السجود على التربة الحسينية

هوية الكتاب

السُجُود

عَلى التّربة الحُسَينيَّة

مكتبة الروضة الحسينية

العراق / كربلاء المقدّسة / الصحن الحسيني الشريف

الموقع على الاينترنت www.alhusaynya.com

البريد الالكتروني info@alhusaynya.com

هويّة الكتاب

السجود على التربة الحسينيّة

السيّد محمّد مهدي الخرسان

منشورات قلم الشرق

الطبعة الأولى - 1000 نسخة

1426 ه- / 2005 م

ISBN:964-94670-3-3

جميع الحقوق مسجلة ومحفوظة

ص: 1

اشارة

مكتبة الروضة الحسينية

العراق / كربلاء المقدّسة / الصحن الحسيني الشريف

الموقع على الاينترنت www.alhusaynya.com

البريد الالكتروني info@alhusaynya.com

هويّة الكتاب

السجود على التربة الحسينيّة

السيّد محمّد مهدي الخرسان

منشورات قلم الشرق

الطبعة الأولى - 1000 نسخة

1426 ه- / 2005 م

ISBN:964-94670-3-3

جميع الحقوق مسجلة ومحفوظة

ص: 2

مكتبة الروضة الحسينية(1)

السُّجُود

على التّربَة الحُسَينيَّة

تأليفت

العلامة الحُجّة السّيّد محمد محمدى السيّد حَسَن الموسوي الخرسان

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

قال راعي العلم والعلماء المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) مخاطباً من تبنّى تأسيس وتوسيع مكتبات العتبات المقدّسة في العراق - :

« . . . إذا أصبحت لديكم مكتبات عامرة بالكتب، فلابدّ من إيجاد ثقافة القراءة لهذه الكتب، وإلّا لضاع عملكم وذهبت جهودكم سدى ».

ص: 4

التعريف بمكتبة الروضة الحسينية

بِسمِ اللهِ الرَّحمن الرحيم

تمهید :

جاء في القرآن الكريم لفظ الكتاب في أكثر من موطن، وأوّل هذه المواطن ما ورد في سورة البقرة: (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدَى لِلْمُتَّقِينَ) (1)

والكتاب يطلق على ما بين الدفتين من أوراق كتب فيها ما يراد كتابته ، وقد يطلق على ورقة من الأوراق ، كالمرسلات وغير ذلك.

وقد ورد وصف الكتاب نثراً وشعراً في كتب الأدب، ليدلك على أهميته وفائدته ، كما جاء عن السيوطي قوله: «الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم المعرفة في دار الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الزائر والنزيل»، إلى أن يقول: «جليس لا يطريك ورفيق لا يمليك، يطيعك في الليل طاعته في النهار ، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر، إن أطلت النظر إليه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك، يقعد العبيد في مقاعد السادات ومجلس السوقة في مجالس الملوك ، فأكرم به من صاحب وأعزز به من موافق» .

فللكتاب دور كبير في رفع الإنسان إلى رتبة سامية وتنوير ظلام العقول ؛ فهو مصدر غذاء الروح ، وسرور قلب القارئ ، وتحفة الباحث، ونافذة المستشرف على الماضي، ودليل المحاجج، وينبوع الواعظ، وخازن الأسرار، وموسع الأفكار، وترجمان العقول، ونبراس الأمم وعنوان حضارتها.

ص: 5


1- البقرة : 2 .

• اقرأ باسم ربك :

إنّ أوّل ما نزل من القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَق}َ (1) ، وما صدر هذا الأمر إلّا لكى يبيّن لنا أهمية وضرورة القراءة، حيث هي المفتاح الذي صمّم لفتح باب العلم، والولوج في بحر المعرفة، فالقراءة هي الرتبة الأولى في سلم الرقي، والخطوة الأولى لقطع مراحل السفر إلى القرب الإلهي ، واللبنة الأولى في بناء الكمال الانسانى ببعديه المادي والمعنوي، وما مضى من وصف الكتاب إذا لم يقترن بالقراءة والمطالعة والتدبر سيكون هباءً منثوراً ، وسيكون هجراً وجفاءً لهذه النعمة الكبيرة، أو لم يرد في القرآن الكريم {يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (2) .

فإذن، لابدّ من التزاوج بين القراءة والكتاب، وإلّا لشاع الجهل وحلّ الظلام وعميت القلوب وفسد النظام وضاع العدل بتعطيل وتضييع نعمة العلم والنور والهدى، ولأصبحت المكتبات مخازن لتجميع الكتب وديكورات مزوقة بالألوان .

وهذا ما أشار إليه راعي العلم والعلماء المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني - دام ظله - بقوله لمن تبنّى تأسيس وتوسيع مكتبات العتبات المقدّسة في العراق : «إذا أصبحت لديكم مكتبات عامرة بالكتب، فلابدّ من إيجاد ثقافة القراءة لهذه الكتب، وإلّا لضاع عملكم وذهبت جهودكم سدى» .

ففي هذه الحكمة البالغة تأييد لما تقدّم من قولنا ، وهذا ما سنحرص عليه في

برنامج عمل مكتبة الروضة الحسينية إن شاءالله تعالى .

• ماذا أقرأ ؟

ورد عن سيد الموحدين وأمير المؤمنين علیه السلام : «العمر أقصر من أن تعلم كلّ ما

ص: 6


1- العلق : 1 .
2- الفرقان: 30 .

يحسن بك علمه، فتعلم الأهم فالأهم» (1) .

وهذا الحديث العلوي الشريف يبيّن لنا ضرورة الحرص على الأعمار، وينهانا عن تضييع العمر ، وذلك بالتركيز على الأهم فالأهم.

وكما هو معلوم فإنّ العلوم تشرّف بشرف موضوعاتها، حيث أنّ لكل علم موضوع ومسائل:

فهناك قسمان من العلم : العلم الإلهي والعلم المادي.

والعلم الإلهي يهتم بمعرفة الله سبحانه وصفاته وأفعاله.

وأما العلم المادي، لا يتجاوز اهتمامه الجنبة المادية في الإنسان، ابتداءاً من علم الطب، ومروراً بعلم الهندسة والكيمياء والفيزياء، وانتهاءاً بعلم النفس والاقتصاد وغيرها.

وانطلاقاً من هذا التقسيم العلمي، لابدّ أن نضع برنامجاً دقيقاً لتحصيل هذه العلوم، ومن أولى نقاط هذا البرنامج ملاحظة أولوية العلوم تبعاً لأولوية الحاجة البشرية .

وحيث أنّ الحاجة الأولى للبشرية هي الارتقاء بالعقل والروح والجسد عن مصاف البهيمية ، وهذا لا يتم إلّا من خلال رفد الروح والعقل بالعلوم الإلهية الحقة، ومن ثمّ الالتفات إلى سدّ الحاجة المادية من خلال معرفة العلوم البشرية، كعلم الطلب الذي يهتم ببناء بدن الإنسان وعلم الهندسة الذي يتهم ببناء سكن الإنسان وعلم الكيمياء والفيزياء الذي يؤمن الحاجات المادية الضرورية للإنسان .

الحاجة إلى المكتبة :

بعد أن عرفنا أهمية الكتاب ودور القراءة في معرفة مضمون وأولوية اختيار الكتب التي يجب أن نقرأها ، لابدّ أن نعرف هل هناك ما يسدّ هذه الحاجة الملحة البنى البشر ؟

ص: 7


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 262 .

فيأتي الجواب الشافي الذي يدخل السرور على قلب محبّي العلم والرقي والحضارة، فنقول دأب أهل العقل والمعرفة على تأسيس المكتبات العلمية التي تضم بين طياتها آلاف الكتب المنوعة وبلغات متعدّدة لكي تظهر بهيئة البستان النابت بشتّى أصناف النباتات، فتكون مصداقاً لقولهم: «الكتب بساتين العلماء».

وجاء هذا الاهتمام بتوفير هذه المكتبات وإيجاد المكان المناسب لأهل العلم

والبحث امتثالاً لأقوال النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام :

روي عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال: «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً فيما بينه وبين القيامة ستراً فيما بينه وبين النار ، وأعطاه الله تعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات ...» (1) .

كما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنّة سنّها هدى فهي يُعمل بها بعد موته ، وولد صالح يستغفر له» (2) .

ومن هذا نعرف أنّ الكاتب والباحث ومؤسس المكتبة مأجورون عند ربهم، ويلحق بهم القارئ، سيما بعد أن نقرأ تتمة الحديث: «وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلّا ناداه ربّه عزّ وجلّ: جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي».

فقراءة كتاب العالم هي بعينها الجلوس عنده، فليهنأ الجميع.

• تاريخ مكتبة الروضة الحسينية :

كانت كربلاء مركزاً علمياً ونقطة إشعاع فكري في الحضارة العربية والإسلامية، وساهمت بشكل كبير في تكوين النهضة الأدبية والفكرية مساهمة جادة تستحق الاحترام والاهتمام ، وكان من أولويات اهتمامها دعم وتطوير التراث العربي الإسلامي من آداب وفنون وثقافات ، وهذا ما ذكره المؤرخ والكاتب العراقي سلمان

ص: 8


1- مجالس الصدوق: 24 .
2- مجالس الصدوق: 22 .

آل طعمة عن مجلة المرشد البغدادية الصادرة سنة 1927م والذي نصه:

«ولما كانت مدينة كربلاء المقدسة العظيمة على عهد السادات الصفوية في القرن العاشر الهجري وما بعده عهد النهضة العربية وكعبة العلم والفلسفة واللغة والأدب، فقد أمّها عدد كثير لا يستهان به من روّاد العلم وطلاب الأدب الذين كانوا ينزحون إليها من كلّ حدب وصوب، ويقصدونها من كل فجّ عميق حباً لطلب العلم وأملاً بنيل الرحمة والرضوان وتبركاً بآثار آل البيت الطاهر .....».

كانت كربلاء دار لطلب العلم والمعارف الدينية، لوجود كبار المجتهدين وأئمة رجال الدين، كالعلامة أبي الفتح السيّد نصر الله الحائري الفائزي، والشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق ، والآغا باقر الحائري الملقب بالوحيد، والسيّد علي الطباطبائي صاحب الرياض ، وغيرهم.

ولئن أمعنا النظر في التراث القديم لمدينة كربلاء لوجدنا زخماً هائلاً من المخطوطات والذخائر النفيسة التي تشكل عاملاً أساساً في زيادة الوعي الثقافي سيما في خزانة مشهد الإمام الحسين علیه السلام ، فإن هذه الخزانة تحوي الكثير من الذخائر والمصاحف الثمينة التي لا تقدّر بثمن، كما أشار إليه الرحّالة عباس المكي في كتابه نزهة الجليس ، والذي نستطيع أن نستشف منه تاريخ هذه الخزانة من خلال ما ذكره في كتابه المذكور ، حيث يقول: «الما أسفر الصباح عن وجه الهنا والانشراح - رابع ربيع الأوّل عام ألف ومائة وأحد وثلاثين من هجرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم المرسل - توكلنا على الربّ العلي ورحلنا من مشهد علي قاصدين زيارة الشهيد المبتلى ...» (1) .

فيكون تاريخ تأسيس خزانة مشهد الإمام الحسين علیه السلام قبل سنة 1131 هجرية، والتي كانت الخزانة في هذه السنة عامرة بالكتب والمخطوطات .

ص: 9


1- نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس: 131/1.

• مشروع مكتبة الروضة الحسينية :

تأسيساً على ما أشرنا إليه من أهمية الكتاب ودوره في بناء شخصية الإنسان والارتقاء به من الرتبة البهيمية إلى الرتبة الإنسانية، وما للقراءة من دور في جعل الكتاب وسيلة للتنوير والعطاء الفكري والثقافي ، نقول: إن إعادة تأسيس مكتبة الروضة الحسينية أصبح حاجة ملحّة لا يمكن تجاهلها ، لما للمكتبة من دور في إيصال مختلف العلوم والثقافات إلى طالبيها ، حيث تعتبر المكان المناسب الذي يرفد العقل البشري بغذاءه النافع والسليم الذي يصونه من الانحراف والضعف والذي يحافظ على الفطرة السليمة .

ولهذا . 11. مركز الأبحاث العقائدية - الذي أُسس برعاية المرجع الد...

سماحة ايه

سماحة

الم

الأعلى

1

العقائدي

أو عزت لا.

الروضة الحسينيه

المقدس

• أقسام مكتبة الروضة الحسينية :

وبما أن إعادة تأسيس مكتبة الروضة الحسينية مشروع ثقافي وديني شامل يرفد كافة طلاب العلم والثقافة ، اقتضى ذلك أن تحوي المكتبة على عدة أقسام، يؤدي كلّ قسم دوره الخاص به، وهي كما يلي:

«قسم المكتبة العامة»

يحتوي هذا القسم على آلاف الكتب والمجلات في مختلف العلوم وبلغات

ص: 10

مختلفة، والتي تمّ فهرستها حسب المواضيع التي هي محل الحاجة، والتي منها:

(1) القرآن الكريم (التفسير وعلوم القرآن).

(2) سيرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأهله بيته الطاهرين علیهم السلام .

(3) الحديث الشريف .

(4) الفقه وأصول الفقه .

(5) علم الكلام والعقائد وردّ الشبهات.

(6) علم الرجال والتراجم .

(7) التاريخ.

(8) الفلسفة والعرفان .

(9) اللغة والأدب .

(10) العلوم والمعارف العامة ، كالاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون.

(11) ما يتعلّق بشؤون الأسرة والمرأة والطفل على نحو الخصوص.

(12) المجلات والدوريات.

«قسم مكتبة الطف المختصة»

حيث أفردت مكتبة خاصة في مكان خاص ملحق بالمكتبة العامة، لتحوى جميع ما أُلّف وكُتِب حول الإمام الحسين علیه السلام وأصحابه ،خصوصاً، وكل ما يتعلّق بواقعة الطف وإقامة المأتم والمجالس الحسينية عموماً ، وبكل اللغات؟

وتمّ تنظيم هذا القسم على نحوين :

الأوّل: الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع.

الثاني: الكتب التي تناولت الموضوع ضمناً في موسوعات ومجلّات وكتب التاريخ والتراجم ؛ حيث تم تصوير ما يتعلّق بالموضوع، ومن ثمّ تجليده وإدخاله في هذا القسم .

وبذلك استطعنا أن نوجد مناخاً علمياً كاملاً للباحثين ، يشجعهم على الخوض

ص: 11

في ميادين البحث حول الإمام الحسين علیه السلام وواقعة الطف، وذلك في مكان مطلّ على ضريح الإمام الحسين علیه السلام لا يبعد عنه سوى أمتار معدودة .

وهذا القسم تم تنظيمه حسب المواضيع، نشير إلى أهمّها :

(1) الكتب المؤلّفة في الإمام الحسن والحسين علیها السلام .

(2) الكتب المؤلّفة في سيرة الإمام الحسين علیه السلام.

(3) الكتب المؤلّفة في المقتل.

(4) الكتب المؤلّفة في أدب الطف .

(5) الموسوعات المختصة بواقعة الطف .

(6) الكتب المؤلّفة في أصحاب الحسين علیه السلام .

(7) الكتب المؤلّفة في سيرة أبي الفضل العباس علیه السلام.

(8) الكتب المؤلّفة في سيرة عقيلة بني هاشم اليسدة زينب علیه السلام.

(9) الكتب المؤلّفة حول جغرافية واقعة الطف.

(10) الكتب المؤلّفة حول مدينة كربلاء .

«قسم المكتبة الالكترونية»

خصّص هذا القسم للباحثين والقراء اللذين يرومون الاستفادة من جهاز الحاسوب ضماناً للسرعة والدقة، فيحتوي هذا القسم على أحدث الأجهزة مع مئات الأقراص الليزرية في مختلف العلوم والدروس الحوزوية والمحاضرات وغيرها، ويشرف عليها أخصّائيون في جهاز الحاسوب يسهلون عمل الزائرين إلى هذا القسم.

«موقع مكتبة الروضة الحسينية على الانترنيت» لكي يتم التواصل مع الآخر ويسهل توصيل علوم أهل البيت علیهم السلام إلى طالبيها تم إنشاء هذا الموقع ، وستكون له مساهمات في رصد الشبهات المثارة حول واقعة الطف والرد عليها بأيدي باحثين أخصائيين ، كما يحتوي هذا القسم على الكتب

ص: 12

والبحوث المؤلّفة حول الإمام الحسين علیه السلام وواقعة الطف، وما يتعلّق بمدينة كربلاء المقدسة، وفهرسة الكتب المطبوعة والمخطوطة والأقراص الليزرية المتوفرة في مكتبة الروضة الحسينية المطهرة، وكل ما يدور فيها من نشاطات علمية وثقافية .

«قسم المخطوطات»

يحتوي هذا القسم على ما تبقى في الخزانة الحسينية من مخطوطات ونفائس، وما يُهدى إلى المكتبة أو يشترى أو يصوّر من سائر المكتبات، ويشرف على هذا القسم ثلّة من الفنّيين المخلصين في التصوير والتجليد والترميم وصيانة المخطوطات، ليكون دائماً ملاذاً للباحثين والراغبين فى معرفة التراث الإسلامي.

«قسم التحقيق والنشر»

بناء على تأكيد سماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد السيستاني دام ظله على نشر الكتب العلمية الخالية من الدس والتحريف، وإيجاد ثقافة القراءة لدى عموم الناس، سيتم تفعيل هذا القسم الذي يتكون من لجان علمية، تتواصل مع الباحثين والدارسين، ليكونوا بمجموعهم خليّة علمية تقوم بإحياء التراث المختص بالإمام الحسين علیه السلام تالتأليفاً وتحقيقاً وترجمة، ومن ثم طباعته ونشره في مختلف أنحاء العالم.

«قسم الندوات والدروس الدينية»

يأخذ هذا القسم على عاتقه إقامة بعض الدروس والندوات العلمية والتثقيفية في

المناسبات المختلفة بحسب الحاجة وتشخيص الأولوية .

• ملاحظة

حرصاً من القائمين على هذا المشروع بضخ الثقافة الإسلامية، سيما ما يتعلّق بالأسرة والمجتمع وتربية الطفل، تم تخصيص وقت معين للنساء في برنامج المكتبة.

ص: 13

• وفي الختام :

بادرت اللجنة العليا لإدارة العتبات المطهرة في كربلاء المقدسة بفتح قاعة المكتبة فأوعزت إلى لجنة المشاريع الهندسية لتطوير هذه القاعة بما يتناسب وقداسة وعمارة المرقد الشريف، وعلى ضوء هذا التوجيه قامت لجنة المشاريع الهندسية بتكليف كادرها لإكساء جدران المكتبة بالمرمر الفاخر وتزيين السقف بالديكور الجميل وتطوير الشبكة الكهربائية وإنارة المكان وتوفير التكييف الجيد مما جعلها مكاناً مناسباً للمطالع الكريم لينهل منها ما طاب له من ينبوع المعرفة.

كما إننا نثني على الجهود الطيبة والمخلصة التي قام بها المحامي عن صرح المذهب القويم المرحوم العلامة المحقق الشيخ فارس الحسون رحمه الله الذي قرر بعد سقوط النظام إعادة إحياء المكتبات التابعة للعتبات المقدسة، فوفقه الله تعالى لذلك بإعادة إحياء مكتبة

الروضة الحيدرية ومكتبة الروضة الحسينية المطهرتين من خلال تهيئة المستلزمات الستي تتطلبها المكتبة من كتب متنوعة في مختلف حقول المعرفة ومن أقفاص خشبية فاخرة

وفرش وعدد من أجهزة الحاسوب التي يحتاجها المطالع الكريم مع عدد من الأقراص الليزرية، فتشاركت وتظافرت الجهود لإنجاح هذا المشروع الشريف، وكانت له النية في تأسيس العديد من المكتبات في مختلف أنحاء العراق ولكن شاء الله تعالى أن يلحقه بالرفيق الأعلى، فتوفي ليلة الجمعة 7 جمادى الآخرة 1426ه- على أثر حادث مؤسف في مدينة قم المقدسة ودفن جثمانه الطاهر في مقبرة (شيخون) بجوار مرقد السيدة المعصومة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر علیها السلام.

فنسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته الواسعة ويحشره مع محمد وآله الطاهرين.

مكتبة الروضة الحسينية المقدسة

الشيخ علي الفتلاوي

ص: 14

حول كتاب السجود

بسمه تعالى وله الحمد

بعد السّلام عليكم وعلى معاليكم فشكر الله تعالى مساعيكم في تحرير هذا المشروع، وتحضير هذه الفروع، كما وُفقتم بتحصيل مراضيه، في سبيل ماضيه، وقد أجدتم بما أفدتم من أقوال الأجلّة لإثبات ما فيه خير الملّة، بما سهبت في موسوعكم، واستفدت مع ما خُيّل إلىَّ من بعض أخطاء أدبية أو ندبية أشرت إليها في مواقعها، إن شئتم قبلتموها والّا فمحوتموها، وقد سنح لي في الختام أبيات وجيزة قلتها ، تكون لإخلاصي لكم فيها ميزة، أقدّمها لسماحتكم راجين لكم تمام النصرة، ودوام الأسرة بالخير والسعادة، ومزيد الإفادة.

دمُ بالحياة مسدداً واغنم بها *** مهما تقوم بفرضها المحمود

بفمي نشيدٌ لو وَفته قريحتي *** حول ارتضاك ببحثك المنشود

هذا الذي أودعت في حلباته *** من كلّ ناحيةٍ صفت لورود

بيّنت مفهوم السجود بما قضى *** نصّ الكتاب لرّبنا المعبود

والسنّة الكبرى التي نصّت به *** قولاً وفعلاً تلو خیر شهود

أيضاً وتقريراً بفعل صحابةٍ *** أدّوه مقروناً له بقيود

فنفيت ما زعم الخصوم غرابة *** لسجودنا في فرضنا المشهود

وقطعت دابر ثلّةٍ أفكت بنا *** فيما ترى من صالحات سجود

ص: 15

فأدم بسعيك ذلك المشكور من*** مرسومك المحميّ بالموعود

من دعم ربّك للإشادة بالذي*** أودعته حقّاً بغير بُرود

قد سُدت مَن سبقوك بالحقِّ الذي ***أسفرت عنه فدُم له بصمود

أنعم بما استوفيت من مجموعة ***في فرصة عجلى وزد بالجود

ما شئت في بثّ الهدى فلربما ***أحييت مرفوضاً بفعل حقود

شكرتك رُوّاد الهدى من سعيك ***الأوفى وطب نفساً بغير صدود

وفى الختام أجدد التحية والسلام لسماحتكم، وأتمنّى النصر والدوام لسعادتكم ،كما أتمنّى أن لا تنسوني من دعواتكم الميمونة، وبركاتها المصونة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

خامس عشر ربيع الثاني من المخلص الفاني

علي الحسيني البهشتي

ص: 16

تفضّل فضيلة العلامة الجليل السيّد عدنان البكّاء سلّمه الله تعالى فأتحفنا بهذه الأبيات التي سجّل فيها إنطباعاته عن الكتاب.

كتاب السجود

لا تقولوا بانّه خِرسانُ*** فهو عالِمُ مسدّدٌ وبيانُ صامتٌ عن مقالة الهجر لكن ***ينتضي كالحسام منه لسان

قاصفٌ كالرعود لو أبصر الحق ***مهاناًمدمدمٌ غضبان

يا اباصالح ووحدة رؤيانا ***لمعنىً أقامه البرهان

أى وحق الثقلين من بعد طه ***وصراط لنا أراه العيان

رغم حبّي والحب يجنح لكن*** لي رأيِ بقوة المیزان

فاذا قلت أو رأيت فإنّي*** لا أبالي أن ينكر العميان

انت (مهديٌ) في كتابك حتى ***لا يرى للمقال فيه مكان

حجّةٌ اثر حجةٍ بلسان الخصم*** حتى يصرح البرهان

في (كتاب السجود) والملحقات ال***-خمس حكمُ كما أتى القرآن

ص: 17

تاريخ الطبعة الثالثة لكتاب (السجود على التربة) من تصانيف سماحة آية الله العظمى سيّد المحققين السيد محمد المهدي الموسوي الخرسان دام ظلّه الوارف.

ابوصالحٍ جَلّى لنا بِيراعهِ*** حقائقَ جلّتْ بالبيانِ عنِ النقضِ

وسنَّ بتشييد الأدلُّة مَنهجاً*** أضاءَ لذي عينَينِ مَسْلَكُهُ المَرضي

وعن شيعةِ الكرّارِ ردَّ أفائكاً ****لِمَنْ وسموهم صَلَّةٌ بِذوِي الرَّفْضِ

لَهُ شَهِدَتْ ب- (الأوْحَدِيَّةِ )كُتُبُهُ*** وما بَعضُها بالفكرِ يقصُرُ عَنْ بَعْضِ

مَضامينُها مِنْ مَنْبَع الوحي تَسْتَقي*** ويُضفي عليهنَّ البَها رائقُ العَرْضِ

وقد صاغَها مَهديُّ آلِ مُحمّدٍ*** قلائِدَ مِنْ فِكرِ الهُدى السامِقِ المحضِ

إذا ما تلا آياتِها الغُرَّ مُنْصِفُ ***مِنَ (القَومِ) أضحى (مُبصراً) بَعدَما غَمِضِ

أحاطَ بأقوالِ المذاهبِ كُلِّها*** ومازَ القويَّ الصُّلبِ فيها مِنَ الغضُّ

ولَمْ يَدَّخِرْ وُسعاً بإيضاحِ حُكمِها*** وكُلُّ إمامٍ في العلومِ لَهُ مُمضي

ودُنكَ سِفراً خطّهُ بيمينهِ*** لِما قَدْ حَواهُ كُلُّ ذي قَلَمٍ يُغضی

أبانَ بهِ حُكمَ السُّجودِ مُحققاً*** وما يَنبغي في النَّدَبِ فيه وفي الفرضِ

وفي مُنتهى الإبهاجِ إن كُنتَ واعياً*** فأرّخ (به معنى السّجودِ على الأرضِ)

عبد الستار الحسني

سنة 1426ه-

مما تفضّل به فضيلة العلامة ذي البدر السني السيّد عبد الستار الحسني دام محفوظاً بالنبيّ صلی الله علیه و آله وسلم.

ص: 18

مقدمة الطبعة الثالثة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله على ما أنعم، وله الثناء بما ألهم، والشكر بما قدم، والصلاة والسلام

على سيّدنا محمّد وآله سادات الأمم، صلّى الله عليه وعليهم وسلّم.

وبعد: فقد منَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بعظيم نعمائه وجزيل هبائه، بما ساق إليَّ من التوفيق، فكتبت في مسألة السجود على التربة - الأرض - كتابي الذي أسميته أوّلاً« بيان معنى القرية في فصل السجود على التربة» فطبع أوّل مرّة باسم «السجود على التربة الحسينية» كما في طبعة بيروت سنة (1420)، وأُعيد طبعه ثانية (1421) في النجف الأشرف بطريقة الأفست على خوف من فرعون وملائه، وكان الإقبال عليه بفضل الله سبحانه كبيراً، وطلب إلىّ إعادة طبعه فخشيت بطش الحاكمين، ممّا حمل بعضهم على نشر النسخة بطريقة الإستنساخ .والإن وقد زالت الرقابة على الأقلام وتكرر الطلب بإعادة طبع الكتاب فأذنت بطبعه بعد تصحيح ما وقع في الطبعة السابقة من هناة - وبعض الهناة قناة وإضافة ما جئت وهو ليس بالقيل - ساولاً من المولى العليّ القدير أن ينفعني وإخواني المؤمنين به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحمد الله ربِّ

العالمين.

24 / ربيع الأوَّل / سنة 1426 ه-

محمّد مهدي السيّد حسن الموسوي الخرسان «عفي عنه»

ص: 19

ص: 20

بسم الله الرحمن الرحيم

و به نستعین

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ورضي الله عن الصحابة المهتدين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

1 - بين يدي القارئ

هذه رسالة في تحرير مسألة السجود على (التربة)، وحيث أن التربة مأخوذة من التراب اسماً وجنساً، وهي طائفة منه ديفت بماء طاهر، ثم جُفِّفت فصارت صلدة يحملها ويستعملها مَن يسجد عليها حين لا يجد ما يصح السجود عليه، تسهيلاً عليه، فلا مناص من التعرض - ولو إجمالاً - إلى مسألة وجوب السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، وعرض آراء الفقهاء من أئمة سائر المذاهب الإسلامية، سواء الذين لهم أتباع يعملون بفتاواهم حتى عصرنا الحاضر، أو الذين لا يوجد لهم فعلاً مَن يعمل بآرائهم، ولكن بقيت آراؤهم حيّة حيث تذكر أقوالهم في كتب الخلاف - كما يسمّونه سابقاً - أو الفقه المقارن كما نسميه اليوم، ولا مشاحّة في الأسماء.

وإنما بحثنا ذلك لننتهي إلى معرفة حكم السجود على (التربة)، ومن ثُمَّ لماذايسجد الشيعة الاثنا عشرية عليها؟

والغرض الباعث على تحريرها هو تصحيح فهم خاطئ عند كثير من إخواننا ممن يتحامل - جهلاً - على مَن يسجد على ( التربة ) أو ( التربة الحسينية) كما يحلو تسميتها لدى الساجدين عليها.

ص: 21

وقد يتجاوز بعض الجاهلين حده حتى القحّة في تعامله الظالم، فيرمي مَن يسجدلله تعالى على (التربة) بالمروق عن الدين، معتبراً - لجهله طبعاً - أن السجود على (التربة) هو عبادة لها، فيتطاول ظالماً دون أن يفقه معنى السجود، فهو لا يفرق بين معنى السجود على الشي وبين معنى السجود للشي، إما لجهل مركّب لديه، أو لعناد نشأ وشب عليه.

وكم أثار هذا الموضوع تساؤلات في شتى المنتديات، وكم جرّت المسألة - خصوصاً في الحرمين الشريفين - إلى مشاحنات، بل إلى ويلات.

وكم أجاب عن ذلك الأعلام من فقهاء الشيعة، خدمة للمسلمين والإسلام، وسداً لباب الخلاف ودرءاً للخصام، ولكن من يقرأ ومن يسمع ؟

2 - بعض التشهير مدعاة للتنوير

وحيث سبق لي أن كتبت شيئاً موجزاً في جواب سؤال حول هذا الموضوع كان قد ورد إلى سماحة سيدنا الأستاذ المغفور له الإمام الخوئي قدس سره، من بعض مقلديه في لندن (1)، فطلب مني قدّس سره تحرير الجواب على نحو ما كان يرِد عليه من مسائل تتعلق بالعقائد أو الأحكام، مما تثير فضول التساؤل عند بعض القاصرين من جهلة المسلمين بمسائل الخلاف في أحكام الدين.

فلبيت الطلب امتثالاً، وتوخيت بيان آراء جميع المذاهب الفقهية الحاضرة والبائدة إنصافاً واعتدالاً، ولم أتعرض يومئذ لرأي الفقه الإمامي الاثني عشري لأن السائل والمسؤول كانا منهم، فلم تكن الحاجة تستدعي عرض آراء فقهاء المذهب الشيعي مع بقية المذاهب، وظننت أن الأمر انتهى، خصوصاً وقد

ص: 22


1- كان السائل هو (محمود الفيلي)، فكتبت الجواب باسمه ( الجراب المحمود في السجود).

علمت أن الجواب قد أرسل، وأن ما كتبته على إيجازه وعلاته قد طبع استنساخاً، وتداول الكثير نسخه.

ولكن بقيت المسألة ترد بين حين وآخر وكأنها مشكلة العصر الحاضر : لماذايسجد الشيعة على التربة؟ ثم يثير السؤال الجدل ويجرّ إلى الجدال، ويكثر في ذلك القيل والقال، مع وضوح المسألة وبساطة الجواب، بأن الشيعة متَّبِعون لا مبتدعون.

فأي ذنب لهم إذا اتبعوا ما أنزل الله تعالى في كتابه من الأمر بطاعته وطاعة رسوله فقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) .

ثم اتّبعوا أمر النبي صلی الله علیه و آله وسلم وقد أمر أمته بأن يصلوا كما كان يصلي، فقال صلی الله علیه و آله وسلم: «صلّوا كما رأيتموني أصلي» (2)، فصلَّوا كصلاته ، فلا لوم على من اتبع النبي صلی الله علیه و آله وسلم في صلاته وقد حكاها عنه أصحابه، وأي ذنب على مَن أطاع الله تعالى بطاعته لنبيه وأولي الأمر من بعده، وقد أمر النبي صلی الله علیه و آله وسلم بطاعة أولي الأمر الذين قرَنهم في الكتاب المجيد، وأمر بالتمسك بهما كما في حديث الثقلين، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهم أهل بيته الطيبون الطاهرون علیهم السلام: (3) .

أعود فأقول : أي ذنب على مَن سجد على التربة تأسّياً بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم وبأهل بيته الكرام؟ بل وحتى بعض أصحابه والتابعين العظام كما سيأتي بيان ذلك.

ألم يكن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يسجد على الأرض ، وقد وكف عليها المطر من سقف المسجد، فلم يمنعه ذلك من السجود عليها، حتى رؤي أثر الماء والطين على جبهته وأنفه؟ وستأتي مصادر ذلك كله.

ص: 23


1- سورة الأنفال، الآية 24 .
2- ستاتي مصادر هذا الحديث في المبحث الثاني .
3- ستأتي مصادر هذا الحديث أيضاً في المبحث الثاني.

ألم يكن صلی الله علیه و آله وسلم يسجد على الحمرة والحصير؟ وهما من خوص السعف، فهما مما أنبتت الأرض من غير المأكول والملبوس، والشيعة يرون صحة السجود عليهما لذلك، فهم يسجدون عليهما.

هل اللوم وهل المؤاخذة على مَن اتّبع النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة من أهل بيته علیهم السلام ، ولم يخالفهم في سجوده، بل وفي جميع صلاته؟ لا بل في جميع عباداته ومعاملاته باعتراف مخاصميه كما ستأتي الإشارة إلى موارد وشواهد على ذلك.

نعم، هم كانوا أولى باللوم لو كانوا كمن خالف النبي صلی الله علیه و آله وسلم في شرعه، حتى أحصيت مخالفاته إلى 125 حكماً، جمعها الحافظ الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي المتوفى سنة 235ه-(1) .

ليس اللوم على من اشترط الطهارة في مسجده، مضافة إلى اشتراطها في اللباس والمكان والبدن، إنما الأولى باللوم مَن اتبع من يفتي بصحة صلاة مَن يصلي وقد لبس جلد كلب مدبوغ، ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضّأ بنبيذ التمر، وكان وضوؤه منكوساً معكوساً، ثم استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبَّر وقرأ آية بالفارسية : «دو برك سبز»، ثم نقر نقرتين كنقرات الديك، من غير فصل ومن غير ركوع وتشهد... إلى آخر ما وصفه القفال المروزي الشافعي من الصلاة على

مذهب أبي حنيفة (2) .

ص: 24


1- راجع ج 14 من المصنف لابن أبي شيبة، من ص 148 إلى ص 282 تجد المشار إليه، وقد عنونه بما يلي : (كتاب الرد على أبي حنيفة) هذا ما خالف به أبو حنيفة الاثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2- وقد رواها القفال الشاشى المروزي أمام السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي، وذكرها ابن خلكان في تاريخه في ترجمة السلطان المذكور .180/5 وقال ابن خلكان : ذكرها إمام الحرمين ابو المعالي الجويني في كتابه (مغيث الخلق في اختيار الأحق) راجع ص 56 - 58 ط مصر سنة 1352 واشار ابن السبكي الشافعي في طبقات الشافعية 316/5 في ترجمة السلطان المذكور إلى ذلك.

ولستُ - وأيم الحق - في صدد التشنيع على مذهب بعينه، لكني أنعى جمود الجامدين الذين لا ينظرون إلى الحق بعين البصيرة، وإنما أصيبوا بداء عمى لأئمتهم دون البحث والتنقيب عن الحق والحقيقة.

3 - التنقيد للتقليد

لقد وصف الشيخ عز الدين بن عبد السلام موقف هؤلاء المتأخرين، فقال : ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد له الكتاب والسنة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلَّده.

ثم قال: لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقيّد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبّوها من المقلدين ، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بُعد مذهبه عن الأدلة، مقلداً له فيما قال كأنه نبي مرسل، وهذا نأي عن الحق وبُعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولى الألباب (1) .

وقال الشيخ محمد حياة السندي في رسالة تحفة الأنام في العمل بحديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم عليه الصلاة والسلام :

وأما الأئمة الأربعة فإن كلاً منهم مصرح بأنه لا يقدم قوله على قول رسول الله صلى الله عليه {وآله} وسلم.

أما أبو حنيفة فإنه يقول : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم....

ص: 25


1- مقارنة المذاهب في الفقه عمل الأستاذين الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد علي السايس، كلية الشريعة، ط مطبعة الأزهر سنة 1948م.

وأما الشافعي قال : إذا قلت قولاً وكان عن النبي صلى الله عليه {وآله} وسلم خلافه فما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه {وآله} وسلم أولى، فلا تقلدوني...

وأما أحمد بن حنبل فقال : لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي، خذ من حيث أخذوا وقال : مِن قلة فقه الرجل أن يقلِّد في دينه الرجال (1).

وقال الشيخ محمد حياة السندي أيضاً : وإن كان الرجل متّبعاً لأحد الأئمة الأربعة ، ورأى فى بعض المسائل أن قول غيره أقوى منه فاتَّبعه، كان قد أحسن في ذلك، ولا يقدح ذلك في عدالته ولا دينه بلا نزاع وهذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فمن تعصّب لواحد معين غير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة الآخرين فهو : ضال جاهل، بل قد يكون كافراً يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد معين من هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم دون الآخرين، فقد جعله بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كفر (2) .

قال السيد محمد صدّیق خان حول التمسك بآراء المتأخرين من الفقهاء : وقد ابتُلي بهذه البلية من متأخري المقلَّدة للمذاهب الأربعة المشهورة، فأبرزوا من التفريعات والتخريجات ما لا تظلّه السماء ولا تقلّه الأرض، ومنذ حدثت هذه البِدَع رفعت من السنّة غالبها، حتى أن الجاهل من هؤلاء يزعم أن كل مسألة في كل كتاب فقهي من المذهب الحنفي مثلاً أو الشافعي مثلاً هي في أم الكتاب، ويتحرّج عن العمل بما ثبت من القرآن والحديث صراحة ونصّاً وظاهراً، ولا يتحرَّج عن العمل بما قاله إمامه.

ص: 26


1- قال ابن القيم : ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتاباً في الفقه، وإنما دوّن أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير غير ذلك.
2- راجع رسالة (إرشاد النقاد إلى أدلة الاجتهاد) ضمن المجموعة المنيرية 26/1-28 .

ومنهم من يؤَوّل الحديث إلى مؤدَّى المذهب، ولا يصرف المذهب إلى مدلول الحديث (1).

وقال : واتَّخَذوا مقالات الأئمة الكرام ديانة لهم، ومنهاجاً ينهجونه، وشريعة يسلكونها، إذا وقفوا على آية محكمة أو سُنّة قائمة أو فريضة عادلة تخالف مذهبهم صاروا يؤوَّلونها على غير تأويلها، ويصرفونها عن ظاهرها إلى ما تقرَّر عندهم من المذاهب والمشارب، وطفقوا يطعنون على من عمل بفحواها الظاهر ومبناها الباهر، مع أن كتاب الله سابق على وجوه إمامهم ومقالاته، وسُنَّة رسوله سابقة على هذه المجتهدات (2).

وعلى ذلك ونحوه جاء قول كثير من العلماء، وندَّدوا بالمقلدة تقليداً أعمى، لأن المقلدة جاوزوا الحد في التقليد إلى التعصب المقيت.

قال السيد سابق في فقه السنة : وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الأئمة حتى قال الكرخي - وهو حنفي - : كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوّل أو منسوخ ؟!

ثم قال السيد سابق : وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمَّة الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتُبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله، ولا يُعتد بفتاويه .

وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية ما قام به الحكّام والأغنياء من إنشاء المدارس ، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الاجتهاد، محافظة على الأرزاق التي رُتّبت لهم!

ص: 27


1- الدين الخالص 245/3 .
2- نفس المصدر 263/3 .

سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً : ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني، فقال أبو زرعة : فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وإن خرج عن ذلك لم ينله شيء، وحُرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونُسبَت إليه البدعة . فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك (1) .

وقال الأمير الصنعاني - وهو صاحب سبل السلام في شرح بلوغ المرام - في ذم

التقليد وهو يخاطب المقلدة :

علامَ جعلتم أيها الناس ديننا *** لأربعةٍ لا شك في فضلهم عندي

إلى أن يقول :

ولكنهم كالناس ليس كلامُهم *** دليلاً ولا تقليدُهم في غدٍ يجدي

ولا زعموا حاشاهم أن قولَهم *** دليلٌ فيَستهدي به كلُّ من يهدي

بلی صرَّحوا أنا نقابلُ قولَهم *** إذا خالف المنصوصَ بالقدح والرَّد(2)

ولنختم الكلام حول مذمَّة التعصب والتقليد بما ذكره ابن حزم في كتابه الإحكام، حيث قال في أواخر الباب السادس والثلاثين في إبطال التقليد، وهو باب كبير فيه نفع كثير :

وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة - نعني التقليد - إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و أنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها.

ص: 28


1- فقه السنة .13/1-14 .
2- رسالة (إرشاد النقاد إلى أدلة الاجتهاد) ضمن المجموعة المنيرية 28/1 .

ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المائتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله عز وجل، وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم.

نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفي بهم إلى منهاج سلفهم الصالح (1) .

4 - التقريب لا التخريب :

وأعود فأقول : إن المسألة بكل بساطة ووضوح العبارة، لا تحتاج إلى كل هذه الإثارة، لولا أن الإلحاح يزيد، من مستفهم مستفيد، أو من متعنّت عنيد، وبين هذا وذاك أنماط وأخلاط ، وكأن السجود على قرص من تراب طاهر يحمله مسلم يصلي الله تعالى ليسجد عليه عند الحاجة ذنب كبير، يستحق النكير والتكفير، فلا تكفّره التوبة ولا الاستغفار، وكيف ينتهي التهريج والاستنكار، ما دامت تثيره شناشن الصليبية والاستعمار، لتمزيق وحدة المسلمين.

على أن التقريب بين المذاهب مستحب، بل لازم وواجب، وما الاختلاف بين الشيعة والسنة في مجال الفقه المقارن بحد يتجاوز الاختلاف بين بقية المذاهب الأخرى، بل إن في كثير من الأحكام نجد الموافق لهم من الفقهاء الآخرين، وقلَّ أن تجد مسألة فقهية لم يقع فيها الخلاف بين أئمة تلك المذاهب في غير ما عُلم حكمه بالضرورة من الدين. وما كتاب (اختلاف الفقهاء) للطبري وكتاب (اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى) لأبي يوسف وغيرهما إلا نماذج وشواهد على ما نقول.

بل ونجد الخلاف بين فقهاء المذهب الواحد حتى بين الإمام وأتباعه، كما في

ص: 29


1- الإحكام 146/6 .

الاختلاف بين أبي حنيفة وتلميذيه : محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف القاضي، وتجد ذلك مبثوثاً في كتب المذهب الحنفي، خصوصاً (المبسوط) و (بدائع الصنائع) وغيرهما.

وأكثر من ذلك أنا نجد الإمام الواحد منهم يُنقل عنه أكثر من قول واحد في المسألة الواحدة، وما يحكى عن أقوال الشافعي في القديم والجديد مثال لبعض ذلك.

وكذلك ما يُروى عن أحمد بروايتين مختلفتين في مسألة واحدة، وهكذا وهكذا.

وأعجب من ذلك كله أنا نجد للإمام الواحد منهم ثلاثة آراء في مسألة واحدة منقولة عنه لدى أتباعه وغيرهم.

كل ذلك لا يوسِّع شقة الخلاف، ولا يثير نعرة الاختلاف، لأنهم يروون «اختلاف أمتي رحمة» (1) ، ونحن لا ننكر عليهم تمسّكهم بذلك، لكننا ننكر قصر تنزل تلك الرحمة عليهم دون بقية المسلمين الذين يختلفون معهم في حكم من الأحكام لو كان ثمة اختلاف بلا خلاف .

أَلا مسائل أولئك الذين يقلِّدون إماماً لم يستقر له رأي واضح، بل نُقل عنه ثلاثة

ص: 30


1- قال ابن حزم في كتابه الإحكام 64/5 في الباب الخامس والعشرين في ذم الاختلاف : وقد غلط قوم فقالوا : (الاختلاف رحمة) واحتجوا بما روي عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، قال أبو ، قال ابو محمد : وهذا افسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف من رحمة لكان الاتفاق سخطاً، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلّا اتفاق أو اختلاف وليس إلّا رحمة أو سخط. وأما الحديث فباطل مكذوب، من توليد أهل الفسوق من وجوه ضرورية أحدها : أنه لم يصح عن طريق النقل. والثاني : أنه صلی الله علیه و آله وسلم لم يجز أن يأمر بما نهى عنه ، وهو علیه السلام قد أخبر أبا بكر قد أخطأ فى تفسير فسره، وكذب عمر فى تأويل تأوله في الهجرة، وكذّب أسيد بن حضير في تأويل تأوله فيمن رجع عليه سيفه وهو يقاتل ، وخطاً أبا السنابل فى فتيا أفتى بها في العدة. وقد ذكرنا هذا المعنى فى باب إيطال التقليد من كتابنا هذا مستوعبا، فاغني عن إيراده ههنا ... وهو علیه السلام قد أخبر أنهم يخطئون، فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطئ، إلّا أن يكون علیه السلام أراد أن نقلهم لما رووا فهذا صحيح (؟!) والثالث : أن النبى صلی الله علیه و آله وسلم لا يقول الباطل ، بل قوله الحق وتشبيه المشبّه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر، لأن من أراد جهة مطلع الجدي فأمَّ مطلع السرطان لم يهتد، بل قد ضل ضلال بعيداً، وأخطأ خطأ فاحشاً، وخسر خسراناً مبيناً وليس كل النجوم يهتدى بها في تل طريق، فبطل التشبيه المذكور، ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحا ضر وريا.

أقوال متضاربة : بأيها يأخذون؟ وهل الأخذ بأي منها مبرئ للذمة من شغلها اليقيني؟

5 - نماذج من الآراء المتضاربة في المسألة الواحدة عن الفقيه الواحد:

فاستمع الآن إلى نماذج من تلك الآراء المتضاربة عن إمام واحد في مسألة واحدة.

1 - ذكر الشيخ محمد بن عبد الرحمن الشافعي الدمشقي في كتابه (رحمة الأمة) : فط مسألة وجوب الطهارة من النجس في ثوب المصلي وبدنه ومكانه فحكى عن مالك ثلاث روايات :

الأولى : أنه إن صلى عالماً بها - بالنجاسة - لم تصح صلاته، أو جاهلاً أو ناسياً صحت. وهذا أشهرها وأصحها.

الثانية : الصحة مطلقاً من النجاسة وإن كان عالماً عامداً.

الثالثة : البطلان مطلقاً (1) .

وحكى عن الشافعي في هذه المسألة بعينها قولين، ففي القديم قال كقول مالك في الرواية الأولى، وفي الجديد : إن الطهارة شرط في صحة الصلاة.

ولم يقتصر ذلك النمط من تثليث الآراء في المسألة الواحدة على مالك، فعن أحمد أيضاً ذكر ثلاث روايات في مسألة واحدة، وهي تعدد غسل الإناء والثوب والبدن من سائر النجاسات غير الكلب والخنزير.

فقال في الأولى : يغسل الإناء سبع مرات. وفي الثانية : يغسل الإناء ثلاث مرات.

وفي الثالثة : إسقاط التعدد فيما عدا الكلب والخنزير (2) .

وحكى عن الشافعي نحو ذلك أيضاً في مسألة أخرى وهي واحدة، وأقواله فيها

ثلاثة، وهي : إذا أُعتقت المرأة وزوجها رقيق.

فقال في الأول : إن لها الخيار على الفور.

وفي الثاني : إن لها الخيار إلى ثلاثة أيام.

ص: 31


1- رحمة الأمة، ص 38.
2- رحمة الأمة، ص 6.

كما حكى عنه في مسألة الخلع ثلاثة أقوال :

الأوّل : أن الخلع طلاق بائن. وقال : في الصحيح الجديد من أقواله الثلاثة.

الثاني : أن الخلع فسخ لا ينقص عدداً - من التطليقات - وليس بطلاق. وقال : وهو القديم من قوليه.

الثالث : أن الخلع ليس بشيء (1) .

فهؤلاء أئمة المذاهب لم يسلم الواحد منهم من اختلاف في فتاواه، بل ومن تناقض أحياناً، فما بالك بالاختلاف بينه وبين بقية المذاهب.

2 - ونعود إلى مسألة السجود مثلاً، ونستبق التفاصيل التي تأتي بعد ذلك، وننقل

ما قاله صاحب (رحمة الأمة) في كتابه ، قال :

فصل : واتفقوا على أن السجود على سبعة أعضائه مشروع، وهي : الوجه والركبتان واليدان وأطراف أصابع الرجلين.

واختلفوا فى الفرض من ذلك، فقال أبو حنيفة : الفرض جبهته وأنفه. وقال : الشافعي بوجوب الجبهة قولاً واحداً، وفي باقي الأعضاء قولان: أظهرهما يجب.

وهو المشهور من مذهب أحمد، إلا الأنف فإن فيه خلافاً في مذهبه.

واختلفت الرواية عن مالك، فروى ابن القاسم أن الفرض يتعلّق بالجبهة والأنف ، فإن أخل به أعاد في الوقت استحباباً، وإن خرج الوقت لم يعد.

واختلفوا فيمن سجد على كور عمامته، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى روايتيه : يجزئه ذلك. وقال الشافعي وأحمد في روايته الأخرى : لا يجزئه حتى يباشر بجبهته موضع سجوده.

واختلفوا في إيجاب كشف اليدين في السجود، فقال أبو حنيفة وأحمد : لا

ص: 32


1- المصدر السابق، ص 218 .

يجب. وقال مالك : يجب. وللشافعي قولان أصحهما أنه لا يجب.

واختلفوا في وجوب الجلوس بين السجدتين، فقال أبو حنيفة : سُنة. وقال الشافعي ومالك وأحمد : واجب وجلسة الاستراحة على الأصح من قولي الشافعي، وقال الثلاثة : لا يستحب، بل يقوم من السجود وينهض معتمداً على يديه عند الثلاثة، وقال أبو حنيفة : لا يعتمد بيديه على الأرض (1) .

أقول : فانظر إلى ما حكاه صاحب (رحمة الأمة) عن أئمة المذاهب الأربعة، فهل تجد اتفاقاً سوى اتفاقهم على أن السجود على سبعة أعضائه مشروع، ثم اختلفوا في الفرض من ذلك، ثم اختلفوا فيمن سجد على كور عمامته، واختلفوا أيضاً في إيجاب كشف اليدين، واختلفوا في وجوب الجلوس بين السجدتين، وهذا كله في واجب واحد من واجبات الصلاة وهو السجود، ولم يستوف فيما ذكر جميع أحكامه، وكيف لو ذكر جميع أحكام السجود لقرأنا اختلافاً كثيراً ومراراً، بينما لم نقرأ عن اتفاقهم إلا مرة واحدة، ولقرأنا - كما قرأنا - اختلاف الإمام الواحد منهم في روايتين وعلى قولين، كما حكى ذلك عن مالك وعن الشافعي وهكذا وهكذا.

إذن فليس بدعاً لو اختلف فقهاء الإمامية مع بعض فقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى في مسألة ما، واتفقوا مع بعض آخر منهم.

يقول المرحوم الشيخ أحمد حسن الباقوري في مقدمة المختصر النافع للمحقق الحلي الفقيه الإمامي : وعندما ندخل مجال الفقه المقارن ونقيس الشقة التي يحدثها الخلاف العلمي بين رأي ورأي، وبين تصحيح حديث وتضعيفه، نجد أن المدى بين الشيعة والسنة كالمدى بين المذهب الفقهي لأبي حنيفة والمذاهب الفقهية لمالك أو الشافعي، أو المدى بين من يُعملون ظاهر النص ومن يأخذون بموضوعه وفحواه، ونحن نرى الجميع سواء في نشدان الحقيقة وإن اختلفت الأساليب (2) .

ص: 33


1- المصدر السابق، ص 34.
2- المختصر النافع : صفحة (ج - د) من المقدمة.

6 - تصحيح الفهم الخاطى :

فيا الله ويا للمسلمين ما بالنا يكفر بعضنا بعضاً، لأنه اتبع ما أمر الله به أن يتبع.

وهذا العدو الغاشم الكافر يتربص بالجميع الدوائر ، وقد تداعت الأمم - الكافرة - على أفكار المسلمين وبلاد المسلمين، كتداعي الأكلة على قصعتها كما في الحديث النبوي الشريف، يتناهبون خيراتهم، وينعموا بثمراتهم، ثم هم يسمّمون أفكارهم، ويخربون ديارهم، فأصبحوا نهزة الطامع ، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم.

ألا فليتق الله المسلمُ في أخيه المسلم «إنما المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» ، لا أن يطعنه من خلفه بسنانه ويرميه بعظائم زوره وبهتانه.

فليس السجود على التربة سجوداً لها، بل السجود الله تعالى وحده، وهو عبادة مأمور بها، يجب عليه الإتيان بها صحيحة تامة غير منقوصة ولا مزيداً فيها.

فإذا لم يأت بالسجود متيقناً بصحته لم تصح له صلواته التي صلاها ورُدّت عليه، وإذا لم تصح له صلاته على حسب تكليفه الشرعي كان كمن لم يصل، وإذا كان كمن لم يصلّ لم ينفعه أي عمل بعد الصلاة.

قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : مثَل الصلاة مثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود نفعت الأطناب والأوتاد والغشاء، وإذا انكسر لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : أول ما يحاسب به العبد عن الصلاة، فإذا قبلت قُبل سائر عمله، وإذا رُدَّت عليه رد عليه سائر عمله (2).

ولما كان السجود هو ثلث الصلاة، لا بل عُبّر به عن الصلاة نفسها، كما في قوله تعالى ﴿وَأَسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} كما يأتي في المبحث الأول، وعلى ذلك جاء قوله صلی الله علیه و آله وسلم :

ص: 34


1- الکافى 73/1ط حجرية ، من لا يحضره الفقيه 136/1، التهذيب 238/2 .
2- من لا يحضره الفقيه 134/1 .

لمن سأله الدعاء أن يدخله الجنة قال : « أعِنِّي بكثرة السجود» (1) .

قال ابن الحاج في المدخل : لأن هذا طلبَ منصباً عظيماً فأرشده عليه الصلاة والسلام إلى الأسباب الموصلة إليه لقوله عليه الصلاة والسلام : «أقرب ما يكون العبد في الصلاة، وأقرب ما يكون في الصلاة إذا كان ساجداً » ، فأرشد عليه الصلاة والسلام لذلك، وطالب المعيَّة تشمله الدار وهي واحدة، وإن كانت المنازل تتفاوت فيها (2) .

وهذا المعنى الإيماني للقرب الإلهي عند الفرد المسلم حال الصلاة أدركه المستشرق جب، فقال في كتابه (بنية الفكر الديني في الإسلام) : للسجود من حيث النظام قيمة معروفة في الغالب، ولكننا لا نستطيع أن نمر عليها مرور الكرام، بل إن قيمة النظام بذاته - كنظام - هى أوفى من قيمة ما يؤدي إليه.

وليس بمستبعد أن يكون أهم أجزاء الصلاة هو الجزء الذي لا يُنتبه عليه في الأغلب عند وصف هذه العبادة، أعني اللحظات القليلة من التأمل ومن التضرع الصامت عقب آخرالسجود. فالسجدات - إن صحّ القول - هي التمارين التي تعمر المتعبد بروح التواضع والورع، وتتيح له أن يدخل باتحاد [!] مع الله، وأن يبلغ على هذا المنوال علاقة شخصية هي التي تبدل كل فكر، وتسيطر على كل عمل (3) .

ولما كان من الواجب على كل مسلم يريد التقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره والوقوف عند نواهيه أن يأتي بالصلاة صحيحة على وجهها المفروض، وحدودها المعينَّة، وشرائطها المبيَّنة في كل مقدماتها وأعمالها، ولا يتهاون بأمرها، فلا يزيد فيها من عنده شيئاً، ولا ينقص منها شيئاً.

ص: 35


1- من لا يحضره الفقيه 135/1 ، التهذيب ،236/2 ، وقد روي في كثير من المصادر السنّية : الحديثية و الفقهية.
2- المدخل 309/3.
3- بنية الفكر الديني في الإسلام، ص 87 .

7 - تقوى الشيعة

إن الشيعة الاثني عشرية هم أتقى الله من أن يفرِّطوا في أمر الصلاة، فيأتوا بها كيفما صارت كما هو ديدن بعض جهال المسلمين، ممن لا يفقهون من الدين إلا التظاهر بكلمتي الشهادة، والتفاخر بتسابقهم إلى مساجد العبادة، وهم يجهلون محَّها ومخّها.

وكيف يسع الشيعة الاثني عشرية التهاون بالصلاة، وهم يتلون وعيد أئمتهم أهل بيت العصمة علیهم السلام المتمثل بقول صادقهم علیه السلام : «إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة »(1) .

وهم يروون عنه قوله علیه السلام : «الصلاة لها أربعة آلاف حد» (2).

وهم يروون عن حفيده الإمام الرضا علیه السلام قوله : « الصلاة لها أربعة آلاف باب». (3) وهم يروون عنه قوله علیه السلام : «الصلاة قربان كل تقي».

وهم يروون عنه علیه السلام : «امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة، كيف محافظتهم عليها» (4) ... وهم يروون ويروون.

وقد يعجب قاصر النظر بما مرّ من كثرة عدد الحدود والأبواب، وما عليه من جهد إلّا بالرجوع إلى ما قاله فقهاؤهم جزاهم الله خيراً في بيان تلك الأحكام المتضمنة - استيعاباً - لتلك الأبواب وتلك الحدود. بدءاً من مقدماتها، ومروراً بوصفها من فاتحتها إلى خاتمتها، وانتهاء أ بأحكام ما يعرض للمكلف في مختلف حالاته حضراً وسفراً، وأمناً وخوفاً، وصحة ومرضاً، وسهواً وعمداً، وعلماً وجهلاً... وغير ذلك مما يتعلق بالصلاة من فروض وسنن وشروط وآداب.

ص: 36


1- جامع الأحاديث 135/1 ، نقله عن كتب الصدوق الثلاثة الفقهية والأمالى وعقاب الأعمال ، وعن المحاسن للبرقي والكافي للكليني، وعن التهذيب وغيره .
2- الكافى 75/1ط حجرية ، من لا يحضره الفقيه 124/1 .
3- نفس المصدرين السابقين.
4- قرب الإسناد للحميري ص 18 ، الخصال للصدوق، باب الثلاثة.

وقد كتب واحد من مشاهير فقهائهم هو الإمام السعيد محمد بن محمد بن مكى قدس سره الشهيد سنة 786 ه- رسالتين سمَّى الأولى (الألفية) لاشتمالها على ذكر ألف واجب من واجبات الصلاة، وسمَّى الثانية (النفلية) لاشتمالها على المستحبات في الصلاة، وهما من خيرة المتون الفقهية على وجازتهما، وقد عكف عليهما بالشرح والتعليق ما يقرب من أربعين عالماً (1).

فإذا كانت تربية الشيعة الاثني عشرية على أيدي هكذا فقهاء، وهم خريجو مدرسة أهل البيت الطاهرين والعترة الميامين الذين هم قرناء القرآن المبين بنص حديث الثقلين، فما ظنك في احتياطهم لأنفسهم في امتثال أوامر ربهم، وتعاليم نبيهم ، وإرشادات أئمتهم ، وبيانات فقهائهم، ممن أبانوا لهم أحكام الصلاة جملة وتفصيلاً.

وعلّموهم كيف يكون السجود هيئة وعدداً، ومسجِداً ومسجَداً، وذكراً ومورد... إلى آخر ما له من أحكام، إذ لا تصح الصلاة إلّا بإتيان السجود صحيحاً، فهو جزء وركن منها، ولا يصح الكل إلا بصحة جميع أجزائه، وركن الواجب أُسّ في بنائه، كما هو شأن سائر العبادات المركبة ذات الأجزاء (2).

وإذ لا تصح الصلاة إلّا بإتيانها كما أمر الله وبلّغها - قولاً وعملاً وتقريراً - نبيّه الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، وليس يصح إتيانها إلّا إذا استوفت جميع الأجزاء والشروط صحيحة.

ص: 37


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة 107/13 - 114، 14 / 110.
2- ذكر ابن عابدين في حاشيته على رد المحتار على الدر المختار 441/1 في شرح قوله: (وإنما تفسد الصلاة - بمخالفته في الفروض كما بسطنا في الخزائن) قلت : فبلغت أصولها نيفا وأربعين، وبالبسط أكثر من مائة ألف، إذ أحدها ينتج (390) من ضرب خمسة : قعدة المغرب بتشهدها، وترك منه أو زيادة فيه أو عليه في (78) كما مر ، والتتبع ينفي الحصر فتبصَّر، فيُلغز اي واجب يستوجب (390) واجباً. قال ابن عابدين أكثرها صور عقلية لا خارجية كما ستعرفه. أقول : مَن شاء الاستزادة فليرجع إليه، وإنما ذكرت هذا لرفع الاستغراب عند القاصرين عن فهم كُنه الصلاة، وأنه كيف يكون لها أربعة آلاف حد؟ وكيف يكون لها أربعة آلاف باب؟ وكيف كتب الشهيد السعيد كتابيه (الألفية) و (النفلية)؟ فمن تبصر أبصر ، ومن تفكر استخبر .

ومِن شرط صحة السجود - اختياراً - أن يكون على الأرض أو على ما أنبتت من غير المأكول والملبوس كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً. فبماذا يطالَب الشيعة؟ ويشهَّر بهم لسجودهم على التربة كأنها فعلة شنيعة؟ لا ها الله ليس ذلك بإنصاف.

8 - تنوير لا تحذير :

وبعدُ : فهذه رسالتي إلى كل مسلم يؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر، ضمَّنتها آراء جميع المذاهب الإسلامية كما أشرت سابقاً، وذكرت فيها جملة من أحكام السجود ، وربما بعض السنن فيه أيضاً ، مقارناً في ذلك، ليرى القارئ أن كل أئمة المذاهب الإسلامية يرون السجود على الأرض على تفاوت بينهم في مفهومها سعة وضيقاً، وفي بعض الشرائط والموانع. ومن تلك المذاهب الإسلامية المذهب الشيعي الاثنا عشري، الذي يسجد أتباعه على التربة. والتربة التي هي مثار الجدل - أكرر وأكرر - هي طائفة من تراب طاهر من الأرض ديفت بماء طاهر، ثم تُركت فصارت لوحاً أو قرصاً - كيف ما شئت فعبَّر - فيسجدون عليها.

فليقرأها المسلم بإمعان وليعامل أخاه بإحسان وليحكم الضمير والوجدان، فهل يستوجب سجود المسلم الله تعالى على تربة من الأرض أن يرميه بالإفك والبهتان؟

وهل يرى فيما استنكره مجالاً يستدعي إلى النكير والتشهير ؟ وهل الخلاف - إن وُجد - إلا كسائر الخلاف بين بقية المذاهب في سائر الفروع الفقهية؟

فلا داعي لكل تلك الجلبة والصخب، والتهريج والشغب.

وليعلم مَن يرامي بيوت الناس بالأحجار، أن بيته من زجاج وهو أقرب إلى الانكسار ، وثمة من جاس خلال الديار، وهو طبين بما لديهم من أخبار وآثار ، وهو أحرى أن يقول لهم كما قال ابن إسحاق في مالك وكتابه : إنه له بيطار (1)، فلا يزيد

ص: 38


1- ذكر السيوطي في إسعاف المبطأ، ص 403 ملحقاً بتنوير الحوالك بشرح موطأ مالك أن ابن إسحاق - صاحب السيرة - قيل له عن موطأ مالك، فقال : إيتوني به فأنا بيطاره. يريد أنه يعرف عواره .

الأوار بإلقاء الجزل على النار، وكفى بهذا تنويراً، ولا عذر بعد تعذير، ولا أمر بعد تقصیر وربّ تنوير مغن عن التحذير.

9 - ماذا في هذه الرسالة :

لقد سميت هذه الرسالة ب- (بيان معنى القربة في فضل السجود على التربة) ، وقدّمت لها بتمهيد ثم عشرة مباحث، جعلتها في بابين ولكل باب خاتمة.

ففي التمهيد : ذكرت إجمالاً المذاهب الإسلامية التي سوف أستعرض أراء فقهائها، مقارناً بينها وبين المذهب الشيعي الاثني عشري، ليتضح بالمقارنة مدى الوفاق والخلاف بين الآراء الفقهية من بقية المذاهب الإسلامية، وهي ثمانية مذاهب ، سبعة منها لا زالت لها أتباع، وهي المذاهب الأربعة المشهورة : الحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية. والمذهب الزيدي والمذهب الإسماعيلي ومذهب الخوارج، أما الثامن فهو المذهب الظاهري، ولا أعلم له أتباعاً.

وقد أذكر آراء بعض فقهاء المسلمين الذين تُذكر آراؤهم مع آراء المعدودين من أصحاب المذاهب، كالأوزاعي وأبي ثور وابن سيرين وآخرين.

وبذلك تكون جميع المذاهب عشرة ، عاشرها كأديم النّمِرة، ليس كبقية المذاهب المشتهرة، كما سيأتي بيانها في التمهيد.

أما المباحث فهي عشرة كاملة، قسّمتها في بابين :

الباب الأول :

وفيه خمسة مباحث وخاتمة :

المبحث الأول : في معنى السجود لغةً وشرعاً.

ص: 39

المبحث الثاني : في وجوب السجود كتاباً وسنة.

المبحث الثالث : في واجبات السجود في الشريعة الإسلامية، والكلام فيها في فصلين :

الفصل الأول : في وجوب السجود على سبعة أعضاء، والنظر فيه من ناحيتين :

الناحية الأولى : من جهة الكم والبحث فيه في مسألتين :

الأولى : في تعيين الأعضاء السبعة.

والمسألة الثانية : هل أن الأنف من أعضاء السجود فيجب إرغامه أم لا؟

الناحية الثانية : من جهة الكيف، والبحث فيها أيضاً في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى : كيف يكون السجود عليها هيئة؟

المسألة الثانية : هل يجب أن تكون جميعها بارزة على ما يصح السجود عليه؟

المسألة الثالثة : في تعيين مقدار ما يجب وضعه منها، والحد الأدنى من ذلك، فتكون مسائل هذا الفصل خمس مسائل.

الفصل الثاني : في وجوب وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه، والبحث فيه من ناحيتين :

الناحية الأولى : في تعيين مفهوم الأرض ،والكلام فيها يتم في مقامين :

المقام الأول : في تحديد هوية الأرض.

المقام الثاني : في أدلة وجوب السجود عليها في ثلاث مسائل :

المسألة الأولى : في استحباب التتريب.

المسألة الثانية : في كراهة النفخ ومسح الحصى والتسوية في موضع السجود .

المسألة الثالثة : في المنع من السجود على كور العمامة، بل وكل حائل من غير ضرورة.

الناحية الثانية : في السجود على ما أنبتت الأرض، والكلام فيها يتم في مقدمة

ص: 40

وأربع مسائل وخاتمة :

فالمقدمة : في بيان آراء المذاهب الإسلامية في السجود على ما أنبتت الأرض

: والمسائل هي :

المسألة الأولى : في السجود على الخمرة.

المسألة الثانية : في السجود على الحصير.

المسألة الثالثة : في السجود على البساط.

المسألة الرابعة : فى السجود على الطنفسة.

الخاتمة : في نبذة تاريخية عن المسجد والسجادة والسجاد.

المبحث الرابع : في ذكر الصحابة الذين كانوا يرون السجود على الأرض. المبحث الخامس : في ذكر التابعين الذين كانوا يرون السجود على الأرض.

وفيه خمسة مباحث وخاتمة :

الباب الثاني :

المبحث الأول : في ماهية التربة.

المبحث الثاني : في أن الشيعة الاثني عشرية يسجدون على التربة - أي تربة

كانت - ما دامت من الأرض وهي طاهرة.

المبحث الثالث : تفاضل البقاع من الأرضين.

المبحث الرابع: في وجه تفضيل التربة الحسينية بالسجود عليها. المبحث الخامس : في خصائص التربة الحسينية. الخاتمة : في مسائل شرعية إسلامية أجمع المسلمون على شرعيتها، فعمل بها الشيعة وتركها غيرهم لأن الشيعة عملوا بها، مع اعترافهم أنها هي السنة الشرعية؟! وهي عدة مسائل.

يا الله لماذا؟! لأن الشيعة عملوا بها!؟ وكأنّ الرّشد في خلافهم لا والله إن هي إلا

ص: 41

شناشن أخزمية، ولو قلت : رمتني بدائها وانسلّت، قالوا : أوجعت الخطاب، على أنى لو أقول لمن يزعم الرشد في خلافهم واقلب تصب لما عدوت الصواب. ولا أريد أن أفتح الحساب، والدخول في هذا الباب، لما يستتبع ذلك من سؤال وجواب، وبالتالي كشف الحجاب، دون أي مردود عملي ما دامت كل فرقة تحتجز لنفسها وحدها الصواب، وتسِم غيرها بميسم العذاب، وما لنا أن نقول إلّا كما قال عز من قائل في محكم الخطاب : {قُلْ كُلَّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (1) .

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) .

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (3) .{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) ، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ﴾ (5) .

محرم الحرام /1416ه-

محمد مهدي السيد حسن

الموسوي الخرسان

عفي عنهما

ص: 42


1- سورة الإسراء، الآية 84 .
2- سورة يوسف، الآية 108 .
3- سورة القصص الآية 51 .
4- سورة يونس الآية 10 .
5- سورة سبأ، الآية 26 .

تمهيد

ليعلم القارئ المسلم - مسبقاً - أنَّا سوف نستعرض فيما يأتي آراء المذاهب

الإسلامية التالية :

1 - المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري : ولما كان باب الاجتهاد لازال مفتوحاً عند فقهائهم، ولم يوصدوه كغيرهم، فلا مناص من تعدد آرائه، فسوف نذكر المشهور بين أصحابه، نتيجة اجتهاداتهم المتعددة بين أربابه، وننقل الأقوال من مصادرها الموثوق بها عندهم، سواء في الحديث أو الفقه، مع تعيين القائل به، والمصدر الذي اعتمدناه ونقلنا عنه، بتعيين اسم الكتاب واسم مؤلفه وتعيين الجزء - إن كان - والصفحة ومحل الطبع وسنته، ولا ننقل عن الآثار المخطوطة لعدم الحاجة إليها والاستغناء عنها بما هو مطبوع.

2 - المذهب الحنفي : ولما كان الأحناف أتباع هذا المذهب كبقية المذاهب الأربعة قد سدّوا باب الاجتهاد مذ قرون تبعاً للتدخل السياسي (1))، في ظروف معينة ، فإنا نعتمد في نقل أقوالهم على مصادرهم الموثوق بها عندهم، نحو حلبي كبير،

ص: 43


1- في سنة 664-665ه- أمر السلطان الظاهر بيبرس البندقداري بحصر المذاهب في الأربعة المذكورة : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه الأربعة راجع الخطط المقريزية 235-232/3 .

وملتقى الأبحر، ومجمع الأنهر، والمبسوط للسرخسي، وتحفة الفقهاء للسمرقندي، وفتاوی عالمكير، و شرح ابن عابدين وغير ذلك مما تستدعي الحاجة إلى النقل عنه ، مع تعيين اسم الكتاب ومؤلفه وجزئه وصفحته كما مر في شأن مصادر المذهب الإمامي.

3 - المذهب المالكي : نعتمد نقل أقواله من كتاب الموطأ لإمام المذهب مالك بن أنس، ومن شروحه للباجي والزرقاني والسيوطي، ومن المدخل لابن الحاج وبداية المجتهد لابن رشد الحفيد وغيرها، متبعين نفس الأسلوب السابق في المذهبين أنفي الذكر في تعيين المصادر.

4 - المذهب الحنبلي : ولما كان بعضهم لا يرى أحمد إمام المذهب فقيهاً بل محدثاً، ومن أئمة الحديث، لكن أتباعه وضعوا كتباً في فقهه على ما صح عندهم من آرائه، فأضحى الرأي الفقهي للحنابلة مذكوراً مع آراء أصحاب المذاهب الأخرى، ولعل أغنى موسوعة ضمّت آراء الحنابلة هي كتاب المغني لابن قدامة المقدسي والإنصاف للمرداوي ومجموعة فتاوى ابن تيمية، ومن ثمة كتب أخرى لهم أفدنا

منها سنذكرها على نحو ما تقدم نهجه عند ذكر مصادر المذاهب الأخرى.

5 - المذهب الشافعي : وخير مصادره هو كتاب (الأم) الإمام المذهب محمد بن إدريس الشافعي، ثم من بعده كتب أخرى تضمنت الفروع الفقهية، وصرَّحت بآراء الشافعي في دوري سكناه ببغداد ومصر المعبَّر عنه بالقديم والجديد، نذكرها في موارد النقل عنها على النهج الذي بيَّنَّاه آنفاً في النقل عن المصادر.

ص: 44

6 - المذهب الزيدي : وهذا من المذاهب الحيَّة، ولا زال له أتباع يدينون به في بلاد اليمن وغيرها، لأنه منذ نما وترعرع في أول أمره كان في طبرستان، كما كان له في اليمن أئمة ولهم أتباع، ولكن فيما أعلم لم يبقَ اليوم بطبرستان في هذا الزمان من يدين به ومصادر فقهه التي اعتمدناها إنما هي كتب أئمته وفقهائه، وأوفاها استيعاباً وتبويباً - وإن لم يكن أسهلها ترتيباً - هو البحر الزَّخار للإمام المهدي لدين الله ، ثم كتاب السيل الجرار للشوكاني والروض النضير للسياغي .

وقد أفدت من كتاب نيل الأوطار للشوكاني، وإن كان الرجل قد تحول من الزيدية إلى الشافعية، وشنّع عليه، إلا أني أحسبه أميناً في نسبته الآراء إلى أصحابها من أئمة الزيدية، ونهجنا في تعيين المصدر هو نفس ما انتهجناه في مصادر بقية المذاهب الآنفة الذكر.

7 - المذهب الإسماعيلي : وهذا مذهب يدين به بعض الطوائف منهم كالبوهرة المستعلية من أتباع السلطان الحالي برهان الدين في الهند واليمن وغيرهما وأتباعه من الباطنية، لا يكاد الباحث يخلص إلى مجموعة ميسرة تضم آراءهم الفقهية يستند إليها، وقد حاولت التعرف على شيء من ذلك من خلال مباحثات جرت بيني وبين بعض رجال الدين منهم - ومنهم الشيخ عبد القادر صهر الداعي المطلق الفعلي السلطان برهان الدين - فلم أعرف شيئاً يذكر، ولما كان مذهبهم امتداداً للمذهب الفاطمي، أو هو على أنقاضه، وكان المذهب الفاطمي يعتمد في أحكامه وتشريعاته على كتاب دعائم الإسلام للقاضي نعمان، وعلى تأويل الدعائم له أيضاً، وطائفة البوهرة لا تزال تقدس هذين الكتابين وبقية مؤلفات القاضي نعمان وترجع إليها. لذلك فأنا أنقل رأي الفقه الإسماعيلي عن ذينك الكتابين، وربما عن غيرهما من مؤلفات القاضي المذكور وغيره.

ص: 45

8 - المذهب الخارجي : وهذا المذهب لا يزال له أتباع في الخليج العربي، وبعض دول المغرب، وإن تعددت فرقه ومقالاته، إلّا أنّا اعتمدنا في معرفة الرأي الفقهي المعمول به عندهم في دول الخليج خصوصاً في دولة عُمان على كتاب قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة (1) ، وعلى كتاب المدونة الكبرى لأبي غانم الخراساني الاباضي.

9 - المذهب الظاهري: وهذا المذهب وإن لم نعرف له أتباعاً ظاهرين، إلا أن رأيه الفقهي لا يزال حياً في موسوعته الكبرى (المحلَّى) لابن حزم، وبعدها في تهذيب الآثار لابن جرير الطبري وكتب أخرى دونهما، فما ننقله من رأي فقهي له في مسألة السجود، إنما أخذناه مما ذكرناه من كتبه مضافاً إلى موسوعات الفقه المقارن، وعلى نهج ما ذكرناه آنفاً فى النقل عن المصادر .

10 - مذاهب فقها، بقيت آراؤهم في كتب الخلاف - وقد يحتج بها موافقة أو مخالفة - كمذهب الأوزاعي وابن سيرين وأبي ثور وغيرهم.

ص: 46


1- المجلد 19 ط عُمان سنة 1409ه- نشر وزارة التراث القومى والثقافة سلطنة عُمان .

الباب الأول : وفيه خمسة مباحث وخاتمة

اشارة

ص: 47

ص: 48

المبحث الأول : في معنى السجود لغة وشرعاً

لنقرأ مجموعة من أقوال اللغويين أولاً، ثم لنقرأ ما يقوله المتشرعة في ذلك ثانياً.

أولاً : ماذا قال اللغويون؟

والجواب : يكاد يجمع اللغويون على أن معنى السجود هو الخضوع والتطامن، وإن كان هو من الأضداد. وذكروا ذلك في مختلف عباراتهم، وإلى القارئ عرضاً لما يقولونه :

1 - قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (مادة سجد) : السين والجيم والدال أصل واحد مطَّرد، يدل على تطامن وذُل، يقال : سجد إذا تطامن، وكل ما ذلَّ فقد سجد (1) .

2 - وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتابه شجر الدر في تداخل الكلام بالمعاني المختلفة : والسجَّادة المرأة الكثيرة السجود، والسجود جمع ساجد ، والساجد المطرق إلى الأرض (2) .

3 - وقال الخليل بن أحمد في كتاب العين : والمسجد اسم جامع يجمع المسجِدَ ، وحيث لا يسجد بعد أن يكون اتخذ لذلك، فأما المسجَد من الأرض

ص: 49


1- معجم مقاييس اللغة 133/3 .
2- شجرة الدر، ص 203 .

فموضع السجود نفسه، والإسجاد إدامة النظر مع سكون (1).

4 - وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن :وأصل السجود التطأطؤ والميل، يقال : سجد البعير وأسجد إذا طُوطئ ليُركب... ومن هذا قيل لمن وضع جبهته بالأرض ساجد، لأنه تطامن فى ذلك، ثم يستعار السجود فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذل، كما يستعار التطأطؤ والتطامن فيوضعان موضع الخشوع والخضوع والانقياد والذل، فيقال : تطامن للحق، أي اخضع له، وتطأطأ له تخطَّك، أي تذلَّل لها ولا تعزَّز. ومن الأمثال المبتذلة : اسجد للقرد في زمانه، يراد اخضع للسفلة واللثيم في دولته، ولا يراد معنى سجود الصلاة (2).

5 - وقال الصاحب بن عبّاد في كتابه المحيط : السجود الله عز وجل... والمساجد السجود، مواضعه من الجسد والأرض، الواحد مسجَد... والساجد في لغة طيئ : المنتصب، وفي لغة سائر العرب : المنحني. وأسجد الرجل إذا طأطأ رأسه وانحنى، وسجد وضع جبهته بالأرض (3).

6 - وقال ابن الأثير في النهاية (مادة سجد) : فأما سجد فبمعنى خضع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، ولا خضوع أعظم منه.

7 - وقال ابن سيدة في المخصص : حقيقة السجود الخضوع، وسجد يسجد سجوداً إذا وضع جبهته بالأرض (4) .

8 - وجاء ذلك بعينه في الإفصاح، وهو مختصر المخصص لابن سيدة (5) .

9 - وقال ابن منظور في لسان العرب (مادة سجد) : وسجد خضع ومنه سجود

الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض ولا خضوع أعظم منه .

ص: 50


1- كتاب العين 49/6 .
2- تأویل مشكل القرآن، ص 321 .
3- المحيط 6/7 .
4- المخصص : السفر الثالث عشر، ص 87 .
5- الإفصاح ، ص 695.

10 - وقال ابن الأنباري في كتاب الأضداد : والساجد المنحني عند بعض العرب ، وهو في لغة طيئ المنتصب.

وقال أيضاً : السجود في الصلاة سمَّي سجوداً لعلّتين : (إحداهما) أنه خضوع وتذلّل الله عز وجل، إذ كانت العرب تجعل الخاضع ساجداً، و(العلة الأخرى) أنه سمَّي سجوداً لأنه بالميل يقع (1).

11 - وقال الفيروزآبادي في القاموس (مادة سجد) : سجد خضع وانتصب ضد.

12 - وقال الزبيدي في تاج العروس: (سجد خضع) ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، ولا خضوع أعظم منه.

13 - وقال المطرزي في المُغرب : السجود وضع الجبهة بالأرض، وعن أبي عمرو : ( أسجد) الرجل إذا طأطأ رأسه وانحنى، (وسجد) وضع جبهته بالأرض . (2)

14 - وقال الفيومي في المصباح المنير : سجد سجوداً تطامن، وكل شيء ذلَّ فقد سجد، وسجد انتصب في لغة طيئ، وسجد البعير خفض رأسه عند ركوبه، ويسجد الرجل وضع جبهته بالأرض، والسجود الله تعالى في الشرع عبارة عن هيئة مخصوصة (3) .

15 - وقال الطريحي في مجمع البحرين : وهو السجود : في اللغة الميل والخضوع والتطامن والإذلال، وكل شيء ذلَّ فقد سجد، ومنه سجد البعير إذا خفض رأسه عند ركوبه، وسجد الرجل وضع جبهته على الأرض... وفي الشرع عبارة عن هيئة مخصوصة، ومنه سجود الصلاة (4).

ونجد عند بعض من نقلنا أقوالهم مما يتعلق بالمساجد، وله اتصال ببحثنا، فقالوا: والمساجد أيضاً الآراب التي يُسجد عليها، والآراب كأعضاء وزناً ،ومعنى، والآراب

ص: 51


1- كتاب الأضداد، ص 294.
2- المغرب، ص 243 .
3- المصباح المنير، ص 363 .
4- مجمع البحرين 63/3-64.

السبعة مساجد.

وقالوا أيضاً : في الآية المذكورة : السجود مواضعه من الجسد، والأرض مساجد، واحدها مسجَد، والمسجَد اسم جامع حيث سجد عليه، فأما المسجد من الأرض فموضع السجود نفسه.

هذه خلاصة ما عند اللغويين مما ينبغي لنا معرفته، وظهر أنهم باتفاق قالوا : إن معنى السجود الحقيقي هو الخضوع والتطامن والميل والانحناء، وما ذكروه في معناه في الصلاة هو المعنى المجازي، لأن في وضع الجبهة على الأرض تمام الخضوع، حتى قال بعضهم : ولا خضوع أعظم منه .

هذا ما قرأناه من معنى السجود عند اللغويين أولاً، ولنقرأ الآن ما يقوله فقهاء الشريعة في ذلك.

ثانياً : لدى مراجعة النصوص الشرعية عند فقهاء المسلمين في معنى السجود، لا نجدها تنأى به كثيراً عن المعنى اللغوي، إذ لا يبتعد الفقهاء في ذلك كثيراً عن اللغويين حتى في عباراتهم، بل هي تكاد أن تكون هي هي، فيكون معنى السجود هو هو، مضافاً إلى ما ذكروه له من كيفية مخصوصة، وواجبات وشروط في صحته. ولا بد لنا من الإلمام بما يقوله فقهاء المذاهب الإسلامية، فلنقرأ بعض ما قالوه :

1 - قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية : السجود هو وضع الجبهة على الأرض والسجدة - بالفتح - الواحدة، وبالكسر - الاسم. هذا ما قاله المحقق الحلي في كتابه (المعتبر)(1)، وحكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة (2) أيضاً عنه، وعن العلامة الحلي في كتبه الثلاثة المنتهى والتحرير والنهاية، وعن المحقق الكركي في جامع المقاصد، وعن الشهيدين في الإرشاد والمقاصد العلية وروض الجنان، ثم ذكروا واجباته وشروطه كما سيأتي بيانها، فجعلوا فيما أخذ في حقيقته الشرعية : هو

ص: 52


1- المعتبر، ص 183 .
2- مفتاح الكرامة 429/2 .

وضع الجبهة على الأرض أو ما أنبتت مما لا يؤكل ولا يُلبس، وهذا ما أشار إليه المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة بقوله : وهو - السجود - لغة : الخضوع والانحناء، وشرعاً : عبارة عن وضع الجبهة على الأرض أو ما أنبتت مما لا يؤكل ولا يُلبس، فهو خضوع وانحناء خاص فيكون مجازاً لغوياً أو حقيقة شرعية

(1).

2 - وقال فقهاء الحنفية : والسجود هو وضع الجبهة أو الأنف على الأرض بطريق الخضوع لقوله تعالى ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، والمراد بالسجود السجدتان، لأن اسم الجنس يدل على التعدد. هذا ما قاله شيخ زاده في مجمع الأنهر (2).

وجاء في حاشية ابن عابدين على رد المحتار على الدر المختار بعد حكاية المعنى اللغوي نقلاً عن القاموس، وتفسيره عن المُغرب، قال : وفي البحر : وحقيقة السجود وضع بعض الوجه على الأرض مما لا سخرية فيه، فدخل الأنف، وخرج الخد الذقن... (3)

وعلى ضوء ما تقدم أفتوا بصحة سجود من سجد على حجر صغير إن وضع عليه أكثر الجبهة. فقد قال السرخسي في المبسوط : وسُئل نصير بن يحيى عمن يضع جبهته على حجر صغير، هل يجوز سجوده أم لا؟ قال : إن وضع أكثر الجبهة على الأرض (4) .

وجاء في الفتاوى الهندية لعالمكير : ولو وضع جبهته على حجر صغير إن وضع أكثر الجبهة على الأرض يجوز، وإلا فلا. وكذا في التجنيس ، وهكذا في المحيط (5).

أقول : إن المحيط هو للسرخسي صاحب المبسوط، وما ذكرناه عن الحنفية من صحة السجود على حجر صغير إن وضع أكثر الجبهة عليه هو السجود على الأرض،

ص: 53


1- الحدائق الناضرة 273/8 .
2- مجمع الأنهر 87/1 .
3- حاشية ابن عابدين على رد المحتار على الدر المختار 416/1.
4- المبسوط 289/1 .
5- الفتاوى الهندية 55/1 .

أليس هو عين ما شنّع به على الشيعة الإمامية في سجودهم على التربة، وهل هي إلا حجر صغير طاهر؟ فأي فرق بين الحجرين، لو كان ثمة إنصاف في البين، سوى اشتراط الطهارة عند الشيعة ولم يشترطها الأحناف، فلماذا يُشنَّع على الشيعة وليس عندهم من خلاف؟!

ونعود إلى بقية ما يقوله الحنفية في حقيقة السجود.

قال الشيخ إبراهيم الحلبي في غنية المتملي في شرح منية المصلي المشتهر بحلبي كبير : ( (وكذلك ركنية السجود) متعلقة بأدنى ما يتعلق عليه اسم السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض (1).

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في رشحات الأقلام : (السجود) وهو وضع الجبهة والأنف على الأرض ، لا الخدود والذقن والصدغ (2).

3 - وقال فقهاء المالكية : ومنهم القرطبي، قال في تفسير قوله تعالى ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} : واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لأدم بعد اتفاقهم على أن السجود لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور : كان هذا أمراً للملائكة بوضع الجباه على الأرض كالسجود المعتاد في الصلاة، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل : كان ذلك السجود تكريماً لآدم وإظهاراً لفضله وطاعة الله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا، ومعنى {لآدَمَ} إلى آدم، كما يقال : (صلى للقبلة) أي إلى القبلة.

وقال قوم : لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ، ولكنه مُبقى على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد أي اخضعوا لآدم وأَقرّواله

ص: 54


1- غنية المتملي، ص 282 .
2- رشحات الأقلام شرح كفاية الغلام على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، ص 36 .

بالفضل... (1)

وأقول : الذي يعنينا من كلامه ماكرّره من أن السجود في العرف والشرع إنما هو السجود على الأرض.

وقال ابن الحاج في المدخل : ومن ذلك - أي واجبات السجود - أن لا یسجد على حائل بينه وبين الأرض، فإنه السنة(2) .

أقول : ولما كان الحائل بين الجبهة والأرض مانعاً، اقتضى ذلك أن يكون السجود هو وضع الجبهة على الأرض، وهذا عين ما يشترطه الشيعة في صحة السجود من غير عذر، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في المباحث الآتية.

4 - وقال فقهاء الحنابلة : ومنهم ابن قدامة المقدسي في المغني ، قال : والكمال في السجود على الأرض أن يضع جميع بطن كفّيه وأصابعه على الأرض، ويرفع مرفقيه... (3) .

وقال المرداوي في الإنصاف : قوله (ولا يجب عليه مباشرة المصلي بشي منها إلا الجبهة على إحدى الروايتين) وأطلقهما في الهداية والمذهب، ومسبوك الذهب والمستوعب والخلافة والكافي والحاوي :

إحداها : لا تجب المباشرة بها، يعني أنها ليست بركن، وهذا المذهب وعليه

جمهور الأصحاب، منهم أبو بكر والقاضي.... (4)

إلى آخر كلامه، فيما لا حاجة بنا إليه، وإنما الحاجة في أن فقهاء الحنابلة أيضاً يرون وجوب سجود الجبهة على الأرض.

5 - وقال فقهاء الشافعية : أولهم إمامهم محمد بن إدريس الشافعي، قال في كتاب الأم : ولو سجد على رأسه ولم يمس شيئاً من جبهته الأرض لم يجزه السجود،

ص: 55


1- الجامع لأحكام القرآن 293/1 .
2- المدخل 272/2 .
3- المغني 520/1.
4- الإنصاف 67/2.

وإن سجد على رأسه فماسّ شيئاً من جبهته الأرض أجزأه السجود إن شاء الله تعالى.... (1)

أقول : ويعني بقوله هذا أن حقيقة السجود هو وضع الجبهة على الأرض من دون حائل بينهما.

6 - وقال فقهاء الزيدية : ومنهم الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى المتوفّى سنة 840 ه-، وله كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، قال فيه : السابع : السجود، وهو ضروري كالركوع، وأقله خفض الرأس عن العجيزة في الأرض، ويكفى الاطمئنان (هب ش) (2).

ويعني بالرمزين أن ما ذكره هو المذهب وبه قال الشافعي.

وقال الشوكاني كما في السيل الجرار : واعلم أن الأمر بالسجود على هذه الأعضاء لا بد وأن يكون على الأرض، أو على ما هو عليها من حصير أو نحوه. وحكي عن صاحب حدائق الأزهار حكمه على من لم يسجد على هذه الأعضاء بلا حائل بينها وبين الأرض بالبطلان لسجدته (3).

أقول : وفقه ما ذكره ونقله أن حقيقة السجود هي وضع الجبهة على الأرض.

7 - وفي الفقه الإسماعيلي : قال من فقهائه القاضي نعمان في دعائم الإسلام : وأمكن جبهتك وأنفك من الأرض (4) .

وقال ذلك أيضاً في كتابه الآخر : تأويل الدعائم (5)5.

أقول : ويعني ذلك أن حقيقة السجود هي تمكين الجبهة والأنف من الأرض.

8 - وفي الفقه الخارجي : قال : قال من فقهائه أبو غانم في كتابه المدوّنة الكبرى .

ص: 56


1- الأم 1 / 114 .
2- البحر الزخار 265/1 .
3- السيل الجرار 217/1 .
4- دعائم الإسلام 163/1 - 164 .
5- تأويل الدعائم 280/1.

والسنة في السجود أن يضع وجهه على الأرض، والأنف من الوجه، فإن لم يفعل وسجد على الجبهة مضت صلاته ولا سهو عليه (1).

وقال الشيخ جميل بن خميس السعدي في كتاب قاموس الشريعة : وأصل السجود إدامة النظر إلى الأرض (2).

9 - وقال فقهاء الظاهرية : ومنهم ابن حزم، قال في المحلَّى : ومَن كان بين يديه طين لا يُفسد ثيابه ولا يلوّث جبهته لزمه أن يسجد عليه، فإن آذاه لم يلزمه، رُوِينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سجد على ماء وطين، وانصرف وعلى جبهته أثر الطين، وقال الله عز وجل ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (3) .

أقول : وقوله هذا يدل على أن حقيقة السجود هو وضع الجبهة على الأرض حتى لو كانت طيناً لا يُفسد ثيابه، ولا يُلوّث جبهته كما قال. وما استدل به من حديث سجود النبي صلى الله عليه و اله وسلم على الماء والطين وانصرافه وعلى جبهته أثر الطين يدل على خلاف ما ذهب إليه بقوله : (ولا يُلوّث جبهته)، فإن أثر الماء والطين بجبهة النبى صلی الله علیه و آله وسلم تلويث لها، ولعلّه رأى أن ذلك ليس فيه أذى له صلی الله علیه و آله وسلم ، فلاحظ فتياه ودليله تجد بينهما نحو خلاف.

الخلاصة :

تبيَّن من جميع ما تقدم ذكره من آراء المذاهب الفقهية الإسلامية أن المعنى الشرعي للسجود في حقيقته هو وضع الجبهة على الأرض، وسيأتي مزيد بيان لما ذكره بعض من تقدّم النقل عنه من وضع الأنف أو بقية الأعضاء مع الجبهة على الأرض.

ص: 57


1- المدونة الكبرى، ص 190.
2- قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة 404/19.
3- المحلى 83/4.

إذن لنا أن نقول : إنه التقت الحقيقة الشرعية للسجود مع المعنى المجازي اللغوي الذي أشرنا إليه آنفاً، وهذا يكفي في بيان المعنيين اللغوي والشرعي، ولا كبير فرق بينهما فلاحظ .

وعليه، فإذا لم يتحقق السجود بهذا المعنى فلا يصح أن يكون سجوداً مطلوباً للشارع مأموراً به، إذ المطلوب لا يتحقق إلا بوضع الجبهة على الأرض مع خضوع وتذلل، وإذا لم يكن كذلك شكلاً ومضموناً فلا يكون سجوداً شرعياً مأموراً به، يسقط التكليف بامتثاله، وتبرأ الذمة من عهدته.

وختاما لهذا البحث نذكر قول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في حقيقة السجود

الجسماني العرفاني الذي جمع فيه أشرف المعاني فقال:

السجود الجسماني، وضع عتائق الوجوه على التراب واستقبال الأرض بالراحتين والركبتين وأطراف القدمين مع خشوع القلب من الفانيات، والإقبال بكنه الهمّة على الباقيات، وخلع الكبر والحميّة، وقطع الحلائق الدنيوية، والتحلّي بالأخلاق النبوية» (1).

ص: 58


1- غرر الحكم و درر الكلم للآمدي / 42 مط العرفان صيدا سنة 1349 ه- .

المبحث الثاني : في وجوب السجود كتاباً وسنة

ليس في المسلمين مَن ينكر وجوب السجود في الصلاة، حتى يُحتاج إلى إثباته من الكتاب والسنة، لأنه مما عُلم ثبوته بالضرورة من الدين، وعلى ذلك إجماع كل المسلمين.

إلا أن الخلاف في تحديد هوية السجود واختلاف الفقهاء في واجباته وشرائطه وموانعه أوجب علينا أن نعرف ذلك التحديد، وما هي صحة بعض الفتاوى التي نقرؤها في كتب الخلاف الفقهي حول السجود لأنّا قد مر بنا ما ذكرناه في المقدمة نقلاً عن كتاب (رحمة الأمة) مدى اختلاف الفقهاء في بعض مسائل السجود، وهي مسائل معدودة لم يستوعب مؤلف كتاب (رحمة الأمة) جمیع الشرائط والأجزاء، وقد نبَّهنا على ذلك في محلّه.

ولهذا سوف نبحث الآن في تحديد هوية السجود وجوباً كتاباً وسنة، بشرائطه وموانعه وواجباته وبعض سُننه، وبيان أن ما أمرنا به الشارع تعبداً واشتغلت به ذمَّتنا فرضاً هل يسقط بامتثاله على أي نحو كان، مستندين إلى بعض الآراء والاجتهادات التي سُطّرت في كتب فقه الخلاف.

إذن فلنقرأ أولاً في كتاب الله تعالى ما أوحى به من الأمر بالسجود، ثم نتبع ذلك ثانياً بقراءة ما ورد في سنّة النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم قولاً وعملاً وتقريراً، من بيان أحكام

ص: 59

وواجبات وشرائط وموانع تتعلق بالسجود.

أما أولاً : ففي آي الذكر الحكيم آيتان أمرنا فيهما بالسجود صراحة، دون التي يمكن الاستدلال بها على نحو عناية مَّا من بين جميع الآيات التي وردت في القرآن المجيد، وتضمنت مادة (سجد) اسماً وفعلاً ومصدراً، وهي اثنتان وسبعون آية، وحيث إن الفعل شمل الماضي والمضارع والأمر، فحسبنا منها آيات الأمر فقط، فهي بصيغتها أظهر في الاستدلال بها على الوجوب وإن أمكن الاستدلال بآيات أخر بصيغ وهيئات ثانية، لكن لا يخلو الاستدلال ببعضها من النظر.

أما الآيات التي يعنينا النظر في دلالتها وهي بصيغة الأمر فهي اثنتا عشرة آية : فيها آيتان بصيغة الأمر المذكّر :

أولاهما : قوله تعالى ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ (1)، وحيث فُسِّر الأمر فيها بخطاب الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم خاصة في قوله {فَأَسْجُدْ لَهُ} ، يعني فصَلُّ له .

وقد قال بعض المفسرين في ذلك : من باب استعمال السجود مجازاً عن الصلاة ، بذكر الجزء وإرادة الكل (2) .

وثانيتهما : قوله تعالى {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَأَسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (3) .

والأمر فيها إما على ظاهره أو على نحو ما مرّ في تفسير الآية الأولى، ففي كلتيهما يكون الخطاب خاصّاً بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم، وهذه الدعوى لا تنافي وجوب السجود على كل من قرأ الآية الثانية أو استمع إليها، بموجب الأمر بذلك في السنة.

ومن الآيات الواردة بصيغة الأمر، ولكن الخطاب فيها خاص بالمؤنث قوله تعالى

ص: 60


1- سورة الإنسان الآية 26 .
2- روح المعانی 366/29 .
3- سورة العلق الآية 19 .

{يَا مَرْيَمُ أقْتُتِي لِرَبِّكِ وَأَسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (1) . فهي خاصة بالسيدة مریم علیها السلام.

أمّا الآيات التسع الباقية فمنها خمس آيات ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع. وتوجيه الخطاب فيها إلى الملائكة نحو قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} فهى خارجة عن حيّز الاستدلال.

ومنها آية ورد الخطاب فيها إلى المشركين خاصة، وهي قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ

لَهُمُ أَسْجُدُوا لِلرَّحْمَن قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ (2) .

وفيها آية أخرى ورد الخطاب فيها كسابقتها للمشركين وهي قوله تعالى لا تَسْجُدُوا {لِلشَّمْس وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} (3) فهما خارجتان عن الاستدلال بهما على أصل وجوب السجود في الصلاة.

فكل ما سبق من الآيات الكريمة خاصة بمن خوطب فيها، إن لم نقل إن في الآيتين اللتين خوطب بهما النبي صلی الله علیه و آله وسلم وإن كانت المخاطبة خاصة لكن الدلالة عامة. ففيهما دلالة على المقصود، وهو عنوان وجوب السجود لكن بضميمة أدلة التأسي به صلی الله علیه و آله وسلم، نحو قوله « صلّوا كما رأيتموني أصلّي»، وقد نوقش في ذلك، فيبقى من الآيات آيتان فقط يستدل بهما في المقام، وهما قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اَرْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَأَفْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4)، وقوله تعالى في آية أخرى {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}(5).

وقد استدل الفقهاء بهاتين الآيتين خصوصاً الأولى منهما على وجوب السجود. فقالوا : إنها اشتملت على عدة أحكام : إلزامية{أرْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} ،

ص: 61


1- سورة آل عمران الآية 43.
2- سورة الفرقان الآية 60 .
3- سورة فصلت الآية 37 .
4- سورة الحج، الآية 77.
5- سورة النجم الآية 62.

وغير إلزامية {أفْعَلُوا الْخَيْرَ} ، إلا أن الآية الثانية أكدت الحكم الإلزامي فيما اشتركتا في بيانه، وهي قوله تعالى ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، وبقي الحكم غير الإلزامي وهو {وَأفْعَلُوا الخَيْرَ} ... فهو أمر أخلاقي كما قاله بعض.

وقال آخر : في قوله تعالى {أَرْكَعُوا وَأَسْجُدُوا} أمر بالصلاة، ومقتضى المقابلة أن يكون المراد بقوله {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} الأمر بسائر العبادات المشرعة في الدين كالحج والصوم، ويبقى لقوله تعالى ﴿وَأفْعَلُوا الخَيْرَ} سائر الأحكام والقوانين المشرَّعة، فإن في إقامتها والعمل بها خير المجتمع وسعادة الأفراد وحياتهم كما قال تعالى {أَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (1)، وفي الآية أمر بإجمال الشرائع الإسلامية من عبادات وغيرها (2).

الخلاصة :

أن الفقهاء إنما استدلّوا بهما على وجوب السجود لظهورهما في ذلك.

قال الطبرسي في مجمع البيان: وفي الآية دلالة على أن السجود ههنا واجب على ما ذهب إليه أصحابنا، لأن ظاهر الآية يقتضي الوجوب (3) .

أقول : لا يبعد أن يكون مراد الطبرسي هو سجود التلاوة، إذ سجدة {وَالنَّجْمِ} هي معدودة من سجدات العزائم عند أصحابنا، كما هي دالة على الأمر بسجود الصلاة، ولعلّ ذلك هو مراد القائل : إن في النجم سجدتين.

وقال القرطبي في تفسيره : الركوع فرض قرآناً وسنَّة، وكذلك السجود، لقوله تعالى في آخر الحج {أرْكَعُوا وَأَسْجُدُوا} (4).

وهناك آيات استدل بها على الوجوب، نحو قوله تعالى {وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} ،

ص: 62


1- سورة الأنفال، الآية 24 .
2- راجع تفسير الميزان 411/7 .
3- مجمع البيان 184/5.
4- الجامع لأحكام القرآن 345/1 .

وقوله تعالى {سيماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ، وقوله تعالى {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ

سُجَّداً} (1)، ونحو ذلك من آيات لا يخلو الاستدلال بها من نظر، ويحتاج إلى مزيد عناية، إلا أنه يكفي المستدل على وجوب السجود ما ذكرناه من الآيتين، وقلنا : إنه استدل بهما فقهاء المسلمين، ومنهم فقهاء الشيعة، واستدلال هؤلاء ليس اعتباطاً ولا تخرّصاً ، بل على ضوء ما صحَّ عندهم عن أهل البيت علیهم السلام .

فقد روى الشيخ الطوسي في كتابيه التهذيب والاستبصار في حديث سماعة، قال : سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن ؟ قال : نعم، قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اَرْكَعُوا وَأَسْجُدُوا} الحديث (2).

والآن فلننظر إلى السنة النبوية وما ورد فيها حول الموضوع.

ثانياً : السنة النبوية :

وتشمل الأحاديث القولية والأحاديث الفعلية.

أولاً : الأحاديث القولية :

1 - قال صلى الله عليه واله وسلم : أُمرتُ أن أسجد على سبعة آراب (3).

وقد رواه عنه العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله حبر الأمة وسعد وأبو هريرة وغيرهم. (4)

ص: 63


1- سورة الإسراء، الآية .107.
2- التهذيب ،77/1، الاستبصار 324/1.
3- الآراب كأعضاء وزناً ومعنى، وهي السبعة مساجد.
4- أخرج حديث العباس كل من الترمذي في سننه 61/2 في باب السجود على سبعة أعضاء ، والنسائي في السنن 210/2 في باب السجود على القدمين، وأبو داود في سننه في باب أعضاء السجود على ما في حاشية عون المعبود /337/1 ، وابن ماجة في سنته 286/1 في باب السجود وغير ذلك من كتب الحديث. قال الشوكاني في نيل الأوطار 257/2 : رواه الجماعة إلا البخاري. وقال محمد زاهد الكوثري في مقالاته، ص 178 : وحديث السجود على سبعة أراب مما أخذ به جميع الفقهاء في جميع المذاهب. أقول : رواه الشيخ الطوسي في الخلاف مستدلاً به، وذكره المحدَّث النوري في مستدرك الوسائل 327/1 نقلا عن غوالي اللئالي.

2 - وقال صلی الله علیه و آله وسلم: أُمرتُ - أُمرنا - أن أسجد - أن نسجد - على سبعة أعظُم - أعضاء، وأشار إلى أنفه واليدين والركبتين والقدمين، متفق عليه من حديث ابن عباس.

3 - وقال صلی الله علیه و آله وسلم: السجود على الجبهة والكفين والركبتين وصدور القدمين ، من لم يمكِّن شيئاً منه الأرض أحرقه الله بالنار. من حديث ابن عمر، رواه الدارقطني في الإفراد، وعنه في كنز العمال (1).

4 - وقال صلی الله علیه و آله وسلم: لا يقبل الله تعالى صلاة من لا يُمس أنفه الأرض كما يمس جبهته (2).

وفِقه هذه الأحاديث النبوية من أقواله صلی الله علیه و آله وسلم: أن السجود واجب على الأعضاء : السبعة : أوَّلها الجبهة، كما دلَّت على الطمأنينة فيه كما في حديث ابن عمر، ودلَّت على إرغام الأنف كما في الحديث الرابع وإن كان المراد بعدم القبول فيه القبول التام في الفضل كما سيأتي، ودلّت على أن السجود لا يكون إلا على الأرض كما هو صريح الحديثين الثالث والرابع.

وهناك أحاديث أخرى كثيرة وردت من طرق أهل البيت علیهم السلام، وإليك بعضها:

1 - قال أمير المؤمنين علیه السلام: لا تجزئ صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين (3) .

2 - وقال الصادق علیه السلام: لا صلاة لمن لا يصيب أنفه ما يصيب الجبين (4).

3 - وعن زرارة، قال : سألت أبا جعفر - الباقر علیه السلام عن الفرض في الصلاة،

ص: 64


1- کنز العمال 325/7 .
2- يُمس - بضم الياء وكسر الميم - من قولهم : أمسَّ الشي، أي جعله ماسّاً، وقد مس بنفسه يمس من حد عَلِمَ، وأمسّه غيره أي حمله عليه (طلبة الطالب، ص 17 .
3- التهذيب 298/2 ، الاستبصار .327/1. ومعنى (لا تجزئ) كما مرّ فى معنى قولد (لا يقبل الله) محمول على الكراهة كما ذكره الطوسى فى الاستبصار، والمراد بالقبول والإجزاء القبول التام والإجزاء الكامل في الفضل، وقد ذهب إلى هذا المعنى من الإمامية الفيض الكاشاني في الوافي 108/2 ، والشيخ البهائي في الحبل المتين، ص 242 ، ومنالحنفية السرخسي في المبسوط 34/1 .
4- فروع الكافي 75/1 .

فقال : الوقت والطهور والقِبلة والتوجّه والركوع والسجود والدعاء. فقلت : ما سوى ذلك؟ قال : سُنَّة في فريضة (1).

4 - وعن زرارة عن أحدهما - الباقر أو الصادق - علیه السلام، قال : إن الله تبارك وتعالى

فرض الركوع والسجود، والقراءة سُنّة، فمن ترك القراءة متعمداً أعاد الصلاة، ومن نسي فلا شيء عليه (2).

5 - وقال الصادق علیه السلام: الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود (3).

6 - وقال الصادق علیه السلام: إن الله فرض من الصلاة الركوع والسجود... الحديث (4).

ثانياً : الأحاديث الفعلية : من السنة النبوية على صاحبها التحية.

ا - حديث وائل، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده (5).

2 - حديث أبي حميد الساعدي : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد أمكن جبهته وأنفه من الأرض (6).

3 - حديث تعليم المسيء الذي علمه النبي صلی الله علیه و آله وسلم كيف يصلي، قال له : ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في الصلاة كلها (7).

ص: 65


1- فروع الكافي ،75/1 ، التهذيب 140/2 .
2- من لا يحضره الفقيه 227/1 .
3- فروع الكافي 75/10 التهذيب 140/2 ، من لا يحضره الفقيه 22/1.
4- فروع الكافي 96/10 ، التهذيب 146/2 الاستبصار 353/1 .
5- أخرجه أحمد في مسنده 317/4، ونحوه في ص 315 ، ص 317 أيضاً.
6- سنن الترمذي 59/2 في باب ما جاء في السجود على الجبهة والأنف، صحیح ابن خزيمة 322/1 .
7- الحديث متفق عليه كما في منتقى الأخبار وشرحه نيل الأوطار 264/2، وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في السنن الكبرى 102/2 ، والقرطبي في تفسيره 171/1، وغيرهم من أحاديث عمار وأبي هريرة ورفاعة بن رافع.

4 - حديث مالك بن الحويرث عنه، قال صلی الله علیه و آله وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلّي (1) .

فعلى ضوء هذه الأحاديث النبوية والإمامية كانت الآراء الفقهية عند المذاهب الإسلامية.

1 - فقالت الإمامية الاثنا عشرية : السجود واجب بالنص والإجماع، وهو في كل ركعة سجدتان، هما معاً ركن (2)في الصلاة، لو أخل بهما عمداً أو سهواً بطلت

ص: 66


1- هذا الحديث فصلة من حديث نبوي رواه مالك بن الحويرث، متفق على روايته بين الفقهاء وأهل الحديث، فقد رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها في الأذان 128/1 باب 18 ، وفي الادب 9/8 باب 27 ، وفى 186/9 أيضا. كما رواه الدارمي في سننه في الصلاة، ص 42، وأحمد في مسنده 53/5 ، والبيهقي في سننه 345/2 ، والدارقطني في سننه 273/1، 346، وقال : هذا حديث صحيح، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح 215/1 بتحقيق الألباني، وقال : متفق عليه. ونبَّه المحقق أنه ليس في مسلّم جملة (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) وعنده بقية الحديث. وأخرجه القرطبي في تفسيره 39/1، 171، 173 ، ورواه ابن حجر فتح الباري 251/2 وبقية موارده في البخاري تبعا له. واستدل به من فقهاء الإمامية جماعة منهم المحقق الحلي في كتابه المعتبر، ص 158 في وجوب السجدة على الأرض إلا ما خرج منها بالاستحالة عن اسم الأرض كالمعادن، فراجع. ومن مصادر الزيدية منتهى المرام في شرح آيات الأحكام، ص 389 .
2- من الخير تنبيه القارئ غير المتفقّه باصطلاح الفقهاء إلى المعنى المراد بالركن في أقوالهم : بأن السجود بركعتيه ركن كما مرّ عن الإمامية الاثنى عشرية، وأنه من أركان الصلاة كما هو عند المذاهب الأربعة والزيدية وغيرهم، فما هو معنى الركنية ؟ فإنه لم يرد التعبير به في شيء من الأحاديث، بل الوارد حكم الأركان كل بخصوصه . أقول : قال السيد الجواد العاملي في مفتاح الكرامة 302/2: «الأصل في أفعال الصلاة جميعاً أن تكون ركناً، بمعنى أن تبطل الصلاة بزيادتها أو نقصانها عمداً وسهواً، لأن العبادة توقيفية وشغل الذمة يقيني ويخرج عن الأصل ما قام الدليل على خروجه ويبقى الباقي، وقد استقرأ الفقهاء- كما في المهذب البارع - أفعال الصلاة فوجدوا فيها أفعالاً كثيرة قد دلّ الدليل على عدم البطلان بالسهو فيها زيادة ونقيصة، ووجدوا أن الباقى قد انحصر في الخمسة المشهورة». أقول : ومراد الفقهاء بالخمسة المشهورة : النية وتكبيرة الإحرام - أو تكبيرة الافتتاح - والقيام المتصل بالركوع - يعني الذي عنه يركع المصلي - والركوع والسجود. وليس المراد بها الخمسة التي تعاد منها الصلاة كما توهم بعض، فإن تلك المشار إليها بلفظ : (لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود)، فإن الأمر بالإعادة منها إنما هو لتركها سهوا وجهلاً وعمداً ونسياناً، أما الإخلال بها بالزيادة فظاهر الأخبار منصرف عن ذلك ، إلا الركوع والسجود لأنها دالّة على البطلان في زيادة الركوع والسجود كبقية الأركان الخمس زيادة عمدية، بخلاف الطهور والوقت والقبلة، فهذه الثلاث ليست من أفعال الصلاة، بل هي من مقدماتها، مضافاً إلى عدم تحقق الزيادة فيها، فلاحظ .

صلاته بإجماع العلماء (1).

5،4،3،2 - وقالت المذاهب الأربعة - الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية: السادس - من أركان الصلاة - السجود واجب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ». وهو مرّتان في كل ركعة، وفي عدّ السجود المفروض اختلاف في المذاهب (2) . أقول : سيأتي بيانه في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى.

6 - وقالت الزيدية : السابع - من أركان الصلاة - السجود، وهو ضروري كالركوع (3).

7 - وقالت الإسماعيلية : أدنى ما يجب في الصلاة : تكبيرة الافتتاح والركوع والسجود، من غير أن يتعمّد المصلي ترك شيء مما يجب عليه من حدود الصلاة (4).

8- وقالت الخوارج : السجود فرض فى كتاب الله عز وجل، وهو حد من حدود الصلاة، فمن تركه ناسياً أو متعمّداً فسدت صلاته.

وقالت أيضاً : الخامسة - من سُنن الصلاة بعد الدخول - السجود، لقوله تعالى {وَاسْجُدُوا} (5).

9 - وقالت الظاهرية : وسجدتان إثر القيام المذكور - بعد الركوع - فرض (6) .

ص: 67


1- تذكرة الفقهاء ج 1، في المبحث السادس في السجود، وقارن أيضاً تحرير الأحكام له، ص 40، وقواعد الأحكام أيضاً، ص 345.
2- الفقه على المذاهب الأربعة 190/1.
3- البحر الزخار 265/1 .
4- تأويل دعائم الإسلام 274/1.
5- قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة 403/19 المدونة الكبرى 66/1 .
6- المحلّى 255/3.

الخلاصة :

بعد هذه الجولة السريعة في رحاب القرآن والسنّة وظلال الفقهاء الوارفة، عرفنا أن وجوب السجود هو المُجمع عليه عندهم، لكنهم اختلفوا في تحديد هويّته كيفاً وهيئة وشرطاً ومانعاً وذكراً وفروضاً وسُنَناً.

والذي ينبغي لنا الإلمام به هو معرفة ما هي واجبات السجود مما ذكرنا اختلافهم فيه لنرى الرأي الصحيح، لتتوصّل إلى معرفة السجود الصحيح، وهل السجود على (التربة) هو من السجود الصحيح أم لا؟

ص: 68

المبحث الثالث : في واجبات السجود في الشريعة الإسلامية

اشارة

ما دمنا بصدد إثبات (فضل القرية في السجود على التربة) لا بد لنا أن نعرف واجبات السجود، وعلى ماذا يجب أن يكون السجود (مسجداً ومسجداً)، ومعنى هذا أن نعرف أولاً أعضاء السجود التي يجب أن يُسجد عليها، ثم نعرف ثانياً على ماذا يصح السجود عليه.

إذن لا بد لنا من البحث - ولو إجمالاً - عن واجبات السجود، ولننبَّه القارئ بأنه تختلف عبارات الفقهاء في عرض واجبات السجود، فقد يعبَّر بعضهم عن واجب بأنه واجب، ويعبّر عنه آخر بأنه فرض، وربما عبر عنه ثالث بأنه سنّة، ولكنهم مهما اختلفت عباراتهم وبياناتهم، فآراؤهم لا تعدو ما سنعرضه من رأي الشيعة الإمامية الاثني عشرية في ذلك، وللباحث المقارنة بينه وبين ما يقوله فقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى فيما سيأتي من عرض آرائهم.

قالت الإمامية - كما في شرائع الإسلام واجبات السجود ستة لا غير، وهي :

الأول : السجود على سبعة أعظم: الجبهة والكفان والركبتان وإبهاما الرجلين (1) .

الثاني : وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه..

ص: 69


1- كذا في الأصل، وكان من حق العبارة أن تكون هكذا : (والكفين والركبتين وإبهامي الرجلين) بحكم البدل والمبدل منه، فلاحظ .

الثالث : أن ينحني للسجود حتى يساوي موضع الجبهة موقفه، إلا أن يكون علواً يسيراً قدر لبنة لا أزيد.

الرابع : الذكر فيه وقيل : يختص بالتسبيح كما في الركوع .

الخامس : الطمأنينة حال الذكر.

السادس : رفع الرأس من السجدة الأولى حتى يعتدل مطمئناً.

هذه هي واجبات السجود، ويعنينا البحث منها في الواجب الأول : وهو السجود على سبعة أعضاء.

ثم الواجب الثاني : وهو وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه.

والكلام فيهما يتم في فصلين :

ص: 70

الفصل الأول : في السجود على سبعة أعضاء

اشارة

لقد مرّ في المبحث السابق ذكر الأحاديث التي دلَّت على وجوب السجود عليها، فمن الأحاديث النبوية على صاحبها وآله أزكى السلام وأفضل التحية :

1 - حديث العباس بن عبد المطلب مرفوعاً : وهو حديث سبعة آراب.

2 - حدیث عبد الله بن عباس مرفوعاً : وهو حديث أمر صلی الله علیه و آله وسلم أن يسجد على سبعة أعظم - أعضاء - الخ.

3 - حديث ابن عمر مرفوعاً : وهو حديث السجود على الجبهة والكفين

والركبتين وصدور القدمين : مَن لم يمكِّن شيئاً منه الأرض أحرقه الله بالنار.

ومرّ أيضاً من أحاديث الإمامية :

1 - صحيحة زرارة، قال : قال أبو جعفر - الباقر علیه السلام مرفوعاً عنه صلی الله علیه و آله وسلم: السجود على سبعة أعظم : الجبهة واليدين والركبتين والإبهامين من الرجلين، وترغم بأنفك إرغاماً ، فأمّا الفرض فهذه السبعة، وأما الإرغام بالأنف فسنّة من النبي صلی الله علیه و آله وسلم (1).

2 - صحيحة حمّاد، وهي تتضمن تعليم الإمام الصادق علیه السلام له كيفية الصلاة ، فقال : «فسجد على ثمانية أعظم : الجبهة والكفين وعيني الركبتين وأنامل إبهامي الرجلين والأنف، ثم قال : سبعة منها فرض يُسجد عليها، وهي التي ذكرها الله في كتابه فقال

ص: 71


1- الخصال للصدوق، ص 318 باب السبعة، تهذيب الأحكام 299/2، الاستبصار 327/1.

{وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدا} (1)، وهي الجبهة والكفان والركبتان والإبهامان، ووضع الأنف على الأرض سنّة» (2).

إلى غير ذلك من أحاديث استدل بها فقهاء المسلمين على المرام في المقام، ونكتفي بما ذكرناه، لأنه عمدة ما استدلوا به عليه، ولنُرجع البصر إلى ما عندهم في ذلك، ولا بد لنا أولاً من تحديد العناوين التي سننظر هل يتّفقون عليها، أو يختلفون فيها، وذلك يتم في رؤية الموضوع من ناحيتين :

1 - ناحية الكم.

2 - ناحية الكيف.

وهاتان الناحيتان لا بد أن ينظر إليهما من جهات متعددة :

ففي ناحية الكم مثلا ننظر - أولاً - إليها من زاوية العدد، ثم ننظر إليها - ثانياً - من

زاوية دخول الأنف ضمن العدد أم لا؟

وفي ناحية الكيف ننظر - أولاً - إلى كيفية السجود على تلك الأعضاء، ثم ننظر -

ثانياً - هل يجب أن تكون كلها بارزة على ما يصح السجود عليه أم لا؟

ثم ننظر - ثالثاً - إلى تعيين المقدار الواجب وضعه، بمعنى هل ثمة حدّ أدنى أم لا؟

ففى الناحيتين خمس مسائل :

ص: 72


1- سورة الجن الآية 18 . قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني 91/29 في تفسير الآية المذكورة : وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفرّاء : المراد بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، واحدها : مسجَد - بفتح الجيم - وهى القدمان والركبتان والكفّان والوجه. أي الجبهة والأنف، وروى أن المعتصم سأل ابا جعفر محمد بن علي بن موسى الكاظم رضى الله تعالى عنهم عن ذلك، فأجاب بما ذكر .
2- فروع الكافي 1 / 85 ، من لا يحضره الفقيه 197/1، التهذيب 83/2 .
الناحية الأولى : وفيها مسألتان :
المسألة الأولى : في تعيين عدد الأعضاء التي يجب السجود عليها

ولنمرّ قبل كل شيء بآراء الصحابة والتابعين، ثم نعود إلى آراء فقهاء المسلمين، فنقول :

لقد ورد عن عمر قوله : وُجّه ابن آدم للسجود على سبعة أعضاء : الجبهة والراحتين والركبتين والقدمين.

وورد عن ابن عباس قوله : السجود على سبعة أعضاء : الجبهة والراحتين والركبتين والقدمين.

وورد عن إبراهيم النخعي - وهو من فقهاء التابعين - قوله : أعظم السجود على

الراحتين والركبتين وصدور القدمين .

وورد عن طلق بن حبيب - وهو من فقهاء التابعين - قوله : السجود على الجبهة

والراحتين والركبتين والقدمين (1).

والآن إلى آراء الفقهاء من المذاهب الإسلامية، وإليك التفصيل :

1 - رأي الإمامية الاثني عشرية : قال المحقق الحلّي في المعتبر - وهذا الشيخ من أعاظم فقهاء الشيعة - : « السجود على الأعضاء السبعة واجب في كل سجدة، وهي الجبهة والكفان والركبتان وإبهاما الرجلين، وهو مذهب الشيخين - يعني المفيد والطوسي - وأتباعهما، وأحمد بن حنبل، عدا علم الهدى - المرتضى - فإنه قال: ومفصل الكفّين عند الزندين، ولم يذكر الكفين».

ثم قال : « لنا ما رووه عن ابن عباس، قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : أُمرتُ بالسجود على سبعة أعظم : اليدين والركبتين وأطراف القدمين والجبهة ».

ص: 73


1- آثار الصحابة والتابعين نقلاً عن المصنف لا بن أبي شيبة 261/1 .

«ومن طريق أهل البيت علیهم السلام ما رواه حماد بن عيسى في حكايته صلاة أبي عبد الله الصادق - علیه السلام، قال : وسجد على ثمانية أعظم : الجبهة والكفين وعينى الركبتين وأنامل إبهامي الرجلين والأنف. ثم قال : سبعة منها فرض يسجد عليها، وهي التي ذكرها الله في كتابه فقال (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) ، وهي : الجبهة والكفان والركبتان والإبهامان ووضع الأنف على الأرض سنَّة» (1). وما ذكره الشيخ المحقق الحلي تجده نصّاً أو مضموناً واستدلالاً في باقي الكتب الفقهية، فانظر إلى شيخ فقهاء الشيعة من المتأخرين وهو صاحب (الجواهر) الموسوعة الفقهية الكبرى، فقد قال في كتابه جواهر الكلام :

الأول : - من واجبات السجود - السجود على سبعة أعظم، بلا خلاف أجده فيه بينناً، بل هو مجمع عليه نقلا مستفيضاً كاد أن يكون متواتراً، إن لم يكن تحصيلاً كالنصوص، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر علیه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : السجود على سبعة أعظم...

ثم ذكر تمام الحديث وقد تقدم، ثم قال : وقد علّم الصادق علیه السلام حماداً في الصحيح : فسجد على ثمانية أعظم.

وذكر تمام الحديث وقد مرّ، ثم قال : إلى غير ذلك من النصوص الصريحة في تشخيص السبعة أيضاً وأن منها (الجبهة)، بل هي في معاقد المستفيض أو المتواتر من الإجماع المحكي(2) .

2 - وقالت الحنفية على لسان السمرقندي في تحفة الفقهاء، قال : ثم السجود فرض على بعض الوجه لا غير عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر والشافعي : السجود فرض على الأعضاء السبعة، وهي الوجه واليدان والركبتان والقدمان(3).

ص: 74


1- المعتبر، ص 183.
2- جواهر الكلام 135/10 .
3- تحفة الفقهاء 232/1 .

وقال في حلبي كبير : (وكذلك ركنية السجود) متعلقة بأدنى ما يتعلق به اسم السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض (1).

وقال النابلسي في رشحات الأقلام : (السجود) وهو وضع الجبهة والأنف على الأرض ، لا الخدود والذقن والصدغ...(2)

وقال أيضاً : واليدان والركبتان ظاهر الرواية عدم افتراض وضعهما، وفي التجنيس والخلاصة وعليه فتوى مشايخنا. وأما وضع الرجلين ففي شرح الدرر : فرض في رواية. وهي رواية القدوري : حتى إذا سجد رفع أصابع رجليه عن الأرض لم يجز، كذا ذكره الكرخي والجصّاص، ولو وضع إحداهما جاز. قال قاضي خان: يكره. وذكر الإمام التمرتاشي أن اليدين والقدمين سواء في عدم الفرضية، وهو الذي يدل عليه كلام شيخ الإسلام في مبسوطه، وهو الحق. كذا في العناية. وقال الوالد : وعليه فتوى مشايخنا كما في الظهيرية (3).

3 - وقالت المالكية : قال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد : اتفق العلماء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، لقوله عليه الصلاة والسلام: « أمرتُ أن أسجد على سبعة أعضاء». واختلفوا في من سجد على وجهه ونقص السجود على عضو من تلك الأعضاء، هل تبطل صلاته أم لا ؟ فقال قوم : لا تبطل صلاته، لأن اسم السجود إنما يتناول الوجه فقط. وقال قوم: تبطل إن لم يسجد على السبعة الأعضاء للحديث الثابت. ولم يختلفوا أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه، واختلفوا في من سجد على أحدهما، فقال مالك : إن سجد على جبهته دون أنفه جاز، وإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجز.

ص: 75


1- حلبي كبير، ص 282.
2- رشحات الأقلام شرح كفاية الغلام على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، ص 36.
3- المصدر السابق، ص 37.

وقال أبو حنيفة : بل يجوز ذلك. وقال الشافعي : لا يجوز إلا أن يسجد عليهما جميعاً (1).

4 - وقالت الحنابلة : كما جاء في المغني لابن قدامة المقدسي : والسجود على جمیع هذه الأعضاء واجب إلا الأنف، فإن فيه خلافاً سنذكره إن شاء الله. وبهذا قال طاووس والشافعي في أحد قوليه وإسحاق. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي في القول الأخر : لا يجب. والسجود على الجبهة، لقول النبي صلی الله علیه و آله وسلم : «سجد وجهي». وهذا يدل على أن السجود على الوجه، ولأن الساجد على الوجه يسمَّى ساجداً، ووضع غيره على الأرض لا يُسمَّى ساجداً. والأمر ينصرف إلى ما يسمَّى به ساجداً دون غيره. ولأنه لو وجب السجود على هذه الأعضاء لوجب كشفها. وذكر الآمدي هذا رواية عن أحمد قال القاضي في الجامع : هو ظاهر كلام أحمد... ولنا ما روي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «أمرت بالسجود على سبعة أعظم : اليدين

والركبتين والقدمين والجبهة» متفق عليه. وروي عن ابن عمر رفعه : إن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه رفعهما رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وسجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه، وسقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود، فإنا نقول كذلك في الجبهة على رواية، وعلى الرواية الأخرى : فإن الجبهة هي الأصل، وهي مكشوفة عادة بخلاف غيرها، فإن أخل بالسجود بعضو من هذه الأعضاء لم تصح صلاته عند مَن أوجبه (2).

5 - وقالت الشافعية - كما في كتاب الأم للإمام الشافعي : قال الشافعي : وفي هذا - السجود على الأعضاء السبعة - مُفضِياً بها إلى الأرض قولان : أحدهما : أن يكون عليه أن يسجد على أعضائه التي أمرته بالسجود عليها، ويكون حكمها غير حكم الوجه في أن له أن يسجد عليها كلها متغطية والقول الثاني : أنه إذا سجد على

ص: 76


1- بداية المجتهد ونهاية المقتصد 100/1.
2- المغني 515/1 .

جبهته أو على شيء منها - يعني مفضياً إلى الأرض - دون ما سواها أجزأه ... (1)

6 - وقالت الزيدية - كما في نيل الأوطار للشوكاني بعد ذكره حديث (سبعة آراب) ، قال : والحديث يدلّ على أن أعضاء السجود سبعة، وأنه ينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها. وقد اختلف العلماء في وجوب السجود على هذه السبعة الأعضاء، فذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه إلى وجوب السجود على جميعها، للأوامر التي ستأتي من غير فصل بينها. وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأكثر الفقهاء : الواجب السجود على الجبهة فقط، لقوله صلی الله علیه و آله وسلم: « ومكَّن جبهتك ». ووافقهم المؤيّد بالله في عدم وجوب السجود على القدمين. والحق ما قاله الأولون (2).

7 - وقالت الإسماعيلية - كما في الدعائم والكفان والقدمان والركبتان من المساجد (3).

8 - وقالت الخوارج - كما في المدونة الكبرى لأبي غانم الخراساني الأباضي : وذكر طاووس عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، قال : يسجد من الإنسان وجهه وكفّاه وركبتاه وقدماه.

قال المرتب : عبارة (وجهه) هذه أحسن، لشمولها الجبهة والأنف، وهما اللذان يصلان الأرض من الوجه بخلاف رواية عائشة (جبهة) فإنها لا تشمل الأنف (4) .

9 - وقالت الظاهرية - كما في المحلى لابن حزم: ووضع الجبهة والأنف واليدين والركبتين وصدور القدمين على ما هو قائم عليه - مما أبيح له التصرف عليه فرض كل ذلك (5).

ص: 77


1- كتاب الأم 1/ 114.
2- نيل الأوطار 257/2-258 .
3- دعائم الإسلام 178/1-179.
4- المدونة الكبرى 90/1 .
5- المحلّى 255/3 .

الخلاصة :

تبين مما تقدم عرضه : أن الإمامية الاثني عشرية قالوا - ووافقهم على ذلك بعض من ذكرنا أقوالهم - بوجوب السجود على الأعضاء السبعة المذكورة في الأحاديث، وقالوا باستحباب إرغام الأنف، وقالوا : لو أخلّ بها عامداً بطلت صلاته، وكذا لو أخل بأحدها، لأنه جزء من الصلاة، فلا يتحقق الامتثال مع فواته (1).

وقال الشيخ الطوسي في الخلاف : وضع اليدين والركبتين والقدمين في حال السجود فرض.

دليلنا : إجماع الفرقة، وخبر حماد وزرارة يدل على ذلك، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، فإن مَن فعل ما قلناه كانت صلاته مجزية بلا خلاف، وليس على إجزائها إذا ترك ذلك دليل، وخبر ابن عباس الذي قدّمناه يدل على ذلك، وروى العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب : وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه .

المسألة الثانية : في إرغام الأنف

والسؤال الآن : هل يجب السجود على الأنف كالجبهة أم لا؟

أقول : لقد عُلم مما مر ذكر الأنف مع الأعضاء التي يجب وضعها على الأرض، واختلف الفقهاء في حكم وضع الأنف معها ، فمنهم من اعتبر ذلك فرضاً، ومنهم من اعتبره سنّة، ومنهم من اعتبر وضعه مجزياً عن الجبهة، ومنهم من لم يعتبر ذلك ولم يقل بالإجزاء.

ومن الخير أن نمرّ ببعض ما مر - ولو إشارة - لنقف على الصحيح في ذلك.

ص: 78


1- المعتبر، ص 183 .

فمن الأحاديث التي قد مرّت جملة (لا صلاة) و (لا يجزي) و (لا يقبل الله)، وقلنا إنها منصرفة إلى الفرد الأتم الأكمل، ذي الثواب الأفضل تأسياً به صلی الله علیه و آله وسلم، لأنه كان يسجد على جبهته وأنفه كما في حديث وائل.

ومنها : قوله صلی الله علیه و آله وسلم وقد مرّ بإنسان ساجد لا يضع أنفه في الأرض، فقال : مَن صلّى صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين لم تقبل صلاته.

أما آثار الصحابة والتابعين الدالة على الإرغام قولاً وفعلاً :

ا - فمنها ما روي عن ابن عباس ، قال : إذا سجد أحدكم فليلزق أنفه بالحضيض،

فإن الله قد ابتغى ذلك منكم (1)

2 - ومنها ما روي عن ابن عمر : كان إذا سجد وضع أنفه مع جبهته (2) .

3 - ومنها ما روي عن أبي إسحاق، قال : رأيت أصحاب علي وأصحاب عبد الله - يعني ابن مسعود - وآثار السجود في جباههم وأنا فهم (3).

4 - ومنها ما روي عن إبراهيم - النخعي - قال : السجود على الجبهة والأنف.

5 - ومنها ما روي أن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرّ على عبد الله بن عيسى وهو ساجد، فقال : يا ابن عيسى ضع أنفك الله.

6 - ومنها ما روي عن سعيد بن جبير قال : ما تمَّت صلاة رجل حتى يلزق أنفه كما يلزق جبهته.

7 - ومنها ما روي عن طاووس وسئل عن السجود على الأنف قال : أوليس أكرم

الوجه، يعني تسجد عليه لتذلّه لله تعالى.

8 - ومنها ما روي عن عكرمة أنه قال : ضع أنفك حتّى يخرج منه الرغم. فقيل له : ما الرغم ؟ قال : الكِبر.

ص: 79


1- المصنف لابن أبي شيبة 262/1.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق 308/1 .

9 - ومنها ما روي عن نافع بن جبير : كان يُمس أنفه الأرض.

10 - ومنها ما روي عن ابن سيرين : كان إذا سجد على الأرض وكان لا يمس أنفه

الأرض تحوَّل إلى مكان آخر (1).

آراء الفقهاء :

بعد أن انتهينا من عرض سريع و عابر لبعض الأحاديث النبوية وبعض آثار الصحابة والتابعين في مسألة السجود على الأنف، تبين لنا أنه مستحب مؤكّد لا ينبغي التساهل فيه فلنقرأ ما يقوله فقهاء المسلمين في ذلك.

1 - قالت الأمامية : وضع الجبهة على الأرض حال السجود فرض، ووضع الأنف سنة. كذا قال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتاب الخلاف.

ثم قال : دليلنا : إجماع الفرقة، وحديث حماد وزرارة في وصف الصلاة تضمن ذلك، وروي عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن يسجد على سبع : يديه وركبتيه وأطراف أصابعه وجبهته (2).

وعلى ضوء ما تقدم صحّ قولهم : يستحب أن يصيب الأرض بأنفه مضافاً إلى جبهته، وهو الإرغام ، ولا يجوز الاقتصار على الأنف دون الجبهة.

قال المحقق الحلي في المعتبر: (لنا) قوله علیه السلام : «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم».

ولم يذكر الأنف فيحمل روايتهم على الاستحباب، ويؤيد ذلك ما روي عن أهل

البيت عليهم السلام :

منها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر علیه السلام: سألته عن حد السجود؟ فقال : ما بين

ص: 80


1- كل ما قلناه من آثار الصحابة والتابعين نقلناه عن المصنف لابن أبي شيبة 262/1 . إلا الثامن فقد نقلناه عن المصنف لعبد الرزاق 181/2 .
2- الخلاف 123/1 .

قصاص الشعر إلى موضع الحاجب، ما وضعت منه أجزأك.

وأما استحباب الإرغام بالأنف فعليه علماؤنا، وروى ذلك زرارة عن أبي جعفر علیه السلام، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : السجود على سبعة أعظم : الجبهة واليدين والركبتين و الإبهامين، وترغم بالأنف إرغاماً، والفرض السبعة، والإرغام سنَّة النبي صلی الله علیه و آله وسلم)(1).

2 - وقالت الحنفية : يجزئ السجود على الأنف كما يجزي السجود على الجبهة وحدها، كذا قال أبو حنيفة (2) .

فهو يجزئ بأيّهما اتفق، لأنهما كالعضو الواحد، فالمصلى بالخيار بين أن يقتصر على أنفه أو على جبهته، فأيهما فعل أجزأه، غير أنه لو وضع الجبهة وحدها جاز من غير كراهة، ولو وضع الأنف وحده جاز مع الكراهة.

وقال أبو يوسف ومحمد - بن الحسن الشيباني - : الفرض في حال الاختيار هو وضع الجبهة، حتى لو ترك لا يجوز، وأجمعوا - الحنفية - أنه لو وضع الأنف في حال العذر جاز، ولا خلاف أن المستحب هو الجمع بينهما في حال الاختيار (3).

3 - وقالت المالكية - كما جاء في المنتقي لأبي الوليد الباجي قوله : وأما الجبهة والأنف فهما كالعضو الواحد، والأنف عند ابن القاسم تبع للجبهة، فإن سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه، وإن سجد على الأنف دون الجبهة لم يجزه. وقال ابن حبيب : هما سواء، ومن لم يسجد عليهما لم يجزه (4) .

أقول : واستدل لكل قول بوجه فمن شاء الإطلاع فليراجعه .

ص: 81


1- المعتبر، ص 84 .
2- قال ابن المنذر : لا أعلم أحداً سبق إلى هذا القول، ولعله ذهب إلى أن الجبهة و الأنف عضو واحد، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكر الجبهة أشار إلى أنفه، و العضو الواحد يجزئه السجود على بعضه. وهذا قول يخالف الحديث الصحيح، والإجماع الذي قبله، فلا يصح . راجع المغني لابن قدامة المقدسي 517/1.
3- راجع : تحفة الفقهاء للسمر قندي ،232/1، وبدائع الصنائع للكاساني 313/1.
4- المنتقى 287/1 .

4 - وقالت الحنابلة - كما في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي : (والسجود على هذه الأعضاء) واجب أي ركن إلا الأنف على إحدى الروايتين :

إحداهما : يجب السجود عليه وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. قال القاضي : اختاره أبو بكر وجماعته. قال في الفروع : اختاره الأكثر، وصحّحه ابن عقيل في الفصول، وصاحب تصحيح المحرر، واختاره ابن عبدوس في تذكرته، وجزم به في الإفادات والمنتخب ونظم المفردات وهو منها، وقدمه في الخلاصة والرعايتين والحاويين والفروع وابن تميم والفائق ابن رزين وشرحه.

والرواية الثانية : لا يجب اختاره القاضي وصحّحه في التصحيح، وجزم به في الوجيز، وقدّمه في إدراك الغاية، وروى الآمدي عن الإمام أحمد : أنه لا یجب السجود على غير الجبهة. قال القاضي في الجامع : هو ظاهر كلام الإمام أحمد (1).

وقال ابن قدامة المقدسي في المغني: في الأنف روايتان إحداهما : يجب السجود عليه، وهذا قول سعيد بن جبير وإسحاق وأبي خيثمة وابن أبي شيبة، لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه... الخ. وإشارته تدل على أنه أراده.

ثم ذكر حديث عكرمة، ثم قال: والرواية الثانية : لا يجب السجود عليه، وهو قول عطاء وطاووس وعكرمة والحسن وابن سيرين والشافعي وأبي ثور وصاحبي أبي حنيفة - أبي يوسف ومحمد - لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم » . ولم يذكر الأنف منها (2).

5 - وقالت الشافعية - كما في كتاب الأم للإمام الشافعي، قال : كمال فرض السجود وسننه أن يسجد على جبهته وأنفه وراحتيه وركبتيه وقدميه، وإن سجد على

ص: 82


1- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد 66/2 .
2- المغنى 1/ 516.

جبهته دون أنفه كرهت ذلك له وأجزأه، لأن الجبهة موضع السجود.

ثم ذكر بسنده حدیث رفاعة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر رجلاً إذا سجد أن يمكّن وجهه من الأرض حتى تطمئن مفاصله ... إلى آخر الحديث (1).

6 - وقالت الزيدية - كما جاء في البحر الزخار للإمام المهدي لدين الله : السجود على سبعة آراب، كما روى ابن عباس فلا يجب على الأنف مع الجبهة إذ لم يذكر.

ونقل ذلك عن العترة - وهم القاسمية والناصرية، باصطلاح المؤلف - وعن الحسن البصري وابن سيرين وطاووس وسفيان الثوري وعطاء ومحمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف القاضي - وهما تلميذا أبي حنيفة - ثم حكى عن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعكرمة وإسحاق بن راهويه : يجب لفعله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قال : «كما رأيتموني» (2).

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وفي قوله (والجبهة) حجة مَن قال بوجوب السجود على الجبهة دون الأنف، وإليه ذهب الجمهور.

وقال أبو حنيفة : إنه يجزئ السجود على الأنف، ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده.

وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب - من المالكية - وغيرهم إلى أنه يجب جمعهما، وهو قول الشافعي (3).

7 - وقالت الإسماعيلية - كما جاء في دعائم الإسلام : وأمكن جبهتك وأنفك من الأرض، وأخرج يديك من كمّيك، وباشر بهما الأرض أو ما تصلى عليه (4).

وجاء فيه أيضاً : والكفان والقدمان والركبتان من المساجد (5).

ص: 83


1- كتاب الأم 114/1.
2- البحر الزخار 266/1 ومراده قوله صلی الله علیه و آله وسلم : صلّوا كما رأيتموني أصلي. وقد مرّ ذكر الحديث والإشارة إلى بعض مصادره.
3- نيل الأوطار 258/2 .
4- دعائم الإسلام 163/1 .
5- المصدر السابق 178/1 .

8 - وقالت الخوارج - كما جاء في قاموس الشريعة : واختلف أهل العلم على السجود دون الأنف، ممن يأمر بالسجود على الأنف ابن عباس و عكرمة و عبد الرحمن بن أبي ليلى.

وقال سعيد بن جبير : مَن لم يضع أنفه على الأرض في سجوده لم تتم صلاته. وقال طاووس : الأنف من الجبين. وقال النخعي : السجود على الجبهة والأنف. وبه قال مالك و الثوري وأحمد ، وقال : لا يجزيه السجود على أحدهما دون الآخر. وقال إسحاق : مَن سجد على الجبهة دون الأنف عمداً فصلاته فاسدة...

وقالت طائفة : يجزي أن يسجد على جبهته دون أنفه.

هذا قول عطاء وطاووس وعكرمة وابن سيرين والحسن البصري، وبه قال الشافعي ويعقوب ومحمد وقال الثوري : ولا أرى له.

وقال قائل : إنّ وضع جبهته ولم يضع أنفه فقد أساء وصلاته تامة، هذا قول النعمان (1).

وجاء في المدونة الكبرى لأبي غانم الخراساني الأباضي : قال المرتب : لا يرخّص في السجود على الجبهة وحدها، وذلك بأنا أمرنا أن نسجد على الوجه، والذي يصل الأرض منه هو الجبهة و الأنف، فلا بد منهما معاً. وكان يذكر عن أبي

عبيدة : الشك في جمع الأنف والجبهة.

قال المرتب : أي في وجوب جمعهما (2).

9 - وقالت الظاهرية - كما جاء في المحلّى لابن حزم : ولا يجزي السجود على الجبهة والأنف إلا مكشوفين، ويجزي في سائر الأعضاء مغطاة (3).

ص: 84


1- قاموس الشريعة 423/19 .
2- المدونة الكبرى 92/1 .
3- المحلى 255/3 .

الخلاصة :

يتبين مما قدمناه اختلاف الفقهاء في ذلك، فكانوا على ثلاثة مذاهب :

1 - الوجوب على نحو البدلية.

2 - الوجوب على نحو الجمع.

3 - الاستحباب.

أما الذين قالوا بالبدلية فهم أبو حنيفة وبعض أتباعه، وقد مرّ ذكر ذلك عند عرض آراء فقهاء الحنفية.

وأما الذين أوجبوا السجود على الأنف والجبهة معاً فهم الأوزاعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه كما مرّ عن المرداوي في الإنصاف (1)، وتبعه بعض فقهاء الحنابلة كما مرّ، وقال به ابن حبيب من المالكية، وقال به الشافعي كما مرّ عن نيل الأوطار (2). وقال بذلك من الحنفية السرخسي في المبسوط، فقال : ويسجد على جبهته وأنفه، واظَبَ على هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه تمام السجود (3).

وجاء في إبانة الأحكام : مشروعية السجود على الجبهة والأنف : قال أحمد بوجوب الجمع بينهما، فلو سجد على أحدهما لم يجزه ذلك (4).

ومرَّ عن البحر الزخار : وقال إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعكرمة : يجب على الأنف لفعله صلی الله علیه و آله وسلم وقد قال : «كما رأيتموني» (5).

وحجة ما ذكرنا في ذلك قوله صلی الله علیه و آله وسلم : « لا يقبل الله تعالى صلاة مَن لا يُمس أنفه الأرض كما يمِس جبهته». وقد مرّ الحديث مشفوعاً بحديث علوي، ولفظه : لا

ص: 85


1- الإنصاف 66/2 .
2- نيل الأوطار 258/2 .
3- المبسوط 34/1.
4- إبانة الأحكام في شرح بلوغ المرام 423/1.
5- البحر الزخار 266/1 .

يجزي صلاة من لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين.

وقد بيّنا هناك أن معنى «لا يقبل الله» ومعنى «لا تجزي» هو نفي الكمال لا نفي الصحّة، وأن الفرد الأتم والأفضل في الامتثال هو الإرغام.

وقلنا : إن ذلك هو رأي الشيخ البهائي العاملي - من الإمامية - في الحبل المتين (1). كما هو رأي شيخ الإسلام السرخسي - من أعلام الحنفية - في المبسوط (2).

وأما الذين لم يوجبوا السجود على الأنف، بل قالوا بالاستحباب فهم الإمامية استناداً إلى ما مرّ في حديث زرارة، وقد مرّ في أول الفصل، وفيه: فأما الفرض فهذه السبعة، وأما الإرغام بالأنف فسنّة من النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

واستندوا إلى ما مرّ في صحيحة حماد : فسَجد على ثمانية أعظم : الجبهة و الكفين وعيني الركبتين وأنامل إبهامي الرجلين، والأنف، ثم قال : سبعة منها فرض يُسجد عليها، وهي التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدا} ، وهي الجبهة والكفان والركبتان والإبهامان، ووضع الأنف على الأرض سنّة.

وغيرهما من أحاديث الباب التي دلّت على ذلك، وقولهم يجمع بين أخبار المساجد السبعة وأخبار السجود على الأنف، بحمل الأولى على الوجوب والثانية على الاستحباب.

ووافقهم على ذلك من بقية المذاهب الشافعي والحسن البصري وابن سيرين وعطاء وطاووس والثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وأبو ثور، كما في الخلاف للشيخ الطوسي (3).

ص: 86


1- الحبل المتين، ص 242 .
2- المبسوط 34/1 .
3- الخلاف 123/1 .

ولما كان السجود على الأنف - على أي المذاهب كان حكمه - هو وضعه على ما يصح السجود عليه. لكن ما ورد في بعض الأحاديث التي مرّت من التعبير بالإرغام، والإرغام معناه وضعه على الرَّغام. والرَّغام - بالفتح - التراب كما في الصحاح وغيره، فيقال : أرغم الله أنفه، ألصقهُ بالتراب . ولما كان إرغام الأنف وهو سنّة فوضع الجبهة وهو واجب - عليه أولى، فتبين أن السجود على التربة هو الأفضل، إذ هو المناسب لمعنى الخضوع والتذلّل، وهذا ما يصنعه الشيعة حيث يسجدون على التربة وهي من التراب.

الناحية الثانية : جهة الكيف، وفيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية السجود على المساجد السبعة هيئة

لقد مرّ بنا في المباحث السابقة نحو قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومكِّن جبهتك من الأرض» مما دلّ على كيفية وضع الجبهة على الأرض، وأن تكون مع التمكين.

وهناك أحاديث تدلّ على كيفية وضع بقية المساجد، نحو قوله صلی الله علیه و آله وسلم: اعتدلوا في سجودكم، ولا يبسط أحدكم ذراعيه (1).

ونحو قوله صلی الله علیه و آله وسلم: إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب (2).

ونحو أمره الله ، بوضع الكفين و نصب القدمين في السجود (3) .

ووردت أحاديث إمامية في ذلك :

منها : ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله - الصادق - علیه السلام، قال : رأيته يضع يديه قبل ركبتيه إذا سجد، وإذا أراد أن يقوم رفع ركبتيه قبل يديه.

ص: 87


1- المصنف لابن أبي شيبة 1/ 259.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق 262/1.

وما رواه الحسين بن أبي العلاء، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل يضع

يديه قبل ركبتيه في الصلاة؟ قال : نعم (1) .

... وغير ذلك.

أما ما روي من الآثار فقد روى عبد الرحمن بن القاسم، قال : صلّيت إلى جنب حفص بن عاصم، فلما سجدت فرّجت بين أصابعي، وأملت كفّي عن القبلة، فلما سلّمت قال : يا ابن أخي، إذا سجدت فاضمم أصابعك، ووجّه يديك قبل القبلة، فإن اليدين تسجدان مع الوجه (2) .

وأما ما ذكره الفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية، فلا يخرج في مضمونه عما

مرّ، ولنقرأ شيئاً مما قالوه :

1 - قالت الإمامية - كما في الخلاف للطوسي : إذا أراد السجود تلقّى الأرض بيديه أولاً ثم ركبتيه، وهو مذهب عبد الله بن عمر والأوزاعي ومالك. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري : يتلقّى الأرض بركبتيه ثم بيديه ثم جبهته وأنفه، وحكوا ذلك عن عمر بن الخطاب.

دليلنا : إجماع الفرقة، وأيضاً رواه حماد بن عيسى و زرارة في خبريهما.

وأيضاً لا خلاف أن مَن فعل ما قلناه صلاته ماضية صحيحة، وإذا خالف ليس على كمالها دليل .

وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال : إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه، ولا يبرك كما يبرك البعير ... (3)

2 - وقالت الحنفية : إن وضع - المصلي - جبهته ولم يضع أنفه ولا يديه ولا ركبتيه أجزأه ذلك، وكذلك يجزئه أن يضع في السجود أنفه ولا يضع جبهته ولا

ص: 88


1- الوسائل : الباب الأول من أبواب السجود.
2- المصنف لا بن أبي شيبة 260/1 .
3- الخلاف 122/1 .

يديه ولا ركبتيه. هكذا حكاه ابن حزم في المحلّى عن أبي حنيفة (1) .

أقول : لكن الأحناف لم يتابعوه كلهم على ذلك، فقد قال شيخ زادة الحنفي في مجمع الأنهر : (ووضع يديه وركبتيه على الأرض) حالة السجود، لقوله عليه الصلاة والسلام : «أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعضاء) وعدّ منها اليدين والركبتين، وهو سنّة عندنا، لتحقق السجود بدون وضعهما، وأما وضع القدمين فقد ذكر القدوري أنه فرض في السجود كما في التبيين (2).

وقال الشيخ إبراهيم الحلبي في غنية المتملّي : (ووضع اليدين والركبتين) في السجود (ليس بواجب) أي بفرض، بل هو سنّة، وأما قول الأكمل في شرح الهداية : (وذكر التمرتاشي : أن اليدين والقدمين سواء في عدم الفرضية، وهو الذي يدلّ عليه كلام شيخ الإسلام في مبسوط، وهو الحق) ، فبعيد عن الحق، وبضده أحق، إذ لا رواية تساعده والدراية تنفيه (3).

وقال السمرقندي في تحفة الفقهاء : فإذا اطمأن قائماً ينحط للسجود ويكبّر الانحطاط، ولا يرفع يديه، ويضع ركبتيه على الأرض، ثم يديه ثم جبهته ثم أنفه، وقيل : أنفه ثم جبهته (4).

وفي الفتاوى الهندية : قالوا : إذا أراد السجود يضع أولاً ما كان أقرب إلى الأرض، فيضع ركبتيه أولاً، ثم يديه ثم أنفه ثم جبهته. وإذا أراد الرفع يرفع أولاً جبهته ثم أنفه ثم يديه ثم ركبته قالوا : هذا إذا كان حافياً، أما إذا كان متخفّفاً(5) فلا يمكنه وضع الركبتين أولاً، فيضع اليدين قبل الركبتين، ويقدم اليمنى على اليسرى - كذا في التبيين - ويضع يديه في السجود حذاء أذنيه، ويوجه أصابعه نحو القبلة، وكذا

ص: 89


1- المحلّى 258/3 .
2- مجمع الأنهر 90/1.
3- غنية المتملى، ص 284 .
4- تحفة الفقهاء 231/1 .
5- أي لابساً خفا.

أصابع رجليه ويعتمد على راحتيه، ويبدي ضبعيه عن جنبيه، ولا يفترش ذراعيه. كذا في الخلاصة - ويجافي بطنه عن فخذيه - كذا في الهداية (1).

3 - وقالت المالكية - كما في بداية المجتهد لابن رشد الحفيد : وكذلك اختلفوا إذا سجد هل يضع يديه قبل ركبتيه؟ أو ركبتيه قبل يديه؟ ومذهب مالك : وضع الركبتين قبل اليدين، وسبب اختلافهم أن في حديث - وائل - ابن حجر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع یدیه قبل ركبتيه.

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه. وكان عبد الله بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه (2).

4 - وقالت الحنابلة - كما جاء في المغني لابن قدامة : (ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه ثم جبهة وأنفه) هذا المستحب في مشهور المذهب، وقد روي ذلك عن عمر، وبه قال مسلم بن يسار النخعي وأبو حنيفة والثوري والشافعي . وعن أحمد رواية أخرى أنه يضع يديه قبل ركبتيه، وإليه ذهب مالك لما روي عن أبي هريرة...

ثم قال ابن قدامة : ولنا ما روى وائل بن حجر.... (3) .

ثم قال : ويكون في سجوده معتدلاً، ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويكون على أطراف أصابعه (4).

ثم ذكر أدلة ذلك، ثم قال : ويستحب أن يضع راحتيه على الأرض مبسوطتين مضمومتي الأصابع، بعضهما إلى بعض مستقبلاً بهما القبلة، ويضعها حذو

ص: 90


1- الفتاوى الهندية 58/1 .
2- بداية المجتهد ونهاية المقتصد 99/1 .
3- المغني 514/1.
4- المصدر السابق 518/1-519 .

منكبيه . (1)

5 - وقالت الشافعية - كما في الإقناع للخطيب الشربيني : ولا يجب كشفها - يعني المساجد الستة عدا الجبهة - بل يكره كشف الركبتين كما نص عليه في الأم (2).

وجاء في كتاب الأنوار لأعمال الأبرار للإمام يوسف الأردبيلي الشافعي: الركن السابع السجود، والشروط : الأول : أن يضع من الجبهة ما يقع عليه الاسم، فلا يجزي الجبينان، وهما جانبا الجبهة، ولا يجب وضع اليدين والركبتين، ويستحب، وقيل : يجب. الثاني : أن يتحامل على المسجَد بحيث تستقر الجبهة، وينال الموضع ثقل الرأس وعنقه. ولو سجد على قطن أو حشيش أو شيء آخر محشوّ بهما وجب أن يتحامل بحيث ينكبس وتثبت جبهته. الثالث : أن يضع مكشوفاً، فلو سجد على طرته - شعر الناصية - أوكور عمامته أو كمّه أو ذيله المتحرِّك بحركته قياماً وقعوداً لم يحصل السجود... (3)

6 - وقالت الزيدية - كما في البحر الزخار : نقلاً عن العترة - القاسمية والهادوية - وعن الأوزاعي ورواية عن مالك : وأول ما يضع يداه ثم ركبتاه، لفعله صلی الله علیه و آله وسلم، ولقوله : فليضع يديه قبل ركبتيه.

ونقلاً عن عمر والحنفية والشافعية والثوري وابن راهويه وأحمد وإبراهيم

النخعي: كان يقدم ركبتيه. وعن الناصر ورواية عن مالك: يخيَّر، جمعاً بين الأخبار .قال صاحب البحر الزخار : قلنا : لا تخيير مع الترجيح (4) .

وقال أيضاً: وندب التجافي كفعله صلی الله علیه و آله وسلم والتخوية ورفع الرجل عجيزته، لفعله صلی الله علیه و آله وسلم في خبر ميمونة، لا المرأة فتضمم.

وعن الناصر والمؤيد والشافعي : ويضع كفيه حذاء منكبيه. وعن أبي طالب

ص: 91


1- المصدر السابق 520/1 .
2- الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1931.
3- الأنوار لأعمال الأبرار 93/1 .
4- البحر الزخار 265/1 .

ونسبه للعترة - القاسمية والهادوية - حذاء خديه. وعن القاسم و أبي حنيفة : حذاء

أذنيه.

قلت - والقائل هو صاحب البحر الزخار - : والأول أقرب، بُعداً من بسط الذراعين واستكمالاً للتجافي، ويضم أصابعه وإبهاميه نحو القبلة، لفعله صلی الله علیه و آله وسلم... ويرفع مرفقيه، ویکره فرش الذراعين لنهي... (1)

وقال أيضاً : والسبعة سواء في الوجوب، لقوله صلی الله علیه و آله وسلم : «سبعة» ولم يفصّل. ونُقل عن جماعة : الواجب الجبهة فقط، لقوله صلی الله علیه و آله وسلم : «فمكّن جبهتك» (2) .

وفي المذهب : ولا يجزي ظاهر الكفّين والقدمين وحروفهما للمخالفة، ويجزئ

البعض كالجبهة.

7 - وقالت الإسماعيلية - كما في دعائم الإسلام وتأويل الدعائم : وعنه علیه السلام أنه قال : إذا سجدت فلتكن كفاك على الأرض مبسوطتين، وأطراف أصابعك حذاء أذنيك نحو ما يكونان إذا رفعتهما للتكبير، واجنح بمرفقيك، ولا تفرش ذراعيك، وأمكِن جبهتك وأنفك من الأرض، وأخرِج يديك من كُميّك، وباشر بهما الأرض أو ما تصلّي عليه، ولا تسجد على كور العمامة، احسر عن جبهتك (3).

8- وقالت الخوارج - كما في المدونة الكبرى ي غانم الخراساني الاباضي : قال المرتب : قوله : « أول ما يسبق من المصلي يداه، وآخر ما يبقى يداه » یعني يقدم اليدين في السجود عن الركبتين، ويؤخّرهما في الرفع لسهولة ذلك (4).

وجاء فيها أيضاً : قال المرتب : قال أبو حميد الساعدي : إن النبي صلی الله علیه و آله وسلم إذا سجد أمكن أنفه وجبهته الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه.

ص: 92


1- المصدر السابق 267/1 .
2- المصدر السابق 268/1 .
3- دعائم الإسلام 1 / 163 ، تأويل الدعائم 280/1 .
4- المدونة الكبرى 93/1 .

قال الترمذي : وهو حسن صحيح (1) .

وجاء فيها كذلك : والسنّة أن القدمين والركبتين لا يُرفعان كما يُرفع الوجه واليدان في كل سجدة، وصلاته ماضية. وهذا القياس، لأنه حكى أدنى السجود الذي أجمعوا عليه أن من تركه بطلت صلاته وليس اليدان بالسجود الذي أجمعوا عليه. وإنّ رفعهما في الصلاة لسنّة، والسنة المجمع عليها أن الصلاة يبطلها ترك السجود الذي أجمعوا عليه، والركوع، وليس اليدين [كذا والصواب اليدان] مثل ذلك (2)

9 - وقالت الظاهرية - كما في المحلى لابن حزم : وفرض على كل مصلي أن يضع - إذا سجد - يديه على الأرض قبل ركبته ولا بد (3).

وجاء فيه أيضاً : وأما في السجود فيقنطر ظهره جداً ما أمكنه، ويفرّج ذراعيه ما أمكنه ، الرجل والمرأة فى كل ذلك سواء (4).

الخلاصة :

1 - أن الإمامية ذهبت إلى استحباب تلقي الأرض باليدين أولاً ثم بالركبتين تبعاً لأحاديث أهل البيت علیهم السلام، ووافقهم على ذلك من فقهاء المذهب الإسلامية الباقية : الزيدية والأوزاعي ومالك وأحمد - في إحدى الروايتين من كل منهما، وكان ذلك ما يفعله ابن عمر، وروى الحازمي عن الأوزاعي قال : أدركتُ الناس يضعون أيديهم قبل رُكَبهم.

قال ابن أبي داود : وهو قول أصحاب الحديث استناداً إلى حديث أبي هريرة، وقد رجّحه ابن حجر، وكذلك الحافظ ابن سيد الناس وقال : أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح.

ص: 93


1- المصدر السابق 91/1 .
2- المصدر السابق 92/1 .
3- المحلّى 128/4 .
4- المصدر السابق 122/4 .

2 - وذهبت الإمامية أيضاً إلى استحباب أن يكون المصلّي حال سجوده مجنّحاً ۔ بالجيم ثم النون المشددة والحاء المهملة - أي رافعاً مرفقيه عن الأرض، جاعلاً يديه كالجناحين. ونُقل على استحباب التجنيح الإجماع كما في الحدائق (1).

ووافقهم في ذلك بعض الحنفية كما عن الفتاوى الهندية، والحنابلة كما مرّ عن المغنى، والزيدية كما مرّ عن البحر الزخار، والإسماعيلية كما مرّ عن الدعائم وتأويل الدعائم، وكذلك الخوارج كما مرّ عن المدونة الكبرى.

المسألة الثانية : هل يجب أن تكون جميع المساجد بارزة لمباشرة ما يصح السجود عليه؟

لقد مر بنا في معنى السجود شرعاً وفي عرض آراء الفقهاء أن معناه وضع الجبهة على الأرض، وأضاف بعضهم وضع الأنف وجوباً، إما على نحو البدلية أو التخيير.

وبعضهم قال ذلك استحباباً، ومن الخير مراجعة ذلك للاستذكار في المقام.

كما أنه مرّ في المسائل الثلاث - قبل هذا - ما دلّ على أن المساجد السنة - اليدين والركبتين وإبهامي القدمين - لا يجب الكشف عنها، وإنّ ذكر بعضهم في اليدين خاصة أن يكونا على ما يسجد عليه المصلي كما هي حال الجبهة، إذ لا كلام في وجوب وضعها بارزة على ما يصح السجود عليه.

وقد وردت أحاديث دلّت على ذلك مرّ بعضها في أوائل المسائل الثلاث السابقة ، وهناك آثار عن الصحابة والتابعين نذكر بعضها :

1 - قال عمر : إذا سجد أحدكم فليباشر بكفيه الأرض، لعل الله يصرف عنه الغل إن غل يوم القيامة.

2 - وقال أسامة بن زيد : رأيت سالماً إذا سجد أخرج يديه من برنسه حتى

ص: 94


1- الحدائق الناضرة 292/8 .

يضعهما يباشر بكفيه الأرض إذا سجد.

3 - وعن أبي إسحاق بن سويد قال : رأيت أبا قتادة العدوي إذا سجد يخرج بديه تمسهما الأرض.

إلى غير ذلك من آثار، فراجع المصنف لابن أبي شيبة (1)تجد ما نقلناه وغيره.

أما آراء فقهاء المسلمين فإليك بعض ما عندهم في المقام :

1 - قالت الإمامية : كما جاء في المعتبر للمحقق الحلي، قال : ووضع الجبهة على ما يجوز السجود عليه شرط في صحته، وقد سلف بيانه، ولا يشرط ذلك في غير الجبهة، وعليه علماؤنا أجمع (2).

وقال الطوسي في الخلاف : إنّ كشف يديه في حال السجود كان أفضل، وإن لم يفعل أجزأه. دليلنا : إجماع الفرقة، ولأن الأصل براءة الذمة، وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل (3).

2 - وقالت الحنفية : حدّ السجود المفروض هو أن يضع جزءاً ولو قليلاً من جبهته على ما يصح السجود عليه ... ولا بدّ من وضع إحدى اليدين وإحدى الركبتين وشيئاً من أطراف إحدى القدمين، ولو كان إصبعاً واحداً، أما وضع اكثر الجبهة فإنه واجب، ويتحقق السجود الكامل بوضع جميع اليدين والركبتين وأطراف القدمين والجبهة والأنف (4).

أقول: وهذا لا يدل صراحة على لزوم كشف جميع المساجد نعم ورد في الفتاوى الهندية : و لو ستر قدميه في السجدة يكره، كذا في الخلاصة (5) .

3- وقالت المالكية - كما جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد : واختلفوا

ص: 95


1- المصنف 266/1_267 .
2- المعتبر، ص 183 .
3- الخلاف 173/1 .
4- الفقه على المذاهب الأربعة : ج 1 - 190 ط 2 ، دار الكتب المصرية 1349ه- .
5- الفتاوى الهنديّة : ج 1 - 585 مصر 1276 ه- .

أيضاً هل من شرط السجود أن تكون المساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه، أم ليس ذلك من شرطه؟

فقال مالك : ذلك من شرط السجود - أحسبه شرط تمامه.

وقال جماعة : ليس ذلك من شرط السجود (1).

وجاء في الموطأ لمالك عنوان : (وضع اليدين على ما يوضع عليه الوجه في السجود).

وروي عن نافع عن ابن عمر : كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته. قال نافع : ولقد رأيته في يوم شديد البرد، وإنه ليُخرج كفيه من تحت برنس له حتى يضعهما على الحصباء.

وروي أيضاً عن نافع أن ابن عمر كان يقول : مَن وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته، ثم إذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه (2).

وقال الباجي في المنتقى في شرح الحديث الأول : قوله : (إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه) وهو السنة، والذي يجب أن يُعمل به، لأن اليدين مما تُرفع وتُوضع في السجود كالوجه، وبخلاف سائر الأعضاء، فلزم أن يكون حكمهما حكم الوجه فيما يوضعان عليه، وإن كان عليه الأصابع - يعني غشاء متّخذ للأصابع من الجلد - فلا يصلي بها. رواه ابن القاسم عن مالك.

وقال الباجي أيضاً : ويستحب أن يباشر بجبهته الأرض في السجود... وأما الركبتان والقدمان فليس من سننهما مباشرة الأرض في السجود، لأنهما لا يُرفعان ويُوضعان في السجود، ولأنهما مستورتان في الغالب. وقد روي عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنه

ص: 96


1- بداية المجتهد ونهاية المقتصد 100/1 .
2- الموطأ بشرح تنوير الحوالك للسيوطى 136/1.

قال : أُمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، ولا أكفت الشعر ولا الثياب (1).

4 - وقالت الحنابلة - كما في المغني لابن قدامة : وقال أبو الخطاب : لا يجب

مباشرة المصلي بشي من أعضاء السجود إلا الجبهة، فإنها على روايتين.

وقد روى الأثرم قال : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن السجود على كور العمامة ؟ فقال : لا يسجد على كورها، ولكن يحسر العمامة. وهذا يحتمل المنع (2).

وقال ابن قدامة في المغني في مناقشة من تمسك بإحدى الروايتين عن أحمد كما ذكر الآمدي ذلك : ولأنه لو وجب السجود على هذه الأعضاء لوجب كشفها كالجبهة.

وقال : وسقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود... (3)إلى أخر ما مرّ من كلامه في المسألة الأولى، فراجع.

أقول : ولقد مرّ في المسألة الثانية قول المرداوي : والسجود على هذه الأعضاء

واجب - أي ركن - إلا الأنف على إحدى الروايتين.

ثم قال بعد ذلك : وجزم الناظم أن السجود على هذه الأعضاء ومباشرة المصلي بها واجب لا ركن، وقال : يجبره إذا تركه ساهياً أتى بسجدتي السهو.

5- وقالت الشافعية - كما جاء في كتاب الأم للشافعي :

قال الشافعي : وأُحب أن يباشر راحتيه الأرض في البرد والحر، فإن لم يفعل وشدّهما من حر أو برد وسجد عليهما فلا إعادة ولا سجود سهو.

وقال : ولا أحب هذا كله في ركبتيه، بل أحب أن تكون ركبتاه مستترتين بالثياب، ولا أحب أن يخفف عن ركبتيه من الثياب شيئاً، لأني لا أعلم أحداً أمر بالإفضاء

ص: 97


1- المنتقى 287/1 .
2- المغني 517/1.
3- المصدر السابق 515/1 .

بركبتيه إلى الأرض. وأحب إذا لم يكن متخففاً - يعني لابساً خفاً - أن يفضي بقدميه الأرض، ولا يسجد منتعلاً، فتحول النعلان بين قدميه و الأرض، فإن أفضى بركبتيه إلى الأرض أو ستر قدميه من الأرض فلا شيء عليه، لأنه قد يسجد منتعلاً متخففاً ولا يفضي بقدميه إلى الأرض.

قال الشافعي : وفي هذا قولان : إحدهما : أن يكون عليه أن يسجد على جميع أعضائه التي أمرته بالسجود عليها، ويكون حكمها غير حكم الوجه، في أن له أن يسجد عليها كلها متغطية فتجزيه، لأن اسم السجود يقع عليها وإن كانت محولاً دونها بشي. فمن قال هذا قال : إن ترك جبهته فلم يوقعها الأرض وهو يقدر على ذلك فلم يسجد ، وإن سجد على ظهر كفّه لم يجزه، لأن السجود على بطونها، وكذلك إن سجد على حروفها وإن ماسّ الأرض ببعض يديه أصابعها أو بعضها أو راحتيه أو بعضهما، أو سجد على ما عدا الجبهة متغطياً أجزأه، وهكذا في القدمين والركبتين. قال الشافعي : وهذا مذهب يوافق الحديث.

والقول الثاني : أنه إذا سجد على جبهته أو على شيء منها دون ما سواها أجزاء، لأنه إنما قصد بالسجود قصد الوجه تعبّداً الله تعالى، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره» ، وأنه أمر بكشف الوجه، ولم يأمر بكشف ركبته ولا قدمه (1) .

6 - وقالت الزيدية - كما جاء في البحر الزخار : مسألة : ( ه- ق ش ) (2)- يعني : قال الهادي إلى الحق والقاسم الرسي من أئمة : - الزيدية، والشافعي - : ولا يجب الكشف عن السبعة إذ لم يفصّل الخبر - يعني خبر ابن عباس : أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم.

ص: 98


1- كتاب الأم 1 / 114.
2- يستعمل المؤلف الرموز رعاية للاختصار، ونحن بدورنا نذكرها مفسرة بين خطين.

(ن تض ط قش) - يعني قال الناصر والمرتضى وأبو طالب والناطق بالحق وهم من أئمة الزيدية، والشافعي في قوله الآخر - إلا الجبهة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ويمكّن جبهته من الأرض.

و (فلم يشكنا) (1)فلا يجزي على كور العمامة.

(م ح) - يعني قال الإمام المؤيد بالله من أئمة الزيدية، وأبو حنيفة - : يجزي لفعله صلی الله علیه و آله وسلم (ط) - يعني قال الإمام أبو طالب الناطق بالحق - : لعله لعذر، أو سجد على بعض الجبهة.

(قش) - يعني قال الشافعي - : واليدان كالجبهة لقول خبّاب : في أكُفّنا وجباهنا فلم يشكّنا.

(م ح) - يعني قال المؤيد بالله وأبو حنيفة - : لا يجب كشفها كعصابة الحرّة.

قلنا: سوّغتها الضرورة، ولا ضرورة في غيرها. ولا يضر ستر القدمين والركبتين إجماعاً (2).

7 - وقالت الإسماعيلية - كما في دعائم الإسلام : وإذا سجدت فلتكن كفّاك على الأرض مبسوطتين... وأمكن جبهتك وأنفك من الأرض، وأَخرِج يديك من كمّيك، وباشر بهما الأرض أو ما تصلي عليه، ولا تسجد على كور العمامة، واحسر عن جبهتك (3).

وجاء فيه أيضاً : وأمر بإبراز اليدين وبسطهما على الأرض أو ما يصلي عليه عند السجود ، وقال : والكفان والقدمان والركبتان من المساجد (4).

8 - وقالت الخوارج - كما جاء في المدونة الكبرى : وذكر طاووس عن النبي

ص: 99


1- إشارة إلى حديث خباب بن الأرت قال : شكونا إليه صلی الله علیه و آله وسلم فلم يشكّنا. وسيأتي الحديث بتمامه في المسائل الآتية.
2- البحر الزخار 168/1.
3- دعائم الإسلام 163/1 .
4- المصدر السابق 178/1 .

صلی الله علیه و آله وسلم قال : يسجد من الإنسان وجهه وكفّاه وركبتاه وقدماه.

قال المرتب : عبارة وجهه هذه أحسن، لشمولها الجبهة والأنف، وهما اللذان يصلان الأرض من الوجه بخلاف رواية عائشة (جبهته)، فإنها لا تشمل الأنف...

ثم ذكر حديثها، وقال : وذكر أبو سعيد الخدري قال : رأيت أثر الطين على جبهة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في صلاته. وذكر عكرمة عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال : لا يقبل الله صلاة امرئ لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب جبهته....

وذكروا عن عمر أنه رأى رجلاً ساجداً قد رفع قدميه عن الأرض، وقال عمر : أسجد (1)على الخمسة وهو سبعة؟!

والسنّة في السجود أنه يقع وجهه على الأرض، والأنف من الوجه، فإن لم يفعل وسجد على الجبهة مضت صلاته ولا سهو عليه (2) .

وجاء في قاموس الشريعة : قال أبو سعيد : وأما سائر أعضائه التي قد قيل إنها مساجد، فقد يخرج في معاني قولهم - أصحابنا - إنه يجزيه السجود على دون أكثر جبهته إلا من ضرورة، وأما سائر أعضائه... فلا يجزيه ترك شيء منها، فإنها مثل الجبهة لا يجوز إلا السجود عليها أو على أكثرها (3) .

9 - وقالت الظاهرية - كما جاء في المحلّى لابن حزم : ولا يجزئ السجود على

الجبهة والأنف إلا مكشوفين ويجزئ فى سائر الأعضاء مغطاة (4).

وقال أيضاً : ولا يحل للمصلي أن يضم ثيابه أو يجمع شعره قاصداً بذلك للصلاة ، لقول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذي قد ذكرناه بإسناده : أمرت أن أسجد سبعة أعظم وأن لا أكفت شعرًا ولا ثوباً (5).

ص: 100


1- كذا ورد فى المطبوعة، ولعل الصواب (أسجود على الخمسة وهو سبعة)، فلاحظ .
2- المدونة الكبرى 90/1 .
3- قاموس الشريعة 428/19 - 429 .
4- المحلّى 255/3 .
5- المصدر السابق 17/4 .

وفقه كلامه أنه يجب السجود على المساجد السبعة كيفما كانت دون وجوب الكشف عنها، وحيث إن الجبهة والأنف - ملحقاً بها - واليدين من أعضاء السجود البارزة فيباشر بها الأرض، وسيأتي لابن حزم كلام - مثل ما مرّ - يذكر ذلك فيه في مسألة لزوم مباشرة الجبهة للأرض من دون حائل كما يأتي في المسائل الآتية إن شاء الله.

الخلاصة :

انتهينا بعد هذا العرض العابر السريع :

أولاً : إلى أن الأمامية يرون وجوب وضع الجبهة مكشوفة - من دون حائل - على ما يصح السجود عليه دون باقي المساجد فلا يجب الكشف عنها.

ووافقهم على ذلك الشافعي في أحد قوليه، ومن الزيدية الأئمة الثلاثة : الناصر والمرتضى والناطق بالحق، كما هو رأي بعض الحنابلة على إحدى الروايتين عن أحمد، وهو رأي بعض الخوارج أيضاً.

وثانياً : ذهبوا إلى أن كشف اليدين في حال السجود مستحب كما مرّ عن الشيخ الطوسي في الخلاف (1)، وأنه أفضل، وإن لم يفعل أجزأه، ووافقهم على فضل ذلك الشافعي في أحد قوليه، وزاد فقال : إنه يجب كشف اليدين كالجبهة وما مرّ من كلام الباجي من المالكية، وما مرّ عن الإسماعيلية يوحي بذلك فراجع...

المسألة الثالثة : في تعيين مقدار ما يجب وضعه من المساجد

لقد ورد في الأحاديث النبوية - كما مرّ - قوله صلی الله علیه و آله وسلم في تعليم المسيء: « ومكَّن جبهتك من الأرض». ونحوه مما يدل على مباشرة المصلي للأرض بجبهته وكفاية

ص: 101


1- الخلاف 173/1 .

مسمَّى المباشرة عرفاً، كما ورد في الأحاديث الإمامية أيضاً ما يدل على ذلك.

1 - كصحيحة زرارة عن أحدهما علیهم السلام: قال : قلت له : الرجل يسجد وعليه : قلنسوة أو عمامة ؟ فقال : إذا مس شيء من جبهته الأرض فيما بين حاجبيه وقصاص شعره فقد أجزأه (1).

2 - وصحيحته الأخرى عن أبي جعفر علیه السلام، قال : الجبهة كلها من قصاص شعر الرأس إلى الحاجبين موضع السجود، فأيما سقط من ذلك إلى الأرض أجزأه مقدار الدرهم ومقدار طرف الأنملة (2).

3 - وصحيحة بريد بن معاوية عن أبي جعفر علیه السلام، قال : الجبهة إلى الأنف أيّ ذلك أصبت به الأرض في السجود أجزاك، والسجود عليه كله أفضل (3) .

إلى غير ذلك من الأحاديث، أما الآثار عن الصحابة والتابعين فإليك بعضها :

1 - ما ورد عن عمر أنه قال : إذا وضع الرجل جبهته بالأرض أجزأه.

2 - ما ورد عن ابن مسعود قال : (إذا أمكن الرجل يديه من ركبتيه والأرض من جبهته فقد أجزأه) - يعني الركوع والسجود -

ودل على ذلك ما أورده ابن أبي شيبة (4)من آثار التابعين في ذلك، ومنها :

3 - ما ورد عن الإمام محمد الباقر علیه السلام قال : يجزئه من الركوع إذا وضع يديه على ركبتيه، ومن السجود إذا وضع جبهته على الأرض.

4، 5، 6، 7 - وذكر ابن أبي شيبة نحو ذلك ، وحكاه عن طاووس وعكرمة وعطاء - فيما ظنّه الراوي، ونحو ذلك عن مجاهد أنهم قالوا : إذا مكّن جبهته من الأرض فقد قضى ما عليه.

أما آراء فقهاء المذاهب في ذلك فهي كما يلي :

ص: 102


1- الوسائل : باب 9 من أبواب السجود.
2- المصدر السابق .
3- المصدر السابق .
4- المصنف 215/1.

1 - قالت الإمامية - كما جاء في الحدائق : واختلف الأصحاب فيما يجب وضعه على الأرض ونحوها، فالمشهور الاكتفاء بالمسمَّى، وما يصدق به كغيرها من الأفراد الأخر.

وقال الصدوق ابن بابويه في موضعين من الفقيه (1) وابن إدريس في السرائر بتحديده بقدر الدرهم (2) .

ثم ذكر صاحب الحدائق ما استدلوا به للمشهور، وساق جملة من الأحاديث مرّ بعضها.

ووجه ما استدلوا به هو غلبة استعمال الاجزاء في أقل الواجب، وذلك هو المسمّى.

ووجه ما ذهب إليه الصدوق ابن بابويه وابن إدريس بأن لا ينقص عن سعة

الدرهم ومقدار الأنملة هو التصريح بذلك في صحيحة زرارة الثانية، وقد تقدمت.

2 - وقالت الحنفية - كما جاء في حلبي كبير : (وكذلك ركنية السجود) متعلقة بأدنى ما يتعلق به اسم السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض (3).

وفي تحفة الفقهاء للسمرقندي : ثم السجود فرض على بعض الوجه لا غیر (4)

وجاء في الفقه على المذاهب الأربعة :

حدُّ السجود المفروض هو أن يضع جزءاً ولو قليلاً من جبهته على ما يصح السجود عليه. أما وضع جزء من الأنف فقط فإنه لا يكفي إلا لعذر على الراجح. أما وضع الخد أو الذقن فقط فإنه لا يكفي مطلقاً لا لعذر ولا لغير عذر.

ولا بدّ من وضع إحدى اليدين أو إحدى الركبتين وشيء من أطراف إحدى

ص: 103


1- من لا يحضره الفقيه 175/1 في باب ما يُسجد عليه وما لا يُسجد عليه، نقلاً عن رسالة أبيه إليه، وفي 105/1 في باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها، أيضاً نقلاً عن رسالة أبيه إليه.
2- الحدائق الناضرة 280/8 .
3- حلبي كبير، ص 282 .
4- تحفة الفقهاء 232/1 .

القدمين ولو كان إصبعاً واحداً. أما وضع أكثر الجبهة فإنه واجب، ويتحقق السجود

الكامل بوضع جميع اليدين والركبتين وأطراف القدمين والجبهة والأنف (1).

3 - وقالت المالكية - كما في الفقه على المذهب الأربعة : يفترض السجود على أقل جزء من الجبهة - وهي مستدير ما بين الحاجبين إلى مقدّم الرأس - فلو سجد علی أحد الجبينين لم يكفه، ويندب السجود على أنفه، ويعيد الصلاة مَن تركه في الوقت مراعاة للقول بوجوبه ، والوقت هنا في الظهرين إلى الاصفرار، وفي العشاءين والصبح إلى طلوع الفجر والشمس، فلو سجد على أنفه دون جبهته لم يكفه.

وأما السجود على اليدين والركبتين وأطراف القدمين فسنّة. ويندب إلصاق جميع الجبهة بالأرض وتمكينها (2) .

4 - وقالت الحنابلة - كما جاء في الفقه على المذاهب الأربعة : والكمال في السجود على الأرض أن يضع جميع بطن كفّيه وأصابعه على الأرض ويرفع مرفقيه، فإن أقتصر على بعض باطنها أجزأه (3).

قال أحمد : إنّ وضع من اليدين بقدر الجبهة أجزأه (4).

وقالوا : إن الحد المفروض فى السجود أن يضع بعض كل عضو من الأعضاء السبعة الواردة في قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين» .

وقالوا : لا يتحقق السجود إلا بوضع جزء من الأنف زيادة على ما ذكر.

5 - وقالت الشافعية - كما في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع : ويجب وضع جزء من ركبتيه ومن باطن كفّيه ومن باطن أصابع قدميه في السجود، لخبر الشيخين

ص: 104


1- الفقه على المذاهب الأربعة 1 / 190 .
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المغني لابن قدامة 520/1 .

: أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين (1) .

وقالوا : إن الحد المفروض في السجود أن يضع بعض كل عضو من الأعضاء السبعة الواردة في الحديث المتقدم، ويشترط أن يكون السجود بطون الكفّين وبطون أصابع القدمين.

6 - وقالت الزيدية - كما جاء في البحر الزخّار : (هب) - يعني جاء في المذهب - : ولا يجزي ظاهر الكفَّين والقدمين وحروفهما للمخالفة، ويجزئ البعض كالجبهة (2) .

وجاء فيه أيضاً : ونُدب - يعني السجود - على كل الجبهة للخبر، ويجزئ على العصابة ونحوها للعذر ، وعلى ناصية الرجُل، إذ سجد صلی الله علیه و آله وسلم على قصاص رأسه (3).

7 - وقالت الإسماعيلية - كما جاء في دعائم الإسلام وتأويل الدعائم : وأقل ما يجزئ أن يصيب الأرض من جبهتك قدر الدرهم (4) .

8 - وقالت الخوارج - كما جاء في قاموس الشريعة :

مسألة : وسألته عن المصلّي إذا سجد على حصاة صغيرة، فأخذت أقلّ سجوده من جبهته، أتتم صلاته أم لا؟ قال : فإن كان ذلك من غير عذر وهو يمكنه غير ذلك، فأحب وما يعيد صلاته. وإن كان من عذر تمت صلاته قلت له : وما العذر الذي تتم فيه الصلاة؟ قال : فمن ذلك أن لا يجد موضعاً غيره. قلت له : فإن أخذت تلك الحصاة نصف سجوده من جبهته أو أكثر تمت صلاته إذا كانت من غير عذر؟ قال :

إذا أخذت أكثر موضع سجوده أحببت تمام صلاته، وإن كان أقل من ذلك من غير عذر أحببت له الإعادة (5).

ص: 105


1- الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 193/1.
2- البحر الزخار 268/1 .
3- المصدر السابق 269/1 .
4- دعائم الإسلام 1 / 164 ، تأويل الدعائم 280/1.
5- قاموس الشريعة 407/19 .

الخلاصة :

هذه هي آراء الفقهاء من جميع المذهب الإسلامية، وتكاد تلتقي في جملتها على الاكتفاء بالمسمّى في خصوص الجبهة، نظراً لما ورد في الأحاديث من التعبير بالإجزاء في المماسة، وإن اختلفت بيانات الفقهاء في ذلك.

وحيث انتهينا إلى نهاية هذه المسألة نختم الكلام في الفصل الأول من واجبات السجود، وهو السجود على الأعضاء السبعة، وبيّنا في مسائله الخمس ما يتعلق به كمّاً وكيفاً، وتحصّل لدينا عدة أمور :

ففي المسألة الأولى : عرضنا عدد المساجد التي يجب السجود عليها باتفاق من المسلمين، ثم ما اختلفوا فيه.

وفي المسألة الثانية : عرفنا أن السجود على الأنف ليس واجباً، بل هو مستحب استحباباً مؤكَّداً لا ينبغى تركه، وأنه لا يجزئ السجود عليه وحده بدلاً عن السجود على الجبهة كما ذهب إليه بعض الأحناف، وعرفنا أن السجود عليه يسمَّى إرغاماً، لأنه يوضع على الرّغام - بالفتح - وهو التراب، ومنه قولهم : أرغم الله أنفه، أي أذلَّه

بالتراب.

وفي المسألة الثالثة : عرفنا كيفية وضع المساجد على الأرض في هيئتها، و ما ينبغي في ذلك وما لا ينبغي.

وفي المسألة الرابعة : عرفنا عدم وجوب مباشرة جميع المساجد لما يصح السجود عليه بل الواجب باتفاقٍ هو الجبهة خاصة، كما عرفنا ما يستحب وضعه على الأرض مباشرةً من بقية أعضاء السجود.

وفي المسألة الخامسة : عرفنا مقدار ما يجزئ وضعه من المساجد مباشرةً على الأرض.

وفي كل هذه المسائل استعرضنا آراء فقهاء المسلمين من شتى المذاهب وبيَّنا

ص: 106

لكل مذهب مقالة أصحابه. وآخر المطاف تحصّل لدينا أن الجميع قالوا - باتفاق تحقيقاً - بوجوب السجود بالجبهة على الأرض، كما قالوا - باتفاق تقريباً - بالاكتفاء بمسمَّى المباشرة، وعن بعض الإمامية و الإسماعيلية وربما غيرهم بأن أدنى ما يجزئ في ذلك قدر الدرهم . وحدّه بعضهم بطرف الأنملة.

ولما كان السجود على الأنف يسمى إرغاماً لأنه يوضع على الرغام - بالفتح - وهو التراب ومرّ أيضاً أن إرغام الأنف مستحب مؤكَّد، فوضع الجبهة على التراب أولى، لأنه سجود واجب. والآن فلنقرأ الواجب الثاني من واجبات السجود، وهو وجوب وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه.

ص: 107

ص: 108

الفصل الثاني : في وجوب وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه

اشارة

لقد ذكر فقهاء المسلمين - باتفاق من جميع المذاهب الإسلامية - أن السجود في الصلاة يجب فيه وضع الجبهة على الأرض أو ما أنبتت ، وإن اختلفوا في مفهوم الأرض سعةً وضيقاً، كما اختلفوا في المراد بما أنبتت قصراً على غير المأكول والملبوس، أو شمولاً لهما أيضاً.

وكل ذلك الاختلاف مبسوط في الجوامع الفقهية لجميع المذاهب الإسلامية، بحثه أصحابها الأعلام، استناداً إلى أحاديث نبوية أو إمامية أو آثار عن الصحابة والتابعين، ممن يؤخذ بأقوالهم ويحتج بأفعالهم، كما سيأتي بيان بعض ذلك مما يعنينا ذكره .

أما الآن والذي يعنينا أمره هو الكلام في ناحيتين :

الناحية الأولى: في تعيين مفهوم الأرض، وبيان مصداقيتها في هذا المقام، أعني صحّة السجود عليها، فهل يشمل عنوان السجود عليها كل ما هو منها وعليها فقط، أو هو شامل أيضاً لما فيها، لتكون جميع المعادن - مثلاً - أو بعضها دون بعض داخلاً في العنوان؟

الناحية الثانية: في مدى انطباق عنوان ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، على خصوص ما يأكله عامة الناس عادة، أو شامل حتى لما يؤكل في ظرف خاص ،

ص: 109

أو بلد خاص أو قوم دون قوم كالبدو والحضر؟ وفي كلتا الناحيتين سنمرّ ببعض أدلة الفقهاء وكلماتهم، فننقل منها ما يزيد المقام إيضاحاً، ومن ثم ننتهي إلى أن السجود على التراب أفضل كل أنواع ما يصحّ السجود عليه، أرضاً كانت أو ما أنبتت، وبالتالي ننتهي إلى أن السجود على مطلق التربة التي طائفة من تراب طاهر ديف بماء طاهر، ثم يَبُست ، لم يخرجها ذلك عن كونها تراباً، فتكون هي من أفضل أنواع ما يصح السجود عليه، لأنا نضع عليها أشرف ما عندنا وهو الوجه تذللاً وخضوعاً الله تعالى .

وحينئذٍ - إذا عرفنا ذلك - فلا داعي إلى التهريج على الشيعة، ما داموا يسجدون على أفضل أنواع ما يصح السجود عليه.

فاقرأ الآن ما يقوله السيد مرتضى الزبيدي في كتابه إتحاف المتقين شرح إحياء علوم الدين للغزالي :

قال المناوي - الشافعي - نقلاً عن الشيخ محي الدين قدس سره، قال : لما جعل الله الأرض لنا ذلولاً نمشي في مناكبها فهي تحت أقدامنا نطؤها بها، وذلك غاية الذلة، فأمرنا أن نضع عليها أشرف ما عندنا وهو الوجه، وأن نمرِّغه عليها جبراً لانكسارها ، فاجتمع بالسجود وجه العبد ووجه الأرض، فانجبر كسرها، وقد قال تعالى : (أنا عند المنكسرة قلوبهم).

فلذلك كان العبد في تلك الحالة أقرب إلى الله تعالى من سائر أحوال الصلاة (1).

ويقول الغزالي في الإحياء : ثم تهوي إلى السجود ، وهو أعلى درجات الاستكانة، فتمكَّن أعز أعضائك وهو الوجه من أذلّ الأشياء وهو التراب، وإن أمكنك ألا تجعل بينهما حائلاً فتسجد على الأرض فافعل، فإنه أجلب للخشوع وأدلّ على الذُّل، وإذا وضعت نفسك موضع الذّل فاعلم أنك وضعتها موضعها، ورددت الفرع إلى أصله،

ص: 110


1- إتحاف المتقين بشرح إحياء علوم الدين 33/3 .

فإنك من التراب خُلقتَ وإليه تعود، فعند هذا جدِّد على قلبك عظمة الله وقل : (سبحان ربي الأعلى) وأكِّده بالتكرار، فإن الواحدة ضعيفة الأثر، فإذا رقّ قلبك وظهر ذلك، فلتصدِّق رجاءك في رحمة الله، فإن رحمته تتسارع إلى الضعف والذّل، لا إلى التكبر والبطر ، فارفع رأسك مكبِّراً وسائلاً حاجتك، قائلاً : (ربٌ اغفر وارحم وتجاوز عمّا تعلم) أو ما أردت من الدعاء، ثم أَكّد التواضع بالتكرار، فعُد إلى السجود ثانياً كذلك (1) .

فانظر بربِّك هل يحصل لديك وفي قلبك توجّه كما وصفه السيد الزبيدي والغزالي، وأنت تسجد على شيء غير التراب؟!

الناحية الأولى : في تعيين مفهوم الأرض ومدى مصداقيتها في المقام
اشارة

والكلام في تعيين ذلك المفهوم إنما نحتاجه لبيان معرفة ما اتفق عليه فقهاء المسلمين وما اختلفوا فيه، ليكون مورد الاتفاق - وهو بمثابة المجمَع عليه بينهم - ملتقى العمل للفرد المسلم من أيّ مذهب كان، فيسعه الأخذ به دون ما مؤاخذة عليه أو نكير، وبذلك يسقط عنه التكليف بامتثاله.

أما ما اختلفوا فيه فهو متروك لأتبَاع كل مذهب وما اختلفوا به.

و بيان ذلك يتم في مقامين :

المقام الأول : في تحديد هويّة الأرض.

المقام الثاني : في أدلّة وجوب السجود عليها.

ص: 111


1- إحياء علوم الدين 169/1.
المقام الأول : في تحديد هوية الأرض

إن دراسة الأرض من حيث تكوينها تدخل في علم الكيمياء والجيولوجيا، ومن حيث دراسة التضاريس تدخل في علم الجغرافية الطبيعية، ومن حيث توزيع الكائنات الحية وطرق معاشها تدخل في علم الأحياء والجغرافيا البشرية، ومن حيث ومن حيث... إلى آخر ما أودع الله تعالى في الكرة الأرضية من عجائب الصنعة والتركيب، وغرائب الطبائع والعناصر، وليس كل ذلك داخلاً في العنوان الذي ذكرناه، وليس مرادنا وفيما اخترناه .

إذن قد يكون من المستغرب لدى القارئ حين يقرأ العنوان، فيدور في خلده سؤال بل مسائل كالسؤال الآتي : ما دام كل ما ذكر لا يعنينا إذن لماذا هذا التحديد ؟ فهل الإنسان بحاجة لمعرفة هوية الأرض؟ وهل هناك مَن لا يعرف الأرض وهو يعيش على ظهرها ؟

وللجواب على ما قد يدور في نفسه من هاجس التساؤل نقول له : لا ، كما نقول له أيضاً : نعم، ولا نزيده بذلك استغراباً، كما لا نطيل خطاباً، بل لدفع ما يتخيله في الجواب من التضاد نقول له :

أما قولنا : (لا)، يعني لا أرض غير هذه معني بها في المقام، وهي التي يعيش عليها الإنسان وغيره من الكائنات، وهي التي تقابل قوله تعالى ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} (1) .

وقوله تعالى ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (2)فلا أرض غير هذه مخاطب بالسجود عليها.

أما جوابنا ب- (نعم) فإن الأرض اسم جنس كما قال اللغويون، ولكل جنس أنواع

ص: 112


1- سورة الغاشية، الآية 18 .
2- سورة الغاشية الآية 20.

وأفراد بينها تمايز لبعضها عن بعضها الآخر. ونتيجة ذلك الاختلاف بين الأنواع فقد صارت الأرض متحدة جنساً، متعددة نوعاً، وليس كل نوع من ذلك الجنس يصح السجود عليه. وهذا معنى جوابنا ب- (نعم)، فإن هناك أرضاً يصح السجود عليها، وأرضاً لا يصح السجود عليها.

ولنسمّ الأرض التي يصح السجود عليها ب- الأرض (الشرعية) ولا مشاحّة في الأسماء .

والآن إلى معرفة تلك الأرض (الشرعية) التي يصحّ السجود عليها، فنقول :

إن الشارع المقدس في كل تشريعاته لا يكلّف العبد بما لا يطيق، ولا يخاطب مَن لا يعقل مراده إلا مع البيان، فلا يكلّفه بمجهول لا يعلمه، أو معلوم لا يقدر عليه، ولما كانت مسألة السجود على الأرض مسألة شرعية يجب أن تكون معرفتها ببيان صادر من الشارع، فكما علمنا كيفية السجود وماهيّته، يجب أن يعرّفنا ماهية الأرض التي أوجب علينا السجود عليها، وعلى المكلَّف بعد معرفة بيانه وتبيانه امتثال أمره بحكم إيمانه.

ولما كانت بيانات الشارع المقدس : إما قولاً - وهو أفصح مَن نطق بالضاد - وإما عملاً، وقد أمر بالتأسي به كما في قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «صلّوا كما رأيتموني أصلي». وكانت صلاته - وهو إمام المسلمين - قد حفظها عنه الصحابة فرووها هيئةً وأذكاراً، علانيةً وإسراراً، وإما تقريراً فقد رأى من أحسن صلاته فلم ينكر عليه، ورأى من لم يُحسِن فعلّمه، كما في تعليمه المسيء، وحديثه معلوم.

وقد نُقلت هذه الثلاثة - القول والفعل والتقرير - إلينا عن طريق الصحابة، وعنهم التابعون، ثم عنهم مَن بعدهم مروية ومدونة جيلاً بعد جيل، حتى وصلت إلينا.

ومن الطبيعي جداً أن يتفاوت النقل تبعاً لاستعداد الرواة والمؤلفين، في التحمل والضبط في السماع والتدوين. وعلى ذلك اختلفت الأفهام في الاستفادة من بيانات

ص: 113

الشارع المقدس. ونتيجة لذلك الاختلاف فقد تعدّد الاجتهاد في تحديد هوية الأرض (الشرعية) المأمور بالسجود عليها.

وإلى القارئ نموذجاً حنفياً وآخر إمامياً مما يدل على الاختلاف في تحديد تلك الهوّية، وكلهم قال بما علم، وبيَّن ما فهم.

أما التحديد الحنفي فقد قاله الكاساني في بدائع الصنائع : ثم لا بد من معرفة جنس الأرض، فكل ما يحترق بالنار فيصير رماداً كالحطب والحشيش ونحوهما، أو ما ينطبع ويلين كالحديد والصفر والنحاس والزجاج وعين الذهب والفضة ونحوها فليس من جنس الأرض، وما كان بخلافها فهو من جنسها (1).

فهذا التحديد ورد نقله في جملة من كتب الأحناف كالفتاوى الهندية (2)وغيرها مع تغيير مّا في التعبير عند بعضهم كما في تحفة الفقهاء، حيث قال السمرقندي صاحب التحفة في بيان ما يُتيمّم به كلاماً ختمه بقوله : ثم الحد الفاصل بين جنس الأرض وغيرها أن كل ما يحترق بالنار فيصير رماداً كالشجر والحشيش، أو ما ينطبع ويلين كالحديد والصفر وعين الذهب والفضة والزجاج ونحوها فليس من جنس الأرض (3).

وهذا الكلام لا يخلو من مناقشة، فهم وإن ذكروه في تحديد هوية الأرض التي يُتيمّم عليها - ومسألة التيمم على الأرض كمسألة السجود عليها - فكل ما صح التيمم به جاز السجود عليه ولا عكس. لكن تحديدهم غير دقيق - كما سيتضح فيما بعد عند ذكر النموذج الآخر الإمامي، ولست بصددها الآن، وإنما أوردته كنموذج لبعض ما اختلف فيه العلماء في تحديد هوية الأرض والتي سمَّيتها ب- (الأرض الشرعية). وإليك النموذج الآخر - وهو الإمامي - لتحديد تلك الأرض التي يصح السجود

ص: 114


1- بدائع الصنائع 200/1.
2- الفتاوى الهندية 21/1 .
3- تحفة الفقهاء 79/1 .

عليها.

قال الشيخ الأكبر الشيخ جعفر بن الشيخ خضر الجناجي المتوفى سنة 1228ه- في كتابه «كشف الغطاء» وهو يعدّد شرائط موضع السجود من الجبهة:

الثاني : أن يكون على ما يصح السجود عليه من الأرض مطلقة، يصح إطلاق الاسم عليها، من دون إضافة ولا قرينة، فلو خرجت عن المصداق مطلقاً أو مطلقة، أصالة أو بعارض كالاستحالة، معدناً أو ملحاً أو جواهر غير منطبعة أو منطبعة، أو رماداً أو مأكولاً أو ملبوساً أو نحوها ، لم يجز السجود عليها (1).

فهذا التحديد - كما ترى - أوفى بياناً وأحسن تبياناً، ممّا سبقه في تحديد هوية نوع جنس الأرض التي يصح التيمم بها كما يصح السجود عليها. فهو أخرج عن هوية الأرض الشرعية جميع المعادن بما فيها الجواهر، بينما النموذج الحنفي لم يخرج الجواهر ونحوها مما ليس منطبعاً، والمعادن جنس بل أجناس غير جنس الأرض خارجة عنه أصالة مطلقاً، والأرض إنما اشتملت عليها، فنسبتها إليها نسبة الظرف إلى المظروف، لا كنسبة الثمرة إلى الشجرة التي هي نسبة الجزء إلى الكل.

ثم إن الشيخ صاحب كشف الغطاء قدس سره أشار إلى قسمين : المنطبع وغير المنطبع من المعادن، بينما النموذج الحنفي ذكر المنطبع فقط، وهو الذي مثَّل له بالحديد، والصفر، والنحاس على أن الصفر هو النحاس وهو اسم محلّي للنحاس، والزجاج، وعين الذهب، والفضة.

ولا يخفى أن مرادهم بالمنطبع هو ما يلين بإعماله تحت تأثيرات معينة من الحرارة مثلاً، وأما غير المنطبع كبعض الفلزات والأحجار الكريمة وغيرها مما يتكون في باطن الأرض نتيجة تفاعلات وعوامل جيولوجية يذكرها علماء المعادن ، فهذا القسم لم يذكره النموذج الحنفي ، بينما ذكرناه عن صاحب كشف الغطاء في

ص: 115


1- کشف الغطاء، ص 209 .

النموذج الإمامي، وهذا النوع خارج عن جنس الأرض، ولذلك منع بعض الفقهاء من جواز السجود عليه.

ثم إن الشيخ المذكور (النموذج الإمامي) ذكر حكم ما خرج عن عنوان الأرض بالاستحالة، وهو على قسمين ذكر أحدهما الكاساني ولم يذكر القسم الثاني، وهو ما خرج حكماً عن جنس الأرض بعد أن كان منها كالجص المتكوّن من الرمل بعد إحراقه مثلاً، والفحم الحجري المتكون داخل المناجم، فهما وإن كان أصلهما من الأرض إلا إنهما خرجا عنها حكماً بالاستحالة خصوصاً الثاني، فلا يجوز السجود عليه عند بعض الفقهاء، بينما ذكر القسم الآخر، وهو ما يحترق بالنار فيصير رمادًا كالحطب والحشيش ونحوهما فقط.

فتبيَّن أن تحديد هوية الأرض (الشرعية) التي يصح السجود عليها هي في النموذج الإمامي أدق وأوفى مما جاء في النموذج الحنفي.

الخلاصة :

فتلخَّص من جميع ما تقدم أن عنوان الأرض بما هى أرض من مقولة التشكيك بین معلوم النسبة وبين مشكوك النسبة، وبين معلوم العدم.

فالأول - وهو معلوم النسبة - يشمل جميع ما صحَّ إطلاق اسم الأرض عليه بدون عناية أو إضافة كالتراب، وهو الصعيد الذي وصفه الكتاب المجيد في آية التيمم {صَعِيداً طَيّباً}.

ومهما قيل في تفسير الصعيد فلاشك أن التراب أظهر أفراده، وهو وجه الأرض غالباً، فهو مما لا شك فيه أرض يصح التيمم به، ويصح السجود عليه.

والثاني - وهو مشكوك النسبة - كنحو الأحجار الكريمة مثلاً، فللفقهاء حول صحة السجود عليها وعدمه كلام يطلب من مظانه، ولسنا بصدده إلا أنهم قالوا في

ص: 116

مشكوك النسبة مهما كان الأصل فيه هو البراءة فيجوز السجود عليه، ومهما كان الأصل فيه هو الاحتياط فالتوقف.

والثالث - وهو معلوم العدم - كالذهب والفضة والنحاس والصفر وغير ذلك من المعادن، فهذا كله معلوم عدم كونه أرضاً شرعية، فهو مما لا يجوز السجود عليها إجماعاً.

فتبين أن القسم الأول وهو معلوم النسبة يصح السجود عليه، وليس كل قشرة الأرض وما اشتملت عليه مما يصح السجود عليه.

المقام الثاني : في أدلة وجوب السجود على الأرض

إذا استذكرنا ما سبق منا في أسباب الاختلاف في تحديد هوية الأرض (الشرعية) المطلوب منا التيمّم بها والسجود عليها، وما قلناه هناك من أنه هو اختلاف الأفهام في الاستفادة من أدلة الأحكام، فلا بد لنا الآن من إلمامة بتلك الأدلة ، لنمرّ بعدها بأقوال الفقهاء حولها، لأنهم استدلوا بأحاديث نبوية اتفق المحدِّثون على روايتها، واستند إليها الفقهاء في دلالتها، واستدل كثير من المسلمين بأحاديث إمامية، لأنهم يرونها عبقة نبوية، فهي شجنة منها وثمرة لها، يصحّ الأخذ بها على حد الأولى في حجيتها. ذلك سنجد الاختلاف ومع الاختلاف بين الفقهاء، لا لقصور في حجية الدليل، ولا لتقصير في التحصيل، بل كلٌ بذل وسعه، وأنفق طاقته، ولكنه فهِمَ ما وسعه فهمه، وأدى إليه اجتهاده، ما لم يبلغ ذلك غيره.

والأدلة من السنّة في ذلك قولية وعملية، فلنستعرض شيئاً منهما معاً :

ص: 117

الأحاديث القولية :
أولاً : الأحاديث النبوية :
اشارة

لعل أشهر ما جاء عنه صلی الله علیه و آله وسلم في وجوب السجود على الأرض هو قوله : « وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً »

وشهرته المستفيضة بين المسلمين تكاد تلحقه بالمتواتر ، لكن علينا أن نقرأ بعض ما يقال عنه : سنداً ، ومتناً ، ودلالة.

أ - سند الحديث

لقد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة يمتنع تواطؤهم على الكذب والعياذ بالله - في رواياتهم، وروى عنهم من التابعين، ثم من بعدهم أتباع التابعين، ثم أمم من الرواة والمحدثين، على اختلاف مذاهب المسلمين، جيلاً بعد جيل.

وهذا وحده كافٍ في بعث الاطمئنان بصدوره عنه صلی الله علیه و آله وسلم، وما ذكره بعض الفقهاء من المناقشة في إسناده أنه رواية من طريق الآحاد ليس بشي يذكر، بل هو كصيحة في واد، أو نفخة في رماد، وما ذكّره جارٍ في أكثر الأحاديث النبوية بل وغيرها أيضاً، فكلها ورد عن طريق الأحاد، ثم إن شهرة الحديث المستفيضة تكفي في رد تلك المناقشة العقيمة، وما حجية خبر الواحد عندهم إلّا بنقاوة الطريق - وهم رجال السند وذلك يبعث في النفس الاطمئنان بصدوره فإذا كانت الشهرة المستفيضة بين المسلمين تورث ذلك الاطمئنان بصحة الصدور، فلا مجال للتشكيك. ومع هذا كله لا بأس من الإلمام بقائمة تضم أسماء مَن رواه من الصحابة، ثم نرجع البصر إلى جريدة المراجع والجوامع حديثية وفقهية ذكرت الحديث ولم تغمز في قناته، من جهة رواته :

ص: 118

رواة الحديث من الصحابة :

1 - الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام .

2 - حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

3 - الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، أصدق ذي لهجة.

4 - أبو أمامة.

5 - أبو سعيد الخدري.

6 - أنس بن مالك.

7 - عبد الله بن عمر.

8 - عبد الله بن الزبير .

9 - السائب بن يزيد.

10 - جابر بن عبد الله.

11 - حذيفة بن اليمان.

12 - أبو موسى الأشعري .

هؤلاء هم الصحابة الذين وقفت على روايتهم للحديث، ولعلّ الباحث المتتبع يجد الآخرين ممن لم نذكرهم.

فهذه المجموعة من الصحابة ممن ذكرنا أسماءهم لا يتطرق الريب في روايتهم لهذا الحديث، أما من بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، وهكذا الرواة بعدهم إلى عصر التدوين، فهم أُمَم يعجز القلم عن حصرهم، فراجع أيها القارئ المراجع الحديثية شيعية وسنيّة، فستجد أناسي كثيراً هم أئمة السنن وحفَّاظ الحديث، ولا أشك أنك تقول معي :

ما دامت حجية السند إنما هي طريق للاطمئنان بصدور الحديث عن أهله، فهذا الحديث عندي لا شك في صدوره عنه صلی الله علیه و آله وسلم.

ص: 119

جريدة المراجع :

وهي بحسب استقرائي غير التام كثيرة، يغنينا ذكر بعضها من مصادر الحديث عند المسلمين : الشيعة والسنة.

المصادر الشيعية :

1 - أصول الكافي : باب الشرائع وفيه الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام بلفظ: .

وجَعَل له الأرض.... الخ (1).

2 - مَن لا يحضره الفقيه للصدوق (2) .

3- الخصال للصدوق : باب الأربعة وباب الخمسة (3) .

4 - علل الشرائع للصدوق وفيه : وجَعلتُ لك ولأمَّتك الأرض كلها مسجداً وترابها طهوراً (4).

5 - المحاسن للبرقي (5) .

6 - أمالي المفيد الثاني ابن الشيخ الطوسي، الملحقة بأمالي أبيه (6) .

7 - بشارة المصطفى لعماد الدين الطبري (7) .

8 - إرشاد القلوب للديلمي ، وفيه الحديث بلفظ الكليني في الكافي (8) .

9 - إثبات الوصية للمسعودي (9) .

10 - دعائم الإسلام للقاضي نعمان (10).

11 - وسائل الشيعة للحر العاملي (11)

ص: 120


1- أصول الكافى 14/1 .
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 155/1 .
3- الخصال 188/1، 266/2.
4- علل الشرائع، ص 128 .
5- المحاسن 287/1 .
6- أمالى المفيد الثانى 98/2 .
7- بشارة المصطفى ص 103.
8- إرشاد القلوب 221/2 .
9- اثبات الوصية ، ص 97 .
10- دعائم الإسلام 120/1 .
11- وسائل الشيعة : الباب السابع من أبواب التيمم، وباب مكان المصلي .

12 - الوافي للفيض الكاشاني (1) .

13 - بحار الأنوار للمجلسي (2) .

14 - مستدرك الوسائل للنوري (3) .

15 - جامع الأحاديث للمرحوم البروجردي (4) .

إلى غير ذلك من الموسوعات الفقهية كالتذكرة للعلامة الحلى وجملة من كتبه الأخرى في الفقه. والمعتبر للمحقق الحلي (5) ، ومفتاح الكرامة، وجواهر الكلام، والحدائق الناضرة، وأخيراً مهذب الأحكام للمرحوم السيد السبزواري وغيرها

وغيرها.

ولا نطيل الكلام بذكرها، فراجع فستجد الحديث مذكوراً فيها في عدة أبواب : منها باب ما يُتيمم به وفي مكان المصلي في باب ما يُسجد عليه، وغيرها من الأبواب.

المصادر السنيّة :

1 - صحيح البخاري : في كتاب التيمم والصلاة والخمس (6).

2 - صحیح مسلم (7) .

3 - سنن أبي داود (8) .

4 - سنن الترمذي (9) .

ص: 121


1- الوافي 87/1 باب ما يتيمم به.
2- بحار الأنوار 189/15 الطبعة الحجرية.
3- مستدرك الوسائل 222/1 .
4- جامع أحاديث الشيعة 219/1 .
5- المعتبر، ص 158 .
6- صحيح البخاري 435/1، كتاب التيمم، باب 7 في فاتحته، 433/1 كتاب الصلاة، باب 56، قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، 22/6 كتاب الخمس، باب 8، قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم : أحلت لي الغنائم.
7- صحیح مسلم 5/4/3 كتاب المساجد.
8- سنن أبي داود : كتاب الصلاة / 24 مكرراً .
9- سنن الترمذي : كتاب المواقيت / 119 ، وفي كتاب السيرة.

5 - سنن النسائي (1) .

6 - سنن ابن ماجة (2).

7 - سنن الدارمي (3) .

8 - السنن الكبرى للبيهقي (4) .

9 - المصنف لابن أبي شيبة (5) .

10 - المصنف لعبد الرزاق (6) .

11 - نصب الراية للزيلعي (7) .

12 - مسند أحمد بن حنبل (8) .

وبهذا نكتفي عن سرّد المصادر لإثبات سند الحديث.

ب - متن الحديث :

لما كان الحديث المذكور هو فصلة من حديث يتضمن خصالاً فُضّل بها نبينا صلی الله علیه و آله وسلم الله ، وقد ذُكر الحديث في المصادر السابقة، وقد وقع اختلاف بين الرواة في حكاية لفظه، فولد ذلك التفاوت في نسقه وترتيبه، ومن الخير ذكر صورتين للحديث، نأخذ أحداهما من مصدر شيعي، والثانية من مصدر سنّي للمقارنة بينهما، وبيان أن ما يوجد من تفاوت لفظي لا يغيّر من جوهر المعنى. كما أن ما يوجد من اختلاف ترتيبي لا يعني شيئاً من مراتب التفضيل بين فقراته.

ص: 122


1- سنن النسائى : فى الغسل / 26 .
2- سنن ابن ماجة 103/1، كتاب الطهارة /90، وفى التيمم أيضاً .
3- سنن الدارمي : في الصلاة / 111 مكرراً، وفى السير / 28 .
4- السنن الكبرى 433/2،222/1 .
5- المصنف401/2-402 .
6- المصنف 32/1 في الطهارة.
7- نصب الراية 324/2 .
8- مسند أحمد بن حنبل 250/1، 307، 204/2، 222 ، 250 ، 412 ، 442 ، 502، 304/3 ، 416/4 ، 145/5 ، 148 ، 161 ، 238 ، 248 ، 256 .

الصورة الأولى : فقد روى الصدوق في الخصال، قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رض) قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد الله جميعاً، عن أحمد بن محمد بن عيسى وأحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن محمد بن خالد البرقي، عن محمد بن سنان، عن زياد بن المنذر أبي الجارود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أُعطيتُ خمساً لم يعطها أحدٌ قبلي : جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونُصرت بالرعب، وأُحل لي المغنم، وأعطيت جوامع الكلم، وأُعطيت الشفاعة (1) .

الصورة الثانية : رواها جابر بن عبد الله عنه صلی الله علیه و آله وسلم، وأخرجها أصحاب الصحاح السنة كما مرّ ذكرهم في جريدة المراجع، وإن قال صاحب التاج الجامع للأصول فيه : «رواها الخمسة إلا أبا داود» (2)، لكنه وهم في قوله، فقد قال ابن قدامة المقدسي في المحرّر وقد ذكر حديث جابر : «متفق عليه» (3)، يعني رواه الستة أصحاب الصحاح.

وإليك لفظ الحديث : قال صلی الله علیه و آله وسلم : أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي : نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلّت لي الغنائم ولم تَحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة.

فلدى المقارنة بين هاتين الصورتين وقد رواهما صحابيان كلٌ بألفاظ تغاير بعض الشي ما رواه الآخر، إلا أنا لا نجد اختلافاً كبيراً يؤديّ إلى تغيير جوهري في المعنى.

وتوجد ثمة صور أخرى، فيها زيادة في نفس جملة الفصلة المذكورة، نحو

ص: 123


1- الخصال 266/1 باب الخمسة.
2- التاج الجامع للأصول 29/1-30 .
3- المحرر، ص 27 .

قوله صلی الله علیه و آله وسلم: وجُعلت لي الأرض مسجداً، وترابها - وتربتها - طهوراً.

وهذه الزيادة ادّعى بعض الفقهاء (1) أنها زيادة في لسان الفقهاء، ولكن الأمر ليس كذلك، بل هي جزء من الحديث وردت على لسان أمير المؤمنين علیه السلام، وهو إنما يذكر ما سمعه من النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنه من خصائصه. ولو سلّمنا ما ادّعاه فهي لا تغيّر في جعل الأرض مسجداً، وكذلك النسق في الترتيب في موضع الفصلة المذكورة من الحديث الشريف، فهي الأولى كما مرّ في رواية الشيخ الصدوق، وهي الثانية كما مرّ في رواية التاج .

وكل ذلك لا يمس جوهر الحديث بشي ، وما دام كذلك فلا يضيرنا هذا التفاوت اللفظ والترتيب ما دام الاتفاق حاصلاً على روايته معنىّ ومضموناً.

ج - دلالة الحديث :

استدل الفقهاء بهذه الفصلة من الحديث على جملة من أحكام الشريعة :

منها : مسألة مسجدية الأرض، وذلك من قوله صلی الله علیه و آله وسلم في صدر الفصلة : جُعلت لي الأرض مسجداً.

ومنها : مسألة وجوب التيمم بالأرض، وذلك من قوله في آخر الفصلة : وطهوراً.

ومنها : مسألة وجوب التيمم بعد إدراك الوقت، وذلك من قوله صلی الله علیه و آله وسلم: فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل.

ولا نطيل الكلام في ذكر المسائل التي استدل لها بهذا الحديث، بل نحن وما يعنينا منها في المقام، وذلك قوله صلی الله علیه و آله وسلم : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً.

فماذا عنى صلی الله علیه و آله وسلم بذلك؟

قال العلماء : مسجداً يعنى موضع السجود، فلا يختص بالسجود موضع دون

ص: 124


1- الحدائق الناضرة 296/4 .

موضع .

وقالوا : وهذه خاصة له لم تكن لغيره صلی الله علیه و آله وسلم ممن سبقه من الأنبياء، كما صرّح به في بعض روايات الحديث، وفيه : « وكان مَن قبلي إنما كانوا يصلّون في كنائسهم ».

وفي بعض آخر : « ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه ».

وفي هذين النصّين دلالة امتنان على هذه الأمة بجعل تلك الخاصة لنبيّها صلی الله علیه و آله وسلم دون مَن كان قبله من الأنبياء، وقد جعلها لأمته.

قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجداً» أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازاً عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك.

وقال ابن التين : قيل : المراد جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجُعلت لغيري مسجداً ولم تجعل له طهوراً ، لأن عيسى علیه السلام كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة.

قال ابن حجر : وسبقه إلى ذلك الداوودي.

وقيل : إنما أُبيح لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لهم في

جميع الأرض إلا فيما يتيقّنون نجاسته.

قال ابن حجر : والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع. ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ : « وكان من قبلي إنما كانوا ليصلّون في كنائسهم» ، وهذا نص في موضع

النزاع (1) .

أقول : ومثل ما مرّ من أقوال أولئك الأعلام من إخواننا أهل السنة، كذلك قال

ص: 125


1- فتح الباري 454/1.

غيرهم من علماء الشيعة، فقد قال المجلسي في بحار الأنوار : وجعل له الأرض مسجداً، أي مصلّى يجوز لهم الصلاة في أي موضع شاؤوا، بخلاف الأمم السابقة، فإن صلاتهم كانت في بيعهم وكنائسهم إلا من ضرورة.

«وطهوراً» أي مطهراً أو ما يتطهر به، تطهر أسفل القدم والنعل ومحل الاستنجاء، وتقوم مقام الماء عند تعذره في التيمم، والمراد بكونها طهوراً أنها بمنزلة الطهور في استباحة الصلاة بها.

و حمله السيد المرتضى رحمه الله على ظاهره، فاستدل به على ما ذهب إليه من أن التيمم يرفع الحدث إلى وجود الماء (1) .

وقال المولى محمد صالح المازندراني في شرح الكافي : قوله صلی الله علیه و آله وسلم: « وجعل الأرض له مسجداً وطهوراً» (2) أي جعل له الصلاة فيها كالصلاة في المسجد (عند) الأمم السابقة في الأجر ، أو جوّز له الصلاة فيها دون الأمم السابقة، لانحصار جواز صلاتهم في البِيَع والكنائس.

أو جعل له الأرض مسجداً للجبهة لزيادة الخضوع والتقرب، وكان لهم السجود على غيرها. وكذلك جعل له الأرض طهوراً، تطهرّ أسفل القدم والنعل ومحل الاستنجاء، وتقوم مقام الماء عند تعذره في التيمم والمراد بكونه طهوراً أنها بمنزلة الطهور في استباحة الصلاة بها مثلاً كاستباحتها بالماء.

ولو حمل الطهور على ظاهره لدلَّ على ما ذهب إليه السيد المرتضى رحمه الله من أن التيمم يرفع الحدث إلى وجود الماء، كما هو ظاهر هذه الصيغة (3).

ومن الأحاديث النبوية الشريفة التي استدلوا بها أيضاً على وجوب السجود

ص: 126


1- بحار الأنوار 191/58 .
2- لفظ الحديث كما ورد في الكافي : (وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً)، ويبدو أن قلم الناسخ أو المؤلف سها فقدّم (الأرض) على (له) كما في شرحه، فلاحظ .
3- شرح الكافي 55/8 .

على الأرض :

قوله صلی الله علیه و آله وسلم في تعليم المسيء : ومكّن جبهتك من الأرض.

وهذا الحديث كما ذكرناه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1) ، وأخرجه من أصحاب الصحاح أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة كما في ذخائر المواريث. (2)

ووجه الدلالة فيه واضح، فإنه صلی الله علیه و آله وسلم أمر المسيء الذي سجد ولكنه نقر كنقر الغراب ، بتمكين جبهته من الأرض. والتمكين منها إنما يكون بالسجود عليها مباشرة دون حائل بعد إحراز الأرضية، ومع الاستقرار والطمأنينة.

ومن الأحاديث التي استدل بها على مسجدية الأرض :

قوله صلى الله عليه وآله وسلم : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمَّام.

وهذا الحديث أخرجه من أصحاب الصحاح : البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجة، كما أخرجه الشافعي وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم، كما في نيل الأوطار (3).

ووجه الدلالة فيه واضح، وإن نوقش في الحديث سنداً ودلالة كما في نصب الراية للزيلعي (4)، ولسنا بحاجة إلى التوسع في عرض المناقشة وبيان ما فيها، ومن شاء فليرجع إلى المصدر المذكور.

ومما يمكن الاستدلال به قوله صلی الله علیه و آله وسلم : مَنْ بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى له مثله - بيتاً - في الجنة.

وهذا الحديث روى بلفظ (كمفحص قطاة) عن جماعة من الصحابة، وهم كما نقل ابن حجر في فتح الباري:

ص: 127


1- السنن الكبرى 102/2.
2- ذخائر المواريث 208/1 .
3- نيل الأوطار 133/2.
4- نصب الراية 324/2.

1 - عن أبي بكر كما عند أبي نُعيم في الحلية.

2 - عن أبي ذر كما عند ابن حبان والبزار.

3 - عن ابن عباس كما عند مسلم الكجي .

4 - عن أنس كما عند الطبراني في الأوسط.

5 - عن ابن عمر كما عند الطبرانى فى الأوسط.

6 - عن عثمان كما عند ابن أبي شيبة في المصنف.

7 - عن جابر كما عند ابن خزيمة في صحيحه بلفظ (كمفحص قطاة أو

أصغر) (1) .

وفقه الحديث يظهر في تعريف (المسجد)، فإن كان كما عليه كثير من العلماء وأنه المكان الذي يصلّى فيه فحملوه على المبالغة، لأن المكان الذي تفحص القطاة فيه لتضع فيه بيضها وترقد عليه، لا يكفي مقداره للصلاة فيه، ويؤيده رواية جابر التي مرّت الإشارة إليها، فلا بد من حمله على المبالغة في الصغر.

وقال بعض العلماء : بل هو على ظاهره، والمعنى أنه يزيد في مسجد قدراً يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم بذلك القدر. هكذا نقل ابن حجر في فتح الباري، ثم قال :

وهذا كله بناءاً على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن وهو المكان الذي يتَّخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود، وهو ما يسع الجبهة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر ، لكن قوله (بنى) يشعر بوجود بناء حقيقة...

ثم ذكر كلاماً استظهر منه المعنى الحقيقي للبناء، ثم قال :

لكن لا يمتنع إرادة الآخر - يعني موضع السجود بما يسع الجبهة - مجازاً، إذ بناء كل شيء بحسبه. قال : وقد شاهدنا كثيراً من المساجد في طرق المسافرين

ص: 128


1- فتح الباري 91/2 .

يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود .

أقول: لقد مرّ عن ابن حجر في الاستدلال بحديث «وجعلت لي الأرض مسجداً» قال : أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازاً عن المكان المبني للصلاة وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك.

فهو في ذلك الحديث «وجعلت لي الأرض مسجداً » ذهب إلى أنه حقيقة في موضع السجود، ومجاز في المكان المبنى للصلاة.

وهو في هذا الحديث «من بنى مسجداً » عكس الأمر، فجعله حقيقة في المكان المبني الذي يتخذ للصلاة فيه، ومجازاً في موضع السجود، وقال : لا د، وقال : لا يمتنع إرادة الآخر، إذ بناء كل شيء بحسبه... الخ.

ونحن أيضاً نقول له ولغيره : ما دام الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون المراد بناء مسجد - أي موضع سجود، وذلك كما يفعله الشيعة من جمع تراب، فيديفونه بماء يصنعون منه ألواحاً بقدر ما يسع الجبهة في سجودهم، وعليه فلا وجه للاستنكار عليهم في فعلهم ذلك ما دام الحديث يسعهم، إما حقيقة كما عن ابن حجر في حديث «وجعلت لي الأرض مسجداً» ، وإما مجازاً كما ارتآه في الحديث المشار إليه «من بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر» ما دام بناء كل شيء بحسبه كما قاله ابن حجر وذكر الشواهد عليه مشاهداته في طرق المسافرين. ويكفينا ما ذكرناه من الأحاديث النبوية الشريفة مما دلّ على مسجدية الأرض عن سرد المزيد عليها.

ثانياً : الأحاديث الإمامية :

والآن إلى بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت علیهم السلام، و الذي هو امتداد لما ورد في

ص: 129

السنّة النبوية الصحيحة، فإن سنتّهم امتداد لسنّة جدّهم صلی الله علیه و آله وسلم ، بحكم حديث الثقلين الثابت عنه صلی الله علیه و آله وسلم ، إذ جعلهم فيه عدل القرآن، وقال فيهما - القرآن والعترة - : لن يفترقا حتى يرِدَا علي الحوض.

فالعترة امتدادٌ طبيعيّ له صلی الله علیه و آله وسلم ، ولا بد لنا من عرض بعض ما جاء عنهم علیهم السلام في هذا المقام :

1 - من ذلك قول الإمام الصادق علیه السلام: لا تسجد إلا على الأرض أو ما أنبتت إلا القطن والكتان (1).

2 - ومن ذلك قول الإمام الصادق علیه السلام أيضاً : السجود لا يجوز إلا على الأرض أو ما أنبتت إلا ما أكل أو لُبس (2).

3 - ومن ذلك قوله الثالث علیه السلام: السجود على الأرض فريضة، وعلى غير الأرض - غير ذلك - سنّة (3) .

ووجه الدلالة في الأحاديث الثلاثة واضح لا يحتاج إلى بيان، ففي الأول يقول علیه السلام : لا تسجد إلا على الأرض....

وفي الثاني يقول : السجود لا يجوز إلا على الأرض....

وفي الثالث يقول : السجود على الأرض فريضة...

إلى غير ذلك مما ورد عنه أو عن آبائه أو أبنائه علیهم السلام، مما دلَّ بصريحه على وجوب السجود على الأرض. وقد مرّ بنا بعض ذلك في الفصل الأول، فراجع ستجد من الأحاديث القولية ما يغني عن الإطناب.

والآن هلمَّ إلى السيرة العملية، والبيانات الفعلية، التي كان يمارسها المعصومون :

ص: 130


1- الكافي 330/3 ، التهذيب 303/2، الاستبصار 331/1 .
2- من لا يحضره الفقيه 174/10، التهذيب 234/2 .
3- من لا يحضره الفقيه 174/1 ، علل الشرائع، ص 121، التهذيب 2/ 235 .
السنّة العملية :
أولاً : سنّة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم:

لا أحسب أنَّا بحاجة إلى مزيد من الشواهد على أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم- وهو سيد المعصومين - كان يسجد على الأرض أو على الخمرة والحصير، وسجوده على الأرض هو الذي نبحث عن شواهده الآن، ونترك الباقي لما سيأتي بعنوان (السجود على ما أنبتت الأرض)، فنقول :

إنه صلی الله علیه و آله وسلم منذ بدء الدعوة كان يصلّي على الأرض حتى ورد في حديث رواه مسلم وغيره أن أبا جهل لعنه الله قال لقريش : هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل : نعم. فحلف ليطَانّ على رقبته. ومعنى تعفير وجه صلی الله علیه و آله وسلم سجوده على الأرض حال الصلاة (1).

وإنه صلی الله علیه و آله وسلم كان يصلّي ليلا ونهاراً، سواء في بيته أو في مسجده، علانية جهاراً، ويرى المسلمون كافة كيف كان يصلي، فحفظ الصحابة الذين اتَّبعوه بإحسان و اقتدوا بهديه رضّي الله عنهم : أفعاله في صلاته بجميع فروضها وسننها وآدابها، فكل حفِظَ ما حفظ بحسب ما أوتي من فهم وفضل وعلم، وكانوا يصِفون ذلك للمسلمين ممن لم يحظ برؤيته، مثل صغار الصحابة والتابعين، ومن بعُدت عليهم الشّقة عن مدينته المنورة.

ثم تناقل الرواة ذلك عنهم ، ونحن لا نطيل المقام بسرد جميع ما ورد عنهم، بل نكتفي برواية ثلاثة من الصحابة ممن أخرج أحاديثهم أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وهم :

1 - أبو حُميد الساعدي، فقد روى في حديثه الذي وصف به صلاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 131


1- صحیح مسلم: کتاب المنافقين ، باب 6 ، رقم 38 ، والحديث برقم 2797 .

فقال وهو يصف سجوده صلی الله علیه و آله وسلم: كان إذا سجد أمكن جبهته وأنفه من الأرض (1) .

2 - وائل بن حجر الحضرمي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده (2).

3 - أبو سعيد الخدري، قال في حديث له جاء في آخره : فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى رأيت الطين والماء على جبهته صلى الله عليه وآله وسلم وأرنبته (3).

فهذه الأحاديث الثلاثة وأمثالها استدل بها الفقهاء على عدة أحكام، منها مسألة السجود على الأرض، وهي صريحة في حكاية سيرته العملية في سجوده، لتوفر

المشاهدة فيها ، وأنه صلی الله علیه و آله وسلم كان يسجد على الأرض حتى ولو كانت مبتلة عنصر كالطين .

ثانياً : السيرة العملية للأئمة الطاهرين علیهم السلام:

والحديث عن السيرة العملية للأئمة الطاهرين علیهم السلام يستدعي - لولا الإطناب - ذكر جميع ما ورد عن كل إمام، ولكنا نكتفي بذكر ثلاثة أحاديث - على نحو ما ذكرنا في السنة النبوية - صريحة في أن السجود على الأرض :

1 - ما رواه معاوية بن عمار ، قال : كان لأبي عبد الله - يعني الإمام الصادق - علیه السلام - خريطة ديباج صفراء، فيها تربة أبي عبد الله - يعني الحسين - علیه السلام، فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليها (4).

2 - ما رواه الحلبي، قال : قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام دعا أبي بالخُمرة - نسيج

ص: 132


1- سنن الترمذي ،59/2 قال الترمذي : حسن صحيح سنن أبي داود كما في نيل الأوطار 257/2 . صحیح خزيمة 322/1 .
2- مسند احمد 317/4 .
3- الموطأ لمالك برواية الشيباني، ص 167 في آخر باب الاعتكاف، صحيح البخاري 162/1 باب السجود على الطين بتفاوت يسير بينهما، وما ذكرناه بلفظ البخاري مما حكى فيها وصف صلاته صلى الله عليه وآله وسلم .
4- مصباح المتهجد، ص 511، وروى الحديث عنه جمع كثير من المتأخرين عنه .

من سعف النخل - فأبطأت عليه، فأخذ كفاً من حصباء فجعله على البساط ثم سجد. (1)

3 - ما رواه حمران بن أعين في الصحيح عن أحدهما - الباقر أو الصادق - علیهم السلام قال : كان أبي يصلي على الخُمرة يجعلها على الطنفسة ويسجد عليها، فإذا لم تكن خمرة جعل حصى على الطنفسة حيث يسجد (2) .

فهذه ثلاثة أحاديث عن أئمة أهل البيت علیهم السلام، دلّت على أنهم كانوا - عملاً - يسجدون على الأرض بأشكالها المختلفة، فهي في الحديث الأول : كانت تربة أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، وفي الثاني والثالث : كانت الخُمرة - وهي مما أنبتته الأرض، لأنها من سعف النخل - أو الحصباء، وهي كالحصى، وهذه جزء من الأرض.

خاتمة المقام :

تلخص من جميع ما قدّمناه من عرض السنة النبوية والإمامية قولاً ومن السيرة العملية أيضاً، أن السجود إنما هو على الأرض أفضل ، والتراب أظهر أنواعها كما مرّ، إذن فالتربة التي يسجد عليها الشيعة - وهي من التراب - أفضل من سائر ما يصح السجود عليه، مع غضّ النظر عن فضلها إذا كانت من تربة أبي عبد الله الحسين علیه السلام، وسيأتي الحديث عنها بالخصوص في الباب الثاني من المباحث الآتية.

فإن قال قائل وسأل سائل : بأنا لا نشك في شيء مما تقدم، ولكن ما المانع أن يكون السجود على بساط مفروش على الأرض، بمعنى هل أن عدم الحائل بين المساجد والأرض شرط في صحة السجود؟

والجواب : نعم، فقد مرّ في الأحاديث القولية والسيرة العملية للمعصومين

ص: 133


1- وسائل الشيعة : الباب الثاني من أبواب ما يسجد عليه.
2- المصدر السابق.

صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ما دلَّ على ذلك.

ولمزيد من الإيضاح نذكر في خاتمة هذا المقام، ما دلَّ على وجوب السجود على الأرض من دون حائل، على نحو الدلالة الالتزامية، وذلك من خلال ثلاث مسائل نستعرضها باختصار.

مسائل ثلاث :
اشارة

لقد مرّ في المسألة الثانية من الناحية الثانية من الفصل الأول من المبحث الثالث الإشارة إلى وجوب أن تكون الجبهة بارزة على الأرض من دون حائل بينهما - إلا الضرورة، والآن نذكر ما يدلّ على وجوب ذلك من خلال ما ورد في استحباب التتريب، وكراهة مسح الحصى، ونفخ موضع السجود ، وتسوية الحصى، وأخيراً المنع من السجود على كور العمامة، بل وكل حائل من غير ضرورة، وذلك يتم من خلال ثلاث مسائل :

المسألة الأولى: في استحباب التتريب

والتتريب : هو استعمالك الشي بالتراب فتلطخ به، فتقول : تربّت الكتاب تتريباً، وترّبت القرطاس فأنا أتربه تتريباً ، فهو من باب أترب وترّب، واستعمال كل منهما صحيح (1) .

وإذا عرفنا ما تعني كلمة التتريب في اللغة، فهلم الآن إلى الأحاديث التي ورد فيها الأمر بالتتريب حال السجود، وهي لا بد وأن تعني نفس المعنى اللغوي، ونكتفي بذكر الأوامر النبوية الصادرة إلى ثلاثة من الصحابة، كأنهم كانوا يتّقون التراب في مواضع سجودهم، فنهاهم عن ذلك حينما أمرهم بالتتريب، والصحابة الثلاثة هم :

ص: 134


1- تاج العروس 158/1 .

1 - صهيب الرومي، وقد عُدّ من السابقين الأولين في الإسلام.

2 - أفلح مولى أم سلمة، ترجمه ابن حجر في الإصابة، وذكر الحديث في ترجمته .

3 - رباح : غلام أسود من غلمانه صلی الله علیه و آله وسلم. وقيل : مولى أم سلمة. ترجمه ابن حجر في الإصابة، وذكر الحديث نقلاً عن النسائي والماوردي والطبراني في مسند الشاميين.

وإلى القارئ أحاديث هؤلاء الصحابة :

1 - أخرج عبد الرزاق في المصنف عن خالد الحذّاء، قال : رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صهيباً يسجد كأنه يتّقى التراب، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ترّب وجهك يا صهيب (1) .

2 - أخرج أبو نعيم في المستخرج ، وعنه في كنز العمال عن أم سلمة - أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها - قالت : رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلاماً لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد ، فقال : يا أفلح ترّب وجهك (2) .

3- أخرج النسائي وابن عساكر كما في كنز العمال، عن أبي صالح - مولى لطلحة بن عبيد الله - قال : كنت عند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاها ذو قرابة لها فقام يصلي، فلما ذهب يسجد نفخ، فقالت : لا تفعل فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لغلام أسود : يا رباح تَرّب وجهك (3). فهذه هي الأحاديث التي وردت فيها الأوامر النبوية إلى ثلاثة من الصحابة في ميزان العداد، وإن لم يكونوا - على غير انتقاص لهم - من مشاهير الصحابة في

ص: 135


1- المصنف 391/1 .
2- کنز العمال 89/8 .
3- المصدر السابق 86/8، وسيأتي في آراء الفقهاء لجميع المذاهب الإسلامية في هذه المسألة حدیث ابن عباس عن فعل رباح هذا، فاطلبه في آراء الحنفية.

السداد والرشاد، لأنهم جهلوا ما لا ينبغي لهم جهله من استحباب التتريب، وإن لم يجهلوا وجوب السجود على وجه الأرض، فأنّبهم ونبّههم صلی الله علیه و آله وسلم بصيغة الأمر فقال :(ترّب وجهك)، ولا يكون معنى للأمر بذلك ما لم يكن وجود التراب في موضع السجود أمراً مفروغاً منه ليصح أمرهم بذلك ليسجدوا عليه من دون التوقي منه.

المسألة الثانية: في كراهة النفخ، ومسح الحصى، والتسوية في موضع السجود
اشارة

لقد مرّ بنا في المسألة الأولى ما دل على كراهة النفخ، وذلك في قوله صلی الله علیه و آله وسلم لكل من أفلح ورباح : لا تنفخ .

وإنما قلنا بكراهته ما دام غير مولّد حرفاً شفوياً، وإلا فيكون حراماً ومبطلاً للصلاة، لأنه من تعمّد كلام الآدميين، وهو مبطل للصلاة، سواء كان مفهماً كما في قوله : (أف) الدال على التأفف وإن كان غير قاصد له، أم كان غير مفهم كتولّد حرفين مهملين، وكل ذلك يحصل بالنفخ، وسيأتي عن ابن عباس في هذا المعنى أيضاً. والآن علينا أن نذكر بعض الأحاديث النبوية الدالة على عناوين المسألة مجتمعة أو منفردة، ونتبعها بأحاديث إمامية، ثم نذكر بعض آثار الصحابة والتابعين ممن قالوا بكراهة جميع ذلك :

أولاً: الأحاديث النبوية الشريفة :

1 - اخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن ابن عباس (رض)، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كنت في الصلاة فلا تمسح جبهتك، ولا تنفخ ولا تحرّك الحصباء (1) .

2 - وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن أبي ذر (رض)، قال : سألت

ص: 136


1- المصنف 60/2 .

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء حتى سألته عن مسّ الحصى؟ فقال: مرة واحدة وإلا فدع (1) .

3 - وأخرج أحمد في مسنده وابن قدامة في المغني عن أبي ذر أيضاً، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى (2) .

4 - وأخرج المتقى الهندي في كنز العمال عن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تمسَّحوا بالأرض فإنها بكم برّة (3).

5 - وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن جابر، قال : سألت النبي صلى الله وآله وسلم عن مسح الحصى في الصلاة؟ فقال : واحدة، ولأن تمسك عنها خير لك من مائة ناقة كلها سود الحدق. فكان جابر يكره مسح الحصى (4) .

6 - وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن حذيفة، قال : سألت رسول الله صلى الله وآله وسلم عن كل شيء حتى مسح الحصى ؟ فقال : واحدة أو دَع (5) .

وقال حذيفة : هكذا واحدة أو دَعْ. وبيده مسحَ الأرض. قال أبو أسامة - أحد رجال السند - : يعني تسوية الحصى أو شيء في موضع سجوده.

7 - وأخرج الديلمي في الفردوس عن واثلة بن الأسقع، عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يمسح الرجل جبهته من التراب حتى يفرغ من الصلاة، فإن الملائكة تصلّي عليه ما دام أثر السجود في وجهه، ولا بأس أن يمسح العرق عن صدغيه (6) .

8 - وأخرج المتقي الهندي في كنز العمال عن أبي هريرة مرفوعاً : قال صلى الله

ص: 137


1- المصدر السابق 411/2 .
2- المغني 9/2 .
3- كنز العمال 325/7 .
4- المصنف 411/2-412.
5- المصدر السابق 411/2 .
6- الفردوس بمأثور الخطاب 377/5 .

عليه وآله وسلم : أما من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته.

9 - وأخرج فيه أيضاً نقلاً عن الطبراني في الأوسط بسنده عن أبي هريرة أيضاً، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليسوّ موضع سجوده، ولا يدعه حتى إذا هوى ليسجد نفخ ثم سجد، فلأن يسجد أحدكم على جمرة خير له من أن يسجد على نفخته (1) .

10 - وأخرج النووي في شرح صحيح مسلم عن معيقيب مرفوعاً في الرجل يسوّي التراب حيث يسجد ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : إن كنت فاعلاً فواحدة (2) .

11 - وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن معيقيب أيضاً، قال : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح الحصى، فقال : إن كنت لا بد فاعلاً فواحدة (3).

12 - أخرج النسائي في سننه والبزار في مسنده عن أبي الدرداء مرفوعاً، قال صلى الله عليه وآله وسلم : من الجفاء أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده.

13 - أخرج الطبراني بإسناده عن الحسن، وأبو يعلى في مسنده عن الحسين : أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان إذا توضأ فضل ماء حتى يسيله على موضع سجوده (4) .

هذه أكثر من عشرة أحاديث نبوية كلها دالة على أن السجود على الأرض، بدلالة ما تضمنت من النهي عن النفخ ومسح الحصى والتراب وتسوية التراب، وبالتالي استحباب التمسح بالأرض كما في حديث سلمان رضي الله عنه، وهذا هو المراد من تعفير الوجه الدال على منتهى الخضوع والتطامن والإذلال الذي هو معنى السجود كما مرَّ.

ص: 138


1- كنز العمال 325/7 .
2- صحیح مسلم بشرح النووي 37/5 .
3- المصنف 411/2 .
4- الفتح الكبير للنبهاني 46/2 ، 350 .

قال الشريف الرضي قدس سره في المجازات النبوية :

ولقوله عليه الصلاة والسلام (تمسحوا بالأرض) وجهان : أحدهما : أن يكون المراد التيمم منها في حال الطهارة وحال الجنابة.

والوجه الآخر أن يكون المراد مباشرة ترابها بالجباه في حال السجود عليها، وتعفّر الوجوه فيها، ويكون هذا القول أمر تأديب لا أمر وجوب، لأن من سجد على جلدة الأرض ومن سجد على حائل بينها وبين الوجه واحد في إجزاء الصلاة، إلا أن مباشرتها بالسجود أفضل. وقد روي عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان يسجد على الخُمرة، وهي الحصير الصغير يُعمل من سعف النخيل، فبان أن المراد بذلك فعل الأفضل لا فعل الأوجب (1) .

أقول : لا يظن فيما ذكره قدس سره من إجزاء الصلاة على جلدة الأرض أو على حائل بينها وبين الوجه بأن مراده مطلق ما يحول بين الجبهة والأرض، بل مراده مما يصح السجود عليه، ولذلك ذكر سجود النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام على الخُمرة دليلاً له وشاهداً عليه.

ثانيا: الأحاديث الإمامية :

وأما ما ورد من أحاديث أهل البيت علیهم السلام في كراهة النفخ في موضع السجود، وجواز تسوية الحصى، ومسح التراب عن الجبهة ليتحقق السجود ثانية على الأرض لا على ما علق بالجبهة من السجدة الأولى، فإليك بعضاً منها:

1 - أخرج الكليني في الكافي والشيخ الطوسي في كتابيه التهذيب والاستبصار بأسانيدهما عن حمد بن مسلم، عن أبي عبد الله - الصادق - علیه السلام، قال : قلت له : الرجل ينفخ في الصلاة موضع جبهته ؟ فقال : لا(2) .

ص: 139


1- المجازات النبوية، ص 269 .
2- فروع الكافي 92/18 ط حجرية، التهذيب 302/2، الاستبصار 329/1.

2 - وأخرج الصدوق في كتبه الثلاثة بإسناده عن الصادق عن آبائه علیهم السلام، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: إن الله كره لكم أيتها الأمَّة أربعاً وعشرين خصلة، ونهاكم عنها... إلى أن قال : وكره النفخ في الصلاة (1) .

3 - وأخرج الشيخ الصدوق في مَن لا يحضره الفقيه عن علي بن بجيل أنه قال : رأيت جعفر بن محمد علیهم السلام كلما سجد فرفع رأسه أخذ الحصى من جبهته فوضعه على الأرض (2) .

4 - وأخرج الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن الحلبي، عن أبي عبد الله - الصادق - علیه السلام، قال : سألته أيمسح الرجل جبهته في الصلاة إذ ألصق بها تراب؟ فقال : نعم، قد كان أبو جعفر - يعني الباقر علیه السلام. يمسح جبهته في الصلاة إذا لصق بها التراب (3) .

5 - وأخرج الحميري في قرب الإسناد، والطوسي في التهذيب والاستبصار بإسنادهم عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر علیهم السلام، قال : سألته عن الرجل يسجد على الحصى فلا يمكّن جبهته من الأرض؟ قال : يحرك جبهته حتى يتمكّن، فينحّي الحصى عن جبهته ولا يرفع رأسه (4) .

6 - وأخرج الكليني في الكافي بسنده عن عبد الملك بن عمرو ، قال : رأيت أبا عبد الله علیه السلام سوّى الحصى حين أراد السجود (5) .

ولنكتف بهذا المقدار من أحاديث العترة، فهو كافِ وشاف في إثبات كراهة النفخ ، وجواز مسح الجبهة من الحصى، وجواز تسويته قبل السجود، سواء في السجدة الأولى أو الثانية، ليتحقق المصلي في سجوده أنه سجد على الأرض، وليس على ما

ص: 140


1- من لا يحضره الفقيه 184/1 ، الخصال 489/2 - 490 ، الأمالي.
2- من لا يحضره الفقيه 176/1 .
3- التهذيب 301/2 .
4- قرب الإسناد، ص 93 التهذيب 213/2، الاستبصار 168/1 .
5- الكافي 092/1 92/1ط حجرية .

علق بجبهته من دقاق الحصى أو التراب.

ولست بصدد بيان أحكام النفخ ومسح الحصى وتسوية المسجد قبل الصلاة أو في أثنائها، وأن النهي عن النفخ - كما مرّ في الأحاديث النبوية والإمامية - هل هو نهي تحريم، أو نهي تنزيه فيدل على الكراهة فقط كما هو المستفاد عند الفقهاء.

وإنما الغرض هو الاستدلال على أن السجود إنما هو على الأرض، سواء كانت تراباً أو حصى، ولو لم يكن ذلك كذلك فلا معنى للسؤال عن النفخ والمسح والتسوية، فلاحظ.

ثالثاً: الآثار عن الصحابة والتابعين :

لقد سبق منا وعد للقارئ بأن نذكر له ما ورد عن الصحابة والتابعين من آثار تدل على الغرض المبحوث عنه، وهو حكم النفخ والمسح والتسوية. فإليه الآن طائفة من آثارهم، ولا أزعم لنفسي الاستقراء التام لجميع ما ورد عنهم من الآثار، كما لا أدّعي الإحاطة التامة بجميع الأخبار، وفوق كل ذي علم عليم.

1 - أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن ابن عباس (رض) أنه قال : النفخ في الصلاة كلام يقطع الصلاة.(1)

أقول : وإلى هذا الأثر أشرت فى أول المسألة الثانية.

2 - وأخرج أيضاً بسنده عن ابن مسعود، قال : أربع من الجفاء : أن يصلي الرجل إلى غير سُترة، وأن يمسح جبهته قبل أن ينصرف، أو يبول قائماً، أو يسمع المنادي ثم لا يجيبه (2).

3 - وأخرج أيضاً عن بريدة، قال : كان يقال : أربع من الجفاء... وذكر نحو ما مرّ(3).

ص: 141


1- المصنف 60/2 .
2- المصدر السابق 61/2 .
3- المصدر السابق 61/2 ،265 .

4 - وأخرج أيضاً بسنده عن أبي الدرداء ، قال : ما أحب أن لي حمر النعم وأني مسحت مكان جبهتي من الحصى (1) .

5 - وأخرج أيضاً بسنده عن أبي هريرة أنه كان يرخّص في تسوية الحصى في الصلاة مرة واحدة. قال : وإن لم يفعل فهو أحبّ إلي (2).

6 - وأخرج أيضاً بسنده عن عبد الرحمن بن الأسود عن عمِّه قال : رأيت ابن مسعود يسوّي الحصى بيده وهو يصلي، حطّه بيده ثم سجد. وفي حديث آخر عنه : كان يرخِّص في مسحة واحدة للحصى (3) .

7 - وأخرج أيضاً بسنده عن ابن عمر : كان ربّما يسوّي الحصى برجله وهو قائم في الصلاة (4) .

8 - وأخرج أيضاً بسنده عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه صلى إلى جانب عمر فمسح الحصى ومسك بيده (5) .

9 - وأخرج أيضاً بسنده عن عبد الله بن الهذيل، قال : لأن أضع جبهتي على جمرة حتى تطفأ أحب إلي من أن أنفخ في صلاتي ثم أسجد (6) .

10 - وأخرج أيضاً بسنده عن الحسن البصري أنه وضع الحصى في موضع سجوده وهو في الصلاة، وكان يكره أن يمسح جبهته قبل أن ينصرف(7) .

11 - وأخرج أيضاً بسنده عن إبراهيم - النخعي - كان يكره النفخ في الصلاة ،وقال : نحّه بثوبك أو بكمّ قميصك، وكره النفخ (8).

12 - وأخرج أيضاً بسنده عن مكحول : أنه كان يكره النفخ في الصلاة، وكان

ص: 142


1- المصدر السابق 410/2 .
2- المصدر السابق 412/2 .
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق 411/2 .
6- المصدر السابق 264/2 .
7- المصدر السابق 61/2، 264 .
8- المصدر السابق 264/2 .

يكره أن يمسح الرجل جبهته في الصلاة، ويقول : هو من الجفاء (1) .

13 - وأخرج أيضاً بسنده عن الشعبي في الرجل يمسح جبهته قبل أن ينصرف.

قال : هو من الجفاء (2) .

14 - وأخرج أيضاً بسنده عن أبي صالح، قال : إذا سجدت فلا تمسح الحصى، فإن كل حصاة تحب أن يُسجد عليها (3) .

15 - وأخرج أيضاً بسنده عن يحيى بن أبي كثير أنه كره النفخ في الصلاة (4) .

16 - وأخرج أيضاً بسنده عن سفيان العصفري، قال : صليت في حجرة الشعبي فنفخت، فنهاني وقال : إن رأيتَ أذى فامسحه بيدك (5) .

وأحسب أن فى ما ذكرناه من سنّة نبوية وإمامية، وسيرة آثار الصحابة والتابعين ممن يحتج بفعلهم لدى المذاهب الإسلامية، وما قلناه من آثارهم قولاً وعملاً، كل ذلك يكفي في إثبات وجوب السجود على الأرض تراباً أو حصى، بدلالة ما تضمنت من النهي عن النفخ، وما ورد في كراهة المسح والتسوية لموضع السجود، فإن ذلك كله متعلق بالسجود على الحصى أو التراب، فلا يبقى مجال لمن يزعم أن السجود - من غير ضرورة - يجوز على غير الأرض، كالطنافس والبساط ونحو ذلك.

وإن أبى جاهل متنطّع إلا أن يكون مقلداً لإمام مذهبه، ويعنيه الإطلاع على رأيه في خصوص هذه المسألة، فإليه عرضاً لآراء الفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية فليرجع إليها الأتباع، وغيرهم ممن يروم الإطلاع.

رابعاً: آراء الفقهاء لجميع المذاهب :

1 - قالت الشيعة الإمامية - كما في القواعد الأحكام للعلامة الحلي في آخر

ص: 143


1- المصدر السابق 61/2 264 .
2- المصدر السابق 61/2.
3- المصدر السابق 411/2 .
4- المصدر السابق 265/2 .
5- المصدر السابق.

المكروهات في الصلاة، قال بعد ذكر جملة منها ونفخ موضع السجود(1) .

وقال أيضاً في كتابه التحرير : ويكره... وأن ينفخ في موضع سجوده (2) .

وقال ابن إدريس في السرائر الحاوي : ويكره للساجد أن ينفخ موضع سجوده ،فإن كان نفخه بحرفين فقد قطع صلاته (3) .

وقال ابن زهرة في غنية النزوع في كيفية الصلاة التامة الأفعال : ولا ينفخ موضع سجوده .

وقال المحقق الحلي في المعتبر : ونفخ موضع السجود مكروه (4) .

2 - وقالت الحنفية في مسألة النفخ كما في تحفة الفقهاء للسمرقندي: ويكره النفخ في الصلاة إذا لم يكن مسموعاً، لأنه ليس من أعمال الصلاة، ولكن لا تفسد صلاته، لأنه ليس بكلام معهود ولا بفعل كثير. فأما إذا كان مسموعاً فقد قال أبو حنيفة ومحمد : تفسد صلاته (5).

وقال السرخسي في المبسوط : ولنا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بمولى له يقال له رباح وهو ينفخ التراب من موضع سجوده، فقال : أما علمت أن مَن نفخ في صلاته فقد تكلم؟! (6) .

ولأن قوله : (أف) من جنس كلام الناس، لأنه حروف مهجاة وله معنى مفهوم يذكر لمقصود، قال الله تعالى ﴿فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ، فجعله من القول، والقائل يقول :

أفاً وتفاً لمن مودّته *** إن غبت عنه سويعةً زالتِ

إن مالت الريحُ هكذا وكذا *** مال مع الريح أينما مالتِ

ص: 144


1- القواعد الأحكام 16/1 .
2- تحریر الأحكام، ص 40.
3- السرائر ص 49 ط حجریة .
4- المعتبر، ص 186.
5- تحفة الفقهاء 247/1 .
6- المبسوط 33/1 .

والكلام مفسد في الصلاة.

هذا ما قاله الأحناف في مسألة النفخ، ولنقرأ ما عندهم في مسألة مسح الحصى : لقد قالواكما في تحفة الفقهاء للسمرقندي : ويكره أن يمسح المصلي جبهته من التراب في وسط الصلاة، ولا بأس به بعدما قعد قدر التشهّد. كذا في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا بأس به كيف ما كان، والصحيح جواب ظاهر الرواية، لأنه إذا مسح مرة يحتاج أن يمسح عند كل سجود، لأنه يتلطخ فيتكرر المسح فيشبه فعلاً كثيراً، فأما بعدما قعد قدر التشهد فلا بأس به، لأنه يكفيه مرة واحدة، وأنه فعل قليل فيكون معفواً عنه، والترك أفضل، لأنه ليس من جنس الصلاة (1).

وقال السرخسي في المبسوط : (ولو مسح جبهته من التراب قبل أن يفرغ من صلاته لا بأس به) لأنه عمل مفيد، فإن التصاق التراب بجبهته نوع مُثْلة (!؟) ، فربما كان الحشيش الملتصق بجبهته يؤذيه فلا بأس به، ولو مسح بعدما رفع رأسه من السجدة الأخيرة لا خلاف في أنه لا بأس به، فأما قبل ذلك فلا بأس به في ظاهر الرواية.

وعن أبي يوسف قال : أحب إلىّ أن يدعه لأنه يتترب ثانياً وثالثاً فلا يكون مفيداً ، ولو مسح لكل مرة كان عملاً كثيراً (2)

قال السرخسي : ومن مشايخنا من كره ذلك قبل الصلاة، وجعلوا القول قول محمد رحمه الله في الكتاب : (لا) مفصولاً عن قوله: (أكرهه)، فإنه قال في الكتاب : قلت : لو مسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته؟ قال : لا ، أكرهه يعني لا تفعل، فإني أكرهه، لحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : أربع من الجفاء : أن تبول قائماً، و أن تسمع النداء فلم تجبه، وأن تنفخ في صلاتك، وأن تمسح جبهتك في صلاتك . والطحاوي في مشكل الآثار، بعد ما ذكر أحاديث الجواز وأحاديث النهي عن مسح الحصى وكان آخرها حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله : لأن

ص: 145


1- تحفة الفقهاء 248/1 .
2- المبسوط 27/1 .

يُمسك أحدكم بيده عن الحصى خير له من أن يكون له مائة ناقة كلها سود الحدق، فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح مسحة واحدة.

قال الطحاوي : فبان بهذا الحديث أن الواحدة التي أباحها صلی الله علیه و آله وسلم للمصلي إنما هي عند الضرورة إليها، لا لما سوى ذلك (1) .

3 - وقالت المالكية في مسألة النفخ كما في بداية المجتهد لابن رشد الحفيد، قال : المسألة الثالثة : اختلفوا في النفخ في الصلاة على ثلاثة أقوال : فقوم كرهوه ولم يروا الإعادة على من فعله، وقوم أوجبوا الإعادة على مَن نفخ، وقوم : فرّقوا بين أن يُسمع أو لا يسمع .

وسبب اختلافهم تردّد النفخ بين أن يكون كلاماً أو لا يكون كلاماً (2).

وأما قول المالكية في مسح الحصى فقد جاء في الموطأ لمالك : وعن مالک عن أبي جعفر القارئ أنه قال : رأيت عبد الله بن عمر إذا أهوي ليسجد مسح الحصباء لموضع جبهته مسحاً خفيفاً. وعن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن أبا ذر كان يقول : مسح الحصباء مسحة واحدة، وتركها خير من حمر النعم (3) .

قال أبو الوليد الباجي في المنتقى : مسح الحصباء لإزالة ما عليه من التراب، وهو في الجملة ممنوع لمعنيين : أحدهما : الاشتغال عن الصلاة، والثاني : ترك التواضع لله عز وجل، فإذا دعت إلى ذلك ضرورة من التراب يؤذي أو غير ذلك فليمسح مرة واحدة.. (4)

وقال الزرقاني في شرح الموطأ : وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصباء وغيرها في الصلاة (5) .

ص: 146


1- مشكل الآثار 2 /184 .
2- بداية المجتهد 131/1 .
3- الموطا بشرح تنوير الحوالك 132/1.
4- المنتقى بشرح الموطأ 279/1 .
5- شرح الموطا 44/2.

وقال فيه أيضاً : وقال ابن جريج : قلت لعطاء : كانوا يشدّدون في المسح على الحصباء لموضع الجبين ما لا يشددون في مسح الوجه من التراب؟ قال : أجل. وقال الزين العراقي : وتقييد المسح بالحصباء غالبي لكونه كان فراش مساجدهم، وأيضاً هو مفهوم لقب، فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه عن غيره من كل ما يُصلَّى عليه من نحو رمل وتراب وطين (1) .

4 - وقالت الشافعية في المسألتين معاً كما في مغني المحتاج للخطيب الشربيني، قال : ويكره النفخ لأنه عبث، ومسح الحصى ونحوه حيث يسجد، لخبر أبي داود بإسناد على شرط الشيخين : لا تمسح الحصى وأنت تصلي، فإن كنت لا بد فاعلاً فواحدةً تسويةً للحصى. ولأنه يخالف التواضع والخشوع (2) .

وقال أيضاً : ويكره... وأن يمسح وجهه فيها وقبل الانصراف مما يتعلق بها من غبار ونحوه (3) .

5 - وقالت الحنابلة - كما في المغني لابن قدامة : فأما النفخ في الصلاة فإن انتظم حرفين أفسد الصلاة لأنه كلام، وإلا فلا يفسدها، وقد قال أحمد : النفخ عندي بمنزلة الكلام. وقال أيضاً : قد فسدت صلاته (4) .

وجاء فيه أيضاً : ويكره مسح الحصى، لما روى أحمد في المسند عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى (5) .

وجاء فيه أيضاً : ويكره أن يكثر الرجل مسح جبهته في الصلاة، لما روى ابن المنذر عن ابن مسعود قال : من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من

ص: 147


1- المصدر السابق 43/2 .
2- مغني المحتاج 201/1 .
3- المصدر السابق 202/1 .
4- المغني 51/2 .
5- المصدر السابق 9/2 .

الصلاة. وروي أيضاً مرفوعاً وكرهه الأوزاعي. وقال سعيد بن جبير: هو من الجفاء. وروى الأثرم عن ابن عباس قال : لا تمسح جبهتك، ولا تنفخ ولا تحرك الحصى (1) .

6 - وقالت الزيدية - كما في البحر الزّخار، وقد عدّ المكروهات في الصلاة : ومسح الحصى لنهيه، والنفخ لخبر أفلح ، وقال الثوري : يفسد. وقال أحمد وإسحاق بن راهويه : لا يفسد. قلنا : إن لم يكن بحرفين، لفعله صلی الله علیه و آله وسلم يوم الخسوف (2).

وجاء في نيل الأوطار للشوكاني : (واستدل) من قال : إنه - النفخ - يفسد الصلاة بأحاديث النهي عن الكلام، والنفخ كلام كما قال ابن عباس . (وأجيب) بمنع كون النفخ من الكلام... ثم قال : واستدلوا أيضاً بما رواه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن النفخ في السجود...

وذكر جملة من الأحاديث، وناقش أسانيدها، ثم قال : وقد ذهب إلى كراهة النفخ ابن مسعود وابن عباس، وكرهه من التابعين : النخعي وابن سيرين والشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن أبي الهذيل ويحيى بن أبي كثير ، وروي أيضاً عن سعيد بن الزبير (3) .

وقال الصنعاني في سبل السلام بعد ذكره لحديث أبي ذر في النهي عن مسح الحصى : (لأن الرحمة تواجهه) : رواه الخمسة بإسناد صحيح...

ثم قال : والحديث دليل على النهي عن مسح الحصاة بعد الدخول في الصلاة، لا .قبله فالأولى له أن يفعل ذلك لئلا يشغل باله وهو في الصلاة، والتقييد بالحصى أو التراب كما في رواية للغالب، ولا يدل على نفيه عما عداه.

قيل : والعلة في النهي هو المحافظة على الخشوع، وقد نص الشارع على العلة

ص: 148


1- المصدر السابق 10/2.
2- البحر الزخار 294/1 - 295 .
3- نيل الأوطار 317/2 - 318 .

بقوله : (فإن الرحمة تواجهه) أي تكون تلقاء وجهه، فلا يغير ما تعلق بوجهه من التراب والحصى، ولا ما يسجد عليه، إلا أن يكون يؤلمه فله ذلك. ثم النهي ظاهر في

التحريم (1) .

7 - وقالت الإسماعيلية - كما جاء فى دعائم الإسلام وتأويل الدعائم : وعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أنه نهى عن النفخ في الصلاة. وعن جعفر بن محمد علیه السلام أنه نهى أن ينفخ الرجل موضع سجوده في الصلاة، وهذا ينهى عنه ولا يقطع الصلاة (2).

وقال علي علیه السلام: نهاني رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن أربع : عن تقليب الحصى في الصلاة (3) .

وعنه علیه السلام : أنه رخّص في مسح الجبهة من التراب في الصلاة (4).

8 - وقالت الخوارج - كما جاء في المدونة الكبرى : قال المرتب : النفخ في موضع السجود حال الصلاة لإزالة التراب مفسد للصلاة، والحق في ذلك أنه لا يصلح النفخ في الصلاة (5).

وجاء فيما يتعلق بمسح الحصى : ويكره - المسح - بالرجل، والسنة في الصلاة أن لا يعمل جوارحه في غيرها، ومسح الحصباء ليس من الصلاة، فلا ينبغي أن يمسح. قال المرتب : وإن تعمد ذلك فسدت صلاته وعصى (6).

9 - وقالت الظاهرية - كما جاء في المحلّى لابن حزم، قال : (مسألة - 384) وأن لا يمسح الحصى، أو ما يسجد عليه إلا مرة واحدة، وتركها أفضل، لكن يسوّي موضع سجوده قبل دخوله في الصلاة (7) .

ص: 149


1- سبل السلام 228/1 .
2- دعائم الإسلام 173/1 ، تأويل الدعائم 287/1.
3- دعائم الإسلام 174/1، تأويل الدعائم 288/1.
4- دعائم الإسلام 175/1 ، تأويل الدعائم 291/1.
5- المدونة الكبرى 155/1 .
6- المصدر السابق 154/1 .
7- المحلی 7/2 .

الخلاصة :

لقد انتهينا بعد استعراض شامل - كما مرَّ بنا - للأحاديث النبوية، وما صحَّ عن أئمة أهل البيت علیهم السلام، ثم آثار الصحابة والتابعين، وبعد ذلك آراء الفقهاء من أئمة المذاهب الإسلامية، بعد ذلك كله انتهينا إلى أن جميع ما مرَّ دال صريحاً وبالملازمة على وجوب السجود على الأرض، فالنهي عن النفخ معناه وجود تراب لينفخ، والنهي عن مسح الحصى معناه وجود حصى عليها تراب اغبرَّ منه، وكذلك تسوية التراب، كل ذلك دال على أن السجود كان على الأرض تراباً أو حصى، وليس هناك حائل بين جبهة المصلي ومسجده، ولذلك احتاج إلى النفخ والمسح والتسوية.

ولقد مرتّ بنا كلمة الزين العراقي - في ذِكر قول المالكية - في وجه تقييد المسح بالحصى أنه غالبي، لكونه كان فراش مساجدهم، ويعني ذلك كان سجودهم عليه.

ويؤكد ذلك ما روي في آداب صلاة الجمعة عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال : من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومَن مسَّ الحصى فقد لغا .أخرجه مسلم وأبو داود والبيهقي.

فيظهر أن تحذيره لمصلي الجمعة مِن مس الحصى، وأنه على حد اللغو المنهي عنه عند استماع الخطبة، أن المساجد كانت أرضاً من دون فراش ولذلك نهى عن مس الحصى.

قال في عون المعبود : والتقييد بالحصى خرج مخرج الغالب، لكونه كان الغالب على فرش مساجدهم، ولا فرق بينه وبين التراب والرمل على قول الجمهور (1) .

إذن لم تبق شبهة ولا أدنى شك في أن المسلمين كانوا لا يسجدون إلا على وجه الأرض، وأن من لم يسجد - من غير ضرورة - على وجه الأرض لا تقبل له صلاة، لأنه لم يأت بالسجود المأمور به، ومَن لم يأت بالمأمور به كان كمَن لم يُصلَّ .

ص: 150


1- عون المعبود 356/1 .

ونعود.. ونكرر قولنا : إن سجود الشيعة إذن على التربة - الأرض، إذ هي طائفة من التراب - هو السجود المأمور به، فلا وجه لاستنكار ذلك عليهم.

المسألة الثالثة: في المنع من السجود على كور العمامة، بل وكل حائل من غير ضرورة.

لقد وردت مسألة السجود على كور العمامة في كتب الحديث والفقه، ودار حولها الجدل بين الفقهاء، فمنهم من أجازه، ومنهم من منع منه، ثم مَن أجازه بين من أطلقه وبين من قيَّده بما إذا كان على دور واحد ونحوه مما يجد معه صلابة الأرض.

وهذا الاختلاف كله موجود بين أئمة الفقهاء في المذاهب الإسلامية، ومنشأ ذلك هو ما ذكر من أحاديث لا يسلم شيء منها من المناقشة سنداً ودلالة.

أما سنداً فلم يثبت حديث واحد منها مرفوعاً بسند صحيح كما سيأتي، بل إن البخاري ومسلم لم يوردا حديثاً واحداً منها، وكل ما ورد في البخاري فقط حكاية الحسن البصري أنهم - يعني الصحابة - كانوا يسجدون على القلانس والعمائم.

وهذا أولاً : ليس بحديث، ومع ذلك فقد ناقش العلماء في أحاديث الحسن البصري وعدّوه من المدلّسين. ومهما يكن نصيب حكايته من الصدق فقد ردَّها البيهقي في السنن الكبرى وغيرها كما سيأتي، وأشار إلى ذلك ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1) ، وابن حجر في تلخيص الحبير (2) ، وقد حكى عن الأوزاعي أنه قال : كانت عمائم القوم صغيرة لينة، وكان السجود على كورها لا يمنع من وصول الجبهة إلى الأرض ولنستعرض ما ذكروه من أحاديث وننظر في أسانيدها أولاً ثم في دلالتها.

أما الأحاديث التي رُويت في الباب - بجواز السجود على كور العمامة - فهي ستة

ص: 151


1- بداية المجتهد 100/1 .
2- تلخيص الحبير ، ص 96 .

أحاديث عن ستة من الصحابة، ولعل الأصح هي عن خمسة من الصحابة وتابعي واحد، لاختلاف الرواية عنه، وإليك ذلك :

1 - حديث رواه سعيد بن جبير مرفوعاً بإرسال، وقيل عن ابن عباس، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة إبراهيم بن أدهم (1) .

وهو مع انقطاعه وإرساله، لأنه لم تثبت رواية ابن عباس له، ففي إسناده غير واحد من الضعفاء، فلا يحتج به. راجع رجال السند في الحلية، وراجع أحوالهم عند أصحاب الرجال تعرف من فيهم ، وكم فيهم وما فيهم.

2 - حديث رواه أنس مرفوعاً، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف عن مكحول مرسلاً، قال : أخبرنا عبد الله بن محرز... وذكر الحديث (2) .

قال أبو حاتم : وهو حديث منكر. وقال : عبد الله بن محرز ضعيف الحديث، وفيه - أي في إسناده - حسان بن سياه ضعيف (3) .

3 - حديث رواه ابن أبي أوفى مرفوعاً، أخرجه الطبراني في الأوسط، سنده فيه سعد بن عنبسة، والاسم مشترك بين اثنين : رازي وهو ضعيف ، ومجهول لا يعرف مَن هو!! وهو يروي عن فائد أبي الورقاء.

قال ابن حجر في تقريبه : متروك اتَّهَموه.

وقال الطبراني : لا يُروى هذا الحديث عن ابن أبي أوفى إلا بهذا الإسناد، وتفرَّد به معمر بن سهیل عن سعيد بن عنبسة.

4 - حديث رواه ابن عمر، وأخرجه أبو القاسم تمام الرازي في فوائده، وفي سنده سويد بن عبد العزيز، وهو واه كما في الدراية (4).

5 - حديث رواه جابر، وأخرجه ابن عدي في الكامل من حديث عمرو بن شمر

ص: 152


1- حلية الأولياء 55/8 .
2- المصنف 1 / 400 .
3- راجع العلل لابن أبي حاتم 187/1.
4- الدراية ، ص 81 .

عن جابر الجعفي، وضعَّف عمرو بن شمر كل من البخاري والنسائي وابن معين.

وقال ابن عدي : عمرو بن شمر وجابر الجعفي متروكان.

6 - حديث رواه أبو هريرة، ولفظه : كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يسجد على كور عمامته.

قال ابن أبي حاتم : هذا حديث باطل (1) .

هذه هي الأحاديث التي رويت في الباب، وكلها لم تثبت .

قال البيهقي في المعرفة : وأما ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسجد على كور عمامته فلا يثبت منه شيء.

وقال أيضاً في السنن الكبرى مثل ذلك، وزاد قوله : وأصح ما رُوي في ذلك قول الحسن البصري حكايته عن أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم، عن هشام عن الحسن قال : كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته (2) .

قال البيهقي : وهذا يحتمل أن يكون أراد يسجد الرجل على عمامته وجبهته، والاحتياط لغرض السجود أولى، وبالله التوفيق.

على أن هناك مرسلاً آخر أخرجه أبو داود في مراسيله عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن صالح بن حيوان السبائي، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يسجد إلى جنبه وقد اعتم على جبهته، فحسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبهته. وأخرج ذلك أيضاً ابن سعد كما في الفتح الكبير للنبهاني (3) .

أقول : ونحن لسنا بحاجة إلى الاحتجاج بالمراسيل ما دام لم يثبت من أحاديث السجود التي ذكروها مسندة على جواز السجود على كور العمامة شيء،

ص: 153


1- تلخيص الحبير ، ص 97 .
2- السنن الكبرى 106/1 .
3- الفتح الكبير 2/ 357 .

كما مرّ عن البيهقي في كتابيه المعرفة والسنن الكبرى.

وإليك بعض ما قاله الأعلام في رد ومناقشة من يزعم جواز السجود على كور العمامة :

1 - قال ابن القيم الجوزية في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد :

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة، ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن.

ولكن روى عبد الرزاق في المصنف من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يسجد على كور عمامة. وهو من رواية عبد الله بن محرز، وهو متروك.

وذكره أبو أحمد من حديث جابر، ولكنه من رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفي، متروك عن متروك.

وقد ذكر أبو داود في المراسيل أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم رأى رجلاً يصلي في المسجد، فسجد بجنبه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن جبهته. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد على الأرض كثيراً، وعلى الماء والطين، وعلى الخُمر المتخذة من خوص النخل، وعلى الحصير المتخذ منه، وعلى الفروة المدبوغة (1).

2 - وقال ابن حزم في المحلّى في مناقشة القائلين بجواز السجود على كور العمامة :

وأما السجود : فإن مَن أجاز السجود على كور العمامة سألناه عن عمامة غلظ كورها إصبع ثم إصبعان إلى أن نبلغه إلى ذراعين وثلاث وأكثر، فيخرج إلى ما لا يقول به أحدا ثم نحطه من الأصابع إلى طية واحدة من عمامة شرب كذا وكلّفناه

ص: 154


1- زاد المعاد في هدي خير العباد 59/1. أقول : لم يثبت سجوده صلی الله علیه و آله وسلم على الفروة المدبوغة في حديث صحيح، ولعله كان يصلي عليها، ويسجد على الأرض لا عليها .

الفرق ولا سبيل إليه.

ثم قال : وبقولنا يقول جمهور السلف، يعني عدم جواز السجود على كور العمامة (1) .

3 - وقال ابن قدامة المقدسي في المغني: قال أحمد : لا يعجبني - يعني السجود على كور العمامة - إلا في الحر والبرد. وكذلك قال إسحاق، وكان ابن عمر يكره السجود على كور العمامة، وكان عبادة بن الصامت يحسر الصامت يحسر عمامته إذا قام إلى الصلاة.

وقال النخعي : أسجد على جبيني أحب إلي(2) .

4 - وقال النووي : إن العلماء مجمعون على أن المختار مباشرة الجبهة للأرض، وأما المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سجد على كور عمامته فليس بصحيح، قال البيهقي : فلا يثبت في هذا شيء، وأما القياس على باقي الأعضاء أنه لا يختص وضعها على قول وإن وجب ففي كشفها مشقة، بخلاف الجبهة (3).

5 - وقال الشوكاني في نيل الأوطار : ومن المانعين عن ذلك - السجود على كور العمامة - علي بن أبي طالب علیه السلام ابن عمر وعبادة بن الصامت وإبراهيم وابن سيرين وميمون بن مهران وعمر بن عبد العزيز وجعدة بن هبيرة. روى ذلك عنهم أبو بكر بن أبي شيبة (4)(5) .أقول : فهؤلاء ثلاثة منهم من الصحابة وخمسة من التابعين منعوا من السجود على كور العمامة، ولسنا بحاجة إلى الإكثار من شواهد المنع والمانعين ما دام أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام كان من المانعين، وهو الذي كان مع الحق والحق معه بقول الصادق الأمين (6) .

ص: 155


1- المحلّى 266/3 .
2- المغنى 518/1 .
3- المجموع 426/3.
4- المصنف 268/1 .
5- نيل الأوطار 261/2 .
6- أخرج الخطيب في تاريخه 321/14 بسنده عن أم سلمة (رض) قالت : سمعت رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم يقول : علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى بردا علي الحوض يوم القيامة. وبمعناه أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 235/7 عن سعد بن بن أبي وقاص، وفي ص 234 عن أبي سعيد الخدري. والحاكم في المستدرك 119/3، والترمذي في سنند 298/2 و غيرهم.

الخلاصة :

تبين مما سبق أن السجود على كور العمامة لم يثبت فيه حديث أصلاً. ثم عرفنا أن ثلاثة من الصحابة منعوا من ذلك، وتبعهم على القول بالمنع خمسة من التابعين، منهم عمر بن عبد العزيز الذي قال لرجل بلهجة ملؤها الازدراء والتنديد : لعلك ممن يسجد على كور العمامة (1) .

ومنهم جعدة بن هبيرة - وهو ابن أم هانئ بنت أبي طالب (رض)، وإذا رجعت إلى حديثه فهو فيه أشد استنكاراً وأعظم إنكاراً من عمر بن عبد العزيز، وذلك حين رأى رجلاً سجد وعليه مغفرة وعمامة قد غطّى بهما وجهه، فأخذ بمغفرته وعمامته فألقاهما من خلفه.

أقول : فأي نكير أبعد من هذا على من يسجد على عمامته!!

ثم إن من أجاز السجود على كور العمامة أو فعل ذلك، ربما كان ذلك منه لعذر من برد أو حر أو نحو ذلك من الأعذار المبيحة عند الاضطرار، كما فهم ذلك أحمد بن حنبل كما مرّ ذلك عنه.

ومن الشواهد على ذلك ما روي عن مكحول - وهو من التابعين - أنه كان يسجد على كور العمامة فقال له محمد بن راشد، فقال : إني أخاف على بصري من برد الحصى (2) .

وفي إنكار محمد بن راشد على مكحول دليل على أن الناس كانوا لا يسجدون على كور العمامة اختياراً، فإذا سجد أحدهم - كما فعل مكحول - عيب عليه ذلك

ص: 156


1- المصنف لابن أبى شيبة 268/1 .
2- المصدر السابق 267/1 .

وقيل له فيه، حتى إذا أبان عذره عذروه، وإلا أنكروه .

ولسنا بحاجة بعد هذا كله إلى ما سبق نقله من توجيه الأوزاعي المدخول، وتبقى نتيجة المسألة أن السجود اختياراً إنما هو على الأرض مباشرة من دون حيلولة كور العمامة أو المغفرة أو العصابة أو نحوها.

وأما مع الاضطرار لحر أو برد أو غير ذلك فقد أبيح لابن آدم ما اضطر إليه، ودين الله يسر لا عسر فيه.

الناحية الثانية : في السجود على ما أنبتت الأرض
اشارة

والكلام فيه يتم في مقدمة وأربع مسائل وخاتمة :

أما المقدمة : فعرض للآراء حول السجود على ما أنبتته الأرض، وهل يُستثنى المأكول والملبوس من ذلك أم لا؟

وأما المسائل : فهي في أجناس ورد ذكرها في الأحاديث فاختلف الفقهاء في أحكام بعضها، وهي كما يلي :

المسألة الأولى : في السجود على الخُمرة.

المسألة الثانية : في السجود على الحصى.

المسألة الثالثة : في السجود على البساط.

المسألة الرابعة : في السجود على الطنفسة.

ص: 157

المقدمة :

لم يختلف المسلمون في جواز السجود على ما أنبتت الأرض بما هو نبات، إلا أنهم اختلفوا في دخول المأكول والملبوس منه تحت عنوان الجواز، فأجازه بعضهم، ومنع منه آخرون، تبعاً لاجتهاد الفقهاء في ذلك، وقد استند كل إلى حجّة قامت عنده، وعلينا الآن أن نستعرض بعض مقالاتهم وأدلتهم في ذلك :

1 - فقالت الإمامية - كما جاء في الحدائق الناضرة : المشهور بين الأصحاب رضوان الله عليهم أنه لا يجوز السجود اختياراً إلا على الأرض أو ما أنبتت مما لا يؤكل ولا يلبس عادة. ولم يستثنوا من هذه القاعدة إلا القرطاس، ونُقل عن المرتضى في المسائل الموصلية كراهة السجود على ثياب القطن والكتان، وفي المصباح وافق الأصحاب.

ويدل على الأول الأخبار المستفيضة :

ومنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله علیه السلام، قال :

سمعته يقول : « السجود على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس» (1) .

وعن الفضل أبي العباس قال : قال أبو عبد الله علیه السلام: «لا يُسجد إلا على الأرض أو

ما أنبتت الأرض إلا قطن وكتان» (2) .

ص: 158


1- وسائل الشيعة : باب 1 من أبواب ما يسجد عليه.
2- المصدر السابق.

وعن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر علیه السلام، قال : قلت له : أسجد على الزفت - یعني القير ؟ فقال : لا ، ولا الثوب الكرسف، ولا على الصوف، ولا على شيء من الحيوان، ولا على طعام، ولا على شيء من ثمار الأرض، ولا على شيء من الرياش (1) .

وعن هشام بن الحكم في الصحيح عن أبي عبد الله علیه السلام، قال له : أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز ؟ قال : السجود لا يجوز إلا على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس (2).

وروى الصدوق في كتاب العلل بسنده عن هشام بن الحكم، قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام: أخبرني عما يجوز السجود عليه - وذكر الحديث السابق - ثم قال : فقلت له : جعلت فداك ما العلَّة في ذلك؟ قال : لأن السجود هو الخضوع الله عز وجل، فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عز وجل فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل، لأنه أبلغ في التواضع والخضوع الله عز وجل (3) .

ثم ذكر أحاديث أخر تؤيد ما سبق لم نذكرها اكتفاء بما ذكرناه، وبذلك نكتفي في عرض قول الإمامية في هذه المسألة.

2 - وقالت الحنفية - كما في غنية المتملي : (ولو وضع كفَّيه أو بسط خرقة على شيء طاهر للحر أو للبرد أو للتراب وسجد جاز ذلك، والكلام إنما هو في الكراهة)، أما السجود على الكفين فقد قدّمنا الكلام عليه، وأما على الخرقة ونحوها فالصحيح

ص: 159


1- نفس المصدر، باب 2 من أبواب ما يسجد عليه.
2- نفس المصدر، باب 1 من أبواب ما يسجد عليه.
3- الحدائق الناضرة 245/7 .

عدم الكراهة ففي الصحيح أنه علیه السلام كانت تحمل له الخُمرة فيسجد عليها - وهى حصیر صغيرة من الخوص .

وحكي عن الإمام - يعني أبا حنيفة - أنه صلى في المسجد الحرام على الخرقة، فنهاه رجل فقال له الإمام : من أين أنت؟ فقال : من خوارزم فقال الإمام : جاء التكبير من ورائي - يعني تتعلمون منا ثم تعلموننا - هل تصلون على البردي في بلادكم ؟ فقال : نعم ، فقال : تجوزوا الصلاة على الحشيش ولا تجوزوها على الخرقة!

والحاصل : أنه لا كراهة في السجود على شيء مما فرش على الأرض مما لا يتحرك بحركة المصلي بالإجماع، إلا أن مالكاً كرهه فيما يكون من غير جنس الأرض كالجلد والمسح ، وكذا خرقة القطن والكتان متمسكاً بحديث الخُمرة (1).

وجاء نحو ذلك في حاشية ابن عابدين، وزاد على ذلك بقوله : ولكن الأفضل عندنا السجود على الأرض أو ما أنبتت كما في نور الإيضاح ومنية المصلي (2) .

وقال السرخسي في المبسوط : وجاء في الحديث الصلاة على ما أنبتت الأرض أفضل من الصلاة على ما لم تنبته الأرض، فلهذا اختاروا الحشيش والحصير على البساط (3) .

3 - وقالت المالكية - كما في بداية المجتهد لابن رشد الحفيد : والجمهور على إباحة السجود على الحصير وما يشبهه مما تنبت الأرض، والكراهية بعد ذلك، وهو مذهب مالك بن أنس (4) .

أقول : لقد مرّ في مقالة الحنفية حكاية قول مالك، وأنه كره السجود على ما لا يكون من غير جنس الأرض كالجلد والمسح ، وكذا خرقة القطن والكتان متمسكاً

ص: 160


1- غنية المتملي في شرح منية المصلي، ص 288 .
2- حاشية ابن عابدين 469/1 .
3- المبسوط 206/1 .
4- بداية المجتهد ونهاية المقتصد 85/1 .

بحديث الخُمرة، ويؤكّد ذلك ما حكاه الشوكاني في نيل الأوطار عن مالك كراهته الصلاة على ما كان من نبات الأرض فدخلته صناعة أخرى، كالقطن والكتان (1).

وهذا يغني عن بيان مسألة السجود على القطن والكتان.

4 - وقالت الشافعية - كما في شرح النووي لصحيح مسلم، کتاب المساجد، قال : إن الفقهاء بصفة عامة يصرّحون بأن الصلاة يجوز أن تؤدَّى على أي شيء تنبته الأرض.

وفي حلية الفقهاء للقفال الشاشي : وتجوز الصلاة على ما اتخذ من شعر أو صوف أو وبر (2) .

وجاء في كتاب الأنوار لأعمال الأبرار ليوسف الأردبيلي وهو فقيه شافعي : الثاني من شروط السجود... ولو سجد على قطن أو حشيش أو شيء آخر محشوّ بهما وجب أن يتحامل بحيث ينكبس وتثبت جبهته. الثالث من شروط السجود : أن يضع مكشوفاً، فلو سجد على طرّته أو كور عمامته أو كمّه أو ذيله المتحرك بحركته قياماً أو قعوداً لم يحصل السجود (3).

5 - وقالت الحنابلة - كما جاء في الإنصاف للمروادي : قال الأصحاب : لو سجد على حشيش أو قطن أو ثلج أو برَدَ ونحوه ولم يجد حجمه لم يصح، لعدم المكان المستقر (4) .

أقول : ومفهوم ذلك إذا كان يجد الحجم وكان مستقراً يصح السجود عليه.

6 - وقالت الزيدية - كما في السيل الجرار :

واعلم أن الأمر بالسجود على هذه الأعضاء لا بدّ أن يكون على الأرض أو على ما هو عليها من حصير أو نحوه، فلا يجعل المصلي بين هذه الأعضاء وبين ذلك حائلاً

ص: 161


1- نيل الأوطار 127/1.
2- حلية الفقهاء 60/2 .
3- الأنوار لأعمال الأبرار 93/1 .
4- الإنصاف 70/2 .

،لا من حّي ولا من غيره، فإن فعل خالف ما أمر به مع كون ذلك بياناً لمجمل القرآن، لهذا حكم المصنف على من لم يسجد على هذه الأعضاء بلا حائل بينها وبين الأرض بالبطلان لسجدته (1) .

وجاء في نيل الأوطار : وقد كره ذلك - الصلاة على البسط - جماعة من التابعين ممن بعدهم... وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان، ويستحب الصلاة على كل شيء دون الأرض. وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض، وإلى الكراهة ذهب الهادي - من أئمة الزيدية - ومالك ، ومنعت الإمامية صحة السجود على ما لم يكن أصله من الأرض (2) . وكره مالك أيضاً الصلاة على ما كان من نبات الأرض فدخلته صناعة أخرى كالكتان والقطن... واستدل الهادي على كراهة ما ليس من الأرض بحديث « جُعلت لي مسجداً وطهوراً» بناءاً على أن لفظ الأرض لا يشمل ذلك (3).

7 - وقالت الإسماعيلية - كما جاء في دعائم الإسلام: وعنه - جعفر بن محمد - أنه قال: لا بأس بالسجود على ما أنبتت الأرض غير الطعام كالحلافي وأشباهها. وأنه رخّص في الصلاة على ثياب الصوف، وكل ما يجوز لباسه والصلاة فيه يجوز السجود عليه، والكفان والقدمان والركبتان من المساجد، فإذا جاز لباس ثوب الصوف والصلاة فيه فذلك مما يسجد عليه، كذلك يجزي السجود بالوجه عليه (4) .

8 - وقالت الخوارج - كما في قاموس الشريعة : أجمع الناس على ما تناهى إلينا من أقاويلهم على جواز السجود على ما أنبتت الأرض، واختلفوا على ما لم تنبته الأرض نحو الصوف والجلد والقز والإبريسم وما جرى هذا المجرى. وأجمع علماؤنا على جواز السجود على ما أنبتت دون غيره، ويوافقه {كذا} على

ص: 162


1- السيل الجرار 217/1 .
2- لقد تقدم رأي الإمامية في ذلك، فراجع.
3- نيل الأوطار 126/2-127.
4- دعائم الإسلام 178/21 .

ذلك أهل المدينة من الشَيع، والحجة لهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « جُعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً». فلولا الإجماع لم يجز السجود إلا على أديم الأرض وحده، فلما اتفقوا على جواز ذلك على الأرض وما أنبتت وجب التسليم للإجماع، وبقى الباقي في جملة ما لم يؤمر بالسجود عليه، والمجوِّز للسجود على شيء طاهر غير ما أنبتت الأرض محتاج إلى دليل.

وكره أصحابنا السجود على الثياب والفضة والذهب، وإن كان مما أنبتت الأرض كراهية تأديب، لأن تركهم الأمر بإعادة الصلاة لمن سجد على ذلك يدل على ما قلنا، والله أعلم. ولا أظن كراهتهم للسجود على بعض ما دخل في جملة الإجماع إلا التواضع والتذلّل لله تعالى في حال السجود، ولأن في إجازة ما لم يؤمن معه من دعاوى الفخر والخيلاء (1) .

9 - وقالت الظاهرية - كما في المحلى لابن حزم : مسألة : والصلاة جائزة على الجلود وعلى الصوف (2) وعلى كل ما يجوز القعود عليه إذا كان طاهراً، وجائز للمرأة أن تصلّي على الحرير، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وسليمان وغيرهم.

وقال عطاء : لا تجوز الصلاة إلا على التراب والبطحاء. وقال مالك : تكره الصلاة على غير الأرض أو ما أنبتت الأرض.

قال علي - هو ابن حزم - : هذا قول لا دليل على صحته، والسجود واجب على سبعة أعضاء الرجلين والركبتين واليدين والجبهة والأنف، وهو يجيز وضع جميع هذه الأعضاء على كل ما ذكرنا حاشا الجبهة، فأي فرق بين أعضاء السجود؟ ولا سبيل إلى وجود فرق بينهما، لا من قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من إجماع

ص: 163


1- قاموس الشريعة 414/19.
2- سيأتي في أواخر المسألة الثانية (السجود على الحصير) عدم جواز السجود على الفروة المدبوغة، وهي جلد وصوف، فراجع.

ولا قياس، ولا من قول صاحب ولا من رأي له وجه، وبالله تعالى التوفيق.

وروينا عن ابن مسعود أنه صلى على مِسح شعر ، وعن عمر بن الخطاب أنه كان يسجد في صلاته على عبقري - وهو بساط صوف - وعن ابن عباس أنه سجد في صلاته على طنفسة - وهي بساط صوف، وعن أبي الدرداء مثل ذلك، وعن شريح والزهري مثل ذلك، وعن الحسن، ولا مخالف لمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، وبالله تعالى التوفيق (1) .

أقول : انتهى ما أردنا نقله عن رأي الظاهرية، وذلك كما ذكره ابن حزم وهو من أئمتهم المبرزَين.

ومن الغريب منه دعاواه التي مرّت من نفي وجود الفرق بين أعضاء السجود لا في الكتاب ولا في السنة الصحيحة بل وحتى السقيمة، ولا الإجماع ولا القياس ولا من قول صاحب ولا من رأي له وجه؟

فنقول له : أما وجود الفرق بين أعضاء السجود في الصلاة من الكتاب العزيز، فقد خصّ تعالى الوجه بالذكر دون بقية أعضاء المساجد كما ورد ذلك في قوله تعالى {سيماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (2)، وفي قوله تعالى {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} (3) ، وفي تخصيصه للوجه بالذكر دلالة إذن على وجود الفرق بينه وبين سائر أعضاء المساجد الأخرى.

وأما وجود الفرق بين الوجه وسائر أعضاء السجود من السنّة الصحيحة قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «سجد وجهي» ونحوه، وقد مرّت الأحاديث النبوية الصحيحة القولية والعملية، كقوله صلی الله علیه و آله وسلم في تعليم المسيء: «مكّن جبهتك من الأرض» ، « وكان إذا سجد أمكن في جبهته وأنفه من الأرض» ، ونحوها، فضلاً عما مرّ من الأحاديث الإمامية عن أئمة أهل

ص: 164


1- المحلی 83/4 .
2- سورة الفتح، الآية 29 .
3- سورة الإسراء، الآية 107 .

البيت علیهم السلام.

وأما الإجماع على وجود الفرق بين الوجه وبين سائر الأعضاء، فيجب وضع الجبهة على الأرض أو ما أنبتت دون وجوب ذلك في بقية الأعضاء، فقد مرّ ادعاء الإجماع، وقد حكاه الإمامية والشافعية والخوارج، وذهب إليه الجمهور من المالكية.

وأما القياس فمن الغريب مطالبته به وذكره له وهو الذي ألف كتاباً في إبطال القياس، فهو لا يقول بالقياس ، فليس له أن يطالب به، ونحن مثله فلا نطالب به، لأنا لا نقول به لنقايسه، ولكنا نشير إلى أن آية الوضوء وآية التيمم ورد فيهما حكم الطهارة المائية والترابية، فهل وجد التكليف على الأعضاء فيهما واحداً بالتساوي أليس في آية الوضوء قال تعالى {فَأَغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَمْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ بينما لم يرد لهما ذكر في آية التيمم، أوَليس القياس ينبغي لمن يقول به أن يمسح بالتراب أيضاً رأسه ورجله، لأنهما ممسوحان في الوضوء مثلاً؟ ولأن الطهارة الترابية بدل الطهارة المائية، ولا بدّ في البدل حكم المبدَل منه.

ثم هو نفسه ذهب إلى ذلك في كتابه مراتب الإجماع (1) ، فقال : واتّفقوا على أن من - فعل كذا وكذا وكذا.

وذكر عدة أحكام للمصلّي - إلى أن قال : ووضع جبهته وأنفه مكشفين ويديه ورجليه على ما هو عليه قائم مما يحل افتراشه في الصلاة، ونحو ذلك ما يحل لباسه...

ثم قال في آخر كلامه هذا : على أننا رُوينا عن عطاء كراهية السجود على غير التراب والبطحاء والحصى (2) .

وأما دعواه عدم ورود قول صاحب أو من له رأي في ذلك، فيكفي في ردِّها ما مرّ

ص: 165


1- مطبوع مع كتاب محاسن الإسلام لأبي عبد الله البخاري الملقب بالزاهد، نشر مكتبة القدسي 1357ه- .
2- مراتب الإجماع، ص 30-31 .

من آثار الصحابة والتابعين، وسيأتي قريباً ذكر مَن كان منهم يصلي على الخمرة والحصير - وهما مما أنبتت الأرض - كما سيأتي في المبحث الرابع ذكر الصحابة الذين كانوا لا يسجدون إلا على الأرض أو ما أنبتت، وفي المبحث الخامس ذكر التابعين كذلك.

والآن إلى المسائل التي تتضمن الرد أيضاً على مزاعم ابن حزم وأضرابه ممن يرى جواز السجود على البساط وإن كان من صوف، وعلى المسح وإن كان من شعر ، وعلى الطنفسة، وهي بساط له خمل، ونحو ذلك مما ليس أرضاً ولا مما أنبتته الأرض، فلا يجوز السجود على شيء منه.

المسألة الأولى : في السجود على الحمرة
اشارة

والكلام فيها يتم في جهتين :

الجهة الأولى : في تعريف الخمرة.

قال الهروي وغيره من اللغويين : هي بضم الخاء المعجمة وإسكان الميم، وهي السجادة، وهي ما يضع عليه الرجل حرّ وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة من خوص النخل.

وقال الجوهري : الخُمْرة - بالضم - سجادة تعمل من سعف النخيل وترمل

بالخيوط (1) .

وقال أبو عبيد : هي - بضم الخاء - سجادة من سعف النخل على قدر ما يسجد عليه المصلي، فإن عظم بحيث يكفي لجسده كله في صلاته أو اضطجاع فهو حصير وليس بخُمرة.

ص: 166


1- الصحاح 649/2 .

وقال الخطابي : هي السجادة يسجد عليها المصلي، وهي عند بعضهم قدر ما يضع عليه المصلي وجهه فقط، وقد تكون عند بعضهم أكبر من ذلك (1).

وجاء في تلخيص الصحاح : الخُمرة - بالضم - حصير صغير من ليف أو غيره بقدر الكف، وهو الذي تتخذه الآن الشيعة للسجود (2) .

وفسّرها محمد طاهر صاحب مجمع بحار الأنوار فيه، فقال : الخمرة وهي التي يسجد عليها الآن الشيعة (3).

أقول : وتسمى المِسجدة أيضاً كما في الإفصاح مختصر المخصص (4) ، وهذا يكفي في تعريفها.

الجهة الثانية : في الأدلة على جواز السجود عليها.

وهي ثلاثة :

أولاً : الأحاديث النبوية.

ثانياً : الأحاديث الإمامية.

ثالثاً : آثار الصحابة والتابعين.

وعلى ضوء هذه الأدلة جاءت فتاوى الفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية، وقد مرّ شيء منها قريباً.

والآن لنقرأ شيئاً من كل واحد من تلك الأدلة :

أولاً : الأحاديث النبوية :

منها : ما رواه ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخُمرة.

ص: 167


1- راجع هذه الأقوال في نيل الأوطار للشوكاني 1 / 227 .
2- تلخيص الصحاح، ص 81 .
3- مجمع بحار الأنوار، ص 377 .
4- الإفصاح، ص 695.

وهذا حديث حسن صحيح كما قاله الترمذي وقد أخرجه في سننه.

قال الشوكاني في نيل الأوطار : وفي الباب - باب السجود على الخُمرة - عن أم حبيبة عند الطبراني، وعن أم سلمة عند الطبراني أيضاً، وعن عائشة عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. (فهذه ثلاث من أمهات المؤمنين).

وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد والبزار.

وعن أم كلثوم بنت أبي سلمة بن عبد الأسد عند ابن أبي شيبة، وعن أنس عند الطبرانى فى الصغير والأوسط والبزار بإسناد رجاله ثقات.

وعن جابر عند البزار.

وعن أبي بكرة عند الطبراني بإسناد رجاله ثقات.

وعن أبي هريرة عند مسلم والنسائي.

وعن أم أيمن عند الطبراني بإسناد جيد.

وعن أم سليم عند أحمد والطبراني وإسناده جيد (1) انتهى ما ذكره الشوكاني .

وقد فاته ذكر الحديث : عن أبي سعيد الخدري، وقد ورد في مسند أبي حنيفة (2) ، كما أخرجه الخوارزمي في جامع مسانيد أب(3)ي حنيفة. إذن فالحديث عنه صلی الله علیه و آله وسلم في سجوده على الخُمرة ثابت لا شك فيه، رواه أكثر من عشرة من الصحابة.

بل يظهر من بعض أحاديث بعض أمهات المؤمنين أنه صلی الله علیه و آله وسلم كانت له خُمرة خاصة في مسجده يصلي عليها موضعها قرب بيته، فقد أمر بعض أزواجه أن تناوله الخُمرة من المسجد، فقالت : إني حائض - حيث ظنت أن ما بها من حيض يُحظِر

ص: 168


1- نيل الأوطار 128/2 .
2- مسند أبي حنيفة ، ص 54 بهامش الأدب المفرد للبخارى .
3- جامع مسانيد أبي حنيفة 403/1.

عليها تناول الخمرة من المسجد - فقال لها صلی الله علیه و آله وسلم: إن حيضتك ليست في يدك.

وهذا الحديث فيما رواه الستة إلا البخاري كان مع عائشة، وقد حسَّنه الترمذي، وهو صحيح بتصحيح مسلم له بإخراجه إياه في صحيحه، فصلاته على الخمرة ثابتة لا ريب في ثبوتها، وهذا يكفينا عن سرد باقي الأحاديث.

ثانياً : الأحاديث الإمامية :

ا - فمنها ما رواه الكليني في الكافي بإسناده إلى الإمام الصادق علیه السلام، قال : السجود على الأرض فريضة وعلى الخُمرة سُنّة.

2 - ومنها ما رواه الكليني في الكافى أيضاً والطوسي في التهذيب بإسنادهما إلى ما علي بن الريّان قال : كتب بعض أصحابنا إليه - يعنى أبا جعفر الباقر علیه السلام- بيد إبراهيم بن عقبة، يسأله عن الصلاة على الخمرة المدنيَّة، فكتب : صلِّ فيها ما كان معمولاً بخيوطه، ولا تصل على ما كان معمولاً بسيورة.

وزاد الطوسي في روايته : فتوقَّف أصحابنا، فأنشدتهم بيت شعر لتأبط شراً الفهمي : (كأنها خيوط ماري تغار وتفتلُ) وماري رجل حبَّال يقتل الخيوط.

3 - ومنها ما رواه الطوسي في التهذيب بإسناده إلى أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام، قال : لا يستغني شيعتنا عن أربعة : خُمرة يصلي عليها...

4 - ومنها ما رواه الكليني في الكافي والطوسي في كتابيه التهذيب والاستبصار بإسناديهما عن حمران، عن أحدهما علیها السلام، قال : كان أبي يصلي على الخُمرة، يجعلها على الطنفسة ويسجد عليها ، فإذا لم تكن خُمرة جعل حصىّ على الطنفسة حيث يسجد.

وحسبنا من أخبار الأمامية ما ذكرناه.

ثالثاً: آثار الصحابة والتابعين :

في مراجعة عجلى لكتب الحديث وقفت على ذكر اثنين من الصحابة وتابعي

ص: 169

واحد كانوا يرون جواز السجود على الخُمرة، وكان الصحابيان يسجدان عليها، وهما:

1 - أبو ذر الغفاري - الصحابي الجليل - كان يصلي على الخُمرة.

2 - عبد الله بن عمر كان أيضاً يصلي على الخُمرة، وقد أخرج ذلك عنهما ابن أبي شيبة في المصنف (1) .

أما التابعي فهو سعيد بن المسيب، وأخرج عنه ابن أبي شيبة أيضاً في المصنف أنه قال : الصلاة على الخُمرة سنة (2).

ومع مشروعية السجود على الخُمرة قولاً وعملاً، فقد روي عن تابعيَّين معدودين في فقهاء التابعين الأولين، وهما عطاء وعمر بن عبد العزيز، المنع وإلزام المصلي أن يسجد على حر وجهه على الأرض. فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج، قال : قلت لعطاء : أرأيت صلاة الإنسان على الخُمرة والوطاء؟ قال : لا بأس بذلك إذا لم يكن تحت وجهه ويديه وإن كانت تحت ركبتيه، من أجل أنه يسجد على حرّ وجهه (3) .

ولم أقف على غير هذا التابعي مخالفاً في جواز السجود على الخُمرة، وأوجب السجود على أديم الأرض فقط، ويؤكّد ذلك ما تقدم نقله عنه من قوله : لا تجوز الصلاة إلا على التراب والبطحاء (4) .

وأما عمر بن عبد العزيز فقد قال ابن بطال : لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة على الخُمرة، إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يؤتى بالتراب فيوضع على الخُمرة فيسجد عليه. ولعله كان يفعله على جهة المبالغة في التواضع

ص: 170


1- المصنف 399/1 .
2- المصدر السابق.
3- المصنف لعبد الرزاق 392/1 .
4- راجع ما قالته الظاهرية.

والخشوع، فلا يكون فيه مخالفاً للجماعة (1).

المسألة الثانية : في السجود على الحصير.

ما كنت أحسب أني بحاجة إلى البحث في هذه المسألة، لوضوح الجواز في السجود على الحصير بكلا معنييه المناسبين للمقام : إما وجه الأرض، أو النسيج من البردي ونحوه، فهما أرض أو ما أنبتت والسجود على كل منهما جائز.

لكن الذي دعاني إلى البحث هو الأثر المروي عن عائشة وقد سُئلت : أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحصير؟ قالت : لم يكن يصلي عليه.

وهذا أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده، وعنه نقله الآخرون، ومنهم الشوكاني في نيل الأوطار، وحكى عن العراقي أنه قال : رجاله ثقات (2).

فقال الشوكاني : ولكن صلاته صلی الله علیه و آله وسلم على الحصير ثابتة من حديث أنس عند الجماعة، ومن حديث أبي سعيد الخدري (3)، ومن حديث أم سلمة عند الطبراني الكبير، ومن حديث ابن عمر عند أبي حاتم في العلل.

ثم قال : وكيفية الجمع بين حديثها - هذا - وسائر الأحاديث أنها إنما نفت علمها، ومَن علم صلاته على الحصير مقدَّم على النافي. وأيضاً فإن حديثها وإن كان رجاله ثقات فإن فيه شذوذاً ونكارة كما قال العراقي.

أقول : لقد مرّ في المسألة الأولى جواز السجود على الخُمرة، ومرّ في تعريفها بأنها حصيرة صغيرة، ومرّ أيضاً أن عائشة إحدى الثلاث من أمهات المؤمنين اللاتي

ص: 171


1- المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود 46/5.
2- نيل الأوطار 128/2 .
3- جامع مسانيد أبي حنيفة 403/1.

روين حديث السجود على الخمرة عنه صلی الله علیه و آله وسلم. وحديثها أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي، فأي معنى لجوابها السائل : لم يكن يصلي عليه؟ أليس الخُمرة حصيراً؟ ثم ما هو الحصير الذي تخيّلته فأجابت بالنفي؟

وإلى القارئ إلمامة عابرة بمعاني اللفظ :

الحصير : الضيّق البخيل، والحصير المحبس، والحصير الجنب، والحصير الملك، والحصير البارية، والحصير هو وجه الأرض (1).

وجاء في المسلسل في غريب لغة العرب : الحصير وجه الأرض (2).

وجاء فيه أيضاً والرمل الحصير، والحصير وجه الأرض (3).

ولا شك أن الأربعة الأولى ليست مراد السائل ولا المجيب، بقي المعنى الخامس وهو الأظهر في السؤال ويحتمل هو السادس.

وإنما قلنا باحتماله لأن عائشة تقول : «كنت إذا حضت نزلت من المثال إلى الحصير» في حديث أخرجه أبو داود في سننه.

قال شارح السنن : المثال بكسر الميم الفراش، جمعه مُثُل وأمثلة، وكان فراشه صلى الله عليه وآله وسلم من أدم حشوه ليف كما روى الترمذي.

ثم قال : والحصير قيل : هو الأرض، وقيل : ما ينسج من النبات المعروف.

فإذن يحتمل أنها تنزل عن فراشه صلی الله علیه و آله وسلم، لأنها حائض، وتنام على الحصير يعني الأرض، وإن كان المعنى المعروف المألوف هو الأظهر. ومهما يكن مرادها إلا أن الغرابة في جوابها. كيف وقد ذهب إلى استحباب الصلاة على الحصير أكثر أهل العلم كما قال الترمذي.

ص: 172


1- راجع الصحاح والمصباح المنير، مادة حصر ، والمنهل العذب المورود بشرح سنن أبي داود 59/2 .
2- المسلسل فى غريب لغة العرب، ص 96 .
3- المصدر السابق، ص 111 .

ثم قال : إلا أن قوماً من أهل العلم اختاروا الصلاة على الأرض استحباباً(1) .

قال السرخسي الحنفي في المبسوط : وكذلك - يعني يجوز - الصلاة على الحصير، لأنه عمل الناس في مساجدهم، بخلاف ما يقوله بعض من لا يعتد بقوله : إنه لا يجوز الصلاة على الحصير ، لأن سائلاً سأل عائشة (رض) : هل صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحصير فإني سمعت قول الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} ؟ فقالت: لا. ولكن هذا الحديث شاذ، فقد اشتهر عن عائشة (رض) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي على الخُمرة، وهو اسم لقطعة حصير، ومعنى قول الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي محتبساً (2) .

أقول : أخرج البخاري وأبو داود وابن ماجة وابن أبي شيبة وابن حبان وغيرهم من حديث أنس وجاء فيه بلفظ أبي داود : فنضحوا له طرف حصير كان لهم قد اسودّ من طول ... الخ (3). وفي لفظ ابن أبي شيبة : وفي البيت فحل من تلك الفحول، فأمر بجانب منه فكنُس ورشَّ فصلى... الخ.

وقال في المنهل العذب المورود : والفَحْل - بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة - حصير يُتَّخذ من ذكر النخل (4) .

فظهر مما تقدم أن السجود على الحصير جائز ، بل ذهب إلى استحباب الصلاة عليه أكثر أهل العلم كما يقوله الترمذي، إلا أن قوماً من أهل العلم اختاروا الصلاة على الأرض استحباباً.

ص: 173


1- المنهل العذب المورود 59/3 .
2- المبسوط 206/1 .
3- سنن ابی داود کتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير.
4- المنهل العذب المورود 47/5 .

بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه، وذلك حديث المغيرة بن شعبة، ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحصير والفروة المدبوغة.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم والبيهقي، ورواه الشوكاني في نيل الأوطار والنبهاني في الفتح الكبير (1) نقلاً عمن ذكرناه أولاً .

وقد طعن شراح الحديث في إسناده خصوصاً في والد أبي عون الراوي عن المغيرة قوله، فقال فيه أبو حاتم : مجهول وقال ابن حجر في التقريب : مجهول من السادسة.

فهو من جهة الإسناد ضعيف لجهالة والد أبي عون.

وأما من جهة المتن فهو قد تضمن أمرين : السجود على الحصير، وهذا له شواهد كثيرة مرَّ بعضها، وهي من طرقنا كثيرة وصحيحة.

أما الأمر الآخر وهو السجود على الفروة المدبوغة فلم يأتِ له شاهد واحد، بل

جاءت الآثار بكراهة الصلاة على بسط الشعر والثياب والأدم.

وجاء في المنهل العذب المورود : قال في المدونة : وكان مالك يكره أن يسجد الرجل على الطنافس وبسط الشعر والثياب والأدم، وكان يقول : لا بأس أن يقوم عليها ويركع عليها ويقعد عليها، ولا يسجد عليها ولا يضع كفَّيه. وكان لا يرى بأساً بالحصير وما أشبهها مما تنبت الأرض أن يسجد عليها وأن يضع كفيه عليها (2).

ويبدو لي من رواية أبي داود وأحمد الحديث المغيرة المشار إليه أن المصلين في عهديهما ربما كانوا يستعملون بسط الشعر والأدم والثياب والطنافس، لذلك عنون لها الأول في سننه في كتاب الصلاة باب 91، والثاني في مسند المغيرة، وهما من رجال القرن الثالث الهجري، ولكن ليس ذلك تحديداً دقيقاً. وهذا - فيما أحسب - هو الذي دعا المستشرق فنسنك لأن يقول في مقالته عن السجادة في دائرة المعارف

ص: 174


1- الفتح الكبير 382/2 .
2- المنهل العذب المورود 49/5 .

الإسلامية : على أنه يتضح لنا من أبي داود (كتاب الصلاة باب 91) أن المصلّين كانوا يستعملون في نهاية القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي «الفروة المصبوغة»(1).

ويريد بها ما تقدم الفروة المدبوغة .

ومهما كان الداعي له في قوله ومراده فقد تقدم أنه لم يصح الحديث سنداً ولا دلالة، ولو صح ورود اللفظ في حديث المغيرة - إن صح سنداً - لم يصح دلالة، فيدل على أن استعمالها كان في زمانه، أو قل من مستحدثات زمانه كما في الصلاة على الطنافس كما سيأتي.

المسألة الثالثة : في السجود على البساط

وقبل البحث في هذه المسألة لا بدّ لنا من تنبيه القارئ إلى وجود الفَرق بين معنيين للبساط بالفتح وبالكسر. فعلى الفتح يكون البَساط هو الأرض الواسعة، ومنه قولهم للأرض : البسيطة قال عديل بن الفرج العجلي :

ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بَساط لأيدي الناعجات عريض

وأما على الكسر يكون البِساط هو ما يفرش ويبسط على الأرض، وليس يعني ذلك بالضرورة أن يكون مخصوصاً بجنس خاص، فربما كان المراد به الفراش مما أنبتته الأرض فيصح السجود عليه، وذلك كالحصير مثلاً، وبه وردت أحاديث الجواز في مسألة السجود على البِساط كما ستأتي إن شاء الله تعالى، وربّما كان البِساط من شعر أو صوف أو غير ذلك مما لا يصح السجود عليه، لأنه من غير ما أنبتته الأرض. وبحثنا إنما هو عن البِساط - بالكسر - فلننظر إلى الأحاديث التي وردت في جواز

ص: 175


1- دائرة المعارف الإسلامية 76/11 .

الصلاة على البِساط ما المراد به فيها؟ وهل تشمل كل ما بسط على الأرض؟ أم أنها

خاصة بما أنبتته الأرض كالحصير مثلاً؟ فنقول :

أما ما ورد في ذلك من الأحاديث فهي عدة :

منها : ما رواه ابن عباس، وحديثه أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي في السنن الكبرى (1) والشوكاني في نيل الأوطار (2) بأسانيدهم عن ابن عباس أنه صلى على بساط ، ثم قال : إن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم صلى على بساط... الخ.

وهذا الحديث لم تسلم أسانيده جميعاً من مناقشة، لأنها تنتهي إلى زمعة بن صالح الحيدي، الذي ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي وإن أخرج له مسلم فرد حدیث مقروناً بآخر، فالحديث من ناحية السند غير نقي، أما الدلالة فسيأتي ما فيها.

ومن الأحاديث الدالة على جواز الصلاة على البساط حديث أنس، وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وصحَّحه، والنسائي وابن ماجة وابن أبي شيبة، وإليك الحديث بلفظه :

عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالطنا فيقول لأخ لي:

يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ (3) قال : ونضح بساطاً لنا فصلى عليه.

وهذا الحديث إن سلم سنداً لم يسلم دلالة. قال الشوكاني في نيل الأوطار: (فائدة) : حديث أنس الذي ذكر بلفظ البَسط أخرجه الأئمة الستة بلفظ الحصير، قال العراقي في شرح الترمذي : فرّق المصنف . يعني الترمذي - بين حديث أنس في الصلاة على البسط، وبين حديث أنس في

ص: 176


1- السنن الكبرى 437/2 .
2- نيل الأوطار 126/1 .
3- جاء في المصباح المنير ( مادة : نغر ) : ويقال : إن أهل المدينة يسمون البلبل النفرة والحمرة ،وقيل يشبه العصفور، ويصغر على نغيّر .

الصلاة على الحصير، وعقد لكل منهما باباً، وقد روى ابن أبي شيبة في سننه ما يدل على أن المراد بالبساط الحصير بلفظ : فيصلي أحياناً على بساط لنا، وهو حصير ننضحه بالماء.

قال العراقي : فتبين أن مراد أنس بالبساط الحصير، ولا شك أنه صادق على الحصير، لكونه يبسط على الأرض أي يفرش.

ثم عقب الشوكاني على ذلك بقوله : وهذه الرواية إن صلحت لتقييد حديث أنس

لم تصلح لتقييد حديث ابن عباس (1) .

أقول : ومن الغريب من الشوكاني قوله هذا، فهل من قرينة صارفة معينة في حديث ابن عباس تمنع من حمل حديثه على الحصير، ولا أقل من بقاء احتماله قوياً، خصوصاً إذا قرأنا بقية أحاديث أنس المروية في هذا، نحو حديثه الذي رواه البيهقي في السنن الكبرى :

قال : كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من أحسن الناس خلقاً، فربما يحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يقوم فنقوم خلفه فيصلي بنا. قال أنس : وكان بساطهم من جريد النخل.

قال البيهقي : رواه مسلم في الصحيح... (2)

أقول : في الحديث تصريح بأن بساطهم كان جريد النخل، والمراد سعفه.

وأيضاً لأنس حديث بلفظ آخر ، وهو : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيتاً فيه فحل، فكسح ناحية منه ورشه وصلى عليه.

أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، وفسّر في الهامش الفحل : بأنه حصير معمول

ص: 177


1- نيل الأوطار 127/1 .
2- السنن الكبرى 436/2 في أول باب من بسط شيئاً فصلى عليه.

من سعف فحال النخل (1).

أقول : من المتيقّن أن بساط بيت أنس لم يكن هو الوحيد المخصوص بالحصير، بل كل البُسط التي في بيوت غيره من الناس كذلك، فكلهم في بلد واحد وعصر واحد، وعُرفهم في الاستعمال اللغوي واحد. وما دام الإطلاق في معنى البساط لما يُفرش على الأرض، وكانت أحاديث أنس فيها قرينة على استعمال أهل المدينة في ذلك العصر لفظ البِساط بمعنى الحصير، فيقيد ذلك الإطلاق، ويكون الاستعمال قرينة معيِّنة على أن المراد بالبساط في حديث ابن عباس - إن صح سنداً وهو لم يصح كما بيّنا - أيضاً هو نفس المراد بالبساط في حديث أنس وهو الحصير، فلا يمكن الاستدلال بحديث ابن عباس على جواز الصلاة على مطلق البساط حتى لو كان من غير ما أنبتت الأرض.

وللشوكاني في المقام كلام استدل به على جواز الصلاة على مطلق البُسُط في نيل الأوطار، فقال : والحديث - يعني حديث أنس - يدل على جواز الصلاة على البُسط، وقد حكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومَن بعدهم، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء.

وقد كره ذلك جماعة من التابعين ممن بعدهم، فروى ابن أبي شيبة في المصنف(2) عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهما قالا : الصلاة على الطنفسة - وهي البساط الذي تحته خمل - محدثة.

وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان، ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض. وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد

ص: 178


1- المصدر السابق.
2- المصنف 401/1، وسيأتي الكلام حول إحداث الصلاة على الطنافس في لمحة تاريخية عن المساجد والسجادة.

عليه على شيء دون الأرض.

وإلى الكراهة ذهب الهادي (1) ومالك (2) . ومنعت الإمامية صحة السجود على ما لم يكن أصله من الأرض، وكره مالك أيضاً الصلاة على ما كان من نبات الأرض و دخلته صناعة أخرى كالقطن والكتان. قال ابن العربي : وإنما كرهه من جهة الزخرفة. واستدل الهادي على كراهة ما ليس من الأرض بحديث «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» بناءاً على أن لفظ الأرض لا يشمل ذلك.

قال في ضوء النهار : وهو وهم، لأن المراد بالأرض في الحديث : التراب، بدليل (وطهوراً)، وإلا لزم مذهب أبي حنيفة في جواز التيمم بما أنبتت الأرض. انتهى.

أقول - والقائل هو الشوكاني - : بل المراد بالأرض في الحديث ما هو أعم من التراب، بدليل ما ثبت في الصحيح بلفظ (وتريتها طهورا)، وإلا لزم صحة إضافة الشي إلى نفسه، وهي باطلة باتفاق.

ولكن الأولى أن يقال فى الجواب عن الاستدلال بالحديث : إن التنصيص على كون الأرض مسجداً لا ينفي كون غيرها مسجداً بعد تسليم عدم صدق مسمّى الأرض على البُسُط، على أن السجود على البسُط ونحوها سجود على الأرض، كما يقال للراكب على السرج الموضوع على ظهر الفرس : راكب على الفرس. وقد صح أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صلى على البُسُط، وهو لا يفعل المكروه. انتهى كلام الشوكاني (3) .

أقول : وفي كلامه مواقع للنظر :

أولاً : بعد تسليمه عدم صدق مسمَّى الأرض على البُسُط، إذ أن لكل منهما حقيقة تغاير حقيقة الآخر، فلا معنى لاستدلاله بالاستعمال في قياس السجود على البُسُط

ص: 179


1- أحد أئمة الزيدية وإليه ينسب الفقه الهادوي.
2- أحد أئمة المذاهب الأربعة وهو أمام المالكية.
3- نيل الأوطار 126/2-127.

وأنه سجود على الأرض على قياس الركوب على السرج على ظهر الفرس، إذ هو قياس مع الفارق، فإن إطلاق الركوب على السرج هو ركوب على الفرس إنما هو استعمال عرفي، وليس لمثل ذلك الاستعمال حجة على من يقول بأن السجود على الأرض أو ما أنبتت إنما هو حكم شرعي تعبدي لا مدخلية للعرف في تشريعه. نعم إنما لأهل العرف على الشارع - وهو سيد أهل العرف - أن يخاطبهم بتكاليفه حسب أفهامهم، وإذا كان لديه حقيقة شرعية بيَّنها لهم بالبيان الذي يختاره قولاً أو عملاً أو تقريراً ، وعليهم أن يلتزموا بذلك في حدود بياناته.

وحيث قد بيَّن في المقام ذلك في قوله صلی الله علیه و آله وسلم : « جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ، وبيّن ذلك في فعله صلی الله علیه و آله وسلم حيث صلى على الخُمرة والحصير وهما مما أنبتت الأرض، فما ورد من أحاديث صلاته على البساط كما عن ابن عباس وأنس إنما المراد بالبساط فيها هو الحصير كما هو صريح بعض أحاديث أنس، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن ابن عباس (1) ، وكذلك ما حكاه عن المجوّزين للصلاة على البساط، فإن المراد به هو الحصير.

كما يمكن أن يحمل قولهم في ذلك على القيام على البساط بمعناه العام والقعود عليه دون السجود كما مرّ في بعض أحاديث أهل البيت علیهم السلام، وحكي عن مالك أيضاً، وقد مرّت حكاية قوله عن المنهل العذب المورود في أواخر المسألة الثانية، فراجع .

ص: 180


1- روى أسلم بن سهل الرزاز الواسطي بحشل في تاريخ واسط ، ص 92 ، قال : ثنا محمد بن أبان، قال : ثنا الحكم بن فضيل، عن مغيرة بن الأزرق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي عنه أنه أتي بلحم فأكل منه، ثم صلى بغير وضوء، ولم يثن من الساط شيئا . والحديث مخدوش سنداً، ففيه محمد بن أبان ضعَّفه أبو داود وابن معين. وقال البخاري: ليس بالقوي ، وقيل : كان مرجئا، وقال الساجي : كان من دعاة المرجئة ... إلى غير ذلك مما قيل فيه كما في لسان الميزان 31/5 . وفيه أيضاً الحكم بن فضيل قال أبو عوانة : ليس بذاك. وقال الأزدي : منكر الحديث (راجع لسان الميزان في ترجمته).

ولا يحتمل أنهم أجازوا الصلاة على البساط الذي هو من غير ما أنبتت الأرض كالطنفسة مثلاً، فإنها محدثة لم تكن في صدر الإسلام كما مرَّ عن ابن سيرين وسعيد بن المسيب، وسيأتي الكلام في الصلاة على الطنفسة في المسألة الرابعة.

ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أن المنع من السجود على غير الأرض وما أنبتت إنما هو لوجود الحائل بين الساجد وبين الأرض. ولابن حزم في كتابه المحلّى كلام قايس فيه المجوِّزين للسجود على غير الأرض وما أنبتت من أنواع الفراش بقوله :

وقولهم : إن ما حال بينك وبين الأرض فهو أرض أو من الأرض فقول فاسد ، لم يوجبه قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس .

فإن قيل : ما حال بينك وبين الأرض فهو أرض. قيل لهم : فإن حال بينه وبين الأرض قتلى أو غنم أو ثياب أو خشب، أيكون ذلك من الأرض فيتيمم عليه ؟! وهم لا يقولون بذلك (1).

المسألة الرابعة : في السجود على الطنفسة.

والكلام فيها يقع في ثلاث جهات :

الأولى : ما هي الطُنفسة ؟

الثانية : هل كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يسجد على الطنفسة؟

الثالثة : متى حدث السجود على الطنافس؟

الجهة الأولى : تعريف الطنفسة.

لا بدّ لنا قبل الحديث عن جواز السجود على الطنفسة وعدمه، من بيان معناها ليعرف القارئ ما يأتي في الحديث بعد ذلك عنها، وحكم الصلاة والسجود عليها،

ص: 181


1- المحلى 160/2.

وحكم الصلاة عليها ثم السجود على ما يصح السجود عليه من أرض وما أنبتت الأرض.

قال المجد الفيروزآبادي في القاموس (1) والزبيدي في شرحه تاج العروس (2) وغيرهما : الطنفسة : مثلثة الطاء والفاء، وبكسر الطاء وفتح الفاء، وبالعكس، واحدة الطنافس : البُسُط والثياب والحصير من سعف عرضه ذراع.

وجاء في المصباح المنير للفيومي : وقيل : هي ما يجعل تحت الرحل على كتفي البعير والجمع طنافس .

وفسّرها ابن حزم في المحلّى بأنها بساط صوف، وقال غيره : بساط له خمل دقيق.

فتبين أن لها معاني استعملت فيها :

أ - البساط، إما مطلقاً، أو هو بساط الصوف، أو الذي له خمل دقيق.

ب - الثياب.

ج - الحصير من سعف عرضه ذراع.

د - ما يجعل تحت الرحل على كتفي البعير. وحيث لم يعيَّن لنا جنسه، فإن المتيقن هو الأول أو الثاني، أما الثالث فلم يحتمل، لأنه لم يعهد وضع الحصير من سعفٍ على كتفي البعير وقاية له من أذى الرحل.

ولما كان قد مرّ بنا في المبحث الثالث في المسائل الثلاث ما دل على عدم جواز السجود على الثياب، وجوازه على الحصير، فلا حاجة بنا إلى إعادته في المقام وكذلك مرّ بنا البحث في السجود على البساط، وبيّنا هناك أيضاً أن المراد به في الأحاديث المجوَّزة للسجود عليه هو الحصير.

إذن الآن علينا البحث عن جواز السجود على الطنفسة بعنوانها الخاص من البُسُط، إما بساط صوف كما عن ابن حزم، أو الذي له خمل كما عن غيره.

ص: 182


1- القاموس المحيط 227/1 .
2- تاج العروس 181/4 .

الجهة الثانية : هل كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يسجد على الطنفسة؟

سؤال نجيب عليه بكل بساطة ب- : لا .

ولا يتخيل القارئ أنا استعجلنا الجواب قبل الخوض في المسألة، كما أنه لا يعجب إذا أخبرته أنه لم يرد في شيء من الأحاديث النبوية الشريفة ذكر الصلاة على الطنفسة، بمعنى القيام والقعود عليها، فضلاً عن السجود عليها، وإنما ورد ذلك في لسان بعض الصحابة وبعض التابعين.

وكيف نتوقع أن نجد لها ذكراً في الأحاديث النبوية الشريفة، وهي لم تكن مستعملة في العهد النبوي الشريف لدى المسلمين عامة، وإذا وجدت فربما عند أفراد ممن يملكون بلغة العيش لا رفاهيته (1) .

فأين منهم الرفاهية؟ ومن أين يملكون الطنافس؟ التي هي نسيجة ذات خمل دقيق لم يعرفها المجتمع الإسلامي في عصر النبوة الذي كابد الفقر والحرمان، حتى كان نبيُّ المسلمين يطوي اليوم واليومين وربما الثلاثة من دون طعام. وكان الله يقول : مَن صبر على لأواها وشدّتها - يعنى المدينة المنورة - كنت له

شفيعاً أو شهيداً (2) .

ص: 183


1- نعم ورد في حديث كذّاب أشر رواه الخطيب في تاريخه 442/5 في ترجمة محمد بن عبد الله ، أبو بكر الأشنانى عن ابن عباس مرفوعاً : هبط علىّ جبرائيل وعليه طنفسة وهو متخلل بها، فقلت: يا جبرائيل ما نزلت عليّ بمثل هذا الذي نزلت ؟ فقال : إن الله أمر الملائكة أن تخلّل في السماء بتخلل أبي بكر في الأرض. وهذا الحديث رواه الديلمي في الفردوس 75/5 وقال المحقق بعد ذكره رواية الخطيب له : وقد علمت من ترجمة الحديث السابق أنه كذاب يضع الحديث والله أعلم. ثم قال : وقال في الفوائد ، ص 332 - يعني الفوائد المجموعة للشوكاني - : رواه الخطيب عن ابن عباس وهو .موضوع. اه- أقول : وقد ذكر الخطيب في ترجمته من تاريخه 439/5 : روى أحاديث باطلة وكان كذاباً يضع الحديث. وقال في 442/5 : وقد سمعت بعض شيوخنا ذكره فقال : كان يضع الحديث، وأنا أقول : إنه كان يضع ما لا يحسنه غير أنه - والله أعلم - أخذ أسانيد صحيحة من بعض الصحف فركب عليها هذه البلايا. انتهى.
2- التحفة اللطيفة 29/1 .

وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف والسيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قالا : لما نزلت هذه السورة وقرأها النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم على الصحابة حتى بلغ {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم} قالوا : أي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن أي نعيم نُسأل؟! إنما هما الأسودان : الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر، فعن أي نعيم نُسأل؟ قال : إن ذلك سيكون (1).

ولست بصدد بيان سوء الحالة المادية للمجتمع يعيش بين ظهراني أهله جماعة أهل الصُّفّة، وهم سبعون إنساناً، ولا يسعهم سد حاجاتهم غذاءاً وكساءاً، ويكفينا حديث أبي هريرة - وهو منهم - فأقرأ كيف يصف حالهم. فقد أخرج البخاري في صحيحه وغيره أيضاً من حديث أبي هريرة، قال : لقد رأيت سبعين من أهل الصفّة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار أو كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته (2) .

ولنترك حديث أهل الصفة فإنهم أناس لا مأوى لهم غيرها، وتعال فاقرأ أحاديث الحياة العامة في العصر النبوي بدءاً من بيت صاحب الرسالة، ومروراً ببيوت المهاجرين الأولين، وانتهاءاً بسائر المسلمين، فكلهم أو جلهم على نمط واحد من

جشوبة العيش، فقد يمر على الرجل منهم اليوم واليومان فلا يطعم شيئاً.

مجتمع يعيش فيه نبيه صلی الله علیه و آله وسلم فيأتيه الضيف، فلا يجد في بيوت نسائه إلا الماء، فيقول للمسلمين : من يضيف هذا الليلةَ رحمه الله ؟ (3)

مجتمع يعيش فيه نبيه صلی الله علیه و آله وسلم فيضرّ به الجوع، فيخرج وقت الهاجرة فيلقاه الإمام أمير المؤمنين، فيسأله عن السبب الذي أخرجه وقت الظهيرة، فيخبره بحاله، فيذهب

ص: 184


1- المصنف 231/13 .
2- ذكر ذلك ابن النجار في الدرة المنيفة المطبوعة ملحقاً بشفاء الغرام للفاسى 366/2 .
3- راجع القرطبي 34/18 في تفسير قوله تعالى {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} نقلا عن الترمذي من حديث أبي هريرة.

إلى رجل له ودي - صغار فسيل النخل - ويساومه على سقيه كل جرّة بتمرة، فاستسقى حتى اجتمع قبضة من التمر، ثم استوهبه قبضة كراث فأعطاه، فأتى بذلك إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم فأكل ودعا له (1) .

ومرة أخرى كذلك بلغ علياً علیه السلام أن نبي الله صلی الله علیه و آله وسلم أصابته خصاصة، فالتمس عملاً لیقیت به رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فأتى بستاناً لرجل يهودي، فاستسقى له سبعة عشر دلواكل دلو بتمرة، فخيره اليهودي من تمره سبع عشرة عجوة، فجاء بها إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

(2)

مجتمع كان فراش نبيّه من أدم وحشوه ليف كما في حديث عائشة (3).

مجتمع كان جهاز سيدة النساء وابنة سيد الأنبياء كما في حديث عائشة وأم سلمة ، قالتا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجهز فاطمة علیها السلام حتى ندخلها على علي علیه السلام ، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفقتين ليفاً فنفشناه بأيدينا، ثم أطعمنا تمراً وزبيباً وسقينا ماءاً عذباً، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ويعلّق عليه السقاء، فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة (4) .

مجتمع يموت نبيّه صلی الله علیه و آله وسلم و درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ، أخذها طعاماً لأهله كما أخرجه البخاري وغيره (5).

مجتمع يخرج فيه أبو بكر وقت الهاجرة إلى المسجد فسمع بذلك عمر، فقال : يا أبا بكر ما أخرجك هذه الساعة؟ قال : ما أخرجني إلا ما أجد من حاق الجوع. قال :

ص: 185


1- كنز العمال 42/4.
2- سنن ابن ماجة باب الرهون السنن الكبرى للبيهقى 199/6 كنز العمال 321/3 .
3- صحيح البخاري 97/8، كتاب الاستئذان، باب كيف كان يعيش النبي صلی الله علیه و آله وسلم ... الخ .
4- سنن ابن ماجة : 139 في أبواب النكاح.
5- أخرجه البخاري عن عائشة في الجهاد والسير في باب ما قيل في درع النبي صلی الله علیه و آله وسلم. وأخرجه عن أنس في كتاب البيوع، في باب شراء النبي بالنسيئة، وأخرجه أحمد عن ابن عباس في المسند 300/1.

وأنا والله ما أخرجني غيره... في حديث طويل (1).

وما أكثر الشواهد على سوء الحالة المعيشية يومئذٍ، فمن أين لذلك المجتمع الطنافس ليفترشوها ويصلوا عليها ؟!

نعم جاءهم اليسر بعد العسر ، وألقت إليهم الأرض بأفلاذ أكبادها من الذهب والفضة بعد الفتوحات الإسلامية التي كان صلی الله علیه و آله وسلم قد وعدهم بها، وحذّرهم من فتنة إقبال الدنيا عليهم.

ونحن إذا استقرأنا أحاديث المجتمع ذلك اليوم وحتى بعد إقبال الدنيا وفتح کنوز کسرى وقيصر نجد أن من كانت عنده طنفسة يجلس عليها يشار إليه وإليها. وما الحديث الذي أخرجه مالك بن أنس في الموطأ إلا شاهد على ذلك، وإليك ما ذكره:

قال : حدثني يحيى عن مالك، عن عمَّه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، أنه قال : كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تُطرح إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة.. (2)

ويؤكد تلك الحقيقة قول ابن المسيب وقول ابن سيرين : « الصلاة على الطنفسة محدثة» كما مرّ ذلك في المسألة الثالثة، ولذلك كان فقهاء الكوفة يكرهون الصلاة على الطنافس والفراء والمسوح، كما نقل ذلك عن إبراهيم بن الأسود النخعي وأصحابه كما في المصنف لابن أبي شيبة.

فتبين من جميع ما تقدم أن الحديث عن الصلاة على الطنافس لم يرد في شيء

من الحديث النبوي، بل حتى عن الصحابة الأولين السابقين في الإسلام.

ص: 186


1- أخرجه الهيثمي فى موارد الظمآن بزوائد ابن حبان 627/1 .
2- الموطأ بشرح تنوير الحوالك ،22/1 في كتاب الصلاة، باب وقت الجمعة.

الجهة الثالثة : متى حدث السجود على الطنفسة؟

إذا رجعنا إلى أقوال الذين ورد عنهم ذكر الطنافس نجد أنهم صحابي واحد وهو أنس بن مالك، ونفر من التابعين الذين أدركوا الصحابة الأولين ثم عايشوا الحكّام الأمويين، فرأوا الفرق بين السنة التي كان عليها أولئك السلف، وبين السيرة التي سار عليها هؤلاء الخلف فرقاً كبيراً ، ولذلك كرهوها عملاً، واستنكروها قولاً، فقالوا : إنها محدثة، وهذه لغة استنكار بمعنى أنها بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار كما في الحديث الشريف.

ولاشك أن أقوالهم وأفعالهم التي تنبئ عن كراهتهم الصلاة على الطنافس لم تصدر عفواً، بل لا بدّ أن يكون هناك على الجانب الآخر من لا يرى بها بأساً فيصلى عليها. وفعلاً وجدنا من يرى ذلك قولاً وعملاً، ولكنا لا نضمن صحة ما نسب إليهم، فإن لوعاظ السلاطين - وهم من وضَّاع الحديث - دوراً في ذلك حسب أهواء أمرائهم، وما أكثر الشواهد المدوَّنة في ذلك، فلعل من سنقرأ عنهم إجازة الصلاة على الطنافس حُشرت أسماؤهم تمريراً لتلك البدعة التي تنافي الخضوع والتذلل المطلوب لفظاً ومعنى في السجود، بل تدل على التكبّر والجبروت، وهو من أخلاق الحاكمين يومئذ.

وسواء قلنا بصحة النسبة أم لم نقل، فإن الآثار المنقولة عنهم لم تسلم من المناقشة، وإليك عرضاً لما وقفت عليه من الآثار المنسوبة إلى بعض الصحابة.

1 - ما ورد عن أبي الدرداء : فقد أخرج البخاري في تاريخه عن خليد عن أبي الدرداء، قال : ما أبالي لو صليت على خمس طنافس (1) .

(2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف بلفظ ست طنافس (2)، وقد ارتفع العدد عند السرخسي في المبسوط إلى عشر طنافس وأكثر ، وكأنه استعظم ذلك فلم يسمِّ

ص: 187


1- التاريخ الكبير 197/3.
2- المصنف 400/1 .

الصحابي صاحب القول بل اكتفى بقوله : وقد رُوي عن بعض الصحابة قال : ما : ما أبالي صليتُ على عشر طنافس أو أكثر (1).

ومهما يكن الأمر في العدد فليس بشي مهم، ولكن هل يصح هذا الأثر عن أبي الدرداء ؟ ثم إذا صح هل يُحتج به؟ ذلك ما ينبغي معرفته.

ونحن إذا رجعنا إلى سنده نجد أن راويه خليد، وهو مولى أم الدرداء.

قال الدارقطني عنه : مجهول يترك كما في ميزان الاعتدال للذهبي في ترجمته، ولذلك ذكره الذهبي في كتابه المغني في الضعفاء (2) .

ونحن إذا راجعنا متنه نجده منسوباً إلى أبي الدرداء الصحابي الشهير الذي سكن الشام، وتولى القضاء فيها لمعاوية من زمان عمر، وقد ذكر ابن عبد البر في استيعابه أن عمر هو الذي أمَّره على القضاء بدمشق، قال : وكان القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب .

فهو في كنف معاوية وتحت سلطانه، وقد كان معه في صفَّين، وأرسله معاوية ومعه أبو أمامة الباهلي إلى الإمام أمير المؤمنين يطلبان منه تسليم قتلة عثمان (3).

فأبو الدرداء في سيرته القضائية العملية مثل سائر القضاة الذين يخضعون غالباً لتأثيرات أمرائهم، وإن وجدنا لبعضهم موقفاً فيه نحو مخالفة لأمرائهم لا يعني بالطبع أنهم رُفَع عنهم إصر القضاء لأولئك الظلمة من الأمراء كما روي نحو من ذلك عن

ص: 188


1- المبسوط 205/1 .
2- المغني في الضعفاء 213/1 .
3- كتاب صفين لنصر بن مزاحم، ص 213 ، ولكن ورد في الاستيعاب في ترجمة عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أنه هو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصر فا رسولين لمعاوية، وقال فيما قال : عجباً منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان عليا إلى أن يجعلها شورى وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وأن من رضيه خير ممن كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه وأي مدخل لمعاوية في الشورى، وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ؟! وهو وأبوه من رؤوس الأحزاب فندما على مسيرهما، وتابا منه بين يديه.

أبي الدرداء نفسه فيما أخرجه مالك والشافعي والنسائي والبيهقي وغيرهم (1).

قال عبد الحليم الجندي في كتابه (أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام): كان بنو أمية ملوكاً دنيويين لا خلفاء دينيين، اعترض أبو الدرداء على رأس البيت الأموي معاوية لبيعه سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ذهباً، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن مثل ذلك، قال معاوية : ما أرى بهذا بأساً. قال أبو الدرداء : مَن يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك أرضاً (2).

ولم يكن أبو الدرداء يكتم حزنه من تردِّي الحالة الدينية في المجتمع الإسلامي نتيجة أعمال الحاكمين، فقد أخرج الشاطبي في كتابه الاعتصام عن أبي الدرداء أنه قال : لو خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة ؟!

قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم؟!

قال عيسى بن يونس : فكيف لو أدرك الأوزاعى هذا الزمان؟ (3)

ومن حقنا أن نقول : فكيف لو أدرك أولئك هذا الزمان؟!

وعن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدرداء وهو غضبان فقلت : ما أغضبك ؟ فقال :

والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد إلا أنهم يصلّون جميعاً.

فإنسان يغضب لتبدّل السنّة وينفث بما ينفث به من نقدٍ مرير للأمة، كيف يصح أن يقول : ما أبالي لو صليت على خمس طنافس ؟! وهو يعلم أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأصحابه السابقين لم يصلّوا على الطنافس.

ص: 189


1- الموطأ 59/2، الأم 23/7 ، سنن النسائي 279/7 ، السنن الكبرى 280/5 .
2- أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام، ص 124.
3- الاعتصام 15/1.

إذن فالقول كما لم تصح نسبته إليه سنداً، لم تخل دلالته من مناقشة أيضاً، ولو سلّمنا بصحة سنده ومتنه فهو لا يخرج عن حدود اجتهاد لأبي الدرداء، وليس اجتهاده بأولى من اجتهاد غيره من المانعين من الصلاة على الطنافس .

2 - ما ورد عن ابن عباس : أخرجه البيهقي في السنن الكبرى(1) بأسانيده إلى ثلاثة من تلاميذ ابن عباس، وهم مختلفون في روايتهم لفعل ابن عباس المجوز فيه الصلاة على الطنفسة، أو البساط، أو الدرنوك، ولا بد لنا من استعراض مرويات تلامذته عنه في ذلك.

أ - ما رواه سعید بن جبير: قال صلَّى بنا ابن عباس على طنفسة قد طبقت البيت .

وهذا الأثر إن صح عن حبر الأمة فلابد من أن يكون المراد بالطنفسة الحصير من سعف - كما مرّ في معانيها - أو أنها البساط من صوف، أو ذات خمل دقيق . ويضع لسجوده ما يصح عليه السجود : إما حجر أو حصباء أو خمرة.

ولما كان ابن عباس - كما سيأتي - هو الذي يسجد فلا يرفع شعره من التراب، فلا يعقل أن يصلي على طنفسة طبقت البيت و يسجد عليها، بل المراد كان وقوفه وقعوده عليها، وكان سجوده على ما يصح السجود عليه من حجر أو مدر، كما يحكى فعل ذلك عن جماعة من التابعين وتابعي التابعين.

فقد حكي فعل ذلك عن الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، وروي ذلك من طريق أئمة أهل البيت علیهم السلام، فقد مرّ في المسألة الأولى في السجود على الخمرة عن حمران عن أحدهما علیهم السلام، قال : كان أبي يصلي على الخمرة، يجعلها على الطنفسة ويسجد عليها ، فإذا لم تكن جعل حصى على الطنفسة حيث يسجد.

ب - ما رواه عكرمة : قال : صلى بنا ابن عباس علی در نوك قد طبّق البيت، يركع ويسجد عليه. فقلت : أتصلي على هذا؟ قال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه

ص: 190


1- السنن الكبرى 436/2-437 .

وآله وسلم يصلي عليه ويسجد.

أقول : الدُرنوك فى اللغة : هو بالضم ضرب من الثياب أو البُسُط والطنفسة.

ومهما شككنا في تعيين المراد بالدُرنوك في قول عكرمة، فإنه في رواية له ثانية عيّن المراد، فلنقرأ ذلك....

ج - عن عكرمة ، قال : صلّى بنا ابن عباس على بساط...

وبهذا عرفنا مراده في روايته السابقة، وأنه يعني بالدرنوك البساط. وحيث سبق لنا في المسألة الثالثة بحث السجود على البساط وبيان معانيه، وأنه يطلق على الحصير أيضاً، فلا حاجة إلى التطويل في مناقشة روايتي عكرمة.

فمن حيث السند فيه زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام.

قال الذهبي في المغني في ترجمة سلمة : روى عنه زمعة مناكير. وقال في الميزان في ترجمة زمعة : ضعفه أحمد وابن معين، وقال البخاري : يخالف في حديثه. وقال النسائي : ليس بالقوي كثير الغلط. وقال أبو داود : ضعيف.

وأما سلمة بن وهرام فقد ضعفه أبو داود، وقال أحمد : روى مناكير...

إلى غير ذلك من ألفاظ التجريح مما تسقط الحديث عن الاعتبار، ويكفي أن الراوي له عكرمة، فإنه وإن كان خارجياً من الأباضية إلا أنه كان يكذب على ابن عباس، حتى أوثقه علي بن عبد الله بن عباس كتافاً على باب الحش - الكنيف - فقيل له في ذلك، قال : إن هذا الخبيث يكذب على أبي.

وصار اشتهاره بالكذب مضرب المثل، حتى إن ابن عمر قال لمولاه نافع: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس وقال ابن المسيب لمولاه بُرد: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس (1) .

ص: 191


1- راجع شأن هذه الأقوال في ميزان الاعتدال للذهبي في ترجمة عكرمة.

ولما مات عكرمة لم يحمله أحد، فأكرواله أربعة (1) .

فحديث عكرمة في كلتا الروايتين ساقط عن الاعتبار سنداً.

د - ما رواه كريب عن ابن عباس أنه صلى بالبصرة على بساط، وزعم أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صلّى على البساط.

فهذا أيضاً في سنده زمعة بن صالح الذي مرّ تضعيفه عن أحمد وأبي حاتم وابن معين .

فهذه الآثار الأربعة المروية عن ابن عباس رواها ثلاثة من تلاميذه لم تسلم سنداً، ولم تتضح دلالة في سجوده على الطنفسة التي هي بساط من الصوف، أو ذات خمل رقيق، مع أن في جواب ابن عباس لعكرمة حين استنكر عليه صلاته على الدرنوك فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عليه ويسجد، ففي جوابه هذا مستدلاً بفعل النبي صلی الله علیه و آله وسلم دلالة على أن الدرنوك هو البساط، وهو بمعنى الحصير، حيث إن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يصلّ على الطنفسة أبداً، ولم يرد حكاية ذلك عنه ولا في رواية واحدة تصلح للاستدلال، فتبين أن المراد صلاة ابن عباس على البساط الذي هو الحصير، كما أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يصلي عليه ويسجد، وقد مرت أحاديث صلاته صلی الله علیه و آله وسلم على البساط عن أنس وغيره في المسألة الثالثة، فراجع.

ثم كيف يعقل أن ابن عباس يخالف النبي صلی الله علیه و آله وسلم في صلاته فيسجد على الطنفسة كما في رواية سعيد بن جبير، أو يسجد على الدرنوك أو البساط مما لا يصح السجود عليه، وهو الذي رآه أبو إسحاق أيام منى وله شعر إذا سجد أصاب الأرض، وراه مرة أخرى بمكة طويل الشعر - بعدما أهل الناس وظنه قصّر - فكان إذا سجد نزل شعره حتى يقع إلى الأرض. ورآه سعيد بن جبير - نفس الراوي للأثر الأول - إذا

ص: 192


1- المعرفة والتاريخ للفسوي 6/2، تهذيب التهذيب 270/7 - 271 .

سجد لا يرفع شعره من التراب (1) .

ثم كيف يتصور ذلك في ابن عباس، ونحن نقرأ في تاريخ ابنه علي بن عبد الله أنه أرسل إلى مولاه بمكة أن يبعث إليه بمروة ليسجد عليها، وهل أخذ علي الفقه إلا عن أبيه ؟!

فهل يعقل أن حبر الأمة يجهل حكم السجود على الأرض وما أنبتت من غير المأكول والملبوس، فيسجد على الطنفسة أو الدرنوك أو البساط، وابنه علي لا يسجد على شيء منها، بل يكتب في طلب مروة ليسجد عليها.

الخلاصة :

لقد تبين من جميع ما تقدم أنه لم يصح في حديث نبوي ولا أثر معتبر عن صحابي السجود على الطنفسة. وتبقى كلمة كل من أنس بن مالك : (وما حملت معه طنفسة) وكلمتا كل من سعيد بن المسيب وابن سيرين : (إن الصلاة على الطنفسة محدَثة)، تستدعي البحث لنعرف منه الجواب عن السؤال المارّ ذكره في أول المسألة الثالثة : متى حدث السجود على الطنافس ؟

وحيث إن الجواب كذلك يستدعي المرور بحوادث التاريخ في الفترة التي عاشها المسلمون في العهد الأموي منذ عهد معاوية فما بعده، وقد يطول بنا ذلك فنبتعد عن مسائل السجود كثيراً، فسوف نؤجّل الإجابة على ذلك إلى خاتمة هذا الباب.

ص: 193


1- هذه الآثار أخرجها ابن سعد في طبقاته في ترجمة ابن عباس 197/1-198 ، كما أخرجها أيضاً ابن أبي شيبة في المصنف 263/8 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 285/9، والطبراني في المعجم الكبير 288/10 برقم (10572) وغيرهم .

ص: 194

المبحث الرابع : في ذكر الصحابة الذين كانوا يرون السجود على الأرض أو ما أنبتت قولاً وعملاً :

1 - الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : ذكر المسعودي في مروج الذهب عند ذكره نزول الإمام في البصرة قال : فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلى أربع ركعات وعفّر خديه على التراب وقد خالط ذلك دموعه... (1)

2 - أبو بكر : كان يسجد أو يصلى على الأرض مفضياً إليها (2).

3 - عمر بن الخطاب : وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه صلى إلى جنب عمر فمسح الحصى ومسك بيده (3) .

4 - ابن مسعود : كان لا يسجد - أو قال : لا يصلي - إلا على الأرض (4) وعن إبراهيم - النخعي - أنه - أي ابن مسعود - كان يقوم على البردي ويسجد (5) علی الأرض.

ص: 195


1- مروج الذهب 370/2 .
2- راجع المصنف لعبد الرزاق 397/1، کنز العمال 38/8 .
3- المصنف لابن أبي شيبة 411/2.
4- راجع : المصنف لعبد الرزاق 397/1، ومعجم الطبراني الكبير، ومجمع الزوائد 57/2، ونيل الأوطار 128/2 .
5- راجع معجم الطبراني الكبير 255/9 ، والمصنف لعبد الرزاق 397/2، ومجمع الزوائد 57/2، وقال : إسناده حسن.

5 - ابن عباس : قال : (النفخ في الصلاة كلام يقطع الصلاة) كما في المصنف لابن أبي شيبة (1) ، وهو الذي روى أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم سجده على الحجر، أخرجه الحاكم في المستدرك والذهبي في التلخيص، وصحَّحاه معاً (2).

6 - ابن عمر :

أ - كان ربما يسوّي الحصى برجله وهو قائم في الصلاة كما في المصنف لابن أبي شيبة (3)

ب - كان يصلى على خُمرة تحتها حصير بيته فى غير مسجد، فيسجد عليها ويقوم عليها (4) .

ج - كان إذا سجد وضع كفّيه على الذي يضع عليه جبهته، قال نافع - الراوي عنه ذلك - ولقد رأيته في يوم شديد البرد، وإنه ليُخرج كفّيه من تحت برنس له حتى يضعهما على الحصباء (5).

د - عن أبي جعفر القاري، قال : رأيت عبد الله بن عمر إذا هوى ليسجد مسح الحصباء لموضع جبهته مسحاً خفيفاً (6).

7 - حذيفة : جاء في المصنف لابن أبي شيبة : مرض حذيفة فكان يصلي وقد جعل له وسادة وجعل له لوح يسجد عليه. (7)

8 - زيد بن ثابت : كان يصلي على حصير يسجد عليه (8) .

قال الشوكاني في نيل الأوطار وقد رُوي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر استحباب الصلاة على الحصير (9) .

ص: 196


1- المصنف 60/2 .
2- المستدرك 473/3 .
3- المصنف 412/2 .
4- المصنف لعبد الرزاق 394/1 .
5- سنن البيهقي 107/2، المنتقى للباجی 1/ 287 .
6- الموطأ 157/1 .
7- المصنف لابن أبي شيبة 275/1.
8- المصدر السابق 399/1 .
9- نيل الأوطار 128/2 .

9 - أبو ذر : مرّ عنه استحباب الصلاة على الحصير فيما حكاه الشوكاني.

10 - جابر بن عبد الله : كان يصلي على حصير من بردي (1) .

ومرّ عنه أيضاً استحباب الصلاة على الحصير فيما حكاه الشوكاني.

11 - أبو هريرة : كان يرخّص في تسوية الحصى في الصلاة مرة واحدة. قال : وإن لم يفعل فهو أحبّ إلي (2).

12 - أبو الدرداء : قال : ما أحب أن لي حُمر النعم وإني مسحت مكان جبهتي من الحصى (3) .

13 - يسار : قالت أم سلمة لابن أخيها وقد نفخ : لا تنفخ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لغلام له يقال له يسار : لا تنفخ، ترّب وجهك لله (4) .

14 - رباح : قالت أم سلمة وقد رأت نسيباً لها ينفخ إذا أراد أن يسجد فقالت : لا تنفخ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لغلام لنا يقال له رباح : ترّب وجهك يا رباح (5) .

15 - صهيب الرومي : وهذا كان يصلي على التراب وينفخ موضع سجوده، فقال صلی الله علیه و آله وسلمترّب وجهك يا صهيب. وقد مرّ ذلك عن المصنف لعبد الرزاق (6).

16 - بُريدة الأسلمي : كان يقول : أربعٌ من الجفاء... وعدّ منها : وأن يمسح جبهته قبل أن ينصرف (7) .

17 - أنس بن مالك : قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 197


1- المصنف لابن أبي شيبة 399/1 .
2- المصدر السابق 412/1 .
3- المصدر السابق 411/1 .
4- مسند أحمد 301/1، ومرت له مصادر أخرى.
5- مسند أحمد 323/6 ، وله مصادر أخرى قد مرت.
6- المصنف 391/1 .
7- المصنف لابن أبي شيبة 61/2، 265.

في شدة الحر، فإذا أراد أحدنا أن يسجد بسط ثوبه من شدة الحر فسجد عليه.

وقال الصغاني : فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (1) .

وفي صحيح البخاري : قال أنس : كنا نصلي مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود (2).

18 - مرّة بن شراحيل الهمداني، تبيّن في وجهه وكفّيه آثار الركوع والسجود، وسجد مرّة الهمداني حتى أكل التراب جبهته (3) .

ص: 198


1- صحيح ابن خزيمة 336/1، مسند أبي عوانة 346/1.
2- صحیح البخاري 82/1 كتاب الصلاة، باب السجود على الثوب في شدة الحر .
3- المنتظم لابن الجوزي ج 276/5 - 277 .

المبحث الخامس : في ذكر التابعين الذين يرون السجود على الأرض أو ما أنبتت قولاً وعملاً:

1 - عطاء بن أبي رباح : قال : لا تجوز الصلاة إلا على التراب والبطحاء (1).

وسأله ابن جريج - الفقيه المكي - عن مسائل في السجود وهي كما يلي :

- سأله عن صلاة الإنسان على الخُمرة والوطاء؟ قال : لا بأس بذلك إذا لم يكن تحت وجهه ويديه، وإن كانت تحت ركبتيه، من أجل أن يسجد على حرّ وجهه (2).

- وسأله أيضاً فقال له : أصلي على الصفا وأنا أجد إن شئتُ بطحاء قريباً مني ؟ قال : لا. قلت : أفتجزي عني من البطحاء أرض ليس فيها بطحاء؟ مدراة من تراب، وأنا أجد إن شئت بطحاء قريباً منى ؟ قال : إن كان التراب فحسبك (3) .

- وسأله أيضاً قال : قلت : أصلي في بيتي في مسجدي، مشيد (بجص) أو مرمر ليس فيه تراب أو بُطحاء؟ قال : وما أحب ذلك، البطحاء أحبّ إلي. قلت : أرأيت لو كان فيه حيث أضع وجهي قط قبضة بطحاء أيكفيني ؟ قال : نعم إذا كان قدر وجهه، أو أنفه أو جبينه.

قلت : وإن لم يكن تحت يديه بطحاء؟ قال : نعم.

قلت : فأحب إليك أن أجعل السجود كله بطحاء ؟ قال : نعم (4) .

ص: 199


1- المحلى 83/4.
2- المصنف لعبد الرزاق 393/1 باقتضاب.
3- المصدر السابق 391/1 .
4- المصدر السابق 392/1 .

وسأله ابن عيينة : أرأيت إنساناً يصلي وعليه طاق في بَرد، فجعل يسجد على طاقه ولا يخرج يديه؟ قال : لا يضره.

قلت : فلغير برد؟ قال : أحب إلى أن يسوي بينها وبين الأرض، فإن لم يفعل فلا حرج.

قلت : أحب إليك أن لا يصلي على شيء إلا على الأرض ويدع ذلك كله؟ قال : نعم (1) .

2 - عروة بن الزبير : كان يكره أن يسجد على شيء من دون الأرض (2) .

3 - إبراهيم النخعي : كان يصلي على الحصير ويسجد على الأرض (3) .

قال الثوري : أخبرني محلّ عن إبراهيم أنه كان يقوم على البردي ويسجد على الأرض، قلنا : ما البردي؟ قال : الحصير (4) .

وروى أبو حنيفة عن حماد، قال : رأيت إبراهيم يصلي في المكان فيه الرمل والتراب الكثير ، فيمسح عن وجهه قبل أن ينصرف (5) .

4 - محمد بن مسلم الزهري : سأله معمر عن السجود على الطنفسة؟ قال : لا بأس بذلك، كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخمرة (6) .

أقول : لقد مرّ من معاني الطنفسة هو الحصير من سعف النخيل، عرضه ذراع، وهذا ما يدل عليه قوله : كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخمرة. وقد مرّ أنها حصيرة صغيرة قدر ما يسجد عليها المصلي.

5 - عمر بن عبد العزيز (7) : كان لا يسجد إلا على التراب (8) ، وكان يصلي على

ص: 200


1- المصدر السابق 394/1 .
2- نيل الأوطار 127/2.
3- المصدر السابق 128/2 .
4- المصنف لعبد الرزاق 397/1 ، معجم الطبراني الكبير 255/9 ، مجمع الزوائد 57/2 .
5- جامع مسانيد أبي حنيفة 422/1.
6- المصنف لعبد الرزاق 394/1 .
7- كان مالك بن أنس يراه إمام هدى وهو يقتدي به كما في المدخل لابن الحاج 270/2 .
8- إحياء علوم الدين 149/1 ، إتحاف المتقين 32/2 .

الطنفسة، وقد طرح على موضع سجوده تراباً (1) . وقد كان يباشر الأرض بوجهه ويديه في سجوده، لا يحول بينه وبين الأ (2) رض شيء.

6 - مكحول : كان يصلي على الحصير ويسجد عليه (3). وذكره الشوكاني في نيل الأوطار ضمن التابعين الذين يرون استحباب الصلاة على الحصير (4) .

7 - مسروق : كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة ليسجد عليها (5) .

8 - محمد بن سيرين : كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها. كذا حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري (6).

9 - سعيد بن المسيب : عدّه الشوكاني في نيل الأوطار ضمن التابعين الذين قالوا باستحباب الصلاة على الحصير : وقال ابن المسيب : إنها سنّة (7) .

10 - جابر بن زيد : كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان، ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض (8) .

11 - الحسن البصري: وضع الحصى موضع سجوده وهو في الصلاة، وكان يكره أن يمسح جبهته قبل أن ينصرف (9) .

12 - عامر الشعبي :

أ - قال سفيان العصفري : صليت في حجرة الشعبي فنفخت، فنهاني وقال : إن رأيت أذى فامسحه بيدك (10).

ب - قيل له في الرجل يمسح جبهته قبل أن ينصرف، قال : هو من الجفاء (11) .

ص: 201


1- ربيع الأبرار 2 / 143 .
2- المدخل لابن الحاج 272/1 .
3- المصنف لابن أبي شيبة 399/1.
4- نيل الأوطار 2 / 128 .
5- المصنف لابن أبي شيبة 270/2، فتح الباري 3/2 .
6- فتح الباري 33/2 .
7- نيل الأوطار 128/2 .
8- المصدر السابق 126/2 .
9- المصنف لابن أبي شيبة 61/2، 413.
10- المصدر السابق 265/2 .
11- المصدر السابق 61/3 .

13 - يحيى بن أبي كثير : كره النفخ في الصلاة (1) .

14 - أبو صالح : قال : إذا سجدت فلا تمسح الحصى، فإن كل حصاة تحب أن يُسجد عليها (2).

15 - أبو عبد الرحمن السلمي : كره النفخ في الصلاة (3) .

16 - عبد الله بن أبي الهذيل : كره النفخ في الصلاة (4).

17 - يزيد بن يزيد بن جابر : عن كثير بن أبي كثير مولى هشام بن الغاز الدمشقي، قال: صليت خلف مكحول على بساط وخلفه يزيد بن يزيد بن جابر، فكلما سجد مكحول رفع يزيد بن يزيد البساط، فيسجد على الأرض (5) .

18 - مرّة - الطيب - بن شراحيل الهمداني الكوفي المفسِّر العابد، ترجمه الذهبي في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء (6) ، فقال : يقال إنه سجد الله حتى أكل التراب جبهته.

ص: 202


1- المصدر السابق 265/2 .
2- المصدر السابق 411/2 .
3- نيل الأوطار 317/2 .
4- المصدر السابق.
5- الكنى والأسماء للدولابي 89/2 .
6- تذكرة الحفاظ 67/1 ، سير أعلام النبلاء 5/ 110 .

الخاتمة : لمحة تاريخية عن المسجد والسجّادة والسجّاد

كنا وعدنا القارئ فيما سبق بلمحة تاريخية عن المسجد والسجادة والسجَّاد، لنعرف فيها الجواب على السؤال الذي فرض نفسه من خلال كلمة أنس بن مالك وهو يصف سيرة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم ، ويغمز قناة الحاكمين الذين غيَّروا وبدَّلوا فقال : (وما حملت معه طنفسة)، ومن خلال كلمتي سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين : (الصلاة على الطنافس محدثة).

إذن فلنبحث متى حدث ذلك؟

ولا بد لنا لمعرفة الجواب من الإلمام بشي من تاريخ بناء المسجد واتخاذ السجادة عند المسلمين، وسوف نقتصر في حديثنا عن ذلك على ما جاء في ذلك منذ عصر الرسالة، ثم ما بعده حتى عصر الحكام الأمويين.

كما نقتصر أيضاً في حديثنا عن تاريخ بناء المسجد بذكر المسجد النبوي الشريف، وما كان عليه منذ تأسيسه، وما طرأ عليه بعد ذلك من عمارات غيَّرت معالمه الأولى، وهل طالت يد التغيير أرضه كما غيَّرت السقف والجدران؟ لنرى مدى التفاوت بين عصر الرسالة الذي أدركه أنس ولم يدركه سعيد بن المسيب ولا محمد بن سيرين، وبين عصر الأمويين الذي عاشا فيه وشاهدا جملة من المحدثات فيه فكان منها الصلاة على الطنافس، فاستنكروا ذلك.

ص: 203

وبين يدي ذلك كله، فلنقرأ أولاً عن الرجلين شيئاً لنرى مكانتهم في المجتمع ومع الحاكمين، فنقول :

أولاً : سعيد بن المسيب بن حزن : من مشاهير فقهاء التابعين وُلد لسنتين مضتا من خلافة عمر ، وروى عنه وعن جماعة من الصحابة، ومنهم أم سلمة وعائشة من أمهات المؤمنين. وروى عنه خلق من أعلام التابعين فضلاً عن تابعي التابعين، وكان صهر أبي هريرة وزوج ابنته، إلا أنه لم يكن في سلوكه على وتيرته، بل هو على خلاف سيرته، بل كان يندّد به كما ذكر ذلك السخاوي في التحفة اللطيفة حيث ترجمه، فقال : وقال عن أبي هريرة : كان معاوية إذا أعطاه سكت، وإذا أمسك عنه تكلم (1).

وذكر أيضاً : أن هشام بن إسماعيل المخزومي - عامل المدينة - دعاه إلى بيعة الوليد، إذ عقد له أبوه عبد الملك بالخلافة، فأبى وقال : أنظر ما يصنع الناس. فضربه ستین سوطاً، وطوف به في تُبان من شعر حتى بلغ رأس الثنيّة، فلما كرّوا به قال : إلى أين؟ قال : إلى السجن. فقال : والله لولا أنى ظننت أنه الصَّلب ما لبست هذا التبان أبداً. فردّوه إلى السجن (2).

وقال الشعراني في طبقاته الكبرى : وضربه عبد الملك بن مروان وألبسه المسوح ، وطاف به في أسواق المدينة حين امتنع من مبايعته، ومنع الناس من مجالسته، فكان يقول : لا أحد يجالسني، فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس من مجالستي. فيرجع الناس عنه (3) .

وذكر أبو نعيم في الحلية : عن عبد الله بن سليمان، قال : وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد، فأبى سعيد أن

ص: 204


1- التحفة اللطيفة 195/3 .
2- المصدر السابق 194/3 .
3- الطبقات الكبرى 30/1 .

يزوِّجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصبّ عليه جرّة ماء، وألبسه جبة صوف (1).

فالرجل كان في سلوكه محتاطاً لدينه، فلم يضلع مع الحاكمين.

قال فيه علي بن المديني - شيخ البخاري - : لا أعلم أحداً في التابعين أوسع علماً من سعيد بن المسيب، وإذا قال سعيد : (مضت السنّة) فحسبك به. قال : وهو عندي أجل التابعين.

قال أحمد بن عبد الله : كان سعيد فقيهاً صالحاً لا يأخذ العطاء، له بضاعة أربعمائة يتجر فيها بالزيت. توفي سنة 93 أو 94 ه-، وهي سنة موت الفقهاء، لكثرة من مات فيها من الفقهاء (2) .

ثانياً : محمد بن سيرين : وُلد لسنتين من خلافة عثمان، وكان مولى لأنس ابن مالك، فكاتبه على عشرين ألف درهم فأدَّاها وعُتِق روى عن جماعة من الصحابة والتابعين، وروى عنه خلق من الرواة، وكان أحد الفقهاء المذكورين بالورع في وقته قال له رجل : اجعلني في حلّ، فإني قد اغتبتك. فقال : إني أكره أن أحلّ ما حرم الله عزّ وجّل من أعراض المسلمين، ولكن يغفر الله لك (3).

قال محمد بن سعد : كان ثقة مأموناً عالياً رفيعاً فقيهاً، إماماً كثير العلم ورعاً، توفي سنة 110 ه- بالبصرة.

فتبيَّن مما تقدم أن سعيد بن المسيب أدرك كلاً من عمر وعثمان وعلي أيام خلافته، وعايش أيام الحكام الأمويين : معاوية ويزيد ثم مروان وابنه عبد الملك، ومات في أيامه.

ص: 205


1- حلية الأولياء 168/2 .
2- تهذيب الأسماء واللغات للنووي 219/1-221 .
3- الطبقات الكبرى للشعراني، ص 35 تهذيب الأسماء واللغات 83/1-84 .

أما محمد بن سيرين فقد أدرك عثمان وعلياً أيام خلافته، ثم عاصر معاوية وابنه يزيد ثم مروان وعبد الملك وابنه الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد، ومات في أيامه.

إذن فابن المسيب وابن سيرين وإن لم يدركا عصر الرسالة الأول لكنهما أدركا من الصحابة من كان محافظاً في سلوكه الشرعي، كما عاشا في عصر الحكَّام الذين أثروا فأساؤوا الأثرة، فرأيا بوناً شاسعاً بين أولئك المسلمين المحافظين، وسيرة أولئك الحكام المترفين، الذين استحدثوا بِدَعاً في الدين لم تكن من قبل عند المسلمين كما ستأتي الإشارة إلى بعضها، فنقم الصحابة والتابعون ذلك السلوك من أولئك الملوك.

فالناس في عصر الرسالة كانوا يتلمظون العيش كفافاً، بل أدنى من ذلك، وقد ذكرنا فى المسألة الرابعة بعض الشواهد على ذلك، فلا حاجة إلى إعادتها، بل نزيد عليها ما أخرجه البيهقي في سننه الكبرى بسنده عن طلحة النضري، قال : قدمت المدينة مهاجراً، وكان الرجل إذا قدم المدينة، فإن كان له عريف نزل عليه ، وإن لم يكن له عريف نزل الصفّة، فقدمتها وليس لي بها عريف فنزلت الصفّة. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرافق بين الرجلين، ويقسم بينهما مدّاً من تمر (1) .

فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته إذ ناداه رجل، فقال : يا رسول الله أحرق بطوننا التمر، وتخرقت عنا الخنف (2) قال : وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمد الله وأثنى عليه، وذكر ما لقي من قومه، ثم قال : لقد رأيتني وصاحبي مكثنا بضع عشرة ليلة ما لنا طعام غير البرير - والبرير ثمر الأراك - حتى أتينا إخواننا الأنصار فآسونا من طعامهم، وكان جلّ طعامهم التمر، والذي لا إله إلا هو

ص: 206


1- المدّ يساوي ثلاثة أرباع الكيلو وزناً.
2- الخنف : جمع خنيف، وهو نوع غليظ من أردى الكتان هامش السنن.

، لو قدرت لكم على الخبز واللحم لأطعمتكموه، وسيأتي عليكم زمان أو من أدركه منكم تلبسون أمثال أستار الكعبة، ويُغدى ويُراح عليكم بالجفان. قالوا: يا رسول الله نحن يومئذٍ خير أو اليوم؟ قال : بل أنتم اليوم خير، اليوم إخوان، وأنتم يومئذٍ يضرب بعضكم رقاب بعض (1)1 .

وقد تحققت نبوءة النبي الكريم، وهو الصادق الأمين، فقد طرأ التبدّل والتحوّل إلى البذخ والترف، حتى جاز حد السِّرَف، حين دبّ فيهم داء الأمم السالفة الذي حذّر منه صلی الله علیه و آله وسلم.

وكان ذلك مما أفاء الله عليهم من كنوز كسرى وقيصر وغنائم الفتوحات، فهي وإن بدأت منذ عهد أبي بكر ، لكن أكثر المسلمين - إن لم يكن كلهم - كانوا بعدُ على فطرتهم الأولى وسيرتهم المثلى. وفي عهد عمر وإن توسعت الفتوحات وازداد المسلمون غنى إلى ما عندهم، لكنهم كانوا يخشون عمر وصرامته فلم يسعهم التظاهر بكل ما تهواه أنفسهم من مظاهر الترف، لأنه هو نفسه كان صاحب مدرعة من صوف، ويجلس على الحصير... إلى غير ذلك. لكن المسلمين في أيام عثمان تغيرت أحوالهم ، وبدت المفاهيم تتغير عندهم تغيراً ملحوظاً، حتى كادت تختفي من قاموس الحياة العامة يومئذ معاني القناعة والزهد والإيثار والمواساة. ومن الملفت للنظر حقاً أن نقرأ كتب الحديث النبوي الشريف أمثال الصحاح والمصنف لابن أبي شيبة ونحوه، فنجد آثاراً في الزهد والدعاء عن الخلفاء إلا عن عثمان، فلا نجد عنه شيئاً يذكر في ذلك (2).

ص: 207


1- السنن الكبرى 445/2 .
2- لاحظ كتاب جامع الأصول لابن الأثير الذي جمع فيه بين الكتب الستة وبين كتاب رزین العبدري، فلم يرد فيه حديث واحد في كتاب الزهد عنه، كما لم يرد عنه في الدعاء شيء يذكر إلا رواية روى فيها دعاء النبي 2 عند الصباح، ولاحظ كتاب (ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث)، فلم يرد في مجموع أحاديث عثمان حديث واحد في الزهد أو الدعاء. ولاحظ كتاب المصنف لإبن ابي شيبة في المجلد الثالث عشر في كتاب الزهد وفي كتاب الدعاء. فهو يذكر فيهما آثاراً عن الخلفاء وبعض الصحابة والتابعينِ، ثم لا يذكر عن عثمان ولا عن أحد أسرته بل ولا عن أحد من الظالعين معه على سيرته شيئا من تلكم المعاني النبيلة أو الأدعية الجليلة. فذلك إن دلَّ على شيء فهو يدل على أن من المسلمين يومئذ مَن كان في سلوكه مغلوبا بيهرجة الحياة ونشوة الثراء، فلم يطرق الزهد بابه، كما لم يطرق هو باب الدعاء، لانهم أتخموا وأترفوا في بلهنية العيش، فأسرفوا في أيام عثمان، و تظاهروا وتكاثر وا بما لم يكن ذلك ظاهراً أيام عمر. وفي ذلك يقول الدكتور علي سامي النشار في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام) 88/3: وأنزوى روح الزهد أو التنسك في عهد الخليفة عثمان، كان عهد عمر بن الخطاب عهد الغزو والفتوح، بينما كان عهد عثمان عهد الترف وجمع الأموال، ولم يكن للرجل يد في هذا، لقد أقبلت الأموِال في أيام عمر وفي إثر أيامه، واغتنى المسلمون أشد العني، وكان قد استعمل عدداً كبيراً من بني أمية في الشام، وحين تولى عثمان أقرَّهم، ولم يكن هؤلاء بمعنی الكلمة ، كانوا رجال حكم من الطراز الأول ، ورجال دنيا في أعماقهم، فعاشوا في قصور الشام، كما عاشوا في قصور البصرة والكوفة والمدائن عيشةٍ مترفة، تفوق حتى معيشتهم الناعمة الأولى فى مكة، ولا شك أن مجموعة لا بأس بها أيضاً من الصحابة والتابعين والقرّاء آلمها كل هذا المظهر الدنيوي الذي ساد الحياة الإسلامية، وأنكرت أشد الإنكار أن يكون هذا هو الإسلام الحقيقي الذي دعا إليه محمد 2. ويقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه (الشعر الغنائي في الأمصار الإسلامية) 1 - في المدينة ص 28 : ونحن لا نترك عمر إلى عثمان حتى نحسّ أهل المدينة تغيروا تغيرا كثيراً عما كنا نعهدهم به من تقشف، ويكفي في تصویر ذلك ما تركه كبار الصحابة من ثروات، فقد روى الرواة أن طلحة بن عبيد الله خلّف ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة، والبهار مزود من جلد عجل كما ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد 279/2. ويقول المسعودي : إن الزبير خلّف خمسين ألف دينار، بينما خلّف زيد بن ثابت مائة ألف دينار، وبلغ الربع [أقول: وفي المصدر الأتي ذِكره : ربع الثمن، لأنه كان عنده أربع نساء] في تركة عبد الرحمن بن عوف أربعة وثمانين ألف دينار، أما عثمان فقد خلّف خمسين ومائة ألف ألف درهم، وعقارات قيمتها مائة ألف دينار. وقد عقَّب المسعودي بعد ذكره لهذه التركات بقوله : وهذا باب يتسع ذكره، ويكثر وصفه فيما تملك من الأموال في أيام عثمان، ولم يكن مثل ذلك في عصر عمر بن الخطاب...وحج عمر فأنفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر ديناراً، وقال لولده عبد الله : قد أسرفنا (أنظر مروج الذهب 253/4 فما بعدها).

لماذا؟ ألأن الغنائم أبطرت الناس؟! فالغنائم جاءتهم من عهد أبي بكر، ثم في عهد عمر أكثر فأكثر، لكنهم كانوا يرون خلفاءهم في سيرتهم فيسيرون عليها، والناس على دين حكَّامهم في كل زمان حتى في عهد عثمان، فقد كانوا كذلك أيضاً، فازدادوا ترَفاً ووفراً وبطَراً.

ص: 208

وإليك نموذجاً واحداً يصلح للمقارنة بين عهد عمر وعهد عثمان، يثبت أن الناس تبع للحاكمين في كل زمان :

أخرج ابن أبي شيبة في المصنف والمتقي الهندي في كنز العمال في حديث جاء فيه أن عمر بلغه عن ابن له اتخذ ستراً لحيطانه، فقال متوعداً : والله لئن كان ذلك لأحرقنّ بيته (1).

هذا عن عهدعمر، أما في عهد عثمان فسرعان ما تبدَّل الحال، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وغيره بسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال : عرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، وكان فيمن آذن أبو أيوب، وقد سترتُ بيتي بجنادي أخضر(2)فجاء أبو أيوب فدخل وأبي قائم، فنظر فإذا البيت سُتر بجنادي أخضر، فقال : أي عبد الله، تسترون الجُدُر ؟!

فقال أبي - واستحيى - : غلبّنا النساء يا أبا أيوب.

فقال: مَنْ كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لك طعاماً. فرجع(3).

فانظر إلى هذه النقلة السريعة في تبدّل أساليب الحياة وبطر العيش في الأسرة الواحدة. فعمر يتوعد بتحريق بيت ابن له، لأنه ستر حيطان بيته بستر. وابنه عبد الله بن عمر يقول : غلبَنا النساء.

أليس قد تبدّلت الحال غير الحال، وبدت تطلع رؤوسها من الغرائر الأموال المكدّسة التي جاءتهم من الغنائم، وتسرّبت معها الأخلاق المستوردة والعادات الوافدة من أنماط ووسائد منضّدة عليها التماثيل والصور ؟!.

ص: 209


1- المصنف 308/8، کنز العمال 51/20.
2- الجناديّ : جنس من الأنماط أو الثياب يستر بها الجدران (تاج العروس 327/2).
3- المصنف 308/8، راجع جامع الأصول ،463/5 والسنن الكبرى 272/7 وكنز العمال ، 52/20 .

فهذه ابنة سعد بن أبي وقاص - فاتح العراق كما يسمَّى - تحدِّث أن أباها جاء من

فارس بوسائد فيها تماثيل، قالت : فكنا نبسطها (1).

ولقد روي أن عمر كان يصلي في بيته على عبقري من غنائم كسرى - وصلاته على العبقري إن صحَّ حديثها فربما كان يقوم عليه، ثم يسجد على الأرض، كما ستأتي شواهد ذلك الفعل عن غيره.

وتُحدِّث الرواة عن سالم بن عبد الله بن عمر، كان يتكئ على وسادة حمراء فيها تماثيل. وعن عروة بن الزبير كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل : الطير والرجال !

وعن مجلس محمد كان فيه وسائد فيها تماثيل عصافير، فكان الناس يقولون في ذلك [؟]، فقال : إن هؤلاء قد أكثروا فلو حوَّلتموها...(2)

إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة الدالة على النقلة السريعة في تبدّل أحكام وآداب الشريعة، مما دعا المسلمين المحافظين لأن تتعالى منهم أصوات النكير، فمنهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وقد ظهر اسمه فيما تقدم، ومنهم مَن لم يُذكر اسمه وكُني عنهم بالناس [؟] ولأمرٍ ما أخفوا أسماءهم.

وليت شعري لماذا كل ذلك التعتيم عليهم حتى نُكّروا؟ ما ذلك إلا لأنهم أنكروا فاستُنكِروا. ولا نعدم معرفتهم ما دمنا نعرف بداية التغيير وأنه من عهد عثمان. فسَنَجد بصمات المنكرين عليه في تاريخه ظاهرة، وذلك حين فشا التغيير وكثر النكير، فكان علي وكان أبو ذر، وكان عمار، وكان ابن مسعود، وكانت عائشة، وكان الزبير، وكان طلحة، وكان وكان... غيرهم ممن أنكروا واستنكروا، ولم يستطيعوا إرجاع الأمور إلى نصابها في مسارها الصحيح، وتمادى الأمر حتى كَتَبَ مَن كتب من الصحابة في المدينة إلى المسلمين في الأمصار كتابهم المروي في تاريخ الطبري

ص: 210


1- المصنف لابن أبى شيبة 317/8 .
2- راجع بشأن هذه الآثار المصنف لابن أبي شيبة 317/8-319 .

وكامل ابن الأثير وشرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي، وهو يحكي الواقع المرير الذي عاشه المسلمون من تردّي الحالة الدينية، لكثرة المستحدثات في المجتمع الإسلامي، فقد جاء في الكتاب كما هو عند الطبري :

فإن دين محمد قد أفسده من خلفكم وتُرِكَ فهلمّوا وأقيموا... الخ.

وجاء في رواية ابن الأثير : فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فأقيموه ... الخ.

وجاء في رواية المعتزلي : قد أفسده خليفتكم فاخلعوه... (1) .

وأياً كان اللفظ فالمعنى هو الذي يثير التساؤل : مَنْ أفسد الدين؟ وكيف أفسد؟

والجواب يجده الباحث في قول أبي الدرداء - وقد مرّ في الجهة الثالثة - : لو خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة.

أقول : وهذه الصلاة التى هى عمود الدين قد أُحدث فيها وضيعت، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أنس قال : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل : الصلاة. قال : أليس ضيّعتم فيها ما ضيّعتم ؟(2)

وفي حديث آخر عنه : وهذه الصلاة قد ضُيّعت. وبمعنى الحديثين أحاديث أخرى عن أنس وغيره في البخاري وغيره (3) .

ص: 211


1- قال أحمد أمين في كتابه يوم الإسلام، ص 61 : مع الخلاف في قتل عمر وعلي وقتل عثمان ، لأن قتلهما كان حادثة فردية أو مؤامرة حزبية، أما مقتل عثمان فقد كان ثورة شعبية للأقطار الإسلامية.
2- صحيح البخاري 141/1 ، كتاب الصلاة، باب تضييع الصلاة عن وقتها.
3- أخرج البخاري في صحيحه 120/8، كتاب الاستئذان باب في الحوض، جملة أحاديث نبوية حذّر فيها 2 أصحابه من التغيير بعده والإحداث في الدين ما لم يكن. منها حديث أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلئون عن الحوض، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. ومنها حديث أبي سعيد الخدري، وفيه : فأقول : سحقا سحقاً لمن غيّر بعدي .

إذن هناك إفساد في الدين وهناك محدَثات، ولا يزال الصحابة ترن في آذانهم كلمات الرسول الكريم وتعاليمه : شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (1).

ولنعد الآن إلى كلمتي ابن المسيب وابن سيرين : الصلاة على الطنافس محدثة.

وقد يلومنا قارئ عَجِل، فيظن أنّا ابتعدنا عن صلب الموضوع الذي نبحث فيه عن لمحة تاريخية عن المساجد والسجادة والسجَّاد لنخلص إلى نتيجة مفادها : أن السجود في الصلاة إنما كان على أديم الأرض وليس على الفراش.

لا، ليس كذلك لم نبتعد، بل إن ما ذكرناه أنفا يلقي الضوء على معنى إحداث الصلاة على الطنافس في زمان ما بعد عهد الرسالة. ويتضح ذلك الآن من خلال مرورنا العابر بمراحل بناء المسجد النبوي الشريف.

بناء المسجد النبوي الشريف

اشارة

لقد بنى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مسجده حيث بركت ناقته في مربد لغلامين يتيمين يكفلهما أسعد بن زرارة، فابتاعه ثم أمر بتسوية الأرض وقطع النخيل وشجر الغرقد الذي كان فيه. وأخذ في بنائه على أبسط ما يمكن أن يكون بناؤه، بسيط يتناسب ومعنى المسجدية المشتقة من السجود بمعنى الخضوع والتذلل لله سبحانه وتعالى. وكان يقول : «عريش كعريش موسى والأمر أعجل من ذلك».

وتم بناؤه في حدود البساطة، فجدرانه من لبن قدر قامة، وأعمدته من جذوع النخل وسقفه من جريده، وفراشه تراب أرضه ومعنى ذلك أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لم

ص: 212


1- من حديث ابن مسعود، واستشهد به الغزالى فى الإحياء 80/1، وخرّجه الزين العراقي في المغنى عن حمل الأسفار في الأسفار بهامش الإحياء نقلاً عن ابن ماجة، والذي وجدته في سنن ابن ماجة فى المقدمة هو من حديث العرباض بن سارية.

يكن يبغي من المسجد إلا أن يكون مكاناً صالحاً للعبادة ساذج البناء، كي يتوجّه العبد إلى خالقه خالصاً مخلصاً، يستلهم منه الرحمة بمنتهى الخضوع والعبودية، ولأن يكون المسلم يتلو قوله تعالى ﴿إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ، ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وبذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (1).

فالمسجد بيت عبادة الله تعالى بناه صلی الله علیه و آله وسلم- كما قلنا - بسيطاً غاية البساطة في تصميمه، يؤدّي فيه المسلمون مع نبيّهم فرائضهم اليومية، ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ} (2).

قال سعيد بن جبير ومالك : معنى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم} هو ما يلتصق بوجوههم من الأرض عند السجود (3).

وبقي المسجد النبوي كذلك طيلة عهد مؤسِّسه ومن تلاه حتى أيام عمر، فزاد فيه وبناه على بنائه الأول، ولم يستنكر المسلمون ذلك، لكن في أيام عثمان غيّر في بنائه فأكثروا القول فيه.

ولنقرأ الآن ما أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عمر قال : إن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبنياً باللبن، وسقفه

ص: 213


1- سورة الأنعام، الآية 79 و 162 - 163 .
2- سورة الفتح الآية 29 .
3- تفسير القرطبي 293/16 ، وقال الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 31/3 في تفسير الآية الكريمة : وقد اختلف في تفسير هذه الآية على أقوال : (فقيل : هو ما يلتصق بوجوههم من الأرض) من التراب والغبار (عند السجود) وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة، ونصه عند البغوي : وهو أثر التراب على الجباه. قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز كما سياتي. ويروى عن سعيد بن جبير أنه قال : هو ندى الطهور وثرى الأرض. وهكذا أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، ومحمد بن نصر عنه) .

الجريد، وعمده خشب عسيب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً. ثم غيّر عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، والقصّة (1) وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج (2) .

ولنقف متأمّلين قول ابن عمر (ثم غيّره عثمان.....) فالتعبير يوحي بالسخط، واللهجة تنم عن كراهية لما صنع فهو حين يعرض مراحل البناء وما طرأ عليه من الزيادة بعد تأسيسه، يذكر زيادة أبيه فيقول : (وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...).

ويقول عن عثمان : (ثم غيّره عثمان...)

ولعل ابن عمر إنما كره من بناء عثمان بناءه بالحجارة المنقوشة، لأن ذلك من الزخرفة المنهي عنها، وحذر النبي صلی الله علیه و آله وسلم منها كما جاء في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري في صحيحه : (لتزخرفتّها كما زخرفت اليهود والنصارى)(3)، فاعتبر ذلك تغييراً، وهو فعلاً تغيير لم يُحمد عليه، فقد أثار نقمة الصحابة فشهروا واستنكروا، وقالوا فأكثروا حتى اضطر إلى أن يصعد المنبر فيخطب معتذراً كما أخرج البخاري ذلك في باب من بنى مسجداً، بسنده عن عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان يقول عند قول الناس فيه حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنكم أكثر تم وإني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مَن بنى مسجداً... بنى الله له مثله في الجنة (4) .

ص: 214


1- القصةَ بالفتح : الجص بلغة الحجاز، قاله في البارع والفارابي. (المصباح المنير للفيومي 694/2 .
2- صحيح البخاري 93/1، باب بنيان المساجد، فتح الباري 86/2، السنن الكبرى 438/2 .
3- صحيح البخاري 93/1، باب بنيان المساجد، السنن الكبرى 439/2 .
4- صحيح البخاري 93/1 .

وأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن محمود بن لبيد : أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك، فأحبوا أن يدعه على هيئته، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مَن بنى مسجداً الله بنى الله له في الجنة مثله.

وكيف(1) ما كانت وجهة النظر في ذلك، فقد بناه عثمان وغيّر في هيكله وتخطيطه عما كان في عهد مؤسِّسه ها ، إلا أنه لم يذكر عنه أنه عبّدَ أرضه، أو فرشها بشي من الفراش، فكان المسلمون يصلّون على أرضه بترابها، ويسجدون على حصبائها، ويفترشونها في قعودهم وقيامهم، في صلاتهم أو منامهم، دون أن يكون لهم أي فراش من بسط أو أنماط أو حصير، وإلى القارئ شواهد ذات دلالة على ذلك :

أولاً: شواهد من العهد النبوي الشريف

1 - أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام بإسناده عن أبي حازم، أن رجلاً جاء إلى سهل بن سعد فقال : هذا فلان - لأمير المدينة - يدعو علياً عند المنبر . قال : فيقول ماذا؟ قال: يقول أبو تراب. فضحك وقال : والله ما سمَّاه إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان له اسمٌ أحبَّ إليه منه. فاستطعمت الحديث سهلاً، وقلت : يا أبا عباس كيف؟ قال: دخل عليّ على فاطمة علیها السلام، ثم خرج فاضطجع في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أين ابن عمكِ ؟ قالت : في المسجد. فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول : «اجلس يا أبا تراب» مرتين (2) .

ص: 215


1- صحيح مسلم 68/2 ، باب فضل بناء المساجد والحثّ عليها.
2- أخرج هذا الحديث جملة من أصحاب الصحاح والسنن، ويكفي أن البخاري = أخرجه في أربعة مواضع من صحيحه : 92/10، في كتاب الصلاة في باب نوم الرجال في المسجد، وفي 18/5_19، وهو ما ذكرناه أعلاه. وفي 45/8 في كتاب الأدب في باب التكني بأبي تراب، ولم يذكر غيره، وفي 63/8 في كتاب الاستئذان في باب القائلة في المسجد. كما رواه أيضاً في كتابه في الأدب المفرد في باب من كنّى رجلاً بشي هو فيه. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، في باب من فضائل علي بن أبي طالب علیه السلام . ورواه ابن جرير الطبري في تاریخه 124/2 وغيرهم.

فهذا الحديث دلّ على أن أرض المسجد كانت من تراب، لذلك خلص إلى ظهر الإمام حين نام، فأجلسه النبي صلی الله علیه و آله وسلم وهو يمسح التراب عن ظهره، ويقول له : اجلس ، أبا تراب.

2 - أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن زيد بن ثابت، قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حُجرة مخصفة أو حصيراً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فيها، فتتبع إليه رجال، وجاؤوا يصلّون بصلاته، ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضباً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة (1).

فهذا الحديث في فقهه دلّ على أمور :

منها : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل - يعني يجعله مثل الحجرة. وهذا هو ما دل عليه حديث عائشة أيضاً وقد أخرجه البخاري (2)، فدل على استحباب اتخاذ مكان خلوة للصلاة، يخلو العبد فيها مع ربَّه تعالى.

قال السيوطي في شرحه على النسائي : أي نجعلها كالحجرة لئلا يمر عليه.

ومنها : أن الذين جاؤوا ليصلوا بصلاته لم يكونوا عارفين مقام الرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، لأنهم لم يفقهوا من الدين إلا الصورة، أما المضمون فقلوبهم منه خاوية خالية، وإلا

ص: 216


1- صحيح البخاري 28/8، كتاب الأدب باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله.
2- صحيح البخاري 143/1 .

فكيف جاز لهم أن يرفعوا أصواتهم، ولعلهم كانوا هم أولئك الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} في واقعة أخرى.

ومنها : أنهم حصبوا الباب، مما دل على إساءتهم الأدب، كما دل على أن الحصباء كانت في المسجد فحصبوا بها.

ومنها : أن الصلاة غير المكتوبة لا تنعقد فيها جماعة ، بل تُصلى في البيوت أفضل ، ومنه يعلم عدم مشروعية صلاة التراويح، فلاحظ وتأمل.

3- أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن عمر بن الخطاب، قال : لما اعتزل نبي الله صلی الله علیه و آله وسلم نساءه دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى....(1) إلى آخر الحديث، وفيه دلالات ذات مغزی، فراجع (2) .

4- أخرج أبو داود في سننه والبيهقي في سننه الكبرى - واللفظ له - عن أبي الوليد ، قال : سألت ابن عمر عما كان بدء هذه الحصباء التي في المسجد ؟ فقال: ،نعم مُطرنا من الليل فخرجنا لصلاة الغداة، فجعل الرجل يمر على البطحاء فيجعل في ثوبه من الحصباء فيصلى عليه. قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاك قال : ما أحسن هذا البساط. فكان ذلك أول بدئه (3).

وهذا الحديث صريح بأن بدء تحصيب المسجد كان على عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وقد مرَّ في كراهة مسح الحصى واستحباب التتريب وتسوية الحصى ما يدل على أن أرض مسجده كانت على ما ذكرناه في عهده، ويؤيده ما ورد في استحباب رد

ص: 217


1- صحیح مسلم 188/4 ، باب الإيلاء واعتزال النساء وتخيير هن وقوله تعالى {وإن تظاهرا عليه} .
2- منها قول عمر لابنته حفصة : والله لقد علمت أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لا يحبّك، ولولا أنا لطلّقك. ومنها قوله : وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، وفيهما نزل قوله تعالى {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} .
3- سنن أبي داود : كتاب الصلاة، باب حصى المسجد، السنن الكبرى 440/2 .

الحصى إذا أخرجت من المسجد إليه.

وبإزاء ما سبق وردت عدة نصوص للمؤرخين فيها أن التحصيب كان في عهد عمر، فاقرأ ما ورد عن ذلك في :

ثانيا: شواهد من العهد الخليفي

1 - ذكر ابن النجار في كتابه الدرّة الثمينة حديثاً جاء فيه : أن المسجد النبوي الشريف - كان يُرش زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر، وكان الناس يتنخّمون فيه ويبصقون، حتى عاد زلقاً، حتى قدم ابن مسعود الثقفي وقال لعمر : أليس قربكم واد؟ قال : بلى قال : فمر بحصباء تطرح فيه ، فهو أكفّ للمخاط والنخامة. فأمر بها عمر (1) .

2 - وذكر السمهودي في وفاء الوفاء حديثاً جاء فيه : أن عمر بن الخطاب قال - حين بُني مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما ندري ما نفرش في مسجدنا؟ فقيل له : افرش الخَصَف والحُصُر. فقال : هذا الوادي المبارك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: العقيق وادٍ مبارك (2).

3 - وذكر أيضاً نقلاً عن ابن زبالة في سبب تحصیبه، قال : قدم سفیان بن عبد الله الثقفي على عمر بن الخطاب ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير محصوب، فقال : أما لكم وادٍ؟ فقال عمر : بلی. قال : فاحصبوه منه فقال عمر : احصبوه من هذا الوادي المبارك - يعني العقيق.

4 - وذكر أيضاً نقلاً عن ابن سعد : أن عمر بن الخطاب ألقى الحصباء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود

ص: 218


1- الدرّة الثمينة الملحقة بشفاء الغرام للفاسي، ص 371 .
2- وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 473/1.

نفضوا أيديهم، فأمر بالحصباء، فجي به من العقيق، فبسط في المسجد (1).

5- أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن عروة بن الزبير، قال: أول من بطح مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب، وقال ابطحوه من الوادي المبارك - يعني العقيق (2).

أقول : وبناءاً على ما تقدم وغيره قال السمهودي في وفاء الوفاء : والذي يقتضيه كلام المؤرخين أن تحصيب المسجد إنما حدث في زمان عمر بن الخطاب (3) .

ومهما كان نصيب أقوالهم من الصحة وعدمها، فقد تبيّن لنا من جميع ما تقدم أن أرض المسجد النبوي الشريف لم تكن مفروشة بغير البطحاء حتى عهد عمر، ولعله هو أيضاً أمر بذلك، بمعنى تجديد فرشها ببطحاء من العقيق.

أما في عهد عثمان الذي بنى المسجد وغيَّره على حد تعبير ابن عمر كما مرَّ نقلاً عن البخاري، فإن أرضه لم يغيّر فيها شيئاً، بل بقيت كما هي مفروشة ببطحائها، بترابها وحصبائها، ولقد كان يُقيل هو - أي ينام القيلولة - فيه، وهو يومئذٍ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه.

6 - أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن الحسن البصري وقد سُئل عن القائلة في المسجد ، فقال : رأيت عثمان بن عفان (رض) وهو يومئذ خليفة يقيل في المسجد، ويقوم وأثر الحصى بجنبه، فيقول : هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين... الخ (4)

7- أخرج الشاطبي في الاعتصام عن الحسن - البصري - قال : خرج علينا

ص: 219


1- طبقات ابن سعد 283/3-284، مناقب عمر لابن الجوزي، ص 63.
2- السنن الكبرى 441/2، مناقب عمر لابن الجوزي، ص 63 .
3- وفاء الوفاء 473/1.
4- السنن الكبرى 447/2 .

عثمان بن عفان (رض) يوماً يخطبنا فقطعوا عليه كلامه، فتراموا بالبطحاء، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء....(1) .

8 - ذكر السخاوي في التحفة اللطيفة، قال : آخر خرجة خرجها عثمان يوم الجمعة، فلما استوى على المنبر حصبه الناس، فحيل بينه وبين الصلاة، فصلّى للناس يومئذ أبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري... الخ (2) .

فهذه النصوص كلها دالة على أن المسجد النبوي الشريف لم يُبسط فيه أيُّ فراش سوى رمل البطحاء من وادي العقيق، فكان المسلمون يصلّون فيه ويسجدون على أرضه، بل يستنكرون حتى فرشه بالحصُر والبواري.

قال الغزالي في الإحياء : ولقد كان يُعد فرش البواري في المسجد بدعة، وقيل : إنه من محدثات الحجاج، فقد كان الأولون قلما يجعلون بينهم وبين التراب حاجزاً (3) .

وهذا القول من الغزالي فتح لنا نافذةً على التاريخ، قرأنا من خلالها قول الزبيدي في إتحاف المتقين : وروي أن قتادة سجد فدخل في عينه قصبة - وكان ضريراً - فقال : لعن الله الحجاج، ابتدع هذه البواري، يؤذي بها المصلين (4).

وإذا علمنا بأن الحجاج هو الذي ولاه عبد الملك بن مروان لمحاربة ابن الزبير، فأذاق أهل الحرمين مرّ العذاب، وهو الذي رمى الكعبة بالمنجنيق.

يقول الدكتور أحمد أمين في كتابه يوم الإسلام : وكان مما أخذ على الحجاج أنه كان ينوي أشد من ذلك - يعني رمي الكعبة بالمنجنيق وقتل ابن الزبير - فلما خرج من مكة إلى المدينة قال : الحمد لله الذي أخرجني من أم الفتن، أهلها أخبث أهل،

ص: 220


1- الاعتصام 64/1 . وفي رواية البلاذري عن الحسن قال : فحُصب وتحاصبوا، فنزل الشيخ وما يكاد يقيم عنقه (أنساب الأشراف : القسم الرابع - الجزء الأول، تحقيق الدكتور إحسان عباس، بيروت 1400ه-).
2- التحفة اللطيفة 291،68/1 .
3- إحياء علوم الدين 80/1 .
4- إتحاف المتقين 727/1 .

ولولا ما كان يأتيني من كتب أمير المؤمنين فيهم، لجعلتها مثل جوف الحمار، أعواداً

يعودون بها، ورمة قد بليت يقولون : منبر رسول الله، وقبر رسول الله (1).

ويكفي أنه الذي كتب فيه عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة : بلغني أنك تستنّ بسنن الحجاج فلا تستن بسننه، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة لغير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع.

وقال فيه : لو أن الأمم تخابثت يوم القيامة، فأخرجت كل أمة خبيثها، ثم أخرجنا الحجاج لغلبناهم (2) .

إذا علمنا ذلك عن الحجاج وجبروته وانتهاكه للحرمات فلا استبعاد في استحداثه فرش المسجد بالبواري، ترفّعاً عن الحصباء وتراب البطحاء، كما لا استبعاد في أن الصلاة على الطنافس كانت في أيامه أو من بعده أيام حكومة عبد الملك وابنه الوليد الذي قيل فيه : إنه أول من زخرف المساجد.

قال في عون المعبود: وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفاً من الفتنة؟ (3) .

ولنا وقفة عابرة عند كلمته هذه : وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفاً من الفتنة.

لماذا سكت أولئك الكثير ؟ ومَن هم ؟ ولا بدّ هناك وجود القليل من أهل العلم أيضاً من الذين لم يسكتوا، ولم يخافوا الفتنة فمن هم ؟

لماذا كنَّى عنهم وأضمر أسماءهم؟ فهل أن صاحب عون المعبود أيضاً كان

ص: 221


1- يوم الإسلام، ص 69 .
2- سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، ص 88-89 .
3- عون المعبود بشرح سنن أبي داود 172/1 .

يخشى الفتنة، فسكت عن التصريح واكتفى بالتلويح ؟

وأي فتنة أعظم من أن يفتن السلطان الجائر الناس في دينهم، ثم لا ينكرون ذلك عليه؟

ولماذا هذا الاعتذار البارد التافه، وهو يطعن الكثير من أهل العلم في تحوطهم لدينهم ؟

وهناكَ مَن قرأنا له استنكاراً على الوليد وعلى غيره من الحاكمين قبله، وكانوا من أهل العلم، فلماذا لم يخافوا الفتنة؟!

وإنّ السكوت عن إنكار المنكر هو الذي شجّع الحاكمين على مرور الزمان في التمادي بمنكراتهم. ولم لا ؟! وهم في أمن من آمرٍ بالمعروف، وناهٍ عن المنكر، بل يجدون عند علماء التبرير علماء لهم بزي الفقهاء، يحوطونهم بما يرفع عنهم إصر تبعات افعالهم، بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان.

ولا بد أن تنتهي النتيجة الى تسافل الحال بامتداد الزمان الى أن آل الأمر في عهد (المعتز العباسي) أن يعقوب بن الليث الصفار الظالم العسوف السفاح السفاك الذي استغاث الناس من كثرة ما أراقه من الدماء - بعث هدية الى المعتز كان منها (مسجد فضة يسع خمسة عشر نفساً، يُحمل على قطار جمال) (1) .

نعم هكذا مسجد من فضة يسع خمسة عشر نفساً، يحمل على قطار جمال، يهدى الى خليفة المسلمين ليصلي فيه لرب العالمين، حضراً أو سفراً، أو ما شئت فقل!.

إنها لسخرية بالدين، واستخفاف بالصلاة التي هي معراج المؤمنين، ودع عنك التبذير والإسراف بأموال الفقراء والمساكين.

فاقرأ وتبصر، هل يجوز لمسلم أن يرى في طاعة هكذا حكام ظلمة، وولاة فسقة وقوّاد فجرة، طاعتهم من طاعة أولى الأمر الذين أمر الله تعالى بها، فقرن طاعتهم

ص: 222


1- سیر اعلام النبلاء للذهبى 350/10 ط دار الفكر بيروت في ترجمة يعقوب الصفار .

بطاعته وطاعة رسوله بقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾

فكانت نتيجة السكوت عن زخرفة المساجد التي بدأها الوليد الأموي هي التي وصلت اليه الحال في عهد المعتز العباسي، وتوالت بالإنحدار والتسافل الى ما عليه الآن.

ولولا الخروج عما نحن بصدده من إثبات أن الصلاة على الطنافس محدّثة، لذكرنا من الشواهد جملة كثيرة، ولكننا نكتفي ببعضها منقولة عن بعض التابعين كأبي العالية الذي يقول : تعّلموا الإسلام، فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الصراط يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، قبل أن يقتلوا صاحبكم - يعني عثمان - وقبل أن يفعلوا الذي فعلوه بخمس عشرة سنة (1).

ماذا يعني بقوله هذا؟ أوليس يعني أن سُنة النبي لا تحرّفوا بها ذات اليمين وذات الشمال؟

وقوله وإن كان فيه شيء من التقيّة خشي معها الرجل من التصريح بتحديد زمان التغيير في الشريعة، إلا أن في تحديده ذلك بخمس عشرة سنة قبل مقتل عثمان كناية أبلغ من التصريح، فهو يعني بذلك سنة عشرين من الهجرة، وهي السنة السابعة من أيام عمر بن الخطاب.

وعليه يمكن استثناء تلك السنين السبع الأولى من حكومته في نظره لم يطرأ فيها تغيير فى السنَّة النبوية.

لكنا نقرأ قول تابعي آخر، كان أكثر شجاعة وأوضح بياناً، وخصوصاً في المثال الذي ضربه، وهو مضافاً إلى ذلك رجل تشدّه إلى عمر بن الخطاب أكثر من رابطة.

ص: 223


1- حلية الأولياء 218/2 ، ولاحظ قوله : قبل أن يقتلوا صاحبكم. ويبدو أنه لم يكن له بصاحب، فعبّر بذلك.

وهذا التابعي هو عمر بن عبد العزيز، حيث قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قُبض فترك الناس على نهر مورود، فولي ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئاً، ثم ولي النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر، فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس يكرون منه السواقي حتى تركوه يابساً ليس فيه قطرة، لثن أبقاني الله لأسكَّرنَّ تلك السواقي حتى أعيده مجراه الأول (1).

فعمر بن عبد العزيز صاحب هذه المقالة، وهذا المثال أدان من طرف خفي جدَّه عمر بن الخطاب بأنه أول من كرى ساقية من ذلك النهر المورود، ثم تتابع الناس بعده على شاكلته ولم يمنعه انتماؤه من جهة الأم إلى أن يكتم ما يراه حقيقة في نظره كما لم تمنعه سيرة الحاكمين قبله من تمنَّيه إعادة المياه إلى مجراها الصحيح وسكر جميع تلك السواقي التي أيبست النهر من مائه، وهي كناية عن تفريغ الإسلام من مضمونه وبهائه، حتى أصبحت الحال كما يصفها تابعى ثالث .

وذلك هو عروة بن الزبير لما بنى قصره بالعقيق ونزله، قيل له : جفوت عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال : إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان بعدي مما هنالك عافية (2).

ص: 224


1- هكذا في رواية أبي نعيم في حلية الأولياء 274/5 ، لكن ابا الفرج الأصبهاني في كتاب الأغانى (ج 256/2 ط دار الكتب المصرية) روى الخبر، ليس فيه إدانة العمر، ولفظه : «إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلی الله علیه و آله وسلم رحمة، ولم يبعثه عذابا الى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده ، فقبضه اليه، وترك نهرا شربهم فيه سواء ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل على عمل صاحبه، فلما ولي عثمان اشتق من ذلك النهر نهرا ثم ولي معاوية فشق منه الانهار، ثمّ لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان، حتى أفضى الأمر اليّ وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروى اصحاب النهر حتى يعود اليهم النهر الأعظم الى ما كان عليه». [أقول] والذي يبدو لي أن رواية ابي نعيم أصح، لأنها تنفق والواقع الذي كان عليه بكر من المساواة بين الناس في العطاء، على نحو ما كان عليه الحال ايام النبي أما . عمر أول من فاضل في العطاء، فكيف يكون عمل على عمل صاحبه ؟ كما روى أبو الفرج سوى سائر مخالفاته في جملة من الأحكام.
2- الدرّة الثمينة لابن النجار، المطبوعة مع شفاء الغرام للفاسي، ص 339، حلية الأولياء 180/2 .

ولنرجع إلى حديثنا عن المسجد النبوي الشريف الذي طالته يد الأمويين بما أحدثوا فيه من التغيير الذي سلبه قدسيته، حتى استنكره أبان بن عثمان بن عفان، وهو من البيت الأموي الحاكم وغير متَّهم عليهم في رأيه، فقد سأله الوليد بن عبد الملك - الذي قلنا إنه أول من زخرف المساجد، وقال صاحب عون المعبود كلمته التى جرَّتنا إلى ما قلناه : (وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفاً من الفتنة) - قال له الوليد : أين بنياننا من بنيانكم؟ فقال أبان : بنيناه بناء المساجد، وبنيتموه بناء الكنائس (1) .

وأخرج ابن زنجويه في كتابه (الأموال 579/2) عن أبي بكر بن حزم أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه : أما بعد فإنه قد بلغني أن أساطين المسجد قد خُلَّقت وأجمرت، فإن المساكين أحوج إليه من الأساطين (2).

فظهر من جميع ما تقدّم أن المسجد النبوي الشريف كانت أرضه مفروشة بالبطحاء، ويصلي عليها المسلمون ويسجدون على التراب والحصباء كما تقدم ذلك في قول الغزالي في الإحياء : (فقد كان الأولون قلما يجعلون بينهم وبين التراب حاجزاً).

وبقيت كذلك أرض المسجد حتى سنة 131 أو 132 ه-، حيث كانت كسوة الكعبة الشريفة يؤتى بها من طريق المدينة فتنشر على الرضراض في المسجد النبوي الشريف، ثم يخرج بها إلى مكة المكرّمة (3)، وهذا كان بعد وفاة آخر التابعين بأكثر من عشرين سنة.

إذن أين هي تلك الطنافس التي أشار إليها ابن المسيب وابن سيرين وأن الصلاة عليها محدَثة؟

ص: 225


1- نفس المصدر الأول، ص 374 .
2- الأموال 579/2 .
3- التحفة اللطيفة للسخاوي 376/1 .

والجواب بكل بساطة : كانت الطنافس تستعمل في الصلاة بصورة شخصية - فيما أرى - من قبل المترفين المتكبّرين، ممن يأنفون عن السجود الله تعالى على الأرض ، اتقاء التلوث بالتراب والحصباء، فيحملونها معهم أو يحملها لهم غلمانهم، كما ستقرأ شيئاً عن ذلك فيما سيأتي من الكلام.

نُبذة عن السجادة

لقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية مقال المستشرق فنسنك حول السجادة، استعرض فيه ما ورد حولها في الحديث واللغة والتاريخ، وهو مقال ممتع، على أنه لا يخلو من ملاحظات سنشير إلى بعضها، رأينا أن ننقل منه ما يوضح لنا كيفية استحداثها، ونضيف إليه ما فاته الاطلاع عليه.

وإليك نص ما قاله :

(سَجادة) والجمع (سجاجد وسجاجيد) : هي الطنفسة تؤدَّى عليها الصلاة، ولم ترد هذه الكلمة لا في القرآن ولا في الأحاديث الصحاح، على أنها عُرفت من حيث مدلولها منذ عهد جِدُّ متقدم، كما يستدل من الأحاديث التي سنبادر بذكرها، فقد ورد في الحديث في كثير من الأحيان كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أدّوا الصلاة على أديم مسجد المدينة، بعد أن نزلت شآبيب من المطر، فظهر أثر الطين على أنوفهم وجباههم. (انظر مثلا البخاري : كتاب الأذان، باب 135، 151. مسلم : كتاب الصيام الأحاديث 214 - 216 ، 228 وما بعده).

ويتضح من ذلك أن استعمال السجاجيد لم يكن قد شاع شيوعاً كبيراً في الوقت الذي نشأت فيه هذه الأحاديث، مما حمل الناس على أن يرجعوا أصلها إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1) ، ويمكننا أن نقارن ذلك بما نُسب إلى النبي

ص: 226


1- سبق أن ذكرنا أنه لم يكن أحد من المسلمين على عهده صلی الله علیه و آله وسلم قد استعمل السجادة بمعنى الطنفسة، فضلا عن شيوع استعمالها، ففي التعبير مسامحة ظاهرة، كما فيه منافاة لما سبق منه أن النبي الله صلی الله علیه و آله وسلم وأصحابه كانوا يؤدون الصلاة على أديم مسجد المدينة... الخ، ولعل مراده كما سياتي هي الخمرة والبساط بمعنى الحصير.

صلى الله عليه وآله وسلم في جملة أحاديث، من قول بأنه امتاز على سائر النبيّين بأن الأرض جُعلت له مسجداً وطهوراً ، (انظر البخاري مثلا : كتاب التيمم، باب 1 كتاب الصلاة، باب 56 وما بعدها) (1) ، ويروي الترمذي أيضاً (كتاب الصلاة، باب 130) أن بعض الفقهاء يؤثرون الصلاة على أديم الأرض ، كما أن أهل الطبقات الدنيا في مصر ومراكش لا يستخدمون هذه البسُط قط في صلاتهم.

وتزودنا الأحاديث الصحاح بالصورة التالية : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي الصلاة على ثوبه، ويحمي ذراعيه من شدة الحر في مكان السجود بكّمه، ويسجد على العمامة والقلنسوة (2) (البخاري : كتاب الصلاة، باب 22-23. مسلم : كتاب المساجد، حديث 191، أحمد بن حنبل : المسند ج 320/1)، ويعلق : النووي على الفقرة من الحديث المنقولة عن مسلم بأنه لا يجوز في رأي الشافعي أن يسجد المرء على الثوب الذي يرتديه.

ويرى البخاري (كتاب الصلاة، باب 22) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤدي الصلاة على فراشه (3) ، وجاء في الحديث أيضاً أن الصلاة كانت تؤدَّى على البُسُط (انظر مثلاً الترمذي : كتاب الصلاة، باب 131)، حيث ورد ذكر البساط، وكذلك ابن ماجة كتاب إقامة الصلوات، باب 63، أحمد بن حنبل : ج 232/1-372 ج 160/3 ، 171، 184 ، 212)، ويلاحظ في الحديث الأخير أن هذا البساط كان

ص: 227


1- لقد مرّت مصادر الحديث ووجه الدلالة فيه في المقام الثاني في أدلة وجوب السجود على الأرض.
2- لقد مرَّ بنا بحث عدم جواز السجود على كور العمامة في المسألة الثالثة في المقام الثاني، وأنه لم يثبت في شيء من الأحاديث الصحيحة، فراجع.
3- لقد مرّ في المسألة الثانية في السجود على الحصير، أن فراشه كان من أدم حشوه ليف، ومرّ في المسألة الأولى أن سجوده كان على الخُمرة، فإن صح حديث البخاري فهو كان يؤدي الصلاة في فراشه ويسجد على الخمرة.

يُصنع من (جريد النخل)، ويضيف الترمذي : أن معظم الفقهاء يجوّزون الصلاة على الطنفسة أو البساط، وكان ثمة بساط من هذا القبيل مصنوع من جريد النخل تؤدَّى عليه الصلاة، وكان يعرف باسم الحصير (انظر مثلاً : البخاري : كتاب الصلاة، باب 20، أحمد بن حنبل ج 3، ص 52، 59، 130 وما بعدها 145، 149، 164، 179، 184 وما بعدها 190، 226، 291). وقد ورد هذا الحديث أيضاً في مسلم (كتاب المساجد ، حديث 266)، وعلّق النووي عليه قائلاً : إن الفقهاء عامة يصرّحون بأن الصلاة يجوز أن تؤدَّى على أي شيء تنبته الأرض، على أنه يتضح لنا من أبي داود (كتاب الصلاة، باب 91) أن المصلين كانوا يستعملون في نهاية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) الفروة المصبوغة (1) ، ونحن نجد في الوقت نفسه أنه قد تردد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤدي الصلاة على الخ (2) مرة(البخاري : كتاب الصلاة، باب 21) .

وذكر مصادر ذلك وقد مرَّت بنا في المسألة الأولى من الناحية الثانية بأوسع مما ذكر، فلا حاجة لإعادتها.

ثم قال : والظاهر أن الخُمرة لم تكن تختلف عن الحصير في المادة، وإنما كانت تختلف عنه في الحجم. ويقول محمد بن عبد الله العلوي في حواشيه على ابن ماجة (كتاب الإقامة باب 63، 64) : إن الخمرة تتسع للسجود فحسب، أما الحصير فكان في طول الرجل. وقد وجدت كلمة (سجادة) بعد الانتهاء من كتب الحديث الصحاح بقرن من الزمان، وبيَّن الجوهري في الصحاح تحت هذه المادة أن السجادة مرادفة للخُمرة(3)، واستشهد دوزي بفقرات من كتاب ألف ليلة وليلة، وعن ابن بطوطة ذكر

ص: 228


1- لقد مر فى المسألة الثانية من الناحية الثانية (السجود على الحصير)، وأنه لم يصح حديث الفروة المدبوغة سنداً كما لم يصح دلالة .
2- مر في المسألة الأولى من الناحية الثانية بحث (السجود على الخُمرة ) ، فراجع.
3- الصحاح 481/1 .

أنه كان من بين عادات أهل زاوية من الزوايا في القاهرة أن يشخصوا جميعاً إلى المسجد لأداء فريضة الجمعة، حيث يكون خادم كل منهم قد أعدَّ له سجادته للصلاة عليها (ابن بطوطة، طبعة باريس ج 73/1 وبخاصة 72)، (1) وقد ذكر لنا هذا الرحالة شيئاً من قبيل ذلك في كلامه عن مالي، فقد كان كل واحد من أهلها يبعث بخادمه حاملاً سجادته إلى المسجد ليضعها في المكان الذي درج على الصلاة فيه. ويضيف ابن بطوطة : إن هذه السجاجيد كانت تصنع من جريد النخل ( ج 4 ص 422) (2) ، وكان كل رجل من أهل مكة في العصر الحديث يؤدي الصلاة في المسجد الجامع على سجادة، هي في العادة طنفسة صغيرة لا تتسع إلا للسجود حسب، فإذا فرغ من الصلاة طواها وحملها على كتفه.

ويعتقد العامة أنه ليس من المستصوب أن تترك السجادة من غير طي خشية أن ينتهز الشيطان الفرصة فيصلي عليها، أما متيسّر و الحال فكان خادم المسجد يحفظها لهم، على أن هذه العادة نفسها لم يكن يتبعها جميعهم بحال من الأحوال...(3) .

ثم ذكر كلاماً حول صنع السجادة، والبلاد التي تُستورد منها، وبعضها من أوربا، ثم ذكر عادات وتقاليد حول السجادة عند بعض أهل البلدان وعند المتصوفة إلى غير ذلك.

وهذا الذي ورد في دائرة المعارف الإسلامية حول السجادة، وإن لم يأتنا بشي جديد عما سبقت معرفته والإشارة إليه بتفصيل أوفى في مسائل متعددة عن مراحل استعمال السجادة - بمعنى ما يسجد عليه المصلي - وأنها كانت من أديم الأرض وهذا ما تقدم منا بيانه مفصلاً في مسألة وجوب السجود على الأرض، في المقام الثاني من الناحية الأولى، وأنها كانت أيضاً على ما أنبتت الأرض، وهذا أيضاً تقدّم

ص: 229


1- رحلة ابن بطوطة 20/1 ، ويبدو أن نقل صاحب المقالة كان بالمعنى وإلا فالعبارة في المصدر ليست كذلك، فراجع .
2- نفس المصدر 200/2 ، وفيه : وسجاداتهم من سعف شجر يشبه النخل ولا ثمر له.
3- دائرة المعارف الإسلامية 275/11 .

بيانه مفصلاً في الناحية الثانية بمسائلها الأربع، في السجود على الخمرة، وعلى الحصير، وعلى البساط، وعلى الطنفسة.

وبينّا هناك ما يصح السجود عليه مما أنبتت الأرض وما لا يصح إذا كان مأكولاً أو ملبوساً على خلاف بين الفقهاء في ذلك، وقد نبّهت في الهامش على بعض الملاحظات التي وردت في المقال المذكور ، وإنما أوردته لأنه ذكر أمراً رأيت لزاماً عليّ أن ألفت نظر القارئ إلى ذلك الأمر، وهو ذو أهمية بالغة، وفيما سأذكره تنبيه وتحذير للمسلم المصلى من دسائس أعداء الدين، خصوصاً من الصليبيين واليهود ، ممن لا تزال نيران أحقادهم على المسلمين تحرق الأخضر واليابس، فليقرأ المسلم المصلي هذا بإمعان وتدبّر، ليكون على بصيرة في دينه عند التعامل مع الملل الكافرة، التي آلت على نفسها أن تتبنَّى كل باطل من الآراء الفكرية، ومنها العقائدية. ففي مجال ما وراء الطبيعة وفي مجال الأخلاق وفي مجال العمل تجد لهم دسائس إفساد ولو من طرف خفي، وهم الذين قالوا {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ (1)

تنبيه وتحذير :

مما ينبغي التنبّه له والتنبيه عليه في هذا المقام - وهو الحديث عن السجادة - ما ورد في المقال المذكور المشار إليه آنفاً، فقد جاء : ويجلب الحجَّاج من مكة في بعض الأحيان سجاجيد تماثل تلك التي وصفها الأستاذ سنوك جرونيه، وكثيراً ما تُستورد هذه السجاجيد من أوربا في الوقت الحاضر، والظاهر أن الحجَّاج لا يعلّقون عليها أي اهتمام خاص بها... الخ .

ثم جاء : ويقول لين : إن السجاجيد تستوردها مصر من آسيا الصغرى ، ويستعملها أهل اليسار فيها لتأدية الصلاة عليها، كما يتَّخذونها غطاء للسروج أيضاً،

ص: 230


1- سورة آل عمران الآية 75 .

وتكاد مساحتها تبلغ مساحة الطنافس التي تؤثث في البيوت، ويصوَّر على كل سجادة محراب يتجه رأسه شطر القبلة. أما أهل الطبقة الدنيا في مصر فيؤدون الصلاة في كثير من الأحيان على أديم الأرض، وقلّما يبادرون إلى مسح الغبار الذي يعلق بأنوفهم وجباههم من أثر السجود...

أقول : فلينتبه القارئ إلى قوله : فيجلب الحجَّاج من مكة... إلى قوله : وكثيراً ما تُستورد هذه السجاجيد من أوربا في الوقت الحاضر.

ثم ليتنبَّه إلى قوله بعده : والظاهر أن الحجاج لا يعلِّقون عليها أيّ اهتمام خاص بها. فماذا يعني ذلك؟

فهل أن الحجاج لا يعلّقون على تلك السجاجيد أي اهتمام خاص بها، باعتبار أنها مستوردة من أوربا، وأوربا مسيحية وهي بلاد كافرة؟ وهذا في نفسه محتمل.

أم ثَمة أمر هو أعمق من ذلك، ووراء استيرادها من أوربا الكافرة، فعبّر عنه بخبث ودهاء، وذلك إشارة إلى ما على تلك السجاجيد من التصاوير، من محاريب وتماثيل، فصانعوها واعون وهادفون، والمسلمون يصلون عليها بما فيها وهم عن ذلك ساهون غافلون، لذلك قال : والظاهر أن الحجاج لا يعلقون عليها أيّ اهتمام خاص بها.

ولو لم يكن ذلك كذلك، لما كان معنى لقوله : ويجلب الحجاج من مكة في بعض الأحيان سجاجيد... وهذا دليل اهتمامهم بتلك السجاجيد، ثم يقول : والظاهر أن الحجاج لا يعلقون عليها أي اهتمام خاص بها فأي اهتمام أكثر من جلبهم لها من مكة إلى بلادهم كهدايا تذكارية لحجّهم.

والآن لننظر ماذا على تلك السجاجيد من محاريب وتماثيل؟

صليبية إلى الأبد

إن أوربا الصليبية ومعها اليهودية وكل القوى الكافرة الشريرة لم تزل ومازالت

ص: 231

ولن تزال، كادت وتكيد للمسلمين بكل ما تملكه من وسائل الحول والطول وفي شتى مجالات الحياة.

ونظرة في التاريخ القديم والحديث تجد الشواهد أكثر من أن يعدَّها بنان أو استبيان، أو يحيط بها إنسان. ويكفي الإشارة إلى نافذة واحدة تطل على ذلك التاريخ المأساوي، وهي مطالعة كتاب (صليبية إلى الأبد) للأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، ففيه شواهد على ما قلناه وليس فيه كل ما قرأناه عن جرائم الصليبية ومكائدهم فعرفناه.

وإلى القارئ بعض الشواهد الحيّة الماثلة للعيان، ويمكن ملاحظتها لكل إنسان، الوضوح الرؤية في تدخل الصليبية حتى في عبادات المسلمين دون أن يشعروا.

فمثلاً : انظر إلى الساعات التي قلّ إنسان ليست عنده ساعة يحملها، ولينظر إلى شارة الصليب على الكثير منها، خصوصاً الجيبية منها، فيحملها المسلم في جيبه الأعلى على صدره، فهو يحمل شارة الصليب وهو لا يشعر بذلك، لكن المسيحية استشعرت ذلك، فأثبتت وجودها بصليبها على صدر المسلم من خلال حمله الساعات (أم الصليب) ، وقد عُرفت بهذا الاسم عندنا في العراق منذ زمان، وأكثر من ذلك وأنكى أنها كانت تمتاز بجودتها في الدقة، فكان الناس يتهافتون على اقتنائها، دون أن يعلّقوا أي اهتمام على ما فيها لغفلتهم عن ذلك، شأنهم في ذلك شأنهم مع السجاجيد التي يحملونها معهم من مكة، فهم أيضاً لم يعلقوا أيّ اهتمام خاص بها، لا لأنها مستوردة من أوربا فقط، بل وحتى من آسيا الصغرى أو من أي بلاد العالم، ولا لما عليها من محاريب وتماثيل، وإن كان ذلك يستدعي الاهتمام والاحتياط في تدقيق النظر شكلاً ومضموناً.

بل لما جاء على بعضها من صورة الصليب بأجلى صوره، فقد مثَّله الصليبيون بنحو ما أشار إليه في المقال من تصويرهم على كل سجادة محراباً يتجه رأسه إلى القبلة.

ص: 232

وبهذه الطريقة الخبيئة صوّروا للمسلمين ما يشاؤون من محاريب وتماثيل هم لها عابدون ، وقد أهداني بعض الحجاج العائدين من الحج منذ أكثر من عشرين عاماً سجادة، حملها وأمثالها هدايا لإخوانه، جاء بها من مكة المكرمة، فرأيت صورة الصليب واضحة المعالم، تشغل حيزاً كبيراً من السجادة، يكاد يستوفي في طوله وعرضه مربض الإنسان في سجوده، ولا أزال أحتفظ بها لإثبات المدّعى.

وتوجد عند صديق عزيز سجادة أرانيها فيها ثلاث مزخرفات وسطية، في كل واحدة منها نقش الصليب المعقوف، مما يدل على مصدر صناعتها الألمانية، لأن الصليب المعقوف كان شعارهم أيام هتلر والنازية.

فبهذه الطريقة الخبيثة غزت الصليبية المسلمين في عقر دارهم، وفي أقدس أماكن عباداتهم، وعلى أفضل ما يتقرَّبون به إلى الله تعالى في صلواتهم، فهم يصلّون على تلك السجاجيد - الطنافس - ويسجدون على الصليب - ولا أقول للصليب - دون أن يعرفوا مغبة فعلهم ذلك، ومَن غزاهم في عباداتهم وهم في أقدس ديارهم؟! وقد يستغرب القارئ إذا أخبرته أن الصليبية استخدمت هذه الوسيلة منذ قرنين بل أكثر، ولم ينتبّه المسلمون إلى خطرها فيقاطعوها، ولا أقل من رفض تلك البضائع التي هي مدعاة للدمار الروحي والمادي.

والآن إليك ما ذكره السيد مرتضى الزبيدي (المتوفى سنة 1205 ه-) صاحب كتاب «تاج العروس بشرح القاموس» الذي اشتهر به وبكتابه الآخر «إتحاف المتقين بشرح إحياء علوم الدين» ، فقد ذكر في كتابه الإتحاف ما يلي:

والسبب السابع : أن يحترز من الصلاة على الفرش المصبوغة بالألوان المفرحة، فإنها تلهي المصلي عن الحضور، ويلتفت إلى حسن لونه وصنعته، وقد بُلينا بالصلاة على هذه البُسُط الرومية والزرابي المزخرفة في المساجد والبيوت، حتى صار المصلي على غيرها كاد أن يُعد جافياً، قليل الأدب ناقص المروءة، ولا حول

ص: 233

ولا قوة إلا بالله.

وما أظن ذلك إلا من جملة دسائس الإفرنج لعنهم الله تعالى، التي أدخلوها على المسلمين وهم غافلون عنها، لا يدرون عن ذلك. وأغرب من ذلك أني رأيت بساطاً في مسجد من المساجد عليه نقش، وفي داخل النقش صورة الصليب، فازداد تعجبي من ذلك، وتيقَّنت أنه من دسائس النصارى، والله أعلم (1).

هكذا تيقّن المرتضى الزبيدي بعد أن رأى صورة الصليب داخل النقش على البساط في المسجد، لكنه لم يفصح عمّن فتح الباب أمام الصليبية حتى أدخلت صليبها إلى مساجد المسلمين، أما أنا فأقول بصراحة تامة : إنهم بنو أمية! وإنهم أول من أحدث الصلاة على الطنافس في الإسلام، وذلك كان في عصر أواخر الصحابة و التابعين، ولولا ذلك لما كان معنى لاستنكار أنس بن مالك، فهو ينعى على مَن صلى على الطنفسة ويقول : «وما حملت معي طنفسة» ، وكذلك استنكار ابن المسيّب وابن سيرين حين قالا : الصلاة على الطنافس محدَثة.

وقد مرّ أنهما عاشا في أيام الأمويين الذين أفرغوا الصلاة - بل كثيراً من أحكام الإسلام - من مضمونها العبادي إلى مجرد طقوس شكلية، يؤدّونها رياءاً وسمعة، بل وزادوا محدَثات ما أنزل الله بها من سلطان، لأنهم لم يؤمنوا بالإسلام كَدِين، بل أظهروا كلمة الإسلام ليحكموا بها المسلمين.

وما أكثر الشواهد على ذلك، فاقرأ ما قاله معاوية رأس الحكومة الأموية الذي لم يدخل الإسلام قلبه، بل أظهر كلمة الإسلام بعد فتح مكة عام ثمان للهجرة ليحقن بها دمه، وهو يحمل في نفسه الحقد والكراهية للدين ونبيّه، وعاش والرواسب الجاهلية مل جوانحه يتحيَّن الفرصة للوقيعة به.

فيقول في حديثه مع المغيرة بن شعبة كما في الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار،

ص: 234


1- إتحاف المتقين بشرح إحياء علوم الدين 201/3 .

وشرح النهج المعتزلي، ومروج الذهب : وإن أخا هاشم يُصرَخ به في كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى مع هذا، لا أم لك، والله إلا دفناً دفنا (1) .

ويقول في خطبته المسلمين في النخيلة بعد دخوله الكوفة، على إثر الصلح الذي جرى بينه وبين الإمام الحسن سيّد شباب أهل الجنة علیه السلام: ما قاتلتكم لتصوموا ولا التصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمرّ عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون (2). ويقول...ويقول.

ولو تصفّحت التاريخ الذي سجّلته أقلام السلف، مما لا ينكره الخلَف، لرأيت عند الأمويين المزيد من الصلَف، فضلاً عن الترف والسرَف.

فالسيوطي مثلا يقول في كتابه الوسائل إلى معرفة الأوائل : أول من أحدث الأذان

في العيدين معاوية وبنو مروان (3).

وقال في ص 12: أول من أمر المؤذن أن يشعره ويناديه : « السلام عليك يا أمير المؤمنين، الصلاة يرحمك الله» معاوية.

وقال في ص 14: أول من اتخذ المقصورة عثمان وأول من أحدث المحراب المجوف عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد النبوي الشريف.

وقال في ص 15: أول من نقص التكبير معاوية.

وقال في ص 18: أول من خطب جالساً على المنبر معاوية.

وقال في ص 19: أول من أخرج المنبر في العيد مروان.

وقال في ص28: أول من جعل مُديَّن من حنطة عِدل صاع من تمر في زكاة الفطر عثمان، أخرجه ابن أبي شيبة.

ص: 235


1- الأخبار الموفقيات، ص 576، شرح نهج البلاغة 537/2، مروج الذهب 41/4.
2- البداية والنهاية 134/8 .
3- الوسائل إلى معرفة الأوائل، ص 9، 19.

وقال في ص 32: أول من ركب عند رمي الجمار ذاهباً وراجعاً معاوية، وكان الناس يمشون .

وقال في ص 38: أول من خطب بمكة على منبرٍ معاوية، قَدِم به من الشام.

وجاء في كتاب التحفة اللطيفة للسخاوي أن معاوية في سنة 50 من الهجرة، رامَ نقل المنبر النبوي إلى الشام، محتجاً بأن عثمان قُتل بالمدينة بمواطاة أهلها، فلما حُرّك المنبر كسفت الشمس بحيث رؤيت النجوم نهاراً باديةً، فتركه .

ثم رامَ عبد الملك بن مروان نقله فذكّره بعض جلسائه بما تقدم فكفّ. ثم همّ ابنه الوليد بذلك فحُذّر منه فترك، ثم إن سليمان بن عبد الملك قيل له فيما وقع من أبيه وأخيه، فقال : مالنا وهذا، أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه فنحمله، هذا ما لا يصلح، والمعجزة فوق هذا (1).

وقال ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم : فلما كان زمن عبد الملك وجرى بنيه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى، كان هو الذي بنى القبّة على الصخرة، فعظُم شأن الصخرة بما بناه عليها، وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف، ليكثر قصد الناس للبيت المقدس، فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير، والناس على دين ملوكهم (2) .

إلى غير ذلك مما لا يسع المقام ذكره .

وهذا ونحوه الذي حدا بإمام من أئمة السلفيّة وهو ابن تيمية، أن يفضّل بني العباس على بني أمية، إذ قال في كتابه نقض المنطق : وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهداً للصلوات في أوقاتها من بني أمية، فإن أولئك كانوا كثيري الإضاعة لمواقيت الصلاة كما جاءت فيهم الأحاديث «سيكون بعدي أمراء يؤخّرون الصلاة

ص: 236


1- التحفة اللطيفة 63/1 .
2- اقتضاء الصراط المستقيم، ص 435 .

عن وقتها، فصلّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة» (1) .

وحذا حذوه تلميذه ابن القيم، فقال في كتابه زاد المعاد في معرض حديثه عن هدي الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم في القيام والقعود في صلاته : قال شيخنا - ویرید به ابن تيمية - : وتقصير هذين الركنين مما تصرّف فيه أمراء بني أمية في الصلاة، وأحدثوا فيها، كما أحدثوا فيها ترك إتمام التكبير ، وكما أحدثوا التأخير الشديد، وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه صلى الله عليه وآله وسلم، ورُبِّي في ذلك من رُبِّي حتى ظُن أنه السنة (2). ومثل ذلك أيضاً حدا بابن حزم، فقال في المحلى : وقد عمل ملوك بني أمية بإسقاط التكبير في الصلاة، وبتقديم الخطبة على صلاة العيدين، حتى فشا فشا ذلك في الأرض، فصح أنه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).

وعلى ذلك نهَج غير واحد من أعلام الفكر الإسلامي من قدامى - كما بيّنت - ومحدَثين أمثال الدكتور أحمد أمين الذي قال في كتابه ضحى الإسلام : الحق أن الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً يسوى فيه بين الناس، ويكافئ المحسن عربياً كان أو مولى، ويعاقب المجرم عربياً كان أو مولى، وإنما الحكم فيه عربي والحكّام خدمة العرب، وكانت تسود فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية (4) .

وأكثر من الدكتور أحمد أمين صراحةً وصرامة هو الدكتور علي سامي النشّار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، حيث قال : ومهما قيل في معاوية، ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر وبعض أهل السنة من وضعه في نَسَق صحابة رسول الله، فإن الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام، ولقد كان يطلق نفئاته على الإسلام

ص: 237


1- نقض المنطق، ص 19.
2- زاد المعاد 56/1 .
3- المحلى 55/1.
4- ضحى الإسلام 27/1 .

كثيراً، ولكنه لم يكن ليستطيع أكثر من هذا (1) .

وقال في مقام آخر من كتابه وهو يتحدث عن سَمّ معاوية للحسن الزكية علیه السلام ريحانة الرسول وسيد شباب أهل الجنة : ولستُ أبرّئ معاوية، فلم يكن الرجل أبداً مسلماً تام الإسلام، كان جاهلياً بمعنى الكلمة، وكان على استعداد لارتكاب كل موبقة في سبيل ولده يزيد (2) .

وقال في مقام ثالث : وحين تولَّت هذه الأسرة الأموية الحكم أظهرت نفثاتها المسمومة على الإسلام كدين فى أكثر الأحايين (3) .

أقول : وثمة أقوال الآخرين ليست دون أقوال الدكتور النشّار، مثل قول الدكتور محمد يوسف موسى فى كتابه «الإسلام وحاجة الإنسانية إليه» ، فهو يذكر جماعة ممن استنكروا قبائح أفعال الأمويين ومستحدثاتهم في الدين، فيقول : ومن هذه الصفوة كان سعيد بن المسيب المتوفى سنة 93 ه-، فقد راعه - وهذا مثال آخر لإهمال الأمويين الأخذ أحياناً بالسنة - أن معاوية أيضاً قد استلحق زياد بن أبيه، مقراً بأخوّته له، نازعاً في هذا إلى عُزف الجاهلية، ومستجيباً لعوامل سياسية، على حين أن الشريعة لا تبيح ذلك، وفي هذا كان سعيد بن المسيب يقول : قاتل الله فلاناً - يريد به معاوية - كان أول من غيّر قضاء الرسول، وقد قال : الولد للفراش وللعاهر الحجَر، يريد الرجم بالأحجار (4).

وفي أيام الأمويين لقي الصليبيون فسحة في القول والعمل لبث سمومهم في المجتمع الإسلامي، لأن الأمويين قربوهم كمستشارين، بدءاً من أيام معاوية حين كان المستشار عنده سرجون بن منصور الرومي، الذي كان مستشاره المالي بل والسياسي كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه « أبو حنيفة »، فقد قال : ولقد

ص: 238


1- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 19/1 .
2- المصدر السابق 46/1 .
3- المصدر السابق 198/1 .
4- الإسلام وحاجة الإنسانية إليه، ص 180 .

كان ذلك الدّس الخفي لتشكيك المسلمين وتفريق آرائهم وإثارة المنازعات الفكرية بينهم له مظاهره الواقعة التي لاشك في دلالتها على أن أفكاراً غريبة عن الإسلام والمسلمين تذاع بينهم لتثير جدلهم...، ولقد وجدنا في تاريخ بعض المسيحيين - وهو يوحنا الدمشقي - الذي كان في خدمة الأمويين إلى عهد هشام بن عبد الملك، ما يدل على أنه كان يعلّم المسيحيين، فيجادلون به المسلمين في شأن دينهم... ثم يلقنهم ما يُعد نقداً لمبادئ الإسلام، فيتكلم في تعدد الزوجات، وفي الطلاق، وفي المحلِّل ، ثم يثير بينهم أكاذيب حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيخترع قصة عشق النبي لزينب بنت جحش.... وهكذا، ثم يذكر أن تقديس الحجَر الأسود كتقديس الصليب، وهكذا... (1)

ولم يكتفِ الشيخ أبو زهرة بذلك، بل كرَّر مثل ذلك في كتابه « أحمد ابن حنبل » ، فقال : وليعلم أن يوحنا الدمشقي المشار إليه آنفاً هو القدّيس يوحنا، من أحفاد سرجون بن منصور المستشار المالي، بل السياسي لمعاوية، تولى أبناؤه المناصب المالية والإدارية في عهد الأمويين، واستمروا حتى عهد الوليد بن عبد الملك (2) .

وقد شكر أحفاد الصليبيين لحكام الأمويين تلك المواقف، فصرنا نقرأ في كتب مبشِّريهم امتداح الأمويين بشكل ملفت للنظر، وخذ مثالاً على ذلك الأب لامانس اليسوعي، وهذا القس أكل الحقد قلبه حينما رأى الإسلام ينتشر في جميع أرجاء بقاع العالم، ويبسط جناحيه على قارات آسيا وأفريقيا وأوربا، فيضيق صدر ذلك القس، فيسخط على القدر نفسه، ويقول : لماذا جاء القرآن فجأة ليقضي على التأثير الطفيف الذي كان الإنجيل قد أخذ يحدثه في ابن البادية (3).

ص: 239


1- أبو حنيفة، ص 84.
2- أحمد بن حنبل، ص 63-64، راجع المنجد في الأعلام، ص 353.
3- عن كتاب الإسلام ومشكلات السياسة، ص 353 .

وقال الأستاذ صابر طعيمة في كتابه الإسلام ومشكلات السياسة : وأخذ لامانس ينقص من حقوق أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وفاطمة وعائشة وحفصة وغيرهم من أوائل المسلمين، أما إذا تحدث عن أعداء الإسلام : كأبي جهل وأبي لهب الدّ أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما إذا تحدث عن المنافقين خونة الإسلام، أما إذا تحدث عن يزيد قاتل الحسين، أو عن بني أمية على وجه العموم، فيشيد ما شاء له هواه ويمدح ما أمكنه المدح، ويطري كلما أتيح الإطراء، ويلبسهم من الفضيلة ثوباً لامعاً خلاباً، ولقد بلغت به الحماسة في كتابته عن بني أمية حداً أثار نفور المسيو (كازنوفا) الأستاذ في - كليج دي فرانس - فقال : كانت نفسية الأمويين فى مجموعهم مركَّبة من الطمع في الغنى إلى حد الجشع، ومن حب الفتح من أجل النهب، ومن الحرص على السلطان من أجل التمتع بملذات الدنيا، لذلك يحق لنا أن نعجب أشد العجب من كاهن كاثوليكي مثل الأب لامانس يتطوع للدفاع عن أولئك الغاصبين الطغاة، ساخراً في سذاجة من الذين مكروا به وخدعوه.

وإنها لغريبة حقاً هذه المباحث الذي يبدي فيها المؤلف المطلع على تأريخ ذلك العصر اطلاعاً حرياً بالإعجاب تشيّعه للأمويين ضد بني هاشم، والتي تتوالى فيها المرافعات الدفاعية، والاتهامات الادعائية آخذاً بعضها برقاب بعض...(1)

أقول : لا غرابة ما دمنا نؤمن بأن الصليبيين والأمويين تعاونوا على هدم الإسلام ، وتلك سمة الأمويين أولاً وآخراً.

ألم يقل ذلك الأنصاري للأموي وقد فاخره بأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لما توفي كان من عمّاله من بني أمية فلان وفلان... فقال الأنصاري : صدقت، ولكنهم حالفوا أهل الردة على هدم الإسلام... فكأنما ألقمه حجراً (2).

ألم ينقل صاحب تفسير المنار في تفسيره (260/11 الطبعة الرابعة بمصر) أن

ص: 240


1- المصدر السابق، ص 356 .
2- راجع ربيع الأبرار للزمخشري 708/1 .

أحد كبار الألمان فى الأستانة قال لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة : انه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا (برلين). قيل له : لماذا ؟ قال : لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية، الى عصبية الغلبة، ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كله، ولكُنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوربة عرباً مسلمين.

وما أكثر الشواهد على التغلغل الصليبي في المجتمع الإسلامي عن طريق الأمويين، فمنهم مستشارون كسرجون وأحفاده، ومنهم شعراء كالأخطل وأنداده، ومنهم حريم سلطاني، سواء عن طريق المصاهرة مع قبائل نصرانية، مثل الكلبيين الذين تزوج منهم عثمان نائلة بنت الفرافصة، وميسون بنت بجدل الكلبية تزوجها معاوية، وسعيد بن العاص والي الكوفة تزوج منهم أيضاً (1) أو عن طريق السراري والإماء...

فالأمويون هم الذين فسحوا المجال لتدس الصليبية أنفها في كثير من عبادات وعادات المسلمين. ومن ذلك كان ما نراه اليوم من رسم الصليب على بعض سجاجيد الصلاة عند المسلمين، كما مرّ آنفاً بيان ذلك.

وما دامت السجادة و (الطنفسة) محدَثة كما يقول ابن سيرين وابن المسيب، وما دامت السجادة (الطنفسة) دخلتها نقوش وألوان صارخة، صارفة عن التوجّه إلى مح العبادة، لانشغال المصلي عليها بالنظر إلى ما عليها، وما دامت الصلاة عبادة، والعبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى ومن أهم آيات الصلاة حالة السجود، والعبد أقرب ما يكون إلى الله تعالى وهو ساجد، أفلا ينبغي بالمسلمين وولاة أمورهم ممن يتبارون ويتباهون بتشييد المساجد وزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى، وقد مرّ التحذير منها في حديث ابن عباس ألأ يفرشونها بتلك الزرابي المبثوثة المزخرفة

ص: 241


1- معاوية في الميزان ضمن موسوعة العقاد 550/3 .

التي رأينا وسمعنا أن على بعضها صورة الصليب، وأقلاً من باب سد الذرائع ودرءاً للمفسدة كما يقولون به فليتخذوا لها الفرش الخالية من النقوش والصلبان الصارفة للمصلي عن التوجه إلى الصلاة، وما دام أنهم قد أبوا ذلك عملاً، ودأبوا على الصلاة عليها، فلا يحق لهم التجاوز على غيرهم ممن أبى الصلاة عليها، فيرون فيه ما قاله الزبيدي آنفاً : (حتى صار المصلي على غيرها كاد أن يُعد جافياً، قليل الأدب، ناقص المروءة، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، أو يرمونه بالشرك أو السجود لغير الله كما يفعله الجفاة في بعض بلاد المسلمين.

والآن - ولست أقصد أن أغضب إنساناً بعينه أو مذهباً بعينه، بل أقصد بيان الحق وأيم الحق، والحق أحق أن يتبع - أرأيت أن السجود على التربة - وهي التراب الطاهر - هو الأنجى والأسلم، والأهدى والأقوم، لأن فيه اتباعاً لسنة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، حيث كان يسجد على الأرض، كما مرّ بيان ذلك مفصلاً، وكان على هدي سنته أصحابه البررة، والنخبة الخيرة الذين مدحهم الله تعالى في كتابه، وأثنى عليهم في محكم خطابه {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} (1) .

وأما السجود على الطنافس فلا يصح، إذ لم تأتِ به سنَّة نبوية، وقد مرت بنا كلمة أنس بن مالك (وما حملت معه طنفسة)، ما دامت تلك الطنافس ليست أرضاً، ولا مما أنبتت الأرض، ولادعت إليها تلك الضرورة الملّحة كاتقاء البرد أو الحر مثلاً، كما يراه بعض الفقهاء، وقد نهى النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن الصلاة على الثياب كما مرّ في حديث خبّاب وغيره من الأصحاب، حيث شكوا إليه من الحر وذلك قالوا (فلم يشكّنا)، وقد مرّت بنا أوامره لصحابته بالتتريب، ونواهيه عن مسح الحصى والحصباء، وأمره

ص: 242


1- سورة الفتح، الآية 29 .

بتعفير الوجه... وغير ذلك مما أمر به صلی الله علیه و آله وسلم من أحكام وآداب [ فليحذر الذين يخالفون عن أمره]، فلا يصلّوا على الطنافس وليتقوا يوم الحساب.

الساجد والسّجاد

لا شك أن الساجد هو نفس السجّاد، إلا أن السجَّاد وقعت منه استمرارية في عملية السجود ، حتى تبدو على جبهته آثار السجود، فيقال: بين عينيه سجادة. وليس کل ساجد يكون سجّاداً، فالذين يسجدون على الطنافس ولا يسجدون على الأرض ، لا يحدث عندهم أثر في جباههم، فلا ترى في وجوههم من أثر السجود شيئاً يذكر. كما أنه ليس كل مصلّ وساجد على الأرض يكون سجّاداً - بمعنى ظهور أثر السجود عليه - إذا كان ممن يؤدي فرضه، بمجرد الإتيان بالأفعال كمجرد حركة. فليس ذلك هو السجاد، وليس ذلك هو السجود الذي أراده الله تعالى، ويريده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، حين قال لمن طلب منه مرافقته في الجنة : (أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود) كما مر عن صحيح مسلم وغيره.

وقال صلی الله علیه و آله وسلم: (عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطّ عنك بها خطيئة) كما في صحيح مسلم.

فإذن المراد بالسجود ليس هو مجرد الحركة في أداء الفرائض فقط، بل هو كثرة تلك الحركة بكثرة الصلاة وغيرها، مع التوجه إلى المعنى العميق في فعل السجود من التطامن والتذلّل، والخضوع والخشوع، فذلك السجود الذي يكون فيه العبد أقرب إلى ربه، كما مر عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم: أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد.

وقد أشار الله تعالى في خطابه إلى نبيه إلى ذلك بقوله [واسجد واقترب]، وإلى هذه الدرجة في القرب منه جل وعلا مدح تعالى عباده الذين قال عنهم {إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} ، ومدحهم بقوله تعالى { يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً

ص: 243

وَقِيَاماً} .

قال أبو إسحاق السبيعي : رأينا أصحاب علي وأصحاب عبد الله يعني - ابن مسعود - وآثار السجود في جباههم وأنا فهم (1) .

فهؤلاء السُّجّد والسجّادون قومٌ حظوا بفضل الله ورحمته، فأدركوا عظمة الجلال الربوبي، وكان منهم أفراد عُرفوا بالسجاد، أشهرهم ممن لا خلاف فيه هو الإمام على بن الحسين علیها السلام، زین العابدين ، فكان يلقب ب- السجّاد

السجّاد

قال الدكتور عبد الحليم محمود الإمام الأكبر وشيخ الأزهر في كتابه «سيدنا زين العابدين» : لقد سُمّي علي بن الحسين علیه السلام ب- السجّاد، لأنه كان من وراء السجود الظاهر ساجداً الله بقلبه وجوارحه وكل كيانه، إنه كان سجوداً إذا أمكن هذا التعبير، وتلقيبه ب- السجّاد إنما هو من أسمى معاني التقدير له (2) .

وما ذكره شيخ الأزهر على وجاهته لم يُعَد وجهاً مقنعاً لتعليل اللقب، والصحيح ما ورد في كتاب كشف الغمة للإربلي عن يوسف بن أسباط، قال : حدثني أبي، قال : دخلت مسجد الكوفة فإذا شابّ يناجي ربّه ويقول : « سجد وجهي متعفراً في التراب لخالقي وحق له» ، فقمت إليه فإذا هو علي بن الحسين علیهم السلام، فلما انفجر الفجر نهضت إليه، فقلت له يا ابن رسول الله تعذّب نفسك وقد فضّلك الله بما فضلك. فبكى ثم قال : وذكر حديثاً عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، قال : كل عين باكية يوم القيامة إلا أربعة أعين : عين بكت من خشية الله، وعين فُقئت في سبيل الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة ساجدة، يباهي بها الله الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي، وجسده في طاعتي، قد جافى بدنه عن المضاجع، يدعوني خوفاً من

ص: 244


1- المصنف لابن أبي شيبة 308/1 .
2- سیدنا زین العابدين ص 69 .

عذابي، وطمعاً في رحمتي، فاشهدوا أنى قد غفرت له (1) .

ولكثرة سجوده سمي بالسجّاد، إذ كان كما قال ابنه أبو جعفر الباقر علیه السلام فيما رواه الصدوق في علل الشرائع، قال: إن أبي علي بن الحسين علیه السلام ما ذكر نعمة الله عليه إلا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عز وجل وفيها سجود إلا سجد، ولا دفع الله عز وجل عنه سوءاً يخشاه أو كيد كائد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد، ولا وُفّق لإصلاح بين اثنين إلا سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فسُمّي السجّاد لذلك (2) .

كما كان يُعرف بذي الثفنات لأنه كما قال ولده الباقر علیه السلام كان لأبي علیه السلام في مواضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطعها في السنة مرتين، في كل مرة خمس ثفنات، فسُمِّي ذا الثفنات لذلك (3) .

وبهذا الاسم ذكره الشاعر دعبل الخزاعي في تائيته العصماء الشهيرة، كما في تاج

العروس للزبيدي (مادة : ثفن) :

مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ *** ومنزلُ وحيّ مقفر العرصاتِ

دیار عليّ والحسين وجعفرٍ *** وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ

وذُكر في بعض كتب التاريخ والأنساب أن علي بن عبد الله بن عباس كان أيضاً يُعرف بالسجَّاد، وذكروا أنه كان مكثراً الصلاة، حتى قيل : إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة (4).

كما ورد في وصف الخارجي عبد الله بن وهب الراسبي أنه كان يُعرف بالسجَّاد، ولا يبعد ذلك، فإن الخوارج الأوائل وُصفوا بأنهم أصحاب الجباه السود، وهو كناية

ص: 245


1- کشف الغمة 294/2 .
2- علل الشرائع، ص 88 .
3- المصدر السابق.
4- المرصّع لابن الأثير، ص 117 ، تاج العروس ( تفن) ، إحياء علوم الدين 149/1.

عن كثرة السجود في صلواتهم، حتى بدت آثارها في مواضع سجودهم؟!

لكنهم كانوا في عباداتهم أصحاب مظهر وليسوا أصحاب جوهر، فهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، أي لا يتعدى إلى قلوبهم، فلا يفقهون منه شيئاً، لذلك كانوا شرّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة كما في الحديث النبوي الشريف (1) .

خلاصة الباب الأول :

اشارة

لقد تبين من جميع مباحث الباب الأول بشتى فصوله ومسائله وخاتمته : أن المتفق عليه بين المسلمين بجميع المذاهب، أن السجود الشرعي المأمور به هو السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس. وهذا ما يفعله الشيعة الإمامية، أما ماعدا ذلك مما لم يكن موضع اتفاق، كالصلاة على الطنافس أو الفرش الأدم كالفروة المدبوغة مثلاً أو بسط الشعر أو الثياب، فكل ذلك ما دام مختلفاً فيه بين الفقهاء، لأنه لم تأتِ به سنَّة نبوية ثابتة صحيحة، فلا بدّ من الاحتياط في ترك السجود عليه، لأن السجود على المتيقن صحة السجود عليه أولى من السجود على المشكوك في صحته.

ولنفترض جدلاً أن المسلمين الذين يصلون على الطنافس يزعمون لأنفسهم جواز ذلك، وغيرهم لا يرى جواز ذلك، فكيف يكون الحكم في المقام؟

لاشك ولا ريب أن الخلاف في مسألة شرعية عندما يتقرر محل النزاع يجب

ص: 246


1- اقرأ ما أخرجه البخاري في صحيحه : کتاب بدء الخلق، باب علامات النبوة في الإسلام عن الخوارج، وما أخرجه النساني في الخصائص، ص 44،43 ، ومسلم في صحيح صحيحه : كتاب الزكاة، باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا وما يبسط منها، وابن جرير الطبري في تفسير . 109/10، وأحمد في مسنده 65،56/3 وفيه : يقتلهم أولى الطائفتين بالله. وأبو داود في سننه في باب قتال الخوارج، وابن ماجة في سننه في باب ذكر الخوارج، والحاكم في مستدركه 145/2 - 148 - 154 وغيرهم وغيرهم.

الرجوع في المقام إلى كتاب الله وسنة نبيه، حيث قال تعالى ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} ، فإن رجعنا إلى كتاب الله تعالى وجدناه يقول: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، وإن رجعنا إلى سنة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وجدناها قد حكمت على المسلمين جميعاً في هذا المقام بمطلوبية السجود على نفس الأرض أو ما أنبتت، كما مرّت مسائل ذلك في المباحث السابقة، وأحكمت ذلك بالبيان القولي والعملي.

ولم يثبت عنه صلی الله علیه و آله وسلم في حديث صحيح جواز الصلاة على شيء من الثياب، حيث لم يجوِّز ذلك لأصحابه وقد شكوا إليه الحر في جباههم وأيديهم فلم يشكّهم - كما مرّ في حديث خباب.

بل كان بعضهم يلقى شدة من الحر، فيأخذ الحصى في يديه عند قيامه فإذا برد وضعه عند سجوده فسجد عليه، وأشد من ذلك أنه صلی الله علیه و آله وسلم صلى صبح ليلة مطيرة، فكان أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، ولم يفترش ثوباً، ولم يسجد على ثوب، فلو جاز السجود على شيء غير الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، لما شكى الصحابة شدة الحر ، ولما احتاجوا إلى تبريد الحصى، ولسجَد هو صلی الله علیه و آله وسلم وأصحابه على أكمام ثيابهم التي عليهم إن لم يكن عندهم فضل من الثياب يفترشونه في الليلة المطيرة، أو كان يجيز لهم بسط ما كان عندهم من بُسُط الشعر أو الصوف أو الأدم أو غير ذلك مما لم يكن أرضاً ولا مما أنبتت الأرض من غير المأكول والملبوس.

كل ذلك لم يأتِ عنه صلی الله علیه و آله وسلم في شيء من الأحاديث الثابتة الصحيحة، ولا أجازه عمل الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن يحتج بآرائهم باتفاق، كما مرّ استعراض ذلك في مختلف مسائل الباب.

إذن لا بدّ في إحراز صحة الصلاة من الإتيان بالمأمور به من أفعالها وأذكارها كما

ص: 247

صح عنه صلی الله علیه و آله وسلم، لقوله (صلّوا كما رأيتموني أصلي)، وكان سجوده إما على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض كالخُمرة والحصير، والبساط الذي يصنع من فحل النخل، وهو أيضاً حصير، وكل ذلك مما لا يؤكل ولا يلبس، فالاستنان بسنته، والوقوف عند أمره، وعدم التجاوز إلى ما نهى عنه ، هو المبرئ للذمة. وليس أحد من المسلمين من أي مذهب كان وفي أي زمان أو مكان، يخالف في هذه البديهية، ولا يجيز السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، وهذا هو المجمع عليه بين المسلمين كافة، أما ما سوى ذلك من السجود على الطنافس أو فرش الأدم أو بُسُط الشعر والصوف أو الثياب، فكل ذلك مختلف فيه بين فقهاء المذاهب الإسلامية، فالأخذ بالمجمع عليه هو الواجب والأولى، والأقوم والأهدى، ويعني براءة الذمة بيقين من التكليف.

وأما المختلف فيه فلاشك أن تركه أحوط، لأنه لم يثبت من طريق صحيح، والإتيان به لا يعني براءة الذمة من التكليف بيقين، فلا بدّ من إحراز البراءة في المقام بمعنى الإتيان بالسجود المأمور به على الوجه الصحيح لا على الوجه المشكوك في صحته.

لقد جاء في المنهل العذب المورود : وكره الصلاة على غير الأرض جماعة من التابعين، فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سیرین، أن الصلاة على الطنافس محدَثة. وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة سيرين، على كل شيء من الحيوان، ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض. وعن عروة بن الزبير كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض.

وقالت المالكية : بكراهة السجود على ما فيه رفاهية كالبُسُط بخلاف الحصير، لكن تركه أولى. قال في المدونة : وكان مالك يكره أن يسجد الرجل على الطنافس وبُسُط الشعر والثياب والأدم ، وكان يقول : لا بأس أن يقوم عليها ويركع عليها ويقعد

ص: 248

عليها، ولا يسجد عليها ولا يضع كفيّه، وكان لا يرى بأساً بالحصير وما أشبهها مما تنبت الأرض أن يسجد عليها، وأن يضع كفّيه عليها.

قال : وقال مالك : لا يسجد على الثوب إلا من حر أو برد كتاناً أو قطناً (1).

وجاء في المصدر المذكور أيضاً.

قال ابن بطال : لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة على الخُمرة، إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يؤتى بالتراب فيوضع على الخمرة فيسجد عليه، ولعله كان يفعله على جهة المبالغة في التواضع والخشوع، فيكون فيه مخالفاً للجماعة (2) .

ولنختتم كلامنا في هذا الباب بما قاله عمر بن عبد العزيز هذا، فقد قال : (سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا النظر في رأي من يخالفها. من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً (3) .

فتبين من جميع ما تقدم كما قلنا أن المتفق عليه في وجوب السجود الشرعي المأمور به، هو السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، أما عدا ذلك فليس هو بموضع اتفاق بين المسلمين.

ومما لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه أن الأخذ بالمجمع عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه.

وأعود فأقول وأكرر : ولنفترض جدلاً بأن المسلمين الذين يجيزون السجود على غير ما ذكرنا اتفاقهم عليه، فيرون لأنفسهم جواز السجود على ما رأوه جائزاً

ص: 249


1- المنهل العذب المورود بشرح سنن أبي داود 49/5.
2- المصدر السابق 46/5 .
3- نقض المنطق لابن تيمية، ص 91 .

عندهم من فراش وأنماط أو ثياب أو بساط، ولم يوافقهم عليه غيرهم من بقية المذاهب الإسلامية، وكان هناك طالب حق يبحث عن الحقيقة المأمور بها في السجود، وراجع أدلة الفريقين، وكل يزعم أن الحق معه، كيف يكون الحكم في المقام؟

أليس من البديهي أن يكون الجواب هو أن الخلاف - أي خلاف كان - لا بدّ فيه من ملاحظة ثلاث نقاط :

1 - تعيين محل النزاع.

2 - النظر في أدلة الفريقين المتنازعين.

3 - تعيين الحكم والمرجع في حَسم الخلاف.

ومنه يُستجلى الحكم في موضوع الخلاف، ومَن حُكِم له وجب على الآخر الانصياع له.

ونحن في المقام قد مرّت بنا النقاط الثلاث مفصلة في شتى مباحث الباب، والآن

فلنشر إليها باختصار :

1 - محل النزاع : هو السجود على غير الأرض أو ما أنبتت وكان من المأكول والملبوس من سائر الفرش والأنماط والثياب، من صوف أو شعر أو جلد حيوان، فهذا ونحوه هو الذي أجاز السجود عليه قوم ومنع منه آخرون.

2 - أدلة الفريقين : وقد مرّت بنا بتفصيل فى شتى مسائل الباب وكانت أدلة المانعين أقوى حجة وأكثر ظهوراً كما ستأتى الإشارة إليها، وأدلة المجوّزين لم تثبت بحدیث صحيح، لا قولاً ولا عملاً .

3 - أما الحكم الذي تُرضى حكومته لدى الفريقين، وهو المرجع في الأحكام الشرعية، فهو الكتاب والسّنة، وبذلك أمرنا الله تعالى في محكم كتابه بالرجوع إليهما في مقام التنازع، فقال تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ

ص: 250

وَالرَّسُول} (1).

وقد رجعنا إلى كتاب الله تعالى فقر أنا فيه وجوب السجود كما مرّ بيانه في وجوبه كتاباً، ورجعنا إلى سنّة نبيّه صلی الله علیه و آله وسلم فقرأنا منها أوامره القولية وسنّته الفعلية وسيرته العملية، وجميعها جاء فيها أن فرض السجود كتاباً كما في فرض الركوع، بل في أصل الصلاة، إنما هو آيات محكمات مجملات، تولى النبي صلی الله علیه و آله وسلم تبيان حكمها، وتفصيل مجملها، لأنه المبين للناس ما نزل إليهم، فسته تفسر الكتاب وتبيّنه، وتدلّ عليه وتعبّر عنه.

فأقواله وأفعاله وتقريره إنما هي امتثال لأمر أوحي إليه بتبليغه للناس، أو تفسير المجمل لم يعرفه الناس، وعلى ذلك قامت أحكام الشريعة، لم يختلف في ذلك أهل مذهب عن آخرين، وأجمع المسلمون أن صحة العمل إنما تكون إذا كان لها حكم ما امتثله أو فسّره أو أمر به الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. وما لم يكن له حكم ذلك فهو ردّ، لأنه ليس من أمر الإسلام في شيء، وقد قال صلی الله علیه و آله وسلم: (مَن أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردّ).

وقفة مع هذا الحديث الشريف :

هذا حديث متفقٌ عليه من حديث عائشة كما في المغني في الأسفار للعراقي، وقال أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة، وحكاه الشوكاني عن ابن حجر في فتح الباري.

قال : وقال الزبيدي في إتحاف المتقين : وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه : من اخترع من الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه (2) .

وقال النووي : هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك. حكاه الشوكاني، كما حكى ما يلي: وقال الطوخي : هذا

ص: 251


1- سورة النساء، الاية 79 .
2- إتحاف المتقين 733/1 .

الحديث يصلح أن يسمَّى نصف أدلة الشرع، لأنه دليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لأن منطوقه مقدمة كلية، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس : هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الدليل، وإنما يقع النزاع في الأولى.

ومفهومه أن مَن عمل عملاً عليه أمر الشرع فهو صحيح، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لاستقل الحديثان بجمع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذن حديث الباب نصف أدلة الشرع.

قال الشوكاني في نيل الأوطار : ومن مواطن الاستدلال لهذا الحديث كل فعل أو ترك وقع الاتفاق بينك وبين خصمك على أنه ليس من أمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وخالفك في اقتضائه البطلان أو الفساد، متمسكاً بما تقرر في الأصول من أنه لا يقتضي ذلك إلا عدم أمر يؤثر عدمه في العدم كالشرط، أو وجود أمر يؤثر وجوده في العدم كالمانع، فعليك بمنع هذا التخصيص الذي لا دليل عليه إلا مجرد الاصطلاح، مسنداً لهذا المنع بما في حديث الباب من العموم المحيط بكل فرد من أفراد الأمور التي لیست من ذلك القبيل قائلاً: هذا أمر ليس من أمره ، وكل أمر ليس من أمره ردّ ، فهذا ردّ، وكل ردّ باطل، فهذا باطل، فالصلاة مثلاً التي تُرك فيها ما كان يفعله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أو فُعِل فيها ما كان يتركه ليست من أمره، فتكون باطلة بنفس هذا الدليل، سواء كان ذلك الأمر المفعول أو المتروك مانعاً باصطلاح أهل الأصول، أو شرطاً أو غيرهما، فليكن منك هذا على ذِكر (1) .

وعلى ضوء هذا نقول : لما كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يصلي كل يوم وليلة فرائض الصلوات الخمس اليومية، ويصلي الجمعة والعيدين والآيات وغير ذلك من النوافل المرتبة

ص: 252


1- نيل الأوطار 79/2 .

وغير المرتبة، حضراً وسفراً، بمرأى من المسلمين ومسمع، في مسجد أو مجمع، ويصلون معه ويأتمون به، ويقول لبعضهم : «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ويقول: « جُعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً» ، ويقول : «أمرت أن أسجد على آراب = أعضاء »

ويقول... ويقول... وقد مرَّ جميع ذلك وغيره بتفصيل وافٍ، وتبيان شاف في مباحث الباب الأول، وقد نقل عنه كيفية الصلاة بأجزائها وشرائطها وسننها وآدابها الصحابة الكرام، ورواها عنهم علماء الإسلام.

فمداومته صلی الله علیه و آله وسلم في جميع صلواته في السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، حيث كان يسجد على الخُمرة والحصير أحياناً، من أقوى الأدلة على وجوب ذلك لا غير.

ولو كان ثمة مندوحة في تجاوز ذلك الواجب، أو جواز السجود على غير الأرض أو ما أنبتت وإن كان مأكولاً أو ملبوساً، لبّين الجواز ولو لمرّة واحدة، أو بيّن جواز الترك لما كان يفعله هو في صلاته، إما بقول أو بفعل، كما فعل ذلك صلی الله علیه و آله وسلم حين جمع بين صلاتين في الحضر من غير علة ولا سفر ، وقال ابن عباس في ذلك : إنما أراد أن لا يحرج أمته (1)... وغير ذلك من الأحكام التي رخّص بها صلی الله علیه و آله وسلم.

ولما لم يبين مثل ذلك في المقام، بل بيّن عدم جواز الترك لما أمر به في ذلك من خلال سنّته قولاً وعملاً وتقريراً، فلم يرخّص في السجود على غير الأرض وما أنبتت من غير المأكول والملبوس، لا قولاً ولا عملاً ولا تقريراً، فقد صلّى صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 253


1- حدیث ابن عباس أخرجه الستة إلا البخاري وابن ماجة وهو في صحيح مسلم 196/1-197 : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس : ما أراد بذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته. وفي حديث صالح مولى التومة عن ابن عباس، وسأله عن علة الجمع فقال : أراد التوسعة على أمته. كما في معجم الطبراني الكبير ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة والجامع الكبير للسيوطي وغيرها.

بأصحابه في صبح ليلة مطيرة، فرؤي أثر الماء والطين على جبهته وأنفه (1).

ولو جاز له لبسط ثوبه، وقد اشتكى إليه الصحابة شدة حر الحصباء في جباههم

وأكفّهم، فلم يشكّهم، ولم يجوز لهم السجود على ثيابهم (2) .

وقد كان بعضهم يأخذ الحصى بيده فيبردها، فإذا أراد السجود وضعها وسجد عليها (3) .

وقد كان صلی الله علیه و آله وسلم رأى بعض الصحابة يترفّع عن السجود على التراب، أو التعفير، فقال له : ترّب وجهك (4).

وقد كان صلی الله علیه و آله وسلم ينهى المصلي عن تسوية الحصى، لأن الرحمة تواجهه (5). وقد كان ذلك كله مما مرَّ ذكره مفصلاً.

وفي جميع ذلك ما يدل دلالة واضحة وصريحة لا لبس فيها ولا إيهام أن السجود إنما هو على أديم الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، لمداومة النبي صلی الله علیه و آله وسلم على فعل ذلك، وهذا يدل على تأكيده عدم جواز ترك ما كان يفعله.

ولما لم يرخّص في جواز ترك السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، كان ذلك دليلاً على وجوبه، فلا يجوز فعل غيره، إذ لا يتأتى امتثال المأمور به إلا بالسجود كما فعله وأمر به صلی الله علیه و آله وسلم، ولم يأتِ عنه خلاف ذلك شيء ثابت

ص: 254


1- كما في حديث أبي سعيد الخدري، وقد أخرجه البخاري في صحيحه 131/1، کتاب الأذان 47-46/3 في باب القدر وباب الاعتكاف، وفي بعضها : فبصرت عيني نظرت إليه انصرف من الصبح ووجهة ممتلئ طينا وماءاً. وأخرج ذلك أيضاً مسلم وأحمد وغيرهما.
2- كما في حديث خباب، وأخرجه مسلم في صحيحه 109/2 باب استحباب تقديم الظهر أول الوقت الخ، وأخرجه النسائي في المواقيت، وابن ماجة في الصلاة، وأحمد في مسنده 108/5، 111،110 .
3- كما في حديث جابر، وقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 105/2، وقال معقباً عليه : ولو جاز السجود على ثوب متصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى في الكف ووضعها للسجود عليها وبالله التوفيق.
4- قال ذلك لصهيب ولرباح ولا فلح، وقد مر ذكر ذلك في مسألة استحباب التتريب فراجع.
5- كما في حديث أبي ذرّ ، وقد مر في المسألة الثانية كراهة النفخ ومسح الحصى الخ.

بطريق صحيح.

إذن لا بدّ في إحراز صحة الصلاة - التي هي عماد الدين - بصحة الإتيان بالمأمور به من أفعالها وأذكارها كما صح عنه صلی الله علیه و آله وسلم ، ولا بدّ من الوقوف عند سنتّه، وعدم التجاوز إلى ما نهى عنه، وإلا فلا تبرأ ذمة من خالف السنّة النبوية الثابتة القطعية متعمداً، وتلك هي في المقام وجوب السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس.

وليس يوجد أحد من المسلمين من أي مذهب كان، لا يجيز السجود على ذلك،

فهذا هو المجمع عليه بين المسلمين منذ عصر الصحابة والتابعين، وعليه كان عملهم، وقد مرّ ذكر ما جاء عن بعضهم في ما تقدم.

والآن فليرجع طالب الحق من أي مذهب كان إلى آراء فقهائه الذين يعتمدهم ويقتدي بهم ويقلدهم، وقد مرّت مفصلّة وبصورة مقارنة، فهل يجد خلافاً عندهم في صحة السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس؟ وإنما الخلاف في صحة السجود على ما سوى ذلك، فالأخذ بالمجمع عليه أولى وأحوط، وأتم وأنجى وأسلم.

وأما إن بعدت عليه الشقة، وأبى أن ينفك من عقدة قدسية الأشخاص، فإليه ذكر بعض ما قالوه في ذلك إجمالاً :

في ذكر الفقهاء الذين يذهبون إلى السجود على الأرض أو ما أنبتت، ويكرهون السجود على شيء دونها:

1 - أئمة الزيدية :

أ - الهادي الرسي : قال الشوكاني في نيل الأوطار : وإلى كراهته - يعني كراهة

ص: 255

السجود على شيء دون الأرض - ذهب الهادي (1) .

ب - الناصر.

ج - المرتضى.

د - أبو طالب : جاء في البحر الزخار أن الناصر والمرتضى وأبا طالب ممن يرى وجوب مماسة الجبهة للأرض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «ومكَّن جبهتك من الأرض» و «فلم يشكّنا».

إلى أن قال: والحائل المنفصل خرج بالإجماع إلا الحيوان فلا يجزئ اتفاقاً (2) .

2 - أئمة الإسماعيلية :

جاء في دعائم الإسلام : أفضل ما يسجد عليه المصلي الأرض النقية، وروي عن جعفر بن محمد علیه السلام أنه قال : ينبغي للمصلي أن يباشر بجبهته الأرض، ويعفّر وجهه في التراب، لأنه من التذلّل لله (3).

3 - أئمة المالكية :

أ - مالك بن أنس : قال الشوكاني : وإلى كراهته - يعني كراهة السجود على شيء دون الأرض - قال : وكره مالك أيضاً الصلاة على ما كان من نبات الأرض فدخلته صناعة أخرى كالكتان والقطن.

ب - ابن الحاج المالكي : قال في المدخل : ومن ذلك - واجبات السجود - ألا يسجد على حائل بينه وبين الأرض، فإنه السنّة. ولما أدّت الضرورة إلى الحُصُر المفروشة هناك فُعلت، وقد كان عمر بن عبد العزيز يباشر الأرض بوجهه ويديّه في سجوده، لا يحول بينه وبين الأرض شيء، وكذلك كان حال أكثر السلف (رض)، فمن قدر على ذلك فهو الأولى والأفضل في حقه، اللهم إلا أن تدعو ضرورة إلى

ص: 256


1- نيل الأوطار 127/2.
2- البحر الزخار 168/1 .
3- دعائم الإسلام 178/21 .

ذلك، فأرباب الضرورات لهم أحكام أخر، ودين الله الله يسر (1) .

4 - أئمة الحنفية :

أ - نصير بن يحيى : سئل عمن يضع جبهته على حجر صغير هل يجوز ؟ قال : إن وضع أكثر الجبهة على الأرض - أي مع ذلك الحجر لأنه من جملة الأرض - يجوز ، وإلا فلا. حكاه عنه الحلبي في غنية المتملي في شرح منية المصلّي، وقال: كذا في المحيط وتقدم عن التجنيس أيضاً (2) .

ب - السمرقندي : قال في تحفة الفقهاء : ويكره أن يمسح المصلي جبهته من التراب فى وسط الصلاة، ولا بأس به بعدما قعد قدر التشهد (3) .

5 - أئمة الحنابلة :

ابن تيمية : قال في مختصر الفتاوى المصرية : ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يصلّون على سجادة، ولكن صلى على خُمرة - وهي شيء يعمل من الخوص... وكان يصلي على الحصير والتراب (4) .

وقال أيضاً : وروي أن بعض العلماء قدم وفرش في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فأمر مالك رحمه الله بحبسه، وقال : أما علمت أن هذا في مسجدنا بدعة ؟ (5) .

ص: 257


1- المدخل 21/2 .
2- غنية المتملي في شرح منية المصلّي، ص 289.
3- تحفة الفقهاء 248/1 .
4- مختصر الفتاوى المصرية، ص 63 .
5- المصدر السابق، ص 63. ليت الإمام مالك، وليت ابن تيمية الراوي ذلك عن مالك يريان اليوم ما في مسجد النبي صلی الله علیه و آله وسلم من فرش وطنافس يصلى عليها ويسجد عليها، والويل لمن تكلم مستنكرا ذلك، ثم الويل لمن حمل معه ما يصح السجود عليه ووضعه ليسجد عليه كما يفعل ذلك أتباع أهل البيت . علیهم السلام فليقرأ السلفيون ما يقوله إمامهم ابن تيمية، وكيف يكون توجيه كلامه وهو يردّ من يزعم عدم وجوب الطمأنينة في حال السجود، فقال : ثم يقال: لو وجد استعمال لفظ (الركوع والسجود) في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة، لكان المعفّر خدّه ساجدا، ولكان الراغم أنفه بالرغام - وهو التراب - ساجداً، لاسيما عند المنازع الذي يقول : يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة، فيكون نقر الأرض بالأنف سجوداً، ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم. كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجوداً، ولو كان ذلك كذلك لكان يقال للذي يضع وجهه على الأرض ليمص شيئاً على الأرض أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك ساجداً...

6 - أئمة الشافعية :

الإمام الشافعي : قال في كتاب الأم : ولو سجد على رأسه ولم يمسّ شيئاً من جبهته الأرض لم يجزه السجود، وإن سجد على رأسه فماسّ شيئاً من جبهته الأرض أجزأه السجود إن شاء الله تعالى. ولو سجد على جبهته ودونها ثوب أو غيره لم يجزه السجود إلا أن يكون جريحاً فيكون ذلك عذراً، ولو سجد عليها وعليها ثوب متخرّق فماسّ شيئاً من جبهته على الأرض أجزأه ذلك، لأنه ساجد وشيء من جبهته على الأرض (1) .

7 - أئمة الخوارج :

قد مرَّ عنهم ما يغني عن إعادته.

8 - أئمة الظاهرية :

مرَّعنهم أيضاً ما يغني عن الإعادة.

فظهر من جميع ما قالوا أن السجود المأمور به هو السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، وهو الذي جاءت به السنّة النبوية، وقال به جميع فقهاء المذاهب الإسلامية، وهو الذي التزمت به الشيعة الإمامية، أما غيرهم فقد جوّزوا السجود على غير ذلك من فرش، والشيعة لم يجوّزوا ذلك، فالأخذ بما اتفق عليه بينهم وبين غيرهم هو الأنجى والأسلم، وبه يكون الإتيان بالسجود الأكمل والأتم.

يبقى هنا سؤال ربما يثيره فضول متنطع، لماذا لم يأمر النبي صلی الله علیه و آله وسلم باتخاذ تربة أو حمل حجر مع كل مسلم يسجد عليه ؟

ص: 258


1- كتاب الأم 1 / 114.

والجواب : أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم بُعث بالحنيفية السمحاء، فحينما أمرنا بالسجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس لم يكلّف أمته شططاً، لأن الأرض موجودة في كل مكان يكون المصلي، وتحصيل الطاهر فيها ليس بعسير ، فلم يحرج أمته إلا أن يسجد على حجر معين فيها، على أنه ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد سجد على الحجر كما في حديث ابن عباس، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك والذهبي في التلخيص وصحَّحاه.

ولا يبعد أنه صلی الله علیه و آله وسلم إنما لم يأمر باتخاذ الألواح - وكان يسعه ذلك - لئلا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض وهم حديثو عهد بالإسلام : إن محمداً ينهى عن عبادة الأصنام، وها هو يأمر أصحابه أن يتخذوها مسجداً لهم، ويحملونها معهم.

ولو أمر بذلك لكان ذلك أيضاً ذريعة للمشركين الذين يريدون الطعن في دينه. كما أنه صلی الله علیه و آله وسلم لم يأمر أمَّته بحمل خريطة أو صُرّة بها تراب طاهر لغرض السجود عليها ، ولم يأمرهم بحمل الخُمرة - وهو حصيرة صغيرة يمكن حملها فيسجد عليها عند الحاجة - مع أنه كانت له خمرة خاصة.

كل ذلك امتناناً منه عليهم لئلا يحرج أمّته، بل كان صلی الله علیه و آله وسلم يحب لهم الاتيان بالسجود على تمام معناه من الخضوع والتذلّل، فيسجدوا على الأرض، وندبهم إلى تعفير الجباه بالتراب خضوعاً الله سبحانه، ووسَّع عليهم في السجود على الخُمرة عند الحاجة إليها، إما لوجود حائل بين الجبهة والأرض كالفراش من بساط صوف أو جلد أو غير ذلك، مما لا يصح السجود عليه، أو لبرد أو حرّ شديدين يوجبان حرَجاً ، فإنه صلی الله علیه و آله وسلم كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.

ثم كيف نتوقّع منه صلی الله علیه و آله وسلم أن يأمر المسلمين باتخاذ الألواح من الأحجار للصلاة، والمسلمون بعد - إلا مَن عصم الله - تنازعهم نوازع الجاهلية؟ ألم يقولواله : « اجعل لنا ذات أنواط » . فيما روي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لما خرج إلى

ص: 259

حنين (1) مرَّ بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط ، يعلّقون عليها أسلحتهم، فقالوا : يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركُبنّ سنّة من قبلكم.... (2)

ص: 260


1- لقد اختلفت نسخ المطبوع من سنن الترمذي في المقام ففي طبعة محقّقة بتحقيق إبراهيم عطوه عوض ورد ذكر ( خيبر ) مصحفا عن (حنين)، وهو خطا لم يتنبّه له المحقق، وكذلك ورد في عارضة الأحوذي 26/9 ولم يصحح، بينما ذكر (حنين) صحيحاً في تحفة الأحوذي 213/3 وفي مسند أحمد كذلك مرتين، فتنبّه .
2- سنن الترمذي الترمذي 475/4. قال أبو عيسى - الترمذي - : هذا حديث حسن صحيح.... وفي الباب -: عن أبي سعيد وأبي هريرة. مسند أحمد 218/5 عن أبي واقد مرتين بتفاوت يسير فراجع.

الباب الثاني : وفيه تممهيد

اشارة

ص: 261

ص: 262

تمهيد

لقد مرّ في الباب الأول بجميع مباحثه وفصوله ومسائله، ما دل دلالة واضحة وصريحة على أن وظيفة الساجد في الاختيار : أن يسجد على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، بعد إحراز طهارته وإباحته، كما مرَّ ما يشعر بأن الأرض أفضل ما يسجد عليه المصلي، لتحقيق معنى السجود الشرعي واللغوي في ذلك. كما أن التراب هو أفضل بقية أجزاء الأرض، لأنه الصعيد الطيّب، وفيه تحقيق معنى التعفير المطلوب، لقوله : عفّرت وجهي بالتراب وحق لي أن أسجد لك. وهل العفر إلا التراب ؟!

وذكرنا أيضاً أن ذلك الحكم الشرعي لم يكن مختصاً بمذهب دون مذهب، حتى يُشنّع على أتباعه بأنهم يسجدون على الحجر فهم يعبدونه، إذ ذكرنا أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم والصحابة في أيامه ومن بعده، ثم مَن جاء بعدهم من التابعين كانوا جميعاً يسجدون على الأرض أو ما أنبتت. كما تقدّم كشف ذلك بذكر أسماء الصحابة وأسماء التابعين وقد نيفوا على الثلاثين، فكل أولئك كانوا يسجدون على الأرض أو على ما أنبتت .

والآن فهل لنا أن نتساءل لماذا يتنطع المهرّجون، فيرمون الساجد على التربة -

وهي من الأرض - من الشيعة الاثني عشرية بأنه يعبد الحجر ؟

فهل أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم وجميع مَن سبقت أسماؤهم من صحابة وتابعين كانوا يعبدون

ص: 263

الحجر ؟ لاها الله ، إن هذا لبهتان عظيم.

نعم هناك شناشن أخزمية وأضغان أموية لا تزال يوري وقدتها بعض الناصبة، ممن اتخذ من الإسلام شعاراً يتستر بردائه، ثم يغوي السذج والرعاع ممن هم له أتباع، فيهرف لهم فيخرفون {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلا دُعَاء وَنِدَاءٌ صُمٌّ بُكْم عنى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} .

ولقد عبَّر بعض من أكل الحقد قلبه عنها بلفظ : إنها وَثَن ، إذ يقول :

لا تجد شيعياً يصلّي في بقعة من بقاع الأرض حتى المسجد الحرام بمكة، ومسجد الرسول إلا ويضع وَثَناً من شقفة طين كربلا تحت جبهته تقديساً لها، واعتقاداً أنها أفضل بقاع الأرض، لأن دم الحسين اختلط بها... إلى آخر هذيانه (1) ، حتى خرج عن اتّزانه، فأتركُه تهاوناً بشأنه، وقد مرَّ بنا وسيأتي المزيد عنها، وأن الشيعة إنما يحملونها لأنها حجر طاهر على نحو ما كان يفعله بعض التابعين من حمل لبنة يسجد عليها، فهل أن أولئك التابعين كانوا يحملون وَثَناً معهم يسجدون عليه حين لا يتسنّى لهم الحصول على أرض طاهرة في السفر وغيره، وتفضيل الشيعة السجود على التربة الحسينية يأتي بيان وجهه :

لماذا يسجد الشيعة على التربة الحسينية؟ وكأنهم لا يرون السجود على غيرها؟! وهذا هو زعم آخر باطل.

فهلم الآن نقرأ الجواب على هذا السؤال وعلى غيره مما يتصل به من تساؤلات أخرى في مباحث هذا الباب، وهي كما يلي :

1 - المبحث الأول : في ماهية التربة.

2 - المبحث الثاني : في أن الشيعة الاثنى عشرية يسجدون على التربة - أي تربة

كانت - ما دامت هي من من الأرض.

ص: 264


1- خاتمة كتاب السنة والشيعة، تأليف السيد رشيد رضا، بقلم أحمد حامد الفقي .

3 - المبحث الثالث : في تفاضل البقاع من الأرضين.

4 - المبحث الرابع: في وجه تفضيل التربة الحسينية.

5 - المبحث الخامس : في خصائص التربة الحسينية.

ثم يتلو ذلك الخاتمة : وفيها إثبات شرعية أحكام التزم بها الشيعة، فخالفهم غيرهم، لأن الشيعة عملوا بها.

وهي عدة مسائل : فمنها ما يتعلق بالصلاة :

1 - كمسألة الأذان مثنى والإقامة مثل ذلك في آخرها مرة واحدة لا إله إلا الله.

2 - قول : حي على خير العمل.

3 - الجهر ببسم الله الرحمن الرحیم .

4 - بطلان التكفير.

5 - بطلان- قول : آمین .

6 - وأخيراً لا آخراً التكبير ثلاثاً بعد السلام.

ص: 265

ص: 266

المبحث الأول : في ماهية التربة

لقد مرّ بنا في خاتمة مباحث الباب الأول ذكر التراب، وأنه كان فراش المسجد النبوي الشريف على صاحبه وآله أفضل الصلاة والسلام، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسجد عليه.

ومرّ بنا أيضاً ذكر أول من فرش الحصباء في ذلك المسجد الشريف، ومرّ بنا أيضاً ذكر أول من فرش المسجد بالبوريا - الحصير المتخذ القصب، ومرّ بنا أيضاً أن الصلاة على الطنافس محدثة، ومرّ بنا... ومرّ بنا مما لا حاجة إلى إعادة ذكره .

أقول : ألا يعني ما مرَّ بنا في جميع ما سبق أن السجود في الصلاة كان أولاً على التراب، ثم صار على الحصباء وهي من الأرض، ثم استمرت عملية التطور حتى انتهت إلى الصلاة على الطنافس فقالوا : إنها محدثة، أليس كذلك؟

ولنرجع إلى المرحلة الأولى من تلك العملية، وهي التي كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يفعلها، ولنا في رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أسوة حسنة، وكان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يأمر أصحابه بذلك فيقول : ترّب

وجهك يا صهيب. ترب وجهك يا رباح. ترّب وجهك يا أفلح...

ثم نهيه صلی الله علیه و آله وسلم عن النفخ في موضع السجود، وكراهة مسح الحصى. وغير ذلك مما ورد فيه ذكر التراب أو الدلالة عليه، مما يجعل السجود إنما هو على أديم الأرض أفضل من غيره مما يسجد عليه، والتراب أفضل من بقية أجزاء الأرض من حجر أو مدر، لأنه أبلغ في التواضع، وبه يستقيم معنى التعفير، ولنا {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ

ص: 267

268

وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} .

بقي علينا الجواب على السؤال الآتي : هل أن للطالب السائل أن يسأل عن التربة التي يسجد عليها الشيعة أهي من التراب؟ وهل هي تراب حقيقة فتكون من أفضل ما يسجد عليه؟ أم هي غيره؟

والجواب : نعم، من حق السائل أن يطالب بمعرفة ذلك، ولنرجع معاً - السائل والمجيب - إلى المعاجم اللغوية أولاً، لأنها الفيصل في تحقيق ذلك، ثم نستذكر بعض الآثار الشرعية وقد مرّت بنا، لنجد التطابق والتوافق بينهما إنما يحصل بسجود الشيعة على التربة.

أولاً : ماذا في المعاجم اللغوية في هذا المقام؟ يقول ابن منظور في لسان العرب مادة (ترب) : التُربُ والتُراب، والتَرباء... كله واحد، وجمع التُراب : أتربة وتربان عن اللحياني، ولم يسمع لسائر هذه اللغات بجمع... والطائفة من كل ذلك تربة وترابة...

وعن الليث : الترب والتراب واحد، إلا أنهم إذا أنثوا قالوا التَربة ويقال : أرض طيّبة التربة، أي خلقة ترابها ، فإذا عنيت طائفة واحدة من التراب قلت : ترابة، وتلك لا تدرك بالنظر دقة إلا بالتوهم. وفي الحديث : خلق الله التُربة يوم السبت يعني الأرض....(1)، وتربة الإنسان رمسه، وتربة الأرض ظاهرها ... وتترّب فلان تتريباً إذا تلوث بالتراب.

أقول : ونحو هذا يجده القارئ في القاموس وتاج العروس وغيرها من المراجع اللغوية، فلا حاجة إلى الإسهاب في ذلك إذن!

ولنعد الآن بعد هذه الإلمامة العابرة بالمعنى اللغوي للتربة، التي عرفنا فيها أن

ص: 268


1- هذا من الأحاديث المكذوبة. راجع بشأنه كتاب الشيخ محمود أبو رية، فقد أثبت أنه من المفتريات على الرسول الكريم وأنهم به أبا هريرة، وأنه استقاه من كعب كعب الأحبار. راجع ص 97 فما بعدها.

ماهية التربة هي عين ماهية التراب، لأنها طائفة منه، ولم تخرج عن حقيقته بأيّ كيفية جُعلت، وبأي صورة ركّبت، وبأي حجم صُنعت، فهي طائفة من التراب، سواء بقيت تراباً متناثراً، أو جُمعت فكانت تراباً متراكماً، وسواء كان تراكمها بجمع حفنة من تراب، أو ببلِّها بماء طاهر يداف به فيصير طيناً، ثم يترك حتى ييبس فيصير صلداً. فالتربة إذن هي حقيقة تراب وإن تغيرت الهيئة والكيفية والتصنيع، فلم يخرجها عروض الهيئة عن حقيقتها الترابية.

ثانياً : الآثار الشرعية :

ولنستذكر بعض ما مرّ بنا في الباب الأول، خصوصاً في نبذة عن المسجد والسجادة

والسجّاد، مثل الحديث النبوي الشريف : « من بنى الله مسجداً ولو كمفحص قطاة».

ولنتذكر ما قاله ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور، حين قال : وأن الأكثر حملوه على المبالغة في الصِغر ، لأن مفحصها لا يكفي مقداره للصلاة فيه .

وذكر احتمال أن المراد بذلك موضع السجود : وهو ما يسع الجبهة، فأطلق عليه البناء مجازاً.

ثم قال : وقد استبعد بعضهم هذا الوجه. ثم قال : لا يمتنع ذلك مجازاً، إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شاهدنا كثيراً من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة وهي في غاية الصغر، وبعضها لا يكون أكثر من محل السجود.

أقول : ألا يعني ذلك - بناءاً على ما حكاه ورآه في طرق المسافرين - أنهم كانوا يجمعون من التراب طائفة فيديفونها بماء ويجعلونه مثل اللبنة فيسجدون عليه؟ وهذا - صنع اللبن للسجود عليه - مرّت له شواهد ذكرناها، فقد مرّ عن مسروق أنه كان إذا ركب سفينة حمل معه لبنة ليسجد عليها، كما أن محمد بن سيرين كان يفعل مثل ذلك فهي التربة إذن كالتي يسجد عليها الشيعة الاثني عشرية، أليست كذلك؟

ثم إن للشيعة الاثني عشرية أدلتهم الخاصة بهم في السجدة على لوح من طين القبر - يعني قبر الحسين علیه السلام - وأن فيه الفضل، وسيأتي مزيد بيان في المبحث الرابع.

ص: 269

وروى الشيخ الطوسي عن صالح بن الحكم، قال : سألت أبا عبد الله الصادق علیه السلام عن الصلاة في السفينة، فقال: إنَّ رجلاً سأل أبي عن الصلاة في السفينة، فقال له : أترغب عن صلاة نوح علیه السلام؟! فقلت له : آخذ معي مدرة أسجد عليها ؟ فقال : نعم (1) .

أقول : في هذا الحديث ورد (مدرة)، بينما مرّ عن ابن سيرين ومسروق في حملهم لبنة، وأياً كان المحمول المستعمل، سواء لبنة أو مدرة وهي أصغر، ألا يدل جمیع ذلك على أن المسلمين في عصر التابعين وتابعيهم كانوا إذا ركبوا السفن يحملون معهم من الأرض أما لبنة أو مدرة للسجود عليها، ويعني أنهم لا يسجدون إلا على الأرض !! ولو كانوا يجوِّزون السجود على غير الأرض لما تحملوا عناء حمل اللبنة أو المدرة، وكانوا يسجدون على ما عندهم من ثياب أو غير ذلك مما هو ميسور لديهم. بل كانوا يخصّون جباههم بما يسجدون عليه من الأرض.

وللطرافة نذكر للقارئ أن أحد علماء الحنابلة أفتى بكراهة أن يخص المصلي جبهته بما يسجد عليه لأنه من شعار الروافض !!(2)

وهذا من التعصّب البغيض، ولكنهم تبعاً لأسلافهم كابن تيمية جوَّزوا ترك المستحبات مادامت الشيعة تفعلها وصارت شعاراً لهم. قال ابن تيمية في منهاجه عند بيان التشبّه بالشيعة :

ومن هنا ذهب مَن ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم [أي للشيعة]، فإنه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميّز السُّني من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة المستحب (3) .

ص: 270


1- التهذيب 297/3 .
2- غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى 135/1 ط الأولى على نفقة حاكم قطر !!!
3- منهاج السنة 147/2 .

المبحث الثاني : في سجود الشيعة على أي تربة كانت ما دامت من الأرض

لقد مرّ في الباب الأول آراء الشيعة الإمامية الاثني عشرية في مسألة السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، فراجع الفصل الثاني في ناحيتيه بسائر مقاميهما ومسائلهما، فهناك عرض واف لآراء الشيعة الإمامية الاثني عشرية، بدءاً من تحديد هوية الأرض التي يصح السجود عليها في المقام الأول، ومروراً بأدلة وجوب السجود على الأرض في المقام الثاني، وكذلك في مسائله الثلاث : استحباب التتريب، وكراهة النفخ، ومسح الحصى وتسويته، والمنع من السجود على كور العمامة، بل وكل حائل بين جبهة الساجد والأرض إلا ما كان منها أو مما أنبتته من غير المأكول والملبوس، وانتهاءاً بما جاء في السجود على ما أنبتت الأرض، من المقدمة والخاتمة.

ففي جميع ذلك وردت آراء الشيعة الإمامية الاثني عشرية واضحة وصريحة في وجوب السجود على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول أو الملبوس، ولم يخصّوا أرضاً دون أرض، ولم نقف على قول أحد من عوام الشيعة فضلاً عن أهل المعرفة منهم وعلمائهم من قال بعدم جواز السجود إلا على التربة الحسينية، وعلى المكابر أن يثبت ذلك! فالدعاوى ما لم يقم عليها البرهان أولادها أدعياء !!

ونحن ندعو القراء إلى مراجعة جميع الكتب الفقهية للشيعة الاثني عشرية بدءاً

ص: 271

من كتب الرسائل العملية، وإنتهاءاً بكتب الجوامع الفقهية، وما بينهما من متون وشروح متوسطات فليقرأوا أياً منها، فهل يجدون مصدراً واحداً لأحد العلماء أو أنصاف العلماء يفتي فيه بعدم جواز السجود إلا على التربة الحسينية ؟! نعم، وأكرّر نعم، إنما الذي يقوله الأعلام من أئمة الفقه الكرام للشيعة ولغيرهم من بقية المذاهب الإسلامية : إن السجود على التربة الحسينية أفضل !! أما لماذا يكون السجود عليها أفضل، فهذا ما نقرأ جوابه في المبحث الآتي وما بعده.

ونظرة فاحصة في تأريخ الشيعة الماضي والحاضر، مع انتشارهم في شتى بقاع العالم، ولاشك أنهم يؤدّون صلواتهم في المساجد العامة والخاصة في الحضر والسفر، أو في بيوتهم، أو في بيوت الآخرين، إنما يسجدون على ما تيسّر عندهم مما يصح السجود عليه، من أرض أو ما أنبتت من غير المأكول والملبوس، وليس عند جميعهم تربة حسينية فيسجد عليها.

وقد بلغنا أخيراً أن بعض البلدان الإسلامية النائية عن كربلاء، بدأت تعمل فيها التربة من تراب أرضها لغرض السجود عليها، وإنما يعمل من التراب تربة أقراصاً أو ألواحاً، لسهولة حملها وحفظها. وقد كانت تعمل في المدينة المنورة (الأكر) وتحمل للهدية كما أورد السمهودي في وفاء الوفاء في ذلك نصاً يوحي بذلك، فقد قال : ومنها : أن يستصحب الحاج معه هدية ليدخل بها السرور على أهله ومعارفه من غير أن يتكلفها، سيما أثمار المدينة ومياه آبارها النبوية، ولا يستصحب شيئاً من تراب حرم المدينة ولا من الأكر المعمولة منه.

قال النووي : وكذا الأباريق والكيزان وغير ذلك من التراب والأحجار فإنه لا يجوز (1).

فمن هذا يظهر أن عمل (الأكر) وهي جمع (الأكرة) لغة في الكُرة كما في

ص: 272


1- وفاء الوفاء 453/2-454.

القاموس، كان مستعملاً في عهد النووي المتوفى حدود سنة 677 ه- وما بعده حتى عهد السمهودي المتوفى سنة 911 ه-، وربما بعده أيضاً. فيا ترى فيم كان استعمال تلك (الأكرة)؟! وهي كرة من طين يابس، هل كانت تؤخذ للعب الأطفال مثلاً، وهذا بعيد، إذ أن حملها كهدية للتبرك بها، لأنها مصنوعة من تراب المدينة، فلا يبعد أن يكون استعمالها في السجود عليها.

ص: 273

ص: 274

المبحث الثالث : في تفاضل البقاع من الأرضين

اشارة

قد يستغرب ضعاف الإيمان بعظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته أن يجعل فضلاً البعض مخلوقاته من الأرضين على بعض، مع اتحاد الجنس والمكان مثلاً، كأن يجعل التربة الحسين علیه السلام فضلاً على غيرها من البقاع المجاورة لها، بل وحتى غير المجاورة، فيشغبون ويهرفون بما لا يعرفون.

وقد يزيد استغرابهم دعوى شمول الفضل إلى ما حول تلك التربة الطاهرة حتى يشمل الفضل أرض كربلاء جميعها، ولو آمنوا بما جاء به القرآن الكريم من آيات التفضيل الخاصة في البقاع لزال العجب وقلّ الشغب !! ولنقرأ بعض آي القرآن المجيد في ذلك :

قال سبحانه وتعالى ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعْ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1)

فهذه الآية الكريمة دلّت على وجود التمايز والتفاضل بين قطع الأرض، كما فضّل سبحانه باقي نعمه المذكورات، إذ لا يعقل أن يكون المراد بقوله {مُّتَجَاوِرَاتٌ} مجرّد المحاذاة، فالإخبار به يكون مستهجناً، لأنه معلوم بالبديهة،

ص: 275


1- سورة الرعد الآية.

وحاشا الباري جلّ وعلَا عن ذلك، فلا بدّ أن يكون المراد هو التمايز والتفاضل، بأنها مع كونها متجاورة متلاصقة، إلا أنها مختلفة، فمن طيّبة إلى جانب سبخة، ومن رخوة إلى جانب صلبة، ومن صالحة للزرع إلى جانب غير صالحة، وكذلك قداسة بعض الأرضين دون بعضها فالحال فيها كما هو في الناس (1) .

وقد دلّ القرآن الكريم على مباركة بعض البقاع كما هو ظاهر آياته، وواضح بيناته ، فقد قال تعالى في قصة خلق الأرض {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا}. (2) ، وقال تعالى ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدى لِلْعَالَمِينَ﴾ (3) ، وقال سبحانه فيما اقتصّ من أخبار الأنبياء والمرسلين :

ففي قصة نوح علیه السلام قال تعالى ﴿وَقُل رَبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المُنزِلِينَ﴾ (4)وفي قصة إبراهيم قال تعالى {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ (5)، وفي قصة موسى قال تعالى ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىَ﴾ (6) ، وقال تعالى مخاطباً إياه {فَأَخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى} (7). وقال تعالى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبَطْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (8) ، وقال تعالى {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِي أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} (9) ، وقال تعالى ﴿ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ (10)، وجاء في قصة سليمان قال تعالى {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةٌ تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي

ص: 276


1- أخرج القرطبي في تفسيره 283/9 عن جابر بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي علیه السلام : الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ النبي صلی الله علیه و آله وسلم [وفي الارض قطع متجاورات] حتى بلغ قوله [يسقى بماء واحد .] وروى الحديث عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم من الصحابة ابن عباس وابن عرف وابن مسعود وابن عمر في أكثر من عشرين مصدرا.
2- سورة فصلت الآية 10.
3- سورة آل عمران، الآية 96 .
4- سورة المؤمنون، الآية 29 .
5- سورة الأنبياء الآية 71 .
6- سورة النازعات، الآية 16 .
7- سورة طه الآية 12 .
8- سورة القصص الآية 30 .
9- سورة النمل، الآية 8 .
10- سورة المائدة ، الآية 21 .

بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (1) ، وفي قصة سبأ قال تعالى ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ...} (2) .

فهذه الآيات ونحوها تدلّ على مباركة البارى جلّ وعلا لبعض الأرضين، ففضّل بعضها على بعض، ولما كانت الآيات السابقة في قصص الأنبياء والمرسلين السابقين، فقد يزعمُ أفاك مبين أنها كانت لهم ولأممهم تلك الخاصّة، وهي تفضيل أرض على أرض بالبركة، وتقديس بقعة دون أخرى، فهلم الآن لنقرأ في الوحي المبین ما خصَّ الله تعالى به نبيّه الكريم سید المرسلین صلى الله عليه وآله أجمعين : قال تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (3). هذه جملة من الآيات دلّت على مباركة الله سبحانه البقاع مخصوصة من أرضه لحكمةٍ جرت في علمه، ولا يسع المسلم - أيّ مسلم كان - أن ينكر ورود ذلك في القرآن الكريم.

البقاع تشقى وتُسعد

ولعل القارئ تجيش في صدره وساوس الشيطان، فيسأل بأنه صحيح ما ورد في القرآن الكريم، ولكن لا يدلّ ذلك على كرامة وقدسية أرض كربلاء لتؤخذ التربة منها ويُسجد عليها!!! فمن أين يقول الشيعة بذلك؟

وهذا ما سيقرأ جوابه في المبحث الرابع عن قريب إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرنا الذي ذكرنا لنثبت للقارئ الكريم أن بقاع الأرضين تشقى وتسعد، كما هو حال أبنائها، وهذا أمر موجود ومنظور في الواقع المعاش عندنا حتى اليوم وفي شتى بقاع العالم، فنرى بقاعاً كانت سعيدة فلا يعصى الله عليها، ولكن أخنى عليها الذي أخنى على لبدِ، فتبدّلت الحال وزالت عنها الرسوم، فأصبحت خالية خاوية لا يؤبه بها. كما

ص: 277


1- سورة الأنبياء، الآية 81 .
2- سورة سبأ، الآية 18 .
3- سورة الإسراء، الآية 1 .

نرى بقاعاً كانت شقيّة ومباءة للفساد، فحولّت إلى بيت للعبادة، وما أكثر الشواهد

على ذلك، وتلك سنة الله في خلقه ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.

وفي جميع تلك الأحوال التي تتبدل فيها الظواهر، فثمة خصائص تبقى ولو بعد زوال تمام الآثار، وما طرأ عليها من الاندثار، ما دام يصدق عليها بقاء العنوان الأولي، وخذ مثلاً على ذلك الأرضين اللاتي عاشت عليها أمم القرون الخالية كعادٍ وثمود مثلاً، أو باقي الأرضين اللاتي حلّ بأهلها العقاب ونزل عليها العذاب، فخسف بها وبأهلها، فهي تبقى أرضاً منهيّاً عن النزول فيها، ومرغوباً عما فيها من ماء أو كلاء مثلاً ، فضلاً عن أداء الصلاة فيها.

فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر قال : لماّ مرّ النبى صلى الله عليه وآله وسلم بالحِجر قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين. ثم قنّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي (1).

فهذا الحديث كما ترى متفق عليه في مصطلح العامة.

وجاء في حديث آخر أخرجه مسلم في صحيحه، عن ابن عمر أيضاً : إن الناس نزلوا الحجر - أرض ثمود - فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (2).

وذكر البخاري في صحيحه ما يلي : ويذكر أن علياً رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل (3) .

ص: 278


1- صحيح البخاري 7/6، كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجر، صحیح مسلم 221/8، کتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين.
2- صحیح مسلم 221/8 .
3- صحيح البخاري 90/1، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب .

أقول : لا ضير إذا ما ذكره البخاري معلقاً ولم يخرّج حديثه، فقد أخرجه ابن أبي شيّبة في المصنف بسنده عن عبد الله بن أبي المحل : أن علياً مرّ بجانب من بابل فلم يصلِّ بها. وأخرجه عن حجر بن عنبس الحضرمي، قال : خرجنا مع علي إلى النهروان، حتى إذا كنّا ببابل حضرت صلاة العصر، قلنا : «الصلاة» فسكت، ثم قلنا : «الصلاة» ، فسكت، فلما خرج منها صلّى، ثم قال : ما كنت لأصلي بأرض خسف بها، ثلاث مرات (1) .

ورواه أيضاً أبو داود في سننه بسنده عن أبي صالح الغفاري، أن علياً مرّ ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه لصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ قال: إن - حبي - حبيبي صلی الله علیه و آله وسلم نهاني أن أصلّي في المقبرة، ونهاني أن أصلّي في أرض بابل، فإنها ملعونة (2) .

قال ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدخول إلى أماكن المعذَّبين إلا مع البكاء، خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم، ونهى عن الانتفاع بمياههم، حتى أمرهم - مع حاجتهم في تلك الغزوة، وهي غزوة العسرة، وهي أشد غزوة كانت على المسلمين - أن يعلفوا النواضح بعجين مائهم.

وكذلك أيضاً روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب . فروى أبو داود بسنده عن أبي صالح الغفاري... ثم ذكر الحديث الأنف ذكره ، ثم قال : وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أصح من هذا - يعني إسناد أبي داود في الحديث المتقدم - عن علي رضي الله عنه نحواً من هذا، أنه كره

ص: 279


1- المصنف 377/2 .
2- سنن أبي داود، كتاب الصلاة باب المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها ( المنهل العذب المورود 113/4).

الصلاة بأرض بابل وأرض الخسف قال : وكره أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعاً لعلي رضي الله عنه (1) .

والحديث كما يدل على النهي عن الصلاة في أرض بابل، كذلك يدل على أن عقوبة المعاصي تجرّ بذيلها على المكان الذي وقعت فيه، فيُحرَم من حصول الخير فيه، فيشقى حتى تصيبه اللعنة (2) .

ص: 280


1- اقتضاء الصراط المستقيم، ص 80 - 81 .
2- من العجيب أن حديث مرور الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ببابل يرويه من ذكرنا وهم يتلجلجون في روايته، لماذا ؟ فانظر البخاري يذكره معلقا ولم يذكره مسندا!! وغيره يذكره مغمغما في آخره!! أتدرون لماذا ذلك؟ لأن فيه كرامة من الله تعالى للإمام على علیه السلام أمير المؤمنين، لم تقو النفوس المراض على ذكرها، وإليك حديث مرور الإمام ببابل وامتناعه من الصلاة فيها مع ذكر تلك الكرامة. فإلى القارئ حديثها حسب التسلسل التاريخي لمصادرها : أخرج نصر بن مزاحم المتوفى سنة 212ه- في كتابه وقعة صفين، ص 151 عن أبي مخنف عن عمه ابن مخنف، قال : إني لأنظر إلى أبي مخنف بن سُليم وهو يساير علياً ببابل وهو يقول : إن ببابل أرضاً قد خُسف بها، فحرّك دابّتك لعلّنا نصلي العصر خارجاً منها، قال : فحرّك دابته، وحرّك الناس دوابّهم في إثره، فلما جاز جسر الصراة نزل فصلى بالناس العصر. وأخرج أيضاً في ص 152 بسنده عن عبد خير قال : كنت مع عليّ أسير في أرض بابل، قال : وحضرت الصلاة صلاة العصر ، قال : فجعلنا لا نأتي مكاناً إلا رأيناه أفيح من الآخر ، قال : حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا وقد كادت الشمس أن تغيب قال : فنزل علي ونزلت معه، قال : فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، قال : فصلينا العصر، ثم غابت الشمس. وأخرج الصفار المتوفى سنة 290 ه- في كتابه بصائر الدرجات، ص 58 بسنده عن جويرية بن مسهر قال : أقبلنا مع أمير المؤمنين علیه السلام من قتل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر ، قال : فنزل أمير المؤمنين علیه السلام ونزل الناس فقال أمير المؤمنين علیه السلام: يا أيها الناس، إن هذه الأرض ملعونة، وقد عُذبت من الدهر ثلاث مرات، وهي إحدى المؤتفكات، وهي أول أرض عُبد فيها وثن، إنه لا يحل لنبي ولا وصي نبي أن يصلي فيها. فأمر الناس فمالوا عن جنبي الطريق يصلون، وركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمضى عليها. قال جويرية : فقلت : والله لأتبعنّ أمير المؤمنين علیه السلام ، ولا قلدنّه صلاة اليوم . قال : فمضيت خلفه، فوالله ما چزنا جسر سوراء حتى غابت الشمس. قال : فسببته أو هممت أن أسبّه ، قال : فقال : يا جويرية، أذَن . قال : فقلت : نعم يا أمير المؤمنين . قال : فنزل ناحية فتوضاً، ثم قام فنطق بكلام لا أحسبه إلا بالعبرانية، ثم نادى : الصلاة. فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صریر، فصلّى العصر وصلّيت معه . قال : فلما فرغنا معه. قال : فلما فرغنا من الصلاة عاد الليل كما كان، فالتفت إلي فقال : يا جويرية بن مسهر، إن الله يقول {فسبّح باسم ربك العظيم} فردّ على الشمس. وأخرج الشيخ الصدوق المتوفى سنة 380 ه- في كتابيه من لا يحضره الفقيه 130/1 و علل الشرائع 41/2بلفظ الأول منهما : روى جويرية بن مسهر أنه قال : أقبلنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام من قتل الخوارج، حتى إذا قطعنا أرض بابل حضرت صلاة العصر ، فنزل أمير المؤمنين علیه السلام ونزل الناس، فقال عليٌّ علیه السلام أيها الناس إن هذه أرضٌ ملعونة قد عُذبت في الدهر ثلاث مرات - وفي خبر آخر مرتين، وهي تتوقع الثالثة - وهي إحدى المؤتفكات، وهي أول أرض عُبد فيها وثن، وإنه لا يحلّ لنبي ولا لوصي نبي أن يصلي فيها، فمن أراد منكم أن يصلي فليصلّ. فمال الناس عن جنبي الطريق يصلون، وركب هو علیه السلام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومضى، قال جويرية : فقلت والله لأتبعنَّ أمير المؤمنين علیه السلام والأقلدنه صلاتي اليوم، فمضيت خلفه، فوالله ما جزنا جسر سوراء حتى غابت الشمس فشككت! فالتفت إلي وقال: يا جويرية أشككت؟ فقلت : نعم يا أمير المؤمنين فنزل علیه السلام عن ناحية، فتوضأ ثم قام فنطق. بكلام لا أحسنه إلا كأنه العبراني، ثم نادى : الصلاة. فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صرير، فصلى العصر وصليت معه، فلما فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان، فالتفت إليّ وقال : يا جويرية بن مسهر، إن الله عز وجلّ يقول {فسبح باسم ربك العظيم}، وإني سألت الله عز وجل باسمه العظيم فردّ عليّ الشمس. وروي أن جويرية لما رأى ذلك قال: وصي نبيٌ وربّ الكعبة. وأخرج الحديث الشريف الرضي المتوفى سنة 406ه- في خصائص أمير المؤمنين، ص 24 بطريقين، مسنداً ومرسلاً، وأخرجه الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460ه- في كتابه الأمالي 284/2 ، وأخرجه ابن فهد الحلي المتوفى سنة 846ه- في كتابه عدة الداعي في شرائط استجابة الدعاء.

أسباب التفاضل

إذن لا ريب في أن الأرض كما أنها ليست في كل أجزائها متساوية في الطبيعة، فكذلك ليست كل أجزائها متساوية في الفضل والحيثية، فربّ أرض تكون لها الفضيلة بجعل من الشارع المقدس، فمثلاً لننظر إلى أرض المسجد - أيّ مسجد كان - قبل أن تكون مسجداً هي وغيرها سواء، ولكنها بعد أن طرأ عليها عنوان المسجدية ، صارت ذات أحكام خاصة بها، لا تساويها بقية الأرض التي هي ليست بمسجد، وإن كانت بجوارها فلا يجوز تنجيسها، بخلاف غيرها، كما لا يجوز مكث الجنب والحائض فيها بخلاف غيرها، ويكره البصاق والتنخم والفحش واللغو والبيع والشراء فيها، إلى غير ذلك من أحكام المساجد، مما هو جائز خارج المسجد ومحظور فيه.

ولو نظرنا إلى طبيعة أرض المسجد - مثلاً - لرأيناها هي هي لم تتغير عما سبق حالة المسجدية، سوى طروء عنوان المسجد عليها، فجعل لها ذلك العنوان أحكاماً

ص: 281

خاصة، وذلك بجعل من الشارع المقدّس .

ثم أن الشارع المقدّس هو الذي جعل لبعض المساجد فضلا على بعض المساجد، فجعل للمسجد الحرام ومسجد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمسجد الأقصى ومسجد الكوفة، أحكاماً خاصة ميَّزتها بالفضل ، كفضل الصلاة فيها على غيرها من سائر المساجد.

وكذلك فضّل بعض المساجد على بعض، فجعل التفاضل بينها في الثواب، فالصلاة في المسجد الجامع أفضل من الصلاة في غيره، والصلاة في مسجد المحلة أو مسجد السوق أو مسجد القبيلة أفضل من الصلاة في غير ذات العناوين المذكورة مما هو دونها، فكلما كان المسجد أجمع، كان في عنوان فضله أوسع، فالفضل في الشأن تبع للعنوان .

وقد اشترط الشارع المقدس في تعظيم المسجد أن يكون على التقوى تأسيسه، أما ما أسس على غير تقوى فلا كرامة له كما جاء في مسجد الضِرار، فقد قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفنّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبداً، لمسجدٌ أُسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهروا والله يحبّ المطّهرين}(1) .

وكذلك كانت عدة مساجد في الكوفة تسمَّى بالمساجد الملعونة، وهي مسجد سماك ومسجد الأشعث بن قيس ومسجد ثقيف ومسجد جرير البجلي ومسجد بالحمراء (2) .

فتبيَّن من جميع ما تقدم أن قدسية المكان إنما هي باعتبار شرعي وليست اعتباطاً ، وإذا تحققنا ذلك فلا شك أن ما ورد في تعظيم قبور الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين لم يكن بدعاً من القول، بل لها من القداسة والشرف على ما سواها

ص: 282


1- سورة التوبة، الآيتان 107-108 .
2- راجع تأريخ الكوفة، ص70-86 .

باعتبار إضافتها إليهم، وشرف المكان من شرف المكين، فكلما كان المكين أفضل، كان المكان المنسوب إليه أيضاً أفضل. وعلى هذه البديهية أفتى السبكي بأن قبر النبي صلی الله علیه و آله وسلم أفضل من الكعبة، لأنه حوى جثمان الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، وإليك المزيد في بيان ذلك من خلال كلمات الأعلام :

1 - قال البرهان الحلبي في سيرته بعد ذكره لدفن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم : وقام الإجماع على أن هذا الموضع الذي ضمّ أعضاءهَ الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة الشريفة ، قال بعضهم : وأفضل من بقاع السماء حتى من العرش... (1).

2 - وقال الشريف السمهودي في كتابه وفاء الوفاء في جهات تفضيل المدينة على جميع الأرضين : الثانية : اشتمالها على البقعة التي انعقد الإجماع على تفضيلها على سائر البقاع (2).

3 - وقال أيضاً : قد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضمّ الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة المنيفة (3) .

4 - وقال أيضاً : نقل الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة القاضي عيّاض، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي قبله، كما قال الخطيب من جملة. وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة (4).

بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش، وحكى ذلك السخاوي في التحفة اللطيفة، ثم نقل كلاماً مطولاً في تفضيل مرقد النبي صلی الله علیه و آله وسلم على الكعبة والعرش (5) .

ص: 283


1- سيرة الحلبي 306/3 .
2- وفاء الوفاء 52/1.
3- المصدر السابق 19/1.
4- المصدر السابق 20/1 .
5- التحفة اللطيفة 28/1 ، وذكر ابن القيّم في بدائع الفوائد ذلك عن ابن عقيل لما سئل عن المفاضلة بین الحجرة والكعبة فقال : إن أردت مجرد الحجرة فالكعبة أفضل، وإن اردت وهو صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فلا والله، لا العرش وحَمَليه ولا جنة عدن، ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح.

قبر الحسين علیه السلام كقبر النبي صلی الله علیه و آله وسلم

والآن وبعد نقل الإجماع على أن قبر الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم أفضل البقاع كلها، لأنه ضمّ أعضاءه الشريفة، فماذا يكون حكم قبر الحسين بن علي علیهم السلام، الذي قال فيه جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: (حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحب حسيناً، حسينُ سبط من الأسباط). وقال فيه : (الحسين سيد الشهداء). وقال أيضاً : (حسينٌ منى وأنا منه، أحبّ الله من أحبّه) إلى غير ذلك...

وهذه الأحاديث الشريفة قد أخرجها الحفّاظ في أسفارهم وأخبتوا مذعنين بصحتها، وإلى القارئ أسماء بعض الذين أخرجوها :

1 - البخاري في الأدب المفرد 455/1 برقم 364 ، وفي كتابه التاريخ الكبير 414/8 - 415 بطريقين.

2 - الترمذي في سننه 658/5 ، باب مناقب الحسن والحسين برقم 3775 .

3 - ابن ماجة في سننه، برقم 144 .

4 - ابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن، ص 554 ، برقم 2240 .

5 - أحمد بن حنبل في مسنده 172/4 بسندين، وفي الفضائل رقم 1361.

6 - الطبراني في معجمه الكبير 20/3-22 .

7 - ابن أبي شيبة في المصنف 103/12 .

8 - الخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح برقم 1660.

9 - سعيد بن منصور في سننه كما في ذخائر العقبى، ص 133.

10 - أبو حاتم في سننه كما في المصدر السابق.

11 - الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين 177/3 وصححه.

ص: 284

12 - الذهبي في تلخيص المستدرك بهامشه 177/3 وصححه، وأخرجه في كتابه سیر أعلام النبلاء 190/3 وفي كتابه تاريخ الإسلام 9/3.

13 - ابن الأثير فى أسد الغابة 19/2، 130/5 .

14 - الكمال الخزرجي في خلاصة تهذيب الكمال، ص 71 .

15 - ابن الأثير في جامع الأصول 29/9، وفي كتابه النهاية 153/2.

16 - ابن عساكر في تاريخه (ترجمة الإمام الحسين علیه السلام) ، ص 79 - 82 .

17 - الدولابي في الكنى والأسماء 88/1 .

18 - السيوطي في اللثالي المصنوعة 88/1 .

19 - المزي في تهذيب الكمال 401/6 .

20 - المحب الطبري في ذخائر العقبى، ص 133.

21 - العجلوني في كشف الخفاء 419/1 .

22 - المتقي الهندي في كنز العمال برقم 34289 ،34264، 34328، 34684. وفي منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 105/5، 109 .

23 - الزمخشري في الفائق 8/2 .

24 - البغوي في مصابيح السنة، ص 208 .

25 - النووي في تهذيب الأسماء واللغات 162/1.

26 - الفسوي في المعرفة والتاريخ 308/1 .

27 - الكنجي الشافعي في كفاية الطالب، ص 207 .

28 - الخوارزمي في مقتل الحسين 146/2 .

29 - القرماني في أخبار الدول، ص 107 .

30 - ابن كثير الشامي في البداية والنهاية .206/8.

31 - أبو زرعة العراقي في طرح التثريب 41/1 .

ص: 285

32 - الهيثمي في مجمع الزوائد 181/9.

33 - الإمام الشجري في الأمالي الشجرية 177/1 .

34 - ابن بدران في تهذيب تاریخ ابن عساكر 318/4 .

35 - السخاوي في المقاصد الحسنة، ص 190 ، وفيه شطر من الحديث.

36 - ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب من الخبيث، ص 86 وفي تيسير الوصول 149/2 .

37 - ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ، ص190.

38 - السيوطي في الجامع الصغير 370/1 .

39 - ابن طولون الدمشقي في الشذرات الذهبية، ص 71.

40 - النبهاني في الشرف المؤبد، ص 71 ، وفي الفتح الكبير 72/2 .

41 - الزرندي في نظم درر السمطين، ص 208 .

42 - الحمزاوي في مشارق الأنوار، ص 114.

- ابن حمزة الدمشقي في البيان والتعريف 23/2.

44 - الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 307/5، وفي تاج العروس 148/5 .

45 - ابن المغازلي الشافعي في كتابه المناقب .

46 - ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤل، ص 71 .

47 - الروداني في جمع الفوائد 339/2 .

48 - ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، ص 177.

49 - النابلسي في ذخائر المواريث 132/3.

50 - المناوي في الكواكب الدرية 54/1 ، وفيض القدير 387/3، وفي كتابه التيسير 498/1 .

51 - الصفوري في نزهة المجالس 230/2 .

ص: 286

52 - القندوزي الحنفي في ينابيع المودة / 164، 166، 183، 223.

53 - الصبان في إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار، ص 206.

54 - العزيزي في السراج المنير شرح الجامع الصغير 227/2 .

إلى غير هؤلاء ممن يعسر الإحاطة بهم، وفيما ذكرته تبصرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

والآن نعود إلى السؤال المتقدم : ماذا يكون حكم قبر الحسين علیه السلام بعد أن عرَّفنا النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنه منه ؟

ألم يؤكِّد هذه الحقيقة التبعيضية التي عبّر عنها بقوله في حديثه (حسينٌ مني) في تأويله لرؤيا أم الفضل بنت الحارث زوج عمِّه العباس بن عبد المطلب، حيث جعله بمثابة عضو من أعضائه ؟

فقد دخلت أم الفضل بنت الحارث على النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، فقالت : يا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إني رأيت حُلماً منكراً الليلة. قال : وما هو ؟ قالت : إنه شديد، قال : وما هو؟

قالت : رأيت كأن قطعة من جسدك قُطعت ووُضعت جسدك قطعت ووضعت في حجري. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : رأيت خيراً، ستلد فاطمة - إن شاء الله - غلاماً فيكون في حجركِ. فولدت فاطمة سلام الله عليها الحسين علیه السلام.

قالت أم الفضل : فكان في حجري كما قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم (1).

ص: 287


1- راجع تفصيل الحديث في المصادر التالية : المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 176/3. وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وسنن ابن ماجة 2/ 230 ، والخصائص الكبرى للسيوطي 449/2، وطبقات ابن سعد، ترجمة الحسين صلی الله علیه و آله وسلم ، ص 18 تحقيق عبد العزيز الطباطبائي، ومشكاة المصابيح للخطيب التبريزي 264/3 ، والصواعق المحرقة لابن حجر، ص 190، ومقتل الحسين للخوارزمي الحنفي 158/1 ، والبداية والنهاية لابن كثير 230/6، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي، ص 382، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ، ص 178 ، وكنز العمال للمتقي الهندي 108/13 ، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 111/5 ، وأخبار الدول للقرماني، ص 107 ، وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين - ع).

وللحديث بقية تأتي في تربة الحسين يحملها الروح الأمين، ويدفعها إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

وعلى ضوء هذه الحقيقة كان ابن عمر يقول للحسين علیه السلام وقد عزم على المسير إلى العراق : وإنكم بضعة منه (1) .

وعليه جاء قول المناوي في التيسير : علم بنور الوحي ما يحدث بينه وبين القوم، فخصه بالذكر وبيّن أنهما كشي واحد في حرمة المحاربة. وقال في تفسير (سبط من الأسباط) : أكّد به البعضية (2) .

إذن فالحسين علیه السلام من النبي صلی الله علیه و آله وسلم بمثابة عضو من بمثابة عضو من أعضائه، وهو كقطعة من جسده الشريف بحكم تأويله صلی الله علیه و آله وسلم فتربته كتربة قبر جده في التكريم وحق التعظيم، لأنها ضمّت بعضاً وبضعة من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فعلى هذا البيان قد استبان وجه تفضيلها على غيرها.

ولا غرابة بعد هذا اذا ما قرأنا قول الإمام الصادق علیه السلام: ما خلق الله خلقاً أكثر من الملائكة، وانه ينزل من السماء كل مساء سبعون ألف ملك يطوفون بالبيت الحرام ليلتهم، حتى اذا طلع الفجر انصرفوا الى قبر النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر أمير المؤمنين علیه السلام فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر الحسين علیه السلام فيسلمون عليه، ثم يعرجون الى السماء قبل أن تطلع الشمس، ثم ينزل ملائكة النهار سبعون ألف ملك فيطوفون بالبيت الحرام نهارهم حتى اذا غربت الشمس انصرفوا الى قبر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيسلمون عليه، ثم يأتون قبر أمير المؤمنين علیه السلام الفيسلمون عليه، ثم يأتون قبر الحسين علیه السلام فيسلمون عليه ثم يعرجون الى السماء قبل أن تغيب الشمس.

ص: 288


1- راجع الحديث في سير أعلام النبلاء للذهبي 196/3 والعقد الفريد لابن عبد ربه 384/4 ، وإسعاف الراغبين، ص 16 بهامش نور الأبصار.
2- التيسير في شرح الجامع الصغير 498/10 ، ونحو ذلك في فيض القدير والسراج المنبر وغيرهما.

فإن هذا الحديث أخرجه من العامة محمد بن مسلم بن أبي الفوارس من أئمة الحديث في القرن السادس في أربعينه، الحديث 12 بزيادة في آخره (نسخة مخطوطة).

كما أخرجه من الخاصة ابن قولويه من أئمة الحديث في القرن الرابع في كتابه كامل الزيارات 114 ط النجف والحديث ليس بمستغرب بعد ما أخرج الدارمي في مسنده وكتابه معدود من الصحاح ج 44/1 بسنده عن نبيه بن وهب أن كعباً دخل على عائشة، فذكروا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال كعب : ما من يوم يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفّوا بقبر النبي صلی الله علیه و آله وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة يزفّونه.

ص: 289

ص: 290

المبحث الرابع : في وجه تفضيل التربة الحسينية

اشارة

ماذا أقول في تربة أبان الله تعالى فضلها لنبيّه صلی الله علیه و آله وسلم على لسان ملائكته المقرّبين، بدءاً من الروح الأمين جبرئيل علیه السلام، ومروراً بملك القَطر والمطر وغيره من الملائكة رسل إله العالمين، وذلك من قبل أن يولد الحسين علیه السلام وبعد أن ولد، وقبل أن يستشهد فيها، ثم زاد في فضلها بعدما أريق عليها دمه الطاهر، ما ورد على لسان الأئمة المعصومين أليست هكذا تربة حقيقة بالتعظيم وجديرة بالتكريم؟!

فتريةٌ يحملُها جبريلُ *** مِن حقَّها التبجيلُ والتفضيلُ

وكم سِواه مَلَكُ أتى النبي *** يريه مِن تربةِ ذلك الصبى

كلٌ أتى بها النبيّ مُعرِبا *** عن غيبِ ما يجري عليها من نبا

شهادة السبط مع القرابة *** في عصُبةٍ من خِيرةِ الصحابة

لذا أتى في فضِلها مِن القُرب *** ما لم يكن لغيرِها من التُرَبْ

يا أيها المسلمُ فاسجد واقترب *** مِنها عليها تخرقُ السبعَ الحُجب

ولو رجعنا إلى كتب الحديث والتاريخ والتراجم نستجلي فيها حقيقة التربة الحسينية، فإنا سنجد فيها من الدلائل البينات - ولا أقول إنها إشارات - بمثابة إرهاصات بما سيكون لهذه التربة من شأن، وما سيجري عليها من أحداث، وذلك يؤكد أن ما ورد فيها عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم من بالغ الاهتمام لم يكن اعتباطاً، ولا صدر عن

ص: 291

مجرّد عاطفة، بل ثمة وحيّ منزَل، على لسان ملَكَ مرسل إلى النبي الممثل، في شخص سبطه المؤهّل، للقيام بدوره لوحده، في إقامة شرع جده، فالإسلام محمّدي الحدوث حسيني البقاء. لذلك كان النبي طصلی الله علیه و آله وسلم ينوّه بابنه الحسين وفضل تربته، وينشر حديثها في أمته، من قبل ولادته، كما سنقرأ فيما يأتي ما يؤكد أنه صلی الله علیه و آله وسلم كان يتابع سيرته تلك بعد ولادة الحسين متدرّجاً مع عمره حسب ما يأتي من السنين، فيُري تربته التي أتاه بها الملائكة المقربون لأهل بيته وأزواجه وأصحابه.

ألا يوحي كل ذلك الاهتمام الكبير والإعلان الخطير عن سرّ لم يعرف المسلمون كنهه إلّا بعد حين؟

لذلك كان لتربة الحسين علیه السلام من الفضل والشأن ما لم يكن لغيرها من سائر الترب، وما يدرينا ما أودع الله تعالى فيها من خاصة حتى في طبيعة تكوينها الجيولوجي، حتى صارت شفاءاً من كل داء إلا السام كما سيأتي، فهي أرض ولكن ليست كسائر الأرضين، مضافاً إلى خاصة مَن احتضنته، وسعدت برمسه، فإنه علیه السلام كانت له خاصة لم تكن لغيره من سائر الناس، بل وحتى لجده وأبيه وأمه وأخيه، على أنهم كانوا جميعاً من شجرة واحدة ونور واحد ونهج واحد، إلا أنه قد حصل للحسين ما لم يحصل لأي أحد من قريب أو بعيد.

وهذا ما سأحاول استجلاءه للقارئ من خلال الأحاديث النبوية في خصوص التربة الحسينية وذلك في العناوين التالية :

1 - الروح الأمين يحمل تربة الحسين علیه السلام.

2 - ملك القطر والمطر يحمل تربة الحسيني علیه السلام .

3 - ملك لم ينزل قبل يحمل تربة الحسين علیه السلام.

4 - ملك البحار يحمل تربة الحسين علیه السلام.

5 - جميع ملائكة السموات يحملون تربة الحسين علیه السلام .

ص: 292

6 - أئمة أهل البيت والتربة الحسينية.

7 - فقهاء الشيعة والتربة الحسينية.

8 - نصيحة وتنبيه.

«1» الروح الأمين يحمل تربة الحسين علیه السلام.

لقد نزل الروح الأمين علیه السلام إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم مراراً، وعزاه بسبطه الحسين علیه السلام، وأراه تربته فأخذها النبي صلی الله علیه و آله وسلم فقلَّبها، وقبلها، وشمّها وقال : ريح كرب وبلاء. وأراها الجماعة من أهل بيته وأزواجه وأصحابه، وهم الذين روَوا حديثها، فكان منهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام.

وكان منهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

وكان منهم أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها. وكان منهم أم المؤمنين عائشة، وكان منهم أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنهما.

وكان منهم أبو أمامة، وكان منهم سعيد بن جمهان.

هؤلاء الذين وقفت على رواياتهم لحديث نزول الروح الأمين، وربما فاتني غيرهم ممن صح حديثهم (1).

ومهما يكن فإن الناظر في رواياتهم يجد معالم تعدد الوقائع تبعاً لتعدد النزول، إذ يلمس تفاوت الحالات التي كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم عليها حين النزول، فنجد حالة في رواية دون أخرى، وربما نجد في روايات الراوي الواحد وصف أكثر من حالة، كما سنقرأ

ص: 293


1- لقد روى الحديث المشار إليه عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرجه عنه أبو الشيخ والطبراني من طريقين. لكن طعن ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق في رجال الإسناد فتركت عده مع الصحابة.

ذلك في روايات الأسماء الأربعة الأوائل، وهذا كما يدل على تعدد النزول والإخبار، وحمل التربة، فهو يدل على مدى الاهتمام بها، وإدامة التنويه عنها، وعلى ذلك فلا عبرة بتشكيك المشككين الذين يحاولون من خلال إنكارهم للتعدد التقليل من شأن التربة، وبالتالي النيل من عظمة صاحبها، ولا نبخل على القارئ بنموذج من أولئك، ولا بد لنا من وقفة معه تكون بعد استعراض روايات أصحابها المذكورين.

1 - حديث الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام:

لقد أخرج حديث الإمام في التربة التي حملها جبرئيل علیه السلام إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم كثير من الحفاظ، ورووه عنه بأسانيدهم المتعددة، وإليك بعضاً منها:

ما أخرجه ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى في ترجمة الحسين علیه السلام، قال : أخبرنا علي بن محمد عن يحيى بن زكريا عن رجل عن عامر الشعبي قال : قال على وهو على شاطئ الفرات : صبراً أبا عبد الله. ثم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيناه تفيضان، فقلتُ: أحدثٌ حدث؟

فقال : أخبرني جبريل أن حسيناً يقتل بشاطئ الفرات. ثم قال : أتحب أن أريك من تربته؟

قلت : نعم. فقبض من تربتها، فوضعها في كفّي، فما ملكت عيني أن فاضتا (1).

أقول : إن كان ما أخرجه ابن سعد في سنده جهالة الرجل الراوي عن عامر الشعبي، فإن ما أخرجه أحمد والطبراني وسعيد بن منصور والخوارزمي وابن عساكر وأبو يعلى والبزار عن نجيّ الحضرمي ليس في أسانيدهم أيّ جهالة، بل قال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد ذكر الحديث بلفظه الآتي : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله ثقات ولم ينفرد نجيّ بهذا (2) .

وإليك حديثه كما في المصدر المذكور :

ص: 294


1- طبقات ابن سعد، ص 47 .
2- مجمع الزوائد 187/9 .

أنه سافر مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وكان صاحب مطهرته - فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى علي : اصبر أبا عبد الله بشط الفرات. قلت : وما ذاك؟ قال : دخلت على النبي صلی الله علیه و آله وسلم ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلت : يا نبي الله أغضبك أحد ؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال : بل قام من عندي جبريل علیه السلام قبل، فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات. قال : فقال : هل لك أن أشمّك من تربته؟ قلت : نعم. قال : فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عينيّ أن فاضتا.

وهذا الحديث أخرجه أحمد في المسند، وقال محقِّقه : وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، والبزار في مسنده وأبو يعلى في مسنده (1) .

أقول : وأخرجه ابن المغازلي المالكي في مناقبه (2) ، وأخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى (3)، وسبط ابن الجوزي في تذكرة خواص الأمة (4) ، وأخرجه أيضاً الذهبي في تاريخ (5) الإسلام عن ابن أبي شيبة وأبي يعلى وسنن سعيد بن منصور، وأخرجه أيضاً في سير أعلام (6)النبلاء.

وعلى ضوء هذا الحديث وأمثاله من إخبار النبي صلی الله علیه و آله وسلم لعلي علیه السلام بقتل الحسين علیه السلام، ومجي جبرئيل علیه السلام إليه بشي من تربته التي يقتل بها، مضافاً إلى ما استودعه من علم اختصه به (7) كان الإمام أمير المؤمنين علیه السلام يخبر بذلك أيضاً.

ص: 295


1- مسند أحمد بن حنبل 60/2 .
2- مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ص 397 .
3- الخصائص الكبرى 451/2-452 .
4- تذكرة خواص الأمة، ص 142 .
5- تاريخ الإسلام 655/13،10/3.
6- سير أعلام النبلاء 193/3 .
7- لقد صح عنه علیه السلام قوله : علمني رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ألف باب من العلم، واستنبطت من كل باب ألف ،باب اخرج ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير في ذيل تفسير قوله تعالى {إن الله اصطفى آدم و نوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} في أوائل سورة آل عمران. وأخرج نحوه المتقي الهندي في كنز العمال 392/6 .

فمن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناده عن هاني بن هاني عن علي، قال : ليقتلنّ الحسين ظلماً (قتلا)، وإني لأعرف بتربة الأرض التي بها يقتل، يقتل قريباً من النهرين (1).

وهذا الحديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه في ترجمة الحسين (2). كما أخرجه المتقي الهندي في كنز (3) العمال، وأخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء (4).

ومن ذلك ما أخرجه الشيخ الصدوق ابن بابويه في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة، في حديث كل رواته من رجال العامة، ينتهي سنده إلى مجاهد عن ابن عباس ، قال : كنت مع أمير المؤمنين علیه السلام في خرجته إلى صفين، فلما نزل نينوى وهو شط الفرات صاح بأعلى صوته : يا ابن عباس، أتعرف هذا الموضع ؟ قال قلت : ما أعرفه يا أمير المؤمنين علیه السلام. قال : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي.

قال: فبكى طويلاً حتى اخضلّت لحيته، وسالت الدموع على خدّيه، وبكينا معه، وهو يقول : أوه أوه، مالى ولآل أبي سفيان، مالی ولآل حزب الشيطان وأولياء الكفر. صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم.

ثم ذكر ابن عباس كلاماً طويلاً قاله الإمام إلى أن قال : والذي نفس علي بيده لقد حدثني الصادق المصدّق أبو القاسم صلی الله علیه و آله وسلم أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يدفن فيها تسعة عشر رجلاً كلهم من ولدي وولد فاطمة علیها السلام، وإنها لفي السماوات معروفة تذكر : أرض كرب وبلاء، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس.

ثم قال : يا ابن عباس أطلب لي حولها بعر الظباء، فوالله ما كذبت ولا كذبني قط،

ص: 296


1- المصنف 140/11 كتاب الإمارة ، 97/15 كتاب الفتن .
2- تاريخ ابن عساكر في ترجمة الحسين، ص 188 .
3- كنز العمال 106/7 .
4- سير أعلام النبلاء 195/3 .

وهي مصفرّة لونها لون الزعفران.

فقال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته : يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي فقال علیه السلام: صدق الله ورسوله. ثم قام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال: هي هي بعينها، أتعلم يا ابن عباس ما هذه البعر ؟

ثم حدثه بحديثها، إلى أن قال ابن عباس - ثم بكى بكاءاً طويلاً وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلاً، ثم أفاق فأخذ البعر فصرّها في ردائه، وأمرني أن أصرّها كذلك، ثم قال : يا ابن عباس إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً فاعلم أن أبا عبد الله علیه السلام قد قتل بها ودُفن. قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشد حفظي، لما افترض الله عليّ، وأنا لا أحلّها في طرف كمّي... إلى آخر الحديث، وهو طويل، فمن شاء الاطلاع عليه فليرجع إلى المصدر المذكور (1) .

2 - حديث ابن عباس حبر الأمة (رض) :

لفظ الحديث : أخرج البزار في مسنده بسنده عن ابن عباس (رض)، قال : كان الحسين جالساً في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال جبريل : أتحبّه؟ فقال : وكيف لا أحبّه وهو ثمرة فؤادي!! فقال : أما إن أمّتك ستقتله، ألا أُريك من موضع قبره؟ فقبض قبضة، فإذا تربة حمراء.

مصدر الحديث : البداية والنهاية لابن كثير 230/6 .

تعقيب :

لقد مرّ بنا فيما سبق حديث الإمام أمير المؤمنين علیه السلام مع ابن عباس في أرض كربلاء وما يجري على صعيدها الطاهر حيث معدن التربة الحسينية، ومرّ استيداع الإمام لابن عباس بعر الظباء التي أمره بطلبها، وجعلها علامة على قتل الحسين علیه السلام يوم تنفجر دماً عبيطاً، ثم حديث ابن عباس في شدة محافظته عليها وحرصه على

ص: 297


1- إكمال الدين وإتمام النعمة، ص 497 .

الاحتفاظ بها.

وكان ذلك يغنيني عن إضافة بقية أحاديث رواها ابن عباس رحمه الله في الموضوع نفسه، إلا حديثاً من أحاديثه رأيت لزاماً عليّ أن أذكره، لأنه يلقي الضوء على عدة جوانب من ذلك الحدث الجلل، كاهتمام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في تبليغ أمته بحدیث جبرئيل علیه السلام المشار إليه آنفاً، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلن ذلك في السفر والحضر، وأنه كان يحذّر أمته مغبة سوء أفعالهم من بعده، وأنه... وأنه...

ونظراً للمناسبة المشار إليها في حديث جبرئيل علیه السلام وإخباره بقتل الحسين علیه السلام، وحمل تربته إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ولما سيأتي بعد ذلك في حديث جميع الملائكة يعزوّن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، ويعرضون عليه تربة الحسين علیه السلام، وهذا ما يروي بعضه ابن عباس، فلنقرأ الآن حديثه :

قال ابن عباس : خرج النبي صلی الله علیه و آله وسلم إلى سفر له، ثم رجع وهو متغير اللون محمّر الوجه، فخطب خطبة بليغة موجزة وعيناه تهملان دموعاً قال فيها :

أيها الناس إني خلّفت فيكم الثقلين (1): كتاب الله وعترتي وأرومتي، ومزاج مائي وثمرتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ألا وإني انتظرهما، ألا وإني لا أسألكم في ذلك إلا ما أمرني ربي أن أسألكم به المودة في القربى (2)، فانظروا لا

ص: 298


1- حديث الثقلين هو الحديث الذي وضع فيه النبي صلی الله علیه و آله وسلم للناس مرجعاً يرجعون إليه في جميع المشاكل التي تعترض حياتهم دينا ودنيا، وألزمهم بالتمسك بالتقلين اللذين هما المصدران الوحيدان اللذان لن يضل من تمسك بهما، وهما لن يفترقا حتى يردا على النبى الحوض. وقد أمر صلی الله علیه و آله وسلم أمته بالتمسك بهما، في أكثر من خطبة وفي أكثر المناسبات ، أولها يوم الطائف، ثم يوم عرفة في حجة الوداع وفي مسجد الخيف يمنى في تلك الحجة ويوم الغدير. وقبل موته بايام يسيرة، وآخرها في حجرته وقد غصَّت بأصحابه وأخرج الحديث المذكور خلق كثير من الحفاظ وأئمة السنن والمسانيد وأرباب التفسير والسيرة والتاريخ في أكثر من مائة مصدر، رووه عن أكثر من أربعين صحابياً.
2- إشارة منه صلی الله علیه و آله وسلم إلی قوله تعالی {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي} الشورى: 23 ، وقد ذكر غير واحد من المفسرين والمؤرخين أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين، وإليها أشار الكميت الأسدي بقوله : وجدنا لكم في آل حاميم آية *** تأولها منهم تقي ومعربُ

تلقوني على الحوض وقد أبغضتم عترتي وظلمتموهم، ألا وإنه ستَردُ عليّ في القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة : راية سوداء مظلمة، فتقف عليّ، فأقول : من أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون : أهل التوحيد من العرب. فأقول : أنا أحمد نبي العرب والعجم. فيقولون : نحن من أمتك يا أحمد. فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربي؟ فيقولون : أما الكتاب فضيعناه ومزقناه، وأما عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن جديد الأرض. فأُولي وجهي عنهم، فيصدرون ظماءاً عطاشاً مسودة وجوههم.

ثم ترد عليّ راية أخرى أشدّ سواداً من الأولى، فأقول لهم : من أنتم؟ فيقولون كالقول الأول بأنهم من أهل التوحيد، فإذا ذكرت لهم اسمي عرفوني وقالوا : نحن من أمتك. فأقول لهم : كيف خلفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر؟ فيقولون : أما الأكبر فخالفناه، وأما الأصغر فخذلناه، ومزقناهم كل ممزّق. فأقول لهم : إليكم عني، فيصدرون ظماءاً عطاشى مسودّة وجوههم.

ثم ترد عليّ راية أخرى تلمع نوراً، فأقول لهم : من أنتم؟ فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى، نحن أمة محمد، ونحن بقية أهل الحق الذين حملنا كتاب ربّنا فحلّلنا حلاله، وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذرية محمد فنصر ناهم بما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم، وقتلنا من ناواهم فأقول لهم : ابشروا فأنا نبيكم محمد، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم. ثم أسقيهم من حوضي فيصدرون رواءاً.

ألا وإنَّ جبرئيل قد أخبرني بأن أمتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء، ألا فلعنة الله على قاتله وخاذله آخر الدهر.

قال ابن عباس : ثم نزل عن المنبر، ولم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا وتيقّن بأن الحسين مقتول حتى إذا كان في أيام عمر بن الخطاب وأسلم كعب

ص: 299

الأحبار، وقدم المدينة جعل أهل المدينة يسألونه عن الملاحم التي تكون في آخر الزمان، وكعب الأحبار يحدّثهم بأنواع الملاحم والفتن.

فقال كعب لهم : وأعظمها ملحمة هي الملحمة التي لا تنسى أبداً، وهو الفساد الذي ذكره الله تعالى في الكتب وقد ذكره في كتابكم في قوله {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وإنما فتح بقتل هابيل ويختم بقتل الحسين بن علي.

مصدر الحديث : مقتل الحسين للخوارزمي 162/1 . تاريخ ابن أعثم الكوفي (الفتوح) 217/4 - 218 .

3 - أحاديث أم المؤمنين أم سلمة :

لقد روى الرواة عن أم سلمة أحاديث تبلغ عشراً أو تزيد، تتفاوت في بيانها بين الإجمال والتفصيل، بعضها يدل على التعدد، وإننا ننتخب منها خمسة أحاديث، تلك التي تدل على تعدد الوقائع التي أخبرها فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنزول جبرئيل وإخباره بمقتل الحسين وإتيانه بتربته. وهي كما يلي :

الحديث الأول :

لفظ الحديث : أخرج ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى بإسناده عن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال : أخبرتني أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اضطجع ذات يوم للنوم، فاستيقظ فزعاً وهو خائر (1)، ثم اضطجع فرقد واستيقظ وهو خاثر دون المرة الأولى، ثم اضطجع فنام فاستيقظ، ففزع وفي يده تربة حمراء يقلّبها بيده وعيناه تهرقان بالدموع.

فقلت : ما هذه التربة يا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم؟ فقال : أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بأرض العراق! فقلت لجبريل : أرني تربة الأرض التي يقتل بها. فجاء بها، فهذه

ص: 300


1- قال ابن الأثير فى النهاية ( خثر ) أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو خائر النفس أي ثقيل النفس غير طيب ولا نشيط.

تربتها (1) .

مصادر الحديث :

أخرج هذا الحديث جمع كثير من الحفاظ بأسانيدهم عن ابن سعد وغيره، وإلى

القارئ بعضاً منهم :

1 - الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين 398/4، وقال : هذا حديث صحيح.

2 - الذهبي في تلخيص المستدرك المذكور، وأقر تصحيح الحاكم له، وفي تاريخ الإسلام 10/3 وسير أعلام النبلاء 194/3.

3 - البيهقي في دلائل النبوة 468/6.

4 - ابن عساكر في تاريخه (ترجمة الحسين علیه السلام) بأسانيد متعددة، ص 172-173 برقم 220 و 221 .

5 - الخوارزمي الحنفي في كتابه مقتل الحسين علیه السلام 158/1 .

6 - إسحاق بن راهويه كما في أرجح المطالب، ص 272 .

7 - سبط ابن الجوزي في تذكرة خواص الأمة، ص 250 ط النجف، وص

142/ط حجرية أشار إلى الحديث عن ابن سعد.

8 - السيوطي في الخصائص الكبرى 450/2 ، وجمع الجوامع 26/1.

9 - المتقي الهندي في كنز العمال 126/12، 111/13، وفي منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 111/5 .

10 - المحب الطبري في ذخائر العقبى، ص

147 .

11 - الحافظ الطبراني في المعجم الكبير 109/3 برقم 2821 ، 252/23-253 بأسانيد متعددة.

ص: 301


1- الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين علیه السلام)، ص 47.

12 - ابن كثير في البداية والنهاية 230/6 .

الحديث الثاني :

لفظ الحديث : أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى والطبراني في معجمه الكبير كل بإسناده عن صالح بن أربد النخعي، قال : قالت أم سلمة : قال لي نبيّ الله صلی الله علیه و آله وسلم: اجلسي بالباب فلا يلج عليّ أحد، فجاء الحسين وهو وصيف(1)، فذهبت تناوله فسبقها فدخل، قالت : فلما طال عليّ خفت أن يكون قد وَجَد عليّ، فتطلّعت من الباب، فإذا في كفّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم شيء يقلّبه، والصبي نائم على بطنه، ودموعه تسيل، فلما أمرني أن أدخل قلت : يا رسول الله، إن ابنك جاء فذهبت أتناوله فسبقني ، فلما طال عليّ خفتُ أن تكون قد وجدت عليّ، فتطلّعت من الباب فرأيتك تقلب شيئاً في كفّك، والصبي نائم على بطنك، ودموعك تسيل!ً فقال : نعم، أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي يقتلونه، وأتاني بالتربة التي يقتل عليها، فهي التي أقلّب بكفي (2) .

مصادر الحديث :

أخرج هذا الحديث :

1 - البيهقي في دلائل النبوة 486/6 بتفاوت يسير.

2 - ابن أبي شيبة في المصنف 97/15 برقم 19213 بتفاوت يسير.

3 - الطبراني في المعجم الكبير 109/3، 268/23، برقم 2820 ، 754.

4 - ابن حجر في المطالب العالية 73/4 ، وقال المحقق في الهامش : أخرج نحوه البوصيري برواية عبد بن حميد بسند صحيح.

5 - عيون الأخبار للداعي إدريس عماد الدين السبع الرابع ص 81 .

ص: 302


1- جاء في جملة من المصادر، بلفظ (وصيف) وهو الغلام دون المراهق ( كما في المصباح المنير : وصف)، وورد في بعضها كما في مقتل الحسين للخوارزمي 158/1: (وحيف) وهو بمعنى المسرع.
2- الطبقات الكبرى ترجمة الإمام الحسين علیه السلام ، ص 44، المعجم الكبير 109/3 .

6 - الحراني في تاريخ الرقة، ص 75 .

7 - المتقي الهندي في كنز العمال 106/7، وفي منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد 111/5 .

8 - الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتاب الغنية 56/2 بتفاوت يسير في ألفاظه. وجاء فيه : وفي يد النبي قطعة طين... وفي يدك طينة... أتاني جبريل وناولني الطينة التي يقتل عليها.

الحديث الثالث :

أخرج الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناده عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أم سلمة قالت : كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي، فنزل جبريل فقال : يا محمد، إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك، فأوما إلى الحسين، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وضمه إلى صدره وأتاه بتربة فشمّها، ثم قال : ريح كرب وبلاء (1) ، وقال : يا أم سلمة، وديعة عندك هذه التربة، إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أن ابني قد قُتل . فجعلتها في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول : إن يوماً تتحولّين دماً ليوم عظيم (2) .

مصادر الحديث :

أخرج هذا الحديث جمع من الحفاظ وأئمة الرجال منهم :

1 - الطبراني في المعجم الكبير 108/3 برقم 2817 .

2 - ابن عساكر في ترجمة الحسين من تاريخه، ص 175 برقم 223 .

3 - ابن حجر في تهذيب التهذيب 346/2 .

4 - الكنجي الشافعي في كفاية الطالب، ص 279.

5 - الخزرجي في خلاصة تهذيب الكمال، ص 71 .

ص: 303


1- في نسخة : ويح كرب وبلاء .
2- دلائل النبوة /202 .

6 - الهيثمي في مجمع الزوائد 189/9 .

7 - الأمر تسري في أرجح المطالب، ص 273 نقلاً عن