الطاف الباري
من نفحات
الإمام السبزواري قد سرّه
تأليف
العلامة السيّد عبد الستار الحسني
ISBN 964 - 8495 - 12 - 2
المطبعة: کوثر
الناشر: الأولى / 1425 ه-
ص: 1
ص: 2
الطاف الباري
من نفحات
الإمام السبزواري قد سرّه
تأليف
العلامة السيّد عبد الستار الحسني
ص: 3
شابك : 2 - 12 - 495 - 964
ISBN 964 - 8495 - 12 - 2
اسم الكتاب: ألطاف الباري
تأليف: السيد عبد الستار الحسني
الفلم والألواح الحساسة:
ISBN 964 - 8495 - 12 - 2
ألطاف الباري
السيد عبد الستار الحسني
الفلم والألواح الحساسة: تیزهوش
المطبعة: کوثر
الناشر: الأولى / 1425 ه-
الكمية: 1000
السعر:
ص: 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 5
ص: 6
قال سبحانه :
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه من عباده الْعُلَماء }
سورة فاطر / الآية (28).
وقال سبحانه:
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات}
سورة المجادلة / الآية (11).
ص: 7
ص: 8
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إلى سلالة الشرف الباذخ، والمجد المؤثل مفخرة العلماء والأعلام في حاضرة العلم الكبرى النجف الأشرف زناد الفضل الواري سماحة السيّد علي الموسوي السبزواري دام ظلّه أقدم هذا المجهود المتواضع في إحياء ذكرى والده العظيم سيّد الطائفة وإمام المجتهدين السيّد السبزواري الكبير قدس سرّه.
راجيا قبوله والتفضل بقبول العذر عن القصور والتقصير.
أتت سليمان يوم العرض قبرة*** تهدي إليه جرادا كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلة *** أنّ الهدايا على مقدار مهديها
ص: 9
ص: 10
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد الله الذي رفع العلم والعمل الصالح أقدار العلماء العاملين، وقصر خشيته عليهم في محكم الذكر المبين فقال وهو أصدق القائلين: {اِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مٍن عٍبادٍهٍ العُلَمَاءُ }تقديراً لفضلهم، وتقويماً (1)(1) لعلو شرفهم وإشادة بعظيم مقامهم، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياءوالمرسلين مدينة علم الله تعالى محمّد المصطفى صلّی علی علیه وآله وسلم وعلى بابها المأتي منه (2)صلّى الله عليهما وعلى آلهما الطاهرين. وبعد: فلا أحسبني تهيبت موضوعا ممّا قُدر لي أن أجيل يراعي فيه كتهيبي في الكتابة عن (شخصية الإمام سليل الأئمة السيّد السبزواري قدس سرّه) ما عسى أن يقول القائل مهما بلغ من بلاغة اللسان وبراعة البيان في رجل من طراز الإمام آية الله العظمى صفوة الفقهاء والمجتهدين، وإمام أهل العرفان الواصلين، وقرم
ص: 11
جهابذة المحققين وعلم الأصوليين، وواسطة عقد السادات الأشراف من آل طه وياسين مولانا الفقيه الأعظم الحاج السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قدّس الله روحه ،ونوَّر ضريحه.
أجل لقد رأيتني على ساحل بحر محيط تنحسر الأبصار دون الإحاطة بساحله الآخر فكيف بمخر عبابه؟!..
إن الإمام السيّد السبزواري طيّب الله ثراه (أمّة وحده) بكل ما لهذه الكلمة مداليل فهو في العلم والفقاهة والأصول والتفسير والعرفان وعلوم الحديث ومعرفة الرجال والفلسفة والأخلاق والورع وسائر الخصوصيات التي أنفرد بها عن أعلام زمانه آية الآيات، وحجة الحجج، و(القدر المتيقن) من مصاديق قول جدّه صلّی علی علیه وآله وسلم :«العلماء ورثة الأنبياء».
وكلّ خصلة من هاتيك الخصال الكريمة والخصائص المميزة يستنفد الحديث عنها مداداً كثيراً وصحفاً أكثر ولا أظن الواصف - بعد ذلك - مستغرقاً تلك الأوصاف أو مستوفياً جوانب العظمة في شخصية سيّدنا الإمام رضوان الله عليه.
وأين الثريا من يد المتناول ؟!!
ص: 12
هو الإمام السيّد عبد الأعلى ابن العلامة الحجة السيّد علي رضا ابن العلامة السيّد عبد العلي ابن السيّد عبد الغني ابن السيّد محمّد ابن السيّد حسين (1)(1) ابن السيّد علي بن السيّد مسعود المعروف ب- ( عيشي ) ابن السيّد إبراهيم ابن السيّد حسن
ابن السيّد شرف الدين ابن السيّد مرتضى ابن السيّد زين العابدين ابن السيّد محمّد ابن السيّد أحمد ابن السيّد محمّد ابن السيد أحمد ابن الفقيه محمد شمس الدين ابن أحمد بن علي ابن أبي الغنائم محمّد بن أبي الفتح الأخرس ابن أبي محمد بن إبراهيم بن أبي الفتيان ابن عبد الله بن الحسن بركة بن أبي الطيّب أحمد بن الحسن بن محمّد الحائري ابن إبراهيم المجاب بن محمّد العابد ابن الإمام موسى
الكاظم عليه السلام بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بن الإمام محمّد الباقر عليه السلام بن الإمام علي زين العابدين عليه السلام ابن الإمام الحسين السبط عليه السلام ابن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ووسائط هذا النسب الشريف من الفقيه محمّد شمس الدين إلى الإمام موسى
ص: 13
الكاظم عليه السلام منقولة من كتاب (عمدة الطالب في أنساب (1) (1)آل أبي طالب) للعلامة النسّابة السيّد أحمد بن علي جمال الدين الحسني الداودي الحلّي المعروف بابن عنبة المتوفي سنة 828 ه- ، والذي في مشجرة السادة الأجلاء آل الخرسان النجفيين زاد الله في شرفهم أنّ السيّد الحسن بركة هو ابن السيّد معصوم بن أبي الطيّب أحمد ، اعتماداً على (تحفة الأزهار ) للسيّد ضامن بن شدقم الحسيني الأعرجي المدني المعاصر للسيّد مسعود عيشي.
وقد نصّ السيّد الداودي صاحب (العمدة) أنّ السيّد معصوماً هو ابن أبي أحمد وأنّ الحسن بركة أخوه لا ولده قال في (العمدة) ص 218 :ومعصوم بن أبي الطيّب هو جد (آل معصوم )بالحلّة والحائر، والحسن بركة بن أبي الطيّب هو جد (آل الأخرس).. فتأمل.
وأمّا السيّد علي بن السيّد مسعود عيشي فقد ذكره العلامة الفقيه النسّابة آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي المتوفي في مدينة قمّ المقدسّة سنة 411 في مشجراته التي رسمها للسادة آل الكتابجي في طهران ونصّ على أنّ عقبه في سبزوار وكلاته.. وذكر من عقبه السيّد عبد الغني ابن السيّد محمّد ابن السيّد حسين ابن السيّد علي المذكور، وهو الجدّ الثاني لسيّدنا الإمام السيّد السبزوار على ما جاء مسطورا في (المشجر الوافي) للسيّد الجليل المعاصر دام توفيقه. وبيت سيّدنا المترجم له رضوان الله عليه من أعرق بيوتات العلم والفقه
ص: 14
والشرف والسيادة والورع والتقوى في بلدة سبزوار، برز فيه غير واحد من أعلام الفضل والفقاهة والورع منهم والده العلامة الفقيه الورع السيّد علي رضا الموسوي الافقهي السبزواري رضوان الله عليه.
ومن مشاهير أهل هذا البيت الطاهر: العلامة الفقيه الكبير السيّد عبد الله ابن السیّد حسن ابن السيّد عبد الرحيم بن السيّد الميرزا علي أصغر ابن السيّد عبد الغني الموسوي السبزواري المعروف بالبرهان ترجم له العلامة الإمام الطهراني في (نقباء البشر) من موسوعته (طبقات أعلام الشيعة) ووصفه بأنّه (عالم فاضل وواعظ متبحر بارع من سلالة علوية شريفة معروفة بالرقي والمجد وفي أجداده علماء أعلام) وكان من أساتذته العلامة الفقيه السيّد حسين بن محسن العلوي السبزواري، وبرع في الفقه وأصوله والكلام وغيرها من العلوم وأصبح من رجال الفضل المشاهير وأعلام الخطابة والوعظ والإرشاد له آثار منها رسالة في البداء، والكوكب الأسعد في مولد سيّدنا محمّد صلی علی علیه وآله ، وتقريرات أساتذته، وغاية الإفادة في أسرار الشهادة، وحقيقة الإبداع في تفسير آية الخلافة، واللطمة على منكري العصمة.
ومن هذه الأسرة الشريفة: العلامة الفقيه الكبير آية الله السيّد فخر الدين ابن السيّد علي رضا الموسوي السبزواري المتوفى في سنة 1403 5، وهو أخو سيّدنا الإمام السبزواري قدس سرّه.
وكان من الفضل والورع والسلوك على جانب كبير ، وكان آية من آيات المولى تبارك وتعالى في جمال السيرة وطيب السريرة ومفخرة من مفاخر الإسلام في هذا العصر.
ص: 15
وأمّا نسبته (السبزواري) فإلى مدينة سبزوار المدينة العريقة بالولاء والتشيّع، العامرة بأهل العلم ورواد الفضيلة في كلّ عصر وجيل. وكانت في القديم (قاعدة بيهق) الصقع الواقع بين نيسابور وفارس وهي من بلاد الشيعة الإمامية قديماً وحديثاً وأهلها في التشيّع أشهر من أهل خاف وباخرز في التسنن كما حكاه المحدث القمّي عن آية الله السيّد بحر العلوم في ترجمة (البيهقي) من (الكنى والألقاب) 102/2.
وهي اليوم في الشمال من إيران في ولاية خراسان وتقع إلى الغرب من نيسابور.
ص: 16
ولد رضوان الله تعالى عليه في يوم الغدير المبارك - الثامن عشر من ذي الحجة الحرام - سنة 1329 ه(1)(1) في مدينة سبزوار ، وقد شاء المولى تبارك وتعالى أن يضفي على هذا المولود النجيب جلابيب اليمن والخير والبركة إذ اختار لولادته ذلك اليوم العظيم الذي أكمل به الدين وأتّم النعمة على المسلمين بولاية خير الخلق بعد رسول الله صلّى الله عليهما وعلى آلهما المعصومين.
عید به اجتمعت ولاية حيدر*** وولادة المولى الفقيه الاروع
وبيمنه (وترا) أتى في عالم ال-*** أعياد في بركاته (لم يشفع)
ص: 17
ص: 18
ممّا لا يكاد يختلف فيه إثنان، ولا يباين ما أقرّه الحس والوجدان هو تأثير النشأة الأولى للطفل في تحديد سلوكه وتعيين معالم شخصيته بصرف النظر عن تشخيص (هوية (1)(1) تلك النشأة) فالتأثير حاصل على كلّ حال، هذه هي القاعدة ولا عبرة بالاستثناء الذي لا تنخرم القاعدة بمثله(2).(2)
وقد فتح سيّدنا المعظم طاب ثراه عينيه في ذلك البيت الطاهر الذي:
یکاد من هيبه ألا تطوف به*** حتّى الملائك لولا أنّهم خدم
البيت الذي ورث الشرف والسؤدد والعلم والعمل والزهد والورع من سادة الخلق محمّد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وتجسدت فيه معاني الفضيلة والخير والصلاح بأبهى صورها وأبهج حبرها.
فكان مصداق العبارة المشهورة (خير خلف لخير سلف). وكان لسان حال أهل هذا البيت الشريف لا يفتأ يردد قول سيّدنا الشريف الرضي الموسوي رضوان الله عليه :
ماعذر من ضربت به أعراقه*** حتّى بلغن إلى النبي محمّد
ألا يمد إلى المكارم باعه ***وينال منقطع العلا والسؤدد؟!
ص: 19
نشأ سيّدنا رضوان الله عليه نشأة صالحة وأنبته الله نباتاً حسناً في ذلك الجو العابق بأشذاء رياض التقوى المضمخ بعبير النفحات القدسية والفيض الربّاني الذي كان يغشى تلك العراص الطاهرة فيجعل منها روضة باسقة الأفنان متهدلة الأغصان بثمار الفضيلة والعرفان. وشبّ ذلك الطفل المبارك تحت رعاية أب جليل القدر، عالي المقام، مشهود له بالفضل والورع والعلم والشرف الأصيل والمحد الأثيل هو العلامة الفقيه السيّد علي رضا الموسوي الأفقهي السبزواري طيّب الله ثراه ومن الطبيعي أن يتأثر الولد بأبيه ويقفو خطاه ويجري في مداه ويهتدي بهداه إذا كان الوالد من طراز السيّد علي رضا السبزواري ذلك والولد من طراز السيّد عبد الأعلى عليهما رضوان الملك الأعلى.
بأبه أقتدى عدي في الكرم*** ومن يشابه أبه ما ظلم
وما أن شبّ عن الطوق وتفتحت لتلقي العلوم والمعارف مداركه حتّى أخذ والده المقدس بضبعه نحو سلوك النهج اللاحب والسبيل المهيع لارتشاف ضروب العلم والتزود من فنون المعرفة من مناهلها المترعة.. وكان له ما أراد.
ص: 20
شاءت إرادة المولى تبارك وتعالى أن تتهيأ لهذا الفتى النجيب أسباب الترقي والعروج إلى ذرى المراتب الشريفة في علوم الشريعة الغرّاء بما قيض له في مطلع حياته المباركة من بيأة (1)(1) علمية مشبّعة الأجواء بنفحات الفيوضات الربّانية زاخرة بأساطين العلماء وأئمة الفقهاء من أعلام(مدرسة أهل البيت علیه السلام ). وكانت الدراسات الفقهية والأصولية في مدينة سبزوار يومئذ قائمة على قدم وساق وقد ترعرع سيّدنا المعظم في كنف البيت العلمي الرفيع الذي أخذ من هاتيك الدراسات الراقية بالنصيب الأوفى وغنم من بركات علوم آل محمّدصلی علی علیه وآله الحظ الأوفر، مع ما ازدانت به رحاب ذلك البيت الطاهر من نجوم الهداية والكواكب اللامعة من جهابذة المحققين والعرفاء المتألهين. وقد شملته عناية الله تعالى ورعايته فكان منذ نعومة أظفاره مطمح الأنظار وقبلة ذوي الفراسة ومنتجع الأخيار:
وكم من صغير لاحظته عناية ***من الله فأحتاجت إليه الأكابر
وكان من أوائل أساتذته:
والده العلامة أعلى الله مقامه إذ درس عليه المقدمات وجملة من السطوح فقهاً وأصولاً على قواعد المدارس العلمية الراقية من حيث التدرج في معارج المعارف فكان والده المقدس وأستاذه الأول يغذيه من مناهل الحكمة المترعة
ص: 21
بجواهر المعارف ويتعاهده بالتربية الإسلامية العالية لما أنس فيه من قوة المدارك وسلامة الذوق والنبوغ المبكر والمواهب اللافتة للأنظار.. كيف لا وقد:
غمرته من منن الكريم فواضل*** فتجسدت ب(مواهب الرحمن)
و(مهذب الأحكام) أكبر شاهد ***لعلو رتبته على الأقران
ص: 22
ثمّ طمحت نفسه الشريفة إلى المزيد من العلم والمعرفة فيمم وجهه شطر مشهد الإمام أبي الحسن الرضا علیه السلام وكانت مدينة مشهد في ذلك الأوان حاضرة من حواضر العلم فألقى رحاله في جوار ثامن الأئمة عليه السلام وحضر عند جماعة من أعلام الفضل في تلك المدينة المقدسة وممن حضرتنا أسماؤهم منهم:
.1الأديب النيسابوري الأول أخذ منه الأدب.
.2 آية الله الشيخ محمّد حسن البرسي أخذ منه الفقه والأصول.
.3 آية الله السيّد آغا الحكيم أخذ منه الفلسفة والحكمة.
.4 آية الله السيد محمّد العصار أخذ منه الفلسفة والحكمة أيضاً.
5. الإمام العارف بالله صاحب الكرامات الباهرة الشيخ حسن علي الاصفهاني
(المقدادي) (1)(1) فقد حضر سيّدنا الأجل قدس سرّه دروس قدس هذا العالم المقدس واقتبس من أنوار معارفه وكان هذا الشيخ الجليل من أئمّة السالكين وأصحاب الأحوال والمقامات العرفانية العالية وكانت له كرامات ومكاشفات عجيبة منها أنّه كان في أحد مجالس تدريسه كتاب (الصافي) في التفسير للفيض الكاشاني رحمه الله وبينما
ص: 23
كان يقرر الدرس إذ أغمض عينيه فجأة وقطع الكلام وكأنّه غط في نوم عميق فلم يجرأ أحد من تلامذته على أن ينبهه إلى أن مرّ وقت غير قصير ثمّ فتح عينيه وهو يردد: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، واعتذر عن الدرس فألحّ عليه أحد تلامذته بالسؤال لمعرفة السبب فلم يجب بشيء ويقول تلميذه وخليفته في السلوك والعرفان سيّدنا الإمام السبزواري قدس سرّه:
بعد ما علمت أنّ وراء هذه الحالة سراً عجيباً زدت بالإلحاح عليه كثيراً وكان يرفض خلالها الجواب إلى أن أقنعته فقال: إنّي كنت قد حضرت جنازة أحد المشايخ والصلحاء في النجف الأشرف وكنت في تشييعه كما يقول السيّد السبزواري: وكنا نحن في مشهد الرضا علیه السلام فبادرت إلى ورقة وكتبت اليوم والساعة بالضبط ومرّ وقت إلى أن جاء من تيقنت منه أنّ ذاك الشخص نفسه كان قد مات وشيّع في نفس ذلك اليوم والوقت.
والكرامات لأصحاب المقامات كالمعاجز للأنبياء والمرسلين مما قام الدليل عليه من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومن السنّة المشرفة وإجماع أهل الحق ولا ينكرها إلا من طمس الله على بصيرته وأعمى قلبه {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وكَاَنَ أمرُهُ فُرُطاً}.
ص: 24
وفي سنة 1348 ه- وهو في التاسعة عشرة من عمره الشريف هاجر إلى حاضرة العلم الكبرى مدينة العلم والعلماء ودار الأبرار والصلحاء النجف الأشرف لمجاورة مرقد جدّه مولى المتّقين ويعسوب الموحدين وإمام العلماء والعارفين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ولزيادة الترقي في العلوم والمعارف الإلهية، وغني عن البيان ما في مجاورة إمام الأئمة وباب مدينة علم الله تعالى سلام الله البركة والتوفيق لمن أخلص النيّة ومحض القربة وآثر الآجلة على العاجلة وطلب العلم لوجه الله تعالى لا ليماري به السفهاء ويطلب به الدنيا ممن هم شر من تحت أديم السماء (1)(ومن عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم) (واتقوا الله ويعلمكم الله) وأمّا الذي اتخذ العلم وسيلة للمكاسب المحرّمة وذريعة لحطام الدنيا الزائل فعلمه جهل وسعيه نكد ووبال عليه إذ (العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل) وهو من مصاديق قول إمام الحكماء وسيّد الأتقياء أمير المؤمنين عاليه السلام: (قصم ظهري رجلان من الدنيا، رجل عالم فاسق ورجل جاهل القلب ناسك، هذا يصد بلسانه عن فسقه، وهذا ينسكه عن جهله فاتقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبدين أولئك فتنة كلّ مفتون) وما أحق هذا (النمط ) من المنتسبين إلى العلم من غير عمل بقول القائل:
ص: 25
قالوا فلان عالمُ فاضلُ***فاكرموه مثلما يرتضي
فقلت لما لم يكن عالما ***(تعارض المانع والمقتضي
وإن سيّدنا الإمام السبزواري قد حباه الله تعالى من التوفيق والتسديد والألطاف المترادفة والمبشرات المتتابعة في طليعة حياته المباركة ما يشهد به القاصي والداني، وما وصل إلى ما وصل إليه من العالية في العلم والتقى والعرفان و..... و.... و.... إلا بخلوص النيّة وسلامة الطوية والعزوف عن زخارف الدنيا ومغرياتها وطلبه العلم لوجه الله تعالى.
واعمل لوجه واحد*** يكفيك كلّ الأوجه
ص: 26
تشرف سيّدنا المعظم طاب ثراه بالمثول بمدينة جدّه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وكانت يوم أن دخلها (السيّد) تعج بأعلام الفضل ومهرة المدرسين وكانت (مستويات) طلبة (السطوح) أرقى بكثير من مستويات بعض من يحضر (البحوث الخارجية) في العصر الراهن كما يعرف ذلك جيدا كل من ثافن هؤلاء وأولئك وكان سيّدنا أعلى الله مقامه يوم دخوله النجف قد أتقن المقدمات واستعد لحضور البحوث العالية فانجفل إلى حلقات الدرس وحضر عند أكابر الأساتذة وأعاظم الجهابذة من البدور الزاهرة في أفق ربوع الغري الطاهرة ومن مشاهير أساتذته ومشايخه في الفقه والأصول في النجف المعلى:
.1 الإمام المؤسس المحقق آية الله العظمى الميرزا الشيخ محمّد حسين قدس سرّه ذلك العلم الخفاق الذي أنجب بتلامذته فكان منهم أكابر المجتهدين ومراجع الفتوى وأعاظم المدرسين.
.2 الإمام آية الله العظمى السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني المرجع العام للإمامية في زمانه قدس سرّه.
.3الإمام آية الله العظمى الأصولي المحقق الشيخ أغا ضياء العراقي قدس سرّه.
.4 الإمام آية الله العظمى المحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدس سرّه.
وأمّا فى الفلسفة والحكمة فقد حضر عند:
ه. الإمام آية الله العظمى الشيخ محمّد حسين البادكوبي قدس سرّه.
وفي العرفان حضر عند:
ص: 27
6. الإمام الحجة السيّد علي القاضي الطباطبائي التبريزي قدس سرّه. وفي الأخلاق والتفسير كان حضوره على:
7. الإمام الحجة الشيخ محمّد جواد البلاغي الربعي النجفي صاحب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) قدس سرّه. .
ولا مشاحة أنّ من كتب له التوفيق بحضور بحوث أولئك الأعلام والارتواء من مناهل علومهم الزاخرة الموفية على سح الغمام لابدّ أن تسمق في العلم رتبته ويسمو في محافل الفضل قدره، ومن أولى من الإمام السيّد السبزواري بالحصول على هذه المزية والفوز في تحقيق هذا المعنى بالصورة المرضية؟! وحقّاً أقول: إنّ السيِّد رضوان الله عليه كان من أمثل تلامذة (مدرسة النائيني والعراقي والأصفهاني) رضوان الله عليهم، وإنّ في مصنافاته وآثاره وجملة مآثره ممّا يأخذ بالأعناق في إثبات صحة هذه الدعوى. وإذا ذكر (الأفذاذ) من خريّجي تلك (المدرسة العظيمة) فإنّ السيّد رضوان الله عليه يأتي في (رأس القائمة) من غير شك، ولئن كان التلامذة (النجباء) امتداداً لأساتذتهم (النبغاء) سيرةً وسلوكاً، وتمثيلاً حقيقياً لأشخاصهم علماً ومعرفةً و (وجوداً ثانياً) له-م ه-دياً وسمتاً فإنّ (السيّد) قدس سرّه هو المصداق الكامل لهاتيك المعاني السامية.
والناس ألف منهم كواحد*** وواحد كالألف إن أمر عنى
ص: 28
من سبر أحوال السيّد الإمام السبزواري قدس سرّه أو ألمّ ببعض خصائص سيرة الشريفة وعايشه أيام تصديه للتدريس وإلقاء البحوث الخارجية ظهر له ظهوراً بيناً أنّ للسيّد منهجاً خاصّاً وفلسفة متميزة واختياراً مستمداً من تجاربه الخاصّة واستقرائه المتكامل في كيفية التدريس وإعداد المؤهلين إلى درجات العلم الراقية ويتلخص ذلك (المنهج السديد) الذي كان السيّد قدس سرّه واضع أسسه ورافع لوائه بأنّ العبرة فيمن يحضرون (مباحث الأستاذ) إنّما هي بالكيف لا بالكم وليس هذا المنهج ببدع من مناهج ذوي الآراء الصائبة والأفكار الثاقبة فقد أطبقت كلمتهم على صحة هذه (القاعدة) واطرادها في الأجيال وعدم انخرامها حتّى مع فرض اجتماع الأمرين (الكيف والكم). كما أنّ منهج السيّد أعلى الله مقامه في التربية والأخلاق وترقية الدارسين في مدارس الورع وتزكية النفوس وتهذيبها وتنقيتها من أوضار الرعونة البشرية جاء مترابطاً مع منهجه في تدريس علوم الشريعة المقدسة فكما يجب على (الطالب) أن يترقى في (العلم) يجب عليه أيضاً أن يترقى في (الأخلاق) ومن ألمع تلامذة هذا (المنهج) ممن نهل من معارف (إمام العلم والعرفان) السيّد السبزواري قدس سرّه:
.1 آية الله السيّد محمّد بن السيّد مصطفى الموسوي الشهير ب-(كلانتر) عميد جامعة النجف الدينية اليوم الذي هو من كبار العلماء وأفاضل حوزة النجف العلمية.
.2. آية الله الشيخ محمّد صادق السعيدي وهو من أفاضل الأساتذة ومن
ص: 29
المدرسين الجهابذة في الفقه والأصول والتفسير في مشهد الرضاء علية السلام
3. آية الله الشيخ الميرزا محمّد علي التبريزي وهو من كبار أساتذة الفقه والأصول.
4. آية الله الشيخ محمّد مهدي الكرماني الذي كان من علماء مدينة (جيرفت) في كرمان ودهادها الأمائل.
ه. آية الله الشيخ محمّد الأصفهاني وهو من كبار علماء أصفهان.
.6 حجة الإسلام المرحوم السيّد جلال الدين الحسيني اليزدي صاحب كتاب (الحجة العليا في شرح العروة الوثقى )من تقريرات أبحاث أساتذة السيّد السبزواري قدس سرّه.
7 .حجة الإسلام السيّد جمال الدين الاستربادي صاحب كتاب (المحجة العظمى في شرح العروة الوثقى) تقريراً لأبحاث أستاذه السيّد السبزواري قدس سرّه.
8.العلامة الحجة السيّد محمّد جواد فضل الله الحسني العاملي.
9. حجة الإسلام الميرزا الشيخ محمّد علي التوحيدي.
10. حجة الإسلام الشيخ رمضان علي القوجاني الذي هو من كبار علماء قوجان.
11. حجة الإسلام الشيخ مرتضى الغروي الطهراني من كبار علماء طهران.
12. نجله المرحوم آية الله السيّد محمّد السبزواري الذي كان من أساتذة الفقه والأصول في النجف الاشرف.
13. نجله آية الله السيّد علي السبزواري وهو اليوم من الأساتذة المبرزين في الفقه الأصول ومن أعلام الحوزة العلمية البارزين في النجف الأشرف دام ظلّه.
ص: 30
وقد ذكر بعض من ترجم لسيّدنا الإمام قدس سرّه أنّ السيّد رضوان الله عليه كان يختلف عن بقية المجتهدين في عدد دروسه وأبحاثه التي يلقيها كلّ يوم إذ أنّ العادة الجارية لهم هو أن يكون ثمة بحث فقهي واحد وبحث أصولي في اليوم، أمّا هو فقد كان له صباحاً بحث في الفقه وعصراً بحث آخر في الفقه وبحث أصولي(1)(1)وكان درسه عندما شرع في إلقاء البحث الخارج ينعقد أولا في مدرسة الآخوند الكبرى الواقعة في شارع الرسول صلس علی علیه وآله واستمر في إلقاء محاضراته العالية في هذا المكان نحواً من عشر سنين، ثم نقل الدرس إلى مدرسة القوام الواقعة خلف مسجد الشيخ الطوسي قدس سرّه واستمر هناك نحواً من أربع سنين، ثمّ انتقل إلى مسجد الحويش حيث واصل القاء دروسه فيه إلى أن انقطع عن التدريس بسبب مرضه. وكان سيّدنا المعظم رضوان الله عليه يمرن تلامذته على ممارسة النقاش والمباحثة والمراجعة وينمي فيهم روح الإنصاف في الحكم للشيء أو عليه أشد الحرص على وجوب انصرافهم إلى مدارسة العلم وعدم تضييع الوقت من غير فائدة (فالعلم إن أعطيته كلّك أعطاك بعضه)(2)(2) ولا يتوقف الوصول إلى درجات الفضل العالية والاجتهاد المطلق إلا على دراسة اللغة والنحو والصرف والمنطق والفقه والأصول والحديث والرجال والدراية والحكمة والكلام فحسب بل يتوقف ذلك أيضاً - كما أفاد بعض مشايخنا - علی حصول
ص: 31
الملكة القدسية والموهبة الربّانيّة ولا حيلة للإنسان فيها بل هي نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء نعم للدرس والتدريس وحضور الأبحاث الخارجية والقعود أمام المشايخ والأساتذة للاستفادة والاستيضاح والتأليف والتصنيف تمام الدخل في حصول تلك الملكة كما أنّ للأعمال الصالحة وتطهير الباطن بالأخلاق الفاضلة والرياضات والمجاهدات وسائر العبادات كالصلاة والصيام والمداومة على الطهارة مدخلية في التأثير لكونها موجبة لصقل النفس الموجب لإشراق الأنوار والعلوم عليها وقد ألمّ بهذا المعنى الشيخ الرئيس ابن سينا فيما نسب إليه:
هذّب النفس بالعلوم لترقى*** وترى الكل فهي للكل بيت
إنما النفس كالزجاجة والعق ***ل سراج وحكمة الله زيت
فإذا أشرقت فإنّك حي*** وإذا أظلمت فإنّك ميّت
ويقرر سيّدنا الإمام قدس سرّه نظرته السديدة ورأيه الصائب في توجيهاته المنشورة في تضاعف مصنفاته كما كان يقررها في حلقات تدريسه ومجالسه الشريفة فيما ينبغي لطالب العلم من سلوك السبيل القويم والمنهج اللاحب الصوى الذي يوصله إلى مبتغاه من الانتظام في سلك رواد الفضيلة وطلاب فقه آل محمّدصلی علی علیه وآله وسلم والظفر بالحصول على أسمى الدرجات والمراتب العلمية مقرونة بالورع الاعتقاد من شواهد ما ألمعنا إليه ما جاء في موسوعته الكبرى (مهذب الأحكام) (212/16-213) عند قول الماتن: إنّ طلب الرزق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة - الوجوب والحرمة الاستحباب والكراهة والإباحة - وكذلك طلب العلم ينقسم حكمه إلى الأحكام الخمسة وعند المزاحمة وفقد المرجح من كلّ جهة يرجح طلب الفقه.. الخ إذ قال السيّد رضوان الله عليه معلقاً وشارحاً لقول أمير المؤمنين
ص: 32
علیه السلام( أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم ، والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من فاطلبوه). ويشهد له قول أبي جعفر علیه السلام: (قال رسول الله صلی علی علیه وآله وسلم: «يقول الله تعالى وعزّتي وجلالي وكبريائي ونوري وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أعطه منها إلا ما قدرت له، وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي وكفلت السموات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة». وتشهد له التجربة والتأمل في حالات العلماء الماضين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين لأنّهم كانوا في نهاية الفقر الذي لا يتصور فوقه فقر وقد اختاروا طلب العلم واستقاموا في ذلك فكفاهم الله شؤون دنياهم وتلك سنة الله التي قد جرت في عباده {فَلَنْ تَجد لسنت الله تبديلاً وَلَنْ تَجدَ لِسُنَّت الله تحويلاً} ولو أردنا أن نذكر في ذلك بعض ما شاهدناه في أنفسنا ورأيناه من مشايخنا العظام لصار ذلك كتاباً مستقلاً وفي يسيرالكثير عبرة لمن اعتبر. انتهى كلامه قدس سرّه.
إنّ سيّدنا الإمام السبزواري عليه رضوان الباري كان نسيج وحده وقريع زمانه في العلم والعمل والسلوك العرفاني وما سيرته الشريفة إلا امتداد لسيرة أجداده الأئمّة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد كان في حركاته وسكناته وفي خلواته وجلواته موضع تجليات خالقه يفيض عليه من بوارق أنواره وشوارق أسراره ما هو خليق به {وَاللهُ يَختَصُّ بٍرَحمَتٍهٍ مَن يَشَاءُ }وإذا التمس
ص: 33
(المثل الأعلى) في علماء الطائفة المحقة في عصرها الأخير فلا يصاب إلا في مثل شخصية (الإمام السيّد عبد الأعلى) وإنّ العلماء المحققين بله طلاب العلم ليجدون (كلمته الذهبية) التي نقلناها آنفاً ضالتهم المنشودة وبغيتهم المقصودة فهي على وجازة ألفاظها حافلة بالمعاني الجليلة متضمنة لحقائق المعارف القدسية التي يستهدي بها مَن مَنّ الله تعالى عليه بنفاذ البصيرة وسلامة السريرة وإخلاص النيّة وسداد النظر في عواقب الأمور. وقد أعرب سيّدنا قدس سرّه عن حقيقة نفسه وهو الصادق في كلّ ما يقول ويفعل وتركها كلمة مدوية في عالم رواد الفضيلة وسدنة الشرع الإلهي لتكون لهم أسوة صالحة ومثلاً يحتذى ومن هنا كانت (مدرسة الإمام السيّد السبزواري) رضوان الله عليه النموذج الأمثل لدارس العلوم الراقية ونبراساً تنجاب به حنادس (النزعات الشهوية) والأكدار البشرية.
ص: 34
ممّا أجمعت عليه آراء العلماء المحققين أو كادت تجمع أنّ الإمام السيّد السبزواري قدس سره (أستاذ المدرسة الأصولية العرفانية الحديثية) في العصر الراهن فهو إمام المجتهدين وسيّد الفقهاء المتبحرين وعلم الأصوليين وقدوة العرفانيين والعيلم الفذ في (الرواية والدراية)
وسائر الفنون الحديثية وله في الفلسفة الإسلامية الباع الأطول.. والفيصل في تحقيق معنى ما ذكرت هو الرجوع إلى مصنفاته وآثاره من مطبوع ومخطوط فهو رضوان الله عليه في كلّ ما كتب الإمام المقتفى أثره المرجوع إلى حكمه المعتمد الذي يصار إلى رأيه إذا تباينت الآراء واشتبكت أسنة المنازعات.
حكم يفيء ذوو النزاع لحكمه*** وقضائه في النقض والابرام
والناظر - من أهل العلم - في مصنفاته على اختلاف موضوعاتها يرى فيها التحقيق البارع والإحاطة التامّة في الموضوع الذي يخوض فيه والشمولية المستوعبة لكلياته وجزئياته وتوابعه مع قوة الحجة، ووضوح المحجة وصحّة المقدمات المستلزمة لسلامة النتائج وصدق (البرهنة) والعرض الشائق(1)(1) الذي ينم على(2) سلامة الذوق واستقامة السليقة وحسن الاختيارو (الدقة)المتناهية في تطبيق القواعد الأصولية والعقلية على مندرجاتها في أسلوب متين آخذ من البلاغة بأوثق الأسباب وأقوى العرى فلا حشو فيه ولا إطناب ممل مع سلامته من الايجاز المخل فهو الأسلوب الرشيق المتّسم ب- (اجاعة اللفظ وإشباع المعنى).
ص: 35
وما أعظم منّته وأقوى حجته في نقد الآراء ومحاكمة الأدلة والتمييز بين غنّها وسمينها وتصنيف مداليل ما قامت به الحجة ونصره الدليل كلّ ذلك بموضوعية تامّة ونزاهة ملحوظة وإنصاف مستغرق مطرد ....ومن شواهد علو مقامه في العلم والفقاهة هو أخذه العلم عن الأساتذة الرواد والمؤسسين الأفذاذ في الأصول والفقه كالإمام النائيني والإمام العراقي والإمام الأصفهاني والإمام البلاغي رضوان الله عليهم كما يدل على ذلك أيضاً من تخرج في مدرسته الأصلية من كبار العلماء وأمائل الفقهاء في النجف الأشرف وقم المقدسة ومشهد الرضا عليه السلام ففي هذه المدن اليوم وقبل اليوم كوكبة لامعة ونخبة طيّبة من أعيان تلامذته وطلابه الذين أداروا رحى التدريس في حياته وبعد وفاته وتخرج على أيديهم العلماء الأجلاء والمفكرون النابهون.
ص: 36
حديث المعصومين عليهم الصلاة والسلام هو المدرك الثاني من مدارك الأحكام الشرعية عند الشيعة الإمامية أنار الله برهانهم وهو على المشهور أحد أقسام السنّة الثلاثة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره وقد يطلق على الأقسام الثلاثة اسم (الحديث) فيكون الحديث مرادفاً للسنّة، والحديث عند الإمامية كما هو عند سائر المذاهب الإسلامية سند ومتن وصحة السند بوثاقة رجاله المستلزمة لصحة متنه. قد نقل عن بعض الأجلاء من أعاظم الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أنّ المتن في كثير من الموارد يصحح السند عند من حباه الله تعالى الملكة الذوقية الخالصة والأنسة بأحاديث النبي والأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (فالحديث المعصومي )متميز عن غيره بما غمره الله تعالى من أنوار جلاله وأفاض عليه من أقباس أسراره فلا يجد الواقف عليه - إن كان من أئمة الفن وأعلام التحقيق في باب الدراية والرواية - مندوحة من البخوع لحكمه، وتفصيل هذه الجملة موكول إلى مظانه.
والسابر لمصنفات سيّدنا الإمام السبزواري رضوان الله عليه لا يعدم الدليل القاطع على بلوغه (درجة الإمامة) في علم الرواية والدراية كما هو كذلك في العلوم الأخرى كالفقه والأصول والتفسير وقد تميز قدس سره باختيارات لم يسبق إليها في هذا الباب فكان هو أبا عذرها وفارع بكرها. وممّا أختاره واماز به عن سائر الأعلام في باب أحوال الرجال أنّه عليه الرحمة والرضوان قطع بوثاقة أصحاب الإمام الصادق علیه السلام و المنقطعين إليه والرواة عنه مستنداً إلى دليل له من العقل
ص: 37
والعرف مرتكز أصيل وذلك أنّ أولئك الأصحاب بانقطاعهم إلى الإمام علیه السلام مع اشتداد سطوة فراعنة زمانه عليه وعلى من يلوذ به من شيعته وتضييقهم عليهم ومراقبتهم لهم في حلهم وترحالهم(وتظاهر الزمان عليهم) أعربوا عن شرف نحائزهم وخلوص إيمانهم وصدق ولائهم ومعرفتهم بحقوق إمام زمانهم فهم صفوة العباد فى تلك الآماد والممتثلون أمر مولاهم في قوله عز من قائل: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادٍقين}. ومن كان بهذه المثابة فأخلق به أن يكون في أعلى درجات الوثاقة والمهابة.
وله رضوان الله تعالى في تقرير القواعد الحديثية واستفادة المطلوب من مشمولاتها منهج دقيق وطريقة علمية متميزة استفادها من مداومة النظر في أحاديث المعصومين عليهم الصلاة والسلام. وليس من المبالغة في شيء القول بأنّ السيد قد هو (إمام المحدثين) في عصره ومن انتهت إليه (النوبة) في التربع على أريكة المرجعية في علوم الدراية والرواية والمعول على قوله في مسائل الجرح والتعديل. وللوقوف على طريقته في معالجة الأسانيد والروايات، واستكناه منهجه القويم في توثيق (محاكمة الأدلة) في النقض والابرام ننقل نموذجاً صالحاً من بحثه النفيس في توثيق روايات كتاب (تحف العقول) للشيخ المحدث الاقدم الحسن بن علي بن شعبة الحرافي رحمه الله ذكره في (موسوعته )الفقهية الضخمة الفخمة (مهذب الأحكام) ج 16 ص 213 وما بعدها، قال طاب ثراه: والكتاب ( يعني تحف العقول) معتبر اعتمد عليه الأصحاب منهم صاحب الوسائل، وصاحب البحار والحدائق، ومحتوياتها تشهد بصدورها عن المعصوم علیه السلام كما لا يخفى على من كان مأنوساً بأحاديث الأئمة علیه السلام وأقوال النبي صلی علی علیه وآله قال صاحب
ص: 38
الكتاب في مقدمة كتابه: (وأسقطت الأسانيد تخفيفاً وإيجازاً وإن كان أكثرها لي سماعاً ولأنّها آداب وحكم تشهد نفسها }وقال الشيخ الجليل حسين بن علي بن صادق البحراني في رسالته التي ألّفها في السير والسلوك إلى الله عن طريق أهل البيت علیه السلام :(ويعجبني أن انقل في هذا الباب حديثاً عجيباً وافياً شافياً عثرت عليه في كتاب تحف العقول للفاضل النبيل الحسن بن علي بن شعبة من قدماء أصحابنا
حتّى إنّ شيخنا المفيد ينقل عن هذا الكتاب وهو كتاب لم يسمح الدهر بمثله). ولم أرَ من قدح في مؤلف هذا الكتاب ولو بأدنى قدح، وكلّ من تعرض له قرنه بالتجليل والتعظيم والتوثيق. وأمّا نفس الكتاب الشريف فغاية ما قيل في الخدشة فيه أمور:
الأول: أنّ أخبارها (الظاهر أخباره) مرسلة.
الثاني: عدم اعتناء أصحاب الجوامع الأربعة القديمة بالنقل منه ومن البعيد عدم اطلاعهم عليه.
الثالث: كون الحديث المتقدم الوارد في بيان معايش العباد(1)(1) مشتملا على القلق والاضطراب.
الرابع: إنّ الحديث يشبه تصنيف المصنفين في التشقيق والتقسيم.
الخامس: اشتمال الكتاب على النبويات.
قال مولانا الإمام السيّد السبزواري قدس سرّه: وكلّ هذه الأمور باطلة ولا ينبغي الاعتماد عليها في استفادة القدح، وما نشأت إلا عن قصور الإطلاع وعدم التتبع
ص: 39
والاحاطة. أمّا الأول فقد صرّح المؤلف ل في مقدمة الكتاب بوجه الإرسال ومن يقول بأنّ هذا النحو من الارسال يوجب القدح بعد كون المؤلف موثوقاً به فيما قال في المقدمة؟ وبأي دليل يقول بعد ذلك؟ مع أنّ المؤلف يصرح له بأن أكثرها سماع ولا موضوع للارسال حينئذ . وأمّا الثاني: فلا ريب في كونه أعم من القدح، إذ يمكن أن يكون لكثرة اشتهاره واعتباره غنياً عن النقل عنه، لأنّ بناء أرباب الجوامع (رضوان الله عليهم) على النقل عمّا كان في عرض الاندراس والاضمحلال كما يظهر ذلك من عاداتهم (رضوان الله عليهم)، بل ومن عادة الله عزّ وجلّ حيث إنّه كلّما كان في معرض الزوال من الشريعة المقدسة يجدده بكل نحو تعلقت به إرادته الكاملة اتماماً للحجة.
وأمّا الثالث: فلا بأس به وكم له من نظير في الأحاديث كما لا يخفى على الخبير خصوصاً فيما هو منقول بالمعنى كما هو الظاهر منه.
وأّمّا الرابع :فهو ساقط جداً لأنّ التشقيق والتقسيم ورد في القرآن كما في سورة الواقعة (1) (1)وفي الأحاديث كثيراً كما في موثق ابن بكير الوارد في لباس المصلي وغيره ممّا يراه الناظر إليه بأول نظرة.
وأمّا الخامس: فهو نحو اجتراء وظلم بالنسبة إلى نبيّنا الأعظم صلّی علی علیه وآله حيث يفتخر على جميع الأنبياء بما تواتر منه( أوتيت جوامع الكلم) فيبادر جمع في
ص: 40
النبويات إلى الإسقاط والطرح معللاً بأنّه نبوي إنّ هناك قرائن كثيرة تدل على الوثوق بالصدور، ولو أنّ الأعلام رفع الله تعالى شأنهم بذلوا جهدهم في أن يصححوا السند بالمتن لا العكس لما وقعوا في هذه المتاعب والمشاكل. فتلخص أنّ مؤلف الكتاب ثقة جليل معتبر لا مغمز فيه. ثمّ إنّ ما ذكر فيه من حديث انقسام معايش العباد وتفصيل القول فيه الذي نقله في الوسائل والحدائق مطابق للقواعد العامّة وموافق للمجمع عليه بين الإمامية فهو معتبر من هاتين الجهتين أيضاً. وتوهم أنّ الإجماع إنّما هو على القواعد لا على الحديث (مخدوش). بأنّ ظاهر الكلمات التمسك بنفس الحديث ساكتاً عن القواعد. كما إنّ توهم أنّ الشهرة ليست جابرة لضعف السند لو كان وعلى فرض الجبران فهي شهرة القدماء لا المتأخرين مخدوش أيضاً، لأنّ اتفاق جمع من أهل الخبرة بشيء على الاعتماد عليه واتفاق جمع من أهل الخبرة بشيء على الإعراض عنه ممّا يوجب الاطمئنان بالاعتبار في الأول ولا اقل من إيجاب الشك فيه في الثاني. والظاهر كون ذلك في جملة من الفطريات العقلائية، ولا فرق في هذه الجهة بين الشهرة القدمائية والمتأخرين بعد كون من تقوم به الشهرة من أهل الخبرة ومن النقاد والحفظة. هذا نموذج واحد ممّا اخترناه من تحقيقات (السيّد) أعلى الله مقامه في (العلوم الحديثة) وفيه تظهر براعته الفائقة في النقد والتحليل واختيار المسالك السديدة المفضية إلى تحقيق الحق من أقصر الطرق وأقوم المدارك وقد جرى فيه على ما تقتضيه القواعد العامة التي قعدها أئمة المحدثين من سلفه الصالح ولم يترك لمن تأخر عنه زيادة يكون فيها كالمستدرك عليه. وهكذا هو في جميع ما حبر به صحائف مصنافاته الجليلة ومنها كتابه (المهذب) الذي يشهد لسيّدنا الامام
ص: 41
السبزواري بالعلمية بل الأعلمية فهو كتاب فقه استدلالي بديع الطراز يموج بماء التحقيق والتدقيق لا سيّما ما يتعلق بالحكم على الروايات والأحاديث المذكورة في كتب الأصحاب.
ص: 42
يحار الدارس لحياة سيّدنا الإمام السبزواري (رضوان الله عليه) من أي باب دخل وفي أي خصلة من خصاله الشريفة يبدأ، وكلّ خصلة ما هاتيك الخصال قد بلغ فيها الغاية وتجاوز الوصف وأوفى على الذروة وكيف لا يكون من الجلالة في الأخلاق والسيرة بهذه المثابة وقد تربى في حجر الإيمان وترعرع في بيت التقى والورع والقدسية!!.
أجل: لقد ورث السيّد العظيم أجداده الطاهرين علیه السلام في الخلق الإسلامي الرفيع والسيرة المثلى والأدب السامق فكان مضرب المثل في كلّ صفة من صفاته الكريمة فإذا ذكر التواضع فهو مثاله الشاخص وعنوانه الأسمى يشهد له بهذه الصفة كل من رآه ولو عابرا وإن الذي تابع سيرته اليومية ليقطع بأنّ عينيه ما مقلت شرواه ولا اكتحلت برؤية من بلغ في التواضع مداه فكم رآه الراؤون أيام صحته وهو يمشي في الغالب وحده من بيته إلى مسجده أو من مسجده إلى بيته مع ما هو عليه من المكانة المرموقة والمنزلة العلمية التي تنحسر عن مبلغها الأبصار؟ وربما قرع باب داره فقام بنفسه بفتح الباب ليستقبل القادم أو ينظر في حاجته أو يجيب عن سؤاله مع طلاقة الوجه وعذوبة الأسلوب مشفوعة بقوة الفراسة وسلامة الحدس وإنزال الناس منازلهم بالنظرة الأولى مصداقاً للأثر النبوي: «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله». لم يصدر عنه ما يؤذي الآخرين فالكل عنه راضون، لا يتدخل بشؤون غيره ويعطي كلّ ذي حق حقّه. كان عليه الرحمة والرضوان قليل الكلام إلا فيما يعنيه ويكون فيه الله تعالى رضا وللناس أجر وثواب وكان صمته
ص: 43
فكراً وكلامه ذكراً لا يفرط بشيء من الوقت بل يجري في تقسيمه على منهج دقيق في آناء الليل وأطراف النهار وممّا وصف به وذاع (ذكره ووروده )واشتهر عنه أنّه كان قدس سره كثير العبادة ملازماً لذكر مولاه مراقباً لنفسه لا يفتر لسانه عن التسبيح والاستغفار وسائر الأوراد والأذكار حتّى إنّه لم يكن يترك نوافل الظهرين مع إمامته للجماعة وكانت له أوراد وأذكار خاصّة لا ينفك لهجاً بها خصوصاً كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) التي ورد في الصحيح عنها أنّها من كانت آخر كلامه دخل الجنّة وفي بعض مراحل عمره الشريف كان يعدها عشرة آلاف مرّة في اليوم سوى الأذكار المستحبة في بعض الأوقات. ولم يترك ذكر (لا إله إلا الله) في جميع الحالات مع تمام الانقطاع إلى الله العظيم الذي كان يستجلي عظمة آلائه بروح تلك الأذكار وكانت أوراده الخاصّة ممّا أخذه من أساتذته الكرام في علم العرفان كالشيخ الأصفهاني والسيّد البادكوبي وكان ضنيناً بها لا يبوح بها حتّى لخُلّص أصحابه فليس من المبالغة في شيء أن يُقال إنّ الإمام السبزواري من أئمة العرفان وأرباب السلوك الكمل الكتومين الذين لا يبيحون بكلّ ما يعلمون أو لعلّ أساتذته (قدست أسرارهم لم يأذنوا له أن يعطيها لغيره)، فمن تلك الأذكار ما ذكره السيّد قدس سرّه أنّه أعطاه السيّد البادكوبي واشترط عليه قراءته في وقت الشدة فقط وكان مجرباً، ففي إحدى الحالات طرأت على السيّد حالة مرضية شديدة وهو في طريقه إلى إقامة الصلاة في مسجده الخاص به في محلة الحويش فلم يتمكن من المسير فتذكر (الذكر) الذي خصّه به أستاذه البادكوربي فقرأه فقام من وقته وواصل مسيره إلى المسجد وصلّى وبعد رجوعه إلى الدار أحضر له الطبيب وبعد فحصه قرر الطبيب بأنّ مرضه شديد وكانت ( جلطة) صعبة وتعجب كيف
ص: 44
ذهب إلى الصلاة وأدّاها ورجع إلى الدار وكان المرض مهلكاً لولا ما تداركته العناية الربّانيّة ببركة الذكر الخاص. وكان الذكر الذي يعتمد عليه كثيراً وهو (الذكر اليونسي) (لا اله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين) فقد كان دؤوباً عليه ملازماً له وفيه من الآثار العجيبة ما يقطع له الموفق بأنّه من خصوصيات (أهل الاختصاص) و(أئمة العارفين) وكان السيّد قدس سرّه يقول:أنّه رأینا منه العجب العجاب و قدمنح السیّد الاجازة الخاصّة لبعض من رآه أهلا لتحمله فأقر بما رآه من الفوائد والبرکة واعتبر السيّد في قراءة الذكر الذي كان يمنحه أن يكون الذكر لأجل الذكر لا لجلب فائدة منه وإليك نص عبارته لبعض الأعلام عندما طلب منه ذكراً معيناً: (في ظلمة الأسحار عند الخلوة مع الرحيم الغفار يناديه نداء العبد الذليل للمولى الجليل : ( يا عزيز يا مهيمن يا فتاح يا ملك يا قدوس يا سلام يا من له مقاليد السماوات والأرض يا من له خزائن السماوات والأرض) مستحضراً معاني ذلك في الذهن ولا غرض له ويكرر ذلك حتّى المقدور).
وكان معتادا على ذكر ( يا حي يا قيوم) وكان يذكر فيه آثاراً خاصّة. وأمّا ذكر (يا علي يا عظيم فكان يقول أنهما أول الأسماء الحسني. مضافاً إلى مداومته على قراءة القرآن الكريم، ففي كلّ شهر كان يختم ثلاث ختمات وفي شهر رمضان خاصّة كان يختم عشر ختمات مخصوصة مع ترو وتدبير وكان يوصي بقراءة القرآن ولو كان بمقدار ورقة واحدة بحيث لا يعد (المسلم) تاركاً له، و تفسيره القيّم (مواهب الرحمن) دليل على كيفية قراءته.
وأمّا الدعاء فكان دؤوباً عليه لا يفتر عنه لسانه سواء في الصحيفة السجاديّة المباركة التي كان كثير القراءة فيها وتلازمه في جميع الأوقات أو غيرها من كتب
ص: 45
الأدعية، وقد جمع جملة من الأدعية في (محفظة) عنده يحملها معه في حلّه وترحاله فيقرؤها حيث تسنح له الفرصة.
وكان شديد الالتزام بالأحراز لا سيّما (الحرز اليماني) الذي أخذه من بعض مشايخه، وكان يقول إنّ فيه شروطاً معينة وترتيباً خاصاً لابدّ فيه من الإجازة الخاصّة وإلا لم يقدر كل أحد أن يتحمل ما يجري عليه من قراءة هذا الدعاء. وكان في شهر رمضان يقرأ دعاء أبي حمزة الثمالي في قنوت صلاة الوتر ولا يترك دعاء ورد عن الأئمة علیه السلام و كان له قدس سرّه باع مديد في الأدعية الواردة عن الأئمة علیه السلام لا يضارعه فيه أحد من الأعلام. وكان قدس سرّه يقول: إنّ قراءة الأذكار والأوراد الخاصّة التي عيّنها أصحاب الإجازات ومشايخ السير والسلوك لابدّ من التنبه عليها لمن يريد المداومة على ذكر معين وورد خاص.
ص: 46
العرفان هو الدرجة السامقة في سلم( الترقي الروحي) وإليه يرشد قول إمام العارفين على الإطلاق سيّدنا ونبيّنا محمّد بن عبد الله صلی علی علیه وآله مخاطباً باب مدينة علمه ووارثه في (إمامة العارفين) علیه السلام: يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت...)
الحديث. يعني المعرفة الكاملة إذ الشيء إذا ذكر على إطلاقه انصرف إلى الفرد الأكمل منه وللعرفان في - لسان القوم - تعاريف مذكورة في مظانها فليرجع إليها من رام المزيد، لكن لابدّ ابتداء من بيان معنى العرفان من أقرب المعاني وأقصر السبل دون الخوض في التفاصيل حتّى تعرف حقيقته لخفائه-ا على كثیر من الناس، وعلى ضوئه يمكن بيان خصوصيات (العارف) وما يمتاز به من (1)(1) غيره، وقد اختلط علم العرفان مع كثير من العلوم التي لا يقر بها الشرع المبين فالعرفان هو الارتباط الإلهي الذي هو منبسط على جميع الموجودات من علوياتها وسفلياتها في جميع العوالم حتّى عالم الآخرة، فلا أول له من حيث المبدأ، و (العارف) مرتبط بجميع الموجودات علوياتها وسفلياتها. ولا يصل العارف إلى (مقامالقرب الإلهي) الذي له درجات كثيرة وعظيمة إلا بتطبيق الشرع الشريف تطبيقاً كاملا والتجرد عن العلائق المادّيّة وصون النفس عن الرذائل وتكميلها بالفضائل، وأكمل العارفين وأعلاهم درجة الأنبياء والمرسلون، والأوصياء المعصومون، وقد كان أمير المؤمنين علیه السلام سيّد العارفين وأولاده( الكرام البررة) أئمّتهم ، ومن أهم صفاتهم الزهد والعبادة والذكر والتقوى ومخالفة النفس،
ص: 47
والعمل، وتهذيب النفس ومراقبتها، وتنشيط الروح واتصالها بعالمها الخاص التي صدرت منه وستعود إليه والكمال المنشود لها.
وقد كان سيّدنا الإمام (العارف بالله) السيّد السبزواري قدس سرّه على درجة من العرفان ( ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليه الطير). وقد شهد له بذلك (المقام السامي) في العرفان جمعُ كثير من العلماء ومن له حظ - يغبط عليه - من السير والسلوك كيف لا وقد كان في مراحل كثيرة من عمره الشريف مطبقاً للشرع الشريف بنحو يقصر عنه الكثير ممن انتسب إلى(الجامعة الدينية) فاعلاً للمندوبات وتاركاً للمكروهات. وكان (رضوان الله عليه) ينقل أنّ بعض أعاظم العلماء ومنهم السيّد هاشم البحراني صاحب كتاب (البرهان في تفسير القرآن) لم يعملوا مكروهاً ولم يتركوا مندوباً. والعارف بلحن القول ومعاريض الكلام يعلم أنّ السيّد السبزواري بنقله هذا الكلام عن أحوال أولئك الأعاظم إنّما يعني نفسه
على نحو الإشارة لمن جاوزت فطنته حدود العبارة. فإذا كان هذا الاستيعاب العلمي والعملي لجميع حواس الإنسان ومشاعره وخواطره بالنسبة إلى الشرع المبين فكيف لا يكون من العرفانيين والسالكين إلى الله تعالى وهو قدس سرّه كما عرفت آنفاً لم يذكر اسمه ولكنّه كان قوله أنّ بعض المعاصرين أيضاً وصل إلى هذه الرتبة من العلم والعمل، فتلا تلو المعصوم وتجاوز مرحلة العدالة ومرحلة مخالفة الهوى التي اشترطها الشرع المبين فيمن يريد الوصول إلى مقام الاصطفاء، فلم يترك مندوباً إلا عمله ولا مكروهاً إلا تركه إلا ما كان خارجاً عن قدرته. وكان (رضوان الله عليه) سكوتاً لا يتكلم إلا مع الحاجة إلى الكلام وإذا تكلم لم يتجاوز عن حدوده، ففي أجوبته عن المسائل الشرعية وغيرها لا يصدر منه إلا
ص: 48
كلمة أو كلمتان ودرسه الشريف على نحو منتظم من الإيجاز، يجتنب فضول الكلام ويذكر الخلاصة المفيدة (الجامعة المانعة) ممّا ذكره المحققون ويستخلص ما يريده الأئمة المعصومون علیه السلام في كلماته المباركة. وكان له من الذوق العرفاني حظ وافر بحيث يصل إلى ما يقصده الإمام المعصوم ويتجنب عن إيراد الاحتمالات في كلماتهم الشريفة. وكان حريصاً على التأدب بآداب الشرع المبين في حركاته وسكناته في فعله وقوله في هديه وسمته فلا يتجاوز تلك الآداب في حال من الأحوال. وكان متعبداً يسهر الليالي في العبادة والمطالعة والكتابة وفي النهار في التدريس والكتابة، قليل الأكل، قليل النوم، لا ينام سوى أربع ساعات في مجموع الليل والنهار، قليل الكلام لا يتكلم حتّى في بيته إلا القليل النادر كمصداق الحديث المشهور: «اعقل لسانك إلا عن حق توضحه أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تشكرها».
يذكر الله تعالى في آناء الليل وأطراف النهار ، كثير التأمل والفكر، دائم اليقظة في كلّ أموره، شغوفاً بتحصيل الكمال، لم يعرف عنه أن ذكر أحداً بسوء حتّى مخالفيه مع علمه شديد الاحترام للعلماء والمشايخ، وكانت وصيته لأولاده الكرام (وهم صغار) احترام الشيخ الكبير والتمسك بالآداب الإسلامية السامية والسير على المنهج الواضح الذي سار عليه سلفهم الصالح، فتربى (أولئك الأبناء النجباء) على هذه السجايا الكريمة، وكان رضوان الله عليه كثير الحياء وهذه من صفات المؤمنين وخصال الصالحين كما نطقت به الروايات. وقد وصفه أستاذه الكبير الذي عدّه السيّد قدس سرّه بمنزلة الأب الرحيم عندما كتب إلى والد السيّد أنّ ولده قد أفرط في الحياء، كان كبير الهمسة يتجافى عن كثير من الأمور التي تعود إليه بالنفع إذا لم تكن في
ص: 49
سبيل رقي نفسه، زاهداً لم يمتلك في الدنيا داراً ولا عقاراً، وكان يقول أنّه في برهة من الزمن كنّا نجول في النجف من بيت إلى بيت ولا نبقى في البيت أكثر من ستة أشهر إلى سنة لعدم إمكانية دفع أجور المنزل فيطلب صاحب الدار تخليته لها حتّى ضاقت به الأمور فتوسل بالإمام أمير المؤمنين علیه السلام في أن يمنحه دار إيجار يبقى فيها ويتخلص من مشكلة النقل والانتقال فمنح له داراً سكن فيها ستاً وعشرين سنة إلى أن انتقل منها إلى دار الحاج ناصر مرزة فسكن فيها حتّى وفاته، وكان قدس سره يرفض ما كان عليه أهل العلم من شراء دار وبنائها إذا كان بإمكانهم استیجار دار تقضى فيها حاجتهم من السكن. ولم يمتلك مالاً سوى كتبه وأثاث الدار. وأمّا الأموال التي كانت بحوزته من حقوق المسلمين فقد استجاز أولاده الأجلاء العلماء الأعلام في صرفها على الفقراء والمساكين. فحقّ إذا ما قيل أنّ السيّد السبزواري خرج من الدنيا وهو منزّه عن حطامها لم يملك منها شيئاً.
وكان عليه الرضوان عزوفاً عن الأمور الدنيوية فكان جليس داره لا يخرج إلا لقضاء بعض حقوق الإخوان، وقد عرض عليه كثير من أمور الرئاسة الدينية فامتنع منها وطلب منه بعض (أهل الحل والعقد التصدي فامتنع، وإنّما كان همّه التكميل وغرضه رضا الله تعالى. وكان يقضي يومه العرفاني في الذكر والتفكر والمطالعة والكتابة وقراءة القرآن والأدعية ولم يترك صلاة جعفر الطيارعلیه السلام وكان من أعماله أنّه كان يصلّى في مساجد النجف المتروكة حتّى لا تشتكي إلى الله تعالى كما ورد في الحديث الشريف كما كان يتصدى إلى قبور المؤمنين المندرسة حتّى يجد الله تعالى عندها كما ورد في الحديث عندما سأل موسى علیه السلام ربّه: أين أجدك؟ فقال: «تجدني عند القبور المندرسة والقلوب المنكسرة».
ص: 50
وكان يواظب على إتيان النوافل إلى مرحلة متأخرة من عمره فإذا لم يؤدها في وقتها يقضيها بعد الوقت.وقد رقد مدة في المستشفى على أثر مرضه الذي أصيب فيه ب-(جلطة) في القلب فقضى النوافل التي لم يتمكن من أدائها في أثناء دخوله المستشفى.
مطالعاته
كان رضوان الله تعالى عليه ذا منهج دقيق في تقسيم أوقاته كما ألمعنا إلى هذا المعنى آنفاً. وممّا كان مواظباً عليه وملتزماً به هو انكبابه على مطالعة كتب الفقه والأصول والحديث والرجال والتفسير وغيرها من كتب العلم يقرؤها بتدبر وإنعام (1)(1) نظر ويعلق على المواضع التي تستوجب التعليق حتّى تجمع من مجموع تعليقاته ما لو جرد لجاء في مجلدات، وقد طالع (الجواهر) تلك الموسوعة الفقهية الاستدلالية الكبيرة ثلاث مرّات كما طالع (البحار ) وكتب الأحبار. وكان كثير الحفظ للروايات فلا غرو إن عد (بحق) خاتمة الحفاظ والمحدثين.
ص: 51
ص: 52
لسيّدنا الإمام السبزواري (مدرسة متميزة) في الأصول انفرد بها عن سائر المجتهدين الأعلام وكان فيها من (الأساتذة المؤسسين) و(الأئمة المجددين) فقد تفرد رضوان الله عليه في تهذيب الأصول عن الزوائد والأمور الدخيلة فيه والتي لابدّ من دراستها في علوم أخرى. والعلماء السابقون كلّهم أجمعوا على تضخم علم الأصول وخروجه عن طوره وغايته التي من أجلها وضع هذا العلم ولكن لم يتقدم منهم من يهذبه وينقيه من الحشو والزوائد التي دخلت عليه وقد شمّر السيّد عن ساعد الجد فكان أول أصولي تقدم في تهذيب الأصول ووضع كتاباً جمع فيه المسائل الأصولية في أحسن تبويب وأكمل ترتيب لم يسبق إليه مثيل وأدرج فيه آخر الآراء الأصولية العميقة بأسلوب حسن يقبله الطبع المستقيم وقسّم الكتاب إلى جزأين:
الأول: في مباحث الألفاظ وأدرج فيها مبحث التعادل والتراجيح الذي يعد فيه السيّد بحق أول أصولي يفطن إلى جعله من مباحث الألفاظ. وكان الأصوليون يجعلونه في آخر مباحث الأصول بعد ذكر المقدمة التي يذكر فيها أموراً متعددة مما يتصل بالموضوع ، وقسّم المباحث على فصول متعددة ثمّ مباحث الملازمات العقلية التي قسّمها على قسمين: المستقلة وغير المستقلة.
وأمّا الجزء الثاني: فقد جعله لمباحث الحجج والأصول العملية.
وقسم مباحث الحجج إلى ما يكون معتبراً في نفسه وما يكون معتبراً في غيره والأخير إلى ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف وقسّمه على مباحث ذكر فيها
ص: 53
الظواهر ، والإجماع، والشهرة ،وخبر الواحد والاجتهاد والتقليد، وهو متفرد به أيضاً إذ جعله من هذا القسم ولم يجعله في آخر الأصول كما صنعه غيره من الأصوليين، وغير ذلك من المباحث، ثمّ ذكر مقصداً آخر من مقاصد الأصول وهو البحث في الأصول العملية التي جعلها في مباحث متعددة وفصول: الأول في البراءة، والثاني في الاحتياط ،والثالث في التخيير ،والرابع في الاستصحاب وختم الكتاب بذكر قواعد مهمة. وقد كان السيّد في هذا التقسيم موفّقاً فقد سلم من كثير من الاشكالات التي كان الأصوليون يوردونها على تبويب علم الأصول. فهو في هذا التبويب والترتيب مبدع إليه يعود الفضل في تقريب الأصول وتنقيتها من الفضول وابرازها في تلك الحلة القشيبة والعرض الجديد. وأمّا أسلوبه في هذا الكتاب فقد اعتمد على الأسلوب المحاوري العرفي الذي تبناه الأئمة علیه السلام في محاوراتهم مع الناس.
وأبدع فيه غاية الإبداع وتجنب الأسلوب العقلي المعقد المعروف في كتابة الأصول وكان قدس سرّه يرى أنّ الأصول مقدمة للفقه المبني على العرفيات ولا وجه لأن تكون المقدمة أكثر تعقيداً فى الأسلوب والمحاورة من ذي المقدمة (1) (1)فهو بحق من أعلام المجددين في المدرسة الأصولية الحديثة.
ومن آرائه الأصولية التي اعتمد فيها على العرف في شرح المسائل الأصولية أنّه يثبت في كتابه أنّ الشارع الأقدس يحق له أن يتدخل في القطع الذي تكون حجته ذاتية فيسقط حكمه، وناقش فيما ذكروه من أنّه يستلزم سلب ذاتيات الشيء.
ص: 54
ومن آرائه الأصولية أيضاً أنّ الدليل الذي يدل على الوجوب في العباديات بنفسه يمكن أن يتكفل جهة العبادية ولا نحتاج إلى متمم الجعل وأبطل قول الأصوليين من عدم إمكان ذلك لاستلزامه الدور إلى غير ذلك من المسائل التي تميز بها عن سائر الأصوليين وخالفهم في كثير من متعلقاتها وللتفصيل موضع غير هذا.
ص: 55
ص: 56
أما الفقه فكان قدس سرّه اللوذعي المتبحر في الفقه حقّاً، فقد اجتمع فيه الذوق الفقهي الاكتسابي والمذاق الفطري، وقليل من يجتمع فيه الأمران فهو في طراز المبدعين، ومن يراجع كتابه القيم (مهذب الأحكام) ويطالعه بتدبر وإنعام نظر يَرَ أنّ السيّد السبزواري فقيه عصره الذي فاق أقرانه من الذي فاق أقرانه من هذه الجهة، ويتميز فقهه عن غيره بأمور:
1. إنّ فقهه يوافق الأساليب العرفية التي ابتنى عليها الأئمة علیه السلام في بيان الأحكام الإلهية فمن الحق أن يقال فيه: إنّ الفقه عند السيّد السبزواري قدس سرّه فقه عرفي.
2.خلوه عن الأدلة البرهانية التي يستدل بها في الكتب الفلسفية والمنطقية وسائر العلوم التي تبتني على البراهين المعقدة والأساليب الملتوية.
3 .الأسلوب العلمي الميسر (1) (1)والعبارات الوجيزة الخالیة من الحشو والزوائد وقد سبكها بقالب الرصانة وحبرها بأسلوبه الجذاب المشتمل على البرهان والدليل بحيث يمكن استيعاب الموضوع بأسهل الطرق وأوجز العبارات لكنّه مع ذلك لم يخرج عن الأسلوب العلمي المتبع في البحوث العلمية مطلقاً وقد برع قدس سرّه في هذا المجال براعة فائقة قلّما جاراه فيها أحد من الأعلام من حيث سبك الكلام سبكاً
خاصّاً مع اجتماع كثير من الفروع فيه وتضمنه أحسن البراهين وأقوم المدارك التي لا يمكن دركها إلا مع بلوغ المرتبة العالية في العلم مع الفطنة والذكاء الوافر
ص: 57
وإن كان المطالع لا يفطن إلى ذلك من أول نظرة، وهذا هو السر في امتياز كتابات السيّد السبزواري التي تجعلها تختلف عن بقية الكتب الدائر أمرها بين الافراط في السهولة بحيث يخرجها عن الأسلوب العلمي والتفريط في الصعوبة والتعقيد.
4. اشتمال كتابه على كثير من الفروع الفقهية التي خلت منها كتب الاصحاب والفروع المستحدثة في هذا العصر.
5. تفرده في استخراج الروايات التي هي بمنزلة الأصل والقاعدة وإرجاع بقية الروايات التي وردت في فرع معين إلى تلك الرواية القاعدة فإن وافقتها أخذ بها وإلا فلابدّ من التأويل أو الطرح، ولم يتقدمه من الفقهاء أحد في هذا المنهج فإنّهم كانوا يوقعون التعارض ويعملون بقواعد التعادل والترجيح أو يبدلون في النسب المتحققة بين المتعارضين ويطيلون الكلام والاحتمالات وبذلك يخرجون عن المنهج الفقهي الخاص ويبتعدون عن المقصود الأصلي المراد من الروايات.
6. امتيازه بفتاوى خاصّة استخرجها من طريقته الخاصّة في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
7.استيلاء الذوق العرفاني المتميز به من غيره من الفقهاء على كلماته وكتاباته بحيث يستشعر كلّ من له حظ في هذا الذوق وبه اقترب من مراد الأئمة علیه السلام كلماتهم المباركة كما في المروي عنهم صلوات الله عليهم «على كلّ حق حقيقة وعلى كل حقيقة نور».
8 . اعتماده الكبير على تصحيح الأسانيد بالمتون الذي لا يصح لكل أحد إلا من سبر غور كلمات الأئمة علیه السلام وعرف لحنهم وتنور قلبه وفكره بنور الحقيقة التي تظهر على كلماتهم، ولذا ترى أنّه يعتمد على روايات قد يعتدها الفقهاء
ص: 58
بحسب الموازين المعروفة في كتب الرجال غير معتبرة والسيّد قدس سرّه لم يخرج بذلك عن الطريقة المألوفة حتّى يكون بدعاً بين الفقهاء وهذا المنهج السديد لا يوفق إليه إلا من منحه الله نوراً خاصّاً لتمييز الروايات ولا يناله إلا ذو حظ عظيم وهناك أمور أخرى يعرفها الخبير المطلع على الدقائق.
ص: 59
ص: 60
من مأثور الكلام: الكتاب أحد اللسانين وخير المخلفات المؤلفات، ويراع المرء ترجمان عقله والشاهد على فضله ولبعض الشعراء (الفضلاء):
تلك آثارنا تدل علينا ***فانظروا بعدنا إلى الآثار
والمؤلفات تختلف باختلاف أصحابها وتتباين بتباين العلوم المودعة فيها. والمقرر عند ذوي التحقيق والفضيلة أنّ شرف العلم بشرف موضوعه ويأتي (علم الفقه) وما يتعلق به في مقدمة (العلوم الشريفة) بل هو رأسها وعمدتها، وفي ذلك يقول سيّد الطائفة السيد بحر العلوم الطباطبائي المتوفي سنة 1212 ه- في (الدرة النجفية)
وإن علم الفقه في العلوم ***كالقمر الزاهر في النجوم
والمستقري (1)(1) لآثار سيّدنا الإمام السيد السبزواري قدس سرّه يجده فيها ذلك العبقري الفذ، واللوذعي البارع الذي لا يشق غباره، ولا يدرك تياره وقد صال براعه السديد في تحبير تكلم العلوم الشريفة فادرك قصب السبق وأحرز القدح المعلى فيها وتمتاز تلك المؤلفات سواء أكانت في الأصول أم في الفقه أم في التفسير بقوة السبك ومتانة الأسلوب وبلاغة التعبير والسلامة من الحشو والتكرار مع وضوح الدلائل، والاستقصاء التام في محاكمة الأدلة بما يشهد له ب-(الاوحدية)بين العلماء المحققين والفقهاء المدققين وقد خلف رضوان الله عليه مؤلفات قيّمة
ص: 61
في الفقه والأصول والتفسير والعرفان تمتاز (كما أشرنا إلى ذلك قريباً) بدقة الأسلوب وقوة البرهان والحجة، وهي وإن أمكن لغير المتخصص قراءتها وربما فهمها لسلاسة الكلام فيها وسهولة أسلوبها إلا أنّها دقيقة العبارات مسبو كة سبكاً علمياً لا يتأتى نظيره إلا لخاصة الخاصة من أعلام المحققين ومن هذا الاقتران بين دقة (السبك العلمي) وسهولة العبارات ووضوحها يقع لبعضهم أنّه ربما فهمها بأدنى النظر ولو رجع إلى المدارك التي اعتمد عليها السيّد ونظر فيها نظر الباحث المنقر والفاحص المستقصي لحكم على أسلوب السيّد بأنّه من (السهل الممتنع) الذي يطمع بمجاراته ودون ذلك هذا مناط الثريا.
ص: 62
فمنها موسوعته الكبرى (مهذب الأحكام) التي استوعبت الأحكام الشرعية مع إقامة الأدلة والبراهين والحجج وجمعت بأوجز عبارة وأسهل أسلوب وأوضح حجة من الفروع الفقهية التي خلت منها كتب الأصحاب ما لا يخفى على المتتبع وقد امتازت هذه الموسوعة الفقهية الاستدلالية الضخمة بكون الفقه فيها أقرب إلى العرف والذوق العرفي من الأسلوب العلمي البحث الذي هو المتبع في العلوم
العقلية البعيدة عن الفقه كل البعد، ولذلك كان أقرب إلى مراد المعصومين علیه السلام ومقاصدهم في القاء كلماتهم المباركة على الأصحاب متجنبين التعقيد في الكلام والأساليب التي يتبعها الفلاسفة والحكماء في بيان مقاصدهم فقد اتبع القرآن الكريم وسنّة المعصومين الأساليب التي كان يفهمها أهل العرف في بيان الأحكام الشرعية، ولذا سهل على السيّد المؤلف (قده*الجمع بين الاخبار المتعارضة التي اقتضت الظروف التي كان يعيش فيها الائمة علیه السلام أن تصدر منهم كلمات متعارضة تبعاً للظروف الخاصّة التي صدر فيها الكلام. فقد كان منهج سيّدنا الإمام السبزواري قدس سرّه أنّ استخراج حديث من تلك الأحاديث الواردة في مسألة معينة محكم وهو الأصل في ذلك الباب وارجاع سائر الأخبار المتشابهة إليه كما هو الشأن في الآيات القرآنية، وقد كان موفقاً في هذه الطريقة التي قلّما اتبعها سائر الفقهاء، ولذا كانوا يوقعون التعارض ويلتسمون التراجيح ويوقعون النسب المتعارض ويقلبونها إلى نسبة أخرى، ولكن طريقتهم كانت تبعيداً للمسافة، وابعاداً عن الطريقة المألوفة في هذا العلم.
ص: 63
وهذه الموسوعة الموسومة ب- (مهذب الأحكام) تتألف م-ن ثلاثين مجلداً: أربعة أجزاء منها في مسائل الطهارة، وخمسة أجزاء في مسائل الصلاة، وجزء واحد في مسائل الصيام، وجزء في مسائل الزكاة والخمس، وثلاثة أجزاء في مسائل الحج، وجزء واحد في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثمانية أجزاء في العقود كالبيع والاجارة والمساقاة والمزارعة والشركة والمضاربة وغيرها والغصب والذباحة والأطعمة والأشربة واللقطة وغيرها، وثلاثة أجزاء في النكاح والطلاق والظهار والعتق والكفارات، وثلاثة أجزاء في القضاء والحدود والديّات، والجزء الأخير في الارث.
وهذه الموسوعة الجليلة هي حصيلة مطالعته المستوعبة الواعية في الكتب الفقهية لمدة ثلاثين سنة لا سيّما (جواهر الكلام) الذي طالعه قدس سرّه ثلاث مرّات كما مرّ عليك والموسوعة المذكورة هي شرح للعروة الوثقى (الكتاب المعروف) من مؤلفات فقيه الطائفة السيّد اليزدي الطباطبائي قدس سرّه الذي صار محور الدراسات العليا في العصور الأخيرة لا سيّما في الحوزة العلمية العتيدة في النجف الأشرف. ولما لم يكن هذا الكتاب جامعاً لجميع الكتب الفقهية فقد أكملها السيّد السبزواري قدس سرّه وأضاف إليها الكتب التي لم يذكرها السيّد اليزدي رضوان الله عليه. كما أضاف إليها أبواباً وفروعاً مستحدثة لم تكن في كتب المتقدمين. وقد طبعت ثلاث طبعات:
الأولى في النجف الأشرف وقد كانت تحت اشراف المؤلف نفسه. والطبعة الثانية في بيروت ولم تكتمل لحد الآن. والطبعة الثالثة في قم المقدّسة وهي مزيدة ومنقحة، وقد خرجت في هيأة جديدة وحلة بهية وقد أضيف إلى الجزء الخامس عشر شيء من الجزء الرابع عشر.
ص: 64
جال يراع سيّدنا الامام السبزواري قدس سرّه في مباحث علم الأصول فكان فيها من المجلين الفحول وقد ألّف في هذا الفن كتاباً جليلاً جمع فيه المسائل الأصولية التي لها الدخل في استنباط الأحكام الشرعية، فإنّ علم الأصول مقدمة للفقه ولا يمكن أن تكون المقدمة أبعد أسلوباً عن أسلوب الفقه إلا أنّ الأصوليين تعمقوا في هذا العلم وأدخلوا فيه من العلوم الأخرى لا سيّما العلوم العقلية ما جعله يرزح تحت وطأتها حتّى صار مثلها في التعقيد والرمزية في الأسلوب والبيان، حتّى يمكن أن نقول (غير مجانبين شاكلة الصواب )إنّ نفس العلم الذي عقد أجله
الكتاب وكان محور الدراسات ابتعد كلّ البعد عن هذه المؤلفات ومن هنا انبرى جمع من الأجلاء إلى القول بوجوب معالجة هذه الظاهرة وضرورة تهذيب الأصول وإبعاد تلك المسائل والأساليب المعقدة عنه، ولكن لم يعقد العزم منهم أحد على ذلك لما كان علق في أذهانهم وترجح في أنظارهم من أنّ إبعادها عنه هدم لكيان علم الأصول أو مقاومة للطريقة التي سار عليها السلف الصالح، وليس من السهل الابتعاد عنها. وقد ذكر السيّد المؤلف قدس سرّه أنّ أستاذه المحقق المدقق الاصولي البارع الشيخ محمّد حسين الأصفهاني الغروي ذكر في آخر دورة أصولية له (وقد توفي ولم يكملها )أنّ علم الأصول قد خرج عن طوره، ودخل فيه ما لا يرتبط به أبداً... وكان قدّس سرّه يستغرق زمناً طويلاً ربما يصل إلى عشر سنوات في الدراسات العليا ودرس الخارج في هذا العلم فقال: إنّي أريد أن أختصر علم الأصول وأذكر المواضيع التي تدخل في صميم هذا العلم في مدة
ص: 65
زمنية لا تتجاوز السنتين ،وشرع في تدريسه، ولكن وافاه الأجل المحتوم ولم يكمل تلك الدورة الأصولية. وقد جمع ما ألقاه على تلامذته المحقق الشيخ المظفر في كتابه( أصول الفقه) الذي هو محور دراسات السطوح. وقد سار السيّد قدّس سرّه في كتابه (تهذيب الأصول) على منهج أستاذه فزاد ما لم يكمله وحذف ما لم يدخل في العلم، وغيّر المنهج المتبع في هذا العلم وجمع فيه الآراء الأصولية التي استحدثت بعد العلمين الفذين اللذين هما عمادا هذا العلم في العصور المتأخرة الشيخ النصاري والشيخ الخراساني صاحب (الكفاية) قدّس الله أسرارهما وناهيك بهما علماً وعملاً وتحقيقاً وتقى وورعاً جزاهما الله عن العلم والعلماء خير ما يجزي الصالحين من عباده. فجاء الكتاب (جامعاً مانعاً) وصار برهة من الزمن محور الدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف. إلا أنّ عاديات الدهر حالت دون استكمال مسيره هذه الخطة المباركة في الحوزة المذكورة (والله في خلقه شؤون) ومن يراجع هذا الكتاب ير الفرق الكبير بينه وبين سائر الكتب الأصولية لا سيّما (الكفاية) التي هي محور الدراسات العليا في العرض والمنهجية والتبويب والأسلوب وجمع المعلومات، وهو ككتابه الكبير (مهذب الأحكام) وإن كان سهل الأسلوب في عبارات قريبة في انسياقها وانسباقها إلى الذهن وكونها من الوضوح على طرف الثمام إلا أنّ السيّد المؤلف طاب ثراه سبكها سبكاً محكماً وضغط عليها بحيث تشتمل على معان دقيقة لا يمكن (1)(1) غير المطلع من أهل العلم فهمها وقد كان قدّس سرّه موفّقاً غاية التوفيق في هذا العرض
ص: 66
الغزير، والبيان الواضح الذي ليس بعده في تقريب مطالب الأصول من مزيد، كيف لا؟ وإنّ ما ورد في هذا الكتاب واحتجنه ما بين دفتيه هو حصيلة ما ألقاه السيّد المؤلف قدّس سرّه في خمس دورات أصولية في البحث الخارج. وقد رتب الكتاب إلى قسمين:
الجزء الأول: ويتكون من المقدمة التي ذكر فيها أموراً تمهيدية أغلبها خارج عن علم الأصول لا ربط له به لكن القوم ذكروا (تلك الأمور التمهيدية) على ما هي عليه من البعد عن هذا العلم فلم يشأ أن يخالفهم، كبحث المشتق، وبحث موضوع العلم والوضع ونحو ذلك، ثمّ بعد ذلك ذكر مقاصد:
المقصد الأول: في مباحث الألفاظ، ذكر فيها الأوامر، وصيغة الأمر، وأقسام الواجب، ثمّ النواهي اجتماع الأمر والنهي، ثمّ المفاهيم وأعدادها وأحكامها، ثمّ العام والخاص، ثمّ المطلق والمقيد، والمجمل والمبين ثمّ التعارض الذي انفرد في جعله من مباحث الألفاظ وخالف بذلك القوم. وفي المقصد الثاني: ذكر الملازمات العقلية المستقلة وفيها المباحث المتعلقة بالعقل، ثمّ الملازمات العقلية غير المستقلة وهي بناء العقلاء، والأجزاء ومقدمة الواجب، واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، والنهي في العبادة والمعاملة وبذلك أنهى الجزء الأول من كتابه (تهذيب الأصول).
وأما الجزء الثاني: فقد سار فيه على منهج خاص يختلف عن منهج الأصوليين في مباحث الأصول العملية كما خالفهم في كثير من الأمور التي
ذكروها في هذا القسم من علم الأصول. وقد عقد هذا الجزء على مقاصد:
المقصد الأول :في ما يكون معتبراً في نفسه وهو القطع وذكر فيه جميع ما
ص: 67
يتعلق به وأبطل ما ذكره الأصوليون من عدم إمكان الشارع جعل الحجة أو سلبها عن القطع وبيّن أقسام القطع وحكم التجري ومباحث العلم الإجمالي.
والمقصد الثاني: في ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف فيه وذكر فيه الاطمئنان بإمكان التعبد بغير العلم، تأسيس الأصل في ذلك، ثمّ ذكر الأمور الخارجة عن ذلك الأصل وهي الظواهر الإجماع، وانفرد في بيان أقسامه وطرق استكشاف رأي المعصوم منه ،الشهرة، خبر الواحد ،الاجتهاد والتقليد. وانفرد أيضاً في ذكره في هذا المقام وخالف الأصوليين في ذكرهم إيّاه في آخر الكتاب والمباحث الأصولية ثمّ ذكر دليل الانسداد، ثمّ المقصد الثالث وذكر فيه الأصول العملية الأربعة المعروفة وهي البراءة، والاحتياط، والتخيير، والاستصحاب. ثمّ ختم الكتاب بذكر بعض القواعد الفقهية التي تكون مقدمة على الاستصحاب كما هو ديدن الأصوليين في ذكرها في هذا الموضع.
ص: 68
أمّا في التفسير فإنّ سيّدنا الإمام السبزواري قدّس سرّه يكاد يكون هو الوحيد الذي جمع بين الفقه والأصول والتفسير بعد شيخ الطائفة الطوسي (رضوان الله عليه) في كتابه (البيان) فمن الحق أن يقال: إنّ الحوزة العلمية ابتدأت بالشيخ الطوسي فقيه الطائفة وختمت بحسب الظاهر بالسيّد السبزواري في تفسيره القيّم (مواهب الرحمن في تفسير القرآن) (1) (1)وامتاز هذا الكتاب بالعرض الحسن للمطالب والمواضيع، والأسلوب الممتع، والعبارات الجزلة ومن ميزات هذا التفسير المبارك أنّ السيّد المؤلف أدخل تغييراً كبيراً في علم التفسير من خلال هذا الكتاب بادخال مبحث جديد لم يكن معروفاً لدى المفسرين وهو البحث الدلالي الذي يبتني في استخراج دلالة الألفاظ المتعددة والرموز الخاصة بها. وشاء القدر أن يكون البحث الدلالي من المواضيع المهمة التي يبحث عنها علم اللغة عند الغربيين، وقد عقدوا له بحثاً مستقلاً في كتبهم ووضعوا فيه دراسات واهتموا به اهتماماً كبيراً، ولكن السيّد قدّس سرّه ذكره في تفسير الآيات القرآنية التي تشتمل على أكثر من دلالة واحدة غير الدلالة الوضعية التي كان القدماء يعتمدون عليها ويهتمون بها غاية الاهتمام. كما إنّه قدّس سرّه تفرد أيضاً في استخراج المعنى الأصلي
ص: 69
من المعاني المتعددة التي يذكرونها للفظ واحد ويرجع بقية المعاني إلى ذلك المعنى الأصلي واعتبرها من الدواعي لا من أصل الوضع، وكان مجتهداً في هذا الموضوع يستنبط ممّا يذكره أهل اللغة وأصحاب المعجمات (1)(1) وبذلك يمكن أن يرجع أكثر الألفاظ المشتركة التي قالوا فيها بتعدد الوضع إلى متحد المعنى وهو رأي سديد، فريد من نوعه.
كما إنّ للسيّد هل رأياً خاصّاً في الألفاظ المترادفة(2)(2) التي ذهب جمهور اللغويين وكثير من الأصوليين إلى أنّها موضوعة لمعنى واحد ولكن يختلف بحسب تعدد الدواعي وهي غير داخلة في الوضع قطعاً.
ومنهجيته في التفسير هو أن يذكر مقطعاً أن يذكر مقطعاً من الآيات الكريمة إمّا لأنّها تبين موضوعاً معيناً أو تتحد في الغرض ثمّ يذكر المعنى العام لها ويبين بإيجاز ما تشير إليه الآيات والغرض الرابط بينها، ثمّ يبين تفسير تلك الآيات من حيث اللفظ والدلالة الظاهرية التي تتصل بالألفاظ المفردة والتراكيب البلاغية. ويعرض ما ذكره المفسرون من أقوال فإن كانت صحيحة وإلا عقب عليها بما تسمح المناقشة فيه من تلك الأقوال ثمّ يذكر البحوث التي ترتبط بتلك الآيات الكريمة في البحث
ص: 70
الأدبي ويذكر فيها المباحث النحوية والبلاغية، والبحث الدلالي الذي يذكر فيه ما تدل عليه الآيات الكريمة بالدلالات الالتزامية والاشارات والرموز الصحيحة التي يقبلها العقل السليم والذوق الرفيع بحيث تعتبرها الفطرة المستقيمة من صلب دلالات الآية الشريفة، ثمّ البحث الروائي ويذكر فيه الأحاديث التي وردت في بيان الآيات ويعقب عليها بما يقتضيه المقام من البيان والتعقيب. ثمّ البحث الفقهي إن كانت الآيات من آيات الأحكام ثمّ البحث الفلسفي إن كان في الآيات ما يشير إلى بحوث فلسفية أو مباحث كلامية أو بحث تأريخي أو بحث عرفاني وهو الذي تفوق فيه السيّد قدّس سرّه و أبدع غاية الإبداع، وأتى فيه بما تقر به الأعين وتقرط الأسماع حتّى شهد له بالإمامة فيه الأساطين والأكابر، ولم يتوقف في (إمامته) غير المكابر فهو (بإجماع من يعتد بإجماعهم )قطب رحاه، والفائز من جوهر معناه بلحمته وسداه، ولو رجع القارئ إلى ما كتبه الإمام السيّد السبزواري من البحوث العرفانية في (المواهب ) لتحقق عنده مقدار ما وهب الله تعالى لهذا السيّد من (المواهب الرحمانية )والفيوض الربانية فقد ذكر هذا (الإمام الموهوب) في (مواهبه) من أسرار العرفان ما يناغي الروح ويهز النفس ويشرح الصدر، ولذا كانت (هاتيك البحوث) مورد قبول المطالعين واستحسانهم ومن ثمّ تكرر طلبهم إلى السيّد قدّس سرّه في أن يزيد في هذه البحوث العرفانية، فإنّها قلّما ذكرها أحد من العلماء والعرفانيين كما إنّها تختلف عمّا ذكره الصوفية في تفسيراتهم للآيات التي أبعدتها عن المعنى المقصود بل ذكروا فيها ما لا يقبله العقل والفطرة المستقيمة... ثمّ يذكر بعض المباحث الأخرى كالبحث العلمي فيبين في هذه البحوث ما تشير إليه الآيات الكريمة ولم يذكر وجه الارتباط بين
ص: 71
الآيات على ما ذكره في مقدمة التفسير من أنّ الآيات تشترك في هداية الإنسان وإرشاده إلى الحق القويم وتوجيهه إلى الكمال المنشود وبعد ذلك لا معنی لالتماس وجه الارتباط بين الآيات (1). (1)
كما لم يعتبر شأن النزول بعد أن كانت للآيات معان سامية وأمور كلّية تنطبق على مرّ الدهور وكر العصور فلا وجه لقصرها على ما ورد في شأن النزول، نعم يكون هو الفرد الحقيقي الجامع لما ورد في الآية الكريمة أي من باب الجري والتطبيق، وبذلك سلم من كثير من الإشكالات التي ذكروها في التفاسير.
وبالجملة فإنّ تفسير سيّدنا الأعظم الإمام السبزواري قدّس سرّه من التفاسير الفائقة فيعرض الموضوع وبيانه وإيصاله إلى الافهام بأسلوب خاص بديع متميز يفيض منه العرفان والذوق العرفاني الذي عالج السيّد المؤلف المواضيع العلمية به، ولذا كان هذا التفسير موضع اهتمام العلماء وغيرهم وله التأثير البالغ في النفوس، وقد وصفه بعض الأجلاء بأنّه شعلة عرفانية تقدح في النفوس نار الوجد والمحبة الله
تعالى.
هذه هي أهم مؤلفات السيّد قدّس سرّه ومن مؤلفاته:
1) رسالة (جامع الأحكام الشرعية )التي احتوت فتاواه في الأحكام الالهية.
2)(منهاج الصالحين) في جزأين: الأول في العبادات، والثاني في المعاملات.
3) رسالة (توضيح المسائل) بالفارسية.
4) (مناسك الحج )جمع فيه مناسك الحج والعمرة.
5) رسائل أخرى متعددة تختص كلّ منها بموضوع خاص كرسالة (الدماء
ص: 72
الثلاثة) التي تختص بالنساء ، و (الطهارات الثلاث) و (الصلاة والصيام والحج والخمس والتقليد) وهي كراسات صغيرة تبين الأحكام الإلهية بأوجز عبارة وأحسن أسلوب.
ص: 73
ص: 74
فمنها :حواشيه على كتاب (جواهر الكلام) و (البحار) و (الوافي) ورسائل صغيرة ذكر فيها أسماء القواعد الفقهية وما ورد عن الأئمة علیه السلام من الكليات التي يمكن أن يستفاد منها فروع متعددة، وبعض الفوائد التي تختص بعلم الرجال. ومن مؤلفاته أيضاً : (إفاضات الباري في نقض ما ألفه السبزواري) (1)(1) ناقش فيه بعض آراء الحكيم السبزواري وقد فقد هذا الكتاب في ظروف خاصّة. وقد جمعت أجوبته عن المسائل التي عرضت عليه في كتاب مستقل فجاء كتاباً نافعاً وقد حوى جملة من المسائل المستحدثة وأجوبتها من قبل السيّدقدّس سرّه وسنذكر (مسألة) منها والجواب عنها في باب (نموذج من أجوبته عن المسائل المستحدثة) هذا الإمام السيّد السبزواري قدّس سرّه في مؤلفاته وآثاره الخالدة التي يحق له (رضوان الله عليه) أن يخاطب كلّ كتاب منها بقول القائل:
كتابي سر في الأرض وأسلك فجاجها ***وخل عباد الله تتلوك ما تتلوا
فمابك من أكذوبة فأخافها ***وما بك من جهل فيزري بك الجهل
ص: 75
ص: 76
الإمام السيّد السبزواري آية من آيات الله تعالى في (الفقاهة) كما هو آية في سائر العلوم الإسلامية والمعارف الالهية. وقد أحاط بمدارك الشرع الشريف إحاطة تامّة لا يضارعه إلا النزر اليسير من أعاظم المجتهدين إن لم نقل أنّه عديم المثيل في ذلك.
ولمّا كان الدين الإسلامي السامي خاتمة الأديان السماوية فقد تكفل بيان كل ما يحتاجه المسلم من مطالب تتصل بسلوكه وعباداته ومعاملاته إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها، وتاسيسا على هذا فقد وضع (الكليات العامة) و (القواعد المستوعبة) التي تندرج تحتها (الفروع المتكثرة) و (المسائل المستحدثة ولا يتأتى تطبيق الفرع على الأصل في مثل هذه الفروع والمسائل إلا للفقيه البارع المحيط بكليات مسائل الشرع الشريف وجزئياته والحافظ للآثار المعصومية مع كفايته(1)(1) التامّة لاستكناه أسرار الكتاب العزيز وبراعته في استنباط الأحكام من مصادرها. وفيما يلي نموذج واحد من المسائل المستحدثة المعقدة وجواب السيّد عنها:
ص: 77
بٍسم الله الرَحمن الرَحیم
سماحة المولى الإمام السيّد السبزواري حفظه الله تعالى آمين.
بعد التحية ما هو الحكم الشرعي في السؤال التالي؟
في فرنسا تدهورت صحة رجل فأخذت زوجته لسبب من الأسباب وبالاتفاق معه من منيه وحفظته في ثلاجة طبية تحت اشراف الأطباء ثمّ توفي الزوج، وبعد مدة من وفاته في وقت وجدته الزوجة والأطباء مناسباً تمّ تلقيح بويضتها بحيامن الزوج المتوفي فكان أن حملت ووضعت مولوداً سوياً وطالبت بحق مولودها من إرث زوجها ورفع الأمر إلى القضاء الفرنسي فثار جدل حاد(1)(1) حول هذا الموضوع في المحاكم وقضاة الشرع وأختلفت آراء الفقهاء الفرنسيين وتباينت الاجتهادات، والمرجو من سماحتكم بيان موقف الشرع الحنيف في هذا الموضوع فإنّ الأمر من الأهمية بمكان لم تكن في غيره متّعنا الله وجميع المسلمين ببقائكم الشريف.
الدكتور محمّد صادق شريف
جواب سيّد المجتهدين الإمام السبزواري
باسمه (2)(2) تعالى
في مفروض السؤال إذا كانت الزوجة مؤتمنة ولم تتزوج بعد وفاة زوجها ولم يدخل بها أحد وكان المني محفوظاً ولم يشتبه بغيره يلحق المولود بالرجل
ص: 78
المتوفى وأمّا الإرث فلا يرثه لأنّ المستفاد من الآيات المباركة والسنن المعصومية علیهالسلام أنّ الوارث لابدّ أن يكون موجوداً (حملاً كان أو وجوداً خارجياً) حال انتقال تركة المورث إلى الوارثين والمفروض أنّه لم يكن كل واحد منهما، فلا يرث لانتفاء الشرط، هذا إذا أريد تطبيق حكم الشرع والمبين عليهم وإلا فتتبع أحكامهم ونحن نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم والله العالم. وأسأله تعالى أن يوفقكم للعمل بالأحكام الشرعية والاجتناب عن المعاصي والعقائد الفاسدة إنّه ولي التوفيق.
5 ع 1411/1 ه- السبزواري
(مهذب الأحكام) ج 30 ص 358
ص: 79
ص: 80
ممّا اتفق عليه أرباب النهى وأصففت عليه آراء الحكماء والعرفاء أنّ جهاد النفس هو المرتكز الأول لبلوغ الإنسان مرتبة (القرب) وفوزه ب-(مقام الرضا) اللذين لا ينالهما إلا من (خالف هواه وأطاع أمر مولاه) وهذا المعنى هو المعبر عنه بلسان الشرع الأقدس ب-(الجهاد الأكبر) وبتحقق هذا (الجهاد) في سيرة الفرد المسلم يخرج من أسر النفس البهيمية (الامارة بالسوء) إلى (سلطنة الروح) حيث السراط الأقوم صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم بما هو أهله مما (لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال أحد) وإليه الاشارة بقوله عزّ من قائل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فينا لَنَهديَنّهُم سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسنين} . ومن أقباس هذه المشكاة استضاءت أرواح المجاهدين لأنفسهم في الأفعال والأقوال فكانت (المثل الأعلى) لكل من التمس (القدوة الصالحة) و(الأسوة الحسنة) ولا مشاحة في أنّ توطين النفس على مخالفة الهوى وإطاعة أوامر عالم السر والنجوى يحتاج إلى ترويض وجهاد متصلين، والموفق من أدرك بمخالفة هوى النفس غاية المنى وفاز بالسعادة الأبدية في الآخرة والأولى. ولله درّ الأديب البوصيري حيث يقول:
وخالف النفس والشيطان واعصهما ***وإن هما محضاك النصح فإتهم
ولسيّد المجاهدين وقدوة العارفين الإمام السبزواري قدّس سرّه در كلام نفيس في (باب الجهاد) تلوح عليه أنوار الفيض الرباني وتغمره جلالة الافاضات القدسية يجد فيه المهتدي ضالته فيغذ السير في (معارج الترقي الروحي) بتهذيب النفس وصقلها والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل. وقد جاء على اختصاره موفيا
ص: 81
على الغاية بالغاً في استيفاء المعنى حدّ النهاية، ومن المناسب تزيين هذه السطور بذرو من ذلك (الدر المنثور) لتطيب به النفس وتنشرح الصدور. قال أعلى الله مقامه تحت عنوان (فصل في جهاد النفس) من موسوعته الكبرى (مهذب الأحكام) ج 15، ص 202-201 ما هذا لفظه: جميع ما يذكره الفقهاء في الجهاد الكفار والمشركين مقدمة من مقدمات تحقق الجهاد الأكبر ، بل ما يذكر في أحكام العبادات والمعاملات من مقدماته أيضاً والعمل بها يكون من بعض مراتبه،
قال أبو عبد الله علیه السلام في خبر السكوني:
«إنّ النبي صلّی علی علیه وآله وسلم بعث سرية، فلمّا رجعوا قال صلّی علی علیه وآله وسلم : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل : يا رسول الله ما الجهاد الأكبر ؟ قال صلّی علی علیه وآله وسلم :جهاد النفس .
وقد ورد في الجهاد الأكبر في جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم ومن الأنبياء والأوصياء خصوصاً من خاتم النبيين صلّی علی علیه وآله وسلم وأوصيائه المعصومين علیه السلام ما لا يحصى ولا يستقصى.
ثمّ قال السيّد (رضوان الله عليه) عليقا على قول السيّد صاحب (العروة) من أنّ جهاد النفس هو أهم أقسام الجهاد ما نصّه: بل هو أهم شيء اعتنى به جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن المهيمن عليها وهو نتيجة دعوة كلّ الأنبياء والمرسلين ولا سيّما خاتم الأنبياء صلّی علی علیه وآله وسلم وخلفائه المعصومين علیه السلام إلى انقضاء العالم. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجٍنَّ والإنسَ إلا ليعبُدُونٍ}، فإنّ المراد إمّا معرفة الواقعيات على ما هي عليها أو العبادة الحقّة المطابقة للواقع، وكلّ منهما متقومة بمجاهدة الكمالات الإنسانية النفس، وكيف لا يكون كذلك وفيها منطوية
ص: 82
جميع الكمالات الإنسانية المعدة له وبه يصير الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم الحسّي بل أرفع منه من كلّ جهة، بل يصير الإنسان أجلى مظهر للقدرة الإلهية غير المتناهية فيوجد ما يشاء ويخلق ما يريد وبه يصير مسلطاً على ملكوت الغيب فضلاً عن عالم الشهادة. وبه تنقاد له الموجودات فيغيرها من صورة إلى أخرى، ويتصرف فيها بما يشاء ويصير عالم الشهادة بين يديه كفلقة الجوزة بين يدي أحدنا، وبه يقدر على إخماد نار الجحيم، ففي الآثار المعصومية علیه السلام : إذا عبر المؤمن على السراط تناديه نار جهنم :(جز يا مؤمن فإنّ نورك قد أطفأ لهبي). إلى غير ذلك ممّا ورد في شأن هذا المقام العظيم الذي لا تدرك العقول منه إلا شيئاً يسيراً فالعلم به حالي لا أن يكون مقالياً لنهاية جلاله وعظمته، وقد أشار إلى بعضها نبيّنا الأعظم صلّی علی علیه وآله بقوله: «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل». أو قوله صلّی علی علیه وآله وسلم(1)(1): «أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني». ومن أهم مقدمات هذا الجهاد معرفة النفس الإنسانية أولاً ولو في الجملة، لأنّ معرفتها بالكنه غير ميسرة لأحد إلا لمن خلقها (2) (2). وقد كتبوا في ذلك كتباً كثيرة من
ص: 83
المسلمين وغيرهم، وجاهدوا في معرفتها حق الجهاد ولكن لم يصلوا إلى حق المعرفة، وكلّ من أتى بشيء في بيانه إنّما أتى به بمقدار فهمه لا بقدر الواقع. ولعلّ أقربها إلى الثواب (1)(1) ما عن بعض العارفين من أنّه: (لو فرض تجلي الذات الأقدس الربوبي في صورة الممكنات لا ينجلي إلا في حقيقة النفس الإنسانية، ولو فرض وصول ممكن إلى حضرة المرتبة الأحدية لا يصل إليها إلا النفس الإنسانية ولعلّه إلى هذا أشار الحكيم السبزواري حيث يقول:
وإنّها بحت وجود ظل حق*** عندي وذا فوق التجرد انطلق
ولكن كلّ ذلك إشارة إلى بيان الآثار ومن شرح الاسم لا أن يكون بياناً للحقيقة، فسبحان من تحير ذوو العقول في فهم خلق من خلائقه فكيف بذاته؟! وعلى أي حال هذه المرتبة التي تحيرت عقول الحكماء والعرفاء في دركها لا تحصل إلا بالمجاهدات النفسانية وبالجهاد الأكبر الذي هو أشرف مقامات النفس وبه يفضل على الملائكة الكروبيين. ولا ريب في أنّ هذا ليس نصيب كلّ عامي وبدوي، وكل من يدعّي الإنسانية بل هو مقام يتفضل به الله تعالى على من يشاء من عباده بعد طول المجاهدة والسعي بقدر الطاقة البشرية. ولهذه المجاهدات مراتب كثيرة منها ما قاله أبو عبد الله علیه السلام :(من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضي فقد حرّم جسده على النار) انتهى كلامه الشريف قدّس سرّه.
وأقول: إنّ من يقرأ كلامه أعلى الله في دار المقامة مقامه لا يسعه إلا أن يشهد لهذا الإمام العارف المتأله بكمال الدرجات وعلو المقامات في عالم المجاهدات
ص: 84
فإنّه رضوان الله عليه بما كتبه إنّما يشير إلى نفسه باللمحة الدالة والتعريض اللطيف الذي يفهمه من رزقه الله تبارك وتعالى سلامة الذوق وزيادة الفطنة والانسة بكلام أئمة العارفين وسادات المجاهدين فإنّهم ما كانوا يصرحون بما هم عليه من تلک (الأحوال) المستغرقة بالمجاهدة في الوصول إلى ساحة القرب من الواحد المتعال. ولم يكونوا في التزام هذه الطريقة بدعاً من الأنبياء والأئمة الطاهرين علیه السلام فهم على سننهم سائرون وبسننهم (1)(1) مقتدون (أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده).
ص: 85
ص: 86
النصيحة للمسلم من الواجبات المقررة في شريعتنا المطهرة، وقد تظافرت الآيات والأحاديث المعصومية وأقوال الحكماء والمصلحين على كون النصيحة من مقومات(المجتمع الإسلامي) فالتناصح بين المسلمين هو الكفيل باصلاح أحوالهم وتكميل آدابهم والبلوغ بهم إلى شاطئ الأمان والسلامة في دينهم ودنياهم ولهذا ورد في الأثر عن سيّد البشر صلّی علی علیه وآله وسلم : «الدين النصيحة» قالوا :لمن يا رسول الله ؟ قال صلّی علی علیه وآله وسلم: «الله ولرسوله ولأئمة المسلمين والعامتهم».
ونصيحة المسلم للمسلم كاشفة عن حقيقة اخلاصه وكمال معرفته بما يجب عليه وما يحق له والقيام بها أداء لبعض ما افترض الله تعالى عليه من الأعمال الواجبة بالأدلة السمعية والعقلية، إلا أنّها من العالم الرباني أوقع أثراً، وأينع ثمراً كما قام عليه الدليل والبرهان وشهد به الحس والعيان. ويأتي سيّدنا الإمام السبزواري قدّس سرّه في مقدمة أولئك الأئمة الربانيين الذين قاموا بواجب النصيحة حق القيام، فإنّه طيّب الله ثراه لم يدخر وسعاً، ولم يأل جهداً في بذل النصح والتوجيه لكلّ أظلته خيمة الإسلام وخفق عليه لواؤه الميمون إنّ في تضاعيف مؤلفاته أو في مجالس درسه، أو في مجالسه العامّة والخاصة أو في بيته، كلّ هذه المقامات تشهد له بأنّه سيّد الناصحين، وقدوة المرشدين، وصفوة الواعظين المتعظين. وقد عرف عنه وشاع حتّى ملأ الأسماع إنّه
ص: 87
(رضوان الله عليه) كان كثير النصح لجلسائه وأهله وذوي رحمه (1)(1) ، لا يحرمهم مما تعلمه من أساتذته الكرام في العرفان ولكنّه لا يمنحها إلا لمن يراه موضعاً للاستفادة منها. فقد كان ينصح لأولاده (2)(2) بأداء الصلاة في أول أوقاتها لما في ذلك من الأثر الكبير في التوفيق الذي هو أساس كلّ فضيلة ومكرمة، كما كان ينصح لهم بقراءة القرآن ولو ورقة واحدة حتّى لا يكونوا تاركين له بالكلية لما في قراءته من الأثر البالغ في تنوير القلوب كما كان ينصح لهم أيضاً بالمداومة على النوافل ويقول إنّها تمنحهم الصبر على الطاعة وترفع درجتهم بسببها. ومن نصائحه قدّس سرّه أنّ كلّ من نوى أمراً فالله تعالى (الذي يعلم السر وما يخفى) مطلع عليه فلابدّ أن ينوي الخير حتّى يجني الثواب عليه وإذا أظهره الله للملأ يكون في أبهى صورة فلا يخجل العبد ممّا نواه. وكان طيّب الله رمسه ينصح لأهل العلم بمداومة المطالعة والتفقه في الدين فإنّ المطلوب منهم عند الناس هو التفقه، فلا يرجعوا جهالاً بعد برهة من الزمن امتثالاً لقوله صلّی علی علیه وآله وسلم: « لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنّه قد علم فقد جهل». وإن يصرفوا هممهم في كسب المكارم والاعراض عن الدنيا حتّى تؤثر أقوالهم وأفعالهم في القلوب ويكونوا في مأمن من المكر الالهي في الدنيا والآخرة. وكان يوصيهم بالورع والتقوى ثمّ التفقه فإنّه لا ينال أحكام الله تعالى إلا بالتشبه بأخلاق الله والتخلي عمّا يبغضه جل جلاله
ص: 88
والتجربة أكبر شاهد على صدق ما قاله (رضوان الله عليه). وكان يأمر أهل العلم أيضاً بالمراقبة لأقوالهم وأفعالهم حتّى لا يجدهم الله تعالى في غير طاعته، ولذا كان له ينصح لهم بالسكون إلا في موضع الحاجة، ولم يكن قدس سرّه ينصح غيره بأمر إلا إذا تحلى به إن كان فضيلة أو اجتنبه إن كان رذيلة. ومن ثمّ تعلم أنّ السيّد (رضوان الله عليه) كان مربياً ناصحاً ومرشداً مخلصاً. أحبته القلوب ورأت الناس في شخصه الكريم شخصية أجداده الطاهرين علیه السلام فكانوا يبكون عند رؤيته ويقولون أحببناه كما أحببنا علياً علیه السلام.
وقد ذكر أحد وكلائه في إحدى زيارته إيّاه في بيته أنّه كان وكيلاً لأكثر من مرجع واحد مدة مديدة إلا أنّ السيّد يختلف عن الآخرين فما ذكرته في مجلس ( يقول ذلك الوكيل) إلا وبكى الناس عند سماع اسمه ويقولون: وقع في قلوبنا قبل رؤيتهم إيّاه، وهذه خاصية اختص بها السيّد السبزواري قدّس سرّه وامتاز بها من غيره (1)(1) من العلماء والمراجع قدّس الله أسرارهم.
ص: 89
ص: 90
الكرامة هى ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن بدعوى النبوة، فما لا يكون مقروناً بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجاً (والعياذ بالله) وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سَنَستَدرٍجُهُم مٍن حَيثُ لا يَعْلَمُونَ} وما يكون مقروناً بدعوى النبوة يكون معجزة كما أفاده غير واحد من المحققين ومنهم السيّد الشريف الجرجاني في (التعريفات). والكرامات لأصحاب المقامات ممّا ثبت في الشرع الإسلامي المنيف وتظافرت بل تواترت الآيات والأحاديث على وقوعها ولم يخالف في ذلك أحد من أهل القبلة إلا شرذمة لا يعبأ بخلافهم ولا ينخرم إجماع الأمة بخروجهم. كيف وقد نطق الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بوقوع الكرامة بما لا يقبل التأويل ولا تحوم حوله شبهة الاحتمال في قصة عرش بلقيس(1)(1) الذي أتى به آصف بن برخيا (ولم يكن نبياً) من اليمن إلى بلاد فلسطين قبل أن يرتد طرف سليمان على نبيّنا و آله وعليه الصلاة والسلام على ما عبّر عنه القرآن الكريم في سورة النمل{ قَالَ الذي عندَهُ علم مٍنَ الكَتابٍ أنَا آتيك به قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقراً عندهُ قَالَ هَذَا مٍن فَضلٍ رَبّي...} وقد اجمع محققوا الفريقين على أنّ ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، وإنّ سيّدنا الإمام السبزواري قدّس سرّه من كبار الأولياء وأعاظم العرفاء وقد خصّه الله تعالى بالكرامات الكثيرة وإنّ من أعظم كراماته هو (استقامته) على النهج القويم واقتداؤه بسيرة أجداده الأئمة اللهاميم عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ص: 91
وقد ورد في بعض الآثار: (الاستقامة خير من ألف كرامة) لأنّ الاستقامة أمر شاق دون تحقيقه خرط القتاد ومناط الثريا من مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء والتخلص من أوظار العلائق الدنيوية والتشبه بالأخلاق القدسية ومن هنا ورد عن سيّد أرباب المعاجز والكرامات صلّی علی علیه وآله وسلم أنّه قال: (شيّبتني هود وأخواتها) قالوا ما شيّبك منها يا رسول الله ؟ قال صلّی علی علیه وآله وسلم قوله تعالى:{فَاسْتَقَمْ كَمَا أُمرت وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} ومن الآيات الدالة على أنّ الاستقامة داخلة في باب (الكرامة) دخولاً أولياً بنحو الاشارة على مشرب أهل العرفان قوله تعالى: {وَأَلَّو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّريقَة لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } والاسترسال في تفصيل هذه الجملة قد يخرجنا عن الصدد فلنرجع إلى سائر (1)(1) كرامات سيّدنا الإمام طيّب الله رمسه وقد سارت بها الركبان وما فتئت ورد كلّ لسان ورواها الثقات (2) (2)الأماثل حتّى بلغت مبلغ التواتر مع صدق الناقل ولم ينقل عن سائر الأعلام والمراجع ما نقل عنه من الكرامات فقد منحه الله تعالى منها الكثير والطيب وانهمرت بركاتها عليه كالسحاب الصيب، وكيف لا يكون بهذه المثابة، وهو سيد أهل العرفان الصادق (في هذا العصر) وقدوة أهل القلوب السليمة وأصحاب الإنابة؟ وهي من الكثرة بالنحو الذي لا يحاط به ولا يوقف له على حد ونحن في هذا المقام نختار منها ما يكون كالغرة الشادخة في ثنايا هذه الطروس،
ص: 92
لتطيب به الخواطر وتغتبط النفوس فمن ذلك ما نقله بعض الثقات من أنّ جماعة من المؤمنين الأخيار قصدوا دار السيّد قدس سرّه بعد انفضاض الناس من أداء فريضة الحج المباركة وقدموا له التهاني والتبريكات بمناسبة رجوعه من بيت الله الحرام وتوفيق الله إيّاه بالوقوف في تلك العرصات الشريفة فشكر لهم(1)(1) ولم يعترض بشيء مع أنّ السيّد (رضوان الله عليه) لم يكن قد حجّ في ذلك العام. ولمّا خرجوا من داره سأله بعض خواصّه عن السبب في عدم بيان الأمر الواقع فأجابه السيّد بأنّ الله تعالى قد وكلّ عن كلّ عبد صالح مطيع ملكاً يحج عنه كلّ عام كما ورد في أخبار المعصومين علیه السلام ثمّ أمره بأن يكتم ما سمعه حال حياة السيّد فامتثل أمره ولم يخبر به إلا بعد انتقال السيّد إلى الرفيق الأعلى ومنها أنّه حدثت في الحوزة العلمية في النجف الأشرف مشكلة كبيرة لم يسلم منها حتّى العلماء وقد كان السيّدقدّس سرّه يؤدي الصلاة جماعة في مسجده وبعد أن انهى الصلاة وخرج من المسجد أخبروه بالخبر الفظيع فلم يبال بما قالوه وخرج وهو يردد على لسانه أذكاراً وأوراداً خاصّة وسار بين جمعهم فلم يعرض له ما عرض لغيره فكانت سلامة السيّد (رضوان الله عليه) مثار تعجب الناس وإكبارهم إيّاه.
ومنها أنّه خرج زائراً أحد العلماء وقد كان العالم المذكور في حالة يصعب معها الوصول إليه، والزائر له يلاقي الألاقي دون الحضور لديه مع ما كان عليه ذلك العالم من التعب والمشقة فلم يمكن أن يدخل عليه أحد لكن السيّدقدّس سرّه دخل عليه من حيث لا يمكن تصور إمكان الدخول عليه في ذلك الوقت الحرج حتّی تعجب منه ذلك الشخص ولم يصدق ما حدث.
ص: 93
ومنها أنّه التمس منه أحد المرضى المبتلين بمرض الفقرات أن يدعو له فوضع السيّد يده الشريفة على ظهر المريض فبرأ من مرضه ولا يزال حياً يرزق وفي صحة جيدة يغبط عليها بعد معاناته المستديمة من ذلك المرض.
ومنها دعاؤه المستجاب للذين كانوا يلتمسون منه الدعاء لهم. وقد أخبر بعضهم أنّه التمس من السيّد أن يدعوا له بأن يلهمه الله تعالى قوة الحفظ فوضع يده المباركة على رأسه ومن ذلك اليوم لم ينس ذلك الرجل شيئاً ممّا تعلمه هو الآن أحد الخطباء، ولا يزال هذا الرجل يذكر تلك الكرامة إن استوجب الحال ذكرها.
ومنها أنّ امرأة مريضة قصدت قبره واخذت من ترابه فوضعته على موضع الألم فشفيت من مرضها، وكانت تلك المرأة تعطي الناس من تلك التربة لقضاء حوائجهم وشفاء مرضهم.
ومنها أنّه كان في طريق الحج في إحدى السنين مع (حملة) الحاج السيّد اسماعيل حبل المتين وكانت (القافلة) (1)(1) تسير على طريق ( عرعر)فتاهت في الصحراء، ونفد(2)(2) الماء عندهم وحشرت السيارات في الرمال حتّى بلغ اليأس بهم أنّ حفر كلّ واحد من الحجاج حفرة في الرمال صغيرة لتكون قبراً له وضجوا بالدعاء والتوسل، أمّا هو قدّس سرّه فابتعد قليلاً عن الجمع، وصلّى صلاة جعفر الطيار
ص: 94
علیه السلام وكان يحبها ويلتزم بها في طلب حوائجه من الله تعالى وكم قضى الله تعالى له حاجات متعسرة بفضلها وبركتها وأخذ يتوسل بالحجة علیه السلام وإذا برجلين أو ثلاثة قد أقبلوا وملؤوا لهم قربهم وأرشدوهم إلى الطريق ثمّ بعد ذلك خرجت السيارات من الرمل بدفعها قليلاً، ولم يشاهدوهم بعد ذلك.
ومنها أنّه في إحدى سني الحج أيضاً أضاع بعض حوائجه وجواز السفر وماله كلّه وكانت ملفوفة بقماش، فذهب إلى بيت الله الحرام وصلّى صلاة الحبوة وتوسل إلى الله تعالى طلباً لها بعد حيرة شديدة في ساعات عصيبة، لأنّه لا يستطيع سؤال أحد تصونا وحياءاً وإن كان في أحرج الأوقات وإذا بشاب نوراني قد أقبل عليه قائلاً: السيّد عبد الأعلى هذا ما تبحث عنه، وأعطاه ذلك القماش الملفوف على تلك الحوائج وعندما انتبه السيّدقدّس سرّه من تلك المفاجأة لم ير للشخص المذكور عيناً ولا أثراً.
ومنها أنّه أصيب بمرض القلب في إحدى سني عمره الشريف وكان الذي يباشر معالجته الدكتور موسى سعيد الأسدي الذي أتى به الحجة السيّد محمّد کلانتر (عمید جامعة النجف الدينية) لغرض فحص السيّد (رضوان الله عليه) بعد رفضه مراجعة الأطباء، فطلب منه الدكتور الذهاب إلى المستشفى للرقود فيه والعلاج، لأنّ حالته كانت خطرة. فتوسل السيّد بجده الإمام الصادق علیه السلام ونوى إن ألبسه الله ثوب العافية من هذا المرض أن يكتب دورة فقهية كاملة... وإذا به يقوم في الليلة نفسها من نومه معافى لا يشكو من شيء ثم ذهب إلى مسجد السهلة بعد منتصف الليل مع إلحاح أهله بعدم الذهاب خوفاً على صحته لكنّه كان مصراً على الذهاب وكان له ما أراد.
ص: 95
فتعجب الدكتور بعد فحصه أيّما تعجب عندما ظهر له أنّه قد شفي تماماً وعلم أنّ الأمر ليس عادياً جزماً وأخبرهم بهذا فشرع السيّد قدّس سرّه في كتابة دورته الفقهية (مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام).
ومنها: أنّه كان يقول: كانت تنكشف لي بعض الحقائق في مرحلة من عمري ولا يبين نوعها كما هي عادته.
ومنها: أنّ أحد المؤمنين رآه في المنام وهو في أحسن حال وطلب منه أن يبين له ما جرى عليه في الليلة الأولى من دفنه. فقال: كنت جالساً في غرفتي(1)(1) فدخل أمير المؤمنين علیه السلام وكانت مؤلفاتي حولي فأخذ واحداً منها فورقه وتصفحه فقال: نعم ما كتبت. وذكر هذا الشخص أنّه قال للسيّد قدّس سرّه: إذا سألني أحد عن كتبك ومؤلفاتك أنها مرضية عند الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
فقال : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: إنّها حسنة.
ومنها أنّ أحد العرفاء رأى في المنام في الليلة التي توفي السيّد في صباحها أن رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم متوجه إلى المدينة المنورة ومعه السيّد قدّس سرّه فاضطرب في منامه وفي ظهر ذلك اليوم أخبر أنّ السيّد توفي صباحه.
ومما نقله لي بعض الثقات أنّ السيّد (رضوان الله عليه) سكن في أوائل دخوله النجف الأشرف في احدى المدارس الدينية (وهو يومئذ في سن الشباب من عمره الشريف) ولم يكن يومئذ يعرب عن نفسه ويظهر فضيلته بل كان ملتزماً بالصمت مع مراجعة دروسه وفي يوم من الأيام حصل نزاع بين جماعة من أهل
ص: 96
العلم في مسألة عويصة جداً لا يتأتى كشف الغطاء عن جوابها السديد إلا للعالم المتبحر المحيط بأقوال الفقهاء والمجتهدين وإذا بالسيّد ينبري لهم ببيان الوجوه التي يمكن على ضوئها فك معضلات تلك المسألة ثمّ يعرض لهم أقوال العلماء فيها مقوياً ومضعفاً على قواعد كبار الفقهاء والاصوليين فأخذ العجب كلّ مأخذ وعدوا جواب السيّد من باب الكرامات.
ص: 97
ص: 98
السفر ظاهرة اجتماعية معروفة منذ أقدم الأزمان والمقتضي له يختلف باختلاف النيّات والمقاصد فتارة يكون لكسب الرزق واخرى لطلب العلم وثالثها لنشر أحكام الله تعالى وتبليغ أوامره ومرة للتفسح والاطلاع على أحوال البلدان والشعوب وهلم جرا. وقد وردت آثار في مدحه وأخرى في ذمّه وممّا ورد في مدحه البيتان المشهوران المنسوبان إلى أمير المؤمنين علیه السلام(وليسا له):
تغرب عن الأوطان في طلب العلا ***وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة ***و علم و آداب وصحبة ماجد
وفي الأثر: (سافروا تغنموا وتصحوا) وفوق هذا وذاك قول الحق سبحانه: {وَآخَرُونَ يَضرٍبُونَ في الأرْضٍ يَبْتَغُونَ من فَضْل الله }.
وفي بعض الكتب السماوية (ابن آدم جدد سفراً أجدد لك رزقاً).
وقالت الحكماء: إنّ السفر أحد أسباب المعاش التي بها قوامه وعليها نظامه لأنّ الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرقّها وأحوج بعضها إلى بعض ومن فضله أنّ صاحبه يرى عجائب الأمصار وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علماً ويفيده فهماً بقدرة الله وحكمته، ويدعوه إلى شكر نعمته، ويسمع العجائب، ويكسب التجارب، والسفر يفتح المذاهب، ويجلب المكاسب، ويشد الأبدان، وينشط الكسلان، ويسلي الشكلان ويطرد الأسقام، ويشهي الطعام ويحيط سورة الكبر، ويبعث على طلب الذكر . ربما اسفر السفر عن الظفر، وتعذر
ص: 99
في الوطن قضاء الوطر وممّا ورد في ذمّه: (إنّ المسافر وماله لعلى قلت (1) (1)إلا ما وقى الله) وقيل لبعضهم: إنّ السفر قطعة من العذاب، فقال: بل العذاب قطعة من السفر (2)(2)
و(القدر المتيقن) من (السفرالمحمود) هو ما كان الله تعالى فيه رضا وللمسافر أجر وثواب وصلاح ويدخل تحت هذا العنوان: السفر من أجل طلب العلم أو زيارة البيت الحرام أو أحد المشاهد المشرفة أو كسب الرزق الحلال لصون النفس من موارد المال الحرام أو صلة الرحم أو نشر الأحكام الالهية وإصلاح ذات البين وما في معناها. وقد كان سيّدنا الإمام السبزواري (رضوان الله عليه) قليل الأسفار مشغولاً بتكميل نفسه بالكمالات العلمية والعملية. وأول أسفاره هو هجرته لطلب العلم من مدينة سبزوار مسقط رأسه إلى مدينة مشهد المقدسة في سنة 1342 ه- ثمّ هاجر منها إلى مدينة النجف الاشرف في سنة 1348 ه- وألقى فيها عصى التسيار إلى أن توفاه الله عزّ وجلّ. كما أنّه وفق إلى السفر إلى بيت الله الحرام زيارة قبر سيّد الانام وأئمة البقيع علیه السلام ثلاث مرّات، وكانت أسفاراً روحانية استفاد منها وكشفت له بعض الحقائق التي لم يصرح بها وقد مرّ عليك في باب (كراماته) بعض ما حصل له من التوفيقات وقد أورد هذه الحادثة في تفسيره القيم (مواهب الرحمن) ج 3 في تفسير آية الكرسي. كما حصل له في إحدى سفراته إلى حج البيت الحرام كرامة عجيبة وقد ذكرناها بإيجاز كما رويت لنا عن طريق الثقات في باب (الكرمات) أيضاً. وسافر السيّد أيضاً إلى مسقط رأسه (سبزوار)
ص: 100
بعد وفاة والده العلامة الحجة السيّد علي رضا السبزواري الأفقهي لترتيب بعض الأمور التي استحدثت بعد وفاة والده الحجة قدّس سرّه، حيث أنّه كان متولياً لأوقاف خاصة منصوص التولية، أمّا لخصوص الجامع الذي كان يصلي فيه وهو مسجد (بامنار) الذي يعود انشاؤه إلى أكثر من 600 سنة ويعد الآن من الأماكن الأثرية في إيران ولا سيّما مأذنته التأريخية المائلة فأوكل أخاه المعظم الحجة السيّد فخر الدين الأفقهي السبزواري في إدارة تلك الوقاف وبعد زيارته لمشهد الرضا علية السلام مستذكراً تلك الأيام التي كان يطلب فيها العلم في تلك البلدة المباركة قفل راجعاً إلى كعبة العلم ومدينة التقى النجف الأشرف متوطناً فيها إلى أن وافاه الأجل المحتوم فاختاره الله إلى جواره.
ص: 101
ص: 102
مشايخه (1)(1) في الرواية
دأب علماء المسلمين من الفريقين على رواية الحديث بطرقه المتداولة بين علماء هذا الفن والغرض المطلوب من التزامهم بهذه الطريقة هو التشرف بانتظامهم في سلك رواة حديث النبي صلّی علی علیه وآله وسلم والأئمة المعصومين من عترته الميامين علية السلام بالنسبة إلى الشيعة الإمامية، والانتساب إلى رواة حديث النبي و وأصحابه أكتعين أبصعين بالنسبة إلى غيرهم من المذاهب الإسلامية. وطرق التحمل مفصلة في كتب (الدراية والرواية) فلا داعي إلى التفصيل. لكن الذي لابدّ أن يذكر (هنا) هو أنّ الإجازة برواية الحديث في العصور المتأخرة إنّما تعطى وتؤخذ على نحو التبرك والتيمن ليس إلا. وناهيك بهما، فما عن بعض المعاصرين دام ظلّه من عدم القائل بتداول الإجازة في الحديث ليس بسديد.
ولسيّدنا الإمام السبزواري قدّس سرّه إجازات في الرواية وكلّها شفهية من أساتذته ومشايخه في الإسناد وهم الآيات العظام الشيخ عباس بن محمّد رضا القمي صاحب (الكنى والألقاب) و (سفينة البحار) و (مفاتيح الجنان) وغيرها، والشيخ أغا بزرك الطهراني، والشيخ علي أكبر النهاوندي والشيخ عبد الله المامقاني (قدّس الله أسرارهم)، ومشايخه في الاستناد وهم الآيات العظام: السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني والشيخ محمّد حسين النائيني، والشيخ أغا ضياء العراقي، والشيخ محمّد حسين الاصفهاني رضوان الله عليهم أجمعين.
ص: 103
ص: 104
للعرفاء منهج خاص وسلوك معين أخذوا أنفسهم بالتزامه تاركين لغيره المنهج الذي يختارونه على الوجه الذي يخدمون به الإسلام والمسلمين، إذا لم یکن همهم (أي العرفاء) في تكوين مشروع أكثر من تكميل أنفسهم ليكونوا مربين لغيرهم وإذا صدر مشروع من أحدهم كان ذلك أمراً عرضياً ولم يكن مورد طلبهم الأول، والسيّد الإمام السبزواري قدّس سرّه من هؤلاء العرفانيين الذين تفانوا في التزكية والتربية والتعليم حتّى صاروا ربانيين فقد كان عليه الرضوان في الدرجة الأولى مربياً أكثر من كونه صاحب مشروع. ولاثبات ذلك نذكر مثلاً واحداً من الأمثلة الكثيرة التي اقتبسناها من سيرة حياته المباركة، فقد كان يدرس خارج الفقه والأصول في الجامع الواقع في أحد أزقة الحويش في النجف الأشرف لا يعلم بحاله إلا الله تعالى، إذ لم يكن الجامع المذكور في محل تقع ذلك كان يحضر درسه نخبة من الأفاضل وكان يلقي محاضراته ويختبر بها طلابه ويعلمهم أنّه لا يريد من ذلك إلا وجه الله تعالى ورضاه. فكان يفعل أمراً فيه الاختبار لنفسه وللآخرين، فلم يبق من بعد ذلك إلا من كان مخلصاً في عمله وقليل من الناس من يفعل ذلك ويحرم نفسه من بعض الأمور المباحة، وهذا هو شأن العلماء العرفاء إلا أنّ له مشروعاً واحداً هو جامعه الكبير الذي يعد من أضخم الجوامع في النجف الأشرف وفي الجانب المطل على الطريق يقع مرقده الشريف حيث يؤمه المؤمنون لقراءة الفاتحة والتبرك وأداء الصلاة في جامعه.
ص: 105
ص: 106
سره
كان الإمام السيّد السبزواري قدّس سرّه مقلداً منذ سنة 1380 ه-(1)(1)أي بعد وفاة المرجع العظيم السيّد أغا حسين الطباطبائي البروجردي قدّس سرّه فرجع إليه في التقليد جماعة من المؤمنين في العراق وإيران ولا سيّما مدينته سبزوار وطبع رسالته العلمية باللغة الفارسية بعد عام من وفاة السيّد البروجردي ثمّ اتسعت دائرة تقليده وازداد المقلدون بعد وفاة السيّد الحكيم قدّس سرّه في سنة 1390 ه- وأصبح له مقلدون غير أولئك وطبع رسالته العملية باللغة العربية الموسومة ب-(منهاج الصالحين) بعد التماس الناس منه، ثمّ ازداد المقلدون كثيراً فطلب منه أن يؤلف رسالة وجيزة في الأحكام الشرعية فطبع رسالته (جامع الأحكام الشرعية).
وبعد وفاة السيّد الخوئي سنة 1413 ه- رجع إليه الناس في كثير من الأقطار مثل العراق وإيران والخليج وشيعة باكستان والهند والشيعة القاطنون في الدول العربية فأصبحت مرجعيته عامّة، على أنّه قدّس سرّه (وهو صاحب تلك الروح العرفانية العالية) لم يتصد لها وكانت عزلته وحرصه على الابتعاد عن الأضواء مشهودين إذ لم يكن دأبه وجهاده إلا في الزهد والعزوف عن زخارف الدنيا وزبرجها البراق، ولو كان يرغب في الزعامة الدينية لكان له شأن آخر قبل هذا الأوان بأمد بعيد فإنّ فضله كان مشهوراً، واجتهاده معلوماً كالشمس في رابعة النهار:
وكيف يصح في الأذهان شيء ***إذا احتاج النهار إلى دليل
ص: 107
وورعه وتقواه يشار إليهما بالبنان، وقد ضرب (إمام العارفين) و(قدوة الزاهدين) أروع مثال في العصور الأخيرة في الابتعاد عن هذه الزعامة التي كان يقول عنها: إنّ عبئها ثقيل في الدنيا والآخرة، ولذا لم يكن لأحد حق عليه في إثبات المرجعية له بل الناس بفطرتهم كانوا يرجعون إليه في التقليد من دون احتياج إلى دعاية أو شيء آخر مما يتصل بمعناها، وهذا شأن العرفان الذي يخلب (بالحق) قلوب الناس. وبعد تصديه للمرجعية كان له رأي خاص فيها هو تثقيف المؤمنين في إيصال الحقوق الشرعية إلى مواضعها التي يريدها الشرع المبين، فإنّه (رضوان الله تعالى عليه) كان يقول : إذا كان المؤمن مكلفاً في تهيئة مقدمات الصلاة مثلاً من الماء وتعيين القبلة ونحو ذلك فليكن المؤمن كذلك عارفاً
بمواضع الصرف والمصرف في الحقوق الشرعية ومعرفة الفقراء والمحتاجين وشروط الصرف عليهم وعلى الفقيه تثقيفهم في ذلك ثمّ إعطاء الإجازة لهم بصرفها على الفقراء والموارد الشرعية، وأمّا قبل التثقيف فلا يصح لجهلهم بكثير من الأمور بحيث يؤدي إلى تضييع الحق الشرعي وعدم انتفاع المحتاجين به. وكان يقول أيضاً: إنّ الوكلاء الذين يأخذون الإذن في قبض الحقوق الشرعية لابدّ لهم من أن يكونوا في أقصى درجات الضبط وشدة الورع والتقوى والمعرفة بالأمور، فإذا رأى من أحدهم ما ينافي هذه الأوصاف فإنّه كان يعطيه بعض الإذن الخاص لإرجاعه إلى رشده وإرجاع ثقته بنفسه وثقة الناس به، فلا يتمادى في الغي والابتعاد عن الحق، فإذا رأى أنه أثر ذلك فيه رفع درجته من الإذن وإلا سلب منه ذلك الإذن الخاص وأرشد الناس إلى الابتعاد عنه، فكانت إجازاته ومأذونياته لبعض هؤلاء عملية تربوية لهم لا لجلب نفع منهم أو أنّ قصده
ص: 108
إيذاء غيره من الأعلام. فإنّه كان أجل من ذلك وأسمى فقد ظهرت الروح العرفانية والتقوى على مقلديه في هذه البرهة الوجيزة من مرجعيته، وأخذ طلاب العلوم يبحثون عن أسباب التقوى والعرفان لأنّ الناس يتأثرون بالمرجع وروحيته
على نحو المثل المعروف (الناس على دين ملوكهم) ولكن مرجعيته لم تدم طويلاً حيث توفى قدّس سرّه في سنة 1414 ه- على ما سيأتي بيانه. ومن مميزاته في أمر المرجعية أنّه لم يجعل له من الحواشي والمرتبطين به سوى ولديه الآيتين السيّد محمّد رحمه الله والسيّد علي (دام ظلّه). فحمّلهما مسؤولية كبيرة حتّى لا يحتاج المراجع إلى أشخاص ليوصلوه إلى الحاكم الشرعي وهذا ممّا تفرد به السيّد السبزواري (رضوان الله عليه). وكان يأمر ولديه العلمين بإعانة الفقراء ومساعدة طلاب العلوم الدينية الذين امتازوا بالعلم والتقوى من دون أن يخبروهم أنّه من السيّد، وكان يبغي من وراء ذلك أن يبقى الطالب مثابراً على تحصيل العلم والكمال ويثق بنفسه كما يقصد في ذلك تربية الطالب تربية خاصّة ولأنّ العمل كذلك أبعد من الرياء والشبهة. وكان يشترط على من يعطيه ويساعده أن لا يبوح بذلك. وكانت له مساعدات كبيرة في كثير من المشاريع الخيرية كالمساجد والحسينيات وغيرها، ولكن كان الشرط فيها أن لا يجهروا بذلك أيضاً، فقد كان عليه الرضوان يريدها أن تكون خالصة لوجه الله تعالى والسيّد السبزواري قدّس سرّه له كان آية في الكرم والسخاء في الموضع الذي يتعين أن يكون المرء متصفاً بهما. وقد كان بعض أهل العلم ممن غادر النجف لظرف خاص به (ولم تكن حالته المادية تقوم بكفايته )يقصد دار السيّد فيرى من برّه وكرمه ما لا يوقف له على حصر وكان ذلك الشخص إذا قصد السيّد اكتفى بعطائه ولم يقصد
ص: 109
سواه من المراجع. كما كان بعض المؤمنين يقول: إن السيّد السبزواري لو كان حياً لعمّ النفع جميع الناس ولما بقي فقير. قدّس الله سرّه وفي روضات الجنان ابهجه وسره.
ص: 110
لم يكن السيّد السبزواري قدّس سرّه شاعراً بالمعنى المعروف شأنه في ذلك شأن أكثر الفقهاء والمراجع مع إمكان أن يصدر من قرائحهم روائع المنظوم وكان لسان حال الواحد منهم يردد ما قاله ذلك العالم الأديب:
ولولا الشعر بالعلماء يزري ***لكنت اليوم أشعر من لبيد
وقد كان (رضوان الله عليه)حافظا لكثير من الشعر ولا سيّما الأشعار العرفانية كأشعار ابن الفارض والمولوي الرومي والنظامي وغيرهم من الشعراء الكبار وكذا كان حافظاً لألفية ابن مالك في النحو ومنظومة الحكيم السبزواري وكثير من المتون في العلوم العقلية وأمّا الأحاديث فقد كان بحق من أئمة الحفاظ والمحدثين الكبار ومع عزوفه عن تعاطي النظم فقد نظم بعض الأراجيز المتضمنة لبعض الأحكام الشرعية وآداب التربية والتثقيف وقد ذكرها في (المهذب) وإليك نموذجاً منها:
أعلى صفات نفسك العدالة ***لقربها من ساحة الجلالة
خصيصة الله العلي الأعلى ***ونوره الذي به تجلی
فكل مخلوق رأيت فعله ***فيه علامات تحاكي عدله
فليكتب هذا المقام العالي*** تقربا من مصدر الجلال
جهادك النفس جهاد اکبر*** والقتل بالسيف جهاد أصغر
فهو الكمال المحض للإنسان *** دلّ عليه واضح البرهان
فوازنوا أعمالكم بالعدل *** من قبل أن يأتي يوم الفصل
ص: 111
وراقبوا حالاتكم في الدنيا *** لكي تنالوا الدرجات العليا
ونبذ ما عد من الكبائر*** وهجر الاصرار على الصغائر
تزين الإنسان بالفضائل*** يحفظه عن دنس الرذائل
فليجتهد فيها جميع الناس*** فإنها المنجي بلا التباس
حادثات نشأة الغرور *** ومهلكات عالم النشور
والجد في مخالفات النفس *** يرفعها إلى محل القدس
(مهذب الأحكام) (921/8).
وكذا له نظم في الركوع والسجود، وفي الصوم أيضاً، وممّا ذكره فيه:
الصوم جنّة من العذاب *** وهو نجاة نشأة الحساب
تقرب من حضرة الرحيم *** تشبه بالملك الكريم
يقرب الناس إلى المعارف*** يعرفه وجدان كلّ عارف
يربطها بالملكوت الأعلى *** بل جبروت صار منه أولى
ینور القلوب بالعرفان *** يهدي إلى حقائق القرآن
ريهم مراتب التنزيل *** يكشف عنه شب به التأويل
ليس لأجرهم به حدود *** ولا جزاء صبرهم معدود
بل أجرهم يعطى بلا نهاية *** لظاهر الحديث والروايه
لقد تجلى مبدأ المبادي *** في مظهر الصوام من عبادي
أنفاسهم تسبيح ذات الباري *** ونومهم عبادة الجبار
لهم نشاط ساعة الإفطار*** و آخر عند لقا القهار
والنور نور الله فيي جبينهم *** والسر سرالله في حنينهم
ص: 112
يخصهم زمرة أملاك السما *** تبركا بما لديهم من دعا
فأمسكوا عن شهوات النفس *** توافكم نعماء ذات القدس
واستدركوا ما فات من اعمار *** وامتثلوا لعالم الأسرار
واغتنموا الصوم ففيه احترزا*** عن كل مكروه يرى يوم الجزا
هذا الصيام هو كف الشهوة *** فكيف صومكم بكف الخطرة
عن غير ذات الأحد القيوم *** المهيمن العظيم والديموم
ولازموا أحكام ما للصائم *** لتخرجوا عن رتبة البهائم
والصوم سلم إلى السلامة *** في النشأة الدنيا وفي القيامة
(مهذب الأحكام) (339/10)
وله منظومات أخر في مواضع من (مواهب الرحمن).
ص: 113
ص: 114
ورد في الحديث المجمع على صحته لدى الفريقين أنّه (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). جمع الله لسيّدنا الإمام السبزواري قدّس سرّه هذه الجهات الثلاث الشاهدة لعمله الصالح بعدم الانقطاع. وقد تقدم في سالف كلامنا ما يدل على صدقاته الجارية وعلمه النافع وبقي الكلام على (1)(1) عقبه الصالح (أنبته الله نباتاً حسناً) فنقول وبالله التوفيق: أعقب سماحته من الأولاد ثلاثة هم آية الله السيّد محمّد وآية الله الفقيه المحقق السيّد على وحجة الإسلام السيّد حسين ومن البنات واحدة.
.1 السيّد محمّد السبزواري قدّس سرّه.
أما آية الله السيّد محمّد فهو الولد الأكبر لوالده العارف المحقق الفقيه .اللوذعي. ولد يوم الجمعة الحادي عشر من صفر (2) (2)سنة 1364 ه- في مدينة النجف الأشرف. ونشأ برعاية والده وكان يعنى بتربيته عناية خاصة، وبعد درس المقدمات تهيأ لدراسة السطوح في العقد الثاني من عمره عند أساتذة الحوزة المعروفين فدرس الأدبيات عند الشيخ محمّد علي المدرس الأفغاني قدّس سرّه ودرس المكاسب والرسائل عند الشيخ محمّد جواد التبريزي، ودرس الكفاية عند الشيخ
ص: 115
صدر البادكوبي قدّس سرّه ، ثمّ حضر الخارج عند والده المقدس والسيّد الخوئي (1)(1) قدس سرّهما. وتأثر بروح والده تأثراً كبيراً فأصبح عالماً فقيهاً مجتهداً حسن السليقة، عارفاً بصيراً كثير الذكر دائم المراقبة، وكان محمود الخصال مرضي الخلال زكي الأخلاق ممدوحاً على كلّ لسان، صبوراً في الشدائد والمحن، نافذ الهمة، كريماً سمحاً يرحم الفقير ولا يخيب من يأوي إليه في حاجة ماضي العزم شديد الحزم، زاهداً قليل الكلام شديد الاحتياط، ثاقب الذهن، متوقد الفطنة إليه يرجع الفضل في إخراج مصنفات والده إلى الطبع وعني عناية كبيرة بتخريج الآيات والأحاديث الواردة فيها. وكان يدير شؤون والده والمرجعية بأحسن وجه أحبه الناس وأحبهم، وكان موضع احترامهم وتقديرهم لما كان يتمتع به من الاخلاق الفاضلة والصفات الحميدة العالية. وكان المؤمل أن يقوم مقام والده في الفتيا والمرجعية ولكن اختطفته يد المنون في حادث مروع وهو في طريق طهران إلى قم في اليوم الرابع والعشرين من شوال المكرم من شهور سنة 1414 ه- وشيع بأحسن تشييع كما يحصل للمراجع الكبار ودفن في حجرة من حجر الصحن الفاطمي في قم المقدسة ولم يكمل العقد الخامس من عمره الشريف رحمه لله واسكنه فسيح جنّاته.
وكان رحمه لله مثالاً لهدي والده المقدس طاب ثراه ، ومن الأفراد والقلائل الذي سلكوا مسلك العرفان.
ص: 116
موءلفاته:
ترك قدس سرّه جملة من المؤلفات منها: شرح المكاسب وشرح الرسائل وشرح الكفاية وتقريرات بحوث والده، وله رسالة في السير والسلوك وهي لا تزال مخطوطة.
وله من الأولاد اثنان من الذكور هما السيّد حسن السبزواري من طلاب الحوزة العلمية وهو اليوم مشغول بتحصيل العلوم مجد في طلبها، عالم فاضل فيه سمات والده في الجد والاجتهاد والورع والتقى نسأل الله له زيادة التوفيق والهداية.
والولد الآخر السيّد إبراهيم وما زال صبياً لم يبلغ الحلم وهو من طلاب المدارس اليوم.
كما أعقب السيّد محمّد رحمه الله من البنات اثنتين وفقهم الله جميعاً.
وقد وقفت على مرثية لأحد المحبين في تأبين مولانا الآية السيّد محمّد رحمه الله فرأيت أنّ من المناسب اثباتها في هذه الترجمة المختصرة ودونك الأبيات:
سقيا ليومك يا محمد *** حزني بفقدك قد تجدد
أسفاً على أنوارك ال *** غرا بيوم الجدب تحمد
يا كوكباً كالشمس تس- *** طع في سماء الكون عسجد
ما السر في هذا الافو*** ل يموت بدر کاد یولد
علم من الأعلام فا *** رقنا فقلنا الصبر احمد
خلف له حبر توا *** رث مجده من مجد أصيد
باب الامامة لا يسد*** والشمل في يمناه يعقد
ص: 117
والكل ساوره الرجا *** ء بأن يعود لنا محمّد
ويكون عونا للطوا*** رق عندما الابواب توصد
ویعو سيفاً مصلتا *** للحق، يرجع صولة الجد
وبه شریعة احمد *** تبقی، ویدحر كل مرتد
رباه کیف یضمه *** جدت به طود توسد؟!
هو من سلالة ماجد*** شمخت به من صلب أمجد
عقدت له سمة المها *** بة تاج عز فوق فرقد
نسب اصيل لا یجا *** رى في علاه كان أوحد
من نسل خير الرسل ط *** ه الموسوي السبزواري الممجد
اشراقه الإيمان تع-*** لو وجهه وتزين الخد
رتب الفقاهة في الشري *** -عة بوأته لخير مسند
طهران ماذا قد دها *** ك خطفت منا العيلم الفرد
في ساعة كنا إليه بحاجة *** والدهر خوان وأنكد
واسودت الدنيا بحا *** دثة لها الأحداث تشهد
هذا محمد فارق ال *** أحباب نحو الخلد أخلد
وقال كاتب هذه السطور مؤرخاً سنة وفاته:
علم الشريعة غاله سهم الردى *** ومضى بعضب في الجهاد مهند
مذقيل قد أودى أبو حسن فيا *** شلت (1)(1) يد الدهر الخؤون الانكد
دفنوا التقى والعلم ساعة دفنه *** وغشى الدجى لأقول ذلك الفرقد
ص: 118
فاهتف وحولك يا مؤرخ نوح *** أبكي العيون دماً غياب محمبد
.2 آية الله السيد على السبزواري وهو الأوسط من أولاد سيّدنا الامام السبزواري وواسطة عقد علماء الأسرة اليوم دام ظله الوارف، وخلد مجده التالد والطارف.
ولد سماحته في النجف الأشرف في الخامس من جمادى الآخرة (1)(1) سنة 1366 ه- ودرس المقدمات في المدارس والكتاتيب ثمّ درس مقدمات الدروس الحوزية (2). (2) عند بعض الأفاضل، ودرس الكتب العالية عند أعلام العصر ففي الأدبيات عند الشيخ محمّد علي المدرس قدّس سرّه ودرس الرسائل والمكاسب عند الشيخ مجتبى اللنكراني قدّس سرّه ودرس الكفاية عند الشيخ صدر البادكوبي قدّس سرّه وحضر الدرس الخارج عند والده المعظم والسيد الخوئي (قدّس الله أسرارهما) حتّى بلغ مرتبة راقية في العلم والفضيلة وهو اليوم من أعلام الحوزة العلمية الأعلام وجهابذة المدرسين في الفقه والأصول ومن معاقد الأمل في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
السيّد أبو المحسن (دام ظله) يتمتع اليوم بالسمعة الطيبة وله المكانة المرموقة وقد اجمعت طبقات أهل العلم وغيرهم من المتدينين على أنّ السيّد أبا المحسن (المصداق الامثل) للولد البار والذريّة الصالحة لذلك الوالد العظيم.
بأبه اقتدى عدي في الكرم *** ومن يشابه أبه فما ظلم
ص: 119
والحديث عن صفات سيّدنا أبي المحسن كالحديث عن ضوء الشمس:
وإذا استطال الشيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
وبالجملة فإنّ بيت الإمام السيّد السبزواري والخط العلمي العرفاني الراقي يحيى اليوم بوجوده الشريف دامت بركاته. وللمؤمنين فيه تعلق كبير واعتقاد يكاد يقرب من اعتقادهم بقدسية والده الإمام العظيم ولا عجب: (فالشبل من ذاك الاسد).
ويأتم به في الصلاة اليوم جماعة من المؤمنين الابرار والفضلاء الاخيار في مسجدهم العامر في محلة الحويش من محال النجف الاشرف لما يتصف به من الورع والتقى والعرفان والأخلاق المرضية إضافة إلى مكانته العلمية الراقية ونسبه العلوي الشريف.
ولسيّدنا الآية السيّد علي (دام ظله) مؤلفات مطبوعة فمن آثاره المطبوعة كتاب جليل يموج بالتحقيق والتدقيق في (الخمس) وفيه من الدلائل والشواهد على طول باعه وسعة اطلاعه على المدارك الأصلية والمباني الرصينة ما يشهد له ببلوغ ذروة الاجتهاد ومنها كتاب في الاستنساخ البشري وموقف الإسلام منه وهو من المباحث الجديدة التي لم يكن للمتقدمين فيها رأي معروف وبحث مرصوف. ومنها رسالة جليلة من تضليل المحرم، وأيضاً كتاب أعمال العمرة والزيارة، ومخطوطة قيمة منها: تقريرات بحث والده في الوصية والمكاسب، وكتاب في الفرق بين التصوف والعرفان وكتاب النفائس جمع فيه نفائس الذخائر كما أدرج فيه بعض رسائل والده الصغيرة وكتاب في النفس والروح، ولا يزال يواصل جهوده المباركة في التدريس والتأليف ونشر الأحكام الالهية وتربية المؤمنين على منهج والده المقدس رضوان الله عليه.
ص: 120
وقد اعقب ولداً واحداً هو مثال النجابة والشرف والأخلاق الإسلامية الراقية وذلک هو فضيلة السيّد محسن سلّمه الله تعالى وهو من الشباب الذين يفتخر بهم أدباً وتربية وسلوكاً وكان يدرس العلوم العصرية ثمّ اتجه إلى الدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف تحت اشراف والده (دام ظله) وفّقه الله تعالى وللسيّد علي دام ظله من البنات اثنتان.
3. حجة الإسلام والمسلمين السيّد حسين وهو الولد الأصغر لوالده قدّس سرّه ولُد في السابع عشر من جمادى الآخرة من شهور سنة 1369 ه- وترعرع في کنف والده رضوان الله عليه ثمّ تتلمذ على بعض فضلاء الحوزة العلمية وترقى في تحصيل العلوم وحضر بحث السيّد والده برهة من الزمن حتّى صار عالماً فاضلاً وله بعض المؤلفات المخطوطة وهو اليوم يسكن مشهد الرضا عليه السلام . وله من الذكور ولدان هما السيّد أحمد والسيّد محمود ومن الإناث اثنتان وفّقه الله ونفع به الإسلام والمسلمين.
ص: 121
ص: 122
بعد هذا العمر المبارك الميمون الحافل بجلائل الأعمال وأزكى القربات اشتاقت تلك الروح الطاهرة إلى لقاء بارئها ففي صباح اليوم السادس والعشرين من صفر من شهور سنة 1414 ه- لبى نداء ربّه سيّدنا الإمام بقية السلف الصالح من أعلام الأمة السيّد السبزواري قدّس سرّه بعدما عراه الوهن والضعف (الجسمي لا الروحي) من صروف الدهر وعاديات الأيام، وكان لنبأ وفاته صدى كبير في الأوساط العلمية بصورة خاصّة والمجتمع الإسلامي بصورة عامّة كما كان لرحيله المفاجئ صدمة كبيرة في نفوس المؤمنين إذ فقدوا برحيله إماماً من أئمتهم الذين يستسقى بوجوههم الغمام، و (قطباً عارفاً )من الاقطاب الذين تدور عليهم رحى شريعة الإسلام (وبدلا)من (الابدال) الذي حفظ الله تعالى بهم أهل الدنيا من وقوع السخط والانتقام، ففزعت من هول المصاب الفادح قلوبهم، وأهرقت الدموع دماً مذاباً عيونهم، وعقد الحادث المروع ألسنتهم.
وما كان قيس هلكه (1)(1) هلك واحد *** ولكنّه بنيان قوم تهدما
وكيف لا يحزنون لفقد من كان لهم الموئل والملاذ (والمرجع الامثل) في كلّ صغيرة وكبيرة من مسائل دينهم وأحكام شريعتهم؟! رحمك الله يا أبا محمد وطيّب ثراك وحشرك مع أجدادك الميامين محمّد وعترته الطيبين الطاهرين.
لقد عزى (الشريعة) أن يوما عليها مثل يومك لا يعود
ص: 123
وما أن غمضت عينا ذلك الإمام العظيم والسّيد الكريم حتّى دلفت جموع المؤمنين إلى داره الشريفة نادبة ومعزية وبعد أداء مراسيم التشييع والزيارة دفن قدّس سرّه في مرقده الكائن خلف الجامع الذي كان يصلي فيه وهو اليوم مشهد مبارك يؤمه المؤمنون للزيارة والتبرك ويقصد أيضاً للدعاء عنده وقضاء الحوائج وللناس مزيد الاعتقاد بحصول المراد عند قبره المطهر ومشهده المنور وهذا ما لم يحصل لغيره من الأعلام قدّس الله أسرارهم جميعاً وقبره الشريف مستطيل الشكل عليه حجر من المرمر يعلوه صندوق من الزجاج الفاخر في حجرة مستطيلة الشكل
جدرانها من المرمر الخام الجميل وسقفها مزين بالمرايا والناس يزورونه يقرؤون له الفاتحة من داخل المسجد ومن خارجه إذ حجرة مدفنه الشريف مسامتة لطريق السابلة. وقد شيّع جثمانه (الرمزي) في قم المقدّسة تشييعاً حافلاً اشترك فيه المراجع الكبار والعلماء الفضلاء وطلبة العلوم الدينية ومختلف الطبقات كما أقيمت مجالس العزاء في مختلف الاقطار الإسلامية لا سيّما الحواضر الكبيرة كالنجف وقم وطهران وبيروت والقطيف والكويت وغيرها. وابّنه الخطباء تأبيناً حافلاً ورثاه الشعراء في قصائد مؤثرة وكتبت عنه مقالات. وأذاعت نبأ وفاته اذاعة طهران ولندن وغيرها من الاذاعات المحلية وأقيم الحداد عليه في بعض البلدان وعطلت الدراسة. تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه الفسيح من جنّته.
ص: 124
ص: 125
ص: 126
ما إن صك مسامع الناس نبأ هذه الفجيعة الممضة حتّى هرع الشعراء والأدباء إلى تجسيد مشاعرهم من الحزن العميق والتأثر البالغ والأسف الشديد على فقد إمام العلم والتقى والعرفان السيّد السبزواري قدّس سرّه وجاءت تلك المشاعر والأحاسيس مصبوبة في قوالب الشعر المعبر عن هول الخطب وبين يدي مجموعة من القصائد التي قيلت في رثاء السيّد أعلى الله مقامه وربما نظم الواحد من الشعراء عدة قصائد ومنهم أرخ وفاته في آخر القصيدة.
وإليك المراثي:
قصيدة العلامة الخطيب الشهير والشاعر المؤرخ الكبير الاستاذ السيّد عبد الرسول بن السيّد عبد العزيز الكفائي.
(في تأبين إمام المسلمين مرجع الأمة ووارث الأئمة فقيه العصر الراحل سيّدنا أبي محمّد السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري).
لله دهياء لم تبق ولم تذر*** لهيكل الدين من عين ولا اثر
فالشمس كاسفة والبدر منخسف*** فليس في الكون من شمس ولا قمر
وحوزة العلم في وادي طوى انتشرت*** قل للكواكب في عليائها انتثري
يا رائد العلم عد في خيبة أوما *** ترى الربيع بلا زهر ولا ثمر
قد صوح الروض ريح الموت منه فلا*** لرائد فيه من نجم ولا شجر (3)(1)
مثل الغري وعهدي فيه مزدهر*** لكن أراه بعهد غير مزدهر
أين الجهابذة الأفذاذ عنه من ال- *** فطاحل الفقها كالأنجم الزهر
ص: 127
قد عاش دهراً نهاراً مسفراً أبداً *** واليوم أمسى بليل غير منحسر
فلا معالم تنبي عنه مختبرا *** كحال واديه أضحى ميت الخبر
عادت بلاقع لا عين ولا أثر*** لكنّها عبرة من أبلغ العبر
وربّ مستطلع عمّا جرى وعرا *** من فادح الخطب أو من بالغ الخطر
أجبت لكن بدمع كان يسبقني *** من ذائب القلب فوق الخد منهمر
أما وعيت كتاب الله يندب من *** أتى بتفسره للآي والسور
(السزواري) ذاك الحبر حجتنا *** وافاه ما نحن كنا عنه في حذر
قضى الإمام وتبكيه (مواهبه)*** وليس منا سوى التسليم للقدر
وذا (مهذب أحكام) الشريعة قد *** بكي بدمع من الأبحاث منحدر
تبقيه من بعده حيّاً مآثره *** و تهتدي الناس في آثاره الغرر
نعم الخلود بدنياه يخلده *** ذکر جمیل سما في أجمل الصور
كما بأخراه في الفردوس مسكنه*** منعماً خالداً في روضه النضر
يلقى من الله رضواناً ومرحمة *** في جنة الخلد محبورا على سرر
قل للشجي(1)(1) على مأساتك اصطبر*** فالصبر يحمد في البلوى لمصطبر
أما الخلي ومن ف ي قلبه مرض *** فلا يعي المصاب الدين من أثر
إلا أنا عز صبري في مصاب أبي *** محمّد واحد الدنيا ومفتخري
أنى التصبر لي والخطب فيه طما *** ما اسطاع صبراً عليه أصبر الصبر
لقد فقدت إماماً في معارفه *** ذاك الذي لا سواه بالبكاء حري
ص: 128
فقدت مصباح رشد يستضاء به*** يزجي شعاع هدى أسنى من القمر
فقدت هاد (1) (1)إلى نور الاله لكي *** يهدي به الناس من بدو ومن حضر
فقدت أرس للشريعة بل *** فقدت بدراً منيراً غير مستتر
أوه على شرعة الإسلام إذ نكبت*** أمست معالمها كالأرسم الدثر
تنعى الذي كان يحميها ويحرسها *** يرعى حماها دؤوبا ثاقب النظر
أجل فقدنا حكيماً مبصراً قمنا *** بالأمر في حكم شرع الله للبشر
فيه تجسد لقمان بحكمته *** يشفي النفوس بما يلقيه من درر
الله أكبر يا يوم الفقيد به *** أحلتنا لظلام مربد عکر
تركت أيتام آل البيت حائرة *** ثكلاء مذعورة في حالة الذعر
تبكي أباها الذي يرعى مصالحها *** يقضي الليالي بين السهد والسهر
والناس هانئة ليلاً بطيب كرى *** وإنّه يحيى هذا الليل للسحر
إليه قد فزعت تبكي أرامله *** إذ كان يرفدها من طيبه العطر
وذي اليتامي تعج اليوم صارخة *** أي وا أباه فقدنا وابل المطر
والحوزة اليوم من طلابه فجعت*** تبدو بحال انکسار وهي في خور
فالکل سارت وراء النعش هاتفة *** یا موت زر لا تدع منا ولا تذر
ص: 129
يا موت لم تبق للدين الحنيف أبا *** يحمي بنيه بعطف من يد الغير
ما للزمان علينا جار في حنق *** ما زال يرمي شواة الدين بالشرر
فالحرب قائمة لا تنتهي ابدا *** فيها جنى الدهر ذنبا غیر مغتفر
وقال السيّد الكفائي أيضاً مؤرخاً وفاة الامام السيّد السبزواري قدّس سرّه:
طور سيناء في ثراك تجلى *** قبس النور للكليم يريه
آية من هدى الإله وأمرا *** إخلع النعل أنت في واديه
ولقدسية الرى كل عبد *** مؤمن أمه لكی أمه لكي يؤويه
فهو مثوى لحيدر من اتاه *** مستجيرا فحيدر يحممیه
هو في القبر ثم في الحشر والنش *** -ر علی شفيعه ينجيه
قف على الطور صاح واسأل ثراه *** أين بدر الهدى به يخفييه؟!
أين ( عبد الأعلى) الإمام المفدى*** من و ددنا أرواحنا تفديه
کان اشعاعه هدى كل راج *** ما سواه إلى الهدى يهديه
عقم الدهر ليس يأتي بند *** أو مثيل له ولا بشبيه
خطبه في الغري أرخت: جلا *** غاب عبد الأعلى محياه فيه
1414 هج-
وقال كاتب هذه السطور مؤرخاً وفاة السيّد الفقيه:
غادر الدنيا إمام *** أطرت الأبحاث علمه
بدر تم غاب عنا *** فاکتسى ذا الكون ظلمة
والتقى والعلم لما *** شیل نعش ابن الأئمة
ص: 130
ما قيل في تأبينه
فجعا أرخ: وصاحا *** ثلم الإسلام ثلمه
1414 هج-
وللشاب النابغة والشاعر المبدع الاستاذ علي عبد اللطيف البغدادي بعنوان:
(رحيل علم)
فجمع القلب وهدته العلل *** مذ سرى للسمع ما لا يحتمل
سبزواري الهدى وافي الردى*** فأسكبي يا عين دمعاً منهمل
علم قد غاب في جوف الثرى *** وهو فينا بعد حيا لم يزل
يالها من ضربة مؤلمة *** احدثت في الدين صدعا وخلل
قد رزئنا بخطوب جمة *** كل يوم نحن في خطب جلل
خلد الأحزان فينا ومضى*** جرحنا في فقده لن يندمل
حق للعين نحيب وبكا *** بدموع جاريات في المقل
فهو في الخلق كنور في الدجا *** وهو في الخلق كبدر مكتمل
عاش في زهد و قلب ورع *** عجزت عن نعته أسمى الجمل
حجة المولى علينا في الورى *** حمة الله على ذاك البطل
نور الفكر بعد يعلم جامع*** ومضى في البحث من دون كلل
فسر الذكر بنهج واضح *** وأزال اللبس واستوفى العلل
صيته كل البرايا قد وصل *** يسأل المعطي ليعطي من سأل
اتخذناه إماما عادلا *** عرف الحق وما عنه عدل
و بذكرى فقدنا للمصطفى *** رحت للباري ووافاك الأجل
فغدا الجرح بجرحين لنا*** فيهما كل أسى الدنيا نزل
ص: 131
یا منایا كفي عن أعلامنا *** كل من عز علينا قد رحل
دونهم قد صارت الدنيا ملل*** کلها هم وأشجان وذل
ذهب الأعلون منا في الورى *** ومضى الخلان خلا بعد خل
سوف تلقى المصطفى يا سيدي *** فالتمس منه لنا هدي السبل
وبتولا وعليا وبنيه *** حجج الله الميامين النبل
فلقد طال النوى ما بيننا *** وعصى العاصون والصبر ثقل
ولقد وفيت ما عاهدتهم *** رغم ما عانيت من شتى العلل
فهنيئا لك جنات الهنا *** بالذي ترجمت علما بعمل
نم قرير العين يا حلف التقى *** من يرم بالعزم آمالا ينل
في جوار المرتضى حامي الحمى *** جدك الداعي إلى خير العمل
وللعلامة الأديب الكاتب المعروف الاستاذ الشيخ عبد الجبار الساعدي (بعنوان) یا راحلا:
يا يوم سابع والعشرين من صفر *** أضرمت في القلب وقد الحزن والسعر
فالعيلم الفذ أعلى الفكر أيتمنا*** ونحن من سطوة الأيام في خطر
يا راحلا وجراح الأمس نازفة*** نجلاء لم تندمل للحادث الخطر (5)(1)
نهضت بالامر كفوا قائدا بطلا *** تشع كالبدر بين الأنجم الزهر
نهضت بالأمر تحدو الركب في ثقة *** لتبعد الركب عن أين وعن عثر
وتنهل الحوزة الغراء واثقة *** من منهل الصفو لا من منبع الك-رر
ص: 132
نهضت بالأمر في يمناك بيرقها ال *** خفاق يزهو مع الصمصامة الذكر
نشتاق نبعك يسقي الجدب صيبه*** شوق الجفاف إلى هطالة المطر
كتبت في من بدء ومختتم *** مهذبا (6)(1) قد أتى بالربح والظفر
إقرأ تجد دورة زهراء حافلة *** بالعلم والفكر والتحقيق والنظر
واعطف حثيثا على التهديب (1) إن به *** من رائق البحث جنيا رائع الثمر
وإن أردت بيانا واضحا سلسا*** يسمو على التبر والمرجان والدرر
يفسر الآي في وعي ومعرفة *** يغوص في العمق غوص العارف الحذر
فالله من فضله أجرى (مواهبه)(2)(2) *** فصاغها القلم الأعلى لذي البشر
يا راحلا والنهى في برديه معتكف (3)(3) *** حقا أقول جهارا غير مستتر
فسيرة القائد الأعلى لها ألق *** يفوق في وصفه ما جاء في السير
تواضع نادر ما شيب في عجب*** شهادة الكل حتى منتهى العمر
فما ازدهاه لباس فاخر فخم *** أوراقه المكث فوق الزخرف النضر
لولا الظنون وتفسير يكون بها *** هتكت للستر سترا ليس كالستر
ليعلم الجمع اين العدل مكمنه *** وأين من يشتري التمجيد بالصرر
ص: 133
لكن لنضرب صفحا انها طرق *** مفضوحة القصد والفحوى لدى العصر
في ذمة الله يا مولاي مرتحلا *** عن عالم الزيغ والآثام والوضر
فأهنأ سعيدا قرير العين مبتجها *** بين الجنان وسرب الحور والسرر
ورهطك الغر يوم الحشر أمرهم*** عند الجميع بيان صادر النذر
فحبهم عصمة من كل قارعة *** ومبغض الآل بين الجمر والشرر
يا راحلا وعزير الدمع شيعه *** كسرت للدين عظم غير منجبر
وكيف يجبر كسر أنت محدثه *** وأنت للدين تعطي أروع الصور
رئاسة الدین علم زانه حلم *** ومسلك واضح يسمو عن النظر
هذي الخصال وأمثال لها اجتمعت*** في قلة من عيون القادة الغرر
وأنت ممن رأيناه بأعیننا *** حتى تطابق فيك الخبر بالخبر
ويشهد الله قولا صادقا أبدا *** لأنت ممن سما بالروح والفكر
ما زال ذكرك حيا ماثلا عطرا*** يبقى إلى الحشر ملء السمع والبصر
قد كان فكرك (وهو النبع مندفق) *** سلافة عذبت في مجلس السمر
عذرا أبا محسن (1)(1) فالخطب أذهلي *** وأنت أدرى بما في القلب من أثر
ما شاب ودي ملال إنني رجل *** اصفي الخليل ودادا محكما الأمر
أضر بالفكر رزء حل صاعقة *** وكيف يبدع فكر سيم بالضرر ؟!
وليس يبقى سوى الباري فتحمده *** حمدا كثيرا، وكم في الموت من عبر
ومما قاله العالم الأديب والشاعر الثائر العبقري الأستاذ الشيخ أبو أحمد الحلي (دامت برکاته) :
ص: 134
یا ابن من أشبع الجياع نداه *** وأضل العراة فضل رداه
یا این تاج الأعلام في كل فن *** يا ابن من فاق كل هدي هداه
يا ابن من طأطات سماء المعالي*** رأسها إذ تطلعت لعلاه
يا ابن قطب العلوم لما تجلت *** زاهرات افلاکها مقلتاه
من صرير الاقلام أزهر روض *** بعد جدب، بما تخط یداه
كل علم من بعد طول رقاد *** عاد غضا إلى مغاني صباه
وإذا ما دعا تخال دعاه *** كل حرف يقول: يا الله
قد كساه الرحمن أثواب فضل*** کي نرى من خلالهن أباه
سید الرسل رب كل فخار *** وكمال يرقى على من سواه
يا ابن من سير الحروف بدورا *** وأنار العقول ما أعطاه
غربت شمسه وظلت شموس *** ساطعات من فكره ورؤاه
وعلى الافق بسمة وعطاء *** ونقاء كالورد فاح شذاه
لم يزل وجهه الوسم مطلا *** تملأ الأفق والربا رياه (4)(1)
كذب الموت لم يغب عن رؤانا *** هو روح في كل خطو نراه
لم يزل فوق صهوة المجد فكرا *** المعيا له تخر الجباه
وسماحا فوق الذي نتمنى*** قل عنه الأنداد والأشباه
ومثالا لو حلق الفكر دهرا *** ما احتوى كنهه، وخارت قواه
وحديثا يتلوه جيل وجيل *** لهف نفسي ما استوعبوا معناه
لم يزالوا فوق القشور جثيا*** تستبیهم آراؤه و تقاه
ص: 135
لو رأوا كنهه لطاروا اشياقا *** للقاء الأخير في مثواه
ما يزال الحديث شلال نور *** يغمر الافق والنفوس سناه
والعتاب الرفيق ما زال همسا*** مع غريب مغيب في ثراه
إن بكى العاشقون رسما (1)(1) لليلى *** تبعث الشجو لاهبا ذكراه
فلنا منه الف رسم ورسم *** من سجايا تكل عنها الشفاه
والفضاء الفسيح إن ضاق ذرعا *** لم يسعنا إلا رحيب فضاه
وإذا عضنا الزمان فزعنا *** نمتري الدر(5)(2) خالصا من نداه
وإذا ضاقت النفوس وضجت*** من تباريحها (6) (3)قصدنا حماه
فهو باب الهدى وفلك نجاة*** والفقيه المحنك الأواه(7)(4)
والمنار السامي لكل تقی ***لا يرى غير ربه ورضاه
أیها الراحل العظيم المسجی *** بین أطباق روضة تغشاه
ضريح الذي احتواك جدير *** أن تشم الاجيال طيب ثراه
أو يحج الأنام الفا إليه *** ستدلين في السرى بضياه
بل قليل أن تكتحل العين منه *** أو ينال السقيم منه شفاه
إن روضا يودع (الطهر) فيه *** لتهیم القلوب في أرجاه
وكأني أرى وراء حجاب ال-*** -غیب جریل مو کلا بحماه
ص: 136
حق والله أن تنام قريرا *** وسط طرف قد فر منه کراه
تفتديك النفوس جيلا فجيلا *** و تقيك العيون والأفواه
وتظل القلوب تبكيك دهرا *** صبحه حالک،ممل مساه
والزمان الذي تخليت عنه *** أتراه تخضر يوما مناه؟
وخميس (1)(1)قد كنت فيه لواء *** ليت شعري هل تستقيم قناه؟
كان وجه الزمان فيك منيرا *** ما لمحنا يوما خيول دجاه
وأقمنا في ظل شخصك دهرا *** ماصحونا على نجوم أساه
والهزيع (2)(2) الذي تهجدت فيه *** أزهري السناء، عذب هواه
وربيع العلوم يزهو اغتيالا *** عبقري الألوان طلق ضحاه
والمنى غضة الرؤى تتباهى*** بانتماء اليك يا ابتاه
إن تلك الأجواء رقت وطابت *** تحت جنحي علاك يا مولاه
وتراث الطوسي من بعد ألف*** قد تناهي إليك يا سيداه
والمروءات والعطاء جزيلا *** كان وقفا عليك شم ذراه(V)(3)
وجهاد النفوس اثقل وطأ *** من جهاد العدى وأنت لواه
والتقى والصلاح حولك حصن *** قدسي لا يستباح حماه
وهدى آل أحمد يتسامى *** في الأعالي وأنت قطب رحاه
إن يوما طوى لواءك أردى *** (محسنا) و (الخوئي) و (ابن نماه)
ص: 137
و (ابن ادریس) و (المحقق) و(الشيخ*** المفيد) و(المرتضى) وأخاه
يا إمام الزمان أشكوك بثي *** عز صبري عن الذي ألقاه
ضاقت الأرض والفضاء علينا*** فاغتنا بالله يا سيداه
كل يوم يجتاحنا سيل حزن*** لا تطيق الجبال قرع عصاه
وأشد الأيام وقعا عليا *** لتشيب الولدان من بلواه
غاب فيه إمامنا (عبد الأعلى) ال- *** موسوي، روحي وأهلي فداه
والاستاذ الأديب الفاضل محمد عباس الدراجي رحمه الله صاحب كتاب (القصائد الخالدات} بعنوان:
(صلاة النجوم على نعش العبقري)
تضرج من فقدك المسجد *** وصلى على نعشك الفرقد
ايا سيد الانقياء التقاة(1)(1) *** لك العلم يا سيدي يسجد
تمثلت فيك الغفاري) العظيم *** وزهدك من زهده يرفد
وكل مواقفك الرائعات*** يلونها صوته السرمد
صفعت زخارف هذي الحياة *** وأمطرتها غضبة ترعد
وعشت غريبا بهذا الزمان *** كأنك في دهرك الأوحد
فيحثو الخلود على ركبتيه*** يقبل أرضا به بها ترقد
(مواهب رحمانك) الخالدات*** ترش على الكون ما يسعد
تنورما أظلم من فكرنا*** فهذا الكتاب لنا القائد
ص: 138
تجدد فسیره محكما *** ليحكم دستور المنج
(مهذب أحكامك) الشامخات*** تجد فكرا به تخلد
وكان دعاؤك في كل ليل *** يكحل عينيك إذ تهج
يعطر في طهره کوننا*** فيعبق فجر ويسمو غدا
ويخشع هذا الوجود الكبير *** على ركعة منك إذ تسجد
ویکتم أنفاسه عاشقا *** لانک في لذة تعبد
ويسوحي(1)(1) الجيل منك الطريق *** فأنت لشعلتهم توقد
ویستلهم المومن البریق *** تنور دربا لهم یرشد
و تدعو إلى وثبة حرة *** کان البا ذرنا یولد
ترسمت (عرفانک)الالمعی *** كأن أبا حسن عائد(2)(2)
ليمطر قلب هذا النقذا النقاء *** بروحك يزرع ما لا نحصد
فلا انطفأ النور في مسجد *** ولا غاب عن عيني السيد
ولم يرحل العبقري الصبور *** فمن قبله لم لم يمت احمد
وللفاضل السيد محمد الموسوي بعنوان:
(يا ابن الغدير أرح ركابك)
أرثيك أم ارثي بك التنزيلا *** والعلم والآيات والترتيلا؟؟
فلقد نشرت من الكتاب معالما*** للناس ترشد أنفسا وعقولا
وسموت في آي الكتاب مفسرا *** كيما تزيل الرين والتضليلا
ص: 139
وزهدت في الدنيا وناعم ظلها*** إذ قد تيقنت البقاء قليلا
وعلمت أنك عن ثراها راحل *** فطفقت تغرس في الجنان حقولا
يا عبد من أعلاك شأنا بالتقى *** قد عز مثلك في العباد مثيلا
فلقد نهلت من المناهل صفوها *** وبلغت باعا في العلوم طويلا
ونشرت علم محمد بيراعك ال-*** معطاء يثبت فقهها وأصولا
أوقدت عمرك شمعة تهدي بها *** من ضل عن قصد السبيل سبيلا
في سبزوار ولدت يوم غديرها *** عيدا لها ولر أسها إكليلا
ومضيت يوم مضى النبي *** إذ كنت خادم دينه المأمولا
كالنجم يضوي من عظيم سمائه *** نحو الثرى فیحیطه تقبيلا
يوم ولدت به سرور محمد *** والدين يعول إذ مضيت عويلا
سبحان من خلق الحياة وموتها *** كي يبتلينا شاكرا وجهولا
قد فاز فيها من تأمل كنهها *** وأعد من قبل الرحيل رحيلا
يا ابن الغدير أرح ركابك من عنا *** فلقد تحاوشك البلاء ثقيلا
فانعم بالاء الكريم وفضله *** فلقد أعد لك الثواب جميلا
يا راحلا عن همها وعنائها *** ومعانقا ظل الجنان ظليلا
أبدا ليهنيك النعيم بفيئها *** فضلا من الرب العظيم جزيلا
غادرتنا والجرح لما يندمل *** من فاجع هز الأنام وبيلا
صفر الشهور أحالنا صفر اليدي *** ن من الألى حملوا اللواء فحولا(1)(1)
بالأمس قد أفجعتنا بمصیبة واليوم *** إذ اضحى الهدى مثكولا
ص: 140
صبرا فشيعة آل أحمد لم تزل *** تلقى الشدائد والبلاء ثقيلا
حاشا وکلا أن يساور عزمها *** خور ويمسي جأشها مخذولا
فالوعد حق في إمام عادل *** يقف الزمان لعزه تبجيلا
وللفاضل الشريف السيد موسى بن السيد أحمد الموسوي بعنوان:
(مأتم وعزاء)
يمر الجديدان مر السحاب *** ويمضي العزيز ويبقى المصاب
و تطوي الليالي عصور الزمان *** ويكتئب الدهر أي اكتئاب
وتفني الليالي الأماني العذان *** غداة تراها كمثل السراب
فسقيا لمثواك يا سيدي *** وعطر عطر النعيم التراب
لقد كنت شريان دين الرسول *** فعظ منك الإله الجناب
هدى المسلمين بهدي النبي *** شیوخا كهولا جموع الشباب
حسیبا نسيبا علي الذرى *** أبوه الشفيع بيوم الحساب
سليل كرام أتى ذكره *** بوحي وذكر بنص الكتاب
إذا قال فالحق في قوله *** وان فاه نطقا فعين الصواب
هو العلم والهدي وهو التقى *** هو الزهد والفضل وهو الثواب
(بجامع احكامه) النيرات *** عن المعضلات كشفن الحجاب
امام الهدى ومنار الدجا *** يضيء الدياجير ضوء الشهاب
فزرثم طف حول مرقده (!)*** فذا حرم علوي مهاب(1)(1)
وذا حرم الموسوي العظیم *** بمسجده وهو سامي القباب
ص: 141
وفي ليلة من ليالي الشجون *** عن المسلمين بها البدر غاب
فغارت نجوم السماء بها *** وبالافق قد حدث الانقلاب
ثغور النجوم بشتى الجهات *** ويعتور الكون فيها الضباب
لينذر عن حدث مؤلم *** وقد آذن الموت في الاقتراب
دهی المسلمين مصاب به*** تدوي الخناجر بالانتحاب
تشیع سبط النبي الزكي *** الا ليتنا الكل تحت التراب
مضى للخلود عفيف الرادء *** نظيف اليدين نقي الثياب
فكم من فقير وكم من غني *** أسال الدموع له بانسكاب
إذا ما ادلهمت خطوب الزمان *** (علي) هنا وهو فصل الخطاب
أبا محسن أنت بعد الإمام *** (ولادتك طوقا (1)(1) بكل الرقاب)!!؟
وأنت لنا مرجع في الأمور *** لأنك في العلم بحر عباب
فجدک حیدرة المرتضى *** (يعلم جريل رد الجواب)
رعی الله سيدنا الموسوي *** وأعطاه في الحشر حسن المآب
وللسيّد الموسوي المذكور أيضاً:
في أربعينك ما جفت مآقينا *** تفنى الليالي ولا تفنى مآسينا
يا عبرة في عيون الدهر قد هزأت *** فأخجلتها ولم تبرح توافينا
فكلما جن ليل الحزن ما فتئت *** تنساب من محجر نارا فتكوينا
إنا خلقنا لآلام فما برحت *** عنا الهموم وما زالت توافينا
قلب يئن ودمع لا انقطاع له*** ولوعة تلهب الأكباد سجينا
ص: 142
إن المقادير تجري في أعنتها *** وذي المصائب لا تنفك تردينا
يسك رجع صداها في مسامعنا *** مدى الحياة على البلوى فيصمينا
وسنة الدهر دوما فرقة وأسى*** طول الزمان وفي الأصداء تبقينا
أبا علي وإن نصبر على مضض*** نعلم بأنك يوما ما تلاقينا (!)
رحلت عنا لجنات النعيم وقد *** أردت للهم والأشجان تحيينا
جزاك ربك عنا خير صالحة *** والله بالصبر والسلوان يجزينا
علمتنا الصبر لم نجزع لكارثة *** علمتنا كيف نحيي الحق والدينا
ذي ذكرياتك آيات مسطرة *** للخير في منهج الإسلام تهدينا
عنوانك الهدي والامجاد خالدة *** فيالها من ذرى الدنيا عناوينا
لا الشعر يسطيع تعدادا لكثرتها *** حتى ولو ملأت فيها الدواوينا
يا حصن لو عمت البلوى بساحتنا *** أنت الملاذ من الاشرار تحمينا
إن عز مأوى علينا في معامعها *** فالبيت أنت وهذا البيت يؤوينا
وحالات الليالي جيشها لجب *** كأنها في سمانا حلكا جونا (1)(1)
والبحر ملتطم الأمواج ليس له *** شاط فمن لو مخرنا فيه ينجينا؟!
أدميت كل فؤاد فيك هام فلا*** صبر ولا جزع يوما يسلينا
یامیتاترك الألباب حائرة *** ترکت کل فؤاد فيك محزونا
كنا نمي فيك نفوسا فيك قد علقت *** فبعد فقدك لم نبلغ أمانينا
وبعد فقدك نبقى في الاسى حقبا *** سود مرابعنا عبر مغانينا
روض الربى كان يزهو في الدجا نضرا *** وبعد فقدك لا تزهو روابينا
ص: 143
سلکت نهج امير المؤمنين هدى *** بالسر لا مثل من كانوا يراؤونا
وكنت من مبدأ الايمان منطلقا *** صليت الله لا مثل المصلينا
صلاة تقوى و ایمان عقیدته *** ليس العقائد لا ذلا ولا هونا
هذي ضيوفك يوم الاربعين أتت *** لم ادر هل للقاء أم معزونا(؟)
هذا محمد يا مولاي مكتئب*** وذا علي كؤوس الحزن يسقينا
هو (الوصي) إذا ما غاب سيدنا *** يرعى يتيما وذا بؤس ومسكينا
يعطيه رب الورى قدرا ومفخرة *** اقول يا رب آمينا فأمينا
وللسيّد الموسوي أيضاً مؤرخاً وفاة السيّد رضوان الله عليه:
سيف المنية في البرية مشهر *** وقضاء ربك في الانام مقدر
من ذا يرد الموت أن حم القضا (؟) *** من ذا عليه في الارادة يقدر
یا ناهجا غیر الهداية مسلكا *** اقصر خطاك فربما تتعثر
أن كنت لم تشعر بما ياتي من ال(م) *** عصيان فاعلم بعد ذلك تشعر
تتصرم الأيام لم تعبا بها *** أن المعاصي للانام تدمر
لك مقتدى في الصالحين وغيرهم *** لا تنظرن إلى الذين تجبروا
اين الذين تمردوا وتجاهلوا *** حكم الإله وما بهم مستغفر (؟)
اسماؤهم ماتت وانسى ذكرهم *** ما منهم من في المجالس يذكر
وانظر إلى الأعلام من علمائنا *** فبأي شيء في الحقيقة فكروا
العلم دينهم وجل صفاتهم *** النية العصماء ليس المظهر
ص: 144
تاج الهداية (عبد الأعلى) فاقهم *** في كل ما خطوا وما قد سطروا (1)(1)
انسى الذين مظوا واتعب بعده ال(م) *** باقين فيما قدموا واخروا
بسجل تاريخ عظيم حافل *** بالمكرمات يسره أو يجهر
مولى له في المرجعية منصب *** وعلى الدروس له يشير المنبر
نهج البلاغة نابع عن جده *** فهو البلاغة والمعلم حيدر
عصر به قد غاب نور الموسوي *** ولى فلا إياه تأتي الاعصر
هو مورد العلم الرفيع ومصدر *** لعلوم طه ما سواه مصدر
هو آية الله التي بسنائها *** دنيا الهداية والرشاد تنور
هو مفخر للمسلمين جمیعهم *** هيا ائتني بنظيره من يفخر
يستنبط الأحكام عن آبائه *** ويقول إذ يروي رواه جعفر
ويرد قول الملحدين بقوله *** حتى الذين تهودوا وتنصروا
الدين عند الله اسلام فل *** غيره الحنيفة شرعه تسأثر
هذا الامام السبزواري الذي *** عن كنهه عجزوا بما قد صوروا
هيهات لم يقبر بأجداث الثرى*** بل في قلوب ذوي البصائر يقبر
هيهات ما حفروا له قبرا ول(م) *** كن في القلوب هناك قبر يحفر
سقيا لقبرك من غمام صیب*** ومن السماء عليك غيث يمطر
عذرا إمام المسلين فإنما*** قصرت في قولي وانك تعذر
ص: 145
هذا الحساب اقوله لذوي النهى*** فليحسبوا أيامه وليحصر
وله بتعداد الأئمة أرخوا:*** يا ويلنا غاب الزعيم الأكبر (1)(1)
وللسيد الموسوي أيضاً:
حفل يقام ولوعة تتجدد *** أن المعزى في الامام محمد
وبمسجد الخضراء مأتم سيد *** للمسلمين فراح يبكي المسجد
لا مسجد الخضراء يبكي وحده *** ولو أنه بين المساجد أوحد
تبكي الصفا تبكي منى يبكي قبا *** يبكي القيع لفقده والغرقد (2) (2)
والمسجد الأقصى وقدس مسيحها *** والبيت في أمجاده يتهجد
عميت عيون لا تسيل دموعها*** فلقد بکاه من الجبال الجلمد
حتی النجوم تغرت بمسارها *** حتى السما السما ببروجها تتنهد
للعالم الأعلى هنالك لوعة *** للحشر تزكو نارها لا تخمد
بجوامع وصوامع وكنائس *** قد حار من الله فيها يعبد (!)
كل إلى الأحكام يركن منهم *** كل لرب الخلق يركع يسجد (!)
هو مرجع الاديان فيه للهدى ***أهل الكتاب وحسبهم أن يهتدوا
يفتي بني الإسلام في أحكامها*** يفتي النصارى والذين تهودوا
ليعيد للاسلام خير شريعة *** في (جامع الأحكام) لا يتردد
ص: 146
باب المدينة للعلوم كجده ال *** كرار قول الظالمين يفند
آیاته حار اللبيب بكنهها *** تفسیرها بين الملأ لا يوجد
لولا الغلو لقل-ت جبريل أتى*** يوحي إليه والاله يؤيد
هذا هو (الأعلى) ودون صفاته *** شعري يحار وإن حواني المربد
حيث الفصاحة والبلاغة والحجا *** في هديه وعلومه تستنجد
قاموس دين المصطفى والمرتضى *** وهو البيان لشرحه والمنجد
وهو الكليم إذا تكلم مفصحا *** فالقول منه عن (محمد) مسند
وهو المسيح ليحيى الموتى باذ *** ن الله ذلك فضله لا يجحد
أسرى به لیلا فکانت روحه *** جريل فيها والملائك تصعد
(الأربعون) فكم تعود بلوعة*** وبحسرة نيرانها لا تهمد
صبرا بنیه فالصبور جزاؤه *** أجر عليه للقيامة يحسد
لا أنتم فالمسلمون جميعهم ***أمسوا يتامى والد إذ يفقد
وأعود للأصل الشريف ونبله *** و (العود) حيث يقال فيه (أحمد)
أما فقدت سيدا فعلومه *** تبقى مدى الأيام إذ لا تنفد
الحق ينطق في الحقيقة صارخا: *** هذا علي هو الامام الأوحد
وللسيّد الموسوي أيضاً:
خطب اطل فمادت الغبراء (1)(1) *** وبكل قلب حسرة وبكاء
نصب العزاء فيا لها من نكبة*** حلت فما يشفي القلوب عزاء
ص: 147
أعلى الانام بعلمه اودى به *** ريب المنون فهزت العليا
وارى النجوم تجوب في آفاقها *** والأرض مظلمة ولا أضواء
ترکت طبيعتها فثم خوارق *** قدسك سمع الكون فيه نداء
السيد (الأعلى) له روحي الفدا *** فقدته أهل الدين والعلماء
السيد (الأعلى) ثوى في رمسه *** فعلى الوجود غمامة سوداء
لا علم بعد علومه لا فقه يأ *** تي بعد ذاك الفقه لا فقهاء
قد زخرفت جناتها فوق العلا *** تستقبل (الأعلى) فلا استعلاء
فاستبدل الأرض الدنية بالسما (1)(1) *** من حيث لا كدر ولا ارزاء
يلقى محمد(2)(2) جده بنعيمه *** حيث الوصي وفاطم الزهراء
حيث الحسين وصنوه والعرة ال-***اطهار حيث الجنة الفيحاء
يا خيرة الإسلام بعد فقيده *** لكتبه الاحكام والحكماء
فلتبكه الدنيا وتندب حظها *** تعست عليها في الزمان عفاء
ص: 148
یا مرشد الجهلاء في آياته ال-*** عظمى فبعدك كلنا جهلاء
قد ضاعت العرفاء بعدك سيدي *** ما فوق كوكب ارضنا عرفاء
ضاعت مقاييس العلوم وحولت*** تلك الرياض من التقى جرداء (2)(1)
هذي المحاجر والدموع كأنها *** لا ماء فيها بل هناك دماء
تجري وقل إذا العيون جرت دما *** والشعر تمجيد وليس رثاء (3)(2) (كذا)
يا من بنى الدين الحنيف بهديه*** ما غير احمد قبله بناء (4) (3)
یا من تردى في مهابة جده *** و عليه من نور الهدى سيماء
مهما اقول فلا تخلو بمقولي (1)(4) (كذا) *** صوت ترد سماعه الاصداء
یا عاملا في العلم اصلح شأننا *** هلا يكون كمثلك العلماء؟
ما عالم في العلم لم يك عاملا *** هو والحجارة في الوجود سواء
عاهدت ربك إذ وفيت بعهده *** والعهد عندك ذمة ووفاء
يهنيك انك في الجنان مخلد *** والأرض فيها مأتم وعزاء
(أن كنت قد غيبت في جدث الثرى) *** فمن السلالة عندنا أكفاء
هذا (علي) مرجع ومؤمل*** يسمو ودون مقامه الجوزاء
وللسيّد الموسوي أيضاً:
نح ما استطعت فما عليك ملام *** فالشهر من بين الشهور حرام
ص: 149
وأنخ قلوصك عند مرقد سيد *** حيث المناسك في ثراه تقام
حكم الولاء بأن تطوف بقبره *** فعليك من رب العباد سلام
فيه محلل الخاشعين بربهم *** وبه الصلاة دعا لها الإسلام
(أعلى الوری) من بعد آل محمد*** قدرا و علما، عالم علام
الحاكم الشرعي يحكم بالهدى *** فلحكمه قد دانت الأحكام
يا أيها العام الحزين لفقده *** لا حل في الأحقاب هذا العام
قد ايتم الإسلام يوم رحيله*** عنا فانا بعده أيتام
بيض ليالينا بفضل وجوده *** واليوم سود بعده ده الأيام
أن غاب عنا شخصه فلأنه *** قد شاقه للأولين غرام
قد شاقه حب الرسول وحيدر***أن العقيدة للحياة ختام
ولئن سلونا فالعزاء(1)(1)بنوره *** يهدي، وان حل القلوب ضرام
إن القلوب اوارها لا ينطفي *** إن العيون بها قذى واوام
يا منسي الماضين فيما قد اتى*** يا متعب الباقين مهما قاموا
إن كان وافاك الحمام فإنما *** وافي جميع المسلمين حمام
عمت ماتم كربلاء ربوعنا *** فبكل شبر للعزاء مقام
يوم الحسين بكربلا بمحرم *** قد عاد في صفر وذي آلام(!)
ص: 150
هو ثلمة في الدين ليس يسدها *** إلا علي نجله المقدام
سر اشعاع الهدى بعلومه *** وهو الأمام وما سواه أمام
يا ربنا سدد خطاه فانه *** قد انجبته(1)(1) للرشاد کرام
فهو (الرضي) الموسوي (المرتضى) *** وهو (المفيد) وعنده الإلمام(2) (2)
فله من (الأعلى) سمات جمة *** وله ترف من العلا أعلام
آية هو حجة هو موئل *** وعليه من طه الرسول وسام
يا ربي الهمه السلو بفقد من *** لوبيع في ثمن فليس يسام(!)
هذا (علي) حجة الله الذي*** هو آية لا شك لا أوهام
فليشهد الثقلان أني واحد *** من معشر لبيوتهم خدام(3)(3)
وللسيّد الموسوي أيضاً مؤرخاً عام وفاة السيد السبزواري قدّس سرّه بالتاريخ الميلادي:
يشهد ربي وهو العالم *** اني بحب سادتي هائم
ولاؤهم فرض وفيه النجا *** لم يثني عن حبهم لائم
ص: 151
وسيدي (الأعلى) إمام الورى *** ني له حتى الفنا خادم
لفقده نار تذيب الحشا *** حزنه فوق الحشا جائم
یا راحلا عنا وكل الأنام *** تموت والله هو الائم
أنت عصا موسى فأرخته*** غاب التقى الورع العالم(1)(1)
1993م
وللسيد الموسوي أيضاً مؤرخاً عام وفاة الفقيد العظيم بالميلادي أيضاً:
ذي صورة والمجد فيها مقيم *** وإنها رمز لدين قويم
قد جعل الله له رفعة *** (ذلك تقدير العزيز العليم)
بشراه في لقيا نبي الورى *** وأهل بيت في جنان النعيم
تستبشر الحور وولدانها *** لما تعالى (عبد الأعلى) الكريم
فتحت الجنة أبوابها *** وغلقت أباب نار الجحيم
لما سما فوق السما سيد *** وصار في جنات عدن مقيم
تهللت لروحه في العلا *** ملائك العرش بأمر الحكیم
هذا بيان للذي يبتغي *** ما كان يرجوه سوى المستقيم
السبزواري موسوي العلا *** أرخته: غاب زكي عظيم (2)(2)
1993م
وللأستاذ صادق نجل العلامة الشيخ سلمان الخاقاني مؤرخا وفاة الفقيد الكبير قدّس سرّه :
ص: 152
ربنا أسعفنا (1)(1)وخفف ألما *** قد فقدناه منارا علما
إنه (الأعلى) وقد نيطت به *** الفتاوى فاذا قال رمی
كان طودا شامخا في علمه *** كان بحرا لا يجارى كرما
فاض علما وتقى من فيضه *** (جامع الأحكام) أرضا وسما
ان یوما قد فقدناه به *** أجج الحزن وأبكانا دما
هرع الناس حشودا عندما *** خبر الخطب إلى الخلق نما
ضف (مشوا) للقبر حرى فرقا *** دون التاريخ: يوما مظلما (2)(2)
وللأستاذ الأديب كاظم نجل الشيخ سلمان الخاقاني مؤرخاً وفاة السيّد الفقيد قدّس سرّه :
في صفر يوم رحيل المصطفى *** ناداه رب العرش أقبل فارتقى
يحمل في كف الندى (مواهبا) *** و(جامع الأحكام) في كف التقى
أحاط بالأرض ظلام دامس *** أما السماوات فزادت ألقا
في الأرض ودعنا أبا وفي السما *** أرخ داع حسنت مرتفقا
1414ه-
ولبعض الأدباء ولم أقف على اسمه:
يا موكب الرحمن ردد هاتفا *** رزئ الأنام بفادح الحدثان
يا عين صبي الدمع عنوان الأسى *** فاليوم غاب العالم الروحاني
ما زالت الأشجان تحدوا ركبنا *** في كل يوم يفجع الثقلان
لكننا للصبر نمسک عروة *** في کل نائبة وفي الأشجان
ص: 153
صبرا فهذا أمر رب خليقة*** في الناس يقضيه بكل زمان
الله يا يوما به صدع التقى *** العلم أمسى مثلم البنيان
فجع الهدى والدين أصبح ناعيا *** لفقيده في الفقه والإيمان
يا سالكا لله ترجو وصله *** يا بيرقا للشرع والعرفان
يا طاهر الروح الي رجعت إلى *** قدس الحضور سليمة بأمان
يا من له النسب الرفيع بجده *** ومهابة من صبغة الديان
يا داعي الأيتام قد ايتمتنا *** يوما رحلت لمنتهى الرضوان
ما كنت إلا للسماحة ملهما *** والجود ينطق عنك بالإحسان
كنت العزيز بعفة وتواضع *** كنت البليغ بحكمة وبيان
هذا (مهذبك) الجليل لشرعة *** سمحاء (1)(1) يهدينا لخير جنان
يا (عابد الأعلى) بفقدك قد خبا *** بين البرية نورك الرباني(!)
لكنه نور الهداية سيدي *** متأججا ب(مواهب الرحمن)
هو سفرك السامي ويفصح ناطقا*** عن روعة التفسير والتبيان
وذهبت تطلب للحبيب لقاءه *** وعلمت أن الدهر يوما فان
فأهنأ بخلد في ذمام (محمد) *** و (أبي تراب) وجارك (الحسنان)
للأستاذ الشاعر المبدع علاء هلال الجبوري بعنوان:
(رثاء الغري)
يا مسجد الكون من أعماقه نكبا *** فعاد منه أساس الركن مضطربا
ص: 154
وأغرقته مآق من مدامعها *** فكان مختنقا فاهتز منتحبا
وهز من حوله الأرجاء قاطبة *** حتى السماء بكت من همه شهبا
تعلقم الماء لما اجتازه حزنا *** وهرول المجد مزدادا به فکبا
أصابه الدهر مرات ولاذ به *** وكان للدهر أما حرة وأبا
وأسرف الدهر في تبيان خسته *** وحين غفلتنا من خلفنا ضربا
فأسقط الرأس منا ثمّ قطعه *** وقطع الأمر في أجوائنا إربا
غدوت أكره هذا الدهر معترفا *** لما تأكدت أن النور فيه خبا (!)
وإن شمس العلا عند الضحا (1)(1)غربت *** والسبزواري عنا راحلا ذهبا
ذاك الذي (عبد الأعلى) وما برزت *** منه الشكاة إلى عبد وإن قربا
يبث شكواه للجبار منفردا *** ولم يقل لابن أنثى أن بي عطبا
لقد بنى (جامع الأحكام) مرتكزا *** على الصراط وب- (التهذيب) منتصبا
ومن (مواهب رب العرش) الهمه *** ما يستنار به سبحان من وهبا
رقى على كل أهل العلم مرتبة*** وصار عند ذوي العرفان منتخبا
(شخصية )نكبت كل العصور بها *** بفقدها سقطت من فوقنا قببا
لكن فينا من الآيات مجتمعا *** إلى ابن بنت رسول الله قد نسبا
مولاي أن جراح القلب نازفة *** هل يبرأ الجرح أن داويته لهبا؟
مولاي عذرك أن الهم أرقنى *** حتى غدوت لدى الإسهاب مقتضبا
لكن عذري اني اليوم في زمن *** يعد فيه كلام المقتفى كذبا
ص: 155
به جميع تقاليد الورى قلبت يسن للناس من دينارهم حسبا(1)(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
تشطير لقصيدة (صفر الخير)
أسموك (جهلا) صفر الخير *** كيف وأنت اختلت في الجهر
وأنت روعت قلوب الملأ *** وأنت حقا رائد الغدر
بالأمس أرديت إمام الهدى *** فغاب وهو الكوكب الدري
أرديت من عم الدجى بعده *** السيد الخوئي ذا الفخر
واليوم أجهزت بلا رحمة *** ظمآن من نحر إلى نحر
سيفك مدمى و تشفي به *** مستهدفا علامة العصر
لخيلك الجرد على صدره *** جلب فما أوسعه من صدر (2)
كأنه الميدان جالت به *** سنا بك قدت من الصخر
فالسبزواري سليل الألی *** تألقوا في هامة الدهر
فالله عنهم أذهب الرجس إذ*** قد طهروا في محكم الذكر
قابلته وهو ضعيف القوى *** وسطوة الجنان في المكر
حتی تفردت كوحش به *** تنهشه بالناب والظفر
لو كنت قد نازلته منصفا *** ندا لند دونم دونما غدر
لكنت وهو شعلة الفكر قد *** نازلته في ساحة الفكر
ص: 156
إذن رأت عيناك ما لم يكن*** یرى سوى في عالم السحر
وليس في حاضرها لا ولا *** قد خط في تاريخها البكر
فانظر فتاواه التي شابهت *** نسیم فواح من العطر
وتارة كأن في حدها *** سیف علي ساعة ال کر
(مهذب الأحكام) من افقه ال- *** بلسم في التهذيب والجبر
ومن معانيه يعبق الشذى (1)(1) *** بدت لنا إطلالة الفجر
مآثر آفاقه رحبة *** أثرها على ضنى العمر
قد خلدت مناقبا في العلا *** تفوق حد العد والحصر
(مواهب الرحمن) تفسیره ***يجلو الخفايا جل من سفر
شع كما شع بأنواره *** للمستدلين سنا البدر
وكفه البيضاء قد أخجلت*** نادبها بفيضها الثر
باركها الله ففاقت ندى*** كف عطاء الغيث والبحر
قتلتني من حيث لا أدري *** وكم قتيل بالهوى العذري
ين حناياه تشب اللظی *** فالقلب مطوي على جمر
قتلتني والله یا سیدي *** ( لا جائرا )فارفق بذي ضر
(حاشاك) بل همت أنا في جوى *** بحبك الموار في صدري
وثغرك المفتر عن بسمة *** تشرفت بذلك الثغر
تفرج الهم عن المبتلى *** تلوح كالطل على الزهر
ورقة في الطبع ما أبصرت*** لها الورى إلا وفي خفر
ص: 157
وهيبة جلت وما رجحت *** عيني لها ندا مدى عمري
و كنت استاف أريج الهدى*** من بين اردانك في اسر
واستمد الأمل المرتجی *** من وجهک الفواح بالبشر
وحكمة تنير قلب الفتی*** تقيه من غواية الشر
وإنها لو صح تثمینها *** أغلى ن الابريز والدر
فيها أرى الثقلين قد أشرقا *** فخف عنا ثقل الوزر
يستبقان ينفحان الورى *** بالدفء والتوحيد والبشر
وأحرف خطت على أسطر *** مفتخر سطر على سطر
تحسبها نتطق من سحرها *** تلوح كالعقد على النحر
لو أنصف الدهر لخطت على*** جباهنا الكريمة الغر
نسمو بها شامخة أو على *** أحداقنا بلامع التبر
بل شرف العصر بها مثلما *** قد شرفته سورة (العصر)
وخصها الله بقدر كما *** بالذكر خصت ليلة القدر
یا مطلق الأقلام من قيدها*** مقيدا بها حجا الحر
مرخی عنانها وفرسانها *** تختال من سفر الی سفر
تدبج السطر كما تشتهي *** حقائقا تضوع کالنشر
مدادها الإيمان مزهوة *** عرائسا في عالم الفكر
كأنها تغرف من أبحر ال-*** الإيمان آيات من الطهر
ومحكم الأحكام من عالم ال-*** غيب الذي يصدع بالأمر
يا واحد الأملاك من هاشم *** وسيد الأشراف من فهر
ص: 158
قد حق أن تبكي عيون الورى *** تنعاه بالأشعار والنشر
فالخطب فاق الدمع فلتبكه *** دما ويبكي الطير في الوكر
تالله قد صدع صرح الهدى *** وانتعشت ضلالة الكفر
واستفحلت شرور أحقاده*** وانهد قلب الدين من ذعر
يا أيها الحاني على أمة *** حنو والد علی غر
تذب عنها وهي في كربها *** ترزح تحت الضيق والفقر
كنت حماها وسنا بدرها *** وجذوة الآمال في العسر
إن أمحلت كنت لها غيثها *** وخصها في الزمن الوعر
وغضك الفينان في أرضها *** سلوتها ي عيشها المر
بظلهه الظليل في رأفة *** يقي البرايا لفحة الحر
مالي أرى محافلا عطلت *** فسادها الوجوم في قسر
أجدبها الصمت وفي زوها *** للعلم كانت كشذا الزهر
تلكم الأعواد تبكي دما *** وكانت ابتسامة الدهر
دوت ولم تعد كعهدي بها *** بالأمس مثل الورق النظر
وألف حبر لفهم غیهب*** قد أرهقتهم وطأة الضر
لو تعرف الطيب فهم أهله *** عهدي بهم كالأنجم الزهر
ولم أعد أسمع ترتيلة *** يهفو لها منشرحا صدري
إذ تتهادى كنسیم الصبا *** تطربنا في غرة الفجر
وما رأيت الأفق يهدي لنا *** نورا قضى عليه بالحظر
ولم يعد يزجي لأسماعنا *** ترنیمة للشفع والوتر
ص: 159
وما تلا سيدنا سورة ال-*** إخلاص والأنفال والحجر
ولا الضحى والرعد والكهف وال-*** فرقان والرحمن والفجر
قالوا :أفق من سكرات الكرى *** أم كنت في منفى أبي ذر
وما علمت بالذي نابنا *** فجرحنا استعمى على السبر
السبزواري إمام الهدى *** حفت به القلوب للقبر
إن لم تصدق هولها فهو ذا *** يغسل بالكافور والسدر
يا حادي الجيل إلى قمة ال-*** عليا شامخا بلا كبير
يسجل التاريخ اسطورة ال- *** أمجاد من نصر إلى نصر
خضت الميادين بلا رهبة *** أيرهب الموعود بالأجر؟
جندلتها وأنت كالليث إذ *** تجتاحها بخيلك الشقر
سباقة مهضومة الخصر *** ما اعتادت القبول بالخسر
في كل صولة بجولاتها *** تجيد فن الكر والفر
وكنت للحوزة نبراسد*** تصونها والحقد يستشري
حفظتها وكنت إلهامها *** والمقتدى وحجة العصر
حجتك البيضاء منصورة *** بالحق فيهم حكمها يجري
منصورة على احابيلهم *** نصر عصا موسى على السحر
تمضي بنورالله مسترشدا *** فتفتح الآفاق في یسر
وينضو تحت لواك الملا *** على هدى في المسلك الوعر
وصرت والخوئي رب الحجا *** نورا علا في حالك الدهر
بينكما الأجيال إذ لحتما *** في افقها كالشمس والبدر
ص: 160
وكنت للجيل أبا يرتجى *** واسوة للمهتدي البر
وكنز إرشاد مدى عمره *** نواله في العسر والضر
تطعمنا الأشهى بلا منة *** نعم عطاك الثر من ذخر
تغدق خيرات لكل الورى *** وتكتفي بالماء والتمر
یا اخفض الأعلام صوتا ويا *** أجدرهم في النهى والأمر
ويا أجلهم سناءا ويا ***أرفعهم قدرأ ومدى العمر
أضعفهم جسما وأقواهم*** روحا بعذم شادد الازر
أثبتهم في كل أيامهم *** قلبا لدى مواطن الصیر
قدفزت والله بنعمائها *** ولم یضع سعیک في هدر
حتی جنت يداك من غرسها *** ونلت أجر الصبر والشكر
في جنة ما لم تكن شاهدت *** من قبل إلا ساعة الحشر
لها مثيلا بل ولا في الرؤى *** عين ولا يخطر في فكر
تخدمك الولدان مزهوة *** طوع أياديك بلا جبر
یحفک ألسنا بهالاته*** تحدوك من قصر إلى قصر
ولوعتي ارفعها شاکیا *** بعالم الغيوب والسر
بعدتي حبیبی المصطفى *** الى معالي صاحب الأمر
أدرك حمى دينك يا سيدي *** أدرك ولا يخفاك ما يجري
أدركه كي تبل علاتنا *** فإنّك المؤمول للثأر
قام بتشطير القصيدة الأصيلة شاعر أهل البيت أو منار.
تدور خيل الدهر ما درنا*** جامحة مرخية رسنا
ص: 161
بغیر كالموتور لا ينثني *** وسيفه على الهدى ثنى
فأعقب الخوئي في غدره *** بالسبزواري كمن جنا
وکان نبراسا لكل الورى *** وعن سناه ليس يستغنى
فعلمه اليقين إذ يقتدي *** به من احتار (1)(1) ومن ظنا
فالسبزواري على نهجه *** مستلهمین نوره سرنا
قالوا سهام الدهر اردته في *** غدر فأخفت نوره سرنا
عنا فقلت كلا لم يغب نوره *** بل صار بعد موته أسنى
وما سلونا خطب أيامه *** بل بقضاء الله آمنا
فهي التي أرخت( لا *** ليس منه بل أصابت مقتلا منا )
1414ه-
شاعر أهل البيت علیه السلام أبو منار. (ما غابت ذكراك ثم عادت)
مهداة إلى روح فقيد الأمة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قدّس سرّه :
ذات يوم والسنا غرب بعدا *** و تهاوت غيمة البعد تهاوت
أذنت فوق ربانا *** فاستطالت بعد خوف ثم قالت
أظلم العرفان أم نار الدجى *** أحرقت قلبا حزينا ثم غابت
ص: 162
فعلى الصمت بقى عرفاننا *** وعناء الروح يجلى ثم عانت
وإلى ليلة ليلة عسر وبفجر*** نورت آية دهر ثم نادت
جاء كم عبد الأعلى بعدما *** بعدت أرواح رب ثم جاءت
عجز الجمع ليشفي غربتي *** فمداها قائم ثم أطالت
تلك أزمات بنفسی *** عند مولاي بكت ثم تناهت
تلك صيحات بقت في موقدي*** فسقاها سيدي نارا فصاحت
رفعت في كل حي كفها *** وأعار السيد المقدام صوتا فاستعارت
ظلمت حيت فحينا غارها *** نورك الباهي بعز فأنارت
تلك أحلام لأیام غدت *** وزهت دمعاتكم ثم أفاقت
فإذا الدمع زها فلتعرفوا *** إن أوقات خشوع العبد حانت
ويفيض الشيب بالنور على *** رفعات الكف سحراً فاستفاضت
كل حين بين نفحات السما *** عرجت أنواره ثم تلاقت
هذه أبيات شعرك *** هي بستان جنان حين قامت
كان هذا حالة العشق لكم *** ولك الاعشق منها كيف كانت
شيبكم مشکاته قد هيمنت *** عكست أنوار جدك فتسامت
هذه روحك قد عنت وقد *** بصلاة اليل هامت و استتارت
فاستتارت خلف وقت ساحر *** بحساب الأرض شوقا ثم ماتت
ص: 163
ص: 164
الاهداء ...
المقدمة
محتويات الكتاب
نسبه الشريف
ولادته
نشأته الميمونة
أساتذته
هجرته إلى مدينة مشهد المقدسة هجرته إلى النجف الأشرف
أساتذته في النجف
تلامذته
مقامه العلمي
إمامته في الحديث والرواية
أخلاقه وصفاته وصفاته وعرفانه
مكانته في العرفان وإمامته في السلوك
مطالعاته
آراؤه الأصولية
فقاهته
ألطاف الباري
ص: 165
.......... 199
مؤلفاته وآثاره
مؤلفاته في الفقه
مؤلفاته في الأصول
مؤلفاته في التفسير
مؤلفاته المخطوطة
نموذج من أجوبته عن بعض المسائل المستحدثة ...... شذرات من منجم الإمام السبزواري في جهاد النفس
نصائحه ووصاياه
كراماته
أسفاره
مشايخه في الرواية
مشاريعه الخيرية
مرجعيته
نظمه
عقبه المبارك
وفاته
ما قيل في تأبينه من المراثي محتويات الكتاب
ص: 166