کشف المراد في شرح تجرید الاعتقاد: قسم الالهیات،... العلامه الحلي

هويّة الكتاب

بطاقة تعريف:سبحانی التبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:کشف المراد في شرح تجرید الاعتقاد: قسم الالهیات،... العلامه الحلي/ قدم له و علق علیه جعفر السبحاني

تفاصيل النشر:قم: موسسة الأمام الصادق علیه السلام، 1382.

مواصفات المظهر:ص 308

ملحوظة:کتاب حاضر برگزیده و شرح "کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد" علامه حلی که خود شرحی بر "تجرید الکلام فی تحریر العقاید الاسلام" خواجه نصیرالدین طوسی است

يادداشت:کتاب حاضر برای "للسنه الثانیه من السنوات الاربع الدراسه" می باشد

لسان:العربية.

ملحوظة:کتابنامه

عنوان آخر:تجرید الکلام في تحریر العقاید الاسلام. شرح

عنوان آخر:کشف المراد في شرح تجرید الاعتقاد. شرح

موضوع:نصیرالدین طوسی، محمدبن محمد، 672 - 597ق. تجرید الکلام فی تحریر العقاید الاسلام. نقد و تفسیر

علامه حلی، حسن بن یوسف، 726 - 648ق. کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد -- نقد و تفیسیر

کلام شیعه امامیه -- متون قدیمی تا قرن 14

شناسه افزوده:نصیرالدین طوسی، محمدبن محمد، 672 - 597ق. تجرید الکلام في تحریر العقاید الاسلام. شرح

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 726 - 648ق. کشف المراد في شرح تجرید الاعتقاد. شرح

شناسه افزوده:موسسة الأمام الصادق علیه السلام

تصنيف الكونجرس:BP210/ن 6ت 30235 1382

تصنيف ديوي:297/4172

رقم الببليوغرافيا الوطنية:م 83-6383

ضبط النص الرقمي: میثم الحیدري

ص: 1

اشارة

کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد: قسم الالهیات،... العلامه الحلی

قدم له و علق علیه جعفر السبحانی

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام الصادق علیه السلام، 1382.

ص: 2

پيش درآمد

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

الحمد للّٰه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خاتم أنبيائه و رسله، و على أهل بيته و عترته، الطيبين الطاهرين الذين أذهب اللّٰه عنهم الرجس و طهَّرهم تطهيراً.

أما بعد: فإنّ كتاب «تجريد الاعتقاد»(1) للمحقق نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي (597-672 ه) من أوجز المتون الكلاميّة، وفقَ عقائد الإمامية، و يكفي في رفعة منزلته قول شارحه علاء الدين القوشجي الأشعري حيث وصفه بقوله: «تصنيف مخزون بالعجائب، و تأليف مشحون بالغرائب، فهو و إن كان صغير الحجم، وجيز النظم، لكنّه كثير العلم، عظيم الاسم، جليل البيان، رفيع المكان، حسن النظام، مقبول الأئمّة العظام، لم يظفر بمثله علماء الأعصار، و لم يأت بمثله الفضلاء في القرون و الأدوار، مشتمل على إشارات إلى مطالبَ هي الأمّهات، مشحون

**********

(1) . أسماه شيخنا الطهراني في الذريعة «تجريد الكلام في تحرير عقائد الإسلام».

ص: 3

بتنبيهات على مباحث هي المهمات، مملوء بجواهر كلّها كالفصوص، و محتوٍ على كلمات يجزي أكثرها مجرى النصوص، متضمن لبيانات معجزة، في عبارات موجزة» إلى آخر ما ذكره(1).

و قد شرحه جم غفير من المحققين منذ تأليفه إلى يومنا هذا، و أوّل من شرحه: تلميذه الطائر الصيت ابن المطهر الحسن بن يوسف المشهور بالعلّامة الحلي (648-726 ه) الّذي أسماه «كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد»، ثمّ توالت الشروح بعده، فشرحه ثانياً: شمس الدين محمد الإسفراييني البيهقي و أسماه «تعريد الاعتقاد في شرح تجريد الاعتقاد». و ثانياً: الشيخ شمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني (المتوفي 746 ه) و أسماه «تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد». و رابعاً: علاء الدين علي بن محمد المعروف بالفاضل القوشجي (المتوفي 879 ه)، ألَّفه للسلطان أبي سعيد گوركان.

و يسمى الشرح الثالث بالشرح القديم، و الرابع بالشرح الجديد، و قد كتب على الشرحين تعاليق و حواشٍ كثيرة، يقف عليها من تتبع المعاجم.

ثمّ توالت الشروح بعد هذه الشروح الأربعة إلى عصرنا هذا.

إنّ كتاب كشف المراد تبعاً لمتنه يدور على محاور ثلاثة:

الأوّل: في الأمور العامة الّتي تطلق عليها الإلهيات بالمعنى الأعم، و يبحث فيه عن الوجود و العدم و أحكام الماهيات، و المواد الثلاث: الوجود

**********

(1) . علاء الدين القوشجي، شرح التجريد: 1.

ص: 4

و الإمكان و الامتناع، و القدم و الحدوث، و العلة و المعلول، و غيرها من المسائل الّتي تبحث عن أحكام الوجود بما هو هو.

الثاني: في الجواهر و الأعراض الّتي تطلق عليها الطبيعيات و يبحث فيه عن الأجسام الفلكية و العنصرية و الأعراض التسعة، على وجه التفصيل.

الثالث: في الإلهيات بالمعنى الأخص، و يبحث فيه عن الأصل الخمسة.

و بما أنّ المحور الأوّل هو المقصد الأهم للحكماء من المشائين و الإشراقيين، و قد بحثوا عنه في الأمور العامة على وجه التفصيل و الاستيعاب، حتّى خصص صدر المتألهين ثلاثة أجزاء من كتابه «الأسفار» بمباحث هذا المحور - لأجل ذلك - استغنى الطلّاب عن دراسة هذا المقصد من كتاب كشف المراد.

و بما أنّ العلوم الجديدة الباحثة عن الطبيعة و أحكامها قد قطعت أشواطاً كبيرة، و أبطلت كثيراً من الفروض العلمية في الفلكيات و الأكوان، فأصبح ما يبحث في الكتب الكلامية و الفلسفية في هذا القسم تاريخاً للعلم الطبيعي لا نفسه، و لأجل ذلك تركت دراسة المحور الثاني في الكتب الكلامية و الفلسفية في أعصارنا.

فلم يبق إلّا المحور الثالث الموسوم بالإلهيات بالمعنى الأخص الّذي يبحث فيه عن ذاته سبحانه و صفاته و أفعاله، و لأجل ذلك عكف المحصلون على دراسة هذا المحور الّذي يتضمن البحث عن إثبات

ص: 5

الصانع و صفاته و أفعاله، و يدخل في البحث عن صفاته: البحث عن عدله، كما يدخل في البحث عن أفعاله: البحث عن النبوّة و الإمامة و المعاد.

و قد قررت اللجنة العلمية المشرفة على الدراسات الكلامية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام تدريس المحور الثالث و الإلهيات بالمعنى الأخص من الكتاب، للسنة الثانية من السنوات الأربع الدراسية، هذا و ذاك ممّا دعا اللجنة إلى طبعه مستقلاً عن القسمين الآخرين.

مع أنّ الفضل و الفضيلة يرجع إلى العلّامة الشارح في فهم مقاصد التجريد كما اعترف به الموافق و المخالف، لكن الشرح - في بعض المواضع - يحتاج إلى تعليق يوضح معضلاته، و يبيّن مغلقاته، فقمت بهذا الواجب حتّى أسهِّل الطريق للدارسين، و أرجو منه سبحانه أن يكون وافياً بالغرض و محصلاً للأمنيّة بإذنه.

و أخيراً أتقدم بالشكر إلى المحقّق الجليل الشيخ محمد هادي به - حفظه اللّٰه - حيث كان له شرف الإشراف على طبع و إخراج هذا الكتاب بهذه الصورة البهية و تعيين المقاطع في المتن، و إلى السيد الجليل المحقق محمد كاظم «حكيم زاده» فقد قام بتخريج مصادر الروايات في أبواب النبوّة و الإمامة، فشكر اللّٰه مساعيهما و وفقهما لما يحب و يرضى.

جعفر السبحاني

تحريراً في 27 من ذي الحجة الحرام 1416

ص: 6

قال المحقق الطوسي:

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

أمّا بعد: حمد واجب الوجود على نعمائه و الصلاة على سيد أنبيائه محمّد المصطفى و عليّ أكرم أمنائه فإنّي مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام و ترتيبها على أبلغ نظام مشيراً إلى غرر فوائد الاعتقاد و نكت مسائل الاجتهاد مما قادني الدليل إليه و قوى اعتقادي عليه، و سمّيته بتجريد الاعتقاد، و اللّٰه أسأل العصمة و السداد و أن يجعله ذخراً ليوم المعاد، و رتبته على مقاصد(1):...

***

المقصد الثالث في: إثبات الصانع تعالى و صفاته و آثاره

اشارة

المقصد الثالث في: إثبات الصانع(2) تعالى و صفاته و آثاره

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في وجوده تعالى

الموجود إن كان واجباً و إلاّ استلزمه، لاستحالة الدور و التسلسل.

**********

(1) . الخطبة مأخوذة من صدر الكتاب.

(2) . إنّ الصانع تبارك و تعالى هو موضوع علم الكلام، و شأن العلم هو البحث عن عوارض الموضوع المسلّم وجوده، و على هذا يخرج إثبات الصانع تعالى عن مسائل علم الكلام، بل إثباته على عاتق الفن الأعلى في الفلسفة حيث يبحث عن الموجود بما هو هو، و يصل في تقسيمه و برهنته إلى الواجب و الممكن.

نعم البحث عن صفاته - بعد ثبوت وجوده - و أفعاله، يعدُّ من مسائله، و يندرج في قوله: «و أفعاله» البحث عن النبوة العامة و الخاصة، و الإمامة، و المعاد، و ما فيها من مباحث لها صلة بأفعاله سبحانه.

ص: 7

أقول: يريد إثبات واجب الوجود تعالى و بيان صفاته و ما يجوز عليه و ما لا يجوز و بيان أفعاله و آثاره، و ابتدأ بإثبات وجوده، لأنّه الأصل في ذلك كلّه، و الدليل على وجوده أن نقول: هنا موجود بالضرورة، فإن كان واجباً فهو المطلوب، و إن كان ممكناً افتقر إلى مؤثر موجود بالضرورة، فذلك المؤثر إن كان واجباً فالمطلوب، و إن كان ممكناً افتقر إلى مؤثر موجود، فإن كان واجباً فالمطلوب و إن كان ممكناً تسلسل أو دار و قد تقدّم بطلانهما. و هذا برهان قاطع أشير إليه في الكتاب العزيز بقوله: «أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ»(1) و هو استدلال لمّي(2).

**********

(1) . فصّلت: 53.

(2) . الاستدلال اللمّي هو الاستدلال بالعلّة على المعلول، و الإنِّي هو العكس، فهذا النوع من الاستدلال الوارد في الكتاب ليس منهما، لأنّ الموضوع فيه هو الوجود المطلق من دون تقييد بالوجوب و الإمكان.

نعم الاستدلال بوجوب وجوده على صفاته كما سيأتي من الماتن استدلال لمّي، بل الاستدلال المذكور هو برهان الصديقين، و هو و إن قرر بوجوه مختلفة (1) و لكن المذكور أيضاً أحدها، و قد ذكره الشيخ في الإشارات بالنحو التالي: «كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإمّا أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون. فإن وجب فهو الحق بذاته، الواجب وجوده من ذاته و هو القيّوم، و إن لم يجب لم يجز أن يقال: إنّه ممتنع بذاته بعد ما فرض موجوداً، بلىٰ إن قرن باعتبار ذاته شرط، مثل شرط عدم علته صار ممتنعاً، أو مثل شرط وجود علته صار واجباً، و إن لم يقرن بها شرط لا حصول علّة و لا عدمها، بقي له في ذاته الأمر الثالث و هو الإمكان. فيكون باعتبار ذاته، الشيء الذي لا يجب و لا يمتنع. فكل موجود إمّا واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود بحسب ذاته» (2).

-

1 - الأسفار: 14/6 تعليقة الحكيم السبزواري و العلاّمة الطباطبائي - قدّس سرّهما.

2 - شرح الإشارات للمحقق الطوسي قسم المتن: 18/3.

ص: 8

و المتكلمون سلكوا طريقاً آخر فقالوا: العالم حادث فلا بدّ له من محدث، فلو كان محدثاً تسلسل أو دار و إن كان قديماً ثبت المطلوب لأنّ القدم يستلزم الوجوب، و هذه الطريقة إنّما تتمشى بالطريقة الأولى فلهذا اختارها المصنّف رحمه الله على هذه.

**********

( و قال - بعد بحوث مفصّلة حول البرهان المذكور -: «تأمّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأوّل و وحدانيته و براءته من الصمات إلى تأمّل لغير نفس الوجود، و لم يحتج إلى اعتبار مِنْ خلقه و فعله و إن كان ذلك دليلاً عليه لكن هذا الباب أوثق و أشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به الوجود من حيث هو وجود و هو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود، و إلى مثل هذا أُشير في الكتاب الإلهي: (سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ) (فصّلت: 53).

أقول: إنّ هذا حكم لقوم ثمّ يقول: «أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» (فصّلت: 53).

أقول: إنّ هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه» (1).

نعم هذا مسلكهم، و أمّا مسلك المتكلّمين فهم يستدلّون بحدوث العالم على وجود المحدِث، كما أنّ الباحثين عن الطبيعة يستدلّون بالحركة فيها على وجود المحرِّك، و قد أشار الحكيم السبزواري إلى الوجوه الثلاثة، قال:

«إذا الوجود كان واجباً فهو و مع الإمكان قد استلزمه

ثمّ الطبيعي طريقَ الحركة يأخذ للحق سبيلاً سلكه

من في حدوث العالم قد انتهج فإنّه عن منهج الصدق خرج

[و أمّا ضعف الوجه الثالث] لأنّ مناط الحاجة إلى العلّة هو الإمكان فقط لا الحدوث، و لا الإمكان مع الحدوث» (2).

-

1 - شرح الإشارات للمحقق الطوسي قسم المتن: 66/3.

2 - الحكيم السبزواري: شرح المنظومة/ 141-143.

ص: 9

الفصل الثاني: في صفاته تعالى

اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأُولىٰ: في أنّه تعالى قادر

المسألة الأُولىٰ: في أنّه تعالى قادر(1)

قال: الثاني في صفاته. وجودُ العالم بعد عدمه يَنفي الإيجابَ.

أقول: لما فرغ من البحث عن الدلالة على وجود الصانع تعالى شرع في الاستدلال علىٰ صفاته تعالى، و ابتدأ بالقدرة.

**********

(1) . المقصود من القدرة هنا هو كونه فاعلاً مختاراً، لا فاعلاً موجباً كالنار بالنسبة إلى الحرارة، و الذي يُركَّز عليه هنا في تفسير القدرة هو كونه فاعلاً بالاختيار. و أمّا الاستدلال على القدرة بإتقان فعله سبحانه فهو يهدف إلى كونه فاعلاً عن علمٍ و حكمة، فلا يشتبه الغرضان في البحث.

و المقام أحد المواقف التي يفترق فيها التفكير الكلامي عن التفكير الفلسفي و إن لم يصرّح به الماتن و الشارح، و الإشكالات التي يذبّ عنها الماتن، للحكماء كما سيوافيك، و إليك بيان التفكيرين في المقام:

عرّف المتكلّمون القدرة بصحّة الفعل و الترك (1)، و إن شئت قلت: إمكان الفعل و الترك و كون نسبتها إليه على السواء.

و أورد عليه: بأنّ هذا التعريف يصلح لتفسير القدرة في الوجود الإمكاني كالإنسان، و لا يصح تفسير قدرته سبحانه به، لأنّ هذا الإمكان ليس قائماً بذات الشيء (المقدور)

-

1 - الحكيم السبزواري: شرح المنظومة: 172.

ص: 10

و الدليل علىٰ أنّه تعالى قادر أنّا قد بيّنا أنّ العالم حادث، فالمؤثر فيه إن كان موجَباً لزم حدوثه أو قدم ما فرضناه حادثاً أعني العالم، و التالي بقسميه باطل، بيان الملازمة: أنّ المؤثّر الموجَب يستحيل تخلف أثره عنه، و ذلك

**********

( لأنّه في حد ذاته ممكن بلا كلام و إنّما هو قائم بالقادر، فلو أُريد منه: الإمكان الماهوي لزم اتصافه سبحانه بالماهية و هو أرفع من أن يكون له ماهية، و إن أُريد: الإمكان الاستعدادي لزم أن يكون ذاته محلاً للتغير لوجود الإمكان الاستعدادي.

و قد ذكرنا في الإلهيات (1) ما يصلح جواباً للإشكال.

و يمكن أن يقال عاجلاً: ليس المراد منه أحد الإمكانين بل المراد هو المعنى الثالث، و هو الإمكان الصدوري، و يعلم مفاده إذا قيس الأثر إلى مؤثره، فلا يخلو أنَّ نسبته إليه إمّا بالإيجاب، أو بالامتناع، أو لا هذا و لا ذاك، و الحاصل أنّ الفاعل إذا كان مقيّداً بإحدى النسبتين، لا يسمّى قادراً بالنسبة إلى الفعل و الترك، و القادر هو المتجرد عن النسبتين، و تفسير القدرة به لا يستلزم المحذورين المتقدمين.

و عرفها الحكماء بأنّ قدرته تعالى هي كونه إذا شاء فعل و لو لم يشأ لم يفعل (2)، و لو اقتصر في تعريف القدرة بهذا القدر لم يتوجه إشكال، فيكون معناه: إنّ القادر هو غير المجبور على أحد الطرفين، لكن ربّما يضاف إليه و يقال: «و لكنه شاء و فعل»، فتجعل الشرطية الأُولى واجبة التحقّق أزلاً و أبداً، و هذا يعطي كونه فاعلاً موجَباً، خصوصاً إذا قلنا: إنّ مشيئته و إرادته قديمة، فيُصبح عدم العالم أمراً ممتنعاً، بل واجب التحقّق بالقياس إلى مشيئته القديمة، و هذا هو الذي جرّ المتكلّمين لاتهام الحكماء بأنّه سبحانه عندهم فاعل موجَب (بالفتح)، و الحكماء و إن كانوا محترزين عن وصف اللّٰه سبحانه بكونه فاعلاً موجَباً، بل يقولون: إنّه فاعل موجِب (بالكسر) فهو يعطي للفعل وصف الوجوب، لكن بالنظر إلى قولهم: «و لكنه شاء و فعل» و قولهم بالمشيئة القديمة و الإرادة الذاتية يكون سبحانه فاعلاً موجَباً أي غير مختار.

هذا ما يرجع إلى بيان موقف المسألة بين المتكلّمين و الحكماء، و أمّا الدفاع عن أحد المنهجين فهو خارج عن وضع التعليقة، و قد استدل الماتن على قدرته (اختياره) بحدوث العالم زماناً أو ذاتاً، على وجه يكون هناك انفكاك بين الذات و العالم، و هو دليل الاختيار.

-

1 - الإلٰهيات: 134/1.

2 - الحكيم السبزواري: شرح المنظومة: 172.

ص: 11

يستلزم إمّا قدم العالم و قد فرضناه حادثاً، أو حدوث المؤثر و يلزم التسلسل، فظهر أنّ المؤثر للعالم قادر مختار.

قال: و الواسطةُ غير معقولةٍ.

أقول: لما فرغ من الاستدلال علىٰ مطلوبه شرع في أنواع من الاعتراضات للخصم مع وجه المخلص منها.

و تقرير هذا السؤال أن يقال: دليلكم يدل علىٰ أنّ مؤثر العالم مختار و ليس يدل على أنّ الواجب مختار بل جاز أن يكون الواجب تعالى موجِباً لذاته معلولاً، يؤثر في العالم على سبيل الاختيار(1).

و تقرير الجواب: أنّ هذه الواسطة غير معقولة، لأنّا قد بيّنا حدوث العالم بجملته و أجزائه، و المعني بالعالم كل موجود سوى اللّٰه تعالى، و ثبوت واسطة بين ذات اللّٰه تعالى و بين ما سواه غير معقول.

**********

(1) . هذه الشبهة و ما يليها من الحكماء الذين يتراءىٰ من كلماتهم أنّه سبحانه فاعل موجَب (بالفتح) لا مختار.

و نجلّ الحكماء الإماميين عن هذه التهمة.

حاصل الشبهة: أنّه من المحتمل أنّه سبحانه يكون فاعلاً موجَباً و مع ذلك يكون العالم حادثاً متأخراً عنه، و ذلك بأن يخلق عن إيجاب موجوداً مختاراً بالذات يقوم هو بخلق العالم، فيكون العالم حادثاً، لأنّ علته فاعل مختار، و مع ذلك يكون الواجب فاعلاً موجَباً بالنسبة إلى الصادر الأوّل.

فقوله: «موجِباً» بالكسر بمعنى موجداً لذاته، معلولاً يؤثر في العالم على سبيل الاختيار، فقوله: «معلولاً» مفعول لقوله «موجِباً» بمعنى موجداً، و بذلك تستغني عما في بعض النسخ من إضافة قوله: «و له معلول يؤثر» بعد قوله: «موجباً لذاته»، و على هذه النسخ يكون موجباً (بالفتح) و لا يتم الكلام إلاّ بإضافة قوله: «و له...» كما لا يخفى.

ص: 12

قال: و يمكن عروض الوجوبِ و الامكانِ للأثر باعتبارين.

أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، و تقريره: أنّ المؤثر إما أن يستجمع جميع الجهات المؤثرية أو لا، فإن كان الأوّل كان وجود الأثر عنه واجباً، و إلاّ لافتقر ترجيحه إلىٰ مرجح زائد، فلا تكون الجهات بأسرها موجودة، هذا خلف، أو لزم الترجيح من غير مرجح(1) و هو باطل بالضرورة، و إن لم يكن مستجمعاً لجميع الجهات استحال صدور الأثر عنه، و حينئذ لا يمكن تحقق القادر، لأنّه على تقدير حصول جميع الجهات يمتنع الترك، و على تقدير انتفاء بعضها يمتنع الفعل، فلا تتحقق المكنة من الطرفين.

و تقرير الجواب: أنّ الأثر تعرض له نسبتا الوجوب و الإمكان باعتبارين، فلا يتحقق الموجَب و لا يلزم الترجيح من غير مرجح. و بيانه أنّ فرض استجماع المؤثر جميع ما لا بد منه في المؤثرية هو بأن يكون المؤثر المختار مأخوذاً مع قدرته التي يستوى طرفا الوجود و العدم بالنسبة إليها، و مع داعيه الذي يرجح أحد طرفيه، و حينئذ يجب الفعل بعدهما نظراً إلىٰ وجود الداعي و القدرة، و لا تنافي بين هذا الوجوب و بين الإمكان نظراً إلىٰ مجرد القدرة و الاختيار، و هذا كما إذا فرضنا وقوع الفعل من المختار، فإنّه يصير واجباً من

**********

(1) . إذا كان المؤثر جامعاً لجميع الجهات و مع ذلك لم يصدر المعلول لزم أحد المحذورين:

1 - إنّ عدم الصدور، إمّا لأجل افتقاره إلى مرجح.

2 - أو لا لافتقاره إليه و لكن ترجح جانب العدم على جانب الوجود.

فعلى الأوّل يلزم الخلف لأنّا فرضناه جامعاً للجهات المؤثرة غير محتاج إلى شيء، و على الثاني يلزم الترجيح من غير مرجح، بل يلزم ترجيح المرجوح (أي العدم) على الراجح (الوجود)، لكون علته موجوداً.

ص: 13

جهة فرض الوقوع و لا ينافي الاختيار. و بهذا التحقيق يندفع جميع المحاذير اللازمة لأكثر المتكلمين في قولهم: القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح.

قال: و اجتماعُ القدرة على المستقبل مع العدم.

أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، و تقريره أن نقول: الأثر إمّا حاصل في الحال فواجب فلا يكون مقدوراً، أو معدوم فممتنع فلا قدرة(1).

و تقرير الجواب: أنّ الأثر معدوم حال حصول القدرة و لا نقول إنّ القدرة حال عدم الأثر تفعل الوجود في تلك الحال بل في المستقبل، فيمكن

**********

(1) . حاصل الشبهة انّ الأثر إذا كان حاصلاً في الحال لا تتعلّق به القدرة لأنّه، يكون واجباً بالوجوب اللاحق لأنّه ما لم يجب لم يوجد، و إن تعلقت به في حال العدم، يكون العدم واجباً كالوجود، بالامتناع اللاحق فإذا كان كذلك لا تتعلق القدرة في كل حال على شيء.

و الجواب: انّا نختار الشق الأوّل و نقول: إنّ القدرة في حال وجود الأثر، تؤثر في عدمه في المستقبل (الآن الثاني) بمعنى انّ الوجود يكون محدوداً، و نختار الشق الثاني (كما عليه عبارة الشارح) و نقول: إنّ القدرة تؤثر في وجود المقدور في المستقبل (الآن الثاني) و يكون العدم منتقضاً غير باق.

فإن قلت: كيف تتعلق القدرة في الحال (الشق الثاني)، بالمعدوم فعلاً، الموجود في المستقبل؟

قلت: إنّ القدرة في الحال، موجودة لكنها لا تتعلق كذلك بما يتحقّق في المستقبل، بل تتعلق في الاستقبال بالفعل الاستقبالي فالقدرة حالية، و لكن التعلق و الفعل استقباليان، و إلى هذا ينظر قول الشارح: «لا تتعلق بالوجود في الاستقبال في الحال، بل في الاستقبال» و إن شئت قلت: القدرة لا تتعلق في الحال بالوجود الاستقبالي، بل تتعلق في الاستقبال بالوجود الاستقبالي و الحاصل أنّ التعلق و الفعل كلاهما استقباليان، و إن كانت القدرة موجودة حالياً.

ص: 14

اجتماع القدرة على الوجود في المستقبل مع العدم في الحال.

لا يقال: الوجود في الاستقبال غير ممكن في الحال لأنّه مشروط بالاستقبال الممتنع في الحال و إذا كان كذلك فلا قدرة عليه في الحال و عند حصول الاستقبال يعود الكلام.

لأنّا نقول: القدرة لا تتعلق بالوجود في الاستقبال في الحال بل في الاستقبال.

قال: و انتفاءُ الفعلِ ليس فعلَ الضدّ(1).

أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، و تقريره: أنّ القادر لا يتعلق فعله بالعدم فلا يتعلق فعله بالوجود.

أمّا بيان المقدمة الأُولىٰ فلأن الفعل يستدعي الوجود و الامتياز و هما ممتنعان في حق المعدوم.

و أمّا الثانية فلأنكم قلتم: القادر هو الذي يمكنه الفعل و الترك، و إذا

**********

(1) . حاصل الإشكال: أنّ القدرة عبارة عن كون الفاعل مؤثراً في أحد جانبي الفعل و العدم و لكن العدم لا يقبل التأثير لأنّ التأثير يستلزم الامتياز و هو ليس بمتميز.

و حاصل الجواب: أنّ القادر ليس هو المؤثر في الفعل أو العدم بحيث يكون العدم طرف التأثير، و القدرة عبارة عن صحة صدور الفعل و عدمه، و بالتالي القادر من يصح أن يصدر عنه و أن لا يصدر، لا أن يصدر منه العدم، فتأثير القدرة في جانب العدم بمعنى عدم القيام بالفعل و الوجود، لا القيام بإيجاد العدم، فعدم تميز العدم ليس بمخلّ.

إلى هنا تبيّن أنّه سبحانه قادر، و الشبهات الأربع المذكورة في كلام الماتن مع أجوبتها ليست بتامة، و لو صحّت لاقتضى نفي القدرة عن صحيفة الوجود فيصبح كل الفواعل، فواعلَ بالإيجاب من غير فرق بين الواجب و الممكن لاشتراك الجميع في الشبهات و هو عجيب.

ص: 15

انتفىٰ إمكان الترك انتفىٰ إمكان الفعل.

و تقرير الجواب: أنّ القادر هو الذي يمكنه أن يفعل و أن لا يفعل و ليس لا يفعل عبارة عن فعل الضدّ.

قال: و عموميةُ العلة تستلزم عمومية الصفة(1).

أقول: يريد بيان أنّه تعالى قادر علىٰ كل مقدور، و هو مذهب الأشاعرة، و خالف أكثر الناس في ذلك، فإنّ الفلاسفة قالوا إنّه تعالى قادر علىٰ شيء واحد، لأنّ الواحد لا يتعدد أثره، و قد تقدم بطلان مقالتهم.

و المجوس ذهبوا إلىٰ أنّ الخير من اللّٰه تعالى، و الشرّ من الشيطان، لأنّ اللّٰه تعالى خير محض و فاعل الشر شرير.

و الثنوية ذهبوا إلىٰ أن الخير من النور، و الشر من الظلمة.

**********

(1) . هذه المسألة من فروع عموم خالقيته لكل شيء، كما هو مقتضى التوحيد في الخالقية الذي آمنت به الأشاعرة و الإمامية، فلو كان خالقاً لكل شيء لكان قادراً عليه و قابلاً لأن تتعلق به قدرته، من غير فرق بين الخير و الشر و أفعال العباد و غيرها، غير أنّ الإمامية تفترق عن الأشاعرة في تفسير التوحيد في الخالقية، حيث تفسره على وجه لا ينافي عدلَه سبحانه، بخلاف الأشاعرة فهؤلاء يفسرونه بشكل ينطبق على الجبر، فالمطلوب للأشاعرة هو حفظ التوحيد في الخالقية، سواء أضرّ بعدله أم لا، بخلاف الإمامية فالمطلوب عندهم هو حفظ كلا الأصلين.

و أمّا غير هاتين الطائفتين فينكرون عموم قدرته لجهات مختلفة، و هؤلاء طوائف أربع: 1 - الفلاسفة. 2 - المجوس. 3 - الثنوية. 4 - المعتزلة. و الدواعي لنفي عموم القدرة مختلفة، و إليك البيان:

1 - لمّا ذهبت الفلاسفة إلى أنّ الواحد (الواجب) لا يصدر عنه إلاّ الواحد، قالوا بأنّه قادر على الشيء الواحد فقط، و هو الصادر الأوّل، فنفوا عمومَ قدرته حسب نقل الشارح، و لكن النسبة غير صحيحة، لأنّ القول به لا يستلزم تلك النتيجة كما لا يخفى على]

ص: 16

و النظّام قال: إنّ اللّٰه تعالى لا يقدر على القبيح، لأنه يدلّ على الجهل أو الحاجة.

و ذهب البلخي إلىٰ أنّ اللّٰه لا يقدر علىٰ مثل مقدور العبد، لأنّه إمّا طاعة أو سفه.

و ذهب الجُبّائيان إلىٰ أنّه تعالى لا يقدر علىٰ عين مقدور العبد و إلاّ لزم اجتماع الوجود و العدم علىٰ تقدير أن يريد اللّٰه إحداثه و العبد عدمه.

**********

( من له إلمام بمفاد القاعدة، و لأجل ذلك قال الماتن في السابق: «و مع وحدته يتحد المعلول» (1)، و مع ذلك قال في المقام بعمومية القدرة، و هو يعرب عن إمكان الجمع بين القاعدتين.

2 - لمّا ذهبت المجوس و الثنوية إلى أنّه سبحانه خير محض، فقالوا بعدم تعلّق قدرته بالشرور، فهي عند المجوس مستند إلى المبدأ الحادث، أعني: الشيطان، و عند الثنوية مستند إلى مبدأ قديم كالظلمة، و بذلك افترقت المجوس عن الثنوية، حيث إنّ مبدأ الشر عند المجوس حادث و عند الثنوية قديم، و الظاهر من المحقق الطوسي في نقد المحصل أنّ عقيدة المجوس و الثنوية واحد، و هو أنّ الخير من «يزدان» و الشر من «اهرمن» و يريدون من الأوّل: الملك، و من الثاني: الشيطان (2).

يقول الحكيم السبزواري: و الشرّ أعدام فكم قد ضلَّ من يقول باليزدان ثمّ الأهرمن

و أمّا ما نسبه إلى الثنوية فهو عقيدة المانوية، و على هذا فالثنوية مصحّف «المانوية».

3 - لمّا قالت المعتزلة بخروج أفعال العباد عن كونه مخلوقاً للّٰه سبحانه، حفظاً لعدله، ظهر بينهم قول النظّام (ت 231 ه) و الكعبي (ت 317 ه) و الجُبّائيين (أبي علي ت 302 ه و أبي هاشم ت 321 ه)، و الأقوال مذكورة في الشرح مع أجوبتها.

- 1 - كشف المراد: 116، المقصد الأوّل، الفصل الثالث، المسألة الثالثة.

2 - لاحظ نقد المحصل: 190.

ص: 17

و هذه المقالات كلّها باطلة، لأن المقتضي لتعلق القدرة بالمقدور إنّما هو الإمكان، إذ مع الوجوب و الامتناع لا تعلق، و الإمكان ثابت في الجميع فثبت الحكم و هو صحة التعلق، و إلى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله: عمومية العلة، أي الإمكان، تستلزم عمومية الصفة، أعني القدرة علىٰ كل مقدور.

و الجواب عن شبهة المجوس: أنّ المراد من الخيّر و الشرير(1) إن كان مَنْ فَعَلَهُما فَلِمَ لا يجوز اسنادهما إلىٰ شيء واحد؟

و أيضاً الخير و الشر ليسا ذاتيين للشيء، فجاز أن يكون الشيء خيراً بالقياس إلى شيء و شراً بالقياس إلىٰ آخر، و حينئذ يصح إسنادهما إلىٰ ذات واحدة.

و عن شبهة النظّام أنّ الإحالة حصلت بالنظر إلى الداعي، فلا تنافي الإمكان الذاتي المقتضي لصحة تعلق القادر.

و عن شبهة البلخي: أنّ الطاعة و العبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي.

**********

(1) . أجاب عن شبهة المجوس بوجهين:

الأوّل: إذا كان المراد من الخيّر من يفعله و من الشرير من يصدر منه الشر، فلا مانع من كون شيء واحد و هو اللّٰه مبدأ لهما، و هذا الجواب ليس حاسماً للاشكال، لأنّ الإشكال بعدُ باق بحاله، إذ الخصم يقول: إذا كان مقتضى صدور شيء من شيء، وجود رابطة بينهما فلازم صدور الأمرين المتضادين اشتماله على أمرين متضادين، مع أنّا فرضناه واحداً بسيطاً، و على فرض جواز التركيب، المتضادان لا يجتمعان.

الثاني و هو الجواب الحقيقي: أنّ الشر ليس له مصداق في الخارج و إنّما هو أمر إضافي ينتزع من قياس شيء إلى شيء آخر، فإذا كان بينهما عدم الملاءمة، يقال: إنّه شر كما أوضح في محله، و ليس العدم إلاّ أمراً قياسياً.

ص: 18

و عن شبهة الجُبّائيين: أنّ العدم إنّما يحصل إذا لم يوجد داع لقادر آخر إلىٰ إيجاده(1).

المسألة الثانية: في أنّه تعالى عالم

قال: و الإحكامُ و التجردُ و استنادُ كل شيء إليه دلائلُ العلم.

أقول: لما فرغ من بيان كونه تعالى قادراً و كيفية قدرته شرع في بيان كونه تعالى عالماً و كيفية علمه.

و استدل علىٰ كونه تعالى عالماً بوجوه ثلاثة: الأوّل منها للمتكلمين و الأخيران للحكماء.

**********

(1) . إذا كان المفروض في كلامهما هو ما جاء في الشرح من أنّ اللّٰه يريد الإحداث، و العبد لا يريده، فالجواب هو ما جاء هنا، و هو أنّه يقع الفعل دون العدم، إذ العدم رهن عدم الداعي إلى الفعل، فلو كان هناك داع إلى الفعل يقع الفعل و تؤثر إرادة اللّٰه، و ليس في ناحية العبد داع و لا إرادة حتى يكون هناك تعارض.

و بعبارة أُخرى: إذا كان المفروض في كلام الجبائيين أنّ أحد الفاعلين يريد الفعل دون الآخر، فالجواب هو ما جاء في كلام الشارح، فيتحقّق مراد من يريد دون من لا يريد، و إلى ذلك ينظر قوله: إنّ العدم إنّما يحصل إذا لم يوجد داع لقادر آخر إلى إيجاده.

نعم لكلامهما صور أُخر لم يذكرها الشارح و لكل حكمه، و التفصيل موكول إلى مسألة برهان التمانع الوارد في كلام المتكلمين على توحيده، و إجماله أنّه إذا أرادا الفعل، أو أرادا العدم أو أراد أحدهما الفعلَ و الآخر العدم، ففي الصورتين الأُوليين لا تزاحم بين الداعيين و لا بين الإرادتين، لكون إرادة العبد في طول إرادة اللّٰه سبحانه، فيكون تعلّق إرادة الواجب بالتسبيب و تعلّق إرادة العبد بالمباشرة، و أمّا عند المخالفة فلو كان زمانا الإرادتين مختلفين يتحقّق كل في ظرفه و إلاّ فيتبع الواقعُ أقوى الإرادتين و هو إرادة الواجب سبحانه.

ص: 19

الوجه الأوّل: أنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة، و كلّ من كان كذلك فهو عالم.

أما المقدمة الأُولى فحسية، لأن العالم إمّا فلكي أو عنصري، و آثار الحكمة و الإتقان فيهما ظاهرة مشاهدة.

و أما الثانية فضرورية، لأن الضرورة قاضية بأنّ غير العالِم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرة بعد أُخرى.

الوجه الثانية: أنّه تعالى مجرد و كل مجرد عالم بذاته(1) و بغيره.

أما الصغرى فإنّها و إن كانت ظاهرة لكن بيانها يأتي فيما بعد عند الاستدلال على كونه تعالى ليس بجسم و لا جسماني.

و أمّا الكبرى فلأنّ كل مجرد فإنّ ذاته حاصلة لذاته لا لغيره و كل مجرد حصل له مجرد، فإنّه عاقل لذلك المجرد لأنّا لا نعني بالتعقل إلاّ الحصول، فإذن كل مجرد فإنّه عاقل لذاته.

و أمّا أنّ كلّ مجرد عالم بغيره فلأن كل مجرد أمكن أن يكون معقولاً وحده،

**********

(1) . إنّ هنا لونين من البحث:

أحدهما: كل عاقل مجرد، و كل مجرد عاقل، و قد أطرحه المحقّق الطوسي في آخر «المسألة الثانية و العشرون» من مباحث العلم و تبعه شرّاح المتن، و أقاموا البرهان على القاعدتين المعروفتين (1) و قد ذكر أيضاً بعض ما يرتبط بهما في الفصل الرابع، المسألة الخامسة في تجرد النفس (2) و لكنّ بيان الشارح في المقام الأوّل في الكتاب غير خال عن التعقيد و الصعوبة.

ثانيهما: ما ذكره الشارح في المقام استلهاماً من قول المصنف في المتن حيث قال: «و التجرد»، و فسّره في المقام بالصورة التالية: إنّه سبحانه مجرد و كل مجرد عالم بذاته

-

1 - لاحظ كشف المراد: 246 طبعة النشر الإسلامي.

2 - لاحظ المصدر نفسه: 184 طبعة النشر الإسلامي.

ص: 20

و كل ما يمكن أن يكون معقولاً وحده أمكن أن يكون معقولاً مع غيره، و كل مجرد يعقل مع غيره فإنّه عاقل لذلك الغير، أما ثبوت المعقولية لكل مجرد فظاهر لأن المانع من التعقل إنّما هو المادة لا غير، و أما صحة التقارن في

**********

(1) و بغيره. و لأجل أن لا تخرج التعليقة عن حدها، نشرح ما ذكره الشارح في المقام و نرجئ البحث عن اللون الأوّل و ما ذكره في تجرد النفس إلى آونة أُخرى لعل اللّٰه يحدث بعد ذلك أمراً، فنقول:

هنا: دعويان:

الأُولى: أنّه سبحانه مجرد، و كل مجرّد عالم بذاته.

الثانية: أنّه سبحانه مجرد، و كل مجرّد عالم بغيره.

أمّا الدعوى الأُولى: فهي مركبة من صغرى مفروضة الصدق، لأنّه ليس جسماً و لا جسمانياً فيكون مجرداً، و من كبرى، و معناها أنّه عالم بذاته. و يمكن توضيحه بالوجه التالي: إنّ العلم ليس إلاّ حضور الشيء لدى الشيء، و العائق عن الحضور هو كون الشيء جسماً أو جسمانياً، لأنّ لازمهما التفرق و الانبساط و عدم اجتماع الأجزاء و غيبوبة بعضها عن بعض، و هو مفقود بالفرض، لأنّه مجرد و ليس له جزء يغيب بعضه عن بعض، فهو بوحدته و بساطته كمال مطلق ليس له جزء يغيب بعضه عن بعض، و عند ذاك تكون ذاته حاضرة لدى ذاته، و قد عرفت أنّ العلم ليس إلاّ الحضور. و ما قاله الشارح: «و كلّ مجرد حصل له مجرد» يريد من المجرد الأوّل نفسَ الشيء و من قوله: «حصل له مجرد» حصولَ ذاتِه لذاته أي حضور ذاته لدى ذاته.

هذا كلّه حول الدعوى الأُولى التي انتهت إلى علمه سبحانه بذاته.

و أمّا الدعوى الثانية: أنّه مجرد، و كلّ مجرد عالم بغيره، التي تريد إثبات علمه سبحانه بما سواه من أفعاله فبيانه يتوقف على ثبوت أُمور ثلاثة:

1 - أنّ كلّ مجرد أمكن أن يكون معقولاً وحده.

2 - و كلّ ما يمكن أن يكون معقولاً وحده أمكن أن يكون معقولاً مع غيره.

3 - و كلّ مجرد يعقل مع غيره فإنّه عاقل لذلك الغير.

ص: 21

المعقولية فلأنّ كل معقول فإنّه لا ينفكّ عن الأُمور العامة، و أما وجوب العاقلية حينئذ فلأنّ إمكان مقارنة المجرد للغير لا يتوقف على الحضور في العقل لأنه نوع من المقارنة فيتوقف إمكان الشيء علىٰ ثبوته فعلاً و هو باطل، و إمكان المقارنة هو إمكان التعقل، و في هذا الوجه أبحاث مذكورة في كتبنا العقلية.

**********

(1) و إليك بيان الأُمور الثلاثة:

أمّا الأوّل، أعني: كل مجرد يمكن أن يكون معقولاً وحده، أي بلا وساطة صورة مرتسمة و الشاهد عليه قوله: «لأنّ المانع من التعقل إنّما هو المادة لا غير» و من المعلوم أنّها تمنع عن المعقولية المباشرية أي بلا واسطة، لا مع الواسطة و إلاّ يلزم امتناع حصول العلم بالمادة و الماديات و هو كما ترى، و لعل ما في الأمر الأوّل لا يتجاوز عمّا ثبت في الدعوى الأُولى و هو أنّه سبحانه مجرّد و كلّ مجرّد عالم بذاته.

و أمّا الثاني: أعني كل ما يمكن أن يكون معقولاً وحده أمكن أن يكون معقولاً مع غيره، فإن كلّ معقول لا ينفك عن الأُمور العامّة كالإمكان و الوجود و الوحدة و غيرها فانّ كل معقول يصح أن يعقل مع أحد هذه الأُمور.

إلى هنا ثبت معقولية المجرد لنفسه و كونه معقولاً مع كل ما يقارنه.

بقي الكلام في أنّ المجرد عاقل لذلك المقارن، و هذا هو الذي نبيّنه في الأمر الثالث، فإنّ إمكان مقارنة معقول مجرد لمجرد، كاف في الحكم بعلمه به، و ذلك أخذاً بمقتضى التجرّد، الذي يستلزم عدم العائق و المانع، و لا يتوقف إمكان الشيء على وقوعه، فإمكان المقارنة مساوق لوقوع المقارنة، و حيث إنّه لا مانع من التعقل ينتج أنّه سبحانه عالم بأفعاله التي هي بمنزلة المعقول الثاني.

و إن شئت قلت: إنّه لا شك أنّ كلّ مجرّد عاقل لنفسه فيكون معقولاً، لأنّ المانع من المعقولية بالذات هو المادة و المفروض عدمها.

و على ذلك كما يمكن أن يكون معقولاً وحده، يمكن أن يكون معقولاً مع الغير أي يصح أن يقارن معقول معقولاً في العقل، فإذا ثبت إمكان اقترانهما في العقل ثبت

ص: 22

الوجه الثالث: أنّ كل موجود سواه ممكن، علىٰ ما يأتي في باب الوحدانية، و كل ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إما ابتداءً أو بوسائط علىٰ ما تقدم، و قد سلف أنّ العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول و اللّٰه تعالى عالم بذاته علىٰ ما تقدم فهو عالم بغيره.

قال: و الأخيرُ عامٌّ.

أقول: الوجه الأخير من الأدلة الثلاثة الدالة علىٰ كونه تعالى عالماً يدل علىٰ عمومية علمه بكل معلوم، و تقريره: أنّ كل موجود سواه ممكن و كل ممكن مستند إليه فيكون عالماً به، سواء كان جزئياً أو كلياً، و سواء كان موجوداً قائماً بذاته أو عرضاً قائماً بغيره، و سواء كان موجوداً في الأعيان أو متعقلاً في الأذهان لأن وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضاً فيستند إليه، و سواء

**********

( مطلق اقترانهما، لأنّ الاقتران في العقل نوع من المقارنة و ليست المقارنة منحصرة فيه، و لو توقف إمكان مقارنة المعقولين على مقارنتهما في العقل لزم توقف إمكان الشيء على وجوده و هو كما ترى.

فإذا ثبت أنّ مطلق المقارنة ممكن، فلو تحقّقت تلك المقارنة و قارن مجرد مجرداً لكان عاقلاً له، إذ المانع من التعقل هو المادية و هي في المقام منتفية، كل ذلك بشرط تحقّق المقارنة.

يلاحظ عليه: أنّ البرهان على فرض تماميته يثبت علم المجرد بكل مجرد مقارن، و المقارنة تحصل إمّا بالحلول أو بالصدور، و الأوّل كالصور المرتسمة في النفس، و الثاني هي نفسها أيضاً على القول بأنّ النفس خلاّق لها.

و لكنّه عقيم بالنسبة إلى علم البارئ للموجودات الإمكانية، من المجرد إلى الهيولى، لعدم تجرد الجميع، و الجسمانيات مغمورة في المادة و الماديات، و العلم بصورها غير علمه بذواتها و المقصود علمه بذواتها و لا بد من التماس دليل آخر.

ص: 23

كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن أو ممتنع، فلا يعزب عن علمه شيء من الممكنات و لا من الممتنعات، و هذا برهان شريف قاطع.

قال: و التغايرُ اعتباريٌّ.

أقول: لما فرغ من الاستدلال علىٰ كونه تعالى عالماً بكل معلوم، شرع في الجواب عن الاعتراضات الواردة عن المخالفين، و ابتدأ باعتراض من نفى علمه تعالى بذاته، و لم يذكر الاعتراض صريحاً بل أجاب عنه و حذفه للعلم به.

و تقرير الاعتراض أن نقول: العلم إضافة(1) بين العالم و المعلوم أو مستلزم للإضافة، و على كلا التقديرين فلا بد من المغايرة بين العالم و المعلوم و لا مغايرة في علمه بذاته.

و الجواب: أن المغايرة قد تكون بالذات و قد تكون بنوع من الاعتبار و هاهنا ذاته تعالى من حيث إنّها عالمة مغايرة لها من حيث إنّها معلومة، و ذلك كاف في تعلق العلم.

**********

(1) . الأولى أن يقال: العلم و إن لم يكن من مقولة الإضافة - كما حقق في مبحث الوجود الذهني لكنّه حسب الوجود من الأُمور ذوات الإضافة، و هي تطلب لنفسها طرفين و هما غير متحققين في علمه سبحانه بذاته.

و الجواب أنّا نمنع أنّه من ذوات الإضافة الحقيقية في جميع المراحل حتى في علم النفس بذاته فضلاً عن علمه سبحانه بذاته، و إن أبيت نقول: إنّ التعدد - حفظاً للإضافة - في المقام اعتباري فمن حيث إنّه مجرد، عالم، و من حيث حضور ذاته لدى ذاته، معلوم.

ص: 24

قال: و لا يستدعي العلمُ صوراً مغايرة للمعلومات عنده(1) لأنّ نسبة الحصول إليه أشدُّ من نسبة الصور المعقولة لنا.

أقول: هذا جواب عن اعتراض آخر أورده من نفى علم اللّٰه تعالى بالماهيات المغايرة له.

و تقرير الاعتراض: أنّ العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم، فلو كان

**********

(1) . الإشكال في علمه سبحانه بالماهيات المغايرة له - على حد تعبير الشارح - أو الوجودات المغايرة له - حسب تعبيرنا - مبني على حصر العلم بالقسم الحصولي أي الصور المرتسمة الحالّة في العالم و عندئذ يتوقف علمه سبحانه بها على توسط صورة بينه و بين الموجودات فيتسرَّب ما ذكر من الإشكالات، و أمّا إذا كسرنا إطار الحصر و قلنا: إنّه ينقسم إلى حضوري و حصولي و لا يتوقف القسم الأوّل، على انتزاع صورة من المعلوم بل هو بنفسه و واقعه يكون حاضراً لدى العالم بلا توسط صورة، فيرتفع الإشكال.

و يعلم حال علمه سبحانه بذاته من مقايسة علم النفس بالصورة المرتسمة الحاكية عن الخارج فإنّها عالمة بالخارج بتوسط الصور و أمّا علمها بها، فلا يتوقف على توسط صورة أُخرى و إلاّ لزم التسلسل.

و اللّٰه سبحانه عالم بالوجودات الإمكانية بنفسها لأنّها فعله القائم به قيام المعنى الحرفي، بالاسمي، و لا يتوقف علمه بها على توسيط صور بينه و بينها. فمَثل الوجودات الإمكانية بالنسبة إليه تعالى، كمثل الصور المرتسمة لدى النفس و لكن حضورها عنده تعالى أشدّ من حضورها لديها. لأنّ نسبته إليه، نسبة المؤثر إلى الأثر و الموجد إلى موجَده، بخلاف نسبتها إليها، إذ هو من قبيل نسبة القابل إلى المقبول.

نعم بناءً على أنّ النفس خلاّق للصور، و موجدة لها بعد تحقق مقدمات و معدات من الحواس، يكون التشبيه أوضح إذ النفس تكون خلاّقة للصور في ظلّ خلاقيته سبحانه لما سواه فيكون مثَلاً له في عالم الشهادة، و إن كان سبحانه نزيهاً عن المثْل.

ص: 25

اللّٰه تعالى عالماً بغيره من الماهيات لزم حصول صور تلك المعلومات في ذاته تعالى و ذلك يستلزم تكثره تعالى، و كونه قابلاً و فاعلاً و محلاًّ لآثاره، و أنّه تعالى لا يوجد شيئاً مما يباين ذاته بل بتوسط الأُمور الحالّة فيه، و كلّ ذلك باطل.

و تقرير الجواب: أن العلم لا يستدعي صوراً مغايرة للمعلومات عنده تعالى، لأنّ العلم هو الحصول عند المجرد على ما تقدم، و لا ريب في أنّ الأشياء كلها حاصلة له لأنّه مؤثرها و موجدها، و حصول الأثر للمؤثر أشد من حصول المقبول لقابله مع أنّ الثاني لا يستدعي حصول صورة مغايرة لذات الحاصل، فإنا إذا عقلنا ذواتنا لم نفتقر إلىٰ صورة مغايرة لذواتنا ثمّ إذا أدركنا شيئاً ما بصورة تحصل في أذهاننا فإنا ندرك تلك الصورة الحاصلة في الذهن بذاتها لا باعتبار صورة أُخرىٰ و إلاّ لزم تضاعف الصور مع أن تلك الصورة حاصلة لذاتنا لا بانفرادها بل بمشاركة من المعقولات، فحصول العلم بالموجودات لواجب الوجود الذي تحصل له الأشياء من ذاته بانفراده من غير افتقار إلىٰ صور لها أولى؛ و لما كانت ذاته سبباً لكل موجود و علمه بذاته علة لعلمه بآثاره و كانت ذاته و علمه بذاته العلتان، متغايرتين بالاعتبار متحدتين بالذات، فكذا معلوله و العلم به متحدان بالذات متغايران بنوع من الاعتبار.

و هذا بحث شريف أشار إليه صاحب التحصيل و بسطه المصنف رحمه الله في شرح الاشارات، و بهذا التحقيق يندفع جميع المحالات لأنها لزمت باعتبار حصول صور في ذاته تعالى عن ذلك.

قال: و تغيُّرُ الإضافات ممكنٌ.

أقول: هذا جواب عن اعتراض الحكماء القائلين بنفي علمه تعالى

ص: 26

بالجزئيات الزمانية.

و تقرير الاعتراض: أن العلم يجب تغيره عند تغير المعلوم، و إلاّ لانتفت المطابقة لكن الجزئيات الزمانية متغيرة فلو كانت معلومة للّٰه تعالى لزم تغير علمه تعالى و التغير في علم اللّٰه تعالى محال.

و تقرير الجواب: أنّ التغير هنا إنّما هو في الإضافات لا في الذات(1) و لا في الصفات الحقيقية، كالقدرة التي تتغير نسبتها و إضافتها إلى المقدور عند عدمه، و ان لم تتغير في نفسها، و تغير الإضافات جائز لأنّها أُمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج.

**********

(1) . و يعبر أيضاً عن هذا الجواب بأنّ التغير في طرف العلم لا في نفسه، كالقدرة، فإنّ المتغير هو المقدور، لا القدرة.

توضيحه: أنّه لو كان علمه حصولياً ارتسامياً حالاًّ في ذاته، لزم التغير في الذات، حسب تغير الصور كما إذا قام زيد ثمّ قعد، فتكون هناك صورة بعد صورة، لكن علمه سبحانه بالأشياء حضوري، و عليه يكون هناك حضور بعد حضور، فالتغير إنّما هو في الإضافة و النسبة (الحضور) لا في العلم، و الإضافات أُمور اعتبارية كما قرره الماتن في مبحث المضاف من الأعراض (1).

و الأولى أن يجاب بأنّ التغير إنّما هو في علمه الفعلي لا في علمه الذاتي، فإنّ العالم بوجوده الخارجي فعله و علمه، كما أنّ الصورة المرتسمة فعل النفس و علمها، و الممنوع إنّما هو التغير في علمه الذاتي بالأشياء الموجب لحدوث التغير في ذاته سبحانه، لا في علمه الفعلي.

و أمّا عدم التغير في علمه الذاتي فلأنّه لما لم يكن مكانياً كانت الأمكنة بالنسبة إليه سواء فلا قريب و لا بعيد بالنسبة إليه، و لمّا لم يكن زمانياً كانت الأزمنة بالنسبة إليه سواء فلا ماضي و لا مستقبل لديه بل هو واقف على الجميع من غير تقدم و تأخر، و من تكن

-

1 - لاحظ كشف المراد، الفصل الخامس: المضاف، المسألة الثالثة في أنّ الاضافة ليست ثابتة في الأعيان ص 258، و قال الماتن: و ثبوته ذهني و إلاّ تسلسل.

ص: 27

قال: و يمكن اجتماعُ الوجوب و الإمكان باعتبارين.

أقول: هذا جواب عن احتجاج من نفى علمه تعالى بالمتجددات قبل وجودها.

و تقرير كلامهم: أنّ العلم لو تعلق بالمتجدد(1) قبل تجدده لزم وجوبه، و إلاّ لجاز أن لا يوجد فينقلب علمه تعالى جهلا و هو محال.

و الجواب: إن أردتم بوجوب ما علمه تعالى، أنّه واجب الصدور عن العلم فهو باطل لأنّه تعالى يعلم ذاته و يعلم المعدومات، و إن أردتم وجوب المطابقة لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق لا سابق فلا ينافي الإمكان الذاتي.

و إلى هذا أشار بقوله: و يمكن اجتماع الوجوب و الإمكان باعتبارين.

**********

( حاله كذلك فالمتغيرات بأجمعها حاضرة لديه من دون أن يحدث التغير في الكون تغيراً في العلم، و نستوضح ذلك بالمثال التالي: إذا نظرنا من الكوّة إلى الشارع المليئة بالسيارات فلا نرى في كل لحظة إلاّ سيارة واحدة فنصفُ السيارات بالسبق و التأخر، و أمّا إذا نظرنا إلى الشارع من أُفق عال رأينا الجميع دفعة واحدة و محيطاً بها من غير سبق و لا لحوق، و اللّٰه سبحانه لتنزهه عن الزمان و المكان يحيط بالأشياء متقدمها و متأخرها بلا تقدم و تأخر و تكون نسبة الجميع إليه واحدة.

(1) . توضيح التقرير: أنّه تعالى لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، و إلاّ يلزم أن يكون تلك الحوادث ممكنة و واجبة معاً، و التالي باطل للتنافي بين الوجوب و الإمكان، بيان اللزوم أنّها ممكنة لكونها حادثة، و واجبة أيضاً و إلاّ أمكن أن لا يوجد فينقلب علمه جهلاً و هو محال.

و الجواب: أنّ العلم تابع للمعلوم، فلا يكون تعلّق علمه به دليلاً على وجوبه، و لو سلم فنقول: انّها ممكنة لذواتها، و واجبة بغيرها و هو تعلق علم البارئ تعالى بوجودها و لا تنافي بين الإمكان بالذات، و الوجوب بالغير (1).

-

1 - لاحظ شرح علاء الدين للقوشجي: 414 ط تبريز عام 1307.

ص: 28

المسألة الثالثة: في أنّه تعالى حي

قال: و كلّ قادرٍ عالمٍ حيٌّ بالضرورة(1).

أقول: اتفق الناس على أنّه تعالى حي و اختلفوا في تفسيره:

فقال قوم: إنّه عبارة عن كونه تعالى لا يستحيل أن يقدر و يعلم.

و قال آخرون: إنّه من كان على صفة لأجله عليها يجب أن يعلم و يقدر.

و التحقيق أنّ صفاته تعالى إن قلنا بزيادتها على ذاته فالحياة صفة ثبوتية زائدة على الذات و إلاّ فالمرجع بها إلى صفة سلبية و هو الحق، و قد بيّنا أنّه تعالى قادر عالم فيكون بالضرورة حيّاً لأن ثبوت الصفة فرع عدم استحالتها.

**********

( و قول الشارح: «إن أردتم بوجوب علمه تعالى أنّه واجب الصدور عن العلم...» معناه: إن أردتم أنّ علمه علّة تامة لصدور هذه الجزئيات الزمانية فهو باطل و إلاّ لزم أن تكون ذاته علّة لذاته و المعدومات، لكون المفروض أنّه يعلمهما. و إن أردتم وجوب كون الخارج مطابقاً فهو صحيح لكنّه لا ينافي الإمكان، لأنّ هذا الوجوب وجوب متأخر لا سابق.

يلاحظ على الشق الأوّل في الجواب أنّه ليس المراد من كون العلم علّة تامة، كونه علّة تامة مطلقاً لكل معلوم حتى يعم ذاته و المعدومات، بل علمه علّة تامة في كل فعل يعدّ فعلاً له سبحانه و متعلقاً للداعي (حسب مصطلح المتكلمين) أو وقع في إطار إرادته، فعندئذ لا يصح النقض بالعلم بالذات و المعدومات.

(1) . يريد أنّ بعض الصفات في مقام الإثبات يتولد من صفات أُخر، فإنّ الحي عبارة عن الدرّاك الفعال، و المدرك هو العالم، و الفعال هو القادر، فإذا ثبت كونه عالماً قادراً، فقد ثبت كونه حيّاً بلا حاجة إلى برهان خاص.

ص: 29

المسألة الرابعة: في أنّه تعالى مريد

قال: و تخصيصُ بعض الممكنات بالإيجاد في وقت يدلُّ على إرادته تعالى.

أقول: اتفق المسلمون على أنّه تعالى مريد(1) لكنهم اختلفوا في معناه:

فأبو الحسين جعله نفس الداعي، على معنى أن علمه تعالى بما في الفعل من المصلحة الداعية إلىٰ الإيجاد هو المخصص و الإرادة.

و قال النجار: إنّه سلبي، و هو كونه تعالى غير مغلوب و لا مستكره.

و عن الكعبي: أنّه راجع إلىٰ أنّه عالم بأفعال نفسه و آمر بأفعال غيره.

و ذهبت الأشعرية و الجُبّائيان إلىٰ أنّه صفة زائدة على العلم.

و الدليل علىٰ ثبوت الصفة مطلقاً أنّ اللّٰه تعالى أوجد بعض الممكنات دون بعض مع تساوي نسبتها إلى القدرة فلا بدّ من مخصص غير القدرة التي شأنها الإيجاد مع تساوي نسبتها إلى الجميع، و غير العلم التابع للمعلوم، و ذلك المخصص هو الإرادة. و أيضاً بعض الممكنات يخصّص بالإيجاد في وقت دون ما قبله و بعده مع التساوي فلا بد من مرجح غير القدرة و العلم.

**********

(1) . نقل في تفسير الإرادة آراء أربعة:

1 - علمه بما في فعله من المصلحة.

2 - كونه غير مغلوب و لا مستكره.

3 - علمه بأفعال نفسه (الإرادة التكوينية) و أمره بأفعال غيره (الإرادة التشريعية).

4 - صفة وراء العلم.

و الأقوى هو القول الرابع لكن لا بصورة صفة زائدة على الذات، بل متحدة مع الذات بمعنى كونه مختاراً، و التفصيل في محلّه.

ص: 30

قال: و ليست زائدةً على الداعي و إلاّ لزم التسلسل أو تعدُّدُ القدماءِ.

أقول: اختلف الناس هنا، فذهبت الأشعرية إلىٰ إثبات أمر زائد على ذاته قديم هو الإرادة. و المعتزلة اختلفوا:

فقال أبو الحسين: إنّها نفس الداعي، و هو الذي اختاره المصنف.

و قال أبو علي و أبو هاشم: إنّ إرادته حادثة لا في محل.

و قالت الكرامية: إنّ إرادته حادثة في ذاته.

و الدليل علىٰ ما اختاره المصنف: أن إرادته لو كانت قديمة لزم تعدد القدماء و التالي باطل فالمقدم مثله، و لو كانت حادثة إمّا في ذاته أو لا في محل لزم التسلسل لأنّ حدوث الإرادة في وقت دون آخر يستلزم ثبوت إرادة مخصصة و الكلام فيها كالكلام هنا.

المسألة الخامسة: في أنّه تعالى سميع بصير

قال: و النقلُ دلَّ على اتصافه بالإدراك و العقلُ على استحالة الآلات.

أقول: اتفق المسلمون كافة علىٰ أنّه تعالى مدرك(1)، و اختلفوا في معناه فالذي ذهب إليه أبو الحسين أنّ معناه علمه تعالى بالمسموعات و المبصرات و أثبت الأشعرية و جماعة من المعتزلة صفة زائدة على العلم.

و الدليل علىٰ ثبوت كونه تعالى سميعاً بصيراً: السمع، فإنّ القرآن قد

**********

(1) . يطلق المُدرِك و يراد منه تارةً أنّه سبحانه عالم بالمبصرات و المسموعات، و أُخرى أنّه عالم بالجزئيات، و الثاني أعم.

ص: 31

دلّ عليه، و إجماع المسلمين علىٰ ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول: السمع و البصر في حقنا إنّما يكون بآلات جسمانية، و كذا غيرهما من الإدراكات، و هذا الشرط ممتنع في حقه تعالى بالعقل، فإمّا أن يرجع بالسمع و البصر إلىٰ ما ذهب إليه أبو الحسين، و إمّا إلىٰ صفة زائدة غير مفتقرة إلى الآلات في حقه تعالى.

المسألة السادسة: في أنّه تعالى متكلم

قال: و عمومية قدرته تدل علىٰ ثبوت الكلام و النفساني غير معقول.

أقول: ذهب المسلمون كافة إلىٰ أنّه تعالى متكلم و اختلفوا في معناه:

فعند المعتزلة أنّه تعالى أوجد حروفاً و أصواتاً(1) في أجسام جمادية دالة على المراد.

**********

(1) . الأقوال في كونه سبحانه متكلماً ثلاثة:

الأوّل: للمعتزلة و أنّ المتكلم من أوجد الكلام لا من قام به الكلام.

الثاني: للأشاعرة و أنّه من قام به الكلام و فسروه بالكلام النفسي، الذي هو من اللغز و الأحاجي، حيث يدّعون أنّه غير العلم في الأخبار، و غير الإرادة في الإنشائيات، و بما أنّ الإنشائيات أعم من الأمر و يعمّ النهي و الترجّي و التمنّي و الاستفهام، يلزم عليهم إثبات كلام نفسي في هذه الموارد غير الكراهة و الترجي و التمني و الاستفهام، و هو كما ترى.

الثالث: للحكماء و حاصله: أنّ العالم بجواهره و أعراضه كلامه سبحانه، لأنّه يعرب عن كماله و جماله و علمه و قدرته، و إنّما يسمّى الكلام اللفظي كلاماً لأنّه يعرب عمّا في ضمير المتكلم، و أي إظهار أجلى و أوضح من الموجودات الإمكانية مجرّدها و ماديها، التي تعرب عن الكمال المكنون. و هذا هو رأي الحكماء، و يمكن استظهاره من بعض الآيات، و به روايات، لاحظ الإلهيات: 194/1.

ص: 32

و قالت الأشاعرة: إنّه متكلم بمعنىٰ أنّه قام بذاته معنىٰ غير العلم و الإرادة و غيرهما من الصفات تدل عليها العبارات، و هو الكلام النفساني، و هو عندهم معنى واحد ليس بأمر و لا نهي و لا خبر و لا غير ذلك من أساليب الكلام.

و المصنف رحمه الله حينئذ استدل علىٰ ثبوت الكلام بالمعنى الأول بما تقدم من كونه تعالى قادراً علىٰ كل مقدور لا شك في إمكان خلق أصوات في أجسام تدل على المراد.

و قد اتفقت المعتزلة و الأشاعرة على إمكان هذا، لكن الأشاعرة أثبتوا معنى آخر، و المعتزلة نفوا هذا المعنى لأنّه غير معقول، إذ لا يعقل ثبوت معنى غير العلم ليس بأمر و لا نهي و لا خبر و لا استخبار و هو قديم، و التصديق موقوف على التصور.

قال: و انتفاءُ القبح عنه تعالى يدلُّ علىٰ صدقه.

أقول: لما أثبت كونه تعالى متكلماً و بيّن معناه شرع في بيان كونه تعالي صادقاً، و قد اتفق المسلمون عليه، لكن لا يتمشى علىٰ أُصول الأشاعرة.

أمّا المعتزلة فهذا المطلب عندهم ظاهر الثبوت، لأنّ الكذب قبيح بالضرورة، و اللّٰه تعالى منزّه عن القبائح لأنّه تعالى حكيم على ما يأتي فلا يصدر الكذب عنه تعالى.

ص: 33

المسألة السابعة: في أنّه تعالى باق

قال: و وجوب الوجود يدلُّ علىٰ سرمديته(1) و نفي الزائد.

أقول: اتفق المثبتون للصانع تعالى علىٰ أنّه باق أبداً و اختلفوا، فذهب الأشعري إلىٰ أنّه باق ببقاء يقوم به، و ذهب آخرون إلىٰ أنّه باق لذاته، و هو الحق الذي اختاره المصنف.

و الدليل علىٰ أنّه باق، ما تقدم من بيان وجوب وجوده لذاته و واجب الوجود لذاته يستحيل عليه العدم، و إلاّ لكان ممكناً.

و الاعتراض الذي يورد هنا و هو أنّه يجوز أن يكون واجباً لذاته في وقت و ممتنعاً في وقت آخر يدل علىٰ سوء فهم مورِده، لأنّ ماهيته حينئذ بالنظر إليها مجردة عن الوقتين تكون قابلة لصفتي الوجود و العدم و لا نعني بالممكن سوى ذلك.

و اعلم أنّ هذا الدليل كما يدل علىٰ وجوب البقاء يدل على انتفاء المعنى

**********

(1) . إنّ وجوب الوجود، في كلام الماتن صار مبدأ برهان لمسائل عديدة، و هو يعرب عن مقدرة علمية للمحقق الطوسي، فقد استخرج معارف عليا من مبدأ واحد و هو وجوب وجوده، فقد استدل به على المسائل التالية:

1 - سرمديته. 2 - نفي الزائد عنه. 3 - نفي الشريك عنه. 4 - نفي المِثْل عنه. 5 - نفي التركيب بمعانيه عنه. 6 - نفي الضد عنه. 7 - نفي التحيّز عنه. 8 - نفي الحلول عنه. 9 - نفي الاتحاد عنه. 10 - نفي الجهة عنه. 11 - نفي حلول الحوادث فيه عنه. 12 - نفي الحاجة عنه (غنيّ). 13 - نفي الألم و اللذة المزاجية عنه. 14 - نفي المعاني و الأحوال و الصفات الزائدة عنه. 15 - نفي الرؤية عنه. 16 - ثبوت الجود له. 17 - و الملك له. 18 - ثبوت التمام و فوقه له. 19 - ثبوت الحقية له. 20 - ثبوت الخيرية له. 21 - ثبوت الحكمة له. 22 - ثبوت التجبّر له. 23 - ثبوت القهر له. 24 - ثبوت القيّوميّة له.

هذه الصفات التي هي بين سلبية و ثبوتية، تثبت بثبوت أمر واحد و هو وجوب وجوده و أنّه يمتنع عليه العدم، و قام الشارح بشرح ما رامه المصنّف، شكر اللّٰه مساعي الجميع.

ص: 34

الذي أثبته أبو الحسن الأشعري، لأنّ وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن الغير، فلو كان باقياً بالبقاء كان محتاجاً إليه فيكون ممكناً، هذا خلف.

المسألة الثامنة: في أنّه تعالى واحد

قال: و الشرِيكِ(1) أقول: هذا عطف على الزائد، أي و وجوب الوجود يدل علىٰ نفي الزائد و نفي الشريك.

و اعلم أنّ أكثر العقلاء اتفقوا علىٰ أنّه تعالى واحد.

و الدليل علىٰ ذلك العقل و النقل. أمّا العقل فما تقدم من وجوب وجوده تعالى، فإنّه يدل علىٰ وحدته، لأنّه لو كان هناك واجب وجود آخر لتشاركا في مفهوم كون كل واحد منهما واجب الوجود، فإمّا أن يتميزا أو لا، و الثاني يستلزم المطلوب و هو انتفاء الشركة، و الأول يستلزم التركيب و هو باطل و إلاّ لكان كل واحد منهما ممكناً و قد فرضناه واجباً، هذا خلف، و أمّا النقل فظاهر.

**********

(1) . إنّ الشريكين يعتبر فيهما اختلافهما في الماهية، بخلاف المِثل فإنّه تعتبر فيه الوحدة في الماهية و لذلك عقد لكل من نفي الشريك و المثل مسألة خاصة.

ثمّ الشريك عبارة عن اجتماع الاثنين أو أكثر على فعل أو حق أو مال أو غير ذلك، و على هذا كان على الشارح في تعليقته على قول الماتن «و نفي الشريك» إقامة الدليل على وحدة الخالق في العالَم، و بعبارة أُُخرى كان عليه البحث حول التوحيد في الخالقية، بعد البحث عن التوحيد في الذات، مع أنّه في هذا المورد أقام البرهان على التوحيد في الذات، و لعلّ العدولَ إليه لأجل استلزام وحدة الواجب وجوداً وحدة الخالق أيضاً. و هذا و إن كان صحيحاً، لكنّه فوّت على الشارح البحث عن مراتب التوحيد: الذاتي، التدبيري، و... على النحو الذي سلكناه في «الإلهيات» كما لا يخفى.

ص: 35

المسألة التاسعة: في أنّه تعالى مخالف لغيره من الماهيات

قال: و المثلِ(1).

أقول: هذا عطف على الزائد أيضاً، أي و وجوب الوجود يدل علىٰ نفي الزائد و نفي الشريك و نفي المثل، و هذا مذهب أكثر العقلاء، و خالف فيه أبو هاشم فإنّه جعل ذاته مساوية لغيرها من الذوات و إنّما تخالفها بحالة توجب أحوالاً أربعة، و هي الحيية و العالمية و القادرية و الموجودية، و تلك الحالة هي صفة إلهية، و هذا المذهب لا شك في بطلانه فإنّ الأشياء المتساوية تتشارك في لوازمها فلو كانت الذوات متساوية جاز انقلاب القديم محدثاً و بالعكس و ذلك باطل بالضرورة.

**********

(1) . قد عرفت أنّ المثل يطلق فيما إذا كان بين الأمرين وحدة في الماهية و اختلاف في الأصناف و الخصوصيات، كفردين من إنسان، و اللّٰه سبحانه تباين ماهيتُه ماهيةَ الممكنات فلا يتصور له مثل، و الدليل على التباين أنّ مقتضى وجوب وجوده كون ماهيته عين الوجود، و إلاّ فلو كانت له وراء الوجود ماهية خالية عن الوجود، لزم إمكان وجوده و هو خلف، بخلاف الممكنات فإنّ ماهيتها وراء الوجود، إذ لو كان الوجود عينَ ماهيته أو جزءاً منها لما اتصف بالإمكان و مساواة نسبة الوجود و العدم إليه. هذا هو الذي سلكه أكثر العقلاء.

و هناك بعض من يتصور للّٰه سبحانه ماهية كمفاهيم الممكنات، غير أنّه يتميز عنها بأحد أمرين:

1 - الصفات الحقيقية الزائدة كالعلم و القدرة التامتين. و عليه فريق من المتكلمين.

2 - الأحوال الأربعة، و هي الحيية و العالمية و القادرية و الموجودية، و بطلان النظريتين واضح، لأنّ لازم تساوي ذاته مع ذات الممكنات أن يوصف كلٌّ بصفات الآخر، فيتصف الواجب بصفات الممكن، و الممكن بصفات الواجب لأنّ حكم الامثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد، و لازمه انقلاب القديم محدثاً و بالعكس، و إلى ما ذكرنا أشار الشارح بقوله: «فإنّ الأشياء المتساوية تتشارك في لوازمها...».

ص: 36

المسألة العاشرة: في أنّه تعالى غير مركب

قال: و التركيبِ بمعانيه.

أقول: هذا عطف على الزائد، بمعنىٰ أنّ وجوب الوجود يقتضي نفي التركيب أيضاً.

و الدليل علىٰ ذلك أنّ كل مركب فإنّه مفتقر إلىٰ أجزائه لتأخره و تعليله بها و كل جزء من المركب فإنّه مغاير له و كل مفتقر إلىٰ الغير ممكن، فلو كان الواجب تعالى مركباً كان ممكناً، هذا خلف، فوجوب الوجود يقتضي نفي التركيب.

و اعلم أنّ التركيب قد يكون عقلياً و هو التركيب من الجنس و الفصل، و قد يكون خارجياً كتركيب الجسم من المادة و الصورة و تركيب المقادير من غيرها، و الجميع منفيّ عن الواجب تعالى، لاشتراك المركبات في افتقارها إلى الأجزاء، فلا جنس له و لا فصل له و لا غيرهما من الأجزاء العقلية و الحسيّة.

المسألة الحادية عشرة: في أنّه تعالى لا ضدّ له

قال: و الضدِّ.

أقول: هذا عطف على الزائد أيضاً، فإنّ وجوب الوجود يقتضي نفي الضد لأنّ الضد يقال بحسب المشهور علىٰ ما يعاقب غيره من الذوات على المحل أو الموضوع مع التنافي بينهما، و واجب الوجود يستحيل عليه الحلول، فلا ضد له بهذا المعنى؛ و يطلق أيضاً علىٰ مساوٍ في القوة ممانع و قد بيّنا أنّه تعالى لا مثل له فلا مشارك له تعالى في القوة.

ص: 37

المسألة الثانية عشرة: في أنّه تعالى ليس بمتحيز

قال: و التحيّزِ(1).

أقول: هذا عطف على الزائد أيضاً، فإنّ وجوب الوجود يقتضي نفي التحيّز عنه تعالى، و هذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء، و خالف فيه المجسِّمة.

و الدليل علىٰ ذلك أنّه لو كان متحيزاً لم ينفك عن الأكوان الحادثة، و كل ما لا ينفك عن الحادث فهو حادث - و قد سبق تقرير ذلك - و كلّ حادث ممكن فلا يكون واجباً، هذا خلف، و يلزم من نفي التحيز نفي الجسمية.

**********

(1) . إنّ نفي التحيز المذكور في هذه المسألة و نفي الجهة المذكورة في المسألة الخامسة عشرة، مسألتان متقاربتان و سيوافيك الفرق بينهما، و استدل الشارح على نفي الجسمية بقوله: لو كان متحيزاً لكان جسماً، و كل جسم حادث لعدم انفكاكه عن الحركة و السكون و الاتصال و الانقطاع (الأكوان الحادثة) و كل منها حادث كما جرى عليه الماتن في مسألة «أنّ الأجسام حادثة» فراجع المسألة السادسة من الفصل الثالث من المقصد الثاني (1). و أمّا كون الحركة و السكون حادثين فلأنّ الحركة هي حصول الجسم في الحيّز بعد أن كان في حيّز آخر و السكون هو الحصول في الحيّز بعد أن كان في ذلك الحيز، و ماهية كل واحد منهما يستدعي المسبوقية بالغير، و الأزلي غير مسبوق بالغير فماهية كل واحد ليست قديمة و نظيرها الاتصال و الانقطاع. و إذا كان اللازم حادثاً فالملزوم مثله.

أضف إلى ما ذكرنا أنّ المتحيز محتاج إلى الحيّز، و هو لا يجتمع مع الغنى الذاتيّ. -

1 - كشف المراد: 170-171.

ص: 38

المسألة الثالثة عشرة: في أنّه تعالى ليس بحالّ في غيره

قال: و الحلولِ.

أقول: هذا عطف على الزائد، فإن وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى ليس حالاً في غيره، و هذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء، و خالف فيه بعض النصارى القائلين بأنّه حلّ في المسيح، و بعض الصوفية القائلين بأنّه حالّ في أبدان العارفين.

و هذا المذهب لا شك في سخافته لأنّ المعقول من الحلول قيام موجود بموجود آخر علىٰ سبيل التبعية بشرط امتناع قيامه بذاته و هذا المعنىٰ منتف في حقه تعالى لاستلزامه الحاجة المستلزمة للإمكان.

المسألة الرابعة عشرة: في نفي الاتّحاد عنه تعالى

قال: و الاتحادِ.

أقول: هذا عطف على الزائد، فإنّ وجوب الوجود ينافي الاتحاد لأنّا قد بيّنا أنّ وجوب الوجود يستلزم الوحدة فلو اتحد بغيره لكان ذلك الغير ممكناً فيكون الحكم الصادق على الممكن صادقاً على المتحد به فيكون الواجب ممكناً، و أيضاً فلو اتحد بغيره لكانا بعد الاتحاد إمّا أن يكونا موجودين كما كانا فلا اتحاد، و إن عدما أو عدم أحدهما فلا اتحاد أيضاً و يلزم عدم الواجب فيكون ممكناً، هذا خلف.

ص: 39

المسألة الخامسة عشرة: في نفي الجهة عنه تعالى

قال: و الجهةِ(1).

أقول: هذا حكم من الأحكام اللازمة لوجوب الوجود، و هو معطوف على الزائد، و قد نازع فيه جميع المجسمة فإنّهم ذهبوا إلىٰ أنّه تعالى جسم في جهة.

**********

(1) . قد تقدم أنّ نفي التحيّز و الجهة متقاربان، و لكن الجهة أعم من التحيز، لأنّ النقطة لها جهة و ليست بمتحيزة. قال الماتن في المسألة الحادية عشرة من الفصل الأوّل من المقصد الثاني (1): «الجهة طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة». و قال الشارح في ذلك الموضع: انّا نتوهم امتداداً آخذاً من المشير و منتهياً إلى المشار إليه، فذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة.

و قال الماتن أيضاً: «و هي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها و بالإشارة».

و على كل تقدير فإنّ القائل بكونه سبحانه ذا جهة:

إمّا أن يقول بكونه جسماً ذا جهة، فيردّه ما دل على امتناع كونه جسماً، و هو أنّ الجسم غير خال عن الحركة و السكون كما تقدم بيانه.

و إمّا أن يقول به من دون وصفه بكونه جسماً (و ان لم يكن له قائل فإنّ الكرّامية القائلة بالجهة تقول بأنّه سبحانه جسم) - فانّ الجهة إذا لم يكن جسماً ليست أمراً مجرداً عن المادَّة و علائقها، بل هي من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسية و تقصد بالحركة و الإشارة، فتكون موجودة مادية، و هي لا تخلو عن الأكوان الحادثة، و إليه أشار الشارح: «لأنّ كل ذي جهة فهو مشار إليه و محل للأكوان الحادثة فيكون حادثاً فلا يكون واجباً». و على ضوء ذلك، فلكل من الوجهين دليل مستقل. -

1 - كشف المراد: 154.

ص: 40

و أصحاب أبي عبد اللّٰه بن كرّام اختلفوا:

فقال محمد بن الهيصم: إنّه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها و البعد بينه و بين العرش أيضاً غير متناه.

و قال بعضهم: البعد متناه، و قال قوم منهم: إنّه تعالى على العرش كما تقوله المجسمة!

و هذه المذاهب كلها فاسدة، لأنّ كل ذي جهة فهو مشار إليه و محل للأكوان الحادثة فيكون حادثاً فلا يكون واجباً.

المسألة السادسة عشرة: في أنّه تعالى ليس محلاً للحوادث

قال: و حلولِ الحوادث فيه.

أقول: وجوب الوجود ينافي حلول الحوادث في ذاته تعالى، و هو معطوف على الزائد، و قد خالف فيه الكرامية.

و الدليل على الامتناع أن حدوث الحوادث فيه تعالى يدلّ علىٰ تغيره و انفعاله في ذاته، و ذلك ينافي الوجوب، و أيضاً فإنّ المقتضي للحادث إن كان ذاته كان أزلياً و إن كان غيره كان الواجب مفتقراً إلى الغير و هو محال، و لأنّه إن كان صفة كمال استحال خلو الذات عنه و إن لم يكن استحال اتصاف الذات به(1).

**********

(1) . إذا كان المقتضى لحلول الحوادث في ذاته، هو ذاته سبحانه، يلزم قدم الحادث و أزليته لأنّ أزلية العلّة توجب أزلية المعلول.

و إن كان المقتضي لحلول الحوادث غير ذاته، يكون الذات مفتقراً إلى الغير الذي هو السبب لحدوث الحوادث في ذاته.

ص: 41

المسألة السابعة عشرة: في أنّه تعالى غنيّ

قال: و الحاجةِ.

أقول: وجوب الوجود ينافي الحاجة، و هو معطوف على الزائد، و هذا الحكم ظاهر فإن وجوب الوجود يستدعي الاستغناء عن الغير في كل شيء فهو ينافي الحاجة، و لأنّه لو افتقر إلىٰ غيره لزم الدور لأن ذلك الغير محتاج إليه لإمكانه.

لا يقال: الدور غير لازم(1) لأن الواجب مستغن في ذاته و بعض صفاته عن ذلك الغير و بهذا الوجه يؤثر في ذلك الغير فإذا احتاج في جهة أُخرىٰ إلىٰ ذلك الغير انتفى الدور.

لأنا نقول: هذا بناء علىٰ أنّ صفاته تعالى زائدة على الذات و هو باطل

**********

(1) . يريد أنّ الدور إنّما يلزم إذا توقف وجود الواجب على ذلك الغير، مع أنّه ليس كذلك بل هو مستغن في ذاته عن كل شيء، و إنّما يحتاج إليه في بعض صفاته (لا في ذاته و لا في كل صفاته)، فعندئذ يرتفع الدور، لأنّ الغير في وجوده محتاج إلى ذات الواجب، و لكن الواجب لا في ذاته و لا في كلّ صفاته بل من جهة أُخرى (بعض الصفات) محتاج إلى الغير، فارتفع الدور لتغاير الموقوف عليه، و للتقريب نقول: إنّ الممكنات في وجودها يتوقف على ذات الواجب، و هو في وصفه الإضافي (الخالقية) متوقف على وجودها.

ثمّ أجاب الشارح عن الدور بوجهين لأجل الاختلاف في عينية الصفات و زيادتها:

إن قلنا بالعينية يلزم الدور الصريح، لأنّ الصفة التي أعطاها ذلك الغير عين ذاته، فيتوقف ذات الواجب على الغير، مع أنّه متوقف على ذاته، و إلى هذا الجواب أشار بقوله: «هذا (أي ما ذكر من دفع الدور) بناء على أنّ صفاته تعالى زائدة على الذات و هو باطل لما سيأتي»، يعني بما انّ صفاته عين ذاته يلزم الدور الصريح.

و إن قلنا بالثاني يأتي الدور أيضاً لكن ببيان آخر، و هو أنّ الصفة التي يحتاج الواجب فيها إلى الممكن، تتوقف على تأثير الممكن، و تأثيره يتوقف على جهة التأثير (ملاك

ص: 42

لما سيأتي، و أيضاً فالدور لا يندفع لأن ذلك الممكن بالجهة التي يؤثر في الواجب تعالى صفة يكون محتاجاً إليه و حينئذ يلزم الدور المحال.

و لأن افتقاره في ذاته يستلزم إمكانه(1) و كذا في صفاته لأن ذاته موقوفة علىٰ وجود تلك الصفة أو عدمها المتوقفين على الغير فيكون متوقفاً على الغير فيكون ممكناً، و هذا برهان عوّل عليه الشيخ ابن سينا.

**********

( التأثير) وجهة التأثير يتوقف على وجود الممكن، و وجوده يتوقف على الواجب، فيكون الممكن محتاجاً إلى الواجب في تحقّق تلك الصفة مع أنّ المفروض انّ الواجب محتاج في تحقّق تلك الصفة بعينها إلى الممكن.

و إلى هذا الجواب أشار الشارح بقوله: «و أيضاً فالدور لا يندفع لأنّ ذلك الممكن بالجهة التي يؤثر في الواجب تعالى صفة يكون محتاجاً إليه و حينئذ يلزم الدور المحال» و إليك تطبيق العبارة:

1 - المراد «بالجهة التي يؤثر» هو ملاك التأثير الذي يتوقف عليه التأثير، و قد مرّ أنّ الجهة أيضاً متوقفة على ذات الممكن توقف الفعل و مبادئه على ذات الفاعل. و الجار في «بالجهة» بمعنى مع.

2 - «صفة» مفعول لقوله: يؤثر، أي يوجد صفة في اللّٰه، و المعنى أنّ الممكن مع الجهة التي يحقّق الصفة في الواجب محتاج إلى الواجب، فإذا كان الممكن مع تلك الجهة محتاجاً إلى الواجب كيف يكون الواجب محتاجاً إليه في تحقّق الصفة؟

(1) . هذا ناظر إلى أصل المطلب و لا صلة له بالدور و لا بدفعه و استدلال على أنّه سبحانه غني لكن ببيان جديد ربّما أشار إليه في الجواب الأوّل بقوله: «لما سيأتي»، و هو أنّ واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات، ذاتاً و صفة و فعلاً، إذ لو لم يجب ذاتاً لزم افتقاره و هو ينافي كونه واجب الوجود، و لو لم يجب وصفاً لزم إمكانه أيضاً، لأنّ ذاته موقوفة على وجود تلك الصفة إذا كانت الصفة ثبوتية أو على عدمها إذا كانت سلبية - وجه توقف الذات على الصفة هو عينيتها مع الصفة - فإذا توقفت الصفة و بالتالي الذات على الغير، يكون ممكنا لا واجباً و هو كما ترى خلاف المفروض.

ص: 43

المسألة الثامنة عشرة: في استحالة الألم و اللذة عليه تعالى

قال: و الألمِ مطلقاً و اللذةِ المزاجية.

أقول: هذا أيضاً عطف على الزائد، فإنّ وجوب الوجود يستلزم نفي اللذة و الألم.

و اعلم أنّ اللذة و الألم قد يكونان من توابع المزاج، فإنّ اللذة من توابع اعتدال المزاج و الألم من توابع سوء المزاج، و هذان المعنيان إنّما يصحّان في حق الأجسام، و قد ثبت بوجوب الوجود أنّه تعالى يستحيل أن يكون جسماً فينتفيان عنه.

و قد يعنى بالألم إدراك المنافي و باللذة إدراك الملائم، فالألم بهذا المعنىٰ منفي عنه لأن واجب الوجود لا منافي له.

و أمّا اللذة بهذا المعنىٰ(1) فقد اتفق الأوائل علىٰ ثبوتها للّٰه تعالى لأنّه مدرك لأكمل الموجودات أعني ذاته فيكون ملتذاً به، و المصنف رحمه الله كأنّه قد ارتضى هذا القول، و هو مذهب ابن نوبخت و غيره من المتكلمين إلاّ أن إطلاق الملتذ عليه يستدعي الإذن الشرعي.

**********

(1) . و من هذا الباب ما في كلماتهم: ابتهاجه سبحانه بذاته، و الظاهر أنّ اسناد السرور و الفرح و البهجة و إدراك الملائم، مثل اسناد الغضب و الرضا إليه سبحانه، ليس بحقيقي و الجميع يفسَّر من باب خذ الغايات و اترك المبادئ، كل ذلك لابتعاده عن وصمة الانفعال، و لم يصرح الماتن بوجود هذا النوع من اللذة في اللّٰه سبحانه و إنّما نفى الإدراك غير الملائم، و هو بمفهومه دلّ على جواز هذا النوع من الإدراك.

ص: 44

المسألة التاسعة عشرة: في نفي المعاني و الأحوال و الصفات الزائدة في الأعيان

قال: و المعاني و الأحوالِ و الصفاتِ الزائدةِ عيناً.

أقول: ذهبت الأشاعرة إلىٰ أن للّٰه تعالى معاني قائمة بذاته(1) هي القدرة و العلم و غيرهما من الصفات تقتضي القادرية و العالمية و الحيية إلىٰ غيرها من باقي الصفات.

**********

(1) . قد أشار في الشرح إلى مذاهب أربعة في الصفات و ترك النظرية الخامسة:

1 - نظرية الأشاعرة، أعني: زيادة الصفات، و لفظ «المعاني» عندهم عبارة أُخرى عن الصفات.

2 - نظرية أبي هاشم: و هو أنّه ليس صفاته عين ذاته (كما عليه الإمامية و بعض المعتزلة كأبي هذيل العلاف على ما أوضحنا مذهبه في كتاب «بحوث في الملل و النحل)» (1) بل له أحوال مثل العالمية و القادرية، و الحال عنده صفة للموجود لا معدومة و لا موجودة و لا معلومة و لا مجهولة بحيالها، و لكن تُعلَم الذاتُ على هذه الأحوال، و هي غير معلومة و على كل تقدير فمذهبه أشبه باللغز.

3 - ما أشار إليه بقوله: «و جماعة من المعتزلة أثبتوا للّٰه صفات زائدة على الذات» كمعتزلة بغداد، قالوا بأنّ البقاء صفة ثبوتية زائدة على الوجود.

4 - و أشار إلى المذهب الحق بقوله: «لأنّه تعالى موصوف بصفات الكمال لكن تلك الصفات نفس الذات».

5 - و لم يشر إلى المذهب المنقول عن أعاظم المعتزلة، و هو القول بالنيابة، و قد أوضحنا حاله في كتاب بحوث في الملل و النحل (2).

-

1 - بحوث في الملل و النحل: 87/2.

2 - المصدر نفسه: 85/2.

ص: 45

و أبو هاشم أثبت أحوالاً غير معلومة لكن تعلم الذات عليها.

و جماعة من المعتزلة أثبتوا للّٰه تعالى صفات زائدة على الذات.

و هذه المذاهب كلها ضعيفة، لأن وجوب الوجود يقتضي نفي هذه الأمور عنه لأنّه تعالى يستحيل أن يتصف بصفة زائدة على ذاته سواء جعلناها معنى أو حالاً أو صفة غيرهما لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كلّ شيء فلا يفتقر في كونه قادراً إلىٰ صفة القدرة و لا في كونه عالماً إلىٰ صفة العلم و لا غير ذلك من المعاني و الأحوال، و إنّما قيد الصفات بالزائدة عيناً لأنّه تعالى موصوف بصفات الكمال لكن تلك الصفات نفس الذات في الحقيقة و إن كانت مغايرة لها بالاعتبار.

المسألة العشرون: في أنّه تعالى ليس بمرئي

قال: و الرؤيةِ.

أقول: وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضاً.

و اعلم أنّ أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى.

و المجسمة جوّزوا رؤيته لاعتقادهم أنّه تعالى جسم و لو اعتقدوا تجرده لم تجز رؤيته عندهم.

و الأشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا و زعموا أنّه تعالى مع تجرده تصح رؤيته.

و الدليل على امتناع الرؤية أنّ وجوب وجوده يقتضي تجرده و نفي الجهة

ص: 46

و الحيّز عنه، فينتفى الرؤية عنه بالضرورة، لأنّ كل مرئي فهو في جهة يشار إليه بأنّه هنا أو هناك و يكون مقابلاً أو في حكم المقابل و لما انتفىٰ هذا المعنىٰ عنه تعالى انتفت الرؤية.

قال: و سؤالُ موسى لقومه.

أقول: لما استدل علىٰ نفي الرؤية شرع في الجواب عن احتجاج الأشاعرة، و قد احتجّوا بوجوه أجاب المصنف عنها:

الأوّل: أنّ موسىٰ عليه السلام سأل الرؤية و لو كانت ممتنعة لم يصح منه السؤال.

و الجواب: أن السؤال كان من موسى عليه السلام لقومه ليبين لهم امتناع الرؤية، لقوله تعالى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ»(1) ، و قوله: «أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا»(2).

قال: و النظر لا يدلّ على الرؤية مع قبوله التأويل.

أقول: تقرير الوجه الثاني لهم أنّه تعالى حكى عن أهل الجنة، النظر إليه فقال: «إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ»(3) و النظر المقرون بحرف «إِلىٰ» يفيد الرؤية لأنّه حقيقة في تقليب الحدقة نحو المطلوب التماساً لرؤيته، و هذا متعذر في حقه تعالى لانتفاء الجهة عنه، فبقي المراد منه مجازه و هو الرؤية التي هي معلول النظر الحقيقي و استعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز.

**********

(1) . البقرة: 55.

(2) . الأعراف: 155.

(3) . القيامة: 23.

ص: 47

و الجواب: المنع من إرادة هذا المجاز فإنّ النظر(1) و إن اقترن به حرف

**********

(1) . لما كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي لغاية الرؤية و كان النظر بهذا المعنى مستلزماً لكونه سبحانه ذا جهة، فسّر المستدل النظر بالغاية و المسبَّب، أعني: أصل الرؤية و أخرج السبب أي تقليب الحدقة عن مفاده و لذلك أسماه معنى مجازياً.

و الحق أنّ الآية لا تدل على نظرية الأشاعرة، إذ أنّ الناظرة و إن كانت تتضمن الرؤية لكن ليس المراد الرؤية بالأبصار بقرينة أنّ الناظرة في الآية هو الوجوه لا العيون. فالآية تخبر عن نظر الوجوه إلى الربّ، لا عن نظر العيون، فعندئذ يُصبح نظر العيون كناية عن انتظار الرحمة.

و بعبارة أُخرى: تفسير الآية لا يتوقف على تعيين معنى الناظرة لغة، و أنّها هل هي بمعنى الرائية، أو المنتظرة، بل نحن نفترض أنّها بمعنى الرائية لغة و مستعملة في ذلك المعنى اللغوي قطعاً و لكن يجب أن يحقّق أنّ المراد الاستعمالي هو المراد الجدي أو أنّه كناية عن انتظار الرحمة، فتعيين أحد الأمرين هو المفتاح لفهم معنى الآية، فنقول: لا سبيل إلى الأوّل و إلاّ كان اللازم إسناد النظر بمعنى الرؤية التي هي المقصود الجدي أيضاً إلى العيون، لا إلى الوجوه إذ الرؤية الحقيقية لا تتحقّق بالوجوه بل بالأبصار، و الثاني هو المتعين يعني أنّ النظر بمعنى الرؤية كناية عن انتظار الرحمة بشهادة إسناده إلى الوجوه.

و هناك طريق آخر لفهم معنى الآية، و هو فهمها بالنظر إلى مقابلتها، فإنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية، و عند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة، و إليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

أ - «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ» يقابلها قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ» (القيامة: 22 و 24).

ب - «إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ» يقابلها قوله: «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ» (القيامة: 23 و 25).

و بما أنّ مقابل الآية الثانية واضح المعنى فيكون قرينة على المراد منها، فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن و تتوقع أن ينزل بها عذاب يُكسر فِقَرها، و يُقصم ظهرها، يكون المراد من - عدله و قرينه، عكسه و ضدّه، و ليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته، و متوقعة لفضله و كرمه، لا النظر إلى جماله و ذاته و هويته، و إلاّ لخرج المقابلان عن التقابل و هو خلف.

ص: 48

«إِلىٰ» لا يفيد الرؤية و لهذا يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، و إذا لم يتعين هذا المعنىٰ للارادة أمكن حمل الآية علىٰ غيره و هو أن يقال إنّ «إلىٰ» واحد الآلاء و يكون معنىٰ ناظرة أي منتظرة.

أو نقول: إنّ المضاف هنا محذوف و تقديره: إلىٰ ثواب ربها.

لا يقال: الانتظار سبب الغمّ و الآية سيقت لبيان النعم.

لأنّا نقول: سياق الآية يدل علىٰ تقدم حال لأهل الثواب و العقاب على استقرارهم في الجنة و النار بقوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ»(1) بدليل قوله تعالى: «وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ»(2) فإنّ في حال استقرار أهل النار في النار قد فعل لها فاقرة فلا يبقىٰ للظن معنىٰ، و إذا كان كذلك فانتظار النعمة بعد البشارة بها لا يكون سبباً للغمّ بل سبباً للفرح و السرور و نضارة الوجه، كمن يعلم وصول نفع إليه يقيناً في وقت فإنّه يسرّ بذلك و إن لم يحضر الوقت، كما أنّ انتظار العقاب بعد الإنذار بوروده يوجب الغمّ و يقتضي بسارة الوجه.

**********

( و بعبارة أُخرى: يجب أن يكون المقابلان - بحكم التقابل - متحدي المعنى و المفهوم، و لا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي و الإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأوّل، أعني: (إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ) هو رؤية جماله سبحانه و ذاته، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه، أعني: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ) هو حرمان هؤلاء عن الرؤية أخذاً بحكم التقابل. و بما أنّ تلك الجملة - أعني: القرين الثاني - لا تحتمل ذلك المعنى، أعني: الحرمان من الرؤية، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأول، هو رجاء رحمته و انتظار فرجه و كرمه.

(1) . القيامة: 22.

(2) . القيامة: 24-25.

ص: 49

قال: و تعليقُ الرؤية على استقرار الجبل المتحرك لا يدل علىٰ الإمكان.

أقول: هذا جواب عن الوجه الثالث للأشعرية، و تقرير احتجاجهم: أنّ اللّٰه سبحانه و تعالى علق الرؤية في سؤال موسى عليه السلام على استقرار الجبل، و الاستقرار ممكن، لأنّ كل جسم فسكونه ممكن و المعلَّق على الممكن ممكن.

و الجواب أنّه تعالى علق الرؤية على الاستقرار لا مطلقاً بل على استقرار الجبل حال حركته، و استقرار الجبل حال الحركة محال، فلا يدل علىٰ إمكان المعلق(1).

قال: و اشتراكُ المعلولات لا يدلُّ على اشتراك العلل مع منع التعليل و الحصر.

أقول: هذا جواب عن شبهة الأشاعرة من طريق العقل.

استدلوا بها علىٰ جواز رؤيته تعالى، و تقريرها: أن الجسم و العرض قد اشتركا في صحة الرؤية و هذا حكم مشترك يستدعي علة مشتركة و لا مشترك بينهما إلا الحدوث أو الوجود، و الحدوث لا يصلح للعلية لأنّه مركب من قيد

**********

(1) . هذا الجواب غير تام جدّاً، و حاصله: أنّه سبحانه علّق رؤيته على أمر محال، و هو استقرار الجبل حال حركته، أي على اجتماع الضدين (الحركة في نفس السكون)، و هذا المعنى بعيد عن ظاهر الآية، بل الجواب المطابق لظاهر الآية أنّه سبحانه علّقه على نفس استقرار الجبل، و لم يتحقّق المعلّق عليه، لأنّه سبحانه لما تجلّى عليه جعله دكّاً.

ص: 50

عدمي فيكون عدمياً، فلم يبق إلاّ الوجود، فكل موجود تصح رؤيته، و اللّٰه تعالى موجود.

و هذا الدليل ضعيف جدّاً لوجوه:

الأوّل: المنع من رؤية الجسم، بل المرئي هو اللون و الضوء لا غير(1).

الثاني: لا نسلِّم اشتراكهما في صحة الرؤية فإنّ رؤية الجوهر مخالفة لرؤية العرض.

الثالث: لا نسلِّم أنّ الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي لأن جنس صحة الرؤية و هو الإمكان عدمي فلا يفتقر إلى العلة.

الرابع: لا نسلِّم أنّ المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة فإنّه يجوز اشتراك العلل المختلفة في المعلولات المتساوية.

الخامس: لا نسلِّم الحصر في الحدوث و الوجود، و عدم العلم لا يدلّ على العدم، مع أنّا نتبرع بذكر قسم آخر و هو الإمكان و جاز التعليل به و إن كان عدمياً لأن صحة الرؤية عدمية.

السادس: لا نسلِّم أنّ الحدوث لا يصلح للعلية و قد بيّنا أنّ صحة الرؤية عدمية، علىٰ أنّا نمنع من كون الحدوث عدمياً لأنّه عبارة عن الوجود المسبوق بالغير لا المسبوق بالعدم.

السابع: لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الإمكان أو بشرط الحدوث؟ و الشروط يجوز أن تكون عدمية.

**********

(1) . هذا هو الجواب الحقيقي الذي يؤيده العلم الحديث، ثمّ إنّ الأجوبة التالية إمّا راجعة إلى منع الصغرى أو إلى منع الكبرى فلاحظ.

ص: 51

الثامن: المنع من كون الوجود مشتركاً(1) لأن وجود كل شيء نفس حقيقته و لو سلِّم كون الوجود الممكن مشتركاً لكن وجود اللّٰه تعالى مخالف لغيره من الوجودات، لأنّه نفس حقيقته، و لا يلزم من كون بعض الماهيات علة لشيء كون ما يخالفه علة لذلك الشيء.

التاسع: المنع من وجود الحكم عند وجود المقتضي، فإنّه جاز وجود مانع في حقه تعالى إمّا ذاته أو صفة من صفاته، أو قبول الحكم يتوقف علىٰ شرط كالمقابلة هنا و هي تمتنع في حقه تعالى فلا يلزم وجود الحكم فيه.

المسألة الحادية و العشرون: في باقي الصفات

قال: و على ثبوت الجود:

أقول: هذا عطف علىٰ قوله علىٰ سرمديته، أي إنّ وجوب الوجود يدلّ علىٰ سرمديته و على ثبوت الجود.

**********

(1) . توضيح الجواب: أوّلاً: نمنع أنّ حقيقة الوجود مشترك بل هو حقائق متباينة، كما عليه المشاءون. و إليه أشار بقوله: «لأنّ وجود كل شيء نفس حقيقته» و حقيقة كل شيء مباين مع الآخر، فينتج أنّ وجود كل شيء مباين مع وجود الشيء الآخر.

و ثانياً: سلمنا كون الوجود مشتركاً لكن وجود الواجب مخالف لغيره، لأنّ وجوده عين ذاته دون الآخرين.

و بما أنّ الوجود في الممكنات حقيقة واحدة لا يلزم من كون بعض الماهيات علّة لشيء، كون ما يخالفه علة لذلك الشيء، لأنّا افترضنا وحدة حقيقة في الممكنات.

و مع ذلك يتوجه على هذا الجواب سؤال، و هو أنّه إذا كانت حقيقة وجود الواجب مباينة مع الممكن، فكيف تصح علّيته للممكنات؟! فلاحظ.

ص: 52

و اعلم أنّ الجود هو إفادة ما ينبغي للمستفيد من غير استعاضة منه، و اللّٰه تعالى قد أفاد الوجود الذي ينبغي للممكنات من غير أن يستعيض منها شيئاً من صفة حقيقية أو اضافية، فهو جواد، و جماعة الأوائل نفوا الغرض عن الجواد، و هو باطل، و سيأتي بيانه في باب العدل.

قال: و المُلكِ.

أقول: وجوب الوجود يدلّ علىٰ كونه تعالى ملكاً لأنّه غني عن الغير في ذاته و صفاته الحقيقية المطلقة و الحقيقية المستلزمة للإضافة و كل شيء مفتقر إليه لأن كل ما عداه ممكن إنّما يوجد بسببه و له ذات كل شيء لأنّه مملوك له مفتقر إليه في تحقق ذاته فيكون ملكاً لأن الملك هو المستجمع لهذه الصفات الثلاث.

قال: و التمامِ و فوقه.

أقول: وجوب الوجود يدل علىٰ كونه تعالى تامّاً و فوق التمام.

أمّا كونه تامّاً فلأنّه واحد، على ما سلف، واجب من كل جهة يمتنع تغيره و انفعاله و تجدد شيء له، فكل ما من شأنه أن يكون له فهو حاصل له بالفعل.

و أمّا كونه فوق التمام فلأنّ ما حصل لغيره من الكمالات فهو منه مستفاد.

قال: و الحقيةِ.

أقول: وجوب الوجود يدل علىٰ ثبوت الحقية له تعالى.

ص: 53

و اعلم أنّ «الحق» يقال للثابت مطلقاً و الثابت دائماً، و يقال علىٰ حال القول و العقد بالنسبة إلى المقول و المعتقد إذا كان مطابقاً، و هو الصادق أيضاً لكن باعتبار نسبة القول و العقد إليه، و اللّٰه تعالى واجب الثبوت و الدوام غير قابل للعدم و البطلان، فذاته أحقّ من كل حق و هو محقق كل حقيقة.

قال: و الخيريةِ.

أقول: وجوب الوجود يدل علىٰ ثبوت وصف الخيرية للّٰه تعالى، لأن الخير عبارة عن الوجود و الشر عبارة عن عدم كمال الشيء من حيث هو مستحق له، و واجب الوجود يستحيل أن يعدم عنه شيء من الكمالات، فلا يتطرق إليه الشر بوجه من الوجوه فهو خير محض.

قال: و الحكمةِ.

أقول: وجوب الوجود يقتضي وصف اللّٰه تعالى بالحكمة، لأنّ الحكمة قد يعنى بها معرفة الأشياء، و قد يراد بها صدور الشيء على الوجه الأكمل، و لا عرفان أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول.

و أيضاً فإنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام و الإتقان و نهاية الكمال فهو حكيم بالمعنى الثاني أيضاً.

قال: و التجبّرِ.

أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه جبّاراً، لأن وجوب الوجود يقتضي استناد كل شيء إليه، فهو يجبر ما بالقوة بالفعل و التكميل كالمادة بالصورة، فهو جبّار من حيث إنّه واجب الوجود.

ص: 54

قال: و القهرِ.

أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه قهاراً، بمعنىٰ أنّه يقهر العدم بالوجود و التحصيل.

قال: و القيّوميةِ.

أقول: وصفه تعالى بكونه واجب الوجود يقتضي وصفه بكونه قيوماً، بمعنىٰ أنّه قائم بذاته و مقيم لغيره، لأنّ وجوب الوجود يقتضي استغناءه عن غيره و هو معنىٰ قيامه بذاته، و يقتضي استناد غيره إليه و هو المعنىٰ بكونه مقيماً لغيره.

قال: و أمّا اليدُ و الوجه و القدم و الرحمة و الكرم و الرضا و التكوين فراجعةٌ إلىٰ ما تقدم.

أقول: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أنّ اليد صفة وراء القدرة، و الوجه صفة مغايرة للوجود.

و ذهب عبد اللّٰه بن سعيد إلىٰ أنّ القدم صفة مغايرة للبقاء، و أنّ الرحمة و الكرم و الرضا صفات مغايرة للإرادة.

و أثبت جماعة من الحنفية التكوين صفة مغايرة للقدرة، و التحقيق أن هذه الصفات راجعة إلىٰ ما تقدم.

ص: 55

الفصل الثالث: في أفعاله

اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأُولىٰ: في إثبات الحُسن و القبح العقليين

المسألة الأُولىٰ: في إثبات الحُسن و القبح العقليين(1)

قال: الثالث في أفعاله. الفعلُ المتصفُ بالزائد إما حسنٌ أو قبيحٌ و الحسن أربعة.

أقول: لما فرغ من إثباته تعالى و بيان صفاته، شرع في بيان عدله و أنّه تعالى حكيم لا يفعل القبيح و لا يخلّ بالواجب و ما يتعلّق بذلك من المسائل.

و بدأ بقسمة الفعل إلى الحسن و القبيح، و بيّن أنّ الحُسن و القبح أمران عقليان، و هذا حكم متفق عليه بين المعتزلة.

**********

(1) . هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الكلام و عليها يبتنى كثير من المسائل الكلاميّة:

1 - لزوم معرفته سبحانه عقلاً 2 - وجوب تنزيه فعله عن العبث 3 - لزوم تكليف العباد 4 - لزوم بعث الأنبياء 5 - لزوم النظر في برهان مدّعي النبوّة 6 - العلم بصدق مدعي النبوّة 7 - الخاتمية و استمرار أحكام الشريعة 8 - ثبات الأُصول الأخلاقية و دوامها 9 - لزوم الحكمة في البلاء و المصائب 10 - اللّٰه عادل لا يجور.

هذه مسائل عشر كلامية يُعتمد إثباتها على الإيمان بالحسن و القبح العقليين، و إنكارهما مساوق للشك في جميع هذه المسائل المترتبة عليهما.

ص: 56

و أمّا الأشاعرة فإنّهم ذهبوا إلىٰ أنّ الحسن و القبح إنّما يستفادان من الشرع، فكلّ ما أمر الشارع به فهو حسن و كلّ ما نهىٰ عنه فهو قبيح، و لو لا الشرع لم يكن حسن و لا قبح، و لو أمر اللّٰه تعالى بما نهىٰ عنه لانقلب القبيح إلى الحسن.

و الأوائل ذهبوا إلىٰ أنّ من الأشياء ما هو حسن و منها ما هو قبيح بالنظر إلى العقل العملي.

**********

( بل يترتب على المسألة العاشرة: (اللّٰه عادل لا يجور) مسائل كثيرة نظير:

11 - قبح العقاب بلا بيان 12 - قبح التكليف بما لا يطاق 13 - القضاء و القدر لا يسلبان الاختيار 14 - الإنسان المكلف مختار لا مسيّر، إلى غير ذلك من الفروع الكلامية فضلاً عما يترتب عليه من المسائل الأُصولية من أبواب الملازمات، كالملازمة بين وجوب المقدمة و ذيها، و وجوب الشيء و حرمة ضدِّه، و الملازمة بين ثبوت حكم مع الشرط و الوصف و إلى غاية، ارتفاعه عند ارتفاع هذه القيود الثلاثة.

و للشارح قدس سره كلام في بعض كتبه نأتي به، قال:

اعلم أنّ هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية بل الأحكام الدينية مطلقاً، و بدونه لا يتم شيء من الأديان، و لا يمكن أن يعلم صدقُ نبيّ من الأنبياء على الإطلاق إلاّ به على ما نقرره فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى، و بئس ما اختاره الإنسان لنفسه مذهباً خرج به عن جميع الأديان و لم يمكنه أن يتعبّد اللّٰه بشرع من الشرائع السابقة و اللاحقة و لا يجزم به على نجاة نبي مرسل أو ملك مقرّب أو مطيع في جميع أفعاله من أولياء اللّٰه و خلصائه و لا على عذاب أحد من الكفار و المشركين و أنواع الفساق و العاصين، فلينظر العاقل المقلّد هل يجوز له أن يلقي اللّٰه تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة و الآراء الباطلة المستندة إلى اتباع الشهوة و الانقياد للمطامع؟

و على ذلك فلازم على المحقّق الإمعان الكثير في هذه المسألة الأساسية.

ص: 57

و قد شنع أبو الحسين على الأشاعرة بأشياء ردية، و ما شنع به فهو حق إذ لا تتمشى قواعد الإسلام بارتكاب ما ذهب إليه الأشعرية من تجويز القبائح عليه تعالى و تجويز إخلاله بالواجب، و ما أدري كيف يمكنهم الجمع بين المذهبين؟!

و اعلم أنّ الفعل من التصورات الضرورية، و قد حدّه أبو الحسين بأنّه ما حدث عن قادر، مع أنّه حدّ القادر بأنّه الذي يصح أن يفعل و أن لا يفعل فلزمه الدور؛ علىٰ أنّ الفعل أعم من الصادر عن قادر و غيره.

إذا عرفت هذا فالفعل الحادث إمّا أن لا يوصف بأمر زائد علىٰ حدوثه و هو مثل حركة الساهي و النائم، و إمّا أن يوصف و هو قسمان: حسن و قبيح.

فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذمّ(1) و القبيح بخلافه، و الحسن إمّا أن لا يكون له وصف زائد علىٰ حسنه و هو المباح و يرسم بأنّه ما لا مدح فيه على الفعل و الترك، و إمّا أن يكون له وصف زائد علىٰ حسنه، فإمّا أن يستحق المدح بفعله و الذمّ بتركه و هو الواجب، أو يستحق المدح بفعله و لا يتعلق بتركه ذم و هو المندوب، أو يستحق المدح بتركه و لا يتعلق بفعله ذم و هو المكروه.

فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة: الواجب و المندوب و المباح و المكروه، و مع القبيح تبقى الأحكام الحسنة و القبيحة خمسة.

**********

(1) . يحاول بهذا التعريف إدخال المباح و المكروه تحت الحسن، نعم لو عُرِّف الحسن بما يستحق المدح، فلا يعم إلاّ الواجب و المستحب، و لا وجه لحصر الأفعال فيهما، بل يمكن تصوير قسم ثالث لا يوصف بأحدهما كما هو الحال في المباح بل المكروه.

ص: 58

قال: و هما عقليان، للعلم بحسن الإحسان و قبح الظلم من غير شرع.

أقول: استدل المصنف رحمه الله علىٰ أن الحسن و القبح أمران عقليان بوجوه:

هذا أوّلها، و تقريره: أنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء و قبح بعضها من غير نظر إلىٰ شرع، فإنّ كل عاقل يجزم بحسن الإحسان و يمدح عليه، و بقبح الإساءة و الظلم و يذمّ عليه، و هذا حكم ضروري لا يقبل الشك و ليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة و الملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع.

قال: و لانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً.

أقول: هذا وجه ثان يدل علىٰ أنّ الحسن و القبح عقليان، و تقريره: أنّهما لو ثبتا شرعاً لم يثبتا لا شرعاً و لا عقلاً و التالي باطل إجماعاً فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء و قبحها عقلاً لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه من اللّٰه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فإذا أخبرنا في شيء أنّه قبيح لم نجزم بقبحه و إذا أخبرنا في شيء أنّه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب و لجوّزنا أن يأمرنا بالقبيح و أنّ ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى علىٰ هذا التقدير.

قال: و لجاز التعاكس.

أقول: الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام أنّه لو لم يكن الحسن و القبح عقليين لجاز أن يقع التعاكس في الحسن و القبح، بأن يكون ما نتوهمه حسناً قبيحاً و بالعكس.

ص: 59

فكان يجوز أن يكون هناك أمم عظيمة تعتقد حسن مدح من أساء إليهم و ذمّ من أحسن كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك، و لمّا علم كل عاقل بطلان ذلك جزمنا باستناد هذه الأحكام إلى القضايا العقلية لا الأوامر و النواهي الشرعية و لا العادات.

قال: و يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور.

أقول: لما استدل علىٰ مذهبه من إثبات الحسن و القبح العقليين شرع في الجواب عن شبهة الأشاعرة، و قد احتجوا بوجوه:

الأوّل: لو كان العلم بقبح بعض الأشياء و حسنها ضرورياً لما وقع التفاوت بينه و بين العلم لزيادة الكل على الجزء، و التالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله، و الشرطية ظاهرة لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت.

و الجواب: المنع من الملازمة، فإنّ العلوم الضرورية قد تتفاوت لوقوع التفاوت في التصورات. فقوله: «و يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور» إشارة إلىٰ هذا الجواب.

قال: و ارتكابُ أقلِّ القبيحين مع امكان المخلص.

أقول: هذا يصلح أن يكون جواباً عن شبهتين للأشعرية:

إحداهما: قالوا: لو كان الكذب قبيحاً لكان الكذب المقتضي لتخليص النبي من يد ظالم قبيحاً، و التالي باطل لأنّه يحسن تخليص النبي فالمقدم مثله.

ص: 60

الثانية: قالوا: لو قال الإنسان لأكذبنّ غداً فإن حسن منه الصدق بإيفاء الوعد(1) لزم حسن الكذب، و إن قبح كان الصدق قبيحاً فيحسن الكذب.

و الجواب فيهما واحد، و ذلك لأن تخليص النبي أرجح(2) من الصدق، فيكون تركه أقبح من الكذب، فيجب ارتكاب أدنى القبيحين و هو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة الراجحة على الصدق.

و أيضاً يجب عليه ترك الكذب في غد(3) لأنّه إذا كذب في الغد فعل شيئاً فيه جهتا قبح و هو العزم على الكذب و فعله، و وجهاً واحداً من وجوه الحسن و هو الصدق، و إذا ترك الكذب يكون قد ترك تتمة العزم و الكذب و هما وجها حسن، و فعل وجهاً واحداً من وجوه القبح و هو الكذب.

**********

(1) . توضيح الاستدلال: أنّه إذا قال إنسان لأكذبن غداً يلزم حسن أحد الكذبين:

لأنّه إن حسن العمل بوعده يجب عليه أن يكذب غداً، فيكون هذا الكذب المحقِّق للعمل بالوعد الحسن، حسناً أيضاً.

و إن قبح العمل بالوعد، و بالتالي يلزم عليه - إن أخبر - أن يخبر خبراً صادقاً، فما أخبر به و إن كان بذاته صادقاً لكنه بالقياس إلى ما وعده كاذب و المخاطب يتصوّر أنّه خبر كاذب، و إنما يكون صادقاً لو أخبر بخبر كاذب لا ما إذا أخبر بخبر صادق، و لو أخبر عن صدق يعدّ كاذباً بالنسبة إلى ما وعد.

و إلى هذا الشق أشار بقوله: «و إن قبح كان الصدق قبيحاً، فيحسن الكذب».

و مراده من الصدق هو الإخبار عن كذب، كما أنّ مراده من الكذب هو الاخبار عن صدق، الذي يُعدُّ بالنسبة إلى ما وعد خبراً كاذباً.

(2) . هذا توضيح لكون الكذب في القضية الأُولى من باب ارتكاب أدنى القبيحين.

(3) . بيان لكون الصدق في غد ارتكاب لأقل القبيحين، بخلاف الكذب فإنّه ارتكاب للقبيحين، إلى هنا تم الجواب الأوّل عن كلتا الشبهتين.

ص: 61

و أيضاً قد يمكن التخلص(1) عن الكذب في الصورة الأُولىٰ بأن يفعل التورية أو يأتي بصورة الإخبار الكذب من غير قصد إليه. و لأن جهة الحسن هي التخلص(2) و هي غير منفكة عنه وجهة القبح هي الكذب و هي غير منفكة عنه، فما هو حسن لم ينقلب قبيحاً و كذا ما هو قبيح لم ينقلب حسناً.

قال: و الجبرُ باطلٌ.

أقول: هذا جواب عن شبهة أُخرىٰ لهم، و هي أنّهم قالوا: الجبر حق فينتفي الحسن و القبح العقليان، و الملازمة ظاهرة، و بيان صدق المقدم ما يأتي.

و الجواب: الطعن في الصغرىٰ و سيأتي البحث فيها.

المسألة الثانية: في أنّه تعالى لا يفعل القبيح و لا يخلّ بالواجب

قال: و استغناؤُه و علمُه يدلاّن على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى.

أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إنّه تعالى لا يفعل قبيحاً و لا يخلّ بواجب. و نازع الأشعرية في ذلك و أسندوا القبائح إليه، تعالى اللّٰه عن

**********

(1) . جواب ثان يختص بالشبهة الأُولى.

(2) . هذا جوا ب ثالث، و حاصله: أنّ هناك حسناً و هو تخليص النبي، و قبيحاً و هو الكذب، فعند دوران الأمر بين الأمرين يقدم أقوى ملاكاً و هو تخليص النبي فيرتكب القبيح لأجل إحراز الحسن و الأقوى مصلحة.

و الفرق بين الجواب الأوّل و هذا الجواب واضح، إذ كان الأوّل مبنياً على دوران الأمر بين ارتكاب أحد القبيحين: قتل النبي و الكذب فيختار الأقل قبحاً، و هذا الجواب مبني على دوران الأمر بين الإتيان بالحسن (نجاة النبي) و ارتكاب القبيح فيؤخذ بأقوى الأمرين ملاكاً و هو صيانة حياة النبي...

ص: 62

ذلك.

و الدليل علىٰ ما اختاره المعتزلة: أنّ له داعياً إلىٰ فعل الحسن و ليس له صارف عنه، و له صارفاً عن فعل القبيح و ليس له داع إليه، و هو قادر علىٰ كل مقدور و مع وجود القدرة و الداعي يجب الفعل.

و إنّما قلنا ذلك لأنّه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة و هو عالم بحسن الحسن و قبح القبيح، و من المعلوم بالضرورة أنّ العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه و أنّ العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا من جهات المفسدة فإنّه يوجده.

و تحريره: أنّ الفعل بالنظر إلىٰ ذاته ممكن، و واجب بالنظر إلىٰ علته، و كل ممكن مفتقر إلىٰ قادر، فإنّ علته إنّما تتم بواسطة القدرة و الداعي، فإذا وجدا فقد تمّ السبب و عند تمام السبب يجب وجود الفعل.

و أيضاً لو جاز منه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده و وعيده، لإمكان تطرق الكذب عليه، و لجاز منه إظهار المعجزة علىٰ يد الكاذب و ذلك يفضي إلى الشك في صدق الأنبياء و يمتنع الاستدلال بالمعجزة عليه.

المسألة الثالثة: في أنّه تعالى قادر على القبيح

قال: مع قدرته عليه لعموم النسبة و لا يُنافي الامتناعَ اللاحق.

أقول: ذهب العلماء كافة إلىٰ أنّه تعالى قادر على القبيح، إلاّ النظّام.

و الدليل علىٰ ذلك أنّا قد بيّنا عموم نسبة قدرته إلى الممكنات و القبيح منها فيكون مندرجاً تحت قدرته.

ص: 63

احتجّ بأنّ وقوعه منه يدلّ على الجهل أو الحاجة و هما منفيان في حقه تعالى.

و الجواب: أنّ الامتناع هنا بالنظر إلى الحكمة، فهو امتناع لاحق لا يؤثر في الامكان الأصلي، و لهذا عقب المصنف رحمه الله الاستدلال علىٰ مراده بالجواب عن الشبهة التي له و إن لم يذكرها صريحاً.

المسألة الرابعة: في أنّه يفعل لغرض

قال: و نفيُ الغرض يستلزم العبثَ و لا يلزم عودُه إليه.

أقول: اختلف الناس هنا، فذهبت المعتزلة إلىٰ أنّه تعالى يفعل لغرض و لا يفعل شيئاً لغير فائدة.

و ذهبت الأشاعرة إلىٰ أنّ أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض و المقاصد.

و الدليل علىٰ مذهب المعتزلة: أنّ كل فعل لا يفعل لغرض فإنّه عبث و العبث قبيح و اللّٰه تعالى يستحيل منه فعل القبيح.

احتجّ المخالف(1) بأنّ كلّ فاعل لغرض و قصد فإنّه ناقص بذاته مستكمل بذلك الغرض و اللّٰه تعالى يستحيل عليه النقصان.

و الجواب: النقص إنّما يلزم لو عاد الغرض و النفع إليه أمّا إذا كان النفع عائداً إلىٰ غيره فلا، كما نقول إنّه تعالى يخلق العالم لنفعهم.

**********

(1) . الظاهر أنّ النزاع لفظيّ لاتفاق الطائفتين على أنّه ليس لأفعاله سبحانه غرض يستكمل به الفاعل كما هو الحال في أفعال الإنسان، و لو كان هناك غرض فإنّما هو للفعل أي ليس الفعل بلا غاية و هذا لا ينكره الأشعري لكن إذا عقل و فكّر.

ص: 64

المسألة الخامسة: في أنّه تعالى يريد الطاعات و يكره المعاصي

المسألة الخامسة: في أنّه تعالى يريد الطاعات و يكره المعاصي(1)

قال: و ارادةُ القبيح قبيحةٌ و كذا ترك ارادةِ الحَسَنِ، و لِلأمرِ و النهي.

أقول: مذهب المعتزلة أنّ اللّٰه تعالى يريد الطاعات من المؤمن و الكافر سواء وقعت أو لا، و يكره المعاصي سواء وقعت أو لا.

و قالت الأشاعرة: كلّ ما هو واقع فهو مراد سواء كان طاعة أو معصية.

و الدليل علىٰ ما ذهب إليه المعتزلة وجهان:

**********

(1) . العنوان الواقعي لهذه المسألة: تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد و عدمه، لا ما ذكره الشارح.

ثمّ إنّه لو أُريد من الإرادة، القسم التشريعي منها فلم يختلف في ذلك العنوان اثنان، فالمعتزلي و الأشعري متفقان على أنّه سبحانه أمر بالطاعة و نهى عن المعاصي بضرورة الشريعة فلا معنى للنزاع.

و إن أراد القسم التكويني منها - كما هو الظاهر - فهو غير منطبق على مذهب المعتزلي، لأنّ مذهبه خروج أفعال العباد عن حريم الإرادة و الكراهة التكوينيتين للّٰه سبحانه و لا معنى لتعلق إرادته التكوينية لطاعته، و كراهيته التكوينية لمعصيته، لأنّه يستلزم الجبر إذا أطاع العبد، و مقهورية كراهته سبحانه إذا عصاه العبد، كل ذلك يعرب عن كون العنوان و التعبير عن مذهب المعتزلة غير واقعين موقعه.

ثمّ إنّ هذه المسألة و إن كانت لها صلة بكون الإنسان مختاراً في فعله أو مجبراً، لكن ليست عينها، و لأجل ذلك عاد المصنف إلى الثانية في المسألة السادسة و قال: «و الضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا».

ثمّ إنّ المقام من المواضع التي ترك الماتن فيه مذهبَ الحكماء و أخذ برأي المعتزلة و غفل عن مذهب الإمامية الذي هو مذهبه و استدلّ على رأيهم بأمرين. و حاصل الأوّل: هو أنّ العبد إذا فعل القبيح أو ترك الحسن، فلو كانا متعلقين بإرادته سبحانه لزم أن يريد فعل القبيح و ترك الحسن و كلاهما قبيحان.

ص: 65

الأوّل: أنّه تعالى حكيم لا يفعل القبيح علىٰ ما تقدم، فكما أنّ فعل القبيح قبيح فكذا إرادته قبيحة، و كما أن ترك الحسن قبيح فكذا ارادة تركه.

الثاني: أنّه تعالى أمر بالطاعات و نهى عن المعاصي، و الحكيم إنّما يأمر بما يريده لا بما يكرهه، و ينهى عما يكرهه لا عما يريده، فلو كانت الطاعة من الكافر مكروهة للّٰه تعالى لما أمر بها، و لو كانت المعصية مرادة للّٰه تعالى لما نهاه عنها و كان الكافر مطيعاً بكفره و عدم ايمانه لأنّه فعل ما أراده اللّٰه تعالى منه و هو المعصية و امتنع عما كرهه و ذلك باطل قطعاً.

**********

( و لكن الرد مبنيّ على عقيدة الأشاعرة في مسألة تعلق إرادته سبحانه بأفعال العباد، من تعلقها بها مباشرة و بلا واسطة، فيترتب عليه ما ذكر في الدليل، و أمّا على القول الحق من تعلّقها بصدور كل فعل عن سببه الخاص و تعلّقها في أفعال العباد بصدورها عن الفواعل عن مبادئها و منها الاختيار الذي هو جوهر الإنسان و حقيقته، فلا يلزم أيّ محذور، و من أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا «الإلهيات» (1)، كيف و قال سبحانه: (وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ) (التكوير: 29).

ثمّ إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام ندّدوا بالقول بخروج أفعال العباد عن مجال إرادته تعالى، قال الصادق عليه السلام: «من زعم أنّ الخير و الشر بغير مشيئة اللّٰه فقد أخرج اللّٰه من سلطانه» (2).

و قال أيضاً: «القدرية أرادوا أن يصفوا اللّٰه بعدله فأخرجوه عن سلطانه» (3).

فما ذهب إليه المعتزلي من خروج أفعال العباد عن مجال إرادته التكوينية على الإطلاق، أو ما ذهب إليه الأشعري من كونها متعلّقة بإرادته على وجه المباشرة باطلان، و الحق القراح تعلق إرادته بصدور كل فعل عن كل فاعل لكن عن مبادئه التي تعدّ علّة مباشرية له و منها الاختيار، فالإنسان مختار في فعله، فله أن يفعل و أن لا يفعل، لكنه مضطر في حريته و اختياره، فلاحظ.

-

1 - حسن العاملي: الإلٰهيات: 292/2.

2 - الصدوق: التوحيد باب نفي الجبر و التفويض، الحديث 2 ص 359.

3 - الصدوق: التوحيد باب القضاء، الحديث 29 ص 382.

ص: 66

قال: و بعضُ الأفعال مستندةٌ إلينا، و المغلوبية غير لازمة، و العلمُ تابعٌ.

أقول: لما فرغ من الاستدلال شرع في إبطال حجج الخصم و هي ثلاثة:

الأُولىٰ: قالوا: اللّٰه تعالى فاعل لكل موجود(1) فتكون القبائح مستندة إليه بإرادته.

و الجواب: ما يأتي من كون بعض الأفعال مستندة إلينا.

الثانية: أنّ اللّٰه تعالى لو أراد من الكافر الطاعة، و الكافر أراد المعصية، و كان الواقع مراد الكافر لزم أن يكون اللّٰه تعالى مغلوباً(2)، إذ من يقع مراده من المريدين هو الغالب.

و الجواب: أنّ هذا غير لازم، لأن اللّٰه تعالى إنّما يريد الطاعة من العبد علىٰ سبيل الاختيار، و هو إنّما يتحقق بإرادة المكلّف، و لو أراد اللّٰه تعالى إيقاع الطاعة من الكافر مطلقاً سواء كانت عن اختيار أو إجبار لوقعت.

**********

(1) . لو أراد من الموجود الجواهر فالصغرى صحيحة، و إن أراد ما يعم الأعراض أي أفعال المكلفين فهو ممنوع، و على فرض الصحّة إن أراد الفاعلية المباشرية فهي أيضاً ممنوعة، و إن أراد الأعم فلا يضر، لانتهاء الممكنات بجواهرها و أعراضها إلى الواجب و لكنّه لا يستلزم استناد القبائح إليه تعالى بل إلى السبب المباشر.

(2) . الاستدلال مبهم جدّاً فلم يبين ما ذا يريد من إرادة اللّٰه في قوله: إذا أراد اللّٰه من الكافر الطاعة، فهل يريد بالإرادة، التشريعية، و عندئذ لو أراد الكافر الكفر بالإرادة التكوينية فتأثير إرادة العبد لا يكون دليلاً على مغلوبيته سبحانه، و إنّما تتحقّق المغلوبية لو كانت كلتا الإرادتين تكوينية و يجيء فرضه في ذيل المسألة السادسة، أعني قوله: «و مع الاجتماع يقع مراده تعالى».

ص: 67

الثالثة: قالوا: كلّ ما علم اللّٰه تعالى وقوعه وجب، و ما علم عدمه امتنع، فإذا علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال إرادتها منه و إلاّ لكان مريداً لما يمتنع وجوده.

و الجواب: أنّ العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل، و قد مرّ تقرير ذلك.

المسألة السادسة: في أنّا فاعلون

قال: و الضرورة قاضيةٌ باستناد أفعالنا إلينا.

أقول: اختلف العقلاء هنا، فالذي ذهب إليه المعتزلة أنّ العبد فاعل لأفعال نفسه و اختلفوا:

فقال أبو الحسين: إنّ العلم بذلك ضروري، و هو الحق الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله، و قال آخرون: إنّه استدلالي.

و أمّا جهم بن صفوان فإنّه قال: إنّ اللّٰه تعالى هو الموجد لأفعال العباد، و إضافتها إليهم علىٰ سبيل المجاز، فإذا قيل: فلان صلّى و صام كان بمنزلة قولنا: طال و سمن.

و قال ضرار بن عمرو و النجّار و حفص الفرد و أبو الحسن الأشعري: إنّ اللّٰه تعالى هو المحدث لها و العبد مكتسب، و لم يجعل لقدرة العبد أثراً في الفعل، بل القدرة و المقدور واقعان بقدرة اللّٰه تعالى، و هذا الاقتران هو الكسب، و فسر القاضي الكسب بأن ذات الفعل واقعة بقدرة اللّٰه تعالى و كونه طاعة و معصية صفتان واقعتان بقدرة العبد.

ص: 68

و قال أبو إسحاق الاسفرايني(1) من الأشاعرة: إنّ الفعل واقع بمجموع القدرتين.

و المصنف التجأ إلىٰ الضرورة هاهنا، فإنّا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة الحيوان اختياراً و بين حركة الحجر الهابط، و منشأ الفرق هو اقتران القدرة في أحد الفعلين به و عدمه في الآخر.

قال: و الوجوب للداعي(2) لا ينافي القدرة كالواجب.

أقول: لما فرغ من تقرير المذهب شرع في الجواب عن شبه الخصم.

و تقرير الشبهة الأُولى: أنّ صدور الفعل من المكلّف إمّا أن يقارن تجويز لا صدوره أو امتناع لا صدوره، و الثاني يستلزم الجبر، و الأوّل إمّا أن يترجح منه الصدور علىٰ لا صدوره لمرجح أو لا لمرجح، و الثاني يلزم منه الترجيح لأحد طرفي الممكن من غير مرجح و هو محال، و الأوّل يستلزم

**********

(1) . و هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، الذي أخذ عنه عامة شيوخ نيسابور، و هو أحد الأقطاب لتبيين مذهب الأشعري بعد الباقلاني (ت 403 ه) و ابن فورك (406 ه). (توفي أبو إسحاق عام 481 ه).

(2) . المسألة السادسة و ما تفرّع عليها راجعة إلى مسألة الجبر و الاختيار، و حاصل استدلال المجبرة أنّ الفعل الممكن الذي يجوز صدوره و لا صدوره عن الإنسان لا يخرج عن الاستواء إلاّ بداع يجرّه إلى اختيار الطرفين، و هو إمّا أن لا ينتهي و يكون للداع داع و هكذا، أو ينتهي، و الأوّل محال، فتعين الثاني و هو يضفي على الفعل وصف الوجوب.

و الجواب ما ذكره من أنّ الوجوب اللاحق لا ينافي الإمكان و الاختيار و أنّ قولهم: «الشيء ما لم يجب لم يوجد» لا ينافي كون الفاعل مختاراً إذ هو الذي يعطي للفعل الوجوب عن اختيار. و لنا في تفسير عبارة الماتن نظر آخر أوردناه في الإلهيات ج 299/2 فلاحظ.

ص: 69

التسلسل أو الانتهاء إلىٰ ما يجب معه الترجيح و هو ينافي التقدير و يستلزم الجبر.

و الجواب: أنّ الفعل بالنظر إلىٰ قدرة العبد ممكن و واجب بالنظر إلىٰ داعيه و ذلك لا يستلزم الجبر، فإنّ كل قادر فإنّه يجب عنه الأثر عند وجود الداعي كما في حق الواجب تعالى فإنّ هذا الدليل قائم في حقه تعالى و وجه المخلص ما ذكرناه، علىٰ أنّ هذا غير مسموع من أكثرهم حيث جوّزوا من القادر ترجيح أحد مقدوريه علىٰ الآخر من غير مرجح و به أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة عليهم(1)، فما أدري لم كان الجواب مسموعاً هناك و لم يكن مسموعاً هاهنا؟!

قال: و الايجادُ لا يستلزمُ العلمَ إلاّ مع اقتران القصد فيكفي الإجمالُ.

أقول: هذا الجواب عن شبهة أُخرىٰ لهم، و تقريرها: أنّ العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها، و التالي باطل فالمقدم مثله، و الشرطية ظاهرة، و بيان بطلان التالي أنّا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها و إنّما نقصد الحركة إلى المنتهىٰ و إن لم نقصد جزئيات تلك الحركة.

و الجواب: أنّ الإيجاد لا يستلزم العلم، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع كالإحراق الصادر عن النار من غير علم، فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد، نعم الايجاد مع القصد يستلزم العلم لكن العلم الإجمالي كاف فيه و هو حاصل في الحركات الجزئية بين المبدأ و المنتهى.

**********

(1) . الشبهة التي أوردها الحكماء هي امتناع حدوث العالم زماناً، فقالت الأشاعرة في حلها بجواز الترجيح بلا مرجح، لاحظ كشف المراد الفصل السادس من المقصد الثاني: المسألة السادسة ص 173 قول الماتن فيها: «و الحدوث اختص بوقته».

ص: 70

قال: و مع الاجتماع يقع مرادُه تعالى.

أقول: هذا جواب عن شبهة أُخرىٰ لهم، و تقريرها: أن العبد لو كان قادراً على الفعل(1) لزم اجتماع قادرين علىٰ مقدور واحد، و التالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّه تعالى قادر علىٰ كل مقدور، فلو كان العبد قادراً علىٰ

**********

(1) . استدل على أنّ قدرة العبد غير صالح للإيجاد، و ذلك فيما إذا أراد اللّٰه تسكين جسم و أراد العبد تحريكه، فله صور ثلاث:

1 - أن يقع المرادان. و هو محال، استلزامه اجتماع النقيضين.

2 - أن لا يقع المرادان. و هو محال، لاستلزامه ارتفاعهما.

3 - أن يقع أحدهما دون الآخر، يلزم الترجيح بلا مرجح لأنّ المفروض أنّ كلاّ من القدرتين علّة تامة للمراد فلا ترجح إحداهما على الأُخرى.

قال الرازي في أربعينه: «لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فإذا أراد اللّٰه تسكين جسم و أراد العبد تحريكه فإمّا أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما و هما محالان، أو يقع مراد اللّٰه تعالى دون مراد العبد و هو أيضاً محال لأنّ اللّٰه تعالى و إن كان قادراً على ما لا نهاية له، و العبد ليس كذلك، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرته تعالى و قدرة العبد في هذه الصورة، لأنّ الحركة الواحدة و السكون الواحد ماهية غير قابلة للقسمة و التفاوت بوجه من الوجوه، و إذا كان المقدور غير قابل للتفاوت لم يكن القدرة على مثل هذا المقدور قابلة للتفاوت، فيمتنع أن يكون قدرة اللّٰه تعالى على إيجاد هذه الحركة أقوى من قدرة العبد على ايجاد السكون» (1).

و قد اشتبه الأمر على الرازي، فتخيل أنّ المورد أيضاً من موارد برهان التمانع الذي أقاموه على وحدة الخالق للعالم. و ذلك لأنّ إرادته سبحانه في المقام من موانع ظهور إرادة العبد في لوح نفسه، فكيف تعدّ الإرادتين متساويتين. بخلاف المورد الآخر فإنّ الإلهين المفروضين تامان في القدرة.

-

1 - الرازي: الأربعون: 232، لاحظ أيضاً الإلٰهيات: 273/2.

ص: 71

شيء لاجتمعت قدرته و قدرة اللّٰه تعالى عليه.

و أمّا بطلان التالي: فلأنّه لو أراد اللّٰه تعالى إيجاده و أراد العبد إعدامه فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين، و إن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح.

و الجواب أن نقول: يقع مراد اللّٰه تعالى لأنّ قدرته أقوىٰ من قدرة العبد و هذا هو المرجح، و هذا الدليل أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الذي استدل به المتكلمون على الوحدانية، و هناك يتمشىٰ لتساوي قدرتي الإلهين المفروضين، أمّا هنا فلا.

قال: و الحدوثُ اعتباريٌّ.(1)

أقول: هذا جواب عن شبهة أُخرىٰ ذكرها قدماء الأشاعرة، و هي: أنّ

**********

(1) . استدلت الأشاعرة على أنّه لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله الحادثة، قائلاً بأنّه تشترط مخالفة الفاعل لفعله في الجهة التي بها يتعلق فعله، و هو (1) الحدوث، فيجب أن يكون الفاعل للحدوث في مقام الوجود، مخالفاً لفعله في الحدوث، مع أنّ العبد محدَث، فلا يكون فاعلاً للفعل الحادث.

و بعبارة أُخرى: الجهة القائمة في الفاعل تجب أن تكون غير الجهة التي يتعلّق بها الفعل، و الجهة القائمة في الفاعل هو الحدوث، و الجهة التي يتعلّق بها الفعل أيضاً الحدوث، فلا يصحّ عدّ الأوّل علّة للثاني لوحدة الجهة، بل يجب أن يكون مثل الواجب و الممكن، و الجهة الموجودة في الأوّل هو الوجوب و القدم، و الجهة التي يتعلّق بها الفعل في الثاني هو الحدوث و الإمكان.

يلاحظ عليه: أنّه لم تقم أيّة صورة برهان لهذه المغايرة فضلاً عن البرهان، إذ لا -

1 - الظاهر تأنيث الضمير لعوده إلى الجهة فان فعله يتعلق بجهة الحدوث.

ص: 72

الفاعل يجب أن يخالف فعله في الجهة التي بها يتعلق فعله، و هو الحدوث، و نحن محدثون فلا يجوز أن نفعل الحدوث.

و تقرير الجواب: أن الفاعل لا يؤثر الحدوث، لأنّه أمر اعتباري ليس بزائد على الذات و إلاّ لزم التسلسل و إنّما يؤثر في الماهية و هي مغايرة له.

قال: و امتناعُ الجسم لغيره.

أقول: هذا جواب عن شبهة أُخرىٰ لهم، و هي: أنّا لو كنا فاعلين في الاحداث لصحّ منا إحداث الجسم، لوجود العلة المصححة للتعلق و هي الحدوث.

و الجواب: أنّ الجسم يمتنع صدوره عنا لا لأجل الحدوث حتىٰ يلزم تعميم الامتناع بل إنّما امتنع صدوره عنّا لأنّنا أجسام و الجسم لا يؤثر في الجسم(1) علىٰ ما مرّ.

**********

( يشترط في التأثير إلاّ الأقوائية و التقدم الرتبي، لا التغاير في الجهة و إلاّ يلزم امتناع كونه سبحانه فاعلاً للممكنات مع وحدة الجهة، فإنّه موجود و بوجوده يُحدث الممكن الذي هو أيضاً وجود و موجود، فالمؤثر و الأثر كلاهما وجود.

و يظهر من المحقق الطوسي أنّه قَبِلَ الضابطة و أجاب بوجه آخر، و هو أنّ الأثر الصادر من الفاعل هو التأثير في الماهية، و الحدوث أمر انتزاعي ينتزع من وجود الشيء بعد العدم، و كان الأولى نفي الضابطة.

(1) . لاحظ كشف المراد، المقصد الأوّل، الفصل الثالث، المسألة التاسعة ص 122. و قد أدّى الشارح فيها حق المقال، و بوجه موجز نقول: إنّ تأثير الجسم يتوقف على المحاذاة، و الجسم المعلول بعدُ ليس موجوداً فكيف يؤثر في إيجاده؟

ص: 73

قال: و تعذُّرُ المماثلةِ في بعض الافعال لِتعذُّرِ الإحاطة.

أقول: هذا جواب عن شبهة أُخرىٰ ذكرها قدماؤهم، و هي: أنّا لو كنا فاعلين لصح منا أن نفعل مثل ما فعلناه أوّلاً من كل جهة، لوجود القدرة و العلم، و التالي باطل فالمقدم مثله.

و بيان بطلان التالي: أنّا لا نقدر علىٰ أن نكتب في الزمان الثاني مثل ما كتبناه في الزمان الأوّل من كل وجه بل لا بدّ من تفاوت بينهما في وضع الحروف و مقاديرها.

و تقرير الجواب: أنّ بعض الأفعال تصدر عنا في الزمان الثاني مثل ما صدرت في الزمان الأول مثل كثير من الحركات و الأفعال و بعضها يتعذر علينا فيه ذلك لا لأنّه ممتنع و لكن لعدم الإحاطة الكلّية بما فعلناه أوّلاً فإنّ مقادير الحروف إذا لم نضبطها لم يصدر عنا مثلها إلا علىٰ سبيل الاتفاق.

قال: و لا نسبة في الخيرية بين فعلِنا و فعلِه تعالى.

أقول: هذا جواب عن شبهة أُخرىٰ لهم، قالوا: لو كان العبد فاعلاً للإيمان لكان بعض أفعال العبد خيراً من فعله تعالى، لأن الإيمان خير من القردة و الخنازير، و التالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله.

و الجواب: أن نسبة الخيرية هنا منتفية، لأنّكم إن عنيتم بأنّ الإيمان خير أنّه أنفع فليس كذلك لأن الإيمان إنّما هو فعل شاق مضر على البدن(1)ليس فيه خير عاجل، و إن عنيتم به أنّه خير لما فيه من استحقاق المدح و الثواب به

**********

(1) . لما أراد الشارح ردّ الشبهة على مسلك المعتزلة، من انقطاع فعل العبد عن اللّٰه سبحانه و كونه مستقلاً في الفعل، أتى بهذا الجواب الذي لا شك في عدم استقامته، إذ كيف يكون الإيمان فعلاً شاقّاً مع أنّه سبحانه قال: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»

ص: 74

بخلاف القردة و الخنازير فحينئذ لا يكون الإيمان خيراً بنفسه و إنّما الخير هو ما يؤدى إليه الإيمان من فعل اللّٰه تعالى بالعبد و هو المدح و الثواب و حينئذ يكون المدح و الثواب خيراً و أنفع للعبد من القردة و الخنازير لكن ذلك من فعله تعالى.

و اعلم: أنّ هذه الشبهة ركيكة جدّاً، و إنّما أوردها المصنف رحمه الله هنا لأنّ بعض الثنوية أورد هذه الشبهة علىٰ ضرار بن عمرو فأذعن لها و التزم بالجبر لأجلها.

قال: و الشكرُ علىٰ مقدمات الإيمان.

أقول: هذا جواب عن شبهة أُخرىٰ لهم، قالوا: لو كان العبد فاعلاً للإيمان لما وجب علينا شكر اللّٰه تعالى عليه، و التالي باطل بالإجماع، فالمقدم مثله، و الشرطية ظاهرة، فإنّه لا يحسن منّا شكر غيرنا علىٰ فعلنا.

و الجواب: أنّ الشكر ليس علىٰ فعل الإيمان بل علىٰ مقدماته من تعريفنا إيّاه و تمكيننا منه و حضور أسبابه و الإقدار علىٰ شرائطه.

**********

(الحج: 78) و كيف يكون مضرّاً على البدن لو أراد الصلاة و الصوم فإنّهما ليسا بمضرين بالبدن، و إن أراد الحج فليس فيه أيّ ضرر و لو كانت فيه مشقة، فربّما يتحملها الإنسان لغايات عظيمة، على أنّ الاضرار الصغيرة على فرض وجودها في مقابل غاياتها الكبيرة ليست أضراراً «و من طلب العُلىٰ سهر الليالي».

و الأولى أن يجاب أنّ فعل الإنسان، كما هو فعله و هو في الوقت نفسه فعل اللّٰه سبحانه، «و الفعل فعل اللّٰه و هو فعلنا» فلو كان فيه حسن فهو أيضاً مستند إليه، فلا يلزم أن يكون فعل الإنسان أحسن من فعله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ العلاّمة لم يشرح عبارة الماتن حيث قال: «و لا نسبة في الخيرية بين فعلنا و فعله»، و مقصوده أنّ النسبة في الخيرية إنّما يكون بين المتحدين نوعاً، و ما ذكرتم ليس كذلك.

ص: 75

قال: و السمعُ متأوَّلٌ و معارَضٌ بمثله(1) و الترجيحُ معنا.

أقول: هذا جواب عن الشبه النقلية بطريق إجمالي، و تقريره أنّهم قالوا:

قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على الجبر كقوله تعالى: «اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» (2)«وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ»(3) ،(4)«خَتَمَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ» (5)«وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً»(6).

و الجواب: أنّ هذه الآيات متأوّلة و قد ذكر العلماء تأويلاتها في كتبهم.

**********

(1) . لا يخفى عدم صحة التعبير، إذ القرآن خال عن أي تناقض و اختلاف، قال سبحانه: «وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً» (النساء: 82) فاحتج بعدم الاختلاف على كونه منزلاً من اللّٰه سبحانه، و معه كيف يمكن استعمال لفظ المعارض، بل كان عليه أن يقول: إنّ الآيات حول الجبر و الاختيار كثيرة، و المتشابهة منها تؤول أو تفسر ببركة المحكم و يردّ الأولى إلى الثاني، كما أمر به سبحانه في سورة آل عمران الآية 7.

(2) . الرعد: 16، و الزمر: 62.

(3) . الصافات: 96.

(4) . الاستدلال بالآية على الجبر، باطل جدّاً لأنّ المقصود من الموصول هو الأصنام التي كانوا ينحتونها ثمّ يعبدونها، لا أفعال الإنسان، و يدلّ على ذلك سياق الآيات، قال سبحانه: (أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ * وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 95-96) يريد أنّ الصنم الذي تتذللون دونه هو مصنوعكم، و هو الذي عملتموه أمس، فكيف تعبدونه اليوم (أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمٰا تَعْبُدُونَ) (الأنبياء: 67).

نعم قد استدل غير واحد من المجبرة حتى الشيخ الأشعري (1) بالآية على الجبر غافلاً عن مرمى الآية.

-

1 - الأشعري: الابانة: الأصل 17 ص 20.

(5) . البقرة: 7.

(6) . الأنعام: 125.

ص: 76

و أيضاً فهي معارضة بمثلها و قد صنفها أصحابنا علىٰ عشرة أوجه:

أحدها: الآيات الدالّة علىٰ إضافة الفعل إلىٰ العبد كقوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ» (1)«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ» (2)«حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ» (3)«بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ» (4)«فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ» (5)«مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ» (6)«كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (7)«كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ» (8)«مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي»(9) إلىٰ آخرها.

الثاني: الآيات الدالّة علىٰ مدح المؤمنين علىٰ الايمان و ذم الكفّار علىٰ الكفر و الوعد و الوعيد كقوله تعالى: «اَلْيَوْمَ تُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ» (10)«اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (11)«وَ إِبْرٰاهِيمَ اَلَّذِي وَفّٰى» (12)«وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ» (13)«لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا تَسْعىٰ» (14)«هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (15)«مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا» (16)«وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي» (17)«أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا» (18)«إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ»1(9).

الثالث: الآيات الدالّة علىٰ تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في

**********

(1) . البقرة: 79.

(2) . الأنعام: 116، و يونس: 66، و النجم: 23 و 28.

(3) . الأنفال: 53.

(4) . يوسف: 18 و 83.

(5) . المائدة: 30

(6) . النساء: 123.

(7) . المدثر: 38.

(8) . الطور: 21.

(9) . إبراهيم: 22.

(10) . غافر: 17.

(11) . الجاثية: 28.

(12) . النجم: 37.

(13) . الأنعام: 164، و الاسراء: 15، و فاطر: 18، و الزمر: 7.

(14) . طه: 15.

(15) . النمل: 90.

(16) . الأنعام: 160.

(17) . طه: 124.

(18) . البقرة: 86.

(19) . آل عمران: 90.

ص: 77

التفاوت و الاختلاف و الظلم، كقوله تعالى: «مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ» (1)«اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ»(2) و الكفر ليس بحسن و كذا الظلم «وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ» (3)«إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ» (4)«وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ» (5)«وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ» (6)«لاٰ ظُلْمَ اَلْيَوْمَ» (7)«وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً»(8).

الرابع: الآيات الدالّة علىٰ ذم العباد على الكفر و المعاصي و التوبيخ علىٰ ذلك كقوله تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ» (9)«وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جٰاءَهُمُ اَلْهُدىٰ» (10)«وَ مٰا ذٰا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ» (11)«مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ» (12)«فَمٰا لَهُمْ عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» (13)«لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ» (14)«لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ»1(5).

الخامس: الآيات الدالّة على التهديد و التخيير، كقوله: «فَمَنْ شٰاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شٰاءَ فَلْيَكْفُرْ» (16)«اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ» (17)«لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» (18)«فَمَنْ شٰاءَ ذَكَرَهُ» (19)«فَمَنْ شٰاءَ اِتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً» (20)«فَمَنْ شٰاءَ اِتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ مَآباً» (21)«سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا

**********

(1) . الملك: 3.

(2) . السجدة: 7.

(3) . الحجر: 85.

(4) . النساء: 40.

(5) . فصلت: 46.

(6) . هود: 101، و النحل: 118، و الزخرف: 76.

(7) . غافر: 17.

(8) . النساء: 49.

(9) . البقرة: 28.

(10) . الإسراء: 94.

(11) . النساء: 39.

(12) . ص: 75.

(13) . المدّثر: 49.

(14) . آل عمران: 71.

(15) . آل عمران: 99.

(16) . الكهف: 29.

(17) . فصّلت: 40.

(18) . المدّثر: 37.

(19) . المدّثر: 55، و عبس: 12.

(20) . المزمل: 19، و الانسان: 29.

(21) . النبأ: 39.

ص: 78

أَشْرَكْنٰا وَ لاٰ آبٰاؤُنٰا» (1) ( 2) «وَ قٰالُوا لَوْ شٰاءَ اَلرَّحْمٰنُ مٰا عَبَدْنٰاهُمْ» (3) .

**********

(1) . الأنعام: 148.

(2) . يريد بذلك إثبات أنّ القول بالجبر هو عقيدة المشركين كما هو ظاهر الآية و الآية التي بعدها. إنّ التأمّل في عقائد بعض العرب في الجاهلية يوحي بأنّهم كانوا قائلين بالقدر و مثبتين له بشكل يستنتجون منه سلب المسئولية عن أنفسهم و إلقاءها على عاتق القدر. و هذا التفسير كان رائجاً بينهم و إن لم يعمّ الجميع، يقول سبحانه: (سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا أَشْرَكْنٰا وَ لاٰ آبٰاؤُنٰا وَ لاٰ حَرَّمْنٰا مِنْ شَيْ ءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّٰى ذٰاقُوا بَأْسَنٰا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنٰا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَخْرُصُونَ) (سورة الأنعام: 148).

و لعل قوله سبحانه: «وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ» (الأعراف: 28) يشير إلى أنّهم كانوا يعتذرون بأنّ تقديره سبحانه يلازم الجبر و نفي الاختيار، و اللّٰه سبحانه يرد على تلك المزعمة بقوله: «قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ...».

فقد بقيت هذه العقيدة الموروثة من العصر الجاهلي في أذهان بعض الصحابة، فقد روى الواقدي في مغازيه عن أُم الحارث الأنصارية و هي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت: «مرّ بي عمر بن الخطاب (منهزماً) فقلت: ما هذا؟ فقال عمر: أمر اللّٰه» (1).

و العجب أنّ تلك العقيدة بقيت في أذهان بعض الصحابة حتى بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فهذا السيوطي ينقل عن عبد اللّٰه بن عمر: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: «أ رأيت الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: فإنّ اللّٰه قدّره عليّ ثمّ يعذبني؟ فقال: نعم يا بن اللخناء، أما و اللّٰه لو كان عندي انسان أمرته أن يجأ أنفك» (2).

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر فسأل الخليفة عن كون الزنا مقدّراً من اللّٰه أم لا، فلما أجاب الخليفة بنعم، استغرب ذلك لأنّ العقل لا يسوغ تقديره سبحانه شيئاً على وجه يسلب الاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه، و لذلك قال: «فإنّ اللّٰه قدّره عليّ ثمّ يعذبني؟» فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه و قال: «نعم يا ابن اللخناء».

- 1 - الواقدي: المغازي: 904/3.

2 - السيوطي: تاريخ الخلفاء: 95.

(3) . الزخرف: 20.

ص: 79

السادس: الآيات الدالّة على المسارعة إلى الأفعال قبل فواتها، كقوله تعالى: «وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» (1)«أَجِيبُوا دٰاعِيَ اَللّٰهِ» (2)«اِسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ» (3)«وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ»(4) «وَ أَنِيبُوا إِلىٰ رَبِّكُمْ»(5).

السابع: الآيات التي حثّ اللّٰه تعالى فيها على الاستعانة به و ثبوت اللطف منه كقوله تعالى: «وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ» (6)«فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ» (7)«اِسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ» (8)«أَ وَ لاٰ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عٰامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاٰ يَتُوبُونَ وَ لاٰ هُمْ يَذَّكَّرُونَ» (9)«وَ لَوْ لاٰ أَنْ يَكُونَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً» (10)«وَ لَوْ بَسَطَ اَللّٰهُ اَلرِّزْقَ لِعِبٰادِهِ» (11)«فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ» (12)«إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ»1(3).

**********

(1) . آل عمران: 133.

(2) . الأحقاف: 31.

(3) . الأنفال: 24.

(4) . الزمر: 55.

(5) . الزمر: 54.

(6) . الفاتحة: 5.

(7) . النحل: 98.

(8) . الأعراف: 128.

(9) . التوبة: 126.

(10) . «وَ لَوْ لاٰ أَنْ يَكُونَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً لَجَعَلْنٰا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعٰارِجَ عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ» (الزخرف: 33).

أي لأجل أن لا يجتمع الناس على الكفر فيكونوا كلّهم كفاراً على دين واحد لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن سقفاً من فضة و جعلنا درجاً و سلاليم من فضة لتلك السقف، عليها يعملون و يصعدون. أي لو لا ذلك التالي لأعطينا الكافر، و لو فُعِلَ لمال الناس إلى الكفر، و لكنه لم يُفعل فصار الناس فرقتين: مؤمنة و كافرة كل باختيارها.

و أمّا مسألة القضاء و القدر و الهداية و الضلالة في القرآن التي جُعلتا ذريعتين لميل بعض الناس إلى الجبر فسيوافيك الكلام فيهما في المسألتين: الثامنة و التاسعة فانتظر.

(11) . الشورى: 27.

(12) . آل عمران: 159.

(13) . العنكبوت: 45.

ص: 80

الثامن: الآيات الدالّة على استغفار الأنبياء: «رَبَّنٰا ظَلَمْنٰا أَنْفُسَنٰا» (1)«سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ» (2)«رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» (3)«رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ»(4).

التاسع: الآيات الدالة على اعتراف الكفّار و العصاة بنسبة الكفر إليهم، كقوله تعالى: «وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ - إلىٰ قوله: - بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ»(5) و قوله: «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ» (6)«كُلَّمٰا أُلْقِيَ فِيهٰا فَوْجٌ»(7).

العاشر: الآيات الدالّة على التحسّر و الندامة على الكفر و المعصية و طلب الرجعة كقوله: «وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهٰا رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا نَعْمَلْ» (8)«رَبِّ اِرْجِعُونِ» (9)«وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نٰاكِسُوا رُؤُسِهِمْ» (10)«أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذٰابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً»(1(1)

إلىٰ غير ذلك من الآيات الكثيرة و هي معارضة بما ذكروه، علىٰ أنّ الترجيح معنا لأنّ التكليف إنّما يتم بإضافة الأفعال إلينا و كذا الوعد و الوعيد و التخويف و الإنذار، و انّما طوّل المصنّف رحمه الله في هذه المسألة لأنّها من المهمات.

**********

(1) . الأعراف: 23.

(2) . الأنبياء: 87.

(3) . القصص: 16.

(4) . هود: 47.

(5) . سبأ: 31 و 32.

(6) . المدّثر: 42-43.

(7) . الملك: 8.

(8) . فاطر: 37.

(9) . المؤمنون: 99.

(10) . السجدة: 12.

(11) . الزمر: 58.

ص: 81

المسألة السابعة: في المتولد

قال: و حسنُ المدح و الذمِّ على المتولِّد يقتضي العلم بإضافته إلينا.

أقول: الأفعال تنقسم إلى المباشر و المتولّد و المخترع:

فالأوّل: هو الحادث ابتداء بالقدرة في محلها(1).

**********

(1) . قد قسّم الحكماء الأفعالَ إلى مُبتدَعٍ و مخترَع و كائنٍ، و إلى تامّ و ناقص، و الناقص إلى مكتف و غيره، و إلى زمانيّ و دهريّ و سرمديّ و....

و قسّمها المتكلّمون إلى المباشر، و المتولِّد، و المخترع:

1 - عرّفوا المباشر بالحادث ابتداءً بالقدرة في محلها. و هو يختص بغير الواجب لأنّه تعالى لا يفعل فعلاً في ذاته.

2 - عرّفوا المتولّد بالحادث الذي يحدث بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن الاعتماد، فالميل الحادث في الحجر فعل مباشر، و الحركة إلى السفل فعل متولد. و كالقوة الحادثة في العضلة المتولدة منها حركة العضو، فالأولى فعل مباشر و الثانية فعل متولّد، سواء كان الثاني حادثاً في محل القدرة، كما في هذين المثالين أو في غير محلها كالحركة الحادثة في المفتاح بسبب حركة اليد، و كتحريك الشجرة، المتولد منها انفصال الثمرة من الغصن، و بالرمي بالسهم لقتل الإنسان، ثمّ المتولّد قد يكون بلا واسطة كما في الحادث في محل القدرة، و أُخرى بواسطة واحدة أو بأكثر، كما في الحادث بغير محلها.

و أمّا المراد من «الاعتماد» في قوله: «الحركة الصادرة عن الاعتماد» هو الميل الذي يحدث في الحجر و تحدث بسببه الحركة و هو اصطلاح لهم.

-

1 - لاحظ شرح المنظومة، قسم الإلهيات، الفريدة الثالثة: ص 182، و أسرار الحكم: ص 143، و ما ذكر في المتن تقسيم للفعل في منهج المشائين، و أمّا الإشراقيون فلهم تقسيمات أُخر حسب أذواقهم، لاحظ أسرار الحكم ص 147، و الغرض الإشارة العابرة إلى أنّ لكل فرقة تقسيماً للفعل و المقصود شرح ما جاء في المتن.

ص: 82

و الثاني: هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن الاعتماد، و يسمونه المسبب و يسمّون الأوّل سبباً سواء كان الثاني حادثاً في محل القدرة أو في غير محلها.

**********

(1) قال قطب الدين النيسابوري المقري: «الاعتماد معنىً إذا وُجِدَ أوجب كون محله في حكم المدافع لما يُماسّه مماسة مخصوصة - إلى أن قال -: إنّ أحدنا إذا وضع حجراً على يده، وجد اعتماد الحجر حتى كأنّه في يده فهذا طريق إلى إثبات الاعتماد» (1).

و نذكر نكتتين:

الأولى: أنّ تعريف الفعل المباشر (الحادث ابتداءً بالقدرة في محلها) لا ينطبق على الميل الموجود في الأجسام، فإنّه أمر طبيعي لها لا فعل لها على عقيدة القدماء حيث قالوا: إنّ في كل جسم ميلاً طبيعياً إلى مركزه (الأرض) - أو معلول جاذبيّة الأرض على المقرّر في العلم الحديث، مع أنّ الظاهر منهم أنّه فعل، حيث قال: «هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن الاعتماد»، حيث سمّى الاعتماد فعلاً، نعم هو فعل اللّٰه بمعنى أنّه أوجد الميل في الأجسام، و لكن لا يُعدّ فعلاً للبشر إلاّ أن يكون المراد أنّه فعل اللّٰه و مقدوره.

الثانية: أنّ حركة الأعضاء على هذا فعل متولّد مع أنّه من الأفعال المباشرية عند الحكماء و الأُصوليين، و ما هذا لأنّ الاعتماد و الميل ليس عندهم فعلاً.

3 - عرّفوا المخترع بما يفعل لا لمحل. و مثاله الأجسام وبل خلق السماوات و الأرض.

و يُنقض الحصر بالأعراض، فإنّها ليست من الأقسام الثلاثة، إلاّ أن يدرج في المتولّد، لأنّه الحادث بعد فعل و هو خلق الأجسام، و على كل تقدير التقسيم مبني على حصر الأفعال بالمادة و الماديات، مع أنّه أعم منها و من المجرّدات التي غفل عنه المتكلمون غير الواعين منهم.

ثمّ إنّ الفعل المباشر وقع مثاراً للبحث و أنّه فعل اختياري أو لا، و يتلوه في هذا النزاع: المتولد، فاختاره الماتن أنّه منسوب إلى الإنسان، فهو أيضاً فعل اختياري، فعلم أنّ

-

1 - الحدود: المعجم الموضوعي للمصطلحات الكلامية: 36، و لاحظ شرح المقاصد: 244/2.

ص: 83

و الثالث: ما يفعل لا لمحل، فالأوّل مختص بنا، و الثالث مختص به تعالى و الثاني مشترك.

و اعلم أنّ الناس اختلفوا في المتولد هل يقع بنا أم لا، فجمهور المعتزلة

**********

( طرح هذا التقسيم في المقام لأجل تبيين حكمه من حيث الجبر و الاختيار و قد ذكر الشارح في المتولد أقوالاً:

1 - خيرة جمهور المعتزلة و هو مختار الماتن.

2 - ما اختاره معمر بن عباد السلمي المتوفى عام 215 ه خريج مدرسة الاعتزال في البصرة، و قد نقل الشهرستاني منه ما يلي: «إنّ اللّٰه تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام فأمّا الأعراض فانّها من اختراعات الأجسام إمّا طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق، و إمّا اختياراً كالحيوان الذي يحدث الحركة و السكون و الاجتماع و الافتراق» (1). و هو قريب ممّا ذكره الشارح.

3 - ما قالته عدّة من المعتزلة و هو: لا فعلَ للعبد إلاّ الفكر، و يفارق القول الثاني بأنّ الفكر أعم من الإرادة، و طبع الحال يقتضي أنّه يُسندُ الباقيَ إلى المحل طبعاً أو اختياراً.

4 - ما ذهب إليه أبو إسحاق النظام (و هو إبراهيم بن سيار المعتزلي) (160-232 ه) و هو جعل فعل الانسان نفس الحركات الحادثة فيه حسب دواعيه، و الإرادة و الاعتقادات حركات القلب (أي مظاهر لحركته) و الأفعال المنفصلة كالكتابة فعل اللّٰه عن طريق طبع المحل. و عقيدته في الروح ما هو ذكره الشهرستاني عنه: انّ الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد، و الدهنية في السمسم (2) و بذلك يظهر معنى قوله «منساب» فإنّه من ساب الماء: أي جرىٰ و في بعض النسخ «سار» فالروح سارٍ في القلب سريان الماء في الورد.

5 - قول ثمامة بن الأشرس المعتزلي المتوفى عام 234 خريج مدرسة الاعتزال في بغداد، و كلامه في المقام عجيب منه، كيف يدعي انسان الهي، وجودَ الفعل بلا فاعل.

-

1 - الشهرستاني: الملل و النحل: 66/1 ط دار المعرفة بيروت. اقرأ آراءه فيها.

2 - الشهرستاني: الملل و النحل: 55/1 ط دار المعرفة بيروت. اقرأ آراءه فيها يزيدك ايضاحاً لعبارات الكتاب.

ص: 84

علىٰ أنّه من فعلنا كالمباشر.

و قال معمر: إنّه لا فعل للعبد إلاّ الإرادة، و ما عداها من الحوادث فهي واقعة بطبع المحل، و الإنسان عنده جزء في القلب توجد فيه الإرادة و ما عداها يضيفه إلىٰ طبع المحل.

و قال آخرون: لا فعل للعبد إلاّ الفكر، و هم بعض المعتزلة.

و قال أبو إسحاق النظّام: إنّ فعل الإنسان هي الحركات الحادثة فيه بحسب دواعيه، و الإنسان عنده هو شيء منساب في الجملة، و الإرادة و الاعتقادات حركات القلب، و ما يوجد منفصلاً عن الجملة كالكتابة و غيرها فإنّه من فعله تعالى بطبع المحل.

و قال ثمامة: إنّ فعل الإنسان هو ما يحدثه في محل قدرته، فأمّا ما تعدّىٰ محل القدرة فهو حادث لا محدث له و فعل لا فاعل له.

و قالت الأشعرية: المتولّد من فعله تعالى. و الجماهير من المعتزلة التجئوا في هذا المقام إلى الضرورة فإنّا نعلم استناد المتولدات إلينا كالكتابة و الحركات و غيرهما من الصنائع و يحسن منّا مدح الفاعل و ذمّه كما في المباشر.

و المصنف رحمه الله استدلّ بحسن المدح و الذمّ على العلم بأنّا فاعلون للمتولّد لا عليه(1) لأنّ الضروريات لا يجوز الاستدلال عليها، نعم يجوز الاستدلال علىٰ كونها ضرورية إذا لم يكن هذا الحكم ضرورياً(2).

**********

(1) . لم يستدل على أنّا فاعلون لأنّه أمر ضروري و إنّما استدل على العلم به، و الضمير في «عليه» يرجع إلى كوننا فاعلين.

(2) . لا يخفى أنّه إذا كان الشيء ضرورياً، يكون العلم به كذلك، نعم ربّما تعرض الغفلة، فالاستدلال لأجل رفعها.

ص: 85

و جماعة من المعتزلة ذهبوا إلىٰ أنّه كسبي(1)، و استدلوا بحسن المدح و الذم عليه، فلزمهم الدور لأنّ حسن المدح و الذم مشروط بالعلم بالاستناد إلينا فلو جعلنا الاستناد إلينا مستفاداً منه لزم الدور.

قال: و الوجوب باختيار السبب لاحقٌ.

أقول: هذا جواب عن إشكال يورد هنا، و هو أن يقال: إنّ المتولد لا يقع بقدرتنا لأنّ المقدور هو الذي يصح وجوده و عدمه عن القادر، و هذا المعنىٰ منفي في المتولد لأنّ عند اختيار السبب يجب المسبب فلا يقع بالقدرة المصححة.

و الجواب: أنّ الوجوب في المسبب عند اختيار السبب وجوب لاحق كما أنّ الفعل يجب عند وجود القدرة و الداعي، و عند فرض وقوعه وجوباً لاحقاً لا يؤثر في الإمكان الذاتي و القدرة فكذا هنا.

قال: و الذمُّ في إلقاء الصبيِّ عليه لا على الإحراق.

أقول: هذا جواب عن شبهة لهم، و هي: أنّ المدح و الذم لا يدلان على

**********

(1) . ذهبت جماعة من المعتزلة إلى أنّ كوننا فاعلين أمر نظري كسبي يحتاج إلى إقامة البرهان، و استدلوا بحسن المدح و الذم، على المتولّد، على كون الإنسان فاعلاً له، و أورد عليه الشارح بالدور، لأنّ إحراز كوننا فاعلين متوقف على حسن المدح و الذم، و حسن المدح و الذم متوقف على ذلك الإحراز. و بذلك يعلم أنّ لفظ العلم في قوله: «مشروط بالعلم» ليس زائداً، إذ ليس الاستناد بما هو هو موقوفاً على حسن المدح و الذم بل إحرازه موقوف عليهما، و أمّا قوله: «فلو جعلنا الاستناد» فالمراد منه «العلم بالاستناد» و الصدر قرينة على التصرف في الذيل لا العكس، و بذلك يعلم ورود الدور على الماتن أيضاً حيث استدل بحسن المدح و الذم على العلم بأنّا فاعلون، و هو عبارة أُخرى عن العلم بالاستناد إلينا في كلام المعتزلة.

ص: 86

العلم باستناد المتولد إلينا، فإنّا نذم على المتولّد و إن علمنا استناده إلىٰ غيرنا، فإنّا نذمّ من ألقى الصبي في النار إذا احترق بها و إن كان المحرق هو اللّٰه تعالى.

و الجواب: أنّ الذم هنا على الإلقاء لا على الإحراق فإنّ الإحراق من اللّٰه تعالى عند الإلقاء حسن لما يشتمل عليه من الأعواض لذلك الصبي و لما فيه من مراعاة العادات و عدم انتقاضها في غير زمان الأنبياء، و وجوب الدية حكم شرعي(1) لا يجب تخصيصه بالفعل فإنّ الحافر للبئر يلزمه الدية و إن كان الوقوع غير مستند إليه.

المسألة الثامنة: في القضاء و القدر

المسألة الثامنة: في القضاء و القدر(2)

قال: و القضاء و القدرُ إن أُريد بهما خلقُ الفعل لزم المحالُ، أو الإلزامُ صحَّ في الواجب خاصةً، أو الإعلامُ صحَّ مطلقاً، و قد بيَّنه أميرُ المؤمنين عليه السلام في حديث الأصبغ(3).

أقول: يطلق القضاء على الخلق و الإتمام، قال اللّٰه تعالى: «فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ»(4) أي خلقهن و أتمهن.

**********

(1) . جواب عن سؤال مقدّر، و هو أنّه إذا انحصر عمل الإنسان بالإلقاء، و كان الإحراق عملَه سبحانه فلما ذا وجبت الدية على الملقي دون المحرِق؟ فأجاب بأنّه حكم تعبّدي فتأمّل.

(2) . لما كانت مسألة القضاء و القدر كالهداية و الضلالة من أدلة القول بالجبر، حاول الإجابة عنها في المسألتين: الثامنة، و التاسعة، و قد ذكر في المقام للقضاء معاني مختلفة، و الحق أنّ له معنىً واحداً و هو الفعل الصادر عن إتقان، و المعاني الأُخر صور لهذا المعنى الأصيل، و قد أوضحناه في رسالتنا في القضاء و القدر.

(3) . الكافي: 155/1، و راجع الأسفار: 402/6-413.

(4) . فصّلت: 12.

ص: 87

و على الحكم و الإيجاب، كقوله تعالى: «وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ»(1) أي أوجب و ألزم.

و على الإعلام و الإخبار، كقوله تعالى: «وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ»(2) أي أعلمناهم و أخبرناهم.

و يطلق القدر على الخلق، كقوله تعالى: «وَ قَدَّرَ فِيهٰا أَقْوٰاتَهٰا»(3).

و الكتابة، كقول الشاعر:

و اعلم بأن ذا الجلال قد قدر *** في الصحف الأولى التي كان سطر

و البيان، كقوله تعالى: «إِلاّٰ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰاهٰا مِنَ اَلْغٰابِرِينَ»(4) أي بيّنا و أخبرنا بذلك.

إذا ظهر هذا فنقول للأشعري: ما تعني بقولك أنّه تعالى قضى أعمال العباد و قدّرها؟ إن أردت به الخلق و الإيجاد فقد بيّنا بطلانه و أنّ الأفعال مستندة إلينا، و إن عنىٰ به الإلزام لم يصحّ إلاّ في الواجب خاصة، و إن عنىٰ به أنّه تعالى بيّنها و كتبها و أعلم أنّهم سيفعلونها فهو صحيح لأنّه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ و بيّنه لملائكته، و هذا المعنى الأخير هو المتعيّن(5) للإجماع علىٰ وجوب الرضا بقضاء اللّٰه تعالى و قدره، و لا يجوز الرضا

**********

(1) . الإسراء: 23.

(2) . الإسراء: 4.

(3) . فصلت: 10.

(4) . النمل: 57.

(5) . و لكن الوارد في كلام الإمام هو الثاني لا الثالث فتدبّر، و على أيّ حال يجب الجمع بين لزوم الرضا بقضاء اللّٰه و قدره من جانب و من جانب لا يجوز الرضا بالكفر و غيره من القبائح، و لا يمكن الجمع إلاّ بتفسير القضاء بإعلام اللّٰه سبحانه و بيانه و كتابته و أمّا إذا فسّر بالمعنى الأوّل، (بمعنى الخلق و الإيجاد) فلا يمكن الجمع بين الأمرين.

ص: 88

بالكفر و غيره من القبائح، و لا ينفعهم الاعتذار(1) بوجوب الرضا به من حيث

**********

(1) . جواب عن اعتذار الخصم الذي يفسر القضاء بالخلق و الإيجاد، بأنّه يمكن الجمع بين الأمرين، بانّ الرضا بالكفر له وجهين: فمن حيث إنّه فعل اللّٰه نرضى به و من حيث إنّ العبد يكسبه فلا نرضى به، فأجاب بما في الشرح، و حاصله: أنّ الكسب إذا كان بقضائه عاد المحذور و هو الرضا بالكفر، و إن لم يكن بقضائه انخرقت قاعدة أُخرى و هي استناد كل ما في الكون إلى قضائه.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم الجبر حتى على التفسير الثالث و يتصوّر أنّ علمه السابق موجب للإلجاء. و لكنّه مردود بأنّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أيّ أثر من مؤثره على أيّ وجه اتفق، و إنّما تعلّق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلّة علّة طبيعية فاقدة للشعور و الاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار، فتعلّق علمه سبحانه بصدور فعلها و أثرها عنها بهذه الخصوصية، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلاً عن أن تريد، و يصدر الارتعاش من الإنسان المرتعِش عن علم و لكن لا عن إرادة و اختيار.، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع و عدم تخلفه عنه قيد شعرة.

و إن كانت العلّة عالمة و شاعرة و مريدة و مختارة كالإنسان فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات و انصباغ فعلها بصبغة الاختيار و الحرية، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية، لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلف عنه، و أمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر و اضطرار بلا علم و شعور، أو بلا اختيار و إرادة فعند ذلك يتخلَّف علمه عن الواقع.

فنقول توضيحاً لذلك: إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين: قسم يصدر منه بلا شعور و لا إرادة كأعمال الجهاز الدموي و الجهاز المعوي و جهاز القلب، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية غير الاختيارية.

و قسم آخر يصدر منه عن إرادة و اختيار، و يتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية كدراسته و كتابته و تجارته و زراعته.

و على ما سبق من أنّ علم اللّٰه تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه قيدَ شعرة، فتقع أعماله مورداً لتعلق علم اللّٰه بها على ما هي عليه من الخصائص و الألوان، فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمّا

ص: 89

إنّه فعله تعالى و عدم الرضا به من حيث الكسب، لبطلان الكسب أوّلاً، و ثانياً فلأنّا نقول: إن كان كون الكفر كسباً بقضائه تعالى و قدره وجب الرضا به من حيث هو كسب و هو خلاف قولكم، و إن لم يكن بقضاء و قدر بطل استناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء و القدر.

و اعلم أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - صلوات اللّٰه و سلامه عليه - قد بيّن معنى القضاء و القدر و شرحهما شرحاً وافياً في حديث الأصبغ بن نباتة لمّا انصرف من صفين، فإنّه قام إليه شيخ فقال له: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أ كان بقضاء اللّٰه تعالى و قدره؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما وطأنا موطأً و لا هبطنا وادياً و لا علونا تلعة إلاّ بقضاء و قدر».

فقال له الشيخ: عند اللّٰه أحتسب عنائي، ما أرىٰ لي من الأجر شيئاً.

فقال له: «مه أيّها الشيخ، بل عظّم اللّٰه أجركم في مسيركم و أنتم سائرون، و في منصرفكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين و لا إليها مضطرين».

فقال الشيخ: كيف و القضاء و القدر ساقانا؟

فقال: «ويحك، لعلك ظننت قضاء لازماً و قدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و لم تأت لائمة من اللّٰه لمذنب و لا محمدة لمحسن و لم يكن المحسن أولىٰ بالمدح من المسيء و لا المسيء أولىٰ بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان و جنود الشيطان و شهود

**********

( بالاضطرار و الإكراه، أو بالاختيار و الحرية، و تعلّق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر، بل يلازم الاختيار، و لو صدر كل قسم على خلاف ما اتّسم به، لكان ذلك تخلفاً عن الواقع.

ص: 90

الزور و أهل العمىٰ عن الصواب، و هم قدرية هذه الأُمّة و مجوسها، إنّ اللّٰه تعالى أمر تخييرا و نهى تحذيراً و كلّف يسيراً، لم يعص مغلوباً و لم يطع مكرهاً، و لم يرسل الرسل عبثاً و لم يخلق السموات و الأرض و ما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار».

فقال الشيخ: و ما القضاء و القدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟

فقال: «هو الأمر من اللّٰه تعالى و الحكم.» و تلا قوله تعالى: «وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ»(1).

فنهض الشيخ مسروراً و هو يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** يوم النشور من الرحمن رضواناً

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً *** جزاك ربّك عنّا فيه إحساناً

قال أبو الحسن البصري و محمود الخوارزمي: وجه تشبيهه عليه السلام المجبرة بالمجوس من وجوه:

أحدها: أنّ المجوس اختصوا بمقالات سخيفة و اعتقادات واهية معلومة البطلان، و كذلك المجبرة.

و ثانيها: أنّ مذهب المجوس أنّ اللّٰه تعالى يخلق فعله ثمّ يتبرأ منه كما خلق إبليس ثمّ انتفىٰ منه، و كذلك المجبرة قالوا: إنّه تعالى يفعل القبائح ثمّ يتبرأ منها.

و ثالثها: أنّ المجوس قالوا: إنّ نكاح الأخوات و الأُمّهات بقضاء اللّٰه و قدره و إرادته، و وافقهم المجبرة حيث قالوا: إنّ نكاح المجوس لأخواتهم و أُمّهاتهم بقضاء اللّٰه و قدره و إرادته.

**********

(1) . الإسراء: 23.

ص: 91

و رابعها: أنّ المجوس قالوا: إنّ القادر على الخير لا يقدر على الشر و بالعكس، و المجبرة قالوا: إنّ القدرة موجبة للفعل غير متقدمة عليه، فالإنسان القادر على الخير لا يقدر على ضده و بالعكس.

المسألة التاسعة: في الهدىٰ و الضلالة

قال: و الإضلالُ الإشارة إلىٰ خلاف الحق و فعلُ الضلالةِ و الإهلاك، و الهُدى مقابلٌ، و الأوَّلانِ منفيّانِ عنه تعالى.

أقول: يطلق الإضلال على الإشارة(1) إلىٰ خلاف الحق و إلْباس الحقّ

**********

(1) . حاصل ما أفاده أنّ لكل من الضلالة و الهداية معانيَ ثلاثة متقابلة، و تصحّ نسبة الهداية بمعانيها الثلاثة إلى اللّٰه سبحانه، دون الضلالة بل تصح نسبة المعنى الثالث منها إليه تعالى. نعم: إيجاد الهداية في العباد، مختص بغير ما كلّفوا به كالإيمان فإنّه فعل العبد، بقرينة التكليف به خلافاً للأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنّه يوجد الإيمان و الكفر في العباد.

و الذي ينبغي التنبيه عليه: أنّ إيجاد الهداية في العباد يرجع إلى إيجاد مقدماتها من الداخل كالعقل و الفطرة، و الخارج كالرسل و الكتب.

ثمّ إنّ حل عقد الجبر يحصل بالوقوف على أنّ للّٰه هدايتين: عامّة لجميع الناس، و خاصّة لبعضهم، و مصحح العقوبة و المثوبة هو الأولى منهما، فمن تمت الحجّة في حقه تصح عقوبته، و إلاّ فلا، و أمّا الهداية الثانية فهي مختصة بالمستفيدين من الهداية الأولى، و ما في قوله سبحانه: (فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ) (إبراهيم: 4) الذي وقع ذريعة للمجبرة ليس يهدف إلى الهداية و الضلالة العامتين، كما لا يهدف إلى وجود الفوضى في أمر الهداية و الضلالة لأنّه يخالف كونه حكيماً، و لأجل نقد تلك الفكرة وصف سبحانه نفسه في آخر الآية بقوله: (اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ)، بل هو و أمثاله ناظر إلى أنّ من لم يهتد بالهداية العامّة يضلّه و لا يوفقه بالاهتداء إلى الدرجات العليا، و أمّا من

ص: 92

بالباطل كما تقول: أضلّني فلان عن الطريق، إذا أشار إلىٰ غيره و أوهم أنّه هو الطريق. و يطلق علىٰ فعل الضلالة في الانسان كفعل الجهل فيه حتىٰ يكون معتقداً خلاف الحق.

و يطلق على الإهلاك و البطلان كما قال تعالى: «فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمٰالَهُمْ» يعني يبطلها.

و الهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني، فيقال بمعنىٰ نصب الدلالة على الحق كما تقول: هداني إلى الطريق، و بمعنى فعل الهدىٰ في الإنسان حتىٰ يعتقد الشيء علىٰ ما هو به، و بمعنى الإثابة كقوله تعالى: «سَيَهْدِيهِمْ» يعني سيثيبهم.

و الأوّلان منفيان عنه تعالى، يعني الإشارة إلىٰ خلاف الحق و فعل الضلالة، لأنّهما قبيحان و اللّٰه تعالى منزّه عن فعل القبيح.

و أمّا الهداية فاللّٰه تعالى نصب الدلالة على الحق و فعل الهداية الضرورية

**********

( اهتدى بالهداية العامّة فيوفقه بتحصيل أعلى درجاتها، و إلى ذلك يشير الكتاب العزيز و يقول: (اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى: 13) و يقول: (وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً وَ آتٰاهُمْ تَقْوٰاهُمْ) (محمد: 17) و يقول تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنٰاهُمْ هُدىً) (الكهف: 13).(1)

و ممّا يدل على أنّ الضلالة و الهداية بمعنى المثوبة و الإهلاك قوله سبحانه: «اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ» (محمد: 1).

«وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمٰالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بٰالَهُمْ * وَ يُدْخِلُهُمُ اَلْجَنَّةَ عَرَّفَهٰا لَهُمْ» (محمد: 4-6).

-

1 - و إن أردت التفصيل فلاحظ الإلٰهيات: 387/2-394.

ص: 93

في العقلاء، و لم يفعل الإيمان فيهم لأنّه كلّفهم به، و يثيب على الإيمان، فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلاّ فعل ما كلّف به.

و إذا قيل إنّه تعالى يهدي و يضلّ فإنّ المراد به أنّه يهدي المؤمنين بمعنى أنّه يثيبهم و يضلّ العصاة بمعنىٰ أنّه يهلكهم و يعاقبهم، و قول موسىٰ عليه السلام «إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ»(1) فالمراد بالفتنة الشدة و التكليف الصعب، يضلّ بها من يشاء أي يهلك من يشاء و هم الكفّار.

المسألة العاشرة: في أنّه تعالى لا يعذّب الأطفال

قال: و تعذيبُ غيرِ المكلّف قبيحٌ، و كلامُ نوحٍ عليه السلام مجازٌ، و الخدمةُ ليست عقوبةً له، و التبعيَّةُ في بعض الأحكام جائزةٌ.

أقول: ذهب بعض الحشوية إلىٰ أنّ اللّٰه تعالى يعذّب أطفال المشركين، و يلزم الأشاعرة تجويزه، و العدلية كافة علىٰ منعه، و الدليل عليه أنّه قبيح عقلاً فلا يصدر منه تعالى.

احتجّوا بوجوه: الأوّل: قول نوح عليه السلام(2): «وَ لاٰ يَلِدُوا إِلاّٰ فٰاجِراً كَفّٰاراً»(3).

**********

(1) . الأعراف: 155.

(2) . وجه الاستدلال أنّ الآية دلّت على أنّ ولد الكافر كافر، و ثبت أنّ كل كافر في النار، فينتج أنّ ولد الكافر في النار، و الجواب عدم تكرر الحدّ الأوسط، لأنّ المراد منه في الصغرى هو الكافر مجازاً و المراد منه في الكبرى هو الكافر حقيقة.

(3) . نوح: 27.

ص: 94

و الجواب: أنّه مجاز، و التقدير: أنهم يصيرون كذلك، لا حال طفوليتهم.

الثاني: قالوا: إنّا نستخدمه(1) لأجل كفر أبيه، فقد فعلنا فيه ألماً و عقوبة فلا يكون قبيحاً.

و الجواب: أنّ الخدمة ليست عقوبة للطفل، و ليس كل ألم و مشقة عقوبة فإنّ الفصد و الحجامة ألمان و ليسا عقوبة، نعم استخدامه عقوبة لأبيه(2)و امتحان له يعوَّض عليه(3) كما يعوّض على أمراضه.

الثالث: قالوا: إنّ حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن و منع التوارث و الصلاة عليه و منع التزويج.

و الجواب: أنّ المنكَر عقابه لأجل جرم أبيه، و ليس بمنكر أن يتبع حكم أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم و عقوبة، و لا ألم له في منعه من الدفن و التوارث و ترك الصلاة عليه.

**********

(1) . حاصل الاستدلال أنّه لو كان العقوبة بلا ذنب قبيحاً فلما ذا جاز في الشرع استخدام أولاد الكفار بالاسترقاق و الاستخدام عقوبة؟ و الجواب أنّ استرقاقه لصالح الولد، حيث يدخل في حظيرة الإسلام و يعيش مع المسلمين فيعود مسلماً.

(2) . أي استخدام ولده عقوبة للأب، لأنّه ينظر إلى الظاهر و يتأذى كما يتأذى في استرقاق نفسه، و لكن الاسترقاقين نعمة من اللّٰه عليهما.

(3) . أي ابتلاء و محنة، و الضميران راجعان إلى الأب، و اللّٰه سبحانه يُعوِّض ذلك الابتلاء و المحنة في الآخرة إذا قلنا بعمومية العوض للمسلم و غيره، أو قلنا بشرط أن يسلم إلى آخر عمره.

ص: 95

المسألة الحادية عشرة: في حسن التكليف و بيان ماهيته و وجه حسنه و جملة من أحكامه

قال: و التكليف حسنٌ لاشتماله علىٰ مصلحة لا تحصل بدونه.

أقول: التكليف مأخوذ من الكلفة، و هي المشقة. و حدّه إرادة من تجب طاعته علىٰ جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام، و يدخل تحت واجب الطاعة الواجب تعالى و النبي عليه السلام و الإمام و السيّد و الوالد و المنعم، و يخرج البواقي.

و شرطنا الابتداء لأن إرادة هؤلاء إنّما تكون تكليفاً إذا لم يسبقه غيره إلىٰ إرادة ما أراده، و لهذا لا يسمى الوالد مكلّفاً بأمر الصلاة ولده لسبق إرادة اللّٰه تعالى لها منه.

و المشقة لا بدّ من اعتبارها ليتحقق المحدود، إذ التكليف مأخوذ من الكلفة.

و شرطنا الإعلام لأنّ المكلّف إذا لم يعلم إرادة المكلّف بالفعل لم يكن مكلّفاً.

إذا عرفت هذا فنقول: التكليف حسن لأنّ اللّٰه تعالى فعله و اللّٰه تعالى لا يفعل القبيح، و وجه حسنه اشتماله علىٰ مصلحة لا تحصل بدونه، و هي التعريض لمنافع عظيمة لا تحصل بدون التكليف، لأنّ التكليف إن لم يكن لغرض كان عبثاً و هو محال، و إن كان لغرض فإن كان عائداً إليه تعالى لزم المحال، و إن كان إلى غيره فإن كان إلى غير المكلّف كان قبيحاً، و إن كان إلىٰ المكلّف فإن كان حصوله ممكناً بدون التكليف لزم العبث، و إن لم يمكن فإن

ص: 96

كان لنفع انتقض بتكليف من علم اللّٰه كفره و إن كان للتعريض فهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فنقول: الغرض من التكليف هو التعريض لمنفعة عظيمة لأنّه تعريض للثواب، و للثواب منافع عظيمة خالصة دائمة واصلة مع التعظيم و المدح و لا شك أنّ التعظيم إنّما يحسن للمستحق له و لهذا يقبح منّا تعظيم الأطفال و الأرذال كتعظيم العلماء و إنّما يستحق التعظيم بواسطة الأفعال الحسنة و هي الطاعات.

و معنى قولنا إنّ التكليف تعريض للثواب أنّ المكلّف جعل المكلَّف على الصفات التي تمكنه الوصول إلى الثواب و بعثه علىٰ ما به يصل إليه و علم أنّه سيوصله إليه إذا فعل ما كلّفه.

قال: بخلاف الجرح ثمّ التداوي، و المعاوضاتُ و الشكرُ باطلٌ.

أقول: هذه إيرادات علىٰ ما اختاره المصنف:

الأوّل: أنّ التكليف للنفع يتنزل منزلة من جرح غيره ثمّ داراه طلباً للدواء، و كما أنّ ذلك قبيح فكذا التكليف.

الثاني: أن التكليف طلباً للنفع يتنزل منزلة المعاوضات كالبيوع و الإجارات و غيرها، و لا شك أنّ المعاوضات تفتقر إلىٰ رضا المتعاوضين حتىٰ أنّ من عاوض بغير إذن صاحبه فعل قبيحاً، و التكليف عندكم لا يشترط فيه رضا المكلف.

الثالث: لم لا يجوز أن يكون التكليف شكراً للنعم السابقة؟

و الجواب عن الأوّل: بالفرق من الوجهين:

ص: 97

أحدهما: أنّ الجرح مضرة و التكليف نفسه ليس بمضرة و إنما المشقة في الأفعال التي يتناولها التكليف.

الثاني: أنّ الجرح و التداوي إنزال مضرة لا غرض فيه إلاّ التخلص من تلك المضرة بخلاف التكليف.

و عن الثاني: أنّ المراضاة تعتبر في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في التعامل جنساً و وصفاً أما إذا لم يكن هناك معاوضة و بلغ النفع حدّاً يكون غاية ما يطلبه العقلاء لم يختلف العقلاء في اختيار المشقة بسببه حتىٰ أن العقلاء يسفهون الممتنع منه.

و عن الثالث: انّ الشكر لا يشترط فيه المشقة و اللّٰه تعالى قادر علىٰ إزالة صفة المشقة عن هذه الأفعال، فلو كان التكليف شكراً لزم العبث في صفة المشقة و لأن طلب الفعل الشاق شكراً يخرج النعمة عن كونها نعمة.

قال: و لأنَّ النوعَ محتاجٌ إلى التعاضُدِ المستلزمِ للسنةِ النافعِ استعمالُها في الرياضة و إدامةِ النظر في الأُمور العالية، و تَذكُّرِ الإنذارات المستلزمةِ لإقامة العدل مع زيادة الأجر و الثواب.

أقول: لما ذكر المصنف رحمه الله حسن التكليف علىٰ رأي المتكلمين شرع في طريق الإسلاميين من الفلاسفة، فبدأ بذكر الحاجة إلى التكليف، ثمّ ذكر منافعه الدنيوية و الأخروية.

و تحقيقه أن نقول: إنّ اللّٰه خلق الإنسان مدنياً بالطبع(1) لا كغيره من

**********

(1) . هذا البرهان مركب من أُمور:

1 - بقاء النوع (الإنسان) ببقاء الأشخاص أمر حسن.

2 - لا تحصل تلك الغاية إلاّ بالتعاضد و التعاون.

ص: 98

الحيوانات، لا يمكن أن تبقىٰ أشخاصه و لا تحصل لهم كمالاتهم إلاّ بالتعاضد

**********

( 3 - أنّ الحياة الجماعية، مظنَّة التنازع.

4 - لا محيص في رفعه من وضع قانون و سنّة عادلة.

5 - لو اشترك الناس كلّهم في وضع القانون عاد التنازع فلا بد أن يكون مستنداً إلى شخص متميز عنهم بكمال قواه.

6 - التعرف على ذلك الشخص يتحقق بمعجزات تدل على أنّها (السنّة) من عند اللّٰه.

7 - الناس مختلفون في قبول الخير و الشر حسب اختلاف أمزجتهم. فوجب أن يكون هذا الشارع (النبي) مؤيّداً بالبرهان، و الوعظ، و...

8 - بما أنّ النبيّ لا يتفق في كلّ زمان، لكن وجب بقاء الشريعة إلى وقت اضمحلالها، ففرضت عليهم العبادات و فيها منافع ثلاث....

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ فرض كون الإنسان مدنياً بالطبع، يغني عن الأمر الثاني لأنّه صورة عملية للأوّل، ثمّ هل الإنسان مدنيّ بالطبع كما عليه الحكماء الأقدمون، أو هو مسخِّر بالطبع، أي يسخِّر غيره لقضاء حوائجه كما عليه العلاّمة الطباطبائي في بعض رسائله و لعلّه إلى هذا يشير قوله سبحانه: «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ» (الزخرف: 32)، أو هو موجود محاسِب يحاسب خيره و شره و نفعه و ضره فيختار أقل الطرق ضرراً و أكثرها نفعاً و هو التعايش الاجتماعي، فالحياة الاجتماعية وليد فكرته الحاسبة لا فطرته عن لا وعي، هذه هي الأنظار المطروحة في المقام.

ثانياً: يظهر من الشارح أنَّ النبي شارع مع أنّ الشارع بحكم التوحيد في التقنين هو اللّٰه سبحانه و النبي الأكرم هو المبشّر و المنذرُ الحامل لرسالات اللّٰه و نذره.

و ثالثاً: أنّ المهم في البرهان هو التركيز على شرائط المقنِّن و أنّه لا بد أن يكون موجوداً كاملاً عارفاً بالإنسان بعامة خصوصياته و غرائزه الطبيعية، و ما يفيده و ما يضره و يصده عن الكمال، و أن يكون منسلخاً عن كل نفع و ضرر فيما يضع و يسنّ، و ألاّ يتأثر عن لا وعي فيقدم منافعه على منافع الغير و ليس المقنّن بهذه الأوصاف إلاّ اللّٰه سبحانه.

و على ضوء ذلك فأكثر ما ذكره أخيراً لا حاجة إليه.

ص: 99

و التعاون، لأن الأغذية و الملبوسات أُمور صناعية يحتاج كل منهم إلىٰ صاحبه في عمل يستعيضه عن عمله له حتىٰ يتمّ كمال ما يحتاج إليه، و اجتماعهم مع تباين شهواتهم و تغاير أمزجتهم و اختلاف قواهم المقتضية للأفعال الصادرة عنهم مظنة التنازع و الفساد و وقوع الفتن، فوجب وضع قانون و سنّة عادلة يتعادلون بها فيما بينهم.

ثمّ تلك السنّة لو استند وضعها إليهم لزم المحذور، فوجب استنادها إلىٰ شخص متميز عنهم بكمال قواه و استحقاقه للانقياد إليه و الطاعة له، و ذلك إنما يكون بمعجزات تدل علىٰ أنّها من عند اللّٰه تعالى.

ثمّ من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير و الشر و الرذائل و النقصان و الفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم و هيئات نفوسهم، فوجب أن يكون هذا الشارع مؤيَّداً لا يعجز عن إحكام شريعته في جمهور الناس بعضهم بالبرهان و بعضهم بالوعظ و بعضهم بتأليف القلب و بعضهم بالزجر و القتال.

و لما كان النبي لا يتفق في كل زمان وجب أن تبقى السنن المشروعة إلىٰ وقت اضمحلالها و اقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها، ففرضت عليهم العبادات المذكرة لصاحب الشرع و كررت عليهم حتىٰ يستحكم التذكير بالتكرير، فيحصل لهم من تلقي الأوامر و النواهي الالهية منافع ثلاث:

إحداها: رياضة النفس باعتبار الإمساك عن الشهوات و منعها عن القوة الغضبية المكدرة لصفاء القوة العقلية.

الثانية: تعويد النفس النظر في الأُمور الإلهية و المطالب العالية و أحوال المعاد و التفكر في ملكوت اللّٰه تعالى و كيفية صفاته و أسمائه و تحقق فيضان الموجودات عنه تعالى متسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية

ص: 100

بالبراهين القطعية الخالية عن المغالطة.

و الثالثة: تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير و الشر الأخرويين بحيث ينحفظ النظام المقتضي للتعادل و الترافد، ثمّ زاد اللّٰه تعالى لمستعملي الشرائع الأجر و الثواب في الآخرة، فهذه مصالح التكليف عند الأوائل.

قال: و واجبٌ لِزَجْرِه عن القبائح.

أقول: هذا مذهب المعتزلة، و أنكرت الأشاعرة ذلك، و الدليل علىٰ وجوب التكليف أنّه لو لم يكلف اللّٰه تعالى من كملت شرائط التكليف فيه لكان مغرياً بالقبيح، و التالي باطل لقبحه فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّ اللّٰه تعالى إذا أكمل عقل الانسان و جعل فيه ميلاً إلى القبيح و شهوة له و نفوراً عن الحسن فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب و قبح القبيح و المؤاخذة على الإخلال بالواجب و فعل القبيح لكان وقوع القبيح من المكلف دائماً، و إلى هذا أشار بقوله: لزجره عن القبائح، أي لزجر التكليف عن القبائح.

قال: و شرائطُ حسنِهِ انتفاءُ المفسدة و تقدُّمهُ و إمكانُ متعلقه و ثبوتُ صفةٍ زائدة علىٰ حسنه و علمُ المكلّف بصفات الفعل و قدر المستحق و قدرتُه عليه و امتناعُ القبيح عليه و قدرةُ المكلَّف على الفعل و علمُه به أو إمكانُه و إمكانُ الآلة.

أقول: لما ذكر أنّ التكليف حسنٌ شرع في بيان ما يشترط في حسن التكليف، و قد ذكر أُموراً لا يحسن التكليف بدونها(1)، منها ما يرجع إلىٰ نفس

**********

(1) . أقول: التكليف من الأُمور ذات الإضافة له إضافة إلى المكلّف و إلى المكلَّف و إلى المكلَّف به، و بوجه له إضافة إلى نفسه، فذكر الشارح ما يرجع إلى كل واحد.

ص: 101

التكليف، و منها ما يرجع إلىٰ متعلق التكليف أعني الفعل و المكلِّف و المكلَّف.

أمّا ما يرجع إلىٰ التكليف فأمران:

أحدهما: انتفاء المفسدة فيه، بأن لا يكون مفسدة لنفس المكلَّف، به في فعل آخر داخل في تكليفه(1)، أو مفسدة لمكلف آخر.

و الثاني: أن يكون متقدماً على الفعل قدراً يتمكن المكلف فيه من الاستدلال به فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه.

و أمّا ما يرجع إلى الفعل فأمران:

أحدهما: إمكان وجوده.

و الثاني: كون الفعل قد اشتمل علىٰ صفة زائدة علىٰ حسنه(2) بأن يكون واجباً أو مندوباً، و إن كان التكليف ترك فعل فإن يكون الفعل قبيحاً أو يكون الإخلال به أولىٰ من فعله.

و أمّا ما يرجع إلى المكلّف: فإن يكون عالماً بصفات الفعل لئلاّ يكلِّف إيجاد القبيح و ترك الواجب.

و أن يكون عالماً بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب لئلاّ يخلّ ببعضه.

**********

(1) . الضمير في قوله: «به» يرجع إلى التكليف، أي لا تكون مفسدة لنفس المكلّف بهذا التكليف كالأمر بصيام المريض ففيه مفسدة لنفس هذا المكلّف في فعل آخر (كالصحة) داخل في تكليفه، حيث يجب حفظ الصحة، أو كانت المفسدة لمكلّف آخر، كما إذا أمر بالتوضؤ بماء مملوك لآخر من دون رضاه.

(2) . بناء على أنّ المباح داخل تحت الحسن.

ص: 102

و أن يكون القبيح ممتنعاً عليه لئلاّ يخلّ بالواجب فلا يوصل الثواب إلىٰ مستحقه.

و أمّا ما يرجع إلىٰ المكلَّف: فإن يكون قادراً على الفعل.

و أن يكون عالماً به أو متمكّناً من العلم به.

و إمكان الآلة أو حصولها إن كان الفعل ذا آلة.

قال: و متعلقه إما علمٌ إما عقلي أو سمعي و إما ظنٌّ و إما عملٌ.

أقول: متعلق التكليف قد يكون علماً و قد يكون عملاً.

أمّا العلم، فقد يكون عقلياً محضاً نحو العلم بوجود اللّٰه تعالى و كونه قادراً عالماً، إلىٰ غير ذلك من المسائل التي يتوقف السمع عليها، و قد يكون سمعياً نحو التكاليف السمعية. و أمّا الظن فنحو كثير من الأمور الشرعية كظن القبلة و غيرها.

و أمّا العمل، فقد يكون عقلياً كردّ الوديعة و شكر المنعم و برّ الوالدين و قبح الظلم و الكذب و حسن التفضل و العفو، و قد يكون سمعياً كالصلاة و غيرها، و هذه الأفعال تنقسم إلى الواجب و المندوب و الحرام و المكروه.

قال: و هو منقطعٌ للإجماع و لإيصالِ الثواب(1).

أقول: يريد أن التكليف منقطع، و يدلّ عليه الإجماع و المعقول.

**********

(1) . استدل الماتن على انقطاع التكليف بوجهين و أضاف الشارح وجهاً ثالثاً:

1 - الإجماع على الانقطاع. 2 - إيصال الثواب، لأنّه مشروط بالخلوص عن المشاق، و التكليف مقترن بالمشقة فلا يجتمعان. 3 - ما ذكره بقوله «و لا بد من تراخٍ بين

ص: 103

أمّا الإجماع فظاهر، إذ الاتفاق بين المسلمين و غيرهم واقع علىٰ أن التكليف منقطع.

و أمّا المعقول فنقول: لو كان التكليف دائماً لم يمكن إيصال الثواب إلى المطيع، و التالي باطل قطعاً، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّ التكليف مشروط بالمشقة، و الثواب مشروط بخلوصه عن الأكدار و المشاق، و الجمع بينهما محال، و لا بدّ من تراخ بين التكليف و الثواب و إلاّ لزم الإلجاء.

قال: و علّةُ حسنِهِ عامّةٌ.

أقول: لما بيّن أوّلاً حسن التكليف مطلقاً شرع في بيان حسنه في حق

**********

( التكليف و الثواب و إلاّ لزم الإلجاء» و ذلك لأنّه لو كان ثواب كل تكليف مقروناً بالجزاء لما انفك التكليف عن الطاعة و لكن لا عن اختيار بل أشبه بالإلجاء، و هو بالنسبة إلى الغاية المتوخاة من التكليف في طرف النقيض، إذ يجب أن يكون المكلَّف على حالة تكون نسبة الطاعة و العصيان إليه سواسية، حتى يمتاز المطيع عن اختيار عن العاصي كذلك، و ذلك لا يجتمع مع كون الجزاء مقروناً بالتكليف طول الحياة فإنّ الأجير إذا عاين الجزاء لما انفك عنه العمل.

هذا ما ذكره الشارح، و لكن الظاهر من الشيخ المفيد انقطاع التكليف الشرعي في الآخرة دون التكليف العقلي، و لعل مراد الماتن و الشارح ذلك أيضاً، أي يكون التكليف من جانب الشارع مقطوعاً دون التكليف من جانب العقل، قال المفيد: «إنّ أهل الآخرة مأمورون بعقولهم بالسداد، و ما حسن لهم في دار الدنيا من الرشاد - إلى أن قال -: إنّ أهل الآخرة صنفان: فصنف منهم في الجنّة، و هم فيها مأمورون بما يؤثرون و يخفّ على طباعهم و يميلون إليه و لا يثقل عليهم من شكر المنعم سبحانه و تعظيمه و حمده على تفضّله عليهم و إحسانه إليهم،... و الصنف الآخر في النار... و ليس يتعرون من الأمر و النهي بعقولهم» (1).

-

1 - المفيد: أوائل المقالات: 67 (\ط. أخرى: 106).

ص: 104

الكافر.

و الدليل عليه أن العلة في حسن التكليف و هي التعريض للثواب عامة في حق المؤمن و الكافر فكان التكليف حسناً فيهما و هو ظاهر.

قال: و ضررُ الكافر من اختياره.

أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر و تقريره: أنّ تكليف الكافر ضرر محض لا مصلحة فيه، فلا يكون حسناً.

بيان المقدمة الأولىٰ: أنّ التكليف نوع مشقة في العاجل و حصل العقاب بتركه و هو ضرر عظيم فانتفت المصلحة فيه إذ لا ثواب له فكان قبيحاً قطعاً.

و الجواب: أنّ التكليف نفسه ليس بضرر و لا يستلزم من حيث هو تكليف ضرراً، و إلاّ لكان تكليف المؤمن كذلك، بل الضرر إنّما نشأ من سوء اختيار الكافر لنفسه.

قال: و هو مَفْسَدةٌ لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه.

أقول: الذي يخطر لنا في تحليل هذا الكلام أنّه جواب عن سؤال مقدر أيضاً، و هو أن يقال: إنّكم شرطتم في التكليف أن لا يكون مفسدة للمكلف و لا لغيره و هذا التكليف يستلزم الضرر بالمكلف فيكون قبيحاً، كما أنّ تكليف زيد لو استلزم مفسدة راجعة إلىٰ عمرو كان قبيحاً.

و الجواب: أنّ الضرر هنا مفسدة لا من حيث التكليف بل من حيث اختيار المكلف، علىٰ ما تقدم، بخلاف ما شرطناه أعني انتفاء المفسدة

ص: 105

اللازمة للتكليف.

قال: و الفائدة ثابتةٌ.

أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر و تقريره: انّ تكليف الكافر لا فائدة فيه لأنّ الفائدة من التكليف هي الثواب و لا ثواب له فلا فائدة في تكليفه فكان عبثاً.

و الجواب: لا نسلّم أنّ الفائدة هي الثواب بل التعريض له و هو حاصل في حقه كالمؤمن.

المسألة الثانية عشرة: في اللطف و ماهيته و أحكامه

قال: و اللطفُ واجبٌ لتحصيل الغرض به.

أقول: اللطف هو ما يكون المكلف معه أقرب إلىٰ فعل الطاعة و أبعد من فعل المعصية، و لم يكن له حظ في التمكين، و لم يبلغ حد الإلجاء.

و احترزنا بقولنا: «و لم يكن له حظ في التمكين» عن الآلة، فإنّ لها حظاً في التمكين و ليست لطفاً.

و قولنا: «و لم يبلغ حدّ الإلجاء» لأنّ الإلجاء ينافي التكليف و اللطف لا ينافيه.

هذا اللطف المقرِّب(1).

**********

(1) . قاعدة اللطف من القواعد الكلامية، و لها دور واسع في مسائلها، قبلتها العدلية و رفضتها الأشاعرة، و هي من فروع القول بالحسن و القبح العقليين، فمن اعترف بهما أخذ بنتائجهما و منها لزوم اللطف على اللّٰه، و من أنكرهما ردّ نتائجهما.

و قد قسّم الشارح تبعاً لغيره، اللطفَ إلى المقرِّب إلى الطاعة، و المحصِّل لها. فلو

ص: 106

و قد يكون اللطف محصِّلاً، و هو ما يحصل عنده الطاعة من المكلف علىٰ سبيل الاختيار، و لولاه لم يطع(1) مع تمكنه في الحالين، و هذا بخلاف

**********

( كان موجباً لقرب المكلّف إلى فعل الطاعة، و البعد عن فعل المعصية، فهو لطف مقرّب، و لو ترتبت عليه الطاعة فهو لطف محصّل.

ثمّ إنّ بعض المتكلمين اكتفى بذكر المحصِّل وحده، و اكتفى لفيف منهم بذكر المقرّب وحده، و هناك من ذكر كلا القسمين:

فمن الأوّل: المتكلم الشيعي النوبختي في الياقوت، حيث فسّره بقوله: «اللطف أمر يفعله اللّٰه تعالى بالمكلّف لا ضرر فيه يُعلم عند وقوع الطاعة منه و لولاه لم يُطَع» (1).

و من الثاني: الشيخ المفيد، قال: «اللطف ما يقرب المكلّف معه إلى الطاعة و يبعد عن المعصية، و لاحظ له في التمكين، و لم يبلغ الإجبار» (2).

و من الثالث: القاضي عبد الجبار، قال: «إنّ اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجبَ و يتجنب عن القبيح، أو يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو إلى ترك القبيح»، (3) و العلاّمة الحلي في أنوار الملكوت (4)، و أشار الشارح إلى كلا القسمين.

و على ضوء ذلك فليس هنا لطفان مختلفان بل كلاهما في الحقيقة أمر واحد، غير أنّه إن ترتبت عليه الطاعة يكون محصّلاً، فكونه مقرِّباً فعل اللّٰه سبحانه، و أمّا كونه محصّلاً أمر انتزاعي ينتزع منه بعد حصول الغاية.

غير أنّ العناية باللطف المقرّب في الكتب الكلامية أكثر من المحصّل.

-

1 - لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت للعلامة الحلي: 152، و قوله يعلم بصيغة المجهول.

2 - المفيد: النكت الاعتقادية: 31، و تبعه المحقق الطوسي في تلخيص المحصل: 342، و ابن ميثم في قواعد المرام: 117.

3 - القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة: 519.

4 - العلامة الحلي: أنوار الملكوت: 153-154، قال: و قسم المعتزلة اللطف إلى قسمين:

أحدهما: ما يختار عنده المكلف الطاعة و يسمى توفيقاً أو يختار عنده ترك القبيح و يسمى عصمة.

ثانيهما: ما يقرب من الطاعة و يقوى داعيه إليها.

(1) . قال بعض الشراح: إنّه قيد المقرّب، و انّ قوله: «و قد يكون - إلى قوله -: الاختيار» جملة معترضة.

ص: 107

التكليف(1) الذي يطيع عنده، لأنّ اللطف أمر زائد على التكليف، فهو من دون اللطف يتمكن بالتكليف من أن يطيع أو لا يطيع، و ليس كذلك التكليف لأنّ عنده يتمكن من أن يطيع و بدونه لا يتمكن من أن يطيع أو لا يطيع، فلم يلزم أن يكون التكليف الذي يطيع عنده لطفاً.

إذا عرفت هذا فنقول: اللطف واجب، خلافاً للأشعرية.

و الدليل علىٰ وجوبه(2) أنّه يحصِّل غرض المكلّف فيكون واجباً و إلاّ لزم نقض الغرض.

**********

(1) . حاصله: أنّ اللطف غير مؤثر في التمكين بل أمر وراء القدرة، و إلاّ فلو كان مؤثراً في حصول القدرة، لا يسمى لطفاً، و منه يظهر أنّ التكليف ليس لطفاً لأنّه ممّا له حظ في التمكين إذ لولاه لما حصل الامتثال. و مع ذلك كلّه.

قالت العدلية: الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، و لا بد من الجمع بين ما ذكره الشارح من أنّ التكليف ليس لطفاً و هذا الكلام الذي يعرّف التكليف الشرعي لطفاً، بنحو من الأنحاء فتأمّل.

(2) . لا يخفى أنّ الالتزام بوجوب اللطف بكلا قسميه أمر مشكل، لاختلاف الدواعي إلى الامتثال، فيلزم أن يقوم سبحانه في مورد كل فرد بما يكون معه أقرب إلى الطاعة، فتختلف الدواعي حسب اختلاف الأمزجة و الميول، فلو افترضنا أنّ إنساناً إنّما يكون أقرب إلى الطاعة إذا كان ثرياً، و الآخر إذا كان فقيراً، و ثالثاً إذا كان متزوجاً بمرأة حسناء و... أ ترى أنّ من واجبه أن يقوم في حق كل انسان بما يكون معه أقرب إلى الطاعة؟!

بل الحق ما أوضحناه في الإلهيات و قلنا: إنّ كل ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة، و الابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر يجب على اللّٰه سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو (1)، دون ما هو دخيل في خصوص فرد، و إلاّ لن يقف أقسام اللطف عند حدّ.

-

1 - الإلٰهيات: 54/3 الطبعة الثانية و لا يذهب عليك أنّ لنا في هذا الكتاب اصطلاحاً خاصاً في تفسير المحصل و المقرب في اللطف، لا يمتّ للاصطلاح المعروف بين المتكلمين فيهما بصلة، فلا تغفل.

ص: 108

بيان الملازمة: أنّ المكلّف إذا علم أن المكلَّف لا يطيع إلاّ باللطف فلو كلّفه من دونه كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلىٰ طعام و هو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ إذا فعل معه نوعاً من التأدب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض.

قال: فإن كان من فعله تعالى وجب عليه، و إن كان من المكلّف وجب أن يُشعِره به و يُوجبَه، و إن كان من غيرهما شُرِطَ في التكليف العلمُ بالفعل.

أقول: لما ذكر وجوب اللطف شرع في بيان أقسامه(1) و هو ثلاثة:

الأوّل: أن يكون من فعل اللّٰه تعالى، فهذا يجب على اللّٰه تعالى فعله لما تقدم.

الثاني: أن يكون من فعل المكلف، فهذا يجب على اللّٰه تعالى أن يعرّفه إياه و يشعره به و يوجبه عليه.

الثالث: أن يكون من فعل غيرهما فهذا ما يشترط في التكليف بالملطوف فيه العلم بأن ذلك الغير يفعل اللطف.

**********

(1) . ذكر الشارح أنّ للّطف أقساماً ثلاثة:

1 - ما يكون من فعل اللّٰه، كالتبشير و الإنذار، و ربّما يمثل بإرسال الرسل و إنزال الكتب، و لكنّه خارج عن حد اللطف، لما عرفت أنّ ما كان مؤثراً في التمكين فهو ليس بلطف، و المثالان من هذا القبيل، إذ لولاهما لما عُلمت الفرائض و التكاليف.

2 - ما يكون من فعل المكلف، و لعل منه الدعوة إلى التأمّل في دعوة الأنبياء و الإمعان في دلائلهم.

3 - ما يكون من فعل الغير كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

ص: 109

قال: و وجوهُ القبح منتفيةٌ و الكافر لا يخلو من لطفٍ و الإخبارُ بالسعادة و الشقاوة ليس مَفسدةً.

أقول: لمّا ذكر أقسام اللطف شرع في الاعتراضات علىٰ وجوبه مع الجواب عنها، و قد أورد من شبه الأشاعرة ثلاثاً:

الأُولىٰ: قالوا: اللطف إنما يجب إذا خلا من جهات المفسدة لأن جهات المصلحة لا تكفي في الوجوب ما لم تنتف جهات المفسدة، فلم لا يجوز أن يكون اللطف الذي توجبونه مشتملاً علىٰ جهة قبح لا تعلمونه؟ فلا يكون واجباً.

و تقرير الجواب: أنّ جهات القبح معلومة لنا لأنّا مكلفون بتركها و ليس هنا وجه قبح و ليس ذلك استدلالاً بعدم العلم على العلم بالعدم.

الثانية: أنّ الكافر إمّا أن يكلَّف(1) مع وجود اللطف أو مع عدمه، و الأوّل باطل و إلا لم يكن لطفاً لأن معنى اللطف هو ما حصل الملطوف فيه

**********

(1) . للاستدلال شقوق ثلاثة و إليك بيانها:

1 - أنّ الكافر إمّا أن يكون مكلفاً مع وجود اللطف.

2 - أن يكون مكلّفاً مع عدم اللطف مع عدم قدرته سبحانه عليه.

3 - أن يكون مكلّفاً مع عدم اللطف مع قدرته سبحانه عليه.

و الأوّل باطل، إذ لو كان هناك لطف لوقع الملطوف فيه، فحيث لم يقع نستكشف عدمه.

و الثاني مستلزم لوصفه سبحانه بالعجز عن إعطاء اللطف.

و الثالث مستلزم لأن يخلَّ الواجب سبحانه بالواجب و هو اللطف.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لازمه عدم تكليف الكفّار و العصاة بالأحكام، لعدم خروج تكليفهم عن الشقوق الثلاثة لا بطلان اللفظ.

و ثانياً: أنّا نختار الشق الأوّل و لكن ليس اللطف ملازماً للامتثال بل هو مقرّب للعبد إليه، أو لولاه لم يمتثل، لا أنّه يمتثل معه قطعاً، و ممّا ذكرنا يعلم مفهوم التقرير الثاني لهذه الشبهة مع جوابها.

ص: 110

عنده، و الثاني إمّا أن يكون عدمه لعدم القدرة عليه فيلزم تعجيز اللّٰه تعالى و هو باطل، أو مع وجودها فيلزم الإخلال بالواجب.

و الجواب: أنّ اللطف ليس معناه هو ما حصل الملطوف فيه، فإنّ اللطف لطف في نفسه سواء حصل الملطوف فيه أولا، بل كونه لطفاً من حيث إنّه يقرِّب إلى الملطوف فيه و يرجح وجوده علىٰ عدمه، و امتناع ترجيحه إنّما يكون لمعارض أقوى هو سوء اختيار المكلّف فيكون اللطف في حقه مرجوحاً.

و يمكن أن يكون ذلك جواباً عن سؤال آخر لهم، و تقريره: أنّ اللطف لو كان واجباً لم تقع معصية من مكلّف أصلاً لأنّه تعالى قادر علىٰ كل شيء فإذا قدر على اللطف لكلّ مكلف في كل فعل لم تقع معصية لأنّه تعالى لا يخلّ بالواجب لكن الكفر و المعاصي موجودة.

و تقرير الجواب: أن نقول: إنّما يصح أن يقال يجب أن يلطف للمكلف إذا كان له لطف يصلح عنده، و لا استبعاد في أن يكون بعض المكلفين لا لطف له سوى العلم بالمكلف و الثواب مع الطاعة و العقاب مع المعصية، و الكافر له هذا للطف.

الثالثة: أنّ الإخبار بأنّ المكلف من أهل الجنة(1) أو من أهل النار مفسدة لأنّه إغراء بالمعاصي، و قد فعله تعالى و هو ينافي اللطف.

**********

(1) . حاصله أنّه كيف يكون اللطف واجباً، مع أنّه ربّما يقوم سبحانه بما هو في مقابل اللطف، فيخبر عن سعادة بعض الأفراد فيوجد الجرأة للمعاصي، و عن شقاء بعض آخر، فيوجد فيهم اليأس و القنوط الملازم لإدامة العصيان. و الجواب عن الأوّل بأنّ الاخبار مقارن لتمتع هؤلاء بملكات رحمانية تصدُّهم عن اقتراف المعاصي. و عن الثاني بأنّ المخبر عنه إمّا أن يكون جاهلاً غير مؤمن بصدق القرآن، فليس فيه مفسدة أو يكون عارفاً كإبليس فلا يتحقق فيه الاغراء لأنّه عاين الحقائق قبل الهبوط.

ص: 111

و الجواب: أنّ الإخبار بالجنّة ليس إغراء مطلقاً، لجواز أن يقترن به من الألطاف ما يمتنع عنده من الإقدام على المعصية و إذا انتفىٰ كونه إغراء علىٰ هذا التقدير بطل قولهم إنّه مفسدة على الإطلاق.

و أمّا الإخبار بالنار فليس مفسدة أيضاً، لأن الإخبار إن كان للجاهل كأبي لهب انتفت المفسدة فيه، لأنه لا يعلم صدق اخباره تعالى، فلا يدعوه ذلك إلى الإصرار على الكفر، و إن كان عارفاً كإبليس لم يكن إخباره تعالى بعاقبته داعياً إلى الاصرار على الكفر لأنّه يعلم أنّه بإصراره عليه يزداد عقابه، فلا يصير مغرياً عليه.

قال: و يَقْبَحُ منه تعالى التعذيبُ مع منعه دون الذمّ.

أقول: المكلّف إذا منع المكلَّف من اللطف قبح منه عقابه، لأنّه بمنزلة الأمر بالمعصية و الملجئ إليها، كما قال اللّٰه تعالى: «وَ لَوْ أَنّٰا أَهْلَكْنٰاهُمْ بِعَذٰابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقٰالُوا رَبَّنٰا لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً»(1) ، فأخبر أنّهم - لو منعهم اللطف في بعثه الرسول - لكان لهم أن يسألوا بهذا السؤال، و لا يكون لهم هذا السؤال إلاّ مع قبح إهلاكهم من دون البعثة، و لا يقبح ذمّه، لأن الذم حق مستحق على القبيح غير مختص بالمكلَّف(2)، بخلاف العقاب المستحق للمكلف، و لهذا لو بعث الإنسان غيره علىٰ فعل القبيح ففعله لم يسقط حق الباعث من الذم، كما أنّ لإبليس ذمّ أهل النار و إن كان هو الباعث على المعاصي.

**********

(1) . طه: 134.

(2) . تقدم أنّ اللطف غير مؤثر في التمكين و إنّما هو شيء وراءه، فمنع المكلف عن اللطف أو عدم منعه، إنّما يتصوّر فيما إذا كان المكلَّف متمكناً من الامتثال في كلا الحالين، و على ضوء ذلك لا يمكن التفكيك بين التعذيب و الذم عند المنع عن اللطف بل يصح

ص: 112

قال: و لا بدّ من المناسبة و إلاّ ترجح بلا مُرجِّح بالنسبة إلى المنتسبين.

أقول: لما فرغ من الاعتراضات علىٰ وجوب اللطف شرع في ذكر أحكامه، و قد ذكر منها خمسة:

الأول: أنّه لا بدّ و أن يكون بين اللطف و الملطوف فيه مناسبة.

و المراد بالمناسبة هنا كون اللطف بحيث يكون حصوله داعياً إلىٰ حصول الملطوف فيه، و هذا ظاهر، لأنّه لو لا ذلك لم يكن كونه لطفاً أولىٰ من كون غيره لطفاً، فيلزم الترجيح من غير مرجح(1)، و لم يكن كونه لطفاً في هذا

**********

( كلاهما. و بذلك يظهر عدم صحة أمرين:

1 - الاستدلال بقوله سبحانه: «وَ لَوْ أَنّٰا أَهْلَكْنٰاهُمْ بِعَذٰابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقٰالُوا رَبَّنٰا لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً» (طه: 134).

لأنّه خارج عن محط البحث، إذ العلم بالتكليف من شرائط القدرة، و لو لا إرسال الرسل لما وقف المكلّف على التكليف.

2 - قوله: «لأنّ الذم حق مستحق على القبيح غير مختص بالمكلّف»، و ذلك لقبح ذم الجاهل بالتكليف المستند جهله إلى عدم بيان التكليف من جانب المولى.

و لعل كلام الماتن و الشارح ناظر إلى المستقلات العقلية، التي لا يتوقف العلم بالتكليف على ورود بيان من المولى، ففيها يصح الذم دون التعذيب على تأمّل في التفكيك أيضاً إذا قلنا بالملازمة بين حكمي العقل و الشرع.

(1) . حاصله: أنّه إذا افترضنا أنّ الغنى و الفقر كانا لطفاً في دعوة المكلّف إلى الصلاة، فلو اختار سبحانه الأوّل يلزم الترجيح بلا مرجح.

ثمّ إذا لم تكن المناسبة معتبرة فلما ذا صار الغنى لطفاً في حق هذا الفعل (الصلاة) و لم يكن لطفاً في حق الفعل الآخر (الحج) و هو أيضاً ترجيح من غير مرجح، فلا محيص عن اعتبار المناسبة، و لعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه: (وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ

ص: 113

الفعل أولى من كونه لطفاً في غيره من الأفعال، و هو ترجيح من غير مرجح أيضاً، و إلى هذين أشار بقوله: و إلاّ ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين، و عنى بالمنتسبين اللطف و الملطوف فيه، هذا ما فهمناه من هذا الكلام.

قال: و لا يبلغ الإلجاءَ.

أقول: هذا الحكم الثاني من أحكام اللطف، و هو أن لا يبلغ في الدعاء

**********

(وَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168).

و قوله تعالى: «فَأَخَذْنٰاهُمْ بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» (الأنعام: 42).

ثمّ إنّ الماتن ذكر الشروط الباقية و هي أربعة:

1 - أن لا يبلغ حدّ الإلجاء، و أكثر من اعترض على قاعدة اللطف كصاحب المواقف، غفل عن هذا الشرط و لو التفت هو أو غيره إلى هذا الشرط، لما سلّوا سيوفهم عن أغمادها.

2 - أن يعلم المكلّف بوجود اللطف إجمالاً أو تفصيلاً لأنّه إنّما يدعو إلى الطاعة بوجوده العلمي لا بوجوده الواقعي فقط و إن لم يقف عليه المكلّف، كما إذا وقف حابس الزكاة على أنّ المرض الشائع في القطيعة، تنبيه من اللّٰه و عندئذ يقرّب الالتفات من الطاعة، و يؤدي الفريضة.

3 - أن يكون فيه وراء الحسن، أمر آخر هو ملاك اللطفية، و إلاّ فالمباح بما هو حسن لا يكون لطفاً، لكن يمكن أن يقال: إنّ وجود المباحات الكثيرة التي وسّعت الحياة للعباد، و جعلتهم في يسر و رفق، لطف من اللّٰه و مقرب لدخول الناس في دين الإسلام و لولاه، لما دخل أكثرهم فيه، و الحسن عبارة عمّا ليس بقبيح فيشمل المباحات و لا يشترط وراء الحسن شيء زائد.

4 - اللطف يدخله التخيير كما في الكفّارات المخيرة.

5 - اللطف يجب أن يكون حسناً بالذات، فلا يمكن عدّ تسلّط الظالم على العباد لطفاً من اللّٰه و إن كان يترتب عليه التوجه إلى اللّٰه سبحانه و ذلك لأنّ تسلّطه عليهم نتيجة أعمالهم «ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ» (الأنفال/ 51).

ص: 114

إلى الملطوف فيه إلىٰ حد الإلجاء، لأن الفعل الملجئ إلىٰ فعل آخر يشبه اللطفي كون كل منهما داعياً إلى الفعل، غير أنّ المتكلمين لا يسمون الملجئ إلى الفعل لطفاً، فلهذا شرطنا في اللطف زوال الإلجاء عنه إلى الفعل.

قال: و يعلم المكلَّفُ اللطفَ إجمالاً أو تفصيلاً.

أقول: هذا هو الحكم الثالث من أحكام اللطف، و هو وجوب كونه معلوماً للمكلف إمّا بالإجمال أو بالتفصيل، لأنّه إذا لم يعلمه و لم يعلم الملطوف فيه و لم يعلم المناسبة بينهما لم يكن داعياً له إلى الفعل الملطوف فيه.

فإن كان العلم الإجمالي كافياً في الدعاء إلى الفعل لم يجب التفصيل، كما يعلم على الجملة كون الألم الواصل إلى البهيمة لطفاً لنا.

و إن كان اللطف لا يتم إلاّ بالتفصيل وجب حصوله، و يكفي العلم الإجمالي في المناسبة التي بين اللطف و الملطوف فيه.

قال: و يزيد اللطفُ علىٰ جهة الحسن.

أقول: هذا هو الحكم الرابع، و هو كون اللطف مشتملاً علىٰ صفة زائدة على الحسن من كونه واجباً كالفرائض أو مندوباً كالنوافل، هذا فيما هو من فعلنا.

و أمّا ما كان من فعله تعالى فقد بيّنا وجوبه في حكمته.

ص: 115

قال: و يدخله التخييرُ.

أقول: هذا هو الحكم الخامس، و هو أنّ اللطف لا يجب أن يكون معيناً، بل يجوز أن يدخله التخيير، بأن يكون كل واحد من الفعلين قد اشتمل علىٰ جهة من المصلحة المطلوبة من الآخر فيقوم مقامه و يسد مسدّه، أمّا في حقنا فكما في الكفارات الثلاث، و أمّا في حقه تعالى فلجواز أن يخلق لزيد ولداً يكون لطفاً له و إن كان يجوز حصول اللطفية بخلق ولد غير ذلك الولد من أجزاء غير أجزاء الولد الأول و على صورة غير صورته، و حينئذ لا يجب أحد الفعلين بعينه بل يكون حكمه حكم الواجب المخيّر.

قال: بشرط حسنِ البدلَيْن.

أقول: لما ذكر أنّ اللطف يجوز أن يدخله التخيير نبّه علىٰ شرط كل واحد من البدلين، أعني اللطف و بدله، و أطلق علىٰ كل واحد منهما اسم البدل بالنظر إلىٰ صاحبه إذ ليس أحدهما بالأصالة أولىٰ من الآخر، و ذلك الشرط كون كل واحد منهما حسناً ليس فيه وجه قبح، و هذا مما لم تتفق الآراء عليه، فإنّ جماعة من العدلية ذهبوا إلىٰ تجويز كون القبيح كالظلم منّا لطفاً قائماً مقام إمراض اللّٰه تعالى.

و استدلوا بأن وجه كون الألم من فعله تعالى لطفاً هو حصول المشاق و تذكر العقاب و ذلك حاصل بالظلم منّا فجاز أن يقوم مقامه.

و هذا ليس بجيد لأن كونه لطفاً جهة وجوب و القبيح ليس له جهة وجوب، و اللطف إنّما هو في علم المظلوم بالظلم لا في نفس الظلم، كما نقول: إنّ العلم بحسن ذبح البهيمة لطف لنا و إن لم يكن الذبح نفسه لطفاً.

ص: 116

المسألة الثالثة عشرة: في الألم و وجه حسنه

المسألة الثالثة عشرة: في الألم و وجه حسنه(1)

قال: و بعضُ الألمِ قبيحٌ يصدر منّا خاصةً، و بعضه حسنٌ يصدر منه تعالى و منّا، و حُسْنُه إمّا لاستحقاقه أو لاشتماله على النفع(2) أو دفع الضرر الزائدَيْن، أو لكونه عاديّاً أو علىٰ وجه الدفع.

**********

(1) . للبحث عن الآلام ملاكات مختلفة: تارة يبحث عنها في التوحيد الأفعالي في مقابل الثنوية، حيث ذهبت إلى أنّ خالق الخير غير خالق الشر، فاعتقدوا بوجود مبدأين، و بما أنّ مقتضى التوحيد الأفعالي أنّه لا خالق إلاّ هو يُبحث عن الشرور لغاية تصحيح صدور الشرور عنه سبحانه، و أُخرى في مقابل الأشاعرة، حيث أنكروا الحسنَ و القبح العقليين و قالوا: كل ما يصدر عنه سبحانه فهو حسن و لا يصح تحديد فعله بالحسن العقلي إذ أيّ حسنٍ عند العقل للآلام و النوازل الواردة على العباد، فقامت العدلية بالدفاع عن الإشكال بتقسيم الآلام إلى ما يمتنع صدورها منه سبحانه و إلى ما يجوز صدورها منه و منّا لما فيها من فوائد و أغراض و ليست بقبيحة.

و لما كان المجوز لبعض الآلام - مضافاً إلى اللطف - هو الأعواض التي ينالها الإنسان في الآخرة في مقابل الحرمان، أردف المصنّف البحثَ عنها بالبحث عن الأعواض التي لها دور عظيم في حلِّ بعض المشاكل. و هذه البحوث من خصائص المتكلّمين دون الفلاسفة و الحكماء، و لأجل ذلك لا ترى أثراً منها في كتبهم.

و قد سلك المحقق الطوسي في هذا الكتاب مسلك المتكلّمين، تاركاً مسلك الحكماء كما لا يخفى. و بذلك أصبح كتاب التجريد كتاباً كلامياً، لا فلسفياً، و إن كان بعض بحوثه مشتركاً بين العلمين.

(2) . إنّ للألم الحسن عند العدلية أقساماً خمسة:

1 - ما يحسن لأجل استحقاق المولَم، كالإيلام في الحدّ و غيره.

2 - ما اشتمل على نفع زائد على الألم الوارد، كالألم الوارد في الجهاد.

3 - دفع الضرر الزائد على الألم، كقطع العضو الفاسد الذي يهدد صحّة الإنسان كلّها.

ص: 117

أقول: في هذا الكلام مباحث:

الأوّل: في مناسبة هذا البحث و ما بعده لما قبله.

اعلم أنّا قد بيّنا وجوب الألطاف و المصالح، و هي ضربان: مصالح في الدين، و مصالح في الدنيا، أعني المنافع الدنياوية، و مصالح الدين إمّا مضارّ أو منافع؛ و المضارّ منها آلام و أمراض و غيرها كالآجال و الغلاء، و المنافع الصحة و السعة في الرزق و الرخص، فلأجل هذا بحث المصنف رحمه الله عقيب

**********

( 4 - ما كان على وفق سنّة اللّٰه سبحانه، كإحراق النار لمن أُلقي فيها ظلماً أو غير ظلم، فإنّ إحراق النار و إن كان بالنسبة إلى الملقىٰ فيها شراً لكن الإحراق بما هو لا قبح فيه فإنّها سنّة قام عليها صرح الحياة الانسانية. نعم في إمكانه سبحانه سلب الأثر عنها في هذه الموارد، و لكن الاستثناء في السنن (في غير مورد الإعجاز و الكرامة) مستلزم للإلجاء في الإيمان، و انتفاء الاختيار و الاختبار، و ذلك لأنّ سلب الأثر عن النار عند إحراق المؤمن ليقف عند حدّ بل يستلزم سلب الأثر عن السيف عند وروده على رأس المظلوم و هكذا...، و لازم ذلك خروج الحياة الدنيوية عن كونها دنيوية، لأنّ معناها كون الحياة مبنية على السنن الطبيعية و هو خلاف المفروض، و بالجملة: افتراض كون العالم ماديّاً يلازم سيادة القوانين المادية عليها، إلاّ إذا اقتضت المصلحة العامة خلافها كما في مورد الاعجاز.

و هناك من يقول ليس للألم إلاّ قسم واحد، و هو الألم لغاية استحقاق المولم، و قالت به طائفتان:

التناسخية: و هم الذين يقولون لا دار إلاّ هذه الدنيا و أنّ الإنسان بعد الموت يرجع إلى هذه الدار و يرى جزاء عمله إن خيراً فخير و إن شراً فشر، و أنّ أصحاب العاهات و الزمنى و الفقراء هم الذين عاشوا في هذه الدنيا في دورة متقدمة، ظالمة، فرجعوا إلى الدنيا في هذه الدورة ليروا جزاء أعمالهم.

البكرية: أصحاب بكر بن زياد الذي كان معاصراً لواصل بن عطاء (80-130 ه) و صفوان بن الجهم ت 128 ه.

ص: 118

اللطف عن هذه الأشياء، و لما كانت الآلام تستلزم الأعواض وجب البحث عنها أيضاً.

البحث الثاني: اختلف الناس في قبح الألم و حسنه، فذهبت الثنوية إلىٰ قبح جميع الآلام، و ذهبت المجبرة إلىٰ حسن جميعها من اللّٰه تعالى، و ذهبت البكرية و أهل التناسخ و العدلية إلىٰ حسن بعضها و قبح الباقي.

البحث الثالث: في علّة الحسن، اختلف القائلون بحسن بعض الألم في وجه الحسن:

فقال أهل التناسخ: إنّ علة الحسن هي الاستحقاق لا غير، لأنّ النفوس البشرية إذا كانت في أبدان قبل هذه الأبدان و فعلت ذنوباً استحقت الألم عليها، و هذا أيضاً قول البكرية.

و قالت المعتزلة أنّه يحسن عند شروط:

أحدها: أن يكون مستحقاً.

و ثانيها: أن يكون فيها نفع عظيم يوفىٰ عليها.

و ثالثها: أن يكون فيها دفع ضرر أعظم منها.

و رابعها: أن يكون مفعولاً علىٰ مجرى العادة، كما يفعله اللّٰه تعالى بالحيّ إذا ألقيناه في النار.

و خامسها: أن يكون مفعولاً علىٰ سبيل الدفع عن النفس، كما إذا آلمنا من يقصد قتلنا، لأنّا متىٰ علمنا اشتمال الألم علىٰ أحد هذه الوجوه حكمنا بحسنه قطعاً.

قال: و لا بد في المشتمِل على النفع من اللطف.

أقول: هذا شرط لحسن الألم المبتدأ الذي يفعله اللّٰه تعالى لاشتماله علىٰ

ص: 119

نفع المتألم، و هو كونه مشتملاً على اللطف إمّا للمتألم أو لغيره، لأن خلوّ الألم عن النفع الزائد الذي يختار المولم معه الألم يستلزم الظلم، و خلوّه عن اللطف يستلزم العبث و هما قبيحان فلا بد من هذين الاعتبارين في هذا النوع من الألم، و هنا اختلف الشيخان(1):

فقال أبو علي: إنّ علة قبح الألم كونه ظلماً لا غير، فلم يشترط هذا الشرط.

و قال أبو هاشم: إنّه يقبح لكونه ظلماً أو لكونه عبثاً، فأوجب في الأمراض التي يفعلها اللّٰه تعالى في الصبيان مع الأعواض الزائدة اشتمالها على اللطف لمكلف آخر، و لهذا يقبح منا تخليص الغريق بشرط كسر يده(2) و استيجار من ينزح ماء البئر و يقذفه فيها لغير غرض مع توفية الأجرة.

و يمكن الجواب هنا لأبي علي بما ذكرناه في كتاب نهاية المرام.

**********

(1) . المراد أبو علي الجُبّائي و ابنه أبو هاشم من شيوخ الاعتزال في أواخر القرن الثالث و أوائل القرن الرابع، و اختلفت كلمتهم في الإيلام الابتدائي كآلام الأطفال، فاكتفى الوالد في جوازه بعدمِ كونه ظلماً، و هو يتحقق بالعوض يوم القيامة، و ذهب الولد بأنّ انتفاء الظلم غير كاف ما لم يشتمل على شيء زائد كالاعتبار و اللطف و إلاّ يلزم العبث، و إلى اختلافهم أشار الشهرستاني بعبارة موجزة و قال: «اختلف أبو علي و أبو هاشم في نقل الألم للعوض، فقال أبو علي: يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض، و عليه بنى آلام الأطفال، و قال ابنه: إنّما يحسن ذلك بشرط العوض و الاعتبار جميعاً».

(2) . فإنّ نجاته من الغرق و إن كان أكثر نفعاً من إيراد الضرر عليه بكسر يده، لكن الكسر أيضاً قبيح، و مثله المثال الثاني فإنّ اعطاء الأُجرة كاملة و إن كان يرفع الظلم لكنّه عمل عبث، و لو كان الغرض الإحسان، ففي وسعه، دفعُه بلا طلب عمل.

ص: 120

قال: و يجوز في المستحق كونُه عقاباً.

أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري، فإنّه جوّز أن تقع الأمراض في الكفّار و الفسّاق عقاباً للكافر و الفاسق لأنّه ألم واصل إلى المستحق فأمكن أن يكون عقاباً، و يكون تعجيله قد اشتمل علىٰ مصلحة لبعض المكلفين كما في الحدود.

و منع قاضي القضاة من ذلك و جزم بكون أمراضهم محناً لا عقوبات لأنّه يجب عليهم الرضا و الصبر عليها و التسليم و ترك الجزع و لا يلزمهم ذلك في العقاب.

و الجواب: المنع من عدم اللزوم في العقاب لأن الرضا يطلق علىٰ معنيين:

أحدهما: الاعتقاد لحسن الفعل، و هو مشترك بين العقاب و المحنة.

و الثاني: موافقة الفعل للشهوة، و هذا غير مقدور للعبد فلا يجب في المحنة و لا في العقاب، و إذا كان الرضا بالمعنى الأول واجباً في العقاب فكذلك الصبر علىٰ ذلك الاعتقاد واجب بأن لا يظهر خلاف الرضا و هو الجزع، و يجب أيضاً التسليم بأن يعتقد أنّه لو تمكن من دفع المرض الذي هو مصلحة له لا يدفعه و لا يمتنع منه.

قال: و لا يكفي اللطفُ في ألم المكلف في الحُسن.(1)

أقول: هذا مذهب الشيخين و قاضي القضاة، و جوّز بعض المشايخ

**********

(1) . الفرق بين هذه المسألة و ما تقدم من قوله: «و لا بد في المشتمل على النفع من اللطف» الذي اختلف فيه الشيخان هناك و لكن اتفقا في المقام، هو أنّ البحث فيما تقدم كان مركَّزاً

ص: 121

إدخال الألم على المكلف إذا اشتمل على اللطف و الاعتبار و إن لم يحصل في مقابلته عوض، لأنّ الألم كما يحسن لنفع يقابله فكذا يحسن لما يؤدّي إليه الألم، و لهذا حسن منّا تحمّل مشاقّ السفر لربح يقابل السلعة و لا يقابل مشاق السفر، و لمّا كان مشاق السفر علة في حصول الربح المقابل للسلعة فكذا الألم الذي هو لطف لولاه لما حصل الثواب المقابل للطاعة فحسن فعله و إن خلا عن العوض لأدائه إلى النفع.

و حجة الأوائل أنّ الألم غير المستحق لو لا اشتماله على النفع أو دفع الضرر كان قبيحاً، و الطاعة المفعولة لأجل الألم(1) ليست بنفع، و الثواب المستحق عليها يقابل الطاعة دون الألم، فيبقى الألم مجرداً عن النفع و ذلك قبيح.

**********

( على أنّ مجرّد العوض كاف في الألم الابتدائي أو لا بد من ضم أمر آخر كاللطف ليخرج عن العبث، فقال أبو علي بالأوّل و أبو هاشم بالثاني، و أمّا المقام فالبحث مركّز على أنّ مجرّد اللطف كاف في الألم الابتدائي و إن لم يرجع نفع إلى المولِم أولا. و قد مثل القائلون بالجواز بالسفر الشاق إذا باع سلعته فيه بقيمة غالية، فهناك أُمور ثلاثة: 1 - السفر الشاق و ليس في مقابله شيء. 2 - بيع السلعة. 3 - الربح الذي هو في مقابل السلعة، مثل المقام، فإنّ فيه أُموراً ثلاثة: الإيلام، الطاعة، الثواب.

(1) . حاصله: أنّ مجرّد اللطف لا يكفي في الألم الابتدائي، و ذلك لأنّ الألم ينتهي إلى الطاعة و هي تلازم الثواب، فالثواب في مقابل الطاعة، و لا يكون في مقابل الألم شيء، و في المقام أُمور ثلاثة (الألم، الطاعة، و الثواب).

و لكن الحق أن يقال: إن كان الألم في طريق طاعة المتألم أو داعياً إليها، فالظاهر كفاية اللطف، لأنّه هو المؤثر في الطاعة المستلزمة للثواب، و كون الثواب لمجرّد الطاعة لا يضر، إذ لو لا اللطف بالألم، ما كانت هناك طاعة و لم يترتب ثواب.

ص: 122

قال: و لا يحسُنُ مع اشتمال اللذة علىٰ لطفيّته.

أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري(1) خلافاً لأبي هاشم.

و تقرير مذهب أبي هاشم: أنّا لو فرضنا اشتمال اللذة على اللطف الذي اشتمل عليه الألم هل يحسن منه تعالى فعل الألم بالحي لأجل لطف الغير(2)مع العوض الزائد الذي يختاره المتألم لو عرض عليه؟ قال أبو هاشم: نعم لأن الألم المشتمل على المنفعة الموفية في حكم المنفعة عند العقلاء، و لهذا لا يعدّ العقلاء مشاق السفر الموصلة إلى الأرباح مضارّاً، و إذا كان الألم في حكم المنفعة صار حصول اللطف في تقدير(3) منفعتين فيتخيّر الحكيم في أيّهما شاء.

و أبو الحسين منع ذلك، لأن الألم إنّما يصير في حكم المنفعة إذا لم يكن طريق لتلك المنفعة إلاّ ذلك الألم، و لو أمكن الوصول إلى تلك المنفعة بدون ذلك الألم كان ذلك الألم ضرراً و عبثاً، و لهذا يعد العقلاء السفر ضرراً مع حصول الربح بدونه.

**********

(1) . لو كان هناك سببان للّطف: اللذة و الألم، و الأوّل يشتمل على اللطف فقط، و الثاني يشتمل عليه و على الألم مع العوض (النفع) فهل يجوز له سبحانه الإيلام مع إمكان السبب الأوّل، كما عليه أبو هاشم، أو لا يجوز كما عليه أبو الحسين؟

(2) . الظاهر عدم الحاجة إلى كلمة الغير لو لم تكن مضرة، لأنّ الظاهر أنّ الكلام في الألم الابتدائي و كونه لطفاً في حق المتألم نفسه دون الغير.

(3) . الألم سبب لأمرين: اللطف و المنفعة المفروضة في الألم (العوض)، و اللذة مشتملة على اللطف فقط و الحكيم مخيّر بينهما.

ص: 123

قال: و لا يشترط في الحسن اختيارُ المتألِّم بالفعل.

أقول: لا يشترط في حسن الألم المفعول ابتداء من اللّٰه تعالى اختيار المتألم للعوض الزائد عليه بالفعل، لأن اعتبار الاختيار(1) إنّما يكون في النفع الذي يتفاوت فيه اختيار المتألمين فأمّا النفع البالغ إلىٰ حدّ لا يجوز اختلاف الاختيار فيه فإنّه يحسن و إن لم يحصل الاختيار بالفعل و هذا هو العوض المستحق عليه تعالى.

المسألة الرابعة عشرة: في الأعواض

قال: و العوضُ نفع مستحق خالٍ عن تعظيم و إجلال.

أقول: لما ذكر حسن الألم المبتدأ مع تعقبه بالعوض الزائد وجب عليه البحث عن العوض و أحكامه، و بدأ بتحديده، فالنفع جنس للمتفضل به و للمستحق، و قيد المستحق فصل يميزه عن النفع المتفضل به، و قيد الخلوّ عن التعظيم و الإجلال يخرج به الثواب.

قال: و يستحق عليه تعالى بإنزالِ الآلام و تفويت المنافع لمصلحة الغير و إنزال الغموم، سواءٌ استندت إلىٰ علم ضروري أو مكتسبٍ أو ظن، لا ما تستند إلىٰ فعل العبد و أمرِ عباده بالمضار أو إباحتِه و تمكين غير العاقل.

**********

(1) . يريد أنّ الاختيار إنّما يعتبر إذا كان للنفع درجات و تعلّقت إرادة المعطي بالدرجة النازلة، و المتألم بالدرجة العالية، و أمّا إذا تعلقت إرادته من بدء الأمر بالدرجة العليا التي ليست وراءها درجة فلا معنى لاشتراط الاختيار.

ص: 124

أقول: هذه الوجوه التي يستحق بها العوض على اللّٰه تعالى:

الأوّل: إنزال الآلام بالعبد كالمرض و غيره، و قد سبق بيان وجوب العوض به من حيث اشتماله على الظلم لو لم يجب العوض.

الثاني: تفويت المنافع إذا كانت منه تعالى لمصلحة الغير، لأنّه لا فرق بين تفويت المنافع و إنزال المضارّ، فلو أمات اللّٰه تعالى ابناً لزيد و كان في معلومه تعالى أنّه لو عاش لانتفع به زيد لاستحق عليه تعالى العوض عما فاته من منافع ولده، و لو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنّه يموت قبل الانتفاع به لم يستحق به عوضاً لعدم تفويته المنفعة منه تعالى.

و كذلك لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء شعر بهلاك ماله أو لم يشعر(1) لأن تفويت المنفعة كإنزال الألم، و لو آلمَهُ و لم يشعر به لاستحق العوض فكذا إذا فوّت عليه منفعة لم يشعر بها، و عندي في هذا الوجه نظر.

الثالث: إنزال الغموم، بأن يفعل اللّٰه تعالى أسباب الغمّ، لأن الغم يجري مجرى الضرر في العقل، سواء كان الغم علماً ضرورياً بنزول مصيبة أو وصول ألم أو كان ظناً بأن يغتم عند أمارة لوصول مضرة أو فوات منفعة أو كان علماً مكتسباً، لأنّ اللّٰه تعالى هو الناصب للدليل و الباعث على النظر فيه

**********

(1) . هنا سؤال، و هو أنّه ما الفرق بين إهلاك المال حيث يلزم فيه التعويض، شَعَرَ صاحب المال بالإهلاك أم لا، و بين إنزال الغموم حيث اشترط الشارح فيه الشعور و قال: «نحو أن يهلك له مالاً و هو لا يشعر به إلى أن يموت فإنّه لا يستحق العوض عليه تعالى».

و الجواب وجود الفرق بينهما، و هو اختلاف الحيثية، فإنّ ملاك البحث في الأوّل هو تفويت المنافع أو الإضرار بالأموال، و هو أمر واقعي يستلزم العوض، شعر بذلك أم لم يشعر، بخلاف ملاكه في الثاني فإنّ انزال الغموم - و إن كان لأجل إهلاك المال - أمر نفسي متوقف على الشعور و العلم، و لولاهما لما كان هناك موضوع للغم، و على ضوء ذلك ففي مورد واحد ربّما يجب العوض من جهة و لا يجب من جهة أُخرى، فاغتنم.

ص: 125

و كذا هو الناصب لأمارة الظن، فلما كان سبب الغم منه تعالى كان العوض عليه.

و أمّا الغمّ الحاصل من العبد نفسه من غير سبب منه تعالى، نحو أن يبحث العبد فيعتقد جهلاً نزول ضرر به أو فوات منفعةٍ، فإنّه لا عوض فيه عليه تعالى، و لو فعل به تعالى فعلاً لو شعر به لاغتم نحو أن يهلك له مالاً و هو لا يشعر به إلىٰ أن يموت فإنّه لا يستحق العوض عليه تعالى لأنّه إذا لم يشعر به لم يغتم به.

الرابع: أمر اللّٰه تعالى عباده بإيلام الحيوان أو إباحته، سواء كان الأمر للإيجاب كالذبح في الهدي و الكفارة و النذر، أو للندب كالضحايا، فإن العوض في ذلك كله على اللّٰه تعالى، لاستلزام الأمر و الإباحة الحُسْنَ، و الألم إنّما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في العظم حداً يحسن الألم لأجله.

الخامس: تمكين غير العاقل، مثل سباع الوحش و سباع الطير و الهوام، و قد اختلف أهل العدل هنا علىٰ أربعة أقوال:

فذهب بعضهم إلىٰ أنّ العوض على اللّٰه تعالى مطلقاً، و يعزى هذا القول الى أبي علي الجُبّائي.

و قال آخرون: إنّ العوض علىٰ فاعل الألم، و هو قول يحكى عن أبي علي أيضاً.

و قال آخرون: لا عوض هنا على اللّٰه تعالى و لا على الحيوان.

و قال قاضي القضاة: إن كان الحيوان مُلجأ إلى الإيلام كان العوض عليه تعالى، و إن لم يكن ملجأ كان العوض على الحيوان نفسه.

احتج الأوّلون: بأنّه تعالى مكّنه و جعل فيه ميلاً شديداً إلى الإيلام مع

ص: 126

إمكان عدم الميل و لم يجعل له عقلاً يميز به حسن الألم من قبحه و لم يزجره بشيء من أسباب الزجر مع إمكان ذلك كله، فكان ذلك بمنزلة الإغراء، فلولا تكفله تعالى بالعوض لقبح منه ذلك.

و احتج الآخرون(1): بقوله عليه السلام: إنّ اللّٰه تعالى ينتصف للجمّاء من القرناء.

و احتج النافون للعوض: بقوله عليه السلام: جرح العجماء جُبار.

و احتج القاضي بأنّ التمكين(2) لا يقتضي انتقال العوض من الفاعل إلى الممكّن و إلاّ لوجب عوض القتل علىٰ صانع السيف، بخلاف الإلجاء

**********

(1) . المقصود هو القول الثاني الذي أشار إليه بقوله: «إنّ العوض على فاعل الألم»، مستدلاّ بأنّه سبحانه ينتصف للجمّاء (ضد القرناء) من القرناء، و لا يخفى أنّه لو صح الحديث يكون معناه أنّه ينتقم اللّٰه لها من القرناء، لا أنّ العوض على فاعل الألم و أنّه سبحانه ينقل أعواض القرناء إليها كما هو المدعىٰ.

و المراد من القول الثالث عدم العوض مطلقاً مستدلاً بما روى: «جرح العجماء جبار» (1)، و قد استدل بها الفقهاء على عدم الضمان لصاحبها، و أين هو من الدلالة على كون العوض على الحيوان أو على خالقه؟

-

1 - أحمد بن حنبل: المسند: 326/5 و الجبار هو الهدر الذي لا يغرم.

(2) . لا يخفى أنّ ما ذكره القاضي من الفرق بين التمكين و الإلجاء و إن كان متيناً، لكن القسم الأوّل منتف في الحيوان الذي هو المحور للبحث، فإنّ الافتراس أمر غريزيّ للسبع مطلقاً بلا استثناء.

و أمّا قوله: «بأنّ العوض لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الأكل» فمعناه: إذا كان العوض على اللّٰه فلما ذا نمنع السباع عن أكل الإنسان بعد افتراسه، فإنّ مقتضى المعاوضة فسح المجال لها و لو في هذا الحد، و أجاب الشارح بأنّ هنا وجهاً للمنع و هو التحفظ على كرامة الإنسان و لو بأجزائه المتفككة.

ص: 127

المقتضي لاستناد الفعل في الحقيقة إلى الملجئ، و لهذا يحسن ذمّه دون الملجأ؛ و بأنّ العوض لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الأكل.

و الجواب عن الأوّل: أنّه لا دلالة في الحديث علىٰ أنّه تعالى ينتصف للجماء بأن ينقل أعواض القرناء إليها، و هو يصدق بتعويض اللّٰه تعالى إياها، كما أنّ السيّد إذا غرم ما أتلفه عبده يقال قد أنصف المظلوم من عبده، مع أنّه يحتمل المجاز بتشبيه الظالم لتمكنه من الظلم بالقرناء و المظلوم بالجماء لضعفه.

و عن الثاني: أن المراد انتفاء القصاص.

و عن الثالث: بالفرق فإنّ القاتل ممنوع من القتل و عنده اعتقاد عقلي يمنعه عن الإقدام عليه، فلهذا لم نقل بوجوب العوض علىٰ صانع السيف بخلاف السبع.

و عن الرابع: أنّه قد يحسن المنع عن الأكل إذا كان لذلك المنع وجه حسن، كما أنّه يحسن منا منع الصبيان عن شرب الخمر و منع المعاقب عن العقاب.

قال: بخلاف الإحراق عند الإلقاء في النار(1) و القتلِ عند شهادةِ الزور.

**********

(1) . لما تقدم في البحث السابق أنّ العوض في إنزال الآلام و المضارّ على اللّٰه سبحانه، لزم منه - حسب الظاهر - أن يكون العوض عند الإلقاء في النار، و القتل عند شهادة الزور، عليه سبحانه أيضاً، لأنّ الألم بالنار فعله سبحانه و القاضي منصوب من جانبه سبحانه و هو الموجب عليه القتلَ مباشرة أو تسبيباً.

أجاب ما هذا توضيحه: بأنّ المباشر أقوى في الصورة الأُولى، بخلاف الصورة الثانية، فإنّ السبب أعني الملقي، أو شاهد الزور أقوى من المباشر، فلولا إلقاؤه أو شهادته لما كان هناك إحراق و لا قتل.

ص: 128

أقول: إذا طرحنا صبياً في النار فاحترق فإنّ الفاعل للألم هو اللّٰه تعالى و العوض علينا نحن، لأنّ فعل الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة و اللّٰه تعالى قد منعنا من طرحه و نهانا عنه، فصار الطارح كأنّه الموصل إليه الألم فلهذا كان العوض علينا دونه تعالى.

و كذلك إذا شهد عند الامام شاهدا زور بالقتل فإنّ العوض على الشهود و إن كان اللّٰه تعالى قد أوجب القتل و الإمام تولاه، و ليس عليهما عوض لأنّهما أوجبا بشهادتهما على الامام إيصال الألم إليه من جهة الشرع فصار كأنهما فعلاه.

لا يقال: هذا يوجب العوض عليه تعالى لأنه هو الموجب على الامام قتله.

لأنا نقول: قبول الشاهدين عادة شرعية يجب إجراؤها علىٰ قانونها كالعادات الحسيّات، فكما وجب العوض على الملقي للطفل في النار قضاء لحق العادة الحسية كذلك وجب العوض هنا على الشاهدين قضاء لحق العادة الشرعية، و المناط هو الحكمة المقتضية لاستمرار العادات.

قال: و الانتصافُ عليه تعالى واجبٌ عقلاً و سمعاً(1).

أقول: اختلف أهل العدل في ذلك، فذهب قوم منهم إلىٰ أن الانتصاف

**********

(1) . الانتصاف هو الانتقام، و المقصود منه في المقام أخذ العوض من الظالم للمظلوم لا القصاص، و لما ذكر المصنّف في البحث السابق بأنّ عوض الآلام المستندة إلى الإنسان (كالإلقاء في النار) عليه، لا على اللّٰه فرّع هذا الكلام عليه و أنّه يجب عليه سبحانه عند تمكين الظالم من المظلوم أخذ العوض من الظالم و دفعه للمظلوم إمّا عقلاً و سمعاً كما عليه الماتن أو سمعاً فقط كما عليه الآخرون.

ص: 129

للمظلوم من الظالم واجب على اللّٰه تعالى عقلاً، لأنّه هو المدبّر لعباده، فنظره كنظر الوالد لوُلده فكما يجب على الوالد الانتصاف كذلك يجب عليه تعالى قياساً للغائب على الشاهد.

و قال آخرون منهم: إنّه يجب سمعاً لأن الوالد يجب عليه تدبير أولاده و تأديبهم، أمّا الانتصاف بأخذ الأرش من الظالم و دفعه إلى المظلوم فلا نسلّم وجوبه عقلاً بل يحسن منا تركهم إلىٰ أن تكمل عقولهم لينتصف بعضهم من بعض.

و المصنف رحمه الله اختار وجوبه عقلاً و سمعاً.

أمّا من حيث العقل: فلأنّ ترك الانتصاف منه تعالى يستدعي ضياع حق المظلوم لأنّه تعالى مكَّن الظالم و خلّى بينه و بين المظلوم مع قدرته تعالى على منعه و لم يمكّن المظلوم من الانتصاف فلولا تكفله تعالى بالانتصاف لضاع حق المظلوم و ذلك قبيح عقلاً.

و أمّا من حيث السمع: فلورود القرآن بأنّه تعالى يقضي بين عباده، و لوصف المسلمين له تعالى بأنّه الطالب، أي الذي يطلب حق الغير من الغير.

قال: فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم(1) من دون عوضٍ في الحال يوازي ظلمَه.

أقول: هذا تفريع علىٰ وجوب الانتصاف، و هو أنّه هل يجوز تمكين اللّٰه

**********

(1) . لما حكم في البحث السابق بوجوب الانتصاف بمعنى أخذ العوض من الظالم و دفعه إلى المظلوم لزم منه عدم جواز تمكين الظالم من الظلم إذا لم يكن عند الظالم عوض يوازي ظلمه، من مال حلال أو عمل خير، و هذا من لوازم القول بوجوب الانتصاف، و لما

ص: 130

تعالى من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه؟ فمنع منه المصنف رحمه الله، و قد اختلف أهل العدل هنا، فقال أبو هاشم و الكعبي: إنّه يجوز، لكنهما اختلفا:

فقال الكعبي: يجوز أن يخرج من الدنيا و لا عوض له يوازي ظلمه، و قال: إنّ اللّٰه تعالى يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه و يدفعه إلى المظلوم.

و قال أبو هاشم: لا يجوز بل يجب التبقية لأن الانتصاف واجب و التفضل ليس بواجب فلا يجوز تعليق الواجب بالجائز.

قال السيد المرتضىٰ: إنّ التبقية تفضل أيضاً فلا يجوز تعليق الانتصاف بها فلهذا وجب العوض في الحال و اختاره المصنف رحمه الله لما ذكرناه.

**********

( كان ذلك مخالفاً لضرورة الحياة البشرية، فإنّ كثيراً من الظالمين ماتوا أو قتلوا و لم يكن عندهم درهم حلال و لا عمل خير حتى ينقله سبحانه منهم إلى صحيفة المظلوم، وقع القائلون بالوجوب في حيص و بيص فذكروا وجوهاً: 1 - قال الكعبي: إنّ اللّٰه يتفضل على الظالم بالعوض المستحق عليه، و يدفعه إلى المظلوم.

2 - قال أبو هاشم: تفضله سبحانه على الظالم أمر ليس بواجب، فكيف يمكن أن يترتب عليه أمر واجب و هو الانتصاف؟ بل يجب عليه سبحانه أن يبقيه و يعمِّره حتى يكتسب عوضاً و ينتقل إلى المظلوم.

3 - أورد عليه السيد المرتضى بأنّ ما أشكل على الكعبي من أنّ التفضّل ليس بواجب وارد عليه أيضاً، لأنّ التبقية أيضاً تفضّل لا يمكن أن يترتب عليه أمر واجب و هو الانتصاف. و حق المقال غير ما ذكراه، إذ كيف يمكن أن يقال: إنّه يجب التفضل على الظالم مع انّه كافر جاحد أو منافق معاند، و أمّا التبقية فيكذِّبها الحس و الوجدان، فلا محيص عن القول بأنّه يجب عليه سبحانه الأمر بإجراء الحدود في الدنيا، أو تعذيبه في الآخرة، و رفع درجة المظلوم فيها إذا كان أهلاً لذلك.

ص: 131

قال: فإن كان المظلوم من أهل الجنة(1) فرَّق اللّٰهُ تعالى أعواضه على الأوقات أو تفضَّل عليه بمثلها، و إن كان من أهل العقاب أسقطَ بها جزءاً من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يُفرِّق الناقصَ على الأوقات.

أقول: لما بيّن وجوب الانتصاف ذكر كيفية إيصال العوض إلى مستحقه.

.

**********

(1) السبب لعنوان هذا البحث هو التزامهم بخلوّ الجنّة عن الغمّ، و الجحيم عن الفرح، و هذا يطلب لنفسه البحثَ عن كيفية انقطاع العوض عن أهل الجنّة على وجه لا يورِثُ الغمَّ، و دفع العوض إلى أهل الجحيم على وجه لا يورث الفرحَ و السرورَ و لو لأجل إحساس خفة العذاب، لكن الكلام في وجود الدليل على الالتزام بهما على هذا الحد.

و ذكر الماتن في كيفية إعطاء العوض إذا كان المظلوم من أهل الجنة وجهين، و إذا كان من أهل النار وجهاً واحداً:

إذا كان من أهل الجنّة و قلنا إنّ العوض دائم فلا بحث، إنّما الكلام إذا كان العوض منقطعاً فهنا وجهان:

1 - يفرِّق اللّٰه أعواضه على الأوقات، على وجه إذا انقطع العوضُ لا يدرك انقطاعه لقلته جداً لأجل التوزيع على مدّة طويلة لا قصيرة.

2 - يتفضل عليه بمثلها.

و إذا كان من أهل النار و المفروض أنّ العوض منقطع فالذي أجاب به الماتن نفس الجواب الأوّل المذكور في حق أهل الجنّة، قال: كما أنّه سبحانه يفرق أعواض أهل الجنّة على أوقاتهم حتى لا يلزم الألم في الجنّة لأجل الانقطاع فهكذا في المقام، يجعل العوض إسقاط جزء من عذابه لكن مفرَّقاً على أوقاته، و بما أنّ العوض كان مفرقاً و قليلاً لأجل التفريق، لا تظهر له الخفة مطلقاً حتى بعد الانقطاع، و إليه أشار الماتن بقوله: «اسقط بها

ص: 132

و اعلم: أنّ المستحق للعوض إمّا أن يكون مستحقاً للجنة أو للنار، فإن كان مستحقاً للجنة فإن قلنا إنّ العوض دائم فلا بحث و إن قلنا إنّه منقطع توجه الإشكال بأن يقال: لو أوصل العوض إليه ثمّ انقطع عنه حصل له الألم بانقطاعه.

و الجواب من وجهين: الأوّل: أنّه يوصل إليه عوضه متفرقاً على الأوقات بحيث لا يبيّن له انقطاعه فلا يحصل له الألم.

**********

( جزءاً من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف» و الشارحُ أتى به في آخر الشرح بقوله: «أو نقول: إنّه تعالى يُنقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه متفرقاً على الأوقات بحيث لا تظهر له الخفّة من قبل».

و أمّا الشارح فقد جاء بجواب آخر، و حاصله: انّه يسقط من عقابه في برهة خاصة من الزمان لا مفرقاً على الأوقات، و لما كان الإسقاط غير نفس العوض أولاً، و كان الإسقاط في برهة خاصة يلازم إحساس الراحة أو التخفيف ثانياً حاول إصلاح ذينك الأمرين و قال:

1 - إنّ طبع العوض و إن كان يقتضي إيصال النفع، لكنّه لا فرق بينه و بين دفع الضرر في مقام الإيثار و الاختيار، و بذلك أجاب عن الإشكال الأوّل.

2 - إنّ عظمة الآلام - بعد الإسقاط - تمنع عن إحساس الراحة، بحيث لا يؤثر الإسقاط حتى في نفس تلك البرهة في إحساس الراحة و التخفيف و يقف على أنّ آلامه بعد ذلك الإسقاط أشد، كل ذلك يسلب منه ذكر الراحة و إحساس الخفة.

لكن الأساس غير ثابت، و ما الدليل على أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه بعدم إحساس أهل النار خفة العذاب في برهة إذا كان التخفيف عوضاً؟ و ما ورد في الكتاب العزيز في غير واحد من السور من أنّه لا يخفف عنهم العذاب (1) ناظر إلى التخفيف من غير سبب.

-

1 - البقرة: 86، 162، آل عمران: 88، النحل: 85، فاطر: 36، غافر: 49.

ص: 133

الثاني: أن يتفضل اللّٰه تعالى عليه بعد انقطاعه بمثله دائماً فلا يحصل الألم.

و إن كان مستحقاً للعقاب جعل اللّٰه تعالى عوضه جزءاً من عقابه، بمعنىٰ أنّه يسقط من عقابه بإزاء ما يستحقه من الأعواض، إذ لا فرق في العقل بين إيصال النفع و دفع الضرر في الإيثار، فإذا خفف عقابه و كانت آلامه عظيمة علم أنّ آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب أشد و لا يظهر له أنّه كان في راحة، أو نقول: إنّه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه متفرقاً على الأوقات بحيث لا يظهر له الخفة من قبل.

قال: و لا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختارُ معه الألم و إن كان منقطعاً، و لا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير، و الألم على القطع ممنوعٌ مع أنّه غيرُ محلِّ النزاع.

أقول: لما ذكر وجوب العوض شرع في بيان أحكامه، و قد اختلف الشيخان هنا:

فقال أبو علي الجُبّائي: إنّه يجب دوامه، و قال أبو هاشم: لا يجب، و اختاره المصنف رحمه الله.

و الدليل عليه أنّ العوض إنما حسن لاشتماله على النفع الزائد على الألم أضعافاً يختار معه المولم ألمه، و مثل هذا يتحقق في المنقطع، فكان وجه الحسن فيه ثابتاً فلا تجب إدامته.

و قد احتج أبو علي بوجهين أشار المصنف إلى الجواب عنهما:

الأوّل: أنّه لو كان العوض منقطعاً لوجب إيصاله في الدنيا لأن تأخير الواجب بعد وجوبه و انتفاء الموانع منع للواجب، و إنّما قلنا بانتفاء الموانع

ص: 134

لأن المانع هو الدوام(1) مع انقطاع الحياة المانع من دوامه.

و الجواب: لا نسلم أنّ المانع من تقدمه في الدنيا إنّما هو انقطاع الحياة لجواز أن يكون في تأخيره مصلحة خفية.

الثاني: لو كان العوض منقطعاً لزم دوامه و التالي لا يجامع المقدم، بيان الملازمة: أنّه بانقطاعه يتألم صاحب العوض و الألم يستلزم العوض فيلزم من انقطاعه دوامه.

و الجواب من وجهين: الأوّل: يجوز انقطاعه من غير أن يشعر صاحبه بانقطاعه إمّا لإيصاله إليه على التدريج في الأوقات بحيث لا يشعر بانتفائه لكثرة غيره من منافعه، أو بأن يجعله ساهياً ثمّ يقطعه فلا يتألم حينئذ.

الثاني: أنّه غير محل النزاع لأنّ البحث في العوض المستحق على الألم هل يجب إدامته، و ليس البحث في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر و هكذا دائماً.

قال: و لا يجب إشعارُ صاحبه بإيصاله عوضاً.

أقول: هذا حكم آخر للعوض يفارق به الثواب، و هو أنّه لا يجب

**********

(1) . زعم أبو علي أنّ القول بعدم دوام العوض يلازم أن يكون العوض واصلاً في الدنيا، لا في الآخرة، لأنّ الذي كان يمنع عن وصول العوض في الدنيا هو دوامه، و لكن المفروض انقطاعه، و العوض المنقطع يناسب الحياة المؤقتة، و حيث إنّ الواقع على خلافه و إنّ كثيراً من الأعواض لا تصل في الدنيا نحدس بأنّه دائم يصل عند ابتداء الحياة الدائمة.

و أجاب الشارح بأنّ افتراض انقطاع العوض لا يلازم وصوله في الدنيا، إذ ليس المانع منحصراً في انقطاع الحياة حتى يقال إنّه ليس بمانع، لأنّ العوض أيضاً منقطع، بل هناك مانع آخر، و هو وجود المصلحة الخفية في تأخره.

ص: 135

إشعار مستحقه بتوفيته عوضاً له، بخلاف الثواب إذ يجب في الثواب مقارنة التعظيم و لا فائدة فيه إلا مع العلم به، أمّا هنا فلأنّه منافع و ملاذّ و قد ينتفع و يلتذّ من لا يعلم ذلك، فما يجب إيصاله إلى المثاب(1) في الآخرة من الأعواض يجب أن يكون عالماً به من حيث إنّه مثاب لا من حيث إنّه معوض، و حينئذ أمكن أن يوفّيه اللّٰه تعالى في الدنيا علىٰ بعض المعوضين غير المكلفين و أن ينتصف لبعضهم من بعض في الدنيا فلا تجب إعادتهم في الآخرة.

قال: و لا يتعين منافعُه(2).

أقول: هذا حكم ثالث للعوض، هو أنّه لا يتعين منافعه بمعنىٰ أنّه لا يجب إيصاله في منفعة معينة دون أُخرىٰ بل يصلح توفيته بكل ما يحصل فيه شهوة المعوض(3)، و هذا بخلاف الثواب لأنّه يجب أنّ يكون من جنس ما ألفه المكلف من ملاذّه كالأكل و الشرب و اللبس و المنكح لأنّه رغب به في تحمل المشاقّ، بخلاف العوض فإنّا قد بينا أنّه يصحّ إيصاله إليه و إن لم يعلم أنّه عوض عما وصل إليه من الألم فصحّ إيصاله إليه بكل منفعة.

**********

(1) . المراد من المثاب صاحب المعوض لا المثاب المصطلح، ثمّ الداعي لاعتبار الاستشعار في الثواب دون العوض هو تصوير دفع العوض إلى الحيوان، مع عدم شعوره بالعوض.

ثمّ إنّ الشارح ذكر أنّ دفع العوض لغير المكلفين كالحيوانات لا يتوقف على المعاد، بل يمكن أن يوفّيه اللّٰه تعالى في الدنيا على بعضهم، نعم من لم يوفِّه، يحشر و يعوّض كما قال سبحانه:

«وَ إِذَا اَلْوُحُوشُ حُشِرَتْ» (التكوير: 5).

(2) . الصحيح منافع، و المقصود أنّ العوض لا يشترط أن يكون ممّا ألِفه المكلّف بخلاف الثواب، و لذلك كان عوض الكافر إسقاط العذاب، لا ما ألفه من الأكل و الشرب.

(3) . الصحيح: المعوض له.

ص: 136

قال: و لا يصحُّ إسقاطهُ.

أقول: هذا حكم آخر للعوض و هو أنّه لا يصح إسقاطه و لا هبته ممن وجب عليه في الدنيا و لا في الآخرة، سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا، هذا قول أبي هاشم و قاضي القضاة.

و جزم أبو الحسين بصحة إسقاط العوض علينا إذا استحلّ الظالم من المظلوم و جعله في حل، بخلاف العوض عليه تعالى فإنّه لا يسقط لأنّ اسقاطه عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به.

و احتج القاضي بأنّ مستحق العوض لا يقدر على استيفائه و لا على المطالبة به و لا يعرف مقداره و لا صفته فصار كالصبي المولّىٰ عليه لا يصح له اسقاط حقه عن غريمه.

و الوجه عندي جواز ذلك(1) لأنّه حقه و في هبته نفع للموهوب و يمكن نقل هذا الحق إليه فكان جائزاً. و الحمل على الصبي غير تام لأن الشرع منع الصبي من التصرف في ماله لمصلحة شرعية حتىٰ إنّا لو لا الشرع لجوّزنا من

**********

(1) . إنّ الشارح خالف قول أبي هاشم و قاضي القضاة، حيث إنّهما لم يجوّزا إسقاط العوض مطلقاً سواء كان علينا أم على اللّٰه، و لكنّه قال بإسقاط العوض في الجملة.

كما خالف أبا الحسين البصري، حيث إنّه فصّل في العوض بأنّه لو كان علينا جاز الإسقاط بالاستحلال، دون ما إذا كان على اللّٰه، لأنّ إسقاطه عندئذ عبث لأنّ الإيلام كان لغاية العوض، و المفروض أنّ المكلّف أسقطه، و الشارح خالفه أيضاً و قال بجواز إسقاط العوض مطلقاً سواء كان علينا أو على اللّٰه. و لا يلزم العبث، لأنّ أثر هذا الإسقاط هو الإحسان إلى الغير، إذا وهبه له لا الإسقاط المطلق.

نعم ذهب إلى عدم جواز إسقاط الثواب لأنّه مستحق مع المدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه، و فيه تأمّل إذا كان العمل للغير من أوّل الأمر و نوى الإتيان به لأجله.

ص: 137

الصبي المميز إذا علم(1) دينه، و أنّ هبته احسان إلى الغير(2) و آثر هذا الإحسان(3) لانتفاء الضرر عنه مع اشتماله على الاختيار في الهبة لأنّه كالبالغ لكن الشرع فرق بينهما.

و على هذا لو كان العوض مستحقاً عليه تعالى أمكن هبته مستحقة لغيره من العباد، لما ذكرنا من أنّه حقه و في هبته انتفاع الموهوب(4) و إمكان نقل هذا الحق، أمّا الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصحّ منّا هبته لغيرنا لأنّه مستحق بالمدح فلا يصح نقله إلىٰ من لا يستحقه.

قال: و العوضُ عليه تعالى يجب تزايُدُه إلىٰ حدِّ الرضا عند كلِّ عاقلٍ، و علينا يجب مساواتُه.

أقول: هذا حكم آخر للعوض، و هو أنّه إمّا أن يكون علينا أو عليه تعالى.

أمّا العوض الواجب عليه تعالى فإنّه يجب أن يكون زائداً عن الألم الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل، زيادة تنتهي إلىٰ حد الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به لأنّه لو لا ذلك لزم الظلم أمّا مع مثل هذا العوض فإنّه يصير كأنّه لم يفعل.

و أمّا العوض علينا فإنّه يجب مساواته لما فعله من الألم أو فوَّتهُ من المنفعة لأن الزائد علىٰ ما يستحق عليه من الضمان يكون ظلماً و لا يخرج ما

**********

(1) . بفتح الدال أي مقدار حقه، و هذا من الموارد التي افترق فيها حكم الشرع عن حكم العقل، و بذلك ربّما نوقضت القاعدة الملازمة فتأمّل.

(2) . تعليل لحسن إسقاطه لأنّ فيه إحساناً إلى الغير.

(3) . أي إنّما اختار هذا الإحسان لانتفاء الضرر عنه.

(4) . الصحيح: الموهوب له.

ص: 138

فعلناه بالضمان عن كونه ظلماً قبيحاً فلا يلزم أن يبلغ الحد الذي شرطناه في الآلام الصادرة منه تعالى.

المسألة الخامسة عشرة: في الآجال

قال: و أجلُ الحيوان(1) الوقتُ الذي علم اللّٰهُ تعالى بطلان حياته فيه.

أقول: لما فرغ من البحث عن الأعواض انتقل إلى البحث عن الآجال، و إنّما بحث عنه المتكلمون لأنهم بحثوا عن المصالح و الألطاف و جاز أن يكون موت إنسان في وقت مخصوص لطفاً لغيره من المكلفين فبحثوا عنه(2) بعد بحثهم عن المصالح.

و اعلم أنّ الأجل هو الوقت، و نعني بالوقت هو الحادث(3) أو ما يقدّر تقدير الحادث(4)، كما يقال: جاء زيد عند طلوع الشمس، فإنّ طلوع الشمس أمر حادث معلوم لكل أحد فجعل وقتاً لغيره، و لو فرض جهالة طلوع

**********

(1) . الأجل يطلق و يراد منه تارة نهاية المدة كما في أجل الحيوان و الإنسان، و أُخرى مجموع المدة مثل قوله سبحانه: (أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاٰ عُدْوٰانَ عَلَيَّ...) (القصص: 28).

أي من الثماني و العشر حجج.

(2) . أي بحثوا عن الموت بعد البحث عن حسنه لكونه سبباً لنيل الكمال.

(3) . و الأولى أن يقيّده بالمعلوم، و لأجله ربّما يكون طلوع الشمس وقتاً لمجيء زيد و أُخرى يكون مجيء زيد وقتاً له كما يصرّح بذلك.

(4) . الظاهر أنّه يريد تقسيم الوقت إلى وقت عام و خاص، و الأوّل ما يقدَّر به أكثر الحوادث كالليل و النهار و طلوع الشمس و غروبه، و الثاني ما يقدَّر به بعض الحوادث، كنسبة بعض الحوادث إلى مجيء زيد.

ص: 139

الشمس و علم مجيء زيد لبعض الناس صحّ أن يقال: طلعت الشمس عند مجيء زيد.

إذا عرفت هذا فأجل الحيوان هو الوقت الذي علم اللّٰه تعالى بطلان حياة ذلك الحيوان فيه، و أجل الدين هو الوقت الذي جعله الغريمان محلاً له(1).

قال: و المقتولُ يجوز فيه الأمرانِ لولاه.

أقول: اختلف الناس في المقتول لو لم يقتل، فقالت المجبرة: إنّه كان يموت قطعاً، و هو قول أبي الهذيل العلاف.

و قال بعض البغداديين: إنّه كان يعيش قطعاً.

و قال أكثر المحققين: إنّه كان يجوز أنّ يعيش و يجوز أنّ يموت، ثمّ اختلفوا: فقال قوم منهم(2) إن من كان المعلوم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان.

**********

(1) . أي سبباً لكون الدين حالاّ في مقابل كونه مؤجلاً.

(2) . المقصود بعض البغداديين القائلون بأنّه كان يعيش قطعاً لو لا القتل، فذكروا أنّ له أجلين أجلاً مطلقاً و أجلاً مسمى فالوقت الذي قتل فيه أجل مسمى، و الأجل الذي كان يعيش إليه لو لا القتل، أجل مطلق.

و إلى ذلك يشير قوله سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» (الأنعام: 2)، فالأجل المطلق هو الذي كان في إمكان هذا الفرد أن يعيش إليه حسب استعداد بدنه و قواه، و المسمى هو الأجل الذي لا يتقدم و لا يتأخر.

ص: 140

و قال الجُبّائيان و أصحابهما و أبو الحسين البصري: إنّ أجله هو الوقت الذي قتل فيه و ليس له أجل آخر(1) لو لم يقتل، فما كان يعيش(2) إليه ليس بأجل له الآن حقيقي بل تقديري.

و احتج الموجبون لموته بأنّه لولاه لزم خلاف معلوم اللّٰه(3) تعالى و هو محال.

و احتج الموجبون لحياته بأنّه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسناً إليه، و لما وجب القود لأنّه لم يفوّت حياته.

و الجواب عن الأوّل: ما تقدم من أنّ العلم لا يؤثر في المعلوم(4).

**********

(1) . يريد أنّ الأجل الذي سمّيناه أجلاً مطلقاً ليس أجلاً حقيقياً بل أجل تقديريّ و أنّه لو لم يُقتل لعاش إلى هذا الحد.

(2) . ما في قوله: «فما» زمانية أي المدّة التي كان يعيش إليه لو لا القتل.

(3) . يريد: أنّه إذا تعلّق علمه بالمسبب أي القتل في وقت كذا، يجب أن يموت على كل تقدير، و لو لم يُقتل لمات بسبب آخر.

قال سبحانه: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلىٰ مَضٰاجِعِهِمْ...» (آل عمران: 154).

(4) . يعني أنّ علمه سبحانه ليس سبباً للقتل، بل لوقوعه سبب خاص، و الظاهر أنّ الجواب غير نافع لأنّ الخصم لا يدّعي أنّ علمه سبحانه سبب للقتل و علّة له حتى يقال العلم تابع كما قالوه عند ردّ كون علمه سبباً للجبر، بل يدّعي أنّ علمه تعلّق بموته، أي المسبب، و افتراض أنّه يعيش لو لم يُقتل، يخالف علمه الكاشف غير المتخلف.

و الأولى أن يقال: إنّه صحيح إذا تعلّق علمه القطعي بموته، فعند ذلك لو لم يقتل لمات بعامل آخر، كما في الآية، و لكن المنكشف لنا، هو تعلّق علمه بأنّه يموت بالقتل و أمّا أنّه يموت مطلقاً و لو لم يقتل فليس بمنكشف لنا.

ص: 141

و عن الثاني: بمنع الملازمة، إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضاً زائداً على اللّٰه تعالى، فبذبحه فوّت عليه الأعواض(1) الزائدة، و القود من حيث مخالفة الشارع إذ قتله حرام عليه و إن علم موته، و لهذا لو أخبر الصادق بموت زيد لم يجز لأحد قتله.

قال: و يجوز أن يكون الأجلُ لطفاً للغير لا للمكلَّف.

أقول: لا استبعاد في أن يكون أجل الإنسان لطفاً لغيره من المكلّفين و لا يمكن أن يكون لطفاً للمكلَّف نفسه لأنّ الأجل يطلق علىٰ عمره و حياته، و يطلق علىٰ أجل موته.

أمّا الأوّل: فليس بلطف لأنّه تمكين له من التكليف و اللطف زائد علىٰ التمكين.

و أمّا الثاني: فهو قطع التكليف، فلا يصح أن يكلّف بعده فيكونَ لطفاً له فيما يكلّفه من بعد، و اللطف لا يصح أن يكون لطفاً فيما مضىٰ.

المسألة السادسة عشرة: في الأرزاق

قال: و الرزقُ ما صحَّ الانتفاع به و لم يكن لأحد منعه منه.

**********

(1) . يريد أنّ ذابح غنم الغير ليس محسناً لأنّه فوّت عليه الأعواض التي هي على اللّٰه إذا مات بغير ذبح، كما عرفت من لزوم العوض على اللّٰه عند الآلام و المصائب إذا كانت مستندة إليه سبحانه.

ص: 142

أقول: الرزق عند المجبرة(1) ما أكل، سواء كان حراماً أو

حلالاً.

و عند المعتزلة أنّه ما صح الانتفاع به و لم يكن لأحد منع المنتفع به، لقوله تعالى: «وَ أَنْفِقُوا مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ»(2) و اللّٰه تعالى لا يأمر بالإنفاق من الحرام، قالوا: و لا يوصف الطعام المباح في الضيافة أنّه رزقه ما لم يستهلكه لأن للمبيح منعه قبل استهلاكه بالمضغ و البلع و كذا طعام البهيمة ليس رزقاً لها قبل أن تستهلكه لأنّ للمالك منعها منه إلاّ إذا وجب رزقها عليه، و الغاصب إذا استهلك الطعام المغصوب بالأكل لا يوصف بأنّه رزقه لأنّ اللّٰه تعالى منعه من الانتفاع به بعد مضغه و بلعه لأن تصرفاته أجمع محرمة، بخلاف من أبيح له الطعام لأنّه بعد المضغ و البلع لا يحسن من أحد تفويته الانتفاع به لانه معدود فيما تقدم من الأسباب المؤدية إلى الانتفاع به.

و ليس الرزق هو الملك(3)، لأن البهيمة مرزوقة و ليست مالكة، و اللّٰه تعالى

**********

(1) . عرّف المجبرةُ الرزق بأنّه ما أكل، سواء كان حراماً أو حلالاً، و عرفه المعتزلة بما صح الانتفاع به و لم يكن لأحد منع المنتفع به، و بالقيد الأخير خرج الطعام المغصوب، و ما يُقدَّم إلى الضيف من المأكول، و علف البهيمة، لوجود المنع في الأوّل و جوازه في الأخيرين، و لأجل ذلك لا يُعدّ الأوّل رزقاً حتى بعد الاستهلاك بخلافه في الأخيرين فلا يعدّ إلاّ بعد المضغ و البلع.

يلاحظ على ما ذكروه أنّ الباحثين لم يفرقوا بين الرزق التكويني و التشريعي، و على الأوّل لا فرق بين الحلال و الحرام، و قبل الاستهلاك و عدمه. و على الثاني فما ينتفع به الغاصب و الفأرة و الهرة رزق لها، و يصدق عليها قوله: (وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا وَ مُسْتَوْدَعَهٰا) (هود: 6).

نعم الرزق التشريعي مخصوص بما ذكره المعتزلة، ثمّ الرزق أعم من الأكل، فهو يعمّ الملبوس و المشموم و المسموع و غير ذلك.

(2) . المنافقون: 10.

(3) . النسبة بين الملك و الرزق عموم و خصوص من وجه، و اللّٰه سبحانه مالك الأشياء و ليست الأشياء رزقاً له، و ما ينتفع به الحيوان رزق له و ليس مالكاً له و ما يملكه الإنسان و ينتفع به فهو رزق له.

ص: 143

مالك و لا يقال إن الأشياء رزق له تعالى، و الولد و العلم رزق لنا و ليسا ملكاً لنا، فحينئذ الأرزاق كلها من قبله تعالى لأنّه خالق جميع ما ينتفع به و هو المتمكِّن من الانتفاع و التوصل إلى اكتساب الرزق و هو الذي يجعل العبد أخص بالانتفاع به بعد الحيازة أو غيرها من الأسباب الموصلة إليه و يحظر علىٰ غيره منعه من الانتفاع و هو خالق الشهوة التي بها يتمكن من الانتفاع.

قال: و السعيُ في تحصيله قد يجب و يستحب و يباح و يحرم.

أقول: ذهب جمهور العقلاء إلىٰ أن طلب الرزق سائغ(1) و خالف فيه بعض الصوفية، لاختلاط الحرام بالحلال بحيث لا يتميز، و ما هذا سبيله يجب الصدقة به فيجب على الغني دفع ما في يده إلى الفقير بحيث يصير فقيراً ليحل له أخذ الأموال الممتزجة بالحرام، و لأنّ في ذلك مساعدة للظالمين بأخذ العشور و الخراجات و مساعدة الظالم محرمة.

و الحق ما قلناه، و يدلّ عليه المعقول و المنقول:

أمّا المعقول فلأنّه دافع للضرر فيكون واجباً.

و أمّا المنقول فقوله تعالى: «وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّٰهِ»(2) إلىٰ غيرها من الآيات، و قوله عليه السلام: «سافروا تغنموا»(3) أمر بالسفر لأجل الغنيمة.

و الجواب عن الأوّل: بالمنع من عدم التميز، إذ الشارع ميّز الحلال من

**********

(1) . دلت الآيات و الروايات على كونه جائزاً، و الشاك في جوازه خارج عن الفطرة الإنسانية، و ما نسب إلى الصوفية غير واضح، و قد روى المفسرون في تفسير قوله سبحانه: (إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلرَّزّٰاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ) (الذاريات: 58) ما يشبه تلك النظرية، و ملاك التقسيم جاء في آخر كلام الشارح، و هو أنّ الحاجة ملاك الوجوب، و طلب التوسعة مناط الاستحباب، و الغنى عن التوسعة ملاك الإباحة، و المانع عن القيام بالواجب ملاك الحرمة و لم يذكر المكروه، و هو متصوّر باعتبار أسباب الكسب المكروه.

(2) . الجمعة: 10.

(3) . البحار: 221/73.

ص: 144

الحرام بظاهر اليد، و لأنّ تحريم التكسب من هذه الحيثية يقتضي تحريم التناول و اللازم باطل اتفاقاً.

و عن الثاني: أنّ المكتسب غرضه الانتفاع بزراعته أو تجارته لا تقوية الظلمة.

إذا عرفت هذا فالسعي في طلب الرزق قد يجب مع الحاجة، و قد يستحب إذا طلب التوسعة عليه و على عياله، و قد يباح مع الغنىٰ عنه، و قد يحرم مع منعه عن الواجب.

المسألة السابعة عشرة: في الأسعار

قال: و السعر تقديرُ العوض الذي يُباع به الشيءُ(1)، و هو رَخْصٌ و غَلاءٌ و لا بد من اعتبار العادة و اتحادِ الوقت و المكان، و يستند إليه تعالى و إلينا أيضاً.

أقول: السعر هو تقدير العوض الذي يباع به الشيء، و ليس هو الثمن و لا المثمن، و هو ينقسم إلىٰ رخص و غلاء، فالرخص هو السعر المنحط عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت و المكان، و الغلاء زيادة السعر عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت و المكان.

**********

(1) . لم يقل: الثمن، لأنّ العوض ربّما يكون من غير النقدين، و هذا بخلاف الثمن، فكلّ ما يعادل المعوض في التقويم، فهو عوض سواء كان من النقدين أو غيرهما، ثمّ السعر ينقسم إلى رخص و غلاء، و التقسيم فرع وجود سعر محدّد معلوم حتى ينسبا إليهما، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: «و لا بد من اعتبار العادة»، أي جرت العادة في كل زمان و مكان على تقويم الشيء بسعر معين ثمّ تنسيب السعر الثاني إليه، فعندئذ يكون إمّا رخيصاً أو غالياً. ثمّ إنّه يشترط في وصف السعر بأحد الأمرين من الوحدة في الوقت و المكان كما أوضحه الشارح.

ثمّ إنّ رُخْصَ السعر و غلاءه يكون ناشئاً غالباً من وفور المتاع و قلة الطلب فيكون رخيصاً، أو بالعكس فيكون غالياً، و هذا لا ينافي أن يكونا مستندين لإرادته سبحانه.

ص: 145

و إنّما اعتبرنا الزمان و المكان لأنّه لا يقال إن الثلج قد رخص سعره في الشتاء عند نزول الثلج، لأنّه ليس أوان بيعه، و يجوز أن يقال رخص في الصيف، إذا نقص سعره عما جرت به عادته في ذلك الوقت، و لا يقال رخص سعره في الجبال التي يدوم نزوله فيها، لأنّها ليست مكان بيعه، و يجوز أن يقال رخص سعره في البلاد التي اعتيد بيعه فيها.

و اعلم أنّ كل واحد من الرخص و الغلاء قد يكون من قبله تعالى، بأن يقلل جنس المتاع المعين و يكثر رغبة الناس إليه فيحصل الغلاء لمصلحة المكلّفين، و قد يكثر جنس ذلك المتاع و يقلل رغبة الناس إليه تفضلاً منه تعالى و إنعاماً أو لمصلحة دينية فيحصل الرخص؛ و قد يحصلان من قبلنا، بأن يحمل السلطان الناس علىٰ بيع تلك السلعة بسعر غال ظلماً منه أو لاحتكار الناس أو لمنع الطريق خوف الظلمة أو لغير ذلك من الأسباب المستندة إلينا فيحصل الغلاء، و قد يحمل السلطان الناس علىٰ بيع السلعة برخص ظلماً منه أو يحملهم علىٰ بيع ما في أيديهم من جنس ذلك المتاع فيحصل الرخص.

المسألة الثامنة عشرة: في الأصلح

قال: و الأصلح قد يجب(1) لوجود الداعي و انتفاءِ الصارفِ.

أقول: اختلف الناس هنا: فقال الشيخان أبو علي و أبو هاشم و أصحابهما: إنّ الأصلح ليس بواجب على اللّٰه تعالى.

**********

(1) . المقصود من الأصلح أنّه سبحانه لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم، قال المفيد: «إنّ اللّٰه تعالى لا يفعل بعباده ما داموا مكلفين إلاّ أصلح الأشياء لهم في دينهم و دنياهم، و إنّه لا يدَّخرهم صلاحاً و لا نفعاً، و إنّ من أغناه فقد فعل به الأصلح في التدبير، و كذلك من أفقره و من أصحّه و من أمرضه فالقول فيه كذلك» (1).

-

1 - المفيد: أوائل المقالات: 25-26، ط. تبريز.

ص: 146

و قال البلخي: إنّه واجب، و هو مذهب البغداديين و جماعة من البصريين.

و قال أبو الحسين البصري: إنّه يجب في حال دون حال، و هو اختيار المصنف رحمه الله، و تحرير صورة النزاع: أنّ اللّٰه تعالى إذا علم انتفاع زيد بإيجاد قدر من المال له و انتفاء الضرر به في الدين عنه و عن غيره من المكلفين هل يجب إيجاد ذلك القدر له أم لا؟

احتج الموجبون: بأنّ للّٰه تعالى داعياً إلىٰ إيجاده و ليس له صارف عنه فيجب ثبوته لأنّ مع ثبوت القدرة و وجود الداعي و انتفاء الصارف يجب الفعل.

و بيان تحقق الداعي أنّه إحسان خال عن جهات المفسدة، و بيان انتفاء الصارف أنّ المفاسد منتفية و لا مشقة فيه.

و احتجّ النفاة: بأن وجوبه يؤدي إلى المحال فيكون محالاً.

بيان الملازمة(1): أنّا لو فرضنا انتفاء المفسدة في الزائد علىٰ ذلك القدر و ثبوت المصلحة فإن وجب إيجاده لزم وقوع ما لا نهاية له لأنّا نفرض ذلك في كل زائد، و إن لم يجب ثبت المطلوب.

**********

(1) . توضيحه أنّه إذا كان إغناء إنسان على قدر خاص مقروناً بالمصلحة فيجب إيجاده، فلو فرض وجود المصلحة في المقدار الزائد يجب أيضاً إيجاده، و هكذا، فيلزم وجوب إيجاد ما لا نهاية له و هو أمر ممتنع.

يلاحظ عليه بوجهين: أوّلاً: إذا كان الزائد بالغاً حدّ الممتنع فلا تتعلق به القدرة فيخرج عن موضوع البحث.

و ثانياً: لا ملازمة بين كون الأقل مصلحة، و كون الأكثر أيضاً مثله، قال سبحانه: «إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ * أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىٰ» (العلق: 6-7)، فربّما يكون الزائد موجباً لكفره أو فسقه أو قلّة مبالاته بالدين.

ص: 147

قال أبو الحسين: إذا كان ذلك القدر مصلحة(1) خالية عن المفسدة و كان الزائد عليه مفسدة وجب عليه أن يعطيه ذلك القدر لوجود الداعي و انتفاء الصارف، و إذا لم يكن في الزائد مفسدة إلىٰ غير النهاية فإنّه تعالى قد يفعل ذلك القدر و قد لا يفعله لأن من دعاه الداعي إلى الفعل و كان ذلك الداعي حاصلاً في فعل ما يشق فإنّ ذلك يجري مجرى الصارف عنه فيصير الداعي متردداً بين الداعي و الصارف فلا يجب الفعل و لا الترك، و تمثل بأن من دعاه الداعي علىٰ دفع درهم إلىٰ فقير و لم يظهر له ضرر في دفعه فإنّه يدفعه إليه، فإن حضره من الفقراء جماعة يكون الدفع إليهم مساوياً للدفع إلى الأوّل و يشقّ عليه الدفع إليهم لحصول الضرر فإنّه قد يدفع الدرهم إلى الفقير منهم و قد لا يدفعه، فإذا كان حصول الداعي فيما يشق يقتضي تجويز العدم فحصوله فيما يستحيل وجوده أولىٰ لانتفاء الفعل معه، فلهذا قال قد يجب الأصلح في بعض الأحوال دون بعض.

و للنفاة وجوه أُخر، ذكرناها في كتاب نهاية المرام على الاستقصاء. قال:

**********

(1) . المذكور في كلامه الشقوق التالية:

1 - إذا كان ذلك القدر مصلحة و في الزائد مفسدة فحينئذٍ يلزم الاكتفاء بالأقل.

2 - إذا لم تكن في الزائد مفسدة مطلقاً في عامّة المراحل لكن كان فعل الزائد على القدر شاقاً على اللّٰه سبحانه، فتكون المشقة بمنزلة الصارف عن الفعل.

3 - إذا لم يكن شاقاً بل كان مستلزماً للمحال إذا افترضنا إيجاد ما لا يتناهى.

و لا يخفى ما فيه من الوهن لعدم تصور القسم الثاني في حقّه سبحانه، قال أمير المؤمنين: «و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوي و الضعيف في خلقه إلاّ سواء» (1).

ثمّ ذكر الشارح أنّه نقل أدلّة النفاة في كتابه نهاية المرام (2)، و هي أبسط كتاب كلامي له و لكن النسخ الموجودة بين أيدينا أقل من هذا، حيث لم تصل إلى الإلهيات، رزقنا اللّٰه النسخة الكاملة منها.

-

1 - نهج البلاغة، الخطبة: 185.

2 - و هي بقيد التحقيق.

ص: 148

المقصد الرابع في: النبوة العامة و الخاصة

اشارة

ص: 149

ص: 150

البعثةُ حسنةٌ، لاشتمالها علىٰ فوائدَ: كمُعاضَدةِ العقل فيما يدلّ عليه و استفادةِ الحكم فيما لا يدل، و إزالةِ الخوف، و استفادةِ الحسن و القبح و النافع و الضارّ، و حفظِ النوع الانساني، و تكميلِ أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفةِ، و تعليمهم الصنائع الخفية، و الأخلاق و السياسات، و الإخبار بالعقاب و الثواب فيحصل اللطفُ للمكلَّفِ.

أقول: في هذا المقصد مسائل:

المسألة الأُولىٰ: في حسن البعثة

المسألة الأُولىٰ: في حسن البعثة(1)

اختلف الناس في ذلك، فذهب المسلمون كافة و جميع أرباب الملل و جماعة من الفلاسفة إلىٰ ذلك، و منعت البراهمة منه.

**********

(1) . عقد الماتن بحثين: أحدهما في حسن البعثة و ذكر له تسعة أوجه. ثانيهما في وجوب البعثة و ذكر له وجهاً واحداً كما سيوافيك، و المهم من هذه الأوجه التسعة هو الوجه الخامس الذي أشار إليه بقوله: «و حفظ النوع الإنساني»، و قد أوضحناه في كتاب الإلهيات، فراجع (1).

و إنّما عقد بحثين، لأجل أنّ الحسن ينقسم إلى أقسام أربعة تقدم ذكرها ص 56، فليس الحسن ملازماً للوجوب و إن كان في المقام ملازماً معه.

ثمّ إنّه فسر قولهم: التكاليف السمعية ألطاف في الأحكام العقلية، بأنّ الأُولى توجِد في الإنسان روح الطاعة فيكون من امتثال الأحكام العقلية أقرب.

-

1 - الإلٰهيات: 23/3-29.

ص: 151

و الدليل علىٰ حسن البعثة أنّها قد اشتملت علىٰ فوائد و خلت عن المفاسد فكانت حسنة قطعاً، و قد ذكر المصنف رحمه الله جملة من فوائد البعثة:

منها: أن يعتضد العقل بالنقل فيما يدل العقل عليه من الأحكام كوحدة الصانع و غيرها، و أن يستفاد الحكم من البعثة فيما لا يدلّ العقل عليه كالشرائع و غيرها من مسائل الأصول.

و منها: إزالة الخوف الحاصل للمكلَّف عند تصرفاته، إذ قد علم بالدليل العقلي أنّه مملوك لغيره و أنّ التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح، فلولا البعثة لما علم حسن التصرفات، فيحصل الخوف بالتصرف و بعدمه إذ يجوّز العقل طلب المالك من العبد فعلاً لا سبيل إلىٰ فعله إلاّ بالبعثة فيحصل الخوف.

و منها: أنّ بعض الأفعال حسنة و بعضها قبيحة، ثمّ الحسنة منها ما يستقل العقل بمعرفة حسنه و منها ما لا يستقل، و كذا القبيحة، و مع البعثة يحصل معرفة الحسن و القبح اللذين لا يستقل العقل بمعرفتهما.

و منها: أنّ بعض الأشياء نافعة لنا مثل كثير من الأغذية و الأدوية و بعضها ضارّ لنا مثل كثير من السموم و الحشائش و العقل لا يدرك ذلك كلّه و في البعثة تحصل هذه الفائدة العظيمة.

و منها: أنّ النوع الإنساني خلق لا كغيره من الحيوانات، فإنّه مدني بالطبع يحتاج إلىٰ أُمور كثيرة في معاشه لا يتمّ نظامه إلا بها، و هو عاجز عن فعل الأكثر منها إلاّ بمشاركة و معاونة، و التغلب موجود في الطبائع البشرية بحيث يحصل التنافر المضادّ لحكمة الاجتماع، فلا بدّ من جامع يقهرهم على الاجتماع و هو السنّة و الشرع، و لا بدّ للسنّة من شارع يسنّها و يقرّر ضوابطها،

ص: 152

و لا بدّ و أن يتميز ذلك الشخص من غيره من بني نوعه لعدم الأولوية، و ذلك المائز لا يجوز أن يكون مما يحصل من بني النوع لوقوع التنافر في التخصيص، فلا بدّ و أن يتميز من قبل اللّٰه تعالى بمعجزة ينقاد البشر إلىٰ تصديق مدعيها و يخوفهم من مخالفته و يعدهم علىٰ متابعته بحيث يتم النظام و يستقر حفظ النوع الإنساني علىٰ كماله الممكن له.

و منها: أنّ أشخاص البشر متفاوتة في إدراك الكمالات و تحصيل المعارف و اقتناء الفضائل، فبعضهم مستغن عن معاون لقوة نفسه و كمال إدراكه و شدة استعداده للاتصال بالأُمور العالية، و بعضهم عاجز عن ذلك بالكلية، و بعضهم متوسط الحال و تتفاوت مراتب الكمال في هذه المرتبة بحسب قربها من أحد الطرفين و بعدها عن الآخر، و فائدة النبي تكميل الناقص من أشخاص النوع بحسب استعداداتهم المختلفة في الزيادة و النقصان.

و منها: أنّ النوع الإنساني محتاج إلىٰ آلات و أشياء نافعة في بقائه كالثياب و المساكن و غيرها و ذلك مما يحتاج في تحصيله إلىٰ معرفة عمله و القوة البشرية عاجزة عنه، ففائدة النبي في ذلك تعليم هذه الصنائع النافعة الخفية.

و منها: أنّ مراتب الأخلاق و تفاوتها معلوم يفتقر فيه إلىٰ مكمل بتعليم الأخلاق و السياسات بحيث تنتظم أُمور الإنسان بحسب بلده و منزله.

و منها: أنّ الأنبياء يعرفون الثواب و العقاب علىٰ الطاعة و تركها فيحصل للمكلّف اللطف ببعثتهم، فتجب بعثتهم لهذه الفوائد.

قال: و شبهةُ البراهمةِ باطلةٌ بما تقدَّم.

أقول: احتجّت البراهمة على انتفاء البعثة بأنّ الرسول إمّا أن يأتي بما

ص: 153

يوافق العقول أو بما يخالفها، فإنّ جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة و لا فائدة فيه، و إن جاء بما يخالف العقول وجب ردّ قوله.

و هذه الشبهة باطلة بما تقدم في أوّل الفوائد، و ذلك أن نقول: لم لا يجوز أن يأتوا بما يوافق العقول و تكون الفائدة فيه التأكيد لدليل العقل؟ أو نقول: لم لا يجوز أن يأتوا بما لا تقتضيه العقول و لا تهتدي إليه و إن لم يكن مخالفاً للعقول بمعنىٰ أنهم لا يأتون بما يقتضي العقل نقيضه، مثل كثير من الشرائع و العبادات التي لا يهتدي العقل إلىٰ تفصيلها.

المسألة الثانية: في وجوب البعثة

قال: و هي واجبةٌ لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقلية.

أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إنّ البعثة واجبة.

و قالت الأشعرية: إنّها غير واجبة.

احتجت المعتزلة: بأنّ التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية، و اللطف واجب فالتكليف السمعي واجب و لا تمكن معرفته إلاّ من جهة النبي فيكون وجود النبي واجباً لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.

و استدلّوا علىٰ كون التكليف السمعي لطفاً في العقلي بأن الانسان إذا كان مواظباً علىٰ فعل الواجبات السمعية و ترك المناهي الشرعية كان من فعل الواجبات العقلية و الانتهاء عن المناهي العقلية أقرب، و هذا معلوم بالضرورة لكل عاقل، و قد بيّنا فيما تقدم أنّ اللطف واجب.

ص: 154

المسألة الثالثة: في وجوب العصمة

قال: و يجب في النبي العصمةُ(1) ليحصل الوثوقُ فيحصل الغرضُ، و لوجوب متابعته و ضدِّها، و الإنكار عليه.

أقول: اختلف الناس هنا: فجماعة المعتزلة جوّزوا الصغائر على الأنبياء إمّا علىٰ سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم أو علىٰ سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم منهم أو لأنّها تقع محبطة بكثرة ثوابهم.

و ذهبت الأشعرية و الحشوية إلىٰ أنّه يجوز عليهم الصغائر و الكبائر إلاّ الكفر و الكذب.

و قالت الإمامية: إنّه تجب عصمتهم عن الذنوب كلّها صغيرها و كبيرها، و الدليل عليه وجوه:

**********

(1) . كان اللازم على المحقق الطوسي - قدّس سرّه تعريف العصمة و تحقيق ماهيتها قبل الحكم بوجوب اتّصاف الأنبياء بها، و من أراد الوقوف عليهما فليرجع إلى مفاهيم القرآن (1)، و قد أقام - قدّس سرّه على عصمة الأنبياء براهين ثلاثة، و المهم هو الأوّل منها لإمكان مناقشة الدليل الثاني بأنّ المطاوعة إنّما تجب إذا كانت هناك موافقة بين القول و العمل فتخرج ما إذا كانت مخالفة، و قوله سبحانه: (لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21) لا يتجاوز عن كونه دليلاً مطلقاً فيقيد بالموافقة، فتخرج صورة المخالفة بحكم العقل.

و مثل الثاني، الدليل الثالث، لإمكان الالتزام بعدم حرمة الإيذاء إذا كان عن حق، و إلاّ فالمؤمن كالنبي يحرم إيذاؤه، فلو حرم إيذاؤه في هذه الحالة يلزم عدم جواز أمره بالمعروف إذا تركه أو نهيه عن المنكر إذا ارتكبه إذا كان الأمر أو النهي سبباً للإيذاء.

-

1 - مفاهيم القرآن: 371/4-405.

ص: 155

أحدها: أنّ الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام إنّما يحصل بالعصمة، فتجب العصمة تحصيلاً للغرض.

و بيان ذلك أنّ المبعوث إليهم لو جوّزوا الكذب على الأنبياء و المعصية جوزوا في أمرهم و نهيهم و أفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك، و حينئذ لا ينقادون إلىٰ امتثال أوامرهم، و ذلك نقض للغرض من البعثة.

الثاني: أنّ النبي تجب متابعته، فإذا فعل معصية فإمّا أن تجب متابعته أو لا و الثاني باطل لانتفاء فائدة البعثة، و الأوّل باطل لأنّ المعصية لا يجوز فعلها، و أشار بقوله: «لوجوب متابعته و ضدّها» إلىٰ هذا الدليل لأنّه بالنظر إلىٰ كونه نبياً تجب متابعته و بالنظر إلىٰ كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه.

الثالث: أنّه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر و ذلك يستلزم إيذاءه و هو منهي عنه و كلّ ذلك محال.

قال: و كمالُ العقل و الذّكاء و الفطنةُ و قوةُ الرأي و عدم السهو و كلّ ما ينفر عنه من دناءة الآباء و عهر الأُمّهات(1) و الفظاظة و الغلظة و الأُبنة و شبهها و الأكل على الطريق و شبهه.

أقول: يجب أن يكون في النبي هذه الصفات التي ذكرها و قوله: «و كمال العقل» عطف على العصمة، أي و يجب في النبي كمال العقل، و ذلك ظاهر.

و أن يكون في غاية الذكاء و الفطنة و قوة الرأي، بحيث لا يكون ضعيف الرأي متردداً في الأُمور متحيّراً لأن ذلك من أعظم المنفرات عنه.

**********

(1) . لم يذكر من صفات الآباء و الأُمّهات إلاّ العهر و عدم الدناءة، و كان عليه أن يذكر كونهما موحدين، غير عابدين للوثن كما ذكره المفيد (1).

-

1 - المفيد: أوائل المقالات: 12-13.

ص: 156

و أن لا يصح عليه السهو لئلا يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه.

و أن يكون منزهاً عن دناءة الآباء و عهر الأُمّهات لأن ذلك منفر عنه.

و أن يكون منزهاً عن الفظاظة و الغلظة لئلاّ يحصل النفرة عنه.

و أن يكون منزهاً عن الأمراض المنفرة نحو الأُبنة و سلس الريح و الجذام و البرص، و عن كثير من المباحات الصارفة عن القبول منه القادحة في تعظيمه نحو الأكل على الطريق و غير ذلك لأن ذلك كلّه مما ينفر عنه فيكون منافياً للغرض من البعثة.

المسألة الرابعة: في الطريق إلىٰ معرفة صدق النبي

قال: و طريق معرفة صدقِه ظهورُ المعجزِ علىٰ يده، و هو ثبوتُ ما ليس بمعتادٍ أو نفيُ ما هو معتادٌ(1) مع خرق العادة و مطابقةِ الدعوىٰ.

**********

(1) . عرّف المعجز بقيود ثلاثة:

1 - ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد.

2 - مع خرق العادة.

3 - مطابقة الدعوى.

و الظاهر إغناء القيد الأوّل عن الثاني، لأنّ ثبوت ما ليس بمعتاد يكون ملازماً لخرق العادة، و هكذا نفي ما هو معتاد مثله، و الأولى أن يعرف بأنّه أمر خارق العادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة و يكون عمله مطابقاً لدعواه (1).

-

1 - الإلٰهيات: 69/3-72.

ص: 157

أقول: لما ذكر صفات النبي وجب عليه ذكر بيان معرفة صدقه، و هو شيء واحد، و هو ظهور المعجز علىٰ يده، و نعني بالمعجز ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة و مطابقة الدعوىٰ، لأنّ الثبوت و النفي سواء في الإعجاز فإنّه لا فرق بين قلب العصا حية و بين منع القادر عن رفع أصغر الأشياء.

و شرطنا خرق العادة لأنّ فعل المعتاد أو نفيه لا يدلّ على الصدق.

و قلنا مع مطابقة الدعوىٰ لأنّ من يدّعي النبوة و يسند معجزته إلىٰ إبراء الأعمىٰ فيحصل له الصمم مع عدم برء العمىٰ لا يكون صادقاً.

و لا بد في المعجز من شروط:

أحدها: أن يعجز عن مثله أو ما يقاربه الأُمّة المبعوث إليها.

الثاني: أن يكون من قبل اللّٰه تعالى أو بأمره.

الثالث: أن يكون في زمان التكليف لأنّ العادة تنتقض عند أشراط الساعة.

الرابع: أن يحدث عقيب دعوى المدعي للنبوة أو جارياً مجرى ذلك(1)، و نعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوى النبي في زمانه و أنّه لا مدعي للنبوة غيره(2) ثمّ يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه فيكون

**********

(1) . لما شرط ظهور المعجز عقيب دعوى النبوّة، حاول أن يدخل المعجز الثاني بعد المعجز الأوّل تحت التعريف قائلاً بأنّ الثاني أيضاً واقع عقيب دعوى النبوّة باعتبار استمرار الدعوة، و لا يخفى ما في العبارة من التعقيد.

(2) . إذ لو كان نبي آخر و كان المعجز الآخر صادراً منه يكون صادراً عقيب دعواه لا جارياً مجراه و إنّما يكون من قبيل الثاني إذا كان المدعي واحداً.

ص: 158

ظهور الثاني كالمتعقّب لدعواه لأنّه يعلم تعلقه بدعواه و أنّه لأجله ظهر(1) كالذي ظهر عقيب دعواه.

الخامس: أن يكون خارقاً للعادة.

المسألة الخامسة: في الكرامات

قال: و قصةُ مريمَ و غيرِها تُعطي جوازَ ظهوره على الصالحين.

أقول: اختلف الناس هنا: فذهب جماعة من المعتزلة إلى المنع من إظهار المعجز على الصالحين كرامة لهم و من إظهاره على العكس علىٰ الكذابين اظهاراً لكذبهم.

و جوّزه أبو الحسين منهم و جماعة أُخرىٰ من المعتزلة و الأشاعرة، و هو الحق، و استدل المصنّف رحمه الله بقصة مريم، فإنّها تدل علىٰ ظهور معجزات عليها و غيرها مثل قصة آصف، و كالأخبار المتواترة المنقولة عن علي عليه السلام و غيره من الأئمة.

و حمل المانعون قصة مريم على الإرهاص لعيسىٰ عليه السلام، و قصة آصف علىٰ أنّه معجز لسليمان عليه السلام مع بلقيس، كأنّه يقول: إنّ بعض أتباعي يقدر علىٰ هذا مع عجزكم عنه، و لهذا أسلمت بعد الوقوف علىٰ معجزاته، و قصة علي عليه السلام علىٰ تكملة معجزات النبي عليه السلام.

قال: و لا يلزم خروجه عن الإعجاز، و لا التنفيرُ، و لا عدمُ التميز، و لا إبطالُ دلالته، و لا العموميةُ.

**********

(1) . يريد أنّ المعجز ظهر بنفس السبب الذي ظهر لأجله، المعجز الأوّل، و ما هو إلاّ إثبات دعواه، فيكون الثاني و الثالث مثل الأوّل جارياً مجراه.

ص: 159

أقول: هذه وجوه استدل بها المانعون من المعتزلة:

الأوّل(1): قالوا: لو جاز ظهور المعجزة علىٰ غير الأنبياء إكراماً لهم لجاز ظهورها عليهم و إن لم يعلم بها غيرهم، لأنّ الغرض هو سرورهم، و إذا جاز ذلك بلغت في الكثرة إلىٰ خروجها عن الإعجاز.

و الجواب: المنع من الملازمة لأنّ خروجها عن حد الإعجاز وجه قبح و نحن إنّما نجوز ظهور المعجزة إذا خلا عن جهات القبح فنجوّز ظهورها ما لم تبلغ في الكثرة إلىٰ حد خروجها عن الإعجاز.

الثاني(2): قالوا: لو جاز ظهور المعجزة علىٰ غير النبي لزم التنفير عن

**********

(1) . الأولى استخدام الكرامة مكان الإعجاز في هذه الموارد، لاختصاص الثاني اصطلاحاً بمدعي النبوّة.

و حاصل البرهان: لو صدر الإعجاز من غير النبي لكثر وقوعه فخرج عن كونه معجزاً لخروجه عن كونه أمراً خارقاً للعادة لكثرة وقوعه.

و الجواب واضح: لأنّ التجويز بنحو القضية الجزئية لا ينتهي إلى حد يخرج عن كونه أمراً خارجاً عن حدّ الإعجاز.

و لو بيّن الشارح البرهان و الجواب مثلَ ما ذكرناه لكان أحسن لكنّه قال: «لو جاز ظهور المعجزة على غير الأنبياء إكراماً لهم، لجاز ظهورها عليهم و إن لم يعلم بها غيرهم لأنّ الغرض هو سرورهم».

توضيحه: إنَّ ضمائر الجمع المجرورة راجعة إلى «غير الأنبياء»، و لما كان الهدف من إعطاء الإعجاز إلى غير الأنبياء هو سرورهم و هو موجود فيما يقف عليه الناس و ما لا يقف فيكثر الإعجاز، و الكثرة مخرجة لها عن حدّه، و أنت خبير أنّه لا حاجة في تقرير البرهان إلى هذا التطويل الموجب للتعقيد.

ثمّ إذا فرضنا أنّ قسماً من الإعجاز ممّا لا يعلم به الناس فكيف يخرج عن كونه معجزاً.

(2) . حاصله: أنّ وجود الإعجاز في غير الأنبياء موجب لقلة رغبة الناس إلى الأنبياء و تفرقهم عنهم. و الجواب تارة بالنقض كما إذا كان في عصر واحد نبيّان أو أنبياء لأقوام مختلفة

ص: 160

الأنبياء، إذ علة وجوب طاعتهم ظهور المعجزة عليهم، فإذا شاركهم في ذلك من لا تجب طاعته هان موقعه، و لهذا لو أكرم الرئيس بنوع ما كل أحد هان موقع ذلك النوع لِمَن يستحق الاكرام.

و الجواب: بمنع انحطاط مرتبة الإعجاز، كما لو ظهر علىٰ نبي آخر، فإنّه لو لم يظهر إلاّ علىٰ نبي واحد لكان موقعه أعظم، فكما لا تلزم الإهانة مع ظهوره علىٰ جماعة من الأنبياء كذا لا تلزم الإهانة مع ظهوره على الصالحين.

الثالث(1): احتجاج أبي هاشم، قال: المعجز يدلّ بطريق الإبانة و التخصيص، و فسّره قاضي القضاة بأن المعجز يدل علىٰ تميز النبي عن غيره، إذ الأُمّة مشاركون له في الإنسانية و لوازمها فلو لا المعجز لما تميز عنهم فلو شاركه غيره فيه لم يحصل الامتياز.

و الجواب: أنّ امتياز النبي يحصل بالمعجز و اقتران دعوى النبوة، و هذا شيء يختص به دون غيره و لا يلزم من مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته له

**********

( لكلٍّ آية معجزة، و أُخرى بالحلّ، فإنّ وجود الإعجاز في غيرهم لا يوجب تحقير الأنبياء، لأنّ لهم وراء الإعجاز صفات و ملكات توجِدُ العظمة لهم في أعين الناس.

قال الشارح في تقرير البرهان: «و لهذا لو أكرم الرئيس بنوع مأكل أحدٍ، هان موقع ذلك النوع لمن يستحق الإكرام».

الظاهر أنّ الفعل في «أُكْرِمَ» مبني على المجهول، و «مأكل» بمعنى «المأكول» و قوله: «ذلك النوع» إشارة إلى المأكول، و المقصود من «لمن يستحق الإكرام» هو الرئيس، و المعنى: لو أكرم الرئيس بالمأكول المتوفر الذي يستفيد منه كل الناس لهان ذلك المأكول عند من يستحق الإكرام. و لعل للعبارة معنى آخر لم نقف عليه.

(1) . إنّ الإعجاز من سمات الأنبياء و به يُتميز عن سائر الناس، و يُتخصَّص، فلو عمَّ لما صار سمة لهم، و الجواب: أنّ الإعجاز المقارن بالدعوة من سمات الأنبياء، لا مطلق الإعجاز، و هي محفوظة.

ص: 161

في كل شيء.

الرابع(1): لو جاز إظهار المعجز علىٰ غير النبي لبطلت دلالته علىٰ صدق مدّعي النبوة، و التالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الملازمة: أنّ ثبوت المعجز في غير صورة النبوة ينفي اختصاصه بها، و حينئذ لا يظهر الفرق بين مدعي النبوة و غيرها في المعجز فبطلت دلالته إذ لا دلالة للعام على الخاص.

و الجواب: المنع من الملازمة، لأنّ المعجز مع الدعوىٰ مختص بالنبي، فإذا ظهرت المعجزة علىٰ شخص فإمّا أن يدّعي النبوة أو لا، فإن ادّعاها علمنا صدقه إذ اظهار المعجزة علىٰ يد الكاذب قبيح عقلاً، و إن لم يدع النبوة لم يحكم بنبوته.

و الحاصل أنّ المعجزة لا تدل على النبوة ابتداءً بل تدل علىٰ صدق الدعوىٰ فإن تضمنت الدعوىٰ النبوة دلت المعجزة علىٰ تصديق المدّعي في دعواه و يستلزم ذلك ثبوت النبوة.

الخامس(2): قالوا لو جاز إظهار المعجز علىٰ صادق ليس بنبي لجاز إظهاره علىٰ كل صادق، فجاز إظهار المعجز على المخبر بالجوع و الشبع

**********

(1) . حاصله أنّ الإعجاز دليل على صدق مدّعي النبوّة، لأنّ مبنى الدلالة اختصاصه بالنبي، و لو كان أعم فلا يكون دليلاً على الأخص.

و حاصل الجواب: أنّ الإعجاز المقارن لدعوى النبوّة دليل على صدق دعوى النبوّة لا مطلق الإعجاز.

(2) . حاصله: لو جاز ظهوره على يد صادق عند غير النبي لجاز ظهوره عند كل صادق و إن كان صادقاً في مثل قوله: «أنا جائع». و الجواب: أنّ ملاك الإعجاز ليس كون صاحبه صادقاً، بل له ملاك آخر، و هو كونه إنساناً صالحاً متعبّداً ذا منزلة كبيرة عند اللّٰه.

ص: 162

و غيرهما.

و الجواب: لا يلزم العمومية، أي لا يلزم إظهار المعجز علىٰ كل صادق إذ نحن إنّما نجوّز إظهاره علىٰ مدعي النبوة أو الصلاح إكراماً له و تعظيماً و ذلك لا يحصل لكل مخبر بصدق.

قال: و معجزاتُه عليه السلام قبل النبوة تُعطي الإرهاص(1).

أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة علىٰ سبيل الإرهاص إلاّ جماعة منهم، و جوّزه الباقون.

و استدل المصنّف رحمه الله علىٰ تجويزه بوقوع معجزات الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قبل النبوة، كما نقل من انشقاق إيوان كسرىٰ، و غور ماء بُحَيْرَة ساوة، و انطفاء نار فارس، و قصة أصحاب الفيل، و الغمام الذي كان يظلّه عن الشمس، و تسليم الأحجار عليه، و غير ذلك مما ثبت له عليه السلام قبل النبوة.

قال: و قصةُ مسيلمة و فرعون إبراهيم تُعطي جواز إظهار المعجزة علىٰ العكس.

أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة علىٰ يد الكاذبين على العكس من دعواهم إظهاراً لكذبهم.

و استدل المصنف رحمه الله بالوقوع على الجواز، كما نقل عن مسيلمة الكذاب

**********

(1) . الإرهاص لغة: العرق الأسفل من الحائط، و في الاصطلاح: الكرامات الصادرة عن الأنبياء قبل بعثهم، و كأنّ الكرامات قبل البعثة تؤسس قاعدة لصرح نبوّتهم الآتية.

و في الختام نؤكد على ما ذكرنا في بدء البحث من التفريق بين الموردين في استخدام الألفاظ: فخارق العادة مع ادّعاء النبوّة إعجاز، و لا معه كرامة لا معجز.

ص: 163

لما ادّعى النبوة فقيل له: إنّ رسول صلى الله عليه و آله و سلم دعا لأعور فردّ اللّٰه عينه الذاهبة، فدعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة!

و كما نقل أنّ إبراهيم عليه السلام لما جعل اللّٰه تعالى عليه النار برداً و سلاماً قال نمرُود عند ذلك: إنّما صارت كذلك هيبة مني فجاءته نار في تلك الحال فأحرقت لحيته!

لا يقال: يكفي في التكذيب ترك المعجز عقيب دعواهم فيبقىٰ إظهار المعجز على العكس خرقاً للعادة من غير فائدة فيكون عبثاً.

لأنّا نقول: قد يتضمن المصلحة إظهاره على العكس إظهاراً لتكذيبه في الحال بحيث يزول الشك، لتجويز أن يقال: تأخير المعجز عقيب الدعوىٰ قد يكون لمصلحة ثمّ يوجد بعد وقت آخر، فلا يحصل الجزم التام بالتكذيب.

المسألة السادسة: في وجوب البعثة في كل وقت

قال: و دليلُ الوجوب يُعطي العمومية(1).

**********

(1) . ظاهر العنوان يعطي لزومَ وجود نبيّ ظاهر بين الناس يدعو إلى اللّٰه في كل زمان. أخذاً بالأدلّة التسعة الدالة على حسن البعثة أو لزومها، و لكنّه ليس بمقصود، لختم النبوّة برحيل سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و لا نبيَّ و لا رسولَ بعده، بل المقصود: وجود شريعة غير منسوخة في كل زمان يعتنقها كل من أراده و قد كان متيسراً في الفترة بين المسيح و نبينا - و في عصرنا -، و لأجل ذلك فسّر العلاّمة كلام الماتن بقوله: «بحيث لا يجوز خلوّ زمانٍ من شرع نبيّ» و مع ذلك أنّ الاستدلال على ذلك بما ورد في كلام الشارح ربّما يساعد المعنى المتوهم، حيث يقول: «إنّ في بعثته زجراً عن القبائح و حثّاً على الطاعة فتكون لطفاً، و لأنّ فيه تنبيهَ الغافل...» فإنّ هذا كلّه من آثار النبي الظاهر لا الشريعة الصامتة.

و لو أخذنا بما ذكر من البراهين فلا يلزم وجود نبي ظاهر في كل زمان، بل يجب وجود الحجة من نبي أو ولي، أو عالم في كل زمان يحث على الطاعة و ينبِّه الغافل.

ص: 164

أقول: اختلف الناس هنا: فقال جماعة من المعتزلة: إنّ البعثة لا تجب في كل وقت، بل في حال دون حال و هو ما إذا كانت المصلحة في البعثة.

و قال علماء الإمامية: إنّه تجب البعثة في كل وقت بحيث لا يجوز خلوّ زمان من شرع نبي.

و قالت الأشاعرة: لا تجب البعثة في كل وقت لأنّهم ينكرون الحسن و القبح العقليين و قد مضى البحث معهم.

و استدل المصنف رحمه الله علىٰ وجوب البعثة في كل وقت بأنّ دليل الوجوب يعطي العمومية، أي دليل وجوب البعثة يعطي عمومية الوجوب في كل وقت، لأنّ في بعثته زجراً عن القبائح و حثّاً على الطاعة فتكون لطفاً، و لأنّ فيه تنبيه الغافل و إزالة الاختلاف و دفع الهرج و المرج، و كلّ ذلك من المصالح الواجبة التي لا تتم إلاّ بالبعثة، فتكون واجبة في كل وقت.

قال: و لا تجب الشريعة(1).

أقول: اختلف الشيخان هنا: فقال أبو علي: تجوز بعثة نبي لتأكيد ما في العقول و لا يجب أن تكون له شريعة.

و قال أبو هاشم و أصحابه: لا يجوز أن يبعث إلاّ بشريعة، لأنّ العقل كاف في العلم بالعقليات فالبعثة تكون عبثاً.

و الجواب: يجوز أن تكون البعثة قد اشتملت علىٰ نوع من المصلحة، بأن يكون العلم بنبوته و دعائه إيّاهم إلىٰ ما في العقول مصلحة لهم فلا تكون

**********

(1) . هل يجب أن يكون كل نبي مبعوثاً بشريعة سواء كانت لنفسه أو لمن تقدمه، أو تكفي الدعوة إلى ما في العقول و لا تجب أن تكون له الشريعة؟ فيه خلاف بين أبي علي و ابنه أبي هاشم، و الماتن اختار قول الوالد بما ذكره الشارح عنه.

ص: 165

البعثة عبثاً و يجب عليهم النظر في معجزته فيحصل لهم مصلحة لا تحصل بدون البعثة.

و احتج أبو علي بأنّه يجوز بعثة نبيّ بعد نبيّ بشريعة واحدة و كذا تجوز بعثة نبي بمقتضىٰ ما في العقول.

المسألة السابعة: في نبوة نبينا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم

قال: و ظهورُ معجزة القرآن و غيره مع اقتران دعوة نبينا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم يدُلُّ علىٰ نبوته.

و التحدي مع الامتناع و توفُّرِ الدواعي يدُلُّ على الإعجاز.

و المنقولُ معناه متواتراً من المعجزات يَعضُدُه.

أقول: لما فرغ من البحث في النبوة مطلقاً شرع في إثبات نبوة نبينا محمد عليه السلام.

و الدليل عليه: أنّه ظهرت المعجزة علىٰ يده و ادّعى النبوة فيكون صادقاً أمّا ظهور المعجزة علىٰ يده فلوجهين:

الأوّل: أنّ القرآن معجز و قد ظهر علىٰ يده، أمّا أعجاز القرآن(1) فلأنّه

**********

(1) . القرآن معجز من جهات شتى، و الذي كان يهمّ العرب يومَ ذاك إعجازه البياني، دون سائر الجهات ككونه مخبراً عن المغيّبات أو مشتملاً على معارف عقلية، أو سنن أخلاقية، و قوانين اجتماعية و أُصول اقتصادية أو قصص منزهة عمّا لا يليق بشأن الأنبياء و غير ذلك.

و من المؤسف جداً أنّ الكتب الكلامية استدلوا على إعجازه البياني، من دون أن يحققوه حتى يكون ملموساً للقراء، و حاصل استدلالهم يرجع إلى خضوع العرب لفصاحته و بلاغته و عجزهم عن المقابلة، و هذا يورث العلم بكونه معجزاً من دون أن يلمسه الإنسان خصوصاً إذا كان غير العرب، و قد فتحنا هذا الباب في الإلهيات: 259/3-324 بوجه موجز، فعلى الآخرين سلوك هذا الطريق بشكل أوسع.

ص: 166

تحدّىٰ به فصحاء العرب، لقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» (1)«فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ» (2)«قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»(3).

و التحدّي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله مع توفّر الدواعي عليه إظهاراً لفضلهم و إبطالاً لدعواه و سلامة من القتل(4) يدل علىٰ عجزهم و عدم قدرتهم على المعارضة.

و أمّا ظهوره علىٰ يده فبالتواتر.

الثاني: أنّه نقل عنه معجزات كثيرة، كنبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه و آله و سلم حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزوة تبوك(5).

و كعود ماء بئر الحديبية لما استقاه أصحابه بالكلية و تنشف البئر(6)، فدفع سهمه إلى البراء بن عازب فأمره بالنزول و غرزه في البئر، فغرزه فكثر الماء في الحال حتىٰ خيف على البراء بن عازب من الغرق(7).

و نقل عنه عليه السلام في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف فتفل فيها

**********

(1) . البقرة: 23.

(2) . هود: 13.

(3) . الإسراء: 88.

(4) . أي من أن يقتلوا لأجل كفرهم و شركهم بيد المسلمين.

(5) . بحار الأنوار 188/17، تاريخ الإسلام للذهبي: 342.

و تفصيل ذلك في: دلائل النبوة للبيهقي: 227/5-232 و 236 عن صحيح البخاري و صحيح مسلم و....

(6) . انقطع ماؤها.

(7) . دلائل النبوة للبيهقي: 110/4-130.

ص: 167

حتى انفجر الماء الزلال منها، فبلغ أهل اليمامة ذلك، فسألوا مسيلمة لما قلّ ماء بئرهم ذلك، فتفل فيها فذهب الماء أجمع(1).

و لما نزل قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ»(2) قال لعلي عليه السلام: شُقَّ فَخِذ شاة و جئني بعُسّ من لبن و ادع لي من بني أبيك بني هاشم، ففعل علي عليه السلام ذلك و دعاهم و كانوا أربعين رجلاً، فأكلوا حتىٰ شبعوا ما يرىٰ فيه إلاّ أثر أصابعهم و شربوا من العُسّ حتى اكتفوا و اللبن علىٰ حاله، فلما أراد أن يدعوهم إلى الإسلام قال أبو لهب: كاد ما سحركم محمد، فقاموا قبل أن يدعوهم إلى اللّٰه تعالى، فقال لعلي عليه السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل في اليوم الثاني كالأوّل، فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلىٰ كلامه، فقال لعلي عليه السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل مثله في اليوم الثالث، فبايع عليّاً عليه السلام على الخلافة بعده و متابعته(3).

و ذبح له جابر بن عبد اللّه عَناقاً(4) يوم الخندق و خبز له صاع شعير ثمّ دعاه عليه السلام، فقال: أنا و أصحابي، فقال: نعم، ثمّ جاء إلى امرأته و أخبرها بذلك، فقالت له: أ أنت قلت امض و أصحابك؟ فقال: لا بل هو لمّا قال: أنا و أصحابي، قلت: نعم، فقالت: هو أعرف بما قال، فلما جاء عليه السلام قال: ما عندكم؟

**********

(1) . البحار: 28/18 ح 11.

(2) . الشعراء: 214، انظر في تفسير الآية، مجمع البيان 206/4 و الميزان 328/15-329، و ما نقله الشارح في شأن نزولها في غاية الإيجاز.

(3) . تاريخ الطبري: 542/1 ط، دار الكتب العلمية بيروت، و تفصيل ذلك في الغدير: 278/2-279.

(4) . «العَناق» الأُنثى من أولاد المعز قبل استكمالها السنة.

ص: 168

قال جابر: ما عندنا إلاّ عناق في التنور و صاع من شعير خبزناه.

فقال له عليه السلام: أقعد أصحابي عشرة عشرة، ففعل، فأكلوا كلّهم(1).

و سبّح الحصا في يده عليه السلام(2)، و شهد الذئب له بالرسالة، فإن أُهبان(3) بن أوس كان يرعىٰ غنماً له، فجاء ذئب فأخذ شاة منها، فسعىٰ نحوه، فقال له الذئب: أتعجب من أخذي شاة؟ هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه! فجاء إلى النبي و أسلم، و كان يدعى مكلّم الذئب.(4)

و تفل في عين علي عليه السلام لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبداً(5)، و دعا له بأن يصرف اللّٰه تعالى عنه الحرّ و البرد فكان لباسه في الصيف و الشتاء واحداً(6).

و انشق له القمر(7)، و دعا الشجرة فأجابته و جاءته تَخُدّ الأرض(8) من غير جاذب و لا دافع ثمّ رجعت إلىٰ مكانها(9).

و كان يخطب عند الجذع، فاتخذ له منبراً فانتقل إليه، فحنّ الجذع إليه حنين الناقة إلىٰ ولدها، فالتزمه فسكن(10).

**********

(1) . دلائل النبوة للبيهقي: 422/3-425، بحار الأنوار: 25/18، تفسير القمي: 178/2-179.

(2) . دلائل النبوة: 64/6-65، بحار الأنوار: 373/17 و 377.

(3) . «اهبان» و هو كلقمان صحابي.

(4) . دلائل النبوة: 41/6-44، بحار الأنوار: 393/17-394.

(5) . المناقب لابن شهرآشوب: 116/1، دلائل النبوة: 205/4-213.

(6) . بحار الأنوار: 282/41.

(7) . دلائل النبوة: 262/2-268، بحار الأنوار: 355/17.

(8) . أي تشقّ الأرض من دون أن يجذبه أحد للشهادة في حضرة النبي أو يدفعه أحد ليستقر في مكانه.

(9) . دلائل النبوة: 13/6-17.

(10) . دلائل النبوة: 66/6-68.

ص: 169

و أخبر بالغيوب في مواضع كثيرة، كما أخبر بقتل الحسين عليه السلام و موضع الفتك به، فقتل في ذلك الموضع(1).

و أخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس، فقتل بعده عليه السلام(2).

و أخبر أصحابه بفتح مصر و أوصاهم بالقبط خيراً فإنّ لهم ذمة و رحماً(3).

و أخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة و ادعاء العَنْسي(4) النبوة بصنعاء و أنّهما سيقتلان، فقتل فيروز الديلمي العَنْسي قرب وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم (5)، و قتل خالد بن الوليد مسيلمة(6).

و أخبر علياً عليه السلام بخبر ذي الثدية(7)، و سيأتي.

و دعا علىٰ عتبة بن أبي لهب - لما تلا عليه السلام و النجم فقال عتبة كفرت بربّ النجم - بتسليط كلب اللّٰه عليه، فخرج عتبة إلى الشام، فخرج الأسد فارتعدت فرائصه، فقال له أصحابه: من أي شيء ترتعد؟ فقال: إنّ محمداً دعا عليّ فو الله ما أظلّت السماء علىٰ ذي لهجة أصدق من محمد، فأحاط القوم بأنفسهم و متاعهم عليه، فجاء الأسد فلحس(8) رءوسهم واحداً واحداً حتى

**********

(1) . دلائل النبوة للبيهقي: 468/6-472.

(2) . دلائل النبوة: 354/6-357.

(3) . دلائل النبوة: 321/6-322. و صحيح مسلم: 190/7، كتاب فضائل الصحابة، باب وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأهل مصر.

(4) . بسكون النون. و هو أحد من ادّعى النبوّة في عصر الرسول.

(5) . دلائل النبوة: 334/5-336 و 358/6.

(6) . تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء: 38.

(7) . بحار الأنوار: 113/18، دلائل النبوة: 433/6.

(8) . لحس القصعة: لعقها و أخذ ما علق بجوانبها بلسانه أو بإصبعه.

ص: 170

انتهىٰ إليه فضغمه(1) ضغمة ففزع منه و مات(2).

و أخبر بموت النجاشي(3)، و قُتِل زيد بن حارثة بموتة فأخبر عليه السلام بقتله في المدينة و ان جعفراً أخذ الراية، ثمّ قال: قُتل جعفر، ثمّ توقف وقفة ثمّ قال: و أخذ الراية عبد اللّٰه بن رواحة، ثمّ قال: و قُتل عبد اللّٰه بن رواحة، و قام عليه السلام إلىٰ بيت جعفر و استخرج ولده و دمعت عيناه و نعى جعفراً إلىٰ أهله، ثمّ ظهر الأمر كما أخبر عليه السلام(4).

و قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية، و لاشتهار هذا الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه و احتال على العوامّ، فقال: قتله من جاء به، فعارضه ابن عباس و قال: لم يقتل الكفّار إذن حمزة و إنّما قتله رسول اللّٰه لأنّه هو الذي جاء به إليهم حتىٰ قتلوه!(5)

و قال لعلي عليه السلام: ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين(6)، فالناكثون طلحة و زبير لأنّهما بايعاه و نكثا، و القاسطون هم الظالمون و هم معاوية و أصحابه لأنّهم ظلمة بُغاة، و المارقون هم الخارجون عن الملة و هم الخوارج.

**********

(1) . عضّه بملء فمه، يقال: ضغمه ضغمة الأسد، أي عضّه عضّة الأسد.

(2) . تفسير گازر: 250/9، بحار الأنوار: 58/18، نقلاً عن الخرائج للراوندي و المناقب لابن شهرآشوب.

(3) . دلائل النبوة: 410/4-412.

(4) . بحار الأنوار: 53/21-65، نقلاً عن الخرائج: 188.

(5) . بحار الأنوار: 16/33، 123/18 و 142، 334/22 و 354.

(6) . دلائل النبوة للبيهقي: 410/6-436، و تفصيل ذلك في الغدير: 188/3-191 و 192-196 و 47/10-50، بحار الأنوار: 309/32، 19/33، 327/36.

ص: 171

و هذه المعجزات بعض ما نقل، و اقتصرنا علىٰ هذا القدر لكثرتها و بلوغ الغرض بهذه، و قد أوردنا معجزات أُخرىٰ منقولة في كتاب نهاية المرام.

قال: و إعجازُ القرآن(1) قيل لفصاحته، و قيل لأسلوبه و فصاحته، و قيل للصَّرفةِ، و الكلُّ محتمل.

أقول: اختلف الناس هنا، فقال الجُبّائيان: إنّ سبب إعجاز القرآن فصاحته.

و قال الجويني: هو الفصاحة و الأسلوب(2) معاً، و عنى بالأسلوب الفن و الضرب.

و قال النظّام و المرتضى: هو الصرفة، بمعنىٰ أنّ اللّٰه تعالى صرف العرب و منعهم عن المعارضة.

و احتج الأوّلون: بأنّ المنقول عن العرب أنّهم كانوا يستعظمون فصاحته، و لهذا أراد النابغة الإسلام لما سمع القرآن و عرف فصاحته فرَدّه أبو جهل و قال له يحرم عليك الأطيبين(3) و أخبر اللّٰه تعالى عنهما بذلك بقوله: «إِنَّهُ فَكَّرَ

**********

(1) . راجع: الاقتصاد للشيخ الطوسي: 156، 172، 173، 182، إعجاز القرآن و البلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي: 141-165، البيان للسيد الخوئي قدس سره: 81-99. شرح جمل العلم و العمل للشريف المرتضى: 175، 357 (ط دار الأسوة - طهران). الذخيرة في علم الكلام: 355-360.

(2) . جاء القرآن بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب، و خالف بأسلوبه العجيب و سبكه الغريب جميع الأساليب الدارجة بينهم و مناهج نظمهم و نثرهم.

انظر في توضيحه كتاب الإلهيات الجزء 3 تحت عنوان: الأسلوب: بداعة المنهج و غرابة السبك.

(3) . يريد: الخمر و النساء (1). -

1 - ابن هشام: السيرة النبوية: 386/1.

ص: 172

وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ»(1) إلىٰ آخر الآية.

و لأنّ الصرفة(2) لو كانت سبباً في إعجازه لوجب أن يكون في غاية الركاكة(3) لأنّ الصرفة عن الركيك أبلغ في الإعجاز و التالي باطل بالضرورة.

و احتج السيد المرتضىٰ: بأنّ العرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة و على التركيب و إنّما منعوا عن الإتيان بمثله تعجيزاً لهم عما كانوا قادرين عليه، و كل هذه الأقسام محتملة.

قال: و النسخُ تابعٌ للمصالح.

أقول: هذا إشارة إلى الردّ على اليهود حيث قالوا بدوام شرع موسىٰ عليه السلام، قالوا: لأنّ النسخ باطل، إذ المنسوخ إن كان مصلحة قبح النهي عنه و إن كان مفسدة قبح الأمر به و إذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسىٰ عليه السلام.

و تقرير الجواب أن نقول: الأحكام منوطة بالمصالح و المصالح تتغير بتغير الأوقات و تختلف باختلاف المكلفين، فجاز أن يكون الحكم المعيَّن مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به، و مفسدة لقوم في زمان آخر فينهىٰ عنه.

**********

(1) . المدثر: 18-21.

(2) . القائل بنظرية الصرفة يعترف بفصاحة القرآن و بلاغته لكن يقول ليس الإتيان بمثله خارجاً عن طوق الطاقة البشرية و إنّما عجز في حلبة المبارزة، لأجل حيلولته سبحانه بين الناس و الإتيان بمثله، اقرأ تفصيل مذهب الصرفة و نقده في الإلهيات: 327/3-350.

(3) . أي يأتي بكتاب ساقط في غاية الركاكة ثمّ يتحدّى و يحول سبحانه بينهم و بين الإتيان بمثله، لأنّ ذلك أبلغ في إثبات إعجازه، إذ عجزوا عن شيء كانوا يقومون به كل يوم و ليلة، لأنّ إنشاء الكلام الركيك منهل كل وارد.

ص: 173

قال: و قد وَقَعَ، حيث حرَّم علىٰ نوح بعضَ ما أحلَّ لمن تقدَّمه(1)، و أوجبَ الختانَ بعد تأخيره، و حرّم الجمع بين الأُختين، و غير ذلك من الأحكام.

أقول: هذا تأكيد لإبطال قول اليهود المانعين من النسخ، فإنّه بيّن أوّلاً جواز وقوعه و هاهنا بيّن وقوعه في شرعهم، و ذلك في مواضع:

منها: أنّه قد جاء في التوراة أنّ اللّٰه تعالى قال لآدم و حواء عليهما السلام: قد أبحت لكما كلّ ما دبّ علىٰ وجه الأرض، فكانت له نفس حية.

و ورد فيها أنّه قال لنوح عليه السلام: خذ معك من الحيوان الحلال كذا و من الحيوان الحرام كذا، فحرّم علىٰ نوح عليه السلام بعض ما أباحه لآدم عليه السلام.

و منها: أنّه أباح نوحاً عليه السلام تأخير الختان إلىٰ وقت الكبر و حرّمه علىٰ غيره من الأنبياء.

و أباح إبراهيم عليه السلام تأخير ختان ولده إسماعيل عليه السلام إلىٰ حال كبره، و حرّم علىٰ موسىٰ عليه السلام تأخير الختان عن سبعة أيام.

و منها: أنّه أباح آدم عليه السلام الجمع بين الأُختين و حرّمه علىٰ موسىٰ عليه السلام.

قال: و خَبَرُهم عن موسىٰ عليه السلام بالتأبيد مختلقٌ، و مع تسليمه لا يدلُّ على المراد قطعاً.

أقول: إنّ جماعة اليهود جوّزوا وقوع النسخ عقلاً و منعوا من نسخ

**********

(1) . راجع: اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية للشيخ مقداد السيوري الحلي: 231-240، و الفِصَل في الملل: 205/1، و أنوار الملكوت: 197، 198، و الذخيرة للسيد المرتضى: 357-358.

ص: 174

شريعة موسىٰ عليه السلام، و تمسكوا بما روي عن موسىٰ عليه السلام أنّه قال: تمسكوا بالسبت أبدا، و التأبيد يدل على الدوام و دوام الشرع بالسبت ينفي القول بنبوّة محمد صلى الله عليه و آله و سلم(1).

و الجواب في وجوه: الأوّل: أنّ هذا الحديث مختلق، و نسب إلى ابن الراوندي.

الثاني: لو سلّمنا نقله لكن اليهود انقطع تواترهم لأن بخت نصر استأصلهم و أفناهم حتىٰ لم يبق منهم من يوثق بنقله.

الثالث: أنّ لفظة التأبيد لا تدل على الدوام قطعاً، فإنّها قد وردت في التوراة لغير الدوام كما في العبد أنّه يستخدم ست سنين ثمّ يعرض عليه العتق في السابعة فإن أبى العتق ثقبت أذنه و استخدم أبداً و في موضع آخر يستخدم خمسين سنة.

و أُمروا في البقرة التي كلِّفوا بذبحها أن يكون لهم ذلك سنّة أبداً ثمّ انقطع تعبدهم بها.

و في التوراة: قرِّبوا إليَّ كل يوم خروفين: خروف غدوة و خروف عشية بين المغارب قرباناً دائماً لاحقاً بكم، و انقطع تعبدهم به.

و إذا كان التأبيد في هذه الصور لا يدلّ على الدوام انتفت دلالته هنا قطعاً.

أقصىٰ ما في الباب: أنّه يدلّ ظاهراً لكن ظواهر الألفاظ قد تترك لوجود الأدلّة المعارضة لها.

**********

(1) . راجع: اللوامع الإلهية: 240-241، و الذخيرة: 359، و شرح جمل العلم و العمل: 181-188، و الفصل: 98/1-104، و تلخيص المحصل للمحقق الطوسي: 358 و 365، و أنوار الملكوت: 198.

ص: 175

قال: و السمعُ دلَّ علىٰ عموم نبوّته صلى الله عليه و آله و سلم.

أقول: ذهب قوم من النصارىٰ إلىٰ أن محمداً صلى الله عليه و آله و سلم مبعوث إلى العرب خاصّة(1)، و السمع يكذب قولهم هذا، قال اللّٰه تعالى: «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ»(2) و قال تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ»(3) .

و سورة الجنّ تدل علىٰ بعثه عليه السلام إليهم، و قال عليه السلام: «بعثت إلى الأسود و الأحمر»(4).

لا يقال: كيف يصح إرساله إلىٰ من لا يفهم خطابه و قد قال تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ»(5) ؟

لأنّا نقول: لا استبعاد في ذلك، بأن يترجم خطابه لمن لا يفهم لغته مترجم، و ليس في الآية أنّه تعالى ما أرسل رسولاً إلاّ إلىٰ من يفهم لسانه و إنّما أخبر بأنّه ما أرسله إلاّ بلسان قومه.

و جوّز قاضي القضاة في يأجوج و مأجوج احتمالين:

أحدهما: أن لا يكونوا مكلفين أصلاً و إن كانوا مفسدين في الأرض كالبهائم المفسدة في الأرض.

و الثاني: أن يكونوا مكلفين و قد بلغتهم دعوته عليه السلام بأن يقربوا من الأمكنة التي يسمعون فيها كلام من هو وراء السد.

و جوّز بعض الناس أن يكون في بعض البقاع من لم تبلغه دعوته عليه السلام، فلا يكون مكلفاً بشريعته.

**********

(1) . الفصل في الملل و النحل: 99/1.

(2) . الأنعام: 19.

(3) . سبأ: 28.

(4) . كنز العمّال: 438/11.

(5) . إبراهيم: 4.

ص: 176

و عندي أن المراد بذلك إن كان عدم تكليفهم مطلقاً سواء بلغتهم بعد ذلك الدعوة أم لا فهو باطل قطعاً لما بينا من عموم نبوّته عليه السلام.

و إن كان المراد أنّهم غير مكلفين ما داموا غير عالمين فإذا بلغتهم الدعوة صاروا مكلفين بها فهو حق.

قال: و هو أفضلُ من الملائكة، و كذا غيره من الأنبياء عليهم السلام، لوجود المضادِّ للقوة العقلية و قهره على الانقياد عليها(1).

أقول: اختلف الناس هنا، فذهب أكثر المسلمين إلىٰ أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة عليهم السلام.

و ذهب آخرون منهم و جماعة الأوائل إلىٰ أن الملائكة أفضل. و استدلّ الأوّلون بوجوه ذكر المصنف رحمه الله، منها وجهاً للاكتفاء به، و هو أنّ الأنبياء قد وجد فيهم القوة الشهوية و الغضبية و سائر القوى الجسمانية كالخيالية و الوهمية و غيرهما، و أكثر أحكام هذه القوىٰ تضادّ حكم القوة العقلية و تمانعها، حتىٰ إنّ أكثر الناس يلتجئ إلىٰ قوة الشهوة و الغضب والوهم و يترك مقتضى القوة العقلية و الأنبياء عليهم السلام يقهرون قوى طبائعهم و يفعلون بحسب مقتضىٰ قواهم العقلية و يعرضون عن القوى الشهوانية و غيرها من القوى الجسمانية، فتكون عباداتهم و أفعالهم أشق من عبادات الملائكة حيث خلوا عن هذه القوى، و إذا كانت عباداتهم أشق كانوا أفضل لقوله عليه السلام: «أفضل الأعمال أحمزها».

و هاهنا وجوه أُخرىٰ من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام.

**********

(1) . تلخيص المحصل: 374-377، أنوار الملكوت: 187-188.

ص: 177

ص: 178

المقصد الخامس في: الإمامة

اشارة

ص: 179

ص: 180

قال:

الإمامُ لطفٌ فيجب نصبه على اللّٰه تعالى تحصيلاً للغرض(1)

أقول: في هذا المقصد مسائل:

الأُولىٰ: في أنّ نصب الإمام واجب على اللّٰه تعالى.

اختلف الناس هنا، فذهب الأصمّ من المعتزلة و جماعة من الخوارج إلىٰ نفي وجوب نصب الإمام، و ذهب الباقون إلى الوجوب لكن اختلفوا:

فالجُبّائيان و أصحاب الحديث و الأشعرية قالوا: إنّه واجب سمعاً لا عقلاً.

و قال أبو الحسين البصري و البغداديون و الإمامية: إنّه واجب عقلاً، ثمّ اختلفوا: فقالت الإمامية: إنّ نصبه واجب على اللّٰه تعالى، و قال أبو الحسين و البغداديون: إنّه واجب على العقلاء.

و استدل المصنف رحمه الله علىٰ وجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى بأن الإمام لطف و اللطف واجب.

أمّا الصغرىٰ فمعلومة للعقلاء، إذ العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متىٰ كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب و التهاوش و يصدّهم عن المعاصي و يعدّهم علىٰ فعل الطاعات و يبعثهم على التناصف و التعادل كانوا إلى

**********

(1) . تلخيص المحصل: 407، أنوار الملكوت: 202، اللوامع الإلهية: 262، الشافي في الإمامة: ج 36/1-39، 47-54، 144-154، 164-167، الذخيرة: 190، الاقتصاد: 183، رسالة في الإمامة للمحقّق الطوسي: 426.

ص: 181

الصلاح أقرب و من الفساد أبعد، و هذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل، و أمّا الكبرىٰ فقد تقدم بيانها.

قال: و المفاسدُ معلومةُ الانتفاءِ، و انحصارُ اللطف فيه معلومٌ للعقلاء، و وجودُه لطفٌ، و تصرفه آخر، و عدمه منّا.

أقول: هذه اعتراضات علىٰ دليل أصحابنا مع الإشارة إلى الجواب عنها:

الأوّل: قال المخالف: كون الإمامة قد اشتملت علىٰ وجه اللطف لا يكفي في وجوبها على اللّٰه تعالى، بخلاف المعرفة التي كفىٰ وجه الوجوب فيه علينا لانتفاء المفاسد في ظننا، أمّا في حقه تعالى فلا يكفي وجه الوجوب ما لم يعلم انتفاء المفاسد و لا يكفي الظن بانتفائها، فلم لا يجوز اشتمال الإمامة علىٰ مفسدة لا نعلمها، فلا تكون واجبة على اللّٰه تعالى.

و الجواب: أنّ المفاسد معلومة الانتفاء عن الإمامة، لأن المفاسد محصورة معلومة يجب علينا اجتنابها أجمع، و إنما يجب علينا اجتنابها إذا علمناها، لأن التكليف بغير المعلوم محال، و تلك الوجوه منتفية عن الإمامة فيبقىٰ وجه اللطف خالياً عن المفسدة فيجب عليه تعالى.

و لأن المفسدة لو كانت لازمة للإمامة لم تنفك عنها و التالي باطل قطعاً.

و لقوله تعالى: «إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً»(1) ، و إن كانت مفارقة جاز انفكاكها عنها فيجب علىٰ تقدير الانفكاك.

الثاني: قالوا: الإمامة إنّما تجب لو انحصر اللطف فيها، فلم لا يجوز أن يكون هناك لطف آخر يقوم مقام الإمامة، فلا تتعين الإمامة لِلّطفيّة فلا يجب على التعيين.

**********

(1) . البقرة: 124.

ص: 182

و الجواب: أنّ انحصار اللطف الذي ذكرناه في الإمامة معلوم للعقلاء، و لهذا يلتجئ العقلاء في كل زمان و كل صقع إلىٰ نصب الرؤساء دفعاً للمفاسد الناشئة من الاختلاف.

الثالث: قالوا: الإمام إنّما يكون لطفاً إذا كان متصرفاً بالأمر و النهي، و انتم لا تقولون بذلك، فما تعتقدونه لطفاً لا تقولون بوجوبه و ما تقولون بوجوبه ليس بلطف.

و الجواب: أنّ وجود الإمام نفسه لطف لوجوه:

أحدها: أنّه يحفظ الشرائع و يحرسها عن الزيادة و النقصان.

و ثانيها: أنّ اعتقاد المكلفين لوجود الإمام و تجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد و لقربهم إلى الصلاح و هذا معلوم بالضرورة.

و ثالثها: أنّ تصرفه لا شك أنّه لطف و لا يتم إلاّ بوجوده، فيكون وجوده نفسه لطفاً و تصرفه لطفاً آخر.

و التحقيق أن نقول: لطف الإمامة يتم بأُمور:

منها: ما يجب على اللّٰه تعالى، و هو خلق الإمام و تمكينه بالقدرة و العلم و النص عليه باسمه و نسبه، و هذا قد فعله اللّٰه تعالى.

و منها: ما يجب على الإمام، و هو تحمله للإمامة و قبوله لها، و هذا قد فعله الإمام.

و منها: ما يجب على الرعية، و هو مساعدته و النصرة له و قبول أوامره و امتثال قوله، و هذا لم تفعله الرعية، فكان منع اللطف الكامل منهم لا من اللّٰه تعالى و لا من الإمام.

ص: 183

المسألة الثانية: في أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً

المسألة الثانية: في أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً(1)

قال: و امتناع التسلسل يوجب عصمته، و لأنَّه حافظٌ للشرع، و لوجوب الإنكار عليه لو أقدم على المعصية فيضادُّ أمرَ الطاعةِ، و يفوتُ الغرضُ من نصبه، و لانحطاط درجته عن أقلِّ العوامّ.

أقول: ذهبت الإمامية و الإسماعيلية إلىٰ أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً، و خالف فيه جميع الفرق، و الدليل علىٰ ذلك وجوه:

الأوّل: أنّ الإمام لو لم يكن معصوماً لزم التسلسل، و التالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّ المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الرعية، فلو كان هذا المقتضي ثابتاً في حق الإمام وجب أن يكون له إمام آخر، و يتسلسل أو ينتهي إلىٰ إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي.

الثاني: أنّ الإمام حافظ للشرع فيجب أن يكون معصوماً، أمّا المقدمة الأُولىٰ فلأنّ الحافظ للشرع ليس هو الكتاب لعدم إحاطته بجميع الأحكام التفصيلية، و لا السنّة لذلك أيضاً، و لا إجماع الأُمّة لأنّ كل واحد منهم علىٰ تقدير عدم المعصوم فيهم يجوز عليه الخطأ فالمجموع كذلك، و لأنّ إجماعهم ليس لدلالةٍ و إلاّ لاشتهرت و لا لأمارة إذ يمتنع اتفاق الناس في سائر البقاع

**********

(1) . الاقتصاد في الاعتقاد للشيخ الطوسي: 189، أنوار الملكوت: 204، الشافي: 300/1، الذخيرة: 429، اللوامع الإلهية: 268، رسالة في الإمامة للمحقق نصير الدين، طبعت في آخر تلخيص المحصل: 430.

ص: 184

على الأمارة الواحدة كما نعلم بالضرورة عدم اتفاقهم علىٰ أكل طعام معيّن في وقت واحد، أو لا لهما فيكون باطلاً، و لا القياس لبطلان القول به علىٰ ما ظهر في أُصول الفقه، و على تقدير تسليمه فليس بحافظ للشرع بالإجماع، و لا البراءة الأصلية لأنّه لو وجب المصير إليها لما وجب بعثة الأنبياء و للإجماع علىٰ عدم حفظها للشرع، فلم يبق إلاّ الإمام، فلو جاز الخطأ عليه لم يبق وثوق بما تعبدنا اللّٰه تعالى به و ما كلّفناه و ذلك مناقض للغرض من التكليف و هو الانقياد إلىٰ مراد اللّٰه تعالى.

الثالث: أنّه لو وقع منه الخطأ لوجب الإنكار عليه، و ذلك يضادّ أمر الطاعة له بقوله تعالى: «أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1).

الرابع: لو وقع منه المعصية لزم نقض الغرض من نصب الإمام، و التالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّ الغرض من إقامته انقياد الأُمّة له و امتثال أوامره و اتباعه فيما يفعله، فلو وقعت المعصية منه لم يجب شيء من ذلك و هو مناف لنصبه.

الخامس: أنّه لو وقع منه المعصية لزم أن يكون أقل درجة من العوامّ، لأنّ عقله أشد و معرفته باللّٰه تعالى و ثوابه و عقابه أكثر، فلو وقع منه المعصية كان أقل حالاً من رعيته و كل ذلك باطل قطعاً.

قال: و لا تُنافي العصمةُ القدرةَ.

أقول: اختلف القائلون بالعصمة في أنّ المعصوم هل يتمكن من فعل المعصية أم لا، فذهب قوم منهم إلىٰ عدم تمكنه من ذلك، و ذهب آخرون إلىٰ تمكنه منها.

**********

(1) . النساء: 59.

ص: 185

أمّا الأولون فمنهم من قال: إنّ المعصوم مختص في بدنه أو نفسه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه على المعصية.

و منهم من قال: إنّ العصمة هو القدرة على الطاعة و عدم القدرة على المعصية، و هو قول أبي الحسين البصري.

و أمّا الآخرون الذين لم يسلبوا القدرة فمنهم من فسّرها بأنّه الأمر الذي يفعله اللّٰه تعالى بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك الأمر إلى الإلجاء، و منهم من فسرها بأنها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي.

و آخرون قالوا: العصمة لطف يفعله اللّٰه تعالى بصاحبها لا يكون له معه داع إلىٰ ترك الطاعة و ارتكاب المعصية، و أسباب هذا اللطف أُمور أربعة:

أحدها: أن يكون لنفسه أو لبدنه خاصية تقتضي ملكة مانعة من الفجور و هذه الملكة مغايرة للفعل.

الثاني: أن يحصل له علم بمثالب المعاصي و مناقب الطاعات.

الثالث: تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي و الإلهام من اللّٰه تعالى.

الرابع: مؤاخذته علىٰ ترك الأولىٰ، بحيث يعلم أنّه لا يُترك مهملاً بل يضيق عليه الأمر في غير الواجب من الأُمور الحسنة، فإذا اجتمعت هذه الأُمور كان الإنسان معصوماً.

و المصنف رحمه الله اختار المذهب الثاني، و هو أن العصمة لا تنافي القدرة بل المعصوم قادر علىٰ فعل المعصية، و إلا لما استحق المدح علىٰ ترك المعصية و لا الثواب، و لبطل الثواب و العقاب في حقه، فكان خارجاً عن التكليف، و ذلك باطل بالإجماع.

ص: 186

و بالنقل في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ»(1).

المسألة الثالثة: في أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من غيره

المسألة الثالثة: في أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من غيره(2)

قال: و قبحُ تقديم المفضول معلومٌ، و لا ترجيح في المساوي

أقول: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته، لأنّه إمّا أن يكون مساوياً لهم أو أنقص منهم أو أفضل، و الثالث هو المطلوب، و الأوّل محال لأنّه مع التساوي يستحيل ترجيحه علىٰ غيره بالإمامة، و الثاني أيضاً محال لأنّ المفضول يقبح عقلاً تقديمه على الفاضل.

و يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(3) .

و يدخل تحت هذا الحكم كون الإمام أفضل في العلم و الدين و الكرم و الشجاعة و جميع الفضائل النفسانية و البدنية.

المسألة الرابعة: في وجوب النص على الإمام

المسألة الرابعة: في وجوب النص على الإمام(4)

قال: و العصمةُ تقتضي النصَّ و سيرتُه عليه السلام.

أقول: ذهبت الإمامية خاصة إلىٰ أنّ الإمام يجب أنّ يكون منصوصاً عليه.

**********

(1) . الكهف: 110.

(2) . الشافي في الإمامة: 326/1، الذخيرة: 429، الاقتصاد: 190، رسالة في الإمامة للماتن: 431، أنوار الملكوت: 206، اللوامع الإلهية: 261.

(3) . يونس: 35.

(4) . الشافي في الإمامة: 5/2، الذخيرة: 429، الاقتصاد: 194، أنوار الملكوت: 207، رسالة في الإمامة: 430، اللوامع الالهية: 272.

ص: 187

و قالت العباسية: إنّ الطريق إلىٰ تعيين الإمام النص أو الميراث.

و قالت الزيدية: تعيين الإمام بالنص أو الدعوة إلىٰ نفسه.

و قال باقي المسلمين: الطريق إنّما هو النص أو اختيار أهل الحل و العقد.

و الدليل علىٰ ما ذهبنا إليه وجهان:

الأوّل: أنّا قد بينا أنّه يجب أن يكون الإمام معصوماً و العصمة أمر خفي لا يعلمها إلاّ اللّٰه تعالى فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى لأنّه العالم بالشرط دون غيره.

الثاني: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان أشفق على الناس من الوالد علىٰ ولده حتىٰ إنّه عليه السلام أرشدهم إلىٰ أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلىٰ أُمور كثيرة مندوبة، و غيرها من الوقائع، و كان عليه السلام إذا سافر عن المدينة يوماً أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين، و من هذه حاله كيف ينسب إليه إهمال أُمّته و عدم إرشادهم في أجلّ الأشياء و أسناها و أعظمها قدراً و أكثرها فائدة و أشدهم حاجة إليها و هو المتولي لأُمورهم بعده؟! فوجب من سيرته عليه السلام نصب إمام بعده و النص عليه و تعريفهم إياه، و هذا برهان لمي.

المسألة الخامسة: في أنّ الإمام بعد النبي عليه السلام بلا فصل علي بن أبي طالب عليه السلام

اشارة

قال: و هما مختصّانِ بعلي عليه السلام

أقول: العصمة و النص مختصان بعلي عليه السلام: إذ الأُمّة بين قائلَيْن: أحدهما

ص: 188

لم يشترطهما و الثاني المشترطون، و قد بينا بطلان قول الأولين فانحصر الحق في قول الفريق الثاني، و كل من اشترطهما قال إنّ الإمام هو علي عليه السلام.

قال: و النصُّ الجليُّ في قوله: «سلِّموا عليه بإمرة المؤمنين» و «أنت

الخليفة من بعدي» و غيرهما(1).

أقول: هذا دليل ثان علىٰ أنّ الإمام هو علي عليه السلام، و هو النص الجلي من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في مواضع تواترت بها الإمامية و نقلها غيرهم نقلاً شائعاً ذائعاً:

منها: لما نزل قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ»(2) أمر رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أبا طالب أن يصنع له طعاماً، و جمع بني عبد المطلب فقال لهم:

«أيّكم يوازرني و يعينني فيكون أخي و خليفتي و وصيي من بعدي؟» فقال علي عليه السلام: «أنا أبايعك و أوازرك» فقال عليه السلام: «هذا أخي و وصيي و خليفتي من بعدي و وارثي فاسمعوا له و أطيعوا». و بقوله صلوات اللّٰه عليه: «أنت أخي و وصيي و خليفتي من بعدي و قاضي ديني»(3).

و منها: لما آخى بين الصحابة و لم يتخلف سوى علي عليه السلام فقال: «يا رسول اللّٰه آخيت بين الصحابة دوني». فقال له عليه السلام: «أ لم ترض أن تكون أخي و خليفتي من بعدي؟» و آخىٰ بينه و بينه(4).

**********

(1) . تاريخ ابن عساكر: 260/2 برقم 777، الشافي في الإمامة: 67/2، الذخيرة: 437، أنوار الملكوت: 209، الاقتصاد: 196، الغدير: 270/1.

(2) . الشعراء: 214.

(3) . العمدة لابن البطريق: 121-122، 133-134، غاية المرام: 320، شواهد التنزيل: 420/1، الغدير: 278/2-279.

(4) . العمدة: 215-223، الغدير: 112/3-125.

ص: 189

و منها: أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم تقدم إلى الصحابة بأن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين(1) و قال له: «أنت سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين».(2) و قال فيه: «هذا ولي كل مؤمن و مؤمنة»، و النصوص في ذلك كثيرة أكثر من أن تحصىٰ ذكرها المخالف و المؤالف إلىٰ أن بلغ مجموعها التواتر(3).

قال: و لقوله تعالى: (إنّما وليكم اللّٰه و رسوله) الآية، و إنّما اجتمعت الأوصاف في علي عليه السلام.

قال: و لقوله تعالى: (إنّما وليكم اللّٰه و رسوله) الآية، و إنّما اجتمعت الأوصاف في علي عليه السلام(4).

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام، و هو قوله تعالى: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ»(5).

و الاستدلال بهذه الآية يتوقف علىٰ مقدمات:

إحداها: أنّ لفظة إنّما للحصر، و يدلّ عليه المنقول و المعقول.

أمّا المنقول فلاجماع أهل العربية عليه.

و أمّا المعقول فلأنّ لفظة إنّ للإثبات و ما للنفي قبل التركيب، فيكون كذلك بعد التركيب عملاً بالاستصحاب و للإجماع علىٰ هذه الدلالة، و لا يصح تواردهما علىٰ معنىٰ واحد، و لا صَرْف الإثبات إلىٰ غير المذكور و النفي إلىٰ المذكور للإجماع، فبقي العكس و هو صرف الإثبات إلىٰ المذكور و النفي إلىٰ غيره و هو معنى الحصر.

**********

(1) . راجع ص 189، التعليقة 1.

(2) . العمدة: 418، الغدير: 50/1-52، و 176/7.

(3) . مناقب ابن المغازلي: 65-66.

(4) . العمدة: 167، الغدير: 47/2-52-53، و ص 59.

(5) . المائدة: 55.

ص: 190

الثانية: أنّ الولي يفيد الأولىٰ بالتصرف، و الدليل عليه نقل أهل اللغة و استعمالهم، كقولهم: السلطان ولي من لا ولي له، و كقولهم: ولي الدم و ولي الميت، و كقوله عليه السلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل»(1).

الثالثة: أنّ المراد بذلك بعض المؤمنين، لأنّه تعالى وصفهم بوصف مختص ببعضهم، و لأنّه لو لا ذلك لزم اتحاد الولي و المتولي.

و إذ قد تمهدت هذه المقدمات فنقول: المراد بهذه الآية هو علي عليه السلام، للإجماع الحاصل علىٰ أنّ من خصَّص بها بعض المؤمنين قال إنّه علي عليه السلام، فصرفها إلىٰ غيره خرق الإجماع(2).

و لأنّه عليه السلام إمّا كلّ المراد أو بعضه للإجماع و قد بيّنا عدم العمومية فيكون هو كلّ المراد، و لأنّ المفسرين اتفقوا علىٰ أنّ المراد بهذه الآية علي عليه السلام لأنّه لما تصدق بخاتمه حالة ركوعه نزلت هذه الآية فيه و لا خلاف في ذلك.

قال: و لحديث الغدير المتواتر.

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام، و تقريره: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال في غدير خم و قد رجع من حجة الوداع: «معاشر المسلمين أ لست أولىٰ بكم من أنفسكم؟» قالوا: بلىٰ، قال صلى الله عليه و آله و سلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله»(3).

و قد نقل المسلمون كافة هذا الحديث نقلاً متواتراً لكنهم اختلفوا في دلالته على الإمامة.

**********

(1) . بحار الأنوار: 239/37.

(2) . تفسير الثعلبي المخطوط: 74، مناقب ابن المغازلي: 311.

(3) . العمدة: 139، مناقب ابن المغازلي: 25-26، الغدير: 14/1-151.

ص: 191

و وجه الاستدلال به أنّ لفظة مولىٰ تفيد الأولىٰ، لأن مقدمة الحديث تدل عليه، و لأنّ عرف اللغة يقتضيه، و كذا الاستعمال، لقوله تعالى: «اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ»(1) أي أولىٰ بهم، و قول الأخطل: «فأصبحت مولاها من الناس كلهم» و قولهم: مولى العبد أي الأولىٰ بتدبيره و التصرف فيه، و لأنّها مشتركة بين معان غير مرادة هنا إلاّ الأولىٰ، و لأنّه إمّا كل المراد أو بعضه و لا يجوز خروجه عن الإرادة لأنّه حقيقة فيه و لم يثبت إرادة غيره.

قال: و لحديث المنزلة المتواتر.

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام، و تقريره: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(2) و تواتر المسلمون بنقل هذا الحديث، لكنهم اختلفوا في دلالته على الإمامة.

و تقرير الاستدلال به أنّ علياً عليه السلام له جميع منازل هارون من موسىٰ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأنّ الوحدة منفية هنا للاستثناء المشروط بالكثرة، و غير العموم ليس بمراد للاستثناء المخرج ما لولاه لوجب دخوله كالعدد، و الأصل عدم الاشتراك، و لانتفاء القائل بالكثرة من دون العموم، و لعدم فهم المراد من خطاب الحكيم لولاه، و من جملة منازله الخلافة بعده لو عاش لثبوتها له في حياته.

قال: و لاستخلافِهِ على المدينة فيعمُّ للإجماع.

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامته عليه السلام، و تقريره: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم استخلفه على المدينة و أرجف المنافقون بأمير المؤمنين عليه السلام فخرج إلى النبي و قال: «يا

**********

(1) . الحديد: 15.

(2) . العمدة: 173-185، مسند أحمد: 32/3، و فضائل الصحابة: 633/2، الغدير: 51/1، و ج 197/3-201.

ص: 192

رسول اللّٰه إنّ المنافقين زعموا أنّك خلفتني استثقالاً و تحرزاً منّي»، فقال عليه السلام: «كذبوا، إنّما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني، أ فلا ترضىٰ يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(1) و إذا كان خليفته على المدينة في تلك الحال و لم يعزله قبل موته و لا بعده استمرّت ولايته عليها، فلا يكون غيره خليفة عليها، و إذا انتفت خلافة غيره عليها انتفت خلافته علىٰ غيرها للإجماع فثبت الخلافة له عليه السلام.

لا يقال: قد استخلف النبي صلى الله عليه و آله و سلم جماعة على المدينة و على غيرها و مع ذلك فليسوا أئمة عندكم.

لأنّا نقول: إنّ بعضهم عزله عليه السلام و الباقون لم يقل أحد بإمامتهم.

قال: و لقوله عليه السلام: «أنت أخي و وصيي و خليفتي من بعدي و قاضي ديني» بكسر الدال(2).

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام، و تقريره: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أنت أخي و وصيي و خليفتي من بعدي و قاضي ديني» بكسر الدال، و هذا نصّ صريح على الولاية و الخلافة على ما تقدم.

قال: و لأنّه أفضل و إمامة المفضول قبيحة عقلاً(3).

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام، و تقريره: أنّه أفضل من غيره

**********

(1) . العمدة: 173-185، مسند أحمد: 177/1، الغدير: 199/3.

(2) . الشافي في الإمامة: 76/3، مصادر نهج البلاغة: 121/1-151، المراجعات: 223 نقلاً عن كنز العمال و مسند أحمد بن حنبل و غيره.

(3) . الشافي في الإمامة: 326/1، الذخيرة: 429، الاقتصاد: 190، رسالة في الإمامة: 431، أنوار الملكوت: 206، اللوامع الإلهية: 261.

ص: 193

علىٰ ما يأتي فيكون هو الإمام لأن تقديم المفضول على الفاضل قبيح عقلاً، و للسمع علىٰ ما تقدم.

قال: و لظهور المعجزة علىٰ يده، كقلع باب خيبر(1)، و مخاطبة الثعبان(2)، و رفع الصخرة العظيمة عن القليب(3)، و محاربة الجنّ(4)، و ردّ الشمس (5)، و غير ذلك، و ادعى الإمامة فيكون صادقاً.

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، و تقريره: أنّه قد ظهر علىٰ يده معجزات كثيرة و ادعى الإمامة له دون غيره فيكون صادقاً.

أمّا المقدمة الأولىٰ: فلما تواتر عنه أنّه فتح باب خيبر و عجز عن إعادته سبعون رجلاً من أشد الناس قوة.

و خاطبه الثعبان علىٰ منبر الكوفة، فسُئل عنه، فقال: «إنّه من حكام الجن أشكل عليه مسألة أجبته عنها».

و لمّا توجه إلىٰ صفين أصابهم عطش عظيم، فأمرهم فحفروا بئراً قريباً

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 21/1 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (20 ج)، الإرشاد للمفيد: 175-177، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي: 156/1-226 برقم 218-290.

(2) . مدينة المعاجز: 40/2-41.

(3) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 21/1 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (20 ج)، الإرشاد للمفيد: 175-177، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي: 156/1-226 برقم 218-290.

(4) . مدينة المعاجز: 64/2-66 و البحار 175/39-177، نقلاً عن المناقب و إرشاد المفيد و الخرائج، و تاريخ ابن عساكر: 361/2 برقم 862.

(5) . فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 168/6، الصواعق المحرقة: 128، العمدة: 435 برقم 665-666، السيرة الحلبية: 44/3، تاريخ ابن عساكر: 283/2 برقم 807، الغدير: 126/3-141.

ص: 194

من دير، فوجدوا صخرة عظيمة عجزوا عن قلعها، فنزل عليه السلام فاقتلعها و دحا بها مسافة بعيدة فظهر الماء فشربوا ثمّ أعادها، فنزل صاحب الدير و أسلم، فسئل عن ذلك فقال: بني هذا الدير علىٰ قالع هذه الصخرة و مضى من قبلي و لم يدركوه، و استشهد معه عليه السلام في الشام.

و حارب الجنّ و قتل منهم جماعة كثيرة لما أرادوا وقوع الضرر بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث سار إلىٰ بني المصطلق، و ردّت له الشمس مرتين(1)، و غير ذلك من الوقائع المشهورة الدالة علىٰ صدق فاعلها.

و أمّا المقدمة الثانية فظاهرة منقولة بالتواتر، إذ لا يشك أحد في أنّه عليه السلام ادّعى الإمامة بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: و لسبق كفر غيره فلا يصلح للإمامة(2) فتعيَّن هو عليه السلام.

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام، و هو أنّ غيره ممن ادعي لهم الإمامة كالعباس و أبي بكر كانا كافرين قبل ظهور النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلا يصلحان للإمامة لقوله تعالى: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ»(3).

و المراد بالعهد هنا عهد الإمامة لأنّه جواب دعاء إبراهيم عليه السلام.

**********

(1) . الإرشاد للمفيد: 181-183، الصواعق المحرقة: 128، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي: 283/2-306، المناقب للخوارزمي: 306، ينابيع المودة للقندوزي: 138-139، وقعة صفين: 151-152، الطبعة الأولى بالقاهرة.

(2) . العمدة لابن البطريق: 222، 416، صحيح البخاري: 143/6-144، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، الشافي في الإمامة: 137/3-142، الغدير: 306/7-329.

(3) . البقرة: 124.

ص: 195

قال: و لقوله تعالى: «وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ»(1) .

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام(2)، و هو قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ» أمر تعالى بالكون مع الصادقين، أي المعلوم منهم الصدق، و لا يتحقق ذلك إلاّ في حق المعصوم إذ غيره لا يعلم صدقه و لا معصوم غير علي عليه السلام بالإجماع.

قال: و لقوله تعالى: «وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ»(3).

أقول: هذا دليل آخر علىٰ إمامة علي عليه السلام، و هو قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ»(4) أمر بالاتباع و الطاعة لأُولي الأمر.

و المراد منه المعصوم إذ غيره لا أولوية له تقضي وجوب طاعته و لا معصوم غير علي عليه السلام بالإجماع.

المسألة السادسة: في الأدلة الدالة علىٰ عدم إمامة غير علي عليه السلام

قال: و لأنّ الجماعة غير علي عليه السلام غير صالح للإمامة لظلمهم بتقدم كفرهم(5).

أقول: هذه أدلة تدل علىٰ أن غير علي عليه السلام لا يصلح للإمامة:

**********

(1) . التوبة: 119.

(2) . شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 341/1 الحديث 350-357، الدر المنثور لجلال الدين السيوطي: 316/4.

(3) . النساء: 59.

(4) . شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 189/1 الحديث 202 و 203 و 204.

(5) . صحيح البخاري: 143/6-144 و 17/9-18، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، العمدة لابن البطريق: 416 برقم 612، الغدير: 306/7-329.

ص: 196

الأوّل: أن أبا بكر و عمر و عثمان قبل ظهور النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا كفرة فلا ينالوا عهد الإمامة للآية و قد تقدمت.

قال: و خالف أبو بكر كتاب اللّٰه تعالى في منع إرث رسول صلى الله عليه و آله و سلم بخبر رواه هو(1).

أقول: هذا دليل آخر علىٰ عدم صلاحية أبي بكر للإمامة، و تقريره: أنّه خالف كتاب اللّٰه تعالى في منع إرث رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و لم يورث فاطمة عليها السلام و استند إلىٰ خبر رواه هو عن النبي في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»، و عموم الكتاب يدل علىٰ خلاف ذلك.

و أيضاً قوله تعالى «وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ»(2) و قوله في قصة زكريا «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(3) ينافي هذا الخبر، و قالت له فاطمة عليها السلام «أ ترث أباك و لا أرث أبي؟! «لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا»(4) .

و مع ذلك فهو خبر واحد لم نعرف أحداً من الصحابة وافقه علىٰ نقله، فكيف يعارض الكتاب المتواتر؟ و كيف بيّن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم هذا الحكم لغير ورثته و أخفاه عن ورثته؟! و لو كان هذا الحديث صحيحاً عند أهله لم يمسك أمير المؤمنين عليه السلام سيف رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و بَغْلَتَهُ و عِمامتَه، و نازع العباس علياً عليه السلام(5) بعد موت فاطمة عليها السلام، و لو كان هذا الحديث معروفاً عندهم لم يجز لهم ذلك.

**********

(1) . صحيح البخاري: 96/4-98، باب فرض الخمس، ط مطابع الشعب، و الخبر منقول عن عائشة و عمر لا أبي بكر، و أيضاً صحيح البخاري: 177/5-178، باب غزوة خيبر، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، و راجع لبقية المصادر: الغدير: 226/7-227.

(2) . النمل: 16.

(3) . مريم: 6.

(4) . مريم: 27.

(5) . بحار الأنوار: 3/38-4.

ص: 197

و روي أنّ فاطمة عليها السلام قالت: «يا أبا بكر أنت ورثت رسول اللّٰه أم ورثه أهله؟» قال: بل ورثه أهله، فقالت: «ما بال سهم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم!» فقال سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إنّ اللّٰه إذا أطعم نبياً طعمة كانت لولي الأمر بعده!(1)

و ذلك يدل علىٰ أنّه لا أصل لهذا الخبر.

قال: و منع فاطمة عليها السلام فدكاً مع ادعاءِ النحلة لها و شهد علي عليه السلام و أُمّ أيمن، و صدَّق الأزواج في ادعاءِ الحجرة لهن، و لهذا ردَّها عمر بن عبد العزيز.

أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر و عدم صلاحيته للإمامة، و هو أنّه أظهر التعصب علىٰ أمير المؤمنين عليه السلام و على فاطمة بنت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لأنّها ادعت فدكاً و ذكرت أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنحلها إيَّاها، فلم يصدّقها في قولها مع أنّها معصومة و مع علمه بأنّها من أهل الجنة، و استشهدت علياً عليه السلام و أُمّ أيمن فقال: رجل مع رجل أو امرأة مع امرأة!(2)، و صدّق أزواج النبي عليه السلام في ادعاء أنّ الحجرة لهن و لم يجعل الحجرة(3) صدقة!.

و لما عرف عمر بن عبد العزيز كون فاطمة عليها السلام مظلومة ردّ علىٰ أولادها فدكاً(4)، و مع ذلك فإنّ فاطمة عليها السلام كان ينبغي لأبي بكر إنحالها فدكاً ابتداء لو

**********

(1) . مسند أحمد بن حنبل: 9/1 ح 15 (الطبعة الجديدة، دار إحياء التراث العربي - لبنان).

(2) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 268/16-278. و تفصيل ذلك في كتاب فدك للسيد محمد حسن القزويني الحائري.

(3) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 268/16.

(4) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 278/16 و 216.

ص: 198

لم تدعه أو يعطيها إيّاها بالميراث.

قال: و أوصت أن لا يُصلّيَ عليها أبو بكر، فدفنت ليلاً!!

أقول: هذا وجه آخر يدل على الطعن في أبي بكر، و هو أنّ فاطمة عليها السلام لما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلّي عليها أبو بكر، غيظاً عليه و منعاً له عن ثواب الصلاة عليها، فدفنت ليلاً و لم يعلم أبو بكر بذلك، و أُخفي قبرها لئلاّ يصلّي على القبر(1)، و لم يعلم بقبرها إلى الآن.

قال: و لقوله: أقيلوني فلستُ بخيركم و عليٌ فيكم!!

أقول: هذا وجه آخر في الطعن علىٰ أبي بكر، و هو أنّه قال يوم السقيفة: اقيلوني فلست بخيركم و علي فيكم!(2)

و هذا الإخبار إن كان حقاً لم يصلح للإمامة لاعترافه بعدم الصلاحية مع وجود عليّ عليه السلام، و إن لم يكن حقاً فعدم صلاحيته للإمامة حينئذ أظهر.

قال: و لقوله إنّ له شيطاناً يعتريه.

أقول: هذا دليل آخر علىٰ عدم صلاحيته للإمامة، و هو ما روي عنه أنّه قال مختاراً: وليتكم و لست بخيركم! فإن استقمت فاتبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، فإنّ لي شيطاناً عند غضبي يعتريني!!، فإذا رأيتموني مغضباً

**********

(1) . صحيح البخاري: 177/5، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، المستدرك للحاكم: 162/3-163، طبعة دار المعرفة - بيروت.

(2) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 169/1، التمهيد: 190، 193، 195. منهاج البراعة للخوئي: 57/3، الصواعق المحرقة: 11، الإمامة و السياسة: 14/1 طبع مطبعة مصطفى محمد، شرح النهج لابن أبي الحديد: 20/6.

ص: 199

فاجتنبوني لئلا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم!(1)

و هذا يدل على اعتراض الشيطان له في كثير من الأحكام، و مثل هذا لا يصلح للامامة.

قال: و لقول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّٰه شرّها! فمن عاد إلىٰ مثلها فاقتلوه.

أقول: هذا دليل آخر يدل على الطعن فيه لأنّ عمر كان إماماً عندهم و قال في حقه: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّٰه المسلمين شرها! فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه(2).

فبيّن عمر أنّ بيعته كانت خطأ على غير الصواب و أنّ مثلها مما يجب فيه المقاتلة، و هذا من أعظم ما يكون من الذم و التخطئة.

قال: و شك عند موته في استحقاقِه للإمامةِ.

أقول: هذا وجه آخر يدل علىٰ عدم إمامة أبي بكر، و هو أنّه قال لما حضرته الوفاة: ليتني كنت سألت رسول اللّٰه هل للأنصار في هذا الأمر حق؟(3)

**********

(1) . الإمامة و السياسة في ضمن خطبة لأبي بكر: 16/1، مطبعة مصطفى محمد - مصر، الصواعق المحرقة لابن حجر خطبة أبي بكر ص 12، طبع شركة الطباعة الغنية المتحدة: 1385.

راجع لبقية المصادر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 20/6، السبعة من السلف للسيّد الفيروزآبادي: ص 9-12.

(2) . مسند أحمد: 55/1، أُفست دار الفكر، التمهيد للباقلاني: 184-196، صحيح البخاري: 208/8-211، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، الصواعق المحرقة: 10-14.

(3) . الإمامة و السياسة لابن قتيبة: ص 17-18، تحت عنوان: مرض أبي بكر و استخلافه عمر.

ص: 200

و قال أيضاً: ليتني كنت في ظل بني ساعدة ضربت يدي علىٰ يد أحد الرجلين فكان هو الأمير و كنت الوزير.

و هذا كله يدل علىٰ تشككه في استحقاقه للإمامة و اضطراب أمره فيها و أنّه كان يرىٰ أن غيره أولىٰ بها منه.

قال: و خالف الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في الاستخلاف عندهم، و في تولية من عزله صلى الله عليه و آله و سلم.

أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر، و هو أنّه خالف الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في الاستخلاف عندهم لأنّهم زعموا أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يستخلف أحداً، فباستخلافه يكون مخالفاً للنبي صلى الله عليه و آله و سلم عندهم و مخالفة النبي صلى الله عليه و آله و سلم توجب الطعن.

و أيضاً فإنّه خالف النبي صلى الله عليه و آله و سلم في استخلاف من عزله النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأنّه استخلف عمر بن الخطاب و قد كان النبي لم يوله عملاً سوى أنّه بعثه في خيبر فرجع منهزماً و ولاه أمر الصدقات فشكاه العباس إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فعزله، و أنكرت الصحابة علىٰ أبي بكر ذلك حتىٰ قال له طلحة: وليت علينا فظّاً غليظاً(1).

قال: و في التخلّف عن جيش أُسامة مع علمهم بقصد البعد و ولّى أُسامة عليهم فهو أفضلُ و علي عليه السلام لم يُولِّ عليه أحداً و هو أفضل من أُسامة(2).

أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر، و هو أنّه خالف النبي صلى الله عليه و آله و سلم

**********

(1) . الإمامة و السياسة: 18-19، التمهيد للباقلاني: / 165-169، باب الكلام في ابطال النص و تصحيح الاختيار، فيه: تولى علينا فظاً غليظاً، و أيضاً ص 201.

(2) . التمهيد: 193، الشافي: 144/4، شرح النهج لابن أبي الحديد: 175/17-194.

ص: 201

حيث أمره هو و عمر بن الخطاب و عثمان في تنفيذ جيش أُسامة لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال في مرضه حالاً بعد حال: «نفّذوا جيش أُسامة»، و كان الثلاثة في جيشه و في جملة من يجب عليه النفوذ معه، فلم يفعلوا ذلك، مع أنّهم عرفوا قصد النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأنّ غرضه بالتنفيذ من المدينة بعد الثلاثة عنها بحيث لا يتوثّبوا على الإمامة بعد موت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و لهذا جعل الثلاثة في الجيش و لم يجعل علياً عليه السلام معه، و جعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُسامة أمير الجيش و كان فيه أبو بكر و عمر و عثمان، فهو أفضل منهم و علي عليه السلام أفضل من أُسامة، و لم يول عليه أحداً فيكون هو عليه السلام أفضل الناس كافة.

قال: و لم يتولَّ عملاً في زمانه، و أعطاه سورة براءة فنزل جبرئيل فأمره بردّه و أخذ السورة منه و أن لا يقرأها إلاّ هو أو أحدٌ من أهل بيته فبعث بها علياً عليه السلام(1).

أقول: هذا طعن آخر علىٰ أبي بكر، و هو أنّه لم يوله النبي صلى الله عليه و آله و سلم عملاً في حياته أصلاً سوى أنّه أعطاه سورة براءة و أمره بالحج بالناس، فلما مضىٰ بعض الطريق نزل جبرئيل عليه السلام على النبي و أمره بردّه و أخذ السورة منه و أن لا يقرأها إلاّ هو عليه السلام أو أحد من أهل بيته، فبعث بها علياً عليه السلام و ولاّه الحج بالناس.

و هذا يدل علىٰ أنّ أبا بكر لم يكن أهلاً لإمارة الحج فكيف يكون أهلاً للإمامة بعده، و لأن من لا يؤمن علىٰ أداء سورة في حياته عليه السلام كيف يؤمن على

**********

(1) . شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 303/1، الحديث 307 و 308 و 309 و 310 و 311 و 312 و 313 و 314 و 315 و 327، الشافي في الإمامة: 61/3، جامع البيان (تفسير الطبري): 41/10-55.

ص: 202

الإمامة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: و لم يكن عارفاً بالأحكام حتىٰ قطع يسار سارق، و أحرق بالنار(1)، و لم يعرف الكلالة و لا ميراث الجدة(2) و اضطرب في أحكامه، و لم يحدَّ خالداً و لا اقتصَّ منه(3).

أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر، و هو أنّه لم يكن عارفاً بالأحكام فلا يجوز نصبه للإمامة.

أمّا المقدمة الثانية فقد مرّت، و أمّا الأُولىٰ فلأنّه قطع سارقاً من يساره و هو خلاف الشرع، و أحرق الفجاءة السلمي بالنار و قد نهى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك و قال: «لا يعذب بالنار إلاّ رب النار».

و سئل عن الكلالة فلم يعرف ما يقول فيها ثمّ قال: أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن اللّٰه، و إن كان خطأ فمني و من الشيطان، و الحكم بالرأي باطل.

و سألته جدة عن ميراثها فقال: لا أجد لك شيئاً في كتاب اللّٰه و لا سنة نبيه، ارجعي حتىٰ أسأل، فأخبره المغيرة بن شعبة و محمد بن مسلمة أنّ النبي

**********

(1) . السنن الكبرى للبيهقي: 273/8 باب السارق..، المستدرك للحاكم: 303/2 و 304، و سنن ابن ماجة باب الكلالة: 910/2، الحديث 2726 و 2727 و 2728.

(2) . سنن ابن ماجة: 909/2 رقم الحديث: 2724.

(3) . تاريخ الإسلام للذهبي (عهد الخلفاء الراشدين): 32-37، تاريخ الطبري: 502/2-503، أُفست ليدن - بيروت مؤسسة الأعلمي، و تفصيل كل هذه الفصول في الغدير: 73/7-330، الشافي: 161/4.

ص: 203

صلى الله عليه و آله و سلم أعطاها السدس.

و اضطرب في كثير من الأحكام، و كان يستفتي الصحابة فيها، و ذلك يدل علىٰ قصور علمه و قلة معرفته.

و قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة و واقع امرأته ليلة قتله و ضاجعها، فلم يحدّه على الزنا و لا قتله بالقصاص، و أشار عليه عمر بقتله و عزله، فقال:

لا أغمد سيفاً شهره اللّٰه على الكفّار.

قال: و دفن في بيت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و قد نهى اللّٰه تعالى دخوله في حياته بغير إذن(1)، و بعث إلىٰ بيت أمير المؤمنين عليه السلام لما امتنع من البيعة فأضرَمَ فيه النار و فيه فاطمة و الحسن و الحسين و جماعة من بني هاشم(2)، و ردَّ عليه الحسنان لما بويع، و ندم علىٰ كشف بيت فاطمة عليها السلام(3).

أقول: هذه مطاعن أُخر في أبي بكر، و هو أنّه دفن في بيت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و قد نهى اللّٰه تعالى عن الدخول إليه بغير إذن النبي صلى الله عليه و آله و سلم حال حياته فكيف بعد موته؟!

و بعث إلىٰ بيت أمير المؤمنين عليه السلام لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار و فيه فاطمة و الحسن و الحسين و جماعة من بني هاشم، و أخرجوا علياً عليه السلام كرهاً و كان معه الزبير في البيت فكسروا سيفه و أخرجوه من الدار، و ضُربت فاطمة

**********

(1) . الشافي: 168/4، شرح النهج لابن أبي الحديد: 214/17.

(2) . الشافي: 112/4، و الإمامة و السياسة: 12، باب كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب، الغدير: 372/5، السبعة من السلف: 62.

(3) . تاريخ الطبري لابن جرير: 619/2، الغدير: 170/7-174، السبعة من السلف: 16.

ص: 204

عليها السلام فألقت جنيناً اسمه محسن!!!.(1)

و لما بويع أبو بكر صعد المنبر فجاءه الحسنان عليهما السلام مع جماعة من بني هاشم و غيرهم و أنكروا عليه، و قال له الحسن و الحسين عليهما السلام: «هذا مقام جدّنا، لست له أهلاً».

و لما حضرته الوفاة قال: ليتني تركت بيت فاطمة لم أكشفه؛ و هذا يدل علىٰ خطائه في ذلك.

قال: و أمر عمر برجم امرأة حامل و أُخرى مجنونة فنهاه علي عليه السلام فقال: لو لا علي لهلك عمر(2).

أقول: هذا طعن علىٰ عمر يمتنع معه الإمامة له، و هو أنّ عمر أُتي إليه بامرأة قد زنت و هي حامل، فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: «إن كان لك عليها سبيل فليس لك علىٰ حملها سبيل»، فأمسك و قال: لو لا علي لهلك عمر.

و أُتي إليه بامرأة مجنونة قد زنت، فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: «إنّ القلم مرفوع عن المجنون حتىٰ يفيق»، فأمسك و قال: لو لا علي لهلك عمر.

و من يخفىٰ عليه هذه الأُمور الظاهرة في الشريعة كيف يستحق الإمامة؟!

**********

(1) . بحار الأنوار: 170/43 برقم 11 و الملل و النحل للشهرستاني: 59/1 ط القاهرة مكتبة الاغلو المصرية.

(2) . ذخائر العقبى: 81-80، و تفصيل ذلك في الغدير: 110/6.

ص: 205

قال: و تشكّك في موت النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتىٰ تلا عليه أبو بكر: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» فقال: كأنّي لم أسمع هذه الآية!(1).

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ عمر لم يكن حافظاً للكتاب العزيز و لم يكن متدبراً لآياته فلا يستحق الإمامة، و ذلك أنّه قال عند موت النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

و اللّٰه ما مات محمد حتىٰ يقطع أيدي رجال و أرجلهم.

فلما نبّهه أبو بكر بقوله تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(2) ، و بقوله: «أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ»(3) ، قال: كأنّي ما سمعت بهذه الآية و قد أيقنت بوفاته!

قال: و قال: كلٌّ أفقه من عمر حتى المخدرات، لمّا مَنَعَ من المغالاة في الصداق.

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ عمر قال يوماً في خطبته: من غالىٰ في صداق ابنته جعلته في بيت المال.

فقالت له امرأة: كيف تمنعنا ما أحلّه اللّٰه لنا في كتابه بقوله: «وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً»(4) الآية؟!

فقال عمر: كل أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت(5)، و من يشتبه عليه مثل هذا الحكم الظاهر لا يصلح للإمامة.

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 40/2، تاريخ الطبري: 442/2، أُفست مؤسسة الأعلمي، و راجع الغدير: 74/7 لبقية المصادر.

(2) . الزمر: 30.

(3) . آل عمران/ 144.

(4) . النساء: 20.

(5) . السنن الكبرى للبيهقي: 233/7، تفسير القرطبي: 99/5، و تفصيل ذلك في الغدير: 95/6-99.

ص: 206

قال: و أعطى ازواجَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و اقترض، و منع أهل البيت عليهم السلام من خمسهم(1).

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ عمر كان يعطي أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم [من] بيت المال حتىٰ كان يعطي عائشة و حفصة عشرة آلاف درهم كل سنة، و أخذ من بيت المال ثمانين ألف درهم فأنكروا عليه ذلك فقال: أخذته علىٰ جهة القرض، و منع أهل البيت عليهم السلام الخمس الذي أوجبه اللّٰه تعالى لهم في الكتاب العزيز.

قال: و قضى في الجدّ مائة قضيّةٍ، و فضل في القسمة، و منع المتعتين(2):

أقول: هذه مطاعن أُخر، و هو أنّ عمر غير عارف بأحكام الشريعة: فقضىٰ في الجدّ بمائة قضية و روى تسعين قضية، و هذا يدل علىٰ قلة معرفته بالأحكام الظاهرة.

و أيضاً فضل في القسمة و العطاء، و الواجب التسوية.

و قال: «متعتان كانتا علىٰ عهد رسول اللّٰه أنا أنهى عنهما و أُعاقب عليها»، مع أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم تأسف علىٰ فوات المتعة، و لو لم تكن أفضل من غيرها من أنواع الحج لما فعل النبي عليه السلام ذلك.

و جماعة كانوا قد ولدوا من المتعة في زمن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و بعد وفاته و لو لم تكن سائغة لم يقع منهم ذلك.

**********

(1) . الشافي في الإمامة: 185/4، شرح النهج لابن أبي الحديد: 210/12، حلية الأولياء: 205/3. مسند أحمد: 248/1-294.

(2) . الشافي في الإمامة: 193/4-199، شرح النهج لابن أبي الحديد: 246/12، 251، 254، و تفصيل ذلك في الغدير: 129/6، و 198-240.

ص: 207

قال: و حكم في الشورىٰ بضدّ الصواب(1).

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ عمر خالف رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عندهم، حيث لم يفوض الأمر إلى اختيار الناس، و خالف أبا بكر حيث لم ينص علىٰ امام بعده، ثمّ إنّه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورىٰ، و أظهر كراهية أن يتقلد أمر المسلمين ميتاً كما تقلده حيّاً، ثمّ تقلده و جعل الإمامة في ستة نفر، ثمّ ناقض نفسه فجعلها في أربعة بعد الستة، ثمّ في ثلاثة، ثمّ في واحد فجعل إلىٰ عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف، ثمّ قال: «إن اجتمع علي و عثمان فالأمر كما قالاه و إن صاروا ثلاثة ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن»، لعلمه بعدم الاجتماع من علي و عثمان، و علمه بأنّ عبد الرحمن لا يعدل بها عن أخيه عثمان ابن عمه، ثمّ أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام و أمر بقتل من خالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن، و كيف يسوغ له قتل علي عليه السلام و عثمان و غيرهما و هما من أكابر المسلمين؟!

قال: و خرقَ كتابَ فاطمةَ عليها السلام(2).

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ فاطمة عليها السلام لما طالت المنازعة بينها و بين أبي بكر ردّ أبو بكر عليها فدكاً و كتب لها بذلك كتاباً، فخرجت و الكتاب في

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 256/12، الشافي: 199/4.

(2) . السيرة الحلبية: 362/3، المكتبة الإسلامية و 400/3 من طبعة مطبعة مصطفى محمد، بحار الأنوار: 121/29، 128، 134، تفسير العياشي: 287/2 رقم الحديث 49. الاحتجاج للطبرسي: 234/1 برقم 47 تحقيق البهادري و هادي به. ط. قم، تفسير علي بن إبراهيم القمي: 155/2 ط افست قم، الغدير: 238/8، فدك للسيد محمد حسن القزويني: 89.

ص: 208

يدها، فلقيها عمر فسألها عن شأنها، فقصت قصتها، فأخذ منها الكتاب و خرقه!! فدعت عليه، و دخل علىٰ أبي بكر و عاتبه علىٰ ذلك فاتفقا علىٰ منعها عن فدك!

قال: و ولّى عثمانُ من ظهر فسقه حتىٰ أحدثوا في أمر المسلمين ما أحدثوا(1).

أقول: هذا طعن علىٰ عثمان، و هو أنّه ولّى أُمور المسلمين من ظهر منه الفسق و الخيانة، و قسم الولايات بين أقاربه، و قد كان عمر حذره و قال له: إذا ولِّيت هذا الأمر فلا تسلط آل أبي معيط علىٰ رقاب المسلمين، و صدق عمر فيه في قوله إنّه كَلِفٌ بأقاربه.

و استعمل الوليد بن عقبة حتىٰ ظهر منه شرب الخمر و صلّى بالناس و هو سكران.

و استعمل سعيد بن العاص على الكوفة فظهر منه ما أخرجه به أهل الكوفة عنها.

و ولّى عبد اللّٰه بن أبي سرح مصر حتىٰ تظلّم منه أهلها، و كاتب ابن أبي سرح أن يستمر علىٰ ولايته سراً بخلاف ما كتب إليه جهراً، و أمره بقتل محمد بن أبي بكر.

و ولّى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث!!.

قال: و آثر أهله بالأموال.

أقول: هذا طعن آخر علىٰ عثمان، و هو أنّه كان يؤثر أهل بيته و أقاربه

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 198/1 و 200، 129/2-160، 11/3-39، و الغدير: 179/9.

ص: 209

بالأموال العظيمة من بيت مال المسلمين، فإنّه دفع إلىٰ أربعة نفر من قريش أربعمائة ألف دينار حيث زوجهم ببناته.

و دفع إلىٰ مروان ألف ألف درهم حين فتح إفريقية، و مَن قبله كان يعطي بقدر الاستحقاق و لا يتخطىٰ الأجانب إلىٰ الأقارب.

قال: و حمى لنفسه(1).

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ عثمان حمىٰ الحمىٰ لنفسه عن المسلمين و منعهم عنه و ذلك مناف للشرع لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم جعل الناس في الماء و الكلاء و النار شرعاً سواء.

قال: و وقع منه أشياء منكرةٌ في حق الصحابة: فضرب ابن مسعود حتىٰ مات و أحرق مصحفه، و ضرب عمّاراً حتىٰ أصابه فتقٌ(2)، و ضرب أبا ذر و نفاه إلى الربذة(3).

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ عثمان ارتكب من الصحابة ما لا يجوز و فعل بهم ما لا يحلّ: فضرب ابن مسعود حتىٰ مات عند إحراقه المصاحف، و أحرق مصحفه و أنكر عليه قراءته، و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم: «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً فليقرأ بقراءة ابن مسعود»، و كان ابن مسعود يطعن في عثمان و يكفّره.

و ضرب عمار بن ياسر حتىٰ صار به فتق، و كان يطعن في عثمان و كان يقول: قتلناه كافراً.

و استحضر أبا ذر من الشام لهوىٰ معاوية و ضربه و نفاه إلىٰ الربذة، مع أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان مقرباً لهؤلاء الصحابة و شاكراً لهم.

**********

(1) . الغدير: 234/8 برقم 28.

(2) . الغدير: 15/9 برقم 42.

(3) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 40/3-52، الغدير: 292/8 برقم 40.

ص: 210

قال: و أسقط القود عن ابن عمر و الحدَّ عن الوليد مع وجوبهما(1).

أقول: هذا طعن آخر، و هو أنّ عثمان كان يترك الحدود و يعطلها و لا يقيمها لأجل هوى نفسه، و مثل هذا لا يصلح للإمامة، فإنّه لم يقتل عبد اللّٰه بن عمر لما قتل الهرمزان بعد إسلامه.

و لما ولّى أمير المؤمنين عليه السلام طلبه لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية.

و لما وجب على الوليد بن عقبة حد الشرب أراد أن يسقطه عنه فحدّه علي عليه السلام و قال: «لا يبطل حدّ اللّٰه و أنا حاضر».

قال: و خذله الصحابةُ حتىٰ قُتِلَ، و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللّٰه قتله»(2).

و لم يُدفن إلاّ بعد ثلاثة أيام، و عابوا غيبته عن بدر و أحدٍ و البيعة(3).

أقول: هذه مطاعن أُخر في عثمان، و هو أنّ الصحابة خذلوه حتىٰ قتل، و قد كان يمكنهم الدفع عنه فلولا علمهم باستحقاقه لذلك و إلاّ لَما ساغ لهم التأخر عن نصرته.

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللّٰه قتله».

و تركوه بعد القتل ثلاثة أيام و لم يدفنوه، و ذلك يدل علىٰ شدة غيظهم عليه و إفراطهم في الحنق لما أصابهم من ضرره و ظلمه، و عابت الصحابة عليه غيبته عن بدر و أُحد و لم يشهد بيعة الرضوان.

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 11/3-29 و 59-62.

(2) . شرح النهج: 128/2.

(3) . شرح النهج: 11/3-69.

ص: 211

المسألة السابعة: في أنّ علياً عليه السلام أفضل من الصحابة

قال: و عليٌّ عليه السلام أفضلُ، لكثرة جهاده و عظم بلائه في وقائع النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأجمعها(1)، و لم يبلغ أحدٌ درجته في غَزاة بدر و أُحد و يوم الأحزاب و خيبر و حنين و غيرها.

أقول: اختلف الناس هنا: فقال عمر و عثمان و ابن عمر و أبو هريرة من الصحابة: إنّ أبا بكر أفضل من علي عليه السلام!

و به قال من التابعين الحسن البصري و عمرو بن عبيد، و هو اختيار النظّام و أبي عثمان الجاحظ.

و قال الزبير و سلمان و المقداد و جابر بن عبد اللّٰه و عمار و أبو ذر و حذيفة من الصحابة: إنّ علياً عليه السلام أفضل.

و به قال في التابعين عطاء و مجاهد و سلمة بن كهيل، و هو اختيار البغداديين كافة و الشيعة بأجمعهم و أبي عبد اللّٰه البصري.

و توقف الجُبّائيان و قاضي القضاة، قال أبو علي الجبائي: إن صح خبر الطائر فعليّ أفضل.

و نحن نقول: إنّ الفضائل إمّا نفسانية أو بدنية، و علي عليه السلام كان أكمل و أفضل من باقي الصحابة فيهما، و الدليل علىٰ ذلك وجوه ذكرها المصنف رحمه الله:

الأوّل: أنّ علياً عليه السلام كان أكثر جهاداً و أعظم بلاء في غزوات النبي صلى الله عليه و آله و سلم

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 7/1-10، و حديث الطائر المشوي، تذكرة الخواص للخوارزمي: 44 ط بيروت، فرائد السمطين: 209/1 برقم 165 و 166 و 167.

ص: 212

بأجمعها و لم يبلغ أحد درجته في ذلك:

منها: في غَزاة بدر، و هي أول حرب امتحن بها المؤمنون لقلّتهم و كثرة المشركين، فقتل علي عليه السلام الوليد بن عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، ثمّ العاص بن سعيد بن العاص، ثمّ حنظلة بن أبي سفيان، ثمّ طعيمة بن عدي، ثمّ نوفل بن خويلد و كان شجاعاً و سأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يكفيه أمره فقتله علي عليه السلام، و لم يزل يقاتل حتىٰ قتل نصف المشركين المقتولين، و الباقي من المسلمين و ثلاثة آلاف من الملائكة مسومين قتلوا النصف الآخر و مع ذلك كانت الراية في يد علي عليه السلام(1).

و منها: في غزاة أُحد، جمع له الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بين اللواء و الراية، و كانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة و كان يسمى كبش الكتيبة فقتله علي عليه السلام، فأخذ الراية غيره فقتله عليه السلام، و لم يزل يقتل واحداً بعد واحد حتىٰ قتل تسعة نفر، فانهزم المشركون و اشتغل المسلمون بالغنائم فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فضربوه بالسيوف و الرماح و الحجر حتىٰ غشي عليه، فانهزم الناس عنه سوى علي عليه السلام، فنظر إليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد إفاقته و قال له: «اكفني هؤلاء»، فهزمهم عنه و كان أكثر المقتولين منه عليه السلام(2).

و منها: يوم الأحزاب، و قد بالغ في قتل المشركين، و قتل عمرو بن عبد ودّ و كان بطل المشركين و دعا إلى البراز مراراً فامتنع عنه المسلمون و علي عليه السلام يروم مبارزته و النبي صلى الله عليه و آله و سلم يمنعه من ذلك لينظر صنع المسلمين فلما رأىٰ امتناعهم أذن له و عممه بعمامته و دعا له.

**********

(1) . تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام: 145/1 برقم 206-208، المناقب للخوارزمي: 167 تحقيق مالك المحمودي، المغازي للواقدي: 19/1-152.

(2) . البحار: 137/20.

ص: 213

قال حذيفة: لما دعا عمرو إلى المبارزة أحجم المسلمون عنه كافة ما خلا علياً عليه السلام فإنّه برز إليه فقتله اللّٰه علىٰ يديه، و الذي نفس حذيفة بيده لعمله في ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم إلىٰ يوم القيامة و كان الفتح في ذلك اليوم علىٰ يدي علي عليه السلام(1).

و قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لضربة علي خير من عبادة الثقلين»(2).

و منها: في غزاة خيبر، و اشتهار جهاده فيها غير خفي، و فتح اللّٰه تعالى علىٰ يديه، فإنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم حصر حصنهم بضعة عشر يوماً، و كانت الراية بيد علي عليه السلام فأصابه رمد، فسلّم النبي صلى الله عليه و آله و سلم الراية إلىٰ أبي بكر مع جماعة فرجعوا منهزمين خائفين، فدفعها الغد إلىٰ عمر ففعل مثل ذلك، فقال صلى الله عليه و آله و سلم : «لأُسلّمن الراية غداً إلىٰ رجل يحبّه اللّٰه و رسوله و يحبّ اللّٰه و رسوله، كرّار غير فرّار لا يرجع حتىٰ يفتح، علىٰ يده»، فلما أصبح قال: «ايتوني بعلي»، فقيل:

به رمد، فتفل في عينه و دفع الراية إليه، فقتل مرحباً، فانهزم أصحابه و غلقوا الأبواب؛ ففتح علي عليه السلام الباب و اقتلعه و جعله جسراً على الخندق و عبروا و ظفروا، فلما انصرفوا أخذه بيمينه و دحاه أذرعاً، و كان يغلقه عشرون و عجز المسلمون عن نقله حتىٰ نقله سبعون رجلاً. و قال عليه السلام: «و اللّٰه ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية و لكن قلعته بقوة ربانية»(3).

**********

(1) . تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام: 150/1-155 برقم 216 و 217، المستدرك للحاكم: 32/3، كنز العمال: 623/11 برقم 33035، شواهد التنزيل: 7/2-17 برقم 629 إلى 636، التفسير الكبير للفخر الرازي: 31/32.

(2) . البحار: 2/39.

(3) . تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي عليه السلام: 156/1-225، المناقب للخوارزمي: 166.

ص: 214

و منها: في غزاة حنين، و قد سار النبي صلى الله عليه و آله و سلم في عشرة آلاف فارس من المسلمين، فتعجب أبو بكر من كثرتهم و قال: لن نُغلب اليوم من قلّة فانهزموا بأجمعهم، و لم يبق مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم سوى تسعة نفر: علي عليه السلام و العباس و ابنه الفضل و أبو سفيان بن الحارث و نوفل بن الحارث، و ربيعة بن الحارث و عبد اللّٰه بن الزبير و عتبة و مُعتّب ابنا أبي لهب.

فخرج أبو جرول فقتله علي عليه السلام، فانهزم المشركون، و أقبل المسلمون بعد نداء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و صافّوا العدو فقتل علي عليه السلام أربعين و انهزم الباقون و غنمهم المسلمون(1).

و غير ذلك من الوقائع المأثورة و الغزوات المشهورة التي نقلها أرباب السير.

و كانت الفضيلة في ذلك بأجمعه لعلي عليه السلام، و إذا كان أكثر جهاداً كان أفضل من غيره و أكثر ثواباً.

قال: و لأنّه أعلم، لقوة حدسه، و شدة ملازمته للرسول صلى الله عليه و آله و سلم، و رجعت الصحابة إليه في أكثر الوقائع بعد غلطهم، و قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أقضاكم علي»(2)، و استند الفضلاء في جميع العلوم إليه، و أخبر هو عليه السلام بذلك.

أقول: هذا هو الوجه الثاني في بيان أن علياً عليه السلام أفضل من غيره، و هو

**********

(1) . السيرة الحلبية: 67/3.

(2) . الشافي في الإمامة: 201/1-206، مستدرك الحاكم: 500/3، الرياض النضرة: 160/2-170، و مسند أحمد: 26/5.

ص: 215

أنّه عليه السلام أعلم من غيره فيكون أفضل.

أمّا المقدمة الأُولىٰ فيدل عليها وجوه:

الأوّل: أنّه عليه السلام كان شديد الذكاء في غاية قوة الحدس، و نشأ في حجر رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم ملازماً له مستفيداً منه و الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان أكمل الناس و أفضلهم، و مع حصول القبول التام و المؤثر الكامل يكون الفعل أقوىٰ و أتم و بالخصوص و قد مارس المعارف الإلهية من صغره، و قد قيل: إنّ العلم في الصغر كالنقش في الحجر، و هذا برهان لمي.

الثاني: أنّ الصحابة كانت تشتبه الأحكام عليهم و ربما أفتىٰ بعضهم بالغلط، و كانوا يراجعونه في ذلك، و لم ينقل أنّه عليه السلام راجع أحداً منهم في شيء البتة، و ذلك يدل علىٰ أنّه أفضل من الجماعة:

فإنّه نقل عن أبي بكر أن بعض اليهود لقيه فقال له: أين اللّٰه تعالى؟ فقال: على العرش، فقال اليهودي: خلت الأرض منه حيث اختص ببعض الأمكنة! فانصرف اليهودي مستهزئاً بالإسلام، فلقيه علي عليه السلام فقال له: «إنّ اللّٰه أيّن الأين فلا أين له» إلىٰ آخر الحديث، فأسلم علىٰ يده، و سئل عن الكلالة و الأب فلم يعرف ما يقول حتىٰ أوضح علي عليه السلام الجواب.

و سئل عمر عن أحكام كثيرة فحكم فيها بضد الصواب، فراجعه فيها علي عليه السلام فرجع إلىٰ قوله، كما نقل عنه من إسقاط حد الشرب عن قدامة لمّا تليَ عليه قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جُنٰاحٌ فِيمٰا طَعِمُوا»(1) فقال علي عليه السلام: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يستحلّون محرّماً»، و أمره بردّه و استتابته فإن تاب فاجلده و إلاّ فاقتله، فتاب و لم يدر عمر كم يحدّه، فأمره عليه السلام بحدّه ثمانين.

**********

(1) . المائدة: 93.

ص: 216

و أمر عمر برجم مجنونة زنت، فردّه عليه السلام بقوله: «رفع القلم عن المجنون حتىٰ يفيق» فقال: لو لا علي لهلك عمر(1).

و ولدت امرأة لستة أشهر، فأمر عمر برجمها، فقال له عليه السلام: «إنّ أقل الحمل ستة أشهر بقوله تعالى: «وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ»(2) و قوله: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً» »(3).(4)

و أمر عمر برجم حامل، فقال له عليه السلام: «إن كان لك سبيل عليها فليس لك علىٰ ما في بطنها سبيل» فامتنع، و غير ذلك من الوقائع الشهيرة(5).

الثالث: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في حقه: «أقضاكم علي»، و القضاء يستلزم العلم فيكون أفضل منهم.

الرابع: استناد العلماء بأسرهم إليه، فإنّ النحو مستند إليه، و كذا أصول المعارف الإلهية و علم الأُصول، فإن أبا الحسن الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي من المعتزلة و كافة المعتزلة ينتسبون إليه و يدّعون أخذ معارفهم منه، و أهل التفسير رجعوا إلى ابن عباس فيه و هو تلميذ علي عليه السلام، و الفقهاء ينتسبون إليه و الخوارج مع بعدهم عنه ينتسبون إلىٰ أكابرهم و هم تلامذة علي عليه السلام.

الخامس: إنّه عليه السلام أخبر بذلك في عدة مواضع، كقوله: «سلوني عن طرق السماء، فإني أعرف بها من طرق الأرض»(6).

و قال: «و اللّٰه لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم

**********

(1) . الغدير: 101/6 برقم 7.

(2) . لقمان: 14.

(3) . الأحقاف: 15.

(4) . الغدير: 93/6-95 برقم 4 و 3.

(5) . الغدير: 110/6 برقم 16.

(6) . البحار: 108/39، برقم 13، نقلاً عن الفضائل، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام: 23/3-25، الحديث 1043، 1047، و فرائد السمطين: 340/1 برقم 263، الغدير: 148/6.

ص: 217

و بين أهل الزبور بزبورهم و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم».

و ذلك يدل علىٰ كمال معرفته بجميع هذه الشرائع، و بالجملة فلم ينقل عن أحد من الصحابة و لا عن غيرهم ما نقل عنه من أصول العلم.

قال: و لقوله تعالى: «وَ أَنْفُسَنٰا»(1) .

أقول: هذا هو الوجه الثالث الدال علىٰ أنّه عليه السلام أفضل من غيره، و هو قوله تعالى: «فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ»(2) ، و اتفق المفسرون كافة علىٰ أنّ الأبناء إشارة إلىٰ الحسن و الحسين عليهما السَّلام، و النساء إشارة إلىٰ فاطمة عليها السلام، و الأنفس إشارة إلىٰ علي عليه السلام؛ و لا يمكن أن يقال إنّ نفسيهما واحدة، فلم يبق المراد من ذلك إلاّ المساوي و لا شك في أن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أفضل الناس فمساويه كذلك أيضاً.

قال: و لكثرة سخائه علىٰ غيره(3).

أقول: هذا وجه رابع يدل علىٰ أن علياً عليه السلام أفضل من غيره، و هو أنّه كان أسخىٰ الناس بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم حتىٰ إنّه جاد بقوته و قوت عياله و بات

**********

(1) . فرائد السمطين: 377/1-378 الحديث 307، تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: 479/2 طبعة دار الفكر، روح المعاني للعلامة الآلوسي البغدادي: 187/3-190، طبعة دار إحياء التراث العربي، الغدير: 393/1 برقم 5.

(2) . آل عمران: 61.

(3) . الرياض النضرة لمحب الدين الطبري: 208/2، دار الكتب العلمية - بيروت، البحار: 144/41، شرح النهج لابن أبي الحديد: 21/1، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 301/1-305، ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 102 طبعة مكتبة القدسي بالقاهرة.

ص: 218

طاوياً هو و إياهم ثلاثة أيام حتىٰ أنزل اللّٰه تعالى في حقّهم: «وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً»(1) ، و تصدّق مرة أُخرىٰ بجميع ما يملكه، و قد كان حينئذ يملك أربعة دراهم لا غير فتصدق بدرهم ليلاً و بدرهم نهاراً و بدرهم سراً و بدرهم علانية، فأنزل اللّٰه تعالى في حقه: «اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً»(2) ، و كان يعمل بالأُجرة و يتصدق بها، و يشدّ علىٰ بطنه الحجر من شدة الجوع، و شهد له بذلك أعداؤه فضلاً عن أوليائه، قال معاوية: لو ملك علي بيتاً من تبر و بيتاً من تبن لأنفد تبره قبل تبنه(3) و لم يخلف شيئاً أصلاً، و قال: «يا بيضاء و يا صفراء غُرّي غيري»، و كان يكنس بيوت الأموال و يصلّي فيها مع أن الدنيا كانت بيده(4).

قال: و كان أزهدَ الناس بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم(5).

أقول: هذا هو الوجه الخامس، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان أزهد الناس بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فيكون أفضل من غيره:

بيان المقدمة الأُولىٰ: ما نقل بالتواتر عنه أنّه عليه السلام كان سيّد الأبدال، و إليه تشدّ الرحال في معرفة الزهد و التسليك فيه و ترتيب أحوال الرياضات

**********

(1) . الإنسان: 8.

(2) . البقرة: 274، راجع شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 140/1 ط إيران، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، البحار: 144/41، شرح النهج لابن أبي الحديد: 21/1-22، الرياض النضرة: 207/2.

(3) . البحار: 144/41، شرح النهج لابن أبي الحديد: 22/1.

(4) . الرياض النضرة لمحب الدين الطبري: 210/2-211، البحار: 144/41، و ذخائر العقبى: 101.

(5) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 26/1، ذخائر العقبى للطبري: 100، الرياض النضرة: 210/2-217.

ص: 219

و ذكر مقامات العارفين.

و كان أخشن الناس مأكلاً و ملبساً و لم يشبع من طعام قط، قال عبيد اللّٰه بن أبي رافع: دخلت عليه يوماً فقدم جراباً مختوماً فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فأكل منه، فقلت: يا أمير المؤمنين كيف تختمه؟ فقال: «خفت هذين الولدين يَلُتّانه بزيت أو سمن»، و هذا شيء اختص به علي عليه السلام لم يشاركه فيه غيره و لم ينل أحد بعض درجته.

و كان نعلاه من ليف و يرقّع قميصه بجلد تارة و بليف أخرىٰ، و قلّ أن يأتدم فإن فعل فبالملح أو بالخل فإن ترقّىٰ فبنبات الأرض فإن ترقّىٰ فبلبن، و كان لا يأكل اللحم إلاّ قليلا و يقول: «لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان»، و طلّق الدنيا ثلاثاً.

و المقدمة الثانية ظاهرة.

قال: و أعبدَهم(1).

أقول: هذا وجه سادس، و تقريره: أن علياً عليه السلام كان أعبد الناس بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، و منه تعلّم الناس صلاة الليل و استفادوا منه ترتيب النوافل و الدعوات، و كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده، و كان يحافظ على النافلة حتىٰ إنّه بسط له بين الصفين نطع ليلة الهرير فصلّىٰ عليه السلام النافلة و السهام تقع بين يديه و إلى جوانبه، و كانوا يستخرجون النصول من جسده وقت الصلاة لالتفاته بالكلّية إلى اللّٰه تعالى حتىٰ لا يبقىٰ له التفات إلىٰ غيره.

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 27/1، حلية الأبرار للسيد البحراني: 179/2 برقم 17، إرشاد القلوب للديلمي: 11/2 طبعة بيروت و في طبعة قم ص 217.

ص: 220

قال: و أحلمَهم.

أقول: هذا وجه سابع، و هو أنّ علياً عليه السلام كان أحلم الناس بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقابل أحداً بإساءته.

فعفا عن مروان بن الحكم يوم الجمل و كان شديد العداوة له عليه السلام(1).

و عفا عن عبد اللّٰه بن الزبير لما استأسره يوم الجمل و كان يشتمه عليه السلام ظاهراً(2) و قال عليه السلام: «لم يزل الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتىٰ شَبَّهُ عبد اللّٰه».

و عفا عن سعيد بن العاص و كان عدواً له عليه السلام(3).

و أكرم عائشة و بعثها إلى المدينة مع عشرين امرأة عقيب حربها له(4).

و صفح عن أهل البصرة مع محاربتهم له، و لما حارب معاوية سبق أصحاب معاوية إلى الشريعة فمنعوه من الماء، فلما اشتد العطش بأصحابه حمل عليهم و فرقهم و ملك الشريعة، فأراد أصحابه أن يفعلوا بهم كذلك فنهاهم عن ذلك و قال: «افسحوا بعض الشريعة ففي حد السيف ما يغني عن ذلك»(5).

قال: و أشرفهم خُلقاً(6).

أقول: هذا وجه ثامن، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان أشرف الناس خلقاً و أطلقهم وجهاً حتىٰ نسبه عمر إلى الدعابة مع شدة بأسه و هيبته.

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 22/1.

(2) . شرح النهج: 22/1-23.

(3) . شرح النهج: 23/1.

(4) . شرح النهج: 23/1.

(5) . شرح النهج: 23/1-24. بحار الأنوار: 146/41.

(6) . شرح النهج: 25/1.

ص: 221

قال صعصعة بن صوحان: كان فينا كأحدنا لين جانب و شدة تواضع و سهولة قياد، و كنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف علىٰ رأسه.

و قال معاوية لقيس بن سعد: رحم اللّٰه أبا حسن فلقد كان هَشّاً بَشّاً ذا فكاهة، فقال قيس: أم و اللّٰه لقد كان مع تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لِبدتين قد مسه الطوىٰ، تلك هيبة التقوىٰ ليس كما يهابك طَغام الشام.

فيكون أفضل من غيره حيث جمع بين المتضادات من حسن الخلق و طلاقة الوجه و عظم شجاعته و شدة بأسه و كثرة حروبه.

قال: و أقدمهم إيماناً(1).

أقول: هذا وجه تاسع، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان أقدم الناس إيماناً:

روىٰ سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «أوّلكم وروداً على الحوض أولكم اسلاماً علي بن أبي طالب عليه السلام».

و قال أنس: بعث النبي يوم الاثنين و أسلم علي يوم الثلاثاء.

و قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة عليها السلام: «زوجتك أقدمهم سلماً و أكثرهم علماً».

و قال عليه السلام يوماً علىٰ المنبر: «أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأعظم، آمنت قبل أن آمن أبو بكر و أسلمت قبل أن أسلم»، و كان ذلك بمحضر من الصحابة و لم ينكر عليه أحد.

و روى عبد اللّٰه بن الحسن قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «أنا أوّل من صلّى و أوّل من آمن باللّٰه و رسوله، و لم يسبقني بالصلاة إلاّ نبي اللّٰه».

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 227/13-229-251، المستدرك للحاكم: 136/3، شرح النهج لابن أبي الحديد: 30/1، و تفصيل ذلك في الغدير: 220/3.

ص: 222

و لأنّه عليه السلام كان في منزل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم شديد الاختصاص به عظيم الامتثال لأوامره لم يخالفه قط، و أبو بكر كان بعيداً عنه مجانباً له، فيبعد عرض الإسلام عليه قبل عرضه علىٰ علي عليه السلام و بالخصوص و قد نزل قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ»(1).

لا يقال: إنّ إسلامه عليه السلام كان قبل البلوغ فلا اعتبار به.

لأنّا نقول: المقدمتان ممنوعتان:

أمّا الأُولى: فلأنّ سنّ علي عليه السلام كان ستّاً و ستين سنة أو خمساً و ستين، و النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقي بعد الوحي ثلاثاً و عشرين سنة، و علي عليه السلام بقي بعد النبي نحواً من ثلاثين سنة، فيكون سنّ علي عليه السلام وقت نزول الوحي فيما بين اثنتي عشرة سنة و بين ثلاث عشرة سنة، و البلوغ في هذا الوقت ممكن، فيكون واقعاً لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «زوجتك أقدمهم سلماً و أكثرهم علماً».

و أمّا الثانية: فلأن الصبي قد يكون رشيداً كامل العقل قبل سن البلوغ فيكون مكلفاً، و لهذا حكم أبو حنيفة بصحة إسلام الصبي، و إذا كان كذلك دل علىٰ كمال الصبي.

أمّا أوّلاً: فلأن الطباع في الصبيان مجبولة علىٰ حب الأبوين و الميل إليهما، فإعراض الصبي عنهما و التوجه إلى اللّٰه تعالى يدل علىٰ قوة كماله.

و أمّا ثانياً: فلأن طبائع الصبيان منافية للنظر في الأُمور العقلية و التكاليف الإلهية، و ملائمة للعب و اللهو، فإعراض الصبي عما يلائم طباعه إلىٰ ما ينافره يدل علىٰ عظم منزلته في الكمال، فثبت بذلك أن علياً عليه السلام كان أقدمهم إيماناً فيكون أفضل لقوله تعالى: «وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ * أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ» (2).

**********

(1) . الشعراء: 214.

(2) . الواقعة: 10-11.

ص: 223

قال: و أفصحَهم(1).

أقول: هذا دليل عاشر، و تقريره أنّ علياً عليه السلام كان أبلغ الناس في الفصاحة و أعظمهم منزلة فيها بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم حتىٰ قال البلغاء كافة: إنّ كلامه دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق، و منه تعلّم الناس أصناف البلاغة حتىٰ قال معاوية: ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.

و قال ابن نباتة: حفظت من خطبه مائة خطبة.

و قال عبد الحميد بن يحيىٰ: حفظت سبعين خطبة من خطبه.

قال: و أسدَّهم رأياً(2).

أقول: هذا دليل حادي عشر، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان أسدّ الناس رأياً بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و أجودهم تدبيراً و أعرفهم بمزايا الأُمور و مواقعها، و هو الذي أشار علىٰ عمر بالتخلف عن حرب الروم و الفرس و بَعْثِ نوّابه، و أشار علىٰ عثمان بما فيه صلاحه و صلاح المسلمين فخالفه حتىٰ قتل، فيكون أفضل من غيره.

قال: و أكثرهم حرصاً علىٰ إقامة حدود اللّٰه تعالى(3).

أقول: هذا وجه ثاني عشر، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان أكثر الناس حرصاً علىٰ إقامة حدود اللّٰه تعالى، لم يراقب في ذلك أحداً و لم يلتفت إلىٰ قرابة، بل كان شديد السياسة خشناً في ذات اللّٰه تعالى، لم يراقب ابن عمه و لا أخاه

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 24/1-25.

(2) . شرح النهج: 28/1.

(3) . شرح النهج: 28/1.

ص: 224

و نقض دار مصقلة بن هبيرة و دار جرير بن عبد اللّٰه البجلي و صلب جماعة و قطع آخرين، و لم يساوه في ذلك أحد من الصحابة فيكون أفضل من غيره.

قال: و أحفظهم للكتاب العزيز(1).

أقول: هذا وجه ثالث عشر، و هو أنّ علياً عليه السلام كان يحفظ كتاب اللّٰه تعالى علىٰ عهد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و لم يكن أحد يحفظه، و هو أول من جمعه.

و نقل الجمهور أنّه تأخر عن البيعة بسبب اشتغاله بجمع القرآن العظيم، و أئمة القراء يُسندون قراءاتهم إليه كأبي عمرو بن أبي العلاء و عاصم و غيرهما، لأنهم يرجعون إلىٰ أبي عبد الرحمن السلمي و هو تلميذه عليه السلام، فيكون أفضل من غيره.

قال: و لإخبارِه بالغيب(2).

أقول: هذا وجه رابع عشر، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام أخبر بالغيب في مواضع كثيرة و لم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعاً، و ذلك كإخباره بقتل ذي الثدية، و لَمّا لم يجده أصحابه بين القتلىٰ قال: «و اللّٰه ما كَذَبْتُ و لا كُذِبْت»، فاعتبرهم عليه السلام حتىٰ وجده و شقّ قميصه و وجد علىٰ كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات تنحدر كتفه مع جذبها و ترجع مع تركها.

و قال له أصحابه: إنّ أهل النهروان قد عبروا، فقال عليه السلام: «لم يعبروا»، فأخبروه مرة ثانية فقال: «لم يعبروا» فقال جندب بن عبد اللّه الأزدي في نفسه:

**********

(1) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 27/1.

(2) . تاريخ بغداد: 159/1 و 236/7 و 237، و الإرشاد للشيخ المفيد: 167، طبعة منشورات بصيرتي قم، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 444/2-453.

ص: 225

إن وجدت القوم قد عبروا كنت أول من يقاتله، فلما وصلنا النهر لم نجدهم عبروا، فقال عليه السلام: «يا أخا الأزد، أتبين لك الأمر؟»، و ذلك يدل على اطّلاعه علىٰ ما في ضميره(1).

و أخبر عليه السلام بقتل نفسه في شهر رمضان(2)، و بولاية الحجّاج و انتقامه(3)، و بقطع يد جويرية بن مسهر و رجله و صلبه علىٰ جذع ففعل به ذلك في أيام معاوية(4)، و بصلب ميثم التمّار علىٰ باب عمرو بن حريث عاشر عشرة و أراه النخلة التي يصلب علىٰ جذعها فكان كما قال(5)، و بذبح قنبر فذبحه الحجّاج(6).

و قيل له: قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرىٰ، فقال: «لم يمت و لا يموت حتىٰ يقود جيش ضلالة صاحب رايته حبيب بن جماز»، فقام رجل من تحت المنبر فقال: و اللّٰه إني لك لمحبّ و أنا «حبيب» قال: «إياك أن تحملها و لتحملنّها فتدخل بها من هذا الباب»، و أومأ إلىٰ باب الفيل، فلما بعث ابن زياد عمر بن سعد إلىٰ قتال الحسين عليه السلام جعل علىٰ مقدمته خالداً و حبيب صاحب رايته، فسار بها حتىٰ دخل المسجد من باب الفيل(7).

و قال عليه السلام يوماً على المنبر: «سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألوني

**********

(1) . الإرشاد للمفيد: 167-168، تاريخ بغداد: 249/7، مجمع الزوائد للهيثمي: 241/6، البحار: 284/41 الحديث 3.

(2) . الصواعق المحرقة لابن حجر: 134-135، طبعة مكتبة القاهرة بمصر، البحار: 300/41 الحديث 31، الرياض النضرة لمحب الدين الطبري 234/2 و الإرشاد: 168.

(3) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 289/2، مدينة المعاجز: 216/2-217.

(4) . الإرشاد: ص 170، البحار: 301/41، شرح النهج: 290/2-291.

(5) . الإرشاد: 170-171، شرح النهج: 291/2.

(6) . الإرشاد: 173، كشف الغمة في معرفة الأئمّة: 383/1.

(7) . الإرشاد: 173-174، شرح النهج: 286/2 و 287، البحار: 288/41-289.

ص: 226

عن فئة تضل مائة و تهدي مائة إلاّ نبأتكم بناعقها و سائقها إلىٰ يوم القيامة».

فقام إليه رجل فقال: أخبرني كم في رأسي و لحيتي من طاقة شعر؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «لقد حدثني خليلي بما سألت عنه و أنّ علىٰ كل طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك و على كل طاقة شعر في لحيتك شيطاناً يستفزّك و أنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن بنت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم»، فلما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان تولّىٰ قتله(1).

و الأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصىٰ نقلها المخالف و المؤالف.

قال: و استجابة دعائه.

أقول: هذا وجه خامس عشر، و تقريره: أنّ عليّاً عليه السلام كان مستجاب الدعوة سريعاً دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم:

و تقرير المقدمة الأولىٰ: ما نقل بالتواتر عنه عليه السلام في ذلك، كما دعا علىٰ بُسر بن أرطاة فقال: «اللهمّ إنّ بسراً باع دينه بالدنيا فاسلبه عقله و لا تبق له من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك»، فاختلط عقله(2).

و اتّهم العيزار برفع أخباره إلىٰ معاوية فأنكر، فقال له عليه السلام: «إن كنت كاذباً فأعمىٰ اللّٰه بصرك»، فعمي قبل أسبوع(3).

و استشهد جماعةً من الصحابة عن حديث الغدير، فشهد له اثنا عشر رجلاً من الأنصار، و سكت أنس بن مالك، فقال له: «يا أنس، ما يمنعك أن تشهد و قد سمعت ما سمعوا؟» فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت و نسيت،

**********

(1) . الإرشاد للشيخ المفيد: 174، شرح النهج لابن أبي الحديد: 286/2.

(2) . شرح النهج: 18/2، الإرشاد للشيخ المفيد: 169.

(3) . الإرشاد: 184-185، كشف الغمة: 390/1.

ص: 227

فقال: «اللهمّ إن كان كاذباً فاضربه ببياض الوضح لا تواريه العمامة»، فصار أبرص(1).

و كتم زيد بن أرقم فذهب بصره(2)، و غير ذلك من الوقائع المشهورة.

قال: و ظهور المعجزات عنه.

أقول: هذا وجه سادس عشر، و تقريره: أنّه عليه السلام ظهرت عنه معجزات كثيرة، و قد تقدم ذكر بعضها، و لم يحصل لغيره من الصحابة ذلك فيكون أفضل منهم.

قال: و اختصاصِه بالقرابة.

أقول: هذا وجه سابع عشر، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان أقرب الناس نسباً إلىٰ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فيكون أفضل من غيره و لأنّه كان هاشمياً فيكون أفضل لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إن اللّٰه اصطفىٰ من ولد إسماعيل قريشاً و من قريش هاشماً»(3).

قال: و الأخوّة(4).

أقول: هذا وجه ثامن عشر، و هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما واخى بين الصحابة

**********

(1) . تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب: 12/2-13 برقم 508، شرح النهج لابن أبي الحديد: 74/4. احقاق الحق: 333/6-340.

(2) . تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي: 5/2 برقم 501 و 35 برقم 533-544، شرح النهج: 74/4، احقاق الحق: 315/6-320.

(3) . ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 10، المستدرك على الصحيحين: 73/4، شرح النهج لابن أبي الحديد: 30/1، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 11/1-13، الرياض النضرة لمحب الدين الطبري: 119/2.

(4) . المستدرك على الصحيحين: 14/3، الرياض النضرة: 124/2-138، شرح النهج: 96/4، الغدير: 111/3-125.

ص: 228

و قرن كل شخص إلىٰ مماثله في الشرف و الفضيلة رأىٰ علياً عليه السلام متكدراً فسأله عن سبب ذلك فقال: «إنّك آخيت بين الصحابة و جعلتني منفرداً».

فقال له رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «ما أخّرتك إلاّ لنفسي، أ لا ترضىٰ أن تكون أخي و وصيي و خليفتي من بعدي؟» فقال: «بلىٰ يا رسول اللّٰه»، فواخاه من دون الصحابة فيكون أفضل منهم.

قال: و وجوبِ المحبة(1).

أقول: هذا وجه تاسع عشر، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان محبته و مودته واجبة دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعاً:

و بيان المقدمة الأُولىٰ: أنّه كان من أُولي القربىٰ فتكون مودته واجبة لقوله تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ»(2).

قال: و النصرة(3).

أقول: هذا وجه عشرون، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام اختص بفضيلة النصرة لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم:

بيان المقدمة الأُولىٰ: قوله تعالى: «فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صٰالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ»(4) و قد اتفق المفسرون علىٰ أنّ المراد بصالح المؤمنين هو علي عليه السلام،

**********

(1) . ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 25، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 189/2-211 برقم 822-844، الغدير: 306/2-311.

(2) . الشورى: 23.

(3) . شواهد التنزيل: 341/2-352، الدر المنثور: 224/8 من طبعة دار الفكر - بيروت - تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي: 425/2.

(4) . التحريم: 4.

ص: 229

و المولى هنا هو الناصر لأنّه القدر المشترك بين اللّٰه تعالى و جبرئيل، و جعله ثالثهم و حصر المولىٰ في الثلاثة بلفظة هو في قوله تعالى: «فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ».

قال: و مساواة الأنبياء.

أقول: و هذا وجه حادي و عشرون، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام كان مساوياً للأنبياء المتقدمين فيكون أفضل من غيره من الصحابة بالضرورة لأنّ المساوي للأفضل أفضل:

بيان المقدمة الأُولىٰ: ما رواه البيهقي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «من أحبّ أن ينظر إلىٰ آدم في علمه و إلى نوح في تقواه و إلى إبراهيم في حلمه و إلى موسىٰ في هيبته و إلى عيسىٰ في عبادته فلينظر إلىٰ علي بن أبي طالب»(1).

قال: و خبر الطائر، و المنزلة، و الغدير و غيرها.

أقول: هذا وجه ثاني و عشرون، و تقريره: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أخبر في مواضع كثيرة ببيان فضله و زيادة كماله علىٰ غيره و نص علىٰ إمامته:

منها: ما ورد في خبر الطائر، و هو أنّه قال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء علي بن أبي طالب عليه السلام فأكل معه(2).

**********

(1) . تاريخ ابن عساكر: 280/2 برقم 804، في الهامش ينقل عن البيهقي، و الغدير: 355/3 عن البيهقي في فضائل الصحابة، فرائد السمطين للجويني: 170/1، برقم 131، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 100/1 برقم 116.

(2) . تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 110/2-158، من رقم 613-642، فرائد السمطين: 209/1-215 برقم 165 و 166 و 167.

ص: 230

و في رواية: اللّهمّ أدخل إليّ أحبّ أهل الأرض إليك»، رواه أنس و سعد بن أبي وقاص و أبو رافع مولىٰ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و ابن عباس، و عوّل أبو جعفر الإسكافي و أبو عبد اللّٰه البصري علىٰ هذا الحديث في أنّه عليه السلام أفضل من غيره و ادّعىٰ أبو عبد اللّٰه شهرة هذا الحديث و ظهوره بين الصحابة و لم ينكره أحد منهم فيكون متواتراً.

و منها: خبر المنزلة، و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسىٰ إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(1)، و قد كان هارون أفضل أهل زمانه عند أخيه فكذا علي عليه السلام عند محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

و منها: خبر الغدير، و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم لمّا خطب الناس بغدير خم في عوده من حجة الوداع: «معاشر المسلمين، أ لست أولىٰ منكم بأنفسكم؟» قالوا: بلىٰ يا رسول اللّٰه، فأخذ بيد علي عليه السلام و قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهمّ والِ من والاه و عادِ من عاداه و انصر من نصره و أخذل من خذله و أدر الحق مع علي كيفما دار»(2).

و قد بيّنا أنّ المراد بالمولىٰ هاهَنا الأولىٰ بالتصرف، و إذا كان علي عليه السلام أولىٰ من كل أحد بالتصرف في نفسه كان أفضل منهم قطعاً.

اعترض بعضهم علىٰ هذا بجواز أن يكون المراد به الولاء، لأنّه وقع مشاجرة بين أمير المؤمنين عليه السلام و بين زيد بن حارثة فقال له علي عليه السلام: «أنت

**********

(1) . فرائد السمطين: 122/1-127 برقم 85-89، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 281/1-364 من رقم 336-456.

(2) . لا أظن انّ أحداً ينكر حديث الغدير و تواتره فقد رواه من أعلام الصحابة 110 صحابياً و من التابعين 84 شخصاً و تواصلت حلقات النقل إلى يومنا، لاحظ الغدير: تمام الجزء 1.

ص: 231

مولاي»، فقال زيد: أنا مولىٰ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و لست بمولاك، فبلغ ذلك رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

و الجواب من وجوه:

الأوّل: ما ذكره أبو عبد اللّٰه البصري، و هو أنّه لا اختصاص لعلي عليه السلام بالولاء دون غيره من أقارب النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فلا يجوز حمله علىٰ هذا المعنىٰ.

الثاني: ما ذكره أبو عبد اللّٰه أيضاً، و هو أنّ عمر قال له بعد هذا الحديث: هنيئاً لك، أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة، و قالت عائشة و الأنصار بعد ذلك: يا مولانا، فلا يجوز حمله على الولاء.

الثالث: أنّ مقدمة الحديث تنفي هذا المعنىٰ، و هو قوله عليه السلام: «أ لست أولىٰ منكم بأنفسكم».

و منها: قول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في ذي الثدية: «يقتله خير الخلق و الخليفة»، و في رواية أُخرىٰ: «يقتله خير هذه الأُمة»(1).

و قال لفاطمة عليها السلام: «إنّ اللّٰه اطّلع علىٰ أهل الأرض فاختار منهم أباك فاتّخذه نبياً، ثمّ اطلع ثانية فاختار منهم بعلك فأمرني أن أنكحك إيّاه و أن أتخذه وصيّاً»(2)، و قالت عائشة: كنت عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأقبل علي عليه السلام فقال: «هذا سيد العرب» قالت: قلت: بأبي أنت و أُمي أ لست أنت سيّد العرب؟ فقال: «أنا سيّد العالمين و هذا سيّد العرب»(3).

**********

(1) . المناقب لابن المغازلي: 56 برقم 79، التفضيل للكراجكي: 20، ط طهران مؤسسة بعثت 1403، مجمع الزوائد: 239/6.

(2) . المناقب للخوارزمي: 346 برقم 364، مجمع الزوائد: 165/9 و 253/8، كنز العمال: 604/11 برقم 32923.

(3) . تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 261/2-265 برقم 780-785.

ص: 232

و عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السلام: «أنت أخي و وزيري و خير من أتركه بعدي تقضي ديني و تنجز موعدي»(1).

و سأل رجل عائشة عن مسيرها، فقالت: كان قدراً من اللّٰه(2)، فسألها عن علي عليه السلام فقالت: لقد سألتني عن أحب الناس إلىٰ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و زوج أحبّ الناس إليه(3)، و قال لفاطمة عليه السلام: «أما ترضين أني زوجتك خير أُمتي»(4).

و عن سلمان أنّه قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «خير من أترك بعدي علي بن أبي طالب»(5).

و عن عبد اللّٰه بن مسعود قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «علي خير البشر فمن أبىٰ فقد كفر»(6).

و عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: أفضل أُمتي علي بن أبي طالب»(7).

قال: و لانتفاءِ سبقِ كفره(8).

أقول: هذا وجه ثالث و عشرون، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام لم يكفر باللّٰه تعالى

**********

(1) . الاصابة: 208/1 برقم 992 (ثابت بن معاذ)، كنز العمال: 610/11 برقم 32952، فضائل الخمسة: 382/1.

(2) . تاريخ بغداد: 159/1-160، برقم 10 (أبو قتادة الأنصاري)، تذكرة الخواص: 100.

(3) . تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 162/2-170 من رقم 641-653.

(4) . خصائص النسائي: 228-260 من رقم 123-145، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 226/1-250 برقم 291-319.

(5) . تاريخ ابن عساكر: 5/3-9، برقم 1021 و 1022.

(6) . تاريخ ابن عساكر: 444/2-448 من رقم 954-965.

(7) . فتح الباري: 136/8 باختلاف يسير.

(8) . العمدة لابن البطريق: 222 برقم 284، الشافي في الإمامة: 137/3-144، و 220/3-242، صحيح البخاري: 143/6-144 و 17/9-18، الغدير: 91/7-92.

ص: 233

أصلاً، بل من حين بلوغه كان مؤمناً موحداً، بخلاف باقي الصحابة فإنهم كانوا في زمن الجاهلية كفرة، و لا ريب في فضل من لم يزل موحداً علىٰ من سبق كفره علىٰ إيمانه.

قال: و لكثرة الانتفاع به.

أقول: هذا وجه رابع و عشرون، و تقريره: أنّ علياً عليه السلام انتفع به المسلمون أكثر من نفعهم بغيره فيكون ثوابه أكثر و فضله أعظم:

بيان المقدمة الأُولىٰ: ما تقدم من كثرة حروبه و شدة بلائه في الإسلام و فتح اللّٰه البلاد علىٰ يديه و قوة شوكة الإسلام به حتىٰ قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الأحزاب: «لضربة علي خير من عبادة الثقلين»(1).

و بلغ في الزهد مرتبة لم يلحقها أحد بعده، و استفاد الناس منه طرائق الرياضة و الترك للدنيا و الانقطاع إلى اللّٰه تعالى.

و كذا في السخاوة و حسن الخلق و العبادة و التهجد.

و أمّا العلم فظاهر استناد كافة العلماء إليه و استفادتهم منه، و عاش بعد أبي بكر زماناً طويلاً يفيد الناس الكمالات النفسانية و البدنية و ابتلي بما لم يحصل لغيره من المشاق.

قال: و تميّزه بالكمالات النفسانية و البدنية و الخارجية(2).

**********

(1) . المستدرك للحاكم: 32/3، فرائد السمطين: 255/1-256 برقم 197، تاريخ ابن عساكر: 150/1-155، برقم 216 و 217، البحار: 1/39-19، شرح التجريد للقوشجي: 486 طق، كنز العمال: 623/11 برقم 33035، التفسير الكبير للفخر الرازي: 31/32 في تفسير ليلة القدر، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 7/2-17 برقم 629-636.

(2) . شرح النهج لابن أبي الحديد: 11/1-30.

ص: 234

أقول: هذا وجه خامس و عشرون، و تقريره: أن الكمالات إمّا نفسانية و إمّا بدنية و إمّا خارجية:

أمّا الكمالات النفسانية و البدنية فقد بيّنا بلوغه فيها إلى الغاية، إذ كان العلم و الزهد و الشجاعة و السخاء و حسن الخلق و العفة فيه أبلغ من غيره بل لا يجاريه في واحد منها أحد.

و بلغ في القوة البدنية و الشدة مبلغاً لا يساويه أحد حتىٰ قيل إنّه عليه السلام كان يقُطّ الهام قطّ الأقلام، لم يخط في ضربه قط و لم يحتج إلى المعاودة، و قلع باب خيبر و قد عجز عن نقلها سبعون رجلاً من أشد الناس قوة، مع أنّه عليه السلام كان قليل الغذاء جدّاً بأخشن مأكل و ملبس، كثير الصوم، مداوم العبادة.

و أمّا الخارجية فمنها النسب الشريف الذي لا يساويه أحد في القرب من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّه كان أقرب الناس إليه فإنّ العباس كان عم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم من الأب خاصة و علي عليه السلام كان ابن عمه من الأب و الأم، و مع ذلك فإنّه كان هاشمياً من الأب و الأُم لأنّه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم و أُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم.

و منها: المصاهرة(1)، و لم يحصل لأحد ما حصل له منها، فإنّه زوج سيّدة نساء العالمين، و عثمان و إن شاركه في كونه ختناً لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم إلاّ أنّ فاطمة عليها السلام أشرف بناته، و كان لها من المنزلة و القرب من قلب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مبلغ عظيم و كان يعظمها حتىٰ إنّه كان إذا جاءت إليه نهض لها قائماً و لم

**********

(1) . الخصائص للنسائي: 228-261 من رقم 123-145، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام: 226/1-250 من رقم 291-319.

ص: 235

يفعل ذلك بأحدٍ من النساء، و قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «سيدة نساء العالمين في الجنّة أربع»، و عدّ منهن فاطمة عليها السلام.

و منها: الأولاد(1)، و لم يحصل لأحد من المسلمين مثل أولاده في الشرف و الكمال، فإنّ الحسن و الحسين عليهما السلام إمامان سيّدا شباب أهل الجنّة، و كان حب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لهما في(2) الغاية حتىٰ إنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يتطأطأ لهما ليركباه و يبعبع لهما(3)، ثمّ أولد كل واحد منهما عليهما السلام أولاداً بلغوا في الشرف إلى الغاية: فالحسن عليه السلام أولد مثل الحسن المثنىٰ و المثلث و عبد اللّٰه بن الحسن المثنىٰ و النفس الزكية(4) و غيرهم.

**********

(1) . قال الرازي في تفسير سورة الكوثر: إنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرِّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت!!، ثمّ العالم ممتلئ منهم، و لم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحداً يعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السلام و النفس الزكيّة و أمثالهم - التفسير الكبير: 124/32.

(2) . تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام: 34-61 من رقم 71-112، المناقب لابن شهرآشوب: 26/4-27، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

(3) . تارخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام 91-96، 154-160، ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 130-132، المناقب لابن شهرآشوب: 26/4-27، بحار الأنوار: 261/43-317، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

(4) . سير أعلام النبلاء: 483/4 برقم 185 - مات 99 -، مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور: 329/6 برقم 207، تاريخ الإسلام للذهبي في الحسن المثنى: 328 برقم 236 (حوادث 81-100)، مقاتل الطالبيين: 185، مات 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 107 (حوادث 141-160)، في الحسن المثلث و في عبد اللّٰه بن الحسن المثنى راجع: مقاتل الطالبيين: 179، قتل 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 191 (حوادث 141-160)، العبر: 151/1، و في النفس الزكية و هو محمد بن عبد اللّٰه بن الحسن بن الحسن عليهم السلام راجع: العبر: 152/1، تاريخ الإسلام للذهبي: 271 (حوادث 141-160) مقاتل الطالبيين: 232.

ص: 236

و أولد الحسين عليه السلام مثل زين العابدين(1) و الباقر(2) و الصادق(3) و الكاظم(4) و الرضا(5) و الجواد(6) و الهادي(7) و العسكري(8) و الحجة(9)، و قد نشروا من العلم و الفضل و الزهد و الانقطاع و الترك شيئاً عظيماً، حتىٰ إنّ الفضلاء من المشايخ كانوا يفتخرون بخدمتهم عليهم السلام، فأبو يزيد البسطامي كان يفتخر بأنّه يسقي الماء لدار جعفر الصادق عليه السلام(10)، و معروف الكرخي أسلم علىٰ يدي الرضا عليه السلام و كان بواب داره إلىٰ أن مات(11)، و كان أكثر الفضلاء يفتخرون بالانتساب إليهم في العلم فإنّ مالكاً كان إذا سئل في الدرب عن مسألة لم يجب السائل، فقيل له في ذلك، فقال: إني أخذت العلم من جعفر بن محمد

**********

(1) . تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام زين العابدين: 120/1، تاريخ الإسلام للذهبي: 431 برقم 352 (حوادث 81-100)، العبر: 82/1.

(2) . تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام زين العابدين و الإمام محمد بن علي الباقر: 121-173، سير أعلام النبلاء للذهبي: 401/4 برقم 158.

(3) . تاريخ الإسلام للذهبي: 88 (حوادث 141-160)، سير أعلام النبلاء للذهبي: 255/6 برقم 117.

(4) . سير أعلام النبلاء: 270/6 برقم 118.

(5) . سير أعلام النبلاء: 387/9 برقم 125.

(6) . سير أعلام النبلاء: 121/13.

(7) . سير أعلام النبلاء: 248/12.

(8) . سير أعلام النبلاء: 265/12.

(9) . سير أعلام النبلاء: 119/13 برقم 60.

(10) . روضات الجنات: 150/4 برقم 371، نقلاً عن جامع الأنوار و أربعين فخر الدين الرازي.

(11) . روضات الجنات: 123/8 برقم 717.

ص: 237

الصادق عليهما السلام و كنت إذا أتيت إليه لأستفيد منه نهض و لبس أفخر ثيابه و تطيب و جلس في أعلىٰ منزله و حمد اللّٰه تعالى و أفادني شيئاً(1)، و استفادة أبي حنيفة من الصادق عليه السلام ظاهرة غنية عن البرهان.(2)

و هذه الفضائل لم تحصل لأحد من الصحابة فيكون علي عليه السلام أفضل منهم.

المسألة الثامنة: في إمامة باقي الأئمة الاثني عشر عليهم السلام

قال: و النقلُ المتواتر دلَّ على الأحد عشر، و لوجوب العصمة و انتفائها عن غيرهم و وجود الكمالات فيهم.

أقول: لما بيّن أنّ الإمام بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام شرع في إمامة الأئمة الأحد عشر، و هم: الحسن بن علي ثمّ أخوه الحسين ثمّ علي بن الحسين زين العابدين ثمّ محمد بن علي الباقر ثمّ جعفر بن محمد الصادق ثمّ موسىٰ بن جعفر الكاظم ثمّ ولده علي الرضا ثمّ ولده محمّد الجواد ثمّ ولده علي الهادي ثمّ ولده الحسن العسكري ثمّ الإمام المنتظر.

و استدل علىٰ ذلك بوجوه ثلاثة:

الأوّل: النقل المتواتر من الشيعة خلفاً عن سلف، فإنّه يدلّ علىٰ إمامة كل واحد من هؤلاء بالتنصيص(3)، و قد نقل المخالفون ذلك من طرق متعددة تارة على الاجمال و أُخرى على التفصيل، كما روي عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم متواتراً أنّه

**********

(1) . روضات الجنات: 211/7 برقم 627.

(2) . روضات الجنات: 153/8 برقم 731.

(3) . الإرشاد للشيخ المفيد: 187-188، إثبات الهداة للشيخ الحرّ: 675/1.

ص: 238

قال للحسين عليه السلام: «هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم»، و غير ذلك من الأخبار(1).

و روي عن مسروق و قال: بينا نحن عند عبد اللّٰه بن مسعود إذ قال له شاب: هل عهد إليكم نبيكم صلى الله عليه و آله و سلم كم يكون من بعده خليفة؟ قال: إنّك لحديث السن و إنّ هذا شيء ما سألني أحد عنه، نعم عهد إلينا نبينا صلى الله عليه و آله و سلم أن يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني اسرائيل(2).

الوجه الثاني: قد بيّنا أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً و غير هؤلاء ليسوا معصومين إجماعاً فتعينت العصمة لهم و إلاّ لزم خلوّ الزمان عن المعصوم و قد بينا استحالته(3).

الوجه الثالث: أنّ الكمالات النفسانية و البدنية بأجمعها موجودة في كالواحد منهم، و كلّ واحد منهم كما هو كامل في نفسه كذا هو مكمل لغيره(4).

و ذلك يدل على استحقاقه الرئاسة العامة لأنّه أفضل من كل أحد في زمانه و يقبح عقلاً تقديم المفضول على الفاضل فيجب أن يكون كل واحد منهم إماماً و هذا برهان لمي.

**********

(1) . فرائد السمطين: 132/2 برقم 430 و 431 و أيضاً حديث اللوح برقم 432-435، و أيضاً برقم 442-445 و 447، اثبات الهداة: 573/1 برقم 475-478.

(2) . إثبات الهداة: 580/1 برقم 500 و 522 و 524.

(3) . إثبات الهداة: 580/1 برقم 500، رسالة في الإمامة في آخر تلخيص المحصل: 428، فرائد السمطين: 132/2 برقم 430، 431.

(4) . الشافي: 41/2، رسالة في الإمامة: 428، اثبات الهداة: 1-3، كشف الغمة في معرفة الأئمّة: 54/1-59.

ص: 239

المسألة التاسعة: في أحكام المخالفين

قال: و مُحاربو علي عليه السلام كَفَرَةٌ و مخالفوه فَسَقَةٌ(1).

أقول: المحارب لعلي عليه السلام كافر، لقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «حربك يا علي حربي»، و لا شك في كفر من حارب النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و أمّا مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فيهم، فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة، و هو النص الجلي الدال علىٰ إمامته مع تواتره، و ذهب آخرون إلىٰ أنّهم فسقة، و هو الأقوىٰ. ثمّ اختلف هؤلاء علىٰ أقوال ثلاثة:

أحدها: أنّهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنّة.

الثاني: قال بعضهم إنّهم يخرجون من النار إلى الجنّة.

الثالث: ما ارتضاه ابن نوبخت و جماعة من علمائنا أنّهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود و لا يدخلون الجنّة لعدم الإيمان المقتضي لاستحقاق الثواب(2).

***

**********

(1) . شرح النهج لابن ميثم: 338/3، مناقب ابن المغازلي: 50 برقم 73، العمدة لابن البطريق: 382 ذيل الحديث 563 و أصل الحديث في ص 343 برقم 479.

(2) . الذخيرة للسيد المرتضى: 495-502، تحقيق السيد أحمد الحسيني بذكر المصادر في الهامش.

ص: 240

المقصد السادس في: المعاد و الوعد و الوعيد و ما يتصل بذلك

اشارة

ص: 241

ص: 242

قال:

حكم المثلين واحد و السمع دل علىٰ امكان المُماثل

أقول: في هذا المقصد مسائل:

المسألة الأُولىٰ: في إمكان خلق عالم آخر

و اعلم أنّ إيجاب المعاد يتوقف علىٰ هذه المسألة(1) و لأجل ذلك صدّرها في أول المقصد، و قد اختلف الناس في ذلك، و أطبق الملّيون عليه، و خالف فيه الأوائل و احتج المليون بالعقل و السمع:

أمّا العقل فنقول: العالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود لأن هذا العالم ممكن الوجود و حكم المثلين واحد، فلمّا كان هذا العالم ممكناً وجب الحكم على الآخر بالإمكان، و إلى هذا البرهان أشار بقوله حكم المثلين واحد.

و أمّا السمع فقوله تعالى: «أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ

**********

(1) . إثبات المعاد لا يتوقف على مسألة إمكان عالم آخر، مثل هذا العالم بعينه من الأفلاك التسعة و الكرات الأربع، بل يتوقف على إثبات مكانٍ للحشر و النشر، و الجنّة و النار، و ظاهر الكتاب الكريم أنّ العالم الثاني يتحقق بتدمير العالم الفعلي فيحدث عالم جديد. قال سبحانه: (يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمٰاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ) (الأنبياء: 104) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على فناء الدنيا و حدوث عالم جديد، و على ذلك يسقط كثير من الأدلة التي أقاموها على امتناع خلق عالم آخر، لأنّها مبنيّة على حدوث عالم آخر في عرض هذا العالم و تشابههما في عامة الخصوصيات، و أساس الوهم تصور امتناع الخرق و الالتيام في الأفلاك التسعة الذي بنوا عليه كثيراً من المسائل العقلية المخالفة للوحي.

ص: 243

عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ»(1).

قال: و الكريةُ و وجوبُ الخلاءِ و اختلافُ المتفقات ممنوعةٌ(2).

**********

(1) . يس: 81، الاستدلال مبني على عود الضمير في مثلهم إلى السماوات و الأرض لكنه يرجع إلى المنكرين للمعاد لا إلى السماوات و الأرض، فالآية من أدلة إمكان معاد الإنسان لا خلق عالم جديد و الأولى الاستدلال بما مر في سورة الأنبياء كما عرفت.

(2) . استدل القائل على امتناع خلق عالم آخر لتنعُّم المطيعين و تعذيب المذنبين بأنّه إمّا يكون في عالم آخر جسمانيّ خارج هذا العالم و إمّا في ثخن هذا العالم.

فعلى الأوّل يلزم محاذير ثلاثة:

1 - لزوم الخلاء. لأنّه يكون العالم الثاني كرويّاً مثل هذا العالم، لأنّ الشكل الطبيعي للجسم هو الكرة لو لا القسر، فعندئذ يلزم الخلاء سواء تلاقت الكرتان في نقطة من هذا العالم أو تباينتا و الخلاء محال للبرهان المذكور في محله.

2 - لزوم اختلاف المتفقات. لو وجد عالم آخر فيه نار و أرض و غيرهما فإن طلبت أمكنة عناصر هذا العالم لزم قسرها دائماً - و عدم وصولها إلى أمكنتها الطبيعية أبداً لاستقرار عناصر كل عالم في نفسه - و إن لم تطلب أمكنة عناصر هذا العالم و لم تقتضها بطباعها لزم أن يكون المتفقات في الطباع مختلفة في الاقتضاء و هذا محال لأنَّ حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد.

3 - لزوم الانخراق إذا كان في ثخن هذا العالم.

و قد أشار الماتن إلى الوجهين الأوّلين و الشارح إلى الثلاثة، و لفظ «الكرية» في المتن جاء لبيان تحقّق الخلاء.

و الجواب: نختار وجود العالم الثاني في ثخن هذا العالم، فلا يلزم الخلاء، و لا يلزم أن يكون المتفقات مختلفين، إذ لم لا يجوز أن يكون المكانان طبيعيين لهما. نعم تبقى مشكلة الخرق و الالتيام، و قد تبين عدم بطلانهما. و اعلم أنّ مسألة الأفلاك بهذا المعنى قد أكل الدهر عليه و شرب، فلا يصح أن يكون مبدأ للبرهان.

ص: 244

أقول: هذا إشارة إلىٰ ما احتج الأوائل به على امتناع خلق عالم آخر، و تقريره من وجهين:

الأوّل: أنّه لو وجد عالم آخر لكان كرة لأنّه الشكل الطبيعي فإن تلاقت الكرتان أو تباينتا لزم الخلاء.

و الجواب: لا نسلّم وجوب الكرية في العالم الثاني، سلّمنا لكن لا نسلّم وجوب الخلاء لإمكان ارتسام الثاني في ثخن بعض الأفلاك أو إحاطة المحيط بالعالمين.

الثاني: لو وجد عالم آخر فيه نار و أرض و غيرهما فإن طلبت أمكنة هذه العناصر لزم قسرها دائماً و إلاّ اختلف المتفقات في الطباع في مقتضاها.

و الجواب: لم لا يجوز أن يكون العالم الآخر مخالفاً لهذا العالم في الحقيقة، سلّمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المكانان طبيعيين لهما، فهذا ما خطر لنا في تطبيق كلام المصنف رحمه الله عليه.

المسألة الثانية: في صحة العدم على العالم

المسألة الثانية: في صحة العدم على العالم(1)

قال: و الامكانُ يعطي جواز العدم.

أقول: اختلف الناس في أن العالم هل يصح عدمه أم لا؟ فذهب المليون أجمع إلىٰ ذلك إلاّ من شذّ، و منع منه القدماء و اختلفوا:

**********

(1) . من قال بامتناع عدم العالم، اختلفوا إلى طوائف ثلاث:

1 - من قال بالامتناع الذاتي لكون نفس العالم واجب الوجود، و هم الماديون.

2 - من قال بقدم العالم لقدم علته فيمتنع عليه العدم لوجوب علته، و القائلون به

ص: 245

فذهب قوم منهم إلىٰ أن الامتناع ذاتي و جعلوا العالم واجب الوجود، و نحن قد بينا خطأهم و برهنّا علىٰ حدوثه فيكون ممكناً بالضرورة.

و ذهب آخرون إلىٰ أن الامتناع باعتبار الغير و ذلك أن العالم معلول علة واجب الوجود فلا يمكن عدمه إلاّ بعدم علته و يستحيل عدم واجب الوجود، و نحن قد بيّنا خطأهم في ذلك و برهنّا علىٰ أن المؤثر في العالم قادر مختار.

و ذهبت الكرامية و الجاحظ الى استحالة عدم العالم بعد وجوده بعد اعترافهم بالحدوث، لأنّ الأجسام باقية فلا تفنىٰ بذاتها، و لا بالفاعل لأن شأنه الإيجاد لا الإعدام إذ لا فرق في العقل بين نفي الفعل و بين فعل العدم، و لا ضدّ للأجسام(1) لأنّه بعد وجوده ليس إعدامه للباقي أولىٰ من عدمه به

**********

( لفيف من الإلهيين.

3 - من قال بحدوث العالم و في الوقت نفسه يمنع فناءه، لأنّ فناءه يتصور في ظل أسباب أربعة:

ألف - فناؤه من قبل ذاته و هو محال، لأنّ الشيء لا يوجد و لا يفنىٰ من قبل ذاته قضاء لمعنى الإمكان.

ب - فناؤه بالفاعل بلا واسطة و هو باطل، لأنّ أثر الفاعل هو الإيجاد لا الإعدام، و لا فرق في العقل بين نفي الفعل الذي هو المقصود في المقام، و فعل العدم الذي هو محال بالاتفاق. و فناء العالم بصورة نفي الفعل يرجع إلى الثاني فيكون محالاً.

ج - فناؤه من جانب الضدّ.

د - فناؤه من جانب انتفاء الشرط.

و قد ذكر الشارح الأسباب لا على هذا النظام فلاحظ.

(1) . هذا هو السبب الثالث لفناء العالم لكن أبطله بأنّ التضاد لأجل المطاردة يوجب عدم العالم، لكنه بالنسبة إلى العالم الموجود غير متصور و ذلك بوجوه:

ص: 246

لوقوع التضاد من الطرفين، و أولوية الحادث بالتعلق بالسبب مشتركة، و بكثرته باطلة لامتناع اجتماع المثلين، و باستلزام الجمع بين النقيضين باطلة لانتفائه علىٰ تقدير القول بعدم دخول الحادث في الوجود؛ و لا بانتفاء الشرط لعود الكلام عليه(1).

و هو خطأ(2) فإنّ الأعدام يستند إلى الفاعل كما يستند الوجود إليه،

**********

( 1 - أنّ التضاد من مقولة الكيف، و الأجسام من مقولة الجوهر، و لا تضاد في الأجسام، و قد بيّنه في المسألة الثالثة من الفصل الأوّل من المقصد الثاني من مقاصد الكتاب.

2 - على فرض وجوده فلما ذا لا يُعدَم بالتضاد نفسُ الضد دون العالم لأنّ التضاد من الجانبين و رفعه يحصل بانعدام أحد الضدين و لا يختص بفناء العالم.

و يُضيف المستدل على امتناع فناء العالم بأنّه ربما يتوهم أنّ الأولى للانعدام هو العالم لا الضد و هو باطل لأنّ للأولوية وجوهاً كلّها غير ناهضة لإثباتها، و إليك بيانها:

ألف - تعلّق الضد الحادث بالسبب (الواجب)، و الجواب أنّها مشتركة، إذ العالم و ضده الحادث متعلّقان بالسبب.

ب - الضد الحادث كثير متعدد، و الجواب عنه بأنّه يستلزم اجتماع المثلين.

ج - لو بقي العالم مع وجود الضد الحادث يلزم اجتماع الضدين، و مرجع اجتماعهما إلى اجتماع النقيضين لأنّ كل ضد يقتضي عدمَ الآخر كما حرر في محله. و الجواب بأنّ رفع اجتماع الضدين يتحقّق أيضاً بعدم دخول الضد في حيّز الوجود، إلى هنا تم بيان السبب الثالث لفناء العالم استدلالاً و إشكالاً و جواباً.

(1) . هذا هو السبب الرابع لفناء العالم، و ردّه بأنّه ينقل الكلام إلى فناء الشرط لما ذا انتفى، فتأتي فيه الوجوه الأربعة: هل الانتفاء مستند إلى ذاته أو الفاعل، أو الضد، أو انتفاء الشرط، إلى آخر الاستدلال بشقوقه الأربعة. إلى هنا تمّ استدلال الخصم القائل بالامتناع فناء العالم.

(2) . شروع في ردّ الاستدلال بعد نقله بتفصيله، و قد سلّم أنّه يمكن أن يكون السبب في فناء العالم أحد الأسباب الثلاثة الأخيرة و قد أجاب عما أورد عليه من التوالي الفاسدة في كلام المستدل، و لم يفترض السبَب الأوّل لعدم صحته، لأنّ العالم ممكن، و لا يجوز أن يكون

ص: 247

و الامتياز واقع بين نفي الفعل و فعل العدم، سلّمنا لكن لم لا يجوز أن يعدم بوجود الضد و يكون الضد أولىٰ بإعدامه و إن كان سبب الأولوية مجهولاً؟ سلّمنا لكن لم لا يجوز اشتراط الجواهر بأعراض غير باقية يوجدها اللّٰه تعالى حالاً فحالاً فإذا لم يجدّد العرض انتفت الجواهر؟

و دليل المصنف رحمه الله علىٰ مطلوبه من صحة العدم حجة على الجميع، و هو أنّا بينا أن العالم ممكن الوجود، فيستحيل انقلابه إلى الامتناع أو الوجوب، فيجوز عدمه كما جاز وجوده.

***

**********

( العدم مستنداً إلى ذاته و إلاّ يلزم كونه ممتنع الوجود.

و على ضوء هذا اختار السبب الثاني بقوله: «فإنّ الإعدام يستند إلى الفاعل»، و أجاب عن الإشكال بوجود الفرق بين نفي الفعل و فعل العدم و الممتنع هو الثاني دون الأوّل.

و اختار السبب الثالث و هو فناء العالم بالضدّ، و أجاب عن الإشكال بقوله: «لم لا يجوز أن يعدم بوجود الضد، و يكون الضد أولى بإعدامه و إن كان سبب الأولوية مجهولاً».

و اختار السبب الرابع و هو فقدان شرط بقاء العالم و أشار إليه بقوله: «سلمنا لكن لم لا يجوز اشتراط الجواهر بأعراض غير باقية يوجدها اللّٰه تعالى حالاً فحالاً فإذا لم يجدد العرض انتفت الجواهر».

و حاصل الكلام أنّ الكرامية و الجاحظ استدلوا على امتناع فناء العالم بأنّ للفناء أسباباً أربعة و تأثير كل سبب في فناء العالم مقرون بالإشكال.

و الشارح افترض صحّة الأسباب الثلاثة الأخيرة و دفع الإشكالات.

و في الختام نقول: رحم اللّٰه الشارح، فإنّ ما ذكره في هذا المقام أشبه بالطلسم من حيث تفكيك الاستدلال عن إشكاله، ثمّ عن جوابه، و لو لا أنّ الطلاب انكبّوا على دراسة هذا الكتاب لما صرفت وقتي في حل طلاسمه.

ص: 248

المسألة الثالثة: في وقوع العدم و كيفيته

قال: و السمعُ دلّ عليه.

أقول: يدل علىٰ وقوع العدم السمع، و هو قوله تعالى: «هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ»(1) و قوله تعالى: «كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ»(2) و قال تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ»(3) و قد وقع الإجماع على الفناء و إنّما الخلاف في كيفيته علىٰ ما يأتي.

قال: و يتأوَّلُ في المكلَّف بالتفريق كما في قصة إبراهيم عليه السلام.

أقول: المحققون على امتناع إعادة المعدوم، و سيأتي البرهان علىٰ وجوب المعاد(4)، و هاهنا قد بيّن أنّه تعالى يعدم العالم، و ذلك ظاهر المناقضة، فبيّن المصنف مراده من الإعدام: أمّا في غير المكلفين و هم مَنْ لا يجب إعادته فلا اعتبار به إذ لا يجب إعادته فجاز إعدامه بالكلية و لا يعاد.

و أمّا المكلف الذي يجب إعادته فقد تأوّل المصنف رحمه الله معنىٰ إعدامه بتفريق أجزائه، و لا امتناع في ذلك، فإنّ المكلَّف بعد تفريق أجزائه يصدق عليه أنّه هالك بمعنىٰ أنّه غير منتفع به، أو يقال: إنّه هالك بالنظر إلىٰ ذاته،

**********

(1) . الحديد: 3.

(2) . القصص: 88.

(3) . الرحمن: 26.

(4) . سيأتي البرهان على وجوب المعاد في المسألة الرابعة، و حاصل الكلام وجود التهافت بين المسألتين، فمن جانب دلّ الدليل على وجوب المعاد، و من جانب دلّ الدليل عقلاً و نقلاً على أنّه سبحانه يُعدِم العالَم، و عند ذاك تكون إعادته أمراً محالاً لما دل الدليل على امتناع إعادة المعدوم، فأجاب بأنّ المقصود من الإعدام في غير المكلفين هو الإعدام المطلق، و أمّا فيهم فبتفريق أجزاء وجودهم، و يدل عليه - مضافاً إلى قصة إبراهيم - ما جاء في الذكر الحكيم في عزير النبي في سورة البقرة الآية 259.

ص: 249

إذ هو ممكن و كل ممكن فإنّه بالنظر إلىٰ ذاته لا يجب له الوجود فلا يوجد إذ لا وجود إلاّ للواجب بذاته أو بغيره، فهو هالك بالنظر إلىٰ ذاته، فإذا فرّق أجزاءه كان هو العدم، فإذا أراد اللّٰه تعالى إعادته جمع تلك الأجزاء و ألفها كما كانت، فذلك هو المعاد.

و يدلّ علىٰ هذا التأويل قوله تعالى في سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية الإحياء للأجزاء في الآخرة، لأنّه تعالى لا يحيي الموتىٰ في دار التكليف و إنّما الإحياء يقع في الآخرة فسأل عليه السلام عن كيفية ذلك الإحياء، و هو يشتمل علىٰ السؤال عن جميع المقدمات التي يفعلها اللّٰه تعالى حتىٰ يهيّئهم و يُعِدّهم لنفخ الروح، فأمره اللّٰه تعالى بأخذ أربعة من الطير و تقطيعها و تفريق أجزائها و مزج بعض الأجزاء ببعض ثمّ يفرقها و يضعها على الجبال ثمّ يدعوها، فلما دعاها ميز اللّٰه تعالى أجزاء كل طير عن الآخر و جمع أجزاء كل طير و فرقها عن أجزاء الآخر حتىٰ كملت البنية التي كانت عليها أوّلاً ثمّ أحياها اللّٰه تعالى و لم يعدم تلك الأجزاء، فكذا في المكلّف.

هذا ما فهمناه من قوله: كما في قصة إبراهيم عليه السلام، فهذا هو كيفية الإعدام.

قال: و إثباتُ الفناء غيرُ معقولٍ لأنّه إن قام بذاته لم يكن ضدّاً و كذا إن قام بالجوهر.

أقول: لما ذكر المذهب الحق في كيفية الإعدام(1) شرع في إبطال مذهب

**********

(1) . اتفق المصنف و المعتزلة على إمكان الإعدام، و قد فسّر المصنّف الإعدام بتفريق الأجزاء في المكلفين و الإعدام المطلق في غيرهم، و لكن المعتزلة فسّروا إعدام كل شيء بخلق ضد له و هو الفناء، و هم - بعد الاتفاق على هذا التفسير - اختلفوا إلى مذاهب ثلاثة:

ص: 250

المخالفين في ذلك.

و اعلم أنّ من جملة من خالف في كيفية الإعدام جماعة من المعتزلة، ذهبوا إلىٰ أنّ الإعدام ليس هو التفريق بل الخروج عن الوجود، بأن يخلق اللّٰه تعالى للجواهر ضداً هو الفناء، و قد اختلفوا فيه علىٰ ثلاثة أقوال:

أحدها: قال ابن الإخشيد: إنّ الفناء ليس بمتحيز و لا قائم بالمتحيز إلاّ أنّه يكون حاصلاً في جهة معينة فإذا أحدثه اللّٰه تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها.

الثاني: قال ابن شبيب: إنّ اللّٰه يحدث في كل جوهر فناءً ثمّ ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني فيجعله قائماً بالمحل.

الثالث: قال أبو علي و أبو هاشم و من تابعهما: إنّ الفناء يحدث لا في

**********

( 1 - ما ذكره ابن الإخشيد (أبو بكر بن علي من أفاضل المعتزلة، توفي سنة 426): أنّ الفناء الذي هو ضد للجواهر ليس بمتحيّز (جسم) و لا قائم به إلاّ أنّه يكون حاصلاً في جهة معينة.

يلاحظ عليه بأنّه غير معقول، لأنّ كل ما يحصل في جهة إمّا جسم أو قائم به.

2 - ما ذكره ابن شبيب (محمد بن شبيب البصري من أصحاب النظام الذي توفي سنة 236 و من متكلمي القرن الثالث) من أنّ اللّٰه يحدث في كل جوهر فناء.

3 - ما نقل عن أبي علي و أبي هاشم: أنّ الفناء يحدث لا في محل فيفني الجواهر كلّها حال حدوثه.

و لا يظهر الفرق بين الأوّل و الثالث سوى اشتمال الأوّل على كون الفناء في جهة معينة.

و حاصل الدليل الأوّل للمصنّف على بطلان هذا الفرض بصوره الثلاث أنّ الفناء إن كان جوهراً لا يضادّ الجواهر إذ التضاد من شئون الكيف الذي قسم من العرض و قد عرفوه بأنّه أمران وجوديان لا يجتمعان في موضوع واحد و يتعاقبان عليه بينهما غاية الخلاف، و الجوهر لا موضوع له، و إن كان الفناء عرضاً فالعرض لا يضادّ الجوهر.

ص: 251

محل فيُفني الجواهر كلها حال حدوثه، ثمّ اختلفوا فذهب أبو هاشم و قاضي القضاة إلىٰ أن الفناء الواحد كاف في عدم كل الجواهر، و ذهب أبو علي و أصحابه إلىٰ أن لكل جوهر فناءً مضادّاً له لا يكفي ذلك الفناء في عدم غيره.

فإذا عرفت هذا فنقول: القول بالفناء علىٰ كل تقدير فرضوه باطل، لأنّ الفناء إن قام بذاته كان جوهراً إذ معنى الجوهر ذلك فلا يكون ضداً للجوهر، و إن كان غير قائم بذاته كان عرضاً إذ هو معناه فيكون حالاً في الجوهر إما ابتداء أو بواسطة، و على كلا التقديرين فيستحيل أن يكون منافياً للجواهر.

قال: و لانتفاءِ الأولوية(1).

أقول: يفهم من هذا الكلام أمران:

أحدهما: إقامة دليل ثان على امتناع قيام الفناء بالجوهر، و تقريره أن نقول: لو كان الفناء قائماً بالجوهر لكان عرضاً حالاً فيه و لم يكن اقتضاؤه لنفي محله أولىٰ من اقتضاء محله لنفيه بل كان انتفاء هذا الحالّ بالمحل أولىٰ إذ منع الضد دخول الضد الآخر في الوجود مع إمكان إعدامه له اولىٰ من إعدام

**********

(1) . اعلم أنّ الماتن استمدّ في هذا الدليل من البرهان السابق للكرامية و الجاحظ القائلين بامتناع العدم للعالم، و قد شرحنا برهانهم، و خلاصة الدليل: أنّ الفناء لو كان عرضاً حالاً، فانتفاء الحال بالمحل أولى من انتفاء المحلّ بالحالّ، إذ منع دخول الضد الآخر في الوجود مع إمكان إعدامه أولى من إعدام المتجدِّد للضد الباقي، لأنّ الأول بعدُ لم يُوجد، فصدّ باب تحققه أسهلُ من إعدام الموجود، و إن كان جوهراً فانتفاء الجوهر الثاني (الفناء) بالجوهر الأوّل أولى، بمعنى منعه في الدخول في الوجود بمثل البيان السابق.

ص: 252

المتجدد للضد الباقي و بالخصوص إذا كان محلاً له.

الثاني: إقامة دليل ثان على انتفاء الفناء، و تقريره أن نقول: لو كان الفناء ضداً للجواهر لم يكن إعدامه للجوهر الباقي أولىٰ من إعدام الجوهر الباقي له بمعنىٰ منعه عن الدخول في الوجود بل هو أولىٰ لما تقدم.

قال: و لاستلزامه انقلابَ الحقائق أو التسلسل.

أقول: القول بالفناء يستلزم أحد أمرين محالين:

أحدهما: انقلاب الحقائق.

الثاني: التسلسل، و كلٌّ مستلزم للمحال فإنّه محال قطعاً، أمّا استحالة الأمرين فظاهر، و أمّا بيان الملازمة فإنّ الفناء إمّا أن يكون واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود و القسمان باطلان:

أمّا الأوّل: فلأنّه قد كان معدوماً و إلاّ لم توجد الجواهر(1) ثمّ صار موجوداً، و ذلك يعطي إمكانه.

و أمّا الثاني: فلأنّه يصح عليه العدم و إلاّ لم يكن ممكناً، فعدمه إن كان لذاته كان ممتنعاً بعد أن كان ممكناً و ذلك يستلزم انقلاب الحقائق، و إن كان بسبب الفاعل بطل أصل دليلكم(2)، و إن كان بوجود ضد آخر لزم التسلسل. هذا ما خطر لنا في معنىٰ هذا الكلام.

**********

(1) . تقدير الكلام: «و قد كان معدوماً ثمّ صار موجوداً و إلاّ لم توجد الجواهر» فلو كان فناء العالم واجب الوجود فبما أنّه ضد العالم يلزم أن لا يوجد العالم (الجواهر) لكون ضده قديماً. و بعبارة أُخرى: الفناء كان معدوماً، لو كان موجوداً فبما أنّه ضد للعالم يلزم أن لا يوجد العالم أبداً مع أنّ المفروض وجوده فيستكشف عدمه و المعدوم لا يكون واجب الوجود.

(2) . لاعتقادهم بانٌ أثر الفاعل هو الفعل، لا نفيه ولذلك فسٌروا الفناء بخلق الضد الذي هو الفناء.

ص: 253

قال: و اثباتُ بقاءٍ لا في محل(1) يستلزم الترجيح من غير مرجح أو اجتماعَ النقيضين.

أقول: ذهب قوم منهم ابن شبيب إلىٰ أنّ الجوهر باق ببقاء موجود لا في محل، فإذا انتفىٰ ذلك البقاء انتفىٰ ذلك الجوهر.

و المصنف رحمه الله أحال هذا المذهب أيضاً باستلزامه المحال، و ذكر أنّ القول بذلك يستلزم أمرين:

أحدهما: الترجيح من غير مرجح.

**********

(1) . اعلم أنّ الماتن قد أورد في المقصد السادس مسائل أربع ليست بذات أهمية و لا تصلح للدراسة في هذا العصر إلاّ من جهة الوقوف على تاريخ علم الكلام و الآراء الموجودة في مسائله من لدن تكوّنه إلى يومنا، و هذه المسائل عبارة عن الأُمور التالية:

1 - إمكان خلق عالم آخر و عدمه، و قد ذهب الأوائل إلى امتناعه.

2 - هل يمكن إعدام العالم أولا، حيث ذهبت الكرامية و الجاحظ إلى استحالة عدم العالم بعد وجوده.

3 - أنّ فناء العالم هو خلق ضد للجواهر باسم الفناء، و القائل به هو المعتزلة.

4 - أنّ الجوهر الحادث بعد حدوثه باق بشيء غير وجوده و غير فاعله، و القائل به الأشاعرة و بعض المعتزلة كأبي شبيب.

و هؤلاء اعتمدوا في هذه المسائل على مبادئ و مقدمات و هي من البطلان بمكان.

و قد ذهب ابن شبيب في المسألة الرابعة إلى أنّ الجوهر باق ببقاءٍ موجودٍ لا في محل، فإذا انتفى ذلك البقاء انتفى ذلك الجوهر، و قد أورد عليه الماتن بإشكالين:

1 - الترجيح بلا مرجح.

2 - اجتماع النقيضين.

و قد أوضح الشارح كلاّ ببيانين.

ص: 254

و الثاني: اجتماع النقيضين.

و الذي يخطر لنا في تفسير ذلك أمران:

أحدهما: أن يقال: البقاء إمّا جوهر أو عرض، و القسمان باطلان فالقول به باطل:

أمّا الأوّل فلأنّه لو كان جوهراً لم يكن جعله شرطاً لجوهر آخر أولىٰ من العكس، فإمّا أن يكون كل واحد منهما شرطاً لصاحبه و هو دور، أو لا يكون أحدهما شرطاً للآخر و هو المطلوب.

و أمّا الثاني فلأنّه لو كان عرضاً قائماً بذاته لزم اجتماع النقيضين، إذ العرض هو الموجود في المحل، فلو كان البقاء قائماً لا في محل مع كونه عرضاً لزم ما ذكرناه.

الثاني: أن يقال: البقاء(1) إمّا واجب لذاته أو ممكن لذاته، و القسمان باطلان:

**********

(1) . هذا هو التفسير الثاني لقول الماتن من لزوم الترجيح بلا مرجح أو اجتماع النقيضين.

أمّا الأوّل ففيما إذا كان البقاء الموجود لا في محلٍ جوهراً، و أمّا الثاني ففيما إذا كان البقاء الموجود لا في محل عرضاً، فإنّهما متناقضان.

لا يقال: إنّ افتراض كون البقاء موجوداً لا في محل أوجب التناقض، لما ذا لا نفترض كونه موجوداً في محل؟

فإنّه يقال: ما ذكرته من الفرض هو نظرية الأشاعرة و الكعبي، و سوف يذكرها المصنّف في البحث الآتي، و الكلام مركّز على نظرية ابن شبيب القائل بأنّ البقاء موجود لا في محل.

و هناك تفسير ثان للشارح لكلا الأمرين، فالثاني أي اجتماع النقيضين مبنيّ على كون البقاء واجباً لذاته و في الوقت نفسه وُجِدَ بعد العدم، و هذا عين التناقض، و أمّا الأوّل أي الترجيح من غير مرجح فهو مبني على القول بكونه ممكناً، فإنّ كونه في وقت دون وقت ترجيح من غير مرجح، و احتمال أنّ المرجح أحد الأُمور التالية:

ص: 255

أمّا الأوّل: فلأن وجوده بعد العدم يستلزم جواز عدمه و الوجوب يستلزم عدم جوازه، و ذلك جمع بين النقيضين.

و أمّا الثاني: فلأنّ عدمه في وقت دون آخر ترجيح من غير مرجح، لاستحالة استناده إلىٰ ذاته و إلاّ لكان ممتنع الوجود مع إمكانه و ذلك جمع بين النقيضين، و لا إلى الفاعل، و لا إلى الضد و إلاّ لجاز مثله في الجواهر فالقول بذلك هنا مع استحالته في الجواهر ترجيح من غير مرجح، و لا إلى انتفاء الشرط و إلاّ لزم أن يكون للبقاء بقاء آخر فليس أحدهما بكونه صفة للآخر أولىٰ من العكس و ذلك ترجيح من غير مرجح.

قال: و إثباته في المحل يستلزم توقف الشيء علىٰ نفسه إمّا ابتداءً أو بواسطةٍ.

أقول: ذهب جماعة من الأشاعرة و الكعبي إلىٰ أن الجواهر تبقىٰ ببقاء

**********

( 1 - ذاته. 2 - فاعله. 3 - ضده. 4 - انتفاء شرطه، احتمال باطل.

أمّا الأوّل: فلو كان عدمه في وقت خاص مستنداً إلى ذاته يلزم أنّ تقتضيه مطلقاً، فيكون ممتنع الوجود، مع أنّه ممكن الوجود.

أمّا الثاني: فلما مرّ من أنّه لا فرق في الامتناع للفاعل بين نفي الفعل و فعل العدم، و كلاهما باطلان، و قد مرّ من الشارح وجود الفرق بينهما، و على هذا يكون الاستدلال جدلياً مبنياً على مسلمات القوم.

أمّا الثالث: فلما تقدم في المسألة الثانية من أنّ اقتضاء الضد المتقدم لنفي البقاء المتأخر أولى من انعدام الضد بالبقاء المتأخر، كما أوضحه عند شرح قول الماتن «و لانتفاء الأولوية»، أو لعل المراد أنّه لا ضد للجواهر.

و أمّا الرابع: أعني انتفاء الشرط فيقال: لو كان للبقاء شرط فللشرط وجود و بقاء غير وجوده، فينتقل السؤال إلى السبب لعدم بقاء ذلك الشرط، و لو كان عدمه لأجل انتفاء شرطه يتسلسل، على أنّه لا وجه لعدّ شيء شرطاً (صفة) و الآخر مشروطاً (موصوفاً).

ص: 256

قائم بها(1)، فإذا أراد اللّٰه تعالى إعدامها لم يفعل البقاء فانتفت الجواهر.

و المصنّف رحمه الله أبطل ذلك باستلزامه توقف الشيء علىٰ نفسه إمّا ابتداء أو بواسطة.

و تقريره: أنّ حصول البقاء في المحل يتوقف علىٰ وجود المحل في الزمان الثاني، لكن حصوله في الزمان الثاني إمّا أنّ يكون هو البقاء أو معلوله، و يستلزم من الأوّل توقف الشيء علىٰ نفسه ابتداء و من الثاني توقفه علىٰ معلوله المتوقف عليه و ذلك يقتضي توقف الشيء علىٰ نفسه بواسطة، فهذا ما يمكن حمل كلامه عليه.

**********

(1) . هذا هو القول الثاني في البقاء و يُعرّف بأنّه عرض قائم بالجواهر، و يُدّعى أنّ الجواهر تبقى ببقاء قائم بها، و هذا يستلزم توقف الشيء على نفسه ابتداء أو بواسطة:

و ذلك لأنّ حصول البقاء يتوقف على وجود المحل في الزمان الثاني، لأنّ الحادث إذا لم يكن له امتداد لا يتصوّر له البقاء.

ثمّ إنّ وجود المحل في الزمان الثاني (و على حد تعبير الشارح حصوله في الزمان الثاني) إمّا أن يكون نفس البقاء أو معلولاً له:

فعلى الأوّل يلزم الدور المصرح أي بلا واسطة، لأنّ حصول البقاء متوقف على وجود المحل في الزمان الثاني، و المفروض أنّه نفس البقاء فيلزم أن يكون شيء واحد متوقفاً كما هو المفروض، و متوقفاً عليه كما هو لازم الوحدة.

و على الثاني أي أن يكون وجود المحل في الزمان الثاني معلولاً للبقاء فيلزم التوقف على نفسه بواسطة، و ذلك لأنّ البقاء متوقف على وجود المحل في الزمان الثاني، و المفروض أنّه أيضاً معلول البقاء، فبالاعتبار الأوّل يكون البقاء موقوفاً على وجود المحل في الزمان الثاني، و بما أنّه معلول البقاء يكون البقاء موقوفاً عليه، و هذا هو الدور بالواسطة، و هذه صورته: البقاء الموقوف على وجود المحل في الزماني الثاني، المعلول للبقاء أي الموقوف على البقاء.

ص: 257

المسألة الرابعة: في وجوب المعاد الجسماني

قال: و وجوبُ إيفاء الوعد و الحكمةُ يقتضي وجوبَ البعث، و الضرورةُ قاضيةٌ بثبوت الجسماني من دين النبي صلى الله عليه و آله و سلم، مع إمكانه.

أقول: اختلف الناس هنا، فذهب الأوائل إلىٰ نفي المعاد الجسماني، و أطبق الملّيون عليه.

و استدل المصنف رحمه الله علىٰ وجوب المعاد مطلقاً بوجهين:

الأوّل: أنّ اللّٰه تعالى وعد بالثواب و توعد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين، فوجب القول بعودهم ليحصل الوفاء بوعده و وعيده.

الثاني: أنّ اللّٰه تعالى قد كلّف و فعل الألم و ذلك يستلزم الثواب و العوض و إلاّ لكان ظالماً، تعالى اللّٰه عن ذلك علواً كبيراً، فإنّا قد بيّنا حكمته تعالى، و لا ريب في أنّ الثواب و العوض إنّما يصلان إلى المكلف في الآخرة لانتفائهما في الدنيا.

و استدل علىٰ ثبوت المعاد الجسماني بأنّه معلوم بالضرورة من دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، و القرآن دلّ عليه في آيات كثيرة بالنص، مع أنّه ممكن فيجب المصير إليه، و إنما قلنا بأنّه ممكن لأنّ المراد من الإعادة جمع الأجزاء المتفرقة و ذلك جائز بالضرورة.

قال: و لا تجب إعادة فواضل المكلّف.

أقول: اختلف الناس في المكلف ما هو علىٰ مذاهب عرفت:

منها: قول من يعتقد أن المكلف هو النفس المجردة، و هو مذهب

ص: 258

الأوائل و النصارى و التناسخية و الغزالي(1) و الحليمي(2) و الراغب(3) من الأشاعرة و ابن الهيصم(4) من الكرامية و جماعة من الإمامية و الصوفية.

و منها: قول جماعة من المحققين أنّ المكلف هو أجزاء أصلية في هذا البدن لا يتطرق إليها الزيادة و النقصان و إنّما تقعان في أجزاء المضافة إليها.

إذا عرفت هذا فنقول: الواجب في المعاد هو إعادة تلك الأجزاء الأصلية أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية، أمّا الأجسام المتصلة بتلك الأجزاء فلا تجب إعادتها بعينها.

و غرض المصنف رحمه الله بهذا الكلام الجواب عن اعتراضات الفلاسفة على المعاد الجسماني.

و تقرير قولهم: أنّ إنساناً لو أكل آخر أو اغتذىٰ بأجزائه فإن أُعيدت أجزاء الغذاء إلى الأوّل عدم الثاني و إن أُعيدت إلى الثاني عدم الأوّل.

و أيضاً إمّا أن يعيد اللّٰه تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أوّل العمر إلىٰ آخره أو القدر الحاصل له عند موته، و القسمان باطلان:

أمّا الأوّل فلأنّ البدن دائماً في التحلل و الاستخلاف، فلو أُعيد البدن مع جميع الأجزاء منه لزم عظمه في الغاية، و لأنّه قد يتحلل منه أجزاء تصير أجساماً غذائية ثمّ يأكلها ذلك الإنسان بعينه حتىٰ تصير أجزاء من عضو آخر غير العضو الذي كانت أجزاء له أوّلاً، فإذا أُعيدت أجزاء كل عضو إلىٰ

**********

(1) . هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي (450-505 ه).

(2) . لم نعثر على ترجمته.

(3) . هو أبو القاسم الحسين بن محمد الاصفهاني مؤلف المفردات في غريب القرآن و غيرها من التآليف.

(4) . هو من أتباع أبي عبد اللّٰه محمد بن كرّام المجسِّم.

ص: 259

عضوه لزم جعل ذلك الجزء جزءاً من العضوين و هو محال.

و أمّا الثاني فلأنّه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثمّ تتحلل تلك الأجزاء و يعصي في أجزاء أخرىٰ، فإذا أُعيد في تلك الأجزاء بعينها و أثابها على الطاعة لزم إيصال الحقّ إلىٰ غير مستحقة.

و تقرير الجواب واحد، و هو أنّ لكل مكلّف أجزاءً أصلية لا يمكن أن تصير جزءاً من غيرها، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذىٰ بها، فإذا أُعيدت جعلت أجزاء أصلية لما كانت أصلية له أولاً، و تلك الأجزاء هي التي تعاد و هي باقية من أوّل العمر إلىٰ آخره.

قال: و عدمُ انخراق الأفلاك، و حصولُ الجنة فوقها، و دوامُ الحياة مع الاحتراق، و تولُّدُ البدن من غير التوالد، و تناهي القوى الجسمانيةِ استبعاداتٌ.

أقول: احتج الأوائل على امتناع المعاد الجسماني بوجوه:

أحدها: أنّ السمع قد دلّ على انتثار الكواكب و انخراق الأفلاك و ذلك محال.

الثاني: أنّ حصول الجنة فوق الأفلاك كما ذهب إليه المسلمون يقتضي عدم الكرية.

الثالث: أنّ بقاء الحياة مع دوام الاحتراق في النّار محال.

الرابع: أنّ تولد الأشخاص وقت الإعادة من غير توالد الأبوين باطل.

الخامس: أنّ القوى الجسمانية متناهية و القول بدوام نعيم أهل الجنة قول بعدم التناهي.

و الجواب عن الكل واحد، و هو أنّ هذه استبعادات:

ص: 260

أمّا الأفلاك فلأنّها حادثة علىٰ ما تقرر أولاً، فيمكن انخراقها كما يمكن عدمها، فكذا حصول الجنة فوق الأفلاك.

و دوام الاحتراق مع بقاء الجسم ممكن و لأنّه تعالى قادر علىٰ كل مقدور فيمكن استحالة الجسم إلىٰ أجزاء نارية ثمّ يعيدها اللّٰه تعالى هكذا دائماً.

و التولد ممكن كما في آدم عليه السلام. و القوى الجسمانية قد لا يتناهىٰ أثرها إذا كانت واسطة في التأثير.

المسألة الخامسة: في الثواب و العقاب

قال: و يُستحَقُّ الثوابُ و المدحُ(1) بفعلِ الواجب و المندوبِ و فعلِ ضدِّ القبيح و الإخلالِ به، بشرطِ فعلِ الواجبِ لوجوبِه أو لوجهِ وجوبِه و المندوبِ كذلك و الضدّ لأنّه تركُ القبيح و الإخلال به لأنّه إخلال به، لأنّ المشقة من غير عوض ظلمٌ، و لو أمكن الابتداء به كان عبثاً.

أقول: المدح: قول ينبئ عن ارتفاع حال الغير مع القصد إلى الرفع منه.

و الثواب: هو النفع المستحق المقارن للتعظيم و الإجلال.

و الذم: قول ينبئ عن اتضاع حال الغير مع قصده.

و العقاب: هو الضرر المستحق المقارن للاستخفاف و الإهانة.

و المدح و الثواب يستحقان بفعل الواجب و فعل المندوب و فعل ضد القبيح، و هو الترك له(2) علىٰ ما ذهب من يثبت الترك ضدّاً، و الإخلال بالقبيح.

**********

(1) . قال المحقق الأردبيلي في شرح العبارة: «إشارة إلى المذهبين في المطلوب بالنهي، فإنّ على مذهب من يقول إنّه الكفّ لا الترك فهو ضد و فعله موجب للمدح و الثواب كما في الأوامر، و على قول من يقول إنّه الترك فليس بضد فإنّه غير وجودي و سبب الاستحقاق هو الاخلال بالقبيح و هو تركه، فكلام الشارح غير جيد». (تعليقة المحقق الأردبيلي المطبوعة في حاشية شرح القوشجي).

توضيح المقام هو أنّ الأُصوليين اختلفوا في أنّ الموضوع له لهيئة النهي هل هو الكف عن الشيء أو نفس «ألاّ تفعل»، و قول الشارح: «و فعل ضد القبيح» إشارة إلى النظرية الأُولى، و لكن تفسيره بقوله: «و هو الترك» غير صحيح، بل الصحيح أن يقول: و هو الكف، و قوله بالإخلال بالقبيح إشارة إلى النظرية الثانية أي مجرد «ألاّ تفعل».

(2) قال المحقق الأردبيلي في شرح العبارة: «إشارة إلى المذهبين في المطلوب بالنهي، فإنٌ على مذهب من يقول إنٌه الكفٌ فهو ضد وفعله موجب للمدح والثواب كما في»

ص: 261

و منع أبو علي و جماعة من المعتزلة(1) استحقاق المدح و الثواب بالإخلال بالقبيح و صارا إلىٰ ذلك لأنّ المكلف يمتنع خلوّه من الأخذ و الترك الذي هو فعل الضد.

و الحقّ ما ذكره المصنف رحمه الله، فإنّ العقلاء يستحسنون ذمّ المخلّ

**********

( الأومر، وعلى قول من يقول إنٌه الترك فليس بضد فإنٌه غير وجودي وسبب الاستحقاق هو الاخلال بالقبيح وهو تركه، فكلام الشارح غير جيد». (تعليقة المحقق الأردبيلي المطبوعة في حاشية شرح القوشجي). توضيح المقام هو أن الأصوليين اختلفوا في أنٌ الموضوع له لهيئته النهي هل هو الكف عن الشيء أو نفس «ألٌا تفعل»، وقول الشارح: «وفعل ضد القبيح» إشارة إلى النظرية الأولى، ولكن تفسيره بقوله: «و هو الترك» غير صحيح، بل الصحيح أن يقول: و هو الكف، و قوله بإخلال بالقبيح إشارة إلى النظرية الثانية أي مجرد «ألٌا تفعل»

(1) . توضيحه: أنّ هؤلاء قصروا الثواب بصورة واحدة و هو الكف عن الحرام. و أمّا إذا ترك الحرام من دون التفات إليه فلم يروا فيه ثواباً، و استدلوا لذلك بأنّ المكلف على أي حال كان، فإمّا فاعل أو تارك و يمتنع عليه الخروج عنهما فهو لا يقدر على غيرهما و غير المقدور لا يطلبه الشارع على قواعد العدلية.

و لما اعترض عليهم بأنّ لازم هذا الاستدلال عدم تحقّق المعصية في الإخلال بالواجب و تركه (بلا التفات) مع أنّ العقلاء يستحسنون الذم على من ترك الواجب بلا التفات و كف عن فعله، فأجابوا بالالتزام بأنّ الإخلال بفعل الواجب لا تتحقق به المعصية لعدم القدرة على الإخلال لعين الدليل المذكور في ترك الحرام.

و قد ردّه الشارح بأنّ العقلاء يستحسنون ذم المخلّ بالواجب، أي بنفس الترك، و إن لم يتصوّروا منه فعلاً كما يستحسنون ذمه على فعل القبيح.

و مع هذا التقرير فلم تتبين كيفية الاستدلال، لأنّ عدم الخروج من الفعل و الترك لا يكون دليلاً على سلب القدرة و إلاّ لزم نفي القدرة بتاتاً في جميع الموارد و ذلك لأنّ الانسان إذا قيس على أي موضوع فلا يخلو من الفعل و الترك.

ص: 262

بالواجب و إن لم يتصوروا منه فعلاً كما يستحسنون ذمه علىٰ فعل القبيح.

و اعلم أنّه يشترط في استحقاق الفاعل المدح و الثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه(1)، و كذا المندوب يفعله لندبه أو لوجه ندبه، و كذا في ترك القبيح يتركه لكونه ترك قبيح أو لوجه ذلك و الإخلال بالقبيح لكونه إخلالاً بالقبيح، فإنّه لو فعل الواجب أو المندوب لا لما ذكرناه(2) لم يستحق مدحاً و لا ثواباً عليهما، و كذا لو ترك القبيح لغرض آخر من لذة أو غيرها لم يستحق المدح و الثواب.

و الدليل على استحقاق الثواب بفعل الطاعة أنّها مشقة قد ألزمها اللّٰه تعالى المكلف، فإن لم يكن لغرض كان عبثاً و ظلماً و هو قبيح لا يصدر عن الحكيم، و إن كان لغرض فإمّا الإضرار و هو ظلم، و إمّا النفع و هو إمّا أن يصح الابتداء به أو لا. و الأوّل باطل و إلاّ لزم العبث في التكليف، و الثاني هو المطلوب، و ذلك النفع هو المستحق بالطاعة المقارن للتعظيم و الإجلال، فإنّه يقبح الابتداء بذلك لأنّ تعظيم من لا يستحقه قبيح.

**********

(1) . هناك مسألتان:

الأُولى: أنّ روح العبادة هي القيام بالعمل لأجل أمره سبحانه به أو لأجل التقرب منه و هذا ما يطلق عليه قصد القربة.

الثانية: إتيان الواجب لوجوبه بل المندوب لندبه، ثمّ الوجوب أو الندب يكون تارة وصفاً للواجب و المندوب و أُخرى غاية، فقوله: «لوجوبه» إشارة إلى قصد الوجوب بصورة الغاية، أو «لوجه وجوبه» إشارة إلى جعله وصفاً، و على كل تقدير فقد اتفق الفقهاء على أنّ الواجب هو قصد القربة لا قصد الوجه و إنّما التزم به المتكلمون و ابن إدريس من الفقهاء.

(2) . يلاحظ عليه بأنّه إذا أتى للّٰه سبحانه كفى ذلك في استحقاق الثواب و لا يحتاج إلى قصد عنوان الوجوب غاية أو صفة.

و العجب من الشارح مع أنّه من أكابر فقهاء الشيعة مرّ على هذه المسألة بلا تعليق.

ص: 263

قال: و كذا يُستَحقُّ العقابُ و الذمُّ بفعلِ القبيح و الإخلالِ بالواجب، لاشتماله على اللطف، و للسمع.

أقول: كما أنّ الطاعة سبب لاستحقاق الثواب فكذا المعصية و هي فعل القبيح و ترك الواجب سبب لاستيجاب العقاب لوجهين:

أحدهما: عقلي، كما ذهب إليه جماعة من العدلية، و تقريره: أنّ العقاب لطف و اللطف واجب، أمّا الصغرىٰ فلأنّ المكلف إذا عرف أنّ مع المعصية يستحق العقاب فإنّه يبعد عن فعلها و يقرب إلىٰ فعل ضدها و هو معلوم قطعاً، و أمّا الكبرىٰ فقد تقدمت.

الثاني: سمعي، و هو الذي ذهب إليه باقي العدلية، و هو متواتر معلوم من دين النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

إذا عرفت هذا فنقول: ذهب جماعة إلىٰ أنّ الإخلال بالواجب(1) لا يقتضي استحقاق ذم و لا عقاب بل المقتضي لذلك هو فعل القبيح أو ضد فعل الواجب و هو تركه، و قد تقدم بيان ذلك.

قال: و لا استبعادَ في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين.

أقول: هذا جواب عن حجة من منع من كون الإخلال بالواجب سبباً لاستحقاق الذم(2).

**********

(1) . لاحظ التعليقة السابقة، و قد مرّ أنّه خيرة أبي علي و جماعة من المعتزلة حيث ذكروا أنّ الإخلال بالواجب أي نفس تركه لا يستحق عليه الإنسان عقاباً، و ذلك لأنّه لا يمكن له الخروج عن الفعل و الترك.

(2) . بيان لدليل أبي علي و جماعة من المعتزلة على أنّ ترك الواجب من دون التفات لا يستلزم العقاب.

ص: 264

و تقريره: أنّه لو كان ذلك سبباً، و الإخلال بالقبيح سبب للمدح، لكان المكلّف إذا خلا من الأمرين(1) مستحقاً للذم و المدح.

و الجواب: لا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين، فيذمّ علىٰ أحدهما و يمدح على الآخر، كما إذا فعل طاعة ببعض أعضائه و معصية بالبعض الآخر.

قال: و إيجاب المشقة في شكر النعمة قبيحٌ.

أقول: ذهب أبو القاسم البلخي إلىٰ أن هذه التكاليف وجبت شكراً للنعمة، فلا تستلزم وجوب الثواب و لا يستحق بفعلها نفع و إنّما الثواب تفضل من اللّٰه تعالى، و ذهب جماعة من العدلية إلىٰ خلاف هذا القول.

و احتج المصنف رحمه الله علىٰ إبطاله بأنّه يقبح عند العقلاء أن ينعم الإنسان علىٰ غيره ثمّ يكلّفه و يوجب عليه شكره و مدحته علىٰ تلك النعمة من غير إيصال ثواب إليه، و يعدّون ذلك نقصاً في المنعم و ينسبون إلى الرياء و ذلك قبيح لا يصدر من الحكيم، فوجب القول باستحقاق الثواب.

قال: و لقضاءِ العقل به مع الجهل.

أقول: هذا دليل ثان علىٰ إبطال قول البلخي، و تقريره: أنّ العقلاء بأسرهم يجزمون بوجوب شكر المنعم و إذا كان وجوب الشكر معلوماً بالعقل مع أنّ العقل لا يدرك التكاليف الشرعية وجب القول بكونها ليست شكراً.

قال: و يشترط في استحقاق الثواب كونُ الفعل أو الإخلال به شاقاً، لا رفعُ الندم علىٰ فعله، و لا انتفاءُ النفع العاجل إذا فعل للوجه.

**********

(1) . المراد هو الواجب و الحرام.

ص: 265

أقول: يشترط في استحقاق الثواب كون الفعل المكلف به الواجب أو المندوب شاقاً و كون الإخلال بالقبيح شاقاً، إذ المقتضي لاستحقاق الثواب هو المشقة فإذا انتفت انتفى المقتضي للاستحقاق، و لا يشترط رفع الندم علىٰ فعل الطاعة فإن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب و قد وجدت منفكة عنه لأنّه في حال الفعل يستحيل أن يكون نادماً عليه، نعم نفي الندم شرط في بقاء استحقاق الثواب، و كذا لا يشترط في الثواب عدم النفع العاجل إذا أوقعه المكلف لوجه الوجوب أو للوجوب أو لوجه الندب أو للندب.

المسألة السادسة: في صفات الثواب و العقاب

قال: و يجب اقترانُ الثواب بالتعظيم و العقابِ بالإهانةِ، للعلم الضروري باستحقاقهما مع فعل موجبهما.

أقول: ذهبت المعتزلة إلىٰ أن الثواب نفع عظيم مستحق يقارنه التعظيم، و العقاب ضرر عظيم مستحق يقارنه الإهانة، و احتجوا علىٰ وجوب اقتران التعظيم بالثواب و اقتران الإهانة، بالعقاب بأنّا نعلم بالضرورة أنّ فاعل الفعل الشاق المكلف به فإنّه يستحق التعظيم و المدح و كذلك من فعل القبيح فإنّه يستحق الإهانة و الاستخفاف.

قال: و يجب دوامُهما لاشتماله على اللطفيّة، و لدوامِ المدح و الذم، و لحصول نقيضهما لولاه.

أقول: ذهب المعتزلة إلىٰ أن الثواب و العقاب دائمان، و اختلف في العلم بدوامهما هل هو عقلي أو سمعي، فذهبت المعتزلة إلىٰ أنّه عقلي و ذهبت

ص: 266

المرجئة إلىٰ أنّه سمعي.

و احتج المصنف رحمه الله علىٰ دوامهما بوجوه:

أحدها: أن العلم بدوام الثواب و العقاب يبعث العبد علىٰ فعل الطاعة و يبعده عن المعصية و ذلك ضروري و إذا كان كذلك كان لطفاً و اللطف واجب علىٰ ما مر.

الثاني: أن المدح و الذم دائمان إذ لا وقت إلاّ و يحسن مدح المطيع و ذم العاصي إذا لم يظهر منه ندم علىٰ ما فعل، و هما معلولا الطاعة و المعصية فيجب كون الطاعة و المعصية في حكم الدائمتين فيجب دوام الثواب و العقاب لأن دوام أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر(1) لأن العلة تكون دائمة أو في حكم الدائمة.

الثالث: أن الثواب لو كان منقطعاً لحصل لصاحبه الألم بانقطاعه و لو كان العقاب منقطعاً لحصل لصاحبه السرور بانقطاعه و ذلك ينافي الثواب و العقاب لأنّهما خالصان عن الشوائب.

هذا ما فهمناه من كلام المصنف رحمه الله و قوله: «لحصول نقيضيهما» يعني نقيضي الثواب و العقاب «لولاه» أي لو لا الدوام.

**********

(1) . المعلولان عبارتان عن المدح و الثواب أو الذم و العقاب، فبما أنّ المدح و الذم مستمران فيكشف عن بقاء العلة و هو الطاعة و المعصية، فيستدل بوجود أحد المعلولين على وجود العلة و بقائها، فيثبت وجود المعلول الآخر لامتناع وجود أحد المعلولين بدون المعلول الآخر.

و اعلم أنّ القول بدوام العقاب مبني على أنّ مرتكب المعصية مخلّد في النار إذا مات بلا توبة، و هو على خلاف ما دل عليه الكتاب و السنّة، و قد تبع المصنّف رأي المعتزلة و مضى عليه الشارح، مع أنّ الأليق بمقامهما التنصيص على خلافه، و سيأتي التصريح بما ذكرناه ص 274، فلاحظ.

ص: 267

قال: و يجبُ خلوصهما و إلاّ لكان الثوابُ أنقص حالاً من العوض و التفضل علىٰ تقدير حصوله فيهما، و هو أدخلُ في باب الزجر.

أقول: يجب خلوص الثواب و العقاب عن الشوائب.

أمّا الثواب فلأنّه لو لا ذلك لكان العوض و التفضل أكمل منه لأنه يجوز خلوصهما عن الشوائب و حينئذ يكون الثواب أنقص درجة و أنّه غير جائز.

و أمّا العقاب فلأنّه أعظم في الزجر فيكون لطفاً.

قال: و كلُّ ذي مرتبة في الجنّة لا يطلبُ الأزيد، و يبلغ سرورهم بالشكر(1) إلىٰ حدِّ انتفاء المشقة، و غناؤُهم بالثواب ينفي مشقة ترك القبائح، و أهلُ النارِ يُلجَئُون إلىٰ ترك القبيح.

أقول: لمّا ذكر أن الثواب خالص عن الشوائب ورد عليه أن أهل الجنّة يتفاوتون في الدرجات، فالأنقص إذا شاهد من هو أعظم ثواباً حصل له الغم بنقص درجته عنه و بعدم اجتهاده في العبادة، و أيضاً فإنّه يجب عليهم الشكر لنعم اللّٰه تعالى و الإخلال بالقبائح و في ذلك مشقة.

**********

(1) . لما اشترط الخلوص في الثواب و أن يكون خالصاً من كل شائبة، أشكل عليه الأمر في مواضع ثلاثة:

أ - أنّ أهل الجنة يتفاوتون في الدرجات فالأنقص درجة إذا شاهد من هو أعظم ثواباً حصل له الغم بنقص درجته.

ب - أنّ أهل الجنة يجب عليهم الشكر لنعم اللّٰه تعالى و الشكر يشتمل على المشقة و هذا ينافي الخلوص في الثواب.

ج - أنّ أهل الجنة يتركون القبائح (المحرمات) و في تركها مشقة.

ص: 268

و الجواب عن الأوّل: أنّ شهوة كل مكلف مقصورة علىٰ ما حصل له و لا يغتم بفقد الأزيد لعدم اشتهائه له.

و عن الثاني: أنّه يبلغ سرورهم بالشكر على النعمة إلىٰ حد تنتفي المشقة معه.

و أمّا الإخلال بالقبائح فإنّه لا مشقة عليهم فيها لأنّه تعالى يغنيهم بالثواب و منافعه عن فعل القبيح فلا تحصل لهم مشقة، أمّا أهل النار(1) فإنّهم يلجئون إلىٰ فعل ما يجب عليهم و ترك القبائح فلا تصدر عنهم، و ليس ذلك تكليفاً لأنّه بالغ حد الإلجاء، و يحصل من ذلك نوع من العقاب أيضاً.

قال: و يجوز توقفُ الثوابِ علىٰ شرطٍ و إلاّ لأُثيبَ العارفُ باللّٰه تعالى خاصةً.

أقول: ذهب جماعة إلىٰ أن الثواب يجوز أن يكون موقوفاً علىٰ شرط(2)، و منعه آخرون، و الأوّل هو الحقّ:

**********

( و قد أجاب الشارح عن الاشكالات وفق ما ذكره الماتن، فلاحظ.

(1) . كان عليه أن يذكر فيه على غرار ما ذكر في أهل الجنة و هو أنّهم يتفاوتون في دركاتهم في النار، فإذا نظر إلى ما هو أشد منه عذاباً سرَّ لأنّه أقل عذاباً منه فلم يكن العذاب خالصاً.

و أمّا ترك القبائح من أهل النار فليس فيه إشكال بالنسبة إليهم إذ في تركها نوع من العقاب و هو مؤكّد لخلوص العقاب بخلافه بالنسبة إلى أهل الجنة.

(2) . هذا البحث مقدمة لحل مشكلة الإحباط الذي هو باطل عند المصنّف و الشارح بحكم العقل، و سيوافيك أنّ المصنّف يعتمد في تفسير الآيات الظاهرة في الإحباط على ما ذكره هنا من كون الثواب مشروطاً.

و حاصل هذا الوجه أنّ الثواب على وجه الإطلاق مشروط بشرط و إلاّ لأثيبَ العارف باللّٰه وحده و إن لم يؤمن برسالة النبي الأكرم و يوم المعاد و هو واضح البطلان، و هذا دليل على أنّ الثواب يمكن أن يكون مشروطاً، و ستوافيك كيفية تفسير الإحباط بهذا الطريق.

ص: 269

و الدليل عليه أنّه لو لا ذلك لكان العارف باللّٰه تعالى وحده مثاباً مع عدم نظره في المعجزة و عدم تصديقه بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، و التالي باطل إجماعاً فكذا المقدم.

بيان الشرطية: أنّ المعرفة طاعة مستقلة بنفسها فلو لم يتوقف الثواب عليها علىٰ شرط لوجبت إثابة من لم يصدق بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث لم ينظر في معجزته.

قال: و هو مشروطٌ بالموافاة، لقوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»(1) و قوله تعالى: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ»(2).

أقول: اختلف المعتزلة علىٰ أربعة أقوال(3):

فقال بعضهم: إنّ الثواب و العقاب يستحقان في وقت وجود الطاعة و المعصية و أبطلوا القول بالموافاة.

و قال آخرون: إنّهما يستحقان في الدار الآخرة.

و قال آخرون: إنّهما يستحقان حال الاخترام.

و قال آخرون: إنّهما يستحقّان في الحال بشرط الموافاة فإن كان في علم

**********

(1) . الزمر: 65.

(2) . البقرة: 217.

(3) . هذه الأقوال للمعتزلة، الأوّل: أنّ الثواب و العقاب يُستَحقان في وقت وجود الطاعة و المعصية و بعبارة أُخرى في وقت العمل و على وجه التنجيز، و يقابله القول الرابع الذي أشار إليه الشارح بقوله: «يُستَحقان في الحال بشرط الموافاة» بأن يبقى على الحال السابق إلى حال الموت. و بقي القولان الآخران و هما أنّهما يُستَحقان في الدار الآخرة أو يستحقان حال الاخترام أي الموت، ثمّ إنّ البحث عن اشتراط استحقاق الثواب و العقاب بالموافاة و عدمه مبنيان على القول الأوّل و الرابع و أمّا القول الثاني و الثالث فلا يقبلان الاشتراط.

ص: 270

اللّٰه تعالى أنّه يوافي الطاعة سليمة إلىٰ حال الموت أو الآخرة استحق بها الثواب في الحال و كذا المعصية، و إن كان في علمه تعالى أنّه يحبط الطاعة أو يتوب من المعصية قبل الموافاة(1) لم يستحق الثواب و لا العقاب بهما.

و استدل المصنف(2) رحمه الله علىٰ القول بالموافاة بقوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» و بقوله تعالى: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ».

و تقريره أن نقول:(3) إمّا أن يكون المراد بالإحباط هنا كون العمل باطلاً

**********

(1) . يريد: قبل الوفاة.

(2) . أقول لما كان ظاهر بعض الآيات دالّة على الإحباط، أعني قوله سبحانه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) و قوله تعالى: (وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ) حاول المصنّف أن يفسر الإحباط فيهما بنحو لا يُعدّ إحباطاً بالمعنى المصطلح، و هو أنّ الثواب و العقاب كانا مشروطين بعدم الشرك و الارتداد إلى حال الموت، فلو أشرك أو ارتدّ يكشف عن عدم الثواب من أوّل الأمر، فلم يكن هناك موضوع للإحباط، و بعبارة أُخرى اعتمد على الأصل الذي أسّسه في المسألة السابقة أعني كون الثواب مشروطاً بشيء و هو الموافاة.

(3) . ذكر للإحباط معاني ثلاثة اختار الثالث و رفض الأوّلين. الأوّل: أن يكون العمل باطلاً من أصله، و هذا غير صحيح لأنّ المفروض أنّ الشرك و الارتداد المتأخرين يؤثران في الجزاء أي الثواب فيجب أن يكون العمل موجباً للثواب من أصله و إلاّ تبطل الشرطية في الآيتين.

و الثاني: أن يكون الثواب ساقطاً بعد ثبوته، و هذا هو الإحباط المصطلح الذي سوف يذكره المصنّف في المسألة الآتية، فبقي المعنى الثالث أعني ما ذكره بقوله: «أو أنّ الكفر أبطله» و المراد منه أنّ الثواب كان مشروطاً بشرط متأخر و هو عدم الشرك و الارتداد فإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط.

و بما ذكرناه علم أنّ التعبير عن الوجه الثالث بقوله: «أو أنّ الكفر أبطله» ليس بجيد، و لأجل ذلك جاءت النسخ في المقام مشوشة.

ص: 271

في أصله، أو أنّ الثواب يسقط بعد ثبوته، أو أنّ الكفر أبطله، و الأوّلان باطلان:

أمّا الأوّل فلأنّه علق بطلانه بالشرك المتجدد و لأنّه شرط و جزاء و هما إنّما يقعان في المستقبل و بالأوّل يبطل الثاني.

و أمّا الثاني فلما يأتي من بطلان التحابط، فتعين الثالث.

المسألة السابعة: في الإحباط و التكفير

قال: و الإحباطُ باطلٌ لاستلزامه الظلم، و لقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ»(1).

أقول: اختلف الناس هنا، فقال جماعة من المعتزلة بالإحباط و التكفير، و معناهما أن المكلف يسقط ثوابه المتقدم بالمعصية المتأخرة أو تكفّر ذنوبه المتقدمة بطاعته المتأخرة، و نفاهما المحققون، ثمّ القائلون بهما اختلفوا:

فقال أبو علي: إنّ المتأخر يسقط المتقدم و يبقى علىٰ حاله.

و قال أبو هاشم: إنّه ينتفي الأقل بالأكثر(2) و ينتفي من الأكثر بالأقل ما ساواه و يبقى الزائد مستحقاً و هذا هو الموازنة.

و يدلّ علىٰ بطلان الإحباط أنّه يستلزم الظلم، لأن من أساء و أطاع و كانت إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن و إن كان إحسانه أكثر يكون

**********

(1) . الزلزلة: 7.

(2) . حاصل الفرق بين القولين أنّ أبا علي يقول بأنّ المتأخر و إن كان أقلَّ يُسقط المتقدم و إن كان أكثر، و أمّا أبو هاشم فهو يوازن بين المتقدم و المتأخر و عليه ينتفي الأقل بالأكثر و أمّا الأكثر فينتفي منه بمقدار الأقل و يبقى الزائد.

ص: 272

بمنزلة من لم يسئ و إن تساويا يكون مساوياً لمن لم يصدر عنه أحدهما، و ليس كذلك عند العقلاء، و لقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1) و الإيفاء بوعده و وعيده واجب.

قال: و لعدم الأولوية إذا كان الآخر ضِعفاً، و حصول المتناقضين مع التساوي.

أقول: هذا دليل علىٰ إبطال قول أبي هاشم بالموازنة.

و تقريره: أنّا إذا فرضنا أنّه استحقّ المكلف خمسة أجزاء من الثواب و عشرة أجزاء من العقاب فليس إسقاط إحدى الخمستين من العقاب بالخمسة من الثواب أولىٰ من الأُخرىٰ، فإمّا أنّ يسقطا معاً و هو خلاف مذهبه أولا يسقط شيء منهما و هو المطلوب، و لو فرضنا أنّه فعل خمسة أجزاء(2) من الثواب و خمسة أجزاء من العقاب فإن تقدم إسقاط أحدهما للآخر لم يسقط الباقي بالمعدوم لاستحالة صيرورة المغلوب و المعدوم غالباً و مؤثراً، و إن تقارنا لزم وجودهما معاً لأنّ وجود كل منهما نفي وجود الآخر فيلزم وجودهما حال عدمهما و ذلك جمع بين المتناقضين.

**********

(1) . الزلزلة: 7-8.

(2) . هذا دليل ثان على ابطال نظرية أبي هاشم، و حاصله: نفترض أنّ إنساناً فعل ما يستتبع ثواباً له خمسة أجزاء و فعل ما يستتبع عقاباً له خمسة أجزاء فإمّا أن يتقدم إسقاط أحدهما أو تقارنا فان تقدَّم فهو يؤثر في الساقط فيسقطه فلا تصل النوبة إلى الساقط ليسقط المسقط لأنّه معدوم و المعدوم لا يؤثر أبداً، و إن تقارنا لزم الجمع بين المتناقضين، لأنّ فرض التقارن فرض لوجودهما معاً في زمان واحد، و فرض وجود التضاد بينهما فرض عدم وجودهما معاً في زمان واحد و ذلك جمع بين النقيضين.

ص: 273

المسألة الثامنة: في انقطاع عذاب أصحاب الكبائر

قال: و الكافر مخلّدٌ، و عذابُ صاحبِ الكبيرةِ منقطعٌ لاستحقاقه الثواب بإيمانه و لقبحه عند العقلاء.

أقول: أجمع المسلمون كافة علىٰ أنّ عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع، و اختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين: فالوعيدية علىٰ أنّه كذلك، و ذهبت الإمامية و طائفة كثيرة من المعتزلة و الأشاعرة إلىٰ أن عذابه منقطع. و ينبغي أن يعرف هنا الصغير و الكبير(1) من الذنب:

أمّا الصغير فيقال علىٰ وجوه:

**********

(1) . إنّ الصغر و الكبر من المفاهيم الإضافية، فلا بد أن يضافا إلى شيء، فوصف الذنب بالصغر إمّا بالإضافة إلى الطاعة أو معصية أُخرى أو إلى ما عند فاعلها من الثواب، و هذه هي الوجوه التي ذكرها الشارح، و إليك التوضيح:

قد فسّرت المعصية الصغيرة بوجوه ثلاثة:

1 - أن يضاف عصيان كل عمل بطاعة عمل آخر فيقال: النظر إلى المرأة الأجنبية أصغر بالنسبة إلى طاعة أمر الجهاد في سبيل اللّٰه، بمعنى أنّ عقابه ينقص في كل وقت عن ثواب الجهاد في سبيل اللّٰه، و يشترط أن تكون القضية مطلقة صادقة في جميع الأوقات. خرج بهذا القيد إضافة عصيان إلى الإنفاق في سبيل اللّٰه، فبما أنّ الإنفاق قبل فتح مكة و بعد فتحها لا يستويان لا يمكن أن يضاف عصيان إلى الإنفاق بوجه كلّي صادق في جميع الأوقات، و ذلك لأنّه رب عصيان أصغر من ثواب الإنفاق قبل الفتح و ليس كذلك إذا أضيف إلى العصيان بعده.

2 - أن تضاف معصية إلى معصية أُخرى كعقاب النظر بالنسبة إلى الكذب و الغيبة.

3 - أن يلاحظ الفاعل من حيث ما له من الثواب في صحيفة أعماله، فإن كان عصيان ما ارتكب أقل من الثواب الموجود فيها فيعد معصية صغيرة، نفترض أنّ انساناً جاهد في سبيل اللّٰه طيلة أعوام و لكنه كذب مرة، فبما أنّ الثواب الذي اكتسبه من الجهاد أكثر من العقاب المترتب على الكذب فيوصف الثاني بالصغيرة.

ص: 274

منها: ما يقال بالإضافة إلى الطاعة، فيقال: هذه المعصية صغيرة في مقابلة الطاعة أو هي أصغر من هذه الطاعة، باعتبار أنّ عقابها ينقص في كل وقت عن ثواب تلك الطاعة في كل وقت، و إنما شرطنا عموم الوقت لأنّه متىٰ اختلف الحال في ذلك بأن يزيد تارة ثواب الطاعة عن عقاب المعصية و تارة ينقص لم نقل إنّ تلك صغيرة بالإضافة إلى تلك الطاعة على الإطلاق بل تقيد بالحالة التي يكون عقابها أقل من ثواب الطاعة، و حصول الاختلاف(1) بما يقترن بالطاعة و المعصية، فإنّ الإنفاق في سبيل اللّٰه مختلف كما قال تعالى: «لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ»(2).

و منها: أن يقال بالنسبة إلىٰ معصية أُخرىٰ، فيقال: هذه المعصية أصغر من تلك، بمعنىٰ أنّ عقاب هذه ينقص في كل وقت عن عقاب الأُخرىٰ.

و منها: أن يقال بالإضافة إلىٰ ثواب فاعلها، بمعنىٰ أن عقابها ينقص في كل وقت عن ثواب فاعلها في كل وقت، هذا هو الذي يطلقه العلماء عليه(3).

و الكبير يقال علىٰ وجوه مقابلة لهذه الوجوه.

إذا عرفت هذا فنقول: الحقّ أنّ عقاب أصحاب الكبائر منقطع،

**********

(1) . هو مبتدأ خبره ما يليه أي بما يقترن بالطاعة و المعصية، أي بما يقترن بهما أُمور يوجب نقصان ثواب طاعة كقوة الإسلام، و زيادته كضعفه، فإنّ الإنفاق قبل الفتح كان إنفاقاً في حال ضعف الإسلام و المسلمين، و الإنفاق بعده إنفاق في حال قوتهما، فهذه الأُمور المقارنة توجب الاختلاف.

(2) . الحديد: 10.

(3) . و الظاهر أنّه من مختصات المعتزلة، قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ) (النساء: 31): و قالت المعتزلة: الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه (مجمع البيان: 38/2، ط صيدا).

ص: 275

و الدليل عليه وجهان:

الأوّل: أنّه يستحق الثواب بإيمانه، لقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ»(1) و الإيمان أعظم أفعال الخير فإذا استحق العقاب بالمعصية فإمّا أن يقدم الثواب على العقاب و هو باطل بالإجماع لأنّ الثواب المستحق بالإيمان دائم علىٰ ما تقدم، أو بالعكس و هو المراد و الجمع محال.

الثاني: يلزم أن يكون من عبد اللّٰه تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثمّ عصىٰ في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلّداً في النار كمن أشرك باللّٰه تعالى مدة عمره و ذلك محال لقبحه عند العقلاء.

قال: و السمعياتُ متأولةٌ، و دوامُ العقاب مختصٌّ بالكافر.

أقول: هذا إشارة إلى الجواب عن حجج الوعيدية، و احتجوا بالنقل و العقل:

أمّا النقل: فالآيات الدالة علىٰ خلودهم، كقوله تعالى: «وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا»(2) و قوله تعالى: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا»(3) إلىٰ غير ذلك من الآيات.

و أمّا العقل: فما تقدم من أن العقاب و الثواب يجب دوامهما.

و الجواب عن السمع التأويل إمّا بمنع العموم و التخصيص بالكفّار و إمّا بتأويل الخلود بالبقاء المتطاول و إن لم يكن دائماً، و عن العقل بأن دوام العقاب إنّما هو في حق الكافر أمّا غيره فلا.

**********

(1) . الزلزلة: 7.

(2) . النساء: 14.

(3) . النساء: 93.

ص: 276

المسألة التاسعة: في جواز العفو

المسألة التاسعة: في جواز العفو(1)

قال: و العفُو واقعٌ لأنّه حقه تعالى فجاز إسقاطه، و لا ضرر عليه في تركه مع ضرر النازل به فحَسُنَ اسقاطُه(2) و لأنّه إحسانٌ.

أقول: ذهب جماعة من معتزلة بغداد إلىٰ أن العفو جائز عقلاً(3) غير جائز سمعاً(4)، و ذهب البصريون إلىٰ جوازه سمعاً، و هو الحق.

و استدل عليه المصنف رحمه الله بوجوه:

الأوّل: أنّ العقاب حق للّٰه تعالى فجاز تركه، و المقدمتان ظاهرتان.

الثاني: أنّ العقاب ضرر بالمكلف و لا ضرر في تركه علىٰ مستحقه و كلّ ما كان كذلك كان تركه حسناً، أمّا أنّه ضرر بالمكلف فضروري، و أمّا عدم الضرر في تركه فقطعي لأنّه تعالى غني بذاته عن كل شيء، و أمّا أن ترك مثل

**********

(1) . و العفو هو محو الذنب، و المغفرة هو ستره، و ربّما يستعملان في معنى واحد.

(2) . فيه قياس مطويّ، و هو: إسقاط العقاب حسن، و كل حسن واقع منه، فإسقاط العقاب واقع منه.

و كان عليه أن يُقيّده بما إذا لم يمنعه مانع كالكفر و ما يليه.

(3) . هذه المسألة من شقوق القول بخلود مرتكب الكبيرة في النار، و لأجله قالوا بعدم جوازه عقلاً و سمعاً، أو جوازه عقلاً لا سمعاً، و الحق جوازه مطلقاً.

(4) . ناظر إلى عقيدة الوعيدية حيث لم تجوز العفو مستدلاً بقوله: «مٰا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ» (ق: 29) و لكن الآية ناظرة إلى الكفّار الذين جحدوا رُسلَه سبحانه بشهادة ما قبلها، قال سبحانه: «أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ * مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * اَلَّذِي جَعَلَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيٰاهُ فِي اَلْعَذٰابِ اَلشَّدِيدِ * قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ وَ لٰكِنْ كٰانَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ * قٰالَ لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مٰا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ...» (ق: 24-29).

ص: 277

هذا حسن فضروري.

قال: و للسمع.

أقول: هذا دليل الوقوع سمعاً، و هو الآيات الدالة على العفو، كقوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ»(1) فإما أن يكون هذان الحكمان مع التوبة أو بدونها و الأوّل باطل لأنّ الشرك يغفر مع التوبة فتعين الثاني.

و أيضاً المعصية مع التوبة يجب غفرانها(2)، و ليس المراد في الآية المعصية التي يجب غفرانها لأنّ الواجب لا يعلق بالمشيئة، فما كان يحسن قوله: «لِمَنْ يَشٰاءُ» ، فوجب عود الآية إلىٰ معصية لا يجب غفرانها، كقوله تعالى: «وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّٰاسِ عَلىٰ ظُلْمِهِمْ»(3) و «عَلىٰ» تدل على الحال(4) أو

**********

(1) . النساء: 48 و 116.

(2) . اختلفوا في وجوب قبول التوبة، فهل هو عقلي كما عليه المعتزلة، أو سمعي كما عليه الإمامية، قال المفيد: «اتفقت الإمامية على أنّ قبول التوبة بفضل من اللّٰه عزّ و جلّ و ليس بواجب في العقول، إسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب، و لو لا أنّ السمع ورد بإسقاطها لجاز في العقول بقاء التائبين على شرط الاستحقاق، و وافقهم على ذلك أصحاب الحديث، و أجمعت المعتزلة على خلافهم و زعموا أنّ التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الوجوب.» (أوائل المقالات: 48 ط تبريز).

(3) . الرعد: 6.

(4) . أي أنّ الناس في حال كونهم ظالمين تنالهم مغفرته سبحانه، فيدل على جواز عفو الظالمين حال كونهم ظالمين مستحقين للعقاب، قال الطبرسي في تفسير الآية: «قال المرتضى رحمه الله: و في الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله: «على ظلمهم» اشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين و يجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره، و أصِله على هجره.» (مجمع البيان: 278/3).

ص: 278

الغرض، كما يقال ضربت زيداً علىٰ عصيانه، أي لأجل عصيانه، و هو غير مراد هنا قطعاً فتعين الأوّل.

و أيضاً فاللّٰه تعالى قد نطق في كتابه العزيز بأنّه عفوّ غفور و أجمع المسلمون عليه و لا معنىٰ له إلاّ إسقاط العقاب عن العاصي.

المسألة العاشرة: في الشفاعة

قال: و الإجماع على الشفاعة، فقيل لزيادة المنافع، و يبطل بنا في حقه صلى الله عليه و آله و سلم.

أقول: اتفقت العلماء علىٰ ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، و يدل عليه قوله تعالى: «عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً»(1) قيل: إنّه الشفاعة، و اختلفوا:

فقالت الوعيدية(2): إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين(3) المستحقين للثواب.

و ذهبت التفضلية إلىٰ أن الشفاعة للفسّاق من هذه الأُمة في إسقاط عقابهم، و هو الحق.

**********

(1) . الإسراء: 79.

(2) . هؤلاء في مقابل «التفضلية»، و الطائفة الأُولى هم المعتزلة و الخوارج، قالوا بخلود أهل المعاصي في النار إذا ماتوا بلا توبة، و الطائفة الثانية قالوا: إنّ اللّٰه سبحانه يتفضّل على عباده يوم القيامة من غير استحقاقهم، و هم الأشاعرة و الإمامية.

(3) . الداعي إلى ذلك التفسير، الرأي المسبّق في مرتكب الكبيرة، حيث قالوا بخلوده في النار و عدم جواز العفو، فلما واجهوا آيات الشفاعة عمدوا إلى تأويلها بأنّها ليست بمعنى إسقاط العقاب بل بمعنى ترفيع الدرجة.

ص: 279

و أبطل المصنف الأوّل بأن الشفاعة لو كانت في زيادة المنافع لا غير(1) لكنّا شافعين في النبي صلى الله عليه و آله و سلم(2) حيث نطلب له من اللّٰه تعالى علو الدرجات، و التالي باطل قطعاً لأن الشافع أعلىٰ من المشفوع فيه فالمقدم مثله.

قال: و نفيُ المطاعِ لا يستلزم نفي المجاب، و باقي السمعيات متأولةٌ بالكفّار.

أقول: هذا إشارة إلىٰ جواب من استدلّ علىٰ أن الشفاعة إنّما هي في زيادة المنافع، و قد استدلوا بوجوه:

الأوّل: قوله تعالى: «مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاٰ شَفِيعٍ يُطٰاعُ»(3) نفى اللّٰه تعالى قبول الشفاعة عن الظالم(4)، و الفاسق ظالم.

و الجواب: أنّه تعالى نفى الشفيع المطاع و نحن نقول به لأنّه ليس في

**********

(1) . لا يخفى أنّ الاشكال يرد على من حصرها في زيادة المنافع فقط، و على من عمّمها لها و لإسقاط العذاب، نعم لا يرد على من فسرها بإسقاط العقاب فقط.

(2) . لا يخفى ضعف الدليل لأنّ كلية الكبرى (كون الشافع أعلى من المشفوع فيه) ممنوعة، إذ الشافع إنّما يلزم أن يكون أعلى منه إذا شفّع في إسقاط عقابه، لا إذا دعا اللّٰه سبحانه أن يرفع درجته إذ لا يشترط فيه العلو كما لا يخفى.

و الدليل الصحيح على بطلان تفسير الشفاعة برفع الدرجة هو أنّ الشفاعة ليست من المفاهيم التي ابتكرها الإسلام بل كانت موجودة في الأُمم السابقة و قد أمضاها الإسلام بحذف ما أُلصق بها من خرافة، و من المعلوم أنّ الشفاعة الرائجة بين الأُمم السابقة هو إسقاط العقاب و بالأخص عقيدة اليهود في الشفاعة هي ذاك، فالإسلام لم يرفضها بتاتاً و إنّما قطع ما أُلصق به من الأباطيل.

(3) . غافر: 18.

(4) . التعبير الصحيح أنّ يقال: نفى اللّٰه سبحانه أنّ يكون للظالم شفيع.

ص: 280

الآخرة شفيع يطاع لأنّ المطاع فوق المطيع و اللّٰه تعالى فوق كل موجود و لا أحد فوقه، و لا يلزم من نفي الشفيع المطاع نفي الشفيع المجاب(1)، سلّمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بالظالمين هنا الكفّار جمعاً بين الأدلة؟

الثاني: قوله تعالى: «وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ»(2) و لو شفّع عليه السلام في الفاسق لكان ناصراً له.

الثالث: قوله تعالى: «وَ لاٰ تَنْفَعُهٰا شَفٰاعَةٌ»(3) ، «يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» (4)«فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ اَلشّٰافِعِينَ»(5).

و الجواب: عن هذه الآيات كلها أنّها مختصة بالكفّار، جمعاً بين الأدلة.

الرابع: قوله تعالى: «وَ لاٰ يَشْفَعُونَ إِلاّٰ لِمَنِ اِرْتَضىٰ»(6) نفى شفاعة الملائكة عن غير المرتضىٰ للّٰه تعالى، و الفاسق غير مرتضى.

و الجواب: لا نسلّم أنّ الفاسق غير مرتضى بل هو مرتضى للّٰه تعالى في إيمانه.

قال: و قيل في إسقاط المضار، و الحقُّ صدقُ الشفاعةِ فيهما و ثبوت الثاني له صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «ادَّخَرْتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي».

أقول: هذا هو المذهب الثاني الذي حكيناه أولاً، و هو أنّ الشفاعة في إسقاط المضارّ، ثمّ بيّن المصنف رحمه الله أنها تطلق على المعنيين معاً كما يقال:

شفّع فلان في فلان إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضارّ، و ذلك متعارف

**********

(1) . المطاع هو الشفيع المفوّض إليه أمر الشفاعة، مع أنّه لا يشفع إلاّ من أذن له الرحمن، و المجاب هو الشفيع المأذون الذي أُجيبت دعوته.

(2) . البقرة: 270.

(3) . البقرة: 123.

(4) . البقرة: 123.

(5) . المدثر: 48.

(6) . الأنبياء: 28.

ص: 281

عند العقلاء.

ثمّ بيّن أن الشفاعة بالمعنى الثاني أعني إسقاط المضارّ ثابتة للنبي بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ادخرت شفاعي لأهل الكبائر من أُمّتي»، و ذلك حديث مشهور.

المسألة الحادية عشرة: في وجوب التوبة

قال: و التوبة واجبةٌ لدفعها الضررَ و لوجوب الندمِ علىٰ كل قبيح أو إخلالٍ بواجب.

أقول: التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية(1) و العزم علىٰ ترك المعاودة في المستقبل لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم، و هي واجبة بالإجماع(2) لكن اختلفوا:

فذهب جماعة من المعتزلة إلىٰ أنّها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو المظنون فيها ذلك و لا يجب من الصغائر المعلوم(3) منها أنّها صغائر.

و قال آخرون: إنّها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل(4).

و قال آخرون: إنّها تجب من كل صغير و كبير من المعاصي أو الإخلال بالواجب سواء تاب عنها قبل أو لم يتب.

**********

(1) . خرج الندم عليها لأجل حفظ مقامه و وجاهته عند الناس، فليست توبة.

(2) . عقلاً و سمعاً عند من يقول بالحسن و القبح العقليين، و سمعاً فقط عند من ينكرها.

(3) . لكونها مغفورة بترك الكبائر لقوله سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ) (النساء: 31).

(4) . الأولى أن يضيف إليه قوله: «و نقض» و إلاّ فعدم الوجوب أوضح من أن يذكر.

ص: 282

و قد استدل المصنف علىٰ وجوبها بأمرين:

الأوّل: أنّها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف منه، و دفع الضرر واجب.

الثاني: أنّا نعلم قطعاً وجوب الندم علىٰ فعل القبيح أو الإخلال بالواجب.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّها تجب عن كل ذنب لأنّها تجب من المعصية لكونها معصية و من الإخلال بواجب لكونه كذلك، و هذا عام في كل ذنب و اخلال بواجب.

قال: و يندمُ على القبيح لقبحه(1) و إلاّ انتفَتْ، و خوفُ النار إن كانَ الغايةَ فكذلك، و كذا الإخلالُ.

أقول: يجب على التائب أن يندم على القبيح لقبحه و أن يعزم علىٰ ترك المعاودة إليه، إذ لو لا ذلك انتفت التوبة، كمن يتوب عن المعصية حفظاً لسلامة بدنه أو لعرضه بحيث لا ينثلم عند الناس، فإنّ مثل هذا لا يعدّ توبة لانتفاء الندم فيه.

**********

(1) . حاصل كلامه: أنّ المحرِّك إلى التوبة يجب أن يكون إدراك قبح العمل بما هو هو، سواء كان القبيح فعلَ المحرم أو تركَ الواجب، و لو انضمّ إليه شيء من الأمور الدنيوية، بحيث لولاها لما تاب، فلا يعدّ توبة حقيقة.

لكن الحق، الفرق بين البواعث الدنيوية كصيانة وجاهته عند الناس، و البواعث الإلهية، من غير فرق بين العذاب الدنيوي أو الأُخروي لقوله سبحانه: «أَ وَ لاٰ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عٰامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاٰ يَتُوبُونَ وَ لاٰ هُمْ يَذَّكَّرُونَ» (التوبة: 126) حيث يوبّخهم على ترك التوبة مع الوقوع في الافتتان في كل عام مرة، و من المعلوم أنّ المقصود حتماً هو الأمراض و الأوجاع و هما رائدا الموت.

ص: 283

و أمّا التائب خوفاً من النار فإن كان الخوف من النار هو الغاية في توبته بمعنىٰ أنّه لو لا خوف النار لم يتب فكذلك، أي لا يصح منه التوبة لأنّها ليست توبة عن القبيح لقبحه فجرى مجرى طالب سلامة البدن، و إن لم يكن هو الغاية بأن يندم عليه لأنّه قبيح و فيه عقاب النار و لو لا القبح لما ندم عليه، و إن كان فيه خوف النار، صحّت توبته، و كذا الإخلال بالواجب: إن ندم عليه لأنّه إخلال بواجب و عزم علىٰ فعل الواجب في المستقبل لأجل كونه إخلالاً بواجب فهي توبة صحيحة، و إن كان خوفاً من النار أو من فوات الجنة فإن كان هو الغاية لم تصح توبته و إلاّ كانت صحيحة، و لهذا أنّ المسيء لو اعتذر إلى المظلوم لا لأجل إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان لم يقبل العقلاء عذره.

قال: فلا تصحُّ من البعض، و لا يتمُّ القياسُ على الواجب.

أقول: اختلف شيوخ المعتزلة، فذهب أبو هاشم إلىٰ أن التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح، و ذهب أبو علي إلىٰ جواز ذلك.

و المصنف رحمه الله استدل علىٰ مذهب أبي هاشم بأنا قد بيّنا أنّه يجب أن يندم على القبيح لقبحه و لو لا ذلك لم تكن مقبولة علىٰ ما تقدم و القبح حاصل في الجميع، فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائباً عنه لا لقبحه.

و احتج أبو علي بأنّه لو لم تصح التوبة عن قبيح دون قبيح لم يصح الإتيان بواجب دون واجب و التالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذا يجب عليه فعل الواجب لوجوبه، فلو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من

ص: 284

بعض القبائح دون بعض لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الإتيان بواجب دون آخر.

و أمّا بطلان التالي فبالإجماع إذ لا خلاف في صحة صلاة من أخلّ بالصوم.

و أجاب أبو هاشم بالفرق بين ترك القبيح لقبحه و فعل الواجب لوجوبه بالتعميم في الأوّل دون الثاني(1)، فإنّ من قال: لا آكل الرمانة لحموضتها، فإنّه لا يقدم علىٰ أكل كل حامض لاتحاد الجهة في المنع، و لو أكل الرمانة لحموضتها لم يلزم أن يتناول كل رمانة حامضة، فافترقا، و إليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: «و لا يتمّ القياس على الواجب» أي لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه علىٰ فعل الواجب لوجوبه.

قال: و لو اعتقد فيه الحُسْنَ صحّتْ.

أقول: قد تصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض القبائح أنّها حسنة و تاب عما يعتقده قبيحاً، فإنّه يقبل

**********

(1) . حاصله: أنّ الطبيعة توجد بفرد ما و لا تنعدم إلاّ بترك جميع أفرادها، فإذا نهى عن الكذب و الغيبة و الربا، فكأنّه نهى عن فعل القبيح، و عندئذ لا ينعدم إلاّ بترك جميع أفرادها، و لأجل ذلك قلنا لا يقبل التبعيض، و هذا بخلاف الواجبات، فإذا قال: صلِّ و صم و زكّ، فكأنّه قال: افعل الحسن، و هو يتحقق بالإتيان بفرد ما، و بذلك ظهر معنى قوله: «من قال: لا آكل الرمانة لحموضتها» فإنّه يجب عليه ترك كلّ رمانة حامضة و ينتقض بأكل رمانة و لا يتوقف النقض على أكل كل رمانة، فالمثال راجع إلى المحرمات، و أمّا الواجبات فكما إذا قال: «عليّ أن آكل الرمانة الحامضة» فإنّه لا يلزم أن يتناول كل رمانة حامضة.

ص: 285

توبته لحصول الشرط فيه و هو ندمه على القبيح لقبحه، و لهذا إذا تاب الخارجي عن الزنا فإنّه يقبل توبته و إن كان اعتقاده قبيحاً لأنّه لا يعتقده كذلك فيصدق في حقه أنّه تاب عن القبيح لقبحه.

قال: و كذا المستحقرُ.

أقول: إذا كان هناك فعلان: أحدهما عظيم القبح و الآخر صغيره و هو مستحقر بالنسبة إليه حتىٰ لا يكون معتداً به و يكون وجوده بالنسبة إلينا لعظيم كعدمه حتىٰ تاب فاعل القبيح من العظيم، فإنّه تقبل توبته.

مثال ذلك: إنّ الإنسان إذا قتل ولد غيره و كسر له قلماً ثمّ تاب و أظهر الندم علىٰ قتل الولد دون كسر القلم، فإنّه تقبل توبته و لا يعتدّ العقلاء بكسر القلم و إن كان لا بد من أن يندم علىٰ جميع إساءته، و كما أنّ كسر القلم حال قتل الولد لا يعدّ إساءة فكذا الندم.

قال: و التحقيقُ أنَّ ترجيحَ الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه و إن اشترك الداعي في الندم على القبيح كما في الدواعي إلى الفعل، و لو اشترك الترجيح اشترك وقوعُ الندم، و به يُتأوَّلُ كلامُ أمير المؤمنين و أولاده عليهم السلام، و إلاّ لزم الحكمُ ببقاء الكفر على التائب منه المقيم علىٰ صغيرة.

أقول: لمّا شَرع في تقرير كلام أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا المقام، و تقريره أن نقول:

الحقّ أنّه تجوز التوبة عن قبيح دون قبيح لأن الأفعال تقع بحسب الدواعي و تنتفي بحسب الصوارف فإذا ترجح الداعي وقع الفعل.

ص: 286

إذا عرفت هذا فنقول: يجوز أن يرجّح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم(1) علىٰ بعض القبائح دون بعض و إن كانت القبائح مشتركة في أنّ الداعي يدعو إلى الندم عليها، و ذلك بأن تقترن ببعض

**********

(1) . قد تعرفت على أنّ أبا هاشم قد ذهب إلى أنّ التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح مستدلاً بأنّ التوبة عبارة عن الندم عن المعصية لكونه قبيحاً، فإذا كان هذا هو الملاك فيجب أن يندم عن كل معصية قبيحة، و التبعيض آية أنّ الندم عن المعصية ليس لأجل قبحه، و لكن ذهب أبو علي إلى صحته مستدلاً بأنّه لو لم تصح التوبة من بعض القبائح دون بعض، لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب (الحسن) عدم صحة الإتيان بواجب دون واجب، و قد أجاب عنه الولد بما عرفت من التفريق بين المنهيات و الواجبات.

لكن المصنّف حاول نقض كلام أبي هاشم بوجه آخر، و حاصله: أنّ قبح الفعل داع إلى الندم و لكن ربما تقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي الأُخر إلى الندم فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم على ذلك، و ربّما لا تقترن فلا يترجح الداعي إلى الندم، فالداعي مطلقاً إلى الترك هو قبح الفعل غير أنّه ربّما يقترن ببعض الدواعي فيؤثر و ربما لا يقترن فلا يؤثر، و بعبارة أُخرى: الندم الإنشائي موجود مطلقاً و لكن بلوغه إلى مرتبة الفعلية يتوقف على انضمام الأُمور الخارجية.

و الاختلاف بين البيانين واضح و إن اشتبه الأمر على الفاضل القوشجي فزعم وحدتهما.

و لكن الحق عدم الحاجة إلى كون الندم لأجل قبحه، بل يكفي الندم لدواع إلهية و إن لم يكن الندم لقبحه كما عرفت.

ص: 287

القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب، أو كثرة الزواجر عنه، أو الشناع عند العقلاء عند فعله، و لا تقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها، و هذا في دواعي الفعل، فإنّ الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثمّ يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الأفعال علىٰ بعض بأن يترجح دواعيه إلىٰ ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي، فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعياً إلى الندم ثمّ تقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم علىٰ ذلك البعض، و لو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم و لم يصح الندم على البعض دون الآخر.

و على هذا ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و كلام أولاده كالرضا و غيره عليهم السلام حيث نقل عنهم نفي تصحيح التوبة عن بعض القبائح دون بعض، لأنّه لو لا ذلك لزم خرق الإجماع و التالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الملازمة: أنّ الكافر إذا تاب عن كفره و أسلم و هو مقيم على الكذب إمّا أن يحكم بإسلامه و تقبل توبته عن الكفر أو لا، و الثاني خرق الإجماع لاتفاق المسلمين علىٰ إجراء أحكام المسلمين عليه و الأوّل هو المطلوب.

و قد التزم أبو هاشم استحقاقه عقاب الكفر و عدم قبول توبته و إسلامه لكن يمنع إطلاق الاسم عليه.

المسألة الثانية عشرة: في أقسام التوبة

قال: و الذنبُ إن كان في حقه تعالى من فعل قبيحٍ كفىٰ فيه الندمُ و العزمُ، و في الإخلال بالواجب اختلف حكمهُ من بقائه و قضائه و عدمهما، و إن كان في حق آدميٍّ استتبعَ إيصاله إن كان ظلماً أو العزمَ عليه مع التعذرِ، أو الإرشادِ إن كان إضلالاً، و ليس ذلك أجزاءً.

أقول: التوبة إمّا أن تكون من ذنب يتعلق به تعالى خاصة، أو يتعلق به

ص: 288

حق الآدمي، و الأوّل إمّا أن تكون عن فعل قبيح كشرب الخمر و الزنا، أو إخلال بواجب كترك الصلاة و الزكاة.

فالأوّل: يكفي في التوبة منه الندم عليه و العزم علىٰ ترك العود إليه.

و أمّا الثاني: فتختلف أحكامه بحسب القوانين الشرعية، فمنه ما لا بدّ مع التوبة منه من فعله أداءً كالزكاة، و منه ما يجب معه القضاء كالصلاة اليوميّة، و منه ما يسقطان عنه كالعيدين، و هذا الأخير يكفي فيه الندم و العزم علىٰ ترك المعاودة كما في فعل القبيح.

و أمّا ما يتعلق به حق الآدمي فيجب فيه الخروج إليهم منه، فإن كان أخذ مال وجب ردّه علىٰ مالكه أو علىٰ ورثته إن مات و لو لم يتمكن من ذلك وجب العزم عليه، و كذا إن كان حدّ قذف، و إن كان قصاصاً وجب الخروج إليهم منه بأن يسلم نفسه إلىٰ أولياء المقتول فإمّا أن يقتلوه أو يعفوا عنه بالدية أو بدونها، و إن كان في بعض الأعضاء وجب تسليم نفسه ليقتص منه في ذلك العضو إلى المستحق(1) من المجني عليه أو الورثة، و إن كان إضلالاً وجب إرشاد من أضلّه و رجوعه عما اعتقده بسببه من الباطل إن أمكن ذلك.

و اعلم: أنّ هذه التوابع ليست أجزاءً من التوبة، فإنّ العقاب يسقط بالتوبة، ثمّ إن قام المكلّف بالتبعات كان ذلك إتماماً للتوبة من جهة المعنىٰ لأنّ ترك التبعات لا يمنع من سقوط العقاب بالتوبة عما تاب منه بل يسقط العقاب و يكون ترك القيام بالتبعات بمنزلة ذنوب مستأنفة تلزمه التوبة منها.

نعم التائب إذا فعل التبعات بعد إظهار توبته كان ذلك دلالة علىٰ صدق الندم و إن لم يقم بها أمكن جعله دلالة علىٰ عدم صحة الندم.

**********

(1) . «متعلق بقوله: «تسليم نفسه».

ص: 289

قال: و يجب الاعتذارُ إلى المغتابِ مع بلوغه.

أقول: المغتاب إمّا أن يكون قد بلغه اغتيابه أو لا، و يلزم على الفاعل للغيبة في الأوّل الاعتذار منه إليه لأنّه أوصل إليه ضرر الغم فوجب عليه الاعتذار منه و الندم عليه، و في الثاني لا يلزمه الاعتذار و لا الاستحلال منه لأنّه لم يفعل به ألماً، و في كلا القسمين يجب الندم للّٰه تعالى لمخالفته النهي و العزم علىٰ ترك المعاودة.

قال: و في إيجاب التفصيل مع الذكرِ إشكالٌ.

أقول: ذهب قاضي القضاة إلىٰ أنّ التائب إن كان عالماً بذنوبه على التفصيل وجب عليه التوبة عن كل واحد منها مفصلاً، و إن كان يعلمها على الإجمال وجب عليه التوبة كذلك مجملاً، و إن كان يعلم بعضها على التفصيل و بعضها على الإجمال وجب عليه التوبة عن المفصل بالتفصيل و عن المجمل بالإجمال.

و استشكل المصنف رحمه الله إيجاب التفصيل مع الذكر لإمكان الإجزاء(1) بالندم علىٰ كل قبيح وقع منه و إن لم يذكره مفصلاً.

قال: و في وجوب التجديد إشكالٌ.

أقول: إذا تاب المكلف عن معصية ثمّ ذكرها هل يجب عليه تجديد التوبة؟ قال أبو علي: نعم بناءً علىٰ أنّ المكلف القادر بقدرة لا ينفك عن الضدين، إمّا الفعل أو الترك فعند ذكر المعصية إمّا أن يكون نادماً عليها أو مصراً عليها و الثاني قبيح فيجب الأوّل.

**********

(1) . الصحيح: الاجتزاء.

ص: 290

و قال أبو هاشم: لا يجب لجواز خلو القادر بقدرة عنهما(1).

قال: و كذا المعلول مع العلة(2).

أقول: إذا فعل المكلف العلة قبل وجود المعلول هل يجب عليه الندم على المعلول أو على العلة أو عليهما، مثاله الرامي إذا رمى قبل الإصابة؟ قال الشيوخ: يجب الندم على الإصابة لأنّها هي القبيح و قد صارت في حكم الموجود لوجوب حصوله عند حصول السبب.

و قال القاضي: يجب عليه ندمان: أحدهما على الرمي لأنّه قبيح، و الثاني علىٰ كونه مولّداً للقبيح، و لا يجوز أن يندم على المعلول، لأنّ الندم على القبيح إنّما هو لقبحه و قبل وجوده لا قبح.

قال: و وجوبِ سقوطِ العقاب بها(3).

أقول: المصنف رحمه الله استشكل وجوب سقوط العقاب بها.

**********

(1) . أي عن الندم و الإصرار.

(2) . أي و كذا في المعلول مع العلّة إشكال، و لا يخفى أنّ المسألة نادرة الابتلاء لأنّ الفترة بين الرمي و الإصابة قليلة، و قلّما يتفق لإنسان إمكان حصول الندم قبل الإصابة حتى نبحث عن حكمه، و على كل تقدير فهناك أقوال ذكرها الشارح، و العجب من قول القاضي عبد الجبار حيث أوجب الندمين على الرمي.

(3) . أي و كذا في وجوب سقوط العقاب بها إشكال، و كان للمصنّف أن يكتفي في العبارة بخبر واحد (إشكال) في مجموع الجمل الأربع المتقدمة التي بَدْؤها قوله: «و في ايجاب التفصيل مع الذكر» الخ. و محور البحث في المقام هو كون التوبة مسقطة للعقاب عقلاً أولا، و أمّا شرعاً فلا شك أنّه مسقط للعقاب و قد تضافر عنهم قولهم: «التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له» و قال سبحانه: (وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىٰ) (طه: 82) فذهبت المعتزلة إلى وجوب سقوطه عقلاً بوجهين:

ص: 291

و اعلم أنّ الناس اتفقوا علىٰ سقوط العقاب بالتوبة، و اختلفوا: فقالت المعتزلة: إنّه يجب سقوط العقاب بها، و قالت المرجئة: إنّ اللّٰه تعالى يتفضل عليه بإسقاط العقاب لا علىٰ جهة الوجوب.

احتجت المعتزلة بوجهين:

الأوّل: أنّه لو لم يجب إسقاط العقاب لم يحسن تكليف العاصي، و التالي باطل إجماعاً فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّ التكليف إنّما يحسن للتعريض للنفع و بوجود العقاب قطعاً لا يحصل الثواب و بغير التوبة لا يسقط العقاب، فلا يبقىٰ للعاصي طريق إلىٰ إسقاط العقاب عنه، و يستحيل اجتماع الثواب و العقاب فيكون التكليف قبيحاً.

**********

( أحدهما: أنّ العاصي كما هو مكلّف بالتوبة مكلف بسائر التكاليف، فلو افترضنا أنّه كذب و تاب و مع ذلك صلّى و زكّى و حجّ، فلو لم يسقط عقاب الكذب بالتوبة يلزم اجتماع الثواب و العقاب في زمان واحد و هو محال، و من جانبٍ آخر لا مسقطَ للعقاب غير التوبة، فعلى ضوء ذلك يلزم أن تكون التوبة مسقطة للعقاب حتى لا يجتمع الضدان.

و الاستدلال مبني على أنّ مرتكب الكبيرة و مستحق العقاب (كالتائب في المقام على القول بعدم سقوط عقابه بالتوبة) مخلّد في النار و معه كيف يمكن أن يثاب، و لكن المبنى باطل لما قلنا بأنّه غير مخلّد فيمكن أن يتوبَ و لا يسقط عقابه فيعاقب فترة فيخرج من النار و يثاب.

ثمّ إنَّ قوله: «و بغير التوبة لا يسقط العقاب» مبني على أنّ الشفاعة بمعنى ترفيع الدرجة لا إسقاط العقاب و إلاّ فيبطل الاستدلال.

ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «أنّ من أساء إلى غيره و اعتذر إليه بأنواع الاعتذارات...»، و أجاب عنه الشارح بوجه لا يحتاج إلى توضيح، إلاّ قوله في الجواب: «لكن نمنع المساواة بين الشاهد و الغائب».

ص: 292

الثاني: أنّ من أساء إلىٰ غيره و اعتذر إليه بأنواع الاعتذارات و عرف منه الإقلاع عن تلك الإساءة بالكلية فإنّ العقلاء يذمون المظلوم إذا ذمّه بعد ذلك.

و الجواب عن الأول: لا نسلّم انحصار سقوط العقاب في التوبة، لجواز سقوطه بالعفو أو بزيادة الثواب، سلّمنا لكن نمنع عدم اجتماع الاستحقاقين لأن عقاب الفاسق عندنا منقطع.

و عن الثاني: بالمنع من قبح الذم، سلّمنا لكن نمنع المساواة بين الشاهد و الغائب.

و أمّا المرجئة فقد احتجوا بأنّه لو وجب سقوط العقاب لكان إمّا لوجوب قبولها أو لكثرة ثوابها، و القسمان باطلان:

أمّا الأوّل فلأنّ من أساء إلىٰ غيره بأنواع الإساءات و أعظمها كقتل الأولاد و نهب الأموال ثمّ اعتذر إليه فإنّه لا يجب قبول عذره.

و أمّا الثاني فلما بيّنا من إبطال التحابط.

المسألة الثالثة عشرة: في باقي المباحث المتعلقة بالتوبة

قال: و العقاب يسقطُ بها(1) لا بكثرة ثوابها، لأنّها قد تقع مُحْبَطةً، و لولاه لا يبقى الفرقُ بين التقدم و التأخر، و لا اختصاص، و لا تُقْبلُ في الآخرة لانتفاء الشرط.

**********

(1) . المسألة مركّزة على أنّ التوبة بنفسها إذا كانت جامعة للشرائط تسقط العقاب أو أنّها تورث كثرة الثواب و بها يسقط العقاب، و اختار المصنّف الوجه الأوّل و استدلّ عليه بأُمور أربعة:

أ - أنّها قد تقع محبطةً، المقصود من «محبطة» - بفتح الباء -: التوبة العارية عن

ص: 293

أقول: اختلف الناس هنا، فقال قوم: إنّ التوبة تسقط العقاب بذاتها، لا علىٰ معنىٰ أنّها لذاتها تؤثر في إسقاط العقاب، بل علىٰ معنىٰ أنّها إذا وقعت علىٰ شروطها و الصفة التي بها تؤثر في إسقاط العقاب أسقطت العقاب من غير اعتبار أمر زائد.

و قال آخرون: إنّها تسقط العقاب لكثرة ثوابها.

و استدل المصنف رحمه الله على الأوّل بوجوه:

**********

( الثواب كتوبة الخارج عن طاعة الإمام، إذا تاب عن الكذب فتقبل توبته و يسقط العقاب و لكن لا بثوابها لأنّ الخارجي محروم عن الثواب، فلو كانت التوبة مؤثرة بثوابها لزم عدم قبول التوبة في هذه الصورة.

ب - لولاه لما يبقى الفرق بين التقدم و التأخر، و في بعض النسخ: و لولاه لانتفى الفرق بين التقدم و التأخر، و مقصوده أنّه لو كانت التوبة مؤثرة بإثارة كثرة الثواب يجب أن تكون مؤثرة أيضاً إذا وقعت قبل المعصية، فالثواب المتحصل بالتوبة المتقدمة يزيل عقاب العمل المتأخر. و لا يخفى ضعف الاستدلال لأنّ حقيقة التوبة هي الندم عن العمل، فما معنى الندم قبل العمل؟

ج - قوله: «و لا اختصاص»، و في بعض النسخ: «و الاختصاص»، و لعله الأصح أي انتفى الاختصاص، مثلاً نفترض أنّ انساناً كذب و اغتاب و نمّ فتاب عن الكذب فأثارت ثواباً فلا وجه لإسقاطها عقاب الأوّل، لأنّ نسبة الثواب إلى الأعمال الثلاثة و عقوباتها سواسية.

د - «و لا تقبل في الآخرة لانتفاء الشرط» جواب عن استدلال الخصم على أنّ التوبة بإثارتها الثوابَ يُسقط العقابَ، و حاصل الاستدلال أنّها لو كانت بما هي هي مسقطة له فيجب أن تكون مسقطة في الآخرة، مع أنّها ليست كذلك، و هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّها مسقطة بإثارة الثواب، فلا تكون مسقطة، لأنّ الثواب و العقاب راجعان إلى دار التكليف و ليست إلاّ الدنيا و أمّا الجواب فواضح.

ص: 294

الأوّل: أنّ التوبة قد تقع محبطة بغير ثواب كتوبة الخارجي من الزنا فإنّه يسقط بها عقابه من الزنا و لا ثواب لها.

الثاني: أنّه لو أسقطت العقاب بكثرة ثوابها لم يبق فرق بين تقدم التوبة على المعصية و تأخرها عنها، كغيرها من الطاعات التي تسقط العقاب بكثرة ثوابها، و لو صح ذلك لكان التائب عن المعاصي إذا كفر أو فسق أسقط عنه العقاب.

الثالث: لو أسقطت العقاب لعظم ثوابها لما اختص بها بعض الذنوب عن بعض، فلم يكن إسقاطها لما هي توبة عنه بأولىٰ من غيره، لأن الثواب لا اختصاص له ببعض العقاب دون بعض.

ثمّ إنّ المصنف رحمه الله أجاب عن حجة المخالف، و تقريرها: أنّ التوبة لو أسقطت العقاب لذاتها لأسقطته في حال المعاينة في الدار الآخرة.

و الجواب: أنّها أنّما تؤثر في الإسقاط إذا وقعت علىٰ وجهها، و هي أن تقع ندماً على القبيح لقبحه، و في الآخرة يقع الإلجاء فلا يكون الندم للقبح.

المسألة الرابعة عشرة: في عذاب القبر و الميزان و الصراط

قال: و عذابُ القبر واقعٌ لإمكانه و تواترِ السمع بوقوعه.

أقول: نقل عن ضرار أنّه أنكر عذاب القبر، و الإجماع علىٰ خلافه.

و قد استدل المصنف رحمه الله بإمكانه عقلاً، فإنّه لا استبعاد في أن يعجّل اللّٰه تعالى العقاب في دار التكليف علىٰ وجه لا يمتنع مع التكليف، كما في قطع يد السارق كما قال تعالى: «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا»(1).

**********

(1) . المائدة: 38.

ص: 295

و قال في قُطّاع الطريق: «ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا»(1)

و قال تعالى: «وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ»(2).

و حكى تعالى في كتابه إهلاك الفرق الذين كفروا به.

و إذا [فإذاً - ظ] كان ممكناً و اللّٰه تعالى قادر علىٰ كل ممكن، و قد أخبر اللّٰه تعالى بوقوعه(3) في قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».(4)

فذكر الرجوع بعد إحياءين و إنّما يكون بإحياء ثالث.

و قال تعالى: «قٰالُوا رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا»(5).

فذكر موتتين: إحداهما في الدنيا و الأُخرى في القبر، و ذكر إحياءين: أحدهما في الدنيا و الآخر في القبر، و لم يذكر الثالث لأنّه معلوم وقع فيه الكلام و غير الحي لا يتكلم، و قيل إنّما أخبروا عن الإحياءين اللذين عرفوا اللّٰه تعالى فيهما ضرورة فأحدهما في القبر و الآخر في الآخرة و لهذا عقب بقوله:

«فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا».

**********

(1) . المائدة: 33.

(2) . التوبة: 52.

(3) . الظاهر عدم دلالة الأولى على الحياة البرزخية و دلالة الثانية عليها.

أمّا الأُولى: فلأنّها تخبر عن موت، و إماتة، و إحياءين.

فالمراد من الموت: هو حال النطفة قبل ولوج الروح.

و من الإماتة: هو الانتقال من الدنيا.

و من الإحياء الأوّل: هو ولوج الروح فيها.

و من الإحياء الثاني: هو الإحياء يوم القيامة.

و هذا بخلاف الثانية فإنّها تخبر عن الإماتتين و إحياءين، و لا تصدق الإماتة إلاّ بعد الحياة، فلا محيص عن تفسير الآية إلاّ بالنحو التالي:

الإماتة الأُولى: هي الإماتة الناقلة للإنسان من الدنيا.

و الإحياء الأوّل: هو الإحياء بعد الانتقال منها.

و الإماتة الثانية: أي الاجابة قُبيل القيامة عند نفخ الصور الأوّل.

و الإحياء الثاني: هو الإحياء عند نفخ الصور الثاني، قال سبحانه: «وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذٰا هُمْ قِيٰامٌ يَنْظُرُونَ» (الزمر: 68).

(4) . البقرة: 28.

(5) . غافر: 11.

ص: 296

فذكر موتتين: إحداهما في الدنيا و الأُخرى في القبر، و ذكر إحياءين: أحدهما في الدنيا و الآخر في القبر، و لم يذكر الثالث لأنّه معلوم وقع فيه الكلام و غير الحي لا يتكلم و قيل إنّها أخبروا عن الاحياءين عرفوا اللّٰه تعالى فيهما ضرورة فأحدهما في القبر و الآخر و لهذه عقب بقوله: «فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا».

و قال تعالى في حق آل فرعون: «اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ»(1) و هذا نص في الباب.

قال: و سائر السمعيات من الميزان و الصراط و الحساب و تطاير الكتب(2) ممكنةٌ دلَّ السمعُ علىٰ ثبوتها فيجب التصديقُ بها.

أقول: أحوال القيامة من الميزان و الصراط و الحساب و تطاير الكتب أُمور ممكنة و قد أخبر اللّٰه تعالى بوقوعها فيجب التصديق بها، لكن اختلفوا في كيفية الميزان:

فقال شيوخ المعتزلة: إنّه يوضع ميزان حقيقي له كفتان يوزن به ما يتبين من حال المكلفين في ذلك الوقت لأهل الموقف، إمّا بأن يوضع كتاب الطاعات في كفة الخير و يوضع كتاب المعاصي في كفة الشر و يجعل رجحان أحدهما دليلاً علىٰ إحدى الحالتين أو بنحو من ذلك لورود الميزان سمعاً و الأصل في الكلام الحقيقة مع إمكانها.

**********

(1) . غافر: 46.

(2) . المراد نشرها، قال سبحانه: «وَ إِذَا اَلصُّحُفُ نُشِرَتْ» (التكوير: 10)، روى السيّد البحراني عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «الكتب كلّها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة بعثَ اللّٰه تعالى ريحاً تُطيرُها بالأيمان و الشمائل، أوّل حرفه: «اِقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» (الإسراء: 14).

ص: 297

و قال عباد و جماعة من البصريين و آخرون من البغداديين: المراد بالموازين العدل دون الحقيقة.

و أمّا الصراط فقد قيل: إنّ في الآخرة طريقين: إحداهما إلى الجنة يهدي اللّٰه تعالى أهل الجنّة إليه، و الأُخرى إلى النار يهدي اللّٰه تعالى أهل النار إليها، كما قال تعالى في أهل الجنّة: «سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بٰالَهُمْ * وَ يُدْخِلُهُمُ اَلْجَنَّةَ عَرَّفَهٰا لَهُمْ»(1) و قال في أهل النار: «فَاهْدُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْجَحِيمِ»(2).

و قيل: إنّ هناك طريقاً واحداً علىٰ جهنم يكلَّف الجميع المرور عليه، و يكون أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف، فأهل الجنّة يمرون عليه لا يلحقهم خوف و لا غم و الكفار يمرون عليه عقوبة لهم و زيادة في خوفهم فإذا بلغ كل واحد إلىٰ مستقره من النار سقط من ذلك الصراط.

قال: و السمعُ دلَّ علىٰ أنّ الجنّة و النار مخلوقتان الآن، و المعارضات متأولةٌ.

أقول: اختلف الناس في أنّ الجنّة و النار هل هما مخلوقتان الآن أم لا؟ فذهب جماعة إلىٰ الأوّل و هو قول أبي علي، و ذهب أبو هاشم و القاضي إلىٰ أنّهما غير مخلوقتين.

احتجّ الأولون بقوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (3)، «أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ»(4) ، «يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ»(5) ، «عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ» (6)وجنة المأوىٰ

**********

(1) . محمد: 5-6.

(2) . الصافات: 23.

(3) . آل عمران: 133.

(4) . البقرة: 24، آل عمران: 131.

(5) . البقرة: 35. الجنة الواردة في هذه الآية غير جنة الخلد التي لا يخرج منها الإنسان إذا دخل، و قد خرج آدم منها، فدلّ على أنّها ليست هذه، و في الروايات تصريح بذلك.

(6) . النجم: 15.

ص: 298

هي دار الثواب، فدلّ علىٰ أنّها مخلوقة الآن في السماء.

احتجّ أبو هاشم بقوله تعالى: «كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ»(1) ، فلو كانت الجنّة مخلوقة الآن لوجب هلاكها، و التالي باطل لقوله تعالى: «أُكُلُهٰا دٰائِمٌ»(2).

و الجواب: دوام الأكل إشارة إلىٰ دوام المأكول بالنوع بمعنىٰ دوام خلق مثله و أكل الجنّة يفنى بالأكل إلاّ أنّه تعالى يخلق مثله، و الهلاك هو الخروج عن الانتفاع و لا ريب أنّ مع فناء المكلفين يخرج الجنّة عن حد الانتفاع فتبقىٰ هالكة بهذا المعنىٰ(3).

**********

(1) . القصص: 88.

(2) . الرعد: 35.

(3) . أجاب عن الاستدلال بوجهين:

1 - أنّ المراد من دوام الأكل هو دوامها بالنوع، فالهلاك يرجع إلى أشخاص المأكولات، و الدوام يرجع إلى كلّ نوع منها، فلا مانع من أن تهلك الأشخاص بأمرين: بالأكل تارة، و نفخ الصور الأوّل، الذي فيه فناء كل شيء غير وجهِه و ذاتِه، أُخرى.

2 - أنّ فناء كل شيء بحسبه، و المراد خروجها عن الانتفاع عند فناء المكلفين.

أقول: إنّ الإمعان في الآية يعرب عن أنّ الاستدلال و الجواب واقعان في غير محلهما، و إليك تحليل مفاده:

قال سبحانه: «وَ لاٰ تَدْعُ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (القصص: 88).

فقوله: «كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ» تعليل للنهي عن اتخاذ إله غيره سبحانه، و الحكم بالهلاك لا يختص بالآخرة، بل هو كذلك في جميع الأزمنة حتى زمن نزول الآية، فغيره سبحانه بما أنّه هالك بالفعل لا يليق أن يتخذ إلهاً، فكلّ شيء بما أنّه منسوب إلى الواجب له حقيقة، و مع قطع النظر عنه فهو هالك و باطل، فلو كان له حقيقة فهي ليست إلاّ ما أفاض اللّٰه

ص: 299

المسألة الخامسة عشرة: في الأسماء و الأحكام

قال: و الإيمانُ: التصديقُ بالقلب و اللسان، و لا يكفي الأوّل لقوله تعالى: «وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ»(1) و نحوه، و لا الثاني لقوله: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا»(2).

أقول: اختلف الناس في الإيمان علىٰ وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، و الذي اختاره المصنف رحمه الله أنّه عبارة عن التصديق بالقلب و اللسان معاً و لا يكفي أحدهما فيه.

أمّا التصديق القلبي فإنّه غير كاف لقوله تعالى: «وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ»(3) و قوله تعالى: «فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ»(4) فأثبت لهم المعرفة و الكفر.

و أمّا التصديق اللساني فإنّه غير كاف أيضاً لقوله تعالى: «قٰالَتِ

**********

( عليه، و قد ألهم بهذه الحقيقة شاعر العصر الجاهلي لبيد حيث قال:

ألا كلّ شيء ما سوى اللّٰه باطل و كل نعيم لا محالة زائل

و قد أجاب العلاّمة الطباطبائي قدس سره عن الاستدلال بوجه آخر و قال: «المراد تبدّل نشأ الوجود، و الرجوع إلى اللّٰه المعبّر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة، و التلبس بالعود بعد البدء، و هذا إنّما يكون فيما هو موجود بوجود بدئي دنيويّ و أمّا الدار الآخرة و ما هو موجود بوجود أخروي كالجنة و النار فلا يتصف شيء من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى». (الميزان: 95/16).

(1) . النمل: 14.

(2) . الحجرات: 14.

(3) . لا دلالة فيها على ما يدّعيه، إذ لقائل أن يقول: الإيمان هو التصديق القلبي بشرط أن لا يجحد باللسان و لا يكذّبه به.

(4) . البقرة: 89.

ص: 300

اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا»(1) و لا شك في أنّ أُولئك الأعراب صدّقوا بألسنتهم.

قال: و الكفرُ: عدمُ الإيمان إمّا مع الضدِّ أو بدونه، و الفسقُ: الخروجُ عن طاعةِ اللّٰه تعالى مع الإيمان، و النفاقُ: إظهار الإيمان و إخفاءُ الكفر.

أقول: الكفر في اللغة هو التغطية، و في العرف الشرعي هو عدم الإيمان إمّا مع الضد بأن يعتقد فساد ما هو شرط في الإيمان، أو بدون الضد كالشاك الخالي من الاعتقاد الصحيح و الباطل.

و الفسق لغة الخروج مطلقاً، و في الشرع عبارة عن الخروج عن طاعة اللّٰه تعالى فيما دون الكفر، و النفاق في اللغة هو إظهار خلاف الباطن، و في الشرع إظهار الإيمان و إبطان الكفر.

قال: و الفاسقُ مؤمنٌ لوجودِ حدِّه فيه.

أقول: اختلف الناس هاهنا: فقالت المعتزلة: إنّ الفاسق لا مؤمن و لا كافر و أثبتوا منزلة بين المنزلتين.

و قال الحسن البصري: إنّه منافق.

و قالت الزيدية: إنّه كافر نعمة.

و قالت الخوارج: إنّه كافر.

و الحقّ ما ذهب إليه المصنف، و هو مذهب الإمامية و المرجئة و أصحاب الحديث و جماعة الأشعرية.

و الدليل عليه أنّ حد المؤمن و هو المصدق بقلبه و لسانه في جميع ما جاء

**********

(1) . الحجرات: 14.

ص: 301

به النبي صلى الله عليه و آله و سلم موجود فيه فيكون مؤمناً(1).

المسألة السادسة عشرة: في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

قال: و الأمرُ بالمعروف الواجب واجبٌ و كذا النهيُ عن المنكر، و المندوبِ مندوبٌ، سمعاً، و إلاّ لزم خلافُ الواقع أو الإخلالُ بحكمته تعالى.

أقول: الأمر بالمعروف هو القول الدالّ على الحمل على الطاعة، أو نفس الحمل على الطاعة(2)، أو ارادة وقوعها من المأمور، و النهي عن المنكر هو المنع من فعل المعاصي، أو القول المقتضي لذلك، أو كراهة وقوعها. و إنما قلنا ذلك للإجماع علىٰ أنّهما يجبان باليد و اللسان و القلب، و الأخير يجب مطلقاً بخلاف الأولين فإنّهما مشروطان بما يأتي.

و هل يجبان سمعاً أو عقلاً؟ اختلف الناس في ذلك: فذهب قوم إلىٰ أنّهما يجبان سمعاً للقرآن و السنّة و الإجماع، و آخرون ذهبوا إلىٰ وجوبهما عقلاً.

و استدل المصنف علىٰ إبطال الثاني بأنهما لو وجبا عقلاً لزم أحد الأمرين، و هو إمّا خلاف الواقع أو الإخلال بحكمة اللّٰه تعالى، و التالي بقسميه باطل فالمقدم مثله:

بيان الشرطية: أنّهما لو وجبا عقلاً لوجبا على اللّٰه تعالى، فإنّ كل واجب عقلي يجب علىٰ كل من حصل في حقه وجه الوجوب، و لو وجبا عليه تعالى

**********

(1) . يدل عليه قوله سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (التغابن: 2) فالآية بمقتضى الحصر، تنفي أية واسطة.

(2) . الأوّل وظيفة كل إنسان إذا ساعدت الظروف، و الثاني وظيفة الحاكم المطاع كما في الروايات، لاحظ الوسائل ج 11 كتاب الجهاد، الباب الثاني من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1، قال: «إنّما هو على القويّ المطاع».

ص: 302

لكان إمّا فاعلاً لهما فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً لأنّه تعالى يحمل المكلفين عليه و انتفاء المنكر قطعاً لأنّه تعالى يمنع المكلفين منه، و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلاً بالواجب و ذلك محال(1) لما ثبت من حكمته تعالى.

قال: و شروطهما: علمُ فاعلهما بالوجه، و تجويزُ التأثير، و انتفاءُ المفسدة.

أقول: شروط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثلاثة:

الأوّل: أن يعرف الآمر و الناهي وجه الفعل، فيعرف أنّ المعروف معروف و أن المنكر منكر و إلاّ لأمر بالمنكر و نهى عن المعروف.

الثاني: تجويز التأثير، فلو عرف أنّ أمره و نهيه لا يؤثران لم يجبا.

الثالث: انتفاء المفسدة، فلو عرف أو غلب علىٰ ظنه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره و نهيه سقط وجوبهما دفعاً للضرر.

فهذا ما حصل لنا من شرح هذا الكتاب، و نحن نسأل اللّٰه تعالى أن يجعله ذخراً لنا يوم المعاد و أن يوفقنا للرشاد بمنّه و كرمه، و الحمد للّٰه وحده.

**********

(1) . الاستدلال غير تام لأنّ قياسه سبحانه بالحاكم قياس مع الفارق، إذ لو أجبر سبحانه عبادَه على الإتيان بالفرائض و اجتناب المعاصي يلزم الإخلال بالغرض و إبطال التكليف.

ثمّ إنّ البحث عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في المقام مع أنّه من الأحكام الفرعية لأجل صلته بالحسن و القبح المستلزمين للثواب و العقاب في الآخرة، و بذلك يظهر وجه ذكر كثير من الأُمور في فصل المعاد، كالشفاعة و المغفرة و الإحباط و التكفير و التوبة و غيرها، و المناسبة في الجميع واحدة.

تمّ التعليق بيد العبد الآثم المحتاج إلى عفو ربّه العاصم جعفر السبحاني صبيحة يوم الخميس، الثاني عشر من شهر شعبان من شهور عام 1416، في جوار الحضرة الفاطمية عليها و على آبائها آلاف السلام و التحية.

و آخر دعوانا أن الحمد للّٰه ربّ العالمين

ص: 303

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.