انتشارت مدين
ایران - قم - شارع انقلاب - بناية ميلاد - رقم 380
هاتف : 7722601
امواج البكاء
سيد جمال اشرف
الناشر : مدين
العدد : 2000
الطبعة: الأولى 1427ه- _ 2006م
المطبعة: سرور
الزيغراف: مدين
شابك : 5 - 16-9801-292
محرر الرقمي: زهرا شريفي گرم دره
ص: 1
امواج البكاء
في مواضع بكاء سيد الشهداء(علیه السلام) وخروج زينب الحوراء(سلام اللّه) في يوم عاشوراء
المولى نوروز على البسطام
ترجمة و تحقيق
سيد علي جمال اشرف
ص: 2
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »
الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين وعلى آله
الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
وبعد :
اليوم عاشوراء .. اليوم بكى الحسين(علیه السلام) !! الحسين(علیه السلام) .. الحسين(علیه السلام) ..
الحسين(علیه السلام) ابكت عليه الموجودات جميعا ..
بكت عليه السموات دما وترابا أحمر .. إحمرت الآفاق وإنكسفت الشمس بكت الأرض.. فما رفع حجر إلا وجد تحته دم عبيط ..
بكت الملائكة .. ولطمت عليه الحور العين .. بكت البحار وتلاطمت أمواجها .. بكته حتى الحوت في البحار.. والوحوش في الفلوات ...
بكت الأشجار .. والثمار .. والصحارى والقفار .. والسهول والجبال ..
بكته الأنبياء والأوصياء... بكى آدم... ونوح .. وإبراهيم.. وموسى وعيسى (علیهم السلام) .. ومن بينهم من النبيين والشهداء والصديقين والصلحاء ..
بكاه أشرف الخلق وسيد الكائنات محمد(صلی اللّه علیه وآله) .. بكاه أميرالمؤمنين(علیه السلام) .. وفاطمة(سلام الله علیها) سيدة نساء العالمين .. ولا زالت لها شهقات ..
ص: 3
بكته الجنان.. وجهنم والنيران..
لكن اليوم عاشوراء .. اليوم بكى الحسين(علیه السلام) !
«وبكى كلّ ما في الكون من سماوات وأرضين، والعرش والكرسي واللوح والقلم، والجنة والنار، والحور والولدان، ورضوان ومالك، والثرى وما تحت الثرى، والطبيعة والنفس والمادة، وما يُرى وما لا يُرى،كلّها إضطربت وبكت على إنكسار قلب «قلب العالم»، وعظم رزية فخر بني آدم».
بكى الحسين(علیه السلام).. ومن قبل قد سمعت الغزالة قائلا يقول:أسرعى.. أسرعي..یا غزالة بخشفك إلى النبي محمد(صلی اللّه علیه وآله)، وأوصليه سريعا ، لأنّ الحسين واقف بين يدي جدّه، وقد همّ أن يبكي .. همّ بالبكاء.. والملائكة بأجمعهم قد رفعوا رؤوسهم من صوامع العبادة، ولو بكى الحسين(علیه السلام) البكت الملائكة المقربون لبكائه، وسمعت أيضا قائلا يقول : أسرعي يا غزالة قبل جريان الدموع على خدّ الحسين(علیه السلام)، فإن لم تفعلي سلّطت عليك هذه الذئبة تأكلك مع خشفك .
بكى الحسين(علیه السلام) .. وقد خرج النبي(صلی اللّه علیه وآله) من بيت عائشة،فمرّ على بيت فاطمة(سلام اللّه علیها) فسمع الحسين(علیه السلام) لا يبكي، فقال : ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني(1) فحمله وضمّه إلى صدره و مسح دموعه بيديه.
بكى الحسين(علیه السلام) .. وقد قال النبي(صلی اللّه علیه وآله) من قبل : دعني أمسح الدموع عنهما - يعني الحسن والحسين(علیهما السلام)، فو الذي بعثني بالحقّ نبيا لو قطر قطرة في الأرض لبقيت المجاعة في امتي إلى يوم القيامة.
لكن اليوم عاشوراء.. اليوم بكى الحسين (علیه السلام)..
لم يسمع قبل هذا اليوم بكاء الحسين(علیه السلام).. لكنه اليوم رفع صوته بالبكاء
ص: 4
كنّا نسمع من قبل ثواب البكاء على الحسين(علیه السلام)، وما أعدّه اللّه للباكين على مصابه من أجر لا يوازيه عمل من الأعمال.. واليوم فلنسمع عن بكاء الحسين(علیه السلام) نفسه ..
فاليوم عاشوراء.. اليوم بكى الحسين(علیه السلام) ..
بكى الحسين (علیه السلام) فبكى الوجود لبكائه، فلماذا بكى(علیه السلام)؟ ومتى بكى ؟ وفي أيّ مصاب إرتفع صوته بالبكاء؟
هذا ما حاول المؤلف(رحمة اللّه) أن يجيبنا عليه .. حيث جمع في كتابه هذا مواضع بكاء الحسين(علیه السلام).. وتمّمه ببعض المواقف التي خرجت فيها زينب(سلام اللّه علیها) من خدرها، وطهرت الكون كلّه بدموعها .. وقد أضفنا عليه وجعلنا ما أضفناه- في الغالب - بين معقوفتين.
***
المؤلف
يبدو لمن راجع كتاب الذريعة أنّ المؤلف كان من العلماء العاملين، والوعاظ المخلصين، والخطباء البارعين، وقد تتلمذ على كبار العلماء من تلامذة العلامة السيد بحر العلوم والشيخ الوحيد البهبهاني من قبيل :
المولى شمس الدین بن جمال الدين البهبهاني تلميذ الوحيد البهبهاني والسيد بحر العلوم، والمجاور للمشهد الرضوي حيّا وميتا ، توفي بها في ( 1248) ودفن قريبا من مرقد الشيخ الحر(رحمة اللّه). (1)
السيد محمد بن الميرزا معصوم الرضوي المشهدي المتوفي في قم (1255)
المعروف بالسيد القصير (2)
ص: 5
الحاج الميرزا العسكري بن ميرزا هداية اللّه ابن العلامة ميرزا مهدي الشهيد
الرضوي المشهدي المتوفي سنة ( 1280) صاحب الأرجوزة في الإرث (1)
المولى محمد بن الحاج محمدحسن المشهدي المدرس بها المتوفي سنة(7125)(2)
وله مؤلفات كثيرة جليلة منها : سراج المجتهدين في آداب صلاة الليل وأدعيتها.
الفوائد الرضوية، ترجمة وشرح الشرح طب الرضا(علیه السلام) الأستاذه المولى محمد حسن المشهدي.
شرح طب الرضا(علیه السلام) ، قال في الباب الثالث من كتابه فردوس التواريخ: إنّي شرحت قبل طب الرضا(علیه السلام)، ثم رأيت أنّ شرح العلامة الحاج المولى محمد بن الحسن المشهدي كان أجمع من شرحي ، ولذا أوردت شرحه بتمامه إبقاء لبعض آثاره(3)
فردوس التواريخ، طبع بإيران في (1315) على الحجر في 428 صفحة، في
تواريخ خراسان وأحوال الإمام الرضاء(علیه السلام)، وهوغيركتابه التحفة الرضوية(4)، وقد نقل عنه الآغا بزرگ كثيرا في الذريعة .
التحفة الحسينية، يحيل عليه في هذا الكتاب الذي بين يديك. ذخيرة المعاد.
أمواج البكاء، في تعداد مواضع بكاء الامام أبي عبد اللّه الحسین(علیه السلام)
عاشوراء، وذكر مصائبه، فارسي للمولى نوروز علي بن محمد باقر البسطامي المعاصر المتوفى سنة 1309 عن نيف وثمانين سنة طبع سنة 1288. (5)
ص: 6
وغيرها من المؤلفات الكثيرة.
ويبدو أنه(رحمةاللّه)كان صاحب مكتبة كبيرة ، وأنه وقفها على المشهد الرضوي، وكان المتولي عليها ولده المولى صادق ابن المولى نوروز علي البسطامي.
وفي الختام : فهذه بضاعتي المزجاة أتقدّم بها الى رحاب سيّدي ومولاي وجدّي سيد الشهداء وسبط خاتم الأنبياء وابن سيد الأوصياء وسيدة النساء، وأبو الأئمة النجباء - صلّى الله عليهم أجمعين-، وسلطان المظلومين وزين السماوات والأرضين الإمام الحسين(علیه السلام)، راجيا منه القبول بكرمه ورأفته، ومتوسلا به الى اللّه تبارك وتعالى - أن يرزقنا رؤيته وزيارته وشفاعته ونصرة ولده(علیه السلام) القائم المنتقم من أعدائه، وأن يجعله شفيعي ويشفّعه في أبي وأمي ووالديها ومن ولدا، وصلّى اللّه على محمد وآله أجمعين والحمد للّه ربّ العالمين.
1427/4/13
سيد علي جمال أشرف الحسيني
قم المقدسة
ص: 7
نحمدك اللّه يا من فتح باب البلاء للمقربين، وجعل الدنيا سجناً للمؤمنين وجنة للكافرين، ونشكرك اللّهم يا من رفع درجات الصابرين، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا في يوم الدين، ونقدسك اللّهم يا من أحاطت رحمته بمن انكسر قلبه من المؤمنين ، وجعل أمواج طمطام بحر رحمته من تلاطم قطرات دموع الباكين، ونسبحك اللّهم يا من جعل البكاء مفتاحا لقضاءحوائج المحتاجين.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد(صلی اللّه علیه وآله) وآله الطيبين الطاهرين أفضل أهل الخلة واليقين، سما على سبطه وقرّة عينه أشرف الخاضعين ومطلوب جميع الخلائق من الأولين والآخرين ، الذي قال في حقه جده سيد المرسلين : إنّ للحسين(علیه السلام) معرفة مكنونة في قلوب المؤمنين ، وإنكسر لكسر قلبه كلّ ما في السموات والأرضين، وبكى لبكائه كل شيء حتى أهل الجنان والحور العين ، ولعنة اللّه على من آذاه وأبكاه ظلما الى يوم الدين.
أما بعد، فيقول العبد المستغرق في لجة المعاصي، والتائه في وادي الجهالة والضلالة، نوروز علي بن محمد باقر البسطامي : إنّ كل واحد من بني النوع الإنساني فى هذه النشأة الفانية ، وهذه الحياة المحدودة المتناهية ، لابد أن يكون مقارنا لألم ما، وكلّ ذي شعور لابد أن يبتلى بتعب ما ، سيما وأن باب المحنة والبلاء مفتوح دائما
ص: 8
و فى كل الأوقات فى وجوه المقربين من الحضرة الإلهية المقدسة، وكلّ واحد من الأنبياء والأولياء والمقربين عاش الألم والبلاء كل بقدر وسعه. بل قال الإمام السجاد(علیه السلام) : إنّي أكره للرجل أن يعافي في الدنيا ولا يصيبه شيء من المصائب(1)
فلو تأملت بعين الظاهر والباطن تجد أن سلوك الحكيم - على الإطلاق مع عباده مثل سلوك الطبيب الخبير مع مريضه ، فاللّه الحكيم - على الإطلاق - يبتلي عباده بالفقر والتشتت أحيانا، وبالمرض والعجز أحيانا، وبتسلط حكام الجور والأعداء أحيانا، وبشماتة الأعداء والأشقياء، والأسقام والمشقات التي لا تتناهى تارة أخرى، تماما كما يصنع الطبيب الحاذق حينما يأمر المريض بتناول الدواء المرّ، ويمنعه عن الطعام اللذيذ، فاذا شفي المريض من مرضه عرف مدى فائدة أوامر الطبيب التي كانت تزعجه وتؤذيه ويتنفر منها طبعه، ومدى أثرها فى البقاء عليه وتعجيل الشفاء اليه .و من هنا قال العقل الكل(صلی اللّه علیه وآله) في حديث : إنّ اللّه يتعاهد وليّه بالبلاء كما يتعاهد أهله بالدواء ، (2)وقال(صلی اللّه علیه وآله) له في حديث آخر : إنّ اللّه ليحمي عبده من الدنيا
كما يحمى المريض من الطعام(3) فهذه البلايا إذن - عطايا من اللّه الرؤوف الرحيم لعباده، وذلك أنّ هذه البلايا إن كانت من أجل تطهير العباد من الخبائث والمعاصي، فهي دفع لبلايا أعظم. وإن كانت من أجل أن يكسب العبد بها أجرا وثوابا، فالعطايا التي سيحصل عليها أنفع وأعظم وأدوم مما ابتلي به في الدنيا .
إنّه يريد أن يعرفنا نفسه ونحن نفر منه، ومن المعلوم أن البلاء الذي يتعرض له الأولياء والأنبياء والأوصياء أعظم مما يتعرض له الآخرون، وهو ينزل عليهم بقدر وسعهم وتحملهم ورتبهم .
ص: 9
ومن الواضح أيضاً أنّ الأولياء والمقربين والعباد المبتلين والممتحنين لا ينالون الدرجات العالية إلّا بالصبر على ذلك البلاء والسرور بتلك النعمة والعناء ، لأنّ اللّه قرن المقامات العالية بالصبر كما قال تعالى : «وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا »، وقال في آية أخرى : «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»، فلابد أن يكون
الصبر شعار أرباب البلاء والعناء حتى ينالوا الدرجات العاليات.
وعمدة وجوه الصبر في هذه المرحلة : أن يتذكر ما ورد في الحديث : إذا أصباكم مصاب ونزل بكم بلاء فتذكروا مصائبنا ، فتهون عليكم مصائبكم وتتأسون بنا (1).
وليتأس في البلايا والمحن والآلام والأسقام بما نزل بأشرف الخاضعين وسيد المظلومين الإمام الحسين (علیه السلام)روحي وأرواح العالمين له الفداء، ليكون تذكره سببا لدفع البلاء، واستيفاءالأجروالعطايا، ورفعة الدرجات عندواهب العطيات. لهذا انبريت أنا الحقير - لجمع هذا المختصر الشريف في بعض المصائب والموارد التي إنكسر فيها قلب سلطان الأحزان، وبعض المواضع التي بكى فيها وسالت دمعته وانبعثت زفرته وحسرته، لكي تكون ذكرى للشيعة يتذكرون بها بكاء ذلك القدوة العظيم الشأن، ويحزنوا ويبكوا لمصائب سيد المظلومين، وسميته :
« أمواج البكاء في تعداد جملة من بكاء سيد الشهداء » روحي له الفداء
ورتبته في طوفان وأربعة أمواج:
ص: 10
في إنكسار قلب المولى وأسباب إنكساره
والخواص المترتبة على ذلك وعلة بكاءه(علیه السلام)
إعلم يا أخي أنّ كلّ شيء يكسر يتلف إلّا القلب ، فإنّه إذا عرضه حال الإنكسار صار ذو ضياء وبهاء، وكيف لا يكون كذلك وربّ العالمين يقول في الحديث القدسي : أنا عند المنكسرة قلوبهم والمندرسة قبورهم (1)
ولعل هذا هو السرّ في فتوى العلماء والفقهاء في كراهة تجديد القبور وترميمها،
ليبقى القبر في حال الإندراس ، فيكون مصبّا للرحمة الإلهية دائما.
ولهذا أيضاً ورد الحثّ في الشريعة النبوية المقدسة على الإحسان والإكرام والتفقد لأصحاب القلوب المنكسرة من قبيل الغريب واليتيم والأسير والعليل وصاحب العزاء والثكلى وأمثالهم .
وبغض النظر عن الاستحباب الشرعي الذي وردت فيه الأحاديث والأخبار الكثيرة، فإنّ إكرام الأشخاص المذكورين والإحسان اليهم محبذ عقلا - أيضاً
ص: 11
لأنّ رحمة الإله المنان محيطة بهؤلاء دائما، فعلى الراغب في الرحمة الإلهية أن يطلبها عندهم من خلال التقرّب اليهم بالمال والنفس، فيقتبس منهم لمعات الرحمة الإلهية وإشراقاتها وفيوضاتها.
بل ذهب بعض العلماء الأعلام في مبحث الوقف والصدقات الى استحباب الصدقة والإحسان الى أهل الذمة، وإستدلّوا على ذلك بقوله : « لكلّ كبد حرّى أجر» (1)
فكلّما كان الإنكسار في القلب أكثر أو أشدّ كانت إحاطة الرحمة الإلهية أشدّ وأكثر.
ومما لا يخفى على أهل البصائر أنّ الإنكسار- وبقطع النظر عن السوابق -
قد يحصل :
بالهجرة عن الوطن.
أو بغلبة العدو.
أو بالمحن والكربات.
أو بالمشقة في الإغتراب.
أو بكثرة الأعداء
أو قلة الأحباب والأوداء.
أو بمحاصرة الأعداء.
أو بشماتة الأشقياء.
أو قتل الأحبة.
أو قتل الأخوة.
ص: 12
أو قتل الأبناء.
أو عطش الأطفال.
أو جوع العيال.
أو فراق الأحبة والأصحاب.
أو النظر الى مصارع أولي الألباب.
أو تصور تسلّط الأعداء.
أو تصور سي الصبية والنساء.
أو تحيّر المحبين والأولياء.
أو تصوّر شعور النساء المنشورات، وسبيهن بيد أهل الظلم والعدوان.
أو عدم تأثير المواعظ والكلام في أهل المعصية والآثام.
أو تصور إندراس الشريعة والأحكام.
أو بقاء الرجل وحيدا فريدا بين آلاف الأعداء.
أو إصابة الجسم بالجراحات الكثيرة من ضربات الأعداء.
أو مصارعة العطش والبقاء على الظمأ والماء يجري كبطون الحيات.
إو البقاء جائعا مع وفور النعمة والخيرات.
أو الإحتياج الى قطرة من الماء للطفل الرضيع ، وطلب ذلك من الأوغاد
الأشقياء.
وغيرها من المحن والبلايا والآهات
ولا شك أنّ كلّ واحدة من هذه المحن والبلايا لوحدها كافية لإنكسار القلب،
فكيف سيكون الحال إذا وردت كلّها جميعا على قلب واحد ؟
فتأمل - يا عزيزي - في البلايا والمحن التي وردت على مظلوم كربلاء وسيد
الشهداء(علیه السلام) روحي له الفداء.
ص: 13
وتأمّل قلب «قلب العالم» في يوم عاشوراء ، وما نزل عليه من المحن البلاء، وما بلغه من مرتبة الإنكسار التي لا يطيقها الأنبياء والأوصياء والصديقين، بل لا يطيقون تحمل عشرها ، بل لم ير، ولم يسمع في الدهر كلّه إنكسار فوق ذاك الإنكسار، بل ولامثل ذلك الإنكسار، وسوف لن يكون مثله في الدهر أبدا.
ومع ذلك كلّه ما ظهرمنه سوى الصبر والرضا والتسليم للأمر الألهي ، وكان في
تلك المحن والبلايا صابرا شاكرا بحيث تعجبت منه ملائكة السماء كما قال صاحب الأمرفي الزيارة المفجعة :« قدعجبت من صبرك ملائكة السموات والأرض»(1)،
وقال السيد السجاد(علیه السلام) في خطبته في الكوفة : «أنا ابن من قتل صبراً وكفى بذلك فخرا»(2)
وفوق ذلك فإنّ محيّاه المبارك كان يزداد إشراقا ،ويتفتح كالزهور، كلما إزداد الألم وإشتد البلاء، روى الشيخ الصدوق في الإعتقادات وغيره من الكتب المعتبرة عن الإمام محمد الباقر(علیه السلام) قال : قال على بن الحسين(علیه السلام):
لما إشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب(علیه السلام) نظر إلي من كان معه ، فإذا هو بخلافهم، لأنّهم كلها إشتد الأمر تغيّرت ألوانهم، وأرتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، وكان الحسين(علیه السلام) وبعض من معه من خصائصه، تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت. فقال لهم الحسين(علیه السلام): صبرا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن
ص: 14
الى قصر ؟ وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنّ أبي حدثني عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) : أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كذبت(1).
وستأتي الإشارة الى سرّ تبسمه(علیه السلام) للحظة الشهادة.
فاذا تحقق بالبرهان أنّ إنكسار قلب فخر بني آدم قد بلغ الذروة والكمال، فلابد أن تكون إحاطة رحمة الربّ المتعال الشاملة لمن إصطفاه ذو الجلال قد بلغت أقصى درجات الرفعة والإجلال .
وكيف لا يكون كذلك ؟ والحال أنّ فيوضات فخر مكة ومنى عمّت وتعمّ جميع الموجودات ؟ وقد جاءت بذلك الأحاديث والأخبار عن الأئمة الأطهار(علیهم السلام)وهی أكثر من أن تحد و تحصر وفي هذا المقام تكتب وتقرر . ولكننا سنشير الى بعضها لتقرّ بها عيون الشيعة والمحبين ، فمنها :
أنّ حرمه المبارك دار الأمان، وقبته المباركة قبة الإسلام وأهل الإيمان.
والسجود على تربة «مصداق لولاك»(2) المعطرة الطاهرة يوجب قبول الصلاة. وهي هدايا وتحف الحوريات في الجنان. ووجودها في لحد الأموات يوجب الأمن من الخوف والعذاب.
إنّها التربة التي تشع نورا في الجنان، وتكون ضياء يستنيربه جميع سكان دار الحيوان. والسبحة منها تسبح وتذكر، وإن لم يسبح حاملها، فيكتب له أجر ذلك ويتفضل عليه ربّه بالثواب.
ص: 15
والذرة منها تورث الشفاء للمرضى والمعلولين وذوي الأسقام ،وهي الدواء الأكبر الذي يلتجىء اليه الأطباء الحاذقون إذا أعيتهم السبل ، وأعجزهم المرض ويئسوا من العلاج.
وإذا تلاطمت الأمواج، وهاج البحر وماج، وإنسدت على أرباب السفن طرق النجاة ،والخلاص، وحاصرهم الموت فلات حين مناص، توسلوا بالتربة المعطرة، ووجدوا فيها النجاة، فيرمون قطعة منها في البحر فيهدأ. ويتّخذها الخائف من السلطان حرزا يتخلّص به من شرورهم وينجو من ورطهم . وإذا جعلها التجار في الأمتعة والقماش والأموال إطمأنوا عليها ، لمكان التربة
المطهرة فيها. وإذا حنّك الآباء أبناءهم بالتربة المنورة المطهرة ، صار أبناؤهم من محبي أهل البيت(علیهم السلام) .
ثم إنّ موضع قبره(علیه السلام) معراج الملائكة المقربين ومطاف ملكوت السموات.
وتحت قبته المنورة المطهرة المقدسة المعطرة إجابة الدعاء.والنظر الى قبته المباركة يورث غفران الذنوب والعفو عن السيئات.وزيارة قبره(علیه السلام) توجب طول العمر وزيادة الرزق ومحو الخطايا. وقد خلقت الجنة من نوره المقدس، وهو فخر الكائنات.
وقد جعل اللّه الأئمة الطاهرين من ذريته ، وجعل السلسلة العلوية ، وهم السادة
المنتشرون في العالم من نسله. وإذا قصده الزائر لم يحتسب اللّه وقت الذهاب والإياب من عمر الزائر، وقد جعل اللّه محبة هذا الإمام المظلوم الشهيد علامة الإيمان، بل جعل مكنونة
ص: 16
في القلوب أكثر من بقية الائمة الأطهار، فقال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله): إنّ للحسين(علیه السلام) معرفة مكنونة في قلوب المؤمنين (1).
أجل ،واللّه ، إنّه لكذلك ، فإنّ تلك المحبّة المكنونة في القلوب جعلت قاصد الأعتاب المقدسة يقول حينما يسئل : أين تذهب ؟ فيقول : الى كربلاء.. الى زيارة الإمام الحسين(علیه السلام)، فاذا قيل له : من أين ترجع ؟ فيقول : من كربلاء، والحال أنّه قصد بزيارته روضة سبعة من الأئمة الأطهار(2)، ومن تلك المحبّة المكنونة في قلوب المؤمنين تميل القلوب اليه ، ولا يمنعها عن زيارة قبره المقدس خوف القتل والسلب ومخاطر الطريق.
وهو لا يفارق قلوب أوليائه « وفي قلوب من والاه قبره»، فهم يحترقون في مصيبته، وينوحون وينحبون ويرتفع نشيجهم، وتتحول أرواحهم إلى شرر وألسنة لهب محترقة في آهاتهم ولوعاتهم، فتذوي في كانون مصيبته .
أجل ،واللّه، إنّها تلك المحبّة المكنونة التي جعلت دمع الموالي ينهمر بالرغم من انّه سمع حديث غصة الغم وغصة الكبد ،الملتهب ، ومصيبة العطش والغربة آلاف المرات ، إلاّ أنّه لا يتمالك حينما يسمع أنّ ذلك الغريب المهموم كان يوم عاشوراء ذابل الشفاه من العطش، مفتت الكبد، جائع الحشى ، وقد أحاط به أعداء الدين المبين كما تحيط دائرة الكفر بمركز التوحيد واليقين، فتنهمر الدموع رغما عنه وينطلق لسانه يرتل : يا ليتني كنت معك .
وليس ذاك إلاّ من تلك المحبّة المكنونة ، فالأب والأم أحبّ عند الانسان من كلّ شيء، ومع ذلك فهو ينساهما بعد سنة أو سنتين وكأنّه لا يعرفهما من قبل.
ص: 17
ثم إنّ الروايات والأخبار صرحت بأنّ قطرة دمع واحدة في مصيبة فخر بني آدم، فيها ثواب مائة شهيد .
ثم إنّ حبّ زيارته والميل الى قصده علامة على محبّة أهل البيت وقبول الإيمان، والإعراض عن زيارته نقص في الدين والإيمان، وقد صرحت بذلك الأحاديث والأخبار .
ثم إنّ مفاتيح الشفاعة الكبرى في يوم الجزاء تكون بيد سيد الشهداء(علیه السلام) روحي له الفداء،فقد ورد في بعض الروايات:أنّ أمة محمد(صلی اللّه علیه وآله) تصطف يوم القيامة في ألف صف ، يدخل الجنة منهم تسعمائة وتسعة وتسعون صفا بشفاعة ذاك المقرّب من اللّه ، ويدخل الصف الباقي بشفاعة باقي الأئمة الأطهار . أجل واللّه ، إنّ هذه الفضائل التي لا تكون عشر معشار مناقب مولى الأخيار، إنّما صارت له لمكان ما ورد على قلب ذاك المظلوم الغريب المهموم من الإنكسار ، وما أظهره من ه من الخضوع والخشوع والصبر في سبيل رضا اللّه ربّ العالمين. ومن هنا عجزت العقول عن إدراك أساس جلاله، وتحيّرت الأوهام في تصور مراتب ومحال رفعته و مقاماته.
فقد روى صاحب المناقب : أنّ قوما أتوا إلى الحسين(علیه السلام) وقالوا : حدثنا بفضائلكم ، قال : لا تطيقون، وإنجازوا عني لأشير إلى بعضكم، فإن أطاق سأحدثكم، فتباعدوا عنه ، فكان يتكلّم مع أحدهم حتى دهش ووله وجعل يهيم ولا يجيب أحدا ، وإنصرفوا عنه(1)
وروى صاحب المناقب أيضا: أنّه روي للحسين(علیه السلام) :
ص: 18
سبقت العالمين إلى المعالي*** بحسن خليقة وعلو همه
ولاح بحكمتي نور الهدى في*** ليال في الضلالة مدلهمه
يريد الجاحدون ليطفئوه ***ويأبى اللّه إلّا أن يتمه(1)
أجل واللّه ، أرادوا أن يطفئوا ذلك النور المقدس، ولم يألوا جهدا في سبيل ذلك، وبذلوا كلّ ما في وسعهم ، لكنّ إرادة اللّه التامة شاءت أن تبقى لمعات وإشراقات ذلك النور المهيمن متزايدة يوما بعد يوم.
أرادوا إيحاء اسمه ، فاشتهر وطار صيته وانتشر ..
أرادوا أن يقطعوا نسله ، فكثروا حتى صاروا أكثر من أيّ طائفة أو أمة أخرى..
أرادوا أن يهدموا قبره ويطمسوا معالمه، فتألق وإشتد عمرانه ..
أجروا الماء عليه فصار حائرا، وطاف الماء حول قبره ..
أرسلوا عليه ثورا يكربه فصار زائرا..
أرادوا أن يقضوا على أوليائه ..فازدادوا...
أجل ، لم يكن ذلك إلاّ نتيجة إنكسار قلبه وخضوعه وخشوعه، فهو المقرّب عند ذي الجلال.
وكان من تأثير إنكسار قلب فخر الآدميين في العالم إضطراب جميع الكائنات
من حجر ومدر، وبر وبحر، وجماد ونبات ،والسموات والأرضين، والجن والإنس، ولما كان إنكساره فوق أي إنكسار ، صار من المتعذر أن يتصور بقاء العالم حينئذٍ، وكان المفروض أن تطوى السموات وتبيد الأرضين ، لولا أنّ حكمة اللّه البالغة شاءت أن لا ينهدم نظام الكون ، ويبقى العالم بوجود خليفته العليل المألوم سيد الساجدين وزين العابدين علي بن الحسین(علیه السلام)
ص: 19
وبالرغم من أنّ العالم لم يفنى ونظام الكون لم ينهدم إلاّ أنّ الإضطراب والتزلزل والهزات بلغت به الغاية بحيث كاد ينتهي كلّ شيء بالمرة، فتدكدكت الجبال، وتلاطمت البحار، وهاجت الأمواج، وانخسف القمر ، وانكسفت الشمس، ومطرت السماء دما وترابا أحمر، وجرت الدماء من الأرض، من شجرة في الهند، وحمرة الأفق، وشجرة قزوين، وصخرة مسجد الحسين في حماة،و مسجد النقطة على بعد فرسخ من الموصل، وجريان الدم من عيني تمثال الأسدفي الروم يوم عاشوراء وليلته كلّ ذلك جرى في مصيبة فخر الأنام، ولا زالت الشواهد تترى الى هذا الزمان .
أجل واللّه ، إنّها لمصيبة ما أعظمها حتى أنّ الأنبياء والمرسلين لم يطيقوا سماعها، والأوصياء والصديقين لم يتحملوا عشر معشار تلك البلايا.
فلما سمع آدم (علیه السلام)بمصيبته بكى عليه بكاء الثكلى، وصغّر عند رزيته جميع الرزايا. ولما سمع نوح رفع صوته بالبكاء عاليا ونادى بالويل.
وقال إبراهيم(علیه السلام) : يا ربّ ما لي كلما نظرت الى هذه الأنوار المقدسة المحيطة بالعرش الأعظم سررت وفرج همي واذا نظرت الى النور الخامس هجم عليّ الغم والهم ؟ فجاء النداء : يا إبراهيم لا تعلم ما ينزل بصاحب هذا النور المقدس من المصائب والمحن فإنّه المظلوم، فلما سمع إبراهيم بعض المصائب التي تجري عليه بكي وقال : إنّي سقيم.
ولما سمع زكريا تأويل ( كهيعص ) وأخبر بخبر كربلاء دخل بيته ولم يخرج ثلاثة أيام، وإشتغل بالبكاء والنحيب واللوعة.
وسمع إسماعيل صادق الوعد بعض تلك المصائب العظمى فدعا اللّه أن يرزقه
التأسي بتلك المصائب
ص: 20
ولما إلتقى موسى بالخضر قال له الخضر : ما الذي جاء بك ؟ قال : جئت لأتعلم مما علمت رشدا، قال : إنّك لن تستطيع معي صبرا ، ثم حدثه عن بعض المصائب التي تنزل بعترة نبي آخر الزمان محمد بن عبد اللّه (صلى الله عليه وسلم) ، فبكى موسى بكاء شديدا.
ولما دفعت مريم إبنها عيسى الى الرجل الصباغ فأعطاه الكرابيس والخيوط
ليصبغها - وكان عيسى طفلا - جعلها كلّها في إناء واحد وصبغها جميعا بلون السواد، ولم يكن إختياره لهذا اللون إلاّ حزنا على مصيبة أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) ، كما في مهیج الأحزان، لأنّ عيسى وإن كان صغيرا إلّا أنّه كان فى المهد نبيا، فلا يتصور في حقّه أنّه يفعل فعلا عبثيا (1).
أجل،بكى كلّ ما في الكون من سماوات وأرضين، والعرش والكرسي واللوح والقلم، والجنة والنار ، والحور والولدان ، ورضوان ومالك، والثرى وما تحت الثرى، والطبيعة والنفس والمادة، وما يُرى وما لا يُرى كلّها إضطربت وبكت على إنكسار قلب «قلب العالم»، وعظم رزية فخر بني آدم.
بل نقل عن بعض العرفاء : أنّ كلّ بكاء بالحق إنّما هو بكاء على حضرته ، وأنّ كلّ حجر يخرّ من جبل إنّما يخر لمصيبته، وأنّ بكاء الأطفال في المهد بكاء على بليته وحزنا على ظليمته ..
من غمّه أمواج البحار.. ومن همه العظيم غبار الصحاري والقفار.. ومن كربه تساقط الأوراق وإصفرار الأشجار .. ومن إنكسار قلبه الحزين إنكسار كلّ حائط وجدار.. ومن قطع وتين قلبه المملوء بالحسرات والآهات أصوات الرعد في السموات.. والأمطار دموع السحاب على تلك الآهات ..
ص: 21
وقالوا في تفسير قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) : أي بكاء جميع الأشياء على سيد الشهداء، وقسموا البكاء الى قسمين : بكاء معنوي وبكاء صوري وقد فصلنا ذلك في «التحفة الحسينية وسفينة النجاة».
ومن تأمل بعين الباطن علم أن الواقع هو هكذا تماما ، ويؤيد ذلك ما قاله الإمام
السجاد(علیه السلام) في خطبته في المدينة بعد رجوعه من الشام:
أيّها الناس فأيّ رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهالها ؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج
البحار، والملائكة المقربون، وأهل السماوات أجمعون(1) .
[ما في الوجود معجم أو ناطق*** إلّا عرته حيرة فى استوى
کلّ انکسار و خضوع به*** وكلّ صوت فهو نوح الهوا
وكلّ رطب ينتهي ذابلا*** وذي قوام يعتريه النوا
أما ترى الآفاق مغبرة*** والشمس حمراء كمرة أو مسا
أما ترى النخلة في قبة*** ذات انفطار وانفراج قسا
أما ترى الائل واهدابه ***عند الرياح ذا حنين علا
أما سمعت الرعد يبكى له *** والبرق والسحب بقطر همي
أما ترى النحل له رنة*** في طيرانه شديد البكا
والسيف يفري نحره باكيا ***والرمح ينعى قائما وانثنى
تبکیه جرد جاريات على*** جثمانه وان تدق القرى
والله ما رايت شيئاً بدا *** في الكون الا ببكاء تلا]
ص: 22
وأعظم من ذلك أنّ مصيبة هذا المظلوم وإنكسار قلب السلطان الشهيد المغموم قد أثرت في أهل دار السرور ، وهدمت أركانهم ، وهدت قواهم والحال أنّ اللّه لم يخلق الحزن والكدر والغم والهم في عالم الجنان ودار الخلد والسرور والإمتنان، بيد أنّ سكان دار السرور غمرهم الحزن والثبور، وعمّهم الهم والغم جرّاء تلك المصيبة العظمى والرزية الكبرى، قال الإمام صاحب الأمر(علیه السلام) في زيارة الناحية: يا جد، وأُقيمت لك المآتم في أعلا عليين ولطمت عليك الحور العين .
فالجنة وإن لم تكن محلا للحزن بيد أنّها خلقت -كما ورد في بعض الروايات والأخبار - من نور الحسين(علیه السلام) البهيج المطهر (1) فكلّ ما فيها من حسن وبهاء، وجمال
ص: 23
وسناء، وحبور وسرور، وضياء وهناء، إنّما هو من الحسين(علیه السلام)، أمل العاصين، وشفيع المذنبين ، فكيف يمكن أن يكون الحسين المظلوم(علیه السلام) لا حزينا ولا تكون هي حزينة ؟
وكيف يكون الحسين(علیه السلام)ذا بلا ولا تكون هي كذلك ؟
وكيف ينادي الحسين(علیه السلام)من أعماقه الملتهبة بلظى الظمأ : وا عطشاه، وتبقى هي مسرورة محبورة ؟
وكيف يبقى الحسين(علیه السلام)عارياعلى الرمضاء وتبقى هي منعمة على الأرائك والاستبرق والحرير ؟
لا يكون ذلك كذلك ، لا واللّه، بل بدلوا دار السرور إلى دار الحزن والمواساة، فلطمت عليه الحور.
[ابرزن من وسط الجنان صوارخا*** يندبن سبط محمد المفضالا
ولطمن منهن الخدود وكشفت*** منها الوجوه وأعلنت إعوالا
وخمشن منهن الوجوه لفقد من*** نادی مناد في السماء وقالا
قتل الإمام ابن الإمام بكربلا*** ظلما وقاسي منهم الأهوالا ]
الله أكبر ماذا الحادث الجلل*** فقد تزلزل سهل الأرض والجبل
ما هذه الزفرات الصاعدات أسى*** كأنّها شعل ترمي بها شعل
ما للعيون عيون الدمع جارية *** منها تخد خدودا حين تنهمل
ص: 24
ماذا النواح الذي غط القلوب وما*** هذا الضجيج وذي الضوضاء والزجل
كأنّ نفخة صور الحشر قد فجأت*** فالناس سكرى ولا سكر ولا ثمل ]
إعلم أنّ القلب متى ما إنكسر جرى الدمع من العين، وذلك لأنّ مادة الدمع
الجاري من العين تكون من الدموع المتفجرة من ينابيع القلب المنكسر، فما لم ينكسر القلب لا تجري دموع العين البتة، فاذا جرت دموع العين في سبيل اللّه جرت معها الخيرات والمبرات والنعم والفيوضات، لأنّ كلّ ما يجري لا يكون له وقع كما يكون للدمع الجاري من العين الذي يعقب في قلب صاحبه الضياء والنور والبهاء.
وقد ذكرنا فضيلة البكاء على مصيبة سيد الشهداء(علیه السلام) في الجزء الأول من التحفة الحسينية مفصلاً ، وذكرنا مراتب عزاء المخلوقات في مصيبة شفيع العرصات التي رتبناها في إثني عشر رتبة ضمن ما بيناه من الدرجات في كتاب سفينة النجاة، في ذیل قول المرحوم بحر العلوم :
ماذا النواح الذي غط القلوب وما*** هذا الضجيج وذي الضوضاء والزجل
فمن شاء فليراجع ، لأنّ الغرض من تأليف هذه الوجيزة إنّما هو بيان الموارد التي بكى فيها سيد المظلومين، فلا نطيل .
ولا يخفى أننا ذكرنا في كتابنا « سراج المتهجدين أن البكاء من خشية اللّه يكون على ثلاث مراتب و درجات:بكاء الخواص، وبكاء العوام، وبكاءخواص الخواص، فكذلك البكاء على مصيبة الإمام الحسين(علیه السلام) له مراتب و درجات عديدة ترجع كلّها الى أربع مراتب -على حدّ نقل بعض العرفاء- :
فإنّ من يبكي على الحسين(علیه السلام) لا يخرج عن أحد حالات أربعة :
ص: 25
[الحالة الأولى : ]
إمّا أن يبكي لغلبة هوى الطبيعة، ويحجب بحجاب الصورة ،كما هي الأطفال والنسوان فإنّهم يبكون لمجرد الإحساس ببعض ما يؤلم الطبع البشري، فيعمّهم الهم والغمّ .
[الحالة الثانية : ]
أنّه يسيطر- على حسب إستعداده - على طائر الخيال، ويحلّق في فضاء المعرفة، فيرى إمامه ومقتداه مصابا مظلوما، ويستشعر مشاعر الإمام وطبعه المبارك، فيجده متألما مغموما، فيبكي على مصائب الإمام وغمومه وآلامه، وما نزل به من المكاره
[الحالة الثالثة : ]
أو أنّه يحظى بموقف من مواقف الهداية ، فتشرق عليه شمس الولاية، وتجذب قلبه بإشعاعات قلبه المبارك، فيتحرر من قيود الطبع وآثاره، ويسرح في متنزهات الفؤاد وساحاتها، فيرى الإمام لا يعاني من أيّ همّ أو ملال من تواتر الكروب والبلايا، ويراه مبتهجا مسرورا بنوائب كربلاء، مطمئن القلب مرتاح البال فتهمل دمعته شوقاً عند تذكر تلك الحال ، لا جزعاً مما نزل بخامس الآل!.
[الحالة الرابعة : ]
أو أنّه لا يرى وجودا للمولى إلّا في اللّه ، فيرى وجود المولى فانيا في الوجود المطلق، وعلمه متلاشيا فى العلم المطلق، حتى لا يسقط من ورقة إلّا يعلمها ، وهو على كلّ شيء قدير، فهو مظهر الأسماء الجلالية والجمالية، وواسطة اللطف والقهر الذي لا يزال، فمن هو شمر ويزيد لولا إلتفاته(علیه السلام) ؟ وهذه الطائفة تجمع مراتب تلك الطوائف السابقة جميعها .
ص: 26
ولا مانع من إجتماع المراتب كلّها ، فإنّه صاحب المراتب الجامعة، وهو متجلّي في كلّ مرتبة على نحو الكمال والتمام في تلك المرتبة ، ولا يشغله مقام عن مقام . وصاحب كلّ مرتبة لا يمكنه أن يبكي ما لم يكن متوجها إلى تلك المرتبة،
والتوجه الكامل لا يحصل إلّا باليقين، واليقين في كلّ مرتبة لا يحصل إلّا بشهودها، والشهود لا يحصل إلّا بالإتصال ، ومما لا شبهة فيه أبداً أنّ الإتصال بأي شيء لا يتمّ إلّا بالإنقطاع عن غيره، والإعراض عما سواه، والرجوع اليه، وهذه هي التوبة بأدقّ معانيها.
ولكنه سيرجع في المرتبة الأولى الى طبعه، يرجع من طبعه الى طبعه أ(ُوْلَئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ) ! ويرجع في المرتبة الثانية الى طبع العصمة، وفي الثالثة الى نفس الولاية، وفي الرابعة الى سرّ الحقيقة .
وهذه السعادة -كما قلنا - لا تكون فى أىّ واحدة من المراتب إلّا بالإتصال، ولا شكّ أنّه إن إلتحق بحريم الموقفين الثالث والرابع، يجد نفسه متحررا من نفسه أو شهواته التي تسمى بالجرائم والمعاصي، ويكون هذا التوجه والبكاء علّة كافية وافية تمنعه من الهمّ بالكبائر والصغائر والخطايا.
أمّا الواقف في الموقف الثاني، فإنّه معتصم بحبل العصمة المتين، فيعصم طبعه عن الإقدام على المعاصي، وتكسر شهواته بإنعدام موادها .
ولكن دائرة الورطة قد تحيط بأصحاب الموقف الأول، فإنّهم قد لا يغوصوا بحر جواهر الدموع كما يغوص أرباب الجواهر والدرر، فيكون لهم قدم ثابت في سوق الحسنات، ولا يحظوا بقطرة دمع تقوى على غسل غبار السيئات على الوجه الكامل (1)
ص: 27
وملخص الكلام : إنّ البكاء أمّا أن يكون ناشئاً من المحبة والولاية ومسبوقاً بمعرفة آل الرسالة والهداية، أو ناشئاً من الإستماع الى الحكايات والحوادث التي تحرق القلب وتستدر الدمعة عند نوع بني البشر، ولو كانت واقعة على الأعادي، أو حاكية عن أحوالهم وما نزل بهم.
فان كانت مسبوقة بالمعرفة ، فلا شكّ أنّ هذا البكاء بنفسه توبة، وهو عين الإنابة الى اللّه ، وهو في ميزان العدل والفضل الإلهي حسنة تذهب جميع السيئات. إنّ المعرفة والمحبة والرحمة والرقة والبكاء على مصيبة أهل البيت تجذب المحب، فلا يتركوه على حال العصيان «حبّ علي حسنة لا تضرّ معها سيئة (1)» أي ليس للمحبّ إقدام معها على سيئة مضرّة !! وهذا هو معنى الشفاعة !! والعكس بالعكس (2)!!!
ص: 28
الطوفان: في إنكسار قلب المولى وأسباب إنكساره .....
ص: 29
أجل قد يكون البكاء على مصائب أولئك العظماء الأبرار يفيض على النفوس
المستعدة -حسب تفاوت مراتبها - إفاضات وتسوقها بسائق المعرفة.
ص: 30
والبكاء على مصائب أهل بيت الرسالة والولاية يستلزم هذه الآثار وليست هذه الآثار خاصة بالبكاء على سيد الشهداء الحسين(علیه السلام)، و الفرق أنّ مصيبته أعظم المصائب وأجلّ الرزايا، فاستماعها يهيج المحبّ أكثر ويوجب رقّه الحال وإنهمار الدموع، والسلام. (انتهى كلامه).
ويتبيّن من هذا التحقيق الأنيق لهذا العارف بالتحقيق، ركاكة كلام الملا الرومي فيما حكاه في الدفتر السادس من أنّ شاعرا دخل حلب، فوجد الناس قد اجتمعوا كباراً وصغاراً، وشيباً وشباناً، ورجالاً ونساءاً، لإقامة المأتم والعزاء، وهم يضجون بالبكاء والنحيب ، وكأنّ القيامة قد قامت ، فسأل الناس ما الخبر ؟ فقيل له : أما علمت أنّ اليوم هو يوم عاشوراء، يوم شهادة خامس أصحاب الكساء(علیهم السلام) ، وسيد الشهداء(علیه السلام) روحي وأرواح العالمين له الفداء، فتعجب الشاعر وقال لهم : نعم إنّي أعرف عاشوراء، وأنّه يوم شهادة سيد الشهداء(علیه السلام) ، ولكن لماذا تبكون عليه وقد تحرر من قيود سجن الدنيا، ورحل الى الجنان والسعادة، وهو الآن يتقلّب في النعيم والبهجة والسرور في روضة القدس، وفيوضات الحضرة الأحدية والرحمات الإلهية، فهو لا يحتاج بكاءكم ونحيبكم ،وإن شئتم فابكواعلى أنفسكم، فالبكاء عليكم أولى من البكاء(عليه السلام).
وقد غفل هذا الشاعر عن أنّ البكاء على سيد الشهداء(علیه السلام) ماحي للسيئات ورافع للدرجات، والواقع أنّ البكاء عليه(علیه السلام) يعود بالنفع على الباكي نفسه . وسيأتي عن قريب إن شاء اللّه أنّ سيد الشهداء(علیه السلام) نفسه بكى على أصحابه وأولاده وأنصاره وأحبابه ، وبكى نبي اللّه يعقوب(علیه السلام) على فراق ولده يوسف
ص: 31
صديق(علیه السلام) ،وبكى خاتم الأنبياء(صلی اللّه علیه وآله) على ولده إبراهيم(علیه السلام)، وعلى عمه حمزة سيدالشهداء(علیه السلام)، وقال حينما رجع الى المدينة الطيبة: ولكن حمزة لا بواكي له ،فصار أهل المدينة لا يندبون لهم ميتا حتى ينوحوا على حمزة ، وصار ذلك دأبا لهم. وبكى خاتم الأنبياء(صلی اللّه علیه وآله) على مصيبة ولده الحسين(علیه السلام) بعد أن أخبره بها جبرئيل(علیه السلام) ، وكان كلّما تذكر هذه الواقعة المهولة سالت دموعه من عينيه، وبكت كذلك مريم الكبرى وسيدة النساء(صلوات الله وسلامه عليها) على أبيها رسول(صلی اللّه علیه وآله)، وكانت تخرج الى البقيع والى بيت الأحزان وتبكي هناك بالتفصيل المذكور في الكتب.
وكلّ واحدة من الموارد المذكورة دليل وبرهان قائم بذاته على استحباب البكاء على المصائب و آلالام التي تعرض لها زعماء الدين والسادة الميامين ، وشهاب ثاقب للردّ على الشاعر الحلبي والراضين بقوله ، وهو في الحقيقة شيطان مريد.
هذا، مضافاً الى أنّ البكاء على هذه المصائب يعدّ من تعظيم الشعائر ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعْظِمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب).
***
أضف الى ذلك كلّه حكمة عظيمة وفائدة جليلة في البكاء على سيد الشهداء(علیه السلام) وهي أهم من جميع ما ذكرناه آنفا : فإنّ بالبكاء على سيد الشهداء(علیه السلام) يتضح لكلّ لبيب عاقل وضوحا بيّنا فساد ووهن الأساس الذي أسس عليه الخلفاء الثلاثة ومن تابعهم ، وذلك لأنّ الخلافة تعيين الخليفة ، فإن لم تكن واجبة لازمة بعد
( ) الفقيه : 183/1 ح 553 .
ص: 32
رحلة النبي(صلی اللّه علیه وآله) فلماذا تركوا دفن النبي (صلی اللّه علیه وآله) واشتغلوا في أمر تعيين الخليفة ؟ وإن كانت واجبة لازمة فإنّ النبي(صلی اللّه علیه وآله) أحقّ منهم وأولى في تعيين ذلك، وأحقّ من ا النبي(صلی اللّه علیه وآله) وأولى وألطف بالعباد وأرأف ربّ الأرباب ! فكان يعيّن لهم الخليفة ( لئلا النبي يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )
وإن كان واجبا على الخلق دون الخالق ، ولا دليل على ذلك لا من عقل ولا من شرع - فأقدموا على ذلك وجعلوا البيعة طريقا للخلافة خوفا من الوقوع في الفتنة، فإنّهم وقعوا فيما خافوا منه كما قال اللّه تعالى: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ، وتورطوا بالمحذور الذي حاذروه، وما أشبههم بتلك المرأة التي رفعت أذيالها لتغطي رأسها فكشفت ما تستره الأذيال، فتعيين الخليفة وإقرار البيعة خوفا من الوقوع في الفتنة فتنة أدهى وأمر وأعظم من أي فتنة أخرى، وقد جرت كلّ المآسي وإراقة الدماء وإنتهاك الأعراض ونهب الأموال منذ عصر الخلفاء الثلاثة الى نهاية حكم بني العباس (1)، وكذلك ما وقع من قتال في صفين والجمل والنهروان وغيرها كلّها فروع لتلك الشجرة الخبيثة .
فمن فوائد السنة السنية في إقامة العزاء والبكاء على سبط خير البرية إتضاح الأمر للعاقل وذوي البصائر وحسن الطوية، أنّ حقية وحقيقة شرع سيد الرسل لا تجتمع مع القول بخلافة الخلفاء الثلاثة ، أشهد على ذلك باللّه وكفى باللّه شهيدا. وأنّ القول بالخلافة على الطريقة البشرية والتعاليم النبوية السماوية مانعة الجمع، ولا يمكن قبولهما معا بالسوية، ولابد من إنتفاء أحدهما بثبوت الآخر، لأنّ ثبوت كلّ واحد منها لازم لنفي الآخر، وهذا الأمر لا يتضح جيدا إلّا بالتأمّل في أحوال سيد الشهداء(علیه السلام) روحي وأرواح العالمين له الفداء.
ص: 33
وهذه حكمة واحدة من تلك الأسرار والحكم المترتبة على البكاء على زبدة الأولياء، ذكرناها مختصرا، ولو أردنا إستقصاء الحكم والأسرار التي يمكن أن تصل اليها عقولنا القاصرة لاحتجنا الى كتاب لكل حكمة منها على حدة، فكيف إذا أردنا شرحها جميعا ؟ !
***
أمّا الملا الرومي فإنّه معذور فيما ذكره لأنّ مذاقه ومشربه مترشح من مشرب
الشبلي ومذاقه، وهو مع يزيد ، وليس له معرفة وخبرة بمناهل أهل البيت(علیهم السلام). فلا عجب إذن إذا صدرت منه مثل تلك الكلمات (وكلّ إناء بالذي فيه ينضح ).
قال المؤلف : لو سأل سائل وقال : لماذا كان الحسين(علیه السلام) يبكي في مصيبة أولاده وأنصاره وأحبابه واخوته وأبناء اخوته، ونحن نعلم أنّه كان راغبا في الشهادة متشوقا اليها مستأنسا بها، كما سيأتي عن قريب في الحديث عن سرّ إبتسامه لحظة الشهادة ؟
الجواب :
يجاب على ذلك-كما هو مذكور في « مهيج الأحزان »-بعدة وجوه :
الوجه الأول :
إنّ بكاءه(علیه السلام) لم يكن من الجزع أو عدم الصبر وعدم الرضا بقضاء اللّه-عزّ وجلّ-، ولو قلنا ذلك للزم أن نقوله في حقّ النبي المصطفى(صلی اللّه علیه وآله) وعلي المرتضى(علیه السلام)، أيضاً ، لأنّهما بكيا في هذه المصيبة بكاء كثيرا وشديدا، كما بكى أنبياءالسلف(علیهم السلام) على مصائبهم وعلى مصيبة الحسين (علیه السلام)، وقد إشتهرت قصة بكاء يعقوب على يوسف، وبكاء آدم ، وبكاء نوح، وبكاء سيدة النساء(علیهم السلام) وسيد الساجدين(علیه السلام).
ص: 34
الوجه الثاني :
إنّ البكاء على مصيبة أهل البيت(علیهم السلام) من أفضل العبادات وأقرب القربات وأهم الطاعات، والحزن على مصائبهم عبادة وإظهار للعبودية بأروع صورها، والحسين(علیه السلام) المندوب الى هذه العبادة والطاعة كما ندبنا نحن لها، وهي مطلوبة منه كما هي مطلوبة منّا، وأي مصيبة أولى بالبكاء عليها من البكاء على مصارع شباب أهل البيت وعطش أرباب المحن، وغربة ووحدة أخوات الإمام المظلوم الغريب وأطفاله وحرمه.
الوجه الثالث :
أنّه يبكي على شريعة سيد المرسلين وعلى دين الإسلام الذي قضى النبي(صلی اللّه علیه وآله) عمره الشريف مجاهدا متحملا مخاطرا في سبيل إقامة أساسه، وقاتل أبوه أمير المؤمنين(علیه السلام) من أجله وألقى نفسه في لهوات الحرب وجرد سيفه مخاطرا بنفسه من أجل تثبيت أركانه وإشادت بنيانه، واذا به الآن يتعرض للخطر والإنهيار قتله وقتل أنصاره وأهل بيته، ويهدد بالإنطاس والإندراس، ويرى رايات العلم والحكمة تنخفض ، وأعلام الهداية تنتكس ، ويعود الكفر والنفاق الى الإنتعاش والرواج ، كما قال الإمام صاحب الأمر في بعض فقرات الزيارة المروية عنه(علیه السلام) : «قتلوا بقتلك الإسلام وعطّلوا الصلاة والصيام ونقضوا السنن والأحكام».
فلماذا لا يبكي منتجب الربّ ولا تسيل دموعه في مثل هذا الموقف، وبكاؤه لا يخرجه حينئذ عن مقام الصبر والشكر ، واذا قلتم أنّ ذلك يخرجه عن هذا المقام فيلزم أن نقول ذلك في حقّ الأنبياء ،أيضا والحال أنّ ذا الجلال قد كرر وصفهم في القرآن بالصابرين، كما قال تعالى : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ )
ص: 35
الوجه الرابع :
لا شكّ ولا شبهة أنّ الإمام المظلوم كان بشرا، ومن لوازم البشرية أن يحزن في
المصائب والمحن ويعرضه السرور إذا أصاب نعمة وموجبا من موجبات المسرات وهكذا هي طبيعة الجسد البشري يجوع ويظمأ ، ولابد أن يؤثر به الجوع والعطش ويؤثر في قواه البدنية ، فاذا جاع سعى الى الطعام ، واذا عطش سعى الى الماء ضرورة ، واذا تعرض للمكاره والمصائب جرت دموعه ضرورة.
نعم، لا يمكن -والعياذ بالله - أن يصدر منه ما ينافي مقامه، ولا يمكن أن تصدر منه شكوى أو ماشاكل ذلك .
وقد روي أنّ يوسف(علیه السلام) بكى في السجن حتى إشتكى منه أهل السجن وضاقوا به درعا.
فكيف لا يبكي الحسين(علیه السلام) ولا تجري دموعه ولا يحزن -روحي وأرواح العالمين له الفداء-وهو ينظر الى وحدة الشهداء وأبدان الشبان المقطعة إربا إربا ، وعطش الأطفال وهم يتصارخون، وغربة النساء ووحشتهن ، ونياحة الأخوات وعويلهن على الشباب والاخوة والأولاد ؟! بل إنّ عدم التأثر والحزن في مثل هذه المصائب علامة على قساوة القلب وخلوّه من الرحمة وهي من الصفات الخسيسة الرذيلة ومن الأخلاق القبيحة التي يجلّ عنها الحسين(علیه السلام).
ص: 36
وهو(علیه السلام) وإن كان خاضعا خاشعا في كلّ مراحل حياته، وكان دائما باكيا منكسر القلب، ولكننا سنذكر تسعة عشر حديثا في هذا الموج لتكون تذكرة للشيعة الأطياب.
«بكاؤه حينما كان النبي الخاتم محمد بن عبد الله(صلی اللّه علیه وآله) على جناح السفر الى الآخرة»
روى العلامة المجلسي(رحمة اللّه) له عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه(علیهم السلام) قال: لما كانت الليلة التي قبض النبي(صلی اللّه علیه وآله)في صبيحتها دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين ، وأغلق عليه وعليهم الباب وقال : يا فاطمة، وأدناها منه، فناجاها من الليل طويلا، فلما طال ذلك خرج علي ومعه الحسن والحسين(علیهم السلام) وأقاموا بالباب، والناس خلف الباب ، ونساء النبي(صلی اللّه علیه وآله) ينظرن إلى علي(علیه السلام) ومعه إبناه، فقالت عائشة : لأمر ما أخرجك منه رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) و خلا بابنته دونك في هذه الساعة ، فقال لها علي(علیه السلام) : قد عرفت الذي خلابها وأرادها له، وهو بعض ما كنت فيه وأبوك وصاحباه مما قد سماه فوجمت أن ترد عليه كلمة.
ص: 37
قال علي(علیه السلام) : فما لبثت أن نادتني فاطمة(سلام اللّه علیها) ، فدخلت على النبي(صلی اللّه علیه وآله) و هويجود بنفسه، فبكيت ولم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال يجود بنفسه، فقال لي:
ما يبكيك يا علي(علیه السلام) ؟ ليس هذا أوان البكاء، فقد حان الفراق بيني وبينك فأستودعك اللّه يا أخي فقد اختارني ربّي لما عنده، وإنّما بكائي وغمّي وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي، فقد أجمع القوم على ظلمكم ، وقد إستودعتكم اللّه وقبلكم منّي وديعة .
يا على(علیه السلام) إنّي قد أوصيت فاطمة(سلام اللّه علیها) إبنتي بأشياء ، وأمرتها أن تلقيها إليك ، فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة.
ثم ضمّها إليه وقبّل رأسها وقال : فداك أبوك يا فاطمة، فعلا صوتها بالبكاء، ثم ضمّها إليه وقال : أما واللّه لينتقمن اللّه ربّي وليغضبن لغضبك، فالويل ثم الويل ثم الويل للظالمين ، ثم بكى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)
قال علي(علیه السلام) : فواللّه لقد حسبت بضعة مني قد ذهبت لبكائه ، حتى هملت عيناه مثل المطر، حتى بلت دموعه لحيته وملاءة كانت عليه، وهو يلتزم فاطمة(سلام اللّه علیها) لا يفارقها ، ورأسه على صدري وأنا مسنده.
والحسن والحسين(علیهم السلام) يقبلان قدميه ويبكيان بأعلا أصواتهما.
قال علي(علیه السلام) (1).
وكان جبرئيل حاضرا يبكي، ولقد رأيت بكاء فاطمة(سلام اللّه) فحسبت
ص: 38
أن السموات والأرضين قد بكت لها (1).
***
وروي عن ابن عباس : أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في ذلك المرض كان يقول : ادعوا لي حبيبي، فجعل يدعى له رجل بعد رجل فيعرض عنه، فقيل لفاطمة(سلام اللّه) : امضي إلى علي، فما نرى رسول اللّه يريد غير على فبعثت فاطمة(سلام اللّه علیه) إلى علي(علیه السلام)، فلما دخل فتح رسول(صلی اللّه علیه وآله) عينيه وتهلل وجهه ثم قال : إليّ يا علي(علیه السلام)، إلي يا علي(علیه السلام) فما زال يدنيه حتى أخذه بيده وأجلسه عند رأسه،ثم أغمي عليه . فجاء الحسن والحسين(علیهما السلام) يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله(صلی اللّه علیه وآله) . فأراد على(علیه السلام) أن ينحيها عنه، فأفاق رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، ثم قال : يا علي دعني أشمّهما ويشماّني، وأتزوّد منهما ويتزوّدان منّي، أما إنّها سيظلمان بعدي ويقتلان ظلما،
ص: 39
فلعنة اللّه على من يظلمهما ، يقول ذلك ثلاثا، ثم مدّ يده إلى علي(علیه السلام) فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ، ووضع فاه على فيه ، وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة (صلوات الله عليه وآله).
فإنسل علي من تحت ثيابه وقال : أعظم اللّه أجوركم في نبيكم فقد قبضه اللّه إليه ، فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء.
فقيل لأمير المؤمنين(علیه السلام) : ما الذي ناجا به رسول اللّه(صلی اللّه علیه و آله)حين أدخلك تحت ثيابه ؟فقال :علّمني ألف باب يفتح لي كلّ باب ألف باب (1).
بكاؤه حينما جاء سلمان الى بيت فاطمة|(سلام اللّه علیها) وكان الحسين مضطربا يبكي من الجوع روى المجلسي(رحمةاللّه ) بسند معتبر : أنّ سلمان قال : كانت فاطمة(سلام اللّه علیه) جالسة قدامها تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل !! والحسين في ناحية الدار يتضوّر من الجوع فقلت: يا بنت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)
دبرت كفاك وهذه فضة ؟ فقالت : أوصاني رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) أن تكون الخدمة لها يوما ، فكان أمس يوم خدمتها .
قال سلمان : قلت : إنّي مولى عتاقه، إما أنا أطحن الشعير أو أسكت الحسين(علیه السلام) لك ؟ فقالت : أنا بتسكينه أرفق ، وأنت تطحن الشعير.
فطحنت شيئا من الشعير فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، فلما فرغت قلت لعلي ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد فتبسم، فسأله عن ذلك رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، قال : دخلت على فاطمة(سلام اللّه علیها) وهي مستلقية لقفاها، والحسين(علیه السلام) نائم على صدرها، وقدامها رحى تدور من غير يد.
ص: 40
فتبسم رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وقال : يا علي(علیه السلام) أما علمت أنّ للّه ملائكة سيارة في الأرض يخدمون محمدا و آل محمد(علیهم السلام) إلى أن تقوم الساعة ؟ (1) .
بكاؤه حينما أخرج الأشقياء أمير المؤمنين(علیه السلام) وسيد الأتقياء من بيته ظلما وجورا الى المسجد لأخذ البيعة منه
روى العلامة المجلسي(رحمة اللّه) بأسانيد معتبرة عن الصادق(علیه السلام) أنّه قال : لما استخرج أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) من منزله خرجت فاطمة(سلام اللّه علیها) ، فما بقيت هاشمية إلّاخرجت معها ، حتى انتهت قريبا من القبر فقالت : خلّوا عن ابن عمي ، فوالذي بعث محمدا(صلی اللّه علیه وآله) بالحق لئن لم تخلّوا عنه لأنشرن شعرى، ولأضعن قميص رسول اللّه(صلى اللّه عليه وسلم) على رأسي، ولأصرخن إلى اللّه -تبارك وتعالى-، فما ناقة صالح بأكرم على اللّه منّي، ولا الفصيل بأكرم على اللّه من ولدي.
قال سلمان(رضی اللّه عنه) : كنت قريبا منها ، فرأيت واللّه -أساس حيطان المسجد، مسجد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، تقلّعت من أسفلها حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها نفذ، فدنوت منها فقلت يا سيدتي ومولاتي إنّ اللّه -تبارك وتعالى - بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة، فرجعت و رجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها، فدخلت في خياشيمنا(2).
وروي أنّهم جاؤا بأمير المؤمنين(علیه السلام) في ذلك اليوم حتى وقفوا عند منبر الشرير الأول، فقال عمر لأبي بكر وهو جالس فوق المنبر :ما يجلسك فوق المنبر
ص: 41
وهذا جالس محارب لا يقوم فيبا يعك ؟ أو تأمر به فنضرب عنقه ؟ والحسن والحسين(علیهما السلام) قائمان على(علیه السلام) رأس علي ، فلما سمعا مقالة عمر بكيا، ورفعا أصواتهما : یا جداه يا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، فضمهما علي(علیه السلام) إلى صدره وقال : لا تبكيا، فواللّه لا يقدران على قتل أبيكما ، هما أذل وأدخر من ذلك (1).
في مصيبة أمه فاطمة(سلام اللّه علیها)
روى في كتاب كشف الغمة : لما رحلت تلك المعصومة الى رياض الرضوان دخل الحسن والحسين(علیها السلام) الى الغرفة فقالا: يا أسماء ما ينيم أمنا في هذه الساعة ؟ قالت : يا بني رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ليست أمكما نائمة، قد فارقت الدنيا .
فوقع عليها الحسن(علیه السلام) يقبّلها مرة ويقول : يا أماه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني، وأقبل الحسين(علیه السلام) يقبّل رجلها ويقول : يا أماه أنا ابنك الحسين(علیه السلام) كلّميني قبل أن ينصدع قلبي فأموت.
قالت لهما أسماء : يا بني رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) انطلقا إلى أبيكما علي فأخبراه بموت أمكما. فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدرهم جميع الصحابة فقالوا : ما يبكيكما يا بني رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ؟ لا أبكى اللّه أعينكما ،لعلكما نظرتما إلى موقف جدكما(صلی اللّه علیه وآله) فبكيتما شوقا إليه ؟ فقالا : لا أو ليس قد ماتت منا فاطمة(سلام اللّه علیها) ؟
فوقع علي(علیه السلام) على وجهه يقول : بمن العزاء يا بنت محمد(صلی اللّه علیه و آله) ؟ كنت بك أتعزى ، ففيم العزاء من بعدك ؟ ثم قال :
ص: 42
لكلّ اجتماع من خليلين فرقة *** وكل الذي دون الفراق قليل
وإنّ إفتقادي فاطما بعد أحمد*** دليل على أن لا يدوم خليل (1)
فأبكى السماوات والأرضين، فلمّا إنتشر الخبر ضجت المدينة ضجة واحدة، وإجتمع الناس رجلا ونساءا على بيت فاطمة(سلام اللّه علیها) ، واجتمع بنو هاشم جميعا في بيت أمير المؤمنين(علیه السلام) عالت الأصوات بالبكاء والنحيب، واهتزت المدينة بأسرها. وروى المجلسي قال : ... وخرجا يناديان : يا محمدا يا أحمداه(صلی اللّه علیه وآله) ، اليوم جدد لنا موتك إذ ماتت أمنا ، ثم أخبرا عليا وهو في المسجد، فغشي عليه حتى رش عليه الماء، ثم أفاق فحملهما حتى أدخلهما بيت فاطمة(سلام اللّه علیها) ، وعند رأسها أسماء تبكي وتقول : وا يتامى محمد(صلی اللّه علیه وآله) ،كنّا نتعزّى بفاطمة(سلام اللّه علیها) بعد موت جدكما فيمن نتعزّى بعدها ؟(2).
في مصيبة أمير المؤمنين(علیه السلام)
في كتب المرائي عن كتاب العوالم : لما ضرب أمير المؤمنين(علیه السلام) قال : إحملوني إلى موضع مصلاي في منزلي، فحملوه إليه، وهو مدنف والناس حوله وهم في أمرعظيم ، باكين محزونين ، قد أشرفوا على الهلاك من شدّة البكاء والنحيب.
ثم إلتفت إليه الحسين(علیه السلام) وهو يبكي ، فقال له : يا أبتاه من لنا بعدك ؟ لا كيومك إلّا يوم رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) من أجلك تعلمت البكاء، يعزّ واللّه على أن أراك هكذا(3).
فناداه(علیه السلام) فقال : يا حسين يا أبا عبد اللّه ، ادن مني، فدنا منه وقد قرحت أجفان عينيه من البكاء، فمسح الدموع من عينيه، ووضع يده على قلبه وقال له
ص: 43
يا بني ربط اللّه قلبك بالصبر، وأجزل لك ولإخوتك عظيم الأجر، فسكن روعتك واهدأ من بكائك، فإنّ اللّه قد أجرك على عظيم مصابك ، ثم أدخل(علیه السلام) إلى حجرته وجلس في محرابه.
وأقبلت زينب وأم كلثوم حتى جلستا معه على فراشه، وأقبلتا تندبانه وتقولان: يا أبتاه من للصغير حتى يكبر ؟ ومن للكبير بين الملأ ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا ترقاً)(1).
***
قال المؤلف :
ما أشبه حالة المخدرات وعقائل الهاشميين زينب وأم كلثوم(سلام اللّه علیها) وهن جلوس على فراش أمير المؤمنين(علیه السلام) بحالتهن وهن جلوس عند جسد أبي عبد اللّه(علیه السلام) المقطع إربا إربا ، وهن يحثين التراب على رؤوسهن ، ويندبنه من قلوبهن المفجوعة، وينحن عليه بالآهات التي كانت تذيب الصخر الأصم .
ولكن أيّها الشيعة ما أعظم الفرق بين الموقفين :
الفرق الأول :
إنّ أميرالمؤمنين(علیه السلام) وإن كان مضروبا على هامته بالسيف، إلاّ أنّه كان نائما على فراشه في بيته وبين أهله معززا ، بينما كان جسد الحسين المظلوم(علیه السلام) مقطعا إربا إربا ،مطروحا على الرمضاء في صحراء كربلاء ، تذروه الرياح ، مرملا بالدماء.
الفرق الثاني :
إنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) أصابته ضربة واحدة ففلقت هامته، أمّا جسد سيد المظلومين(علیه السلام) المطهر المقدس، فقد كان ،مبضعا كسته السهام والرماح والسيوف
ص: 44
فلم تترك فيه موضعا سالما من الضرب والطعن، لهفى عليه ، وقد ذكر في بحار الأنوار أنّه أصيب بأربعة آلاف جراحة رميا بالسهام، ومائة وثمانون جراحة بين
ضربة سيف وطعنة رمح .
الفرق الثالث :
إنّ أميرالمؤمنين(علیه السلام) القبض ورأسه الشريف على جسده، أما سيد الشهداء(علیه السلام) فقد حضرت عنده أخته فوجدته جسدا مطروحا على الرمضاء ورأسه بيد الشمر اللعين.
***
كيف ميّزت زينب(سلام اللّه علیه) أخاها الحسين(علیه السلام)لامن بين الشهداء: أيّها الشيعة، أرباب العزاء ،كيف إستطاعت زينب(سلام اللّه علیها) أن تميز أخاها من بين سائر القتلى وهوجثة بلا رأس ؟
يمكن أن يقال أنّ زينب(سلام اللّه علیه) المتحيرة المدهوشة عرفت أخاها بثلاث علامات:
الأولى : إنّ الجراحات التي أصابت جسد الإمام(علیه السلام) المظلوم كانت أكثر من سائر الشهداء.
الثانية : أنّها عرفته من الأثر الذي كان على ظهر الحسين بن علي مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين(1)في دياجي الليل البهيم ،كما روى صاحب المناقب عن الإمام السجاد(علیه السلام)، وكان الشمر اللعين قد ذبح الحسين(علیه السلام) من القفا، فلما وصلت زينب(سلام اللّه علیها) الى المصرع وجدته مكبوبا على حرّ الصفا، فرأت الأثر في ظهره وعرفته من ذلك .
الثالثة : أنّ تلك المخدرة المتحيرة المدهوشة كانت علاقتها ومحبّتها وأنسها ب سيد الشهداء(علیه السلام) بمستوى حتى لكأنّ ما أصابه من جراحات أصابها ، وقد حداها حبها وشدة انسها ابا الحسين (علیه السلام) الى مصرعه، فخرجت اليه ودليلها قلبها وحبها .
ص: 45
فلمّا رأته ألقت بنفسها على جسده المقطع المرمل بالدماء وصرخت من أعماق قلبها المهموم : أهذا حسين ؟ وكانت صرختها الشجية كأنّها البركان المتفجر حمما من آهاتها، ولا زالت تلك الآهة تدوي في أرض المصرع الى اليوم.
[قال الشهيد الثاني :
لهف نفسي لزينب وأساها *** حين جاءت تنعى الحسين أخاها
و تنادي أجدادها وأباها *** وهي تذري الدموع لما دهاها
محن قرحت عيون العباد
یا حسيناه يا ملاذ العفاة *** وساج الظلام في المشكاة
وسليل الكرام الطاهرات *** وإمام الهدى وزين الكفاة
ورجائي في النائبات الشداد ]
بكاؤه لبكاء أخيه الحسن(علیه السلام) في قصة البدوية
روى العلامة المجلسي(رحمة اللّه علیه) في «جلاء العيون» عن ابن شهر آشوب عن الصادق(علیه السلام) : أنّه دخلت على الحسن(علیه السلام) إمرأة جميلة وهو في صلاته، فأوجز في صلاته، ثم قال لها : ألك حاجة ؟ قالت : نعم ، قال : وما هي ؟ قالت : قم فأصب مني، فإنّي وفدت ولا بعل لي، قال :إليك عنّي لا تحرقيني بالنار ونفسك.
فجعلت تراوده عن نفسه، وهو يبكي ويقول : ويحك إليك عني، واشتد بكاؤه، فلما رأت ذلك بكت لبكائه، فدخل الحسين(علیه السلام) ورآهما يبكيان فجلس يبكي، وجعل أصحابه يأتون ويجلسون ويبكون حتى كثرالبكاء وعلت الأصوات، فخرجت الأعرابية، وقام القوم وترحلوا .
ص: 46
ولبث الحسين(علیه السلام) بعد ذلك دهرا لا يسأل أخاه عن ذلك إجلالا له، فبينما الحسن(علیه السلام) ذات ليلة نائما إذ استيقظ وهو يبكي، فقال له الحسين(علیه السلام):ما شأنك ؟ قال : رؤيا رأيتها الليلة ، قال : وما هي ؟ قال : لا تخبر أحدا ما دمت حيا ، قال : نعم ، قال : رأيت يوسف فجئت أنظر إليه فيمن نظر ، فلما رأيت حسنه بكيت، فنظر إلىّ في الناس فقال :ما يبكيك يا أخي بأبي أنت وأمي ؟ فقلت : ذكرت يوسف وامرأة العزيز وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن، وحرقة الشيخ يعقوب، فبكيت من ذلك، وكنت أتعجب منه ،فقال يوسف: فهلا تعجبت مما فيه المرأة البدوية بالأبواء(1).
بكاؤه لما نظر الى أخيه المظلوم مسموما آيسا من الحياة
روي في بعض الكتب المعتبرة : لما تناول الحسن(علیه السلام) الماء المسموم ، سرى السم أعضائه(علیه السلام)، وبقي(علیه السلام) يعاني من ألم السم معاناة شديدة ، ثم أنّه أرسل في جميع أخته العقيلة السيدة زينب(سلام اللّه علیه) الى أخيه الحسين(علیه السلام) ليحضر عنده، فلما سمع الحسين(علیه السلام) الخبر اضطرب وقام من ساعته ، وتبعته أخواته وقصد بيت الحسن(علیه السلام)، فلما دخل عليه وسمعه يئن من الألم وهو يتقلّب على فراش المرض، وسمع عويل النساء ونحيب الأخوات وسائر الحرم، أقبل على أخيه فتعانقا وبكيا بكاءا شديدا، فارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، حتى بكت لبكائهم سكان السموات والأرض.
وروي في بعض الكتب : وقال الحسين(علیه السلام) لما وضع الحسن (علیه السلام) في لحده :
ص: 47
أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي *** ورأسك معفور وأنت سليب
أو أستمتع الدنيا لشيء أحبّه*** إلى كلّ ما أدنا إليك حبيب
فلازلت أبكي ما تغنت حمامة*** عليك وما هبت صبا و جنوب
وما هملت عينى من الدمع قطرة*** وما اخضر في دوح الحجاز قضيب
بكائي طويل والدموع غزيرة*** وأنت بعيد والمزار قريب
غريب وأطراف البيوت تحوطه*** ألا كلّ من تحت التراب غريب
أروح بغم ثم أغدوا بمثله*** كئيبا ودمع المقلتين سكوب
فللعين مني عبرة بعد عبرة*** وللقلب مني رنّة ونحيب
ولا يفرح الباقي خلاف الذي مضى*** وكلّ فتى للموت فيه نصيب
فليس حريب من أصيب بماله *** ولكنّ من وارى أخاه حریب
نسيبك من أمسى يناجيك طيفه *** وليس لمن تحت التراب نسيب (1)
كيف) ما قبلته كأخيه الحسن وقد أتاني باكيا ]
روي في بعض كتب المقاتل المعتبرة عن ابن عباس قال: صلّينا مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) الذات يوم صلاة الصبح في مسجده الان ، فلما فرغنا من التعقيب إلتفت إلينا بوجهه الكريم كأنه البدر في ليلة ،تمامه واستند الى محرابه، وجعل يعظنا بالحديث الغريب، ويشوقنا إلى الجنة، ويحذرنا من النيران ونحن به مسرورون مغبوطون وإذا به قد رفع رأسه وتهلل وجهه ، فنظرنا وإذا بالحسنين مقبلين عليه، وكفّ يمين الحسن بيسار الحسين(علیهما السلام )، وهما يقولان :
(1).
ص: 48
من مثلنا وقد جعل اللّه جدّنا أشرف أهل السموات والأرض ، وأبانا خير أهل المشرق والمغرب، وأمّنا سيدة على جميع نساء العالمين، وجدّتنا أم المؤمنين، ونحن سيدا شباب أهل الجنة.
قال ابن عباس : وزاد سرورنا واستبشرنا بعد ذلك ، وكلّ منّا يهنىء صاحبه على الولاية لهم والبراءة من أعدائهم، فنظرنا نحو رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وإذا بدموعه تجري على خديه . فقلنا : سبحان اللّه، هذا وقت فرح وسرور ، فكيف هذا البكاء من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ؟ فأردنا أن نسأله وإذا به قد إبتدانا يقول : يعزني اللّه على ما تلقيان من بعدى يا ولدي من الأهانة والأذى، وزاد بكائه.
وإذا به قد دعاهما وحطها في حجره ، وأجلس الحسن(علیه السلام) على فخذه الأيمن،والحسين(علیه السلام) على فخذه الأيسر ، فقال : بأبي أبوكما وبأمي أمكما ، وقبل الحسن(علیه السلام) في فمه الشريف، وأطال الشم بعدها ، وقبل الحسين(علیه السلام) في نحره بعد أن شمّه طويلا، فتساقطت دموعه وبكى، وبكينا لبكائه، ولا علم لنا بذلك.
فما كان إلاّ ساعة وإذا بالحسين(علیه السلام) قد قام ومضى الى أمه باكيا مغموما، فلما دخل عليها ورأته باكيا قامت إليه تمسح دمعه بكمها ، وتسكته وهي تبكي لبكائه، وتقول : قرة عيني وثمرة فؤادي ما الذى يبكيك ؟ لا أبكى اللّه لك عينا،ما بالك يا حشاشة قلبي؟ قال: خيرا يا أماه قالت: بحقي عليك وبحق جدك وأبيك إلّا ما أخبرتني. فقال لها : يا أماه كأنّ جدي ملّني من كثرة ترددي إليه . قالت : فداك نفسي لماذا ؟ قال: يا أماه جئت أنا وأخي إلى جدنا لنزوره، فأتيناه وهو في المسجد، وأبي وأصحابه من حوله مجتمعون فدعى الحسن(علیه السلام) وأجلسه على فخذه الأيمن، وأجلسني على فخذه الأيسر، ثم لم يرض بذلك حتى قبّل الحسن(علیه السلام) فى فمه بعد أن شمه طويلا، وأمّا أنا فأعرض عن فمي وقبّلني في نحري، فلو أحبني ولم يبغضني لقبّلني مثل أخي ؟ هل في فمي شيء يكرهه يا أماه ؟ شميه أنت .
ص: 49
قالت الزهراء(سلام اللّه علیها) : هيهات يا ولدي، واللّه العظيم، ما في قلبه مقدار حبة خردل من بغضك . فقال : يا أماه،كيف لا يكون ذلك وقد عمل هذا ؟ قالت : واللّه يا ولدي إنّي سمعته كثيرا يقول : حسين(علیه السلام) مني وأنا منه، ألا ومن آذى شعرة من حسين(علیه السلام) فقدآذاني، وحملك على عاتقه وهو يقول : ألا ومن أحب حسينا فقد أحبني.
أما تذكر يا ولدي لما تصارعتها بين يديه جعل يقول : إيها يا حسن(علیه السلام)، فقلت له : كيف يا أبتاه تنهض الكبير على الصغير ، فقال : يا ابنتاه هذا جبرئيل(علیه السلام) ينهض الحسين(علیه السلام) وأنا انهض الحسن(علیه السلام). وأنّه يا ولدي مرّ يوما جدك على منزلي وأنت تبكى في المهد، فدخل أبي وقال لى : سكتيه يا فاطمة(سلام اللّه علیها)، ألم تعلمي أنّ بكائه يؤذيني ؟ وكذلك الملائكة بكاؤه يؤذيهم . وقال مرارا : اللّهم إنّي أحبّه وأحبّ من يحبّه . ولما مرضت قال لجبرئيل(علیه السلام) أن يأتي بتعويذ يعودك به.
فكيف يا ولدي ملّك ؟ ! لكن سر بنا الى جدك .
فأخذت بيد الحسين(علیه السلام) وهى تجرّ أذيالها - وهما يبكيان - حتى أتت إلى باب المسجد، فما رأت غير الإمام والنبي(صلی اللّه علیه وآله) ، فلما رآها النبّي(صلی اللّه علیه وآله) تنفس الصعداء وبكى كمدا فجرت دموعه على خديه حتی بلت کمیه.
فقالت : السلام عليك يا أبتاه.
فقال : وعليك السلام يا فاطمة(سلام اللّه علیها) ورحمة اللّه وبركاته . قالت :له يا سيدي،كيف تكسرخاطر الحسين(علیه السلام)
أما قلت : أنّه ريحانتي التي أرتاح إليها ؟
أما قلت : هو زين السموات والارض ؟
قال : نعم يا ابنتاه هكذا قلت .
ص: 50
فقالت : أجل كيف ما قبّلته كأخيه الحسن(علیه السلام) وقد أتاني باكيا ، فلم أزل أسكته فلم يتسكت ، وأسليه فلم يتسل، وأعزيه فلم يتعزّ.
قال : يا بنتاه هذا سرّ أخاف عليك إذا سمعته ينكدر عيشك وينكسر قلبك . قالت : بحقّك يا أبتاه ألّا تخفيه عليّ..
فبكى وقال : إنبا للّه وإنّا إليه راجعون، يا بنتاه يا فاطمة(سلام اللّه علیها) ، هذا أخي جبرئيل(علیه السلام) أخبرني عن الملك الجليل أن لابد للحسن أن يموت مسموما، تسمّه زوجته بنت الأشعث (لعنها اللّه) ، فشممته بموضع سمه، ولابد للحسين(علیه السلام) أن يموت منحورا بسيف الشمر(لعنه اللّه)، فشممته بموضع نحره (1)فلما سمعت ذلك بكت بكاءً عاليا ، ولطمت وجهها ، وحثت التراب على رأسها، ودارت حولها نساء المدينة من المهاجرين والأنصار ، فعلى النحيب وارتحّ المسجد بمن فيه حتى خلنا أنّ الجنّ تبكي معنا فقالت : يا أبتاه بأيّ أرض يصدر عليه ؟ في المدينة أم في غيرها ؟ قال : في أرض تسمى «كربلاء»، فقالت: يا أبتاه صف لي سبب قتله . فبكى النبي(صلی اللّه علیه وآله) وقال : يا فاطمة مصيبته أعظم من كلّ مصيبة، إعلمي أنّه يدعوه أهل الكوفة في كتبهم ، أن أقبل علينا فأنت الخليفة علينا من اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله)، فاذا أتاهم كذبوه وقتلوه عطشانا غريبا وحيدا يناديهم أما من نصير ينصرنا ؟ أما من مجير يجيرنا ؟ فلم يجبه أحد، فيذبح كما يذبح الكبش ويقتل أنصاره وبنوه وبنوا أخيه، وتعلى رؤوسهم على العوالي، وتؤخذ بناته ونساؤه سبايا ،حواسر يطاف بهن في الأمصار ،كأنّهن من سبايا الكفار.
فعندها نادت فاطمة(سلام اللّه علیها) : واحسيناه وا مهجة قلباه، وا غريباه، فبكى كلّ من كان حاضرا من الأنصار.
ص: 51
قالت فاطمة(سلام اللّه علیها): ومتى يكون ذلك ؟ قال : من بعدنا كلّنا ،حتى من بعد أخيه الحسن(علیه السلام) ، بشهر يسمى «المحرم» في اليوم العاشر منه ، وفيه تحرم الكفرة السلاح ومن أمتي تقتل ولدي ، لا أنا لهم اللّه شفاعتي يوم القيامة.
قالت : يا أبتاه أجل ، من يغسله ؟ ومن يكفنه ؟ ومن يصلّي عليه ويدفنه ؟ قال : يا فاطمة يبقى جسده على التراب تصهره الشمس وهو في العراء، ورأسه على القناة.
فأعولت بعدها حزنا ، فصاح الحسين(علیه السلام) : يا جداه رزئي عظيم، وخطبي جسيم، فبكى وبكى جده وأبوه وأمه وأخوه ومن حضر.
فبينا هم يتصارخون واذا بجبرئيل(علیه السلام) الأمين هبط من الربّ الجليل وقال : يا محمد(صلی اللّه علیه وآله) العلي الأعلى يقرؤك السلام ويخصّك بالتحية والإكرام، ويقول لك : سكّت فاطمة الزهراء(سلام اللّه علیها) ،فقد أبكت الملائكة في السماء، فوعزّتي وجلالي إنّي لأخلق لها شيعة طاهرين مطهرين، ينفقون أموالهم على عزاء الحسين(علیه السلام)، وأرواحهم على زيارته، ويقيمون عزاءه في مجالسهم، ويسكبون الدموع ويقللون الهجوع، ليس لهم من رجوع ، يتناكحون يتناسلون، أطائب طاهرين مطهرين، ويأتون الى مشهده الشريف من كلّ مؤمن لطيف الى أن يقوم القائم الحجة بن الحسن(علیه السلام)، فيأخذ بثأره وثأر كل مظلوم إلى أن تقوم الساعة.
ألا ومن زاره بعد مماته كتب اللّه له بكلّ خطوة يخطوها حجة مقبولة .
ألا ومن أنفق درهما على عزائه وزيارته تاجرت له الملائكة الى يوم القيامة فيما
ينفقه ،ويعطى بكلّ درهم سبعين حسنة، وبنى اللّه له قصرا في الجنة.
ألا ومن ذكر مصابه وبكى عليه حفظت دموعه في قوارير من زجاج ، فاذا كان یوم القيامة فتلتهب نار جهنم، فيقال له : يا ولي اللّه خذ هذه دموعك التي سفكتها
ص: 52
في دار الدنيا على مولاك الحسين(علیه السلام) وعتقت من النار، فيضربون من تلك الدموع قطرة على النار فتهرب النار عنه مسيرة خمسمائة عام .
فعند ذلك تهلل وجه النبي(صلی اللّه علیه وآله)، فقالت الزهراء(سلام اللّه علیها) : لم تهللت يا أبتاه، فرحا هذا أم حزنا ؟ فأخبرها النبي بقول جبرئيل(علیه السلام)، فسجدت اللّه شكرا.
فقال الحسين(علیه السلام) : فما يكون جزاؤهم عندك يا جداه ؟ فقال له : يا قرّة عيني أشفع لهم عند اللّه لذنوبهم، وقد أعطاني اللّه الشفاعة في القيامة.
فنظر الحسين(علیه السلام) الى أبيه وقال له : أنت يا أبتاه فما تجازيهم ؟ فقال : أما أنا فأسقهم من حوض الكوثر.
ثم نظر الحسين(علیه السلام) الى أخيه الحسن(علیه السلام) فقال : وأنت يا أخاه فماذا تجازيهم ؟ فقال الحسن(علیه السلام) يا أخي أحرم على نفسي دخول الجنة، لن أدخلها حتى يكونوا معي لا أدخل قبلهم.
فعندها قالت الزهراء(علیه السلام) : فوعزّة ربّي وحقّ أبي وبعلي لأقفنّ على باب الجنة برأس مكشوف ودمع مذروف حتى يشفّعني إلهي فيهم.
فقال الحسين(علیه السلام) : وحقّ جدي وأبي أن لا أطلب من ربيّ إلّا أن يجعل قصورهم حذاء قصري في الجنة (1).
[الزهراء(سلام اللّه علیها) نائمة والحسين(علیه السلام) في مهده يبكي ]
الشيخ الطريحي في كتاب المنتخب عن طاووس اليماني : إنّ الحسين بن علی(علیه السلام) كان إذا جلس في المكان المظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره، فإنّ رسول الله(صلی اللّه علیه وآله) كان كثيرا ما يقبّل جبينه ونحره.
ص: 53
وإنّ جبرئيل(علیه السلام) نزل يوما فوجد الزهراء(سلام اللّه علیها) نائمةوالحسين (علیه السلام) في مهده يبكي، فجعل يناغيه ويسلّيه حتى استيقظت فسمعت صوت من يناغيه، فالتفتت فلم ترأحدا، فأخبرها النبي(صلی اللّه علیه وآله) أّنه كان جبرئيل(علیه السلام)(1).
[جئتك قبل جریان دموع الحسين(علیه السلام) ]
في المنتخب أيضا : أنّ أعرابيا أتى الرسول(صلی اللّه علیه وآله) فقال له : يا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) لقد صدت خشفة غزالة وأتيت بها إليك هدية لولديك الحسن والحسين(علیهم السلام)، فقبلها النبي(صلی اللّه علیه وآله)ودعا له بالخير، فإذا الحسن(علیه السلام) واقف عند جدّه ، فرغب إليها ، فأعطاه إيَّاها.
فما مضى ساعة إلاّ والحسين(علیه السلام) قد أقبل ، فرأى الخشفة عند أخيه يلعب بها، فقال : يا أخى من أين لك هذه الخشفة ؟ فقال الحسن(علیه السلام) : أعطانيها جدّي رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله).
فسار الحسين(علیه السلام) مسرعا إلى جدّه فقال : يا جدّاه أعطيت أخي خشفة يلعب بها ولم تعطني مثلها، وجعل يكرر القول على جدّه ، وهو ساكت، لكنه يسلّي خاطره ويلاطفه بشيء من الكلام حتى أفضى من أمر الحسين(علیه السلام) إلى أن همّ يبكى.
فبينما هو كذلك إذ نحن بصياح قد إرتفع عند باب المسجد، فنظرنا فإذا ظبية ومعها خشفها،ومن خلفها ذئبة تسوقها إلى رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله)، و تضربها بأحد أطرافها حتى أتت بها إلى النبي(صلی اللّه علیه وآله)، ثم نطقت الغزالة بلسان فصيح وقالت : يا رسول اللّه قدكانت لي خشفتان إحداهما صادها الصياد وأتى بها إليك، وبقيت لي هذه الأخرى ، وأنا بها مسرورة، وإنّي كنت الآن أرضعها فسمعت قائلا يقول : أسرعي أسرعي
ص: 54
يا غزالة بخشفك إلى النبي محمد اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، وأوصليه سريعا، لأنّ الحسين(علیه السلام) واقف بين يدي جدّه ، وقد همّ أن يبكي ، والملائكة بأجمعهم قد رفعوا رؤوسهم من صوامع العبادة، ولو بكى الحسين(علیه السلام) البكت الملائكة المقربون لبكائه، وسمعت أيضا قائلا :يقول أسرعي يا غزالة قبل جريان الدموع على خدّ الحسين(علیه السلام)، فإن لم تفعلي سلّطت عليك هذه الذئبة تأكلك مع خشفك.
فأتيت بخشفي إليك يا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، وقطعت مسافة بعيدة، ولكن طويت لي الأرض حتى أتيتك سريعة ، وأنا أحمد اللّه ربّي على أن جئتك قبل جريان دموع الحسين(علیه السلام) له على خدّه .
فارتفع التهليل والتكبير من الأصحاب، ودعا النبي(صلی اللّه علیه وآله) للغزالة بالخير والبركة، وأخذ الحسين(علیه السلام) الخشفة، وأتى بها إلى أمه الزهراء(سلام اللّه علیها) ، فسرّت بذلك سرورا عظيما (1) .
[الأطفال يلعبون والحسين(علیه السلام) جالس وهو يبكي بكاء شديدا ]
في مخزن البكاء عن بعض الكتب المعتبرة : أنّ سلمان الفارسي(رضی اللّه عنه) مرّ في أزقة المدينة فرأى الأطفال يلعبون والحسين(علیه السلام) المجالس جانبا على التراب جلسة الحزين وهو يبكي بكاء شديدا ودموعه تتحدر كأنّها المزن.
قال سلمان: فجئت حتى وقفت عنده وقلت له : جعلت فداك يا سيدي وابن سيدي ممّ بكاؤك ؟ وأنت تجلس هذه الجلسة على التراب، فهل تعرض لك هؤلاء الصبيان بسوء ؟
ص: 55
فلمّا سمع الحسين(علیه السلام) مني هذا الكلام، رفع رأسه ونظر إليّ بعين حزينة وأشار إليّ بيده أن دع هذا السؤال ولا تسألني يا سلمان، فإنّه يشقّ على قلبي أن أتكلّم بهذا ؟ قال سلمان: فقلت: يا سيدي أما سمعت جدك رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) يقول : سلمان منّا أهل البيت ؟ فلماذا لا تحدّثني بما في قلبك يا سيدي ومولاي ؟ فلما سمع مني هذا الكلام بكى وقال : يا سلمان، إنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى الى جبرئيل(علیه السلام) أن يخبر جدي بما سيجري عليّ في كربلاء ، وقال : إنّ أهل الكوفة سيذبحوني بخنجر الجفاء، ويفرقون بين رأسي وبدني ويقتلون أطفالي وأولادي ،ويتركون أبدانهم بلا غسل ولا كفن على الرمضاء، ويحملون ولدي علي زين العابدين(علیه السلام) مع البقية من عيالي على النياق الهزيلة بلاء وطاء سبايا ، يطوفون بهم من بلد الى بلد، ويسكنونهم في خرابة، ويعرضون أطفالي حتى يطمع الطامع فيهم فيستوهبهم للخدمة، يا سلمان كلّما تذكرت ذلك شقّ على قلبي ذلك.
قال سلمان فقلت : يا سيدي المظلوم جعلت فداك ، لم لا تطلب من جدك وأبيك أن يدعوا اللّه ليدفع عنك هذا البلاء ؟ فقال : يا سلمان أنا رضيت بهذه المصيبة العظمى ، لأكون شفيعا لأمة جدي يوم الجزاء.
فقلت : ويكون ذلك في زمان يكون فيه جدك وأبوك ؟
فبكى الحسين(علیه السلام) وقال : يا سلمان يكون ذلك في زمان خالى من جدي
وأبي وأمي وأخي.
قلت: جعلت فداك يا سيدي ومولاي فمن يقيم عليكم العزاء ومن يبكي عليكم ؟
فقال: يا سلمان سيهيا اللّه لنا شيعة رجالا ونساء يبكون علينا ويبذلون أموالهم وأرواحهم في إقامة مأتمنا وزيارة قبورنا .
ص: 56
فقلت : يا سيدي أي سرّ في ذلك يقتلكم بعض الناس ويقطعون رؤوسكم ويرفعونها على الرماح ويسبون عيالكم وينزلون بكم ألوان الظلم والجور، ويبكي عليكم آخرون، ويبذلون أموالهم وأرواحهم فيكم ؟
فقال : يا سلمان إنّ الذين يبكون علينا قوم خلقهم اللّه من طينتنا، ولذلك أحبّونا ، وبذلوا أموالهم وأرواحهم فينا ، وهم يبكون علينا، يقصدون زيارة قبورنا من البعيد والقريب ، ونأتيهم نحن في أول ليلة من ليالي القبر فنزورهم وندفع عنهم أهوال تلك الليلة ونؤنسهم ، واذا ماتوا تقيم أمنا فاطمة العزاء عليهم الى يوم القيامة ، فتشفع لهم وتدخلهم الجنة .
[مرّ النبي(صلی اللّه علیه وآله) على بيت فاطمة(صلی اللّه علیه وآله) فسمع الحسين(علیه السلام) يبكي ]
في كتاب المنتخب : خرج النبي(صلی اللّه علیه وآله) من بيت عائشة ، فمرّ على بيت فاطمة(سلام اللّه علیها) فسمع الحسين(علیه السلام) يبكي، فقال: ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني (1)، فحمله وضمه الى صدره و مسح دموعه بیدیه
[سمع النبي(صلی اللّه علیه وآله) لعل اللّه بكاء الحسن والحسين(علیهما السلام) وهو على المنبر ]
روی ابن شهر آشوب من طرق أهل الخلاف أنّه سمع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) بكاء الحسن و الحسین (علیهما السلام) وهو على المنبر، فقام فزعا ثم قال : أيّها الناس ما الولد إلّا فتنة ، لقد قمت إليهما وما معي عقلي (2).
ص: 57
[جاء الحسن والحسين(علیهما السلام) وعليهما قميصان أحمران ]
روى عن طرق أهل الخلاف أنّه كان رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)يخطب على المنبر، فجاء الحسن والحسين(علیه السلام) وعليها قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) من المنبر، فحملها ووضعها بين يديه، ثم قال : أولادنا أكبادنا يمشون على الأرض (1).
قال المؤلف :
لم يكن الحديث الذي ذكرناه ضمن ما قصدناه في كلامنا هنا، إلّا أنّنى لما
قرأت هذا الحديث ورأيت فيه أنّ عليه(علیه السلام) القميص أحمر، وهو يمشي ويعثر تذكرته مطروحا على الأرض عطشانا غريبا مرملا بالدماء، مجروح الفؤاد يبكي دماً ، وقد أحاط به الأعداء الأشقياء - أيّتها الشيعة - من كلّ جانب ومكان، وهم يرمونه بنبال النفاق ، وجعلوا قبلة الآفاق غرضا ... حتى أنّ درعه اختفى تحت النبال، ولم يبق عضو سالم في بدن سيد المظلومين، وقد أخذه النزف من كثرة الجراحات حتى ضعف عن القتال ، وعجز عن ركوب ذي الجناح، فهوى على رمضاء كربلاء، فأين كان عنه سيد الأنبياء، ليحمل بضعته وفلذة كبده من الأرض،
ويمنعهم عنه .
[ قرصته أم الفضل فبكى(علیه السلام)]
اللهوف عن أم الفضل زوجة العباس قالت في حديث : جئت بالحسين( علیه السلام)
ص: 58
يوما إلى النبي(صلی اللّه علیه وآله) فوضعته فى حجره، فبينما هو يقبّله فبال، فقطرت من بوله قطرة على ثوب النبي(صلی اللّه علیه وآله)، قرصته فبكى ، فقال النبي (صلی اللّه علیه وآله)كالمغضب : مهلا يا أم الفضل ، فهذا ثوبي يغسل وقد أوجعت إبني.
قالت: فتركته في حجره وقمت لآتيه بماء، فجئت فوجدته (صلی اللّه علیه وآله)يبكي، فقلت: مم بكاؤك يا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ؟ فقال (صلی اللّه علیه وآله) : إنّ جبرئيل(علیه السلام) أتاني فأخبرني أنّ أمتي تقتل ولدي هذا (1)
[دخل الحسين(علیه السلام) يوما إلى الحسن (علیه السلام) فلما نظر إليه بكي ]
روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن المفضل بن عمر عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده(علیه السلام) : أن الحسين بن علي بن أبي طالب(علیه السلام) دخل يوما إلی الحسن(علیه السلام) ، فلمّا نظر إليه بكى، فقال له : ما يبكيك يا أبا عبد اللّه ؟ قال : أبكي لما يصنع بك .
فقال له الحسن(علیه السلام) : إن الذي يؤتى إليّ سمّ يدسّ إليّ فأقتل به، ولكن لا يوم الله كيومك يا أبا عبد اللّه ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمّة جدّنا محمد (صلی اللّه علیه و آله)، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة وتمطر السماء رمادا ودما، ويبكي عليك كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات و الحيتان في البحار.(2)
ص: 59
[بكاؤه(علیه السلام)حينما سمع كلام غلامه صافي ]
في كتب مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) : عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ قَالَ: كَانَ الْحُسَيْنُ(علیه السلام) سَيِّداً زَاهِداً وَرِعاً صَالِحاً نَاصِحاً حَسَنَ الْخَلْقِ، فَذَهَبَ ذَاتَ يَوْمٍ مَعَ أَصْحَابِهِ إِلَى بُسْتَانِ لَهُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْبُسْتَانِ غُلامٌ يُقَالُ لَهُ «صَافِي» ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْبُسْتَانِ رَأَى الْغُلامَ يُرْفَعُ الرَّغِيفَ ، فَيَرْمِي بِنِصْفِهِ إِلَى الْكَلْبِ وَيَأْكُلُ نِصْفَهُ، فَتَعَجَّبَ الْحُسَيْنُ(علیه السلام) مِن فِعْلِ الْغُلامِ .
فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الأَكْلِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِسَيِّدِي ، وَبَارِكْ
لَهُ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى أَبَوَيْهِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
فَقَامَ الْحُسَيْنُ(علیه السلام) وَنَادَى : يَا صَافِي، فَقَامَ الْغُلامُ فَزِعاً وَقَالَ: يَا سَيِّدِي وَسَيِّدَ
المؤمِنِينَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ ، إِنِّي مَا رَأَيْتُكَ فَاعْفُ عَنِّي.
فَقَالَ الْحُسَيْنُ(علیه السلام) : اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ - يَا صَافِي - دَخَلْتُ بُسْتَانَكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ.
فَقَالَ صَافِي : بِفَضْلِكَ وَكَرَمِكَ وَسُؤددكَ تَقُولُ هَذَا.
فَقَالَ الْحُسَيْنُ(علیه السلام) : إِنِّي رَأَيْتُكَ تَرْمِي بِنِصْفِ الرَّغِيفِ إِلَى الْكَلْبِ وَتَأْكُلُ نِصْفَهُ، فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ ؟
فَقَالَ الْغُلامُ : يَا سَيّدِي إِنَّ الْكَلْبَ يَنْظُرُ إِلَيَّ حِينَ آكُلُ، فَإِنِّي أَسْتَحْيِي مِنْهُ لِنَظَرِهِ إِلَيَّ،، وَهَذَا كَلْبُكَ يَحْرُسُ بُسْتَانَكَ مِنَ الأَعْدَاءِ ، وَأَنا عَبْدُكَ وَهَذَا كَلْبُكَ نَأْكُلُ مِنْ رِزْقِكَ مَعاً.
فَبَكَى الْحُسَيْنُ(علیه السلام) ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَأَنْتَ عَتِيقٌ لِلَّهِ، وَوَهَبَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ.
فَقَالَ الْغُلامُ : إِنْ أَعْتَقْتَنِي فَإِنِّي أُرِيدُ الْقِيَامَ بِبُسْتَانِكَ.
فَقَالَ الْحُسَيْنُ(علیه السلام) : إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلامِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَدِّقَهُ بِالْفِعْلِ ، الْبُسْتَانُ أَيْضاً وَهَبْتُهُ لَكَ ، وَإِنِّي لَمَّا دَخَلْتُ الْبُسْتَانَ قُلْتُ : اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ فَإِنِّي قَدْ دَخَلْتُ
ص: 60
بُسْتَانَكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، كُنْتُ قَدْ وَهَبْتُ الْبُسْتَانَ بِمَا فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلاءِ أَصْحَابي لأَكْلِهِمُ الْثَمَارَ وَالرُّطَبَ فَاجْعَلْهُمْ أَضْيَافَكَ، وَأَكْرِمُهُمْ لأَجْلِي، أَكْرَمَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَارَكَ لَكَ فِي حُسْنِ خُلُقِكَ وَرَأْيِكَ.
فَقَالَ الْغُلامُ : إِنْ وَهَبْتَ لِي بُسْتَانَكَ فَإِنِّي قَدْ سَبَلْتُهُ لأَصْحَابِكَ.(1)
[سقط الحسين(علیه السلام) وبكي ]
في كتاب ليالي عشر عن ابن عمر: إنّ النبي(صلی اللّه علیه وآله) بينما هو يخطب على المنبر، إذ خرج الحسين(علیه السلام) فوطئ في ثوبه فسقط وبكي، فنزل النبي(صلی اللّه علیه وآله) عن المنبر، فضمه إليه وقال: قاتل اللّه الشيطان إنّ الولد لفتنة ، والذي نفسي بيده (2) لما كبا إبني هذا وكأنّ فؤادي قد وهى مني ، وكأنّ السماء وقعت على الأرض.
[ قعد جبرئيل يلهيه عن البكاء حتى استيقظت ]
فى مناقب ابن شهر آشوب قال : أنّ جبرئيل(علیه السلام) نزل يوما، فوجد الزهراء(سلام اللّه علیها) نائمة والحسين(علیه السلام) قلقا على عادة الأطفال مع أمهاتهم، فقعد جبرئيل(علیه السلام) يلهيه عن البكاء حتى استيقظت ، فأعلمها رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) بذلك (3)
***
ص: 61
[وفي أمالي الطوسي عن زيد بن أرقم في خبر طويل : أنّ النبي(صلی اللّه علیه وآله) أصبح طاويا فأتى فاطمة(سلام اللّه علیها)، فرأى الحسن والحسين(علیهما السلام) يبكيان من الجوع، وجعل يزقّها بريقه حتى شبعا وناما .
فذهب مع علي إلى دار أبي الهيثم، فقال: مرحبا برسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، ما كنت أحبّ أن تأتيني وأصحابك إلّا وعندي شيء، وكان لي شيء ففرقته في الجيران. فقال: أوصانى جبرئيل بالجار حتى حسبت انّه سیورثه.
قال : فنظر النبي(صلی اللّه علیه وآله) إلى نخلة في جانب الدار فقال: يا أبا الهيتم، تأذن في هذه النخلة ؟ فقال : يا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) إنّه لفحل ، وما حمل شيئا قط ، شأنك به .
فقال : يا علی(علیه السلام) إءتني بقدح ماء، فشرب منه، ثم مج فيه ثم رشّ على النخلة، فتملت أعذاقا من بسر ورطب ما شئنا، فقال : ابدء وا بالجيران، فأكلنا وشربنا ماءاً باردا حتى شبعنا وروينا.
فقال : يا علي(علیه السلام) هذا من النعيم الذي يسألون عنه يوم القيامة، يا علي تزوّد لمن وراك لفاطمة(سلام اللّه علیها) والحسن والحسين(علیهما السلام).
قال : فما زالت تلك النخلة عندنا نسميها نخلة الجيران حتى قطعها يزيد
عام الحرة ] (1).
[وروى ركن الأئمة عبد الحميد بن ميكائيل بإسناده عن عائشة قالت : كان رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) جائعا لا يقدر على ما يأكل،فقال لي :هاتي رداي ،فقلت:
ص: 62
أين تريد ؟ قال : إلى فاطمة(سلام اللّه علیها) ابنتي ، فانظر إلى الحسن والحسين(علیهما السلام) فيذهب بعض ما بي من الجوع.
فخرج حتى دخل على فاطمة(سلام اللّه علیها) فقال : يا فاطمة(سلام اللّه علیها) اين ابناي ؟ فقالت : يا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) خرجا من الجوع وهما يبكيان.
فخرج النبي (صلی اللّه علیه وآله) في طلبها فرأى أبا الدرداء ، فقال : يا عويمر، هل رأيت ابني ؟ قال : نعم يا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) هما نائمان في ظلّ حائط بني جدعان .
فانطلق النبي (صلی اللّه علیه و آله) فضمّهما وهما يبكيان ، وهو يمسح الدموع عنهما ، فقال له أبو الدرداء : دعني أحملهما، فقال : يا أبا الدرداء دعني أمسح الدموع عنها فو الذي بعثني بالحقّ نبيا لو قطر قطرة في الأرض لبقيت المجاعة في أمتي إلى يوم القيامة، ثم حملها وهما يبكيان وهو يبكي .
فجاء جبرئيل فقال : السلام عليك يا محمد ربّ العزة -جل جلاله - يقرئك السلام ويقول : ما هذا الجزع ؟ فقال النبي(صلی اللّه علیه وآله): يا جبرئيل(علیه السلام) ما أبكي جزعا بل أبكي من ذلّ الدنيا ،فقال جبرئيل(علیه السلام): إنّ اللّه - تعالى - يقول : أيسرّك أن أحوّل لك أحدا ذهبا ولا ينقص لك مما عندي شيء ؟ قال : لا ، قال : لم ؟ قال : لأنّ اللّه(صلی اللّه علیه وآله)- تعالى- لم يحبّ الدنيا ، ولو أحبّها لما جعل للكافرأكملها.
فقال جبرئیل(علیه السلام):يا محمد ادع بالجفنة المنكوسة التي في ناحية البيت، قال : فدعا بها، فلمّا حملت فإذا فيها تريد ولحم ،كثير، فقال :كل يا محمد(صلی اللّه علیه وآله) وأطعم ابنيك وأهل بيتك ، قال : فأكلوا فشبعوا ، قال : ثم أرسل بها إليّ فأكلوا وشبعوا وهي على حالها، قال ما رأيت جفنة أعظم بركة منها ، فرفعت عنهم فقال النبی (صلی اللّه علیه وآله) : والذي بعثني بالحقّ لو سكت لتداولها فقراء أمتي إلى يوم القيامة](1)
ص: 63
في بكائه(علیه السلام) منذ أن ودّع روضة جدّه(صلی اللّه علیه وآله) في المدينة متوجها الى العراق الغارق في النفاق والمنازل التى حزن فيها وبكى سيد المظلومين الى أن نزل كربلاء
وفيه ثمانية أحاديث :
[بكاء سيد الشهداء(علیه السلام) حينما ودّع روضة جدّه(صلی اللّه علیه وآله)عازما على الخروج الى العراق]
روی ابن بابویه بسند معتبر عن الإمام زين العابدين(علیه السلام) : لما همّ بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق، فلما أقبل الليل راح إلى مسجد النبي(صلی اللّه علیه وآله) ليودّع القبر،فلما وصل إلى القبرسطع له نور من القبر، فعاد إلى موضعه .
قال المؤلف :
سطوع النور في المرقد المطهر ربما كان بسبب سرور سيد البشر بهبو بهبوط الملائكة، أو بسبب أمر آخر، ورجوع سيد الشهداء(علیه السلام) حينئذ لأنّه ما أراد أن يبدل سرور
ص: 64
سيد البشر الى حزن إذا اشتكى عنده عصاة أمته الذين عزموا على إخراجه من
المدينة، والتفريق بينه وبين جده(صلی اللّه علیه وآله).
فلما كانت الليلة الثانية راح ليودع القبر ، فقام يصلّي فأطال ، فنعس وهو ساجد،
فجاءه النبي(صلی اللّه علیه وآله) وهو في منامه، فأخذ الحسين(علیه السلام) وضمه إلى صدره، وجعل يقبّل عينيه ويقول : بأبي أنت كأنّي أراك مرملا بدمك بين عصابة من هذه الأمة يرجون شفاعتي ما لهم عند اللّه من خلاق، يا بني إنك قادم على أبيك وأمك وأخيك ،وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة، فانتبه الحسين(علیه السلام) من نومه باكيا، فأتى أهل بيته فأخبرهم بالرؤيا وودعهم (1)، وتوجه نحو العراق.
[هذا بلاؤك يا حسين(علیه السلام)*** وفي كتاب اللّه واجب
فليهنك الخطب الجليل *** فقد حوى كلّ المناقب
أما ثناؤك في بلائك *** فهو لا يحصيه كاتب ]
[بكاؤه(علیه السلام) لا حينما ودّع قبر جده رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ثانية]
ففي بعض كتب الرواية : فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا، وصلّى ركعات، فلما فرغ من صلاته جعل يقول : اللّهم هذا قبر نبيك محمد(صلی اللّه علیه وآله)، وأنا ابن بنت نبيك(صلی اللّه علیه وآله)، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللّهم إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومن فيه إلّا إخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى.
ص: 65
ثم جعل يبكي عند القبر، حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر،
فأغفي فإذا هو برسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله و بین يديه حتى ضمّ الحسين(علیه السلام) إلى صدره، وقبّل بين عينيه.
يقول المؤلف :
قبّله النبي(صلی اللّه علیه وآله) ما بين عينيه لعله في الموضع الذي أصابه الحجر يوم العاشر في جبهته ، فرفع الغريب المظلوم ثوبه ليمسح الدم ،لهفي عليه، فجاءه السهم المثلث المسموم ذي الثلاث شعب فأصابه في قلبه المقدس. فبقي الإمام غريبا مرملا بدمه كما جاء في تتمة الحديث :
وقال(صلی اللّه علیه وآله) حبیبي يا حسين(علیه السلام)كأنّى أراك عن قريب مرملا بدمائك، مذبوحا بأرض كرب وبلاء، من عصابة من أمتى، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقی، وظمآن لا تروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنا لهم اللّه شفاعتي يوم القيامة. يا حسين(علیه السلام)، إنّ أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ، وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلّا بالشهادة.
فجعل الحسين(علیه السلام) لها في منامه ينظر إلى جدّه ويقول : يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك، وأدخلني معك في قبرك ، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة، وما قد كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم ، فإنّك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة.
فانتبه الحسين(علیه السلام) من نومه فزعا مرعوبا ، فقص رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب(علیه السلام)، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدّ غما من أهل بيت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، ولا أكثر باك ولا باكية منهم. وتهيأ الحسين(علیه السلام) للخروج من المدينة (1).
ص: 66
[بكاؤه(علیه السلام) حينما ذهب يودّع أمه(علیها سلام)]
روي في بعض كتب الأخبار : أنّه توجه الى قبر أمه في جوف الليل، فسلّم عليها
وقال :
السلام عليك يا أماه أنا ابنك الحسين(علیه السلام) جئت أودعك ، يا أماه وهذا آخر الوداع وآخر زيارة مني لقبرك ، فسمع من داخل القبر : عليك السلام يا مظلوم الأم، ويا شهيد الأم، ويا غريب الأم.
فبكى(علیه السلام) حتى أنه لم يقدر على الكلام، وبقي عندها حتى الصبح ، فلما إصبح الصبح رجع الى منزله .
***
[بكاؤه لا عند قبرجدته خديجة(سلام اللّه علیها)]
[روي عن أنس بن مالك :
أنّه ساير الحسين بن علي(علیه السلام) ليلة ، فأتى قبر خديجة(سلام اللّه علیها)، فبكى ثم قال : إذهب عني ، قال أنس: فاستخفيت عنه، فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته ق :
يا ربّ يا ربّ أنت مولاه *** فارحم عبيدا إليك ملجاه
يا ذا المعالي عليك معتمدي*** طوبى لمن كنت أنت مولاه
طوبى لمن كان خادما أرقا *** يشكو إلى ذي الجلال بلواه
وما به علة ولا سقم *** أكثر من حبه لمولاه
إذا اشتكى بثه وغصته *** أجابه اللّه ثم لباه
إذا ابتلى بالظلام مبتهلا*** أکرمه اللّه ثم أدناه
ص: 67
فنودي :
لبيك عبدي وأنت في كنفي*** وكلما قلت قد علمناه
صوتك تشتاقه ملائكتي *** فحسبك الصوت قد سمعناه
دعاك عندى يجول فى حجب*** فحسبك الستر قد سفرناه
لوهبّت الريح من جوانبه *** خر صريعا لما تغشاه
سلني بلا رغبة ولا رهب *** ولا حساب إنّي أنا اللّه ](1)
***
[بكاؤه(علیه السلام) فى الطريق ]
بكاؤه حينما خرج من منزل الثعلبية متوجها الى العذيب ((2)فخفق برأسه خفقة وقت القيلولة ثم أفاق وهو يبكي.
ففي مجالس الصدوق : ثم سار صلوات اللّه عليه حتى نزل الثعلبية وقت الظهيرة ، فوضع رأسه فرقد، ثم استيقظ فقال : قد رأيت هاتفا يقول : أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنة .
فقال له ابنه علي قال المجلسي(رحمة اللّه علیه) : يعني علي الأكبر(علیه السلام) : يا أبة أفلسنا على الحقّ؟ فقال : بلى يا بني، والذي إليه مرجع العباد.
ص: 68
فقال : يا أبة، إذن لا نبالي بالموت.
فقال له الحسين(علیه السلام) : جزاك اللّه يا بني خير ما جزى ولدا عن والد، ثم بات(علیه السلام) في الموضع (1)
يقول المؤلف :
نظير هذه الرواية في تسلية علي الأكبر أباه ومحبته وحنانه على أبيه ما قاله لأبيه عندما جلس عنده وهو غارق في الدم، فبكى الحسين(علیه السلام) البكاء شديدا فقال له ولده : يا أبه هذا جدي رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) سقاني بكأسه الأوفى جرعة لا أظمأ بعدها أبدا، وبيده كأسا مذخورة لك.
وكأنّ لسان حال هذا الشاب يخاطب أباه فيقول : يا أبه إن كان بكاؤك لما أصابني من العطش فإنّ جدي سقاني، وإن كان بكاؤك لفراقي فعما قريب سنلتقي عند جدي(صلی اللّه علیه وآله)
[بكاؤه(علیه السلام) الا حينما سمع بخبر شهادة قيس بن مسهر]
روى العلامة المجلسي(رحمة اللّه علیه) وغيره : أنّه لما بلغ الحسين(علیه السلام) الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، ولم يكن (علیه السلام)علم بخبر مسلم بن عقیل (علیه السلام) وكتب معه إليهم :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من الحسين بن علي(علیه السلام) إلى إخوانه المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم اللّه الذى لا إله إلّا هو، أما بعد :
فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقّنا، فسألت اللّه أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على
ص: 69
ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدوا ، فإنّي قادم عليكم في أيامى هذه والسلام عليكم و رحمة اللّه وبركاته.
وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة وكتب إليه أهل الكوفة أنّ لك ها هنا مائة ألف سيف ولا تتأخر .
فأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين(علیه السلام) ال ، فلمّا قارب دخول الكوفة إعترضه الحصين بن نمير ليفتشه، فأخرج قيس الكتاب ومزقه، فحمله الحصين إلى ابن زياد.
فلما مثل بين يديه قال له : من أنت ؟
قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه(علیه اسلام)
قال : فلماذا خرقت الكتاب ؟
قال : لئلا تعلم ما فيه .
قال : وممن الكتاب ؟ وإلى من ؟
قال: من الحسين بن علي(علیه السلام) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم .
فغضب ابن زیاد فقال : واللّه لا تفارقنى حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد
المنبر وتلعن الحسين بن علي(علیه السلام) وأباه وأخاه(علیهما السلام)، وإلّا قطّعتك إربا إربا.
فقال قيس : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم، وأما لعنة الحسين وأبيه وأخيه فأفعل. فصعد المنبر وحمد اللّه وصلّى على النبي(صلی اللّه علیه وآله) وأكثر من الترحّم على علي وولده (صلوات اللّه عليهم)، ثم لعن عبيد اللّه بن زياد وأباه، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم، ثم قال : أنا رسول الحسين(علیه السلام) إليكم، وقد خلّفته بموضع كذا فأجيبوه.
فأمر به عبيد اللّه بن زياد أن يرمى من فوق القصر فرمي به فتقطع.
ص: 70
وروي أنّه وقع إلى الأرض مكتوفا فتكسرت عظامه، وبقي به رمق فأتاه رجل
يقال له « عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه »(1).
وفي البحار : أنّه لما بلغ خبره الى سيد المتقين الأبرار إستعبر باكيا ثم قال : اللّهم
إجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريما، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
[بكاؤها(علیه السلام) حينما سمع بخبر شهادة عبد اللّه بن يقطر - أخيه من الرضاعة](3)
وكان قد بعثه الحسين(علیه السلام) رسولا الى أهل الكوفة، فلما سمع بخبر شهادته
بكى (علیه السلام)، ودعا بالدعاء الذي دعا به عند سماعه خبر شهادة قيس.
قال الشيخ المفيد في الإرشاد : فسار حتى انتهى إلى «زبالة»، فأتاه خبر عبد اللّه
بن يقطر ، فأخرج إلى الناس كتابا فقرأه عليهم :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أما بعد: فإنّه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل
وهانئ بن عروة وعبد اللّه بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الإنصراف
فلينصرف غير حرج ليس عليه ذمام .
ص: 71
فتفرّق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممن انضووا إليه ، وإنّما فعل ذلك لأنّه لا يعلم أنّ الأعراب الذين إتبعوه إنّما إتبعوه وهم يظنون أنّه يأتي بلدا قد إستقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون على ما يقدمون (1).
[بكاؤها(علیه السلام) حينما التق الشيخ من بني عكرمة]
ففي الجزء الأول من كتاب التحفة الحسينية : ثم سار حتى مرّ ببطن العقبة، فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : «عمرو بن لوذان »، فسأله : أين تريد؟ فقال له الحسين(علیه السلام): الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك اللّه لما انصرفت فواللّه ما تقدم إلّا على الأسنة وحدّ السيوف، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال، ووطؤوا لك الأشياء، فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأما على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل، فقال له : يا عبد اللّه ليس يخفى علىّ الرأي، ولكن اللّه تعالى لا يغلب على أمره.
ثم قال(علیه السلام) : واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط اللّه عليهم من يذهم حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم (2)
وفي كتاب فلك النجاة، من مؤلفات«مدهوش الگلپاگاني»،ومقتل ابن أبي جمهور: أنّ الشيخ من بني عكرمة قال : يا ابن رسول اللّه لا أرى أن تذهب الى الكوفة، فإنّي مررت في طريقي على سوق الحدادين، فرأيت أثني عشر شر ألف بعير محملة بالرماح والسيوف والخناجر والخشب، فسألت: لمن تجمعون هذا السلاح؟
فقالوا : لقتل الحسين(علیه السلام).
ص: 72
فتنحّى الإمام عن أهل بيته جانبا وأخرج منديله وجعل يبكي ويكفكف
دموعه، لئلا تراه النسوة والحرم وقال : ليس يخفى عليّ الرأي، وأنا أعلم بما
سيجري وبما سيكون .
[آه مما جنت جيوش ابن سعد*** حين جاءت لهدم أركان مجد
باذلات في قصدها كلّ جهد*** شاهرات بالبغى سيف التصدي
طمعا في جوائز ابن زياد ]
بكاؤه (علیه السلام)حينما سمع بخبر شهادة مسلم بن عقيل(علیه السلام)
[قليل بكائي على ابن عقيل *** وإن سال دمعي كلّ مسيل
سأبكيك ما عشت في أدمع *** بطرف على الدمع غير بخيل ]
وقد بكى(علیه السلام) عند سماعه لهذا الخبر المفجع في موضعين : الأول : لما دعا يتيمة مسلم وأجلسها في حجره وجعل يمسح على رأسها ويتحنّن عليها ، فقالت له : ما لي أراك تمسح على رأسي وتتحنن عليّ فهل قتل والدي؟
الثاني : لما سمع أولاد مسلم هذا الخبر الفضيع ضجّوا بالبكاء والنحيب، فبكى معهم الحسين(علیه السلام) وسالت الدموع كل مسيل، كما ذكر ذلك مفصلا الطريحي في المنتخب.
وروي أنّه(علیه السلام)كان جالسا وحده في منزل «سوقة»، فجاء رجل من جهة الكوفة ، فسأله الحسين(علیه السلام) عن الكوفة ، فقال : يا سيدي ما خرجت من الكوفة إلّا بعد أن قتلوا مسلم بن عقيل وهانىءبن عروة وبعثوا برأسيهما الى ابن زياد، فقال(علیه السلام) : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا اِلَيهِ راجِعُون. فانصرف الرجل ولم يخبر أحدا من أصحاب الحسين(علیه السلام) بهذا الخبر الفضيع.
ص: 73
فلما قام الحسين(علیه السلام) من مجلسه جاء الى الخيمة، فعزز بنت مسلم وكان عمرها أحد عشر سنة - وقربها من مجلسه، فحست اليتيمة، لأنّ الحسين(علیه السلام) قدمسح علی رأسها وناصيتها ، كما يفعل بالأيتام ، فقالت : يا عم ما رأيتك
قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك، أظن أنّه استشهد والدي، فلم يتمالك الحسين(علیه السلام) من البكاء، وقال : يا ابنتي أنا أبوك وبناتي أخواتك، فصاحت ونادت بالويل(1)
[وكم طفلة لك قد أعولت *** وجمرتها في الحشا قادحه
يعززها السبط في حجره *** لتغدو في قربه فارحه
فأوجعها قلبها لوعة *** وحسّت بنكبتها القارحه ]
[مسح الحسين برأسها فاستشعرت *** باليتم وهي علامة تكفيها
لم يبكها عدم الوثوق بعمها *** كلا ولا الوجد المبرح فيها
لكنها تبكي مخافة أنّها *** تمسي يتيمة عمها وأبيها ]
يقول المؤلف : لما كانت عادة المولى أن يرأف باليتامى ويتحنن عليهم أحست هذه اليتيمة من تحننه(علیه السلام) عليها بشهادة أبيها وقالت : أظن أنّه استشهد والدي ، فلم يتمالك الإمام فبكى وسلّاها وصبّرها وقال لها : أنا أبوك وبناتي أخواتك، لكن - يا شيعة الحسين(علیه السلام) - من الذي واسى ابنته وسلّا يتيمته سكينة(سلام اللّه علیه) المظلومة لما ألقت بنفسها على جسده تبكي وتشكو له حاله وهي تنتحب وتقول : يا أباه إذا أظلم الليل فمن يحمي حماي؟ وإن عطشت فمن يروي ظماي ؟ يا أباه نهبوا قرطي، وجذبوا ردائي، يا أباه أنظر الى رؤوسنا المكشوفة، وعمتي المضروبة، وأمي المسحوبة، وبكت بكاء إضطرب له العالم.
ص: 74
فانبرى في تلك الحال مقرب ذي الجلال لمواساة يتيمته ، وصنع كما يصنع الآباء
الرحماء حينما يبكي أطفالهم، فإنّهم يشغلونهم عن البكاء، فكلّمها المظلوم ليصرفها
عما هي فيه من البكاء ، من نحره المنحور قائلا:
شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني*** أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني
الى آخر الأبيات .
تتمة الخبر :
فلما سمع أولاد مسلم بن عقيل ذلك الكلام تنفسوا الصعداء، وبكوا بكاء شديدا،
ورموا عمائمهم الى الأرض ونادوا وا مسلماه وابن عقيلاه .
وتأمل الحسين(علیه السلام) هذا الحال ، وأنّ أهل الكوفة هم الذين أعانوا على قتل أميرالمؤمنين ونهب الحسن(علیه الیسلام)، و ضربه بالخنجر على فخذه فبكى بكاء شديدا حتى إخضلت لحيته الشريفة بالدموع ) (1)..
وروي أنّه نظر(علیه السلام) إلى بني عقيل فقال : ما ترون، فقد قتل مسلم ؟ فقالوا : واللّه ما نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق، فأقبل علينا الحسين(علیه السلام) فقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خار اللّه لك ، فقال : يرحمكم اللّه ، فقال له أصحابه: إنّك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان أسرع الناس إليك ، فسكت(2).
ص: 75
[بكاؤه(علیه السلام) حينما نزل أرض كربلاء وسمع بإسمها]
[ إن تكن كربلا فحيّوا رباها *** واطمئنوا بها نشم ثراها
والثموا جوّها الأنيق على ما ***كان في القلب من حريق جواها
واغمروها بأحمر الدمع سقيا *** فرام الورى سقتها دماها
وبنفسي مودّعون وفي العين *** بکاها وفى القلوب دماها
ركبهم والقضا بأضعانهم يسري *** وهادي الردى أمام سراها
والمسامى من خلفهم نادبات *** والمعالى مشغولة بشجاها
وكأنّي بها عشية ألقى *** سبط خير الورى الركاب لداها
يسأل القوم وهو أعلم حتى*** بعد لأي أن صرّحوا بسماها
إنّها كربلا فقال استقلوا *** فعلينا قد كرّ حتم بلاها
وبها تهتك الكرائم منا *** ورؤوس الكرام تعلوا قناها
فأجاب الجميع عن صدق نفس *** أجمعت أمرها وحازت هداها
لا نخليك أو نخلي الأعادي *** تتخلى رؤوسها عن طلاها
أوتنال السيوف منا غداها *** أو تروّي السيوف منا ظماها ]
[في مقتل أبي مخنف: وَساروا جَميعاً إِلَى أَنْ أَتَوْا اَرْضَ كَرْبَلا ، فَوَقَفَتْ فَرَسُ الْحُسَيْنُ(علیه السلام)، فَنَزَلَ عَنْها وَرَكِبَ أخرى، فَلَمْ تَنْبَعِثْ خُطْوَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَزَلْ يَرْكَبُ فَرَساً بَعْدَ فَرَسٍ حَتَّى رَكِبَ سَبْعَةِ أَفْراسِ، وَهُنَّ عَلَى هَذا الحَالِ .
[فلم ينبعث مهر الحسين بخطوة *** فقال ألا يا صحب ما هذه الفلا
فقالوا تسمی کربلا قال هونوا *** مسیرکم یا قوم قد نزل البلا]
فَلَمّا رَأى ذلِكَ َقالَ : يا قَومُ ما اِسْمُ هَذِهِ الأَرْضِ ؟ قالوا: اَرْضُ الغاضِرِيَّةِ.
ص: 76
قالَ : فَهَلْ لَهَا اسْمٌ غَيْرَ هذا ؟
قالوا : تُسمّى نَيْنَوى.
قالَ: أَهَلْ لَهَا اِسْمٌ غَيْرَ هذا؟
قالوا: شاطئ الْفُراتِ.
قالَ : أَهَلْ لَهَا اسْمٌ غَيْرَ هذا؟
قالوا: تُسمّى كَرْبَلاء .
فَعِنْدَ ذلِكَ تَنَفَّسَ الصُّعَداءُ وبكى بكاء شديدا وَقالَ : أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلاء.
يقول المؤلف :
وكان نزوله(علیه السلام) في كربلاء اليوم الثاني من محرم، ولا بأس بذكر شيء من فضل أرض كربلاء، التي كدرتني حتى صرت كفرسه الذي عجز لهول المصاب عن الحركة فوقف ولم ينبعث خطوة واحدة.
من أنّ اللّه - عزّ وجلّ - خلقها قبل خلق سائر الأراضي بأربعة وعشرين ألف عام. والمفاخرة التي دارت بينها وبين أرض مكة الحرام، وفضل أرض كربلاء المقدسة
عليها.
وأنّ جميع الأنبياء مروا فيها وسمعوا بالبلية التي ستقع عليها، وأنّها مدفن
الحسين(علیه السلام) المظلوم .
وأنّ كلّ نبي مرّ بهذه الأرض المقدسة أصابته بلية وتعرض الألم واسى الحسين(علیه السلام) بما يصيبه بنحو من أنحاء المواساة، وشاركه في مصابه وآلامه .
وأنّ اللّه تعالى جعل في هذه الأرض المقدسة تسعة فضائل خصها بها حتى
صارت معدنا للفيض.
وما في السجود على تربتها من الأسرار والفوائد .
وأنّ الأئمة(علیهم السلام) كانوا إذا مرضوا أرسلوا من يذهب الى كربلاء ليدعوا لهم بالشفاء تحت القبة المقدسة المنورة.
ص: 77
وأنّ كربلاء إحدى المواضع التي جعل اللّه لها حرمة ، فصار المسلم مخيرا في الصلاة فيها بين القصر والإتمام ، فمكة حرم اللّه وفيها المسجد الحرام ،والمدينة حرم الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، وفيها المسجد النبوي الشريف، والكوفة حرم أمير المؤمنين(علیه السلام)، وفيها مسجد الكوفة ، وكربلاء ليس فيها مسجد وليست حرما اللّه ! ولا لرسوله(صلی اللّه علیه وآله) ! ولكن المكلّف مخيّر فيها بين القصر والتمام لحرمة الحسين(علیه السلام)، ونزوله فيها يوم الثاني من المحرم، ودموعه التي إحتضنتها تلك الأرض، وبكائه على أصحابه وبني عمومته وإخوته وأبناء إخوته وأبنائه، وما في بكائه من أسرار، وما دار من كلام بينه وبينها، وغير ذلك .(1) .
ثُمَّ قال(علیه السلام) : اَنزِلوا،ها هُنا مَناخُ رِكايِنا، ها هُنا تُسفَكُ دِماتُنا، ها هُنا وَاللّهِ تُهْتَكُ حَريمُنا، ها هُنا وَاللّهِ تُقْتَلُ رِجالِنا، ها هُنا وَاللّهِ تُذْبَحُ أطفالِنا، ها هُنا وَاللّهِ تُزارُ قُبورُنا ...
وفي رواية : فلما وصلها قال : أهذه كربلاء ؟ فقالوا : نعم، قال الراوي : فدمعت عينا الحسين(علیه السلام) ، فقال(علیه السلام) : اَلَلّهُمَ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَربِ وَالبَلاء، فنزل في موضعه ذلك(2)
[قالوا تسمى كربلا فتنفس الصعدا *** وقال ها هنا حلول فناء
حطّوا الرحال فذا محطّ خيامنا *** وهنا يكون مصارع الشهداء
حطّوا الرحال فذا مناخ ركابنا *** و بهذه واللّه بي نسائي
وبهذه الأطفال تذبح والنسا *** تعلو على قتب بغير وطاء
وبهذه تتفتت الأكباد من *** حرّ الظما وحرارة الرمضاء
وبهذه واللّه تسلبني العدى *** وتجول خيلهم على أعضائي
وبهذه نهب الخيام وحرقها *** وبهذه هذه حرمي تقيم عزائي ]
ص: 78
الموج الثالث: فی بكائه(علیه السلام) منذ نزوله كربلاء إلى حين شهادته و تبسمه لحظة استشهاده(علیه السلام) وسرّ ذلك التبسم وفي هذا الموج سبعة وعشرين حديثاً :
بكاؤه(علیه السلام) لما نزل أرض كربلاء وجمع أولاده واخوته
روي في كتاب المناقب أنّه لما نزل الحسين(علیه السلام) في كربلاء، ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس، دعا الحسين بدواة وبيضاء، وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظن أنّه على رأيه.
ثم إنّه جمع الحسين(علیه السلام) ولده وإخوته وأهل بيته، ثم نظر إليهم، فبكى ساعة، ثم قال : اللّهم إنا عترة نبيك محمد(صلی اللّه علیه وآله)، وقد أخرجنا وطردنا وأزعجنا عن حرم جدنا، وتعدت بنوأمية علينا، اللّهم فخذ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين (1)
ص: 79
يقول المؤلف :
لعل بكاؤه(علیه السلام) كان من تصوّره لأولئك الشبان الرياحين وهم مقطعين إربا إربا ،مطرحين على وجه الصعيد، تصهرهم الشمس والرمضاء، فنظر اليهم ثم بكى(علیه السلام)
بكاؤه(علیه السلام) مواسيا لربّة الخدر زينب(سلام اللّه علیها)
في مقتل أبي مخنف : ثم أنّه نزل عن فرسه، وجلس الحسين (علیه السلام) يصلح سيفه ويقول :
یا دهر أف لك من خليل ***كم لك بالإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديل
وكلّ حيّ فإلى سبيل *** ما أقرب الوعد من الرحيل
وإنما الأمر إلى الجليل
ولم يزل يكرر هذه الأبيات حتى سمعت أخته زينب(سلام اللّه علیها)، وأن قوله هذا يدل على رمیم بسهم الشتات، فلم تملك نفسها إن وثبت تجرّ ذيلها، وإنّها لحاسرة حتى انتهت إليه ، فقالت : يا أخي وقرّة عيني، ليت الموت أعدمني الحياة، يا خليفة الماضين ويا ثمال الباقين ، هذا كلام من أيقن بالموت.
وفي اللهوف : فسمعت زينب بنت فاطمة(سلام اللّه علیها) ذلك فقالت : يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل.
فقال(علیه السلام) : نعم ، يا أختاه .
فقالت زینب(سلام اللّه علیها): واثكلاه ينعى الحسين(علیه السلام) إلىّ نفسه ؟
وبكى النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب ، وجعلت أم كلثوم تنادي:
وا محمداه ، واعلياه ، وا ،أماه ، وا ،أخاه واحسيناه ، وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد اللّه(علیه السلام) .
ص: 80
فعزاها الحسين(علیه السلام) وقال لها : يا أختاه تعزي بعزاء اللّه ، فإنّ سكان السماوات يفنون، وأهل الأرض كلّهم يموتون، وجميع البرية يهلكون(1)
وفي المنتخب : قال لها : يا أختاه لا يذهب بحلمك الشيطان تعزي بعزاء اللّه ، فإنّ أهل السماء والأرض يموتون ، وكلّ شيء هالك إلا وجهه ، أبي خير مني وأخي خير مني، ولكلّ مسلم برسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) أسوة ، فقالت زينب(سلام اللّه علیها) : يا أخى أتقتل وأنا أنظر اليك ؟ فلما سمعها الحسين(علیه السلام) جرت دموعه وبكى، فقالت: يا أخي ردّنا الى حرم جدّنا ، فقال : لو ترك القطا لغفا ونام (2)
يقول المؤلف :
تكرر هذا الموقف ليلة العاشر ، والظاهر أنّ هذه الأبيات والكلمات التي تذيب الفؤاد تكررت أيضا من قبل السيدة المخدرة زينب الكبرى(سلام اللّه علیها) .
[ بكاؤه(علیه السلام) على أنصاره ]
[بكاؤها(علیه السلام) حينما شكت له زوجة وهب بن عبد اللّه الكلبي حالها]
[ روي أنّ وهب بن عبد اللّه الكلبي كان شابا جميلا وسيما، وجهه كالبدر، وكان جديد عهد بالزواج ، أي أنّه كان قد تزوج قبل سبعة عشر يوما، وكانت أمه تسمى «قمر»، فقالت له : يا بني أنت تعلم بما في قلبي من محبّة لك.
ولكن يا بني ترى فلذة كبد المصطفى وحيدا بين الأعداء، وقد ابتلى بجفاء هؤلاء الأشقياء في صحراء كربلاء ، فلا أرضى عنك إلّا أن تقدّم نفسك على طبق الإخلاص لابن سيد الأوصياء.
ص: 81
فقال لها وهب : وهذا ما أتمناه وأرجوه ، ولكن لو أذنت لي أن أذهب الى هذه
الحرّة ، فإنّها ابتلت بطريقتنا، وهي جديدة عهد بالعرس، ولم تذق طعم الحياة معنا
فاسليها وأطيّب خاطرها ].
فقالت له أمه: إذهب، ولكن إحذر أن تصدّك عن قصدک، فتحرمک من حظّک، وتحرم الخلود في النعيم المقيم.
فقال لها : إطمئني يا أماه ليس في قلبي شيء سوى الحب والوفاء لابن خاتم الأنبياء(صلی اللّه علیه وآله).
فأقبل الى زوجته وتحدّث لها عن غربة ابن فاطمة(سلام اللّه علیها) وقال لها : أترضين أن أفديه يه بنفسي ليكون جده محمد(صلی اللّه علیه وآله) شفيعنا غدا يوم القيامة ؟ ونرضي أمه فاطمة وأباه عليا(علیهما السلام) ؟
فتحسرت زوجته وقالت ليت لي ألف نفس أفدي بها الحسين(علیه السلام)، ولو كان القتال مباحا للنساء لقاتلت معك وفديته بنفسي، ولكن قم معي لنقف بين يديه فإنّي يد أن تشرط لى أمامه أن لا تدخل الجنة غدا يوم القيامة حتى تدخلني معك. فقاما الى الإمام(علیه السلام) وتعاهدا عنده ، ثم التفت الى الإمام(علیه السلام) وقالت : يا ابن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) إجعلني في حرمك وسلّمني الى أهل بيتك لأنال شرف خدمتهم، وأكون أمة لهم، ويصيبني ما يصيبهم، ما يصيبهم، وأكون في حمايتهم وعصمتهم ، وأحسب في عداد بنات فاطمة(سلام اللّه علیها) ، فلا يتعرّض لي الأجانب، وأكون في صيانة عفافهم مصونة الجانب .
فبكى الإمام الحسين(علیه السلام) وقال لها :ادخلي في حرمي،فدخلت مع حرمه.
***
ولعله(علیه السلام) بكى لأنّه تصوّر أنّها بعد قليل سيستشهد زوجها ويلتحق بقافلة
السعداء، وتشرب هي كأس المنية حينما يضربها غلام الشمر بعمود على رأسها .
***
ص: 82
روي أنّه لم يزل يقاتل قتال الأبطال،[وهو يرتجز ويقول:
أن تنكروني فأنا ابن الكلبي *** عبل الذراعين شديد الضرب
لا أرهب الموت بدار الحرب *** افوز بالجنة يوم الكرب
إنّي غلام واثق بربي *** حسبي به مولاي فهو حسبي ]
ثم قطعت يداه ، فأخذت إمرأته عمودا وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، فأقبل كي يردّها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود أو أموت معك ،فقال الحسين(علیه السلام) : جزيتم من أهل بيتي خيرا، إرجعي إلى النساء رحمك اللّه، فانصرفت، إطاعة لإمامها المفترض الطاعة، ورجع وهب الى الأشقياء يقاتلهم .
وروي أنّ أمه كانت واقفة بباب الخيمة تحرضه وتشجعه على القتال وهي تقول : قاتل بأبي وأمي دون الطيبين، ولا ترجع حتى تفدي نفسك للحسين وآل الحسين(علیهم السلام) ، وتلتحق بآبائه الطاهرين، في جنات النعيم .
فلما رأى الحسين (علیه السلام) منها ذلك بكى وقال لها : جزاكم اللّه خيرا عن أهل بيت نبيكم ، فقد بذلتم غاية المجهود، ولم تقصروا في الذب عن ذرية رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله).
وجعل وهب يقاتل حتى سقط على وجه الأرض فتكاثر عليه جيش الأعداء،
أخذ أسيرا ، فأتى به عمر بن سعد ، فقال : ما أشدّ صولتك، ثم أمر فضربت عنقه ورمي برأسه إلى عسكر الحسين(علیه السلام)، فأخذت أمه الرأس، فمسحت عنه الدم والتراب وقبّلته، وقالت : الحمد للّه ، جزاك اللّه خيرا فقد قرت عيني بشهادتك بين يدي الحسين(علیه السلام)، وبيضت وجهى أمام فاطمة(سلام اللّه علیها) سيدة نساء العالمين، ثم بكت بكاء شديدا ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد، فأصابت به رجلا فقتلته(1)
ص: 83
ثم شدّت بعمود الفسطاط [وهي تقول :
أنا عجوز سيدي ضعيفه *** خاوية بالية نحيفه
أضربكم بضربة عنيفه دون *** بني فاطمة الشريفه ]
فقتلت رجلين، فقال لها الحسين(علیه السلام) إرجعي يا أم وهب ، أنت وابنك مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء، فرجعت ،وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي . فقال لها الحسين(علیه السلام) : لا يقطع اللّه رجاك يا أُم وهب .
وفي البحار: فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه ، فبصر بها شمر ، فأمر غلاما له
فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها(1)، فالتحقت تلك المرأة الصالحة بركب
الشهداء وحلّقت روحها مع أرواح السعداء.
[بكاؤه(علیه السلام) حينما وقف على مصرع حبيب بن مظاهر]
ورد في الأخبار أنّ حبيب الشيخ الكبير المنور الضمير لما سقط الى الأرض من شدة الجراحات وكثرة ما به من الأصابات من طعن وضرب وجروح بالسهام والنبال ، نادى : أدركني يا ابن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) .
فلما سمع الحسين(علیه السلام) النداءه اركب فرسه، وأسرع حتى وقف عليه، فأدركه وبه رمق ، ففتح حبيب عينه ورمق الحسين(علیه السلام) بطرفه وقال : يا ابن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، أتريد أن أبلّغ جدك وأباك عنك شيئا ،فإنّي صائر اليهم، ثم قال : الحمد للّه الذي منّ عليّ حتى خضّبت لحيتي من دمي في محبتك.
ص: 84
فبكى الحسين(علیه السلام) وقال : يا حبيب، أبشر بالجنة، ونحن على الأثر، فاستبشر بهذه البشارة، وعزم على السفر الى دار السرور، وسلّم روحه الطاهرة الى
بارئها وهو محبور.
و في مقتل أبي مخنف : لما قتل حبيب بانَ الإِنْكِسارُ في وَجْهِ الْحُسَيْنِ(علیه السلام) ثُمَّ َقالَ: للَّهِ دَرُكَ يا حَبيبُ ، لَقَدْ كُنْتَ فاضِلاً تَخْتِمُ الْقُرآنَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَامَ إِلَيْهِ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ(رضی اللّه) وَقالَ : بِأَبي اَنْتَ وَأُمِّي يَابْنَ رَسُولِ اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ما هذا الإِنْكِسارُ الَّذِي آرَاهُ في وَجْهِكَ ؟ اَلَسْتَ تَعْلَمُ إِنَّا عَلَى الْحَقِّ ؟
قالَ: بَلَى وَإِلَهَ الْخَلْقِ إِنِّي لَأَعْلَمُ عِلْمَاً يَقيناً إِنِّي وَإِيَّاكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى الذي
يرضى به اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله)
فَقالَ زُهَيْرٌ : إذاً لا تُبالي وَنَحْنُ نَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ وَنَعيمها ، ونلقى الغفور الرحيم. قال أبو مخنف : ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَ الْحُسَيْنِ(علیه السلام). فَقَالَ يَا مَوْلايَ أَتَأْذَنُ لِي بِالبِرازِ ؟ فَقالَ : أَبْرُزْ، فَبَرَزَ زُهَيْرٌ ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الْقَوْمِ وَلَمْ يَزَلْ يُقاتِلُ، وَخَشيَ أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلاةُ مَعَ الْحُسَيْنِ(علیه السلام)، فَرَجَعَ وَقالَ: يا مَوْلايَ إِنِّي خَشيتُ أَنْ تَفُوتَني الصَّلاةُ،
فَصَلَّ بِنا.
فَقَامُ الْحُسَيْنُ(علیه السلام) وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الظُّهْرِ ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ قَالَ : إنَّ هذه الجنَّةُ قَدْ فُتِحَتْ أبوابها، وَاتَّصَلَتْ أنهارُها، وَأَيْنَعَتْ تِمارُها ، وَزُيِّنَتْ قُصُورُها ، وَتُؤلَّفَتْ ولدانُها وَحُورُها ، وهذا رَسُولُ اللّهِ (صلى اللّه عليه وسلم) وَالشُّهَداءُ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ، وَأبي وَأُمِّى يَتَوَقَّعُونَ قُدُومَكُمْ عَلَيْهِمْ ، وَيَتَباشَرونَ بِكُمْ، وَهُمْ مُشْتاقُونَ إِلَيْكُمْ. فَحامُوا عَنْ دِينِكُمْ، وَذِبّوا عَنْ حَرَمٍ رَسُولِ اللّهِ(صلی اللّه علیه وآله)، وَ عَنْ اِمامِكُمْ وَابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ، فَقَدْ امْتَحَنَكُمْ اللّه تعالى بنا، فَانْتُمْ في جَوارِ جَدِّنَا ، وَالكِرامُ عَلَيْنَا ، وَأَهْلُ مَوَدَّتِنا، فَدَافِعوا بارَكَ اللّهُ فِيكُمْ عَنّا.
ص: 85
ثم التفت(علیه السلام) الى خيم النساء ونادى برفيع صوته:إخرجن منالخيام، فخرجن منشرات الشعور، مهتكات الجيوب يبكين، وينادين انصرونا يا حماة المسلمين يا معشر المسلمين ويا عصبة الموحدين اللّه اللّه في ذرية نبيكم غاروا عليهم وحاموا عنهم .
[ فلهفي لآل اللّه بعد حماتها *** وقد أصبحت بين المضلين مغنما
اذا استنجدت فتيانها الصيد لم تجد*** برغم العلى غير العليل لها حمى
حواسر من بعد التخدر لاترى *** لها ساترا إلّا ذراعا ومعصما
وزينب تدعو والشجي يستفزها *** أخاها ودمع العين ينهل عندما]
[بنفسى هم من مستميتين كسّروا*** جفون المواضي في وجوه الكتائب
فما بالهم صرعى ومن فتياتهم *** بهم قد أحاط العتب من كلّ جانب
تعاتبهم وهي العليمة أنّهم *** بريئون مما يقتضي يقتضي قول عاتب
وباكية حرّى الفؤاد دموعها *** تصعد عن قلب من الوجد ذائب
ومدّت الى نحو الغريين طرفها *** ونادت أباها خير ماش وراكب
أباحسن(علیه السلام) إن الذين نماهم*** أبو طالب بالطف ثأر لطالب
فها هم على الغبراء مالت رقابهم ***ولما تمل من ذلة في الشواغب]
ثم نادى الحسين(علیه السلام) برفيع صوته : يا أمة التنزيل، وحفظة القرآن، حاموا عن هؤلاء الحريم، ولا تفشلوا عنهم.
فَلَمّا سَمِعَ أَصحَابَه الأوفياء ذلك ضَجُوا بِالْبُكاءِ وَالنَّحيب، وَقَالُوا : نُفُوسُنا دُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَدِماتُنا دونَ دِمائِكُمْ، وَاَرْواحُنا لَكُمُ الْفِداءُ، وَاللَّهِ لا يَصِلُ إِلَيْكُمْ أَحَدٌ بِمَكْرُومٍ وَفِينا الْحَياةُ، وَلَا يَصِلُ أَحَدَ اِلَى حَرَمِكُم وَفِينَا عَين تَطرف، وَقَدْ وَهَبْنا لِلسُّيُوفِ نُفُوسَنا ، وَلِلطَّيْرِ ابْدانَنا فَلَعَلَّهُ نَقِيكُمْ زَحْفَ الصُّفُوفِ ، وَنَشْرَبُ دُونَكُمْ
الحُتوفَ ، فَقَدْ فَازَ مَنْ كَسَبَ الْيَوْمَ خَيْراً ، وَكانَ لَكُمْ مِنَ المنونِ يُجيراً (1)
ص: 86
فقال لهم الحسين(علیه السلام) : جزاكم اللّه عنا خيرا ، وبشركم بالجنة ، فأنتم مع جدي محمد المصطفى(صلی اللّه علیه وآله)، وأبي علي المرتضى(علیه السلام)، وأمي فاطمة الزهرا(سلام اللّه علیها)، وأخي الحسن المجتبى(علیه السلام)، وعمي
جعفر الطيار وسائر الشهدا، وهم مشتاقون إليكم.
بكاؤه(علیه السلام)حينما وقف على مصرع الغلام التركي القارىء للقرآن
روي أنّه برز غلام تركي، وكان قارئاً للقرآن، فتقدّم الى الإمام وقال : جعلت فداك ، لو أذنت لي في القتال فإنّي لا أرى أحدا منبا يبق هذا اليوم، فلو أذنت لي حتى أقاتل بين يديك وأفديك بنفسي.
فقال له الإمام(علیه السلام): قد وهبتك لولدي علي بن الحسين زين العابدين(علیه السلام). فجاء الغلام حتى دخل على الإمام فقال : سيدي إستأذنت للقتال فقال سيدي الحسين(علیه السلام) : إنّي وهبتك لولدي فأمرك بيده ، وقد جئتك أستأذنك للقتال.
فقال الإمام السجاد(علیه السلام): وأنا أعتقتك اللّه ، فأنت حرّ تفعل ما تشاء، وتختار
ما تحّب.
فخرج الغلام حتى وقف بين يدي الحسين(علیه السلام) فاستاذنه للقتال، ثم جاء حتى وقف على خيام النساء، ونادى یا حرم اللّه وحرم رسوله(صلی اللّه علیه وآله) يا بنات رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ومخدرات الوحي وعقائل العزّة، إجعلوني في حلّ، فقد خدمتكم مدة وأنا أخشى أنّي قصرت في خدمتكم، أستأذنكم في الخروج الى القتال، وأرجو أن لا تنسوني يوم القيامة، وتدعوني هناك حتى أكون معكم .
فلما سمع الحرم كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب، ثم ودعهم، وخرج يقاتل مسرورا [وهو يرتجز:
ص: 87
البحر من طعني وضربي يصطلي *** والجو من سهمي ونبلي يمتلي
اذا حسامي في يميني ينجلي *** ينشق قلب الحاسد المبخل]
فقال على بن الحسين(علیه السلام): ارفعوا طرف الخيمة لأنظر كيف يقاتل ، فقاتل قتال الأبطال، وحمل عليهم حملة الليث الغضبان، فلم يتقدّم اليه أحد إلّا عجّل بروحه الى سقر ، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، حتى أثخنوه بالجراح، فجاءه الإمام(علیه السلام) حتى وقف عليه .
فلما رآه مضرجا بدمه بکی، وحمله الى الخيمة وبه رمق ، فجعل الإمام رأسه في حجره ، ووضع خده على خده، ففتح الغلام عينيه لينظر الى جمال الحسين(علیه السلام) مرة أخرى، فرأى وجهه على وجهه، فتبسم، ثم فاضت نفسه وصار الى ربّه (1)
يقول المؤلف:
الظاهر من الأخبار أنّ سيد الشهداء(علیه السلام) وضع خده على خد شهيدين من شهداء، الطف : أحدهما هذا الغلام الأسود ، والثاني ولده وريحانته علي الأكبر. ولعله(علیه السلام) أراد أن يظهر للعالم مقام ومنزلة هذا الغلام السعيد، ويظهر للعالم حبّه في اللّه وبغضه في اللّه ، فبقطع النظر عن مقامات على الأكبر وكالاته المعنوية والصورية، وانتسابه الى الأسرة النبوية، وما له من خصوصيات من جهة الأب والأم والاخوة، فإنّه بالغ في نصرة سيد الشهداء(علیه السلام)، وبلغ ما بلغ في مقام العبودية والطاعة في الذبّ عن المظلوم العطشان، فاستحق لطف الإمام ورأفته حتى وضع خده على خده، تماما كما فعل مع الغلام السعيد الذي كان مشتغلا دائما بذكر الرحیم الرحمان، وتلاوة القرآن، ولم ينثني عن قتال الأعداء والتفاني في الذبّ
ص: 88
عن سيد المظلومين والشهداء(علیه السلام)، حتى تخضب بدمه، ونال سعادة الشهادة، وشرب رحيق الجنان، فاستحق بذلك رأفة الإمام وعطفه ، فنظر اليه نظرة خاصة ووضع خده على خده.
ولعل الغلام قد أدرك هذا المعنى، فتبسم عند لقاء ربّه ، وفارق الدنيا مبتسما بما آل
اليه من مقام عند سيده.
[ شهادة جون مولى أبي ذر ]
ومن جملة الغلامان الذين فدوا أرواحهم لسيد الشهداء(علیه السلام) جون مولى أبي ذر الغفاري، وكان عبداً أسود، فقال له الحسين(علیه السلام) : أنت في إذن منّي، فإنّما تبعتنا طلبا للعافية فلا تبتلي بطريقنا .
فقال : يا ابن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم واللّه إنّ ريحي لنتن، وإنّ حسبي للئيم، ولوني لأسود فتنفس عليّ بالجنة، فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض وجهي ،لا- واللّه - لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.
فأذن له الإمام فبرز يقاتل وهو يرتجز ويقول:
كيف يرى الكفار ضرب الأسود *** بالسيف ضربا عن بني محمد
أذب عنهم باللسان واليد *** أرجو به الجنة يوم المورد
وروي أنّه ارتجز فقال :
كيف يرى الفجار ضرب الأسود*** بالمشرفي القاطع المهند
بالسيف صلتا عن بني محمد*** أذب عنهم باللسان واليد
أرجو بذاك الفوز عند المورد*** من الإله الأحد الموحد
إذ لا شفيع عنده كأحمد ]
ص: 89
ثم قاتل قتال الأبطال، وغاص في بحر عساكر الجهال وأهل الضلال، حتى قتل فنال السعادة ومرافقة الآل، فوقف عليه الحسين (علیه السلام) وقال :اللّهم بيض وجهه،
وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد و آل محمد(صلی اللّه علیه وآله).
وروي عن الباقر(علیه السلام) لها عن علي بن الحسين(علیه السلام) : إنّ الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى، فوجدوا جوناً بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك رضوان اللّه عليه(1).
وفي بعض كتب المقاتل : أنّهم وجدوه ووجهه أشدّ بياضا من الثلج ،تفوح منه
رائحة أزكى من المسك والعنبر.
[بكاؤها(علیه السلام) حينما استشهد الحر ]
[ قال أبو مخنف : إنّ الحر كان آخر من استشهد من أصحاب الحسين(علیه السلام) قال (2) : وصار الإمام(علیه السلام) ينظر يمينا وشمالا، فلم ير أحدا حوله من أصحابه وأنصاره إلا قتيل وجديل وطريح وجريح، فبكى ونادى : أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من مجير يجيرنا ؟ أما من ناصر ينصرنا ؟ .... الخ .
فوقع كلامه في مسامع الحر فأقبل على ابن أخيه قرة وقال : أتنظر الى الحسين(علیه السلام) يستغيث فلا يغاث، ويستجير فلا يجار، قد قتلت أنصاره وبنوه، وقد أصبح بين مجادل ومخاذل ، فهل لك أن تسير بنا اليه وتقاتل بين يديه، فإنّ الناس عن
ص: 90
هذه الدنيا راحلة وكرامات الدنيا زائلة، فلعلنا نفوز بالشهادة ونكون من أهل السعادة فقال له : ما لي بذلك من حاجة.
فتركه وأقبل على ولده وقال له : يا بني لا صبر لي على النار ، ولا على غضب الجبار ، ولا أن يكون غدا خصمي أحمد المختار يا بني أما ترى الحسين(علیه السلام) يستغيث فلا يغاث ويستجير فلا يجار ؟ يا بني سر بنا اليه نقاتل بين يديه فلعلنا نفوز بالشهادة ونكون من أهل السعادة، فقال له ولده حبّا وكرامة .
ثم إنّهما حملا من عسكر ابن زياد كأنّهما يريدان القتال حتى هجما على الحسين(علیه السلام)، فنزل الحر عن ظهر جواده وطأطأ رأسه، وجعل يقبّل يد الحسين(علیه السلام) ورجليه وهو يبكي بكاءاً شديداً، فقال له الحسين(علیه السلام): إرفع رأسك یا شیخ
فرفع رأسه وقال : يا مولاي أنا الذي منعتك عن الرجوع الى المدينة، واللّه يا مولاي ما علمت أنّ القوم يبلغون منك هذا ، وقد جئتك تائبا مما كان مني ومواسيك بنفسي وقليل في حقّك يا مولاي أن تكون نفسي لك الفداء، وها أنا القى حمامي يا مولاى بين يديك ، فهل من توبة عند ربّي؟
فقال له(علیه السلام): إن تبت تاب اللّه عليك ويغفر اللّه لك ،وهو أرحم الراحمين . وإستأذن بالبراز الى الميدان وأنشد أشعارا ، ثم حمل على القوم وقال : يا أهل
الكوفة يا أهل الغدر والمكر علام دعوتم هذا الإمام وزعمتم أنّكم تنصروه حتى أتاكم غدرتم به وتعديتم عليه وأحطتم به من كل جانب ومكان ومنعتموه وأهله من الرجوع الى ما شاء من هذه الأرض العريضة ، فأصبح في أيديكم وحيدا، ومنعتموه وأهل بيته من شرب الماء، بئس واللّه ما خلفتم نبيكم في أهل بيته وذريته ما لكم لا سقاكم اللّه يوم العطش الأكبر ....
ص: 91
ثم بكى بكاءاً عالياً وبرز وهو يرتجز، ثم حمل على القوم، فلم يزل يقاتل حتى قتل جماعة ، فقال عمر بن سعد : ويلكم إرشقوه بالنبل ، فجعلوا يرشقونه بالنبل حتى
صار جلده كالقنفذ، وعقروا ،فرسه فوثب يقاتل راجلا ويقول :
إن تعقروا مهري فإنّي الحر***كالليث في الهيجاء إذا كر
فهجموا عليه وقتلوه، واشترك في قتله ابن مسرح ورجل آخر من فرسان أهل الكوفة ، فاحتزوا رأسه ورموا به نحو الإمام، فأخذه الإمام الحسين(علیه السلام) وجعل يمسح الدم عن وجهه وثناياه ويقول : واللّه ما أخطأت أمّك حيث سمتك حرا، واللّه إنك حر في الدنيا وسعيد في الآخرة، ثم إستغفر له وبكى وأنشأ شعراً (1)
لنعم الحرّ حرّ بني رياح *** صبور عند مشتبك الرماح
ونعم الحر إذ نادى حسينا ***وجاد بنفسه عند الصباح
الى آخر الأبيات،
ثم دخل الخيمة وهو يبكي وينشد الأبيات المعروفة، ثم قال : قتل واللّه أسد من
أساد اللّه يذبّ عن حرم رسول اللّه.(2)
بكاؤه على أهل بيته ]
بكاؤه(علیه السلام)حينما استشهد جعفر بن عقيل
معاشر الشيعة ، لقد حضر مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) في غزوة بدر سبعون من بني عمومته وعشيرته وأقربائه، ورجع كلّهم معه منصورون مظفرون إلّا عبيدة بن الحارث قتله
ص: 92
عتبة بن ربيعة، فحزن عليه النبي(صلی اللّه علیه وآله)حزنا شديدا، وتغير حال فخر بني آدم حتى لم يعد با مكان أحد أن يطيب خاطره ، ويذهب عنه الحزن .
وكان رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) قد أمر عليا وحمزة وعبيدة بالقتال، وقال: يا علي عليك بالوليد بن عتبة، ويا حمزة عليك بشيبة، ويا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة .
فبرزوا الى القتال ورجعوا بالنصر والظفر ، إلا عبيدة فقد استشهد يومها ، فعمّ الحزن قلب سيد الكائنات على عبيدة ، وبان الألم في وجهه، وبكى عليه، وإحترق قلبه ، و تفری کبده ، فكيف بي إذا أردت أن أحرر قصة كربلاء الأليمة، وحكاية الغم والهم التي جرت في كربلاء ، وقد قتل الشافع يوم الجزاء في صحراء نينوى تسعة من أبناء عمومته، وتقدموا بين يدي ،سبطه، فقطعهم الأشقياء بالسيوف والرماح والنبال حتى فازوا بكأس الشهادة، وكانوا يتقدمون الواحد تلو الآخر، بحيث كان دم الأول يفور من نحره، فيتقدم الآخر، وهو بعد لم يشف غليله من البكاء على صنوه ، كانوا جميعا أوفياء مضحين شباب في مقتبل العمر، بعد لم يذوقوا حلاوة الدنيا، ولم يأخذوا نصيبهم منها بالأوفر الأوفى.
وكان من هؤلاء الشباب الأطياب جعفر بن عقيل (علیه السلام)، وكان شابا ليس له مثيل ، فلما تقدم ووجهه كالشمس يسطع بنور الجليل، فبرز للقوم فاحتوشوه ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح، فقطعوه أمام عيني سبط الخليل، فخر الى الأرض يسبح
في دمائه.
فلما نظر اليه الحسين(علیه السلام) التغير حاله واضطرب ، فروي أنّه نظر يمينا وشمالا، فلم يجد أحدا من أنصاره وأهل بيته فبكى بكاء شديدا، ونادى: وا محمداه وا أبا القاسماه، واجداه ، وا علياه وا جعفراه وا حمزتاه ثم قال : يا قوم أما من مجير يجيرنا ؟ أما من معين يعيننا ؟ أما من طالب جنة ينصرنا ؟ أما من خائف من عذاب الله فيذبّ عنا ؟
ص: 93
ثم وقف(علیه السلام) قبالة القوم وسيفه مصلت في يده، آيسا من الحياة، عازما على الموت وهو يقول :
أنا ابن على الطهر من آل هاشم***كفاني بهذا مفخرا حين أفخر
وجدي رسول اللّه أكرم من مضى*** ونحن سراج اللّه في الخلق نزهر
وفاطم أمي من سلالة أحمد*** وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر
وفينا كتاب اللّه أنزل صادقا*** وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر
ونحن أمان اللّه للناس كلّهم*** نسر بهذا في الأنام ونجهر
ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا*** بكأس رسول اللّه ما ليس ينكر
وشيعتنا في الناس أكرم شيعة*** ومبغضنا يوم القيامة يخسر(1)
بكاؤه(علیه السلام) في مصيبة القاسم بن الحسن(علیه السلام)
وقد بكى(علیه السلام) في مصيبة القاسم في خمسة مواضع :
بكاؤه(علیه السلام)حينما جاءه القاسم المظلوم ليستأذنه في القتال
في البحار: فتقدم القاسم بن الحسن(علیه السلام) وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم،
وكان وجهه كفلقة القمر ، فلما نظر الحسين إليه قد برز إعتنقه وجعلا يبكيان حتى غشي عليها .
[ أيّها العم رخصة لي لأطفي ***لهبا منه يستجير الضمير
فأجاب الحسين إنّ بك ال*** طرف قرير وخاطري مسرور
ص: 94
أنت لي عن أخي الذخيرة ير*** عاها ضميري وحبّي المذخور
كيف أرضى بأن أقدّم للذبح *** نجما به الوجود منير
كيف ألقى أمّا حنونا وهل *** مثلي في مثل موقفي معذور
قال يا عمّ فالدفاع عن الدين *** إذ شرعه المنصور
فبكى ثم ضمّه السبط حينا ***ثم ولّى كما تهب النسور]
ثم استأذن الحسين(علیه السلام) في المبارزة ،فأبى الحسين(علیه السلام) أن يأذن له، فلم يزل الغلام يقبل يديه ورجليه حتى أذن له .
[فخرج ودموعه تسيل على خديه وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن الحسن(علیه السلام) *** سبط النبي المصطفی والمؤتمن
هذا حسين(علیه السلام) كالأسير المرتهن*** بين أناس لا سقوا صوب المزن(1) ]
بكاؤه(علیه السلام)حينما نظر الى خط أخيه الحسن(علیه السلام)
روى الشيخ الطريحي في كتاب المنتخب: لما آل أمر الحسين الى القتال بكربلاء
وقتل جميع أصحابه ووقعت النوبة على أولاد أخيه جاء القاسم بن الحسن(علیه السلام) وقال : يا عم الإجازة، لأمضي إلى هؤلاء الكفرة .
فقال له الحسين(علیه السلام) : يا بن الأخ أنت من أخي علامة، وأريد أن تبق لأتسلى بك ، ولم يعطه إجازة للبراز.
فجلس مهموما مغموما، باكي العين، حزين القلب، وأجاز الحسين(علیه السلام) اخوته للبراز، ولم يجزه، فجلس القاسم متألما ووضع رأسه على رجليه، وذكر أنّ أباه قد ربط له عوذة في كتفه الأيمن، وقال له : إذا أصابك ألم وهّم
ص: 95
فعليك بحلّ العوذة وقراءتها ، وفهم معناها ، وإعمل بكلّ ما تراه مكتوبا فيها ، فقال القاسم لنفسه: مضى سنين عليّ ولم يصبني من مثل هذا الألم ، فحلّ العوذةوفضها،
ونظر الى كتابتها ، واذا فيها :
يا ولدي قاسم أوصيك إنّك إذا رأيت عمك الحسين(علیه السلام) في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء فلا تترك البراز والجهاد لأعداء رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، ولا تبخل عليه بروحك، وكلما نهاك عن البراز عاوده ليأذن لك في البراز، لتحضى في السعادة الأبدية.
فقام القاسم من ساعته وأتى الى الحسين(علیه السلام)، وعرض ما كتب الحسن(علیه السلام) على عمه الحسين(علیه السلام)، فلما قرأ الحسين(علیه السلام) العوذة بكى بكاءا شديدا ، ونادى بالويل والثبور وتنفس الصعداء(1)ونظر الى القاسم مرة أخرى وفاضت دموعه من جمر كبده على خديه .
بكاؤه(علیه السلام) حينما عاد اليه القاسم يطلب منه الماء بعد قتل الأزرق وأولاده
لما قتل القاسم الأزرق الشامي وأولاده الأربعة، عاد منتصرا الى عمه العطشان الغريب، وقد كضّه العطش وأضرّ به الحرّ وأشعة الشمس، وثقل الحديد، وجهد القتال، فلما وصل الى عمه قال : يا عماه العطش العطش، أدركني بشربة من الماء، فصبّره الحسين(علیه السلام) وقال له : إصبر فبعد قليل يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا، وتلبس من حرير الجنة واستبرقها.
وروی أنّه أعطاه خاتمه وقال : حطه في فمك ومصّه، قال القاسم : فلما وضعته
عين ماء، فارتويت وانقلبت الى الميدان (2)
ص: 96
بكاؤه(علیه السلام)حينما وقف على مصرعه
قال حميد بن مسلم : كنت في عسكر ابن سعد ، فكنت أنظر إلى هذا الغلام - يعني
القاسم بن الحسن(علیه السلام)- وقد برز ، وكان وجهه كفلقة القمر، وكان عليه قميص وإزار ونعلان، قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنه كان اليسرى، فقال عمرو بن سعيد الأزدي : واللّه لأشدّنّ عليه، فقلت: سبحان اللّه ، وما تريد بذلك ، واللّه لو ضربني ما بسطت إليه يدي، يكفيه هؤلاء الذين تراهم قد احتو شوه ، قال : واللّه لأفعلن ،فشدّعليه، فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف، ووقع الغلام لوجهه ، ونادى: يا عماه . فبادر اليه اللعين سعيد بن عمير فبقر بطن اليتيم الصغير، وطعنه يحيى بن وهب بالرمح في خاصرته ، وفي المنتخب: وضربه شيبة بن سعد الشامي بالرمح على ظهره، فأخرجه من صدره(1)
وفي بعض كتب المراثي : أنّ الأشقياء كانوا يرضخوه بالحجارة، وينادون : إقتلوه
فإنّه خارجي بن خارجي.
فوقع القاسم (علیه السلام) يخور بدمه، ويفحص بيديه ورجليه،كالطير المذبوح ، ونادى يا عم أدركني.
[هو القاسم المغوار أبدى شجاعة ***من المرتضى الكرار يوم الملاحم
فکم زفٌ قرما لا يطاق لقبره ***وکم ردّ جيشا لا يردّ لهازم
فقرّت به عين المعالي كما بكت ***عليه بدمع من دم القلب ساجم
ولم أنسه لما هوى بعد أن هوت*** ببطشته الكبرى كماة الضياغم
تقاسمه الأوغاد خوف مراسه ***بنبل وأحجار وسمر اللهاذم
ص: 97
فماهوإلّا البدر قبل تمامه ***عراه خسوف من شموس الصوارم
ينادي أيا عماه أودعتك الذي ***اليه مصير الخلق يا خير عاصم
وعزّ عليه أن يراه مقطّرا ***علیه برود من دماء سواجم ]
قال حمید : فجاء الحسين(علیه السلام) كالصقر المنقض، فتخلل الصفوف، وشدّ شدّة الليث الحرب، فضرب عمرا قاتله بالسيف، فإتقاه بيده فأطنّها من المرفق، فصاح ثم تنحى عنه ،وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من الحسين(علیه السلام)، وحمي الوطيس فاستقبلت الخيل القاسم بصدورها، وجرحته بحوافرها، ووطئته، وفي المنتخب: فجاءه الحسين(علیه السلام) وقتل قاتله (1)
قال حميد: فإنجلت الغبرة، فإذا بالحسين(علیه السلام) القائم على رأس الغلام،
وهو يفحص برجله .
روى أبو مخنف: ثم نظر الى القاسم(علیه السلام) فبكى بكاءاً شديداً وقال : يعزّ واللّه على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يعينك ، أو يعينك فلا يغني عنك ، بعدا لقوم قتلوك ، صوت واللّه كثر واتره وقل ناصره (2)
قال حميد: ثم احتمله، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض ، وقد وضع صدره على صدره، فقلت في نفسي : ما يصنع ؟ فجاء حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته ثم قال : اللّهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، ولا تغفر لهم أبدا، صبرا يا بني عمومتي صبرا يا أهل بيتي، لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا
ص: 98
وفي المنتخب: وحمل القاسم(علیه السلام)الى الخيمة ،وكان به رمق، فوضعه فيها ، ففتح القاسم عينه ،فرأى الحسين(علیه السلام)قد إحتضنه وهو يبكي(1)
[ فخر يدعو فلبي السبط دعوته ***فكان ما كان منه عند داعيها
تقشعت ظلمات الخيل ناكصة *** فرسانها عنه وانجابت غواشيها
وإذ به حاضن في صدره قمرا **** يزين طلعته الغراء داميها
وافی به حاملا نحو المخيم والّا **** ماق في وجهه حمر مجانيها
تخط رجلاه في لوح الثرى صحفا *** الدمع منقطها والقلب تاليها ]
بكاؤه(علیه السلام)حينما جاء به الى الخيمة
لما جاء به الحسين(علیه السلام) الى المخيم ووضعه بين الشهداء إجتمعت عليه النساء، ثم إنّ الحسين(علیه السلام) ابكى بكاءا شديدا، وجعلت إبنة عمه تبكي، وجاءت أمه وباقي النساء، فلطموا الخدود ، وشقوا الجيوب ، ونادوا بالويل والثبور فجعل الحسين (علیه السلام) ينظر الى القاسم(علیه السلام) ويبكي ثم قال: يا ولدي لعن اللّه قاتليك، يعزّ واللّه على عمك أن تدعوه وأنت مقتول ، يا بني قتلوك الكفار ، كأنهم ما عرفوا من جدك وأبوك (2).
[لهفى على وجناته *** بدم الوريد مخضبات
جاء الحسين به الى*** خيم النساء الثاكلات
فخرجن ربات الحجال*** من المضارب باكيات
يندبنه لهفى على *** تلك النساء النادبات ]
***
ص: 99
بكاؤها حينما استشهد أحمد بن الحسن ]
[ وروي أنّه برز من بعد القاسم (علیه السلام)أخوه أحمد ، وله من العمر ستة عشر سنة، وحمل على القوم وأنشأ يقول:
إنِّى أنا نجل الإمام ابن علي*** أضربكم بالسيف حتى يقلل
نحن وبيت اللّه أولاد النبي*** أطعنكم بالرمح وسط القسطل
وروي انّه برز اليهم وطلعته كالقمر المنير الطالع من الافق ، فبهت العسكر لجماله، وكلما طلب مبارزا نظر أصحاب القلوب المطبوعة السوداء بعضهم لبعض، ولم يجرؤ أحد على الوقوف أمامه، فحمل على القوم ولم يزل يقاتل حتى قتل من القوم جماعة، ورجع الى الحسين(علیه السلام) وقد غارت عيناه في أم رأسه من شدة العطش، فنادى يا عماه هل من شربة من الماء أبرّد بها كبدي وأتقوّى بها على أعداء اللّه ورسوله(صلى اللّه عَليْهِ وآله).
فقال الإمام(علیه السلام) : يا بن الأخ إصبر قليلا حتى تلقى جدك رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) فيسقيك شربة من الماء لا تظماً بعدها أبدا، فرجع الغلام الى المارقين لعنهم اللّه وحمل عليهم وأنشأ يقول :
إصبر قليلا فالمنى بعد العطش *** فإنّ روحي في الجهاد تنكمش
لا أرهب الموت إذا الموت وحش*** ولم أكن عند اللقاء ذا رعش
ثم حمل على الملعونين فقتل منهم جماعة، وأنشد هذه الأبيات:
اليكم من بني المختار ضربا *** يشيب لهوله رأس الرضيع
يبيد معاشر الكفار جمعا *** بكل مهند عضب قطيع
وروي عن حميد بن مسلم أنّه قال : لما قال الحسين(علیه السلام) الهلال الابن أخيه أحمد ما قال: رجع، فقاتل حتى صار يخبط الأرض وينكمش ويجول يمينا وشمالا من العطش،
ص: 100
والحسين(علیه السلام) ينظر اليه ويبكي ، فسمع البكاء علي بن الحسين(علیه السلام) الأكبر ، فقال : يا أبتاه ما بالك تبكي ؟ فقال الحسين(علیه السلام) : يا بني أما تخرج الى هؤلاء القوم وتحفظ ابن عمك من شرهم ؟ فقال : يا أبتاه العطش أهلكني والجوع أنهكني، فقال له الحسين(علیه السلام): ليس بينك وبين الجنة إلّا أن تبرز لهؤلاء القوم فتقاتلهم فيقتلونك فتسلم روحك الى بارئها ، أتحبّ أن أكون قتيلا بين يديك ؟ فقال : لا والله يا أبتاه، فنزل الى الحرب فقاتل مع ابن عمه فرمى منقذ بن النعمان أحمد بنبلة فقتله ]. (1)
بكاؤه(علیه السلام) في مصيبة زبدة الناس سيدنا العباس(علیه السلام)
وقد بكى(علیه السلام) في هذه المصيبة في أربعة مواضع :
بكاؤه(علیه السلام) حينما جاءه العباس(علیه السلام) يطلب منه الإذن للبراز
قال الطريحي في المنتخب : إنّ العباس بن علي(علیه السلام) الحامل لواء أخيه الحسين(علیه السلام)، فلما رأى جميع عسكر الحسين(علیه السلام) قتلوا واخوانه وبنوعمه بكي، وأنّه الى لقاء ربّه اشتاق وحنّ، فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين(علیه السلام) وقال: يا أخي هل رخصة ؟
فبكى الحسين(علیه السلام) بكاءاً شديداً حتى ابتلت لحيته المباركة بالدموع، ثم قال: ياأخي ، كنت العلامة من عسكري ومجمع عددنا ، فاذا أنت غدوت يؤول جمعنا الى الشتات، وعمارتنا تنبعث الى الخراب.
ص: 101
فقال العباس(علیه السلام): فداك روح أخيك ، يا سيدي قد ضاق صدري من الحياة الدنيا، وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين.
فقال الحسين(علیه السلام): إذا غدوت الى الجهاد، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.
* * *
[ وفي بعض الكتب : أنّه لما سمع العباس صراخ الأطفال وهم ينادون : العطش العطش حمل قربته وقصد الفرات ولم يودع أحدا إلا أن الإمام(علیه السلام) لما كان يعلم بعلم الامامة انّه لا يرجع اليه ذهب اليه وعانقه وودعه ومشى خلفه، وهو ينظر اليه نظر مودع ويتنفس الصعداء ويبكي .
وخفق قلب الحسين(علیه السلام) وأسبل دموعه وبكى حتى اضطربت ملائكة السماء، ولا أدري ماذا جرى على قلب ذلك الإمام المظلوم في تلك اللحظات من مصاب لا يسع قلب الشيعي أن يتصوره ولا يطيق سماعه، فالقلوب حرى والعيون عبرى.
ولوعة أضرمت في قلب كلّ شبح *** نارا بلذعتها صابت مدامعه
لا العين جف بسعف النار مدمعها *** ولا الفؤاد جنا بالدمع سافعه
كلّ الرزايا وإن جلّت وقائعها *** تنسى سوى الطف لا تنسى وقائعه
وفي رواية : أنّ الإمام(علیه السلام) لم يصبرعلى فراق وجه أخيه العباس(علیه السلام)،فناداه ، فالتفت اليه العباس(علیه السلام) فرأى أخاه باكي العين وهو يقول : أخي إصبر هنيئة حتى أراك مرة أخرى. فلما رأى العباس دموع أخيه وسمع مقالته
قال: أو أقتل يا أبا عبد اللّه (علیه السلام) ؟ فبكى الإمام(علیه السلام) واعتنقا وجعلا يبكيان حتى كادا يسقطان مغمى عليهما، ثم إنّ الحسين(علیه السلام) قبله في جبهته وودعه ](1)
ص: 102
[أأخي من لي إن ذهبت بمسعد*** عني يذبّ بصارم و مهند
أأخي من ير من يرعى الفواطم في غد*** أأخي من يحمي بنات محمد
إن صرن يسترحمن من لا يرحم ]
[أأخي ها فانظر بنات محمد*** تبكي عليك بلهفة وتزفر
هذا لواؤك من يقوم بحمله ***بل من سيحفظ بعد فقدك معشري
من للحمى من للعقائل أصبحت ***حيرى ومن سيحنّ للطفل البري ]
بكاؤه(علیه السلام) حينما ذهب زبدة الناس سيدنا العباس(علیه السلام) الى القوم الأرجاس فوعظهم ورجع الى أخيه بالجواب
في كتاب المنتخب : فلما أجاز الحسين(علیه السلام) أخاه العباس للبراز، برز كالجبل العظيم، وقلبه كالطود الجسيم ، لأنّه كان فارسا هماما ، وبطلا ضرغاما، وكان جسورا على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب.
فلما توسّط الميدان وقف وقال: يا عمر بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) يقول لكم : إنّكم قتلتم أصحابه واخوته وبني عمه، وبقي فريدا مع أولاده وهم عطاشا قد أحرق الظمأ قلوبهم فأسقوه شربة من الماء، لأنّ أطفاله وعياله وصلوا الى الهلاك، وهو مع ذلك يقول لكم : دعوني أخرج الى أطراف الروم والهند، وأخلي لكم الحجاز والعراق والشرط لكم أنّ غدا في القيامة لا أخاصمكم عند اللّه حتى يفعل اللّه بكم ما يريد.
فلها أوصل العباس(علیه السلام) اليهم الكلام عن أخيه، فمنهم من سكت ولم يردّ، ومنهم من جلس يبكي، فخرج الشمر وشبث بن ربعي -لعنهما اللّه-فجاءا نحو العباس
ص: 103
وقالا : يا بن أبي تراب(علیه السلام) قل لأخيك لو كان كلّ وجه الأرض ماءاً، وهو تحت أيدينا ما أسقيناكم منه قطرة إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد.
فتبسم العباس(علیه السلام) ومضى الى أخيه الحسين(علیه السلام)، وعرض عليه ما قالوا، فطأطأ رأسه الى الأرض ، وبكى حتى بلّ أزياقه.
فسمع الحسين(علیه السلام) لها الأطفال ينادون: العطش، فلما سمع العباس(علیه السلام) ذلك رمق بطرفه الى السماء وقال : إلهي وسيدي أريد أن أعتد بعدتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة فى كتفه (1)، ومضى الى ميدان القتال ..
[عرف المواعظ لا تفيد بمعشر *** صمّوا عن النبأ العظيم كما عموا
فانصاع يخطب بالجماجم والكلا *** فالسيف ينثر والمثقف ينظم ]
يقول المؤلف الحزين :
لعل وجه تبسّم العباس(علیه السلام) الّا من مقال الأشقياء هو أنّه(علیه السلام)كان مشتاقا غاية الشوق للشهادة بين يدي سيد أولي الألباب الحسين(علیه السلام)، في ذلك اليوم الذي كانت التقلّبات فيه على أشدّها ، فخشى أن ينتهي الأمر معهم الى المصالحة لما وعظهم !! فيحرم من هذا الفيض الأعظم.
فلما أجابه الأبتران الشقيان بذاك الجواب علم أنّهم لا ينصاعون، وهو يعلم أنّ أخاه الحسين المظلوم(علیه السلام) لن يبايع يزيد، وأنّه يجاهد الأشرار، وهو يعلم أيضا أنّه سوف لا ولن يصل الى سيد الأولياء الأبرار أحد بسوء حد بسوء ما دام هو العباس - سالما وفيه عرق ينبض، وأنّه سيفديه بروحه ويقيه بمهجته، فتبسم شوقا للشهادة ، وفرحا بنيل السعادة، والقتال بين يدى سيد السادة.
كما أن بكاء المولى(علیه السلام) قد يكون لجهتين :
ص: 104
الأولى:
الترحم ، لأنّه(علیه السلام) لا رحمة اللّه الواسعة، فبكى على الأشقياء الذين يستحقون بما فعلوا غضب اللّه وسخطه ويدخلون جهنم داخرين.
الثانية :
إنّه(علیه السلام) بكى على عطش الأطفال والنساء المروعات، وهو يسمع أصواته
المبحوحة، وهم يستغيثون العطش، ولا يجد من يسقيهم قطرة من الماء.
بكاؤه(علیه السلام) حينما سمع استغاثة العباس(علیه السلام) : يا أخا أدرك أخاك
في محرق القلوب : فلما سمع الإمام المظلوم صوت أخيه المحروم ركض اليه راجلا، وروي أنّه ركب ذا الجناح وقصد الفرات، وهو يتنفس الصعداء، ويصرخ ويبكي في تلك البيداء ، فلما رأى العسكر الحسين(علیه السلام) الان مقبلا الى أخيه أحاطوا بالعباس، وجعلوا يضربونه بالسيوف ويطعنونه بالرماح والخناجر حتى قطعوه إربا إربا ، ورفعوا قطعا من بدنه على رؤوس الرماح .
فلما نظر الحسين(علیه السلام) الى ذلك المنظر المروع هجم على القوم الكفار، فشق صفوفهم وقتل من إعترضه منهم ، حتى وصل الى أخيه العباس(علیه السلام) ، آه.. آه .. آه .. فوجده مطروحا على الرمضاء مرملا بالدماء، مقطع الأعضاء، مفلوق الهامة، مقطوع اليدين قد مزقت السهام والرماح صدره، والى جنبه السقاء.
[وهوى بجنب العلقمي فليته *** للشاربين به يداف العلقم
ومشى المصرعه الحسين وطرفه *** بین الخيام وبينه متقسم
( ) أنظر تذكرة الشهداء : 329
ص: 105
ألفاه محجوب الجمال كأنّه *** بدر بمنحطم الوشيج ملثم
فأكبّ منحنيا عليه ودمعه *** صبغ البسيط كأنّما هو عندم
قد رام يلثمه فلم ير موضعا *** لم يدمه عضّ السلاح فيلثم
نادى وقد ملأ البوادي صيحة*** صمّ الصخور لهولها تتألم
أأخي من يحمي بنات محمد*** إن صرن يسترحمن من لايرحم
هونت يابن أبي مصارع فتيتي*** والجرح يسكنه الذي هو أألم
هذا حسامك من يذبّ به العدى*** ولواك هذا من به يتقدّم ]
وفي المنتخب : فلما سمع كلامه أتاه فرآه طريحا، فصاح: وا أخاه وا عباساه وا قرة عيناه وا قلّة ناصراه يا أخي يعزّ عليّ واللّه فراقك، ثم بكى بكاءاً شديداً (1)
* * *
[وفي بعض الكتب: لما سمع الحسين (علیه السلام) صوت العباس(علیه السلام) حمل على القوم وهم يفرون بين يديه وهو يقول : الى اين تفرون وقد قتلتم أخي وكسرتم ظهري ؟ فقتل منهم جماعة وفرّقهم ونادى : أين أنت يا أخى ؟
فوقف ذو الجناح ولم ينبعث خطوة واحدة، فنظر الإمام وإذا بكفّى أبي الفضل العباس(علیه السلام) على الأرض، فنزل الحسين(علیه السلام) فأخذهما وجعل يمسحهما على وجهه ويقبّلها، وقال: لقد قتلوا أخي .
فركب مرة أخرى وهو ينادي: أخي عباس، فضى قليلا ثم توقف ذو الجناح ثانية فنظر واذا بالقربة ممزقة وهي على الأرض، فبكى، ومضى حتى وصل الى الفرات ، فرأى أخاه مقطعا إربا إربا .
ص: 106
رآه وهو مقطوع الكفين مفضوح الهامة والسهم نابت في صدره والجسم مقطعا إربا إربا وأعضاؤه متناثرة على الأرض، فجذب حسرة من قلبه المغموم المألوم إهتزت لها أركان العرش، واضطرب لها سكان السموات، ثم نادى : الآن إنكسرظهري ، وقلّت حيلتي ](1).
بكاؤه(علیه السلام) حينما وقف على مصرع أخيه
في بحار الأنوار: إنّ المكثور المظلوم لما جاء الى العباس(علیه السلام) ورآه بتلك الحالة بكي وقال : الآن إنكسر ظهري ، وإنقطع رجائي ، وقلّت حيلتي (2)
معاشر الشيعة ، يستفاد من هذا الكلام الذي يفتت الأكباد ويحرق القلوب حينما
قال (علیه السلام): الآن إنكسر ظهري ... أنّ مصيبة السقاء العطشان أعظم وأشدّ على الإمام المظلوم من جميع مصائب الأصحاب والأحباب ، وذلك أنّه لما كان يتذكّر مواقف زبدة الناس ومحبته وحنانه وتضحياته ،من قبيل:
أنّه قدّم إخوته الثلاث لأمه فداءاً للحسين(علیه السلام).
ثم خروجه مذهولا للفرات يستسقي للأطفال العطشى ، وهو يتلظى من العطش وكبده كصالية الغضا ، فدخل الشريعة وملأكفه من الماء المعين، فتذكر عطش عزيز
الزهراء وأهل بيته وأطفاله، فرمى الماء من كفه ، وخرج من الشريعة ظاميا .
وبذل غاية المجهود في سبيل إيصال الماء الى الخيام، ولم يبال بما أصابه
من جراحات، ولم يكن له هم سوى إيصال الماء الى تلك الشفاه الذابلة من العطش،
ص: 107
ولم يزل يحامي حتى ضربوه بعمود من حديد ففلق هامته ، فسقط مخ رأسه على كتفيه وانصرع عفير(1)
اللّه أكبر بدرخرّعن *** أفق الهداية فاستشاط ظلامها
فمن المعزي السبط سبط محمد*** بفتى له الأشراف طأطأ هامها
وأخ كريم لم يخنه بمشهد ***حيث السراة كبت بها أقدامها ]
وأصاب القربة سهم الغدر، وفي البحار أنّه جاءه سهم وأصاب صدره الشريف، وانصرع عفيرا على الأرض يخور في دمه، ولم يكن عنده ما يلقى الأرض به وقد قطعت كفاه ، وليس له من يمنع القوم عنه،فنادى: وا أخاه واحسيناه وا أبتاه وا علياه ، ونادى : يا أبا عبد اللّه عليك مني السلام.
أنّه كان يمر بخاطره الشريف كلّ هذا، فكيف كان يتمالك، ويكف دموعه؟ هذا بالأضافة الى أنّ زبدة الناس المولى أبا الفضل العباس(علیه السلام) كان قد تقلّد ثمانية عشرمنصباعندالإمام المظلوم،وقد أتينا على ذكرها في كتاب «سرور العارفين».
إنّه كان ابن فخرالبشر .
وهو من الحسين(علیه السلام) الّا بمنزلة هارون من موسى وزيرا ومشيرا.
وفي مقام جبرئيل في السماء حارسا للوحى والنبوة والرسالة وأميرا.
وشريك جميع الأنصار في خدمة ابن سيد الأبرار.
وفي وقت الحراسة يجول حول معسكرأهل البيت فينعمون بوجوده بالأمن والاستقرار. وهو طليعة الجيش والعسكر. حامل لواء عسكر ابن البتول الأطهر(سلام اللّه علیها) .
ص: 108
وسيد أهل التسليم.
والمشهور بالسقاء.
أمير العسكر، وباعث الرعب في قلوب الأعداء، ومدمر المعاندين والمنافقين
الأشقياء .ومقوي قلوب الأصحاب والأحباب عند المنازلة. والمقدم اخوانه وأصحابه عند المقاتلة. ومفرق جيوش الضلالة والجهالة. الرائد المقدام والبطل الهمام، هازم جيش الأشرار، ابن حيدر الكرار(علیه السلام) .
[أخي يا نور عيني يا شقيقي *** فلي قد كنت كالركن الوثيق
أيا بن أبي نصحت أخاك حتى*** سقاك اللّه كأسا من رحيق
أيا قمرا منيرا كنت عوني *** على كل النوائب في المضيق
فبعدك لا تطيب لنا حياة *** سنجمع في الغداة على الحقيق
ألا اللّه شكوائي وصبري *** وما ألقاه من ظمأ وضيق ]
ولهذا لما وقف الإمام المألوم في تلك المصيبة على جسد أخيه العباس اضطرب اضطرابا شديدا، وبكى حتى غشي عليه، وتراكم الهم والغم عليه، وأحسّ بالغربة والوحدة حتى قال : الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي، ولم يقلل(علیه السلام) ذلك في شهادة أيّ واحد من أصحابه وأهل بيته وأحبابه، إلّا في مصيبة المظلوم العطشان.
و في البحار : أنه(علیه السلام) الخاطب أخاه العباس فقال :
كسروا بقتلك ظهر سبط محمد*** وبكسره انكسرت قوى الإسلام
قطعوا بقطع يديك أيدي السبط *** وانقطعت به أيدي النبي السامي
وفي المنتخب : فبكى عليه الحسين(علیه السلام) حتى أغمي عليه(1)
ص: 109
[أحق الناس أن يبكي عليه *** فتى أبكى الحسين(علیه السلام)بكربلاء
أخوه وابن والده علي *** أبو الفضل المضرج بالدماء
ومن واساه لايثنيه شيء*** وجاد له على ظمأ بماء
ومازال في حرب الطغاة مجاهدا*** الى أن هوى فوق الصعيد مجدلا
وقد رشقوه بالنبال وخرقوا*** له القربة الماء الذي كان قد ملا
فنادى حسينا والدموع هوامل*** أيا ابن أبي قد خاب ما كنت آملا
عليك سلام اللّه يا بن محمد*** على الرغم مني يا أخي نزل البلا
فلما رآه السبط ملقى على الثرى *** يعالج كرب الموت والدمع أهملا
فجاء اليه والفؤاد مقرح *** ونادى بقلب بالهموم قد امتلا
أخي كنت عوني في الأمور جميعها *** أبا الفضل يا من كان للنفس باذلا
يعزّ علينا أن نراك على الثرى *** طريحا ومنك الوجه أضحى مرملا
عليك من الرحمن ألف تحية *** فقدرك عندي يا أخي الآن قد علا
فأبشر بجنات من الله في غد*** وبالحور والولدان والفوز والعلى ]
* * *
[بكاؤه عند مصرع ابن أخيه العباس(علیه السلام)]
[قال أبو إسحاق : ثم لمّا رأى الحسين(علیه السلام) أنّه لم يبق معه أحدا من أنصاره وأهل بيته جعل ينظر يمينا وشمالا، فلم ير ناصرا ولا معينا، فعاد ينادي: واغوثاه بك يا اللّه واقلة ،ناصراه أما من معين يعيننا ؟ أما من مساعد يساعدنا ؟ أما من من طالب جنة يطلب نصرنا؟فخرج عليه من الخيمة غلامان كأنّها الأقمار:أحدهما ابن العباس، والثاني
ص: 110
أخوه القاسم(علیه السلام)، وهما يقولان : لبيك يا مولاناها نحن بين يديك ،فقال : كفاكما قتل والدكما ، فقالوا : لا واللّه يا عمّنا بل أنفسنا لك الفداء إنذن لنا بالبراز ، فقال له : ابرزبارك اللّه فيك وجعل يقول:
أقسمت لو كنتم لنا أعدادا *** ومثلكم وكنتمو فرادی
يا شرّجيل سكنوا البلادا*** وشرّ قوم أظهروا الفسادا
سنترکن جمعكم شرادا *** نرمي الرؤوس عن الأجسادا
ثم إنّه حمل على القوم ولم يزل يقاتل حتى قتل منهم مائتين وخمسين فارسا.
قال مسلم الخولاني : كان بجانبي رجل عظيم الخلقة فقال : واللّه لأقتلن هذا الغلام، فإنّي أراه شجاعا ، فقلت له : ألم تعلم قرابته من رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله)؟ فلم يلتفت إليّ، وحمل على الغلام ، وهو مشغول بوهم الحرب، فضربه ضربة عظيمة جندله يخور في دمه فصاح يا عماه أدركني.
فحمل الحسين(علیه السلام) وفرّقهم عنه وأتى عنده فوجده يضرب الأرض برجليه حتى مات، فبكى الحسين(علیه السلام) وقال :يعزّ على عمك يا ابن أخي أن تستجير به فلا يجيرك ،ثم حمله ووضعه بين القتلى.
فلما نظره القاسم(علیه السلام) قال : يعزّ علي فراقك ،ثم برزوقال :لاحياة لي بعده، وكان له من العمر تسع عشرة سنة، وأنشد يقول:
اليكم من بني المختار ضربا *** يشيب لهوله الطفل الرضيع
ألا يا معشر الكفار جمعا *** هلموا دونكم ضرب قطيع
ثم حمل على القوم ولم يزل يقاتل فيهم حتى قتل منهم جماعة ، ثم رجع الى الحسين(علیه السلام) وقد غارت عيناه من العطش وهو ينادي: أدركني بشربة ماء أتقوى بها على عدوي.
ص: 111
فقال : إصبر قليلا حتى تلقى جدك المصطفى(صلی اللّه علیه وآله) يسقيك بكأسه الأو فى شربة لا تظمأ بعدها أبدا . فرجع وقاتل حتى قتل منهم عشرين فارسا ثم استشهد .
فحمل الحسين(علیه السلام) على القوم وقتل ممن حوله جماعة ، وحمله ووضعه مع القتلى(1).
وقد بكى الإمام المظلوم في هذه المصيبة العظمى في ستة مواضع :
بكاؤه(علیه السلام) في مصيبة علي الأكبر(علیه السلام) شبيه النبي المرسل(صلی اللّه علیه وآله)
بكاؤه(علیه السلام)حينما جاءه ولده علي الأكبر(علیه السلام) يستأذنه للقتال
في كتاب الملهوف : خرج علي بن الحسين(علیه السلام)، وكان من أصبح الناس وجها، وأحسنهم خلقا،فاستأذن أباه في القتال، فأذن له، ثم نظر إليه نظر آيس منه . وفي البحار ورفع الحسين(علیه السلام) سبابته نحو السماء، وأرخى عينه وبكي، ثم قال : اللّهم إشهد فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك(صلی اللّه علیه وآله)، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه، اللّهم إمنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقا، ومزّقهم تمزيقا، وإجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا يقاتلوننا.
وفي الملهوف : ثم صاح الحسين(علیه السلام) بعمربن سعد : ما لك قطع اللّه رحمك ، ولا بارك اللّه لك في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت
ص: 112
رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، ثم رفع الحسين(علیه السلام) صوته وتلا: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1)
[سل كربلا كم من حشا لمحمد *** نهبت بها وكم استجذت من يد
وبها على صدر الحسين ترقرقت *** عبراته حزنا لأكرم سيد
وعليّ قدر من ذؤابة هاشم *** عبقت شمائله بطيب المحتد
أفديه من ريحانة ريانة *** جفت بحر ظماً وحرّ مهند
للّه بدر من مراق نجيعه *** مزج الحسام لجينه بالعسجد
ماء الصبا ودم الوريد تجاريا *** فيه ولاهب قلبه لم يخمد
جمع الصفات الغر وهي تراثه *** من كلّ غطريف وشهم أصيد
في بأس حمزة في شجاعة حيدر *** بابا الحسين وفي مهابة أحمد
وتراه في خلق وطيب خلائق *** وبليغ نطق كالنبي محمد ]
بكاؤه(علیه السلام) حينما أوصاه ولده على الأكبر(علیه السلام) بأمه
في بعض كتب المراثي : روي عن زينب(سلام اللّه علیها) بنت علي(علیه السلام) الا أنّها قالت: لما مات جدي النبي(صلی اللّه علیه وآله) بكى الحسين(علیه السلام) البكاءاً شديداً، وما صاح وما صرخ، وكذا في موت أبي وأمي وأخي ، فلما أراد علي الأكبر(علیه السلام) ابنه - المبارزة قال كلاما ، فصاح الحسين(علیه السلام) وصرخ وخرّ مشغيا عليه، فوثبت وعانقته، وأخذت رأسه من التراب، فلما أفاق سألته عن سبب صراخه وصيحته ، فقال(علیه السلام): وصاني ابني بأمه ليلى، وأنّها ما كانت أهل بيت النبوة(صلی اللّه علیه وآله)، فاغمي عليّ ولم أتمالك ، ورأيت مني ما رأيت.
ص: 113
[فإذا في لقاك لم أرنيلا *** فاعرني ولو خيالك ليلا
هل ترى منك لى عن الصدّ ميلا *** أمنى القلب إن أمك ليلى
إن دعت يا علي من لنداها ]
بكاؤه(علیه السلام) حينما رجع اليه فلذة كبده من الميدان وطلب منه الماء
رجع علي الأكبر(علیه السلام) من الميدان الى أبيه الحسين(علیه السلام) فوقف بين يديه وقال : يا أبه العطش قد قتلني وثقل الحديد أجهدني فهل الى شربة من الماء سبيل ، أتقوى بها على الأعداء ؟
فبكى الأب العطوف الرؤوف بكاءاً شديداً وقال : يا بني يعزّ على محمد(صلی اللّه علیه وآله) وعلي بن أبي طالب(علیه السلام) وعليّ أن تدعوهم فلا يجيبوك وتستغيث بهم فلا يغيثوك.
وفي البحار والعوالم : قال : يا بني هات لسانك ، فأخذ بلسانه فمصه.
وفي بعض كتب المراثي : قال له ولده علي : يا والدي أنت أشدّ عطشا
و في البحار والعوالم: ودفع إليه خاتمه وقال : امسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوك، فإنّي أرجو أنك لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا(1)
[ويؤوب للتوديع وهو مكابد*** لظما الفؤاد وللحديد المجهد
يشكو لخير أب ظماه وما إشتكى *** ظمأ الحشى إلّا الى الظامي الصدي
فانصاع يؤثره عليه بريقه *** لوكان ثمة ريقه لم يجمد
كلّ حشاشته كصالية الغضا *** ولسانه ظمئا كشقة مبرد]
ص: 114
بكاؤها(علیه السلام) حينما سمع إستغاثة ولده علی(علیه السلام)
قال حميد بن مسلم: وحمل على القوم المارقين، ولم يزل يقاتل حتّى كمن له ملعون فضربه بعمود من حديد على أُمّ رأسه، فانجدل صريعاً الى الأرض لشدة
جراحاته وكثرتها ، واستوى جالساً، وتوجه بوجهه نحو الخيام وهو يُنادي:
يا أبتاه عليك منّي السَّلام، فهذا جدّي رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، وهذا أبي علي(علیه السلام)، وهذه جدتي فاطِمَة(سلام اللّه علیها)، وهذا عمى الحسن(علیه السلام)، وهُمْ يَقُولُونَ لَكَ : الْعَجَلَ الْعَجَلَ، وَهُمْ مُشْتاقُونَ إِلَيْكَ.
فلما سمعه رسول الإمام المهموم دعى ببردة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) اللّهم البسها ، وأفرغ على نفسه درعه الفضول، وتعمّم بعمامته السحاب، وتقلد بسيفه ذي الفقار، واستوى على ظهر جواده، وحمل على القوم وفرّقهم عنه ، وأخذ رأسه ووضعه في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه ويقول :
يا بُنَيَّ لعن اللّه قاتلك ما أجرأهم على اللّه ورسوله(صلی اللّه علیه وآله)، وهملت عيناه بالدموع حُزناً المصابه .
فلما سمعن النساء صرخة الحسين(علیه السلام) تصارخن وإرتفعت أصواتهن بالبكاء، فقال لهن الحسين(علیه السلام): اسكتن فإنّ الكباء أما مكن (1)
[فهوى البدر باسم الثغر بشرا*** دامي النحر والجبين الوضي
وهو يدعو أباه شجوا بصوت *** تلاش مما عراه خفي
أبتاه عليك مني سلام *** قدسقاني جدي بكأس هني
ص: 115
فأتاه الحسين(علیه لسلام) يسرع بالخطو*** ویعدو وقور آل لؤي
فرأى جسمه الموزع أضحى *** قطعات فوق الصعيد السوي
فرمى نفسه عليه حزينا *** بفؤاد دام و طرف خفي
ناديا عنده بني على الدنيا *** العفايا شبيه خير صفي
قتل اللّه شر قوم أضاعوا *** حرمة المصطفى بقتل علي ]
بكاؤه(علیه السلام) حينما جلس عند جسد ولده ووضع خدّه على خدّه
في المنتخب : فأخذ رأس ولده ووضعه في حجره، وجعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول : قتلوك يا بني ما أجرأهم على اللّه وعلى إنتهاك حرم رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، قتل اللّه قوما قتلوك يا بني، وإغرورقت عيناه بالدموع(1)
وفي اللهوف : فجاء الحسين(علیه السلام)حتى وقف عليه ، ووضع خدّه على خدّه وقال : قتل اللّه قوما قتلوك ما أجرأهم على اللّه وعلى انتهاك حرمة الرسول (2).
وفي الإرشاد : إنهملت عيناه بالدموع ، ثم قال : على الدنيا بعدك العفا(3)
وكأنّي به(علیه السلام) يقول له بلسان الحال: يا قرة عيني الحسين(علیه السلام) و يا مؤنس ليالي زينب وأم كلثوم(علیها السلام)، و يا شبيه رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وعزيز فاطمة الزهراء(سلام اللّه علیها)،وبدر مكة والمدينة ومرهم قلب فاطمة وسكينة ، ويا سند علي السجاد(علیه السلام)، ويا ثمرة فؤاد ليلى الثكلى، ويا ريحانة ريحانة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، ويا سرور قلب أبيه وأمه .
ص: 116
وفي الرواية السابقة : قال(علیه السلام) : يا ولدي أمّا أنت فقد استرحت من هَمَّ الدُّنيا وغمّها وصرت إلى رَوْحٍ وراحةٍ ، وبقي أبوك لهمها وغمها، وما أسرع لحوقه بك . قال حميد بن مسلم : فكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنّها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور وتقول : يا حبيباه، يا ثمرة فؤاداه، يا نور عيناه، فسألت عنها ، فقيل : هي زينب بنت علي(سلام اللّه علیها) ، وجاءت وانكبت عليه، فجاء
الحسين(علیه السلام)، فأخذ بيدها ، فردّها إلى الفسطاط(1)
وروي عن عمارة بن واقد أنّه قال : رأيت إمرأة خرجت من فسطاط الحسين(علیه السلام)كأنّها البدر وهي تنادي: وا ولداه، وا قتيلاه، واقلّة ،ناصراه، وا غريباه، وا مهجة قلباه، ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء، ليتني وسدت الثرى، وجاءت
وانكبت عليه .
فجاء الحسين(علیه السلام) ، فأخذ بيدها ، وستر وجهها بعبائه، وألقى عباءته عليها فردّها الى الفسطاط،[وفي مقتل أبي مخنف : ثُمَّ بَكَى الْحُسَيْنُ(عَلَیه السَلَام) رَحْمَةً لِبُكائها ،وقال: إنّا للّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ].
وأقبل(علیه السلام) بفتيانه وقال : إحملوا أخاكم، فحملوه من مصرعه، وهو مقطع إربا إربا ، فجاؤوا به حتى وضعوه عند الفسطاط (2)
[بشبه المصطفى جاؤا قتيلا*** الى خيم النسا فعلى العويل
وصاحت زينب الكبرى بصوت *** ودمع من محاجرها يسيل
لليلى أسرعي هذا علي *** شبيه المصطفى الهادي قتيل
قمذ سمعت بمصرعه تحنّت *** أضالعها وقد ذاب الغليل
ص: 117
غدت تمشي وتعثر وهي ثكلى *** عراها من مصيبتها الذهول
وجاءت تسحب الأذيال حزنا *** وحول وحيدها أخذت تجول
ووالده الحسین هوی علیه *** وقد أدمت محاسنه النصول
يناديه وليس به حراك *** بنيّ اليوم فارقنا الرسول
على الدنيا العفا يا نور عيني*** وبعدك غير هذا لا أقول ]
* * *
[ ولم أنس النساء غداة فرّت *** الى نعش الشهيد ابن الشهيد
تقبل هذه وتشمّ هذي ***خضيب الكفّ أو ورد الخدود ]
* * *
[وفي روضة الصفا : لما رأى الإمام المظلوم قرة عينه وثمرة فؤاده يقاتل الأعداء إضطرب وبكى وتوجه نحو القبلة وقال : اللّهم اشهد على هؤلاء القوم إنّه برز اليهم أشبه الناس برسولك خلقا وخلقا ومنطقا .. الخ.
فحمل عليهم يقاتلهم ، فحمل مرة على الميمنة وحمل مرة على الميسرة، وكرّ على الجناح واقتحم القلب وكان يحصد الرؤوس في كلّ حملة حصدا ويجندل الأبطال، ويقتلهم جماعات جماعات حتى ضاقوا بقتاله، قال السيد في اللهوف : فقاتل قتالا شديدا وقتل جمعا كثيرا .
وروي أنّه كان في تلك الحال وهو متسربل بالدماء سربالا، والدماء تشخب من
بدنه الشريف على ملابسه ، وكأنّه كان يلبس ملابسا حمراء. روي أنّ الإمام المظلوم لما رأى ولده بتلك الحال وسمع صوته بما قال قال له : فداك أبوك ما يصنع لك أبوك ؟
وروي أنّه بكى وقال واغوثاه يا بني قاتل قليلا فما أسرع ما تلقى جدك محمدا (صلی اللّه علیه وآله)فيسقيك بكأسه الأوفى.
ص: 118
ونقل عن تاريخ « حافظ ابرو » : أنّ علي الأكبر(علیه السلام) حمل على القوم فضربه منقذ مرة بالسيف على ظهره، فوقع من فرسه الى الأرض، فاجتمع عليه الأعداء فقطعوه بسيوفهم إربا إربا والحسين(علیه السلام) ينظر .
فبكى الحسين(علیه السلام) ورفع صوته بالبكاء، ولم يسمع أحد الى ذلك الزمان صوته بالبكاء.
وروی أنّه(علیه السلام) لما سمع صوت ولده علي الأكبر(علیه السلام) عليك مني السلام»، فتبع الحسين(علیه السلام) الصوت وهو ينادي يا علي يا علي .. أين أنت يا علي ؟ وهو لا يرى لعلي شخصا سوى ما يسمع من صوت وقع الأسنة والسيوف على بدن ولده ،
وصوت استغاثته وهو ينادي: يا أبتاء.. يا أبتاه أدركني يا أبتاه.
بینا هو كذلك إذ خمد صوت علي الأكبر(علیه السلام)، فاضطرب الحسين(علیه السلام) وشقّ صفوف الأعداء وفرّقهم ولم ير عليا فتنفس الصعداء وصرخ بلوعة : يا علي .. يا علي .
فلما وصل الى علي الأكبر(علیه السلام) ، رآه واقعا على الأرض ، مفضوح الرأس مقطع الأعضاء، مرملا بالدماء، وهو يتقلّب في دمه، فأنّ الإمام أنّة تزلزلت لها أرض كربلاء، ورفع صوته بالبكاء، ولم يسمع قبل ذلك بكاءه.
فنزل اليه ووضع رأسه في حجره، ومسح الدم عن وجهه، ومسح الدم والتراب من ثناياه، وجعل يلثمه ويمسح وجهه بخده.
ويستفاد من بعض فقرات زيارته(علیه السلام) : أنّه كان يأخذ دمه ويرميه الى السماء ، فلم يرجع منه قطرة، قال فيما رواه أبوحمزة بأبي أنت وأمي من مقدم بين يدي أبيك يحتسبك ويبكي عليك محترقا عليك قلبه يرفع دمك بكفّه الى عنان السماء لا يرجع منه قطرة، ولا تسكن عليك من أبيك زفرة .. الخ .
ص: 119
وفي رواية أبي الفرج: وشهق شهقة وفارق الدنيا ، روي أنّه لما سمع الإمام شهقته ، ورأى ولده قد فارق الدنيا صرخ سبعة صرخات ، ثم على نشيجه وبكى بكاءا عاليا حتى بكى لبكائه الملأ الأعلى، وجعل يأنّ أنينا عاليا ، ويتنفس الصعداء، وإرتفعت زفراته حارة ملتهبة إرتعدت لها فرائص سكان صوامع الملكوت، وقال: على الدنيا بعدك العفا ] (1).
بكاؤه(علیه السلام) حينما دخل الفسطاط بعد شهادة علي الأكبر(علیه السلام)
روى الشيخ المفيد عن جابر بن عبد اللّه قال : ثم أقبل الحسين(علیه السلام) لها حتى دنا من خيم النساء، ينشج بالبكاء نشيجا عاليا ، آيسا من الحياة، فخرجت سكينة وقالت : يا أبة ما لي أراك تنعى نفسك وتدير طرفك ؟ أين أخي علي ؟
فبكى الحسين(علیه السلام) وقال : بنية قتلوه اللئام فصاحت وا ،أخاه واعلياه وا مهجة قلباه وأرادت أن تخرج من الخباء، فأخذها الحسين(علیه السلام) وقال : يا بنتاه إتقي اللّه وإستعملي الصبر.
قالت : يا أبتاه، كيف تصبر من قتل أخوها ، وشرّد أبوها ؟ وأبعدت من
أوطانها ؟ فقال الحسين(علیه السلام) : إنّا للّه وإنّا اليه راجعون (2)
فما أدرى أهنّى أم أعزّى *** علي المرتضى بابن الشهيد
فطورا يا على أهني فيه *** وانظم مدحه نظم العقود
علي بالطفوف أقام حربا *** كحربك يا علي مع اليهودي
ص: 120
وصيّر كربلا بدرا وأحدا *** ونادی یا حروب الجدّ عودي
وقاتل بكرهم كقتال عمرو*** وغادر جسمه نهب الحديد
وطرا يا علي أعزي فيه *** وتبكي العين للعقد الفريد
أقول لها وقد ملأت دموعا *** ألا يا مقلتي هل من مزيد
شباب ما رأى عرساً ولكن *** تخضب كفّه بدم الوريد
فوا نفسي اذهبي وجداً وحزناً*** ويا عيني بحمر الدمع جودي
على حلو الشباب وبدر تمّ*** شبیه محمد خير الجدود
كأنّى بالحسين غدا ينادي *** علينا يا ليالي الوصل عودي
رجوتك يا علي تعيش بعدي *** وتوسد جنّتي رمس اللحود
وتمشي باكيا من خلف نعشي *** كما يبكي الوليد على الفقيد
* * *
[ وروي أنّ سلطان المظلومين لما رأى أصحابه مطرحين أنّ أنة من قلبه الكئيب الحزين، فاجتمع حوله من بقي من الأبرار الميامين وقالوا له : يا قرة عين الرسول الأمين(صلی اللّه علیه وآله) ، ويا سرور قلب سيد الوصيين، ويا نور عين فاطمة الزهراء(سلام اللّه علیها) سيدة نساء العالمين ، ويا ثمال الماضين ، والبقية من أهل الكساء آل طه وياسين، لا تحزن فما دام فينا عرق ينبض لا يصل اليك والى حرمك أحد بسوء، أرواحنا لروحك الفداء وأنفسنا لنفسك الوقاء، إنّنا لا نريد العيش بعدك ، ونحن فتيانك وغلمانك وقد إشتعلت قلوبنا بنيران حبّك فلا نخشى نيران البلاء، وقد غرقنا فى بحر ولائك فلا نخشى سيول الفناء، واذا تقطعت أبداننا بخناجر المحن، فإنّ أرواحنا تعلّقت بمنازل القدس وإنتعشت بالتضحية دونك ، واذا قاست الأجساد مرارة الشدائد فقد التذت النفوس والأرواح القدسية بطعوم فواكه القدس، فكيف نتخلّى عنك وأنت وسيلة النجاة في بحور الظلمات، وأنت لنا في هذه الدنيا ماء الحياة.
ص: 121
فلما سمع الإمام المظلوم منهم هذا الكلام بكى، وجزّاهم خيرا ودعا لهم، بشّرهم بمقاماتهم العالية ومراتبهم السامية وأمرهم بالصبر والاحتمال .
وروي أنّ هذا جرى بعد شهادة علي الاكبر(علیه السلام). (1)
بكاؤه(علیه السلام) حينما أصاب السهم نحر ولده الرضيع(علیه السلام)
[ و عاد الإمام الحسين (علیه السلام) يستغيث ، فلما وصل صوته الى مسامع هذا الطفل الرضيع المعصوم إضطرب وتزلزل وقطع قماطه مثل جده علي (علیه السلام) ورمى بنفسه من المهد ،
أو من حجر عمته الى الأرض، وجعل يبكي بكاءاً عاليا ويصرخ صراخا مفجعا فكأنّه يقول : أبقيت وحيدا فريدا يا ابتاه لا ناصر لك ولا معين ؟ فأنا الآن مستعد
لأفديك بنفسي.
فارتفع العجيج والضجيج بين النسوان في الخيمة، ورفعن الأصوات بالبكاء، فرجع الإمام(علیه السلام) وسأل عن سبب تلك الضجة ، فقالوا : إنّ هذا الطفل لم يذق الماء منذ ثلاثة أيام وقد جفّ لبن أمه من العطش، وهو يبكي ويتلوى ويتلظى ، وكأنّه يتمنّى الشهادة . فقال : ناولوني الطفل، فلعله يبلغ ما يريد.
فلما تناول الطفل من السيدة زينب(سلام اللّه علیها) أو من يد أمه - نظر اليه فرأى عينيه غائرتين في رأسه من شدّة العطش، وبطنه لازقة بظهره من شدّة الجوع، وقد أشرف على الهلاك، فبكى لحاله.
فجعل يقبّله ويقول : ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم محمد المصطفى(صلی اللّه علیه وآله).
واحتضنه وتقدّم الى الميدان ، ووقف أمام صفوف الأعداء وقال : يا قوم قتلتم أصحابي وأهل بيتي، ولم يبق إلّا هذا الطفل، فان كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار،
ص: 122
وإن لم ترحموني فارحموا عطش هذا الرضيع فإنّه ليس عليه ذمام ولم يذنب في حقّ أحدكم فارحموا عطشه واسقوه جرعة من الماء، ألا ترونه كيف يتلقّى من العطش،
ويغشى عليه ساعة بعد ساعة من الحر والظمأ ؟
ولنعم ما قاله السيد بحر العلوم عن لسان حال ذلك المظلوم:
هل من مغيث يغيث الآل من من ظمأ *** بشربة من نمير ما له خطر
هل راحم يرحم الطفل الرضيع فقد *** جف الرضاع وما للطفل مصطبر
فقالوا له : يا حسين(علیه السلام) لا تذوق الماء أنت ولا أهل بيتك إلّا أن يأذن عبيد اللّه بن زياد، فألح الإمام في طلب الماء والطفل يبكي ويتضوّر ويصرخ ويتلظى. فبينا هو كذلك إذ رماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم مسموم ذي ثلاث شعب فذبحه من الوريد الى الوريد، حتى أنّه قطع رأسه وبقي رأسه معلقا بجلدة فقط ، فمرّ السهم حتى جرح ساعد الحسين(علیه السلام)، وأصاب اللعين هدفين في رمية واحدة.
وفي تلك الحالة فتح الطفل عينيه فنظر الى وجه أبيه وتبسّم ، وكأنّه يقول له : الحمد للّه بلغت المرام ، ثم أطلق طائر روحه ليحلق في الجنان، وصارت إبتسامته تلك بكاءاً ودموعا جارية من عيون شيعتهم الى يوم القيامة.
فلما رأى الحسين(علیه السلام) ولده مذبوحا أنّ أنّة ارتجفت لها أرض كربلاء ثم قال : اللّهم لا يكن عليك أهون من فصيل ناقة صالح، ثم جعل يبكي وينوح ، ثم جعل يعالج السهم حتى أخرجه ](1)
قال السيد ابن طاووس(رحمة اللّه) في اللهوف : فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي -لعنه اللّه تعالى - بسهم ، فوقع في نحره ،فذبحه فانبعث الدم كالفوارة، فتلقى الحسين(علیه السلام) الدم بكفيه ، فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء، قال الباقر(علیه السلام): فلم يسقط من أمواج البكاء
ص: 123
ذلك الدم قطرة الى الأرض ، ثم قال : هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين اللّه (1)يعني أنّ ما ألقاه سهل يسير ما دام ربّي مطلع عليّ، وما دام صبري في رضاه. ثم وضع كفيه تحت نحره حتى إمتلانا ثم قال :يا نفس إصبري وإحتسبي فيما
أصابك، إلهي ترى ما حلّ بنا في العاجل، فاجعل ذلك ذخيرة لنا في الآجل(2) . وفي مقتل أبي مخنف : فَجَعَلَ الْحُسَيْنُ (علیه السلام) يَتَلَقِّ الدَّمَ بَكَفَّيْهِ وَيَرْمِي بِهِ إِلَى السَّماءِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى هُؤلاء الْقَوْمِ ، فَإِنَّهُمْ نَذَروا أَنْ لا يَتْرُكُوا أَحَداً مِنْ ذُريَّةِ نَبِيِّكَ(صلی اللّه علیه وآله).
[اثُمَّ رَجَعَ بِالطَّفْلِ مَذْبُوحاً وَدَمُهُ يَجْرِي عَلَىٰ صَدْرِهِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى أُمِّ كُلْتُومٍ، فَوَضَعَهُ في الْخَيْمَةِ، وَبَكَى عَلَيْهِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ :
يا رَبِّ لا تَتْرُكني وحيداً *** قَدْ أَكْثَرُوا الْعِصْيانَ وَالْجُحودا
قَدْ صَيَّرونا بَيْنَهُمْ عَبيدا *** يُرْضُونَ في فعالِهِمْ يَزيدا
أما أخي فَقَدْ مَضى شهيدا *** مُعَفَّراً بِدَمِهِ وَحيدا
في وَسْطِ قاعِ مُفْرَداً بعيدا *** وانت بالْمِرْصَادِ لَنْ تَحيدا(3)
وفي المنتخب : إنّه لما رأى رضيعه بتلك الحال بكى بكاءاً شديداً وقال : قتل
اللّه قوما قتلوك ،على الدنيا بعدك العفا.
[ إن أنس لا أنس ابن فاطم مذ غدا *** والطفل من حر الظمأ يتلوع
فأتى به نحو اللئام مناديا *** یا قوم هل قلب لهذا يخشع
هل راحم يسقيه من ماء لكي *** يبتل منه فؤاده المتوجع
قالوا له مهلا سنسقيه الردى ***بيد الحتوف وعلقما لا يجرع
ص: 124
فرماه حرملة بسهم في الحشى*** فغدت دماء حشاشه تتدفع
فرمی بكفيه دماء وريده *** نحو السماء مناديا يا مفزع
أنت العليم بفعلهم فاحكم بهم *** مهما تشاء فاليك ربّي المرجع ]
وقال في نفس المهموم : جعل الحسين(علیه السلام) يبكي ويقول : اللّهم إحكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا ، فنودي من الهواء يا حسين(علیه السلام) دعه فإنّ له مرضعا في الجنة.
وروي في الإحتجاج أنّه نزل حينئذ عن فرسه، وحفر للطفل بجفن سيفه،
ورمله بدمه ودفنه (1)
[فحثا أبوه له بقائم عضبه *** وطواه محلول القماط بتربه
والعين شاخصة لرحمة ربّه *** یا ویح دهر من فجائع خطبه
فجع ابن أحمد في الطفوف بطفله ]
وثمّة خمسة وجوه في ترميله بدمه ودفنه ذكرناها في «التحفة الحسينية»، فليرجع
اليها من أحب الإطلاع عليها .
وروى صاحب المنتخب خبر شهادة هذا الطفل المظلوم الظمآن فقال : لما قتل العباس(علیه السلام) التدافعت الرجال على أصحاب الحسين(علیه السلام)، فلما نظر ذلك نادى : يا قوم أما من مجير يجيرنا ؟ أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من طالب حق فينصرنا ؟ أما من خائف من النار فيذب عنا ؟ أما من أحد يأتينا بشربة من الماء لهذا الطفل ؟ فإنّه لا يطيق الظماً.
فقام اليه ولده الأكبر، وكان له من العمر ثمانية عشر سنة ، فقال : أنا آتيك بالماء يا
سيدي ، فقال : إمض ، بارك اللّه فيك .
ص: 125
فأخذ الركوة بيده، ثم إقتحم الشريعة وملأ ،الركوة، وأقبل بها نحو أبيه ، فقال :
يا أبة الماء لمن طلب إسق أخي، وإن بقي شيء فصبّه عليّ، فإنّي واللّه عطشان فبكى الحسين(علیه السلام)، وأخذ ولده الطفل فأجلسه على فخذه، وأخذ الركوة وقرّبها الى فيه ، فلما همّ الطفل أن يشرب أتاه سهم مسموم ، فوقع في حلق الطفل فذبحه قبل أن يشرب من الماء شيئاً .
فبكى الحسين(علیه السلام) ورمى الركوة من يده ، ونظر بطرفه الى السماء وقال : اللّهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الخلق بنبيك وحبيبك ورسو ورسولك (1)
[ أبّ في يديه طفله ج-اء يستقي *** له الماء اذ أودى بمهجته الحرّ
رضيع كمثل الطير يخفق قلبه *** فما رحموا الطفل الرضيع وما برّوا
سقوه دما من طعنة في وريده *** فخرّ ذبيحا لا وريد ولا نحر
أبّ في يديه طفله يذبحونه *** فهل فيه وفي طفله وتر
وهل يقتل الطفل الرضيع بشرعهم *** تمج دما منه الحشاشة والثغر
فدوّى صراخ الأم تلقى وليدها *** ذبيحا قد احمرت وريداه والشعر
تقبله من جرحه وتضمّه *** الى قلبها والقلب مستعر جمر ]
[ وفي خبر استقبلته سكينة وقالت : يا أبة لعلك سقيت أخي الماء؟ فبكى الحسین(علیه السلام) وقال : بنية هاك أخاك مذبوحا بسهم الأعداء.
ولنعم ما قال الدمستاني في رثاء هذا الطفل(2)
أخت إتيني بطفلي أره قبل الفراق *** فأتت بالطفل لا يهدأ والدمع مراق
يتلظى ظمأ والقلب منه في إحتراق *** غائر العينين طاوي البطن ذاوي الشفتين
ص: 126
فبكى لما رآه يتلظى بالأوام *** بدموع ها طلات تخجل السحب السجام
فأتى القوم وفي كفيه ذياك الغلام *** وهما من عطش قلبهما كالجمرتين
فدعا الأقوام يا الله للخطب الفظيع *** نبئوني أأنا المذنب أم هذا الرضيع
لاحظوه فعليه شبه الهادي الشفيع *** لا یکن شافعكم خصماً لكم في النشأتين عجّلوا نحوي بماء أسقه هذا الغلام *** فحشاه من ظماً في احتراق واضطرام
فاكتفى القوم عن القول بتكليم السهام *** واذا بالطفل قد خر ذبيح الودجين فالتقى مما همى من منحر الطفل *** ورماه صاعداً يشكو الى رب السماء
وينادي يا حكيم أنت خير الحكماء*** فجع القوم بهذا الطفل قلب الوالدين ]
* * *
[وروي أنّ الإمام المظلوم(علیه السلام)حتضن الطفل البرىء المذبوح ودمه يسيل على صدره ، وحمله الى الخيمة فنادى : يا زينب ويا أم كلثوم ويا ليلى ويا رباب وهي أم الطفل - هلممن وخذن الطفل مذبوحا ، فقد إرتوى من الكوثر ، فخرجن النساء من الخيام دفعة واحدة راكضات باكيات نادبات
فلما رأين الطفل على صدر أبيه مذبوحا قد فارق الدنيا أخذنه ودخلن الخيمة،
وإجتمعن حوله حلقة، وإرتفعت اصواتهن بالبكاء والنحيب والعويل وصرخن وند بن حتى أبكين سكان صوامع الملكوت لهفي على أم الرضيع يا ساعد اللّه قلب الرباب.
وجلس الإمام(علیه السلام) معهن يبكي بكاءاً عاليا، وينشد الأبيات التي مر ذكرها الي «يا رب لا تتركنى وحيدا » ]) .. الخ (1)
ص: 127
ولهفي على أم الرضيع وقد دجى*** عليها الدجى والدوح ناحت حمائمه
تسلل فى الظلماء ترتاد طفلها *** وقد نجمت بين الضحايا علائمه
فمذ لاح سهم النحر ودّت لو أنها*** تشاطره سهم الردى وتساهمه
أقلته بالكفين ترشف ثغره *** وتلثم نحرا قبلها السهم لاثمه
بنیّ أفق من سكرة الموت وارتضع*** بثديك علّ القلب يهدأ هائمه
بنيّ فقد درّا وقد كضّك الظما *** فعلّك يطفى من غليلك ضارمه
بنيّ لقد كنت الأنيس لوحشتي *** وسلواي إذ يسطو من الهم غائمه ]
بكاؤها حينما ودع عياله وتوجه الى الميدان
قبل أن يتوجه الإمام(علیه السلام) الى الميدان ليواجه القوم الأشقياء بنفسه المقدسة، رجع الى الخيام ثُمَّ نادى(علیه السلام) : يا أُمِّ كُلْتُومٍ وَيا زَيْنَبُ وَيَا سُكَيْنَهُ وَيَا رُقَيَّةُ وَيا عائِكَةُ وَيا صَفِيَّةُ عَلَيْكُنَّ مِنّي السَّلامُ ، فَهَذا آخِرُ الإِجْتِماعِ وَقَدْ قَرُبَ مِنْكُمُ الإِفْتِجَاعُ. والمشهور أن سكينة المظلومة شقيقة علي الأصغر(علیه السلام)، وأمها الرباب(سلام اللّه علیها) بنت امرىء القيس، وكانت من فصحاء العرب، وكان الحسين(علیه السلام) يحبّها وأمّها حبا شديدا، حتى قال فى حقهما :
لعمرك إنّني لأحب دارا *** تحلّ بها سكينة والرباب
أحبّهما وأبذل جلّ مالي *** وليس لعاتب عندي عتاب
فروي أنّ سكينة لما سمعت هذا الكلام من أبيها صاحَتْ : يا أبة اسْتَسْلَمْتَ لِلْمَوْتِ؟
فَقالَ لَها الْحُسَيْنُ(علیه السلام) : فَكَيْفَ لا يَسْتَسْلِمُ مَنْ لا ناصِرَ لَهُ وَلا مُعين. قالَتْ: رُدَّنا إِلَى حَرَم جَدنا.
ص: 128
فَقالَ لَها(علیه السلام) : هَيْهاتَ هَيْهاتَ لَوْ تُرِكَ الْقَطَا لَنا(1)، فأين الرحيل.
[لقد كان القطا بأرض نجد*** قرير العين لم يجد الغراما
تولته البزاة فهيّمته *** ولو ترك القطا لغفا وناما ]
وحفت به بنات الرسالة [كلّ تعبّر عن مصابها وآلام فراقها بما أوتيت من التعبير، فهذه تنادي الى أين يا حمانا ؟ وتلك تقول : إلى أين يا أبانا ؟ وأخرى تنادي واضيعتنا بعدك الى من تكلنا ؟ ومن يدفع عنّا شرّ الأعداء ؟
أمثله يبغي الجهاد وقد غدت ***أكفّ النساء في ذيله تتعلق
الى أين يا كهف اليتامى وعزهم *** وحافظهم مما به الدهر يطرق
أتتركنا في عرصة الطف ما لنا ***كفيل وأنت الكافل المتشفق
فبكى الإمام(علیه السلام)] ، وجعل يسليهن ويأمرهن بالصبر ، [وقال : اللّه وليّكم وهو يتولّى الصالحين، استودعكم اللّه الذي لا تضيع ودائعه .
فرق لها مستعبرا من مقالها *** وفاض بجنبيه الجمان المرقرق
وقال لهن اصبرن يا خيرة النسا *** فان خيار الناس بالصبر خلق
فقتلي بلا جرم وذبحي من القفا *** و تضريج شيبي بالدماء محقق
وكا فلكن اللّه فهو خليفتي *** عليكن نعم الكافل المترفق ]
فعندئذٍ اضطربت سكينة ورَفَعَتْ صَوْتَها بِالبُكاءِ وَالنَّحِيبِ، فَضَمَّهَا الْحُسَيْنُ(علیه السلام) إِلَى صَدْرِهِ الشَّرِيفِ ، وَقَبَّلَها ، وَمَسَحَ دُمُوعُها بِكَمِّهِ ، وَقَالَ :
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي *** منك البكاء إذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة *** ما دام مني الروح في جثماني
فإذا قتلت فانت أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان
ص: 129
فابكي وقولي يا قتيلا قد مضي *** عجلا على شط الفرات عطشان
فابكي وقولي هد ركني بعد ما ***كانت تزعزع ركنه الاركان
قد كنت آمل ان اعيش بظله *** ابدا مدى الايام ما يرعاني
ادني الينا يا سكينة عاجلا *** حتى أودعكي وداع الفاني
أوصيك بالولد الصغير وبعده *** بالال والايتام والجيران
فإذا قتلت فلا تشقى مئزرا *** أيضا ولا تدعي ثبور هوان
لكن صبرا يا سكينة في القضا *** ها نحن أهل الصبر والاحسان
لي اسوة بابي وجدي واخوتي*** غصبوا حقوقهم بنو الطغيان ](1)
[فقالت زينب(سلام اللّه علیها) : لا أبكى اللّه لك عينك ، فقال : كيف لا أبكي؟ وعما قليل تساقون بين العدى .
فلما سمعت زينب(سلام الّه علیها) من أخيها هذه الكلمات بكت بكاءاً شديدا. وبنت علي لا تمل من البكا*** بقلب له قلب الأحبة قاطع
تقول أخي هذا الفراق متى اللقا *** وفي أي وقت يجمع الشمل جامع
أخي من لنا من بعد فقدك كافل *** وفيمن تلوذ الخائبات الضوائع ]
وفي جملة من الروايات :أنّه قال لاخته : يا أختاه إيتني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد من القوم، أجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه بعد قتلي، فإنّي مقتول مسلوب(2).
فلمّا سمع النساء منه هذا الكلام المفجع صرخن ، وفي المنتخب: وارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب(3) ، وروي أنّه قال لهن: مهلاً فإن البكاء أما مكن.
ص: 130
أيّها الشيعة ، كيف لا تبكي النساء والحرم ولا ترتفع أصواتهن بالنحيب ، والحال أنّ المسافر إذا عزم على السفر يجتمع عليه أهله يودعونه ويهيؤون له ملابس السفر، ويبكون إذا وقعت أعينهم على ملابسه لأنه سيلبسها في سفره بعيدا عنهم، وهذا ريحانة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) يطلب منهم أن يأتوه بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد لئلا يجرّد منه بعد القتل !
فأحضرت له ثوبا، وكان ضيقا فقال : لا ، إنّ هذا لباس أهل الذمة، اثتيني بتوب
فضفاض أوسع من هذا فأحضرته له ففزره بيده لكي لا يطمع فيه أحد، فلبسه تحت ثيابه، وفي المنتخب : وكان له سروال جديد فخرّقه أيضا لئلا يسلب منه(1)
لهفي على أهل البيت وهم ينظرون الى الغريب يخرق لباسه ويلبسه، والمصيبة الأعظم حينما هرعت بنات الرسالة الى بدنه المقطع بالسيوف والرماح بعد مصرعه(علیه السلام) ، فوجدوه عريانا تكسوه الدماء ثيابا مطروحا على الرمضاء، وقد سلبه اللعين ابن البغايا أبحر بن كعب ثيابه التي مزقها هو(علیه السلام) بنفسه، ولم يبق فيها موضعا سالما من الطعن والضرب.
وروي كما ذكرت في التحفة الحسينية - : أنّه لما فرغ سيد المظلومين من وداع مخدرات الرسالة خرج من الخيمة، وخرجت خلفه النساء كسرب القطا يحمن ،حوله، ولذن ،به وهن يبكين ويندبن ووقعن على يديه وقدميه يقبّلنها ، فصبرهن وسلاهن وقال: ارجعن، فإنّي أودعتكن اللّه وهو وكيلي في المهمات.
[فبكت وقالت يا ابن أمي ليس لي *** وعليك ما الصبر الجميل جميل
يا نور عيني يا حشاشة مهجتي *** من للنساء الضائعات دليل
ورنت الى نحو الخيام بعولة *** عظمى تصب الدمع وهي تقول
ص: 131
قوموا الى التوديع إن أخي دعا *** بجواده إنّ الفراق طويل
فخرجن ربات الخدور عواثرا *** وغدا لها حول الحسين عويل
اللّه ما حال العليل وقد رأى *** تلك المدامع للوداع تسيل
فغدا ينادي والدموع بوادر *** هل للوصول الى الحسين سبيل
هذا أبيّ الضيم ينعى نفسه *** ياليتني دون الأبي قتيل ]
وكان كلّما تقدّم الى الميدان خطوات إلتفت الى خيامه وحرمه وبكى على غربتهم، كأنّه يرمي بشرر من صدره المكروب، وعياله ينظرون اليه نظر حسرة على الإمام العزيز، ويبكون وينتحبون على فراقه .
ثم إنّه رجع مرة أخرى ليودع عياله، فدخل خيمة النساء والأطفال، وهو عطشان يبكى، فلما رأته النساء يبكي بكين وإرتفعت أصواتهن، فقال لهن: اسكتوا فإنّ البكاء أما مكن .
تدعو وتندب يا ثمال أرامل *** وربيع أيتام وأطفال صغر
يا بن النبي المصطفى خير الورى *** وابن البتولة والإمام الأطهر
قد جلّ رزؤك يا أخي وجلّ ما *** ألقاه من شكل وطول تضرر
أأخي رزؤك ملبسي ثوب الضنى *** ومغيراً جسمي بلون أصفر
آخى مذ فارقت فارقنى العزا *** وعلى عليّ تحسري وتزفري
أأخي واصلني العزاء وهجرتني *** ولقد عهدتك واصلا لم تهجر
أأخي حالي بعد بعدك ما صفا *** وحلاوتي ممزوجة بتمرمر
أخى بعد البعد منك تقربت *** مني المصائب في الزمان الأعسر
أأخي دار أم دار أمية معمورة *** وديار فاطم عاطل لم تعمر
أخي شمل أمية مستجمع *** وبنات أحمد شملهم يتكدر
ص: 132
أأخي أولاد لآل أمية **** مخفورة و بناتنا لم تخفر
يا سيدي يا واحدي وموئلي *** يامن اليه شكايتي وتجاري
يا غايتي يا بغيتي يا منيتي *** يامن يقيني نائبات الأعصر
كم من أسى متهضم قد مسنا *** من ظالم باغ علينا مفتر
كنا نعدّك للحوادث ملجاً *** فاذا فقدت فكسرنا لم يجبر
ظفر العدو بنا ونال مراده *** لما مضيت وقبل ذا لم يظفر](1)
بكاؤه (علیه السلام)حينما وعظ عسكر الشقاء فلم تتأثر قلوبهم القاسية
وقف الحسين(علیه السلام) وسط الميدان ونظر الى صفوف عساكر الشقاء، فأراد أن یتم عليهم الحجة فقال لهم كما رويت في التحفة الحسينية -:
أيّها الناس أما تخافون اللّه الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار ؟ أما تخافون المعاد؟ هل تعرفوني؟ قالوا: نعم ، فقال لهم : ألم يكن جدي محمد المصطفى رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ؟ ألم تكن أمي فاطمة الزهراء(سلام اللّه علیها) بنت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) الذي قال فيها : فاطمة يضعة منى من آذاها فقد آذاني ؟ ألم تحزن فاطمة لو رأتنا على هذه الحال؟ ألم يقل جدي(صلی اللّه علیه وآله) : الحسن والحسين(علیهما السلام) سيدا شباب أهل الجنة ؟ ألم يقل جدي(صلی اللّه علیه وآله) : حسين(علیه السلام) مني وأنا من حسين(علیه السلام) ؟ وقال(صلی اللّه علیه وآله) : إنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ؟ ونحن واللّه عترته وأهل بيته، ألم تكن هذه عمامة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ؟ ألم يكن هذا رداء رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ؟ وهذا سيف ولي اللّه(علیه السلام) في يدي ؟ وهذا درع حمزة سيد الشهداء(علیه السلام) على عاتقي ؟ فبماذا تجيبون جدي وأبي وأمي غدا يوم القيامة إذا وقفوا للخصومة معكم
ص: 133
وقد قتلتم اخوتي وأنصاري وأولادي وأولاد اخوتي والآن تريدون قتلي وتمنعوني من الخروج في أرض اللّه الواسعة اتركوني آخذ عيالي وأطفالي وأخرج إلى الحبشة أو الى بلاد الترك.
أيّها الناس بم تستحلون سفك دمي وتمنعوني شرب الماء أنا ومن معي ؟ وأبي الساقي على الحوض ولواء الحمد بيده يوم القيامة ؟ هذه بنات نبيكم تتلظى أكبادهن من الظمأ ، فاسقوهن جرعة من الماء .
[ أظمأته عصبة الغدر ظلما *** وسقته الردى يد العدوان
واستخفوا لحربه بثلاث *** بین سهم وصارم وسنان
حرّ قلبي له وروحي فداه *** من وحيد يجول في الميدان
بفؤاد مؤجج يتلظّى *** بين حرّ الظما وحرّ الطعان
قائلا فيهم أنا ابن علي*** المرتضى وابن خيرة النسوان
فلماذا دمي يحلّ ولحمي *** من نبي الهدى نما بلبان ]
فلما سمع العسكر كلامه أجهشوا بالبكاء، وكادت الحرب أن تقع بين الجيش
وامراء العسكر ، فانبرى اللعين شمر وشبث بن ربعي وأمثالهم من الأشقياء فقالوا : قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا أو تعجل فتضع يدك في يد يزيد، فقال الحسين(علیه السلام) : أعوذ باللّه ربّي وربّكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، لا واللّه هيهات هيهات أن أبايع فاسقا (1)
ص: 134
يزيد طغى في الأرض حتى تزلزلت *** بطغيانه وانهدّ من ظلمه الصبر
وعاث فسادا في البلاد وأهلها *** فمادت وعم الناس في حكمه الجور
أيرضى إمام الحق والدين أن يرى *** عدوّ الهدى والدين في يده الأمر
یریدون منه أن يبايع فاجرا *** في بيعة الفجار لو علموا فجر
أبى بيعة الباغي وخف لحربه *** بآلٍ لهم في النصر آماله الغر
أبى الكوفة الحمراء ليثا محرّرا *** وفي الكوفة الحمراء ينتظر النصر
نالك أنصار دعوه فجاءهم *** بقلب شجاع لا يداخله ذعر
وقد منعوه الماء وهو أسيرهم *** فطافت به الدنيا وضاق به الأسر
ص: 135
يرى النهر والأطفال يبكون حوله *** عطاشى وما غير السراب لهم نهر
و جفت ثدايا المرضعات من الظما *** وأصبحن في عسر به الضيق والعسر]
روي عن الإمام السجاد(علیه السلام) : إنّ أبي لما خطب القوم وسمع ردّهم رجع ودخل خيمة الحريم والأولاد، وهو عطشان يبكى، فلمّا رأته النساء يبكي بكين وارتفعت أصواتهن .
فلما رأته عمتي زينب(سلام اللّه علیها) وقد سمعت كلامه مع القوم إضطربت إضطرابا شديدا وخرجت تجر أذيالها، فقالت له : لهفي على غربتك أبي عبد اللّه(علیه السلام)، هذا كلام من أيقن الموت !
فقال لها الحسين اللّه(علیه السلام): وكيف لا يوقن بالموت من لا معين له ولا مجير ؟ ثم إختنق أبي بعبرته ، وبكى .
فلما رأت عمتي أبي يبكي صاحت: وا ثكلاه هذا أخي ينعى نفسه، وا محمداه، وا علياه وا حسناه واحسيناه، ثم توجه الإمام قدوة الأبرار الى ميدان القتال.
[لم أنسه إذ قام فيهم خاطبا *** فإذا هم لا يملكون خطابا
یدعو ألست أنا ابن بنت نبيكم *** وملاذكم إن صرف دهر نابا
هل جئت في دين النبي ببدعة *** أم كنت في أحكامه مرتابا
أم لم يوصّ بنا النبي وأودع ال*** ثقلين فيكم عترة وكتابا
إن لم تدينوا بالمعاد فراجعوا *** أحسابكم إن كنتم أعرابا
فغدوا حيارى لا يرون لوعظه *** إلّا الأسنة والسهام جوابا
حتى إذا أسفت علوج أمية *** أن لا ترى قلب النبي مصابا
صلّت على جسم الحسين سيوفهم فغدا الساجدة الظبي محرابا ]
ص: 136
بكاؤه(علیه السلام) حينما رجع الى الخيام وجراحاته تشخب دما فاستقبلته ابنته الصغيرة وهي تظن أن أباها رجع اليها بالماء
رويت في كتابي التحفة الحسينية : أنّ الإمام المظلوم(علیه السلام) حينما توجه الى ميدان القتال قالت له طفلته الصغيرة وكان عمرها ثلاث سنوات : يا أبتاه العطش العطش، فقال لها الحسين(علیه السلام) : اصبري يا بنيتي فسأطلب لك الماء، ثم حمل على الشريعة ،وهو
[اعطشان ذاب فؤاده من غلة *** لو مست الصخر الأصم لذابا ]
وجراحاته تشخب دما، فلمّا أقحم فرسه الماء، وملأ كفّه منه وأراد أن يشرب ناداه ذاك اللعين : يا حسين أتلتذ بالماء وقد هتكت حرمك ، فرمى(علیه السلام) الماء من يده، وكرّ راجعا الى الخيمة، وجسمه الشريف قد مزقته الجراح .
فخرجت هذه الطفلة عة لإستقبال أبيها ، وهي تظن أنّه قد رجع اليها بالماء،
فقالت وهى باكية : الماء يا أبة ؟
فلمّا سمعها العطشان الغريب، ونظر إلى دموعها تجري على خديها بكى بكاءا شديدا وقال : يعزّ واللّه على تلهّفك، ثم جعل إصبعه في فمها فارتوت ومسح على رأسها ووجهها.
فلمّا أراد أن يتوجه الى المعركة تعلّقت به هذه الصبية لشدة حبها له، وألقت
نفسها في حجره، فضمها الحسين(علیه السلام) لها اليه وقال : نحّوها عني، فإنّي سأطلب لكم الماء،فنحّوها عنه وهي تبكى بلوعة وإضطراب.
[وعبرى أذاب الشجو جامد دمعها *** تنوح وللأشجان في قلبها ندب ]
ص: 137
بكاؤه(علیه السلام) حينما جروا ولده عبد اللّه من جنبه وذبحوه أمام عينيه كما يذبح الكبش
أيّها الشيعة ، لقد فجع الإمام الرؤوف ومظهر الرحمة والإحسان في يوم عاشوراء
بأربعة من أبنائه:
الأول : علي الأكبر، شبيه النبي الأطهر(صلی اللّه علیه وآله)، وقد أثرت عليه مصيبته تأثير عظما ، حتى صرخ صرخة اضطربت لها كربلاء، وخرجت النساء والأطفال من الخيام مذهولات لما سمعن من صوت المفجوع الممتحن، وألقين بأنفسهن على بدن علي الأكبر(علیه السلام) المقطع إربا إربا ، فمشى اليهن الحسين(علیه السلام) حتى أرجعهن الى الخيمة.
[ولم أنس النساء غداة فرت *** الى نعش الشهيد ابن الشهيد
تقبل هذه وتشمّ هذي *** خضيب الكف أو ورد الخدود
اذا أمّ تنوح تقول أخت *** أعيدي النوح معولة أعيدي
فهن على البكا متساعدات *** ألا فأعجب لذي ثكل سعيد]
الثاني :جعفر، وهو والسيدة زبيدة من أم واحدة ، وكان هذا الصبي الصغير قد
خرج من الخيام يرتجف وهو مذعور حينما جاء الحسين(علیه السلام) بعلي الأكبر، فرماه حرملة بن كاهل الملعون بسهم فألحقه بأخيه.
الثالث : علي الأصغر(علیه السلام) كما مرت الإشارة اليه.
الرابع : عبد اللّه(علیه السلام) كما ذكر المحدث البرغاني(رحمة اللّه) في مخزن البكاء عن أخبار الدول، آه روحي وأرواح العالمين لقلبك المفجوع الفداء يا أبا عبد اللّه(علیه السلام)، لهفي لغربتك يا سيد الغرباء.
وفي اللهوف والمناقب: لما وقع الحسين(علیه السلام) لها على رمضاء كربلاء مرملا بالدماء، و نادى اللعين بجيشه : انزلوا اليه فاريحوه ما تنتظرون بالرجل ، وكان القوم
ص: 138
قد أحاطوا به كأنّه صيد شدّوا يديه ورجليه وأحاط به الصيادون من كلّ جانب
ومكان، وكلّ واحد منهم جهّز نفسه وسلاحه ليذبحه .
وفي تلك اللحظة كان طفل صغير للحسين(علیه السلام) اسمه عبد اللّه على صدر الحسين(علیه السلام) يأنس به الحسين(علیه السلام) ويغمره بحنانه ورأفته ويقبله.
ایّها الشيعة، انظروا بعين البصيرة، إنّ الرجل إذا حضرته الوفاة، يستدعون أقرباءه وأحباءه وأولاده ونساءه وبناته ليتزودوا منه ويتزود منهم في لحظاته الأخيرة اللّه اللّه فبينا الحسين(علیه السلام) كان يتزوّد من طفله الصغير إذ بدر اليه لعين قاسي
وجلف جاف، فجرّه من صدر الحسين(علیه السلام) وطرحه على الأرض وجعل يذبحه كما يذبح الكبش ، والحسين(علیه السلام) ينظر اليه ، فزاد غمه غما وكربه كربا، وجعل يده تحت نحره حتى إمتلأت دما وقال : اللّهم إن حبست عنّا النصر عاجلا فاجعله لنا في الآجل خيرا وانتقم لنا من الظالمين.
واللّه إنّ مصيبة الحسين(علیه السلام) أعظم المصائب، ألاّ لعنة اللّه على القوم الظالمين.
[يلثم الوالد الحنون فيحنو *** فوقه من أسى بقلب وجيع
لست أسطيع وصف حالة سبط ال*** مصطفى صاحب المقام الرفيع
فهو طورا يرنوا العيال وطورا *** يرسل الطرف نحو «طفل فجيع»
حيث يدري بطفله سوف يُرمى *** وعن الماء يرتوي بالنجيع ]
[بكاؤه(علیه السلام) حينما أفاق من غشيته فوثب ليقوم فلم يقدر ]
[ في مقتل أبي مخنف : ثُمَّ حَمَلَ - صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ - وَجَعَلَ يَضْرِبُ فِيهِمْ يَمِيناً
وَشِمَالاً حَتى قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقَاً كَثِيراً .
فَلَمّا نَظَرَ الشِّمْرُ - لَعَنَهُ اللّه - إِلَى ذلِكَ أَقْبَلَ إِلَى عُمَرِ بْنِ سَعْدٍ - لَعَنَهُ اللّه - وَقَالَ : أَيُّهَا الأميرُ، إِنَّ هذا الرَّجُلَ يُفْنينا عَنْ آخِرِنَا مُبارَزَةً.
ص: 139
قالَ : كَيْفَ نَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : نَتَفَرَّقُ عَلَيْهِ ثَلاثَ فِرَقْ : فِرْقَةٌ بِالنّبالِ وَالسِّهام ، وَفِرْقَةٌ
بِالسُّيُوفِ وَالرِّماحِ، وَفِرْقَةٌ بِالنَّارِ وَالحِجَارَةِ، نُعَجِّلْ عَلَيْهِ.
فَجَعَلُوا يَرْشِقونَهُ بِالسِّهامِ، وَيَطْعَنُونَهُ بِالرّماحِ، وَيَضْرِبُونَهُ بِالسُّيوفِ حَتَّى
اَتَّخَنُوهُ بِالجراح.
وَاعْتَرَضَهُ خِوَلّي - لَعَنَهُ اللهُ - بِسَهُم فَوَقَعَ فِي لُيَّنِهِ ، فَاَرْداهُ صَرِيعاً إِلَى الْأَرْضِ
يَخُورُ بِدَمِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ السَّهْمَ رَمَاهُ أَبُو قُدامَةَ الْعامِرِي لَعَنَهُ اللّه - فَجَعَلَ يَنْزَعُ السَّهْمَ بِيَدِهِ
وَيَتَلَقَ الدَّمَ تكَفَّيْهِ، وَيُخضّبُ بِهِ لِحيتَهُ وَرَأْسَهُ الشَّريفٌ وَيَقُولُ:
هكذا القى رَبِّي وَالْقَى جَدِّي وَاشْكُوا إِلَيْهِ ما نَزَلَ بِي ، وَخَرَّ صَريعاً مَغْشِياً عَلَيْهِ . فَلَها أَفاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ وَثَبَ لِيَقُومَ لِلْقِتالِ ، فَلَمْ يَقْدَرُ فَبَكَى بُكاء شديداً، ونادى : وا جَدَاهُ وا مُحَمَّداهُ، وا آبتاهُ وا عَلِيّاهُ، وا أَخاهُ واحَسَناهُ، واغُرْبَتاهُ، واعَطَشاه، وا غَوْثاهُ، واقِلَّةَ ،ناصراهُ، أَأَقْتَلُ مَظْلُوماً وَجَدِّي المُصْطَفَ؟! وَأَذْبَحُ عَطشاناً وَأَبي عَلِيٌّ الْمُرْتَضى(علیه السلام) ؟ ! وَأَتْرَكُ مَهْتُوكاً وَأُمِّى فاطِمَةُ الزَّهْراء(سلام اللّه علیها) ؟ ! .
ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَبَقِي ثَلاثَ ساعاتٍ مِنَ النَّهارِ، وَالْقَوْمُ في حيرَةٍ لا يَدْرُونَ اَهُوَ حَيُ اَمْ مَيِّتُ (1)
[ الى أن أسال الطعن والضرب نفسه *** فخر كما يهوى الى الأرض ساجد
فلهفي له والخيل منهن صادر *** خضيب الحوامي من دماه ووارد
فأي فتى ظلت خيول أمية *** تعادى على جثمانه و تطارد ]
بنفسي تريب الخد ملتهب الحشا *** عليه المواضي ركع وسجود
بنفسي خضيب الشيب من دم نحره ***غداة عليه الماضيات ركود ]
ص: 140
ضحكه(علیه السلام) حينما أقدم عليه الشمر اللعين ليقتله
[لولاك لانطمس الإباء وما عُلم *** وبصدرك إحتمت الرسالة إذ هُشم
أفديك مرتجزا تقول وتبتسم *** إن كان دين محمد لم يستقم
إلا بقتلي يا سيوف خذيني ]
أيّها الشيعة، إنّ جميع مصائب المظلوم الشهيد تحرق الفؤاد وتفتت الأكباد،
ولكنّها كلّها في كفّة ، وضحكه (علیه السلام)في هذه اللحظة في كفّة ، فلو تأمّلها الشيعي بعين البصيرة، وفكّر فيها ، لوجدها مؤثرة أكثر في قلوب مواليه الذين جعل في قلوبهم قبره « وفي قلوب من والاه قبره»
وذلك أنّ هذه الضحكة في هذا الوقت بالذات، يفهم منها العارفين أنّه(علیه السلام) آيس حياته ، وإستعدّ للقاء ربّه ، وتيقّن من حتمية الرقي الى المنتهى، ورؤية وجه ربّه الأعلى، بإعتبار أنّه(علیه السلام) أبدى فرحا ، وهو يدلنا على قوله « وفرحة عند لقاء ربّه»، فلما نظر الى ذلك اللعين ضحك فرحا باللقاء.
إنّ الإمام المظلوم المحزون وقع على رمضاء كربلاء، تصهره حرارة رمال نینوی مرملا بالدماء، وقد تمزّق بدنه الشريف إربا إربا ، قال أبو مخنف : فبقي كذلك ثلاث ساعات من النهار والقوم في حيرة لا يدرون أهو حي أم ميت (1)، والدم يشخب من جرحاته، وقد تسربل بالدماء سربالا، لكثرة ما به من جراحات حتى قال المجلسي : أصابه أربعة آلاف جراحة من السهام، ومائة وثمانون من السيف والسنان(2) ، وقد أحاط به القوم الأشقياء كإحاطة الصيادين بالصيد المكبل
ص: 141
[كفاني ظناً تُرى في الحسين *** شفت آل مروان أضغانها
فأغضبت ضبت اللّه في قتله *** وأرضت بذلك شيطانها
عشية ان- -هظها بغيها فجاءته تركب طغيانها
بجمعٍ من الأرض سدّ الفروج *** وغطّى النجود وغيطانها
وسامته يركب إحدى إثنتين *** وقد صرّت الحب أسنانها
فأما يرى مذعنا أو تموت *** نفس أبى العزّ إذعانها
فقال لها إعتصمي بالإباء *** فنفس الأبي وما زانها
ترى القتل صبرا شعار الكرام *** وفخرا يزين لها شانها
فشمّر للحرب في معرك *** به عرك الموت فرسانها
وأضرمها لعنان السماء *** حمراء تلفح أعنانها
تزيد الطلاقة في وجهه *** اذا غيّر الموت ألوانها
ولما قضى للعلا حقها *** وشيّد بالسيف بنيانها
ترجّل للموت عن سابق *** له أخلت الخيل ميدانها
وأصبح مشتجرا للرماح *** تحلّي الدما منه مرّانها
عفيرا متى عاينته الكماة *** تختطف الرعب ألوانها
فما أجلت الحرب عن مثله *** صريعا يجبّن شجعانها
تريب المحيا تظن السماء *** بأن على الأرض كيوانها
غريبا أرى يا غريب الطفوف *** توسّد خديك كثبانها
أتقضي فداك حشا العالمين *** خميص الحشاشة ظمآنها ]
فلما ضعف الحسين(علیه السلام) عن القتال جعل ينوء برقبته ، فوضع رأسه على التراب ليستريح، وفي المنتخب : وقد ابتدر اليه أربعون فارساً كل يريد قطع رأسه، وعمر بن سعد - لعنه اللّه - يقول : عجلوا عليه عجلوا عليه(1)
ص: 142
فنزل اليه عمرو بن الحجاج وكان هذا اللعين العنيد قد كتب الى الحسين(علیه السلام) كما ذكرت في التحفة الحسينية - كتابا أكد فيه على دعوة الحسين(علیه السلام) للقدوم الى الكوفة فقال: «فقد اخضرت الجنان وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار فاذا شئت فأقبل على جندلك مجندة».
[قد بايعوا السبط طوعاً منهم ورضا *** وسيّروا صحفاً بالنصر تبتدر
أقبل فانا جميعاً شيعة تبع *** وكلّنا ناصر والكلّ منتصر
أقبل وعجّل قد اخضر الجنان وقد *** زهت بنضرتها الأزهار والثمر
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** خلد الجنان إذا النيران تستعر]
فلم يرع هذا الجلف الجافي أدب الضيافة مع الإمام المظلوم، فنزل عن ظهر فرسه النحس ، وأقبل ليقطع رأس حبيب الربّ الجليل ، فلما دنا منه ونظر الى عينيه ولى ،مدبرا وفرّ راجعا وركب فرسه وعاد ، فقال له شمر اللعين رجعت عما عزمت ؟ قال اللعين نظرت الى عينيه، فإنهما عينا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) فاستولى الرعب على قلبي فركبت فرسي و رجعت(1)
وفي المنتخب : فدنا اليه شبث بن ربعي وبيده سيف ليجتز رأسه ، فرمقه(علیه السلام) بطرفه، فرمى السيف من يده وولى هاربا وهو ينادي : معاذ اللّه يا حسين أن ألق أباك بدمك (2)
وفي مقتل أبي مخنف : فأقبل اليه سنان بن أنس، وكان رجلا قبيح الخلقة كوسج
اللحية أبرص ، وقال : تَكَلَتْكَ أُمُّكَ وَعَدَمُوكَ قَوْمُكَ لِمَ رَجَعْتَ عَنْ قَتْلِهِ ؟
فَقالَ: يا وَيْلَكَ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فِي وَجْهِي فَأَشْبَهَا عَيْنِي رَسُولِ اللّهِ( صلى الله عليه وآله) فَقالَ لَهُ : يا وَيْلكَ اِعْطِني السَّيْفَ ، فَأَنَا أَحَقُّ مِنْكَ بِقَتْلِهِ.
ص: 143
فَاَخَذَ السَّيْفَ وَهَمَّ أَنْ يَعْلُو رَأْسَهُ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ الحسين(علیه السلام) ، وهو مظهر القهر
والغضب الإلهي ، فَارْتَعَدَّ سَنانُ، وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، وَوَلّى هارباً
وفي المنتخب : وولى هاربا وهو يقول : ما لك يا عمر بن سعد غضب اللّه عليك أردت أن يكون محمد خصيمي (2)
فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الشَّمْرُ - لَعَنَهُ اللّه - وَقَالَ: تَكَلَتْكَ أُمُّكَ ما أَرْجَعَكَ عَنْ قَتْلِهِ ؟ فَقالَ : يا وَيْلَكَ إِنَّهُ فَتَحَ في وَجْهِي عَيْنَيْهِ فَذَكَرْتُ شُجَاعَةَ أبيه فَذَهَلْتُ عَنْ قَتْلِهِ.
أَبِيهِ فَقالَ الشِّمْرُ لَعَنَهُ اللّه : يا وَيْلَكَ إِنَّكَ لَجَبانٌ في الْحَرْبِ، هَلُمَّ إِلَيَّ بِالسَّيْفِ ، فَوَ اللّهِ ما الملا أَحَدٌ أَحَقُّ مِني بِدَمِ الْحُسَيْنِ(علیه السلام)، إِنِّي لَأَقْتُلَهُ سَواءٌ شَبَهَ الْمُصْطَفَى(صَلَی اَللّهُ عَلَیهِ وَآلِه) أَوْ عِليَّ الْمُرْتَضَى(عَلَیِه اَلسَلاَم) (3)
[أعزز بناصر دين اللّه منفردا *** في مجمع من بني عبادة الوثن
يا جيرة الغيّ إن أنكر تم شرفي *** فإنّ واعية الهيجاء تعرفني
اللّه حملته لو صادفت فلكا *** لخرّ هيكله الأعلى على الذقن
حتى إذا لم تُصب منه العدى غرضا *** رموه بالنبل عن موتورة الغغن
فانقضّ عن مهره كالشمس عن فلك*** فغاب صبح الهدى في الفاحم الدجن قل للمقادير قد أبدعت حادثة *** غريبة الشكل ما كانت ولم تكن
أمثل شمر أذل الله جبهته *** يلقى حسينا بذلك الملتقى الخشن
لقد هوت من نزار كل راسية *** كانت لأبنية الأمجاد كالركن
للّه صخرة وادى الطف ما صدعت *** إلّا جواهر كانت حلية الزمن ]
وفي المنتخب : فنادى عمر بن سعد : من يأتيني برأسه وله ما يتمنى به، فقال
الشمر: أنا أيّها الأمير،فقال : أسرع ولك الجائزة العظمى (4)
ص: 144
فأقبل الى الحسين(علیه السلام)،كما في البحار - في آخر رمق يلوك لسانه من
العطش ويطلب الماء.
[ وفي اللهوف : قال الراوي: إنّي كنت واقفا مع أصحاب عمر بن سعد-لعنه اللّه- إذ صرخ صارخ أبشر أيها الأمير فهذا شمر قد قتل الحسين(علیه السلام).
قال : فخرجت بين الصفين، فوقفت عليه وإنّه ليجود بنفسه، فواللّه ما رأيت قط قتيلاً مضمخا بدمه أحسن منه ، ولا أنور وجها، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى فى تلك الحال ماء.
فسمعت رجلا يقول : واللّه لا تذوق الماء حتى ترد الحامية، فتشرب من حميمها . فسمعته(علیه السلام) يقول : يا ويلك أنا لا أرد الحامية، ولا أشرب من حميمها ، بل أرد على جدي رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)، وأسكن عنده في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر،
وأشرب من ماء غيرآسن ،وأشكو اليه ما إرتكبتم مني ، وفعلتم فيّ..
فغضبوا بأجمعهم حتى كأنّ اللّه لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئا] وقد كان فلذة كبد النبي الخاتم اللّه(صلی اللّه علیه واله) قد توافرت عليه أسباب الظمأ ، فجعلت كبده كصالية الغضا، وقد ذكر الأطباء في كتبهم الأسباب التي تشدّد العطش التجربة فقالوا :
حرارة الجو .
ومقاتلة الأعداء.
ونزف الدم من البدن .
وورود الآلام والمحن.
وعدم تأثير الكلام في المخاطب ذي الإحن
والغبار الكثير.
ص: 145
ورؤية الماء.
وسماع الكلام الذي ليس له حساب
وقلّة النوم.
والإستمرار في حالة التيقظ .
والتكلّم الكثير مع الأشقياء والأشرار.
وقد توافرت يوم عاشوراء كلّ أسباب العطش والظماً على ثار اللّه، وبلغت الذروة وغاية التأثير ، فيما تكون كلّ واحدة من هذه الأسباب كافية ليبلغ بها الفرد غاية العطش ، فاذا ورد السبب الثاني إزداد عطشه ، وإذا ورد السبب الثالث إزداد العطش أكثر ،وإشتد فكيف إذا توافرت الأسباب كلّها ؟ فإنّ كبده يكون كالحديدة المحماة ، كلّما إشتدت عليها النار إزدادت حرارة حتى تكون الحديدة نفسها كقطعة من الجمر المتوهج، ثم تذوب!
اللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، العالم ومن فيه فداء لكبدك
الحرّى الملتهبة بنيران العطش، وشفاهك الذابلة .
[ أيقتل ظمآنا حسين بكربلا *** وفي كلّ عضو من أنامله بحر]
معاشر الشيعة إنّي لم أقل ما قلت في عطشه من عندي وإنّما جاء ذلك في الحديث المروي في أكثر الكتب المعتبرة : أنّ جبرئيل أخبر آدم صفي اللّه على نبينا و آله وعليه السلام، بما سيجري على الحسين (علیه السلام) من المصائب، فقال جبرئيل فيما قال : ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب، فقال: يا أخي وما هي ؟ قال : يقتل عطشانا غريبا وحيدا فريدا ، ليس له ناصر ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول : واعطشاه وا قلّة ،ناصراه ، حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان.. الحديث .
ص: 146
[ومضى لهيفا لم يجد غير القنا *** ظلاً ولا غير النجيع شرابا
ظمآن ذاب فؤاده من غلّة *** لو مست الصخر الأصم لذابا
لهفي لجسمك في الصعيد مجردا *** عریان تکسوه الدماء ثيابا
ترب الجبين وعين كلّ موحّد *** ودّت لجسمك أن تكون ترابا]
فداء لشفاهك الذابلات التي كان يشبعها النبي (صلی اللّه علیه وآله) لثما وتقبيلا، ويرتشفها كما يرشف رحيق الروح، إنّهم لم يسقوه جرعة من الماء، بل نزل اليه الشمر الرجس اللعين النجس فرفسه برجله كما في البحار - وكانت الرفسة من الشدة بحيث قلبت معدن الحلم والوقار على قفاه.
فَقالَ لَهُ : إِذا كانَ لابُدَّ مِنْ قَتْلى فَاسْقِنِي شَرْبَةً مِنَ الماءِ.
فَقالَ: هَيْهاتَ هَيْهاتَ، وَاللّهِ ما تَذُوقُ الْمَاءِ اَوْ تَذُوقُ المَوْتَ غُصَّةً بَعْدَ غُصَّةٍ،
وَجُرْعَةً بَعْدَ جُرْعَةٍ.
ثُمَّ قَالَ: يَابْنَ أَبِي تُرابِ، اَلَسْتَ تَزْعَمُ أَنَّ أَبَاكَ عَلَى الْحَوْضِ يَسْقِي مَنْ أَحَبَّ ؟
اصْبِرْ قَليلاً حَتَّى يَسْقِيكَ أَبُوكَ.
فقال(علیه السلام) :سالتكَ بِاللّهِ إِلّا ما كَشَفْتَ لي عَنْ لِثامِكَ لأَنظُرَ إِلَيْكَ ، فَكَشَفَ لَهُ عَنْ لِثامِهِ ، فَإِذَا هُوَ أَبْرَضٌ أَعْوَرٌ لَهُ بُوزٌ كَبُوزِ الْكَلْبِ، وَشَعْرٌ كَشَعْرِ الْخَنْزيرِ.
فَقالَ لَهُ الإِمامُ(علیه السلام) : صَدَقَ جَدِّي رَسُولِ اللّه(صلی اللّه علیه وآله). فَقَالَ لَهُ الشِّمْرُ لَعَنَهُ اللّه : وَما قالَ جَدُّكَ رَسُولِ اللهِ(صلی اللّه علیه وآله) ؟
قالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ لأَبي : يا عَلِي يَقْتُلُ وَلَدَكَ هذا أَبْرَصُ أَعْوَرٌ لَهُ بُوزُ كَبُوزِ الْكَلْبِ وَشَعْرٌ كَشَعْرِ الْخِنْزِيرِ.
فَقالَ لَهُ لَعَنَهُ اللّه : يُشبهني جَدَّكَ رَسُولِ اللّهِ (صلى اللّه عليه وآله) بِالْكِلابِ ؟! وَاللّهِ لَأَذْبَحَنَّكَ مِنَ الْقَفا جَزَاءً لِما شَبَّهَني جَدُّكَ.
ص: 147
فجلس اللعين على صدر الحسين(علیه السلام) ومدّ يده - تبت يداه- الى لحية الإمام الشريف وقت صلاة الجمعة، فقبض على شيبته المباركة، ليحتزّ رأسه المقدس.
قال في العوالم : فضحك الحسين(علیه السلام).
فقال : أتقتلني ولا تعلم من أنا ؟
فقال اللعين : أعرفك حقّ المعرفة ، أمك فاطمة الزهراء(سلام اللّه علیها)، وأبوك علي المرتضى(علیه السلام) وجدك محمد المصطفى(صلی اللّه علیه وآله)، وخصمك العلي الأعلى أقتلك ولا أبالي ( وجعل يَقُولُ :
اقْتُلُكَ الْيَوْمَ وَنَفْسي تَعْلَمُ *** عِلْمَا يَقيناً لَيْسَ فِيهِ مَغْرَمُ
أَنَّ أَباكَ خَيْرَ مَنْ يُكَلِّمُ *** بَعْدَ النَّبِيِّ الْمُصْطَفى الْمُعَظَّمُ
اقتلُكَ الْيَوْمَ وَسَوْفَ انْدَمُ*** وَأَنَّ مَثوايَ غَداً جَهَنَّمُ]
روحي وأرواح العالمين لشفاهك الذابلات الفداء، ولإبتسامتك يا غريب
كربلاء.
يقول المؤلف :
قد يكون السرّ فى الضحكه(علیه السلام) في تلك الحالة ثلاث وجوه :
الوجه الأول :
يحتمل أن يكون باعتبار أنّ المولى(علیه السلام) لما كان راغبا قاصدا منذ اليوم الأول الى التضحية بنفسه الشريفة في سبيل رضى اللّه وحفظ شريعته الغراء، وكان في ذلك سروره وابتهاجه، ولهذا كان كلّما اشتدت عليه المحن والبلايا، وكلّما إقترب من الشهادة كان لونه ينكشف ووجهه يزهر ويبتهج كما مرّ معنا فيما رويناه في طوفان هذا الكتاب، فهو قد سلّم للأمر الإلهي وهذه المحن والبلايا والمصائب كانت تزيده شوقا وسرورا بسرعة اللقاء.
ص: 148
ولكنه مع ذلك كلّه كان يخشى أن يمّر عليه كما مرّ على إسماعيل حينما فداه اللّه بذبح عظيم في «منى» فلم يقتل ، فيستجيب اللّه فيه دعاء جبرئيل وميكائيل والملائكة المقربين وتضرّعهم وابتهالهم، فيفديه بذبح عظيم في كربلاء، فيحرم من الفيض العظيم، والدرجة التي لا ينالها إلّا بالشهادة ، فكان إضطرابه لذلك.
فلما رأى الشمر جالسا على صدره وقد عزم على قتله ، علم أنّ وقت تحقق الوعد الذي وعده إياه جده وهو يودعه « فقال : يا حسين(علیه السلام) إنّ اللّه قد شاء أن يراك مقتولا قدحان.
فلمّا رأى صفات قاتله بالصفة التي ذكرها له جده فسرّ بوصوله الى مقام الشهادة الموعودة ، فضحك شوقا وسرورا بنيل الموعود، وتحقق الأمل المنشود [كما سُر أبوه أمير المؤمنين(علیه السلام) من قبل فقال : فزت ورب الكعبة ].
وهو فرح بطيّ مراحل هذا العالم المجازي في مدارج الحب الإلهي وبلوغ الحقيقة المولائية، فكلّ عظيم في جنب عظمته ذليل، وكلّ سلطان في معترك سلطنته قتيل. وفاقا لمضمون : « من عشقني عشقته ومن عشقته قتلته ومن قتلته فأنا ديته».
الوجه الثاني : اذا كان المحبّ في مقام المحبّة محبّا صادقا خالصا ، فلابد أن يكون كالميت بين يدي الغسال ، ومن غلب عليه الحبّ كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه ، فهو يرى قهر محبوبه عين اللطف ولطفه عين قهره ، ولا يميّز بينهما بحال.
فاذا أتاه من محبوبه بلاء فإنّه يسرّ به ويشكره عليه تماما كما يفرح ويبتهج بلطفه ويشكره عليه.
وقد ورد في الحديث كما رواه العالم الرباني والمحدث الشيخ الحر العاملي في باب وجوب الرضا بالقضاء من كتاب الوسائل :
ص: 149
قال : عن محمد بن سنان عن الصادق(علیه السلام) قال : قلت له : بأي شيء علم المؤمن أنّه مؤمن ؟ قال : بالتسليم اللّه والرضا بما يرد عليه من سرور أو سخط (1)
وروى عنه(علیه السلام) قال : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ(علیه السلام) قَالَ: عَجِبْتُ لِلْمَرْءِ المُسْلِم لا يَقْضِي اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ فَضَاءَ إِلَّا كَانَ خَيْراً لَهُ ، إِنْ قُرِضَ بِالْمُقَارِيضِ كَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ مَلَكَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا كَانَ خَيْراً لَهُ (2)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(علیه السلام) قَالَ: إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ أَرْضَاهُمْ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ (3)
ونرى بعض المحبّين المجازيين يتلذذون حينما يذكرهم المحبوب حتى لو ذكرهم بسوء ويشربون كأس السمّ الزعاف إذا قدّمه لهم المحبوب وكأنّه أعذب
ماء يشربونه .
ولا يفرّ المحبّ بمجرد أن يناله شيء من البلاء والمكروه من المحبوب، فيكون بمنزلة العبد الآبق .
قال سلطان المحبين ويعسوب الدين أمير المؤمنين(علیه السلام) : لو أدخلتني نارك لم أقل أنّها نار، وأقول : إنّها جنّتي ، لأنّ جنتي رضاك، فأينما أنزلتني أعرف أنّ رضاك فيه .
وهجره أعظم من ناره *** ووصله أطيب من جنته (4)
وروي أنّ جابر بن عبد اللّه الأنصاري(رضی اللّه عنه) له ابتلي في آخره بضعف الهرم والعجز ، فزاره محمد بن علي الباقر(علیه السلام) ، فسأله حاله ، فقال : أنا في حالة أحبّ فيها عن الشيخوخة على الشباب، والمرض على الصحة، والموت على الحياة.
ص: 150
فقال(علیه السلام) : أمّا أنا - يا جابر - فإن جعلني اللّه شيخا أحبّ الشيخوخة، وإن جعلني شابا أحبّ الشيبوبة، وإن أمرضني أحبّ المرض، وإن شفاني أحبّ الشفاء والصحة ، وإن أماتني أحبّ الموت، وإن أبقاني أحبّ البقاء (1)
قال بشر الحافي : مررت ببغداد على رجل جلد ألف سوط ولم يتكلّم ولم يصرخ، فقلت له : لماذا لا تصرخ ولا تتكلّم وأنت تجلد ؟
قال : كيف أصرخ ومحبوبي واقف ينظرني ويسمعني ؟! وأنا لا أحبّ أن
أفعل شيئاً يؤذيه.
قلت : فكيف بك إذا رأيت المحبوب الحقيقي ؟ فلما سمع مني ذلك شهق
شهقة ومات.
ونقل السيد نعمة اللّه الجزائري في كتاب الأنوار النعمانية حكاية : قال بعضهم قصدت عبادان في بدايتي فاذا أنا برجل أعمى مجذوم قد صرع، والنمل تأكل لحمه، فوضعت رأسه في حجري وأنا أردد الكلام. فلما أفاق قال : من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربّيّ فوحقّه لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلّا حبًا.
وفي الكتاب المذكور أيضا وروى عن بعضهم وكان قاسي المرض ستين سنة، فلما اشتدّ حاله دخل عليه ،بنوه، فقالوا له : أتريد أن تموت حتى تستريح مما أنت فيه ؟ :قال: لا، قالوا: فما تريد ؟ قال : مالي إرادة إنّما أنا عبد وللسيد الإرادة في عبده، والحكم في أمره (2)
ص: 151
أصيب رجل بجراحات وآلام شديدة، فلم يبد إلّا ابتهاجا وانبساطا ، فقيل له :
أما تؤثر فيك هذه الآلام والجراحات ؟ فقال : إنّ لذة شعوري أنّها من المحبوب أزالت عنّى مرارة الوجع.
فالعبد يبدي الإنبساط والإنشراح والسرور في مقام التسليم والرضا، فيعرف
بهذا سرّ ضحكه(علیه السلام)، وإنبساطه وإبتهاجه وسروره ، وهو سيد الخافقين ومن قال فيه الأمين : حسين مني وأنا من حسين(علیه السلام) .
وروي عن سيد الشهداء(علیه السلام)انّه قال : وددت لو أنّي أقتل فى محبّتك ورضاك سبعين مرة.
وروي في بعض الكتب المعتبرة أنّ الشهيد العطشان قال في مقام الحبّ والرضا:
تركت الخلق طراً في هواكا *** وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحبّ إرابا *** لما حنّ الفؤاد الى سواكا
ومن كان هذا حاله الشريف في تحمل المصائب والنوائب، وكان هذا شوقه وحنينه ورغبته في إختيار مراتب الرضا والتسليم ، كيف لا يبتهج بإزدياد البلاء والمحن ، بل كان يزداد إنبساطا وإبتهاجا وسرورا آنا فآنا كلما إزاداد ألمه وإشتدت محنته، وتوافر عليه البلاء، حتى إذا ركب الشمر ذاك المركب العظيم ، وأخذ بشيبته المقدسة، تبسمّ(علیه السلام) ، فداء لبسمة شفاهك الذابلة يا سيدي ومولاي، فقد أحرقت قلوب العالمين، وأشعلت أرواح المحبّين ببسمتك يا سيد الشهداء والمظلومين.
الوجه الثالث :
قد يصل المحبّ المجازي الى درجة يرى فيها كلّ آثار الحبيب محبوبة ، وجميع صفاته وأقواله مطلوبة ومرغوبة ، وإن كانت عند الغير مبغوضة ومكروهة، وقصة مجنون ليلى مشهورة ومعروفة ، وهذا الأمر لا يخفى على العرفاء.
ص: 152
وللمحبّين في المحبّة مراتب و درجات كثيرة تختلف شدّة وضعفا حتى تبلغ الى المرتبة الأخيرة، وهي مرتبة الجنون. فاذا كان هذا حال المحب المجازي فكيف بحال أولياء اللّه ؟
إذا كان عشق ليلى يجنن ، فكيف بعشق من خلق ليلى وأودعها الجمال ؟ فإنّ عشاق خالق ليلى، والمشتاقين الى فيوضات خلّاق العالمين يتولّهون في سبيل الوصول الى قرب الإله الرحيم حتى يذهلون عن أنفسهم، فيغفلون
الأكل والشرب والنوم واليقظة، واللباس والمنزل، والصاحب والحبيب
عن ويستغرقون في محبة الذات المقدسة، ويهيمون في مودة الواحد ا الأحد، وربما أطلقوا لسان الشوق في ساحة عزّ حضوره الأقدس بالمناجاة فيقولون كما ورد في مصباح الشريعة عن مروّج المذهب الحقّ الإمام جعفر بن محمد الصادق(علیه السلام) أنّه قال :
المشتاق لا يشتهي طعاما ، ولا يلتذّ شرابا ، ولا يستطيب رقادا ، ولا يأنس حميا، ولا يأوي دارا، ولا يسكن عمرانا، ولا يلبس لينا، ولا يقرّ قرارا، ويعبد اللّه ليلاً ونهاراً ، راجيا بأن يصل الى ما يشتاق اليه ويناجيه بلسان شوقه معبرا عما في سريرته (1)
روي في علل الشرائع أنّه:بكى شعيب (علیه السلام) من حبّ اللّه-عزّوجل- حتى عمي فرد اللّه - عزّوجل-عليه بصره، ثم بكى حتى عمي ،فردّاللّه عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرّد اللّه عليه بصره.
فلمّا كانت الرابعة أوحى اللّه إليه : يا شعيب إلى متى يكون هذا أبدا منك ؟ إن يكن هذا خوفا من النار فقد أجرتك ، وإن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك.
ص: 153
قال : إلهي وسيدي أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك، ولكن عقد حبّك على قلبي، فلست أصبر أو أراك ، فأوحى اللّه جلّ جلاله - إليه : أما إذا كان هذا هكذا، فمن أجل هذا سأخدمك كليمي
موسى بن عمران (1)
فبكاء أولياء اللّه وطلاب القرب الإلهي لا يكون خوفا من النار ولا طمعا بالجنة، فهذه العبادة قال عنها السيد ابن طاووس : أنّها باطلة، وعن درجة الإعتبار ساقطة ! ! لأنّه قصد البرطيل ، ولم يقصد وجه الربّ الجليل ! ! !(2)
والمحبّ المجازي يحبّ - من شدّة حبّه - منزل المحبوب ، بل يحبّ ربعه ودياره ومنطقته ، بل يحبّ المنازل التي يمر بها المحبوب ، وربّما أحبّ الكلب الذي يحرس ظعنه، أومرّ في طريقه، أو نظر الى ربع محبوبه ، وحكاية وقوع مجنون على أقدام كلب ليلى مشهورة !! فكيف لا ينطلق لسان أولياء اللّه بالمحبة لكلّ العالم والمخلوقات لأنّها من آثار المحبوب.
ولا شكّ أنّ المحبّين على تفاوت مراتبهم وإختلاف مقاماتهم ودرجاتهم يبتهجون وينشرحون وينبسطون للقاء المحبوب ويحزنون ويكتئبون ويتألمون للحرمان منه سيما أولياء اللّه والمشتاقين الى إدراك فيوضات الرحمة اللامتناهية النازلة من الذات المقدسة، بحيث لو لم تكن آجالهم مقدرة لما استقرت أرواحهم في أبدانهم.
ص: 154
كما قال النبي الأكرم(صلی اللّه علیه وآله) : «لولا الآجال التي كتب اللّه عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم (1)
وقال تعالى : ( إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ).
ولايخفى على العرفاء وطلاب اللقاء أنّ معرفة اللّه ألاّ الأشياء، وليست ثمة لذة يمكن أن تتصور فوق تلك اللذة ، كما أنّ كلّ واحد من المحبين والعارفين والمشتاقين يكون توّاقا الى اللقاء، ومشتاقا الى الفيوضات والعطيات من اللّه الرحمن الرحیم بقدر معرفته، وهو يعلم أنّ حقيقة الحياة الخالدة في الدار التي هي دار الحيوان فيترنم لسانه بمناغاة الموت الذي يحقّق له ما يتمنى، ويرغب فيه لأنّه الراحة الأبدية، ويقوم في مقام الفناء، وهو في غاية السرور، ويتمنى إنطلاقته من هذا الدنيا التي عبّر عنها الحديث : أنّها سجن المؤمن وجنة الكافر (2)فيصل الى القرب الإلهي ويعيش في كنف المنان، فلا يهنأ بما يحرمه من هذا القرب، ويمنعه من هذا الفيض، ويحول بينه وبين لقاء ذي الجلال .
لذا قال سيد الأولياء وأشرف الأنقياء في دعائه الذي علمه كميل بن زياد : إلهي
ومولاي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر على فراقك .
وقال أيضا في معركة صفين بعد أن قتل عمار بن ياسر:
ألا أيّها الموت الذي لست تاركي *** أرحني فقد أفنيت كلّ خليلي
وقال لما ضربه ابن ملجم -لعنه اللّه -: فزت وربّ الكعبة .
وكذلك كانت فاطمة الزهراء(سلام اللّه عليها)فإنّها ضحكت لما سمعت أباها يخبرها بموتها كما روى العلامة المجلسي في البحار قال:
ص: 155
ثم أذن للنساء فدخلن عليه، فقال لإبنته : ادني منّي يا فاطمة، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها تهملان دموعا .
فقال لها : ادني مني، فدنت منه فأكبّت عليه فناجاها، فرفعت رأسها وهي
تضحك . فتعجبنا لما رأينا ، فسألناها .
فأخبرتنا أنّه نعى إليها نفسه فبكت ، فقال : يا بنية لا تجزعي، فإنّي سألت ربّي أن
يجعلك أول أهل بيتي لحاقا بي، فأخبرني أنّه قد استجاب لي فضحكت (1)
وفي الحديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال : لما أراد اللّه -تبارك وتعالى - قبض روح إبراهيم(علیه السلام) أهبط إليه ملك الموت ، فقال : السلام عليك يا إبراهيم .
قال : وعليك السلام يا ملك الموت، أداع أم ناع؟
:قال : بل داع - يا إبراهيم - فأجب.
قال إبراهيم(علیه السلام) : فهل رأيت خليلا ميت خليله ؟
فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي اللّه- جل جلاله - فقال : إلهي قد سمعت ما قال خليلك إبراهيم .
فقال اللّه - جلّ جلاله : يا ملك الموت اذهب إليه وقل له : هل رأيت حبيبا يكره
لقاء حبيبه، إنّ الحبيب يحبّ لقاء حبيبه(2)
وقال سيد الساجدين(علیه السلام) في المناجاة الخمسة عشر المنسوبة اليه : إلهي لقاؤك قرة عيني ، ووصلك منى نفسي ، واليك شوقي، وفي محبتك ولهي ، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبتي، وقربك غاية مسألتي، وفي مناجاتك روحي وراحتي، وعندك دواء علّتى (3)
ص: 156
ويقول أيضا(علیه السلام) : إلهي فاجعلني ممن شوقته الى لقائك.
وقال (علیه السلام) أيضا : إلهي ما أعذب شرب قربك ، وغلّتي لا يبرّدها إلّا وصلك، ولوعتي لا يطفئها إلّا لقاؤك(1)
وقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ) .
وفي الحديث القدسي المشهور : إذا طال شوق الأبرار الى لقاني، فأنا أشدّ شوقا
الى لقائهم(2).
وفي الحديث: من أحب لقاء اللّه تعالى أحبّ اللّه لقاءه (3)
بعد كلّ هذا فلماذا لا يبتسم سيد الشهداء والمظلومين حينما جلس الشمر اللعين
على صدره وبيده خنجره اللئيم ، وقبض على شيبته المقدسة.
فداء لبسمتك التي أحرقت قلوب العالمين
ص: 157
في بكاء الصديقة الصغرى زينب الكبرى(سلام اللّه علیها) بنت أمير المؤمنين(علیه السلام)
مما لا يخفى أنّ مصائب تلك المخدرة والشدائد والمحن والآلام التي مرت بكعبة الرزايا وأم المصائب لا يقوى أحد على تقريرها، ولا يستطيع قلم تحريرها، ولا يتمكن لسان من بيانها وتصويرها، ولكن لما كان الغرض من تأليف هذه النسخة الشريفة والكراسة المنيفة بيان المواضع التي بكى فيها أشرف الخاضعين وسيد الشهداء(علیه السلام) وسلطان المظلومين ، كان لابد من التعرض الى شريكته في الهم والغم والحزن، والتي تحملت معه الصبر على الآهات والآلام والمحن، وبكت على غربته وإنكسار قلبه يوم عاشوراء، لتكون مثيرة لأشجان الشيعة، فيشاركونها في البكاء والآهات ويتأسون بها في مواساة الأمام، ويتصوروا المصيبة التي نزلت بتلك المخدرة العفيفة بحيث خرجت من خدرها مذعورة باكية حزينة مسرعة، وهي الوقور التي لم ير أحد ظلّها قبل ذلك اليوم.
[لم أنس زينب بعد الخدر حاسرة *** تسبدي النياحة ألحانا فألحانا
مسجورة القلب إلّا أنّ أعينها *** كالمعصرات تصب الدمع عقيانا
ص: 158
تدعو أباها أمير المؤمنين ألا*** يا والدي حكمت فينا رعانا
وغاب عنا المحامي والكفيل فمن*** يحمي حمانا ومن يؤوي يتامانا
إن عسعس الليل وارى بذل أوجهنا *** وإن تنفس وجه الصبح أبدانا
ندعو فلا أحد يصبو لدعوتنا *** وإن شكونا فلا يصغى لشكوانا
قم يا علي فما هذا القعود وما *** عهدي تغض على الأقذاء أجفانا
وتنثني تارة تدعو مشائخها *** من شيبة الحمد أشياخا وشبانا
قوموا غضابا من الأجداث وإنتدبوا *** واستنقذوا من يد البلوى بقايانا ]
معاشر الشيعة، وأرباب العزاء، إنّ المستفاد من الروايات والأخبار الواردة عن أهل البيت الأطهار أنّ السيدة المخدرة عقيلة الطالبيين خرجت من خدرها في مصائب أخيها مسرعة ، مذهولة ساهمة ، مرعوبة وجلة ، مضطربة حيرى ، لا تلتفت الى شيء في تسعة مواضع:
عند الورود الى كربلاء
قال الشيخ المفيد(رحمة اللّه) في أنّه(علیه السلام) نزل كربلاء في الثاني من محرم الحرام.
وقال الشيخ الطريحي في المنتخب : فساروا جميعا حتى انتهوا الى أرض كربلاء...
ثم أنّه نزل عن فرسه وجلس بعد ذلك يصلح سيفه وهو يقول:
یا دهر أف لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل
إلى آخر الأبيات التي ذكرناها في الحديث الثاني من الموج الثالث.
ولم يزل يكرر هذه الأبيات حتى سمعت أخته زينب، فوثبت كعبة الرزايا وأم المصائب تجرّ ذيلها حتى أنتهت اليه وقالت له يا أخي وقرة عيني ليت الموت أعدمني الحياة، يا خليفة الماضين وثمال الباقين هذا كلام من أيقن بالموت
ص: 159
وا ثكلاه.. اليوم مات جدي محمد المصطفى(صلی اللّه علیه وآله)، وأبي علي المرتضى(علیه السلام)، وأمي فاطمة الزهراء(سلام اللّه علیها) ، وأخي الحسن الرضي المجتبى(علیه السلام).
فقال لها : يا أختاه لا يذهب بحلمك الشيطان ، تعزي بعزاء اللّه ، فإنّ أهل السماء والأرض يموتون، وكلّ شيء هالك إلّا وجهه، أبي خير منّي ولكلّ مسلم برسول اللّه أسوة.
فقالت : يا أخى تقتل وأنا أنظر اليك ؟ فردت غصته وتغرغرت عيناه بالدموع.
فقالت : يا أخى ردنا الى حرم جدنا.
فقال : لو ترك القطا لغفا ونام .
فقالت: واللّه يا أخي لا فرحت بعدك أبدا .
ثم أنّها لطمت وجهها ، وأهوت الى جيبها فشقته ، وخرت مغشية عليها (1)
[ لم أنس زينب حين وافت صنوها *** تدعوه یا كهفي وحسن تعففي]
فقام اليها الحسين(علیه السلام) وقال : يا أختاه بحقّي عليك إذا أنا قتلت فلا تشق
تشقي عليّ جيبا ، ولا تخمشي وجها، ولا تدعين بالويل والثبور ، ثم حملها حتى أدخلها الخيمة .
[ومضى يقصد الخيام ويدعو*** ودعيني يا أخت قبل الرحيل
ودعيني واستعملي الصبر إنّا *** من قبيل يفوق كلّ قبيل
شأننا إن طغت علينا خطوب *** نتلقى الأذى بصبر جميل
لا تشقي جيبا ولا تلطمي خدا *** فإنّا أهل الرضا والقبول
وإخلفيني على بناتي وكوني *** خیر مستخلف لأكرم جيل
وأطيعي إمامك السجاد *** ربّ التحريم والتحليل
وإذكرني إذا تنفلت بالليل *** عقيب التكبير والتهليل](2)
ص: 160
بكاؤها وخروجها(علیها سلام)عصر تاسوعاء
[وتبسّم العباس شوقا للوغى *** وبدا لنصر أخيه منه وثوب
بطل بدت فيه شجاعة حيدر *** أسد هصور للدما شرّيب
هزّ اللواء وغاص في جمع العدى *** ومشى الى الهيجاء وهو طروب
كالليث ينشب ظفره حتى غدا *** فيه لأظفار المنون نشوب
وغدا ابن أحمد بعدهم لا ناصر *** يحميه إلّا لهذم وقضيب
فرد یکرّ على الألوف فتنتحي *** طرق الفرار وفي القلوب وجيب
حتى هوى فوق الصعيد وحان من*** بدر التمام عن الأنام غروب
خمشت وجوه عند ذاك وشققت *** للطاهرات على الشهيد جيوب
یندبنه بمدامع مسفوحة *** بأبي وأمي ذلك المندوب
وبكته معولة شريعة أحمد *** وتعطل المفروض والمندوب
بأبي الغريب وإنّ صبري بعده *** لوكنت قد حاولته لغريب](1)
قال الراوي : وورد كتاب عبيد اللّه بن زياد على عمر بن سعد عصر تاسوعاء(2)- يحبّه على تعجيل القتال ويحذره من التأخير والإهمال، فركبوا نحوالحسين(علیه السلام) ، وأقبل شمر بن ذي الجوشن -لعنه اللّه - فنادى أين بنو أختي عبداللّه وجعفر والعباس وعثمان(علیهم السلام) .
فقال الحسين(علیه السلام) : أجيبوه وإن كان فاسقا ، فإنّه بعض أخو الكم.
قال المؤلف : كانت أم البنين(سلام اللّه علیها)أم العباس وأخوته من بني كلاب ، وهم من القبائل المعروفة عند العرب بالشجاعة والفروسية، وكان الشمر من بني كلاب.
ص: 161
أيضا (1)والمعروف عند العرب أن يقال لمن كانت أمه من قبيلتهم «أبناء الأخت أو أبناء الأخ، أو يخاطب بعضهم بعضا بالعم أو الخال»، ولذا قال الحسين(علیه السلام) لإخوانه :
فإنّه بعض أخو الكم (2)
فخرج اليه الاخوة الأربعة، فقالوا له : ما شأنك؟
فقال : يا بني أختي أنتم ،آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين (علیه السلام)، وألزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد.
فقالوا له جميعا : لعنك اللّه ولعن أمانك وناداه العباس بن علي(علیه السلام) : تبت يداك ولعن ما جئت به من أمانك يا عدو اللّه ، أتأمرنا أن نترك أخانا وسيدنا الحسين(علیه السلام) بن فاطمة (سلام اللّه) ، وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء. فرجع الشمر-لعنه اللّه - إلى عسكره مغضبا (3)
ثم نادى عمر بن سعد : يا خيل اللّه اركبي وبالجنة أبشري، فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر والحسين(علیه السلام) المجالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته الصيحة وهلاهل القوم وقعقعة السلاح وصهيل الخيل ولمعات السيوف والأسنة ، وهجومهم كالسيل على المخيم، فخرجت مذهولة مضطربة حيرى ، فدنت من أخيها المظلوم فقالت : يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت ! فرفع الحسين (علیه السلام)رأسه فقال : إنّي رأيت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وأبي وأمي وأخي الساعة في المنام فقالوا لي : إنك تروح إلينا.
فلطمت زینب(سلام اللّه علیها) وجهها ونادت بالويل.
ص: 162
فقال لها : ليس لك الويل يا أخية مهلا لا تشمتي بنا القوم ، اسكتي رحمك اللّه (1)
[وزينب تدعو والشجا يستفزها ***أخاها ودمع العين ينهل عندما
أخي يا حمى عزّي إذا الدهر سامني *** هوانا ولم يترك لي الدهر من حمی
لقد كان دهري فيك بالأمس مشرقا*** فها هو أمسى اليوم بعدك مظلما
قد كنت لي طودا ألوذ بجنبه *** وكهفا متى خطب ألمّ فألّما
رحلت وقد خلفتني بين صبية ***خماص الحشا حرّى القلوب على الظما] (2)
بكاؤها (علیه السلام)وخروجها ليلة العاشر
روى الشيخ المفيد : قال علي بن الحسين(علیه السلام) : إنّي لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمتي زينب تمرضني ، إذ إعتزل أبي في خباء له، وعنده جوین مولى أبي ذر الغفاري،وهو يعالج سيفه ويصلحه،وأبي يقول: یا دهر أف لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل *** وكلّ حي سالك سبيلي
ص: 163
فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل .
وأمّا عمتي فإنّها سمعت ما سمعت، وهي إمرأة، ومن شأن النساء الرقّة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها ، وإنّها لحاسرة، حتى انتهت إليه فقالت : وا ثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن (علیهم السلام)، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي .
فنظر إليها الحسين (علیه السلام) فقال لها : يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع وقال : لو ترك القطا لنام.
فقالت : يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصابا ، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي، ثم لطمت وجهها ، وهوت إلى جيبها فشقته، وخرت مغشيا عليها.
فقام إليها الحسين(علیه السلام) فصب على وجهها الماء وقال لها : يا أختاه إتقي اللّه وتعزي بعزاء اللّه، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلّا وجه اللّه الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون، وهو فرد وحده، أبي خير منّي، وأمي خير منّي وأخي خير منّي ولي ولكلّ مسلم برسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) أسوة ، فعزّاها بهذا ونحوه وقال لها (1)
يا أخية إنّي أقسمت فأبري قسمي ، لا تشقي عليّ جيبا ، ولا تخمشي علي وجها،
ولا تدعي عليّ بالويل والثبور(2)
ص: 164
بكاؤها وخروجها(علیها سلام) بعد صلاة الظهر
وقد ذكرنا ذلك مفصلا في الحديث الرابع من الموج الثالث، وهذا الحديث المشجي وإن لم يصرح بخروجها (علیهما سلام)من الخيمة ، إلّا أنّ سيد الشهداء(علیه السلام) لمّا أمر المخدرات بالخروج من الخيام، فخرجن ناشرات الشعور مناديات بالويل والثبور ومما لا شك فيه أنّ أول النساء إمتثالا لأمر المولى هي أم المصائب وكعبة الرزايا وصاحبة القلب المسجور زينب المهظومة ، فلابد أنّها خرجت تتقدم النساء حاسرة حافية القدمين نادبة مولولة ، كما صرح بذلك العارف البرغاني في هموم العارفين .
بكاؤها وخروجها(علیها السلام) في مصيبة علي الأكبر(علیه السلام)
وقد مرّ بيانه في الحديث السابع عشر من الموج الثالث.
بكاء قطب فلك الحياء وشمس دنيا الوفاء وخروجها(علیها السلام)
الى المصرع في شهادة قرين المحن والبلاء عبد اللّه بن الحسن(علیه السلام)
وقال المفيد والسيد : فلبثوا هنيئة ثم عادوا إلى الحسين(علیه السلام) وأحاطوا به ، فخرج عبد اللّه بن الحسن بن علي(علیه السلام)، و هو غلام لم يراهق من عند النساء يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين(علیه السلام)، فخرجت زينب(سلام اللّه علیها) بنت علي(علیه السلام) مذهولة، فلحقته لتحبسه فقال الحسين(علیه السلام) : إحبسيه يا أختي فأبى وإمتنع إمتناعا شديدا، وقال: لا واللّه لا أفارق عمي .
ص: 165
وأهوى أبحر بن كعب ، وقيل : حرملة بن كاهل ، إلى الحسين(علیه السلام) بالسيف، فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة، أتقتل عمي ؟ فضربه بالسيف، فإتقاه الغلام بيده ، فأطنها إلى الجلد ، فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام : يا عماه ، فأخذه الحسين(علیه السلام) فضمه إليه وقال : يا ابن أخي، إصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين.
قال السيد فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه الحسين(علیه السلام)(1)
[فلهفي له مذ طوّق السهم جيده *** كما زينته قبل ذاك تمائمه
ولهفى له لما أحس بحرّه *** وناغاه من طير المنية حائمه
هفا لعناق السبط مبتسم اللّما *** وداعا وهل غير العناق يلائمه
ولهفي على زوج الزكي وقد دجى *** عليها الدجى والدوح ناحت حمائمه
تسلل في الظلماء ترتاد طفلها *** وقد نجمت بين الضحايا علائمه
فمذلاح سهم النحر ودّت لو أنها *** تشاطره سهم الردى وتساهمه
أقلّته بالكفين ترشف ثغره *** وتلثم نحرا قبلها السهم لاثمه
بني لقد كنت الأنيس لوحشتي *** وسلواي إذ يسطو من الهم غائمه]
بكاؤها(علیها السلام) وخروجها ساهمة ذاهلة حينما سقط الحسين(علیه السلام) من فرسه
خرجت فخر المخدرات نادبة صارخة حافية عندما خرّ المظلوم الغريب من
سرج فرسه الى الأرض بعد أن أخذته الجراحات التي بلغت كما في البحار -
ص: 166
أربعة آلاف ومائة وثمانين جراحة بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم ، فتوسّد التراب، وتمدد على الرمضاء، وجعل يناجى ربّ الأرباب، وترك الخلق طرًا في محبة أنيس الغرباء والأحباب.
[فكأنّي أراه فردا وحيدا *** ظاميا بينهم يلاقي الكروبا
وكأنّي أراه إذ خرّ مطعو*** نا على حرّ وجهه مكبوبا
فكأنّي بزينب إذ رأته *** عاریا دامي الجبين تريبا
ثم خرّت عليه تلثم فيه *** وقد صار دمعها مسكوبا
وتنادي يا أخي لو رأت عين*** ناك حالي رأيت عجيبا
يا أخي لاحييت بعدك هيهات ***حياتي من بعدكم لن تطيبا
يا هلالا لما استتم كمالا *** غاله خسفه فأبدى غروبا ]
ولم أنسه يوم الطفوف وقد غدا *** یکرّ عليهم كرة بعدكرة
الى أن هوى فوق الصعيد مجدلا *** فأظلمت الدنيا له واقشعرت
وما أنسى لا أنسى النساء بكربلا ***حيارى عليهن المصائب صبت
ولما رأين المهر وافي وسرجه ***خليّا توافت بالنحيب ورنّت
تقول ودمع العين يسبق نطقها *** وفي قلبها نار المصائب شبّت
أخى يا هلالا غاب بعدکماله *** فأضحى نهاري بعده مثل ليلتي]
فلما رأت زينب (سلام اللّه علیها)أخيها سيد الشهداء وسلطان المظلومين واقعا على الرمضاء خرجت من الفسطاط وهي تنادي : وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه.
روی حمید بن مسلم قال : وخرجت زينب(سلام اللّه علیها) بنت علي(علیه السلام)، وقرطاها يجولان بين أذنيها ، وهي تقول : ليت السماء انطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل يا عمر بن سعد أيقتل أبو عبد اللّه وأنت تنظر إليه ؟ ! ودموع عمر تسيل
ص: 167
على خديه ولحيته وهو يصرف وجهه عنها ، والحسين(علیه السلام) جالس وعليه جبة خز وقد تحاماه الناس، فنادى شمر ويلكم ما تنتظرون به اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم (1)
وروى المفيد في الإرشاد قال : فنادت(علیهم سلام): ويحكم أما فيكم مسلم ، فلم يجبها أحد بشيء(2)
لهفي الغربة عقيلة الطالبيين وهي تستصرخ هؤلاء الأوغاد الكفرة، فلم تسمع منهم جوابا، وإعراضهم هذا من أكبر وأشدّ المصائب وأدهاها لو تأمّلها الشيعي بعين الإنصاف .
بكاؤها(علیهم (السلام) وخروجها بعد أن وعظ القوم ورجع
خرجت مخدرة البلاء والمحن وربّة الحياء والشجن من خدرها مضطربة باكية نادبة بعد أن وعظ الحسين(علیه السلام) القوم فلم ينفعهم الوعظ وأصرّوا على قتله وقالوا : قد علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا.
روي عن الإمام السجاد(علیه السلام) قال : إنّ أبي لما خطب القوم وسمع ردّهم رجع ودخل خيمة الحريم والأولاد ، وهو عطشان يبكى، فلمّا رأته النساء يبكي بكين وارتفعت أصواتهن .
فلما رأته عمتي زينب وقد سمعت كلامه مع القوم إضطربت إضطرابا شديدا، وخرجت تجرّ أذيالها، فقالت له : لهفي على غربتك أبي عبد اللّه(علیه السلام) ، هذا كلام من أيقن الموت !
ص: 168
فقال لها الحسين(علیه السلام) : وكيف لا يوقن بالموت من لا معين له ولا مجير ؟ ثم إختنق أبي بعبرته، وبكى.
فلما رأت عمتي أبي يبكي صاحت واثكلاه هذا أخي ينعى نفسه، وا محمداه ، وا
علياه وافاطمتاه ، وا حسناه واحسيناه.
ثم توجه الإمام قدوة الأبرار كما في بحار الأنوار الى ميدان القتال.
بكاؤها (علیها السلام)وخروجها لإستقباله(علیه السلام) بعد أن عاد بجراحاته الى المخيم
خرجت المظلومة الحزينة باكية نادبة صارخة والهة حينما رجع الحسين(علیه السلام) من الميدان حاسر الرأس مفلوق الهامة، والدماء تسيل على محاسنه الشريفة، وطلب من النساء خرقة يشدّ بها جرحه من ضربة السيف التي نزلت على رأسه المقدس. وخلاصة ما جرى(1): فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه، وهو في ذلك يطلب
شربة من ماء فلا يجدي ... فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال.
فبينا هو واقف إذ أتاه حجر ، فوقع على جبهته - التي كان يسجد عليها اللّه - فأخذ
الثوب ليمسح الدم عن جبهته، آه وا مصیبتاه، فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب ،
فوقع في صدره، فإنبعث الدم كالميزاب ، فقال الغريب المظلوم (علیه السلام): بسم اللّه وباللّه و على ملة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي أنت تعلم أنّهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره. ثم وضع يده ثانيا، فلما إمتلأت لطخ بها رأسه ولحيته وقال : هكذا أكون حتى ألقى
جدي رسول اللّه وأنا مخضوب بدمي ، وأقول : يا رسول اللّه قتلني فلان وفلان.
ص: 169
ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كأنّه ميزاب ، فضعف عن القتال، فوضع يده على الجرح ، فلما امتلأت رمى به إلى السماء، فما رجع من ذلك الدم قطرة .
قال المؤلف :
لعل السرّ في عدم رجوع الدم الى الأرض يكمن في أنّ سيد المظلومين كان يقصد من رميه الى السماء أن يقول بلسان الحال الكامن في هذا الإرسال أي إرسال الدم الى السماء وهو في أواخر لحظات هذا الجهاد المبارك :
أن يا ربّي ويا معبودي بالحق ويا سيدي، لقد تحمّلت كلّ ما جرى عليّ في رضاك، أهديتك ،شباني ، وتصدّقت لك باخوتي وأحبتي ، وقدّمت لك ولدي وفلذة كبدي، ولا أملك بعد سوى هذا البدن المنهك الممزق بالجراحات، وها أنا ذا أقدم لك روحي ، وأبذل مهجتي في رحابك المقدس.
وذلك-يا معاشر الشيعة-لأنّ وتين القلب إذا قطع فلا يمكن أن تستمر الحياة عادة إلّا في غاية الصعوبة، والظاهر أنّ السهم قد قطع وتينه الأقدس ، كما روى ابن طاووس في اللهوف وقال : فوقع على قلبه ، ولهذا قال سيد الشهداء(علیه السلام) عندئذ: بسم اللّه .
والمقصود من قوله : «بسم اللّه» في تلك الحال، أن يا ربّي وإلهي أقدّم لك هذا الجسم المقطع إربا ، وهذا القلب الممزق بالآهات والآلام والمحن، وذلك لأنّ المتعارف ذكر اسم اللّه على الذبيحة والاضحية التي يتقرب بها العبد الى اللّه .
ولما كان قاتل المولى سيد الشهداء(علیه السلام)كافرا ،قطعا ، فلم يرضی به ذبیح اللّه عليه فنطق هو(علیه السلام)بالبسملة .
ص: 170
وإنّما أخرج السهم المسموم من قفاه لأنّ إخراجه من الأمام غير ممكن بحال ، ثم رمى بالدم المنبعث في سبيل رضا اللّه هدية الى السماء فقبله الربّ المتعال، وأمر ملائكته أن يدخروه في خزائن الغيب المحفوظ في الخلد. فالتقطه الملائكة ولم ترجع منه قطرة الى الأرض.
[ما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين (علیه السلام)بدمه إلى السماء ]
وروي أنّه ما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين(علیه السلام) بدمه إلى السماء. ولعل السرّ في ظهور الحمرة في ذلك الزمان هو أنّ المولى إذا غضب على عبيده بسبب طغيانهم ومعاصيهم بان أثر ذلك في وجهه، فإحمرار الوجه علامة على السخط والغضب كما هو واضح لأهل البصيرة والمعرفة ..
ولما كان الحقّ - عزّ وجلّ - منزه عن الجسمية والصورة بان غضبه وسخطه على
أهل الطغيان والكفر بظهور الحمرة في السماء ، وسيبقى هذا الأثر الى يوم القيامة.
[لماذا لم ينهدم العالم وينعدم نظام الوجود بمقتل الحسين(علیه السلام) ؟]
وإن قلت : حقّ أن ينهدم العالم وينعدم نظام الوجود غضبا على هذه المصيبة العظمى.
قلت : حقّا تقول، كان ينبغي أن ينزل البلاء على أهل العالم أجمع، بما هو أشدّ مما نزل بقوم صالح وقوم يحيى وزكريا وأمم الأنبياء الآخرين، وذلك أنّ هذا الدم لا يقاس بدم ناقة صالح، الذي أهلك اللّه القهار من أجله عدة آلاف.
وهو أعظم من دم يحيى الذي أهلك اللّه سبعين الفا إنتقاما له.
وهولا يقاس بمعصية عبادة العجل ،وقد أهلك اللّه لها عدة آلاف.
ولا يقاس بتمرّد قوم نوح ، وقد أغرق اللّه العالم على إثره.
ص: 171
ولا يقاس بمعصية أصحاب السبت، وقد أهلكهم اللّه بمعصيتهم ...
وهكذا .. فليست ثمة معصية تقاس بها في أمة من الامم السالفة، ولكن وجود الإمام زين العابدين وسيد الساجدين(علیه السلام) هو الذي دفع البلاء عن الأرض، ومنع من نزول العذاب عاجلا ، فلم تشتعل نيران القهر الإلهي وهو القهار سريع الحساب شديد العقاب .
فقد ورد في بعض فقرات الزيارة الجامعة : بكم فتح اللّه وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويشهد لذلك الكثير مما ورد في الأدعية والروايات.
* * *
وفي رواية السيد ابن طاووس قال : ثم ضعف عن القتال ووقف (علیه السلام)، فكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهة أن يلقى اللّه ،بدمه حتى جاءه رجل من كندة يقال له مالك بن اليسر»، فشتم الحسين(علیه السلام)،آه وا مصيبتاه.. وضربه على رأسه الشريف بالسيف فقطع البرنس ، ووصل السيف إلى رأسه، فامتلأ البرنس دما.
قال المؤلف :
لعل المقصود هنا هو عمامته المطهرة ، كما حققنا ذلك في «التحفة الحسينية » ويؤكد ذلك كلام العلامة المجلسي في جلاء العيون حيث قال فضربه مالك بن اليسر بالسيف على رأسه الشريف فإمتلأت عمامته دما.
فدعا عليه الإمام(علیه السلام) فقال له : لا أكلت بها ولا شربت وحشرك اللّه مع الظالمين ،ثم ألقى العمامة على الأرض.
وفي مهيج الأحزان و مخزن البكاء أنّه(علیه السلام) توجّه بعد ذلك الى خيامه.
فيا معاشر الشيعة، ما كان حال العلويات والمخدرات حينما خرجن من الخيام فرأين سيد الشهداء(علیه السلام) بتلك الصورة، وهو مطبور الهامة ، حاسر الرأس ،
ص: 172
والدماء تشخب منه ووجهه ومحاسنه مخضبة بالدماء، كيف تمالكت النساء وما جرى على قلوبهن في تلك المصيبة العظمى ؟ وكيف كن يندبنه ويصرخن بالبكاء ؟ فلما جاء الى الخيام دعى بخرقة، فجيء بها اليه ، فشدّ بها جراح رأسه بيده الكريمة، واستدعى بقلنسوة فلبسها ، وإعتم عليها بعامة، ونادى يا زينب يا أم كلثوم يا رقية يا فاطمة عليكن مني السلام.
فتقدّمت أخته زينب(سلام اللّه علیها) فقالت : يا أخي أيقنت بالموت؟
فقال (علیه السلام): كيف لا أيقن وليس لي معين ولا نصير.
فقالت زينب (سلام اللّه علیها) : يا أخي أما تردّ هؤلاء النساء التواكل الى حرم جدنا ؟ فقال : هيهات هيهات، وكأنّي بكم غير بعيد كالعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب.
فلما سمعت مخدرة أمير المؤمنين(علیه السلام) لهذا الكلام جرت دموعها ونادت
وا وحدتاه واقلة ناصراه واشوم صباحاه.
ثم أهوت على جيبها فشقته والى شعرها فنشرته ، ولطمت وجهها .
فلما نظر اليها الحسين (علیه السلام) وهي بتلك الحالة قال : مهلا يا بنت المرتضى إنّ البكاء طويل.
قال المؤلف :
هذه الرواية لم تصرح بخروجها(علیها السلام) له من الخيام، إلّا أنّه من البعيد جدا أن يرجع الحسين(علیه السلام) وهو بتلك الحالة جريح الجسم قريح القلب حاسر الرأس، ومع ذلك تبقى الحزينة مستقرة في خيمتها (1)
ص: 173
بكاؤها (علیها السلام) الوخروجها نادبة باكية لاطمة بعد مقتل سيد الشهداء(علیه السلام)
حينما رجع ذو الجناح الى الخيمة ليخبر الحرم بشهادته(علیه السلام) ، وقد لطخ ناصيته بالدم المقدس ، وهو يصهل الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها». كما ذكر ذلك العارف البرغاني في الهموم.
تم ما أردنا تحريره في هذه الصحيفة المنيفة، وقد بدأنا العمل فيها في غرة شهر العزاء، وأتممناها ليلة أربعين سيد الشهداء(علیه السلام) روحي له الفداء،المصادف ليلة الثلاثاء، عند الرأس المقدس المنوّر المعطّر في مشهد الرضا عليه آلاف
التحية والثناء
والذي أرجوه من اخوتي في الإيمان أن لا ينسوني وأنا العاصي - من الدعاء والإستغفار عقيب مجالس العزاء، فإنّ لهذه المجالس شأنا يرقى بها الى درجات
عرش السماء.
* * *
[ بكاء الرأس المقدس في مجلس ابن زياد ]
ولما انتهيت من تأليف هذه الصحيفة الغراء شرعت بتأليف «سرور العارفين»
في أحوال المختار .
وبينما كنت مشغولا بالتأليف عثرت على رواية مشجية تحرق القلوب وتفتت الأكباد ، فأحببت إلحاقها بهذه الصحيفة المنيفة الشريفة، وهي كما في سرور المؤمنين :
ص: 174
لما دخل آل طه وياسين الى مجلس ابن زياد اللعين وهم بالحبال ،مربقين فاوقفوا بين يدي من يندى من ذكر اسمه الجبين وضعوا رأس المظلوم الحزين في طشت من ذهب، وأدخلوه على شرّ الخلق أجمعين، فمدّ اللعين يده وحمل الرأس المقدس ، فلما حمله قطرة من عين المظلوم الحسين (علیه السلام) الدمعة ،فجرت حتى سالت على فخذ الخبيث اللعين، فحفرت فخذه المشؤوم.
یا معاشر الشيعة ! لقد حيرتني هذه الدمعة الغريبة، فلماذا بكت عين الحسين(علیه السلام) في مجلس هذا الشيطان الأبتر ؟
قال بعضهم : بكي(علیه السلام) لدوران الأيام وإنتقال هذا الرأس المقدس الذي كان يغفو على عاتق الرسول (صلی اللّه علیه وآله) الى يد هذا الرجس الخبيث. وقيل : لأنّ عين قتيل آل الرسول ناظرة مبصرة ترى ما يجري من القبائح والشرور التي يرتكبها الأعداء والمنافقون.
وقيل : لأنّها نظرت الى مخدرات العفاف والعصمة حواسر في مجلس العبيد فبكت لحالها .
وقيل : ليكون ذلك حجة للشيعة والموالين ليعلموا أنّ الحسين(علیه السلام) يبقى صاحب معاجز حيّا كان أو ميتا، وأنّه يمتاز عن الخلق فى كلّ حال من أحواله. وقيل : ليكون سببا لمغفرة ذنوب الشيعة ، لأنّ كلّ من سمع أنّ إمامه بكى في هذا
الموقف، فإنّه سيبكي ويكون بكاؤه سببا لرحمته وشموله بالمغفرة والرضوان.
وقال الميرزا هادي : أظنّ أنّ بكاءه(علیه السلام)كان لحضور الأحباب في مجلس الأعداء، وإشتعال شموع محافل القدس في مجالس الأرذال .
قال المؤلف :
والذي أظنّه -أنا الحزين - أنّ مما لا شك فيه ولا ترديد أنّ رأس سلطان العالم
ليس كسائر الرؤوس:
ص: 175
فهو رأس مقدس ينظر ويرى ويسمع ويتكلّم .
ويقرأ كلام اللّه.
ويهدي النصارى وهو على الرمح .
ويدلّ الضالين .
ويردّ على مكنونات الضمائر .
ويدعو الراهب اليهودي في ديره الى الإسلام.
ولا يفتر لسانه عن ذكر اللّه والدعاء والمناجاة وتلاوة القرآن في كلّ الأحوال والأزمان، سواء كان فى مجلس اللعين الملحد باللّه والإيمان أو على رأس السنان، أو في تنور المنافق الخوّان، وسواء كان معلقا على جذع النخلة، أو مخبأ تحت الطشت والاجانة في بيت خولي والشمر ، وسواء كان في بيت يزيد أو في مجلسه. أمّا ما يخصّ حضوره في مجلس هذا اللعين المستحق لأليم العذاب والنيران وسخط الرحمن ، فإنّه كان أول مجلس يحضره الرأس المقدس مع بقية النسوان. فلما رأى أبو عبد اللّه(علیه السلام) نساءه وبناته وأخواته تتلظى مما بها من حضور
الديوان ، وهن بتلك الحالة حواسر مكبلين بالأغلال ، وهن وقوف بين يدي والأرذال ، سيما سيد الساجدين و زين العابدين(علیه السلام) وفلذة كبد ابن بنت سيد المرسلين، وهو عليل مقيّد بالأغلال والحبال، جرت دموعه المقدسة أمام عار العالمين في ذلك المجلس العام والناس كلّهم ينظرون.
آه وا مصيبتاه.. لم تر عين الحسين (علیه السلام) قبل ذلك اليوم أهل بيته وهم في ذّل الأسر بين يدي هؤلاء السفلة الأرجاس ، وهم في تلك الحالة في الملأ العام « يتصفحهن القريب والبعيد .
ص: 176
وذلك أنّ آخر لقاء كان بين سيد المظلومين العطاشى وبين أهل بيته حينا ودّعهم عاشوراء قبل شهادته(علیه السلام)، وقد فرّقوا بينه وبينهم يوم عاشوراء، لأنّ عمر بن سعد عجّل بالرأس المقدس مع حميد بن مسلم الأزدي وشمر بن ذي الجوشن الى ابن زیاد (1)
فلما هرعت النسوة الى جسد أبي عبد اللّه(علیه السلام) كان جنة بلا رأس، فهو لم يشاهد نساءه وحرمه بعينه بعد أن هجم العدو على خيامهن وسلبهن وأذاقهن ذلّ الأسر ، فحقّ له أن يبكيهن وهو يراهن بتلك الحالة بين يدي أبناء الزنا وجنود الشيطان.
ثم إنّ القاعدة في المسافر إذا التقى أهل بيته فإنّه ستفيض عينه بدموع الشوق
وفرحة اللقاء لشدّة محبته وفرط مودته وشوقه فلا يتمالك ويفلت من يده زمام
الصبر حينما يلقاهم وهم سالمون غانمون منعمون، فكيف لا يبكي وهو يراهم في تلك الحال أبطال صامدون لا يخافون الموت ولا يهابون المنون ؟!
فداء لقلبك الحزين وعينك الجارية بدموع الحنين .
ثم إنّ كوفان كانت مدينة كان فيها الحاكم والأمير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وقد كاتب أكثر شخصياتها سيد الشهداء(علیه السلام) ، وأكدوا له أنّهم جند مجندون، وأنّهم لا إمام لهم ، وأنّهم سيفدونه بأنفسهم وأهليهم، فربما كان بكاؤه(علیه السلام) لأحدى جهتين :
الأولى : أنّه رأى أهل بيته في ذلّ الأسر بين قوم كان أميرهم أمير المؤمنين(علیه السلام). الثانية : أنّه بكى لما رآه من خيانتهم وعدم وفائهم بعهودهم ومواثيقهم ووعودهم ، فهم ينظرون الى أهل بيته في ذلّ الأسر، وما بهم من الضر والألم،
ص: 177
ومع ذلك لا يسعون في خلاصهم وفكاكهم، بل وقفوا موقف المتفرّج عليهم، ولم يقوموا بواجب الضيافة، وكأنّهم نسوا آداب الضيافة، أو تناسوها ، أو أنّ آداب
الضيافة كانت عندهم ما فعلوه من الخذلان والخيانة والإنقلاب على السادة.
هذا ما كان من دموع الرأس المقدس على أهل بيته ، ولكن يا شيعة - كيف كان حال العائلة حينما نظروا الى الرأس المقدس المنوّر في المجلس العام، وهو بيد اللعين المشؤوم مخضبا بدمائه، وهو المجلس الأول الذي التقوا فيه بالرأس المقدّس المضرج بالدماء ؟ !
ص: 178
مقدمه المولف ...
الطوفان في إنكسار قلب المولى
وأسباب إنكساره والخواص المترتبة على ذلك وعلة بكاءه(علیه السلام) ...11
في الردّ على الملا الرومي ...31
البكاء على الحسين(علیه السلام)يهدم أساس مدرسة الخلفاء...32
لماذا بكى الحسين(علیه السلام) في كربلاء...34
الموج الأول
في بكاء أشرف الخاضعين وأفضل الخاشعين قبل واقعة كربلاء
الحديث الأول:بكاؤه حينماكان النبي الخاتم محمدبن عبداللّه(علیه السلام)...37
الحديث الثاني بكاؤه حينما جاء سلمان الى بيت فاطمة(سلام اللّه علیها)...40
الحديث الثالث : بكاؤه حينما أخرج الأشقياء أمير المؤمنين وسيد الأنقياء...41
ص: 179
الحديث الرابع : في مصيبة أمه فاطمة(سلام اللّه علیها)...42
الحديث الخامس : في مصيبة أمير المؤمنين(علیه السلام)...43
الحديث السادس : بكاؤه لبكاء أخيه الحسن (علیه السلام)في قصة البدوية...46
الحديث السابع : بكاؤه لما نظر الى أخيه المظلوم مسموما آيسا من الحياة ...47
الحديث الثامن : كيف ما قبلته كأخيه الحسن وقد أتاني باكيا ...48
الحديث التاسع : الزهراء(سلام اللّه علیها)نائمة والحسين في مهده يبكي ...53
الحديث العاشر : جئتك قبل جریان دموع الحسين(علیه السلام)...54
الحديث الحادي عشر: الأطفال يلعبون و الحسين(علیه السلام) جالس وهو يبكي...55
الحديث الثاني عشر : مرّ النبي اللّه(صلی اللّه علیه وآله) على بيت فاطمة(سلام اللّه علیها) فسمع الحسين(علیه السلام) يبكي ...57
الحديث الثالث عشر : سمع النبي اللّه (صلی اللّه علیه وآله)بكاء الحسن والحسين (علیهما سلام) وهو على المنبر...57
الا الحديث الرابع عشر:جاءالحسن والحسين(علیهما سلام) قميصان أحمران...58
الحديث الخامس عشر : قرصته أم الفضل فبكى ...58
الحديث السادس عشر : دخل الحسين (علیه السلام) يوما إلى الحسن (علیه السلام) فلما نظر إليه بكي...61
الحديث السابع عشر: بكاؤه(علیه السلام)حينما سمع كلام غلامه صافي ...60
الحديث الثامن عشر : سقط الحسين(علیه السلام) وبكى ...61
الحديث التاسع عشر:قعد جبرئيل يلهيه عن البكاءحتى استيقظت ...61
الحسن والحسين(علیهما السلام) يبكيان من الجوع...62
لو قطّر قطرة من دمعه في الأرض لبقيت المجاعة الى يوم القيامة...62
الموج الثاني
في بكائه(علیه السلام) منذ أن ودّع روضة جده(صلی اللّه علیه وآله) في المدينة متوجها الى العراق الغارق في النفاق والمنازل التي حزن فيها وبكى سيد المظلومين الى أن نزل كربلاء
الحديث الأول : بكاء سيد الشهداء لا حينما ودّع روضة جدّه ...64
ص: 180
الحديث الثاني : بكاؤه(علیه السلام) حينما ودّع قبر جده رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ثانية...65
الحديث الثالث : بكاؤه (علیه السلام)حينما ذهب يودع أمه(سلام اللّه علیها)...67
بكاؤه (علیه السلام)عند قبر جدته خديجة(سلام اللّه علیها) ...67
بكاؤه (علیه السلام) في الطريق...68
الحديث الرابع : بكاؤه(علیه السلام)حينما خرج من منزل الثعلبية ...68
الحديث الخامس:بكاؤه(علیه السلام)حينما سمع بخبر شهادة قيس بن مسهر...69
الحديث السادس:بكاؤه(علیه السلام)حينما سمع بخبرشهادة عبداللّه بن يقطر...71
الحديث السابع : بكاؤه(علیه السلام) حينما التقى الشيخ من بني عكرمة...72
بكاؤه (علیه السلام)حينما سمع بخبر شهادة مسلم بن عقيل(علیه السلام)...73 الحديث الثامن : بكاؤه(علیه السلام)حينما نزل أرض كربلاء وسمع بإسمها...76
الموج الثالث
في بكائه(علیه السلام) منذ نزوله كربلاء إلى حين شهادته وتبسمه لحظة استشهاده (علیه السلام) وسرّ ذلك التبسم
الحديث الأول : بكاؤه(علیه السلام) لما نزل أرض كربلاء وجمع أولاده واخوته ...79
الحديث الثاني : بكاؤه (علیه السلام) مواسيا لربّة الخدر زينب(سلام اللّه علیها)...80
بكاؤها على أنصاره ...81
الحديث الثالث : بكاؤه(علیه السلام) حينما شكت له زوجة وهب بن عبد اللّه الكلبي حالها...81
الحديث الرابع : بكاؤه(علیه السلام) حينما وقف على مصرع حبیب بن مظاهر...84
الحديث الخامس : بكاؤه(علیه السلام) حينما وقف على مصرع الغلام التركي ...87
شهادة جون مولى أبي ذر...89
بكاؤه(علیه السلام)حينما إستشهد الحر...90
بكاؤه (علیه السلام) على أهل بيته ...92
ص: 181
الحديث السادس : بكاؤه(علیه السلام)حينما استشهد جعفربن عقيل...92
الحديث السابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر : بكاؤه (علیه السلام)في مصيبة القاسم ابن الحسن (علیه السلام) ...94
الموضع الأول : بكاؤه(علیه السلام)حينما جاءه القاسم المظلوم ليستأذنه في القتال ...94
الموضع الثاني : بكاؤه(علیه السلام) حينما نظر الى خط أخيه الحسن(علیه السلام)...95
الموضع الثالث : بكاؤه (علیه السلام)حينما عاد اليه القاسم (علیه السلام)يطلب منه الماء... 96
الموضع الرابع : بكاؤه(علیه السلام)حينما وقف على مصرعه...97
الموضع الخامس : بكاؤه(علیه السلام) حينما جاء به الى الخيمة...99
بكاؤه (علیه السلام)حينما استشهد أحمد بن الحسن(علیه السلام)...100
الحديث الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر : بكاؤه(علیه السلام) في مصيبة زبدة الناس سيدنا العباس(علیه السلام)...101
الموضع الأول : بكاؤه(علیه السلام)حينما جاءه العباس (علیه السلام)يطلب منه الإذن للبراز...101
الموضع الثاني : بكاؤه (علیه السلام)حينما ذهب زبدة الناس سيدنا العباس ...103
الموضع الثالث : بكاؤه(علیه السلام)حينما سمع استغاثة العباس(علیه السلام): يا أخا أدرك أخاك...105
الموضع الرابع : بكاؤه(علیه السلام)حينما وقف على مصرع أخيه...107
بكاؤه(علیه السلام) عند مصرع ابن أخيه العباس (علیه السلام)... 110
الحديث السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين : بكاؤه(علیه السلام) في مصيبة علي الأكبر(علیه السلام) شبيه النبي المرسل (صلی اللّه علیه وآله)...112
الموضع الأول : بكاؤه(علیه السلام) حينما جاءه ولده علي الأكبر(علیه السلام) يستأذنه للقتال ...112
الموضع الثاني : بكاؤه(علیه السلام)حينما أوصاه ولده على الأكبر(علیه السلام) بأمه...113
الموضع الثالث : بكاؤه(علیه السلام)حينما رجع اليه فلذة كبده...114
الموضع الرابع : بكاؤه (علیه السلام)حينما سمع إستغاثة ولده على(علیه السلام)...115
الموضع الخامس : بكاؤه(علیه السلام) حينما جلس عند جسد ولده...116
الموضع السادس : بكاؤه(علیه السلام)حينما دخل الفسطاط بعد شهادة علي الأكبر(علیه السلام)...120
ص: 182
الحديث الثاني والعشرون : بكاؤه (علیه السلام)حينما أصاب السهم نحر ولده الرضيع(علیه السلام)...122
الحديث الثالث والعشرون : بكاؤه (علیه السلام)حينما ودع عياله وتوجه الى الميدان...128
الحديث الرابع والعشرون : بكاؤه (علیه السام)حينما وعظ عسكر الشقاء...133
الحديث الخامس والعشرون : بكاؤه(علیه السلام)حينما رجع الى الخيام ...137
الحديث السادس والعشرون : بكاؤه(علیه السلام)حينما جروا ولده عبد اللّه(علیه السلام)...138
بكاؤه(علیه السلام)حينما أفاق من غشيته فوثب ليقوم فلم يقدر...139
الحديث السابع والعشرون : ضحكه(علیه السلام)حينما أقدم عليه الشمر اللعين ليقتله...141
الموج الرابع
في بكاء الصديقة الصغرى زينب الكبرى(سلام اللّه علیها) بنت أمير المؤمنين(علیه السلام)...158
الموضع الأول : عند الورود الى كربلاء ...159
الموضع الثاني : بكاؤها وخروجها(علیها السلام) عصر تاسوعاء...161
الموضع الثالث : بكاؤها (علیها السلام) وخروجها ليلة العاشر...163
الموضع الرابع : بكاؤها وخروجها(علیها السلام) بعد صلاة الظهر...165
الموضع الخامس : بكاؤها وخروجها(علیها السلام) لنا في مصيبة على الأكبر(علیه السلام)...165
الموضع السادس : بكاء قطب فلك الحياء وشمس دنيا الوفاء وخروجها(علیها السلام)...165
الموضع السابع : بكاؤها(علیه السلام) وخروجها ساهمة ذاهلة...166
الموضع الثامن : بكاؤها(علیها السلام) وخروجها بعد أن وعظ القوم ورجع...168
الموضع التاسع : بكاؤها(علیه السلام) وخروجها لإستقباله(علیه السلام) بعد أن عاد بجراحاته الى المخيم ...169
ما عرفت الحمرة فى السماء حتى رمى الحسين (علیه السلام)بدمه إلى السماء...171
لماذا لم ينهدم العالم وينعدم نظام الوجود بمقتل الحسين(علیه السلام)؟...171
ص: 183
موضع آخر : بكاؤها (علیه السلام) وخروجها نادبة باكية لاطمة بعد مقتل سيد الشهداء(علیه السلام)... 174
بكاء الرأس المقدس في مجلس ابن زياد...174
الفهرست ...179
ص: 184