف ب- : خواند مير(6) (المتوفى 942)
ومن المعاصرين ؛ كحالة ،(7) وعبدالكريم الخطيب ،(8) والسيد عبدالعزيز سالم ،(9) ومحمد فريد وجدي ،(10) ومحمّد حسين هيكل ..(11)
ومن الشيعة :
ص: 172
الطبري الإمامي(1) (المتوفى أوائل القرن الرابع)
وابن شهر آشوب المازندراني(2) (المتوفى 588)
والشيخ الطبرسي(3) (القرن السادس)
والحسيني الزيدي(4) (المتوفى 670)
وعزّ الدين المهلبي الحلّي(5) (المتوفى بعد 840)
والشرفي الأُهنومي(6) (المتوفى 1055)
[ 13 ]وقال ابن قتيبة : إنّ محسناً فسد من زخم قنفذ العدوي .
نقله عنه ابن شهر آشوب المازندراني (المتوفى 588) عن كتاب المعارف ،(7) ولكنّه أُسقط من الكتاب وليس في المعارف المطبوع الآن . ويشهد لوجوده في الكتاب ما ذكره الكنجي الشافعي (المتوفى 658) ، فإنّه قال : وزاد (أي المفيد - ظاهراً - ) على
الجمهور ، وقال : إنّ فاطمة أسقطت بعد النبي صلى الله عليه و آله ذكراً كان سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله : محسناً . وهذا شيء لم يوجد عند أحد من أهل النقل إلاّ عند ابن قتيبة .(8)
وتقدّمت لابن قتيبة الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
( المتوفى 287 ه . )
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 11 ] .
ص: 173
[ 14 ]عن بكر بن الهيثم ، حدّثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى عليّ عليه السلام حين قعد عن بيعته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ! .. فلمّا أتاه جرى بينهما كلام ، فقال له : « أحلب حلباً لك شطره ، واللّه ما حرّصك على إمارته اليوم إلاّ ليؤمّرك غداً ..» .(1)
ورواه من الشيعة ؛ الشريف المرتضى(2) (المتوفى 436)
والشيخ الطوسي(3) (المتوفى 460)
والحسيني الزيدي(4) (المتوفى 670)
[ 15 ]وروى البلاذري ، عن سليمان التيمي ،(5) وعن ابن عون :(6) إنّ أبا بكر أرسل إلى عليّ يريد البيعة .. فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ،(7) فتلقّته فاطمة على الباب ، فقالت فاطمة : « يابن الخطّاب ! أتراك محرّقاً عليّ بابي ؟! » قال : نعم ، وذلك أقوى في ما جاء به أبوك .(8)
ورواه من الشيعة ؛ الشريف المرتضى(9) (المتوفى 436)
ص: 174
والشيخ الطوسي(1) (المتوفى 460)
وابن شهر آشوب المازندراني(2) (المتوفى 588)
وابن حمزة الزيدي(3) (المتوفى 614)
[ 16 ]وروى البلاذري قال : لمّا قتل الحسين عليه السلام كتب عبد اللّه بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أمّا بعد ، فقد عظمت الرزيّة ، وجلّت المصيبة ، وحدث في الإسلام حدث عظيم ، ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام ..
فكتب إليه يزيد : أمّا بعد ؛ يا أحمق ! فإنّنا جئنا إلى بيوت منجّدة(4) وفرش ممهّده ، ووسائد(5) منضّدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، وإن كان الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا وابتزّ(6) واستأثر بالحقّ على أهله !!
رواه عنه السيد ابن طاووس(7) (المتوفى 664)
والعلاّمة الحلي(8) (المتوفى 726)
[ 17 ]قال : وبلغ أبا بكر وعمر أنّ جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب عليه السلام في منزل فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأتوافي جماعة حتى هجموا الدار وخرج علي عليه السلام ومعه السيف ، فلقيه عمر فصرعه وكسر سيفه ، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة عليهاالسلام فقالت : « واللّه لتخرجنّ أو لأكشفنّ
ص: 175
شعري ولأعجنّ إلى اللّه » .(1)
وتقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
[ 18 ]عن حميد بن عبد الرّحمن الحميري :(2) .. وتخلّف علي عليه السلام والزبير واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتى يُبايَع عليّ عليه السلام .. فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقال عمر : خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر . قال : فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تعباً ، وقال : لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان .. فبايعا .(3)
ورواه عن الطبري كثير من المتأخرين نحو محمد رضا(4) وخيراللّه طلفاح .(5)
ومن الشيعة ؛ محمّد بن علي بن شهر آشوب(6) (المتوفى 588)
[ 19 ]وروى الطبري بسنده عن زياد بن كليب(7) قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي عليه السلام وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : واللّه لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة .. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه .(8)
ص: 176
ورواه عنه كثير من المتأخّرين ، نحو محمد رضا ،(1) وخير اللّه طلفاح .(2)
ومن الشيعة ؛ محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني(3) (المتوفى 588)
والسيّد ابن طاووس(4) (المتوفى 664)
وتقدّمت للطبري الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 6 ] و[ 12 ] .
قال : سأل أبو بكر فقال : أين الزبير ؟ فقيل : عند عليّ وقد تقلّد سيفه ، فقال : قم يا عمر ! قم يا خالد بن الوليد ! انطلقا حتى تأتياني بهما .. فانطلقا ، فدخل عمر ، وقام
خالد على باب البيت من خارج ، فقال عمر للزبير : ما هذا السيف ؟ فقال : نبايع علياً ، فاخترطه عمر فضرب به حجراً فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه وقال : يا خالد ! دونكه فأمسكه ، ثم قال لعلي : قم فبايع لأبي بكر ، فتلكّأ واحتبس ، فأخذ بيده وقال : قم ، فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير فأخرجه . ورأت فاطمة ما صنع بهما ، فقامت على باب الحجرة وقالت : « يا أبا بكر ! ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول اللّه ، واللّه لا اكلّم عمر حتى ألقى اللّه » .. .(1)
[ 21 ]قال أبو بكر : وأخبرني أبو بكر الباهلي ، عن إسماعيل بن مجالد ، عن الشعبي ، قال : قال أبو بكر : يا عمر ! أين خالد بن الوليد ؟ قال : هو هذا ، فقال : انطلقا إليهما - يعني علياً والزبير - فأتياني بهما .. فانطلقا ، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج .. فقال عمر للزبير : ما هذا السيف ؟ قال : أعددته لأُبايع علياً ، قال : وكان في البيت ناس كثير منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين ، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ، ثم دفعه فأخرجه ، وقال : يا خالد ! دونك هذا .. فأمسكه خالد - وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس أرسلهم أبو بكر ردءاً لهما - . ثم دخل عمر فقال لعلي : قم فبايع .. فتلكّأ واحتبس فأخذ بيده ، وقال : قم .. فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ، ثم أمسكهما خالد وساقهما عمر ومن معه سوقاً عنيفاً ، واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة ما صنع عمر ، فصرخت وولولت واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهنّ فخرجت إلى باب حجرتها ونادت: « يا أبا بكر ! ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول اللّه .. واللّه لا أُكلم عمر حتى ألقى اللّه ..» .(2)
[ 22 ]أخبرني أحمد بن إسحاق ، قال : حدّثنا أحمد بن سيّار ، قال : حدّثنا
ص: 178
سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري :(1) .. وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة - منهم أُسيد بن حضير ، وسلمة بن أسلم - فقال لهم : انطلقوا فبايعوا .. فأبوا عليه ،
وخرج إليهم الزبير بسيفه ، فقال عمر : عليكم الكلب .. فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم ، وعليّ يقول : « أنا عبداللّه وأخو رسول اللّه صلى الله عليه و آله » حتى انتهوا به إلى أبيبكر ، فقيل له :بايع ..(2)
[ 23 ]حدّثنا أبو سعيد عبد الرّحمن بن محمّد ، قال : حدّثنا أحمد بن الحكم ، قال : حدّثنا عبد اللّه بن وهب ، عن ليث بن سعد ،(3) قال : تخلّف عليّ عن بيعة أبي بكر فأُخرج ملبّباً يمضي به ركضاً ، وهو يقول : معاشر المسلمين ! علامَ تضرب عنق رجل من المسلمين لم يتخلّف لخلاف ، وإنما تخلّف لحاجة .. فما مرّ بمجلس من المجالس ، إلاّ يقال له : انطلق فبايع .
وحدّثنا علي بن جرير الطائي ، قال : حدّثنا ابن فضل ، عن الأجلح ، عن حبيب بن ثعلبة بن يزيد ، قال : سمعت علياً يقول : « أما ورب السماء والأرض - ثلاثاً - إنه لعهد النبي الأُمّي إليّ : لتغدرنّ بك الأُمّة من بعدي » .(4)
[ 24 ]وروى عمر بن شبّة ، قال : حدّثني محمد بن يحيى ، قال : حدّثنا غسان بن عبد الحميد ،(5) قال : لمّا أكثر الناس في تخلّف عليّ عليه السلام عن بيعة أبي بكر واشتدّ أبو بكر وعمر عليه في ذلك خرجت أُم مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر ،وقالت :
ص: 179
كانت أُمور وأنباء وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب(1)
[ 25 ]أخبرنا أبو زيد عمر بن شبّة ، قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ،(2) قال : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب عليّ عليه السلام والزبير فدخلا بيت فاطمة عليهاالسلام معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة منهم أُسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن وقش - وهما من بني عبد الأشهل - فصاحت فاطمة عليهاالسلام وناشدتهم اللّه ، فأخذوا سيفَيْ علي والزبير فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما ، ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا ، ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم ، وقال : إنّ بيعتي كانت فلتة وقى اللّه شرّها .. .(3)
[ 26 ]وقد روى بإسناد آخر ذكره : أن ثابت بن قيس بن شماس كان مع الجماعة الذين حضروا مع عمر في بيت فاطمة عليهاالسلام ..(4)
[ 27 ]وحدّثني أبو زيد عمر بن شبّة عن رجاله قال : جاء عمر إلى بيت فاطمة عليهاالسلام في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم ! .. ، فخرج إليه الزبير مصلتاً بالسيف ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ، فندر السيف من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً حتّى بايعوا أبا بكر .(5)
[ 28 ]وقد روي في رواية أُخرى : إن سعد بن أبي وقاص كان معهم في
ص: 180
بيت فاطمة عليهاالسلام والمقداد بن الأسود أيضاً ، وإنهم اجتمعوا على أن يبايعوا علياً عليه السلام ، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة عليهاالسلام تبكي وتصيح فنهنهت من الناس ..(1)
[ 29 ]وحدثني أبو زيد عمر بن شبّة ، قال : حدّثنا أحمد بن معاوية ، قال : حدّثني النضر بن شميل ، قال : حدّثنا محمّد بن عمرو ، عن سلمة بن عبد الرّحمن ،(2) قال : لمّا جلس أبو بكر على المنبر ، كان علي عليه السلام والزبير وناس من بني هاشم في بيت فاطمة ، فجاء عمر إليهم فقال : والّذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم .
فخرج الزبير مصلتاً سيفه فاعتنقه رجل من الأنصار وزياد بن لبيد ، فبدر السيف ، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر : اضرب به الحجر ، فدقّ به .
قال أبو عمرو بن حماس : فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة ، ويقال : هذه ضربة سيف الزبير ..(3)
وروى عن الجوهري الرواية الأخيرة السيد أحمد بن طاووس(4) (المتوفى 673) ، والسيد علي خان المدني(5) (المتوفى 1120)
وتقدّمت للجوهري الروايات المرقّمة ب- : [ 2 ] ، [ 10 ] ، [ 11 ] ، [ 12 ] .
[ 30 ]قال : الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر : علي والعباس والزبير فقعدوا
ص: 181
في بيت فاطمة ، حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم(1) من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم !
فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار .. فلقيته فاطمة فقالت : « يابن الخطاب ! أجئت لتحرق دارنا ؟! » قال : نعم ، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأُمة .(2)
ورواه من العامّة ؛ أبو الفداء(3) (المتوفى 732)
ومن المعاصرين ؛ كحالة ،(4) والبكري(5)
ومن الشيعة ؛ السيد ابن طاووس (المتوفى 664)
وقال : وروى مثل ذلك صاحب كتاب أنفاس المحامل ونفائس الجواهر عن ابن سهلوه .(6)
وتقدّمت لابن عبد ربّه الروايتان المرقّمتان ب- : [ 6 ] و[ 10 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
تقدّمت له الروايات المرقّمة ب- : [ 3 ] ، [ 8 ] ، [ 10 ] .
ويأتي له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 136 ] ، [ 137 ] .
ص: 182
[ 31 ]قال : .. لمّا قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله انتقض نظام الجماعة ، وتشتّت الكلمة ، واضطرب حبل الأُلفة ، وانحاز هذا الحيّ من الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة ، وقالوا : منّا أمير ومنكم أمير . واعتزل عليّ بن أبي طالب عليه السلام وطلحة والزبير بن العوام في بيت فاطمة عليهاالسلام ، فأتاهم أبو بكر قبل أن يفرغ من جهاز النبي صلى الله عليه و آله !! .. وقد ذكرت قصة البيعة في ذكر وفاة النبيّ .(1)
أقول : لم يذكر هناك كيفية أخذ البيعة من هؤلاء المتخلّفين ، ولعلّه قد ذكرها إلاّ أنه قد حذفتها الأيدي المحرِّفة ، نعم قوله : فأتاهم أبو بكر ... هنا كاف لمن له أدنى
بصيرة ، إذ الخليفة يؤتى ولا يأتي هو بنفسه لأخذ البيعة ، فتأمّل .
وللمقدسي كلام يأتي تحت رقم : [ 81 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
[ 32 ] قال :
إن كان عندي درهم *** أو كان في بيتي دقيقْ
فبرئت من أهل الكسا *** وكفرت بالبيت العتيقْ
وظلمت فاطمة البتو *** ل كما تحيّفها عتيقْ
رواه الصفدي(2) (المتوفى 764)
ص: 183
وله أبيات أُخرى تأتي عند ذكر الدفن ليلاً .
23 - ابن حنزابة(1)
[ 33 [ ] قال في كتاب الغرر : ] قال زيد بن أسلم :(2) كنت ممّن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة ،(3) فقال عمر لفاطمة : أخْرجي مَنْ في البيت وإلاّ أحرقته ومن فيه ، قال : وفي البيت علي والحسن والحسين عليهم السلاموجماعة من أصحاب النبيّ .
فقالت فاطمة : « أفتحرق عليّ ولدي؟!.. »(4) فقال : إي واللّه أو ليخرجنّ
وليبايعنّ .
رواه عنه ابن شهر آشوب المازندراني(5) (المتوفى 588)
والسيّد ابن طاووس(6) (المتوفى 664)
والعلاّمة الحلّي(7) (المتوفى 726)
[ 34 ]وروى ابن حنزابة ؛ عن الحسين الفضال ، قال : روى عدي بن حاتم
ص: 184
وعمرو بن حريث - قال واحد منهما - : ما رحمت أحدا كرحمي علي بن أبي طالب عليه السلام !.. رأيته حين أُتي به إلى بيعة الأول ، فلمّا نظر إلى القبر ، قال : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي » »(1) فقال : بايع ، فقال : « إن لم أفعل ؟ » قال : إذاً نقتلك ، قال : « إذاً تقتلون عبد اللّه وأخا رسول اللّه » .. فبايع وأصابعه
مضمومة !(2)
[ 35 ]عن أبي سعيد الخدري ، قال : لمّا توفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله قام خطباء الأنصار .. فلمّا قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليّاً عليه السلام ، فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به . فقال أبو بكر : ابن عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وختنه أردت أن تشقّ عصا المسلمين ! فقال : لا تثريب يا خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! فبايعه ، ثم لم ير الزبير ، فسأل عنه حتى جاؤوا به ، فقال : ابن عمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحواريه أردت أن تشقّ عصا المسلمين ؟! فقال : لا تثريب يا خليفة رسول اللّه ! فبايعه .(3)
ورواه البيهقي(4) (المتوفى 458)
والذهبي(5) (المتوفى 748)
وابن كثير(6) (المتوفى 774)
وكذا رواه السيوطي(7) (المتوفى 911) ، والمتقي الهندي(8) (المتوفى 975) عن
ص: 185
أبي داود الطيالسي (المتوفى 204) ، وابن سعد (المتوفى 230) ، وابن أبي شيبة (المتوفى 235) ، وابن جرير الطبري (المتوفى 310) ، والبيهقي ، والحاكم ، وابن عساكر
(المتوفى 571) .
وتقدّمت للحاكم الرواية المرقّمة ب- : [ 2 ] .
لفتة نظر
لقد راجعنا مسند الطيالسي فرأينا الحديث قُطع ذيله وأُلصق به حديث آخر ،(1) أما في الطبقات لابن سعد ،(2) والمصنف لابن أبي شيبة ،(3) فلا ندري هل حذف الذيل بسبب المصنف أو أسقطته أيدي التحريف ، كما بدّل بعضهم قوله : (جاؤوا به) و(أتوا به) ب(جاء) ليخفى إخراج أمير المؤمنين عليه السلام والزبير إكراهاً وإجبارهم على البيعة .
وحذراً من الاتهام بالكذب ، قالوا بعد ذكر الرواية : هذا أو ما في معناه !!(4)
ثم ؛ غرضنا من ذكر هذه الرواية الاستدلال بها على إخراج أمير المؤمنين عليه السلام مكرهاً وإجباره على البيعة ، وإن كان بعض ما فيها من الأكاذيب قطعاً نحو قوله : لا تثريب يا خليفة رسول اللّه ..(5) وبيعته في نفس اليوم - المخالف للنصوص المتواترة بين الفريقين - إذ ورد في صحاح أهل السنّة أنه ما بايع عليه السلام إلاّ بعد وفاة فاطمة عليهاالسلام .وعندنا لم يبايع بالاختيار أبداً ، وإنما بايع مكرهاً بعد أن رأى الدخان دخل بيته !!
ص: 186
[ 36 ]قال في ما قال : وجوابنا : أن هذا إنما يصح لو ثبت أن الصحابة كانوا بين مبايع ومتابع وساكت سكوتاً يدلّ على الرضا ، وهذه صورة الإجماع .. ونحن لا نسلّم ذلك ، فمعلوم أنّ علياً عليه السلام لمّا امتنع عن البيعة هجموا على دار فاطمة عليهاالسلام ، وكذلك
فإنّ عماراً ضرب ، وإنّ زبيراً كسر سيفه ، وسلمان استخفّ به .. فكيف يدّعى الإجماع مع هذا كلّه ؟! وكيف يجعل سكوت من سكت دليلاً على الرضى ؟ !(1)
وللقاضي كلام يأتي في الرقم : [ 83 ] .
[ 37 ]قال : ثم إن النظّام ...(2) طعن في الفاروق عمر ، وزعم ... أنه شك يوم الحديبية في دينه ، وشك يوم وفاة النبي صلى الله عليه و آله ، وأنّه كان في من نفر بالنبي صلى الله عليه و آله ليلة العقبة ، وأنه ضرب فاطمة عليهاالسلام ومنع ميراث العترة .. .(3)
ونقلها عن النظّام غير واحد من العامّة والخاصّة .
قال الشهرستاني (المتوفى 548) : وقال (أي النظّام ) : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة عليهاالسلاميوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح : أحرقوا دارها بمن فيها !! .. وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام .(4)
ص: 187
وقال الصفدي (المتوفى 764) : قال النظّام : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة عليهاالسلام يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها .(1)
وقال المقريزي (المتوفى 845) : وزعم - أي النظّام - أنه - أي عمر - ضرب فاطمة عليهاالسلام ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومنع ميراث العترة .(2)
ونقله عن النظّام أيضاً الدكتور عبد الرّحمن بَدَوي(3) والبكري .(4)
ومن الشيعة : السيد مرتضى بن الداعي الحسني الرازي(5) (القرن السادس)
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 2 ] و[ 35 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 11 ] .
[ 38 ]قال : قال الملك - وهو السلطان ملكشاه السلجوقي - : إنك - أيها العلوي ! - قلت في أوّل الكلام : إنّ أبا بكر أساء إلى فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فما هي إساءته إلى فاطمة ؟
قال العلوي - وهو بعض السادة الأجلاّء من علماء الشيعة في ذلك الزمان - : إنّ أبا بكر بعدما أخذ البيعة لنفسه من الناس بالإرهاب والسيف والتهديد والقوّة أرسل
ص: 188
عمر وقنفذاً وخالد بن الوليد وأبا عبيدة بن الجراح .. وجماعة أُخرى من المنافقين إلى دار علي وفاطمة عليهماالسلام ، وجمع عمر الحطب على باب بيت فاطمة عليهاالسلام وأحرق الباب بالنار ، ولمّا جاءت فاطمة خلف الباب لتردّ عمر وحزبه عصر عمر فاطمة بين الحائط والباب عصرة شديدة قاسية حتى أسقطت جنينها ، ونبت مسمار الباب في صدرها ، وصاحت فاطمة : « يا أبتاه ! يا رسول اللّه ! انظر ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن
أبي قحافة ! » فالتفت عمر إلى من حوله وقال : اضربوا فاطمة ! .. فانهالت السياط على حبيبة رسول اللّه وبضعته حتى أدموا جسمها ، وبقيت آثار العصرة القاسية والصدمة المريرة تنخر في جسم فاطمة ، فأصبحتْ مريضة عليلة حزينة حتى فارقت الحياة بعد أبيها بأيّام ، ففاطمة شهيدة بيت النبوة .. فاطمة قتلت بسبب عمر بن الخطاب ..
قال الملك للوزير : هل ما يذكره العلوي صحيح ؟
قال الوزير - وهو الخواجه نظام الملك - : نعم انّي رأيت في التواريخ ما يذكره العلوي .(1)
[ 39 ]وقال : وأمّا الذي نقموا به على عمر بن الخطاب همّه(2) بإحراق بيت فاطمة عليهاالسلام ؛ فإنه قد كان ذلك منه على غير ما وهموا(3) به .. وإنّه لمّا تأخّر علي عليه السلام والزبير والمقداد عن بيعة أبي بكر يوم بويع ، كانوا مجتمعين(4) في منزلها ، فسمع بذلك عمر ، فأتى إليهم إلى منزلها [ كذا ] ليعزلهم(5) عمّا كان منهم ، فلم يجدهم
ص: 189
هناك ، فقال لفاطمة : يا بنت رسول اللّه ! ما أحد(1) أحبّ إلينا من أبيك ، ولا أحد بعده أحبّ إلينا منك ، وأيم اللّه ما ذاك بمانعي من أنّه إذا اجتمع عندك هؤلاء النفر أن أحرق عليهم هذا البيت ؛ لأنهم أرادوا شقّ عصا المسلمين بتأخّرهم(2) عن البيعة ! .. ثم خرج عنها ، فلم يلبث أن عادوا إليها ، فقالت لهم :(3) « إن عمر جاءني وحلف باللّه لئن أنتم عدتم إلى هذا البيت ليحرقنّه عليكم ، وأيم اللّه إنه ليصدقنّ في ما(4) حلف عليه .. فانصرفوا عنّي فلا ترجعوا إليّ » . ففعلوا ذلك ولم يرجعوا إليها إلاّ بعدما بايعوا . فهذا هو المعنى ، فأي شيء على عمر من منقود في هذا ؛ لأنه همّ ولم يفعل !! ما أراد بذلك إلاّ الإصلاح !(5)
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 37 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 7 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 6 ] .
ص: 190
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
[ 40 ]قال : وتخلّف علي عليه السلام وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة ، وقال
الزبير : لا أغمد سيفاً حتى يُبايَع علي عليه السلام ، فقال عمر : خذوا سيفه واضربوا به الحجر .. ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة .(1)
ورواه النويري(2) (المتوفى 737)
ومن المعاصرين ؛ محمد رضا ..(3) وغيره .
يأتي له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 118 ] ، [ 222 ] .(4)
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 1 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
ص: 191
ابن أبي الحديد المدائني المعتزلي ( المتوفى 656 ه .) (1)
[ 41 ]نقل ابن أبي الحديد عن أُستاذه أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل
اللمعاني المعتزلي (القرن السابع) أنّه قال : ... وجرى له في تخلّفه عن البيعة ما هو مشهور ، حتى بايع .
وكان يبلغه وفاطمة عليهاالسلام عنها - أي عن عائشة - كل ما يكرهانه منذ مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى أن توفّيت فاطمة عليهاالسلام وهما صابران على مضض ورمض .. وانخذل
ص: 192
علي وفاطمة عليهماالسلام وقُهرا وأُخذت فدك ، وخرجت فاطمة عليهاالسلام تجادل في ذلك مراراً فلم تظفر بشيء ..(1)
[ 42 ]وعن أُستاذه أبي جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي النقيب (المتوفى
قبل 644)(2) أنه قال : إذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله أباح دم هبار بن الأسود ؛ لأنه روّع زينب فألقت ذا بطنها ، فظهر الحال أنه لو كان حيّاً لأباح دم من روّع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها ، فقلت : أروي عنك ما يقوله قوم : إنّ فاطمة رُوّعت فألقت المحسن ؟ فقال : لا تروه عنّي ولا ترو عنّي بطلانه ، فإنّي متوقّف في هذا الموضع ، لتعارض الأخبار عندي فيه !(3)
[ 43 ]وعنه ضمن نقل رسالة لبعض الزيدية : وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة ... ومَنَعَتْنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة عليهاالسلام وما جرى لها بعد وفاة أبيها ؟ !
فإن قلتم : إنّ بيت فاطمة عليهاالسلام إنّما دُخل وسترها إنما كُشف حفظاً لنظام الإسلام !! وكيلا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة! ..
قيل لكم : وكذلك ستر عائشة إنما كشف وهودجها إنما هتك لأنها نشرت حبل الطاعة وشقّت عصا المسلمين وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول علي بن أبي طالب عليه السلام إلى البصرة ... فإذا جاز دخول بيت فاطمة عليهاالسلام لأمر لم يقع بعد ؛ جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق .. فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر ... وصار كشف بيت فاطمة عليهاالسلام ، والدخول عليها منزلها ، وجمع حطب ببابها وتهدّدها بالتحريق .. من أوكد عرى الدين وأثبت دعائم الإسلام ، ومما أعزّ اللّه به
ص: 193
المسلمين وأطفأ به نار الفتنة !! ..(1)
[ 44 ]وقال أبو جعفر النقيب - في جواب ابن أبي الحديد لمّا سأله : هل أمر أبو بكر خالداً بقتل علي عليه السلام - : .. ولكني أستبعده من أبي بكر ؛ فإنه كان ذا ورع ولم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة ومنع فدك وإغضاب فاطمة عليهاالسلام وقتل علي عليه السلام!! حاش للّه من ذلك !! ..(2)
أقول : وفيه تشنيع لطيف يدلّنا على أن الظلم الصادر منه كان مسلّماً عندهم .
ثم ترى نفسه في شرح نهج البلاغة حيرانَ ، فإنّه وقع في حيص وبيص وابتلي بالتناقض ، فمن ناحية يريد التحفّظ على موالاته للخلفاء والذبّ والدفاع عنهم ، ومن ناحية أُخرى يرى نفسه محكوماً بالروايات المتواترة ، مع تصريحه بأنه اشترط على نفسه أن لا يروي عن رجال الشيعة وكتبهم شيئاً ،(3) فتراه تارة ينسب بعض وقائع السقيفة إلى تفرد الشيعة بنقله ، وأُخرى يعترف بأنّ أهل الحديث ذكروها . ونحن نذكر هنا بعض كلماته المتهافتة ولينظر إليها طالب الحقّ بعين الإنصاف .
[ 45 ]قال : .. وعمر هو الذي شدّ بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها ، فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، ودفع في صدر المقداد ... وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة عليهاالسلام من الهاشميّين وأخرجهم منها .. ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر .. .(4)
[ 46 ]وقال : اختلفت الروايات في قصة السقيفة ؛ فالذي تقوله الشيعة - وقد قال قوم من المحدّثين بعضه ورووا كثيراً منه - : إنّ علياً عليه السلام امتنع من البيعة حتى أُخرج كرهاً ، فلمّا جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم قال - في جملة ما قال - : خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر .. ويقال : إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجراً فكسره ، وساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر فحملهم على بيعته ، ولم يتخلّف إلاّ
ص: 194
علي عليه السلام وحده ، فإنه اعتصم ببيت فاطمة عليهاالسلام فتحاموا إخراجه منه قسراً ، وقامت فاطمة عليهاالسلام إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه فتفّرقوا .. وعلموا أنه بمفرده لا يضرّ شيئاً فتركوه ، وقيل : إنهم أخرجوه في من أُخرج وحُمل إلى أبي بكر فبايعه .
وقد روى أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري كثيراً من هذا .
فأما حديث التحريق وما جرى مجراه من الأُمور الفظيعة وقول من قال : إنهم أخذوا علياً عليه السلام يقاد بعمامته والناس حوله .. فأمر بعيد والشيعة تنفرد به ، على أنّ جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه ..(1)
[ 47 ]وقال : فأمّا امتناع علي عليه السلام من البيعة حتى أُخرج على الوجه الذي أخرج عليه فقد ذكره المحدّثون ورواه أهل السير ، وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب - وهو من رجال الحديث ومن الثقات المأمونين - ، وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة .
فأمّا الأُمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة عليهاالسلام ، وأنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت ، وأن عمر أضغطها بين الباب والجدار فصاحت : « يا أبتاه ! يا رسول اللّه ! » .. وألقت جنيناً ميّتاً ، وجعل في عنق علي عليه السلام حبل يقاد به وهو يعتل(2) وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور ، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان ، وأن عليّاً لمّا أُحضر سألوه البيعة
فامتنع فتهدّد بالقتل ، فقال : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسول اللّه » فقالوا : أما عبد اللّه فنعم وأما أخو رسول اللّه فلا .. وأنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق ، وسطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها ، وبأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليلة العقبة ..
فكلّه لا أصل له [ كذا ] عند أصحابنا ، ولا يثبته أحد منهم ، ولا رواه أهل الحديث
ص: 195
ولا يعرفونه ، وإنّما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله .(1)
[ 48 ]وقال - بعد ذكر إبائه عن البيعة واحتجاجه على القوم - : هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة يدلّ على أنّه عليه السلام قد كان كاشفهم وهتك القناع بينه وبينهم ، ألا تراه كيف نسبهم إلى التعدّي عليه وظلمه ، وتمنّع من طاعتهم ، وأسمعهم من الكلام أشدّه وأغلظه ..(2)
[ 49 ]وقال : قال أبو بكر [ أي الجوهري ] : وحدّثني المؤمل بن جعفر ، قال : حدّثني محمّد بن ميمون ، قال : حدثني داود بن المبارك ، قال : أتينا عبد اللّه ابن موسى بن عبد اللّه بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام - ونحن راجعون من الحج في جماعة - فسألناه عن مسائل - وكنت أحد من سأله - فسألته عن أبي بكر وعمر ، فقال : أُجيبك بما أجاب به جدّي عبد اللّه بن الحسن ، فإنه سُئل عنهما فقال : كانت أُمّنا صدّيقة ابنة نبي مرسل .. وماتت وهي غضبى على قوم .. فنحن غضاب لغضبها .
قال ابن أبي الحديد : قلت : قد أخذ هذا المعنى بعض شعراء الطالبيين من أهل الحجاز ، أنشدنيه النقيب جلال الدين عبد الحميد بن محمد بن عبد الحميد العلوي ، قال : أنشدني هذا الشاعر لنفسه - وذهب عني أنا اسمه - قال :
يا أبا حفص الهوينى وما كن- *** -ت ملياً بذاك لولا الحمام
أتموت البتول غضبى ونرضى *** ما كذا يصنع البنون الكرام
يخاطب عمر ويقول له : مهلاً ورويداً يا عمر ! أي ارفق واتّئد ولا تعنف بنا ، وما كنت ملياً .. أي وما كنت أهلاً لأن تخاطب بهذا وتستعطف ، ولا كنت قادراً على ولوج دار فاطمة على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه ، لولا أنّ أباها - الذي كان بيتها يحترم ويصان لأجله - مات ، فطمع فيها من لم يكن يطمع ، ثم قال : أتموت أُمّنا وهي
ص: 196
غضبى ونرضى نحن ؟ إذاً لسنا بكرام ، فإن الولد الكريم يرضى لرضا أبيه وأُمّه ويغضبُ لغضبهما .
ثم قال ابن أبي الحديد : والصحيح عندي أنها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر ، وأنّها أوصت ألاّ يصلّيا عليها ، وذلك عند أصحابنا من الأُمور المغفورة لهما !! .. وكان الأولى بهما إكرامها واحترام منزلها .. لكنهما خافا الفرقة وأشفقا من الفتنة ..
ففعلا ما هو الأصلح بحسب ظنّهما !! ..
فإن هذا - لو ثبت أنه خطأ [ ! ! ! ] - لم يكن كبيرة ، بل كان من باب الصغائر التي لا تقتضي التبرؤ ولا توجب زوال التولي !!(1)
[ 50 ]وقال : وقد نقل الناس خبر الزبير لمّا هجم عليه ببيت فاطمة عليهاالسلام وكُسر سيفه في صخرة ضربت به .. .(2)
[ 51 ]وقال : وقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألّم وتظلّم واستنجد واستصرخ حيث ساموه الحضور والبيعة ، وإنه قال - وهو يشير إلى القبر - : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي »(3) » . وأنه قال : « واجعفراه ! ولا جعفر لي اليوم ، واحمزتاه ! ولا حمزة لي اليوم » .
وقد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة [ كذا ] في ما تقدّم .. إلى أن قال - بعد ادّعاء عدم وجود النصّ على الخلافة - : فإن قالت الإمامية : كان يخاف القتل لو ذكر ذلك . فقيل لهم: فهلاّ يخاف القتل وهو يعتل ويدفع ليبايع .. وهو يمتنع ويستصرخ تارة بقبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتارة بعمّه حمزة وأخيه جعفر وهما ميتان ، وتارة بالأنصار ، وتارة ببني عبد مناف ..
ويجمع الجموع في داره ويبثّ الرسل والدعاة ليلاً ونهاراً إلى الناس يذكّرهم فضله وقرابته .
ص: 197
ويقول للمهاجرين : خصمتم الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا أخصمكم بما خصمتم به الأنصار ؛ لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة فأنا أقرب منكم ..
وهلاّ خاف من هذا الامتناع ومن هذا الاحتجاج ومن الخلوة في داره بأصحابه ومن تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذ لمن عُقدت له .
وكل هذا إذا تأمّله المنصف علم أن الشيعة أصابت في أمر وأخطأت في أمر ، وأما الأمر الذي أصابت فيه فقولها : إنه امتنع وتلكّأ وأراد الأمر لنفسه .. وأما الأمر الذي أخطأت فيه فقولها : إنه كان منصوصاً عليه نصّاً جليّاً بالخلافة تعلمه الصحابة كلّها(1) أو أكثرها ، وإن ذلك النصّ خولف طلباً للرياسة الدنيوية وإيثاراً للعاجلة ، وإن حال المخالفين للنصّ لا تعدو أحد أمرين ؛ إما الكفر أو الفسق .. .(2)
[ 52 ]وقال - عقيب رواية تدلّ على التأخير في تجهيز النبي صلى الله عليه و آله - : أنا أعجب من هذا ؛ هب أنّ أبا بكر ومن معه اشتغلوا بأمر البيعة ، فعليّ بن أبي طالب والعباس وأهل البيت بماذا اشتغلوا حتى يبقى النبي صلى الله عليه و آله مسجّى بينهم ثلاثة أيام بلياليهنّ لا يغسّلونه ولا يمسّونه .. ؟!
فكيف يبقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ميّتاً يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء لا يعلم به أبو بكر .. وبينهما غلوة ثلاثة أسهم ؟!
وكيف يبقى طريحاً بين أهله ثلاثة أيام لا يجترئ أحد منهم أن يكشف عن وجهه ، وفيهم علي بن أبي طالب وهو روحه بين جنبيه ، والعباس عمّه القائم مقام أبيه ، وابنا فاطمة وهما كولديه ، وفيهم فاطمة بضعة منه .. أفما كان في هؤلاء من
ص: 198
يشكف عن وجهه .. ولا من يفكّر في جهازه ؟ !
أنا لا أُصدّق ذلك ولا يسكن قلبي إليه ! .. والصحيح أن دخول أبي بكر إليه وكشفه عن وجهه ، وقوله ما قال إنما كان بعد الفراغ من البيعة ، وإنهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الأُخرى .
وبقي الإشكال في قعود علي عليه السلام عن تجهيزه ، إذا كان أُولئك مشتغلين بالبيعة .. فما الذي شغله هو ؟!
فأقول : يغلب على ظنّي - إن صح ذلك - أن يكون قد فعله شناعةً على أبي بكر وأصحابه ، حيث فاته الأمر واستؤثر عليه به ، فأراد أن يتركه
صلى الله عليه و آله بحاله لا يحدث في جهازه أمراً ، ليثبت عند الناس أن الدنيا شغلتهم عن نبيهم ثلاثة أيام .. حتى آل أمره إلى ما ترون ! ..
وقد كان عليه السلام يتطلّب الحيلة في تهجين أمر أبي بكر - حيث وقع في السقيفة ما وقع - بكل طريق ، ويتعلّق بأدنى سبب من أُمور كان يعتمدها ، وأقوال كان يقولها ، فلعله
هذا من جملة ذلك .
أو لعله - إن صحّ ذلك - فإنما تركه صلى الله عليه و آله بوصية منه إليه وسرٍّ كانا يعلمانه في ذلك .. .(1)
[ 53 ]وقال أيضاً : واعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال الحديث وثقاتهم ، وما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه - وهو من الثقات الأُمناء عند أصحاب الحديث - .
وأما ما يرويه رجال الشيعة والأخباريون منهم في كتبهم من قولهم :
إنهما أهاناها وأسمعاها كلاماً غليظاً .. وإنّ أبا بكر رَقَّ لها حيث لم يكن عمر حاضراً فكتب لها بفدك كتاباً ؛ فلمّا خرجت به وجدها عمر فمدّ يده إليه ليأخذه مغالبة . . فمنعته ، فدفع بيده في صدرها ، وأخذ الصحيفة فخرقها ، بعد أن تفل فيها
ص: 199
فمحاها ، وأنها دعت عليه فقالت : « بقر اللّه بطنك كما بقرت صحيفتي » .. فشيء لا يرويه أصحاب الحديث ولا ينقلونه ، وقدر الصحابة يجلّ عنه ، وكان عمر أتقى للّه وأعرف لحقوق اللّه من ذلك !! ..(1)
[ 54 ]وقال : وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة عليهاالسلام ؛ فقد تقدّم الكلام فيه . والظاهر عندي صحّة ما يرويه المرتضى والشيعة ولكن لاكلّ ما يزعمونه .. بل كان بعض ذلك . وحق لأبي بكر أن يندم ويتأسّف على ذلك ، وهذا يدلّ على قوّة دينه وخوفه من اللّه تعالى .. فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعناً عليه !!(2)
[ 1/54 ]وقال : ... فقد بيّنا أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة .(3)
[ 55 ]وقال : وأمّا إخفاء القبر وكتمان الموت وعدم الصلاة .. وكل ما ذكره المرتضى فيه ، فهو الذي يظهر ويقوى عندي ؛ لأن الروايات به أكثر وأصحّ من غيرها ، وكذلك القول في موجدتها وغضبها .. .(4)
وتقدّمت لابن أبي الحديد الروايات المرقّمة ب- : [ 2 ] ، [ 3 ] ، [ 6 ] ، [ 7 ] ، [ 8 ]، [ 10 ] ، [ 20 ] إلى [ 29 ] . وتأتي له الروايات المرقّمة ب- : [ 83 ] ، [ 130 ] ، [ 161 ] .
يأتي له الرواية المرقّمة ب- : [ 60 ] .
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 1 ] و[ 2 ] .
ص: 200
[ 56 ]روى ضمن رواية تقدّم ذكرها(1) عن النبي صلى الله عليه و آله : « .. وإنّي لمّا رأيتها ، ذكرت ما يصنع بها بعدي .. كأنّي بها وقد دخل الذلّ بيتها ، وانتهكت حرمتها ، وغُصبت حقّها ، ومُنعت إرثها ، وكُسرت جنبها ، وأسقطت جنينها .. وهي تنادي : يا محمداه ! .. فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث ... ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة ... فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة ، فأقول عند ذلك :
اللّهمّ العن من ظلمها ، وعاقب من غصبها ، وذلّل من أذلها ، وخلّد في نارك من ضرب جنبيها حتى ألقت ولدها .. فتقول الملائكة عند ذلك : آمين » .(2)
ورواه من الشيعة ؛ الشيخ الصدوق(3) (المتوفى 381)
والشيخ أبو جعفر محمّد بن القاسم الطبري(4) (القرن السادس)
وشاذان بن جبرئيل القمي(5) (المتوفى 660)
والشيخ حسن بن سليمان الحلّي(6) (القرن الثامن)
والشيخ الديلمي(7) (المتوفى 771)
[ 57 ]قال - بعد ذكر اعتراف أبي بكر بالهجوم ، نقلاً عن العلاّمة الحلّي
ص: 201
وقوله رحمه الله : وهذا يدلّ على إقدامه على بيت فاطمة عليهاالسلام عند اجتماع أمير المؤمنين عليه السلام والزبير وغيرهما فيه - :
.. غاية ما يقال : إنّه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال اللّه الذي يقسّمه!!(1)
وله كلام يأتي في الرقم : [ 84 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 30 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 8 ] .
تقدّمت له الرويات المرقّمة ب- : [ 7 ] ، [ 11 ] ، [ 40 ] .
[ 58 ]قال - عند ذكر أحمد بن محمّد بن السري بن يحيى المعروف ب- : ابن أبي دارم - : قال محمّد بن أحمد بن حماد الكوفي - في ما قال - : .. ثم كان في آخر أيامه
كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب . حضرته ورجل يقرأ عليه : إنّ عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن .(2)
ورواه ابن حجر العسقلاني(3) (المتوفى 852)
ص: 202
وتقدّمت للذهبي الروايتان المرقّمتان ب- : [ 10 ] و [ 35 ] ، ويأتي له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 60 ] ، [ 84 ] .
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 11 ] و [ 37 ] ، ويأتي له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 60 ] و [ 85 ] .
تقدّمت له الروايات المرقّمة ب- : [ 2 ] ، [ 10 ] ، [ 35 ] .
[ 59 ]قال - بعد ذكر تخلّف بني هاشم وجماعة من الصحابة عن البيعة - : ثمّ إنّ عمر جاء إلى بيت عليّ ليحرقه على من فيه فلقيته فاطمة عليهاالسلام . فقال : ادخلوا في ما دخلت فيه الأُمّة ..(1)
[ 60 ]وقال - في حوادث سنة 592 - : وكتب الأفضل إلى الخليفة الإمام
الناصر - يشكو من عمّه أبي بكر العادل ومن أخيه عثمان - :
مولاي إنّ أبا بكر وصاحبه عثمان *** قد أخذا بالظلم حقّ عليّ
فانظر إلى حظّ هذا الإسم كيف لقي *** من الأواخر ما لاقى من الأُول
(فأجابه الناصر العباسي) :
غصبوا عليّاً حقّه إذ لم يكن *** بعد النبي له بيثرب ناصر
فاصبر فإنّ غداً عليه حسابهم *** وابشر فناصرك الإمام الناصر(2)
ص: 203
ورواه ابن خلّكان(1) (المتوفى 681)
والذهبي(2) (المتوفى 748)
والصفدي(3) (المتوفى 764)
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 6 ] و[ 7 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 37 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 58 ] . وله كلام يأتي في الرقم : [ 85 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمتان ب- : [ 6 ] و[ 7 ] .
[ 61 ]بيان الكشف : إنه روي أن لفاطمة عليهاالسلام كان بيتاً ولها باب إلى المسجد ، وقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنه قال : « لا يجوز الباب على المسجد » ، فأمر بقلع باب بيتها حتى يتركوا البيت أو سدّوا تلك الباب . م ن .(4)
ص: 204
ورواه المحققّ الخواجوئي(1) (المتوفى 1173)
أقول : كأنّه غفل أو تغافل عن الحديث المتّفق عليه بين الفريقين الدالّ على أنّه صلى الله عليه و آلهأمر بسدّ الأبواب إلاّ باب أمير المؤمنين عليه السلام بأمر اللّه تعالى لا من قِبَل نفسه .(2)
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 12 ] .
تقدّمت له الروايات المرقّمة ب- : [ 2 ] ، [ 10 ] ، [ 11 ] ، [ 35 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 1 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 12 ] .
تقدّمت له الروايات المرقّمة ب- : [ 2 ] ، [ 10 ] ، [ 11 ] ، [ 35 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 1 ] .
ص: 205
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 11 ] .
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 1 ] و[ 10 ] ، ويأتي كلامه في رقم : [ 86 ] .
[ 62 ]قال - ما ترجمته - ومن أهمّ ما وقع في تلك الأيّام اجتماع الزبير
وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة الزهراء عليهاالسلام للتشاور في كيفية نقض خلافة أبي بكر .. وواجه الشيخان هذه المحاولة بشكل فني صحيح .. وسعوا لتدارك ما حصل لعلي عليه السلاممن الانقباض . والذين دوّنوا هذه القضايا ذكروا أموراً وتغافلوا عن غيرها ، وأنا أذكر عدّة روايات كي يتضح بها المقام .. ثم ذكر ما رواه ابن أبي شيبة عن أسلم وقد تقدّم في الرقم : [ 11 ] .
وأورد هذه الرواية أيضاً في مآثر عمر ، وقال : بإسناد صحيح على شرط الشيخين .(1)
[ 63 ]قال في الردّ على الطعن الثاني من مطاعن عمر : إنما هدّد عمر من التجأ إلى بيت فاطمة عليهاالسلام بزعم أنه ملجأ وملاذ للخائنين ، فجعلوه مثل حرم مكة المكرمة ، وإنما اجتمعوا للفتنة والفساد ، وللتشاور في نقض خلافة أبي بكر .. والحقّ أن فاطمة عليهاالسلام كانت تكره اجتماعهم في بيتها ، ولكنّها لحسن خُلقها
ص: 206
لم تمنعهم من اجتماعهم في دارها صريحاً .. فلمّا تبيّن ذلك لعمر هدّد الجماعة بإحراق البيت عليهم !! ..(1)
[ 64 ]قال : .. عندما علمت الزهراء عليهاالسلام بما حدث في اجتماع سقيفة بني ساعدة - وأبوها سيّد المرسلين لم يدفن بعد - بكت بكاءً حارّاً حتى أنه لمّا جاءها
بعض الصحابة - وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - معزّين [ !!! (2)] قالت : « تركتم رسول اللّه صلى الله عليه و آلهجنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ولم تستأمرونا ..» .
وقد كانت الزهراء عليهاالسلام ترى أنّ زوجها الإمام علي - كرّم اللّه وجهه في الجنّة - أحقّ الناس بالخلافة ... كما كان بنو هاشم جميعاً وجمهرة من أهل المدينة يرون أن الإمام علي أحق الناس بخلافة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومن ثَمّ فقد خرج الإمام يحمل فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله على دابة ليلاً في مجالس الأنصار، تسألهم النصرة .. .(3)
[ 65 ]قال : فأنت تعلم كيف بويع أبو بكر .. وكيف رأى عمر أن بيعته كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها ... على أنّه (أمير المؤمنين علي عليه السلام) لم يسرع إلى بيعة أبي بكر وإنما تلبث وقتاً غير قصير ، ولعلّه وجد على أبي بكر كما وجدت عليه فاطمة عليهاالسلام .. .(4)
ص: 207
[ 66 ]قال : وحاول الصحابة إكراه علي عليه السلام على مبايعة أبي بكر ، فبكت فاطمة عليهاالسلام وزجرت أبا بكر وأعلنت سخطها عليه وعلى عمر ، ولم بيايع علي عليه السلام
أبا بكر بالخلافة إلاّ بعد أن توفّيت .(1)
[ 67 ]وقال : إنّ عليّ بن أبي طالب وقومه والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه قد اعتزلوا في بيت فاطمة وامتنعوا عن مبايعة أبي بكر ، فخرج إليهم عمر بن الخطاب في جماعة من الصحابة وأرغموا بني هاشم والزبير على مبايعة أبي بكر .. .(2)
وتقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 12 ] .
[ 68 ]قال : وفي رواية أُخرى : إن عمر قال لعلي عليه السلام : إن لم تبايع أبا بكر لأحرقنّ دارك !!
قال علي عليه السلام : « أو تحرقها .. وفيها ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ »
قال : أحرقها وفيها ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... ثم ذكر اشعار محمّد حافظ إبراهيم .(3)
[ 69 ]قال : واجتمعت جموعهم - آونةً في الخفاء وأُخرى على ملأ - يدعون إلى ابن أبي طالب لأنّهم رأوه أولى الناس بأن يلي أُمور الناس ، ثمّ تألّبوا حول داره يهتفون باسمه ويدعونه أن يخرج إليهم ليردّوا عليه تراثه المسلوب .. فإذا المسلمون أمام هذا الحدث مخالف أو نصير . وإذا بالمدينة حزبان ، وإذا بالوحدة
ص: 208
المرجوّة شقّان أوشكا على انفصال ، ثمّ لا يعرف غير اللّه ما سوف تؤول إليه بعد هذا الحال .. فهلاّ كان عليّ - كابن عبادة - حريّاً في نظر ابن الخطّاب بالقتل حتّى لا تكون
فتنة ولا يكون انقسام ؟!
كان هذا أولى بعنف عمر إلى جانب غيرته على وحدة الإسلام ! وبه تحدّث الناس ولهجت الألسن كاشفةً عن خلجات خواطر جرت فيها الظنون مجرى اليقين ، فما كان لرجل أن يجزم أو يعلم سريرة ابن الخطّاب ، ولكنّهم جميعاً ساروا وراء الخيال ، ولهم سند ممّا عرف عن الرجل دائماً من عنف ومن دفعات ، ولعلّ فيهم من سبق بذهنه الحوادث على متن الاستقراء فرأى بعين الخيال - قبل رأي العيون - ثبات عليّ أمام وعيد عمر لو تقدَّم هذا منه يطلب رضاءه وإقراره لأبي بكر بحقّه في الخلافة ، ولعلّه تمادى قليلاً في تصوّر نتائج هذا الموقف وتخيّل عقباه ، فعاد بنتيجة لازمة لا معدى عنها ، هي خروج عمر عن الجادّة ، وأخذه هذا المخالف العنيد بالعنف والشدّة !
وكذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطّاب ذلك النهار ، وهو يسير في جمع من صحبه ومعاونيه إلى دار فاطمة، وفي باله أن يحمل ابن عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إن طوعاً
وإن كرهاً على إقرار ما أباه حتّى الآن ، وتحدّث أُناس بأنّ السيف سيكون وحده متن الطاعة ! .. وتحدّث آخرون بأنّ السيف سوف يلقى السيف ! .. ثمّ تحدّث غير هؤلاء وهؤلاء بأنّ النّار هي الوسيلة المثلى إلى حفظ الوحدة وإلى الرضا والإقرار ! .. وهل على ألسنة الناس عقال يمنعها أن تروي قصّة حطب أمر به ابن الخطّاب فأحاط بدار فاطمة ، وفيها عليّ وصحبه ، ليكون عدة الإقناع أو عدة الإيقاع ؟ ..
على أنّ هذه الأحاديث جميعها ومعها الخطط المدبَّرة أو المرتجلة كانت كمثل الزبد ، أسرع إلى ذهاب ومعها دفعة ابن الخطّاب ! .. أقبل الرجل ، محنقاً مندلع الثورة على دار عليّ وقد ظاهره معاونوه ومن جاء بهم فاقتحموها أو أوشكوا على اقتحام ، فإذا وجه كوجه رسول اللّه يبدو بالباب حائلاً من حزن ، على قسماته خطوط آلام ، وفي عينيه لمعات دمع ، وفوق جبينه عبسة غضب فائر .. وحنق ثائر ..
ص: 209
وتوقّف عمر من خشية .. وراحت دفعته شعاعاً . وتوقف خلفه - أمام الباب - صحبه الذين جاء بهم ، إذ رأوا حيالهم صورة الرسول تطالعهم من خلال وجه حبيبته الزهراء ، وغضّوا الأبصار من خزي أو من استحياء ، ثم ولّت عنهم عزمات القلوب وهم يشهدون فاطمة تتحرّك كالخيال ، وئيداً وئيداً بخطوات المحزونة الثكلى ، فتقترب من ناحية قبر أبيها ... وشخصت منهم الأنظار وأرهفت الأسماع إليها ، وهي ترفع صوتها الرقيق الحزين ، النبرات تهتف بمحمّد الثاوي بقربها ، تناديه باكية مريرة البكاء :
« يا أبت رسول اللّه ! .. يا أبت رسول اللّه ! .. »
فكأنّما زلزلت الأرض تحت هذا الجمع الباغي ، من رهبة النداء ...
وراحت الزهراء ، وهي تستقبل المثوى الطاهر ، تستنجد بهذا الغائب الحاضر :
« يا أبت رسول اللّه ! .. ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب ، وابن أبي قحافة ! ؟ » .
فما تركت كلماتها إلاّ قلوباً صدعها الحزن ، وعيوناً جرت دمعاً ، ورجالاً ودّوا لو استطاعوا أن يشقّوا مواطئ أقدامهم ليذهبوا في طوايا الثرى مغيَّبين ..(1)
[ 70 ]وقال في موضع آخر : .. ثم مَنْ بني هاشم الذين سلبوا حقّهم في
تراث الرسول ، وودّ حقد قومهم لو تخطفتهم المصارع ، ووطئتهم الأقدام وهم نثائر وأشلاء ! .. من خلال كل هذه السنين السوالف تشقّ أحداثه اطباق الزمن إلى الخواطر ، كالقبس في الظلمة . كألسنة النار التي أوشكت أن تندلع حول البيت تهمّ بحصده وتدميره . كالصرخة المدويّة التي أطلقتها حينذاك فاطمة تجأر فيها بشكواها إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! ..
ولم يكن محمّد ، وهم يعدون هذه العدوة على دار زهرائه ، قد عزب ذكره من الأذهان . قبره ندى بدمعهم .. جسمه رطيب كأنّما لم تفارقه كل الحياة .. شبحه حاضر يملأ عليهم الفضاء ، كالشذا العاطر ، يغب الطيب وهو مائل لا يغيب ! .. ومع
ص: 210
ذلك فلم يكادوا يشيّعونه إلى الجدث ، حتى استرقّهم مسّ ، وملكهم هوس ، فانطلقوا إلى دار ابنته كمردة الشياطين ! .. معهم الشعل ، في أيديهم الحطب والحراب ، ظلالهم دمار ونار ...
الموجدة على علي ، والحسد لقدره ، والخشية أن يفسد اعتزاله هذه البيعة التي أدلوا بها إلى أبي بكر بغرّة من آل بيت الرسول ، قد حركتهم جميعاً على حرد نهاية المطاف فيه احتلاب صفي محمد تراث ابن عمه ، وإخراج الأمر من يمينه ، فلا تجتمع الرسالة والخلافة في هذه الدار من هاشم ، التي نبت قريش كلها بشرفها وسؤددها وعزّها إبان حقبة الجاهلية وبعد مولد الإسلام .. كرهوا لها أن تطولهم بالأمرة بعد سموّها بالنبوة ، وأن يقوم منها سيد بعد موت سيد ، وأن يستأثر رجالها بالحكم ، ويستأسروا بأقدارهم ومزاياهم هذه الجزيرة الفسيحة التي تعجّ بالقبائل كأنما عقمت عن إنجاب أمثالهم سائر البطون ! ..
وعلى ضياء شعلة مما طوق الدار ، ولون الأُفق ، وأشاع في الجوهرة ، لاح عمر وقد تغيّر وجهه بحنقه ، وتبلّل بعرقه ، وتخلّل الدخان لحيته ، ولمع حسامه في يمينه كجذوة النار .. إنه أحمس شديد في دينه ! أحمس شديد في عدله ! ولكنه اللحظة أحمس شديد في عنفه !! اندفاعه وهو يمّم الباب .. إنّه ليثير الجمهور ، ويهيّج الفتنة ، ويهيّئ الحطب ليؤرث الحريق ..
واستأسد وتنمّر ، وتصايح وزأر ، ثم اندفع من خلال الجموع كالشرر ، يدقّ البيت على ساكنيه .. ليس هذا بعمر ! .. ما هو بابن الخطاب ! .. الذي جرى بقدميه أعصار .. الذي انفجر بصدره بركان .. الذي استوى على لبّه مارد ! .. إنّه الآن مخمور الأمس ، عاد سيرته الأُولى كحاله من بضع سنين ، حين أعماه شركه ، وأضلّه هواه ، وختله عن الهدى غروره ، فسلّ حسامه وانطلق على دروب مكّة ينشد النبي ، ولسانه إذا ذاك يجري بكفره وخمره : لأقتلنّ محمّداً بسيفي هذا !(1) هذا الصابئ الذي فرّق أمر
ص: 211
قريش ، وعاب دينها ، وسفّه أحلامها ، وشتّت مجالسها، وضيّع بهارجها ! ..
واليوم أيضاً ختله اندفاعه ، وبقية بنفسه لا تزال راسبة من حسد الجدود ، وبغضاء الأجيال ... هوى كهوى يمضي به ، ويحيد بخطو الثابت ، فيغدو ويروح على لهيب المشاعل ، يوسوس لنفسه ، ويهتف بالعصبة التي تؤازره على هجم الدار :
والذي نفس عمر بيده ، ليخرجنّ أو لأحرقّنها على من فيها ! ..
قالت له طائفة خافت اللّه ، ورعت الرسول في عقبه :
يا أبا حفص ! إنّ فيها فاطمة ! ..
فصاح لا يبالي : وإن ! ..
واقترب وقرع الباب ، ثم ضربه واقتحمه .. وبدا له عليّ .. ورنّ حينذاك صوت الزهراء عليهاالسلام عند مدخل الدار ..
فإن هي إلاّ رنّة استغاثة أطلقتها : « يا أبت رسول اللّه ! .. » تستعدي بها الراقد بقربها في رضوان ربّه على عسف صاحبه ، حتى تبدّل العاتي المدلّ غير إهابه ، فتبدّد على الأثر جبروته ، وذات عنفه وعنفواته ، وودّ من خزي لو يخرّ صعقاً تبتلعه مواطئ قدميه ارتداد هدبه إليه ..
وعندما نكص الجمع ، وراح يفرّ كنوافر الضباء المفزوعة أمام صيحة
الزهراء عليهاالسلام ، كان علي عليه السلام يقلّب عينيه من حسرة وقد غاض حلمه ، وثقل همّه ، وتقبّضت أصابع يمينه على مقبض سيفه تهمّ من غيظه أن تغوض فيه .. .(1)
[ 71 ]وقال في كتابه الآخر : ثم تطالعنا صحائف ما أورده المؤرخون بالكثير من أشباه هذه الأخبار المضطربة التي لا نعدم أن نجد من بينها من عنف عمر ما يصل به إلى الشروع في قتل علي أو إحراق بيته على من فيه ..
فلقد ذُكر أنّ أبا بكر أرسل عمر بن الخطّاب ومعه جماعة بالنار والحطب إلى دار علي وفاطمة والحسن والحسين ليحرقوه بسبب الامتناع عن بيعته .
ص: 212
فلمّا راجع عمر بعض الناس قائلين : إن في البيت فاطمة ! قال : وإن !!!(1)
[ 72 ]قالت - بعد ذكر الاستنصار ليلاً واعتذار الناس ، وجواب فاطمة الزهراء عليهاالسلام : - .. ورجعت إلى بيتها فلزمته ، فما راعها حين أصبحت إلاّ ضجّة قد علت قريباً من الباب وتناهى إليها صوت عمر ، يحاول أن يدخل وهو يقسم منذراً : أن سوف يحمل علياً على البيعة اتقاء الفتنة ! وخوفاً من تفرّق كلمة المسلمين ! وانتثار قواهم !
فصاحت الزهراء بمل ء لوعتها : « با أبت ! يا رسول اللّه ! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة ؟ .. »
فضجّ الناس بالبكاء .(2)
[ 73 ]وقالت - عند ذكر السيّدة زينب الكبرى عليهاالسلام - : .. وما أحسبها نسيت مع الأيام ، مشهداً أليماً طالعته في صباها حينذاك ، يوم حاول عمر بن الخطاب أن يقتحم بيت الزهراء كي يحمل علياً على البيعة لأبي بكر خشية تفرّق الكلمة ! وتمزّق الشمل !!
فلمّا سمعت فاطمة أصوات القوم تقترب نادت بأعلى صوتها :
« يا أبت رسول اللّه ! .. » .. وذكرت نحو ما مرّ .(3)
[ 74 ]قال : ولم يكن بالزهراء من سقم كامن يُعرف من وصفه ، فإن العرب لوصّافون - وإن كان حولها من آل بيتها لمن أقدر العرب على وصف الصحّة
ص: 213
والسقم - ، فما وقفنا من كلامهم - وهم يصفونها في أحوال شكواها - على شيء يشبه أغراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب ، وكل ما يتبيّن من كلامهم :
انه الجهد ، والضعف ، والحزن ، وربما اجتمع إليها أعياء الولادة في غير موعدها ، إن صحّ أنّها أسقطت محسناً بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله كما جاء في بعض الأخبار !(1)
[ 75 ]قال :
وقولة لعليّ قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرّقت دارك لا أبقى عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها *** أمام فارس عدنان وحاميها(2)[ 76 ]قال الدمياطي عند شرح البيت الثاني :
المراد: إن علياً عليه السلام لا يعصمه من عمر سكنى بنت المصطفى صلى الله عليه و آله في هذه الدار!!(3)
[ 77 ]قال : لم يكن المانع لعلي عليه السلام عدم حضور السقيفة فحسب، أو اشتغاله بتجهيز رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولكنه يرى أنه أحقّ بهذا الأمر من سواه لما له من صهر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقرابته وسابقته وحسن بلائه في الإسلام ، وأن القوم قد غصبوه حقه ، وغلبوه على تراث رسول اللّه صلى الله عليه و آله . ويريد أن يبقى على إبائه حتى لا يكون للناس عليه حجّة بأنه نزل عن حقّه لغيره ، ثم يترقّب فرصة يعيد فيها الحق إلى نصابه .(4)
ص: 214
[ 78 ]قال : أفكانت بيعة العامّة هذه [ إشارة إلى بيعة يوم الثلاثاء ] بيعة إجماع من المسلمين لم يتخلّف عنها أحد ما تخلّف سعد بن عبادة عن بيعة الخاصّة بالسقيفة ؟
المشهور أن طائفة من كبار المهاجرين تخلّفوا عنها ، وأن علي ابن أبي طالب عليه السلام والعباس بن عبد المطلب من بني هاشم كانا من المتخلفين ...
وفي رواية ذكرها اليعقوبي وذكرها غيره من المؤرخين ، ولا يزال لها الشهرة : إنّ جماعة من المهاجرين والأنصار اجتمعوا مع علي بن أبي طالب عليه السلام في دار فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يدعون إلى مبايعته ، وبينهم خالد بن سعيد يقول : فواللّه ما في الناس أحد أولى بمقام محمّد صلى الله عليه و آله منك . وبلغ أبا بكر وعمر اجتماعهم بدار فاطمة عليهاالسلام فأتيا في جماعة حتى هجموا الدار ، وخرج علي عليه السلام ومعه السيف فلقيه عمر فصارعه فصرعه ! .. وكسر سيفه ! ودخلوا الدار . فخرجت فاطمة عليهاالسلام وقالت : « واللّه لتخرجنّ أو لأكشفنّ شعري ، ولأعجّنّ إلى اللّه » فخرجوا وخرج من كان في الدار ، وأقام القوم
أياماً ، ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع ولم يبايع علي عليه السلام إلاّ بعد وفاة فاطمة عليهاالسلام أي بعد ستّة أشهر .
ويروى : أن عمر بن الخطاب جمع الحطب حول دار فاطمة عليهاالسلام وأراد أن يحرقها أو يبايع علي عليه السلام أبا بكر .
ثم ذكر رواية ابن قتيبة الماضية تحت الرقم [ 12 ] ثم قال : هذا هو المشهور عن موقف علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه من بيعة أبي بكر .(1)
وتقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 10 ] و [ 12 ] .
ص: 215
[ 79 ]قال : وروى المؤرخون أن نزوة ظهرت على لسان عمر فطلب حرق الدار التي يقيم علي عليه السلام بمن فيها .(1)
[ 80 ]قال : ولقد حدث بعد ذلك أن خشي الفاروق الفتنة !! ... فكان لذلك من أشدّ الناس رغبة في توحيد كلمة المسلمين ! واكتساب بني هاشم إلى مبايعة الخليفة الأول ، وقد حاول فعلاً اقتحام بيت فاطمة عليهاالسلام ، يحاول بذلك أن يحمل علياً على البيعة ، فلمّا سمعت فاطمة عليهاالسلام أصوات الناس ، نادت بأعلى صوتها : « يا أبت ! رسول اللّه ! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » ..(2)
ثم ذكر أن عمر أحزنه ذلك فطلب من أبي بكر أن يذهبا لعيادتها .
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 30 ] و [ 37 ] .
تقدّمت له الروايات المرقّمة ب- : [ 18 ] ، [ 19 ] ، [ 40 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 12 ] .
ص: 216
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 12 ] .
تقدّمت له الروايتان المرقّمتان ب- : [ 12 ] و [ 30 ] .
تقدّمت له الروايات المرقّمة ب- : [ 10 ] ، [ 18 ] ، [ 19 ] .
تقدّمت له الرواية المرقّمة ب- : [ 2 ] .
وترى طائفة من أهل السنّة ينسبون القول بوقوع هذه الرزيّة الكبرى إلى الشيعة ، ولا بأس بذكر كلماتهم ، إذ يعرف بها شهرة هذا القول عند الشيعة .
[ 81 ]قال عند ذكر أولاد فاطمة عليهاالسلام : وولدت محسناً ، وهو الذي تزعم الشيعة أنها أسقطته من ضربة عمر .(1)
ص: 217
أبو الحسين الملَطي الشافعي ( المتوفى 377 ه . )(1)
[ 82 ]قال : .. فزعم هشام ...(2) أن أبا بكر مرّ بفاطمة عليهاالسلام فرفس في بطنها فأسقطت ، وكان سبب علّتها ووفاتها .. وأنّه غصبها فدكاً .(3)
والظاهر أن الخطأ في ذكر أبي بكر بدل عمر صدر عن الملطي دون هشام ، أو وقع التصحيف وكان في الأصل : أمر بفاطمة عليهاالسلام .
[ 83 ]قال : ومن جملة ما ذكروه من الطعن ادعاؤهم أنّ فاطمة عليهاالسلام لغضبها على أبي بكر وعمر أوصت أن لا يصلّيا عليها ، وأن تدفن سرّاً منهما فدفنت ليلاً وادّعوا برواية رووها عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام وغيره : أنّ عمر ضرب فاطمة بسوط وضرب الزبير بالسوط .. وذكروا أنّ عمر قصد منزلها وعلي والزبير والمقداد وجماعة ممّن تخلّف عن أبي بكر يجتمعون هناك ، فقال لها : ما أحد بعد أبيك أحبّ إليّ منك ، وأيم اللّه لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك ليحرقنّ عليهم .. فمنعت القوم من الاجتماع ، ولم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر .
.. إلى غير ذلك من الروايات البعيدة .(4)
إلى أن قال : ... وإنما يتعلّق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق وابن الرواندي .. فلا يتأوّلون مهما يوردون ، ليقع التنفير به ؛ لأن غرضهم القدح في الإسلام .(5)
ص: 218
وقال : وربّما قالوا : قد روي أنه قال : ليتني كنت تركت بيت فاطمة ولم أكشفه .(1)
وعنه الشريف المرتضى(2) (المتوفى 436)
وابن أبي الحديد(3) (المتوفى 656)
ومع إصراره على الأنكار هنا ، تراه في أشهر كتبه - أي شرح الأُصول الخمسة - اعترف بالهجوم على بيت فاطمة عليهاالسلام ، كما مرّ في رقم : [ 36 ] .
[ 84 ]قال : إنّما ينقل مثل هذا جهّال الكذّابين ، ويصدّقه حمقى العالمين الذين يقولون : إن الصحابة هدموا بيت فاطمة عليهاالسلام وضربوا بطنها حتى أسقطت .(4)
وذكر قريباً منه الذهبي (المتوفى 748) .(5)
والشيخ عبد اللّه الغُنيمان .(6)
[ 85 ]قال في ترجمة محمد بن عبد اللّه الواعظ البلخي : قال علي بن محمود : كان البلخي الواعظ كثيراً ما يدمن في مجالسه سبّ الصحابة، فحضرت مرّةً مجلسه فقال : بكت فاطمة عليهاالسلام يوماً من الأيام ، فقال لها علي عليه السلام : « يا فاطمة ! لم تبكين عليّ ؟ ! أأخذت فيئك ؟ أغصبتُك حقّك ؟ أفعلتُ .. ؟ أفعلتُ .. ؟ وعدّ أشياء مما يزعم الروافض أن الشيخين فعلاها في حقّ فاطمة عليهاالسلام .
ص: 219
قال : فضجّ المجلس بالبكاء من الرافضة الحاضرين .(1)
ورواه الصفدي (المتوفى 764) هكذا : قال علي عليه السلام يوماً لفاطمة عليهاالسلام وهي تبكي : لم تبكين ؟ أأخذت منك فدك ؟ أغصبت حقّك ؟ أفعلت كذا ؟ أفعلت كذا؟(2)
أقول : ولعلّ رواية البلخي لهذه الأُمور وأمثالها كانت سبب تضعيفه ورميه بالعظائم !
[ 86 ]قال - عند ذكر شبهات الشيعة - : ... ألا ترى إلى قولهم [ أي الشيعة ] : إن عمر قاد عليّاً عليه السلام بحمائل سيفه ، وحصر فاطمة عليهاالسلام فهابت فأسقطت ولداً اسمه : المحسن .(3)
وذكره العصامي المكّي(4) (المتوفى 1111)
وأحمد زيني دحلان(5) (المتوفى 1304)
وقريب منه ما ذكره الشيخ عبد اللّه بن فارس التازي المغربي(6) (القرن العاشر)
[ 87 ]قال : قول الإمامية : إن علياً عليه السلام كان في بيته فجاءه عمر ليأخذ منه البيعة لأبي بكر ، فناداه من الباب ، فخرجت إليه فاطمة عليهاالسلام فقالت - من داخل الباب - : يا عمر ! أي شيء تريد من علي عليه السلام ؟! وهو ساكن في بيته ، لا تعلق به بأحد ، وهو
ص: 220
ليس صاحب الحلّ والعقد [ !!! ] قاعد في داره ، فلا تتعرّض له . فغضب عمر لذلك فضرب الباب برجله وكسره ، ووقع من كسره رضّ في بطن فاطمة عليهاالسلام ، ووقع سقط من فاطمة عليهاالسلام اسمه : محسن ، ودخل الدار وأوقع حبلاً في عنق علي عليه السلام فجرّه إلى أبي بكر فأخذ منه البيعة لأبي بكر كرهاً وجبراً .(1)
(القرن الحادي عشر)
[ 88 ]قال : الخامس : .. إنهم قالوا : إنّ عمر بن الخطاب ذهب إلى دار علي - وهو مندس فيها من خوف عمر !! - فدخل عليه وأخرجه من الدار وقاده بحمايل سيفه ، وخافت فاطمة عليهاالسلام منه .. وأسقطت ولداً اسمه : المحسن .(2)
[ 89 ]روى ضمن - رواية تقدّم ذكرها(3) - عن النبي صلى الله عليه و آله : « إنك أوّل من يلحقني من أهل بيتي ، وأنت سيدة نساء أهل الجنّة ، وسترين بعدي ظلماً وغيظاً حتى تضربي ويكسر ضلع من أضلاعك .. لعن اللّه قاتلك ولعن اللّه الآمر والراضي والمعين والمظاهر عليك وظالم بعلك وابنيك(4) » .
[ 90 ]وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « .. فلمّا قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله مال الناس إلى
ص: 221
أبي بكر فبايعوه - وأنا مشغول برسول اللّه صلى الله عليه و آله بغسله ودفنه - ثم شغلت بالقرآن فآليتُ يميناً أن لا أرتدي إلاّ للصلاة حتى أجمعه في كتاب ففعلت ، ثم حملت فاطمة عليهاالسلاموأخذت بيدي الحسن والحسين عليهماالسلام فلم أدعْ أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلاّ ناشدتهم اللّه وحقّي ، ودعوتهم إلى نصرتي ، فلم يستجب لي من جميع الناس إلاّ اربعة رهط : الزبير ، وسلمان ، وأبوذر ، والمقداد ، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به ، أمّا حمزة ؛ فقتل يوم أُحد ، وأما جعفر ، فقتل يوم مؤتة ، وبقيت بين جلفين جافين ذليلين حقيرين العباس وعقيل ، وكانا قريبي العهد بكفر ، فأكرهوني وقهروني ، فقلت - كما قال هارون لأخيه - : ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي »(1) فلي بهارون أُسوة حسنة ، ولي بعهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إليّ حجّة قوّية ... إن القوم حين قهروني واستضعفوني وكادوا يقتلونني لو قالوا لي : نقتلك البتة .. لامتنعت [ كذا ] من قتلهم إيّاي ، ولو لم أجد غير نفسي وحدي ، ولكن قالوا : إن بايعت كففنا عنك وأكرمناك وقرّبناك وفضّلناك وإن لم تفعل قتلناك ، فلمّا لم أجد أحداً بايعتهم ، وبيعتي إياهم لا تحقّ لهم باطلاً ولا توجب لهم حقّاً » .(2)
ورواه عنه الشيخ الديلمي(3) (المتوفى 771)
[ 91 ]وقال سليم : .. فأغرم عمر بن الخطاب تلك السنة جميع عمّاله أنصاف أموالهم لشعر أبي المختار ولم يغرم قنفذ العدوي شيئاً .(4) فلقيت علياً - صلوات اللّه عليه - فسألته عمّا صنع عمر ، فقال : « هل تدري لم كفّ عن قنفذ ولم يغرمه شيئاً ؟ » قلت : لا ، قال : « لأنه هو الّذي ضرب فاطمة عليهاالسلام بالسوط حين جاءت
ص: 222
لتحول بيني وبينهم ، فماتت - صلوات اللّه عليها - وإن أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج » .(1)
[ 92 ]وروى أبان عن سليم قال : انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آلهليس فيها إلاّ هاشميّ غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمّد بن أبي بكر وعمر بن أبي سلمة وقيس بن سعد بن عبادة .
فقال العباس لعلي عليه السلام : ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذاً كما أغرم جميع عمّاله ؟!
فنظر علي عليه السلام إلى من حوله ، ثم اغرورقت عيناه بالدموع ، ثم قال : « شكر له ضربة ضربها فاطمة عليهاالسلام بالسوط فماتت وفي عضدها أثره كأنّه الدملج » .(2)
[ 93 ]وروى ابن أبي عياش عنه قال : كنت عند عبد اللّه بن عباس في بيته ومعنا جماعة من شيعة علي عليه السلام فحدّثنا ، فكان في ما حدّثنا أن قال :
يا إخوتي ! توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم توفي ، فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدّوا وأجمعوا على الخلاف .
واشتغل علي بن أبي طالب عليه السلام برسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته ، ثم أقبل على تأليف القرآن ، وشغل عنهم بوصيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولم يكن همّته الملك ، لما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله أخبره عن القوم ، فافتتن الناس بالذي افتتنوا به من الرجلين ، فلم يبق إلاّ علي عليه السلام وبنوهاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان ، في أُناس معهم يسير .
فقال عمر لأبي بكر : يا هذا ! إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته ، فأقسم عليه فجلس ، ثم قال : يا قنفذ ! انطلق فقل له : أجب أبا بكر ، فأقبل قنفذ فقال : يا علي ! أجب أبا بكر ، فقال علي عليه السلام : « إني لفي شغل عنه ،
ص: 223
وما كنت بالّذي أترك وصيّة خليلي وأخي وانطلق إلى أبي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور .. »
فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر ، فوثب عمر غضبان ، فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً ، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب علي - وفاطمة عليهاالسلام قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ، ونحل جسمها في وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله - فأقبل عمر حتّى ضرب الباب ثم نادى : يابن أبي طالب ! افتح الباب .
فقالت فاطمة عليهاالسلام : « يا عمر ! ما لنا ولك .. لا تدعنا وما نحن فيه ؟ »
قال : افتحي الباب وإلاّ أحرقنا عليكم .
فقالت : « يا عمر ! أما تتّقي اللّه عزّ وجلّ تدخل على بيتي وتهجم على داري ؟ »
فأبي أن ينصرف ، ثم عاد عمر بالنار فأضرمها في الباب ، فأحرق الباب ، ثم دفعه عمر ، فاستقبلته فاطمة عليهاالسلام وصاحت : « يا أبتاه ! يا رسول اللّه ! .. » فرفع السيف وهو في غمده فَوَجأ به جنبها ، فصرخت ، فرفع السوط فضرب به ذراعها ، فصاحت : « يا أبتاه ! »
فوثب علي بن أبي طالب عليه السلام فأخذ بتلابيب عمر ، ثمّ هزّه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته ، وهمّ بقتله ، فذكر قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وما أوصى به من الصبر والطاعة ،
فقال : « والذي أكرم محمّداً صلى الله عليه و آله بالنبوّة - يابن صهاك ! - لولا كتاب من اللّه سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي » .
فأرسل عمر يستغيث ، فأقبل الناس حتّى دخلوا الدار ، وسلّ خالد بن الوليد السيف ليضرب به علياً عليه السلام ، فحمل عليّ عليه السلام بسيفه ، فأقسم على عليّ ، فكفّ . وأقبل المقداد وسلمان وأبو ذر وعمّار وبريدة الأسلمي حتى دخلوا الدار أعواناً لعلي عليه السلام ، حتى كادت تقع فتنة، فأُخرج علي عليه السلام وتبعه الناس واتبعه سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار وبريدة ، وهم يقولون : ما أسرع ما خنتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! وأخرجتم الضغائن التي في صدوركم .
وقال بريدة بن الحصيب الأسلمي : يا عمر ! أتيت على أخي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ووصيّه وعلى ابنته فتضربها وأنت الذي تعرفك قريش بما تعرفك به ! فرفع خالد بن
ص: 224
الوليد السيف ليضرب بريدة - وهو في غمده - فتعلّق به عمر ومنعه من ذلك ، فانتهوا بعلي عليه السلامإلى أبي بكر ملبّباً ..(1)
ثمّ ذكر ابن عباس تهديدهم أمير المؤمنين عليه السلام بالقتل وإكراهه على البيعة ، كما يأتي عن سلمان تحت رقم [ 95 ] .
[ 94 ]وعن عبد اللّه بن عباس - بعد ذكر قصدهم قتل أمير المؤمنين عليه السلام وندامة أبي بكر في الصلاة ، وقوله له : يا خالد ! لا تفعل ما أمرتك - :
وجاء الزبير والعباس وأبو ذر والمقداد وبنو هاشم واخترطوا السيوف وقالوا : واللّه لا ينتهون حتى يتكلم ويفعل ، واختلف الناس وماجوا واضطربوا ، وخرجت نسوة بني هاشم فصرخن وقلن : يا أعداء اللّه ! .. ما أسرع ما أبديتم العدواة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته ! ولطال ما أردتم هذا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلم تقدروا عليه ، فقتلتم ابنته بالأمس ، ثم تريدون اليوم أن تقتلوا أخاه وابن عمّه ووصيّه وأبا ولده ، كذبتم وربّ الكعبة ، وما كنتم تصلون إلى قتله .. حتى تخوّف الناس أن تقع فتنة عظيمة .(2)
[ 95 ]وروى سليم ، عن سلمان رضوان اللّه عليه : .. قال عمر لأبي بكر : أرسل إلى علي فليبايع ، فإنا لسنا في شيء حتى يبايع ، ولو قد بايع أمنّاه ، فأرسل إليه
أبو بكر : أجب خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأتاه الرسول فقال له ذلك ، فقال له علي عليه السلام : « سبحان اللّه ! ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه ! إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أنّ اللّه ورسوله لم يستخلفا غيري » .
وذهب الرسول فأخبره بما قال له ، فقال : اذهب فقل له : أجب أمير المؤمنين أبا بكر ! .. فأتاه فأخبره بما قال .
ص: 225
فقال علي عليه السلام : « سبحان اللّه ! ما - واللّه - طال العهد فينسى ، واللّه إنه ليعلم أنّ هذا الاسم لا يصلح إلاّ لي ، ولقد أمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وهو سابع سبعة - ، فسلّموا عليّ بإمرة المؤمنين ، فاستفهم هو وصاحبه من بين السبعة ، فقالا : أمر من اللّه ورسوله ؟ فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله : نعم حقاً من اللّه ورسوله ، إنّه أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وصاحب لواء الغرّ المحجّلين ، يقعده اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة على الصراط ، فيدخل أولياءه الجنّة وأعداءه النار .. » فانطلق الرسول فأخبره بما قال ، فسكتوا عنه
يومهم ذلك .
قال : فلمّا كان الليل حمل علي عليه السلام فاطمة عليهاالسلام على حمار ، وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين عليهماالسلام ، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلاّ أتاه في منزله ، فناشدهم اللّه حقّه ودعاهم إلى نصرته ، فما استجاب منهم رجل غيرنا أربعة ، فإنّا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا ، وكان الزبير أشدّنا بصيرة في نصرته .
فلمّا أن رأى على عليه السلام خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه ، لزم بيته .
فقال عمر لأبي بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع ؟ فإنه لم يبق أحد إلاّ وقد بايع ، غيره وغير هؤلاء الأربعة ، وكان أبو بكر أرقّ الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غوراً ، والآخر أفظّهما وأغلظهما وأجفاهما ، فقال له أبو بكر : من نرسل إليه ؟ فقال عمر : نرسل إليه قنفذاً ، فهو رجل فظّ غليظ جاف من الطلقاء ، أحد بني عدي بن كعب ، فأرسله وأرسل معه أعواناً وانطلق فاستأذن على عليّ عليه السلام فأبى أن يأذن لهم ، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر - وهما جالسان في المسجد والناس حولهما - ، فقالوا : لم يؤذن لنا ، فقال عمر : اذهبوا فإن أذن لكم وإلاّ فادخلوا بغير
إذن ! .. فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت فاطمة عليهاالسلام : « أُحرّج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن .. » فرجعوا وثبت قنفذ ، فقالوا : إنّ فاطمة قالت .. كذا وكذا ، فتحرّجنا أن
ندخل بيتها بغير إذن .
فغضب عمر ، وقال : ما لنا وللنساء ؟ ثم أمر أُناساً حوله بتحصيل الحطب ، وحملوا
ص: 226
الحطب وحمل معهم عمر ، فجعلوه حول منزل عليّ عليه السلام - وفيه علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام- ثم نادى عمر - حتى أسمع علياً وفاطمة - : واللّه لتخرجنّ - يا علي ! - ولتبايعنّ خليفة رسول اللّه وإلاّ أضرمت عليك النار .
فقامت فاطمة عليهاالسلام فقالت : « يا عمر ! ما لنا ولك ؟ » فقال : افتحي الباب وإلاّ أحرقنا عليكم بيتكم ، فقالت : « يا عمر ! أما تتّقي اللّه تدخل على بيتي ؟ »
فأبي أن ينصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ، ثم دفعه فدخل ، فاستقبلته فاطمة عليهاالسلام وصاحت : « يا أبتاه ! يا رسول اللّه ! » فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها ، فصرخت : « يا أبتاه ! » فرفع السوط فضرب به ذراعها ، فنادت : « يا رسول اللّه ! لبئس ما خلّفك أبو بكر وعمر » .
فوثب عليّ عليه السلام فأخذ بتلابيبه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله ، فذكر قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وما أوصاه به ، فقال : « والّذي كرّم محمداً صلى الله عليه و آله بالنبوة - يابن صهاك ! - لولا كتاب من اللّه سبق وعهد عهده إليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعلمت أنك لا تدخل بيتي .. »
فأرسل عمر يستغيث ، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وثار علي عليه السلام إلى سيفه ، فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوّف أن يخرج علي عليه السلام بسيفه - لما قد عرف من بأسه وشدّته - ، فقال أبو بكر لقنفذ : ارجع ، فإن خرج وإلاّ فاقتحم عليه بيته ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النار .. فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وثار عليّ عليه السلام إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه ، فتناول بعض سيوفهم فكاثروه [ كذا ] .
فألقوا في عنقه حبلاً ، وحالت بينهم وبينه فاطمة عليهاالسلام عند باب البيت ، فضربها قنفذ ... بالسوط ، فماتت حين ماتت وإنّ في عضدها مثل الدملج من ضربته ... ، ثم انطلقوا بعلي عليه السلام يُتَلُّ ،(1) حتى انتهي به إلى أبي بكر ، وعمر قائم بالسيف على رأسه .
وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، والمغيرة بن شعبة ، وأُسيد بن خضير ، وبشير بن سعد .. وسائر الناس حول أبي بكر عليهم السلاح .
ص: 227
قال : قلت لسلمان : أدَخَلوا على فاطمة بغير إذن ؟
قال : إي واللّه وما عليها خمار ، فنادت : « يا أبتاه ! يا رسول اللّه ! فلبئس ما خلّفك أبو بكر وعمر وعيناك لم تتَفَقَّأ في قبرك .. » - تنادي بأعلى صوتها - فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون !!! ما فيهم إلاّ باك ، غير عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ، وعمر يقول : إنّا لسنا من النساء ورأيهنّ في شيء .
قال : فانتهوا بعلي عليه السلام إلى أبي بكر ، وهو يقول : « أما واللّه لو وقع سيفي في يدي ، لعلمتم أنكم لم(1) تصلوا إلى هذا أبداً ، أما واللّه ما ألوم نفسي في جهادكم ، ولو كنت أستمسك من أربعين رجلاً لفرّقت جماعتكم ، ولكن لعن اللّه أقواماً بايعوني ثم خذلوني .. »
ولمّا أن بصر به أبو بكر صاح : خلّو سبيله ، فقال علي عليه السلام : « يا أبا بكر ! ما أسرع ما توثّبتم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، بأيّ حق .. وبأيّ منزلة .. دعوت الناس إلى بيعتك ؟! ألم تبايعني بالأمس بأمر اللّه وأمر رسول اللّه ؟ »
وقد كان قنفذ ... ضرب فاطمة عليهاالسلام بالسوط ، حين حالت بينه وبين زوجها ، وأرسل إليه عمر : إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها ، فألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ، ودفعها
فكسر ضلعها من جنبها ، فألقت جنيناً من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت - صلى اللّه عليها - من ذلك شهيدة .
قال : ولمّا انتهي بعلي عليه السلام إلى أبي بكر انتهره عمر ، وقال له : بايع ودع عنك هذه الأباطيل ! .. فقال له علي عليه السلام : « فإن لم أفعل فما أنتم صانعون ؟ » قالوا : نقتلك ذلاًّ وصغاراً ! ..
فقام عمر فقال لأبي بكر - وهو جالس فوق المنبر - : ما يجلسك فوق المنبر ؟ هذا جالس محارب ، لا يقوم فيبايعك ، أو تأمر به فنضرب عنقه ؟
والحسن والحسين عليهماالسلام قائمان ، فلمّا سمعا مقالة عمر بكيا ، فضمّهما إلى صدره ،
ص: 228
فقال : « لا تبكيا .. فواللّه ما يقدران على قتل أبيكما .. »
ثم قال : قم يابن أبي طالب فبايع ، فقال عليه السلام : « فإن لم أفعل ؟ » قال : إذاً واللّه نضرب عنقك .. فاحتجّ عليهم ثلاث مرّات ، ثم مدّ يده من غير أن يفتح كفّه فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك منه ، فنادى علي عليه السلام - قبل أن يبايع والحبل في عنقه - : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي » .. » .(1)
ورواه الشيخ الطبرسي (القرن السادس) مع اختلاف في بعض المواضع .(2)
وعماد الدين الطبري (القرن السابع) مع زيادات من سائر الروايات .(3)
وأبو سعيد حسن بن حسين الشيعي السبزواري (القرن الثامن) قريباً منه مرسلاً .(4)
وعلي بن داود الخادم الأسترآبادي(5) (القرن الحادي عشر)
والعلاّمة الملا مهدي النراقي (المتوفى 1209) مع زيادات .(6)
[ 96 ]وروى سليم عن طلحة بن عبيد اللّه ، ضمن كلام له خطاباً لأمير المؤمنين عليه السلام : .. يوم أتوه بك وفي عنقك حبل .(7)
ورواه الشيخ الطبرسي (القرن السادس) هكذا : يوم أتوه بك بعتل(8) [ تقاد ]وفي عنقك حبل ، فقالوا لك : بايع ..(9)
ص: 229
[ 97 ]قال - ما ترجمته - : قال النبي صلى الله عليه و آله : « اعلم يا علي ! اني إذ أرتحل عن هذه الدنيا الدنية ، فتنسى الأُمة ما يجب عليهم من حقوقي ، وأوّل من يخاصمك أبو بكر بن أبي قحافة .. ثم عمر ، فإنه يخرق كتاب فدك ، ويركل برجله بطن ابنتي فاطمة عليهاالسلام فيسقط المحسن عليه السلام .. ثم يجعلون الحبل في عنقك ويأتون بك إلى المسجد فيقال لك : بايع وإلاّ نقتلك .. ».(1)
أبو هاشم إسماعيل بن محمّد الحميري(2) ( المتوفى 173 ه . )
[ 98 ]قال :
ضربت واهتضمت من حقّها *** وأُذيقت بعده طعم السلع
قطع اللّه يدي ضاربها *** ويد الراضي بذاك المتبع
لا عفا اللّه له عنها ولا *** كفّ عنه هول يوم المطلع(3)
ونسب ابن شهرآشوب المازندراني (المتوفى 588) الأبيات إلى العوني .(4)
[ 99 ]وقال الحميري :
توفّي النبيّ عليه السلام *** فلمّا تغيب في الملحد
أزالوا الوصية عن أقربيه *** إلى الأبعد الأبعد الأبعد
وكادوا مواليه من بعده *** فيا عين جودي ولا تجمدي(5)
ص: 230
وقال :
إنها أسرع أهل بيته *** ولحاقاً بي فلا تفشي الجزع
فمضى واتبعته والها *** بعد غيض(1) جرّعته ووجع(2)
96 - علي بن جعفر العريضي(3) ابن الإمام الصادق عليه السلام (القرن الثالث)
[ 100 ]عن أخيه موسى بن جعفر الكاظم عليهماالسلام :
« إنّ فاطمة صدّيقة شهيدة .. » .(4)
ورواه ثقة الإسلام الكليني(5) (المتوفى 329)
[ 101 [ ] روى في كتاب الوصيّة ] ضمن رواية تقدّم ذكرها(6) عن النبي صلى الله عليه و آله : « يا عليّ ! ما أنت صانع لو قد تأمّر القوم عليك بعدي ، وتقدّموا عليك ، وبَعث إليك طاغيتُهم يدعوك إلى البيعة ثم لُبّبتَ بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل .. مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً ، وبعد ذلك ينزل بهذه [ أي بفاطمة عليهاالسلام ]الذلّ ؟! »
رواه عنه الشيخ هاشم بن محمد(7) (القرن السادس)
والسيد علي بن طاووس(8) (المتوفى 664)
ص: 231
وروى العلاّمة البياضي (المتوفى 877) قطعة منها .(1)
[ 102 ]وفي رواية - تقدّم ذكرها(2) - عن النبيّ صلى الله عليه و آله : « .. إنّما بكائي وغمّي وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي ، فقد أجمع القوم على ظلمكم ... أما واللّه لينتقمنّ اللّه ربّي وليغضبنّ لغضبك ، فالويل .. ثم الويل .. ثم الويل .. للظالمين » ثم بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
رواه عنه الشيخ هاشم بن محمّد(3) (القرن السادس)
والسيد علي بن طاووس(4) (المتوفى 664)
وروى العلاّمة البياضي(5) (المتوفى 877) قطعة منها .
[ 103 ]وروى في ضمن رواية تقدّم ذكرها ،(6) عن النبيّ صلى الله عليه و آله : « يا علي ! ويل لمن ظلمها .. وويل لمن ابتزّها حقها .. وويل لمن هتك حرمتها .. وويل لمن أحرق بابها .. وويل لمن آذى خليلها .. وويل لمن شاقّها وبارزها .. »
رواه عنه الشيخ هاشم بن محمّد(7) (القرن السادس)
والسيد علي بن طاووس(8) (المتوفى 664)
وروي العلاّمة البياضي (المتوفى 877) قطعة منها .(9)
[ 104 ]وفي رواية تقدّم ذكرها ،(10) عن النبيّ صلى الله عليه و آله : « يا علي ! تفي بما فيها ..
ص: 232
على الصبر منك ، وعلى كظم الغيظ ، وعلى ذهاب حقي(1) وغصب خمسك ، وانتهاك حرمتك . » فقال : « نعم يا رسول اللّه ! .. ».
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل عليه السلام يقول للنبي صلى الله عليه و آله : يا محمّد ! عرّفه أنّه ينتهك(2) [ كذا ] الحرمة وهي حرمة اللّه وحرمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط .. »
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل ، حتى سقطت على وجهي ،(3) وقلت : نعم ، قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة ، وعطّلت
السنن ، ومزّق الكتاب ، وهدمت الكعبة ، وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط .. صابراً محتسباً أبداً حتى أقدم عليك » .
« ثم دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين ، فقالوا مثل قوله .. فختمت الوصية» .
فقلت : أكان في الوصية توثّبهم وخلافهم على أمير المؤمنين عليه السلام ؟
فقال : « نعم - واللّه - شيئاً شيئاً .. وحرفاً حرفاً .. أما سمعت قول اللّه عزّ وجلّ : « إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ » ؟(4) واللّه لقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين وفاطمة عليهماالسلام : « أليس قد فهمتما ما تقدّمت به إليكما وقبلتماه ؟ » فقالا : « بلى وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا » .
رواه عنه ثقة الإسلام الكليني(5) (المتوفى 329)
ص: 233
والشيخ هاشم بن محمّد(1) (القرن السادس)
والسيد علي بن طاووس(2) (المتوفى 664)
وروى العلاّمة البياضي (المتوفى 877) قطعة منها .(3)
[ 105 ]وروي عيسى بن المستفاد ، عن أبي الحسن الكاظم ، عن أبيه عليهماالسلام ، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « .. ألا إنّ فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي ، فمن هتكه فقد هتك حجاب اللّه » ، قال عيسى : فبكى أبو الحسن عليه السلام طويلاً ، وقطع بقيّة كلامه وقال :
« هتك واللّه حجاب اللّه .. هتك واللّه حجاب اللّه .. هتك واللّه حجاب اللّه .. يا أُمّه ! - صلوات اللّه عليها - » .
رواه عنه السيد علي بن طاووس(4) (المتوفى 664)
[ 106 ]قال : وقد فُعل بفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما دعاها إلى الوصية بأن تدفن ليلاً ولا يصلّي عليها أحد من أُمّة أبيها إلاّ من سمّته .. فلو لم يكن في الإسلام مصيبة ، ولا على أهله عار ولا شنار ، ولا حجة فيه لمخالف لدين الإسلام الاّ ما لحق فاطمة عليهاالسلام حتى مضت غضبى على أُمة أبيها ودعاها ما فعل بها إلى الوصية بأن لا يصلّي عليها أحد منهم - فضلاً عما سوى ذلك - لكان عظيماً فظيعاً منبّهاً لأهل الغفلة إلاّ من طبع اللّه على قلبه وأعماه ، لا ينكر ذلك ولا يستعظمه ولا يراه شيئاً ، بل يزّكي المضطرّ لها إلى هذه الحالة ويفضّله عليها وعلى بعلها وولدها ويعظّم شأنه عليهم ، ويرى أن الذي فعل بها الحقّ ، ويعدّه من محاسنه !!(5)
ص: 234
[ 107 ]روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل : قال النبي صلى الله عليه و آله : « يا فاطمة ! ... فماترين اللّه صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك إذا أفلجت حجّته على الخلائق .. ؟! »(1)
( المتوفى 236 ه . )
[ 108 ]قال في قصيدة العاملة :
إنّ عتيقاً وأبا حفص معا *** لأيّ أمر صنعا ما صنعا
أكثر قولي لم يصب فعلهما *** ولا أرى واللّه عذراً لهما(2)
البرقي(3) ( المتوفى 245 ه . )
[ 109 ]قال :
وكلّلا النار من بيت ومن حطب *** والمضرمان لمن فيه يسبّان
وليس في البيت إلاّ كل طاهرة *** من النساء وصدّيق وسبطان
فلم أقل غدرا ، بل قلت قد كفرا *** والكفر أيسر من تحريق ولدان
وكل ما كان من جور ومن فتن *** ففي رقابهما في النار طوقان(4)
ص: 235
وقال :
لأنّه ضارب الزهراء فاطمة *** وكسر(1) بابها ظلماً وعدوانا(2)
[ 110 ]قال : رويتم [ أي أنتم معشر العامّة ] عن إسحاق بن إبراهيم ... عن أبي حرب بن أبي الأسود ، قال : بعثني أبي إلى جرير [ جندب ] بن عبد اللّه البجلي(3) أسأله عن أمر ما [ عمّا ] حضر عن أبي بكر وعمر وعلي عليه السلام حين دعواه إلى البيعة . فقال : غلباه وأخذا منه حقه .. فكتب إليه أبي : لست أسألك عن رأيك ، اكتب إليّ بما حضرت وشهدت . قال : بُعث [ بعثا ] إلى عليّ فجيء به متلبّباً [ ملبّباً ] فلمّا حضر قالا له : بايع ، فقال : « إن لم أفعل ، فماذا تصنعون ؟ » قالوا : نقتلك ولؤماً [ وصغراً ]لك . قال : « إذاً أكون عبد اللّه وأخا رسوله صلى الله عليه و آله ! » قالوا له : أما عبد اللّه نعم وأما أخورسوله فلا .. فرجع يومئذ ولم يبايع .(4)
ورواه الطبري الإمامي(5) (المتوفى أوائل القرن الرابع)
ورواه من العامّة أبو جعفر العقيلي (المتوفى 322) مع إبهام وتحريف .(6)
وتقدّمت لفضل بن شاذان الرواية المرقّمة ب- : [ 10 ] .
ص: 236
[ 111 ]روى عن أحمد بن عمرو البجلي ، عن أحمد بن حبيب العامري ، عن
حمران بن أعين ، عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السلام قال : « واللّه ما بايع علي عليه السلام حتّى رأى الدخان قد دخل بيته » .(1)
رواه عنه الشريف المرتضى(2) (المتوفى 436)
والشيخ الطوسي(3) (المتوفى 460)
وابن شهر آشوب المازندراني(4) (المتوفى 588)
[ 112 ]وروى أبو إسحاق إبراهيم الثقفي في كتاب المعرفة عن زائدة بن
قدامة :(5) أنه خرج عمر في نحو من ستين رجلاً ، فاستأذن الدخول عليهم ، فلم يؤذن له .. فشغب وأجلب ، فخرج إليه الزبير مصلتاً سيفه ، ففرّ الثاني من بين يديه - حسب عادته ! - وتبعه الزبير ، فعثر بصخرة في طريقه فسقط لوجهه ، فنادى عمر : دونكم الكلب .. ، فأحاطوا به ، وأخذ سلمة بن أسلم سيفه فضربه على صخرة فكسره ، فسيق إليه الزبير سوقاً عنيفاً إلى أبي بكر حتى بايع كرهاً .
وعاد إلى الباب واستأذن : فقالت فاطمة عليهاالسلام : « عليك باللّه - إن كنت تؤمن باللّه - أن تدخل بيتي فإني حاسرة ! .. » فلم يلتفت إلى مقالها وهجم .
فصاحت :« يا أبه ! ما لقينا بعدك من أبي بكر وعمر .. » وتبعه أعوانه ، فطالبأمير المؤمنين عليه السلام بالخروج فلم يمتنع عليه لما تقدم من وصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وظنّ(6)
ص: 237
بالمسلمين عن الفتنة ، وكان غرضه المحاماة على الدين وحياطته و ... خرج معهم وخرجت الطاهرة في إثره ، وهي تقول لزفر : « يابن السوداء ! لأسرع ما أدخلت الذلّ على بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! »
قال : ولم تبق من بني هاشم امرأة إلاّ خرجت معها ، فلمّا رآها أبو بكر مقبلة هاب ذلك فقام قائماً وقال : ما أخرجك يا بنت رسول اللّه ؟ فقالت : « أخرجتني أنت وهذا ابن السوداء معك » . فقال الأول : يا بنت رسول اللّه ! لا تقولي هذا فإنه كان
لأبيك حبيباً . قالت : « لو كان حبيباً ما أدخل الذلّ بيته .. »
رواها الكلبي عن ابن عباس ؛
ومحمّد بن شهاب الزهري ؛(1)
وعبد اللّه بن العلا ؛(2)
عنهم ابن شهر آشوب المازندارني(3) (المتوفى 588)
ورواه العلاّمة المحقق المازندراني الخواجوئي(4) (المتوفى 1173)
[ 113 ]روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال : « لمّا أُخرج بعلي عليه السلام ملبّباً ، وقف عند قبر النبي صلى الله عليه و آله قال : ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي » .(5) قال : فخرجت يد من قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعرفون أنها يده ، وصوت يعرفون أنه صوته نحو أبي بكر : «يا هذا ! « أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً »(6)».
ص: 238
ورواه الشيخ المفيد(1) (المتوفى 413)
وابن شهر آشوب المازندراني(2) (المتوفى 588)
[ 114 ]قال : ... وأين الإجماع .. وبنو هاشم إليهم يرجع الشرف والذكر والقول في الجاهلية والإسلام ، ولم يبايع منهم أحد ، ولم شهدوا ،(3) ولم يشاوروا ، وأمير المؤمنين علي عليه السلام لازم بيته قد أبى أن يخرج معهم وأبى أن يحضر ، وقد أرسلوا إليه ثلاثة رسل ، رسولاً بعد رسول ، أن اخرج فبايع خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فردّ عليهم : « ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! » ثم عاد الرسول ثانية فقال : أجب أمير المؤمنين . فقال : « يا سبحان اللّه ! ما أجرأ من تسمّى بما ليس له ! » ثم رجع إليه ثالثة فقال : أجب أبا بكر فقد أجمع المسلمون عليه وبايعوه .. فبايعه أنت وادخل في ما دخل فيه الناس .
فقال أبو بكر لعمر : انهض في جماعة واكسر باب هذا الرجل وجئنا به [ كي ] يدخل في ما دخل فيه الناس ، فنهض عمر ومن معه إلى باب علي عليه السلام فدقّوا الباب ، فدافعته فاطمة - صلوات اللّه عليها - فدفعها وطرحها ، فصاحت : « يا عمر ! أُحرّجك(4) بحرج اللّه أن لا تدخل عليّ بيتي ، فإني مكشوفة الشعر ، مبتذلة » ، فقال لها : خذي ثوبك .
فقالت : « مالي ولك ؟ » ثم قال : خذي ثوبك فإني داخل .. فأعادت عليه القول ،(5) فدفعها ودخل هو وأصحابه ، فحالت بينهم وبين البيت الذي فيه علي عليه السلام ،
ص: 239
وهي ترى أنها أوجب عليهم حقّاً من علي عليه السلام لضعفها وقرابتها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فوثب إليها خالد بن الوليد فضربها بالسوط على عضدها حتى كان أثره في عضدها مثل الدملج ، فصاحت عند ذلك ، فخرج عليهم الزبير بالسيف ، فصاح عمر : دونكم الليث ، فدخل في صدره عبد اللّه بن أبي ربيعة فعانقه وأخذ السيف من يده ، وضرب به الحجر حتى كسره ، فدخلوا البيت فأخرجوا عليّاً عليه السلام ملبوباً ، فتعلّق به جماعة منهم حتى انتهوا به إلى أبي بكر . فقال أبو بكر : بايع ، قال له : « ما أفعل » ، قال له عمر : ما تفارقنا أو تفعل ، فقال له علي عليه السلام : « احلب حلباً لك شطره ، شدّها له اليوم يردّها عليك غداً » .(1)
ونقله عنه الحسيني الزيدي(2) (المتوفى 670)
[ 115 ]وقال الهادي : فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله أوّل من قصد بالأذى في نفسه وأقاربه ، وأوّل من شهد عليه بالزور ، وأوّل من أخذ ماله ، وأوّل من رُوّع أهله ، واستخفّ بحقّهم ، فرُوّعوا ، وأُوذوا ، وهم يروون أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « من روّع مسلماً فقد برئتُ منه ، وخرج من ربقة الإسلام » وقال اللّه عزّ وجلّ فيهم : « قُلْ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » .(3)
وقد فُعل بفاطمة عليهاالسلام ما ذكرنا في كتابنا هذا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » . فآذوها أشدّ الإيذاء ، ولم يلتفت فيها ولا في أقاربها إلى شيء مما ذكرنا ، فكانت حرمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله أوّل حرمة انتهكت بعده في الإسلام ، وكان أوّل مشهود شُهد عليه بالزور ، وكان ماله أوّل مال أُخذ غصباً من ورثته . .(4)
ونقله عنه الحسيني الزيدي(5) (المتوفى 670)
ص: 240
والشرفي الأُهنومي(1) (المتوفى 1055)
[ 116 ]كان كثيراً ما يقول :
تعزّ ، فكم لك من أُسوة *** تسكن عنك غليل الحزن
بموت النبي وخذل الوصيّ *** وذبح الحسين وسمّ الحسن
وجرّ الوصيّ وغصب التراث *** وأخذ الحقوق وكشف الإحن
وهدم المنار وبيت الإله *** وحرق الكتاب وترك السنن
وله :
إذا ما المرء لم يعط مناه *** واضناه التفكر والنحول
ففي آل الرسول له عزاء *** وما لاقته فاطمة البتول(2)
[ 117 ]روى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « لمّا استخرج أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - من منزله ، خرجت فاطمة والهة ، فما بقيت هاشمية إلاّ خرجت معها ، حتى انتهت قريباً من القبر ، فقالت : « خلّوا عن ابن عمّي .. فوالّذي بعث محمّداً بالحقّ ، لئن لم تخلوا عنه لأنشرنّ شعري ، ولأضعنّ قميص رسول اللّه صلى الله عليه و آله - الذي كان عليه حين خرجت نفسه - على رأسي ، ولأصرخنّ إلى اللّه تبارك وتعالى ، فما صالح بأكرم على اللّه من ابن عمّي ، ولا ناقة صالح بأكرم على اللّه منّي ، ولا الفصيل بأكرم على اللّه من ولدي » .(3)
ص: 241
وقريب منها ما رواه الشيخ الطبرسي(1) (القرن السادس)
وابن شهر آشوب المازندراني(2) (المتوفى 588)
[ 118 ]وروى الطبري ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن الإمام علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال : « لمّا قبض النبيّ صلى الله عليه و آله وبويع أبو بكر ، تخلّف علي عليه السلام ، فقال عمر لأبي بكر : ألا ترسل إلى هذا الرجل المتخلّف فيجيء فيبايع ؟ قال أبو بكر : يا قنفذ !
اذهب إلى عليّ وقل له : يقول لك خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله : تعال بايع .
فرفع علي عليه السلام صوته وقال : « سبحان اللّه ! ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله » .
قال : فرجع فأخبره ، ثم قال عمر : ألا تبعث إلى هذا الرجل المتخلف فيجيء يبايع ؟ فقال لقنفذ : اذهب إلى عليّ فقل له : يقول لك أمير المؤمنين : تعال بايع ..
فذهب قنفذ يضرب الباب ، فقال عليّ عليه السلام : « من هذا ؟ » قال : أنا قنفذ . فقال : « ما جاء بك ؟ » قال : يقول لك أمير المؤمنين : تعال فبايع .. فرفع عليّ عليه السلام صوته وقال :
« سبحان اللّه ! لقد ادّعى ما ليس له » . فجاء فأخبروه ، فقام عمر فقال : انطلقوا إلى هذا الرجل حتى نجيء إليه .. فمضى إليه جماعة ، فضربوا الباب ، فلمّا سمع علي عليه السلام أصواتهم لم يتكلّم ، وتكلّمت امرأته ، فقالت : « من هؤلاء ؟ » فقالوا : قولي لعليّ يخرج ويبايع ..
فرفعت فاطمة عليهاالسلام صوتها فقالت : « يا رسول اللّه ! ما لقينا من أبي بكر وعمر بعدك » .
فلمّا سمعوا صوتها .. بكى كثير ممّن كان معه ! ثم انصرفوا .. وثبت عمر في ناس معه ، فأخرجوه وانطلقوا به إلى أبي بكر حتى أجلسوه بين يديه ، فقال أبو بكر : بايع ، قال : « فإن لم أفعل ؟ » قال : إذاً واللّه الذي لا إله إلاّ هو تضرب عنقك . قال علي :
ص: 242
« فأنا عبد اللّه وأخو رسوله » ، قال أبو بكر : بايع . قال : « فإن لم أفعل ؟ » قال : إذاً واللّه الذي لا إله إلاّ هو تضرب عنقك . فالتفت علي عليه السلام إلى القبر ، وقال : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي »(1) .. » ثم بايع وقام .(2)
وروى سيف الدين أبو الحسن علي الآمدي (المتوفى 631) قطعة منها .(3)
[ 119 ]وقال الطبري : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام منعه من طلب الخلافة - بعد فراغه من دفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبعد أن توثب الظالمون فبايعوا أبا بكر - أنّ المدينة كانت محتشية بالمنافقين ، وكانوا يعضّون الأنامل من الغيظ ، وكانوا ينتهزون الفرصة ، وقد تهيّأوا لها ووافق ذلك في شكاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقبل وفاته ، وعلي عليه السلام مشغول بغسل رسول اللّه وبإصلاح أمره ودفنه ، فلمّا انجلت الغمّة وبايع الناس أبا بكر من غير مناظرة أهل البيت قعد في منزله وطلب الخلافة بلسان(4) دون سيفه ، وتكلّم وأعلم الناس حاله وأمره ، معذّراً .. يعلم الناس أنّ الحقّ له دون غيره ، وذكّرهم ما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله عقد له ، ثم رجع وقعد عن القوم ، فصاروا إلى داره .. وأرادوا أن يضرموها عليه وعلى فاطمة ناراً .. فخرج الزبير بسيفه فكسره .(5)
[ 120 ]وقال أيضاً : ... وعمر ، الذي همّ بإحراق بيت فاطمة عليهاالسلام وشتم علياً عليه السلاموالزبير .(6)
وتقدّمت له الرويات المرّقمة ب- : [ 4 ] ، [ 12 ] ، [ 110 ] .
[ 121 ]قال - ضمن كلام له في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام لأبي بكر - : لأنها
ص: 243
وقعت بعد مطل وتأخّر منه ، وبعد أن عوتب وهدّد وأُخرج على الوجه الذي جاءت به الروايات من جهة العامّة والخاصّة .
وقيل له : حسدت ابن عمّك ونفّست عليه .. وخوّف من وقوع الفتنة بين المسلمين .. وكثير من هذه المعاني رواها المخالفون ، وهي موجودة في كتبهم الموثوق بها ، كتاريخ البلاذري ، وكتب الواقدي .. وغير ذلك .
ووجدانها في كتب الشيعة وروايتها من طرقهم أكثر من أن تحصى .
ومن تأمّل الأخبار المروية في هذا
الباب علم صحّة ما قلناه إذا أنصف من نفسه . .(1)
[ 122 ]قال : وأظهروا الحسد والخلاف والعداوة لأهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهمّوا بإحراق البيت عليهم ، حتى يقول زيد بن أرقم : أنا الذي كنت حملت الحطب إلى باب فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. ومع هذا قد أُمر بقتل علي عليه السلام أخي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وزوجته فاطمة عليهاالسلام وأُمّي سبطيه ! .. ونسوا ما قد أوصاه بهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، واستنّوا بسنّة الماضين من الأُمم الهالكين .(2)
[ 123 ]روى عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه ، عن جدّه(3) قال : ما أتى على علي عليه السلام يوم قطّ أعظم من يومين أتياه ، فأمّا أوّل يوم ؛ فيوم قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأما اليوم الثاني ؛ فواللّه إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر - والناس يبايعونه - إذ قال له عمر : يا هذا ! ليس في يديك شيء منه ما لم
ص: 244
يبايعك علي ، فابعث إليه حتى يأتيك فيبايعك ، فإنّما هؤلاء رعاع . فبعث إليه قنفذاً ، فقال له : اذهب فقل لعليّ : أجب خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! .. فذهب قنفذ ، فما لبث أن رجع ، فقال لابي بكر : قال لك : ما خلّف رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحداً غيري ، قال : ارجع إليه فقل : أجب ، فإن الناس قد أجمعوا على بيعتهم إياه ، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يبايعونه وقريش ، وإنّما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم . . وذهب إليه قنفذ ، فما لبث أن رجع فقال : قال لك : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لي وأوصاني إذا واريته في حفرته أن لا أخرج من بيتي حتى أُؤلف كتاب اللّه ؛ فإنه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل ..
قال : قال عمر : قوموا بنا إليه .. فقام أبو بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وقنفذ وقمت معهم ، فلمّا انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة - صلوات اللّه عليها - أغلقت الباب في وجوههم - وهي لا تشكّ أن لا يُدْخَل عليها إلاّ بإذنها - فضرب عمر الباب برجله فكسره - وكان من سعف - ثم دخلوا فأخرجوا علياً عليه السلام ملبّباً .
فخرجت فاطمة عليهاالسلام فقالت : « يا أبا بكر ! أتريد أن ترملني من زوجي ، واللّه لئن لم تكفّ عنه لأنشرنّ شعري ، ولأشقّنّ جيبي ، ولآتينّ قبر أبي ، ولأصيحنّ إلى ربّي .. » ، فأخذت بيد الحسن والحسين عليهماالسلام وخرجت تريد قبر النبي صلى الله عليه و آله ، فقال علي عليه السلاملسلمان : « أدرك ابنة محمّد صلى الله عليه و آله .. فإني أرى جنبتي المدينة تكفئان ، واللّه إن نشرت شعرها ، وشقّت جيبها ، وأتت قبر أبيها ، وصاحت إلى ربّها .. لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها » .
فأدركها سلمان - رضى اللّه عنه - فقال : يا بنت محمّد ! إنّ اللّه بعث أباك رحمة .. فارجعي ، فقالت :« يا سلمان ! يريدون قتلَ عَليٍّ ، ما عَلَيَّ صبر ، فدعني حتى آتي قبر أبي ، فأنشر شعري ، وأشقّ جيبي ، وأصيح إلى ربّي » . فقال سلمان : إنّي أخاف أن يخسف بالمدينة ، وعليّ عليه السلام بعثني إليك يأمرك أن ترجعي له إلى بيتك وتنصرفي ، فقالت : « إذاً أرجع وأصبر وأسمع له وأُطيع » .
ص: 245
قال : فأخرجوه من منزله ملبّباً(1) مرّ على(2) قبر النبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : فسمعته يقول : « ي- « ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي »(3) » .
وجلس أبو بكر في سقيفة بني ساعدة - وقدم عليّ عليه السلام - فقال له عمر : بايع ، فقال له عليّ عليه السلام : « فإن أنا لم أفعل فمه ؟ » فقال له عمر : إذاً أضرب - واللّه - عنقك ، فقال له عليٌّ : « إذاً - واللّه - أكون عبد اللّه المقتول وأخا رسول اللّه صلى الل