الإلهیات علی هدی الکتاب و السنة و العقل

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: السبحاني التبریزي ، جعفر، ‫ 1308 -

عنوان واسم المبدع: الإلهیات علی هدی الکتاب و السنة و العقل ‫/ محاضرات جعفر السبحاني التبریزي ‫؛ بقلم حسن محمد مکي العاملي .

مواصفات النشر: ‫قم ‫: موسسة الامام الصادق (ع) ‫، 1423 ق. ‫= 1381.

مواصفات المظهر: ‫4ج.

ISBN : ‫160000ریال ‫: دوره ‫ 964-357-054-1 : ؛ ‫ج.2 ‫ 964-357-055-X : ؛ ج.3 ‫ 964-357-056-8 : ؛ ج.4 ‫ 964-357-057-6 :

لسان : العربية.

ملحوظة: چاپ قبلی : المرکز العالمي للدراسات الاسلامیة ، 1369.

ملحوظة: ‫ج. 1 و 2 (چاپ هفتم: 1430 ق.= 1388).

ملحوظة: کتابنامه .

موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14

شیعه امامیه -- عقاید

معرف المضافة: مکی عاملی ، حسن

تصنيف الكونغرس: ‫ ‮ BP211/5 ‫ /س 18‮الف 7 1381

تصنيف ديوي: ‫ 297/4172

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 82-15822

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: سجل كامل

ص: 1

المجلد 1

المقدمة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

تصدير بقلم المحاضر

اشارة

الحمد للّه الذي علم السرائر، و خبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء، و الغلبة لكل شيء، و القوة على كل شيء، دلّت عليه أعلام الظهور، و أدرك بذاته خفيّات الأمور، امتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، و لا قلب من أثبته تبصره، سبق في العلم فلا شيء أعلى منه، و قرب في الدنو فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، و لا قربه ساواهم في المكان به، لم يطلع العقول على تحديد صفته، و لم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى اللّه عما يقول المشبّهون به، و الجاهلون له، علوا كبيرا.

و الصلاة و السلام على نبيّه و رسوله، و بعيثه و صفوة خلقه، الذي أرسله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، و من طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بيّنه و أحكمه، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، و ليقرّوا به بعد إذ جحدوه، و ليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من

ص: 1

غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته، و خوفهم من سطوته.

و على آله الذين هم موضع سرّه و لجأ أمره، و عيبة علمه، و موئل حكمه، و كهوف كتبه، و جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، و اذهب ارتعاد فرائصه.

و على صحبه المنتجبين الذين قرءوا القرآن فاحكموه، و تدبروا الفرض فأقاموه، و أحيوا السنّة، و أماتوا البدعة، صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج، و الأرض ذات فجاج(1).

أما بعد:

فقد التحق النبي الأكرم (صلى اللّه عليه و آله) بالرفيق الأعلى و قد ترك بين الأمة وديعتين عظيمتين، و أمانتين كبيرتين عرّفهما بقوله: «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه و عترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و إن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2).

و على ضوء هذا البيان من نبي العظمة، فالكتاب و العترة مقياس الحق و نبراس المعرفة، لا يضل من تمسك بهما أبدا، ففيهما أعلام الهداية، و دلائل الحقيقة، و أنوار للنهى و العقول.».

ص: 2


1- الخطبة برمّتها مأخوذة من خطب الإمام علي (عليه السلام) في مواضع مختلفة من نهج البلاغة، لاحظ الخطب 2 و 49 و 85 و 181 و 147.
2- حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة أخرجه الحفاظ في صحاحهم و مسانيدهم و ما نقلناه مأخوذ من مسند الإمام أحمد (م 242 ه)، ج 3، ص 17 و 26. و أخرجه في كنز العمال، ج 1، ص 47، الحديث 945. و قد جمع المتتبع الخبير السيد مير حامد حسين الهندي (م 1306) أسناده و متونه و طبع في ستة أجزاء و هي جزء من أجزاء كتابه الكبير الذائع الصيت «عبقات الأنوار».

و كان المتوقع من أمة ورثت هذه التركة النفيسة الغالية أن تكون مرصوصة الصفوف و متوحدتها، غير مختلفة في الأصول و الفروع، سالكة سبل الحياة بهدوء و طمأنينة. و لكن - يا للأسف - حدثت حوادث و طرأت حواجز عرقلت خطاها، و صدتها عن نيل تلك الأمنية المنشودة. فظهرت بينها آراء متشعبة، و نبتت فيها فرق تحمل عقائد و أفكارا لا توافق حكم الثقلين، و تضاد مبادي الإسلام و أسسه. و ما هذا إلاّ لأجل عدم تمسكهم بما أمر النبيّ بالتمسّك به، و هذا واضح لمن راجع تاريخ المسلمين. و ليس المقام مناسبا لتفصيله، «ودع عنك نهبا صيح في حجراته....».

علم الكلام وليد الضروريات الزمنية

قام المسلمون بعد رحلة النبي (صلى اللّه عليه و آله)، بفتح البلاد، و مكافحة الأمم المخالفة للإسلام، و كانت تلك الأمم ذات حضارة و ثقافة في العلوم و الآداب، و كان بين المسلمين رجال ذوو علاقة متأصلة بكسب العلوم السائدة في تلك الحضارات. فأدت تلك العلاقة إلى المذاكرة و المحاورة أولا، و ترجمة كتبهم إلى اللغة العربية ثانيا.

و قد كانت معارف اليونان و الرومان و الفرس منتشرة في بلاد إيران و الشام و ما والاها التي فتحها المسلمون بقوة الإيمان، و ضرب السيوف، فعند ذاك استولى المسلمون على العلوم اليونانية و الإيرانية، و نقلوها عن السريانية و الفارسية إلى العربية(1).

و أعان على أمر الترجمة وجود عدّة من الأسرى في العواصم الإسلامية، فصار ذلك سببا لانتقال كثير من آراء الرومان و الفرس إلى المجتمع الإسلامي و انتشارها بينهم. و كان بين المسلمين من لم يتدرع في

ص: 3


1- الكامل، ج 5 ص 294، حوادث سنة 240 ه، و ص 113.

مقابلها، بل كان بينهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها، فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات الفكرية، و نجمت فيهم الملاحدة نظراء: ابن أبي العوجاء، و حماد بن عجرد، و يحيى بن زياد، و مطيع بن أياس، و عبد اللّه بن المقفّع، و غيرهم من رجال العيث و الفساد. فهؤلاء اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين و ترجمة كتب الروم و الفرس بما فيها من الضلال و الإلحاد، مع ما فيها من الحقائق الصحيحة. إلى أن عاد بعض المتفكرين غير مسلّمين للإسلام إلاّ بالقواعد الأساسية كالتوحيد و النبوّة و المعاد.

فكانوا ينشرون آراءهم علنا، و يهاجمون بها عقائد المؤمنين(1).

و هذا هو العامل الأول لانتشار الفوضى في العقائد و الأعمال و الأخلاق و الآداب. و هناك عامل ثان لهذه الحركة الهدّامة و هو حرية الأحبار و الرهبان المتظاهرين بالإسلام في نقل ما ورثوا من القصص و الأساطير من طريق العهدين و الكتب المحرّفة. فوجدوا في المجتمع الإسلامي جوا مناسبا لإظهار البدع اليهودية و السخافات المسيحية و الأساطير المجوسية فافتعلوا أحاديث نسبوها إلى الأنبياء و المرسلين، كما افتعلوا بعضها على لسان النبي الأكرم، فحسبها السذج من الناس و السوقة، حقائق ناصعة و علوما ناجعة ملئوا بها صدورهم و طواميرهم و تفاسيرهم للكتاب العزيز(2).

ففي هذا الجو المشحون بالغزو الفكري من جانب الأعداء، و عدم تدرّع المسلمين في مقابل هذه الشبهات و الشكوك شعر المفكرون المخلصون من المسلمين بواجبهم، و هو الدفاع عن العقيدة الإسلامية بنفس الأصول التي يدين بها المخالفون، و الطرق التي يسلكها المعادون. و كان نتيجة ذلك تأسيس علم الكلام لغاية الاستدلال على صحتها و ذب الشكوك و الشبه

ص: 4


1- الكامل، ج 5 ص 294، حوادث سنة 240 ه، و ص 113.
2- لاحظ ميزان الاعتدال، ج 1، ص 593. و أمالي المرتضى، ج 1، ص 127. و مقدمة ابن خلدون، ص 439. و المنار ج 3، ص 545.

عنها. و في ظل ذلك ظهرت طوائف من المتكلمين بمناهج مختلفة، كل يحمل لواء الدفاع عن الإسلام، و مقاومة التيارات الإلحادية و الثنوية. و قد نجحوا في ذلك نجاحا نسبيا و إن لم يتوفق في الوصول إلى الحق في جميع المجالات سوى القليل منهم(1).

نعم، كان هذا المقدار من النجاح جديرا بالإطراء، لأن هذه الصفوة من المتفكرين وقعت بين عدوين: داخلي و خارجي.

أما الأول: فهم أهل الحديث و القشريين و السطحيين من المسلمين الذين كانوا متأبّين عن الخوض في المسائل العقلية، و يكتفون بما وصل إليهم من الصحابة، و يقتصرون على ما حصلوا عليه من الدين بالضرورة، و هم الحشوية من أكثر أهل الحديث و الحنابلة أخيرا. و آفتهم عدم التفريق بين الحديث الصحيح و الزائف، و الكلام الحق و المفترى، و العقائد الإسلامية و البدع اليهودية و المسيحية المستوردة من طريق الأحبار و الرهبان المستسلمين ظاهرا، و الحاقدين عليه باطنا. حتى ظهر القول بالتشبيه و التجسيم، و اعتناق ما ينبذه العقل الفطري بسبب هذه المرويات.

و أما العدو الخارجي: فهم الملاحدة و الثنوية، فكانوا يعادون أهل التفكير من المسلمين لما يجدون فيهم من القدرة على الاحتجاج و المناظرة، و مع ذلك فقد ساد التفكير على المسلمين من القرن الثاني إلى العصور الأخيرة، فقام المفكرون بتأليف أسفار ضخمة حول العقائد و المعارف على المناهج التي استحسنوها و ضبطوها.

ص: 5


1- راجع في الوقوف على البارعين في علم الكلام من الشيعة كتاب «تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام» للسيد حسن الصدر. و للوقوف على البارعين فيه من السنة: «مقالات الإسلاميين» للشيخ الأشعري، و «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر، و «طبقات المعتزلة» لابن المرتضى، و غيرها من الكتب المؤلفة في هذا المضمار.
ضرورة تكامل الأبحاث الكلامية

إنّ المتكلمين الإسلاميين قد قاموا بواجبهم في مقابل الملحدين و الثنوية و السطحيين من أهل الحديث، و أدّوا ما عليهم من الرسالة، غير أنّ تقدم الحضارة في الأعصار الأخيرة، و تطور العلوم و تفتح العقول، أوجد تحولا كبيرا في تحليل الأبحاث و الدراسات العقلية و الفكرية، فلأجل ذلك أصبحت الكتب الكلامية القديمة، غير ملبية لحاجات العصر، خصوصا بالنسبة إلى الأسئلة الجديدة التي طرحها علماء النفس و الاجتماع في مجال الدين و التدين، هذا من جانب. و من جانب آخر، اعتمد المادّيون في تحليل الكون على أصول خاصة ربما تورث شكوكا و شبهات في الأذهان و الأوساط الإسلامية. فيجد الباحث فيها نقائص يجب رفعها.

أما أولا: فإن الكتب الكلامية التي ألفت من القرن الثالث إلى أواخر القرن الثامن أو التاسع، تبحث في نقاط ثلاث لا يهمها فعلا إلا الثالث.

أ - الأمور العامة: كالبحث عن الوجود و الماهية و الإمكان و الوجوب و الامتناع و العلّة و المعلول و الوحدة و الكثرة، و غير ذلك من المباحث التي تعدّ من عوارض الموجود بما هو موجود من دون أن تختص بعوارض الموجود الطبيعي أو الرياضي. و قد عرفت ب «النعوت الكلية التي تعرض للموجود من حيث هو موجود».

ب - الطبيعيات: كالبحث عن الجسم الطبيعي و التعليمي، و بساطته و تركّبه، فلكيّة و أثيرية، و القوى الحيوانية و النباتية، و غير ذلك مما يرجع إلى الموجود المتخصص بكونه طبيعيا. و قد عرّفت ب «الأحكام العارضة على الجسم الطبيعي بما هو واقع في التغير و التبدّل».

ج - الإلهيات: و هو البحث عن اللّه سبحانه و صفاته و ذاته و أفعاله.

و كانت الوظيفة العليا للمتكلمين البحث عن الأمر الثالث و التركيز عليه. غير

ص: 6

أنهم طلبا لمجاراة الحكماء و الفلاسفة خاضوا في البحث عن الأمرين الأولين، حتى يستغني الباحث الكلامي في الأبعاد الثلاثة عن كتب غيرهم.

و لو كان تركيزهم على الأمور الثلاثة أمرا مستحسنا في تلك الأدوار، فإنه أصبح اليوم أمرا مستدركا غير ناجع.

فإنّ الحكماء قد بلغوا الغاية في تحليل الأمور العامة، و اصطلحوا عليها ب «الفن الأعلى» أو «الإلهيات بالمعنى الأعم»، فمن تدرّس هذه الناحية في الفلسفة الإسلامية فهو في غنى عن كل ما ذكره المتكلمون في كتبهم، مع كون أبحاثهم غير وافية بما هو المطلوب منها.

كما أن علماء الطبيعة من عصر النهضة إلى زماننا هذا، قد توغلوا في العلوم الطبيعية، و شققوا الشعر في تلك الحقول، و ذلك بفضل أدوات التجربة التي أوجدت ضجة و تحوّلا كبيرين في هذا المجال. فصار البحث عن العلوم الطبيعية الدراجة في الكتب الكلامية، شيئا غير مفيد إلاّ أن يكون لأجل الوقوف على آراء المتقدمين من الباحثين الذي يطلق عليه «تاريخ العلم».

فلأجل هذين الأمرين اشتملت الكتب الكلامية الدارجة على أمور غير لازمة، يجب حذفها عن مصب الاهتمام و التركيز على «الإلهيات».

و أما ثانيا: فإنّ ما جاء به المتكلمون في أبواب إثبات الصانع و حدوث العالم مختصر جدا لا يفي بدفع الإشكالات و الشكوك المبثوثة في طريق الإلهيين الجدد، يلمس ذلك كل من قرأ الكتب النفسية و الاجتماعية و الفلسفية المادية التي تركز على تحليل حدوث النظام و الأنواع على أسس خاصة، ببيانات خادعة لعقول البسطاء، بل المتعلمين.

فلأجل ذلك يجب أن تكون الكتب الكلامية ناظرة إلى ما وصلت إليه يد الباحث المادي من الشكوك و الفروض التي يفتخر و يتبجح بها. فالبحث

ص: 7

عن الإلهيات من دون النظر إلى ما جاءت به المناهج المادية بحث مبتور.

فالمتعلم على الطراز السابق إذا جادل العالم المادي ربما يقع فريسة لأفكاره الضارية، أو يعود شاكّا فيما يعتقده، أو تتجلى الأصول العقيدية عنده بمظهر الوهن و عدم الرصانة. مع أنّ ما اعتمد عليه المادي أسس سرابيّه لكنها خادعة، لا يعرف خداعها إلاّ المطلع على ما تسلّح به المادي.

و أما ثالثا: فمشكلة العرض في الكتب الكلامية ملموسة جدا. فإنهم عرضوا أفكارهم بتعقيد و غموض، ربما لا يتحملها ذوق الطالب المعاصر في العصر الحاضر، الذي يطلب أن يكون المعقول كالمحسوس. فلأجل ذلك نرى المتون محشاة بالحواشي و الحواشي مطرزة بالتعاليق، و ما ذلك إلاّ لأن المتأخر يرى نقصا واضحا في كتاب المتقدم فيقوم بتكميله على نحو ربما يوجب غموضا فوق غموض.

و أما رابعا: فإنّ أكثر الكتب الكلامية ألّفت لبيان منهج خاص يرتضيه المؤلف، فصارت قاصرة عن بيان سائر الأنظار و المناهج الذي نعبّر عنه بالبحث المقارن.

كانت هذه العوامل تجيش في ذهني لأقوم بما هو الواجب عليّ في الأحوال الحاضرة، و قد خدمت هذا العلم منذ شرخ الشباب إلى أن نيّفت على الستّين، و قد رأيت أنّ ترك ذلك ربما يكون تقاعدا عن حكم اللّه سبحانه، و تقاعسا عن الواجب، فقمت بإلقاء هذه المحاضرات في جامعة العلوم الإسلامية ب «قم» المقدّسة، بعد ما ألّفت دورات كبيرة و صغيرة في العقائد و الأصول. و أرجو منه سبحانه أن يهديني إلى مهيع الحق، و يصدني عن الجور في الحكم، أو الصدور عن عاطفة و هوى، و اللّه سبحانه هو الهادي إلى الحق اللاحب.

ص: 8

المزايا الموجودة في هذه المحاضرات

و لأجل ما ذكرناه في الفصل السابق، بذلنا السعي لأن تكون هذه الدراسات فارغة عن النقائص المذكورة «و إن كان الفعل البشري لا يخلو أبدا من نقص أو نقائص، و ما ألّف إنسان شيئا، إلاّ إذا نظر إليه في غده رآه ناقصا غير واف بالمراد و قال: لو قدّمت هذا لكان أحسن أو أخرت هذا لكان أفيد و لو و لو...» فهي تشتمل على الميزات التالية:

الأولى: التركيز على المسائل اللازمة المفيدة في المجتمع و ترك ما لا فائدة فيه، أو ما تكفل البحث عنه سائر العلوم(1).

الثانية: الاعتماد في نقل المناهج و المدارس الفكرية على المصادر الأصلية لأصحابها، و رعاية العدل و الإنصاف عند القضاء فيها. نعم الأمانة في النقل و العدل في القضاء كلمتان خفيتان على اللسان و لكنهما ثقيلتان في الميزان.

و كم من عائب قولا صحيحا *** و آفته من الفهم السّقيم

الثالثة: تنظيم المسائل تنظيما هندسيا بحيث تكون المسألة المتقدمة مبدأ للبرهان في المسألة التالية، و لا أقل لا تكون مبتنية على المسائل المتأخرة.

الرابعة: طرح المباحث بشكل هادئ يلائم روح العصر، و البرهنة عليها بوجه مقنع للطالب، بعيد عن النقاش و الرد، و إن كان غير خال عن الإشكال، لأجل كونه فكرا بشريا.

ص: 9


1- كالبحث عن الأسعار: انخفاضها و ارتفاعها، و الآجال، و عوض الأم التي تصيب الأطفال و الحيوانات التي صارت الشغل الشاغل في الكتب الكلامية، و البحث عن الأول على عاتق العلوم الاقتصادية و الثاني على عاتق كتب التفسير.

الخامسة: قد بذلنا العناية البالغة في الاستدلال بالآيات القرآنية، و أحاديث العترة الطاهرة الذين عرفهم الرسول قرناء للكتاب و حلفاءه في حديث الثقلين. و الاستدلال بالكتاب و الحديث تارة على نحو الاستلهام، و أخرى على نحو الاستدلال. و موقفهما في مجال الاستلهام موقف المفكر الذي يطرح فكرته مع البرهان و يدليه إلى المخاطب من دون إعمال تعبد منه، كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال إثبات الصانع و نفي الشريك عنه. فنعتمد على ما ذكره لا بما أنه كتاب سماوي جاء من جانبه سبحانه إذ المفروض أنه بعد لم تثبت المسائل المتقدمة عليه، فكيف يمكن أن يتخذ حجة، بل بما أن كلامه مشتمل على برهان يكفي في إثبات المطلوب سواء أ كان ذلك البرهان بصفة كلامه تعالى أو لا. و لأجل ذلك نعرف القرآن بصفة الاستلهام، فكأنه بمنزلة المعلم يأخذ بيديّ متعلمه و يرشده إلى آماله.

و موقفهما في مجال الاستدلال موقف من ثبت حجية قوله و صدق كلامه، فيخبر عن موضوعات غيبيّة نأخذ قوله و إن لم نعرف برهانه، و لكن بما أنّ قوله أحد الحجج فهو كاف في الأخذ به و إن لم يعلم تفصيل برهان قوله كما هو الحال في إخباراتهما بعد ما ثبت حجيتهما.

تقييم جهود المؤلف

هذا ما يرجع إلى المحاضر، و هناك فضل كبير يرجع إلى مؤلفنا الفاضل المحقق الشيخ حسن محمد مكي العاملي - دامت تأييداته - فقد قام بسعي بالغ و همة عالية بضبط هذه المحاضرات ضبطا دقيقا، و إخراجها بهذه الحلّة القشيبة، و الثوب النقي الفضفاض، و صبّها في قوالب رصينة، رائعة الأسلوب، فائقة النظام، خالية عن التعقيد و الإبهام، تعلو عليها جودة السرد، و حسن السبك، و رصانة البيان. فحيّاه اللّه، و جزاه خير الجزاء،

ص: 10

على هذا المجهود الجبار الذي أرجو من فضله تعالى أن يبقى، مدى الأجيال، ذكرا مذكورا، و عملا مبرورا و سعيا مشكورا.

و قد أشرفت على جميع ما حبّرته يراعته، إشرافا تاما إلاّ ما زاغ عنه البصر أو طغى عليه الوهم. و هذا هو الجزء الأول الذي يزفه الطبع إلى طلاب الحقيقة و المعارف، و أرجو من اللّه سبحانه أن يوفقه لإخراج الجزء الثاني الذي يشتمل على مباحث هامة في الوحي و النبوة و الإمامة و الخلافة و حشر الإنسان في المعاد. حتى تتم سلسلة المباحث في جزءين، و سيكون محور الدراسة التخصصية في المراحل العليا في جامعة العلوم الإسلامية ب «قم المقدسة».

و مؤلفنا المكرّم قد سبق أقرانه بسبق غير منكور، و سعي مشكور و قد كتب من أبحاثنا الفقهية و الأصولية شيئا كثيرا قابلا للذكر، و بعضها جاهز للطبع. و هو ثمرة شجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء، و هو حفيد الشهيد السعيد إمام الفقه الشيخ (محمد بن مكي العاملي الشهير بالشهيد الأول)، (رضوان اللّه عليه) الذي استشهد بيد الجور و العدوان في بلاد الشام عام (786 ه). فجزى اللّه الوالد و الولد البارّ أحسن الجزاء إنه خير مأمول و غاية مرجو، و نحن على ثقة أنّ المحاضر و المؤلف يلقيان بعض ما يلقاه كل مخلص للحق، و مدافع عن الحقيقة، و اللّه من وراء القصد، و له الحمد أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا.

حرّره ظهيرة يوم الجمعة السادس و العشرين من شهر رمضان المبارك من شهور عام 1408 ه. ق.

جعفر السبحاني

ص: 11

كلمة المؤلف:

بسم اللّه الرحمن الرّحيم و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و على الأصفياء من عترته و المنتجبين من صحبه.

قد اشتدت حاجة الأوساط الإسلامية العامة و الخاصّة - أعني العرفيّة و العلميّة - إلى تنقيح المطالب الأصولية التي تبنى عليها العقيدة الإسلامية، و تخليصها عن الشوائب، بعد أن تشتّت فيها الآراء بتشعب الميولات و الأهواء، و كاد الحق في مسائل عقائد الدين أن يندثر، و مناراته أن تنطفئ، إلاّ في صدور الخاصة من حملته و وعاته، الذين جرّدوا أنفسهم عن الأهواء، و نفضوا أيديهم عن دراهم الأمراء.

و سدّا لهذا الفراغ المخيف، شدّ سماحة العلامة شيخنا الأستاذ جعفر السبحاني التبريزي، دام حفظه و علا سؤدده، ساعد الجد، فأسدل على الراحة ستارها، و جهّز لعلى المنى رحالها، و ثابر أعواما تعدّ بالعقود، ترك فيها المرغوب للنفس و المنشود، حتى أدرك ما في أبيات الزبر مسطور فناله، و غاص وراء كل مستور فطاله.

ص: 12

ثم أفاض زبدة ما استنهل من معين كتاب اللّه و سنّة نبيّه و عترته الهادية، و قواعد الفلسفة و الحكمة المتعالية، فتلقيت ذلك - بفضل اللّه سبحانه و منّه عليّ - بملء و عيي، و بذلت في ضبط مطالبه و سعي، حتى خرج بين يديك سفرا كالزّهرة في السماء نورا، و جديّ في السّناء علوّا. كتاب جامع لأسّ المطالب العقائدية و فروعها، يحل المعضلات، و يدفع الشبهات، عميق الفكرة، رصين العبارة و واضحها، دقيق التبويب و التحديد.

فاللّه سبحانه هو المسئول أن يتقبل منّا هذا العمل و يعمّ به النفع لأبناء جيلنا و الأجيال الآتية، و يكون نبراسا للحق و منارا للهداية بمنّه و فضله و كرمه. و صلى اللّه على محمد و آله الطاهرين.

حسن محمد مكي رابع شوال المكرم 1408 ه. ق قم المشرفة

ص: 13

كلمة المؤلّف للطبعة الجديدة:

بسم اللّه الرحمن الرحيم الشكر للّه على ما أولى.

لقد لاقى كتاب «الإلهيات» مذ أبصر النور، رواجا و إقبالا في المحافل العلمية، لما تمتّع به من ميّزات، أبرزها:

1 - المنهجيّة في العرض: حيث طرحنا مباحث الأصول متسلسلة على نهج موافق للتسلسل العقلي المنطقي للموضوعات الكلاميّة، مع إرجاع كلّ بحث إلى موضعه المناسب.

فبدأنا بمباحث عامة حول معرفة الدين و أصوله، ثم بحثنا في أدلّة إثبات الصانع، ثم في صفاته، و فيها أدرجنا مباحث العدل و البداء و القضاء و القدر و الجبر و الاختيار، ثم في النبوة العامّة، فالنبوّة الخاصّة، فالإمامة، فالمعاد.

2 - التدرّج في البحث: ففي كلّ اصل استعرضنا تعريفاته اللّغوية، ثم الاصطلاحية. و إنّ كانت له ثمّة مقدمات كلامية ضرورية طرحناها، كمسألة التحسين و التقبيح العقليين بالنسبة إلى مباحث الحكمة. ثم خضنا في أصل البحث، ثم فرّعنا عليه ثمراته و أهم الأسئلة و الإشكالات التي قد تطرح حوله، و أجبنا عليها. كما في ذيل بحث عالميّة الرسالة و خاتميّتها من مباحث النبوة العامة، و الأسئلة حول إمامة المهدي عليه السلام بعد البحث فيها، و أسئلة المعاد بعد طرح مباحثه، و غير ذلك الكثير. و هذا ما أعطى المباحث مرونة، و صبغها بصبغة عمليّة، و أخرجها من حالة التنظير الجافّ .

و من هذا القبيل طرح النماذج و تحليلها، كما يلاحظ كثيرا في بحث إعجاز القرآن الكريم. إضافة إلى طرح الأسئلة على الباحث، ليعمل ذهنه في حلّها.

ص: 14

و في هذا السياق، لاحظنا في بعض المواضع أنّ فروع بعض المباحث موسّعة بحيث يكون إدراجها ضمن المباحث الأمّ موجبا للتباعد بين أجزائها، و ضياع العنوان و الفكرة الرئيسية فيها، فأفردناها بالبحث في فصول خاصّة، كما فعلنا في بحث البداء، و بحث القضاء و القدر، و بحث الجبر و الاختيار، التي تعدّ فروعا للحكمة الإلهية، فأدرجنا كلاّ في فصل خاص.

3 - الشّموليّة في الاستدلال: كما يظهر من عنوان الكتاب، حيث استعرضنا الأدلة على ضوء ما يرشد إليه العقل و الكتاب الحكيم و السّنّة المطهّرة. كما استعرضنا أدلة المتكلّمين و أدلة الفلاسفة أيضا. و ناقشنا ما احتاج منها إلى المناقشة، مما جعل هذا الكتاب فريدا في بابه.

و غير ذلك من الميّزات التي يلاحظها الباحث الكريم، كالسهولة في التعبير و توخي أبسط ما يؤدّي المعنى المطلوب، و تجنّب التعقيد و الإبهام.

طبع الكتاب، و سرعان ما نفذت نسخة، فأعيدت طباعته بشكله الأول مرتين، و كل ذلك في عامين من الزمن. و في هذه المدة تيسّر لنا - بفضله تعالى - تصحيحه و توضيح بعض يسير من عباراته، و تحقيقه تحقيقا كاملا باستخراج فهارس آياته و أحاديثه و أشعاره و أعلامه و مصادره و غير ذلك.

و قد ارتأينا - لضخامة الكتاب - تقسيمه إلى أربعة أجزاء بدلا من مجلّدين ضخمين، ليكون أسهل للتناول و الاستفادة.

و هنا لا بد من التذكير بأنّ كتاب «نظرية المعرفة» الذي حررناه من محاضرات الأستاذ العلامة السبحاني - دام ظله - قد أعددناه ليكون مدخلا إلى هذا الكتاب. و لذا ينبغي عدّه ممهّدا لدراسة هذه المجموعة العقائدية، و عدم الغفلة عنه.

و ختاما، أرى لزاما عليّ أن أقدّم شكري إلى ولدي الروحي الشيخ رشاد شومان العاملي - رعاه اللّه - لما بذله من مجهود في استخراج و تنظيم فهارس الكتاب. و إلى المركز العالمي للدراسات الإسلامية لما بذله من عناية في تقديم الكتاب بحلّته الجديدة هذه.

و الحمد للّه رب العالمين حسن مكي العاملي شوال المكرم 1411 ه

ص: 15

الفصل الأول مقدمات أصوليّة عامة

اشارة

1 - حياة الإنسان و القيم الأخلاقية.

2 - ما هو الدّين ؟ و ما هي جذوره في الفطرة الإنسانية 3 - دور الدين في الحياة.

4 - المعرفة المعتبرة.

5 - المعارف العليا في الإسلام.

6 - لما ذا نبحث عن وجود اللّه سبحانه ؟

ص: 1

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نصدر بحوثنا الكلامية بجملة من المقدمات المفيدة التي لا غنى عنها، للتعرف على واقع الدين و مفهومه، و جذوره في الفطرة الإنسانية، و دوره في حياة الإنسان، و المعرفة المعتبرة في الإسلام.

1 - حياة الإنسان و القيم الأخلاقية

اشارة

لا نتصور إنسانا يملك من العقل شيئا، يخالف التقدم الصناعي و يعارضه، بل يقوده إلى دعم «التكنولوجيا» التي تؤتيه الراحة و الرفاه.

غير أنّ المشكلة في هذه الآونة من حياة البشر تنبع من موقع آخر، و هو استغلال الغرب هذه «التكنولوجيا» لصالح الإنتاج و التوزيع، و جعله الأخلاق و المشاعر الإنسانية ضحيّة لهذه الغاية.

نداء يطرق الأسماع من بعيد:

و في هذه الظروف الحرجة بالنسبة للإنسان المثالي، ظهر أناس ذوو

ص: 3

ضمائر حية و قلوب مستنيرة يشكون هذه الحالة المحيطة بالإنسان، و يطردون الحياة الآلية المصطنعة. و قد أحسّوا أنّ الإنسان قد وصل إلى الدّرك الأسفل من القيم الأخلاقية، و أنّ الحياة الآلية (جعل الطاقات الإنسانية و القيم ضحية الإنتاج و التوزيع) لا توصله إلى السعادة على الإطلاق، بل تقوده إلى تحصيل المال و الثروة بسرعة، و في الوقت نفسه إلى تحطيم القيم و المثل و ضياعها. و من هذا المنطق حاول هؤلاء إضفاء طابع روحي على حياة الإنسان حتى تتوازن الحياة المادية مع الحياة المعنوية.

و نحن إذ نبارك لهؤلاء العلماء خطوتهم نذكّرهم أنّ القرآن الكريم قد وصف الحياة المادّية الخالية من المعنويات و القيم بأنها طيف يدور بين اللّعب و اللّهو و الزينة و التفاخر و ينتهي بالتكاثر في الأموال و الأولاد:

قال سبحانه: اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰانٌ وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ اَلْغُرُورِ (1).

ترى أنه سبحانه يقسم الحياة المادية إلى أقسام خمسة و كأنها تدور من بدايتها إلى نهايتها بين هذه المدارج و هي:

1 - اللعب.

2 - اللهو.

3 - التزين و التجمل.

4 - التفاخر.

5 - التكاثر في الأموال و الأولاد.0.

ص: 4


1- سورة الحديد: الآية 20.

و يعتقد العلماء أنّ كل قسم من هذه الأقسام يشغل مقدارا من عمر الإنسان ثم يندفع إلى القسم الآخر حسب تكامل سنه و اشتداد قواه، و لعل كل واحد منها يأخذ من عمر الإنسان ثمان سنوات، ثم الخامس يستمر معه إلى خاتمة حياته و لا يفارقه حتى يموت.

ثم إنّ الآية المباركة تشبّه هذه الحياة الفارغة من القيم، بنبات مخضرّ لا دوام لاخضراره و لطافته، فسرعان ما يتحول النبات الأخضر إلى الأصفر الذي ينفر منه الإنسان.

فمثل الإنسان الغارق في مستنقع المادة كمثل هذا النبات حيث يبتدئ حياته بالاخضرار و اللطافة و يستقر في نهاية المطاف، جيفة في بطن الأرض، إلاّ من قرن حياته المادّية بالحياة المعنوية غير المنقطعة بموته و زهوق روحه.

و إنّ القرآن الكريم أيضا يصوّر الحياة المادية بشكل آخر و يقول:

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ (1) .

فالحياة المادية في ريعانها تتجلى بصورة شيء واقعي له من الزهو و الجمال ما يغري به كالسراب الذي يخدع العطشان، فإذا انتهى إلى نهاية المطاف من عمره، يقف على أنها لم تكن شيئا واقعيا يسكن إليه.

إنّ الحياة الإنسانية إنّما تأخذ المنحى السليم إذا تفاعلت مع الجانب الروحي، ليكون للدين و القيم و الأخلاق مكانة مرموقة في حياته، كما أنّ لحاجاته المادية ذاك المقام المنشود. و إنّما تتجلى هذه الحقيقة، أي لزوم التوجه إلى الدين، إذا وقفنا على أمرين:9.

ص: 5


1- سورة النور: الآية 39.

1 - ما هو الدّين ؟ و ما واقعه ؟ 2 - ما هو دوره في حياة الإنسان ؟

2 - ما هو الدّين ؟ و ما هي جذوره في الفطرة الإنسانية ؟

اشارة

لا يحاول الدّين إرجاع البشر إلى الجهل و التخلف، بل هو ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال و الترقّي في جميع المجالات. و ما هذه المجالات إلاّ أبعاده الأربعة:

أ - تقويم الأفكار و العقائد و تهذيبها عن الأوهام و الخرافات.

ب - تنمية الأصول الأخلاقية.

ج - تحسين العلاقات الاجتماعية.

د - إلغاء الفوارق العنصريّة و القوميّة.

و يصل الإنسان إلى هذه المآرب الأربعة في ظل الإيمان باللّه الذي لا ينفك عن الإحساس بالمسئوليّة، و إليك توضيحها:

أمّا في المجال الأول، أعني إصلاح الأفكار و العقيدة فنقول: لا يتمكن الإنسان المفكر من العيش بلا عقيدة، حتى أولئك الذين يضفون على منهجهم طابع الإلحاد، و يرفعون عقيرتهم بشعار اللاّدينية، لا يتمكنون من العيش بلا عقيدة في تفسير الكون و الحياة. و إليك نظرية الدّين لواقع الكون و الحياة.

إنّ الدين يفسر واقع الكون و جميع الأنظمة المادية بأنها إبداع موجود عال قام بخلق المادة و تصويرها و تحديدها بقوانين و حدود، و قد أخضعه لنظام دقيق، فالجاعل غير المجعول، و المعطي غير الآخذ.

كما أنّه يفسر الحياة الإنسانية بأنها لم تظهر على صفحة الكون عبثا و لم

ص: 6

يخلق الإنسان سدى، بل لتكوّنه في هذا الكوكب غاية عليا يصل إليها في ظل تعاليم الأنبياء و الهداة المبعوثين من جانب الخالق إلى هداية مخلوقه.

هذا هو تفسير الدين لواقع الكون سر الحياة، غير أنّ المادّي يحاول تفسير الكون بشكل مغاير، و هو يقول:

إنّ المادة الأولى قديمة بالذات و هي التي قامت فأعطت لنفسها نظما، و أنّه لا غاية لها، و لا للإنسان القاطن فيها.

و بعبارة أخرى، إنّ للكون في نظرية الإنسان الإلهي بداية و نهاية، فإنّ نشوءه من اللّه سبحانه، كما أنّ نهايته - باسم المعاد - إلى اللّه تعالى.

غير أنّ الكون في نظرية الإنسان المادي فاقد للبداية و النهاية، بمعنى أنّه لا يتمكن من ترسيم بدايته، و أنّه كيف تحقق و تكوّن و وجد؟ بل كلّما سألته يجيبك: ب «لا أدري». كما أنّه لا يتمكن من تفسير نهايته و غايته، و لو سألته عن ذلك لأجابك ب «لا أعلم». فهذا العالم عند الفيلسوف المادي أشبه بكتاب مخطوط مخروم قد سقطت من أوله و آخره أوراق مما أدخله في إطار الإبهام، فلا يقف الإنسان على بدئه و لا على ختامه فالفيلسوف المادّي جاهل ببدء العالم و ختامه و ليس له هنا جواب سوى «لا أدري».

و بعبارة ثالثة: لم تزل الأسئلة الثلاثة التالية عالقة بذهن الإنسان منذ أن عرف يمينه من يساره، و هي:

1 - إنّه من أين ؟ 2 - و إلى أين ؟ 3 - و لما ذا خلق ؟.

و هذه الأسئلة الثلاثة يجيب عنها الفيلسوف الإلهي بأجوبة رصينة تتضح من خلال هذه الرسالة، و إجمالها أنّ البداية من اللّه، و أنّ نهاية المطاف هي

ص: 7

اللّه سبحانه إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ (1)، و أنّ الغاية هي التخلّق بالقيم و المثل الأخلاقية و الاتصاف بأسمائه و صفاته سبحانه. غير أنّ المادي يكلّ عند الإجابة عن هذه الأسئلة و لا يأتي بشيء مقنع.

و على هذا الأساس قلنا إنّ للدّين دورا في تصحيح الأفكار و العقائد.

و من خلال المقارنة بين الفكر الإلهي و المنهج المادي في الإجابة على الأسئلة الثلاثة يعلم الإنسان أنّ التكامل الفكري إنما يتحقق في ظل الدين، لأنه يكشف آفاقا وسيعة أمام عقليته و تفكيره، في حين أنّ المادي يملأ الذهن بالجهل و الإبهام، بل يقوده إلى الخرافات. إذ كيف يمكن للمادة أن تمنح نفسها نظما؟ و هل يمكن أن تتّحد العلّة و المعلول، و الفاعل و المفعول، و الجاعل و المجعول ؟.

هذا ما يتعلق بدور الدين في مجال إصلاح الفكر و العقيدة.

و أمّا في المجال الثاني، و هو ما يتعلق بتنمية الدّين للأصول السامية للأخلاق فنقول: إنّ العقائد الدينية تعد رصيدا للأصول الأخلاقية إذ التقيد بالقيم و رعايتها لا ينفك عن مصاعب و آلام يصعب على الإنسان تحملها إلاّ بعامل روحي يسهّلها و يزيل صعوبتها له، و هذا كالتضحية في سبيل الحق و العدل و رعاية الأمانة و مساعدة المستضعفين. فهذه بعض الأصول الأخلاقية التي لا تنكر صحّتها، غير أنّ تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاما و صعوبات، كما يستتبع الحرمان من بعض اللذائذ، فما هو ضمان تحقق هذه الأصول ؟.

إنّ الاعتقاد باللّه سبحانه و أنّ في إجراء كل أصل من الأصول الأخلاقية أجرا كبيرا يصل إليه الإنسان في الحياة الأخروية، خير عامل لتحبيذ الإنسان و تشويقه على إجرائها و التلبّس بها في حياته الدنيويّة، و لو لا ذاك الاعتقاد لأصبحت الأخلاق نصائح و عظات جافة لا ضمان لإجرائها.6.

ص: 8


1- سورة البقرة الآية 156.

و في هذا الصدد يقول ويل دورانت المؤرخ المعاصر: «لو لا الدّين لتجلت الأخلاق و كأنها أشبه بالمبادلات الاقتصادية، و لصارت الغاية منها الفوز بالنجاح الدنيوي بحيث لو كان النجاح و الفوز مضادا للقيم لتمايل عنها، لكون الغاية في جانب اللاقيم، و إنما هي العقيدة الدينية التي تترك الإحساس بالمسئولية في روح الإنسان»(1).

و أما في المجال الثالث، و هو ما يتعلق بتوطيده العلاقات الاجتماعية، فنذكر فيه ما ذكرنا في دعمه الأخلاق السامية. فإنّ العقيدة الدّينية تساند الأصول الاجتماعية لأنها تصبح عند الإنسان المتديّن تكاليف لازمة، و يكون الإنسان بنفسه مقودا إلى العمل و الإجراء.

غير أنّ تلك الأصول بين غير المتديّنين لا تراعى إلاّ بالقوى المادّية القاهرة. و عندئذ لا تتمتع الأصول الاجتماعية بأي ضمان تنفيذي و هذا مشهود لمن لاحظ حياة الأمم المادّية غير الملتزمة بمبدإ أو معاد.

و أما المجال الرابع، أعني إلغاءه الفوارق العنصرية و القومية المفروضة على عاتق المستضعفين بالقوة و السلطة و الإغراء و الجهل و تشويه الحقائق.

فنقول: إنّ الدّين يعتبر البشر كلهم مخلوقين لمبدإ واحد، فالكل بالنسبة إليه حسب الذات و الجوهر كأسنان المشط، و لا يرى أي معنى للتمييز و التفريق و ترفيع بعض و تخفيض بعض آخر، كما لا يرى معنى لوجود أناس اتخمهم الشبع و آخرين أهلكهم الجوع و الحرمان.

فهذه هي المجالات الأربعة التي للدين فيها دور و تأثير واضح، أ فيصح8.

ص: 9


1- لذائذ الفلسفة، ص 478.

بعد الوقوف على هذه التأثيرات المعجبة أن نهمل البحث عنه، و نجعله في زاوية النسيان ؟ غير أن هنا نكتة نلفت نظر القارئ إليها، و هي أنّه ليست كل عقيدة تتسم باسم الدين قادرة على خلق هذه الآثار و إبداعها، و إنما تقدر عليها كل عقيدة دينية تقوم على أساس العقل، و تكون واصلة إلينا عن طريق الأنبياء الصادقين، ففي مثل تلك العقيدة نجد الحركة و الحياة، و في غير هذه الصورة يصبح الدين عقائد خرافية تتجلى بصورة الرهبانية و الميول السلبية إلى غير ذلك من الآثار السيئة التي نلمسها في العقائد الدينية التي لا تمت إلى الوحي و رجال الدين الحقيقي بصلة.

فالمفكر الغربي إذ يتهم الدّين بأنّه عامل التخلف و الانحطاط، و مضاد للتقدم و الرقي، فهو يهدف إلى أمثال هذه العقائد الدينية.

و هناك نكتة أخرى و هي: إنّ الدين الحقيقي يلغي الفوارق السلبية التي لا تمت إلى أساس منطقي بصلة، و أما المميزات الإيجابية التي لا تنفكّ عن أفراد البشر فهي غير ملغاة أبدا، فكما أنّ أصابع اليد الواحدة تختلف كل واحدة منها عن الأخرى، كذلك أفراد البشر يتفاوتون من حيث العقل و الفكر و الحركة و النشاط.

فالفوارق التي تنشأ من نفس طبيعة الإنسان غير قابلة للحذف و التغيير، و ما يرفضه الدين و يحذفه عن مجال الحياة هو الامتيازات النابعة من القوة و السلطة.

إلى هنا تعرفنا على الجوانب الحقيقية للدين و حان الآن وقت التعرف على جذوره في فطرة الإنسان.

ص: 10

الدين و الفطرة:

الإيمان بالمبدإ و التوجه إلى ما وراء الطبيعة من الأمور الفطرية التي عجنت خلقة الإنسان بها، كما عجنت بكثير من الميول و الغرائز.

أقول بشكل عام إنّ إدراكات الإنسان تنقسم إلى نوعين:

1 - الإدراكات التي هي وليدة العوامل الخارجة عن وجود الإنسان بحيث لولاها لما وقف الإنسان عليها بتاتا، مثل ما وقف عليه من قوانين الفيزياء و الكيمياء و الهندسة.

2 - الإدراكات النابعة من داخل الإنسان و فطرته من دون أن يتدخل في الإيحاء عامل خارجي. كمعرفة الإنسان بنفسه و إحساسه بالجوع و العطش، و رغبته في الزواج في سن معينة، و الاشتياق إلى المال و المنصب في فترات من حياته. تلك المعارف - و إن شئت سميتها بالأحاسيس - تنبع من ذات الإنسان و أعماق وجوده. و علماء النفس يدّعون أنّ التوجه إلى المبدأ داخل تحت هذا النوع من العرفان.

إنّ علماء النفس يعتقدون بأنّ للنفس الإنسانية أبعادا أربعة يكون كلّ بعد منها مبدأ لآثار خاصة.

أ - روح الاستطلاع و استكشاف الحقائق، و هذا البعد من الروح الإنسانية خلاق للعلوم و المعارف، و لولاه لما تقدم الإنسان منذ أن وجد في هذا الكوكب، شبرا في العلوم و استكشاف الحقائق.

ب - حبّ الخير، و النزوع إلى البرّ و المعروف، و لأجل ذلك يجد الإنسان في نفسه ميلا إلى الخير و الصلاح، و انزجارا عن الشر و الفساد.

فالعدل و القسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأجواء و الظروف، و الظلم و الجور منفور له كذلك، إلى غير ذلك من الأفعال التي يصفها كل إنسان بالخير أو الشر، و يجد في أعماق ذاته ميلا إلى الأول و ابتعادا عن الثاني،

ص: 11

و هذا النوع من الإحساس مبدأ للقيم و الأخلاق الإنسانية.

ج - عشق الإنسان و علاقته بالجمال في مجالات الطبيعة و الصناعة فالمصنوعات الدقيقة و الجميلة، و اللوحات الفنية و التماثيل الرائعة تستمد روعتها و جمالها من هذا البعد.

إنّ كل إنسان يجد في نفسه حبّا أكيدا للحدائق الغناء المكتظة بالأزهار العطرة و الأشجار الباسقة، كما يجد في نفسه ميلا إلى الصناعات اليدوية المستظرفة و حبّا للإنسان الجميل المظهر، و كلها تنبع من هذه الروح التي عجن بها الإنسان، و هي في الوقت نفسه خلاّقة للفنون في مجالات مختلفة.

د - الشعور الديني الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ، فيدعو الإنسان إلى الاعتقاد بأنّ وراء هذا العالم عالما آخر يستمد هذا العالم وجوده منه، و أنّ الإنسان بكل خصوصياته متعلق بذلك العالم و يستمد منه.

و هذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأخير و أيدوه بالاختبارات المتنوعة مما ركز عليه الذكر الحكيم قبل قرون و أشار إليه في آياته المباركات، نعرض بعضها:

أ - فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا (1).

إنّ عبارة «فطرة اللّه» تفسير للفظة الدّين الواردة قبلها، و هي تدل بوضوح على أنّ الدّين - بمعنى الاعتقاد بخالق العالم و الإنسان، و أنّ مصير الإنسان بيده - شيء خلق الإنسان عليه، و فطر به كما خلق و فطر على كثير من الميول و الغرائز.0.

ص: 12


1- سورة الروم: الآية 30.

ب - وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ (1)أي عرّفنا الإنسان طريق الخير و طريق الشر. و ليس المراد التعرف عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه، و إن لم يقع في إطار تعليم الأنبياء، و ذلك لأنه سبحانه يقول قبله لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ *... * أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ * وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإنسان و إبداعه.

و هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنّ النظرية التي اكتشفها علماء معرفة النفس مما ركّز عليها الوحي بشكل واضح، و حاصلها إنّ الدين بصورته الكليّة أمر فطري ينمو حسب نمو الإنسان و رشده، و يخضع للتربية و التنمية كما يخضع لسائر الميول و الغرائز.

***

3 - دور الدين في الحياة

اشارة

لقد بان مما ذكرنا واقع الدين و مفهومه و أنّه أمر مكنون في فطرة الإنسان، غير أنّه يجب علينا أن نعرف دوره في الحياة، و أنّه له التأثير الكبير في حياة الإنسان العلمية و الاجتماعية، و لأجل إيقاف القارئ على تأثير الدين في هذه المجالات الحيويّة نشير إلى بعضها:

أ - الدين مبدع للعلوم:

نحن نستعرض في هذا البحث مدى تأثير النظريتين المتضادتين (الدّين و الإلحاد) حول نشوء العالم، في استكشاف الحقائق و التطلع إلى

ص: 13


1- سورة البلد: الآية 10.

السنن السائدة فيه، من دون جنوح - فعلا - إلى صحة إحدى الفرضيتين.

لا شك أنّ في تفسير العالم و تبيينه نظريتين متقابلتين لا تجتمعان أبدا، و سنبين فيما بعد الصحيح منهما، غير أنّ الذي نركز عليه هنا هو تحديد تأثير كل واحدة من النظريتين على تكامل العلوم و رقيها.

النظريّة الأولى: تعتمد على أنّ العالم من الذرة إلى المجرة إبداع عقل كبير، و موجود جميل، غير متناه في القدرة و العلم، فهو بعلمه و قدرته أبدع العالم و خلقه.

النظريّة الثانية: إنّ مادة العالم أزلية ليس للعلم و لا القدرة، الخارجين عنها، أي صنع و تأثير فيه، فلو وجدت فيه سنن، فإنما هي وليدة التصادف أو ما يشبهه من الفروض العلمية التي تشترك جميعها في القول بإفاضة المادة الصمّاء العمياء على نفسها السنن و القوانين.

نحن لا نريد التّركيز على إحدى الفرضيتين لأن الحقيقة ستتجلى في الأبحاث الآتية، و إنما نركز على معرفة أية نظرية من النظريتين تحث الإنسان على التحقيق و تثير روح البحث في نفسه ؟ هل القول بأن عالم المادة صنع موجود غير متناه في العلم و القدرة، قد أبدع المادة و أجرى فيها السنن و القوانين بفضل علمه و سعة قدرته ؟ أو القول بأنّ المادة لم تزل أزلية و ليس فيها للعلم و القدرة صنع، و لو صارت ذات سنن و قوانين فإنما هي وليدة الصّدفة أو وليدة التضاد الحاكم عليها - كما هو أحد الفروض للماديين الماركسيين - أو ما يقرب من ذلك.

فأي النظريتين هو المؤثر في تقدم العلوم و تكاملها؟ لا شك أنّ الباحث عن الكون لو تدرّع بالنظرية الأولى يجد في نفسه

ص: 14

حافزا على التحقيق و إحساسا بأنّ العالم غير منفك عن السنن و النظم، و عليه أن يتفحّص عنها.

و هذا بخلاف الباحث المعتنق للنظريّة الثانية، لأنّ تحقق الصدفة أو التضاد السائد بين أجزاء المادة، لا يورث العلم بحتمية حدوث سنن و أنظمة في داخل المادة حتى يبحث عنها الإنسان فلا يصح للباحث عن سنن العالم و المستطلع للحقائق السائدة فيه، أن يتكئ على منصة الدراسة إلاّ أن يكون معتقدا بالنظريّة الأولى دون النظرية الثانية.

و هذا ما ادّعيناه في صدر البحث من أنّ العقيدة الدينية خلاقة للعلوم و باعثة للتحقيق.

و قد خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ الدين بمعنى الاعتقاد بكون العالم مخلوقا لعلم و قدرة، عامل كبير في تقدم العلوم البشرية، و أنّه يثير روح التعمق و التدبر في الإنسان المحقق، في حين إنّ اللادينية و الاعتقاد بأصالة المادة و عدم اتصالها بمبدإ أقوى لا يثير شوق البحث و التحقيق.

نعم، هاهنا سؤال ربما يخالج ذهن القارئ و هو أنّ هناك عدة فرق من دعاة المادية، من المكتشفين لأسرار الطبيعية و نظمها، فلو كان الإلحاد يعرقل خطى التحقيق و التقدم، فكيف وصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه من الكشف و التحقيق ؟ الجواب: إنّ هؤلاء و إن كانوا يحملون شعار الإلحاد، لكنها شعارات على ألسنتهم، و أما قلوبهم فتخفق بخلاف ذلك، بمعنى أنّهم يعتقدون في صميم قلوبهم بخضوع العالم لقوة كبرى أجرت فيه السنن و النظم، التي هم بصدد كشفها و التعرف عليها، و لو لا ذاك الإيمان و الاعتقاد بخضوع العالم لتلك القوة، لما حصل لهم الإيمان بأنّ المادة ذات سنن و نظم، أرضها و سماءها، قريبها و بعيدها، حتّى النجوم و المجرات المتوغلة في أعماق

ص: 15

الكون فإنّ إصرارهم على كشف النظم فرع الإيمان بوجودها فيها، و لا يحصل الإيمان و الإذعان إلاّ لمن اعتقد خضوع العالم لقوة كبرى عالمة قادرة، أجرت فيها السنن. و إلاّ فالاعتقاد بأزلية المادة و كون السنن الحكيمة وليدة التصادف لا يوجب أي إذعان بوجود النظم في جميع أجزاء العالم، قريبها و نائيها.

و بعبارة أوضح: إنّ كل مستكشف قبل الشروع في الاستكشاف ذو عقيدة خاصة، و هي أنّ كل ذرة من ذرات هذا العالم حيّها و ميتها، قريبها و بعيدها، مشتملة على قانون يريد هو أن يستكشفه و يفرغه في قالب العلم، فعندئذ نسأل من أين حصل لهذا المكتشف هذا الإذعان و الاعتقاد. لا بد أن يكون لهذا العلم مبدأ و مصدر، فما هذا المنشأ؟.

فإنّ قال: «إني أعتقد بأنّ مجموع العالم إبداع قوة كبرى ذات علم و قدرة هائلين أوجدت العالم بعلمها و قدرتها و حكمتها»، لصح له أن يعتقد بأنّ كل جزء من أجزاء هذا العالم ذو نظام، لأنّ فعل العالم القادر الحكيم لا ينفك عن النظم و لا يوجد فيه اختلال و لا اضطراب.

و إن قال: «إني أعتقد بأزلية المادة و أنّ المادة الصماء صارت ذات نظام في ظل الصدقة طيلة الأزمنة المتمادية»، فيقال له: إنّ الاعتقاد بالصدفة لا يلازم الإذعان بالنظام مائة بالمائة بل يحتمل أن يوجد هناك نظام كما يحتمل أن لا يوجد.

فتفسير الإذعان بوجود النظام مائة بالمائة عن طريق الاعتقاد بالصدفة باطل جدا لأنه من قبل تفسير العلم القطعي، بشيء لا يوجد العلم بل يوجد الاحتمال، لأن الاعتقاد بالصدفة مبدأ لاحتمال وجود النظام لا الإذعان بوجوده، فلا بد لهذا الإذعان من علّة أخرى غير الصدفة، و ليس هي إلاّ

ص: 16

الاعتقاد بكون الشعور و القدرة دخيلين في إنشاء العالم و إخراجه إلى حيز الوجود.

و إن شئت أفرغ هذا البيان بقالب منطقي و قل: لكل مكتشف قبل الانشغال بالكشف، إذعان بوجود النّظم و السنن في هذا العالم، و هو يريد كشفها، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ المادي يرى العامل الوحيد لظهور السنن هو الصدفة، و لكنها ليست عاملا مورثا للإذعان بل أقصى ما تورثه هو الاحتمال. مع أنّ المستكشف يحمل العلم بالسنن لا أنه يحتمل أن يكون هناك سنّة و نظام.

فيجب أن يفسّر ذاك الإذعان بعامل ثان و ليس هو إلاّ قيام العالم، حدوثا و بقاء، بعلم و قدرة أزليين.

ب - الدّين دعامة الأخلاق

قد تعرفت على دور الدين في إثارة روح التحقيق في الإنسان، لكن له دورا آخر في تركيز الأخلاق و تحكيم أصولها في المجتمع، و إليك بيانه:

لا شك أنّ إقامة الأخلاق و التمسك بالقيم الأخلاقية، لا ينفكّ عن الحرمان في بعض الأحايين و ترك اللذائذ النفسانية في ظروف أخر، و عندئذ يجب أن نبحث عن عامل النجاح في هذا المعترك.

فمن جانب: إنّ الإنسان مقهور للميول النفسانية و الغرائز المتعدية التي لا تعرف لنفسها حدّا و هي تريد أن تفجر أمامها، و تنال كل لذيذ و ملائم، وافق القيم أم خالفها، و هذا شيء يحسه كل إنسان في كثير من فترات حياته.

ص: 17

و من جانب آخر: إنّ الفطرة الإنسانية توحي إلى صاحبها بحفظ القيم و العمل بالأخلاق كما أنّ علماء التربية يوصون بذلك. و عند ذلك يجد الإنسان في نفسه صراعا عنيفا بين ميوله، فلا بد لنجاحه في هذا المعترك من عامل يرجح كفّة الفطرة الإنسانية الموحية بحفظ الأخلاق و العمل بالقيم، فما هو هذا العامل خصوصا في الفترات التي يغيب فيها الرقيب، و تنام فيها العيون، و لا يسأل الإنسان عما يفعل ؟.

هنا يتجلى الدّين بصورة عامل قوي يرجح كفة الأخلاق، و يوحي للإنسان بالعمل بالقيم و كبح جماح الغرائز، لأن المتديّن يعتقد بأنّ كل ما يعمل من خير و شرّ في هذه الدنيا، سيحاسبه اللّه سبحانه عليه بأشد الحساب و أدقّه وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ (1).

و هذا بخلاف ما إذا كان ملحدا و لم يعتقد بكتاب و لا حساب لا في الحياة و لا بعدها فلا يرى في معترك صراع الغرائز و تنازعها في كيانه رادعا عن نقض الحدود و تجاهل القيم غير عنصر ضعيف التأثير يدعى بالفطرة الإنسانية، التي سرعان ما تتقهقر أمام طوفان الشّهوات، و النّزوات.

و هذا شيء ملموس لا نطيل الكلام فيه.

ج - الدّين حصن منيع في خضمّ متقلبات العالم

إنّ الحياة في هذا الكوكب حليفة التعب و الوصب، و الإنسان يعيش في السرّاء و الضرّاء، يفقد الأعزة و يواجه البلايا و النوازل إلى غير ذلك من الملمّات المؤلمة القاصمة للظهر، فما هي السلوى في مواجهة علقم الحياة و حنظلها؟.

ص: 18


1- سورة يونس: الآية 61.

أقول إنّ الدّين هو السلوى الكبرى التي تجعل الإنسان جبلا راسخا تجاه الحوادث المؤلمة غير متزعزع في البلايا و لا متزلزل عن الكوارث، لما ذا؟ لوجهين:

أما أولا فإنه يعتقد أنّ ما يجري في الكون من خير و شر، فهو من مظاهر مشيئة الخالق الحكيم الذي لا يصدر منه شيء إلاّ عن حكمة و لا يفعل إلاّ عن مصلحة، فهذه الكوارث، مرّة ظواهرها، حلوة بواطنها، و إن كان الإنسان لا يشعر بذلك في ظرف المصيبة و الابتلاء، و لكنه يقف عليه بعد كشف الغطاء و انجلاء الحقائق.

و ثانيا فإنّ الإنسان إذا صبر تجاه المصائب و استقبلها بصدر رحب و وجه مشرق يكون مأجورا عنده سبحانه بصبره و ثباته و استقامته، و رضاه بتقديره و قضائه قال سبحانه: وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ (1). فعند ذلك يتجلى الدّين كدواء يسكّن الآلام و يخفّف المصائب، بل ربما يستقبلها ببشاشة و انشراح، غير أنّ المادي في ذاك المجال فاقد البلسم لجراحات حياته، و فاقد الدواء لاضطراباته، لأنه لا يعتقد بأن وراء المادة عالما يحشر فيه الإنسان، و يثاب بصبره، و يؤجر بأعماله فهو يعتقد بأنّ دائرة الكون محدودة بالمادة، يبدأ منها و ينتهي إليها، فلا مناص منها إلاّ إليها، و هي صماء و عمياء لا تقدر على تسكين جروح الإنسان و ترفيه روحه، فلأجل ذلك نرى الانتحار شائعا بين تلك الزمرة، عند المصائب، و أما الزمرة المؤمنة بالحياة الأخروية، فيستقلّون آلام المصائب عند حلولها و يسلّون أنفسهم بالصبر و الثّواب على خلاف المادّيين حيث يستكثرونها و يستسلمون أمامها.7.

ص: 19


1- سورة البقرة: الآيات 155-157.

فلو صحّ لنا تشبيه المعقول بالمحسوس و إفراغ المعاني العالية في قوالب حسية ضيقة، فلا عتب علينا إذا قلنا بأن الدين تجاه التيارات المؤلمة القاصمة للظهر، الموجبة للانفجار، كصمام الأمان في المسخّنات البخارية التي لم يزل بخارها يزداد حينا بعد حين، فلو لا صمام الأمان الذي يوجب تسريح البخار الزائد، لا نفجر المسخن في المعمل و أورث القتل الذريع و الحرق الفظيع، و قد اعتذرنا عن هذا المثال بأنه من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.

4 - المعرفة المعتبرة

إنّ الخطوة الأولى لفهم الدّين هي الوقوف على المعرفة المعتبرة فيه.

فالدّين الواقعي لا يعتبر كل معرفة حقا قابلا للاستناد، بل يشترط فيها الشروط التالية:

أ - المعرفة القطعية التي لا تنفكّ عن الجزم و الإذعان و رفض المعرفة الظنّية و الوهميّة و الشكّية، قال سبحانه:

وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (1) . ترى أنّ الآية ترفض كل معرفة خرجت عن إطار العلم القطعي، و لأجل ذلك يذمّ في كثير من الآيات اقتفاء سنن الآباء و الأجداد، اقتفاء بلا دليل واضح، و بلا علم بصحته و إتقانه، يقول سبحانه: بَلْ قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَ كَذٰلِكَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّٰ قٰالَ مُتْرَفُوهٰا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ (2).

ص: 20


1- سورة الأسراء: الآية 36.
2- سورة الزخرف: الآيتان 22-23.

و القرآن ينقل أخبار الكثير من المضلّلين حيث يعضّون أناملهم من الندم يوم القيامة بقوله: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ يَقُولُونَ يٰا لَيْتَنٰا أَطَعْنَا اَللّٰهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ * و قالوا: رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ * رَبَّنٰا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذٰابِ ، وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (1).

ب - تعتبر المعرفة، إذا كانت نابعة من أدوات المعرفة الحسّية و القلبية أو العقلية، يقول سبحانه: وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2).

فالسّمع و الأبصار رمز الأدوات الحسّية، و الأفئدة كناية عن العقل و الإدراكات الصحيحة الفكرية، و الإدراكات الخارجة عن إطار تلك الأدوات غير قابلة للاستناد.

و إنما اعتمد من بين أدوات المعرفة على هذين (الحس و العقل) لأنهما أكثر صوابا و أعظم نتيجة و أما غيرهما من الأدوات التي يعتمد عليها مرضى القلوب فهي غير قابلة للاستناد، و لهذين الأمرين من أدوات المعرفة شعوب و فروع قد بيّنت في علم «نظرية المعرفة».

نعم هناك سؤال يطرح نفسه و هو أنّه إذا كان اقتفاء الآباء و الأجداد و تقليدهم أمرا مذموما فلما ذا جوّزه الإسلام في باب معرفة الأحكام الفرعية العملية ؟ إذ يصح لكل مسلم أن يأخذ مذهبه في الفروع و الأحكام من إمام الفقه و عالمه، أو ليس ذلك تقليد لهم كتقليد الكفار لآبائهم ؟.

و الإجابة على هذا السؤال واضحة، إذا أخذ الأحكام عن المجتهد البارع المتخصّص في فنّه، ليس من قبيل التقليد المذموم و هو الرجوع إلى الغير، و تقليده بلا دليل، لأنّ رجوع الجاهل إلى العالم و اقتفائه أثره رجوع8.

ص: 21


1- سورة الأحزاب: الآيات 66-68.
2- سورة النحل: الآية 78.

إليه مع الدليل، و عليه سيرة العقلاء في جميع المجالات، فالجاهل بالصنعة يرجع إلى عالمها، و جاهل الطب يرجع إلى خبيره، و هكذا دواليك، و هذا كله في الأمور الفرعية.

و أما المسائل الأصولية، فهي مسائل جذورية، و الأمر فيها يدور بين الإثبات المحض، كما هو الحال عند الإلهيين، و النفي المحض كما هو عند الماديّين، فلا يصحّ التقليد فيها، إذ ليس هناك قدر مشترك حتى يؤخذ به و يرجع في الزائد عليه إلى المتخصص، فإن كلاّ من الإلهي و المادّي يدّعي كونه متخصصا في هذا العلم.

فلاجل ما ذكرنا، يجب على الإنسان الغور في المسائل الأصولية من دون جعل فكر سندا و حجّة

***

5 - المعارف العليا في الإسلام

اشارة

إنّ الإسلام يحثّ على التعرف على أمور ثلاثة من بين الموضوعات المختلفة و يعتبرها ذات أهميّة لمن يطلب الواقع.

1 - معرفة الكون و الطبيعة:

هذه المعرفة مما يؤكد القرآن بحماس على تحصيلها يقول سبحانه:

قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ (1) و يقول أيضا: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ (2).

ص: 22


1- سورة يونس: الآية 101.
2- سورة آل عمران: الآية 190.

فلا محيص للإنسان المتديّن عن دراسة الطبيعة و الغور في أعماقها حسب معطياته و قابلياته.

2 - معرفة الإنسان نفسه:

و هي من ضروريات المعارف التي أكّد عليها كما أكّد على سابقتها، قال سبحانه: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (1).

و تضافرت الروايات على أهميّة معرفة النّفس و أنّ الإنسان من خلال التعرف عليها و كل الطبيعة التي يعيش فيها، يعرف ربّه.

3 - معرفة التاريخ:

إنّ القرآن يؤكد على معرفة التاريخ بما أنه مثار العبر و العظات، يقول سبحانه: لَقَدْ كٰانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ (2)، و يقول سبحانه: فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (3).

هذه هي الموضوعات التي يحبّذ الإسلام على التعرّف عليها كل من يريد أن يلمس الحقائق و يصل إلى الواقع، فالمعرض عن هذه المعارف، محجوب عن معرفته سبحانه و سننه في الكون.

***

6 - لما ذا نبحث عن وجود اللّه سبحانه ؟

اشارة

و قبل أن نركز على أسباب معرفته سبحانه و دلائل وجوده، نقوم

ص: 23


1- سورة فصلت: الآية 53.
2- سورة يوسف: الآية 111.
3- سورة الأعراف: الآية 176.

بالإجابة عن سؤال كثيرا ما يطرح نفسه بين الشباب، و هو مأخوذ من دسائس الماديين لا سيما الماركسيين في الأوساط الإسلامية.

و حصيلة السؤال هو: إنّ البحث عن ما وراء المادة بحث لا صلة له بالحياة، و ليس من الموضوعات التي تقع في إطار الحياة التي يحياها الإنسان في أدوار عمره المختلفة، من صباه إلى شبابه إلى كهولته و شيخوخته. و البحث عمّا وراء الطبيعة و أنّ هناك موجودات عليا مجردة عن المادة و أحكامها، كالملائكة و العقول و النفوس، و فوقها مبدعها و مبدع جميع العوالم: مادّيها و مجرّدها، لا ينفع في الحياة و لو أثبت بألف دليل، فصرف الوقت حول هذه المباحث يعوق الشاب عن القيام بوظائفه اللازمة.

و الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الاطّلاع على ما ذكرنا، فقد عرفت أنّ للدّين دورا قويا و تأثيرا عظيما في تكامل العلوم كما أنه ضمان للأخلاق، و خير دعامة لها، بل ضمان لتنفيذ القوانين الصالحة، و الحصن الحصين في متقلبات الأحوال.

فإذا كان له ذلك الشأن العظيم في حياتنا العلمية و الأخلاقية و الاجتماعية فطي الصفح عنه و الاشتغال بغيره، خسارة عظيمة للإنسانية. فما يتشدّق به المادي من أنّ البحث عن الدّين و ما وراء الطبيعة لا صلة له بالحياة، مكذوب على الدين و كلام خال عن التحقيق. نعم، ما ذكرنا من دور الدّين و تأثيره في الجوانب الحيوية من الإنسان، إنّما هو من شئون الدّين الحقيقي الذي يواكب العلم و الأخلاق و لا يخالفهما، و أما الأديان المختلفة المنسوبة إلى الوحي و السماء بكذب و زور فخارجة عن موضوع بحثنا.

دفع الضرر المحتمل:

إنّ هناك عاملا روحيا يحفّزنا إلى البحث عن هذه الأمور الخارجة عن إطار المادة و الماديات، و هو أنّ هناك مجموعة كبيرة من رجالات الإصلاح

ص: 24

و الأخلاق الذين فدوا أنفسهم في طريق إصلاح المجتمع و تهذيبه، و راحوا ضحية رقيّه، توالوا على مدى القرون و الأعصار و دعوا المجتمعات البشرية إلى الاعتقاد باللّه سبحانه و صفاته الكمالية، و ادّعوا أنّ له تكاليف على عباده و وظائف وضعها عليهم، و أنّ الحياة لا تنقطع بالموت و ليس الموت آخرها و آخر مقطع منها، و إنما هو جسر يعبر به الإنسان من دار إلى دار، و من حياة ناقصة إلى حياة كاملة، و أنّ من قام بتكاليفه و وظائفه فله الجزاء الأوفى، و أمّا من خالف و استكبر فله النكاية الكبرى.

هذا ما سمعته آذان أهل الدنيا من رجالات الوحي و الإصلاح، و لم يكن هؤلاء متهمين بالكذب و الاختلاق، بل كانت علائم الصدق لائحة من خلال حياتهم و أفعالهم و أذكارهم. عند ذاك يدفع العقل الإنسان المفكر إلى البحث عن صحة مقالتهم دفعا للضرر المحتمل أو المظنون الذي يورثه مقالة هؤلاء. و ليس إخبار هؤلاء بأقل من إخبار إنسان عادي عن الضرر العاجل أو الآجل في الحياة الإنسانية، فترى الإنسان العاقل يهتمّ بإخباره و يتفحص عن وجوده حتى يستريح من الضرر المخبر عنه.

و هذا ما اعتمد عليه علماء الكلام في إثبات لزوم البحث عن معرفة اللّه سبحانه. فأوجبوا هذا البحث دفعا لذاك الضرر المحتمل أو المظنون.

معرفة اللّه و شكر المنعم:

لا شك أنّ الإنسان في حياته غارق في النعم، فهي تحيط به منذ نعومة أظفاره إلى أخريات حياته، و هذا الشيء مما لا يمكن لأحد إنكاره.

و من جانب آخر إنّ العقل يستقل بلزوم شكر المنعم، و لا يتحقق الشكر إلاّ بمعرفته.

و على هذين الأمرين يجب البحث عن المنعم الذي غمر الإنسان

ص: 25

بالنّعم و أفاضها عليه، فالتعرف عليه من خلال البحث إجابة لهتاف العقل و دعوته إلى شكر المنعم المتفرع على معرفته.

هذه الوجوه الثلاثة (دور الدّين في الحياة، دفع الضرر المحتمل، و لزوم شكر المنعم عقلا) الّتي ألمعنا إليها بالإجمال تحفز الإنسان إلى البحث عن معرفة اللّه و الاهتمام بها أكثر من اهتمامه بما هو دخيل على حياته المادية، و إنما يعرض من يعرض عن هذه المسائل لعلل روحية غير خافية على الباحث، إذ لا شك أنّ معرفة اللّه، و الاعتقاد به لا ينفكّ عن الالتزام بقيود و حدود في الحياة و رعاية الأصول الأخلاقية و الاجتماعية، و القيام بالوظائف الفردية، و كل ذلك ينافي الحرية المطلقة و الإباحية التي يتوخاها الماديون و المنسلكون في عدادهم. فإنكار الدّين و المبدأ ليس إنكارا لنفسه بل للفرار مما يترتب عليه من الضمانات و الالتزامات، و القيود و الحدود.

و هي تخالف هوى الإنسان الإباحي الذي لا يرى أصلا في الحياة إلاّ اللّذة.

***

إلى هنا انتهت المقدمات التي أردنا إيرادها لبيان مفهوم الدّين و جذوره في الفطرة الإنسانية و دوره في حياة الإنسان و وجوب معرفة اللّه تبارك و تعالى.

و يقع الكلام بعدها في أدلة وجود الخالق المبدع لهذا الوجود.

ص: 26

الفصل الثاني الطّرق إلى معرفة اللّه

اشارة

برهان النّظم * برهان الإمكان * برهان حدوث المادّة

ص: 27

ص: 28

الطّرق إلى معرفة اللّه هناك كلمة قيّمة لأهل المعرفة و هي: إنّ الطرق إلى معرفة اللّه بعدد أنفاس الخلائق بل فوقها بكثير و كثير، فإنّ لكل ظاهرة من الظواهر الطبيعية وجهين، يشبهان وجهي العملة الواحدة، أحدهما يحكي عن وجودها و حدودها و خصوصياتها و موقعها في الكون، و الآخر يحكي عن اتّصالها بعلّتها و قوامها بها و نشوئها منها. فهذه الظاهرة الطبيعية - من الوجه الأول - تقع موضوع البحث في العلوم الطبيعية، فيأخذ كل باحث جهة خاصة من هذا الوجه حسب تخصصه و ذوقه و اطّلاعه، فواحد يبحث عن التراب و المعادن و آخر عن النبات و الأشجار، و ثالث عن الحيوان إلى غير ذلك من الموضوعات.

كما أنها من الوجه الثاني تقع طريقا لمعرفة اللّه سبحانه و التعرف عليه من ناحية آثاره:

إنّ آثارنا تدلّ علينا *** فانظروا بعدنا إلى الآثار

و بما أنّ الظواهر الطبيعية، جليلها و حقيرها لها وجهان، فقد أكّد الإسلام على معرفتها و الغور في آثارها و خصوصياتها، قائلا: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ (1)، لكن لا بمعنى الوقوف عند هذا التعرف و اتخاذه هدفا، بل بمعنى اتخاذ تلك المعرفة جسرا لمعرفة بارئها و خالقها، و من أوجد فيها السّنن و النّظم.

ص: 29

إنّ آثارنا تدلّ علينا *** فانظروا بعدنا إلى الآثار

و بما أنّ الظواهر الطبيعية، جليلها و حقيرها لها وجهان، فقد أكّد الإسلام على معرفتها و الغور في آثارها و خصوصياتها، قائلا: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ (1)، لكن لا بمعنى الوقوف عند هذا التعرف و اتخاذه هدفا، بل بمعنى اتخاذ تلك المعرفة جسرا لمعرفة بارئها و خالقها، و من أوجد فيها السّنن و النّظم.

إنّ الفرق الواضح بين تعرّف المادي على الطبيعة و تعرّف الإلهي عليها هو أنّ الأول ينظر إلى الطبيعة بما هي هي، و يقف عندها من دون أن يتخذها وسيلة لتعرف آخر، و هو التعرف على مبادي وجودها و علل تكونها، في حين أنّ الإلهي، مع أنّه ينظر إلى الظواهر الطبيعية مثلما ينظر إليها المادي و يسعى إلى التعرف على كل ما يسودها من نظم و سنن، فإنّه يتخذها وسيلة لتعرف عال و هو التعرف على الفاعل الذي قام بإيجادها و إجراء السّنن فيها، فكأن النظرة في الأولى نظرة إلى ظاهر الموجود، و في الثانية نظرة إلى الظاهر متجاوزا منها إلى الباطن.

و بعبارة أوضح، إنّ المادي يقتصر في عالم المعرفة، على معرفة الشيء و يغفل عن معرفة أخرى، و هي معرفة مبدأ الشيء من طريق آثاره و آياته، فلو اكتفينا في معرفة الظواهر بالمعرفة الأولى حبسنا أنفسنا في زنزانات المادة، و لكن إذا نظرنا إلى الكون بنظرة وسيعة و أخذنا مع تلك المعرفة معرفة أخرى و هي المعرفة الآيوية لوصلنا في ظل ذلك، إلى عالم أفسح ملئ بالقدرة و العلم و الكمال و الجمال. و على ذلك فكل المظاهر الطبيعية مع ما فيها من الجمال و الروعة و مع ما فيها من النظم و السنن آيات وجود بارئها و مكونها و منشئها، و عند ذلك يتجلى للقارئ صدق ما قلنا من أنّ الطرق إلى معرفة اللّه بعدد الظواهر الطبيعية بدءا بالذرة و انتهاء إلى المجرة. و لأجل ذلك نرى أنّ رجال الوحي و دعاة التوحيد يركّزون في معرفته سبحانه على الدعوة إلى النظر في جمال الطبيعة و روعتها فإنها أصدق شاهد1.

ص: 30


1- سورة يونس: الآية 101.

على أنّ لها صانعا و مبدعا، و هذا مشهود لمن طالع القرآن و تدبّر في آياته.

فهو من خلال توجيه الإنسان إلى الطبيعة و إلى السماء و الأرض و ما فيها من كائنات، يريد هدايته إلى مبدئها، و يكفي في ذلك قوله سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ، لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).

إنّ البراهين الدالّة على وجود خالق لهذا الكون، و مفيض لهذه الحياة، كثيرة متعددة، و نحن ذاكرون فيما يلي بعضا منها. و لكي تقف على أوضحها و أقربها إلى الحس و التجربة نركز البحث على برهان النّظم الذي يتجاوب مع جميع العقول على اختلاف سطوح تفكيرها.

***4.

ص: 31


1- سورة البقرة: الآية 164.

ص: 32

البرهان الأول برهان النظم

يبتني برهان النّظم على مقدمات أربع

الأولى: إنّ وراء الذهن الإنساني عالما مليئا بالموجودات، محتفا بالظواهر الطبيعية. و إنّ ما يتصوره الإنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي، و هذه المقدمة قد أطبق عليها الإلهيّ و الماديّ رافضين كل فكرة قامت على نفي الواقعية و لجأت إلى المثالية، بمعنى نفي الحقائق الخارجية.

إنّ كل إنسان واقعي يعتقد بأنّ هناك قمرا و شمسا و بحرا و محيطا و غير ذلك. كما يعتقد بوجوده، و ذهنه و الصور المنعكسة فيه، و هذه هي الخطوة الأولى في مضمار معرفة اللّه، و هي التصديق بالواقعيات. و يشترك فيها الفلاسفة الواقعيون، دون المثاليين بمعنى الخياليين.

و بذلك يظهر أنّ رمي الإلهي بالمثالية بمعنى نفي الواقعيات، افتراء و كذب عليه، إذ لا يوجد على أديم الأرض من يكون إليها و في الوقت نفسه ينفي واقعيات الأشياء و الظواهر الطبيعية. و لو وجد هناك إنسان بهذه العقيدة

ص: 33

فليس من تلك الزمرة، و إنما هو من المنحرفين عن الفطرة السليمة الإنسانية.

و ما ربما يحكى عن بعض العرفاء من أنّ الموجود الحقيقيّ هو اللّه سبحانه و ما سواه موجود بالمجاز، فله معنى لطيف لا يضرّ بما قلناه، و هذا نظير ما إذا كان هناك مصباح في ضوء الشمس، فيقال: إنّ الضوء ضوء الشمس و لا ضوء لغيرها، فهكذا وجود الممكنات، المفتقرات المتدليات بالذات، بالنسبة إلى واجب الوجود القائم بالذات.

الثانية: إنّ عالم الطبيعة خاضع لنظام محدد، و إنّ كل ما في الكون لا ينفك عن النّظم و السنن التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها، و كل ما تطورت هذه العلوم خطى الإنسان خطوات أخرى في معرفة الكون و القوانين السائدة عليه.

الثالثة: أصل العلية، و المراد منه أنّ كل ما في الكون من سنن و قوانين لا ينفكّ عن علة توجده و أنّ تكون الشيء بلا مكوّن و تحققه بلا علة، أمر محال لا يعترف به العقل، بالفطرة، و بالوجدان و البرهان. و على ذلك فكل الكون و ما فيه من نظم و علل نتيجة علة أوجدته و كونته.

الرابعة: إنّ دلالة الأثر تتجلى بصورتين:

أ - وجود الأثر يدل على وجود المؤثر، كدلالة المعلول على علّته، و الآية على صاحبها، و قد نقل عن أعرابي أنّه قال: «البعرة تدل على البعير، و أثر الأقدام يدل على المسير»، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. و هذه الدلالة مما لا يفترق فيها المادّي و الإلهي، و إنما المهمّ هو الصورة الثانية من الدّلالة.

ب - إنّ دلالة الأثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر، بل لها دلالة أخرى في طول الدلالة الأولى، و هي الكشف عن خصوصيات المؤثر

ص: 34

من عقله و علمه و شعوره، أو تجرده من تلك الكمالات و الصفات و غيرها.

و لنوضح ذلك بمثال:

إنّ كتاب «القانون» المؤلف في الطب، كما له الدّلالة الأولى و هي وجود المؤثر، له الدّلالة الثانية و هي الكشف عن خصوصياته التي منها أنّه كان إنسانا خبيرا بأصول الطب و قوانينه، مطّلعا على الدّاء و الدّواء، عارفا بالأعشاب الطبية، إلى غير ذلك من الخصوصيات.

و الملحمة الكبيرة الحماسية لشاعر إيران (الفردوسي) لها دلالتان:

دلالة على أنّ تلك الملحمة لم تتحقق إلا بظل علّة أوجدتها، و دلالة على أنّ المؤلف كان شاعرا حماسيا مطلعا على القصص و التواريخ، بارعا في استعمال المعاني المتناسبة مع الملاحم. و مثل ذلك كل ما تمر به مما بقي من الحضارات الموروثة كالأبنية الأثرية، و الكتب النفيسة، و الصنائع المستظرفة اليدوية و المعامل الكبيرة و الصغيرة، إلى غير ذلك مما يقع في مرأى و منظر كل إنسان. فالمهم في هذا الباب هو عدم الاقتصار على الدلالة الأولى بل التركيز على الدلالة الثانية بوجه علمي دقيق.

و على ضوء هذه القاعدة يقف العقل على الخصوصيات الحافة بالعلة، و يستكشف الوضع السائد عليها، و يقضي بوضوح بأنّ الأعمال التي تمتاز بالنظام و المحاسبة الدقيقة، لا بد أن تكون حصيلة فاعل عاقل، استطاع بدقته أن يوجد أثره و عمله، هذا.

كما يقضي بأنّ الأعمال التي لا تراعى فيها الدّقة اللازمة و النظام الصحيح، تكون ناشئة عن عمل عامل غير عاقل، و فاعل بلا شعور و لا تفكير، فهذا ما يصل إليه العقل السليم بدرايته. و لتوضيح الحال نأتي بالمثالين التاليين:

المثال الأول: لنفترض أنّ هنا مخزنا حاويا لأطنان عدة من مواد البناء بما فيها الحجر و الحديد و الإسمنت و الجص و الخشب و الزجاج و الأسلاك

ص: 35

و الأنابيب و غيرها من لوازم البناء، ثم وضع نصف ما في هذا المخزن تحت تصرف أحد المهندسين أو المعماريين، لينشئ به عمارة ذات طوابق متعددة على أرض منبسطة.

و بعد فترة من الزمن جاء سيل جارف و جرف ما تبقى في المخزن من مواد الإنشاء و تركها على شكل تل على وجه الأرض.

إنّ العمل الأول (العمارة) قد نتج عن عمل و إرادة مهندس عالم.

أمّا الثّاني (التل) فقد حدث بالفعل الطبيعي للسيل من دون إرادة و شعور.

فالعقلاء بمختلف مراتبهم و قومياتهم و عصورهم يحكمون بعقلانية صانع العمارة، و مدى قوة إبداعه في البناء، من وضعه الأعمدة في أماكنها المناسبة و إكسائه الجدران بالمرمر، و نصبه الأبواب في مواضعها الخاصة، و مدّة الأسلاك و أنابيب المياه الحارة و الباردة و وصلها بالحمامات و المغاسل، و غير ذلك مما يتبع هندسة خاصة و دقيقة.

و لكن عند ما نخرج إلى الصحراء كي نشاهد ما صنعه السيل، فغاية ما نراه هو انعدام النّظام و الترتيب فالحجر و المرمر قد اندثر تحت الطين و التراب، و القضبان الحديدية قد طرحت إلى جانب، و الأسلاك تراها مقطعة بين قطعات الآجرّ، و الأبواب مرمية هنا و هناك، و غير ذلك من معالم الفوضى و التبعثر. و بشكل عام، إنّ المعدوم من هذا الحشد هو النظام و المحاسبة، إذ لا هندسة و لا تدبّر.

فالذي يستنتج أنّ المؤسس للبناء ذو عقل و حكمة، و المحدث للتل فاقد لهما، فالمهندس ذو إرادة و السيل فاقد له، و الأول نتاج عقل و علم، و الثّاني نتاج تدفق الماء و حركته العمياء.

ص: 36

المثال الثاني: لنفترض أنّنا دخلنا إلى غرفة فيها شخصان كل منهما جالس أمام آلة طابعة يريدان تحرير قصيدة لأحد الشعراء فالأول يحسن القراءة و الكتابة، و يعرف مواضع الحروف من الآلة و الآخر أمّي لا يجيد سوى الضغط بأصابعه على الأزرار، فيشرعان بعملهما في لحظة واحدة.

الذي نلاحظه أنّ الأول دقيق في عمله يضرب بأصابعه حسب الحروف الواردة في القصيدة دون أن يسقط حرفا أو كلمة منها.

و أمّا الآخر، الأمي البصير، فيضرب على الآلة دون علم أو هدى و لا يستطيع أن يميز العين من الغين، و السين من الشين: و نتيجة عمله ليست إلاّ الهباء و إتلاف الأوراق، و لا يأتي بشيء مما أردناه:

فنتاج الأول محصول كاتب متعلّم، و نتاج الثاني محصول جاهل لا علم له و لا خبرة و لو أعطي المجال للألوف ممن كف بصرهم و حرموا لذة العلم و التعلم أن يحرروا نسخة صحيحة من ملايين النسخ التي يحررونها لاستحال ذلك، لأنهم يفقدون ما هو العمدة و الأساس.

و لعلّنا نشاهد في كل جزء من هذا الكون مثل تلك الصفحة التي حررت فيها قصيدة الشاعر و ترانا ملزمين بالاعتراف بعلم و معرفة و حسن أسلوب كاتبها و نجزم بأنه بصير لم يكن فاقدا للعلم، و لم يكن فعله مشابها لفعل صبي رأى نفسه في غرفة خالية، فطرق في خياله أن يلهو و يلعب على آلة طابعة كي ينتج تلك الصفحة من قصيدة الشاعر.

و بعد ذكر الأمثلة المتقدّمة يتّضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إرادة و تدبّر، و التي تحدث عن طريق الصدفة، إذ لا إرادة فيها و لا تدبر.

و هذه القاعدة التي يدركها العقل (لا بفضل التجربة بل في ظل التفكر و التعقل) هي روح برهان النّظم الذي هو من أوضح براهين الإلهيين في

ص: 37

إثبات الصانع و رفض الإلحاد و المادية، و اشملها لجميع الطبقات. و ملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدمة على العالم، هو أنّ العلم لم يزل يتقدم و يكشف عن الرموز و السنن الموجودة في عالم المادة و الطبيعة و العلوم كلها بشتى أقسامها و أصنافها و تشعبها و تفرعها تهدف إلى أمر واحد و هو أنّ العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أدق الأنظمة و الضوابط، فما هي تلك العلّة ؟ أقول: إنها تتردد بين شيئين لا غير.

الأول: إنّ هناك موجودا خارجا عن إطار المادة عالما قادرا واجدا للكمال و الجمال، قام بإيجاد المادة و تصويرها بأدق السنن، و تنظيمها بقوانين و ضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع و قدرته اللامتناهية، أوجد العالم و أجرى فيه القوانين، و أضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهدا في كشفها، و مستغرقا في تدوينها، و هذا المؤثر الجميل ذو العلم و القدرة هو اللّه سبحانه.

الثاني: إنّ المادة الصّماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، و ليست مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإجراء القوانين الدقيقة، و أضفت على نفسها السّنن القويمة في ظل انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها و انتهت على مر القرون و الأجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أدهش العقول و أبهر العيون.

إذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمة الرابعة لبرهان النظم، و هي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما، فلا شك أنها ستدعم أولاهما و تبطل ثانيتهما لما عرفت من أنّ الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول و الأثر، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر و العلّة، فالسّنن و النّظم تكشف عن المحاسبة و الدقة، و هي تلازم العلم و الشعور في العلّة، فكيف تكون المادة العمياء الصمّاء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السّنن و النّظم ؟.

ص: 38

و على ضوء ذلك فالسّنن و النّظم، التي لم يتوفق العلم إلا لكشف أقل القليل منها، تثبت النظرية الأولى و هي احتضان العلّة و اكتنافها للشعور و العلم و ما يناسبهما، و تبطل النظرية الثانية و هي قيام المادة الصّماء العمياء بإضفاء السّنن على نفسها بلا محاسبة و دقة بتخيل أنّ انفعالات كثيرة، حادثة في صميم المادة، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان «الصدفة» أو غيرها من الصراعات الداخلية التي تلوكها ألسنة الماركسيين.

و على ذلك فكل علم من العلوم الكونية، التي تبحث عن المادة و خصوصياتها و تكشف عن سننها و قوانينها، كعملة واحدة لها وجهان، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصياتها، و من جانب آخر يعرّف موجدها و صانعها. فالعالم الطبيعي ينظر إلى واحد من الوجهين كما أنّ العارف ينظر إلى الجهة الأخرى و العالم الربّاني ينظر إلى كلتا الجهتين و يجعل الأولى ذريعة للثانية. و بهذا نستنتج أنّ العلوم الطبيعية كلها في رحاب إثبات المقدمة الرّابعة لبرهان النظم، و أنّ اكتمال العلوم يعين ذلك البرهان بأوضح الوجوه و أدقّ الطرق، و أنّ الاعتقاد بالصانع العالم القادر يصاحب العلم في جميع العصور و الأزمان.

و في الختام نركز على نقطتين:

الأولى: إنّ القرآن الكريم ملئ بلفظة «الآية» و «الآيات»، فعند ما يسرد نظم الطبيعة و سننها، و يعرض عجائب العالم و غرائبه، يعقبه بقوله:

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أو يَذَّكَّرُونَ أو يَعْقِلُونَ إلى غير ذلك من الكلمات الحاثة على التفكر و التدبر، و هذه الآيات تعرض برهان النّظم بأوضح أشكاله على لسان الفطرة، بدلالة آيوية(1)، مشعرة بأنّيه

ص: 39


1- الآيوية: منسوب إلى الآية، و هي دلالة خاصة ابتكرها القرآن الكريم وراء سائر الدلالات التي كشف عنها المنطقيون في أبحاثهم العلمية، و المراد من الدلالة الآيوية هو ما ركّزنا عليه

التفكر في هذه السنن اللاحبة و النظم المحيّرة يكشف بوضوح عن أنّ جاعلها موجود، عالم، قادر، بصير و من المحال أن تقوم المادة الصمّاء العمياء بذلك. و لأجل أن يقف القارئ الكريم على بعض هذه الآيات نشير إلى ما ورد في سورة النحل في هذا المضمار:

1 - قوله سبحانه: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنٰابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (1).

2 - قوله سبحانه: وَ مٰا ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (2).

3 - قوله سبحانه: وَ اَللّٰهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (3).

4 - قوله سبحانه: وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنٰابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4).

5 - قوله سبحانه: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (5).9.

ص: 40


1- سورة النحل: الآية 11.
2- سورة النحل: الآية 13.
3- سورة النحل: الآية 65.
4- سورة النحل: الآية 67.
5- سورة النحل: الآية 69.

الثانية: إنّ برهان النّظم و إن كان يعتمد على مقدمات أربع غير أنّ الثلاثة الأول مما اتفق فيه جميع العقلاء إلاّ شذّاذ الآفاق من المثاليين المنكرين للحقائق الخارجية. و إنما المهم هو التركيز على توضيح المقدمة الرابعة باستعانة من العلوم الطبيعية و الفلكية و غيرها التي تعد روحا و أساسا لتلك المقدمة. و في هذا المضمار نجد كلمات بديعة لخبراء العلم من المخترعين و المكتشفين: يقول «كلودم هزاوي» مصمم العقل الإلكتروني: طلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية، تستطيع أن تحل الفرضيات و المعادلات المعقدة ذات البعدين، و استفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات و اللوازم الالكتروميكانيكية، و كان نتاج عملي و سعيي هذا هو «العقل الالكتروني».

و بعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل، و تحمل شتّى المصاعب و أنا أسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليّ أن أتقبل هذه الفكرة و هي أنّ الجهاز هذا، يمكن أن يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم.

إنّ عالمنا مملو بالأجهزة المستقلة لذاتها و المتعلقة بغيرها في الوقت ذاته، و تعتبر كل واحدة منها أعقد بكثير من العقل الإلكتروني الذي صنعته، و إذا استلزم أن يكون للعقل الالكتروني هذا مصمم فكيف يمكننا إذن أن ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة و أعمال فيزيائية و تفاعلات كيميائية، فلا بد من وجود مصمّم حكيم خالق لهذا الكون و الذي أنا جزء حقير منه(1).

و العجب من الفرضية التي يعتمد عليها الماديون خلفا عن سلف،9.

ص: 41


1- العلم يدعو للإيمان، ص 159.

و يقولون بأنّ الانفعالات اللامتناهية اللاشعورية انتهت صدفة إلى هذا النظام البديع.

يقول البروفسور «أدوين كونكلين» في حق هذه النظرية: إنّ هذا الافتراض لا يختلف عن قولنا: «إنّ قاموسا لغويا ضخما أنتجته المطبعة إثر انفجار فيها».

إنّ نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبئون بحركة السيارات و الأقمار الفلكية، و التعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية.

إنّ وجود هذا النظام في الكون بدلا من الفوضى، لدليل واضح على أنّ هذه الحوادث تجري وفق قواعد و أسس معينة و أنّ هناك قوة عاقلة، مهيمنة عليه، و لا يستطيع كل من أوتي حظا من العقل أن يعتقد بأنّ هذه المادّة الجامدة الفاقدة للحس و الشعور - و في إثر الصدفة العمياء - قد منحت نفسها النظام، و بقيت و لا تزال محافظة عليه(1).

إنّ هناك مئات الكلمات حول تشييد برهان النّظم و عرضها بشكل أدبي، علمي، موافق لروح العصر، و قد اكتفينا بعرض هذا المقدار.ه.

ص: 42


1- المصدر السابق نفسه.
برهان النّظم بتقرير ثان
الانسجام آية دخالة الشعور في وجود الكون

إنّ التقرير السابق لبرهان النّظم كان يعتمد على ملاحظة كل ظاهرة مادية، مستقلة و منفصلة عن سائر الظواهر، فالنظام السائد على الخلية منفصلا عن سائر الظواهر، كان محل البحث و النظر.

و مثله سائر الظواهر المادية ذات الأنظمة البديعة كحركة الشمس و القمر و غيرها، غير أنّه يمكن تقرير هذا البرهان بشكل آخر يعتمد على الانسجام السائد على العالم، و الاتصال البديع بين أجزائه فيستدل بالانسجام و الاتصال على أنّ ذاك النظام المتصل المنسجم إبداع عقل كبير و علم واسع، و لو لا وجوده لما تحقق ذلك النظام المعجب المتصل المتناسق.

إنّ الأبحاث العلمية كشفت عن الاتصال الوثيق بين جميع أجزاء العالم و تأثير الكل في الكل، حتى أنّ صفصفة أوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض، و حتى أنّ النجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسنين الضوئية، مؤثرة في حياة النبات و الحيوان و الإنسان، و هذا الانسجام الوثيق، الذي جعل العالم كمعمل كبير يشدّ بعضه بعضا، أدل

ص: 43

دليل على تدخل عقل كبير في إبداعه و إيجاده بحيث جعل الكل منسجما مع الكل.

و بعبارة واضحة، إنّ الضبط و التوازن في الكون السائدين على الطبيعة أوضح دليل على تدخل عقل كبير في طروئهما، و لأجل أن تتبين ملامح هذا التقريب نأتي بالأمثلة التالية:

1 - إنّ حياة كل نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أو كسيد الكاربون، الذي يتجزأ بواسطة أوراق هذا النبات إلى كاربون و أوكسجين، ثم يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه و من غيره من المواد، الفواكه و الأثمار و الأزهار و يلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق و الزفير الأساسية في حياة الإنسان.

و لو أنّ الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أوكسيد الكاربون، أو لم يلفظ النبات الأوكسجين، لانقلب التوازن في الطبيعة و استنفذت الحياة الحيوانية، أو النباتية كل الأوكسجين أو كل ثاني أوكسيد الكاربون، و ذوى النبات و مات الإنسان.

فمن ذا الذي أقام مثل هذه العلاقة بين النبات و الحيوان و أوجد هذا النظام التبادلي بين هذين العالمين المتباينين ؟ ألا يدل ذلك على وجود فاعل مدبر وراء ظواهر الطبيعية هو الذي أقام مثل هذا التوازن ؟.

2 - منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبّار في أوستراليا كسياج وقائي و لكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة واسعة و زاحم أهالي المدن و القرى، و أتلف مزارعهم و لم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الانتشار و صارت أوستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!!.

ص: 44

و طاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أن وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار، و لا تتغذى بغيره و هي سريعة الانتشار و ليس لها عدو يعوقها في أوستراليا و ما لبثت هذه الحشرة أن تغلبت على الصبار، ثم تراجعت و لم يبق منها سوى بقية للوقاية تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد(1).

فكيف عرفت هذه الحشرة أنّ عليها أن تقضي على الزائد من الصبار و تكف عن الباقي لتحفظ أشجار الصبار على توازنها فلا تطغى على الأشياء الأخرى ؟ ألا يكشف هذا التوازن و الضبط عن خالق مدبر حكيم ؟.

3 - كان ملاّحو السفن الكبيرة في العهود الماضية يصابون بمرض الأسقربوط (و هو من أمراض سوء التغذية و ينشأ عن نقص فيتامين (ث)، و لكن أحد الرحالة اكتشف دواء بسيطا لذلك المرض و هو عصير الليمون، ترى من أين نشأت هذه العلاقة بين الفواكه التي تحوى فيتامين (ث) و هذا المرض، ألا يدل ذلك على أنّ خالق الداء خلق الدواء المناسب له، و لو لا هذا التوازن لعمّت الكارثة و انعدم النوع الإنساني و غاب كلية عن وجه البسيطة ؟.

4 - عند ما نزل المهاجرون الأولون أوستراليا و استقروا فيها، استوردوا اثني عشر زوجا من الأرانب و أطلقوها هناك، و لم يكن لهذه الأرانب أعداء طبيعيون في أوستراليا، فتكاثرت بشكل مذهل، مما تسبب بإحداث أضرار بالغة بالأعشاب و الحشائش، و لم تنفع المحاولات الكثيرة لتقليل نسل هذه الأرانب حتى اكتشف فيروس خاص يسبب مرضا قاتلا لها، فعادت المروج الخضراء يانعة، و زاد على أثر ذلك إنتاج الأغنام و المواشي.9.

ص: 45


1- العلم يدعو للإيمان، ص 159.

أ ليس هذا التوازن الدقيق المبرمج في مظاهر الطبيعة و الذي يؤدي أي تخلخل فيه إلى أضرار بالغة، دليلا قاطعا على وجود الخالق الخبير و الإله المدبر وراء الطبيعة ؟ 5 - الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عند ما تتجمد، و لهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عند ما يشتد البرد، بدلا من أن يغوص إلى قاع المحيطات و البحيرات و الأنهار، و يكون تدريجيا كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها و إذا بتها. و الجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمد، و بذلك تبقى الأسماك و غيرها من الحيوانات المائية حية، فإذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة و بلا عائق.

فهل يمكن إعزاء كل هذا الضبط و الدقة في المقاييس و النسب إلى فعل المادة الصمّاء العمياء البكماء، و الحال إنّه يكشف عن تدبير و حساب و يحكي عن نظام متقن و عظيم و يدل على أنّ وراء كل ذلك خالقا حكيما هو الذي أوجد هذا التوازن المدهش و الضبط الدقيق.

أجل إنّ ذلك التوازن و هذا الضبط يشهدان على دخالة الشعور و الحكمة و العقل في إدارة هذا العالم و تدبيره و تسييره و هي أمور لا تتوفر في الصدفة بل تتوفر في قوة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون و احتياجات الحياة إدراكا كاملا و شاملا، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط و العلاقات.

ص: 46

برهان النظم بتقرير ثالث
الهادفية آية تدخل الشعور في تطور النظم:

إنّ النظرة الدقيقة في عالم الكون تهدينا إلى نظام خاص نسميه بنظام الخدمة، بحيث نرى أنّ أنظمة خاصة في الكون جعلت في خدمة أنظمة كونية أخرى بحيث لا بقاء للثانية بدون الأولى، و لذلك نلاحظ صلة قويمة بين المظاهر المختلفة. فعندئذ يطرح السؤال التالي: إنّ هذه الكيفية الملموسة في عالم الكون كيف برزت في عالم الوجود؟.

أ من ناحية الصدفة، و هي أقل شأنا من أن تبدع أنظمة يكون قسم منها في خدمة القسم الآخر، و هي عاجزة عن إيجاد فرد بهذا الشكل الدقيق فكيف بهذه المجموعة الكبيرة ؟.

أم من ناحية «خاصية المادة» التي ربما يلتجئ إليها بعض الماديين.

و هي أيضا أعجز عن القيام بالتفسير. فإنّ «فرضيّة الخاصية» تهدف إلى أنّ لكل خلية، أو لكل ذرة من الذرات أثرا خاصا ينتهي إلى موجود خاص و هو ذو نظام. و أمّا كون أنظمة كبيرة في خدمة أنظمة مثلها فلا يمكن أن يفسر

ص: 47

بخاصية المادة، فإن هذا أثر المجموع لا أثر كل جزء من أجزاء المادة.

و لنأتي بمثال: لا شك أنّ لتكون المرأة و الأجهزة التي خلقت بها عللا مادية تظهرها على صفحة الوجود، فلها مع ثدييها و الخصوصيات الحافّة بها و اللبن الذي يتكون في صدرها عللا مادية تنتهي إلى تلك الظواهر.

كما أنّ لتكون الطفل في رحمها و ولادته على نحو يتناسب و الخصوصيات القائمة بها و تكونه بفم خاص و مجاري تغذية خاصة تعتمد على اللبن فقط، إنّ لكل ذلك عللا مادية لا تنكر.

إلا أنّ هناك أمرا ثالثا و هو كون المرأة بأجهزتها الماديّة في خدمة الظاهرة الثّانية بعامة أجهزتها بحيث لو لا الأولى لما كان للثانية مجال العيش و إدامة الحياة. فعندئذ نسأل عن هذه الكيفية التي سميناها بنظام الخدمة، هي وليدة أية علة ؟ هل الصدفة جعلت الأولى وسيلة للثانية، و هي عاجزة عن إيجادها بهذه الكمية الهائلة، و لو صح التفسير بها لصح في مولود أو مولودين لا في هذه المواليد غير المتناهية و غير المعدودة، إلاّ بالأرقام النجومية.

أو من ناحية خاصية المادة و هو إذن عقيم، لأن فرضية الخاصية، على فرض صحتها، تهدف إلى تفسير النظام الجزئي بخاصية المادة، و أمّا تفسير الكمية من النّظم التي يقع بعضها في خدمة البعض بخاصية المادة فهو مما لا تفي به تلك الفرضية، و لا يقول به أصحابها، و الانسجام و التخادم مما لا يمكن أن يكون أثرا لخلية واحدة أو نحوها.

إنّ العقل في هذا الموقف يقضي بوجه بات بأنّ هذا النظام و هذه الخصوصية وليدة مبدع عالم قادر قد نسّق هذه النّظم بأطروحة علمية، و خريطة خاصة جعلت الظاهرة الأولى ذريعة للثانية، و أوجد الأولى قبل أن

ص: 48

يبدع الثانية بزمن، و هذا ما نسميه بالهادفية، و أنّ الخلقة غير منفكّة عن الهدف، كما أنّ القول به لا ينفك عن إشراف مبدع عالم قادر على الكون و هو الذي يتبناه الإلهيون باسم إله العالم.

و بعبارة واضحة نرى أنّ يد القدرة و الإبداع قد هيّأت قبل ولادة الطفل بأعوام، أجهزة كثيرة يتوقف عليها عيش الطفل و حياته في مسيرة الحياة، و تداركت ما يتوقف عليه حياة الطفل في أوليات عمره بوجه بديع، و هذا أوضح دليل على أنّ الكون لا يخلو من هدف، و أنّ مبدعه كان هادفا. و هو لا ينفك عن تدخل الشعور، و رفض الصدفة عن قاموس تفسير الكون و تحليله.

و كم ترى من نظائر بارزة و أمثلة رائعة لهذا النوع من الهادفية في صفحة الكون طوينا عنها الكلام.

ص: 49

ص: 50

برهان النّظم بتقرير رابع
برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة

و يمكن تقرير برهان النّظم بصورة رابعة و ليست هي دليلا مستقلا و إنما هو اختلاف في التقرير، فروح البرهان واحدة، و صور التقرير مختلفة، و هذا التقرير ما نسميه ب «برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة».

الحياة رهن قيود و شروط

إنّ تكوّن الحياة فوق الأرض نتيجة اجتماع شروط عديدة يكون كل شرط منها بمثابة جزء علّة لوجود ظاهرة الحياة، و تكون ظاهرة الحياة مستحيلة بفقدان واحد منها فضلا عن كثير منها أو جميعها، و هذه الشروط منها ما يرتبط بالفلك، و منها ما يرتبط بالهواء المحيط و الغازات، و منها ما يرتبط بالأرض و ما فيها من نبات و حيوان و جماد. و قد تكفلت العلوم الطبيعية بتبيين تلك الشروط و نحن في غنى عن سردها، غير أنّا نقول: إنّ هذه الشروط من الكثرة إلى درجة يكون احتمال اجتماعها بالترتيب و النسق الذي يؤدي إلى استقرار ظاهرة الحياة عن طريق الصدفة، احتمالا في مقابل ما لا يحصى من الاحتمالات، و يكون الاحتمال في الضالّة على وجه لا يعتمد عليه. مثلا إنّ تحقق الحياة يحتاج إلى عوامل و أسباب نشير إلى أقل القليل منها:

ص: 51

1 - يحيط بالأرض التي نعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمى بالغلاف الجوي يبلغ سمكة ثمانمائة كيلومتر و هو بمثابة مظلة واقية تصون الكرة الأرضية من التعرض لخطر النيازك التي تنفصل يوميا من الكواكب و تتناثر في الفضاء منذ ما يقرب من عشرين مليونا من السنين و لو لا هذا الغلاف لسقطت على كل بقعة من الأرض ملايين النيازك المحرقة.

2 - الأرض تبعد عن الشمس مسافة 93 مليون ميلا، و لأجل ذلك تكون الحرارة التي تصل إليها من الشمس بمقدار يلائم الحياة، و يتناسب مع متطلباتها، فلو زادت المسافة بين الشمس و الأرض على المقدار الحالي إلى الضعف مثلا لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس، و لو نقصت هذه المسافة إلى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض الضعف، و في كلتا الصورتين تصير الحياة غير ممكنة.

3 - إنّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتى منها النيتروجين 78% و الأوكسجين 21%، فلو تغير المقدار و صارت نسبة الأوكسجين في الهواء 50% لتبدلت جميع المواد القابلة للاشتعال إلى مواد محترقة، و لبلغ الأمر إلى درجة لو أصابت شرارة غابة، لأحرقت جميع ما فيها دون أن تترك غصنا يابسا، و لو تضاءلت نسبة الأوكسجين في الهواء و بلغت 10% لفقدنا أكثر العناصر التي تقوم عليها حضارتنا اليوم.

هذه نماذج من الشروط العديدة التي يتوقف عليها إمكان الحياة في هذه الكرة، و هي إلى درجة من الكثرة تكاد لا تعد فيها و لا تحصى. و على هذا الأساس نرجع إلى صلب الموضوع فنقول: إنّ لظهور الحياة على وجه البسيطة عوامل ضرورية لا بدّ منها فإذا ما فقدت عاملا من عواملها اللامتناهية انعدمت الحياة و استحال على الكائنات الحية استمرارها.

و على ذلك فإنّ فرض توفر هذه الشروط اللازمة المتناسقة، بانفجار المادة العمياء بنحو الصدفة، احتمال ضئيل لا يعتمد عليه، لأن المادة

ص: 52

الأولى عند انفجارها كانت تستطيع أن تظهر بما لا يحصى من الصور المختلفة التي لا تستقر فيها الحياة إلاّ بصورة خاصة أو بحالة واحدة، فعندئذ يتساءل كيف تفجّرت المادة الأولى بلا دخالة شعور و عقل واسع إلى هذه الصورة الخاصة التي تمكّن الحياة من الاستقرار.

فلنأخذ من جميع الظواهر الحيوية حشرة صغيرة بما تحويه من ملايين العناصر المختلفة و قد ركبت بنسبها المعينة الخاصة. فبوسع المادة الأولى أن تظهر بأشكال مختلفة غير صالحة لحياة الحشرة، و إنّما الصالحة لها واحدة منها. و عندئذ نتساءل: كيف استطاعت المادة الأولى عن طريق «الصدفة»، من بين الصور الكثيرة، الخضوع لصورة واحدة صالحة لحياتها؟! و هذا البرهان هو البرهان المعروف في العلوم الرياضية بحساب الاحتمالات، و على توضيحه نأتي بمثال:

نفترض أنّ شخصا بصيرا جالسا وراء آلة طابعة و يحاول بالضغط على الأزرار، و عددها مائة بما فيها الحروف الصغيرة و الكبيرة، أن يحرر قصيدة لشاعر معروف كقصيدة لبيد التي يقول فيها:

ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل *** و كلّ نعيم لا محالة زائل

فاحتمال أنّ الضربة الأولى أصابت صدفة الحرف الأول من هذه القصيدة (أ)، و الضربة الثانية أصابت كذلك الحرف الثاني منها (لا)، و الضربة الثالثة أصابت صدفة الحرف الثالث منها (ك)، و هلم جرّا... هو احتمال في مقابل احتمالات كثيرة لا يمكن بيانها بالأرقام الرياضية المقروءة.

و إن أردت تحصيل ذلك الرقم الرياضي فعليك أن تضرب عدد حروف الآلة الطابعة في نفسها بقدر عدد حروف القصيدة المراد تحريرها، فلو كانت حروف الآلة الطابعة مائة، و عدد حروف البيت من القصيدة (38) فسوف يكون عدد الاحتمالات واحد أمامه (76) من الأصفار.

ص: 53

و لو أضفنا إلى البيت الأول بيتا آخر، فإنّ احتمال تحرير هذين البيتين على يد صاحبنا الأعمى صدفة، سيصل إلى عدد يقرب من الصفر.

و يستحيل على المفكر أن يتقبل هذا الاحتمال الضئيل - الذي هو المناسب لتحقق المراد - من بين تلك الاحتمالات و الفرضيات الهائلة. و كل من يرى البيتين و قد حرّرا بالآلة الطابعة و بصورة صحيحة، يقطع بحكمة و علم محررها. و لم تكن لتحدث عن طريق الصدفة العمياء.

هذا بالنسبة إلى قصيدة فكيف بالكون و الحياة الناشئين من اجتماع ملايين الملايين من الشرائط و العوامل بنسب معينة في غاية الإتقان و الدّقة، فهل يصح لعاقل أن يتفوه بأنّ هذه الشرائط للحياة تواجدت عند انفجار المادة الأولى و تحققت صدفة من بين هذه الاحتمالات الكثيرة. و يعد الاعتماد على هذا الاحتمال، رياضيا، اعتمادا على صفر، و في ذلك يقول العلامة (كريسي موريسن):

«إنّ حجم الكرة الأرضية و بعدها عن الشمس، و درجة الحرارة في الشمس، و أشعتها الباعثة للحياة، و سمك قشرة الأرض، و كمية الماء، و مقدار ثاني أوكسيد الكاربون، و حجم النيتروجين، و ظهور الإنسان و بقاءه على قيد الحياة كل هذه الأمور تدل على خروج النظام من الفوضى (أي إنّه نظام لا فوضى)، و على التصميم و القصد. كما تدل على أنه - طبقا للقوانين الحسابية الصارمة - ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة. كان يمكن أن يحدث هكذا، و لكن لم يحدث هذا بالتأكيد»(1).

و تقرير هذا البرهان و هذه الصورة الرياضية، يدل على أنّ برهان النّظم يتماشى مع جميع العصور، و يناسب جميع العقول و المستويات، و لان.

ص: 54


1- العلم يدعو للإيمان - كريسى موريسن.

ينحصر تقريره بصورة واحدة. و بهذا يعلم سر تركيز القرآن على ذاك البرهان، و في الآية التالية إشارات إليه. قال سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).

***

إشكال على برهان النّظم:
اشارة

اعترض الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم(2) على برهان النّظم بما حاصله: أنّ أساس برهان النّظم - كما توهمه هيوم و فلاسفة الغرب - قائم على أنّنا شاهدنا أنّ جميع المصنوعات البشرية المنظّمة لا تخلو من صانع ماهر، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء، و السفينة لا توجد بلا عمال، فلا بدّ للكون المنظّم من صانع خالق أيضا لشباهته بتلك المصنوعات البشرية.

ثم انتقد هذا الاستدلال بأنّه مبني على التّشابه بين الكائنات الطبيعية، و المصنوعات البشرية. و لكن هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب و تعدية حكم أحدهما إلى الآخر لاختلافهما، فإنّ مصنوعات البشر موجود صناعي بينما الكون موجود طبيعي فهما صنفان لا تسانخ بينهما، فكيف يمكن أن نستكشف من أحدهما حكم الآخر؟ و صحيح أنّنا جرّبنا مصنوعات البشر فوجدناها لا توجد إلا بصانع

ص: 55


1- سورة البقرة الآية 164.
2- و هو اسكتلندي المولد، ولد عام 1711 م و توفي عام 1776 م. و كان يعد من أكبر الفلاسفة المشككين، و قد أورد هذا الإشكال في كتابه المسمى ب «المحاورات» و هو مؤلف على شكل حوار بين شخصين افتراضيين أحدهما يمثل مشككا في برهان النّظم باسم «فيلون» و الآخر يمثل المدافع عنه باسم «كلثانتس».

عاقل، و لكننا لم نجرّب ذلك في الكون، فإنّ الكون لم يتكرر وجوده حتى يقف الإنسان على كيفية خلقه و إيجاده، بل واجهه لأول مرة، و بهذا لا يمكن أن يثبت له علّة خالقة على غرار مصنوعات البشر إلا إذا جرّبه من قبل عشرات المرات، و شهد عملية الخلق و التكوّن كما شاهد ذلك و جرّبه في المصنوعات البشرية، حتى يقف على أنّ الكون بما فيه من النّظام لا يمكن أن يوجد من دون خالق عليم و صانع خبير. هذا هو محصل إشكاله أوردناه بغاية الوضوح.

إنّ ما ذكره من الإشكال ينم عن فهم ساذج و سطحي للغاية لبرهان النّظم، و يعرب عن فقدان الغرب لمدرسة فلسفية متكاملة تدرك و تستوعب برهان النّظم بصورته الصحيحة، فإنّ هذا البرهان لا يرتبط أبدا بالتشابه و التمثيل و التجربة، و إنّما هو برهان عقلي تام، يحكم العقل فيه بعد ملاحظة طبيعة النظام و ماهيته بأنّه صادر من فاعل عاقل و خالق قدير.

توضيح ما ذكرناه أنّ برهان النّظم ليس مبنيا على التشابه بين مصنوعات البشر و الموجود الطبيعي كما جاء في اعتراض «هيوم»، حتى يقال بالفرق بين الصنفين، و يقال هذا صناعي و ذاك طبيعي، و لا يمكن إسراء حكم الأول إلى الثاني.

و لا على التماثل - الذي هو الملاك في التجربة - حتى يقال إنّا جربنا ذلك في المصنوعات البشرية و لم نجرّبه في الكون لعدم تكرر وقوعه و عدم وقوفنا على تواجده مرارا، فلا يصح سحب حكم الأول على الثاني و تعديته إليه.

و إنّما هو قائم على ملاحظة العقل للنّظم و التناسق و الانضباط بين أجزاء الوجود، فيحكم بما هو هو، من دون دخالة لأية تجربة و مشابهة، بأنّ موجد النّظم لا محالة يكون موجودا ذا عقل و شعور، و إليك البيان:

ص: 56

إنّ برهان النّظم مركّب من مقدمتين، إحداهما حسّية و الأخرى عقليّة و دور الحسّ ينحصر في إثبات الموضوع، أي وجود النظام في الكون و السنن السائدة عليه، و أمّا دور العقل فهو يرجع إلى أنّ هذا النّظام بالكيفيّة و الكميّة المحددة، لا يمكن أن يكون نتيجة الصّدفة أو أيّ عامل فاقد للشعور.

أمّا الصغرى، فلا تحتاج إلى البيان. فإنّ جميع العلوم الطبيعيّة متكفلة ببيان النّظم البديعة السائدة على العالم من الذرة إلى المجرة، و إنّما المهم هو بيان الكبرى، و هي قضاء العقل بأنه وليد دخالة عقل كبير في حدوثه من دون استعانة في حكمه بمسألة التشابه أو التجربة. بل يستقل به مجردا عن كل ذلك فنقول:

1 - الارتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور

إنّ العقل يحكم بوجود رابطة منطقية بين النظم و دخالة الشعور، و ذلك لأنّ النظم ليس في الحقيقة إلاّ أمور ثلاثة:

1 - الترابط بين أجزاء متنوعة مختلفة من حيث الكمية و الكيفية.

2 - ترتيبها و تنسيقها بنحو يمكن التعاون و التفاعل فيما بينها.

3 - الهادفية إلى غاية مطلوبة و متوخاة من ذلك الجهاز المنظم و النظام بهذا المعنى موجود في كل أجزاء الكون من ذرته إلى مجرته، فإذا نظر العقل في كل جوانب الكون ابتداء من الذرة و مرورا بالإنسان و الحيوان و النبات و انتهاء بالنجوم و الكواكب و المجرّات و رأى فيها أجزاء مختلفة في الكمية و الكيفية أوّلا، و منسقة و مرتبة بنحو خاص ثانيا، و رأى كيف يتحقق بذلك الهدف المنشود من وجودها ثالثا، حكم من فوره بأنّ ذلك لا يمكن أن يصدر إلاّ من فاعل عاقل، و خالق هادف شاعر، يوجد الأجزاء المختلفة كمّا و كيفا، و يرتبها و ينسّقها بحيث يمكن أن تتفاعل فيما بينها و تتعاون لتحقيق الهدف المطلوب من وجودها.

ص: 57

و هذا الحكم الذي يصدره العقل لا يستند إلى شيء غير النظر إلى ماهية النظام و طبيعته الآبية للتحقق بلا فاعل عاقل مدبر. و هو يستند لا إلى التشابه و لا إلى التجربة كما تخيل (هيوم) و أضرابه.

إنّ ملاحظة العقل لما في جهاز العين أو الأذن أو المخ أو القلب أو الخلية من النظام، بمعنى وجود أجزاء مختلفة كمّا و كيفا، أولا، و تناسقها بشكل يمكنها من التفاعل فيما بينها ثانيا، و تحقيق الهدف الخاص منها ثالثا، يدفع العقل إلى الحكم بأنها من فعل خالق عليم، لاحتياجها إلى دخالة شعور و عقل و هادفية و قصد.

و بهذا تبين أنّ بين الجهاز المنظّم، و دخالة العقل و الشعور رابطة منطقية. و إن شئت قلت: إنّ ماهية نفس النظام بمقوّماته الثلاثة (الترابط، و التناسق، و الهادفية) تنادي بلسانها التكويني: إنّ النظام مخلوق عقل واسع و شعور كبير.

2 - تقرير الرابطة المنطقية بين النظام و دخالة الشعور بشكل آخر

إنّ العقل عند ما يرى اجتماع ملايين الشرائط اللازمة لاستقرار الحياة على الأرض بحيث لو فقد بعضها لاختلت الحياة، أو عند ما يرى اجتماع آلاف الأجزاء و العناصر اللازمة للإبصار، في العين، بحيث لو فقد جزء واحد أو تقدم أو تأخر عن مكانه المعين لاختلت عملية الرؤية و استحال الإبصار، يحكم أنّ هناك عقلا جبارا أرسى مثل هذا النظام، و أوجد مثل هذا التنسيق و الانسجام و الترتيب و التوفيق، و يحكم بدخالة الشعور في ذلك و نفي حصوله بالصدفة و الاتفاق، لأنّ اجتماعها عن طريق الصدفة كما يمكن أن يكون بهذه الصورة المناسبة كذلك يمكنه أن يكون بما لا يعدّ و لا يحصى من الصور و الكيفيات الأخرى غير المناسبة، و حينئذ يكون احتمال استقرار هذه الصورة من بين تلكم الصور الهائلة، احتمالا ضعيفا جدا يكاد يبلغ الصفر الرياضي في ضالته، و هو ما لا يذهب إليه الإنسان العادي فضلا عن العاقل المحاسب.

ص: 58

أجل، إنّ هذه المحاسبة الرياضيّة التي يجريها العقل إذا هو شاهد النظام السائد في الكون، تدفعه إلى الحكم بأنّ هناك علة عاقلة اختارت هذه الصورة من بين تلك الصور الهائلة بقصد و إرادة، و جمعت تلك الشرائط اللازمة بهذا الشكل المناسب للحياة(1).

و بهذا يبقى برهان النظم قويا صامدا سليما عن أيّ نقد و لا يرتبط بشيء من التمثيل أو التجربة كما تصور «هيوم»، و إنما هو حكم العقل وحده ينتهي إليه عن طريق ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشيء، و بهذا يتساوى الموجود الطبيعي و المصنوع البشري. فالعقل إذا رفض الإذعان بأنّ الساعة وجدت بلا صانع أو أنّ السيارة وجدت بلا علة، فإنما هو لأجل ملاحظة نفس الظاهرة (الساعة و السيارة) حيث يرى أنّها تحققت بعد ما لم تكن، فبحكم من فوره بأنّ لها موجدا. و ليس هذا الحكم إلاّ لأجل الارتباط المنطقي بين وجود الشيء بعد عدمه، و لزوم وجود فاعل له، و إن شئت قلت لأجل قانون العلية و المعلولية الذي يعترف به العقل في جميع المجالات.

كما أنّ حكم العقل في المقام بأنّ الموجود المنظم مخلوق عقل كبير، ناشئ من الارتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور، أو استحالة ظهور النظام صدفة للمحاسبة الرياضية التي مرّت، لا لأنّ العقل مثل أو جرّب فتوصل إلى هذه النتيجة.

و حصيلة الكلام: إنّ طبيعة النظام و ماهيته في الأشياء التي نراها تنادي بلسان تكوينها أنّها صادرة عن فاعل شاعر و خالق عاقل، و هذا هو الذي يجعل العقل يذعن بوجود مثل هذا الخالق وراء النظام الكوني، من دون النّظر إلى شيء آخر(2).).

ص: 59


1- راجع التقرير الرابع لبرهان النّظم، فقد أشرنا فيه إلى ما هاهنا مفصّلا.
2- إنّ الأسئلة المتوجهة إلى برهان النّظم لا تنحصر بما ذكرناه، و إن كان هو أقواها. و قد ذكر الأستاذ (دام ظله) جميع الإشكالات المطروحة حول هذا البرهان و تربو على السبع، و أجاب عنها في كتاب «اللّه خالق الكون» فمن أراد التوسع فيها فليرجع إلى الصفحات التالية منه: (220 إلى 279).

ص: 60

البرهان الثاني برهان الإمكان

اشارة

و توضيحه يتوقف على بيان أمور:

الأمر الأول: تقسيم المعقول إلى الواجب و الممكن و الممتنع.

إنّ كل معقول في الذهن إذا نسبنا إليه الوجود و التحقق، فإما أن يصحّ اتصافه به لذاته أو لا.

الثاني هو ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين.

و الأول: إما أن يقتضي وجوب اتصافه به لذاته أو لا. و الأول هو واجب الوجود لذاته.

و الثاني، هو ممكن الوجود لذاته، أعني به ما تكون نسبة كل من الوجود و العدم إليه متساوية.

و بعبارة أخرى: إذا تصورنا شيئا، فإما أن يكون على وجه لا يقبل الوجود الخارجي عند العقل أو يقبله. و الأول هو الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين و ارتفاعها، و اجتماع الضدين، و وجود المعلول بلا علة.

و الثاني، إما أن يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده و لزوم تحققه

ص: 61

في الخارج، فهذا هو الواجب لذاته. و إما أن يكون متساوي النسبة إلى الوجود و العدم فلا يستدعي أحدهما أبدا، و لأجل ذلك قد يكون موجودا و قد يكون معدوما، و هو الممكن لذاته، كأفراد الإنسان و غيره.

و هذا التقسيم، دائر بين الإيجاب و السلب و لا شق رابع له، و لا يمكن أن يتصور معقول لا يكون داخلا تحت هذه الأقسام الثلاثة.

الأمر الثاني: وجود الممكن رهن علّته.

إنّ الواجب لذاته بما أنّه يقتضي الوجود من صميم ذاته، لا يتوقف وجوده على وجود علة توجده لاستغنائه عنها. كما أنّ الممتنع حيث يستدعي من صميم ذاته عدم وجوده فلا يحتاج في الاتصاف بالعدم إلى علة. و لأجل ذلك قالوا إنّ واجب الوجود في وجوده، و ممتنع الوجود في عدمه، مستغنيان عن العلة، لأن مناط الحاجة إلى العلة هو الفقر و الفاقة، و الواجب، واجب الوجود لذاته. و الممتنع، ممتنع الوجود لذاته. و ما هو كذلك لا حاجة له في الاتصاف بأحدهما إلى علة. فالأول يملك الوجود لذاته، و الثاني يتّصف بالعدم من صميم الذات و أما الممكن فبما أنّ مثله إلى الوجود و العدم كمثل مركز الدائرة إلى محيطها لا ترجيح لواحد منهما على الآخر، فهو في كلّ من الاتصافين يحتاج إلى علة تخرجه من حالة التساوي و تجرّه إما إلى جانب الوجود أو جانب العدم.

نعم، يجب أن تكون علة الوجود أمرا متحققا في الخارج، و أما علة العدم فيكفي فيها عدم العلة. مثلا: إنّ طرد الجهل عن الإنسان الأميّ و إحلال العلم مكانه، يتوقّف على مبادي وجودية، و أما بقاؤه على الجهل و عدم العلم فيكفى فيه عدم تلك المبادي.

الأمر الثالث: في بيان الدور و التسلسل و بطلانهما.

ص: 62

الدور عبارة عن كون الشيء موجدا لشيء ثان، و في الوقت نفسه يكون الشّيء الثاني موجدا لذاك الشيء الأول. و هذا باطل لأنّ مقتضى كون الأول علة للثاني، تقدّمه عليه و تأخّر الثاني عنه: و مقتضى كون الثاني علة للأول تقدّم الثاني عليه. فينتج كون الشيء الواحد، في حالة واحدة، و بالنسبة إلى شيء واحد، متقدّما و غير متقدّم، و متأخرا و غير متأخر. و هذا هو الجمع بين النقيضين، و بطلانه كارتفاعهما من الضروريات البديهية.

فينتج أنّ الدّور و ما يستلزمه محال.

و لتوضيح الحال نمثل بمثال: إذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة و اشترط كلّ واحد منهما لإمضائها، إمضاء الآخر، فتكون النتيجة توقّف إمضاء كلّ على إمضاء الآخر. و عند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاة إلى يوم القيامة، لما ذكرنا من المحذور.

و هاك مثالا آخر: لو أراد رجلان التعاون على حمل متاع، غير أنّ كلاّ يشترط في إقدامه على حمله إقدام الآخر. فلن يحمل المتاع إلى مكانه أبدا.

و أما التسلسل فهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل و المعاليل الممكنة، مترتبة غير متناهية، و يكون الكل متّسما بوصف الإمكان بأن يتوقف (أ) على (ب)، و الثاني على (ج)، و الثالث على رابع، و هكذا دواليك تتسلسل العلل و المعاليل من دون أن تنتهي إلى نقطة.

و باختصار: حقيقة التسلسل لا تخرج عن حدود ترتّب علل و معاليل، تكون متناهية من جانب - أعني آخرها - و غير متناهية من جانب آخر، أعني أوّلها. و على ذلك، يتسم الجزء الأخير بوصف المعلولية فقط بخلاف سائر الأجزاء، فإنّ كلا منها مع كونه معلولا لما فوقه، علة لما دونه، فالمعلولية وصف مشترك بين الجميع، سائدة على السلسلة و على أجزائها كلها بخلاف

ص: 63

العلية فهي غير صادقة على الجزء الأخير. هذا واقع التسلسل و أما بيان بطلانه:

إنّ المعلولية كما هي وصف عام لكل جزء من أجزاء السلسلة، وصف لنفس السلسلة أيضا. و كما أنّ كلّ واحدة من الحلقات معلولة، فهكذا مجموعها الذي نعبّر عنه بسلسلة المعاليل المترتبة، أيضا معلول. فعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: إذا كانت السلسلة الهائلة معلولة، فما هي العلة التي أخرجتها من كتم العدم إلى عالم الوجود، و من الظّلمة إلى عالم النور؟ مع أنّ حاجة المعلول إلى العلّة أمر بديهي. و قانون العليّة من القوانين الثابتة لا ينكره إلاّ الغبي أو المجادل في الأمور البديهية، هذا من جانب. و من جانب آخر إنّ السلسلة لم تقف و لن تقف عند حدّ حتى يكون أول السلسلة علّة غير معلول، بل هي تسير و تمتد بلا توقف عند نقطة خاصة. و على هذين الأمرين تتسم السلسلة بسمة المعلولية من دون أن يكون فيها شيء يتّسم بسمة العليّة فقط. و عندئذ يعود السؤال: ما هي العلة المحققة لهذه السلسلة المعلولة، المخرجة لها عن كتم العدم إلى حيّز الوجود؟ و لك إجراء هذا البيان في كل واحدة من حلقات السلسلة، كما أجري في نفس السلسلة بعينها و تقول: إذا كان كل واحد من أجزاء السلسلة معلولا و متّسما بسمة المعلولية، فيطرح هذا السؤال نفسه: ما هي العلة التي أخرجت كلّ واحدة من هذه الأجزاء الهائلة الموصوفة بوصف المعلولية، من حيّز العدم إلى عالم الوجود.

و إذا كانت المعلولية آية الفقر و علامة الحاجة إلى العلة، فما تلك العلة التي نفضت غبار الفقر عن وجه هذه الحلقات و البستها لباس الوجود و التحقّق و صيّرتها غنية بالغير؟.

ص: 64

إنّ معلولية الأجزاء التي لا تنفك عن معلولية السلسلة آية التعلق بالعلة، و علامة التدلي بالغير، و سمة القيام به. فما هي تلك العلة التي تتعلق بها الأجزاء؟ و ما ذاك الغير الذي تتعلق به السلسلة ؟ و أنت إذا سألت كل حلقة عن حالها لإجابتك بلسانها التكويني بأنها مفتقرة في وجودها، متعلقة في جميع شئونها بالعلة التي أوجدتها. فإذا كان هذا حال كل واحدة من هذه الحلقات، كان هذا أيضا حال السلسلة برمّتها.

و عندئذ نخرج بهذه النتيجة: إنّ كلّ واحدة من أجزاء السلسلة معلولة، و المركب من المعاليل (السلسلة) أيضا معلول. و المعلول لا ينفك عن العلّة، و المفروض أنّه ليس هنا شيء يكون علّة و لا يكون معلولا و إلاّ يلزم انقطاع السلسلة و توقفها عند نقطة خاصة قائمة بنفسها أعني ما يكون علة و لا يكون معلولا، و هذا خلف.

فإن قلت: إنّ كلّ معلول من السلسلة متقوّم بالعلّة التي تتقدمه، و متعلق بها، فالجزء الأول من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني، و الثاني بالثالث، و هكذا إلى ما شاء اللّه من الأجزاء غير المتناهية و الحلقات غير المحدودة. و هذا المقدار من التعلّق يكفي في رفع الفقر و الحاجة.

قلت: إنّ كل معلول، و إن كان يستند إلى علة تتقدمه و يستمد منها وجوده، و لكن لما كانت العلل في جميع المراحل متسمة بسمة المعلولية كانت مفتقرات بالذات، و مثل هذا لا يوجد معلوله بالاستقلال، و لا ينفض غبار الفقر عن وجهه بالأصالة، إذ ليس لهذه العلل في جميع الحلقات دور الإفاضة بالأصالة و دور الإيجاد بالاستقلال بل دور مثل هذه العلل دور الوسيط و الأخذ من العلة المتقدمة و الدفع إلى معلوله، و هكذا كل حلقة نتصورها علة لما بعدها. فهي عند ذاك لا تملك شيئا بذاتها و إنما تملك ما تملكه من طرف العلة التي تتقدمها و مثلها حال العلل الأخرى من دون استثناء في ذلك. و مثل هذا لا يصيّر السلسلة و لا أجزاءها غنية بالذات بل تبقى على ما

ص: 65

وصفناها به من كونها مفتقرات بالذات و متعلقات بالغير. فلا بدّ أن يكون هناك علة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها و تكون سنادا لها.

و بعبارة أخرى: إنّ كلّ حلقة من هذه الحلقات (غير الأخيرة) تحمل سمتين: سمة العلية، و بهذه السمة توجد ما قبلها، و سمة المعلولية و بهذه السمة تعلن أنّها لم تملك ما ملكته و لم تدفع ما دفعته إلى معلولها إلاّ بالاكتساب مما تقدمها من العلّة. و هذا الأمر جار و سائد في كل حلقة و كل جزء يقع في أفق الحس أو الذهن. فإذا تصبح نفس السلسلة و جميع أجزائها تحمل سمة الحاجة و الفقر، و التعلّق و الرّبط بالغير. و مثل تلك السلسلة لا يمكن أن توجد بنفسها إلاّ بالاستناد إلى موجود يحمل سمة واحدة و هي سمة العلية لا غير و يتنزه عن سمة المعلولية. و عند ذاك تنقطع السلسلة و تخرج عن كونها غير متناهية إلى التناهي.

تمثيلان لتقريب امتناع التسلسل

إذا أردت أن تستعين في تقريب الحقائق العقلية بالأمثلة الملموسة فهاك مثالين على ذلك:

الأول: إنّ كل واحدة من هذه المعاليل - التي نشير إليها بالإشارة العقلية و إن لم نقدر على الإشارة إليها عن طريق الحسّ لكونها غير متناهية - بحكم فقرها الذاتي، بمنزلة الصفر. فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار. و من المعلوم أنّ الصّفر بإضافة صفر، بإضافة صفر، صفر مهما تسلسل، و لا ينتج عددا صحيحا. فلأجل ذلك يحكم العقل بأنّه يجب أن يكون إلى جانب هذه الأصفار عددا صحيحا قائما بالنفس حتى يكون مصححا لقراءتها، و لولاه لما كان للأصفار المجتمعة الهائلة أيّ دور في المحاسبة، فلا يقرأ الصفر مهما أضيفت إليه الأصفار.

الثاني: إنّ القضايا المشروطة إذا كانت غير متناهية و غير متوقفة على

ص: 66

قضية مطلقة، لا تخرج إلى عالم الوجود. مثلا إذا كان قيام زيد مشروطا بقيام عمرو، و قيامه مشروطا بقيام بكر، و هكذا دواليك إلى غير النهاية، فلن يتحقق القيام عندئذ من أي واحد منهم أبدا - كما إذا شرط الأول إمضاءه للورقة بإمضاء الثاني، و الثاني بإمضاء ثالث و هكذا، فلن تمضى تلك الورقة إلى الأبد - إلاّ إذا انتهت تلك القضايا إلى قضية مطلقة بأن يكون هناك من يقوم أو يمضي الورقة من دون أن يكون فعله مشروطا بشيء.

فهذه المعاليل المتسلسلة - بما أنّ وجود كلّ منها مشروط بوجود علة تتقدمه - تكون قضايا مشروطة متسلسلة غير متناهية فلا تخرج إلى عالم الوجود ما لم تصل إلى قضية مطلقة، أي إلى موجود يكون علة محضة و لا يكون وجوده مشروطا بوجود علّة أخرى، و عندئذ يكون ما فرضناه متسلسلا غير متسلسل، و ما فرضناه غير متناه متناهيا.

فقد خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ فرض علل و معاليل غير متناهية، فرض محال لاستلزامه وجود المعلول بلا علة. فيكون الصحيح خلافه أي انقطاع السلسلة، إذ لا واسطة بين الإيجاب و السلب(1).

إلى هنا تمت المقدمات التي لها دور في توضيح برهان الإمكان و إليك نفس البرهان.

تقرير برهان الإمكان

لا شك أنّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإمكانية بدليل أنها توجد

ص: 67


1- إنّ بطلان التسلسل من المسائل المهمة في الفلسفة الإلهية و قد طرحه الفلاسفة في أسفارهم و أثبتوا البطلان بحجج كثيرة تناهز العشر. و لكنّ أكثرها غير مقنع لأنهم استدلوا على البطلان بالبراهين الهندسية التي لا تجري إلا في الامور المتناهية و ما ذكرناه من البرهان، برهان فلسفي محض مقتبس من أصول الحكمة المتعالية التي أسّسها صدر الدين الشيرازي و أرسى قواعدها تلامذة مدرسته و أبرزهم في العصر الأخير سيّدنا الراحل المغفور له العلاّمة الطباطبائي قدس سرّه.

و تنعدم، و تحدث و تفنى، و يطرأ عليها التبدّل و التغيّر، إلى غير ذلك من الحالات التي هي آيات الإمكان و سمات الافتقار.

و هذه الموجودات الإمكانية، الواقعة في أفق الحس إمّا موجودات بلا علة أولها علّة. و على الثاني فالعلّة إمّا ممكنة أو واجبة. ثم العلّة الممكنة إما أن تكون متحققة بمعاليلها (أي الموجودات الإمكانية)، أو بممكن آخر.

فعلى الأول - أي كونها موجودات بلا علة - يلزم نقض قانون العليّة و المعلولية و أنّ كلّ ممكن يحتاج إلى مؤثر. و مثل هذا لو قلنا بأن علّتها نفسها، مضافا إلى أنّ فيه مفسدة الدور.

و على الثاني - أي كونها متحققة بعلّة ممكنة و العلة الممكنة متحققة بهذه الموجودات الإمكانية - يلزم الدور المحال.

و على الثالث - أي تحققها بممكن آخر و هذا الممكن الآخر متحقق بممكن آخر و هكذا - يلزم التسلسل الذي أبطلناه.

و على الرابع - أي كون العلة واجبة - يثبت المطلوب.

فاتضح أنّه لا يصح تفسير النظام الكوني إلاّ بالقول بانتهاء الممكنات إلى الواجب لذاته القائم بنفسه، فهذه الصورة هي الصورة التي يصحّحها العقل و يعدّها خالية عن الإشكال. و أما الصور الباقية فكلها تستلزم المحال، و المستلزم للمحال محال.

فالقول بكونها متحققة بلا علة أو كون علتها نفسها، يدفعه قانون العليّة الذي هو معترف به عند الجميع، كما أنّ القول بكون بعضها متحققا ببعضها الآخر، و ذاك البعض الآخر متحقق بالبعض الأول يستلزم الدور.

و القول بأنّ كلّ ممكن متحقّق بممكن ثان و الثاني بثالث و هكذا يستلزم التسلسل.

ص: 68

فلم يبق إلاّ القول بانتهاء الممكنات إلى الواجب بالذات، القائم بنفسه، المفيض للوجود على غيره.

برهان الإمكان في الذكر الحكيم

إنّ الذكر الحكيم طرح معارفه و أصوله مدعومة بالبراهين الجليّة، و لم يكتف بمجرد الدعوى بلا دليل، فهو كالمعلّم يلقي دروسه على تلاميذه بالبينة و البرهان. فالاستدلال بهذه الآيات ليس كاستدلال الفقيه بها على الفروع، فإنّ الفقيه أثبت أنّ الوحي حجة فأخذ بتفريع الفروع و إقامة الحجّة عليها من الوحي، بل الاستدلال بها في هذا الموقف الذي نحن فيه كالاستدلال بسائر البراهين الموروثة عن الحكماء و المتألهين. و قد أشار سبحانه في الآيات التالية إلى شقوق برهان الإمكان.

فإلى أنّ حقيقة الممكن، حقيقة مفتقرة لا تملك لنفسها وجودا و تحقّقا و لا أيّ شيء آخر، أشار بقوله يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (1).

و مثله قوله سبحانه: وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنىٰ وَ أَقْنىٰ (2).

و قوله سبحانه: وَ اَللّٰهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ (3).

و إلى أنّ الممكن، و منه الإنسان، لا يتحقق بلا علّة، و لا تكون علّته نفسه، أشار سبحانه بقوله:

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخٰالِقُونَ (4) .

ص: 69


1- سورة فاطر: الآية 15.
2- سورة النجم: الآية 48.
3- سورة محمد: الآية 38.
4- سورة الطور: الآية 35.

و إلى أنّ الممكن لا يصح أن يكون خالقا لممكن آخر بالأصالة و الاستقلال و من دون الاستناد إلى خالق واجب، أشار سبحانه بقوله: أَمْ خَلَقُوا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ (1).

فهذه الآيات و نظائرها تستدل على المعارف العقلية ببراهين واضحة و لا تتركها بلا دليل.(2)

سؤال و جواب

السؤال: إنّ القول بانتهاء الممكنات إلى علة أزلية موجودة بنفسها، غير مخلوقة و لا متحققة بغيرها، يستلزم تخصيص القاعدة العقلية، فإنّ العقل يحكم بأنّ الشيء لا يتحقّق بلا علّة. و الواجب في فرض الإلهيين شيء متحقق بلا علّة، فلزم نقض تلك القاعدة العقلية.

و الجواب على وجوه:

الأول: إنّ هذا السؤال مشترك بين الإلهي و الماديّ ، فكلاهما يعترف بموجود قديم غير متحقق بعلة. فالإلهي يرى ذلك الموجود فوق عالم المادة و الإمكان، و أنّ الممكنات تنتهي إليه. و الماديّ يرى ذلك الموجود، المادة الأولى التي تتحول و تتشكل إلى صور و حالات، فإنها عنده قديمة متحققة بلا علة. فعلى كلّ منهما تجب الإجابة عن هذا السؤال و لا يختص بالإلهي(3).

ص: 70


1- سورة الطور: الآية 36.
2- كما أنّ فيها دلالة واضحة على أنّ التفكّر المنطقيّ مما يتوخّاه القرآن الكريم و يدعو البشرية إليه. و لو كانت الفلسفة بمعنى التفكّر الصحيح و البرهنة المبتنية على المدعى، فقد فتح بابها القرآن الكريم.
3- و العجب أنّ الفيلسوف الإنكليزي «برتراند راسل» زعم اختصاصه بالإلهي و أنّ منهجه يستلزم وجود الشيء بلا علة و قد عرفت خلافه.

الثاني - إنّ القاعدة العقلية تختص بالموجودات الإمكانية و الظواهر المادية فإنها - بما أنّها مسبوقة بالعدم - لا تنفك عن علة تخرجها من كتم العدم إلى عالم الوجود. و لو لا العلة للزم وجود الممكن بلا علة، و هو محال.

و أما الواجب في فرض الإلهيين فهو أزلي قديم غير مسبوق بالعدم.

و ما هذا حاله غني عن العلة لا يتعلق به الجعل و الإيجاد، فإنهما من خصائص الشيء المسبوق بالعدم و لا يعمّان ما لم يسبقه العدم أبدا و كان موجودا في الأزل.

و السائل لم يحلل موضوع القاعدة و زعم أنّ الحاجة إلى العلّة من خصائص الموجود بما هو موجود مع أنّها من خصائص الموجود الممكن المسبوق بالعدم، و الواجب خارج عن موضوع القاعدة خروجا تخصصيا لا تخصيصيا، و الفرق بين الخروجين واضح.

الثالث: إنّ القول بانتهاء الممكنات إلى موجود واجب متحقق بنفسه مقتضى البرهان العقلي الذي يحكم في سائر المجالات. فلا يصح الأخذ بحكمه في مجال دون مجال.

فالعقل الذي يعترف بقانون العليّة و المعلوليّة يحكم بلزوم انتهاء الموجودات إلى موجود واجب. و قد عبّر الحكماء عن هذه القاعدة بقولهم:

«كلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات». كما استعانوا في توضيحه بأمثلة كثيرة معروفة في محلها، نحو: إنّ كلّ شيء مضاء بالنور، و النور مضيء بنفسه، و إنّ حلاوة الأغذية الحلوة بالسّكر و السكر حلو بنفسه، إلى غير ذلك من التقريبات العرفية.

ص: 71

خاتمة المطاف

قد تعرفت على مقدّمات برهان الإمكان و أنّ الاستنتاج منه متوقف على امتناع الدور و التسلسل، و لو لا تسليم امتناع هذين الأمرين، لأصبح القياس عقيما و البرهان غير منتج. و الذي نركز عليه هنا هو أنّ كلّ ما استدلّ به على إثبات الصّانع لا يكون منتجا إلاّ إذا ثبت قبله امتناع الدور و التسلسل. و لو لا هذا التسليم لكانت البراهين ناقصة، غير مفيدة.

مثلا: إنّ برهان النظم الذي هو من أوضح البراهين و أعمّها لا يكون منتجا و دالا على أنّ للعالم خالقا واجبا، و أنّ سلسلة الكون منتهية إليه، إلاّ إذا ثبت قبله امتناع الدور و التسلسل. لأنّ النظام البديع آية كونه مخلوقا لعلم وسيع و قدرة فائقة يعجز الإنسان عن وصفهما و تعريفهما. و أما كون ذلك العلم واجبا و تلك القدرة قديمة، فلا يثبت بذلك البرهان. إذ من المحتمل أن يكون خالق النّظام ممكنا مخلوقا لموجود آخر و هكذا، إما أن يدور أو يتسلسل. فإثبات كون النظام و سلسلة العلل و المعاليل متوقفة عند نقطة خاصّة هي واجبة لا ممكنة، غنية لا فقيرة، قائمة بنفسها لا بغيرها، يحتاج إلى تسليم امتناع الدور و التسلسل كما هو واضح، فكأنّ المستدلّ ببرهان النظم أو سائر البراهين أخذ امتناعهما أصلا مسلما عند الاستدلال بها.

ص: 72

البرهان الثالث برهان حدوث المادة

اشارة

إنّ الأصول العلمية أثبتت نفاد الطاقات الموجودة في الكون باستمرار، و توجّهها إلى درجة تنطفئ معها شعلة الحياة و تنتهي بسببه فعالياتها و نشاطاتها(1). و هذا (نفاد الطاقات و انتهاؤها) يدل على أنّ وصف الوجود و التّحقّق للمادة ليس أمرا ذاتيا لها، إذ لو كان الوجود و التحقّق أمرا ذاتيا لها، لزم أن لا يفارقها أزلا و أبدا، فنفادها و زوال هذا الوصف عنها خير دليل على أنّ الوجود أمر عرضي للمادة، غير نابع من صميم ذاتها. و يلزم من ذلك أن

ص: 73


1- أثبت العلم بكل وضوح أنّ هناك انتقالا حراريا مستمرا من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة و لا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتدّ من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة. و معنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام و ينضب فيها معين الطاقة. و يومئذ لن تكون هنالك عمليات كيميائية أو طبيعية، و لن يكون هنالك أثر للحياة نفسها في هذا الكون. و لما كانت الحياة لا تزال قائمة، و لا تزال العمليات الكيميائية و الطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا و إلا لاستهلكت طاقاته منذ زمن بعيد و توقف كلّ نشاط في الوجود. و هكذا توصّلت العلوم دون قصد إلى أنّ لهذا الكون بداية. و باختصار: إنّ قوانين الدّيناميكا الحرارية تدلّ على أنّ مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا و أنّها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض هي الصّفر المطلق. و يومئذ تنعدم الطاقة و تستحيل الحياة.

يكون لوجودها بداية، لأنّ لازم عدم البداية كون هذا الوصف أمرا ذاتيا لها كما هو شأن كلّ ذاتيّ ، و لو كان ذاتيا لها لوجب أن لا يكون لها نهاية، مع أنّ العلم أثبت لها هذه النهاية.

و بعبارة أخرى: إنّ الوجود للمادة المتحولة إلى الطّاقة ليس أمرا ذاتيا لها، و إلاّ لوجب أن لا يفارقها أبدا و أن لا تسير المادة إلى الفناء و انعدام الحياة و الفعالية، و الحال أنّ العلوم الطبيعية اعترفت بأنّ المادة سينتهي سلطانها و تفنى قوّتها و طاقاتها و تموت و تبرد. فالمفارقة في جانب النهاية دليل على عدم كون الوجود ذاتيا للمادة، و كونه غير ذاتيّ يلازم أن يكون لها بداية، و هذا هو ما نقصده من حدوث المادّة.

***

إلى هنا تمّ بيان البراهين الثلاثة، و بقيت هناك براهين أخر طرحها العلماء في الكتب الكلامية نشير إلى عناوينها:

1 - برهان الحركة الذي أبدعه الحكيم أرسطو و أكمله الفيلسوف الإلهي البارع «صدر المتألهين» و هو من أشرف البراهين و أتقنها.

2 - برهان الصديقين و قد ذكره الشيخ الرئيس في (الإشارات).(1)

3 - برهان الوجوب.

4 - البرهان الأسد الأخصر.

5 - برهان الترتّب(2).ر.

ص: 74


1- الإشارات ج 3، ص 18.
2- لاحظ تجريد الاعتقاد، ص 67. و الأسفار، ج 6، ص 36-37. و أيضا ج 2، ص 165 و 166. فمن أراد الوقوف على هذه البراهين فعليه المراجعة إلى ما ذكرنا من المصادر.

بقيت هنا نكات يجب التنبيه عليها:

الأولى - العلة عند الإلهي و العلة عند المادي.

إنّ كلاّ من الإلهي و المادي يستعمل كلمة العلّة و كلّ يريد منه معنى مغايرا لما يريده الآخر.

فالعلّة عند الإلهي هي مفيض الوجود على الاشياء و مخرجها من العدم، و مصيّرها موجودة بعد أن كانت معدومة - فعند ذلك يكون المعلول بمادته و صورته و بجميع شئونه منوطا بها، فالعلة هي التي تعطي المادة وجودها و صورتها و كل شئونها و هي التي - بالتالي - تخرجها من ظلمة العدم إلى حيّز التحقّق.

و للتوضيح نمثل لذلك بالصور الذهنية و النفس الإنسانية. إنّ النفس توجد الصور في الذهن و تكوّنها فيه. نعم، النفس تستعين في خلقها لبعض الصور بأمثلة خارجية محسوسة و لكنها قد تخلق أحيانا صورا في الذهن لا مثيل لها في الخارج كالمفاهيم الكليّة مثل مفهومي الإنسان و الإمكان.

و على ذلك فالعلّة التي يقصدها الإلهي هي ذلك. و بالتالي إنّ الخالق خلق المادة و أفاض عليها صورها و أحاطها بشبكة من النظام البديع الذي لم يكن قبل ذلك قط.

و أما العلة عند المادي فهي الموجد للحركة و التفاعلات في المادة، كالنجار الذي يجمع الأخشاب من هنا و هناك و يضم بعضها إلى بعض بنحو خاص فتصير على هيئة الكرسي، أو كالبنّاء الذي يجمع الأحجار و الطين من هنا و هناك و يرتّبها بهندسة خاصة فتصير جدارا و بناء، أو كالنّار التي توجب غليان الماء و تحوّله إلى بخار.

و ربما يتوسع الماديّ في استعمال كلمة العلّة فيطلقها على نفس المادة المتحولة إلى مادة أخرى كالحطب إلى الرماد، و الوقود إلى الطاقة،

ص: 75

و الكهرباء إلى الضوء و الصوت و الحرارة.

فبذلك علم أنّ بين المصطلحين بونا شاسعا، فأين العلة التي يستعملها الإلهي في مفيض الوجود بمادته و صورته، من العلة التي يستعملها المادي في موجد الحركة في المادة أو في المادة القابلة للتحول إلى شيء آخر!!.

و الذي دعى المادي إلى تفسير العلّة بهذا المعنى هو اعتقاده بقدمها و قدم الطاقات الموجودة فيها و غناها عن موجدها. و هذا بخلاف الإلهي المعتقد لحدوث المادة و سبقها بالعدم، فلها علّة فاعلية مخرجة لها من العدم إلى الوجود.

و إلى ذينك الاصطلاحين أشار الحكيم الإلهي السبزواري بقوله:

معطي الوجود في الإلهي فاعل *** معطي التحرك الطبيعي قائل

نعم ربما يستعمل الإلهي لفظة العلّة في معطي الحركة و موجدها و إن لم يوجد المادة و صورتها، فيقول: إنّ النجار علة للسرير، و النار للإحراق، توسعا في الاصطلاح.

و إلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه: أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ * أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلْخٰالِقُونَ *... أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزّٰارِعُونَ *... أَ فَرَأَيْتُمُ اَلنّٰارَ اَلَّتِي تُورُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهٰا أَمْ نَحْنُ اَلْمُنْشِؤُنَ (1).

و لا شك أنّ للإنسان دورا في تكوّن الإنسان و الزرع و الشجر، و للّه سبحانه أيضا دورا. و لكنّ دور الإنسان لا يتجاوز كونه فاعلا بالحركة حيث2.

ص: 76


1- سورة الواقعة: الآيات 58، 59، 63، 64، 71، 72.

يلقي النطفة في الرحم و ينثر البذور في الأرض و يغرس الأشجار و يجري الماء عليها، فأين هو من إفاضة الوجود على الإنسان و الزرع.. و الشجرة، مادة و صورة.

الثانية: إنّ في الكتاب الكريم نصوصا على حدوث الكون أرضا و سماء و ما بينهما و ما فيهما.

و الآيات في هذا الشأن كثيرة نشير إلى القليل منها.

قال سبحانه: أَنّٰى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صٰاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (1).

و قال سبحانه: اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ... (2). فصرّح في الآية الأولى بخلق كلّ شيء. و في الآية الثانية بخلق السماء و الأرض، و لكن صرّح في الآيتين التاليتين بخلق كلّ دابة و نفس الإنسان.

قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ (3).

و قال سبحانه: هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (4). إلى غير ذلك من الآيات.

حدوث الكون في الأحاديث

قال الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في خطبة له:

«الحمد للّه الدالّ على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على

ص: 77


1- سورة الأنعام: الآية 101.
2- سورة الطلاق: الآية 12.
3- سورة النور: الآية 45.
4- سورة الدهر: الآية 1.

أزليّته»(1).

و قال عليه السلام أيضا:

«الحمد للّه الواحد الأحد الصّمد المتفرد الذي لا من شيء كان، و لا من شيء خلق ما كان»(2).

و قال (عليه السلام): «لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، و لا من أوائل كانت قبله أبديّة، بل خلق ما خلقه و أتقن خلقه، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته»(3).

و قال (عليه السلام): «لا يجري عليه السّكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه»(4).

و قال الإمام الحسن بن علي (عليه السلام):

«خلق الخلق فكان بديئا بديعا، ابتدأ ما ابتدع، و ابتدع ما ابتدأ»(5).

إلى هنا تمّ البحث عن أدلة وجود الصّانع و براهينه اللامعة، فحان حين البحث عن أسمائه و صفاته و أفعاله بفضل منه تعالى.5.

ص: 78


1- نهج البلاغة، الخطبة 152.
2- التوحيد للصدوق، ص 41.
3- نهج البلاغة، الخطبة 163.
4- نهج البلاغة، الخطبة 186.
5- التوحيد للصّدوق، ص 46، الحديث 5.

الفصل الثّالث الأسماء و الصّفات

اشارة

ص: 79

ص: 80

أسماؤه و صفاته و أفعاله سبحانه

قد كان متوقعا أن يشكّل الإلهيون صفا واحدا في كل ما يرجع إلى المبدأ و أسمائه و صفاته و أفعاله، إلاّ أنهم اختلفوا فيما بينهم من أبسط المسائل إلى أعمقها. و يرجع أكثر ما يختلفون فيه إلى معرفة أسمائه و صفاته و أفعاله. و الاختلاف في هذه المسائل هو الحجر الأساس لظهور الديانات و المذاهب في المجتمع الإنساني العالمي.

فالثنوية، رغم إقرارهم بوجود الإله الخالق للعالم، يتشعبون إلى عشرات الفرق و الطوائف، و يكفي في ذلك أن نلاحظ الديار الهندية و الصينية التي تتواجد فيها الثنوية أكثر من أيّ مكان آخر.

و لا تقصر عنهم المسيحية، فقد انقسمت هذه الديانة إلى يعقوبية و نسطورية و ملكانية و غيرها من الطوائف.

و أما المسلمون، الذين يشكلون أمة كبيرة من الإلهيين في العالم فقد افترقوا إلى طوائف مختلفة أيضا. و جلّ اختلافهم ناش من اختلافهم في صفات المبدأ و أفعاله.

ص: 81

فها هم أصحاب الحديث من الحشويّة و الحنابلة لهم آراء خاصّة في صفات البارئ و أفعاله يقف عليها كل من نظر في كتب أهل الحديث، لا سيما كتاب «التوحيد» لابن خزيمة، و «السنة» لأحمد بن حنبل و غير ذلك.

و لا يقصر عنهم اختلاف المعتزلة، و هم أصحاب العدل و التوحيد، فقد تشتتوا إلى مذاهب متعددة. فمن واصلية إلى هزيلية، و من نظامية إلى خابطية. إلى غير ذلك من الفرق.

و أمّا الجبرية من المسلمين، فقد تشعبوا إلى جهمية و نجّارية و ضرارية حتى ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري، فجاء بمنهج معدّل بين أهل الحديث و المعتزلة و الجبرية، فعكف العلماء على دراسة عقائده و أفكاره، إلى أن صار مذهبا رسميا لأهل السنة.

فهذه الطوائف لم تختلف غالبا إلاّ في أسمائه و أفعاله و صفاته. و هذا الأمر يعطي لهذا الفصل من العقائد أهمية قصوى، فلا يمكن التهاون فيه و العبور عنه بسهولة و يسر.

الصفات الجماليّة و الجلاليّة الذاتيّة

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى قسمين: ثبوتية و سلبية، أو جمالية و جلالية.

فإذا كانت الصفة مثبتة لجمال في الموصوف و مشيرة إلى واقعية في ذاته سميت «ثبوتية ذاتيّة» أو «جمالية». و إذا كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص و حاجة عنه سبحانه سمت «سلبية» أو «جلالية».

فالعلم و القدرة و الحياة من الصفات الثبوتية المشيرة إلى وجود كمال

ص: 82

و واقعية في الذات الإلهية. و لكن نفي الجسمانية و التحيز و الحركة و التغير من الصفات السلبية الهادفة إلى سلب ما هو نقص عن ساحته سبحانه.

و قد أشار صدر المتألهين إلى أنّ هذين الاصطلاحين «الجمالية» و «الجلاليّة» قريبان مما ورد في الكتاب العزيز. قال سبحانه: تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (1) فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير، و صفة الإكرام ما تكرمت ذاته بها و تجملت(2). فيوصف بالكمال و ينزّه بالجلال.

إنّ علماء العقائد حصروا الصفات الجمالية في ثمانية و هي: العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الإرادة، التكلم، و الغنى. كما حصروا الصفات السلبية في سبع و هي أنّه تعالى ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و أنّه غير مرئي و لا متحيز و لا حال في غيره و لا يتّحد بشيء.

غير أنّ النظر الدقيق يقتضي عدم حصر الصفات في عدد معين، فإنّ الحق أن يقال إنّ الملاك في الصفات الجمالية و الجلالية هو أنّ كل وصف يعد كمالا، فاللّه متصف به. و كل أمر يعتبر نقصا و عجزا فهو منزّه عنه، و ليس علينا أن نحصر الكمالية و الجلالية في عدد معين.

و على ذلك يمكن إرجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد و الصفات السلبية إلى أمر واحد. و يؤيد ما ذكرناه أنّ الأسماء و الصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرات العدد الذي ذكره المتكلمون.

و قد وقع الاختلاف في بعض ما عدّ من الصفات الثّبوتية بأنها هل هي من الصفات الثبوتيّة الذاتية أو الثبوتية الفعلية. كالتكلم و الإرادة، حتى أنّ8.

ص: 83


1- سورة الرحمن: الآية 78.
2- الأسفار، ج 6، ص 118.

بعض ما عدّ من الصفات الذاتية في بعض المناهج، ليس من صفات الذات قطعا ككونه صادقا بل من صفات الفعل. و سيوافيك الفرق بينهما.

صفات الذات و صفات الفعل

قسم المتكلمون صفاته سبحانه إلى صفة الذات و صفة الفعل، و الأول ما يكفي في وصف الذات به، فرض نفس الذات فحسب، كالقدرة و الحياة و العلم.

و الثاني ما يتوقف توصيف الذات به على فرض الغير وراء الذات و هو فعله سبحانه.

فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل، بمعنى أنّ الذات توصف بهذه الصفات عند ملاحظتها مع الفعل، و ذلك كالخلق و الرزق و نظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل. و معنى انتزاعها، أنّا إذ نلاحظ النّعم التي يتنعم بها الناس، و ننسبها إلى اللّه سبحانه، نسميها رزقا رزقه اللّه سبحانه، فهو رزّاق. و مثل ذلك الرحمة و المغفرة فهما يطلقان عليه على الوجه الذي بيّناه.

و هناك تعريف آخر لتمييز صفات الذّات عن الفعل و هو أنّ كل ما يجري على الذات على نسق واحد (الإثبات دائما) فهو من صفات الذات.

و أمّا ما يجري على الذات على الوجهين، بالسلب تارة و بالإيجاب أخرى، فهو من صفات الأفعال.

و على ضوء هذا الفرق فالعلم و القدرة و الحياة لا تحمل عليه سبحانه إلا على وجه واحد و هو الإيجاب. و لكن الخلق و الرزق و المغفرة و الرحمة تحمل عليه بالإيجاب تارة و السلب أخرى. فتقول خلق هذا و لم يخلق ذلك، غفر للمستغفر و لم يغفر للمصرّ على الذنب.

ص: 84

و باختصار، إنّ صفات الذات لا يصحّ لصاحبها الاتصاف بأضدادها و لا خلوه منها. و لكن صفات الفعل يصح الاتصاف بأضدادها.

ثم إنّ الصفات الفعلية حيثيات وجودية نابعة من وصف واحد و هي القيومية، فإنّ الخلق و الرزق و الهداية كلها حيثيات وجودية قائمة به سبحانه مفاضة من عنده بما هو قيوم.

تقسيم آخر

و للصفات تقسيم آخر و هو تقسيمها إلى النفسية و الإضافية. و المراد من الأولى ما تتصف به الذات من دون أن يلاحظ فيها الانتساب إلى الخارج و لا الإضافة إليه، كالحياة. و يقابلها الصفات الإضافية، و هي ما كان لها إضافة إلى الخارج عن الذات، كالعلم بالمعلوم و القدرة على المقدور.

و على هذا الملاك، فكل من النفسية و الإضافية تجريان على الذات و تحكيان عن واقعية فيه.

و ربما تفسّر الإضافيّة بالخالقيّة و الرازقيّة و العلّيّة(1). و الأولى تسميتها بالانتزاعية لا بالإضافية، و تخصيص الإضافية بما يقابل النفسيّة.

الصفات الخبرية

إنّ هناك اصطلاحا آخر يختص بأهل الحديث في تقسيم صفاته سبحانه فهم يقسمونها إلى ذاتية و خبرية. و المراد من الأولى هو الصفات الكمالية و من الثانية ما وصف سبحانه به نفسه في الكتاب العزيز من العلو، و كونه ذا وجه، و يدين، و أعين، إلى غير ذلك من الألفاظ الواردة في القرآن التي لو

ص: 85


1- الأسفار، ج 6، ص 118.

أجريت على اللّه سبحانه بمعانيها المتبادرة عند العرف لزم التجسيم و التشبيه.

هذه هي التقسيمات الرائجة في صفاته سبحانه.

الابتعاد عن التشبيه و المقايسة أساس معرفة صفاته سبحانه

اعتاد الإنسان الساكن بين جدران الزمان و المكان أن يتعرف على الأشياء مقيّدة بالزمان و المكان، موصوفة بالتحيز و التجسم، متسمة بالكيف و الكم، إلى غير ذلك من لوازم المادة و مواصفات الجسمانية.

إنّ مزاولة الإنسان للحس و المحسوس مدى حياته و انكبابه على المادة و إخلاده إلى الأرض، عوّده على تمثيل كل ما يتعلقه، بصورة الأمر الحسي حتى فيما لا طريق للحس و الخيال إلى حقيقته كالكليات و الحقائق المنزهة عن المادة. و يؤيّده في ذلك أنّ الإنسان إنّما يصل إلى المعقولات و الكليات من طريق الإحساس و التخيل فهو أنيس الحسّ و أليف الخيال(1).

و كأنّ البشر جبلوا على المعرفة على أساس المقايسة و التشبيه فلا يمكنهم أن يجرّدوا أنفسهم من ذلك إلاّ بالرياضة و التمرين. فقد قضت العادة الملازمة للإنسان أعني أنسه بالمادة، و اعتياده على معرفة كل شيء في الإطار المادي، أن يصوّر لربّه صورا خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادّية الحسية. و قلّ أن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزّة و الكبرياء، و نفسه خالية عن هذه المحاكاة.

ص: 86


1- الميزان، ج 10، ص 273.

بين التشبيه و التعطيل

على ذلك الأساس افترق الإلهيون إلى مشبهة تشبه ربّها بإنسان له لحم، و دم، و شعر، و عظم، و له جوارح و أعضاء حقيقيّة من يد، و رجل، و رأس، و عينين، مصمت، له وفرة سوداء، و شعر قطط. يجوز عليه الانتقال و المصافحة(1).

فهؤلاء تورّطوا في مغبة التجسيم و مهلكة التشبيه. و إنكار بارئ بهذه الأوصاف المادية المنكرة أولى من إثباته ربا للعالم، لأن الاعتقاد بالباري على هذه الصفات يجعل الألوهيّة و الدعوة إليها أمرا منكرا تتنفر منه العقول و الأفكار المنيرة.

فإذا كانت تلك الطائفة متهورة في تشبيهها و مفرطة في تجسيمها، فإنّا نجد في مقابلها طائفة أخرى أرادت التحرز عن وصمة التشبيه و عار التجسيم فوقعت في إسارة التعطيل، فحكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه و معرفة صفاته و أفعاله، قائلة بأنه ليس لأحد الحكم على المبدأ الأعلى بشيء من الأحكام، و ليس إلى معرفته من سبيل إلاّ بقراءة ما ورد في الكتاب و السنة، فقالت: إنّ النجاة كل النجاة في الاعتراف بكل ما ورد في الشرع الشريف من دون بحث و نقاش و من دون جدل و تفتيش. فهذا «مالك» عند ما سئل عن معنى قوله سبحانه: ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ ، قال:

الاستواء معلوم، و الكيف مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة(2).

و قد نقل عن سفيان بن عيينة أنّه قال: «كل ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه»(3).

ص: 87


1- الملل و النحل، ج 1، ص 104.
2- الملل و النحل، ج 1، ص 93.
3- الرسائل الكبرى لابن تيمية، ج 1، ص 32.

و لكن هناك طائفة ثالثة ترى أنّ من الممكن التعرف على صفاته سبحانه من طريق التدبر و ترتيب الأقيسة المنطقية و تنظيم الحجج العقلية على ضوء ما أفاض اللّه سبحانه على عباده من نعمة العقل و الفكر، بشرط أن يكون الباحث محايدا، منحازا عن أيّ رأي مسبق، و أن يكون في بحثه و نقاشه مخلصا للحق غير مبتغ إلاّ إياه.

و حجتهم في ذلك أنّ اللّه سبحانه ما نص على أسمائه و صفاته في كتابه و سنة نبيه إلاّ لكي يتدبر فيها الإنسان بعقله و فكره في حدود الممكن و المستطاع مجتنبا إفراط المشبهة و تفريط المعطلة. فهذا أمر يدعو إليه العقل و الكتاب العزيز و السنّة الصحيحة.

و هناك كلمة قيمة للإمام علي (عليه السلام) تدعو إلى ذلك الطريق الوسط، قال (عليه السلام): «لم يطلع العقول على تحديد صفته، و لم يحجبها عن واجب معرفته»(1). و العبارة تهدف إلى أنّ العقول و إن كانت غير مأذونة في تحديد الصفات الإلهية لكنها غير محجوبة عن التعرف حسب ما يمكن، كيف و قد قال سبحانه: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (2). و العبادة الصحيحة و الكاملة لا تتيسّر إلاّ بعد أن تتحقق المعرفة المستطاعة بالمعبود.

و يكفي في تعيّن هذا الطريق ما ورد في أوائل سورة الحديد من الآيات الستّ و نذكرها تبركا و هي قوله سبحانه: سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظّٰاهِرُ وَ اَلْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ6.

ص: 88


1- نهج البلاغة، الخطبة 29.
2- سورة الذاريات: الآية 56.

عَلِيمٌ * هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ * يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ (1) .

و هل يظن عاقل أنّ الآيات الواردة في آخر سورة الحشر إنما أنزلها اللّه تعالى لمجرد القراءة و التلاوة، و هي قوله سبحانه: هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ هُوَ اَلرَّحْمٰنُ اَلرَّحِيمُ * هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ ، اَلْقُدُّوسُ ، اَلسَّلاٰمُ ، اَلْمُؤْمِنُ ، اَلْمُهَيْمِنُ ، اَلْعَزِيزُ، اَلْجَبّٰارُ، اَلْمُتَكَبِّرُ، سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ * هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ ، اَلْمُصَوِّرُ، لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ ، يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2). و مع ذلك فما معنى التدبر في الآيات القرآنية ؟.

و بذلك تقف على مدى وهن ما أثر عن بعض علماء السلف حيث يقول: «إنما أعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية فمن شغل ما أعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية و لم يدرك الرّبوبية»(3).

إنّ إقامة العبودية الكاملة رهن معرفة المعبود بما في إمكان العبد. و إلاّ فإنّ العالم بجميع ذراته يسبّح اللّه سبحانه و يحمده و يقيم العبودية له بما أعطي من الشعور و الإدراك المناسب لوجوده، قال سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (4). فلو كانت وظيفة الإنسان4.

ص: 89


1- سورة الحديد: الآيات 1-6.
2- سورة الحشر: الآيات 22-24.
3- الحجة في بيان المحجة، كما في «علاقة الاثبات و التفويض»، ص 33.
4- سورة الأسراء: الآية 44.

إقامة العبودية مجردا عن المعرفة التفصيلية للمعبود، تكون عبوديته أشبه بعبودية سائر الموجودات بل أنزل منها بكثير، إذ في وسع الإنسان معرفة معبوده تفصيلا بمقدار ما أعطي من المقدرة الفكرية التي لم يعطها غيره.

فإن أريد من إدراك الربوبية إدراك كنه الذات فهو أمر محال، و لم يدّعه أحد. و إن أريد معرفة أسمائه و صفاته و أفعاله حسب المقدرة الإنسانية في ضوء الأقيسة المنطقية و الكتاب و السنّة الصحيحة القطعية فهذه وظيفة العقل.

و جميعنا نرى أنّه سبحانه يذم المشركين الذين لم يعرفوه حق معرفته - بما في وسع الإنسان - إذ يقول سبحانه: مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (1).

و باختصار: لو كان الهدف هو معرفة كنه الذات الإلهية و حقيقة الصفات و الأسماء، كان ترك البحث متّجها، و أمّا إذا كان المقصود هو التعرف على ما هناك من الجمال و الكمال و نفي ما ربما يتصور في الذّات الإلهية من النقص و العجز، فلا شك أنّ للعقل أن يطرق هذا المجال، و في مقدوره أن يصل إليه.

***

الطرق الصحيحة إلى معرفة اللّه

اشارة

إنّ ذاته سبحانه و أسماءه و صفاته و أفعاله، و إن كانت غير مسانخة لمدركات العالم المحسوس، لكنها ليست على نحو يستحيل التعرف عليها بوجه من الوجوه. و من هنا نجد أنّ الحكماء و المتكلمين يسلكون طرقا مختلفة للتعرف على ملامح العالم الرّبوبي، و هم يرون أنّ ذلك العالم ليس على وجه لا يقع في أفق الإدراك مطلقا، بل هناك نوافذ على الغيب عقلية و نقلية، يرى منها ذلك العالم الفسيح العظيم.

ص: 90


1- سورة الحج: الآية 74.

و ها نحن نشير إلى هذه الطرق:

الأول - الطريق العقلي

إذا ثبت كونه سبحانه غنيا غير محتاج إلى شيء، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يكون مبدأ لإثبات كثير من الصفات الجلالية، فإنّ كل وصف استلزم خللا في غناه و نقضا له، انتفى عنه و لزم سلبه عن ذاته.

و قد سلك الفيلسوف الإسلامي نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية حيث قال: «و وجوب الوجود يدل على سرمديّته، و نفي الزائد، و الشريك، و المثل، و التركيب بمعانيه، و الضّدّ، و التّحيّز، و الحلول، و الاتحاد، و الجهة، و حلول الحوادث فيه، و الحاجة، و الألم مطلقا و اللذة المزاجية، و المعاني و الاحوال و الصفات الزائدة و الرؤية».

بل انطلق المحقق من نفس هذه القاعدة لإثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال: «و وجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، و الملك، و التّمام، و الحقيّة، و الخيريّة، و الحكمة، و التجبر، و القهر، و القيوميّة»(1).

و قد سبقه إلى ذلك مؤلّف الياقوت إذ قال: «و هو (وجوب الوجود) ينفي جملة من الصفات عن الذات الإلهية و أنّه ليس بجسم، و لا جوهر، و لا عرض، و لا حالاّ في شيء، و لا تقوم الحوادث به و إلا لكان حادثا»(2).

و على ذلك يمكن الإذعان بما في العالم الرّبوبي من الكمال و الجمال.

ص: 91


1- تجريد الاعتقاد، باب إثبات الصانع و صفاته، ص 178-185.
2- أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 76، و 80 و 81 و 99.

بثبوت أصل واحد و هو كونه سبحانه موجودا غنيا واجب الوجود، لأجل بطلان التسلسل الذي عرفته. و ليس إثبات غناه و وجوب وجوده أمرا مشكلا على النفوس.

و من هذا تنفتح نوافذ على الغيب و التعرف على صفاته الثبوتية و السلبية، و ستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.

الثاني: المطالعة في الآفاق و الأنفس

من الطرق و الأصول التي يمكن التّعرف بها على صفات اللّه، مطالعة الكون المحيط بنا، و ما فيه من بديع النظام، فإنه يكشف عن علم واسع و قدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيات الكامنة فيه، و كلّ القوانين التي تسود الكائنات. فمن خلال هذه القاعدة و عبر هذا الطريق أي مطالعة الكون، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الجمالية.

و بهذا يتبين أنّ ذات اللّه سبحانه و صفاته - بحكم أنها ليس كمثلها شيء ليست محجوبة عن التعرّف المطلق و غير واقعة في أفق التعقل، حتى نعطل العقول و نقول: «إنما أعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية». و قد أمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق. يقول سبحانه: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ (1). و قال سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ (2). و قال سبحانه: إِنَّ فِي اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (3).

ص: 92


1- سورة يونس: الآية 101.
2- سورة آل عمران: الآية 190.
3- سورة يونس: الآية 6.

و قد سلك هذا الطريق المحقق الطوسي في إثبات صفة العلم و القدرة حيث قال: «و الإحكام و التجرّد و استناد كلّ شيء إليه دليل العلم(1).

الثالث: الرجوع إلى الكتاب و السنّة الصحيحة

و هناك أصل ثالث يعتمد عليه أتباع الشّرع، و هو التعرف على أسمائه و صفاته و أفعاله بما ورد في الكتب السماوية و أقوال الأنبياء و كلماتهم، و ذلك بعد ما ثبت وجوده سبحانه و قسم من صفاته، و وقفنا على أنّ الأنبياء مبعوثون من جانب اللّه و صادقون في أقوالهم و كلماتهم.

و باختصار، بفضل الوحي - الذي لا خطأ فيه و لا زلل - نقف على ما في المبدإ الأعلى من نعوت و شئون. فمن ذلك قوله سبحانه: هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ، اَلْمَلِكُ ، اَلْقُدُّوسُ ، اَلسَّلاٰمُ ، اَلْمُؤْمِنُ ، اَلْمُهَيْمِنُ ، اَلْعَزِيزُ، اَلْجَبّٰارُ، اَلْمُتَكَبِّرُ، سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ * هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ ، اَلْبٰارِئُ ، اَلْمُصَوِّرُ، لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ ، يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2). و سيوافيك أنّ اسماءه في القرآن مائة و ثمانية و عشرون اسما.

الرابع: الكشف و الشّهود

و هناك ثلّة قليلة يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار، فيرون جماله و جلاله و صفاته و أفعاله بإدراك قلبي، يدرك لأصحابه و لا يوصف لغيرهم.

و الفتوحات الباطنيّة من المكاشفات و المشاهدات الروحيّة و الإلقاءات

ص: 93


1- تجريد الاعتقاد، ص 172، طبعة مطبعة العرفان - صيدا.
2- سورة الحشر: الآيتان 23 و 24.

في الروع غير مسدودة، بنص الكتاب العزيز. قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً (1). أي يجعل في قلوبكم نورا تفرّقون به بين الحقّ و الباطل و تميّزون به بين الصحيح و الزائف لا بالبرهنة و الاستدلال بل بالشهود و المكاشفة.

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2).

و المراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته، في معاشه و معاده، في دينه و دنياه(3).

و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا (4)، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ المؤمن يصل إلى معارف و حقائق في ضوء المجاهدة و التّقوى، إلى أن يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية، قال سبحانه: كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ (5).

نعم ليس كلّ من رمى أصاب الغرض، و ليست الحقائق رمية للنّبال، و إنما يصل إليها الأمثل فالأمثل، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية و الفتوحات الباطنية إلاّ النذر القليل ممن خلص روحه6.

ص: 94


1- سورة الأنفال: الآية 29.
2- سورة الحديد: الآية 28.
3- أما في الدنيا فهو النور الذي أشار إليه سبحانه بقوله: أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّٰاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا (سورة الأنعام: الآية 122). و أما في الآخرة فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله: يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ (سورة الحديد: الآية 12).
4- سورة العنكبوت: الآية 69.
5- سورة التكاثر: الآية 5-6.

و صفى قلبه.

و قد بان بهذا البحث الضافي، أنه ليس لمسلم التوقف عن محاولة التعرف على صفات اللّه و أسمائه بحجّة أنّه لا مسانخة بين البشر و خالقهم.

نعم، نحن لا ندّعي أنّ بعض هذه الطرق ميسورة السلوك للعامة جميعا، بل منها ما هو عام متاح لكلّ إنسان يريد معرفة ربه، و منها ما هو خاص يستفيد منه من بلغ مبلغا خاصا من العلم و المعرفة(1).

***

الإعراض عن البحث عما وراء الطبيعة، لما ذا؟

اشارة

هناك طوائف تمنع من البحث عما وراء هذا العالم المشهود و تعدّ حدود المادّة أقصى ما تصل إليه المعرفة البشرية و تسلب كلّ قيمة من العلم المتعلق بما وراء الطبيعة. و العجب أن بعض هذه الطوائف من الإلهيّين الذين يعتقدون بوجود الإله، و لكن لا يبيحون البحث عما وراء الطبيعة على الإطلاق و يكتفون في ذلك بالإيمان بلا معرفة.

و إليك هذه الطوائف:

الطائفة الأولى: المادّيون.

و هم الذين يعتقدون بأصالة المادة و ينفون أيّ وجود وراء العالم الطبيعي، فالوجود عندهم مساو للمادة. و قد فرغنا عن إبطال هذه النظرية في الأبحاث السابقة التي دلتنا على حدوث المادة و نظامها و انتهائها إلى وجود قديم قائم بالذات.

ص: 95


1- راجع في الوقوف على مفتاح هذا الباب مفاهيم القرآن، الجزء الثالث، ص 244 إلى ص 259.
الطائفة الثانية: المفرّطون في أدوات المعرفة

و هؤلاء يعتقدون بما وراء الطبيعة، غير أنّهم يعتقدون بارتفاع قمم ذلك العالم و شموخها بحيث لا يمكن أن تبلغها العقول و تنالها الأفهام.

و هؤلاء يدعون أمرا و لا يأتون عليه بدليل، فإنّ عند العقل قضايا بديهية كما أنّ لديه قضايا نظرية منتهية إلى البديهية. و القضايا البديهية صادقة بالبداهة في حق المادة و غير المادة. و كما أنّ العقل يستنتج من إنهاء القضايا النظرية في الأمور الطبيعية إلى البديهية، نتائج كانت مجهولة، فهكذا عمله في القضايا الراجعة إلى ما وراء المادة. و ستقف على كيفية البرهنة على صفاته و أفعاله بهذا الطريق في ثنايا الكتاب.

الطائفة الثالثة: مدّعو الكشف و الشهود.

و هؤلاء يعتقدون أنّ الطريق الوحيد للتعرف على ما وراء الطبيعة هو تهذيب النفس و جعلها مستعدة لقبول الإفاضات من العالم الرّبوبي، و هذا في الجملة لا إشكال فيه، و لكن حصر الطريق بالكشف و الشهود ادعاء بلا دليل. فلا مانع من أن تكون أدوات المعرفة متعددة من الحسّ و العقل و الكشف.

الطائفة الرابعة: الحنابلة و بعض الأشاعرة

و هؤلاء يعتقدون بأنّ الطريق الوحيد للتعرف على العالم الربوبي هو إخبار السماء، فلا يجوز لنا الحكم بوحدة الذات الإلهية أو كثرتها، و بساطتها أو تركّبها، و جسمانيّتها أو تجرّدها، إلاّ بالأخبار و الأنباء الواردة من السماء. و قد عزب عن هؤلاء أنّ العقل عنصر سماوي موهوب من قبل اللّه تعالى للإنسان لاكتشاف الحقائق بشكل نسبي. قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1).

ص: 96

و هؤلاء يعتقدون بأنّ الطريق الوحيد للتعرف على العالم الربوبي هو إخبار السماء، فلا يجوز لنا الحكم بوحدة الذات الإلهية أو كثرتها، و بساطتها أو تركّبها، و جسمانيّتها أو تجرّدها، إلاّ بالأخبار و الأنباء الواردة من السماء. و قد عزب عن هؤلاء أنّ العقل عنصر سماوي موهوب من قبل اللّه تعالى للإنسان لاكتشاف الحقائق بشكل نسبي. قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1).

و أوضح دليل على قدرة العقل على البحث و دراسة الحقائق السّفليّة و العلويّة حث الوحي على التّعقّل سبعة و أربعين مرة، و التّفكّر ثمانية عشر مرة، و التّدبّر أربع مرات في الكتاب العزيز.

و تخصيص هذه الآيات بما وقع في أفق الحس تخصيص بلا دليل.

ثم لو كان الخوض في البحث عما وراء المادة أمرا محظورا، فلم خاض القرآن في هذه المباحث، و دعى جميع الإلهيين إلى سلوك هذا الطريق الذي سار عليه. قال سبحانه: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ (2). و قال سبحانه: مَا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ (3). ترى في هاتين الآيتين أدقّ البراهين على التوحيد في التدبير بما لا يتصوّر فوقه، و سيوافيك تفسير الآيتين عند البحث عن وصف التوحيد.

إنّ الكتاب الكريم يذمّ المشركين بأنّهم يعتقدون بما لا برهان لهم عليه، و من خلال ذلك يرسم الطريق الصحيح للالهيين و هو أنه يجب عليهم تحصيل البرهان على كل ما يعتقدونه في المبدأ و المعاد. قال سبحانه:

أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ هٰذٰا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (4) .4.

ص: 97


1- سورة النحل: الآية 78.
2- سورة الأنبياء: الآية 22.
3- سورة المؤمنون: الآية 91.
4- سورة الأنبياء: الآية 24.

و لو كان عمل السلف في هذا المجال حجة، فهذا الإمام علي بن أبي طالب قد خاض في الإلهيات في خطبه و رسائله و كلمه القصار بما ليس في وسع أحد غيره.

و لأجل ذلك ترجع إليه كثير من المدارس الفكرية العقلية في الإلهيات، و عنه أخذت المعتزلة العدل و التوحيد، و الإمامية أصولها و عقائدها.

فلا ندري لما ذا تحتج سلفية العصر الحاضر و الماضي بعمل أهل الحديث من الحنابلة و الأشاعرة، و لا تحتج بفعل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ربيب أحضان النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم) و تلميذه الأول خليفة المسلمين أجمعين.

قال العلامة الطباطبائي (رحمه اللّه): «إنّ للناس مسالك مختلفة في هذا المجال، فهناك من يرى البحث عن الحقائق الدينية و التّطلّع إلى ما وراء ظواهر الكتاب و السنّة بدعة، و العقل يخطّئهم في ذلك، و الكتاب و السنة لا يصدّقانهم.

فآيات الكتاب تحرّض كلّ التحريض على التدبر في آيات اللّه و بذل الجهد في تكميل معرفته و معرفة آياته بالتذكر و التفكر و النظر فيها و الاحتجاج بالحجج العقلية، و متفرقات السنّة المتواترة معنى توافقها. و هؤلاء هم الذين يحرّمون البحث عن حقائق الكتاب و السنة، حتى البحث الكلاميّ الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية ثم الدفاع عنها بما تيسّر من المقدمات المشهورة و المسلّمة عند أهل الدين»(1).3.

ص: 98


1- الميزان، ج 8، ص 153.

عودة نظرية أهل الحديث في ثوب جديد

لقد عادت نظرية أهل الحديث في العصر الحاضر بشكل جديد و هو أنّ التحقيق في المسائل الإلهية لا يمكن إلا من خلال مطالعة الطبيعة. قال محمد فريد وجدي: «بما أنّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسّية و العلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم فنجعلها عمدتنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الاعتماد عليهما، لأنها اللذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصّة من العهد الروحاني»(1).

و قال السيد أبو الحسن النّدوي: «قد كان الأنبياء (عليهم السلام) أخبروا الناس عن ذات اللّه و صفاته و أفعاله، و عن بداية هذا العالم و مصيره و ما يهجم على الإنسان بعد موته و آتاهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفوا بلا تعب، و كفوهم مئونة البحث و الفحص في علوم ليس عندهم مباديها و لا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول، لأنّ هذه العلوم وراء الحس و الطبيعة، لا تعمل فيها حواسهم، و لا يؤدي إليها نظرهم و ليست عندهم معلوماتها الأولية... إلى أن قال... الذين خاضوا في الإلهيات من غير بصيرة و على غير هدى جاءوا في هذا العلم بآراء فجّة و معلومات ناقصة و خواطر سانحة و نظريات مستعجلة، فضلّوا و أضلّوا»(2).

أقول: لا شك أنّ القرآن يدعو إلى مطالعة الطبيعة، كما مر. إلاّ أنّ الكلام هو في مدى كفاية النظر في الطبيعة و دراستها في البرهنة على المسائل التي طرحها القرآن الكريم مثل قوله سبحانه:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ (3) .

ص: 99


1- على أطلال المذهب المادي، ج 1، ص 16.
2- ما ذا خسر العالم، ص 97.
3- سورة الشورى: الآية 11.

وَ لِلّٰهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ (1) .

لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (2) .

فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (3) .

هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ، وَ اَلظّٰاهِرُ وَ اَلْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (4) .

وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ (5) .

إلى غير ذلك من المباحث و المعارف التي لا تنفع دراسة الطبيعة و مطالعة العالم المادّي في فكّ رموزها و الوقوف على حقيقتها، بل تحتاج إلى مبادي و مقدمات عقلية و أسس منطقية.

إنّ مطالعة العالم الطبيعي تهدينا إلى أنّ للكون صانعا عالما قادرا، و لا تهدينا إلى أنّه سبحانه عالم بكل شيء و قادر على كل شيء، و انه خالق كل شيء، و مدبر كل شيء.

فإذا أردنا أن نحدد مدى المعرفة الحاصلة من النظر في الطبيعة، فلنا أن نقول: إنّ الإمعان في الطبيعة يوصلنا إلى حدود ما وراء الطبيعة، و يوقفنا على أنّ الطبيعة تخضع لقوة قاهرة و تدبير مدبّر عالم قادر، و لكن لا يمكن للإنسان التّخطّي عن ذلك إلى المسائل التي يطرحها القرآن أو العقل، و للمثال نقول:

أولا: إذا كان ما وراء الطبيعة مصدرا للطبيعة فما هو المصدر لما وراءها نفسها؟4.

ص: 100


1- سورة النحل: الآية 60.
2- سورة طه: الآية 8 سورة الحشر: الآية 22.
3- سورة البقرة: الآية 115.
4- سورة الحديد: الآية 3.
5- سورة الحديد: الآية 4.

ثانيا: هل ذلك المصدر أزليّ أو حادث، واحد أو كثير، بسيط أو مركّب، جامع لجميع صفات الجمال و الكمال أو لا؟ ثالثا: هل لعلمه حدّ ينتهي إليه أو لا؟ رابعا: هل لقدرته نهاية تقف عندها أو لا؟ خامسا: هل هو أوّل الأشياء و آخرها أو لا؟ سادسا: هل هو ظاهر الأشياء و باطنها؟ إنّ هذه المعارف يطرحها القرآن الكريم و يأمر بالتدبّر فيها و يقول:

أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا (1) .

و الإمعان في الطبيعة لا يفيد في الإجابة عن هذه التساؤلات، و الوقوف على المعارف المطروحة في القرآن.

و عندئذ لا مناص عن سلوك أحد الطريقين: إمّا أن يصار إلى التعطيل و تحريم البحث حول هذه المعارف. و إمّا الإذعان بوجود طريق عقليّ يوصلنا إلى تحليل هذه المعارف و يساعدنا على الوقوف عليها.

إنّ الذين يحرّمون الخوض في هذه المباحث يعتمدون على أنّ التعرّف على حقيقة الذات و كنه صفاتها أمر محال، و لكن ليس كلّ بحث كلامي ينتهي إلى ذلك الحد و يحاول البحث عن حقيقة الذات الإلهية كما أوضحناه.

إنّ العلوم الطبيعية قد خدمت مسلك الإلهيين و عزّزت موقفهم، حيث أثبتت أنّ الكون نظام كله، إلاّ أنها قاصرة عن حل كل المشاكل المطروحة في مجال العقائد.4.

ص: 101


1- سورة محمد: الآية 24.

نعم، إنّ التعمّق في هذه الأبحاث ليس متاحا لكل أحد، و ليس ميسّرا لكل قاصد، فهي من قبيل السهل الممتنع، و ذلك لأنّ الإنسان بسبب أنسه بالأمور الحسّية يصعب عليه تحرير فكره عن كل ما تفرضه عليه ظروفه حتى يتهيّأ للتفكر فيما وراء الطبيعة بفكر متحرر من أغلال الماديّة.

و هناك وجه آخر لمحدودية الإنسان عن درك عميق المعارف الإلهية و هو أنّ أدوات الإنسان للتعبير محدودة بألفاظ و كلمات لم توضع إلاّ لبيان المعاني الحسية المحدودة فلأجل ذلك لا مناص له عن التعبير عن الحقائق الكونية العليا المطلقة عن الزمان و المكان بتلك الألفاظ الضّيّقة، و إلى ذلك يشير بعض العرفاء بقوله:

ألا إنّ ثوبا خيط من نسج تسعة *** و عشرين حرفا عن معانيه قاصر

و الشيخ الرئيس ابن سينا يوصي بأن لا تطرح المسائل الالهية العويصة إلاّ على أهلها و يقول في إشاراته في خاتمة الكتاب: «أيّها الأخ إنّي قد مخضت في هذه الإشارات عن زبدة الحق و ألقمتك قفّي الحكم في لطائف، فضنّه عن الجاهلين و المبتذلين و من لم يرزق الفطنة الوقادة، و الدّربة و العادة، و كان صفاه مع الغاغة، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة و من همجهم. فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته، و بتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس، و بنظره إلى الحق بعين الرضا و الصدق، فاعطه ما يسألك منه مدرّجا مجزّأ مفرّقا تستفرس مما تسلفه لما تستقبله، و عاهده باللّه و بأيمان لا مخارج لها ليجري في ما يأتيه مجراك، متأسّيا بك، إن أذعت هذا العلم أو أضعته فاللّه بيني و بينك و كفى باللّه وكيلا»(1).

و لسنا هنا مدعين أنّ هذه المباحث مباحث عامة يجوز لكل أحد9.

ص: 102


1- الإشارات، ج 3، ص 219.

ارتيادها لدقة مسالكها، و كثرة مزالقها. بل خاصة بجماعة أوتوا مقدرة فكرية فائقة.

فلأجل ذلك نطرح المعارف الإلهية في ضوء العقل و الوحي مستمدين من اللّه سبحانه أن يرينا الحقّ و يحفظنا عن ركوب الباطل، إنّه عزيز حكيم.

ص: 103

ص: 104

الباب الأول الصفات الثبوتية الذاتية

اشارة

ص: 105

ص: 106

الصفات الثبوتية الذاتية

(1) العلم
اشارة

أجمع الإلهيون على أنّ العلم من صفات اللّه الذاتيّة الكماليّة، و أنّ العالم من أسمائه العليا، و هذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله. و لتبيين الحال نمهّد بمقدمة:

ما هو العلم ؟

عرّف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن، أو أنه انعكاس الخارج على الذهن عند اتصال الإنسان بالخارج. و قد أخذ الحكماء هذا التعريف من العلوم الرائجة عند الإنسان.

و لكن التّعريف ناقص لعدم شموله لبعض أقسام العلم. فإنّ العلم ينقسم إلى حصولي و حضوري، و التعريف المذكور يناسب الأول دون الثاني. و إليك توضيح القسمين:

إنّ الإنسان عند ما يطلّ بنظره إلى الخارج و يلاحظ ما يحيط به في الكون من شجر و حجر، و شمس و قمر، يصبح مدركا و الشّيء الخارجي مدركا و لكن بتوسط صورة بين المدرك و المدرك تنتزع تلك الصورة من

ص: 107

الخارج بأدوات المعرفة ثم تنتقل إلى مراكز الإدراك. فالشجر هو المعلوم بالعرض، و الصورة هي المعلوم بالذّات، و الإنسان هو العالم و إنما أسمينا الشيء الخارجي معلوما بالعرض و الصورة معلوما بالذّات، لأن الخارج معلوم لنا بواسطة هذه الصورة و لولاها لانقطعت صلة الإنسان بالواقع.

و بعبارة أخرى: إنّ الواقعية الخارجية ليست حاضرة عندنا بهذه السّمة. لأن الشيء الخارجي له أثره الخارجي، من الحرارة في النار، و الرطوبة في الماء، و الثقل في الحجر و الحديد. و معلوم أنّ الشيء الخارجي لا يرد إلى أذهاننا بهذه الصفات. و لأجل ذلك أصبح الشيء الخارجي معلوما بالعرض، و الصورة معلومة بالذّات لمزاولة الإنسان دائما للصور الذهنيّة.

و بذلك تقف على تعريف العلم الحصولي و هو: ما لا تكون فيه الواقعيّة الخارجيّة معلومة بنفسها، بل بتوسط صورة مطابقة لها. و الأدوات الحسّية كلّها موظّفة في خدمة هذا العلم. فهو يعتمد على ثلاثة ركائز:

المدرك، الخارج، الصورة. و لا تظنّن هذا اعترافا بأصالة الصورة و فرعية الخارج، إذ لا شك أنّ الأمر على العكس، فالخارج هو الأصيل و الصورة هي المنتزعة منه و الحاكية عنه، غير أنّ الذي يمارسه الذهن و يزاوله هو الصورة الموجودة عنده لا نفس الخارج. و هذه الصورة الذهنية وسيلته الوحيدة لدرك الخارج و إحساسه.

إلى هنا وقفت على تعريف العلم الحصولي. و أما العلم الحضوري فهو عبارة عن حضور المدرك لدى المدرك من دون توسط أي شيء، و له قسمان:

1 - ما لا يتوسط فيه بين المدرك و المدرك شيء مع كون المدرك غير المدرك حقيقة. و هذا كالعلم بنفس الصورة المنتزعة من الخارج. و ذلك أنّ الخارج يدرك بواسطة الصورة، و أمّا الصورة نفسها فمعلومة بالذات و لا

ص: 108

يتوسط بينها و بين المدرك أي شيء. فعند اتصال الإنسان بالخارج عن طريق الصورة الذهنية يجتمع هناك علمان: حصوليّ باعتبار علمه بالخارج عن طريق الصورة، و حضوريّ باعتبار علمه بنفس الصورة و حضورها بواقعيتها عند المدرك.

و بذلك تقف على فرق جوهري بين العلمين و هو أنّ المعلوم في العلم الحصولي غير حاضر لدى المدرك بواقعيته كما عرفت، و في الحضوري يكون المعلوم حاضرا لديه بواقعيته و هذا كالصورة العلمية الذهنيّة فإنها بواقعيتها التي لا تخرج عن كونها موجودا ذهنيا، حاضرة لدى الإنسان.

و بذلك يظهر أنّ الحصوليّ ثلاثيّ الأطراف و الحضوريّ ثنائيّها في هذا القسم الأول منه.

2 - ما لا يتوسط فيه بين المدرك و المدرك أي شيء و لكنهما يتحدان بالذات و يختلفان باللحاظ و الاعتبار. و ذلك كعلم الإنسان و دركه لذاته، فإنّ واقعية كل إنسان حاضرة بذاتها لديه، و ليست ذاته غائبة عن نفسه، و هو يشاهد ذاته مشاهدة عقلية و يحس بها إحساسا وجدانيا و يراها حاضرة لديه من دون توسط شيء بين الإنسان المدرك و ذاته المدركة. و في هذه الحالة يصبح العلم أحاديّ الأطراف بدل ثنائيّها في الثاني و ثلاثيّها في الأول. فالإنسان في هذه الحالة هو العالم و هو المعلوم في آن واحد. و عندئذ يتّحد المدرك و المدرك و تصبح ذات الإنسان علما و انكشافا بالنسبة إلى ذاته. و من العلم الحضوري علم الإنسان بأحاسيسه من أفراحه و آلامه، فالكل حاضر لدى الذات بلا توسط صورة.

و بذلك تقف على ضعف الاستدلال على وجود الإنسان بتفكره، فيقال: «أنا أفكّر إذن أنا موجود»، فاستدلّ بوجود التّفكّر على وجود

ص: 109

المفكّر(1)، وجه الضعف:

أولا - إنّ علم الإنسان بوجود نفسه ضروري لا يحتاج إلى البرهنة، فليس تفكر الإنسان أوضح من علمه بذاته و نفسه.

ثانيا - إنّ المستدل اعترف بالنتيجة في مقدمة الاستدلال حيث قال:

«أنا» أفكر. فقد أخذ وجود نفسه أمرا مفروضا و مسلّما ثم حاول الاستدلال عليه.

تعريف جامع

على ضوء ما ذكرنا من تقسيم العلم إلى الحصولي و الحضوري يصح أن يقال إنّ العلم على وجه الإطلاق عبارة عن «حضور المعلوم لدى العالم»، و هذا التعريف يشمل العلم بكلا قسميه(2). غير أنّ الحاضر في الأول هو الصورة الذهنية دون الواقعية الخارجية و في الثاني نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينها و بين العالم. فالصورة الذهنية في العلم الحصولي حاضرة لدى الإنسان غير غائبة عنه. كما أنّ ذات الإنسان في العلم الحضوري حاضرة لديه، و هي فيه، بما أنها واقفة على نفسها، تسمى عالمة، و بما أنها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها، تعدّ معلوما، و بما أنّ هناك حضورا لا غيبوبة، يسمى ذلك الحضور علما.

و هذا التعريف جامع شامل كلّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن و الواجب. فإذا وقفت على هذه المقدمة يقع البحث في علمه سبحانه تارة بذاته و أخرى بفعله (الأشياء الخارجة عن ذاته).

ص: 110


1- المستدل هو الفيلسوف الفرنسي (ديكارت).
2- ليس الهدف من التعريف إلا الإشارة بوجه إلى حقيقة العلم من دون مراعاة شرط التعريف الحقيقي فلا يؤاخذ عليه بأنه مستلزم للدور لأخذ المعرّف في التعريف.
علمه سبحانه بذاته

إنّ علمه سبحانه بذاته ليس حصوليا بمعنى أخذه الصورة من الذات و مشاهدتها عن ذاك الطريق لامتناع هذا القسم من العلم عليه كما سيأتي، بل حضوري بمعنى حضور ذاته لذاته، و يدل على ذلك أمران:

الأول - إنّ مفيض الكمال لا يكون فاقده.

إنّه سبحانه خلق الإنسان العالم بذاته علما حضوريا، فمعطي هذا الكمال يجب أن يكون واجدا له على الوجه الأتمّ و الأكمل لأن فاقد الكمال لا يعطيه، فهو واجد له بأحسن ما يمكن. و نحن و إن لم نحط و لن نحيط بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته غير أنّا نرمز إلى هذا العلم ب «حضور ذاته لدى ذاته و علمه بها من دون وساطة شيء في البين».

و باختصار: لا يسوغ عند ذي فطرة عقلية أن يكون واهب الكمال و مفيضه، فاقدا له. و إلاّ كان الموهوب له أشرف من الواهب، و المستفيد أكرم من المفيد. و حيث ثبت استناد جميع الممكنات إليه و منها الذوات العالمة بأنفسها، وجب أن يكون الواجب واجدا لهذا الكمال أي عالما بذاته علما يكون نفس ذاته لا زائدا عليها(1).

الثاني - إنّ عوامل غيبوبة الذّات و اختفائها غير موجودة.

توضيحه: إنّ الموجود المادي بما أنّه موجود كمّي ذو أبعاض و أجزاء ليس لها وجود جمعي - إذ لا تجتمع أجزاؤه في مقام واحد - تغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنّه مادي أن يعلم بذاته، لمكان الغيبوبة المسيطرة على أجزاء ذاته.

فالغيبوبة مضادة لحضور الذات و تمنع تحقق علم الذات بالذات. فإذا

ص: 111


1- أنظر الأسفار، ج 6، ص 176. و سيوافيك عينيّة صفاته مع ذاته في الأبحاث الآتية.

كان الموجود منزّها من الغيبة و الجزئية و التبعّض و كان موجودا بسيطا جميعا دون أجزاء و أبعاض، كانت ذاته حاضرة لديها حضورا كاملا مطلقا. و بذلك نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا لكن لا بمعنى حضور أبعاض أجسامنا و أبداننا بل بمعنى حضور الواقعية الإنسانية المعبر عنها بلفظة «أنا» المنزهة عن الكمّ و البعض و التجزئة. فلو فرضنا موجودا على مستوى عال من التجرد و البساطة عاريا عن كل عوامل الغيبة التي هي من خصائص الكائن المادي، كانت ذاته حاضرة لديه. و هذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتم وجه لتنزهه عن المادية و التركّب و التفرّق كما سيوافيك برهان بساطته عند البحث عن الصفات السلبية.

و هناك دلائل أخر تركناها روما للاختصار. غير أنّ هناك جماعة ينفون علمه بذاته و إليك بيان مذهبهم:

العلم بالذّات يستلزم التغاير

استدلّ النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنّ العلم نسبة قائمة بين العالم و المعلوم و النسبة إنّما تكون بين الشيئين المتغايرين، و نسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير و لا اثنينيّة. و باختصار: الشيء الواحد أعني سبحانه تعالى، بما هو شيء واحد، لا تتصور فيه نسبة.

و قد أجاب عنه المحققون بما هذا حاصله: إنّ التعدّد و التغاير إنما هو في العلم الحصولي لأنه عبارة عن إضافة العالم إلى الخارج بالصورة الذهنيّة، ففيه الصورة المعلومة غير الهويّة الخارجية. و أمّا العلم الحضوري فلا يشترط فيه التغاير خارجا بل يكفي التعدد اعتبارا.

مثلا: إنّه سبحانه بما أنّ ذاته غير غائبة عن ذاته فهو عالم، و بما أنّ الذات حاضرة لديها فهي معلومة.

و بعبارة أخرى: إنّ إطلاق العلم و العالم و المعلوم لأجل حيثيات

ص: 112

و اعتبارات. فباعتبار انكشاف الذات للذات يسمى ذلك الانكشاف «علما»، و باعتبار كون الذات مكشوفة لدى الذات يطلق عليها «معلومة»، و باعتبار كونها واقفة على ذاتها تسمى «عالمة». و لو اعتبرت كيفية علم الإنسان بذاته، لربما يسهل عليك تصديق ذلك.

و إلى ما ذكرنا يعود قول المحققين إنّ المغايرة قد تكون بالذات و قد تكون بنوع من الاعتبار. و هنا، ذاته تعالى من حيث إنها عالمة مغايرة لها من حيث إنها معلومة، و ذلك كاف في تعلق العلم(1).

علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها
اشارة

إنّ علمه سبحانه بالأشياء على قسمين: علم قبل الإيجاد، و علم بعده. و الأول هو الذي نرتئيه و هو من أهم المسائل الكلاميّة، و إليك الدليل عليه:

1 - العلم بالسببيّة علم بالمسبّب

إنّ العلم بالسبب، بما هو سبب، علم بالمسبّب. و العلم بالعلّة، بما هي علّة، علم بوجود المعلول، و المراد من العلم بالعلّة، العلم بالحيثية التي صارت مبدأ لوجود المعلول و حدوثه. و لتوضيح هذه القاعدة نمثل بالأمثلة التالية.

أ - إنّ المنجم العارف بالقوانين الفلكية و المحاسبات الكونية يقف على أنّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك يتحقق في وقت أو وضع خاص.

و ليس علمه بهذه الطوارئ إلاّ من جهة علمه بالعلة من حيث هي علّة لكذا و كذا.

ص: 113


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 175. و شرح القوشجي، ص 313.

ب - إنّ الطبيب العارف بحالات النّبض و أنواعه و أحوال القلب و أوضاعه يقدر على التنبؤ بما سيصيب المريض في مستقبل أيامه. و ليس هذا العلم إلاّ من جهة علمه بالعلّة من حيث هي علّة.

ج - إنّ الصيدلي العارف بخصوصية السّم إذا شربه الإنسان يخبر عن أنّه سيقضي على حياة الشارب في مدة معينة، أيضا.

إذا عرفت هذه الأمثلة نقول: إنّ العالم بأجمعه معلول لوجوده سبحانه و ليس له علّة إلاّ ذاته سبحانه. فالعلم بالذات علم بالحيثية التي هي سبب لتحقق العالم و تكوّنه. و بعبارة أخرى: العلم بالذات - كما عرفت دلائله - علم بالحيثية التي صدر منها الكون بأجمعه، و العلم بتلك الحيثية يلازم العلم بالمعلول. و هذا البرهان مبني على مقدمات مسلمة عند الإلهيين نشير إلى خلاصتها:

الأولى - إنّ العالم بجميع أجزائه مستند إليه سبحانه و هو مقتضى التوحيد في الخالقية، و إنّه لا خالق إلاّ هو.

الثانية - علّيّة شيء لشيء عبارة عن كونه مشتملا على خصوصية تقتضي صدور المعلول عنه و توجب إيجابا قطعيا وجود المعلول في الخارج بحيث لو لا تلك الخصوصية لما تحقق المعلول. و لأجل ذلك تكون بين الخصوصية القائمة بالعلّة و وجود المعلول رابطة و صلة خاصة تقتضي وجود المعلول، و لو لا تلك الخصوصية لكانت نسبة المعلول إلى العلّة، و غيرها الفاقد لها، متساوية، مع أنه ضروري البطلان.

فالخصوصية الموجودة في النار الموجبة للحرارة غير الخصوصية الموجودة في الماء المقتضية للرطوبة.

الثالثة - إنّ فاعليته تعالى لما عداه، بنفس ذاته لا بخصوصية طارئة، وجهة زائدة عليها. فهو بنفس ذاته فاعل الكل، كما هو مقتضى بساطة ذاته

ص: 114

و غناه عن كل شيء (الخصوصية الزائدة) سواه. فالواجب تبارك و تعالى فاعل بذاته لا بحيثيّة منضمة إليها.

الرابعة - إنّ العلم بالجهة المقتضية للشيء، علم بذاك الشيء.

فيتحصل أنّ علمه تعالى بذاته، علم بتلك الخصوصية و الجهة.

و يترتب عليه لازمه، أعني علمه بالأشياء قضاء للملازمة.

و قد أشار إلى هذا البرهان أعاظم المتكلمين و الفلاسفة. قال صدر المتألهين: «إنّ ذاته سبحانه لما كانت علّة للأشياء - بحسب وجودها - و العلم بالعلة يستلزم العلم بمعلولها، فتعقّلها من هذه الجهة لا بدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحدا بعد واحد»(1).

و إلى ذلك يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله:

و عالم بغيره إذا استند *** إليه و هو ذاته لقد شهد

بالسّبب العلم بما هو السّبب *** علم بما مسبّب به وجب(2)

2 - الإحكام و الإتقان دليل علمه بالمصنوعات

إنّ لحاظ كل جهاز بسيط أو معقد (كقلم أو عقل الكتروني) يدلنا على أنّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين و العلاقات. كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلفيها و جامعيها بما فيها.

و بعبارة أخرى: إنّ وجود المعلول كما يدل على وجود العلة، فخصوصياته تدل على خصوصية في علته، فالعالم بما أنه مخلوق للّه سبحانه

ص: 115


1- الأسفار، ج 6، ص 275. و راجع في ذلك أيضا التجريد و شروحه.
2- شرح المنظومة، قسم الفلسفة، ص 164.

يدل ما فيه من بديع الخلق و دقيق التركيب على أنّ خالقه عالم بما خلق، عليم بما صنع. فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه.

و قد وقع هذا البرهان موضع عناية عند المتفكرين. فإنّ المصنوع يدلّ من جهة الترتيب الذي في أجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض، و من جهة موافقة جميعها للغرض المقصود من ذلك المصنوع، على أنّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات، بل حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية، فيجب أن يكون عالما به. و الإنسان إذا نظر إلى بيت و أدرك أنّ الأساس قد صنع من أجل الحائط و أنّ الحائط من أجل السقف، يتبين له أنّ البيت قد وجد عن عالم بصناعة البناء.

و الحاصل، أنّ المصنوع بما فيه من إتقان و دقة و نظام بديع و مقادير معينة و مضبوطة يحكي عن أنّ صانعه مطّلع على هذه القوانين و الرموز، عارف بما يتطلبه ذلك المصنوع من مقادير و أنظمة. و من هنا يشهد الكون ابتداء من الذرة الدقيقة و انتهاء إلى المجرة الهائلة، و من الخلية الصغيرة إلى أكبر نجم، بما يسوده من أنظمة و تخطيطات بالغة الدقة، على أنّ خالق الكون عالم بكل ما فيه من أسرار و قوانين و أن من المستحيل أن يكون جاهلا. و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله: أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (1).

و قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (2).

و قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «علم ما يمضي و ما مضى، مبتدع الخلائق بعلمه و منشؤها بحكمته»(3).1.

ص: 116


1- سورة الملك: الآية 14.
2- سورة ق: الآية 16.
3- نهج البلاغة، قسم الحكم، 191.

و قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): «سبحان من خلق الخلق بقدرته، أتقن ما خلق بحكمته و وضع كلّ شيء موضعه بعلمه»(1).

و إلى هذا الدليل أشار المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد بقوله:

«و الإحكام دليل العلم».

فإن قلت: قد يصدر من بعض الحيوانات أفعال متقنة في ترتيب مساكنها و معيشتها، كما في النحل و النمل و كثير من الوحوش و الطيور، مع أنها ليست من أولي العلم ؟ قلت: إنّ ما ذكرنا من أن الإتقان في الفعل يدل على علم الفاعل قضية عقلية غير قابلة للتخصيص، و أما هذه الحيوانات فإن عملها بإلهام من خالقها كما عليه النصوص القرآنية. قال سبحانه: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2).

و ما ربما يقال من تفسير هذه الأفعال العجيبة بغرائز الحيوانات، فلا ينافي ما ذكرنا. فإن الغرائز الصّمّاء لا تزيد عن كونها مادة عمياء لا تقدر على إيجاد شيء موزون إلاّ إذا كانت هناك قيادة عالية تسوقها إلى ما هو المطلوب منها. و للتفسير مجال آخر.

علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها
اشارة

قد تعرفت على براهين علمه بذاته و بأفعاله قبل الإيجاد، و حان وقت

ص: 117


1- بحار الأنوار ج 4، ص 65.
2- سورة النحل: الآيتان 68-69.

البحث عن علمه سبحانه بأفعاله بعد إيجادها و تكوينها فنكتفي في المقام بالبرهانين التاليين:

1 - علمه سبحانه فعله

إنّ الأشياء الخارجية تنتهي في مقام الوجود إلى اللّه سبحانه و يعدّ الكلّ معلولا له. و كلّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علته لا يغيب و لا يحجب عنها. و قد عرفت أنّ حقيقة العلم هو حضور المعلوم لدى العالم.

و بعبارة أخرى: إنّ كل موجود سواه ممكن، جوهرا كان أو عرضا، خارجيا كان أو ذهنيا. فالكل مصبوغ بصبغة الإمكان، و لا محيص للممكن عن الاستناد إليه. و ليس الاستناد إلاّ الحضور لديه و إحاطته سبحانه به(1).

توضيح هذا الدليل: إنّ كل ممكن معلول في تحققه للّه سبحانه، و ليس للمعلولية معنى سوى تعلق وجود المعلول بعلته و قيامه بها قياما واقعيا كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي. فكما أنّ المعنى الحرفي بكل شئونه قائم بالمعنى الاسمي فهكذا المعلول قائم بعلته. و كما أنّ انقطاع المعنى الحرفي عن الاسمي يقضي على وجوده، فهكذا انقطاع المعلول عن العلة ينتهي إلى انعدامه.

فإذا قلت: «سرت من البصرة»، فهناك معنى اسمي و هو السير و البصرة، و معنى حرفي و هو ابتداء السير من ذلك البلد. و لكن المعنى الثاني قائم بالطرفين و لولاهما لما كان له قوام. و مثله المعلول أي الوجود الإمكاني المفاض، قائم بالمفيض و ليس له واقعية سوى تعلقه بعلته. و إلاّ يلزم استقلاله و هو، مع فرض الإمكان، خلف. و ما هذا شأنه لا يكون خارجا عن وجود علته، إذ الخروج عن حيطته يلازم الاستقلال و هو لا يجتمع

ص: 118


1- كشف المراد، ص 175، بتصرف.

مع كونه ممكنا. فلازم الوقوع في حيطته و عدم الخروج عنها، كون الأشياء كلها حاضرة لدى ذاته. و الحضور هو العلم لما عرفت من أنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم.

و يترتب على ذلك أنّ العالم كما هو فعله، فكذلك علمه سبحانه.

و على سبيل التقريب لاحظ الصور الذهنية التي تخلقها النفس في مسرح الذهن، فهي فعل النفس و في نفس الوقت علمها، و لا تحتاج النفس في العلم بتلك الصور إلى صور ثانية، و كما أنّ النفس محيطة بتلك الصور و هي قائمة بفاعلها و خالقها فهكذا العالم دقيقه و جليله مخلوق للّه سبحانه قائم به، و هو محيط به.

2 - سعة وجوده دليل علمه

أثبتت البراهين القاطعة أنّ وجوده سبحانه منزّه عن الجسم و المادّة و الزمان و المكان. و هو فوق كل قيد زماني أو مكاني و ما كان هذا شأنه يكون وجوده غير محدود و لا متناه إذ المحدودية و التقيّد فرع كون الشيء سجين الزمان و المكان. فالموجود الزماني و المكاني لا يتجاوز إطار محيطه و أمّا المنزّه عن ذينك القيدين فلا يحدّه شيء و لا يحصره حاصر. و ما هذا حاله لا يغيب عنه شيء و لا يحيطه شيء بل هو يحيط كل شيء.

و على سبيل التقريب نقول إنّ الإنسان الجالس في الغرفة الناظر إلى خارجها من كوّة صغيرة لا يرى من القطار العابر إلاّ جزءا منه و هو بخلاف الواقف على السطح أو الناظر من أفق أعلى كالطائرة.

و على هذا الأصل فكلما كان الإنسان متجرّدا عن القيود تكون إحاطته بالأشياء أكثر و أكثر. و اللّه المنزه عن الزمان و المكان و كل حد و قيد لا يحيط به شيء من الأشياء الواقعة في إطار الزمان و المكان، بل هو المحيط بكل ما يجري على مسرح الوجود.

ص: 119

و قد أشار الإمام عليّ (عليه السلام) إلى بعض ما ذكرنا بقوله: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أيّن الأين فلا أين له، و جلّ أن يحويه مكان، و هو في كل مكان، بغير مماسّة، و لا مجاورة. يحيط علما بما فيها، و لا يخلو شيء منها من تدبيره».

و سنتلو عليك بعض الآيات الكريمات عند البحث عن علمه سبحانه بالجزئيات.

مراتب علمه سبحانه

قد تبين مما ذكرنا أنّ علمه سبحانه بالأشياء ذو مرتبتين:

الأولى: علمه بها قبل إيجادها في مرتبة الذات و قد عرفت برهانه.

الثانية: علمه بها بعد إيجادها خارج مرتبة الذات و قد عرفت برهانه.

هذا حسب ما ساقتنا إليه البراهين الفلسفية. غير أنّ الذكر الحكيم يذكر لعلمه سبحانه مظاهر عبّر عنها تارة:

باللوح المحفوظ، و أخرى بالكتاب المسطور، و ثالثة بالكتاب المبين، و رابعة بالكتاب المكنون، و خامسة بالكتاب الحفيظ، و سادسة بالكتاب المؤجّل، و سابعة بالكتاب، و ثامنة بالإمام المبين، و تاسعة بأم الكتاب. و عاشرة بلوح المحو و الإثبات.

فإلى اللوح المحفوظ أشار سبحانه بقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (1). و إلى الكتاب المسطور بقوله: وَ كِتٰابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (2). و إلى الكتاب المبين بقوله: وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ

ص: 120


1- سورة البروج: الآيتان 21 و 22.
2- سورة الطور: الآيتان 2 و 3.

فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (1) . و إلى الكتاب المكنون بقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ (2). و إلى الكتاب الحفيظ بقوله: قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ (3). و إلى الكتاب المؤجّل بقوله:

وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً (4) . و إلى الكتاب بقوله: وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ (5). و إلى الإمام المبين بقوله: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ (6). و إلى أم الكتاب بقوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتٰابِ لَدَيْنٰا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (7). و إلى لوح المحو و الإثبات بقوله: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ (8). و قد اكتفينا في الإشارة إلى كل كتاب بآية واحدة مع أنّ بعض هذه الكتب وردت الإشارة إليها في آيات كثيرة.

ثم إن المفسرين اختلفوا في حقيقة هذه الكتب و خصوصياتها فمن قائل بتجردها عن المادة و المادية حتى يصحّ أن تعدّ مظاهر لعلمه غير المتناهي.

و من قائل بكونها ألواحا و كتبا مادية سطّرت فيها الأشياء و أعمارها و أوقاتها على وجه الرمز. و لا يمكن الركون إلى هذين القولين بل يجب الإيمان بها و تحرّي تفسيرها عن طريق الكتاب و السنّة الصحيحة.

ثم إنّه يعدّ من مظاهر علمه القضاء و القدر و سنبحث عنهما في فصل خاص بإذن منه سبحانه.9.

ص: 121


1- سورة الأنعام: الآية 59.
2- سورة الواقعة: الآيتان 77 و 78.
3- سورة ق: الآية 4.
4- سورة آل عمران: الآية 145.
5- سورة الإسراء: الآية 4.
6- سورة يس: الآية 12.
7- سورة الزخرف: الآية 4.
8- سورة الرعد: الآية 39.
نكتتان يجب التنبيه عليهما:
أ - علمه سبحانه حضوريّ لا حصوليّ :

قد تعرّفت على الفرق بين العلم الحصولي و الحضوري و لا نعيده.

غير أنّ الذي يجب إلفات النظر إليه أنّ علمه سبحانه بذاته و بفعله حضوري:

أمّا علمه الذاتي بذاته فلعدم غيبوبة ذاته عن ذاته و حضورها لديها. و أمّا علمه بالأشياء فقد عرفت أنّه على وجهين:

الأول: إنّ العلم بالذات علم بالحيثية التي تصدر عنها الأشياء و العلم بتلك الحيثية علم بالأشياء. و بذلك يتضح أنّ علمه سبحانه بذاته كشف تفصيلي عن الأشياء على الوجه اللائق بذاته.

الثاني: حضور الممكنات لدى الواجب. لأن الممكن قائم بوجود الباري سبحانه حدوثا و بقاء و إنّ قيامه بذاته سبحانه أشبه بقيام المعنى الحرفيّ بالاسمي. و هذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة إذ هي مناط انعدامه و فنائه. فإذا كانت الموجودات الإمكانية بهذه الخصوصية، فكيف يتصور لها الانقطاع عنها؟ و ما هو إلا فرض انعدامها و فنائها. فعلى ذلك فالعالم بعامة ذراته، فعله سبحانه و إيجاده، و في الوقت نفسه حاضر لديه و هو، أي الحضور، علمه. فعلم اللّه و فعله مفهومان مختلفان و لكنهما متصادقان في الخارج.

و أمّا أنّ له سبحانه وراء العلم الحضوري علما حصوليا أو لا، فالبحث عنه موكول إلى محله في الكتب المطوّلة. فإن المشائيّين من الفلاسفة زعموا أنّ له سبحانه علما حصوليا أسموه بالصور المرتسمة.

ب - علمه سبحانه بالجزئيات:

و إن تعجب فعجب إنكار بعض الفلاسفة علمه سبحانه بالجزئيات

ص: 122

متأثرين ببعض الشبهات الواهية التي ستقف على بعضها و جوابها. و الإمعان فيما ذكرنا حول الموجودات الإمكانية يوضح لزوم علمه سبحانه بالجزئيات وضوحا كاملا. و يتضح حقيقته إذا وقفت على كيفية الخلقة و إفاضة الوجود من اللّه سبحانه، و إليك بيانه:

إنّ الكون - بكل ما فيه - من الذرّة إلى المجرّة متجدد متغير لا بعوارضه و صفاته فقط بل بجواهره و ذواته. و ما يتراءى للناظر من الثبات و الاستقرار و الجمود في عالم الطبيعة فهو من خطأ الحواس، و الحقيقة غير ذلك، فالمادة بجميع ذرّاتها خاضعة للتغير و التبدل و السيلان في كل آن و أوان.

و معنى التغير في عالم المادة هو تجدد وجودها و سيلان تحققها آنا بعد آن.

فكل ظاهرة مادية مسبوقة بالعدم الزماني. و وجود المادة، التي حقيقتها التدرّج و السيلان، أشبه بعين نابعة يتدفق منها الماء باستمرار، فليس لها بقاء و ثبات و جمود و استقرار.

فإذا كانت الخلقة و إفاضة الوجود على وجه التدريج و التجزئة، و لم يكن بإمكان المعلول الخروج عن حيطة علته، يظهر أن العالم بذرّاته و أجزائه، حسب صدوره من اللّه تعالى، معلوم له. فالإفاضة التدريجية، و الحضور بوصف التدرّج لديه سبحانه، يلازم علمه تبارك و تعالى بالجزئيات الخارجيّة.

شبهات المنكرين
اشارة

قد عرفت برهان علمه سبحانه بالجزئيات، و بقي الكلام في تحليل الشبهات التي أثيرت في هذا المجال. و إليك بيانها:

الشبهة الأولى: العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه
اشارة

قالوا لو علم سبحانه ما يجري في الكون من الجزئيات لزم تغيّر علمه

ص: 123

بتغيّر المعلوم و إلاّ لانتفت المطابقة. و حيث إنّ الجزئيات الزمانية متغيرة، فلو كانت معلومة للّه تعالى لزم تغيّر علمه، و هو محال.

و أوضحها العلاّمة ابن ميثم البحراني بقوله: «و منهم من أنكر كونه عالما بالجزئيات على الوجه الجزئي المتغيّر، و إنما يعلمها من حيث هي ماهيات معقولة. و حجتهم أنه لو علم كون زيد جالسا في هذه الدار، فبعد خروجه منها، إن بقي علمه الأول، كان جهلا، و إن زال لزم التغير»(1).

تحليل الشبهة

إنّ الشبهة واهية جدا، و الجواب عنها:

أولا: بالنقض بالقدرة، و ذلك أنّه لو استلزم تعلق العلم بالجزئيات تغيّره عند تغيّر المعلوم، فإنه يلزم أيضا تغيّر قدرته بتعلّقها بالجزئيات، و القدرة من صفات الذات، فما هو الجواب في جانب القدرة و الجواب في جانب العلم ؟.

و ثانيا: بالحلّ . إنّ علمنا بالحوادث الموجودة في أزمنة مختلفة علم زماني و أمّا علمه تعالى فليس بزماني أصلا. فلا يكون ثمة حال و ماض و مستقبل. فإن هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى الموجود الزماني الذي يعيش فيه، و يسمى ما يزاوله من الزمان حالا، و ما مضى بالنسبة إليه ماضيا، و ما سيوافيه، مستقبلا. و أما الموجود الخارج عن إطار الزمان و المحيط به و بكل مكان فلا يتصور في حقه ماض و حاضر و مستقبل. فاللّه سبحانه عالم بجميع الحوادث الجزئية دفعة واحدة لا من حيث أنّ بعضها واقع في الحاضر و بعضها في الماضي و بعضها في المستقبل. بل يعلمها علما شاملا متعاليا عن الدخول تحت الأزمنة.

ص: 124


1- قواعد المرام، ص 98.

و بعبارة أخرى: إنّه تعالى لمّا لم يكن مكانيا أيضا (كما أنّه لم يكن زمانيا) كانت نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس بالقياس إليه قريب و بعيد و متوسط. و على ذلك تكون نسبته إلى جميع الأشياء في جميع الأزمنة على السواء. فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له و ليس في علمه «كان» و «كائن» و «سيكون»، بل هي حاضرة عنده بكل خصوصياتها لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة، إذ لا تحقق لها بالنسبة إليه تعالى. و مثل هذا العلم لا يكون متغيرا بل مستمرا كالعلم بالكليات.

و لتقريب الذهن نأتي بمثال: إذا كان الشارع حافلا بالسيّارات العابرة واحدة تلو الأخرى و كان هناك إنسان ينظر إليه من نافذة ضيّقة. فإنه يرى في كل لحظة سيارة واحدة. فالسيارات حينئذ بالنسبة إليه على أقسام ثلاثة:

سيارة مرّت، و سيارة تمرّ، و سيارة لم تمرّ بعد. و هذا التقسيم صحيح بالنسبة إليه في هذا الموضع.

و لكن لو كان هذا الإنسان ينظر إلى هذا الشارع من أفق عال، فإنه يرى مجموع السيارات دفعة واحدة و لا يصح هذا التقسيم بالنسبة إليه عندئذ.

و على ذلك الأصل فالموجود المنزّه عن قيود الزمان و حدود المكان يقف على جميع الأشياء مرة واحدة، و تنصبغ الموجودات المتغيرة بصبغة الثّبات بالنسبة إليه.

فالعلم في المثال الذي ذكر في بيان الشبهة من كون زيد جالسا في الدار ساعة ثم خروجه منها في ساعة أخرى، يتعلق بالجلوس و الخروج مرة واحدة و لا معنى للتقدم و التأخر.

حل الشّبهة بوجه آخر

إنّ الشبهة قائمة على فرض كون علمه سبحانه بالأشياء علما حصوليا

ص: 125

عن طريق الصور المرتسمة القائمة بذاته سبحانه و عند ذلك يكون التغير في المعلوم ملازما لتغير الصّور القائمة به و يلزم على ذلك كون ذاته محلا للتغير و التبدّل.

و أما لو قلنا بأنّ علمه سبحانه بالجزئيات علم حضوري بمعنى أنّ الأشياء بهويّاتها الخارجية و حقائقها العينية، فعله سبحانه و في الوقت نفسه علمه، فلا مانع من القول بطروء التغير على علمه سبحانه إثر طروء التغير على الموجودات العينية. فإنّ التغير الممتنع على علمه إنما هو العلم الموصوف بالعلم الذاتي و أما العلم الفعلي، أي العلم في مقام الفعل، فلا مانع من تغيره كتغيّر فعله. فإنّ العلم في مقام الفعل لا يعدو عن كون نفس الفعل علمه لا غير. و إلى ذلك يشير المحقق الطوسي بقوله: «و تغير الإضافات ممكن»(1).

أي إنّ التغير إنّما هو في الإضافات لا في الذات. و المقصود من الإضافات هو فعله الذي هو علمه، و لا مانع من حدوث التغير في الإضافات و المتعلّقات من دون حدوث تغيّر في الذات.

الشبهة الثانية: إدراك الجزئيّات يحتاج إلى آلة

إنّ إدراك الجزئيات يحتاج إلى أدوات ماديّة و آلات جسمانية، و هو سبحانه منزه عن الجسم و لوازم الجسمانية.

و الجواب عن هذه الشبهة واضح، ذلك أنّ العلم بالجزئيات عن طريق الأدوات المادية إنما هو شأن من لم يحط الأشياء إحاطة قيموميّة، و لم تكن الأشياء قائمة به حاضرة لديه، كالإنسان، فإنّ علمه بها لمّا كان عن طريق انتزاع الصور بوسيلة الأدوات الحسّية كان إدراك الجزئيات متوقفا على تلك الأدوات و إعمالها.

ص: 126


1- تجريد الاعتقاد، ص 176.

و أما الواجب عزّ اسمه، فلمّا كان علمه عن طريق إحاطته بالأشياء و قيامها به قياما حقيقيا فلا يتوقف علمه بها على الأدوات و إعمالها.

و إلى هذا الجواب يشير الفاضل القوشجي في شرح التجريد بقوله:

«إن إدراك الجزئيات إنما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم بانتزاع الصورة، و أما إذا كان إضافة محضة بدون الصورة فلا حاجة إليها»(1).

الشبهة الثالثة: العلم بالجزئيات يلازم الكثرة في الذات

إنّ العلم صورة مساوية للمعلوم مرتسمة في العالم، و لا خفاء في أنّ صور الأشياء مختلفة، فيلزم كثرة المعلومات و كثرة الصور في الذات الأحديّة من كل وجه(2).

و الإجابة عن الإشكال - حسب ما عرفت - واضحة، فإنّه مبنيّ على كون علمه بالأشياء مرتسما في ذاته سبحانه كارتسام الأشياء في النفس الإنسانية، فيلزم حدوث الكثرات في الذات الأحديّة. و قد عرفت أنّ علمه بالأشياء ليس بهذا النّمط، بل الهويّات الخارجيّة حاضرة لدى ذاته بلا ارتسام، و هذا النّوع من العلم أقوى من ارتسام صور الأشياء.

الشبهة الرابعة: العلم بالجزئيات يوجب انقلاب الممكن واجبا

لو تعلّق العلم بالمتجدد قبل تجدّده لزم وجوبه و إلاّ لجاز أن لا يوجد، فينقلب علمه تعالى جهلا و هو محال(3).

و بعبارة أخرى: إنّ علمه تعالى لا يتعلق بالحوادث قبل وقوعها و إلاّ

ص: 127


1- شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي، ص 414.
2- المصدر السابق.
3- كشف المراد، ص 176.

يلزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة و واجبة معا. أما الأول فلكونها حادثة، و أمّا الثاني فلأنها لولاه لجاز أن لا توجد، فينقلب علمه جهلا.

و الإجابة عن الشبهة واضحة، فإنّ المحال هو اجتماع الممكن بالذات مع الواجب بالذات و أما اجتماع الممكن بالذات مع الواجب بالغير فهو أمر لا شبهة فيه. فإنّ المعاليل عند وجود العلّة التامة ممكنات بالذات واجبات بالغير.

و على ذلك فلو تعلق علمه سبحانه بوجود حادث في وقت خاص فعلمه سبحانه لا يخرجه عن الإمكان الذاتي. إذ غاية ما يقتضي كون علمه موافقا للواقع، وجوب وجوده بالغير، سواء أ كان السبب هو اللّه سبحانه أو غيره و هو يجتمع مع الممكن بالذات.

و باختصار: إنّ الحادث الذي يقع في ظرف خاص لا يخرج عن حدّ الإمكان بعد تعلّق علمه تعالى به و حصول علّته التامة. فالعالم كلّه ممكن بالذات و في الوقت نفسه واجب بالغير.

القرآن الكريم وسعة علمه تعالى

مما قدمنا تقف على عظمة الجملة القائلة «إنّ اللّه بكلّ شيء عليم» فهي تعني أنّه تعالى عالم بما مضى و ما يأتى و ما هو كائن و ما في الكون من الأسرار و الرموز. يقول سبحانه: وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ، وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا وَ لاٰ حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (1).

و يقول سبحانه: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ

ص: 128


1- سورة الأنعام: الآية 59.

وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ (1) .

و يقول سبحانه: اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثىٰ وَ مٰا تَغِيضُ اَلْأَرْحٰامُ وَ مٰا تَزْدٰادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدٰارٍ (2).

و قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ (3).

و قال عزّ من قائل: عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (4).

إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على علمه تعالى بالجزئيات.

رفعة التّعبير القرآني عن سعة علمه

إنّ من المفاهيم المعضلة هو تصور مفهوم اللامتناهي بحقيقته و واقعيته، فإنّ الإنسان لم يزل يتعامل في حياته مع الأمور المحدودة و لذلك أصبح تصور اللامتناهي أمرا مشكلا في غاية الصعوبة عليه. فهذه المنظومة بما فيها من السّيّارات جزء من مجرّتنا الواسعة و مع ذلك فالجزء و الكلّ متناهيان من حيث الذرّات و المركبات. و إنّ أكبر عدد تعارف الإنسان العادي على استخدامه في حياته هو رقم المليارد الذي يتألف من رقم واحد أمامه تسعة أصفار.

ثم إنّ الحضارة البشرية بسبب تكاملها في العلوم الرياضية توصلت إلى

ص: 129


1- سورة آل عمران: الآية 29.
2- سورة الرعد: الآية 8.
3- سورة ق: الآية 16.
4- سورة سبأ: الآية 3.

ما يسمى بالأرقام النجومية و مع ذلك فإنّ كل ما توصل إليه الإنسان من الأرقام حتى النجومية لا يتجاوز كونه عددا متناهيا، و القرآن الكريم عند ما يريد بيان علمه سبحانه من حيث كونه لا متناهيا، لا يستخدم الأرقام و الأعداد الرياضية و حتى النجومية لانتهائها إلى حدّ ما، بل يأتي بمثال رائع يبين سعة علمه و يقول: وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1).

أنظر إلى هذا التعبير الرائع الذي يفوق كل التعابير فلا تجد أيّ رقم رياضي يصوّر سعة علمه سبحانه يعادل قوله: مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ . و لو قال أحد إنّ مقدار علمه هو العدد الواحد أمامه مئات الأصفار لما أفاد أيضا ما يفيده قوله: مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ و بذلك تقف على حقيقة قوله سبحانه: وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً (2)، فإنه يعبر عن محدوديّة المقاييس و المعايير البشرية كما يعبّر عن قلّة علم الإنسان و ضآلة معارفه.

كلمات الإمام علي (ع) في علمه تعالى بالجزئيات:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يعزب عنه عدد قطر السّماء، و لا نجومها و لا سوافي الريح في الهواء، و لا دبيب النّمل على الصّفا، و لا مقيل الذّرّ في الليلة الظّلماء، يعلم مساقط الأوراق، و خفيّ الأحداق»(3).

و قال (عليه السلام): «الحمد للّه الذي يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النينان في البحار

ص: 130


1- سورة لقمان: الآية 27.
2- سورة الإسراء: الآية 85.
3- نهج البلاغة، خطبة 178.

الغامرات، و تلاطم الماء بالرياح العاصفات»(1).

و قال (عليه السلام): «قد علم السرائر، و خبر الضمائر، له الإحاطة بكلّ شيء»(2).

إلى هنا تم الكلام عن إحدى الصفات الثبوتية الذاتية و هي العلم.

و يقع الكلام فيما يلي في الصفة الثانية و هي القدرة، بإذنه سبحانه.6.

ص: 131


1- نهج البلاغة، خطبة 198.
2- نهج البلاغة، خطبة 86.

ص: 132

الصّفات الثبوتية الذاتية

(2) القدرة
اشارة

اتفق الإلهيون على أنّ القدرة من صفاته الذاتيّة الكمالية كالعلم.

و لأجل ذلك يعدّ القادر من أسمائه سبحانه(1).

القدرة لغة - كما عرّفها أصحاب المعاجم - الملك و الغنى و اليسار.

قال ابن منظور: يقال قدر على الشّيء قدرة أي ملكه فهو قادر و قدير. يقول سبحانه عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (2) أي قادر، و القدر الغنى و اليسار.

و قال الراغب: القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له، بها يتمكن من فعل شيء ما. و إذا وصف اللّه تعالى بها فهو نفي العجز عنه. ا. ه. و لا يخفى أن تفسير الراغب القدرة في اللّه سبحانه بإرجاعها إلى الصفات السلبية (نفي العجز عنه) خطأ واضح، لأن القدرة كمال و لا يشذّ كمال عن ذاته.

ص: 133


1- الفرق بين الصفة و الاسم عبارة عن أنّ الأول لا يحمل على الموضوع فلا يقال «زيد علم» بخلاف الثاني فيحمل عليه و يقال «زيد عالم» و على ذلك جرى الاصطلاح في أسمائه و صفاته سبحانه. فالعلم و القدرة و الحياة صفات و «العالم» و «القادر» و «الحيّ » أسماؤه تعالى.
2- سورة القمر: الآية 55.
تعريف القدرة:

ثم إنّ الفلاسفة و المتكلّمين فسروا القدرة بوجوه أبرزها:

1 - القدرة بمعنى صحة الفعل و التّرك، فالقادر هو الذي يصح أن يفعل و يصح أن يترك.

2 - القدرة هي الفعل عند المشيئة، و الترك عند عدمها. فالقادر من إن شاء فعل و إن شاء لم يفعل، أو إن لم يشأ لم يفعل.

و قد أورد على التعريف الأول بأنّ معنى صحة الفعل و الترك إمكانهما للقادر. و هذا الإمكان إما إمكان ما هوي يقع وصفا للماهية و يقال: الإنسان بما هو إنسان يمكن أن يفعل و يمكن أن لا يفعل. و إمّا امكان استعدادي يقع وصفا للمادة المستعدة لأن تتصف بكمال مثل قولنا: الحبّة لها إمكان أن تكون شجرة. و على كلا التقديرين فلا يصح تبيين قدرته سبحانه بهذه العبارة لأن اللّه سبحانه منزّه عن الماهية بل هو وجود كلّه، فكيف يمكن توصيفه بإمكان هو من عوارضها. كما أنّه سبحانه منزّه عن المادّة و الاستعداد، فكيف يصح تبيين قدرته بشيء يقوم بالمادة و الاستعداد، هذا.

و قد أورد على التعريف الثاني بأنّ ظاهره كون الفاعل موجدا للفعل بالمشيئة، و لازمه أن لا يكون الفاعل تامّا في الفاعلية إلاّ بضم ضميمة إليه و هي المشيئة و هو مستحيل على اللّه سبحانه، لأنّه غنيّ في الفاعلية عن كل شيء سوى ذاته حتى المشيئة الزائدة عليها.

دفاع عن التعريفين

إنّ الهدف من وصفه تعالى بالقدرة هو إثبات كمال و جمال له و تنزيهه عن النقص و العيب. فلو كان لازم بعض التعاريف طروء نقص أو توهّم في

ص: 134

حقه سبحانه، وجب تجريدها عن تلك اللوازم و تمحيضها في الكمال المطلق. و هذا لا يختص بالقدرة بل كل الصفات الجارية عليه سبحانه تتمتع بذلك الأمر.

مثلا: إنّ الحياة مبدأ الكمال و الجمال، و مصدر الشعور و العلم، فليس الهدف من توصيفه سبحانه بالحياة إلاّ الإشارة إلى ذاك الكمال. و أمّا الذي ندركه من الحياة، و ننتزعه من الأحياء الطبيعية، فإنه يمتنع توصيفه تعالى به لاستلزامه كونه سبحانه موجودا طبيعيّا مستعدا للفعل و الانفعال إلى غير ذلك من خصائص الحياة المادية. و لأجل ذلك يجب أن نصفه سبحانه بالحياة مجردة عن النقائص. و هذه ضابطة كلية في جميع الصفات الإلهية فلا توصف ذاته سبحانه بشيء منها إلاّ بهذا الملاك، و هذا ما يسعى إليه الحكيم العارف باللّه سبحانه. و عند ذلك يصح تفسير قدرته سبحانه بما ورد في التعريفين و لكن بتجريد كل واحد منهما عما يستلزمه من النقائص، ككونه سبحانه ذا ماهية أو مادة مستعدة، كما في التعريف الأول. أو كونه سبحانه فاعلا بمشيئة زائدة على الذات، كما في التعريف الثّاني.

و على ذلك فالذي يمكن أن يقال هو إنّ نسبة الفعل إلى فاعله لا تخلو عن أقسام ثلاثة:

الأول: أن يكون الفاعل متقيدا بالفعل فلا ينفك فعله عنه، و ذلك هو الفاعل المضطر كالنار في إحراقها، و الشمس في إشراقها.

الثاني: أن يكون الفاعل متقيّدا بترك الفعل فيكون الفعل ممتنعا عليه.

الثالث: أن لا يكون الفاعل متقيّدا بواحدة من النسبتين فلا يكون الفعل ممتنعا حتى يتقيّد بالترك، و لا الترك ممتنعا حتى يتقيد بالفعل. فيعود الأمر في تفسير القدرة إلى كون الفاعل مطلقا غير مقيد بشيء من الفعل

ص: 135

و الترك(1).

هذا ما نفهمه من توصيفه سبحانه بالقدرة سواء أ فسّرت بصحة الفعل و الترك أم فسّرت ب «إن شاء فعل و إن شاء لم يفعل». فإنّا نأخذ من التعريفين كمال القدرة و نطرح نقائصها. فيصح أن يقال إنّ القدرة في حقّه سبحانه بمعنى صحة الفعل و الترك، بمعنى تجرده عن التقيد بالفعل أو الترك. كما يصح أن يقال بالتعريف الثاني، لا بمعنى كونه فاعلا بالمشيئة الزائدة، بل ما عرفت من تجرده عن أي إلزام بأحد الطرفين.

دلائل قدرته
اشارة

أستدل على قدرته سبحانه بوجوه نعرض أوضحها و أقواها.

الأول - الفطرة

إنّ كل إنسان يجد في قرارة نفسه انجذابا إلى قدرة سامية عند طروء الشدائد و يعتقد أنّ هناك قدرة عليا هي الملجأ الوحيد للنجاة في تلك الأحايين. و هذا ما يلمسه من دون تلقين و تعليم. و وجود هذه الفطرة حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة، و إلاّ يلزم أن يكون وجودها لغوا. و ليس المراد من الفطرة هنا هو تصوّر القادر و توهّمه عند طروء الشدائد حتى يقال إنّ تصور الشيء لا يدل على وجوده كتصور العنقاء الذي لا يعد دليلا على وجودها، بل المراد منها الميل الباطني، و الانجذاب الذاتي الوجداني، و إحساسه ذلك الانجذاب كسائر أحاسيسه.

فالإنسان الغارق في الشدائد الآيس من كل سبب مادي، يجد في

ص: 136


1- و بذلك تعرف أنّ توصيفه سبحانه بالقدرة بمعنى تجرّده عن الإلزام بأحد الطرفين يلازم ثبوت وصف الاختيار له سبحانه و سيوافيك الكلام فيه، بإذن منه سبحانه.

أعماق نفسه - وجدانا لا يشك فيه - أنّ هناك موجودا عالما بمشاكله قادرا على دفعها عنه. و لا ينافي فطريته الغفلة عنه بعد ارتفاع الشدائد و زوال المحن، إذ ليس كل أمر فطري متجلّ في جميع الظروف. فإنّ لظهور الغرائز شرائط و أجواء خاصة حتى غريزتي الشهوة و الغضب.

و باختصار إنّ الفطرة كما تدعو إلى وجوده سبحانه، تدعو إلى صفاته من العلم و القدرة. يقول سبحانه:

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُ اَللّٰهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسّٰاعَةُ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * بَلْ إِيّٰاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ مٰا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شٰاءَ وَ تَنْسَوْنَ مٰا تُشْرِكُونَ (1) .

الثاني - النظام - الكوني

النظام الكوني بما فيه من دقيق و جليل، و ما فيه من جمال و بهاء، و دقّة و روعة، و إتقان و إحكام، يحكي عن قدرة مبدع الأشياء و تمكّنه من خلق أدقّها و أروعها. و قد خدمت العلوم الطبيعية كثيرا في هذا المجال.

و أثبتت قدرة الصانع. و كلّما تكاملت هذه العلوم و ازداد وقوف الإنسان على سنن الكون و قوانينه و بدائعه و روائعه، تجلّت هذه الصفة بنحو أحسن و أجلى.

و بذلك يتّضح أنّ فعل الفاعل، كما يكشف عن وجود الفاعل، يكشف عن صفته. فالديوان الشّعري الرائع كما يدل على وجود منشئ له، كذلك يدل على مقدرته الفنية و ذوقه المتفوق و قدرته على التحليق في آفاق

ص: 137


1- سورة الأنعام: الآيتان 40 و 41.

الخيال و سبك المعاني السامية في قوالب الألفاظ الجميلة. و كتاب «القانون» لابن سينا في الطب، و كتابه الآخر باسم «الشّفاء» في الفلسفة، يدلاّن على أنّ مؤلفهما كان من البارعين في الطب و الفلسفة. و لأجل ذلك نرى أنه سبحانه عند ما يصف روائع أفعاله و بدائع صنعه في آيات الذكر الحكيم، يختمها باسم «القدير» يقول سبحانه: اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (1).

فالاحكام و الإتقان في الفعل آيتا العلم و علامتا القدرة. و إنّا نرى في كلمات الإمام علي (عليه السلام) أنّه يستند في البرهنة على قدرته تعالى بروعة فعله و جمال صنعه سبحانه.

قال (عليه السلام): «فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرّياح برحمته، و وتّد بالصّخور ميدان أرضه»(2).

و يقول (عليه السلام): «و أرانا من ملكوت قدرته و عجائب ما نطقت به آثار حكمته»(3).

و يقول (عليه السلام): «فأقام من الأشياء أودها، و نهج حدودها و لاءم بقدرته بين متضادّها»(4).

و يقول (عليه السلام): «و أقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته و عظيم قدرته»(5).5.

ص: 138


1- سورة الطلاق: الآية 12.
2- النهج، الخطبة الأولى.
3- النهج، خطبة الأشباح، الخطبة 91.
4- المصدر نفسه.
5- النهج، الخطبة 165.

إلى غير ذلك من خطبه و كلماته.

و قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في جواب بعض الملاحدة: «كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك»(1).

الثالث - معطي الكمال ليس فاقدا له

و من دلائل قدرته سبحانه أنّه خلق الإنسان كما خلق غيره و أعطاه قدرة يقتدر بها على إيجاد البدائع و الغرائب و الصنائع الهائلة و الأشياء الظريفة.

و من المعلوم أنّ الإنسان بوجوده و قدرته معلول وجوده سبحانه، فهل يمكن أن يكون مفيض و خالق الإنسان القادر فاقدا لها؟

سعة قدرته تعالى لكل شيء

إنّ الفطرة البشرية تقضي بأنّ الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان في بعض الأحايين قادر على كل شيء ممكن، و لا يتبادر إلى الأذهان أبدا - لو لا تشكيك المشكّكين - أنّ لقدرته حدودا أو أنّه قادر على شيء دون شيء، و لقد كان المسلمون في الصدر الأول على هذه العقيدة استلهاما من كتاب اللّه العزيز، النّاص على عمومية قدرة اللّه سبحانه.

حتى وصل أمر الأبحاث الكلامية إلى شيوخ المعتزلة فجاءوا بتفاصيل في سعة قدرته سبحانه نشير إليها على وجه الإجمال.

1 - قال النّظّام:(2) إنّه تعالى لا يقدر على القبيح.

ص: 139


1- التوحيد للصّدوق، ص 91.
2- هو ابراهيم بن سيّار بن هاني النّظّام المتوفى عام 231 ه. و كان عهده عهد ازدهار الترجمات الأجنبية للآراء الوافدة إلى بلاد الإسلام. و من المظنون أنّه تأثر بتلك الآراء و الأفكار.

2 - و قال عبّاد بن سليمان الصّيمرى:(1) لا يقدر على خلاف معلومه.

3 - و قال البلخي:(2) لا يقدر على مثل مقدور عبده.

4 - و قال الجبّائيّان:(3) لا يقدر على عين مقدور العبد.

و ربما نسب إلى الحكماء أنّه سبحانه لا يقدر على أكثر من الواحد و لا يصدر منه إلاّ شيء واحد و هو العقل. و هناك عقائد للثنوية مبهمة نترك بيانها إلى موضع آخر(4).

هذه صورة تاريخية عن نشأة هذا الرأي، أي تقييد قدرة اللّه. و يبدو أنّ أكثر هؤلاء تأثّروا بالآراء الدخيلة الوافدة إلى بلاد الإسلام في عصر نهضة الترجمة. و ستوافيك شبهاتهم و تحليلها بعد استعراض أدلة القائلين بعموم قدرته.

أدلة القائلين بعموم القدرة الإلهية

إنّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن.

بمعنى أنّه تعالى قادر على خلق كل ما يكون ممكنا لذاته غير ممتنع كذلك.

و قد استدل المحققون عليه بقولهم:

«إنّ المقتضي موجود و المانع مفقود. أما الأول فلأن المقتضي لكونه

ص: 140


1- و قد نقل عنه القول بكون دلالة الألفاظ ذاتية لا وضعية و لم نقف على ترجمته في المعاجم. و قد ذكر العلامة الحلي نظريته في قدرته سبحانه في «نهج المسترشدين». لاحظ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص 189.
2- هو أبو القاسم الكعبي المتوفي عام 317 ه.
3- و هما الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب المتوفي عام 303 ه. و ابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمد المتوفي عام 321 ه. و كانا من رؤساء المعتزلة و أقطابهم و لهما آراء خاصة يخالفان فيها سائر شيوخها.
4- يأتي البحث عن عقائد الثنوية في مبحث التوحيد في الخالقيّة.

تعالى قادرا هو ذاته، و نسبتها إلى الجميع متساوية لكونها منزهة عن الزمان و المكان و الجهة فليس شيء أقرب إليه من شيء حتى تتعلق به القدرة دون الآخر.

و أما الثاني فلأن المقتضي لكون الشيء مقدورا هو إمكانه، و الإمكان مشترك بين الكل فتكون صفة المقدورية أيضا مشتركة بين الممكنات و هو المطلوب».

و يمكن توضيح ذلك الدليل بالبيان التالي:

إن موانع عموم قدرته يمكن أن تكون أحد الأمور التالية:

أولا - أن لا يكون الشيء ممكنا بالذات، مثل اجتماع النقيضين أو الضدّين.

ثانيا - أن يكون هناك مانع من نفوذ قدرته و شمولها للجميع. و هذا كما إذا كان في مقابله قدرة مضاهية و معارضة لقدرته.

ثالثا - أن تكون ذاته غير متساوية بالنسبة إلى الأشياء.

و العوامل الثلاثة منتفية برمّتها. أما الأول، فلأن المقصود من عموم قدرته هو شمولها لكل أمر ممكن دون الممتنع بالذات، فلا تتعلق القدرة الإلهية به أبدا، لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد. و أما الثاني، فلأن القدرة المضاهية المعارضة لقدرته مرفوضة بما ثبت و يثبت في محله من وحدة الواجب سبحانه ذاتا و عدم مثيل له في صفحة الوجود، و أما القدرة الممكنة فليست مزاحمة لقدرته إذ هي مخلوقة له.

و أما الثالث، فلأن تنزّهه عن كلّ قيد و شرط وجهة و مكان يجعله متساويا بالنسبة إلى كل ممكن بالذات فلا وجه لأن يقع بعض الممكنات في إطار قدرته دون الآخر. فإن التبعيض في قدرته سبحانه رهن كون بعض

ص: 141

الأشياء قريبة إليه دون بعضها الآخر، كالإنسان الذي يعيش في مكان و زمان خاص. فإنّ الأشياء الغابرة أو المستقبلة خارجة عن حوزة قدرته، لمحدودية ذاته بالقيود الزمانية و المكانية. و أما المجرد التام الخالق لكل الأزمنة و الأمكنة و الجواهر و الأعراض فلا معنى لأن تكون ذاته قريبة إلى واحد و بعيدة عن الآخر.

هذا توضيح ذلك البرهان.

و هناك برهان آخر أروع و أبهى مما ذكر يبتني على عدم تناهي ذاته سبحانه في الجمال و الكمال و حاصله أنّ وجوده سبحانه غير محدود و لا متناه، بمعنى أنّه وجود مطلق لا يحدّه شيء من الحدود العقلية و الخارجية.

و ما هو غير متناه في الوجود، غير متناه في الكمال و الجمال، لأن منبع الكمال هو الوجود، فعدم التّناهي في جانب الوجود يلازم عدمه في جانب الكمال، و أيّ كمال أروع و أبهى من القدرة فهي غير متناهية تبعا لعدم تناهي كماله، فيثبت سعة قدرته لكل ممكن بالذات.

سعة قدرته سبحانه بمعنى آخر

إنّ لسعة قدرته سبحانه معنيين أحدهما ما تعرفت عليه، و الثاني ما طرحه الحكماء في كتبهم. و حاصله أنّ الظواهر الكونية، مجرّدها و مادّيّها، ذاتها و فعلها، تنتهي إلى قدرته سبحانه. فكما أنّه لا شريك له في ذاته، لا شريك له في فاعليته. فكلّ ما يطلق عليه كلمة الموجود فهو مخلوق للّه سبحانه مباشرة أو على نحو الأسباب و المسبّبات، فالكل يستند إليه لا محالة. و هذا هو التّوحيد في الخالقية الذي سنشرحه عند البحث في الصّفات السّلبية.

و المخالف لهذا المعنى من سعة القدرة هم الثنوية الذين جعلوا فاعل الخير غير فاعل الشر، و عامة المعتزلة الذين صيروا الإنسان فاعلا مستقلا في

ص: 142

أفعاله. و سنوضح، بإذنه تعالى، في محله بطلان هاتين العقيدتين(1).

و أما قول الحكماء بكون الصادر عن اللّه سبحانه هو العقل الأول و منه صدر العقل الثاني إلى أن تنتهي دائرة الوجود إلى المادة و الهيولى، فالظاهر أنها فرضيّة محضة لا تخالف انتهاء الموجودات إلى اللّه سبحانه عن طريق الأسباب و المسبّبات، و التفصيل موكول إلى محله.

النصوص الدينية و سعة قدرته سبحانه

لقد تضافرت النصوص من الكتاب و السنة على سعة قدرته و إطلاقها، نذكر منها:

قوله سبحانه: وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (2). و قوله سبحانه: وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (3). و قوله سبحانه: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كٰانَ عَلِيماً قَدِيراً (4).

و قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الأشياء له سواء، علما و قدرة و سلطانا و ملكا»(5).

و قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): «هو القادر الذي لا يعجز»(6).

ص: 143


1- سنذكر بطلان عقيدة الثنوية عند البحث في التوحيد في الخالقية، و بطلان مقالة المعتزلة عند البحث في الجبر و التفويض.
2- سورة الأحزاب: الآية 27.
3- سورة الكهف: الآية 45.
4- سورة فاطر: الآية 44.
5- توحيد الصدوق، ص 131 و ص 76.
6- توحيد الصدوق، ص 131 و ص 76.
أسئلة و أجوبتها

إن القائلين بعموم قدرته سبحانه قوبلوا بعدة أسئلة نطرحها ثم نحللها، و هذه هي الأسئلة:

1 - هل يقدر سبحانه على خلق مثله ؟ فلو أجيب بالإيجاب لزم افتراض الشريك له سبحانه، و لو أجيب بالنفي ثبت ضيق قدرته و عدم عمومها.

2 - هل هو قادر على أن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم أو تكبر البيضة ؟ فإن أجيب بالإيجاب لزم خلاف الضرورة و هو كون المظروف أكبر من الظرف و إن أجيب بالنّفي لزم عدم عموم قدرته.

3 - هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئا لا يقدر على إفنائه ؟ فإن أجيب بالإيجاب لزم عدم سعة قدرته حيث لا يقدر على إفنائه. و إن أجيب بالسلب لزم أيضا عدم عموم قدرته. ففي هذا السؤال يلزم من الجواب، إيجابا و سلبا، ضيق قدرته.

هذه هي الأسئلة، و أمّا الإجابة عنها فبوجهين تارة بالإجمال و أخرى بالتفصيل.

أما الإجمال: فلأن المدّعى هو تعلق قدرته بالممكن بالذات و ما ورد في هذه الأسئلة ليست أمورا ممكنة بالذات بل كلّها إمّا محال بالذات أو شيء يستلزم ذلك المحال. و لا يعدّ عدم القدرة عليها نقصا في الفاعل. فعدم قدرة الخياط على خياطة القميص من الآجرّ، و عدم قدرة الرسام على رسم صورة الطاوس على الماء لا يعد نقصا في قدرتهما.

و هذا مثلما إذا طلبنا من عالم رياضي ماهر أن يجعل نتيجة (2 * 2) خمسة. و على هذا الأساس لا ينحصر السؤال فيما ذكر، بل كل ما لا يكون ممكنا بالذات لا يقع في إطار القدرة لقصور فيه لا لقصور في القدرة.

ص: 144

و أما الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة فإليك بيانه:

أما الأول، فلأن المثل محال بالذات أن يقع في إطار القدرة و المطالبة بخلقه، مطالبة بأمر محال.

و ببيان آخر، إنّ القيام بخلق المثل يستلزم اجتماع الضدين في شيء واحد، فبما أنّ المفترض وجوده مثله سبحانه، يجب أن يكون واجبا لا ممكنا، قديما لا حادثا، غير متناه لا متناه. و بما أنّه تعلقت به القدرة و هي لا تتعلق إلاّ بشيء غير موجود، يجب أن يكون حادثا لا قديما، ممكنا لا واجبا، متناهيا لا غير متناه. و هذا ما قلناه من أنه يستلزم اجتماع الضدين في شيء واحد.

و بهذا تتبين الإجابة عن السؤال الثاني. فإنّ عدم تعلق القدرة بجعل الشيء الكبير في الظرف الصغير، هو من جهة كونه غير ممكن في حد ذاته.

إذ البداهة تحكم بأنّ الظرف يجب أن يكون أكبر من مظروفه، هذا من جانب و من جانب آخر، لو جعل الكبير في الظرف الصغير يلزم نقيضه أي كون الظرف أصغر من مظروفه. فالقيام بهذا الإيجاد يستلزم كون شيء واحد أعني الظرف أو المظروف في آن واحد صغيرا و كبيرا.

و أما السؤال الثالث، فلأن المفترض محال لاستلزامه المحال بالذات، ففرض خلقه سبحانه شيئا لا يقدر الخالق على إفنائه، لا ينفك عن المحال بيانه:

إنّ الشيء المذكور بما أنّه أمر ممكن فهو قابل للفناء، و بما أنّه مقيّد بعدم إمكان إفنائه فهو واجب غير ممكن. فتصبح القضية كون شيء واحد ممكنا و واجبا، قابلا للفناء و غير قابل له.

و بعبارة أخرى: إنّ كونه مخلوقا يلازم إمكان إفنائه، لأن المخلوق

ص: 145

قائم بالخالق فلو قطعت صلته به لزم انعدامه، و كونه غير قابل للإفناء يستلزم أن لا يكون مخلوقا، فالمفروض في السؤال يستلزم تحققه - على الفرض - اجتماع النقيضين. و بهذا تقدر على الإجابة على نظائر هذه الأسئلة مثل أن يقال: هل اللّه قادر على خلق جسم لا يقدر على تحريكه ؟ فإنّ هذا من باب الجمع بين المتناقضين. فإنّ فرض كونه مخلوقا يلازم كونه متناهيا، قابلا للتحريك. و في الوقت نفسه فرضنا أنّه سبحانه غير قادر على تحريكه!! إنّ هذه الفروض و أمثالها لا تضرّ بعموم القدرة، و إنما يغترّ بها بسطاء العقول من الناس، و أما أهل الفضل و الكمال فأجلّ من أن يخفى عليهم جوابها.

شبهات النافين لعموم القدرة
اشارة

قد عرفت بعض التفاصيل في هذه المسألة في صدر البحث. و قد حان وقت البحث عنها و تحليلها بشكل يناسب وضع الكتاب.

أ - اللّه سبحانه لا يقدر على فعل القبيح

استدل النّظّام على أنّه تعالى لا يقدر على القبيح بأنه لو كان قادرا عليه لصدر عنه، فيكون إما جاهلا بقبحه أو محتاجا إلى فعله و كلا الأمرين محال.

و الإجابة عنه واضحة، إذ المقصود قدرته على القبيح و أنها بالنسبة إليه و إلى الحسن سواء. فكما هو قادر على إرسال المطيع إلى الجنة قادر على إدخاله النار. و ليس هنا ما يعجزه عن ذلك العمل. لكن لما كان هذا العمل مخالفا لحكمته سبحانه و عدله و قسطه، فلا يصدر عنه. لأن القبيح لا يرتكبه الفاعل إلاّ لجهله بقبحه أو لحاجته إليه. و كلا الأمرين منتفيان عن ساحته المقدّسة. فكم فرق بين عدم القدرة على الشيء أصلا و عدم القيام به لعدم

ص: 146

الداعي. فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده، و لكن الدواعي إلى هذا الفعل منتفية، و لا يصدر هذا الفعل إلاّ من جاهل شقيّ أو محتاج معدم.

فالنّظّام خلط بين عدم القدرة و عدم الداعي.

ب - عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه

ذهب عبّاد بن سليمان الصّيمري إلى عدم سعة قدرته قائلا بأنّ ما علم اللّه تعالى وقوعه، يقع قطعا، فهو واجب الوقوع، و ما علم عدم وقوعه لا يقع قطعا، فهو ممتنع الوقوع. و ما هو واجب أو ممتنع لا تتعلق به القدرة، إذ القدرة تتعلق بشيء يصح وقوعه و لا وقوعه. و الشيء الذي صار - حسب تعلق علمه - أحادي التعلق، أي ذا حالة واحدة حتمية، لا يقع في إطار القدرة.

مثلا: إذا علم سبحانه و تعالى ولادة رجل في زمن معيّن، يكون وجوده في ذاك الزمن قطعيا و معلوما، فلا تتعلق قدرته بعدمه الذي هو خلاف ما علم. لأن المفروض أنّ وجوده صار واجبا و عدمه صار ممتنعا، لكون علمه كاشفا عن الواقع كشفا تاما.

و الإجابة عنه بوجهين: أما أولا - فلأن لازم ما ذكره أن لا تتعلق قدرته بأي شيء أصلا. لأنّ كل شيء إما أن يكون معلوم التحقق في علمه سبحانه أو معلوم العدم. فالأول واجب التحقق، و الثاني ممتنعه. فيكون كل شيء داخلا في أحد هذين الإطارين، فيلزم أن يمتنع توصيفه بالقدرة على أي شيء، و هو مسلّم البطلان.

و ثانيا - إنّ ابن عبّاد لم يفرق بين الواجب بالذات و الواجب بالغير، كما لم يفرق بين الممتنع بالذات و الممتنع بالغير. فالمانع من تعلق القدرة هو الوجود و الامتناع الذاتيان، لا الوجود و الامتناع الغيريان اللاحقان بالشيء من جانب وجود علته و من جانب عدم علته.

ص: 147

توضيحه: إنّ كلّ شيء تتعلق به القدرة يجب أن يكون في حدّ ذاته ممكنا تتساوى إليه نسبة الوجود و العدم. و كونه واجب الوجود عند وجود علته لا يخرجه عن حدّ الإمكان. كما أنّ كونه ممتنع الوجود عند عدم علته لا يخرجه عن ذلك الحد. و على ذلك فمعلومه سبحانه، و إن كان بين محقّق الوجود أو محقّق العدم - أي بين ضرورة الوجود بالنسبة إلى وجود علته و ضرورة العدم بالنسبة إلى عدم علّته - لكن هذه الضرورة في كلا الطرفين لا تجعل الشيء واجبا بالذات أو ممتنعا كذلك. بل الشيء حتى بعد لحوق الضرورة أو الامتناع من جانب وجود علّته أو عدمه، موصوف بالإمكان غير خارج عن حد الاستواء.

ففي المثال المفروض - أعني ولادة الإنسان في وقت معين - قد تعلق علمه و إرادته سبحانه على خلقه في ذاك الظرف، و لا يقع نقيضه. و لكن عدم وقوعه ليس لأجل عدم قدرته سبحانه عليه، بل في وسعه سبحانه قطع الفيض و عدم خلق المعلوم، بل لكونه على خلاف ما علم و أراد، فكم فرق بين عدم القيام بالشيء (عدم الخلقة) لأجل كونه خلاف ما علم صلاحه، و عدم قدرته عليه.

ج - عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد

ذهب البلخي إلى أنّ اللّه تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد، لأنه إمّا طاعة أو معصية أو عبث، و فعل الإنسان لا يخرج عن هذه العناوين الثلاثة، و كلّها مستحيلة عليه تعالى و إلاّ لزم اتصاف فعله بالطاعة أو المعصية أو العبث. و الأوّلان يستلزمان أن يكون للّه تعالى آمر، و هو محال. و الأخير يدخل تحت القبيح و هو مستحيل عليه سبحانه. و قد مرّت الإجابة عن عدم قدرته على القبيح فلا نعيد. و أمّا الأولان فنقول:

إنّ الطاعة و المعصية ليستا من الأمور الحقيقية القائمة بالشيء نفسه،

ص: 148

بل هما أمران يدركهما العقل من مطابقة الفعل للمأمور به و مخالفته له.

فعندئذ ليس هنا أي إشكال في قدرته سبحانه على مثل ما قام به العبد بما هو مثل، بأن يكون فعله سبحانه متحد الذات و الهيئة مع فعل العبد و هيئته. و أما عدم اتصاف فعله سبحانه حينئذ بوصف الطاعة و العصيان فلا يضرّ بقدرته تعالى على مثل ما أتى به الإنسان، لأن الملاك في المثليّة هو واقعية الفعل و حقيقته الخارجية لا العناوين الاعتبارية أو الانتزاعية غير الداخلة في حقيقة الشيء. و إلى ما ذكرنا ينظر قول العلامة الحلّي في شرح التجريد: «إنّ الطاعة و العبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي»(1). نفترض أنّ إنسانا قام ببناء بيت امتثالا لأمر آمره، فاللّه سبحانه قادر على إيجاد مثل ذلك البيت من دون تفاوت قدر شعرة بينهما و يتّسم فعل العبد بالطاعة دون فعله سبحانه، لكن ذلك لا يوجد فرقا جوهريا بين الفعلين، بل الفعلان متحدان ماهية و هيئة.

و إنما الاختلاف في الأمر الاعتباري أو الانتزاعي، ففعل الإنسان إذا نسب إلى أمر الآمر يتّسم بالطاعة دون فعله سبحانه. و هذا لا يوجب التّقول بأنه سبحانه لا يقدر على مثل فعل عبده.

نعم، هناك أفعال صادرة عن الإنسان بالمباشرة، قائمة به قيام العرض بالموضوع، كالشرب و الأكل. فعدم صدورهما عن اللّه سبحانه سببه كونهما من الأفعال المادية القائمة بالموضوع المادي، و اللّه سبحانه منزه عن المادة، فلا يتصف بهذه الأفعال. و مع ذلك كله: فالإنسان و ما يصدر منه من الأفعال المباشرة بإقداره سبحانه و حوله و قوته، بحيث لو انقطع الفيض من ربه لصار الإنسان مع فعله خبرا بعد أثر.ا.

ص: 149


1- كشف المراد، ص 174 - طبعة صيدا.
د - عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد

ذهب الجبّائيّان إلى عدم سعة قدرته سبحانه، كما ذهب من تقدم، و لكن بتفصيل آخر، و هو أنّه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد، و إلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده اللّه و كرهه العبد، أو بالعكس.

بيان الملازمة: إنّ المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه، و البقاء على العدم عند وجود صارفه. فلو كان مقدور واحد واقعا من قادرين، و فرضنا وجود داع لأحدهما و وجود صارف للآخر في وقت واحد، لزم أن يوجد بالنظر إلى الدّاعي و أن يبقى على العدم بالنظر إلى الصارف، فيكون موجودا غير موجود، و هما متناقضان.

و الجواب: أولا - إنّ الامتناع لا يختص بالصورة التي ذكرها الجبّائيّان أعني التي تعلّق فيها داعي أحدهما بالفعل و صارف الآخر بعدمه، بل يجري الامتناع فيما إذا تعلقت إرادة كل منهما بإيجاد نفس المقدور و عينه، فإنّ لازم ذلك اجتماع علّتين تامّتين على معلول واحد.

ثانيا - إنّ عدم قدرته سبحانه على عين فعل العبد، لأجل أنّها إنّما تتعلق بالممكن بما هو ممكن فإذا صار ممتنعا و محالا، فلا تتعلق به القدرة.

و عدم تعلّقها بالممتنع لا يدل على عدم سعتها. و ما فرضه الجبّائيّان من الصور، أو ما أضفناه إليها لا يثبت أكثر من أنّ صدور الفعل في تلك الظروف محال لاستلزامه اجتماع النقيضين - في فرض الجبّائيان - أو اجتماع العلّتين التامتين على معلول واحد كما في فرضنا. و ما هو محال خارج عن إطار القدرة و لا يطلق عليه عدم القدرة.

و ثالثا - ما ذا يريدان من قولهما «عين مقدور العبد»؟ هل يريدان منه الشيء قبل وجوده، أو بعده ؟ فإذا أرادا الأول فلا عينية و لا تشخّص في هذا

ص: 150

الظرف و لا يتجاوز الشيء في هذه المرحلة عن كونه مفهوما كليا. و إن أرادا الثاني، فعدم تعلق القدرة عليه إنما هو لأنه من قبيل تحصيل الحاصل و هو محال. و المحال خارج عن إطار القدرة.

و رابعا - إن ما ذكراه من «تعلق إرادة العبد على إيجاده و تعلق إرادته سبحانه على نقيضه»، فكرة ثنوية وجدت في الأوساط الإسلامية حيث تصوّر أنّ فعل العبد مخلوق له و ليس مخلوقا للّه سبحانه بالتسبيب و أنّ هناك فاعلين مستقلين (اللّه و عبده)، و لكل مجاله الخاص. و عند ذلك لا يرتبط مقدور العبد باللّه سبحانه بصلة.

غير أنّ ذلك باطل كما سنبيّنه في التوحيد في الخالقيّة. فكل فاعل مختارا كان أو غيره، لا يقوم بالفعل إلاّ بإقداره سبحانه و إرادته. فلو أراد العبد، فإنما يريد بإرادة اللّه و قدرته على وجه لا يوجب الإلجاء و الاضطرار كما سنشرحه بإذنه سبحانه.

ص: 151

ص: 152

الصّفات الثبوتيّة الذاتيّة

(3) الحياة
اشارة

اتّفق الإلهيون على أنّ الحياة من صفاته، و أنّ «الحي» من أسمائه سبحانه. و لكن إجراء هذا الاسم عليه سبحانه يتوقف على فهم معنى الحياة حسب الإمكان، و كيفية إجرائها على واجب الوجود.

نقول: لا شك أنّ كل إنسان يميز بين الموجود الحي و الموجود غير الحي، و يدرك بأنّ الحياة ضد الموت، إلاّ أنّه رغم تلك المعرفة العامة، لا يستطيع أحد إدراك حقيقة الحياة في الموجودات الحية.

فالحياة أشدّ الحالات ظهورا و لكنها أعسرها على الفهم، و أشدها استعصاء على التحديد.

و لأجل ذلك اختلفت كلمة العلماء في تبيين حقيقتها و ذهبوا مذاهب شتى. و لكنها في نظر علماء الطبيعة تلازم الآثار التالية في الموصوف بها:

1 - الجذب و الدفع.

2 - النموّ و الرشد.

3 - التوالد و التكاثر.

4 - الحركة و ردّة الفعل.

ص: 153

و هذا التعريف للحياة إنما يشير إلى آثار الحياة لا إلى بيان حقيقتها، و هي آثار مشتركة بين أفراد الحي و مع ذلك كلّه نرى البعد الشاسع بين الحياة النباتيّة و الحياة البشريّة. فالنبات الحي يشتمل على الخصائص الأربع المذكورة، و لكن الحياة في الحيوان تزيد عليها بالحس و الشعور و هذا الكمال الزائد المتمثل في الحسّ و الشعور لا يجعل الحيوان مصداقا مغايرا للحياة، بل يجعله مصداقا أكمل لها. كما أنّ هناك حياة أعلى و أشرف و هي أن يمتلك الكائن الحي مضافا إلى الخصائص الخمس، خصيصة الإدراك العلمي و العقلي و المنطقي(1)، و على ذلك فالخصائص الأربع قدر مشترك بين جميع المراتب الطبيعية و إن كانت لكل مرتبة من المراتب خصيصة تمتاز بها عما دونها.

و ليعلم أن علماء الطبيعة ذكروا هذا التعريف و اكتفوا به لأنه لم يكن لهم هدف إلاّ الإشارة إلى الحياة الواقعة في مجال بحوثهم. و أما الحياة الموجودة خارج عالم الطبيعة فلم تكن مطروحة لديهم عند اشتغالهم بالبحث عن الطبيعة.

تعريف الحياة بنحو آخر

لا شك أنّ الحياة النباتية غير الحياة الحيوانية في الكيفية، و هكذا سائر المراتب العليا للحياة. و لكن ذلك لا يجعل الكلمة مشتركا لفظيا ذا معان متعددة. بل هي مشترك معنوي يطلق بمعنى واحد على جميع المراتب لكن بعملية تطوير و تكامل.

توضيحه: إن الحياة المادية في النبات و الحيوان و الإنسان - بما أنّه حيوان - تقوم بأمرين، هما:

ص: 154


1- و هذا الإدراك العلمي و المنطقي و العقلي تطوير للحسّ الموجود في الحياة الحيوانية.

الأوّل: الفعل و الانفعال، و التأثير و التأثّر. و إلى ذلك تهدف الخصائص الأربع التي ذكرها علماء الطبيعة كما أوضحنا. و يمكن أن نرمز إلى هذه الخصيصة ب «الفعّالية».

الثاني: الحسّ و الدرك بالمعنى البسيط. فلا شك أنّه متحقق في أنواع الحياة الطبيعية حتى النبات. فقد كشف علماء الطبيعة عن وجود الحس في عموم النباتات و إن كان الإنسان البدائي عالما بوجوده في بعضها كالنخل و غيره. و إلى هذا الأمر نرمز ب «الدرّاكيّة».

فتصبح النتيجة أنّ مقوّم الحياة في الحياة الطبيعية بمراتبها هو الفعّالية و الدّرّاكيّة، بدرجاتهما المتفاوتة و مراتبهما المتكاملة، و أنّه لا يصح أن تطلق الحياة على النبات و الحيوان إلاّ بالتطوير لوجود البون الشاسع بين الحياتين، فالذي يصحح الإطلاق و الاستعمال بمعنى واحد هو عملية التطوير بحذف النواقص و الشوائب الملازمة لما يناسب كلا من النبات و الحيوان.

و على هذا الأساس يصح اطلاق الحياة على الحياة الإنسانية، بما هو إنسان لا بما هو حيوان، و المصحح للإطلاق هو عملية التطوير التي وقفت عليها، و إلاّ فكيف يمكن أن تقاس الحياة الإنسانية بما دونها من الحياة، فأين الفعل المترقّب من الحياة العقلية في الإنسان من فعل الخلايا النباتية و الحيوانية! و أين درك الإنسان للمسائل الكلية و القوانين الرياضية من حسّ النبات و شعور الحيوان! و مع هذا البون الشاسع بين الحياتين، تجد أنّا نصف الكل بالحياة، و نطلق «الحي» بمعنى واحد عليها. و ليس ذاك المعنى الواحد إلاّ كون الموجود «فعّالا» و «درّاكا» و لكن فعلا و دركا متناسبا مع كل مرتبة من مراتب الحياة.

و باختصار، إن ملاك الحياة الطبيعية هو الفعل و الدّرك، و هو محفوظ في جميع المراتب، و لكن بتطوير و تكامل. فإذا صحّ إطلاق الحياة بمعنى واحد على تلك الدرجات المتفاوتة فليصح على الموجودات الحية العلوية لكن بنحو متكامل. فاللّه سبحانه حيّ بالمعنى الذي تفيده تلك الكلمة،

ص: 155

لكن حياة مناسبة لمقامه الاسمى، بحذف الزوائد و النواقص و الأخذ بالنخبة و الزبدة و اللب و المعنى، فهو سبحانه حيّ أي «فاعل» و «مدرك». و إن شئت قلت: «فعّال» و «درّاك»، لا كفعّالية الممكنات و درّاكيّتها.

تمثيل لتصوير التطوير في الإطلاق

ما ذكرناه في حقيقة الحياة، و أنّ العقل بعد ملاحظة مراتبها ينتزع مفهوما وسيعا ينطبق على جميعها، أمر رائج. مثلا: إنّ لفظ «المصباح» كان يطلق في البداية على الغصن المشتعل، غير أنّه تطور حسب تطور الحضارة و التمدن، فاصبح يطلق على كل مشتعل بالزيت و النفط و الغاز و الكهرباء، بمفهوم واحد، و ما ذاك إلاّ لأن الحقيقة المقوّمة لصحة الإطلاق:

كون الشيء ظاهرا بنفسه، مظهرا لغيره و منيرا ما حوله. و هذه الحقيقة - مع اختلاف مراتبها - موجودة في جميع المصاديق، و في المصباح الكهربائي على نحو أتمّ .

إنّ من الوهم تفسير حياة الباري من خلال ما نلمسه من الحياة الموجودة في النبات و الحيوان و الإنسان. كما أنّ من الوهم أن يتصور أنّ حياته رهن فعل و انفعال كيميائي أو فيزيائي، إذ كل ذلك ليس دخيلا في حقيقة الحياة و إن كان دخيلا في تحققها في بعض مراتبها، إذ لو لا هذه الأفعال الكيميائيّة أو الفيزيائيّة، لامتنعت الحياة في الموجودات الطبيعية.

لكن دخالته في مرتبة خاصة لا يعد دليلا على كونه دخيلا في حقيقتها مطلقا.

كما أنّ اشتعال المصباح بالفتيلة في كثير من أقسامه لا يعد دليلا لكونها مقومة لحقيقة المصباح و إن كانت كذلك لبعض أقسامه. و عندئذ نخرج بالنتيجة التالية و هي أنّ المقوّم للحياة كون الموجود عالما و عاملا، مدركا و فاعلا، فعّالا و درّاكا، أو ما شئت فعبّر.

ص: 156

دليل حياته سبحانه

لا أظن أنّك تحتاج في توصيفه سبحانه بالحياة إلى برهان بعد الوقوف على أمرين:

الأول - قد ثبت بالبرهان أنّه سبحانه عالم و قادر. و قد تقدم البحث فيه.

الثاني - إنّ حقيقة الحياة في الدرجات العلوية، لا تخرج عن كون المتصف بها درّاكا و فعّالا، و عالما و فاعلا.

فإذا تقرر هذان الأمران تكون النتيجة القطعية أنّه سبحانه، بما أنّه عالم و قادر، درّاك و فعّال، لملازمة العلم للدرك، و القدرة للفعل، و هما نفس الحياة عند تطويرها بحذف الزوائد. و لأجل ذلك نرى أنّ الحكماء يستدلون على حياته بقولهم: «إنه تعالى حي لامتناع كون من يمكن أن يوصف بأنّه قادر عالم، غير حي»(1).

و في الحقيقة حياته سبحانه عبارة عن اتصافه بالقدرة و العلم.

و سيوافيك أنّ جميع صفاته سبحانه و إن كانت مختلفة مفهوما، لكنها متحدة واقعية و مصداقا.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه خلق موجودات حية، مدركة و فاعلة، فمن المستحيل أن يكون معطي الكمال فاقدا له.

حياته سبحانه في الكتاب و السنّة

إنّ اللّه تعالى يصف نفسه في الذكر الحكيم بالحياة التي لا موت فيها إذ يقول: وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لاٰ يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ (2). و قد جاء لفظ «الحي» فيه اسما له سبحانه خمس مرات. يقول جلّ و علا: اَللّٰهُ لاٰ

ص: 157


1- كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد للعلامة الحلي، ص 46.
2- سورة الفرقان: الآية 58.

إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ ، لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ (1) .

و قال الامام محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى كان و لا شيء غيره، نورا لا ظلام فيه، و صادقا لا كذب فيه، و عالما لا جهل فيه، و حيّا لا موت فيه، و كذلك هو اليوم و كذلك لا يزال أبدا»(2).

و قال الامام موسى بن جعفر (عليهما السلام): «إنّ اللّه لا إله إلاّ هو: كان حيا بلا كيف... كان عزّ و جل إلها حيّا بلا حياة حادثة، بل هو حي لنفسه»(3).

فحياته سبحانه كسائر صفاته الكمالية، صفة واجبة لا يتطرّق إليها العدم، و لا يعرض لها النفاد و الانقطاع، لأنّ تطرق ذلك يضاد وجوبها و ضرورتها، و يناسب إمكانها، و المفروض خلافه.1.

ص: 158


1- سورة البقرة: الآية 255.
2- توحيد الصدوق، ص 141.
3- توحيد الصدوق، ص 141.

الصّفات الثّبوتية الذاتيّة

(4) و (5) السّمع و البصر
اشارة

إنّ من صفاته سبحانه السّمع و البصر، و إنّ من أسمائه السّميع البصير، و قد ورد هذان الوصفان في الشريعة الإسلامية الحقّة، و تواتر وصفه سبحانه بكونه سميعا بصيرا في الكتاب و السنة. و لكنهم اختلفوا في حقيقة ذينك الوصفين على أقوال أبرزها:

1 - إنّ سمعه و بصره سبحانه ليسا وصفين يغايران وصف العلم، بل هما من شعب علمه بالمسموعات و المبصرات، فلأجل علمه بهما صار يطلق عليه أنّه سميع بصير.

2 - إنّهما وصفان حسّيان، و إدراكان نظير الموجود في الإنسان.

3 - إنّ السّمع و البصر يغايران مطلق العلم مفهوما، و لكنهما علمان مخصوصان وراء علمه المطلق من دون تكثر في الذات و من دون أن يستلزم ذلك التوصيف تجسما، و ما هذا إلاّ حضور الهويّات المسموعة و المبصرة عنده سبحانه. فشهود المسموعات سمع، و شهود المبصرات بصر، و هو غير علمه المطلق بالأشياء العامة، غير المسموعة و المبصرة(1).

ص: 159


1- الاسفار، ج 6، ص 421-423.

إذا تعرّفت على الأقوال نذكر مقدمة و هي:

إنّ السّماع في الإنسان يتحقق بأجهزة و أدوات طبيعية و ذلك بوصول الأمواج الصّوتية إلى الصّماخ، و منها إلى الدماغ المادّي ثم تدركه النفس.

غير أنّه يجب التركيز على نكتة و هي: إنّ وجود هذه الأدوات المادية هل هو من لوازم تحقق الإبصار و السّماع في مرتبة خاصة كالحيوان و الإنسان، أو أنّه دخيل في حقيقتها بصورة عامة ؟ لا شك أنّ هذه الآلات و الأدوات التي شرحها العلم بمشراطه إنّما هي من خصوصيات الإنسان المادي الذي لا يمكنه أن يقوم بعملية الاستماع و الإبصار بدونها. فلو فرض لموجود أنّه يصل إلى ما يصل إليه الإنسان من دون هذه الأدوات فهو أولى بأن يكون سميعا بصيرا، لأن الغاية المتوخاة من السّماع و الإبصار هي حضور الأمواج و الصور عند النفس المدركة، فلو كانت الامواج و الصور حاضرة عند موجود بلا إعمال عمل فيزيائي أو كيميائي فهو سميع بصير أيضا لتحقق الغاية بنحو أتم و أعلى.

و قد ثبت عند البحث عن مراتب علمه أنّ جميع العوالم الإمكانية حاضرة لديه سبحانه، فالأشياء على الاطلاق، و المسموعات و المبصرات خصوصا، أفعاله سبحانه، و في الوقت نفسه علمه تعالى، فالعالم بجواهره و أعراضه حاضر لدى ذاته و على هذا فعلمه بالمسموع كاف في توصيفه بأنه سميع كما أنّ علمه بالمبصر كاف في توصيفه بأنه بصير.

نعم ليس علمه بالمسموعات أو المبصرات مثل علمه سبحانه بالكليات، و بذلك تقف على الفرق بين القول الأول و الثالث.

إجابة عن سؤال

إذا كان حضور المسموعات و المبصرات لديه سبحانه مصحّحا لتوصيفه بالسميع و البصير فليكن هذا بعينه مصححا لتوصيفه بأنّه لامس ذائق شامّ؟

ص: 160

و الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الوقوف على أنّ أسماءه سبحانه توقيفية و ذلك أنّ المشمومات و المذوقات و الملموسات حاضرة لديه سبحانه كحضور المسموعات و المبصرات. كيف، و الوجود الإمكاني بعامة مراتبه قائم به سبحانه، و هو الحي القيوم أي القائم بنفسه و المقوّم لغيره. و على ذلك لا فرق من حيث الملاك و المصحّح، لكن لما كان القول بتوقيفية أسمائه تعالى لسدّ باب الهرج و المرج في تعريفه سبحانه لم يصح إطلاق اللامس و الذّائق و الشامّ عليه.

«السميع» و «البصير» في الكتاب و السنّة

إنّه سبحانه وصف نفسه بالسميع و البصير، فقد جاء الأول 41 مرة و الثاني 42 مرة في الكتاب العزيز.

و من الغايات التي يرشد إليها الذكر الحكيم في مقام التوصيف بهما هو إيقاف الإنسان على أنّ ربه سميع يسمع ما يتلفظه من كلام، بصير يرى كل عمل يصدر منه فيحاسبه يوما حسب ما سمعه و رآه. يقول سبحانه: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) و يقول سبحانه:

وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (2) و يقول سبحانه:

وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) و يقول سبحانه: وَ اَللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (4).

و قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): «و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسّة»(5).

ص: 161


1- سورة البقرة: الآية 224.
2- سورة البقرة: الآية 244.
3- سورة الحديد: الآية 4.
4- سورة المجادلة: الآية 1.
5- نهج البلاغة، الخطبة 155.

و قال (عليه السلام): «من تكلّم سمع نطقه، و من سكت علم سرّه»(1).

و قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): «لم يزل اللّه تعالى عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا»(2).

و قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «هو تعالى سميع بصير، سميع بغير جارحة، و بصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه و يبصر بنفسه»(3).

و قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): «إنّه سميع بصير، يسمع بما يبصر، و يبصر بما يسمع»(4).

و الحديث الأخير يشير إلى اتحاد صفاته سبحانه مع ذاته. و اتحاد بعضها مع البعض الآخر في مقام الذات. فليست حقيقة السّمع في ذاته سبحانه غير حقيقة البصر، بل هو يسمع بالذي يبصر و يبصر بالذي يسمع، فذاته سمع كلّها و بصر كلّها.ق.

ص: 162


1- نهج البلاغة، الخطبة 182.
2- توحيد الصّدوق، 140 و 144.
3- توحيد الصّدوق، 140 و 144.
4- المصدر السابق.

الصّفات الثّبوتية الذاتيّة

(6) الإدراك

قد عدّ بعض المتكلمين الإدراك من صفاته، و المدرك بصيغة الفاعل من أسمائه، تبعا لقوله سبحانه: لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (1).

و لا شك أنّه سبحانه بحكم الآية الشريفة مدرك، لكن الكلام في أنّ الإدراك هل هو وصف وراء العلم بالكليّات و الجزئيّات ؟، أو هو يعادل العلم و يرادفه ؟، أو هو علم خاص و هو العلم بالموجودات الجزئية العينيّة، فإدراكه سبحانه هو شهود الأشياء الخارجية و وقوفه عليها وقوفا تاما.

يقول العلامة الطباطبائي: الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين كالعلم و الظّن و الحسبان و الشعور و الذكر و العرفان و الفهم و الفقه و الدراية و اليقين و الفكر و الرأي و الزّعم و الحفظ و الحكمة و الخبرة و الشّهادة و العقل و يلحق بها مثل القول و الفتوى و البصيرة.

و هذه الألفاظ لا تخلو معانيها عن ملابسة المادّة و الحركة و التّغيّر، غير

ص: 163


1- سورة الأنعام: الآية 103.

خمسة منها و هي: العلم و الحفظ و الحكمة و الخبرة و الشهادة. فلأجل عدم استلزامها النقص و الفقدان استعملت في حقه سبحانه. قال تعالى:

وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (1) . و قال تعالى وَ رَبُّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (2).

و قال تعالى: وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) و قال سبحانه: وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ (4).

و قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (5).

و بذلك يظهر أنّ إدراكه سبحانه ليس شيئا وراء ما جاء في هذه الآيات و عبّر عنه بالعليم و الحفيظ و الخبير و الحكيم و الشهيد. و الأقرب هو كونه بمعنى الأخير (الشهيد)، فشهوده للموجودات و حضورها لدى ذاته و قيامها به قيام المعنى الحرفي بالاسمي، معنى كونه مدركا للأشياء لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (6).3.

ص: 164


1- سورة النساء: الآية 176.
2- سورة سبأ: الآية 21.
3- سورة البقرة: الآية 234.
4- سورة يوسف: الآية 83.
5- سورة فصلت: الآية 53، لاحظ فيما ذكرناه الميزان، ج 2، ص 259-261.
6- سورة الأنعام: الآية 103.

الصّفات الثّبوتية الذاتية

(7) الإرادة
اشارة

إنّ الإرادة من صفاته سبحانه، و المريد من أسمائه، و لا يشك في ذلك أحد من الإلهيين أبدا. و إنّما اختلفوا في حقيقة إرادته تعالى. و لأجل ذلك يجب علينا الخوض في مقامين:

الأول: استعراض الآراء المطروحة في تفسير الإرادة على وجه الإطلاق.

الثاني: تفسير خصوص الإرادة الإلهية.

1 - ما هي حقيقة الإرادة ؟

إنّ الإرادة و الكراهة كيفيتان نفسانيّتان كسائر الكيفيات النفسانيّة، يجدهما الإنسان بذاتهما بلا توسط شيء مثل اللذّة و الألم و غيرهما من الأمور الوجدانية. غير أنّ الهدف تحليل ذلك الأمر الوجداني تحليلا علميا و صياغته في قالب علمي. و إليك الآراء المطروحة في هذا المجال.

أ - فسّرت المعتزلة الإرادة ب «اعتقاد النّفع» و الكراهة ب «اعتقاد

ص: 165

الضرر»، قائلين بأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الفعل و الترك متساوية، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين، يرجح بسببه ذلك الطرف و يصير الفاعل مؤثّرا فيه.

و يلاحظ عليه أنّه ناقص جدا، لأن مجرد الاعتقاد بالنفع لا يكون مبدأ للتأثير و الفعل، إذ كثيرا ما يعتقد الإنسان بوجود النفع في كثير من الأفعال و لا يريدها، و ربما لا يعتقد بوجوده فيها، بل يعتقد بوجود الضرر و مع ذلك يريدها لموافقتها لبعض القوى الحيوانية.

ب - فسرت جماعة أخرى الإرادة بأنها شوق نفساني يحصل في الإنسان تلو اعتقاده النفع.

و يلاحظ عليه أنّ تفسير الإرادة بالشوق ناقص جدا إذ ربما تتحقق الإرادة و لا يكون ثمّة شوق كما في تناول الأدوية المرّة لأجل العلاج. و قد يتحقق الشوق المؤكّد و لا تكون هناك إرادة موجدة للفعل كما في المحرّمات و المشتهيات المحظورة للرجل المتقي.

و لأجل ذلك صارت النسبة بين الإرادة و الشوق عموما و خصوصا من وجه.

ج - الإرادة كيفية نفسانيّة متخللة بين العلم الجازم و الفعل و يعبر عنها بالقصد و العزم تارة، و بالإجماع و التصميم أخرى. و ليس ذلك القصد من مقولة الشوق بقسميه المؤكّد و غير المؤكّد، كما أنّه ليس من مقولة العلم رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيّات النفسانيّة.

و باختصار، حقيقة الإرادة «القصد و الميل القاطع نحو الفعل».

هذه بعض التفاسير المختلفة حول حقيقة الإرادة و هناك نظريات أخرى طوينا عنها الكلام.

و على كل تقدير، لا يمكن تفسير الإرادة الإلهية بواحدة منها، أما

ص: 166

أوّلها فقد عرفت أنّ تفسير الإرادة باعتقاد النفع ملازم لإنكار الإرادة مطلقا في الموجودات الإمكانية فضلا عن اللّه سبحانه و ذلك لأنّ مرجعها إلى العلم بالنفع، مع أنّا نجد في أنفسنا شيئا وراء العلم و الاعتقاد بالنفع، و القائل بهذه النظرية يثبت العلم و ينكر الإرادة. فإذا بطل تفسير الإرادة بالاعتقاد بالنفع في الموجودات الإمكانية يبطل تفسير إرادته سبحانه به أيضا.

و سيوافيك أنّ من يفسّر إرادة اللّه سبحانه بالعلم بالأصلح، متأثر من هذا التفسير، غير أنّه بدّل العلم بالنفع - الظاهر في النفع الشخصي - إلى العلم بالأصلح اللائق بحاله سبحانه، الهادف إلى مصالح العباد، فانتظر.

و أما التفسير الثاني، أعني الشوق أو خصوص الشوق المؤكد، فلو صح في الإنسان فلا يصح في اللّه سبحانه، لأن الشوق من مقولة الانفعال تعالى عنه سبحانه. فإنّ الشوق إلى الشيء شأن الفاعل الناقص الذي يريد الخروج من النقص إلى الكمال، فيشتاق إلى الشيء شوقا أكيدا.

و أما التفسير الثالث، فسواء أ فسرت بالقصد و العزم، أو الإجماع و التصميم، فحقيقتها الحدوث بعد العدم، و الوجود بعد اللاوجود و هي بهذا المعنى يستحيل أن تقع وصفا لذاته لاستلزامه كون ذاته معرضا للحوادث(1).

و لأجل عدم مناسبة هذه التعاريف لذاته سبحانه، صار المتألهون على طائفتين: طائفة تحاول جعلها من صفات الذات لكن بمعنى آخر، و طائفة تجعلها من صفات الفعل فتذهب إلى أنّ الإرادة كالخلق و الرزق تنتزع من فعله سبحانه و إعمال قدرته و هذه الطائفة أراحت نفسها من الإشكالات الواردة على كونها من الصفات الذاتية. و إليك الكلام حول نظريات هاتين الطائفتين.دث

ص: 167


1- و سيوافيك في الصفات السلبيّة أنّ ذاته تعالى ليست محلا للحوادث
2 - تفسير خصوص الإرادة الإلهية
اشارة

لما كانت الإرادة بالمعاني المتقدمة غير مناسبة لساحته سبحانه، و من جانب آخر إنّ الإرادة و كون الفاعل فاعلا مريدا - في مقابل كونه فاعلا مضطرا - كمال فيه، و عدمها يعد نقصا فيه، حاول الحكماء و المحققون توصيفه سبحانه بها بمعنى يصح حمله عليه و توصيفه به. و إليك تفسير هذه المحاولة بصور مختلفة.

أ - إرادته سبحانه علمه بالنظام الأصلح
اشارة

إنّ إرادته سبحانه علمه بالنظام الأصلح و الأكمل و الأتم. و إنما فسّروها بها فرارا من توصيفه سبحانه بأمر حدوثي و تدرّجي، و ما يستلزم الفعل و الانفعال، كما هو الحال في الإرادة الإنسانية.

قال صدر المتألهين: «معنى كونه مريدا أنّه سبحانه يعقل ذاته و يعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته، و أنّه كيف يكون. و ذلك النظام يكون لا محالة كائنا و مستفيضا»(1).

و قال أيضا: «إنّ إرادته سبحانه بعينها هي علمه بالنظام الأتم، و هو بعينه هو الداعي لا أمر آخر»(2).

و قال المحقق الطوسي: «إنّ إرادته سبحانه هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الأتم، و إذا كانت القدرة و العلم شيئا واحدا، مقتضيا لوجود الممكنات على النظام الأكمل كانت القدرة و العلم و الإرادة شيئا واحدا في ذاته مختلفا بالاعتبارات العقلية»(3).

ص: 168


1- الأسفار الأربعة، ج 6، ص 316.
2- المصدر السابق، ص 333.
3- المصدر نفسه، ص 331.
مناقشة هذه النظرية

لا شك أنّه سبحانه عالم بذاته و عالم بالنظام الأكمل و الأتمّ و الأصلح و لكن تفسير الإرادة به، يرجع إلى إنكار حقيقة الإرادة فيه سبحانه. فإنكارها في مرتبة الذات مساوق لإنكار كمال فيه، إذ لا ريب أنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد، فلو فسّرنا إرادته سبحانه بعلمه بالنظام، فقد نفينا ذلك الكمال عنه و عرّفناه فاعلا يشبه الفاعل المضطر في فعله. و بذلك يظهر النظر فيما أفاده المحقق الطوسي حيث تصوّر أنّ القدرة و العلم شيء واحد بذاته مختلفان بالاعتبارات العقلية. و لأجل عدم صحة هذا التفسير نرى أنّ ائمة أهل البيت (عليهم السلام) ينكرون تفسيرها بالعلم. قال بكير بن أعين:

قلت لأبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام): «علمه و مشيئته مختلفان أو متّفقان ؟ فقال (عليه السلام): العلم ليس هو المشيئة، أ لا ترى أنك تقول سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول سأفعل كذا إن علم اللّه»(1).

و إن شئت قلت: إنّ الإرادة صفة مخصّصة لأحد المقدورين أي الفعل و الترك، و هي مغايرة للعلم و القدرة. أمّا القدرة، فخاصيّتها صحة الإيجاد و اللاإيجاد، و ذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات و إلى طرفي الفعل و التّرك على السواء، فلا تكون نفس الإرادة التي من شأنها تخصيص أحد الطرفين و إخراج القدرة عن كونها متساوية بالنسبة إلى الطرفين.

و أما العلم فهو من المبادي البعيدة للإرادة، و الإرادة من المبادي القريبة إلى الفعل، فلا معنى لعدّهما شيئا واحدا.

نعم، كون علمه بالمصالح و المفاسد مخصصا لأحد الطرفين، و إن كان أمرا معقولا، لكن لا يصح تسميته إرادة و إن اشترك مع الإرادة في

ص: 169


1- الكافي، ج 1، ص 109، باب الإرادة.

النتيجة و هي تخصيص الفاعل قدرته بأحد الطرفين، إذ الاشتراك في النتيجة لا يوجب أن يقوم العلم مقام الإرادة و يكون كافيا عن توصيفه بذلك الكمال أي الإرادة.

سؤال و جواب

ربما يقال: لما ذا لا تكون حقيقة الإرادة نفس علمه سبحانه ؟ إذ لو كانت واقعية الأول غير واقعية الثاني للزمت الكثرة في ذاته سبحانه. و الكثرة آية التركيب، و التركيب يلازم الإمكان، لضرورة احتياج الكلّ إلى الأجزاء، و هو تعالى منزه عن كل ذلك.

و الجواب: إنّ معنى اتحاد الصفات بعضها مع بعض، و الكل مع الذات، أن ذاته سبحانه علم كلها، قدرة كلها، حياة كلها و أن تلك الصفات بواقعياتها، موجودة فيها على نحو البساطة، و ليس بعضها حياة و بعضها الآخر علما، و بعضها الثالث قدرة، لاستلزام ذلك التركيب في الذات. و لا يراد من ذلك إرجاع واقعية إحدى الصفات إلى الأخرى بأنّ يقال مثلا: علمه قدرته. فإنّ مردّ ذلك إلى إنكار جميع الصفات و إثبات صفة واحدة.

و باختصار إنّ هناك واقعية واحدة بحتة و بسيطة اجتمع فيها العلم و الحياة و القدرة بواقعياتها من دون أن يحدث في الذات تكثر و تركّب. و هذا غير القول بأنّ واقعية إرادته هي واقعية علمه، ليلزم من ذلك نفي واقعية الإرادة و المشيئة. فإنّ مرد ذلك إلى نفي الإرادة. كما أنّ القول بأنّ واقعية قدرته ترجع إلى علمه مردّه إلى نفي القدرة لا إثبات الوحدة و لتوضيح المطلب نقول:

إنّه يمكن أن تنتزع مفاهيم كثيرة من الشيء البسيط و يكون لكل مفهوم واقعية فيه من دون طروء التكثّر و التركّب. و ذلك مثل الإنسان الخارجي بالنسبة إلى اللّه سبحانه، فهو كله مقدور للّه، كما أنّ كلّه معلوم للّه. لا أنّ بعضا منه مقدور، و بعضا منه معلوم. فالكل مقدور، و في الوقت نفسه

ص: 170

معلوم. و مع ذلك ليست واقعية المعلوميّة نفس واقعية المقدوريّة.

و بهذا تقدر على تجويز أن تكون ذاته سبحانه علما كلّها، و قدرة كلّها، و يكون لكل وصف واقعية من دون طروء الكثرة و التركب(1).

ب - إرادته سبحانه ابتهاجه بفعله

إنّ إرادته سبحانه ابتهاج ذاته المقدسة بفعلها و رضاها به. و ذلك لأنه لما كانت ذاته سبحانه صرف الخير و تمامه، فهو مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج و ينبعث من الابتهاج الذاتي ابتهاج في مرحلة الفعل، فإنّ من أحبّ شيئا أحب آثاره و لوازمه و هذه المحبة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل، و هي التي وردت في الأخبار التي جعلت الإرادة من صفات فعله. فللإرادة مرحلتان: إرادة في مقام الذات، و إرادة في مقام الفعل: فابتهاجه الذاتي إرادة ذاتية، و رضاه بفعله إرادة في مقام الفعل.

يلاحظ عليه: إنّ هذه النظرية كسابقتها لا ترجع إلى محصّل. فإنّ حقيقة الإرادة غير حقيقة الرضا، و غير حقيقة الابتهاج. و تفسير أحدهما بالآخر إنكار لهذا الكمال في ذاته سبحانه. و قد مرّ أنّ كون الفاعل مريدا، في مقابل كونه فاعلا مضطرا موجبا، أفضل و أكمل. فلا يمكن نفي هذا الكمال عن ذاته على الإطلاق، بل يجب توصيفها بها على التطوير الخاص الذي مرّ مثله في تفسير الحياة، و سيوافيك بيانه في هذا الباب.

ج - إرادته سبحانه إعمال القدرة و السلطنة

إنّ جماعة من المتكلمين لما وقفوا على أنّه لا يمكن توصيفه سبحانه بالإرادة و جعلها من صفات ذاته لاستلزامه بعض الإشكالات التي مرت عليك، عمدوا إلى جعلها من صفات الفعل كالخالقية و الرازقية. قالوا: «إنّا

ص: 171


1- إنّ للشيخ المحقق الأصفهاني في تعليقاته على الكفاية كلاما في المقام ينفعك جدا، فراجع نهاية الدراية ج 1، ص 116-117، ط طهران.

لا نتصور لإرادته تعالى معنى غير إعمال القدرة و السلطنة، و لما كانت سلطنته تعالى تامة من جميع الجهات و النواحي، و لا يتصور النقص فيها أبدا، فبطبيعة الحال يتحقق الفعل في الخارج و يوجد صرف إعمال القدرة من دون توقفه على أيّة مقدمة أخرى، كما هو مقتضى قوله سبحانه: إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(1).

يلاحظ عليه: إنّ إعمال القدرة و السلطنة إما اختياريّ له سبحانه أو اضطراريّ ، و لا سبيل إلى الثاني لأنه يستلزم أن يكون تعالى فاعلا مضطرا و لا يصح توصيفه بالقدرة و لا تسميته بالقادر. و على الأول، فما هو ملاك كونه فاعلا مختارا؟. لا بد أن يكون هناك قبل إعمال السلطنة و تنفيذ القدرة شيء يدور عليه كونه فاعلا مختارا، فلا يصح الاكتفاء بإعمال القدرة.

و باختصار، إنّ الاكتفاء بإعمال القدرة من دون إثبات اختيار له في مقام الذات بنحو من الأنحاء، غير مفيد.

د - إرادته سبحانه نسبة تمامية السبب إلى الفعل

جعل العلامة الطباطبائي إرادته تعالى من صفات فعله، و حاصل نظريته: إنّ الصفة الوحيدة من بين الصفات النفسانية التي يجدها الإنسان في صميم ذاته، القابلة للانطباق على عنوان «الإرادة»، هي صفة «القصد».

و «القصد» الذي هو واسطة بين العلم بالفعل و تحققه، عبارة عن الميل النفسي للفاعل إلى الإتيان بالفعل.

و لا يصح أبدا تفسير الإرادة بصفة العلم. لأننا ندرك بالوجدان أنّ ارادتنا متوسطة بين علمنا بالفعل و الاتيان به، لا نفس العلم.

و على هذا، فإذا أردنا توصيفه تعالى بالإرادة - بعد تجريدها من النقائص - لا يمكننا تطبيقها على علمه تعالى، لأن ماهية و حقيقة العلم غير ماهية الإرادة.

ص: 172


1- سورة يس: الآية 82. المحاضرات، ج 2، ص 38.

و تجريد الإرادة عن النقائص لا يجعلها متحدة مع العلم حقيقة.

ثم إن الإرادة - بعد تجريدها من النقائص - تكون صفة فعلية للّه تعالى، كصفات الخلق و الإيجاد و الرحمة.

بيان ذلك: عند ما تكتمل جميع مقدمات و أسباب إيجاد الفعل، تنتزع عند ذاك صفة الإرادة، فيكون تعالى «مريدا»، و الفعل «مرادا»، من دون أن تكون هناك واقعية ما بإزاء صفة الإرادة سوى حالة تمامية الأسباب.

و بعبارة أخرى: الإرادة في اللّه تعالى صفة منتزعة من اجتماع علل و مقتضيات وجود الشيء. إذ عند ذاك، تارة ينسب اكتمال مقدمات الفعل و تماميتها إلى الفعل، و أخرى ينسب إلى اللّه تعالى. فإذا نسب إلى الفعل سميت هذه الحالة (اكتمال المقدمات): «إرادة الفعل»، و نفس الفعل: «مراد اللّه». و إذا نسب إلى اللّه تعالى سميت هذه الحالة: «إرادة اللّه»، و اللّه تعالى: «مريدا».

و يقول العلامة (قدس سره): إن البراهين التي أقامها الحكماء لإثبات كون الإرادة إحدى صفات الذات، لا تثبت أزيد من أن جميع مظاهر الوجود مستندة إلى قدرته تعالى و علمه بالنظام الأصلح، و لا تثبت أن إرادته تعالى عين علمه أو قدرته(1).

يلاحظ عليه: إنّه لو كان الملاك لإطلاق الإرادة هو تماميّة الفعل من حيث السّبب، يلزم صحة إطلاقها فيما إذا كان الفاعل المضطر تاما في سببيّته، و هو كما ترى.

أضف إلى ذلك أنّ تمامية السبب فيما إذا كان الفاعل عالما و شاعرا، حقيقة، و الإرادة حقيقة أخرى. و قد قلنا إنّه يجب إجراء الصفات على اللّه سبحانه بعد التجريد عن شوائب الإمكان و المادية، مع التّحفّظ على معناها، لا سلخها عن حقيقتها و واقعيتها.0.

ص: 173


1- ما أوردناه هو تقرير واضح لما أفاده قدس سره في تعاليق الأسفار ج 6، ص 315 و 316. و نهاية الحكمة ص 300.
ه - الحق في الموضوع

الحق أنّ الإرادة من الصفات الذاتية و تجري عليه سبحانه على التطوير الذي ذكرناه في «الحياة» و لأجل توضيح المطلب نأتي بكلمة مفيدة في جميع صفاته سبحانه و هي:

يجب على كل إلهي - في إجراء صفاته سبحانه عليه - تجريدها من شوائب النقص و سمات الإمكان، و حملها عليه بالمعنى الذي يليق بساحته مع التحفظ على حقيقتها و واقعيتها حتى بعد التجريد.

مثلا، إنّا نصفه سبحانه بالعلم، و نجريه عليه مجرّدا عن الخصوصيات و الحدود الإمكانية و لكن مع التحفّظ على واقعيته، و هو حضور المعلوم لدى العالم. و أما كون علمه كيفا نفسانيا أو إضافة بين العالم و المعلوم، فهو منزّه عن هذه الخصوصيات. و مثل ذلك الإرادة، فلا شك أنها وصف كمال له سبحانه، و تجري عليه سبحانه مجرّدة عن سمات الحدوث و الطروء و التدرّج و الانقضاء بعد حصول المراد، فإنّ ذلك كلّه من خصائص الإرادة الإمكانية. و إنما يراد من توصيفه بالإرادة كونه فاعلا مختارا في مقابل كونه فاعلا مضطرا. و هذا هو الأصل المتّبع في إجراء صفاته سبحانه و إليك توضيحه في مورد الإرادة:

إنّ الفاعل إمّا أن يكون مؤثّرا بطبعه غير عالم بفعله، و هو الفاعل الطبيعي، كالنار بالنسبة إلى الإحراق. و إمّا أن يكون عالما بفعله غير مريد له فيصدر منه الفعل عن شعور بلا إرادة كرعشة المرتعش. و إما أن يكون عالما مريدا عن كراهة لمراده و إنما أراده لأجل أنّه أقل الخطرين و أضعف الضررين، كما في الفاعل المكره. و إمّا أن يكون عالما مريدا لكن لا عن كراهة بل عن رضا بفعله و هو الفاعل المريد الراضي بفعله. و القسمان الأخيران و إن كانا يشتركان في كون الفاعل فيهما مريدا، لكن لمّا كان الفاعل في القسم الأول منهما مقهورا بعامل خارجي، لا يعد فعله مظهر

ص: 174

للاختيار التام، بخلاف الثاني فالفاعل فيه فاعل مختار تام و فعله مجلى للاختيار.

و هذا الحصر الحقيقي الذي يدور بين النفي و الإثبات يجرّنا إلى القول بأنّ فاعليته سبحانه بأحد الوجوه الأربعة:

إمّا أن يكون فاعلا فاقدا للعلم، أو يكون عالما فاقدا للإرادة، أو يكون عالما و مريدا و لكن عن كراهة لفعله لأجل إحاطة قدرة قاهرة عليه، أو يكون عالما و مريدا راضيا بفعله. و فاعلية الباري سبحانه غير خارجة عن إحدى هذه الوجوه. و الثلاثة الأول غير لائقة بساحته سبحانه فتعيّن كونه فاعلا مريدا مالكا لزمام فعله و عمله، و لا يكون مقهورا في الإيجاد و الخلق.

هذا من جانب.

و من جانب آخر إنّ الإرادة في المراتب الإمكانية لا تنفك عن الحدوث و التدرّج و الانقضاء بعد حصول المراد، و من المعلوم إنّ إجراءها بهذه السمات على اللّه سبحانه، محال لاستلزامه طروء الحدوث على ذاته.

فيجب علينا في إجرائها عليه سبحانه حذف هذه الشوائب، فيكون المراد من إرادته حينئذ اختياره و عدم كونه مضطرا في فعله و مجبورا بقدرة قاهرة.

فلو صح تسمية هذا الاختيار بالإرادة فنعم المراد، و إلاّ وجب القول بكونها من صفات الفعل.

و بعبارة أخرى: إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة منقضية بعد حدوث المراد، و إنما هي صفة كمال لكونها رمز الاختيار و سمة عدم المقهوريّة حتى إن الفاعل المريد المكره له قسط من الاختيار، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقلية فيرجح الفعل على الضرر المتوعد به. فإذا كان الهدف و الغاية من توصيف الفاعل بالإرادة هو إثبات الاختيار و عدم المقهوريّة فتوصيفه سبحانه بكونه مختارا غير مقهور في سلطانه، غير مجبور في إعمال قدرته، كاف في جري الإرادة عليه، لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتم و الأكمل. و قد مرّ أنه يلزم في إجراء الصفات ترك المبادي و الأخذ بجهة الكمال، فكمال الإرادة ليس في

ص: 175

كونها طارئة زائلة عند حدوث المراد أو كون الفاعل خارجا بها عن القوة إلى الفعل أو من النقص إلى الكمال. بل كمالها في كون صاحبها مختارا، مالكا لفعله آخذا بزمام عمله، فلو كان هذا هو كمال الإرادة، فاللّه سبحانه واجد له على النحو الأكمل إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه، وَ اَللّٰهُ غٰالِبٌ عَلىٰ أَمْرِهِ (1).

الإرادة في السنّة

يظهر من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ مشيئته و إرادته من صفات فعله، كالرازقيّة و الخالقيّة، و إليك نبذا من هذه الروايات:

1 - روى عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«قلت: لم يزل اللّه مريدا؟. قال: إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه. لم يزل اللّه عالما قادرا، ثم أراد»(2).

يبدو أنّ الإرادة التي كانت في ذهن الراوي و سأل عنها هي الإرادة بمعنى العزم على الفعل، الذي لا ينفك غالبا عن الفعل. فأراد الإمام هدايته إلى أنّ الإرادة بهذا المعنى لا يمكن أن تكون من أوصافه الذاتية، لأنه يستلزم قدم المراد أو حدوث المريد. و لأجل أن يتلقى الراوي معنى صحيحا للإرادة، يناسب مستوى تفكيره، فسّر (عليه السلام) الإرادة بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل و قال: «لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد» أي ثم خلق. و لكن ما جاءت به الرواية لا ينفي أن تكون الإرادة من أوصافه الذاتية بشكل لا يستلزم قدم المراد، و هو كونه سبحانه مختارا بالذات غير مضطر و لا مجبور.

و بذلك ظهر أنّ لإرادته سبحانه مرحلتان كعلمه، و لكل تفسيره

ص: 176


1- سورة يوسف: الآية 21.
2- الكافي، ج 1، باب الإرادة، ص 109، الحديث الأول.

الخاص.

2 - روى صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام):

«أخبرني عن الإرادة من اللّه، و من الخلق».

قال: فقال (عليه السلام): «الإرادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من اللّه تعالى فإرادته، إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروّي و لا يهمّ و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق. فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون، بلا لفظ، و لا نطق بلسان، و لا همّة، و لا تفكّر، و لا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له»(1).

و هذه الرواية تتحد مع سابقتها في التفسير و التحليل. فالإرادة التي كان البحث يدور عليها بين الإمام و الراوي هي الإرادة بمعنى «الضمير و ما يبدو للمريد بعد الضمير من الفعل». و من المعلوم أنّ الإرادة بهذا المعنى سمة الحدوث، و آية الإمكان، و لا يصح توصيفه سبحانه به. و لأجل ذلك ركّز الإمام على نفيها بهذا المعنى عن الباري، فقال: «لأنه لا يروّي و لا يهمّ و لا يتفكّر».

و لكن - لأجل أن يتلقى الراوي مفهوما صحيحا عن الإرادة يناسب مستوى عقليّته فسّر الإمام الإرادة، بالإرادة الفعليّة، فقال: «فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون...». فمع ملاحظة هذه الجهات لا يصح لنا أن نقول إنّ الإمام بصدد نفي كون الإرادة من صفات الذات، حتى بالمعنى المناسب لساحة قدسه سبحانه.

3 - روى محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«المشيئة محدثة»(2).

و الهدف من توصيف مشيئته سبحانه بالحدوث هو إبعاد ذهن الراوي7.

ص: 177


1- المصدر السابق، الحديث 3.
2- الكافي، ج 1، باب الإرادة، الحديث 7.

عن تفسيرها بالعزم على الفعل و جعلها وصفا للذّات، فإنّ تفسير الإرادة بهذا المعنى لا يخلو عن مفاسد، منها كون المراد قديما. فلأجل ذلك فسّر الإمام الإرادة بأحد معنييها و هو الإرادة في مقام الفعل و قال: «المشيئة محدثة»، كناية عن حدوث فعله و عدم قدمه.

و بذلك تقدر على تفسير ما ورد حول الإرادة من الروايات التي تركز على كونها وصفا لفعله سبحانه(1).

ثم إنّ هاهنا أسئلة حول كون إرادته سبحانه من صفاته الذاتية، و أنت بعد الإحاطة بما ذكرنا تقدر على الإجابة عنها. و إليك بعض تلك الأسئلة:

1 - إنّ الميزان في تمييز الصفات الذاتيّة عن الصفات الفعلية - كما ذكره الشيخ الكليني في ذيل باب الإرادة - هو أنّ الأولى لا تدخل في إطار النفي و الإثبات بل تكون أحادية التعلق، فلا يقال إنّ اللّه يعلم و لا يعلم، بخلاف الثانية فإنها تقع تحت دائرة النفي و الإثبات فيقال إنّ اللّه يعطي و لا يعطي. فعلى ضوء هذا، يجب أن تكون الإرادة من صفات الفعل إذ هي مما يتوارد عليها النفي و الإثبات. يقول سبحانه: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (2).

و الجواب عن هذا السؤال بوجهين:

أحدهما: إنّ الإرادة التي يتوارد عليها النفي و الإثبات هي الإرادة في مقام الفعل، و أما الإرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإرادة و هو الاختيار، فلا تقع في إطار النفي و الإثبات.

و ثانيهما: ما أجاب به صدر المتألهين معتقدا بأنّ للّه سبحانه إرادة بسيطة مجهولة الكنه و أن الذي يتوارد عليه النفي و الإثبات، الإرادة العددية الجزئية المتحققة في مقام الفعل. و أما أصل الإرادة البسيطة، و كونه سبحانه5.

ص: 178


1- لاحظ الكافي، لثقة الإسلام الكليني، ج 1، ص 109-111.
2- سورة البقرة: الآية 185.

فاعلا عن إرادة لا عن اضطرار و إيجاب، فلا يجوز سلبه عن اللّه سبحانه. و أنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرادة البسيطة في مقام الذات، التي لا تتعدد و لا تتثنى، و بين الإرادة العددية المتحققة في مقام الفعل التي تتعدد و تتثنى و يرد عليها النفي و الإثبات.

قال: «فرق بين الإرادة التفصيليّة العددية التي يقع تعلّقها بجزئيّ من أعداد طبيعة واحدة أو بكل واحد من طرفي المقدور كما في القادرين من الحيوانات، و بين الإرادة البسيطة الحقّة الإلهية التي يكلّ عن إدراكها عقول أكثر الحكماء فضلا عن غيرهم»(1).

2 - لو كانت الإرادة نفس ذاته سبحانه لزم قدم العالم، لأنّها متحدة مع الذات، و الذات موصوفة بها، و هي لا تنفك عن المراد.

يلاحظ عليه: أولا - إنّ الإشكال لا يختص بمن جعل الإرادة بمعناها الحقيقي وصفا لذاته سبحانه، بل الإشكال يتوجه أيضا على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتمّ الذي هو عين ذاته، و استحالة انفكاك المعلول عن العلّة أمر بيّن من غير فرق بين تسمية هذا العلم إرادة أو غيرها، فلو كان النظام الأصلح معلولا لعلمه. و المفروض أنّ علمه قديم، للزم قدم النظام لقدم علّته.

و ثانيا - إذا قلنا بأنّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختارا غير ملزم بواحد من الطرفين، لا يلزم عندئذ قدم العالم إذا اختار إيجاد العالم متأخرا عن ذاته.

و ثالثا - إنّ لصدر المتألهين و من حذا حذوه من الاعتقاد بالإرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكنه، أن يجيب بأنّ جهلنا بحقيقة هذه الإرادة و كيفيّة إعمالها يصدّنا عن البحث عن كيفية صدور فعله عنه و أنّه لما ذا خلق حادثا و لم يخلق قديما.4.

ص: 179


1- الاسفار، ج 6، ص 324.

و هاهنا نكتة نعلقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر و هو أنّ الزمان كمّ متّصل ينتزع من حركة الشيء و تغيّره من حال إلى حال و من مكان إلى مكان و من صورة نوعية إلى أخرى، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان، و لو لا المادة و حركتها لما كان للزمان مفهوم حقيقيّ بل مفهوم وهمي.

هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان و الحركة. و قد كان القدماء يزعمون أنّ الزمان يتولد من حركة الأفلاك و النيّرين و غير ذلك من الكواكب السيارة، و لكن الحقيقة أنّ كل حركة حليفة الزمان و راسمته و مولدته.

و بعبارة ادقّ : إنّ التبدّلات عنصرية كانت أو أثيرية، مشتملة على أمرين:

الأول، حالة الانتقال من المبدأ إلى المنتهى، سواء أ كان الانتقال في الوصف أم في الذات. الثاني، كون ذلك الانتقال على وجه التدريج و السيلان لا على نحو دفعي.

فباعتبار الأمر الأول توصف بالحركة، و باعتبار الثاني توصف بالزمان.

فكأنّ شيئا واحدا باسم التغير و التبدل و الانتقال، يكون مبدأ لانتزاع مفهومين منه، لكن كل باعتبار خاص، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ المادة تتحقق على نحو التدريج و التجزئة و لا يصح وقوعها بنحو جمعي، لأن حقيقتها حقيقة سيّالة متدرجة أشبه بسيلان الماء، فكل ظاهرة ماديّة تتحقق تلو سبب خاص، و ما هذا حاله يستحيل عليه التحقق الجمعي أو تقدم جزء منه أو تأخره بل لا مناص عن تحقّق كل جزء في ظرفه و موطنه، و بهذا الاعتبار تشبه الأرقام و الأعداد، فالعدد «خمسة» ليس له موطن إلاّ الوقوع بين «الأربعة و الستة». و تقدمه على موطنه كتأخره عنه مستحيل. و على ذلك فالأسباب و المسببات المترتبة بنظام خاص يستحيل عليها خروج أي جزء من أجزائها عن موطنه و محله.

إذا عرفت هذا الأمر نرجع إلى بيان النكتة و هي: ما ذا يريد القائل من قوله لو كانت الإرادة صفة ذاتية للّه سبحانه يلزم قدم العالم ؟. فإن أراد أنّه يلزم تحقق العالم في زمان قبله و في فترة ماضية، فهذا ساقط بحكم المطلب الأول، لأنّ المفروض أنّه لا زمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنّ حركة

ص: 180

المادة ترسم الزمان و تولده.

و إن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم فقد عرفت استحالته، فإنّ إخراج كل جزء عن إطاره أمر مستحيل مستلزم لانعدامه.

ثم إنّ لصدر المتألهين في هذا المقام كلاما عميقا فمن أراد الاطلاع فليرجع إليه(1).8.

ص: 181


1- الأسفار، ج 6، ص 368.

ص: 182

الصفات الثبوتية الذاتية

(8) الأزلية و الأبدية

إنّ الأزليّة و الأبديّة من صفاته سبحانه، كما أنّ الأزليّ و الأبديّ من أسمائه. و قد يطلق مكانهما القديم الباقي، فالقدم على الإطلاق، و البقاء كذلك من صفاته، و عليه فهو سبحانه قديم أزلي، باق أبدي. و يطلق عليه الأولان لأجل أنّه المصاحب لمجموع الأزمنة المحققة أو المقدرة في الماضي، كما يطلق عليه الآخران لأجل أنّه الموجود المستمر الوجود في الأزمنة الآتية محققة كانت أم مقدرة. و ربما يطلق عليه السّرمدي بمعنى الموجود المجامع لجميع الأزمنة السابقة و اللاّحقة.

و باختصار إنّ توصيفه بالقديم الأزلي بالنسبة إلى الماضي، و بالباقي الأبدي بالنسبة إلى المستقبل. هذا ما عليه المتكلمون في تفسير هذه الأسماء و الصفات.

و لكن هذا التفسير يناسب شأن الموجود الزماني الذي يصاحب الأزمنة المحققة أو المقدرة، الماضية أو اللاحقة، و اللّه سبحانه منزّه عن الزمان و المصاحبة له، بل هو خالق للزمان سابقه و لاحقه، فهو فوق الزمان و المكان، لا يحيطه زمان و لا يحويه مكان. و على ذلك فالصحيح في التفسير أن يقال إنّ الموجود الإمكاني ما يكون وجوده غير نابع من ذاته، بل يكون مسبوقا بالعدم و يطرأ عليه الوجود من قبل علّته، و يقابله واجب الوجود

ص: 183

و هو ما يكون وجوده نابعا من ذاته، و واجبا بذاته، يمتنع عليه تطرق العدم و لا يلابسه أبدا. و مثل ذلك لا يسبق وجوده العدم، فيكون قديما أزليا. كما يمتنع أن يطرأ عليه العدم، فيكون أبديا باقيا.

و باختصار، ضرورة الوجود و حتميته طاردة للعدم أزلا و أبدا و إلاّ لا يكون واجب الوجود بل ممكنه، و هو خلف الفرض.

و أما برهان هذه الصفات الأربع التابعة لوجوب وجوده فقد مضى بيانه عند البحث عن لزوم انتهاء الموجودات الإمكانية إلى واجب ضروري قائم بنفسه و بذاته، و إلاّ يمتنع ظهور الموجودات الإمكانية و تحققها.

و أمّا عدّ الأزلي و الأبدي و القديم و الباقي من أسمائه سبحانه، فعلى القول بأنّ أسماءه سبحانه توقيفية، لا يصح تسميته تعالى إلاّ بما ورد في الكتاب و السنّة. و الذي ورد منها في الروايات المروية عن الرسول الكريم و الأئمة (عليهم السلام) هو الأخيران أعني «القديم» و «الباقي»، دون الأوّلين، كما سيوافيك في آخر الفصل عند التعرض لأسمائه تعالى في الكتاب و السنّة.

إلى هنا تم البحث عن الصفات الثبوتية الذاتية و هي لا تنحصر في الثمانية التي تعرضنا لها، فكل كمال يعد كمالا مطلقا فهو تعالى متصف به، كما أنّ كل نقص فهو منزه عنه. و كلّ أسمائه التي وردت في الكتاب و السنّة تشير إلى كماله تعالى و تدفع الحاجة و النقص عن ساحة قدسه، فلو أردنا توصيفه سبحانه بوصف واحد جمعي، فهو الكمال المطلق أو الغنى المحض. و إذا أردنا تفسير ذلك الكمال و الوصف الواحد الجامع لجميع الصفات، فيكفي جعل الصفات الثمان الثبوتية التي بحثنا عنها شرحا له.

و من هنا يجعل الاسم الواحد من أسمائه سبحانه و هو «اللّه» رمزا للذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية.

هذا كله حول صفاته الثبوتيّة الذاتيّة، و يقع البحث في الباب الثاني التالي حول صفاته الثبوتيّة الفعليّة، و قد تقدم الفرق بينهما و تأتي الإشارة إليه مجدّدا.

ص: 184

الباب الثاني الصفات الثبوتية الفعلية

اشارة

1 - التّكلّم.

2 - الصّدق.

3 - الحكمة.

ص: 185

ص: 186

الصفات الثبوتية الفعلية قد عرفت عند تقسيم صفاته سبحانه أنّها على نوعين: صفات الذات، و صفات الفعل، و قلنا بأن الفرق بين النوعين هو أنّ الصفات التي يكفي في توصيفه سبحانه بها فرض ذاته فهي صفات الذات، كالقدرة و الحياة و العلم.

و أما الصفات التي يتوقف توصيفه سبحانه بها على صدور فعل منه و فرض شيء غير الذات فهي صفات الفعل المنتزعة من فعله سبحانه. و إلى هذا الفرق يرجع ما اشتهر في الكتب الكلامية من أنّ كل وصف لا يقبل النفي و الإثبات و يكون أحاديّ التعلّق فهو صفة الذات، و ما لا يكون كذلك و يقع في إطار النفي تارة و الإثبات أخرى فهو صفة الفعل. فلا يقال إنه سبحانه يعلم و لا يعلم، و لكن يقال إنه سبحانه يغفر و لا يغفر. و الهدف في هذا المقام هو البحث عن بعض صفات فعله سبحانه كالتكلّم و الصّدق، فهو سبحانه متكلم و صادق. فإنّ له سبحانه حسب أسمائه و صفاته مجالي في عالم الإيجاد، و مظاهر في عالم الخلق، فهو محيي و مميت، و رازق و منعم، و رحيم و غفور إلى غير ذلك من أسمائه و صفاته التي ستوافيك في آخر الفصل بإذنه تعالى.

ص: 187

ص: 188

الصفات الفعلية

(1) التّكلّم
اشارة

أجمع المسلمون تبعا للكتاب و السنّة على كونه سبحانه متكلما و يبدو أنّ البحث في هذا الوصف هو أوّل مسألة طرحت على بساط المناقشات في تاريخ علم الكلام و إن لم يكن أمرا قطعيا. و قد شغلت مسألة الكلام الإلهي، و أنّه ما هو، و هل هو حادث أو قديم، بال العلماء و المفكّرين الإسلاميين في عصر الخلفاء، و حدثت بسببه مشاجرات بل صدامات دامية ذكرها التاريخ و سجل تفاصيلها و عرفت ب «محنة خلق القرآن» و يمكننا أن نلاحظ لذلك عاملين رئيسيين:

الأول: الفتوحات الإسلامية التي أوجبت اختلاط المسلمين بغيرهم و صارت مبدأ لاحتكاك الثقافتين الإسلامية و الأجنبية. و في ذلك الخضمّ المشحون بتضارب الأفكار طرحت مسألة تكلمه سبحانه في الأوساط الإسلامية.

الثاني: ترويج الخلفاء البحث عن هذه المسألة و نظائرها حتى ينصرف المفكرون عن نقد أفعالهم و انحرافاتهم.

و لا بدّ من التنبيه على مصدر بث هذه الفكرة بالخصوص فنقول: إنّ البحث في حقيقة كلامه سبحانه أولا، و كونه مخلوقا أو غير مخلوق، حادثا

ص: 189

أو قديما ثانيا، مما أثاره النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي و على رأسهم يوحنا الدمشقي الذي كان يشكّك المسلمين في دينهم. فبما أن القرآن نصّ على أنّ عيسى بن مريم كلمة اللّه ألقاها إلى مريم، صار ذلك وسيلة لأن يبث هذا الرجل بين المسلمين قدم كلمة اللّه عن طريق خاص، و هو أنّه كان يسألهم: أ كلمة اللّه قديمة أو لا؟.

فإن قالوا: قديمة.

قال: ثبت دعوى النصارى بأنّ عيسى قديم.

و إن قالوا: لا.

قال: زعمتم أنّ كلامه مخلوق.

فلأجل ذلك قامت المعتزلة لحسم مادة النزاع، فقالوا: إنّ القرآن حادث لا قديم، مخلوق للّه سبحانه.

و لمّا لم تكن هذه المسألة مطروحة في العصور السابقة بين المسلمين تشعبت فيها الآراء و تضاربت الأقوال، حتى لقد صدرت بعض النظريات الموهونة جدا كما سيأتي. لكن نظرية المعتزلة لاقت القبول في عصر الخليفة المأمون إلى عصر المتوكل، إلاّ أنّ الأمر انقلب من عصر المتوكل إلى زمن انقضاء المعتزلة لصالح أهل الحديث و الحنابلة.

و في الفترتين وقعت حوادث مؤسفة و أريقت دماء بريئة، شغلت بال المسلمين عن التفكر فيما يهمهم من أمر الدّين و الدّنيا، و كم لهذه المسألة من نظير في تاريخ المسلمين!!.

و قبل الخوض في المقصود نقدم أمورا:

الأول - إنّ وصف الكلام عند الأشاعرة و الكلابيّة - الذين أثبتوا للّه كلاما قديما - من صفات الذات، بخلاف المعتزلة و الإمامية فهو عندهم من صفات فعله و سيوافيك الحق في ذلك. و قد حدث ذلك الاختلاف من ملاحظة قياسين متعارضين، فالأشاعرة تبعوا القياس التالي:

ص: 190

كلامه تعالى وصف له، و كل ما هو وصف له فهو قديم، فكلامه تعالى قديم. و أما غيرهم فقد تبعوا قياسا غيره، و هو: كلامه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متفاوتة متعاقبة في الوجود، و كل ما هو كذلك فهو حادث، فكلامه تعالى حادث.

و الأشاعرة - لأجل تصحيح كونه قديما - فسّروه بأنّه معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسي. و المعتزلة و الإمامية أخذوا بالقياس الثاني و قالوا إنّ معنى كلامه أنّه موجد للحروف و الأصوات في الخارج، فهو حادث.

و لبعض الحنابلة هنا قول آخذ بكلا القياسين المتناقضين حيث قالوا إنّ كلامه حروف و أصوات قائمة بذاته و في الوقت نفسه هي قديمة، و هذا من غرائب الأقوال و الأفكار.

الثاني: إنّ تفسير كونه سبحانه متكلما لا ينحصر في الآراء الثلاثة المنقولة عن الأشاعرة و العدلية (المعتزلة و الإمامية) و الحنابلة، بل هناك رأي رابع أيّدته البراهين الفلسفية و أوضحته النصوص القرآنية و ورد في أحاديث أئمة أهل البيت، و حاصله: إنّ العالم بجواهره و أعراضه، فعله و في الوقت نفسه كلامه، و سوف يوافيك توضيح هذه النظرية.

الثالث: إن الطريق إلى ثبوت هذه الصفة عند الأشاعرة هو العقل و عند العدلية هو السمع، و سوف يوافيك دليل الأشاعرة عند البحث عن نظريتهم.

و أمّا النقل فقد تضافرت الآيات على توصيفه به، قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ (1). و قال تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً (2). و قال سبحانه: وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ (3). و قال تعالى: وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ3.

ص: 191


1- سورة البقرة: الآية 253.
2- سورة النساء: الآية 164.
3- سورة الأعراف: الآية 143.

بِإِذْنِهِ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (1) و قد بيّن تعالى أن تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:

1 - «إلاّ وحيا».

2 - «أو من وراء حجاب».

3 - «أو يرسل رسولا».

فقد أشار بقوله: إِلاّٰ وَحْياً إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة و خفاء.

كما أشار بقوله: أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ إلى الكلام المسموع لموسى (عليه السلام) في البقعة المباركة. قال تعالى: فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ ، مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (2).

و أشار بقوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً إلى الإلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي، قال سبحانه: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ (3) ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه تارة بلا واسطة بالإلقاء في الرّوع، أو بالتكلم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت و لا يرى المتكلم، و أخرى بواسطة الرسول. فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

الرابع: في حقيقة كلامه سبحانه.

قد عرفت أنّه لا خلاف بين المسلمين في توصيفه سبحانه بالتكلم و إنما الخلاف في حقيقته أولا، و يتفرع عليه حدوثه و قدمه ثانيا، فيجب البحث في مقامين.4.

ص: 192


1- سورة الشورى: الآية 51.
2- سورة القصص: الآية 30.
3- سورة الشعراء: الآيتان 193 و 194.
المقام الأول - حقيقة كلامه تعالى
اشارة

إليك فيما يلي الآراء المطروحة في حقيقة كلامه تعالى:

أ - نظرية المعتزلة:

قالت المعتزلة، كلامه تعالى أصوات و حروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل أو النبي. و قد صرح بذلك القاضي عبد الجبار فقال: «حقيقة الكلام، الحروف المنظومة، و الأصوات المقطّعة، و هذا كما يكون منعما بنعمة توجد في غيره، و رازقا برزق يوجد في غيره، فهكذا يكون متكلما بإيجاد الكلام في غيره و ليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه الفعل»(1).

و الظاهر أنى كونه سبحانه متكلما بهذا المعنى لا خلاف فيه، إنّما الكلام في حصر التكلم بهذا المعنى. قال في شرح المواقف: «هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله و نسميه كلاما لفظيا و نعترف بحدوثه و عدم قيامه بذاته تعالى و لكن نثبت أمرا وراء ذلك»(2).

يلاحظ على هذه النظرية أنّ ما ذكره من تفسير كلامه سبحانه بإيجاد الحروف و الأصوات في الأشياء، إنّما يصح في الكلام الذي يخاطب به سبحانه شخصا أو أمة. فطريقه هو ما ذكره المعتزلة، و إليه ينظر ما ذكرنا من الآيات حول تكليمه سبحانه موسى أو غيره(3). و امّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلا بدّ أن يكون كلامه سبحانه على وجه الإطلاق هو فعله المنبئ عن جماله، المظهر لكماله. فاكتفاء المعتزلة بما ذكروا من التفسير إنّما يناسب القسم الأول، و أمّا القسم الثاني فلا ينطبق عليه. إذ فعله على وجه الإطلاق ليس من قبيل الأصوات و الألفاظ، بل عبارة عن الأعيان الخارجية و الجواهر و الأعراض. و قد سمّى سبحانه فعله

ص: 193


1- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، المتوفي عام 415، ص 528. و شرح المواقف للسيد الشريف ص 495.
2- شرح المواقف، ج 1، ص 77. و سيوافيك الأمر الآخر الذي يثبته الأشاعرة.
3- قال سبحانه: وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً سورة النساء: الآية 164. و قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ وَحْياً.. سورة الشورى: الآية 51.

كلاما في غير واحد من الآيات و هذه هي النظرية التي نذكرها فيما يلي:

ب - نظرية الحكماء:

لا شك أنى الكلام في أنظار عامة الناس هو الحروف و الأصوات الصادرة من المتكلم، القائمة به. و هو يحصل من تموّج الهواء و اهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه. و لكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في إطلاقه فيطلق الكلام على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص، و يقول هذا كلام النبي أو إلقاء امرئ القيس، مع أنّ كلامهما قد زال بزوال الموجات و الاهتزازات. و ما هذا إلاّ من باب التوسّع في الإطلاق و مشاهدة ترتّب الأثر على المروي و المنقول.

و على هذا فكل فعل من المتكلم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه من إبراز ما يكتنفه الفاعل في سريرته من المعاني و الحقائق، يصحّ تسميته كلاما من باب التوسّع و التّطوير. و قد عرفت أنى المصباح وضع حينما وضع على مصداق بسيط لا يعدو الغصن المشتعل. و لكن لما كان أثره - و هو الإنارة - موجودا في الجهاز الزيتي و الغازي و الكهربائي أطلق على الجميع، و مثل ذلك الحياة على النحو الذي أوضحناه. فإذا صحت تلك التسمية و جاز ذلك التوسع في ذينك اللفظين، يجوز في لفظ «الكلام» فهو و إن وضع يوم وضع للأصوات و الحروف المتتابعة الكاشفة عمّا يقوم في ضمير المتكلم من المعاني، إلاّ أنّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات و الحروف المتتابعة بنحو أعلى و أتم لصحت تسميته كلاما أو كلمة. و هذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمى بالكلام الفعلي، ففعل كل فاعل يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم و القدرة و العظمة و الكمال. غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر و الضمائر اعتبارية و دلالة الأفعال و الآثار على ما عليه الفاعل و المؤثر من العظمة تكوينية.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنّه كلمة اللّه التي ألقاها إلى مريم العذراء و يقول:

ص: 194

يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ .

إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ (1) .

و كيف لا يكون سيدنا المسيح كلمة اللّه مع أنّه يكشف عن قدرة اللّه سبحانه على خلق الإنسان في الرحم من دون لقاء بين أنثى و ذكر، و لأجل ذلك عدّ وجوده آية و معجزة.

و في ضوء هذا الأصل يعدّ سبحانه كل ما في الكون من كلماته و يقول: قُلْ لَوْ كٰانَ اَلْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمٰاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنٰا بِمِثْلِهِ مَدَداً (2).

و يقول سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ (3)يقول علي (عليه السلام): «يقول لما أراد كونه: كن، فيكون. لا بصوت يقرع، و لا بنداء يسمع، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا»(4).

و قد نقل عنه (عليه السلام) أنّه قال مبيّنا عظمة خلقة الإنسان:

أ تزعم أنّك جرم صغير *** و فيك انطوى العالم الأكبر

و أنت الكتاب المبين الذي *** بأحرفه يظهر المضمر

فكل ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته، و تخبر عمّا في المبدأ من كمال و جمال و علم و قدرة.

و هناك كلام للعلامة الطباطبائي قدس سره نأتي بخلاصته:ه.

ص: 195


1- سورة النساء: الآية 171.
2- سورة الكهف: الآية 109.
3- سورة لقمان: الآية 27.
4- نهج البلاغة، الخطبة 179، ج 2، ص 122، ط عبده.

ما يسمى عند الناس قولا و كلاما عبارة عن إبراز الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى، فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع انتقل المعنى الموجود في ذهن المتكلم إلى ذهنهما فحصل بذلك الغرض من الكلام و هو التفهيم و التفهّم. و هناك نكتة نبه عليها الحكماء فقالوا: حقيقة الكلام متقوّمة بما يدل على معنى خفي مضمر، و أما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإنسان، و مروره من طريق الحنجرة و اعتماده على مقاطع الفم و كونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا، فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق و ليست دخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوّم به الكلام.

فالكلام اللفظي الموضوع، الدال على ما في الضمير، كلام. و كذا الإشارة الوافية لإرادة المعنى، كلام، كما أنّ إشارتك بيدك إلى القعود و القيام، أمر و قول. و كذا الوجودات الخارجية فإنها لمّا كانت حاكية بوجودها عن وجود علّتها، و بخصوصياتها عن الخصوصيات الكامنة فيها، صارت الوجودات الخارجية - بما أنّ وجودها مثال لكمال علّتها - كلاما. و عليه فمجموع العالم الإمكاني كلام اللّه سبحانه، يتكلم به بإيجاده و إنشائه، فيظهر المكنون من كمال أسمائه و صفاته. و كما أنّه تعالى خالق العالم و العالم مخلوقه، كذلك هو تعالى متكلم بالعالم، مظهر به خبايا الأسماء و الصفات، و العالم كلامه(1).

قال أمير المؤمنين و سيد الموحدين (عليه السلام) في نهج البلاغة:

«يخبر لا بلسان و لهوات، و يسمع لا بخروق و أدوات، يقول و لا يلفظ، و يحفظ و لا يتحفّظ، و يريد و لا يضمر، يحبّ و يرضى من غير رقّة، و يبغض و يغضب من غير مشقّة، يقول لمن أراد كونه: كن. فيكون، لا بصوت يقرع، و لا بنداء يسمع، و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا»(2).ه.

ص: 196


1- الميزان، ج 2، ص 325، ط بيروت، بتلخيص.
2- نهج البلاغة، الخطبة 179، ج 2، ص 122، ط عبده.

و إلى ذلك يشير المحقق السبزواري في منظومته بقوله:

لسالك نهج البلاغة انتهج *** كلامه سبحانه الفعل خرج

إن تدر هذا، حمد الأشياء تعرف *** إن كلماته إليها تضف(1).

إلى هنا وقفت على نظرية الحكماء في كلامه سبحانه و قد حان وقت البحث عن نظرية الأشاعرة في هذا المقام.

ج - نظرية الأشاعرة:

جعلت الأشاعرة التكلم من الصفات الذاتيّة، و وصفوا كلامه سبحانه بالكلام النفسي، و قالوا: إنّ الكلام النفسي غير العلم و غير الإرادة و الكراهة. و قد تفننوا في تقريب ما ادّعوه بفنون مختلفة، و قبل أن نقوم بنقل نصوصهم نرسم مقدمة مفيدة في المقام فنقول: لا شك أنّ المتكلم عند ما يخبر عن شيء ففيه عدة تصورات و تصديق، كلها من مقولة العلم، أما التصور فهو عبارة عن إحضار الموضوع و المحمول و النسبة بينهما في الذهن. و أما التصديق فهو الإذعان بنفس النسبة على المشهور.

و لا شك أنّ التصور و التصديق شعبتا العلم. و العلم ينقسم إليهما. و قد قالوا: العلم إن كان إذعانا بالنسبة فتصديق و إلاّ فتصور. هذا في الإخبار عن الشيء.

و أما الإنشاء، ففي مورد الأمر، إرادة في الذهن، و في مورد النهي، كراهة فيه. و في الاستفهام و التمني و الترجي ما يناسبها.

فالأشاعرة قائلون بأنّ في الجمل الإخبارية - وراء العلم - و في الإنشائية، كالأمر و النهي مثلا، وراء الإرادة و الكراهة، شيء في ذهن المتكلم يسمى بالكلام النفسي و هو الكلام حقيقة، و أما الكلام اللفظي فهو تعبير عنه، و هذا الكلام (النفسي) في الإنسان حادث بتبع حدوث ذاته، و فيه سبحانه قديم لقدم ذاته، و لأجل إيضاح الحال نأتي بنصوص أقطاب الأشاعرة في المقام.

ص: 197


1- شرح منظومة السبزواري، لناظمها، ص 190.

1 - قال الفاضل القوشجي في شرح التجريد: «إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها، نسمّيها بالكلام الحسّي. و المعنى الذي يجده في نفسه و يدور في خلده، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع و الاصطلاحات، و يقصد المتكلم حصوله في نفس السامع على موجبه، هو الذي نسمّيه الكلام»(1).

و لا يخفى أن ما ذكره مجمل لا يعرب عن شيء واضح، و لكن الفضل بن روزبهان ذكر كلاما أوضح من كلامه.

2 - قال الفضل في نهج الحق: «إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة، و تارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ و يقولون هو الكلام حقيقة، و هو قديم قائم بذاته. و لا بد من إثبات هذا الكلام، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلف من الحروف و الأصوات فنقول:

ليرجع الشخص إلى نفسه أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر و يرتب معاني فيعزم على التكلّم بها، كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنه يرتب في نفسه معاني و أشياء و يقول في نفسه سأتكلم بهذا. فالمنصف يجد من نفسه هذا البتّة. فها هو الكلام النفسي.

ثم نقول على طريقة الدليل إنّ الألفاظ التي نتكلم بها لها مدلولات قائمة بالنفس فنقول هذه المدلولات هي الكلام النفسي»(2).

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكره صحيح و لكن المهم إثبات أنّ هذه المعاني في الإخبار غير العلم، و هو غير ثابت بل الثابت خلافه، و أنّ المعاني التي تدور في خلد المتكلم ليست إلاّ تصور المعاني المفردة، أو المركبة، أوف.

ص: 198


1- شرح التجريد للقوشجي، ص 420.
2- نهج الحق المطبوع في ضمن دلائل الصدق، ص 146، ط النجف.

الإذعان بالنسبة، فيرجع الكلام النفسي إلى التصورات و التصديقات، فأي شيء هنا وراء العلم حتى نسمّيه بالكلام النفسي. كما أنّه عند ما يرتب المتكلم المعاني الإنشائية، فلا يرتب إلا إرادته و كراهته أو ما يكون مقدمة لهما، كتصور الشيء و التصديق بالفائدة. فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة و الكراهة، فأي شيء هنا غيرهما و غير التصوّر حتى نسميه بالكلام النفسي. و عند ذلك لا يكون التكلم وصفا وراء العلم في الإخبار و وراءه مع الإرادة في الإنشاء. مع أنّ الأشاعرة يصرّون على إثبات وصف للمتكلم وراء العلم و الإرادة، و لأجل ذلك يقولون: كونه متكلما بالذات، غير كونه عالما و مريدا بالذات. و الأولى أن نستعرض ما استدلوا به على أنّ الكلام النفسي شيء وراء العلم. و هذا بيانه:

الأول: إنّ الكلام النفسي غير العلم لأن الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه، فالإخبار عن الشيء غير العلم به. قال السيد الشريف في شرح المواقف: «و الكلام النفسي في الإخبار معنى قائم بالنفس لا يتغير بتغير العبارات و هو غير العلم إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه، بل يعلم خلافه، أو يشكّ فيه»(1).

يلاحظ عليه: إنّ المراد من رجوع كل ما في الذهن في ظرف الإخبار إلى العلم، هو الرجوع إلى العلم الجامع بين التصور و التصديق. فالمخبر الشاك أو العالم بالخلاف يتصور الموضوع و المحمول و النسبة الحكميّة ثم يخبر. فما في ذهنه من هذه التصورات الثلاثة لا يخرج عن إطار العلم، و هو التصور. نعم ليس في ذهنه الشق الآخر من العلم و هو التصديق. و منشأ الاشتباه تفسير العلم بالتصديق فزعموا أنّه غير موجود عند الإخبار في ذهن المخبر الشاك أو العالم بالخلاف، و الغفلة عن أنّ عدم وجود العلم بمعنى التصديق لا يدلّ على عدم وجود القسم الآخر من العلم و هو التصوّر.4.

ص: 199


1- شرح المواقف، ج 2، ص 94.

الثاني: ما استدلوا به في مجال الإنشاء قائلين بأنه يوجد في ظرف الإنشاء شيء غير الإرادة و الكراهة، و هو الكلام النفسي، لأنه قد يأمر الرجل بما لا يريده، كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا، فالمقصود هو الاختبار دون الإتيان(1).

يلاحظ عليه: أولا: إنّ الأوامر الاختبارية على قسمين:

قسم تتعلق الإرادة فيه بنفس المقدّمة و لا تتعلق بنفس الفعل، كما في أمره سبحانه «الخليل» (عليه السلام) بذبح اسماعيل. و لأجل ذلك لما أتى «الخليل» بالمقدمات نودي أَنْ يٰا إِبْرٰاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا... (2).

و قسم تتعلق الإرادة فيه بالمقدمة و ذيها غاية الأمر أنّ الداعي إلى الأمر مصلحة مترتبة على نفس القيام بالفعل، لا على ذات الفعل، كما إذا أمر الأمير أحد وزرائه في الملأ العام بإحضار الماء لتفهيم الحاضرين بأنّه مطيع غير متمرّد. و في هذه الحالة - كالحالة السابقة - لا يخلو المقام من إرادة، غاية الأمر أنّ القسم الأول تتعلق الإرادة فيه بالمقدمة فقط، و هنا بالمقدمة مع ذيها. فما صحّ قولهم إنّه لا توجد الإرادة في الأوامر الاختبارية.

و ثانيا: إنّ الظاهر من المستدل هو تصور أنّ إرادة الآمر تتعلق بفعل الغير، أي المأمور، فلأجل ذلك يحكم بأنّه لا إرادة متعلّقة بفعل الغير في الأوامر الامتحانية، و يستنتج أنّ فيها شيئا غير الإرادة ربما يسمى بالطلب عندهم أو بالكلام النفسي. و لكن الحق غير ذلك فإنّ إرادة الآمر لا تتعلق بفعل الغير لأنّ فعله خارج عن إطار اختيار الآمر، و ما هو كذلك لا يقع متعلقا للإرادة. فلأجل ذلك، إنّ ما اشتهر من القاعدة من تعلّق إرادة الآمر و الناهي بفعل المأمور به، كلام صوري، إذ هي لا تتعلق إلاّ بالفعل الاختياري و ليس5.

ص: 200


1- نفس المصدر.
2- سورة الصافات: الآية 105.

فعل الغير من أفعال الآمر الاختيارية، فلا محيص من القول بأن إرادة الآمر متعلقة بفعل نفسه و هو الأمر و النهي، و إن شئت قلت إنشاء البعث إلى الفعل أو الزجر عنه، و كلاهما واقع في إطار اختيار الآمر و يعدان من أفعاله الاختيارية.

نعم، الغاية من البعث و الزجر هو انبعاث المأمور إلى ما بعث إليه، أو انتهاؤه عمّا زجر عنه لعلم المكلّف بأنّ في التخلف مضاعفات دنيوية أو أخروية.

و على ذلك يكون تعلق إرادة الآمر في الأوامر الجدّية و الاختبارية على وزان و هو تعلق إرادته ببعث المأمور و زجره، لا فعل المأمور و لا انزجاره فإنه غاية للآمر لا مراد له. فالقائل خلط بين متعلّق الإرادة، و ما هو غاية الأمر و النهي.

و ربما يبدو في الذهن أن يعترض على ما ذكرنا بأنّ الآمر إذا كان إنسانا لا تتعلق إرادته بفعل الغير لخروجه عن اختياره و أما الواجب سبحانه فهو آمر قاهر، إرادته نافذة في كل شيء، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي اَلرَّحْمٰنِ عَبْداً (1).

و لكنّ الإجابة عن هذا الاعتراض واضحة، فإنّ المقصود من الإرادة هنا هو الإرادة التشريعية لا الإرادة التكوينية القاهرة على العباد المخرجة لهم عن وصف الاختيار الجاعلة لهم كآلة بلا إرادة، فهي خارجة عن مورد البحث.

قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (2).

فهذه الآية تعرب عن عدم تعلق مشيئته سبحانه بإيمان من في الأرض، و لكن من جانب آخر تعلقت مشيئته بإيمان كل مكلف واع. قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ9.

ص: 201


1- سورة مريم: الآية 93.
2- سورة يونس: الآية 99.

يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ (1) . فقوله: «الحقّ » عام، كما أنّ هدايته السبيل عامة مثله لكل الناس.

و قال سبحانه: يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (2)، إلى غير ذلك من الآيات الناصّة على عموم هدايته التشريعية(3).

الثالث - إنّ العصاة و الكفار مكلّفون بما كلّف به أهل الطاعة و الإيمان بنصّ القرآن الكريم، و التكليف عليهم لا يكون ناشئا من إرادة اللّه سبحانه و إلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده، و لا بدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف و هو الذي نسميه بالكلام النفسي تارة، و الطلب أخرى، فيستنتج من ذلك أنّه يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة.

و قد أجابت عنه المعتزلة بأن إرادته سبحانه لو تعلقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد، و أمّا إذا تعلّقت بفعل الغير، فبما أنّها تعلقت بالفعل الصادر من العبد عن حرية و اختيار فلا محالة يكون الفعل مسبوقا باختيار العبد، فإن أراد و اختار العبد يتحقق الفعل، و إن لم يرد فلا يتحقق.

و بعبارة أخرى: لم تتعلق مشيئته سبحانه على صدور الفعل من العبد على كل تقدير، أي سواء أراده أم لم يرده، و إنّما تعلقت على صدوره منه بشرط سبق الإرادة، فإن سبقت يتحقق الفعل و إلاّ فلا.

و الأولى أن يقال: إنّ إرادته سبحانه لا تتخلف عن مراده مطلقا من غير فرق بين الإرادة التكوينيّة و الإرادة التشريعيّة. أمّا الأولى، فلأنّه لو تعلقت إرادته التكوينية على إيجاد الشيء مباشرة أو عن طريق الأسباب فيتحقق لا محالة، قال سبحانه: إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْب.

ص: 202


1- سورة الأحزاب: الآية 4.
2- سورة النساء: الآية 26.
3- سيوافيك البحث مفصلا في عموم هدايته سبحانه في ختام الفصل السّادس من الكتاب.

فَيَكُونُ (1) .

و أمّا الثّانية، فلأن متعلّقها هو نفس الإنشاء و البعث، أو نفس الزجر و التنفير، و هو متحقق بلا شك في جميع أوامره و نواهيه، سواء امتثل العبد أم خالف.

و أمّا فعل العبد و انتهاؤه فليسا متعلقين للإرادة التشريعية في أوامره و نواهيه، فتخلّفهما لا يعدّ نقضا للقاعدة، لأنّ فعل الغير لا يكون متعلقا لإرادة أحد، لعدم كون فعل الغير في اختيار المريد(2)، و لأجل ذلك قلنا في محله إنّ الإرادة التشريعية إنما تتعلق بفعل النفس، أي إنشاء البعث و الزجر، لا فعل الغير.

فخرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ الإرادة التشريعيّة موجودة في مورد العصاة و الكفّار، و المتعلّق متحقق، و إن لم يمتثل العبد.

الرابع - ما ذكره الفضل بن روزبهان من أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلم من قامت به صفة التكلّم، و لو كان معنى كونه سبحانه متكلما هو خلقه الكلام، فلا يكون ذلك الوصف قائما به، فلا يقال لخالق الكلام متكلم، كما لا يقال لخالق الذوق أنّه ذائق(3).

يلاحظ عليه: إنّ قيام المبدأ بالفاعل ليس قسما واحدا و هو القسم الحلولي، بل له أقسام، فإنّ القيام منه ما هو صدوري، كالقتل و الضرب في القاتل و الضّارب، و منه حلولي كالعلم و القدرة في العالم و القادر.

و التّكلّم كالضرب ليس من المبادي الحلولية في الفاعل بل من المبادي الصدوريّة، فلأجل أنّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه أنّه متكلم وزان إطلاق القاتل عليه سبحانه. بل ربما يصح الإطلاق و إن لم يكن المبدأ قائماف.

ص: 203


1- سورة يس: الآية 82.
2- حتى لو كان المريد هو اللّه تعالى - و إن أمكن - و إلا كان على وجه الإلجاء و الجبر المنفيين عنه سبحانه كما سيأتي في الفصل السادس.
3- دلائل الصّدق، ج 1، ص 147، ط النّجف الأشرف.

بالفاعل أبدا لا صدوريا و لا حلوليّا بل يكفي نوع ملابسة بالمبدإ، كالتّمار و اللبّان لبائع التمر و اللبن. و أما عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أنّ صدق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليست قياسية حتى يطلق عليه سبحانه الذائق و الشامّ بسبب إيجاده الذوق و الشم. و ربما احترز الإلهيون عن توصيفه بهما لأجل الابتعاد عمّا يوهم التجسيم و لوازمه.

الخامس - إنّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي، يطلق على الموجود في النفس. قال سبحانه: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ (1).

يلاحظ عليه: إنّ إطلاق «القول» على الموجود في الضمير من باب العناية و المشاكلة. فإنّ «القول» من التقوّل باللسان فلا يطلق على الموجود في الذهن الذي لا واقعية له إلاّ الصورة العلميّة إلاّ من باب العناية.

حصيلة البحث

إنّ الأشاعرة زعموا أنّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية و الإنشائية وراء التصورات و التصديقات في الأولى، و وراء الإرادة في الثانية شيئا يسمونه «الكلام النفسي»، و ربما خصوا لفظ «الطلب» بالكلام النفسي في القسم الإنشائي. و بذلك صححوا كونه سبحانه متكلما، ككونه عالما و قادرا و أنّ الكلّ من الصفات الذاتية.

و لكنّ البحث و التحليل - كما مرّ عليك - أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه، لما عرفت من أنه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية، و لا وراء الإرادة و الكراهة في الجمل الإنشائية شيء نسميه كلاما نفسيّا. كما عرفت أنّ الطلب أيضا هو نفس الإرادة. و لو أرادوا بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه، يرجع لبه إلى العلم و لا

ص: 204


1- سورة الملك: الآية 13.

يزيد عليه، و إن أرادوا به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناه.

و أما التجاء الأشعري فيما ذهب إليه إلى انشاد قول الشاعر:

إنّ الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالأبحاث العقلية أرفع مكانة من أن يستدل عليها بأشعار الشعراء(1).

و بذلك تقف على أنّ ما يقوله المحقق الطوسي من أنّ «الكلام النفسي غير معقول»، أمر متين لا غبار عليه.

إلى هنا تم بيان النظريات الثّلاث: المعتزلة و الحكماء و الأشاعرة(2).

و به تم الكلام في المقام الأول، و حان أوان البحث في المقام الثاني و هو حدوث كلامه تعالى أو قدمه.

المقام الثاني - في حدوثه و قدمه
اشارة

لما ظهرت الفلسفة و أثيرت مسائل صفات اللّه تعالى بين المتكلمين، كانت أهمّ مسألة طرحت على بساط البحث مسألة كلام اللّه تعالى و خلق القرآن. و قد تبنى المعتزلة القول بخلق القرآن و انبروا يدافعون عنه بشتى الوسائل. و لما كانت الخلافة العباسية في عصر المأمون و من بعده إلى زمن الواثق باللّه، تؤيد حركة الاعتزال و آراءها، استفاد المعتزلة من هذا الغطاء، و قاموا باختبار علماء الأمصار الإسلامية في هذه المسألة. و كانت نتيجة هذا الامتحان أن أجاب جميع الفقهاء في ذلك العصر بنظرية الخلق و لم يمتنع إلاّ نفر قليل على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل.

و يمكن إرجاع مسألة أنّ كلام اللّه تعالى غير مخلوق إلى القرن الثاني.

ص: 205


1- لاحظ الميزان، ج 14، ص 250.
2- و أما نظرية الحنابلة فنبحث عنها في المقام الثاني لئلا يلزم التكرار.

و بقيت في طي الكتمان إلى زمن المأمون. و مع أنّ أهل الحديث يلتزمون بعدم التفوه بشيء لم يرد فيه نص عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أو عهد من الصحابة، إلاّ أنّهم خالفوا مبدأهم في هذه المسألة، إلى أن انجرّ بهم الأمر إلى إعلانها على رءوس الأشهاد و صهوات المنابر. و السبق في ذلك بينهم يرجع إلى أحمد بن حنبل و مواقفه. فقد أخذ يروج لفكرة عدم خلق القرآن أو قدمه، و يدافع عنها بحماس، متحملا في سبيلها من المشاق ما هو مسطور في زبر التاريخ. و قد عرفت امتناعه عن الإقرار بخلق القرآن عند استجواب الفقهاء فسجن و عذّب و جلد بالسياط، و رغم كل ذلك لم ير منه إلاّ الثبات و الصمود، و كان هذا هو أبرز العوامل التي أدّت إلى اشتهاره و طيران صيته في البلاد الإسلامية فيما بعد. و قد سجل التاريخ جملة من المناظرات التي جرت بينه و بين المفكرين من المتكلمين.

و لأجل إيضاح الحال في المقام نأتي بما جاء به أحمد بن حنبل و أبو الحسن الأشعري في هذا المجال.

قال أحمد بن حنبل: «و القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر، و من زعم أنّ القرآن كلام اللّه عزّ و جل و وقف و لم يقل مخلوق و لا غير مخلوق، فهو أخبث من الأول. و من زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة، و القرآن كلام اللّه، فهو جهميّ . و من لم يكفّر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم.

و كلّم اللّه موسى تكليما، من اللّه سمع موسى يقينا، و ناوله التوراة من يده، و لم يزل اللّه متكلما عالما، تبارك اللّه أحسن الخالقين»(1).

و قال أبو الحسن الأشعري: «و نقول إنّ القرآن كلام اللّه غير مخلوق و إنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر»(2).1.

ص: 206


1- كتاب السنة، لأحمد بن حنبل، ص 49.
2- الإبانة، ص 21، و لاحظ مقالات الإسلاميين، ص 321.

و قد نقل عن إمام الحنابلة أنّه قيل له: هاهنا قوم يقولون القرآن لا مخلوق و لا غير مخلوق. فقال: هؤلاء أضرّ من الجهميّة على الناس، ويلكم فإن لم تقولوا: ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. فقال أحمد هؤلاء قوم سوء. فقيل له: ما تقول ؟ قال: الذي أعتقد و أذهب إليه و لا شكّ فيه أنّ القرآن غير مخلوق. ثم قال: سبحان اللّه، و من شك في هذا؟(1).

هذا ما لدى المحدّثين و الحنابلة و الأشاعرة. و أمّا المعتزلة فيقول القاضي عبد الجبار: «أما مذهبنا في ذلك إنّ القرآن كلام اللّه تعالى و وحيه و هو مخلوق محدث أنزله اللّه على نبيه ليكون علما و دالا على نبوته، و جعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام، و استوجب منا بذلك الحمد و الشكر، و إذا هو الذي نسمعه اليوم و نتلوه و إن لم يكن (ما نقرؤه) محدثا من جهة اللّه تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة، و إن لم يكن (امرؤ القيس) محدثا لها الآن»(2).

و قبل الخوض في تحليل المسألة نقدم أمورا:

1 - إذا كانت مسألة خلق القرآن أو قدمه بمثابة أوجدت طائفتين يكفّر كل منهما عقيدة الآخر، فإمام الحنابلة يقول: إنّ من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر، و المعتزلة تقول: إنّ القول بكون القرآن غير مخلوق أو قديم شرك باللّه سبحانه، فيجب تحليلها على ضوء العقل و الكتاب و السنة باجتناب كل هياج و لغط. و مما لا شك فيه أن المسألة كانت قد طرحت في أجواء خاصة عزّ فيها التفاهم و ساد عليها التناكر. و إلاّ فلا معنى للافتراق في أمر تزعم إحدى الطائفتين أنه ملاك الكفر و أنّ التوحيد في خلافه، و تزعم الطائفة الأخرى عكس ذلك.

و لو كانت مسألة خلق القرآن بهذه المثابة لكان على الوحي التصريح8.

ص: 207


1- الإبانة، ص 69. و قد ذكر في ص 76، أسماء المحدثين القائلين بأنّ القرآن غير مخلوق.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 528.

بأحد القولين و رفع الستار عن وجه الحقيقة، مع أنّا نرى أنّه ليس في الشريعة الإسلامية نص في المسألة، و إنّما ظهرت في أوائل القرن الثاني. نعم، استدلت الطائفتان ببعض الآيات، غير أنّ دلالتها خفيّة، لا يقف عليها - على فرض الدلالة - إلاّ الأوحدي. و ما يعدّ ملاك التوحيد و الشّرك يجب أن يرد فيه نص لا يقبل التأويل و يقف عليه كل حاضر و باد.

و قد نقل الأشعري في كتابه (الإبانة) أخبارا في شرك أبي حنيفة و البراءة منه و استتابة ابن أبي ليلى إياه لقوله بخلق القرآن، فتاب تقية، مخافة أن يقدم عليه، كما صرّح هو نفسه بذلك(1). مع أنّ الطحاوي ذكر في عقائده ما يناقض ذلك و قال بعدم خلق القرآن رغم أنّه حنفيّ المشرب و المسلك.

2 - كان بعض السلف يتحرّجون من وصف القرآن بأنه قديم و قالوا فقط إنه غير مخلوق. لكنهم تدرّجوا في هذا القول حتى وصفوا كلام اللّه بأنه قديم. و من المعلوم أنّ توصيف شيء بأنه غير مخلوق أو قديم مما لا يتجرّأ عليه العارف، لأن هذين الوصفين من خصائص ذاته فلو كان كلامه سبحانه غير ذاته فكيف يمكن أن يتصف بكونه غير مخلوق أو كونه قديما. و لو فرضنا صحة تلك العقيدة التي لا ينالها إلاّ الأوحدي في علم الكلام فكيف يمكن أن تكون هذه المسألة الغامضة مما يجب الاعتقاد به على كل مسلم مع أنّ الإنسان البسيط بل الفاضل لا يقدر أن يحلل و يدرك كون شيء غير اللّه سبحانه و في الوقت نفسه غير مخلوق.

إنّ سهولة العقيدة و يسر التكليف من سمات الشريعة الإسلامية و بها تفارق سائر المذاهب السائدة على العالم، مع أنّ تصديق كون كلامه تعالى - و هو غير ذاته - غير مخلوق أو قديم، شيء يعسر على الخاصة فكيف على العامة.2.

ص: 208


1- الإبانة، ص 71-72.

3 - إنّ الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن «المقروء» و هو أمر تنكره البداهة و العقل و نفس القرآن. و قد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتى تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذ قال: «و القائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالا و أضل اعتقادا من كل ملة جاء القرآن نفسه بتضليلها و الدعوة إلى مخالفتها»(1).

و لما رأى ابن تيميّة، الذي نصب نفسه مروجا لعقيدة أهل الحديث، أنّها عقيدة تافهة صرح بحدوث القرآن المقروء و حدوث قوله يٰا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ (2) و يٰا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ (3) و قوله قَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا (4)... إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حدوث النداء و السمع من حينه لا من الأزل(5).

و العجب أنّه يستدل بدليل المعتزلة على حدوث القرآن المقروء، و يقول إنّ ترتيب حروف الكلمات و الجمل يستلزم الحدوث، لأنّ تحقق كلمة «بسم اللّه» يتوقف على حدوث الباء و انعدامها ثم حدوث السين كذلك إلى آخر الكلمة. فالحدوث و الانعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها، و إلا لما أمكن أن توجد كلمة، فإذن كيف يمكن أن يكون مثل هذا قديما أزليا مع اللّه تعالى ؟.

4 - لما كانت فكرة عدم خلق القرآن أو القول بقدمه شعار أهل الحديث و سمتهم و من جانب آخر كان القول بقدم القرآن المقروء و الملفوظ شيئا لا يقبله العقل السليم، جاء الأشاعرة بنظرية جديدة أصلحوا بها القول7.

ص: 209


1- رسالة التوحيد، الطبعة الأولى. و قد حذف نحو صفحة من الرسالة في الطبعات اللاحقة، لاحظ ص 49 من طبعة مكتبة الثقافة العربية.
2- سورة المزمل: الآية 1.
3- سورة المدثر: الآية 1.
4- سورة المجادلة: الآية 1.
5- مجموعة الرسائل الكبرى، ج 3، ص 97.

بعدم خلق القرآن و قدمه و التجئوا إلى أنّ المراد من كلام اللّه تعالى ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفسي، و قد عرفت مدى صحة القول بالكلام النفسي(1).

و على كل تقدير فالقول بقدم الكلام النفسي ليس بمنزلة القول بقدم القرآن المقروء.

5 - كيف يكون القول بخلق القرآن و حدوثه ملاكا للكفر مع أنّه سبحانه يصفه بأنّه محدث أي أمر جديد؟ قال سبحانه: اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2). و المراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه: إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ (3)، و قوله سبحانه: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ (4).

و المراد من «محدث» هو الجديد، و هو وصف للذكر. و معنى كونه جديدا أنه أتاهم بعد الإنجيل. كما أنّ الإنجيل جديد لأنه أتاهم بعد التوراة. و كذلك بعض سور القرآن و آياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض. و ليس المراد كونه محدثا من حيث نزوله، بل المراد كونه محدثا بذاته بشهادة أنّه وصف ل «ذكر» فالذكر بذاته محدث، لا بنزوله فلا معنى لتوصيف المحدث بالذات بكونه من حيث النزول(5).

و كيف يمكن القول بقدم القرآن مع أنه سبحانه يقول في حقه: وَ لَئِنْ شِئْنٰا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ ، ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنٰا وَكِيلاً (6)، فهل6.

ص: 210


1- ليس هذا أول مورد تقوم فيه الأشاعرة لإصلاح عقيدة أهل الحديث، بل قامت بذلك في عدة موارد بهدف إخراجها في قالب يقبله العقل.
2- سورة الأنبياء: الآية 1-2.
3- سورة الحجر: الآية 9.
4- سورة الزخرف: الآية 44.
5- لتقدّم ما بالذّات على ما بالعرض.
6- سورة الإسراء: الآية 86.

يصح توصيف القديم بالإذهاب و الإعدام ؟!.

6 - العجب أنّ محطّ النزاع لم يحدّد بشكل واضح يقدر الإنسان على القضاء فيه، فهاهنا احتمالات، يمكن أن تكون محط النّظر لأهل الحديث و الأشاعرة عند توصيف كلامه سبحانه بالقدم نطرحها على بساط البحث و نطلب حكمها من العقل و القرآن.

أ - الألفاظ و الجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها، و قد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم، و قرأها الرسول فتلقتها الأسماع و حرّرتها الأقلام على الصحف المطهرة.

فهي ليست بمخلوقة على الإطلاق لا للّه سبحانه و لا لغيره.

ب - المعاني السامية و المفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين و التشريع و الحوادث و الأخلاق و الآداب و غيرها.

ج - ذاته سبحانه و صفاته من العلم و القدرة و الحياة التي بحث عنها القرآن و أشار إليها بألفاظه و جمله.

د - علمه سبحانه بكل ما ورد في القرآن الكريم.

ه - الكلام النفسي القائم بذاته.

و - القرآن ليس مخلوقا للبشر و إن كان مخلوقا للّه.

و هذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم بل تطّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه و رسله.

و إليك بيان حكمها من حيث الحدوث و القدم.

أما الأول - فلا أظن أنّ إنسانا يملك شيئا من الدّرك و العقل يعتقد بكونها غير مخلوقة أو كونها قديمة، كيف و هي شيء من الأشياء، و موجود من الموجودات، ممكن غير واجب. فإذا كانت غير مخلوقة وجب أن تكون واجبة بالذات و هو نفس الشّرك باللّه سبحانه و حتى لو فرض أنّه سبحانه يتكلم بهذه الألفاظ و الجمل، فلا يخرج تكلّمه عن كونه فعله، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم ؟!

ص: 211

و أما الثّاني - فهو قريب من الأول في البداهة، فإنّ القرآن يشتمل، و كذا سائر الصحف على الحوادث المحقّقة في زمن النبي من محاجّة أهل الكتاب و المشركين و ما جرى في غزواته و حروبه من الحوادث المؤلمة أو المسرّة، فهل يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه: قَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)، قديمة.

و قد أخبر اللّه تبارك و تعالى في القرآن و الصحف السماوية عما جرى على أنبيائه من الحوادث و ما جرى على سائر الأمم من ألوان العذاب، كما أخبر عما جرى في التكوين من الخلق و التدبير، فهذه الحقائق الواردة في القرآن الكريم، حادثة بلا شك، لا قديمة.

و أما الثّالث - فلا شك أنّ ذاته و صفاته من العلم و القدرة و الحياة و كل ما يرجع إليها كشهادته أنّه لا إله إلاّ هو، قديم بلا إشكال و ليس بمخلوق بالبداهة، و لكنه لا يختص بالقرآن بل كل ما يتكلم به البشر و يشير به إلى هذه الحقائق، فمعانيه المشار إليها بالألفاظ و الأصوات قديمة، و في الوقت نفسه ما يشار به من الكلام و الجمل حادث.

و أما الرّابع - أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب و ما ليس فيها، فلا شك أنّه قديم نفس ذاته. و لم يقل أحد من المتكلمين الإلهيين إلاّ من شذّ من الكرّامية - بحدوث علمه.

و أما الخامس - أعني كونه سبحانه متكلما بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف الأصوات، مغاير للعلم و الإرادة، فقد عرفت أن ما سمّاه الأشاعرة كلاما نفسيّا لا يخرج عن إطار العلم و الإرادة و لا شك أنّ علمه و إرادته البسيطة قديمان.

و أما السّادس - و هو أنّ الهدف من نفي كونه غير مخلوق، كون القرآن1.

ص: 212


1- سورة المجادلة: الآية 1.

غير مخلوق للبشر، و في الوقت نفسه هو مخلوق للّه سبحانه، فهذا أمر لا ينكره مسلم. فإنّ القرآن مخلوق للّه سبحانه و الناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله. قال سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1).

و هذا التحليل يعرب عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مشوّشة و قد اختلط الحابل فيها بالنابل و لم يكن محط البحث محرّرا على وجه الوضوح حتى يعرف المثبت عن المنفي، و يمخض الحق من الباطل. و مع هذا التشويش في تحرير محل النزاع نرى أنّ أهل الحديث و الأشاعرة يستدلون بآيات من الكتاب على قدم كلامه و كونه غير مخلوق. و إليك هذه الأدلة واحدا بعد واحد.

أدلة الأشاعرة على كون القرآن غير مخلوق

استدلّ الأشعري بوجوه:

الدليل الأول: قوله سبحانه إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2) قال الأشعري: و مما يدل من كتاب اللّه على أنّ كلامه غير مخلوق قوله عز و جل: إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3).

فلو كان القرآن مخلوقا لوجب أن يكون مقولا له «كن فيكون». و لو كان اللّه عز و جل قائلا للقول «كن» لكان للقول قول. و هذا يوجب أحد أمرين: إما أن يؤول الأمر إلى أنّ قول اللّه غير مخلوق، أو يكون كل قول واقعا بقول لا إلى غاية و ذلك محال. و إذا استحال ذلك صحّ و ثبت أنّ للّه عز و جل قولا غير مخلوق(4).

ص: 213


1- سورة الإسراء: الآية 88.
2- سورة النحل: الآية 40.
3- سورة النحل: الآية 40.
4- الإبانة، ص 52-53.

يلاحظ عليه: أوّلا - إنّ الاستدلال مبني على كون الأمر بالكون في الآية و نظائرها أمرا لفظيّا مؤلفا من الحروف و الأصوات. و أنّه سبحانه كالسلطان الآمر، فكما أنّه يتوسل عند أمره وزراءه و أعوانه باللفظ، فهكذا سبحانه يتوسّل عند خلق السّماوات و الأرض باللفظ و القول، فيخاطب المعدوم المطلق بلفظة «كن».

و لا شك أنّ هذا الاحتمال باطل جدا، إذ لا معنى لخطاب المعدوم.

و ما يقال في تصحيحه بأنّ المعدوم معلوم للّه تعالى فهو يعلم الشيء قبل وجوده و أنّه سيوجد في وقت كذا، غير مفيد، لأن العلم بالشيء لا يصحح الخطاب، و إن كنت في شك من ذلك فلاحظ النجّار الذي يريد صناعة الكرسي بالمعدات و الآلات، فهل يصح أن يخاطبها بهذا اللفظ، هذا و إن كان بين المثال و الممثّل له فرق أو فروق.

و إنّما المراد من الأمر في الآية، كما فهمه جمهور المسلمين، هو الأمر التكويني المعبّر عن تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد الشيء، و المقصود من الآية أنّ تعلق إرادته سبحانه يعقبه وجوده، و لا يأبى عنه الشيء، و أنّ ما قضاه من الأمور و أراد كونه فإنه يتكون و يدخل في حيز الوجود من غير امتناع و لا توقف، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، لا يتوقف و لا يمتنع و لا يكون منه الإباء.

و بذلك تقف على الفرق بين الأمر التكليفي التشريعي الوارد في الكتاب و السنّة، و الأمر التكويني. فالأول يخاطب به الإنسان العاقل للتكليف و لا يخاطب به غيره فضلا عن المعدوم. و هذا بخلاف الأمر التكويني فإنّه رمز لتعلق الإرادة القطعية بإيجاد المعدوم.

و هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يفسّر الأمر التكويني بقوله «يقول لما أراد كونه كن، فيكون. لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان

ص: 214

قديما لكان إلها ثانيا»(1).

و ثانيا - نحن نختار الشقّ الثاني، و لا يلزم التسلسل. و نلتزم بأنّ هنا قولا سابقا على القرآن هو غير مخلوق أوجد به سبحانه مجموع القرآن و أحدثه حتى كلمة «كن» الواردة في تلك الآية و نظائرها. فتكون النتيجة حدوث القرآن و جميع الكتب السماوية و جميع كلمه و كلامه إلاّ قولا واحدا سابقا على الجميع. فينقطع التسلسل بالالتزام بعدم مخلوقية لفظ واحد.

ثالثا - كيف يمكن أن تكون كلمة «كن» الواردة في الآية و أمثالها قديمة. مع أنها إخبار عن المستقبل فتكون حادثة. يقول سبحانه مخبرا عن المستقبل إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . و لأجل ذلك التجأ المتأخرون من الأشاعرة إلى أنّ لفظ «كن» حادث و القديم هو المعنى الأزلي النفساني(2).

الدّليل الثاني - قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (3).

قال الأشعري: ف «الخلق» جميع ما خلق داخل فيه، و لما قال «و الأمر» ذكر أمرا غير جميع الخلق. فدل ما وصفناه على أنّ أمر اللّه غير مخلوق. و أما أمر اللّه فهو كلامه. و باختصار: إنّه سبحانه أبان الأمر من الخلق، و أمر اللّه كلامه، و هذا يوجب أن يكون كلام اللّه غير مخلوق(4).

يلاحظ عليه: إنّ الاستدلال مبني على أنّ «الأمر» في الآية بمعنى كلام اللّه و هو غير ثابت بل القرينة تدل على أنّ المراد منه غيره، كيف و قد قال2.

ص: 215


1- نهج البلاغة، الخطبة 186.
2- دلائل الصدق حاكيا عن الفضل بن روزبهان الأشعري، ج 1، ص 153.
3- سورة الأعراف: الآية 54.
4- الإبانة، ص 51-52.

سبحانه في نفس الآية: وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ و المراد من اللفظين واحد، و الأول قرينة على الثاني. و هدف الآية هو أنّ الخلق - بمعنى الإيجاد - و تدبيره كلاهما من اللّه سبحانه و ليس شأنه سبحانه خلق العالم و الأشياء ثم الانصراف عنها و تفويض تدبيرها إلى غيره حتى يكون الخلق منه و التدبير على وجه الاستقلال من غيره، بل الكل من جانبه سبحانه.

فالمراد من الخلق إيجاد ذوات الأشياء، و المراد من الأمر النظام السّائد عليها، فكأنّ الخلق يتعلق بذواتها و الأمر بالأوضاع الحاصلة فيها و النظام الجاري بينها. و يدل على ذلك بعض الآيات التي تذكر «تدبير الأمر» بعد الخلق.

يقول سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ (1).

و قال تعالى: اَللّٰهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا، ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2).

فليس المراد من الأمر ما يقابل النهي، بل المراد الشئون الراجعة إلى التكوين، فيكون المقصود أنّ الإيجاد أولا، و التصرف و التدبير ثانيا منه سبحانه فهو الخالق المالك لا شريك له في الخلق و الإيجاد و لا في الإدارة و التدبير.

الدليل الثّالث - قوله سبحانه: إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ قَوْلُ اَلْبَشَرِ (3).

قال الاشعري: «فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فقد جعله قولا للبشر،5.

ص: 216


1- سورة يونس: الآية 3.
2- سورة الرعد: الآية 2.
3- سورة المدثر: الآية 25.

و هذا ما أنكره اللّه على المشركين»(1).

يلاحظ عليه: إنّ من يقول بأنّ القرآن مخلوق لا يريد إلاّ كونه مخلوقا للّه سبحانه. فاللّه سبحانه خلقه و أوحى به إلى النبي و نزّله عليه منجّما على مدى ثلاث و عشرين سنة و جعله فوق قدرة البشر فلن يأتوا بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

نعم، كون القرآن مخلوقا للّه سبحانه لا ينافي أن يكون ما يقرؤه الإنسان مخلوقا له لبداهة أنّ الحروف و الأصوات التي ينطق بها الناس مخلوقة لهم و هذا كمعلقة امرئ القيس و غيرها، فأصلها مخلوق لنفس الشاعر، و لكن المقروء مثال له، و مخلوق للقارئ.

و العجب أنّ الأشعري و من قبله و من بعده لم ينقّحوا موضع النزاع فزعموا أنّه إذا قيل «القرآن مخلوق» فإنما يراد منه كون القرآن مصنوعا للبشر، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه، فكيف يمكن لمسلم يعتنق القرآن و يقرأ قول البارئ سبحانه فيه: وَ هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ (2)، أن يتفوّه بأنّ القرآن مخلوق للبشر. بل المسلمون جميعا يقولون في القرآن نفس ما قاله سبحانه في حقّه. غير أنّ المقروء على ألسنتهم مخلوق لأنفسهم، فيكون مثال ما نزله سبحانه مخلوقا للإنسان، و كون المثال مخلوقا لهم ليس دليلا على أنّ الممثّل مخلوقا لهم. و الناس بأجمعهم عاجزون عن إيجاد مثل القرآن و لكنهم قادرون على إيجاد مثاله. فلاحظ و تدبر.

و بذلك تقف على أنّ أكثر ما استدل به الأشعري في كتاب «الإبانة» غير تام من جهة الدلالة، و لا نطيل المقام بإيراده و نقده. و فيما ذكرنا كفاية.

بقي هنا نكتة ننبه عليها و هي: إنّ المعروف من إمام الحنابلة أنّه ما كان يرى الخوض في المسائل التي لم يخض فيها السلف الصالح لأنه ما كانى.

ص: 217


1- الإبانة - ص 56.
2- سورة الانعام: الآية 155. و مثله قوله: تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (الجاثية: الآية 2) و آيات كثيرة أخرى.

يرى علما إلاّ علم السلف، فما يخوضون فيه يخوض فيه، و ما لا يخوضون فيه من أمور الدّين يراه ابتداعا يجب الإعراض عنه. و هذه المسألة لم يتكلم فيها السلف فلم يكن له أن يتكلم فيها. و المبتدعون هم الذين يتكلمون، فما كان له أن يسير وراءهم و كان من واجبه حسب أصوله أن يتوقف و لا ينبس ببنت شفة. نعم نقل عنه ما يوافق التوقف - رغم ما نقلنا عنه من خلافه - و أنّه قال: من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي، و من زعم أنّه غير مخلوق فهو مبتدع.

و يرى المحققون أنّ إمام الحنابلة كان في أوليات حياته يرى البحث حول القرآن، بأنّه مخلوق أو غير مخلوق، بدعة. و لكنه بعد ما زالت المحنة و طلب منه الخليفة العباسي المتوكل، المؤيد له، الإدلاء برأيه، اختار كون القرآن ليس بمخلوق. و مع ذلك لم يؤثر عنه أنّه قال: إنّه قديم.(1).

موقف أهل البيت (عليهم السلام)

إنّ تاريخ البحث و ما جرى على الفريقين من المحن، يشهد بأنّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحق و إزاحة الشكوك، بل استغلت كل طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) منعوا أصحابهم من الخوض في تلك المسألة، فقد سأل الرّيّان بن الصّلت الإمام الرضا (عليه السلام) و قال له: ما تقول في القرآن ؟ فقال (عليه السلام): «كلام اللّه لا تتجاوزوه و لا تطلبوا الهدى في غيره، فتضلّوا»(2).

و روى علي بن سالم عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد

ص: 218


1- تاريخ المذاهب الإسلامية، ص 300.
2- التوحيد للصّدوق، باب القرآن ما هو، الحديث 2، ص 223.

فقلت له: يا ابن رسول اللّه ما تقول في القرآن ؟ فقال: «هو كلام اللّه، و قول اللّه، و كتاب اللّه، و وحي اللّه، و تنزيله. و هو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد»(1).

و حدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا ابن رسول اللّه، ما تقول في القرآن ؟ فقد اختلف فيه من قبلنا، فقال قوم إنه مخلوق، و قال قوم إنه غير مخلوق.

فقال (عليه السلام): أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون، و لكنّي أقول: إنه كلام اللّه(2).

فإنا نرى أنّ الإمام (عليه السلام) يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لما رأى من أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام، و أنّ الاكتفاء بأنّه كلام اللّه أحسم لمادة الخلاف. و لكنهم عليهم السلام عند ما أحسوا بسلامة الموقف، أدلوا برأيهم في الموضوع، و صرّحوا بأنّ الخالق هو اللّه و غيره مخلوق و القرآن ليس نفسه سبحانه، و إلاّ يلزم اتحاد المنزل و المنزل، فهو غيره، فيكون لا محالة مخلوقا.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد ابن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى بعض شيعته ببغداد: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، عصمنا اللّه و إياك من الفتنة، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة، و إن لا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل و المجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، و يتكلّف المجيب ما ليس عليه، و ليس الخالق إلاّ اللّه عزّ و جل، و ما سواه مخلوق، و القرآن كلام اللّه، لا تجعل له اسما من عندك فتكون من الضّالّين، جعلنا اللّه، و إياك من الذين يخشون ربهم بالغيب و هم من الساعة مشفقون»(3).4.

ص: 219


1- التوحيد، للصّدوق، باب القرآن، الحديث 3، ص 224.
2- المصدر السابق، الحديث 5، ص 224.
3- المصدر السابق، الحديث 4.

و في الروايات المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرخون، حيث كان أحمد بن أبي دؤاد في عصر المأمون كتب إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء و المحدّثين في مسألة خلق القرآن، و فرض عليهم أن يعاقبوا كل من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة. و جاء المعتصم و الواثق فطبقا سيرته و سياسته مع خصوم المعتزلة و بلغت المحنة أشدها على المحدثين، و بقى أحمد بن حنبل ثمانية عشرين شهرا تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه(1). و لما جاء المتوكل العباسي، نصر مذهب الحنابلة و أقصى خصومهم، فعند ذلك أحسّ المحدثون بالفرج و أحاطت المحنة بأولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.

فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالا إسلاميا، و قرآنيا، لمعرفة الحقيقة و تبيّنها، أو أنه كان وراءه شيء آخر؟ اللّه العالم بالحقائق و ضمائر القلوب.د.

ص: 220


1- لاحظ سير أعلام النبلاء للذهبي، ج 11، ص 252. و قد عقد في الكتاب باب مفصّل في احوال الإمام أحمد.

الصّفات الفعليّة

(2) الصدق

اتّفق المسلمون و الإلهيون على أنّ «الصادق» من أسمائه، و أن «الصّدق» من صفاته، و إن اختلفوا في طريق البرهنة عليه. و المراد من صدقه كون كلامه منزها عن شوب الكذب. و لما كان المختار عندنا في «الكلام» أنّه من الصفات الفعلية، يكون الصدق في الكلام مثله. لأنه إذا كان الموصوف بالصّدق من الصفات الفعلية و فعلا قائما باللّه سبحانه، فوصفه أولى بأن يكون من تلك المقولة.

و يمكن الاستدلال على صدقه بأنّ الكذب قبيح عقلا، و هو سبحانه منزه عما يعدّه العقل من القبائح. و البرهان مبني على كون الحسن و القبح من الأمور التي يدركها العقل، و أنّه مع قطع النظر عن الطوارئ و العوارض، يحكم بكون شيء حسنا بالذات أو قبيحا مثله. و هذا الأصل هو الأمر المهم الذي فرّق المتكلمين إلى فرقتين.

فإذا أخذنا بالجانب الإيجابي في ناحية ذلك الأصل، كما هو الحق، يثبت كونه سبحانه صادقا. و لكن الأشاعرة المنكرين للتحسين و التقبيح العقليين يصفونه سبحانه بالصدق، مستدلين تارة بأنّ الكذب نقص،

ص: 221

و النقص على اللّه تعالى محال. و أخرى بأنّ الشرع قد أخبر عن كونه صادقا.

و كلا الدليلين مخدوش جدا.

أما الأول، فلأنه لو قلنا بالتحسين و التقبيح العقليين، يكون النقص محالا على اللّه سبحانه في ناحية الذات و الفعل، فذاته منزهة عن النقص، و فعله - كالتكلم - و أمّا إذا أنكرنا ذلك الأصل فلا دليل على استحالة النقص على اللّه سبحانه في خصوص فعله و إن كان طروء النقص على الذات محالا مطلقا. و لأجل ذلك جوّز الأشاعرة الظلم عليه سبحانه، و هكذا سائر القبائح، و إن كانت لا تصدر عنه سبحانه لأجل إخباره بذلك.

و أما الثاني، فلأن ثبوت صدقه شرعا يتوقف على صدق قول النبي و لا يثبت صدقه إلاّ بتصديق اللّه سبحانه، فلو توقف تصديقه سبحانه على تصديق النبي (صلى اللّه عليه و آله)، لزم الدور.

و لأجل ذلك يجب أن يكون هناك دليل قاطع وراء الشرع و الوحي على كونه سبحانه صادقا لا يكذب.

و هناك دليل آخر، أشار إليه بعض المعتزلة و حاصله أنّ كذبه ينافي مصلحة العالم، لأنه إذا جاز وقوع الكذب في كلامه تعالى ارتفع الوثوق بإخباره عن أحوال الآخرة، و في ذلك فوات مصالح لا تحصى. و الأصلح واجب عليه تعالى لا يصح الإخلال به. و المراد من كونه واجبا هو إدراك العقل أنّ موقفه سبحانه في ذلك المجال يقتضي اختيار الأصلح و ترك غيره.(1)

و لكن الدليل مبني على الأصل المقرر عند العدلية من إدراك العقل الحسن و القبح، مع قطع النظر عن جميع الطوارئ و العوارض. فعند ذلك يدرك الأصلح و الصالح، أو الصالح و غير الصالح، كما يدرك لزوم اختيار الأصلح و الصالح على غيرهما. و لأجل ذلك لا يكون دليلا آخر.0.

ص: 222


1- شرح القوشجي، ص 320.

هذا إذا قلنا بأنّ كلامه من الصفات الفعلية. و أمّا لو فسّرناه بالكلام النفسي - كما قالت الأشاعرة - فقد عرفت أنّه لا يخرج عن إطار العلم و الإرادة و الكراهة، فعندئذ يكون صدق كلامه بمعنى صدق علمه، و لا يمكن تفسير صدق العلم إلاّ بكونه مطابقا للواقع. و أمّا صدق الإرادة و الكراهة فليس له فيهما معنى معقول. و على كل تقدير يكون الصدق عندهم - حينئذ - من الصفات الذّاتية لا الفعلية.

ص: 223

ص: 224

الصّفات الفعليّة

(3) الحكمة
اشارة

إنّ الحكمة من صفاته سبحانه، كما أنّ الحكيم من أسمائه و قد تواترت النصوص القرآنية بذلك، فقال سبحانه:

وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (1) . مشعرا بأنّ العلم غير الحكمة.

إنّ الحكمة تطلق على معنيين: أحدهما، كون الفعل في غاية الإحكام و الإتقان، و غاية الإتمام و الإكمال. و ثانيها، كون الفاعل لا يفعل قبيحا و لا يخلّ بواجب.

قال الرازي: «في الحكيم وجوه: الأول - إنه فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، و معنى الإحكام في حق اللّه تعالى في خلق الأشياء، هو إتقان التدبير فيها، و حسن التقدير لها ففيها ما لا يوصف بوثاقة البنية كالبقة و النملة و غيرهما، إلاّ أنّ آثار التدبير فيها - و جهات الدلالات فيها على قدرة الصانع و علمه - ليست بأقل من دلالة السموات و الأرض و الجبال على علم الصانع و قدرته. و كذا هذا في قوله: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (2).

ص: 225


1- سورة النساء: الآية 26.
2- سورة السجدة: الآية 7.

و ليس المراد منه الحسن الرائق في المنظر، فإنّ ذلك مفقود في القرد و الخنزير، و إنّما المراد منه حسن التدبير في وضع كل شيء موضعه بحسب المصلحة. و هو المراد بقوله: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (1).

الثاني - إنّه عبارة عن كونه مقدّسا عن فعل ما لا ينبغي، قال تعالى:

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً (2) .

و قال: وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا بٰاطِلاً (3) و(4).

و نبحث فيما يلي عن كلا المعنيين واحدا بعد الآخر.ه.

ص: 226


1- سورة الفرقان: الآية 2.
2- سورة المؤمنون: الآية 115.
3- سورة ص: الآية 27.
4- و قد ذكر الرازي هنا معنى ثالثا و هو أنّ الحكمة عبارة عن معرفة أفضل المعلومات بأفضل العلوم، فالحكيم بمعنى العليم، قال الغزالي: و قد دللنا على أنّه لا يعرف اللّه إلاّ اللّه، فيلزم أن يكون الحكيم الحق هو اللّه، لأنه يعلم أصل الأشياء، و هو (العلم بأصل الأشياء) أصل العلوم، و هو علمه الأزلي الدائم الذي لا يتصور زواله، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها الخفاء و لا الشبهة (أسماء اللّه الحسنى، ص 279-280). أقول: و على المعنى الثالث تكون الحكمة من شعب علمه.

الحكمة

(1) الحكيم: المتقن فعله
اشارة

قد عرفت أنّ الحكيم يطلق على الفاعل الذي يعمل بإتقان و يقدّر و يدبّر باتّزان و اللّه سبحانه حكيم بهذا المعنى.

و أوضح دليل على ذلك أنّ فعله في غاية البداعة و الإحكام و الإتقان، فإنّ الناظر يرى أنّ العالم خلق على نظام بديع، و أنّ كل نوع خلق بأفضل صورة تناسبه، و جهّز بكل ما يحتاج إليه من أجهزة تهديه في حياته و تساعده على السير إلى الكمال. و إن شئت فانظر إلى الأشياء المحيطة بك مما هو من مظاهر حكمته تعالى.

فلاحظ العين مثلا فإنّ فيها ما يقرب من مائة و أربعين مليون مستقبل حساس للضوء تسمّى بالمخاريط و العصي، و طبقة المخاريط و العصي هذه واحدة من الطبقات العشر التي تشكل شبكيّة العين، و لا يتجاوز ثخانتها - بطبقاتها العشر - أربعة أعشار المليمتر الواحد. و يخرج من العين نصف مليون ليف عصبي ينقل الصورة بشكل ملون! و هذا القلب و هو مضخة الحياة التي لا تكلّ عن العمل، فإنه ينبض يوميا ما يزيد على مائة ألف مرة، يضخ خلالها ثمانية آلاف ليتر من الدم،

ص: 227

و بمعدل وسطي يضخ ستة و خمسين مليون غالون على مدى حياة الإنسان، فترى هل يستطيع محرك آخر القيام بمثل هذا العمل الشاق لمثل تلك الفترة الطويلة من دون حاجة لإصلاح ؟...

و أمثال ذلك الكثير مما لا تستوعبه السطور بل و لا الزبر.

إنّ معطيات العلوم الطبيعية عما في الكون أفضل دليل على وجود الحكمة الإلهية في الفلكيّات و الأرضيات. و لا نطيل الكلام في الحكمة بهذا المعنى، فإنها في الحقيقة من شعب القدرة التي استوفينا الكلام فيها. على أنّه يمكن الاستدلال على كونه حكيما من وجهين آخرين غير ما مر:

الأول: إنّ إرادته سبحانه تعلقت بخلق كل شيء بأحسن نظام، و إلاّ فإنّ صدور فعل خارج عن الإتقان و الإحكام، إمّا لأجل جهل الفاعل بالنظام الصحيح، و إمّا لأجل عجزه، و كلا العاملين منفيان عن ساحته، لسعة علمه لكلّ شيء وسعة قدرته. فعدوله عن مقتضى العلم و القدرة الوسيعين يحتاج إلى دليل، و ليس هو إلاّ كونه عابثا و لا غيا، و سيوافيك فيما يأتي أنّه منزّه عن القبيح.

الثاني: إنّ أثر كل فاعل يناسب واقع فاعله و مؤثره، فهو كالظل يناسب ذا الظل. فالفاعل الكامل من جميع الجهات يكون مصدرا لفعل كامل، و موجود متوازن أخذا بقاعدة مشابهة الظل لذي الظلّ .

الحكمة و الإتقان في الكتاب و السنة

إنّ توصيفه سبحانه بالحكمة بهذا المعنى ورد في الذكر الحكيم، قال سبحانه: الر كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1).

و قد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى الحكمة الإلهية بمعنى

ص: 228


1- سورة هود: الآية 1.

الإتقان و الإحكام بقوله: «قدر ما خلق فأحكم تقديره»(1).

و قوله: «مبتدع الخلائق بعلمه، و منشئهم بحكمه، بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء لمثال صانع حكيم»(2).

ثم إنّ بعض المغرورين أثاروا شكوكا حول حكمته تعالى، و سألوا عن فوائد الأمور التالية و هي:

1 - الزائدة الدوديّة.

2 - اللوزتان.

3 - ثديا الرجل.

4 - صيوان الأذن.

5 - الفضاء الوسيع.

و لكن هؤلاء اغتروا بما حصلوا عليه من علوم تجريبية، و تصوروا أنهم أحاطوا بأسرار العالم، مع أنّ الواقعيين من العلماء يعترفون بضالة علومهم و قلة اطلاعهم على سنن الكون و رموزه. قال سبحانه: وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً (3).

و قال سبحانه: يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا (4).

هذا، مع أنّ العلم الحديث كشف عن الفوائد الجمة لهذه الأمور التي استشكل فيها هؤلاء المغرورون و زعموا أنّها مضادة لحكمته سبحانه(5).»؟

ص: 229


1- نهج البلاغة، الخطبة (91).
2- نهج البلاغة، الخطبة (191).
3- سورة الإسراء: الآية 85.
4- سورة الروم: الآية 7.
5- لاحظ «اللّه خالق الكون» ص 370-378، تحت عنوان «الأعضاء الزائدة لما ذا»؟

ص: 230

الحكمة

(2) الحكيم: المنزّه عن فعل ما لا ينبغي
اشارة

إنّ المعنى الثاني للحكمة هو التنزّه عن فعل ما لا ينبغي، و هي بهذا المعنى أعمّ من العدل الذي نعرفه بعدم الجور و الظلم، و غيره. فالحكيم - بعبارة أخرى - هو الذي لا يفعل القبيح.

و التصديق بثبوت هذه الصفة للباري تعالى مبني على القول بالتحسين و التقبيح العقليين. فإنّ مفاد تلك المسألة أنّ هناك أفعالا يدرك العقل كونها حسنة أو قبيحة، و يدرك أنّ الغنيّ بالذات منزّه عن الاتصاف بالقبيح، و فعل ما لا ينبغي.

و هذا هو الأساس للحكم باتصافه تعالى بالحكمة و العدل و أنه موجود لا يجور و لا يظلم و من هنا يلزمنا البحث عن تلك المسألة على ضوء العقل و الكتاب العزيز.

التحسين و التقبيح العقليان

ذهبت العدلية إلى أنّ هناك أفعالا يدرك العقل من صميم ذاته من دون استعانة من الشرع أنها حسنة، يجب القيام بها، أو قبيحة يجب التنزه

ص: 231

عنها. و لو أمر الشارع بالأولى و نهى عن الثّانية، فهو كاشف عما يدركه العقل و مرشد إليه. و ليس للشرع أن يعكس القضية بأن يحسّن ما قبّحه العقل، أو يقبّح ما حسّنه.

و قالت الأشاعرة، لا حكم للعقل في حسن الأشياء و قبحها، و لا يتسم فعل بالحسن أو القبح بذاته قبل ورود الشرع، فلأجل ذلك لا حسن إلاّ ما حسّنه الشارع، و لا قبيح إلاّ ما قبحه. فلو كان الظلم قبيحا، فلأن الشارع نهى عنه، و لو كان العدل حسنا فلأنه أمر به. و لو عكس و جعل العدل قبيحا و الظلم حسنا، لكان كما قال.

ثم إنّ القائلين بالحسن و القبح العقليين يقسّمون الأفعال من حيث الاتصاف بهما إلى أقسام ثلاثة:

الأول: ما يكون الفعل بنفسه علّة تامة للحسن و القبح، و هذا ما يسمّى بالحسن و القبح الذاتيين، مثل العدل و الظلم. فالعدل بما هو عدل، لا يكون إلاّ حسنا أبدا، و متى ما وجد لا بدّ أن يمدح فاعله و يعدّ محسنا، و كذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلاّ قبيحا و متى ما وجد ففاعله مذموم و مسيء. و يستحيل أن يكون العدل قبيحا و الظلم حسنا.

الثاني: ما لا يكون الفعل علّة تامة لأحدهما، بل يكون مقتضيا للاتصاف بهما، بحيث لو خلّي الفعل و نفسه، فإمّا أن يكون حسنا كتعظيم الصديق بما هو هو أو يكون قبيحا كتحقيره. و لكنه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموما لعروض عنوان عليه كما إذا كان سببا لظلم ثالث، أو يكون التحقير ممدوحا لعروض عنوان عليه كما إذا صار سببا لنجاته. و لا ينحصر المثال بهما بل الصدق و الكذب أيضا من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على المجتمع قبيح، كما أنّ الكذب الذي فيه نجاة الإنسان البريء حسن. و هذا بخلاف العدل و الظلم فلا يجوز أن يتّسم العدل - بما هو عدل - بالقبح، و الظلم - بما هو ظلم - بالحسن.

ص: 232

الثالث - ما لا علّية له و لا اقتضاء فيه في نفسه للاتصاف بأحدهما، و إنما يتبع الجهات الطارئة و العناوين المنطبقة عليه، و هذا كالضّرب فإنّه حسن للتأديب، و قبيح للإيذاء.

هذا هو التقسيم الرائج بينهم. و الغرض المطلوب في هذا البحث هو تبيين أنّ هناك أفعالا يدرك العقل إذا طالعها، بقطع النظر عن كل الجهات الطارئة عليها، أنّها حسنة يجب أن يمدح فاعلها أو قبيحة يجب أن يذمّ . و لا نقول إنّ كل فعل من الأفعال داخل في هذا الإطار.

و بعبارة أخرى: إنّ النزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي و السلب الكلّي، فالعدلية يقولون بالأول و الأشاعرة بالثاني.

في إطلاقات الحسن و القبح

لا شك أنّ للحسن و القبح معنى واحدا، و إنما الكلام في ملاك كون الشيء حسنا أو قبيحا. و هو يختلف باختلاف الموارد، فقد ذكر للحسن و القبح ملاكات نوردها فيما يلي:

1 - ملاءمة الطبع و منافرته. فالمشهد الجميل - بما أنّه يلائم الطبع - يعدّ حسنا، كما أنّ المشهد المخوف، - بما أنّه منافر للطبع - يعدّ قبيحا.

و مثله الطعام اللذيذ و الصوت الناعم، فإنهما حسنان كما أنّ الدواء المرّ و نهيق الحمار قبيحان. و الحسن و القبح بهذا الملاك ليسا محل البحث و الاختلاف. أضف إلى ذلك أنّهما لا يمكنهما الثبات و الدوام، لاختلاف الطبائع.

2 - موافقة الغرض و المصلحة الشخصيّة و النوعيّة و مخالفتهما. فقتل إنسان لعدائه حسن، حيث إنّه موافق لأغراض القاتل الشخصية. و لكنه قبيح لأصدقاء المقتول و أهله، لمخالفته لأغراضهم و مصالحهم الشخصية. هذا في المجال الشخصي. و أمّا في المجال النوعي، فإنّ العدل بما أنّه حافظ لنظام المجتمع و مصالح النوع فهو حسن و بما أنّ الظلم هادم للنظام و مخالف

ص: 233

لمصلحة النوع فهو قبيح. و هذا أيضا خارج عن مجال البحث بين العدليّة و الأشاعرة، فإنّ المصالح الشخصيّة لا تصحح توصيف الفعل بالحسن و القبح على وجه الدوام، لما عرفت من اختلاف الأغراض و المصالح الشخصية. فربّ فعل كالقتل حسن عند فرد أو جمع و قبيح عند آخرين و البحث إنّما هو عن الحسن و القبح الذاتيين اللذين لا يتغير الاتصاف بهما عند قوم دون قوم، و جيل دون جيل، بل يكون حكما ثابتا للفعل أبدا.

و أمّا المصالح النوعيّة - كبقاء النظام و انهدامه - فهي و إن كانت تصبغ الفعل بالحسن و القبح على وجه الثبات و الدوام، لكن لا يصحّ توصيف الحسن و القبح في هذا المورد بالذاتيين. لأنّ المراد بالذاتي كون ملاحظة نفس الفعل - مع غضّ النظر عن غيره - موجبا لإدراك العقل حسنه أو قبحه، و ليس الأمر كذلك في توصيف الفعل بالحسن أو القبح لأجل المصالح و المفاسد النوعية، فإنّ لتلك الأغراض الخارجة عن حقيقة الفعل دخالة في إدراك العقل و توصيفه. فلأجل ذلك يجب أن يكون مثل ذلك خارجا عن محل النزاع، و لو اعترف الأشاعرة بحسن العدل و قبح الظلم من هذه الزاوية، فلا يمكن عدهم موافقين للعدلية.

3 - كون الشيء كمالا للنفس أو نقصا لها، كالعلم و الجهل، فالأول زين لها و الثاني شين. و لكنّ التحسين و التقبيح بهذا المعنى لا غبار عليه و ليس محلا للنقاش. إذ لا أظن أنّ أحدا على أديم الأرض ينكر كون العلم و الشجاعة و الفصاحة كمالا و حسنا، و الجهل و الجبن و الفهاهة نقصا و قبيحا.

فهذه الملاكات الثلاثة على فرض كونها ملاكات للاتصاف بالحسن و القبح، خارجة عن حريم البحث، و إنّما البحث بين العدلية و غيرهم في الملاك الرابع التالي:

4 - ما استحق من الأفعال مدح فاعله عدّ عند العقلاء حسنا، و ما استحق منها ذما عدّ عندهم قبيحا. و ذلك بملاحظة الفعل نفسه من حيث هو

ص: 234

هو، من دون ضم شيء إليه، و من دون أن يلاحظ كونه مشتملا على نفع شخصي أو نوعي، فيستقل العقل بحسنه و وجوب فعله، أو قبحه و وجوب تركه.

و إن شئت قلت: إذا وقع الفعل في إطار العقل البشري من دون فرق بين الأفراد، و مع غض النظر عن أي شيء آخر غير الفعل نفسه، وجده العقل موصوفا بالحسن و قابلا للمدح، أو على العكس. و هذا كما إذا لاحظ جزاء الإحسان بالإحسان فيحكم بحسنه، و جزاءه بالإساءة فيحكم بقبحه.

فالعقل في حكمه هذا، لا يلاحظ سوى نفس الموضوع، من دون أن يتصور كونه يتضمن صلاحا أو فسادا. فمبحث الحسن و القبح الذاتيين، لا يهدف إلاّ إلى هذا القسم.

و الأقسام الثلاثة الأولى خارجة عن مجال البحث، كما أنّ التحسين و التقبيح العاديين، كتحسين خروج الجندي بالبزّة العسكرية و تقبيح خروج العالم باللباس غير المناسب، خارجان أيضا عن محل البحث.

و ربما يتوهم أنّ للتحسين و التقبيح ملاكا خامسا، هو أنّ الحسن ما استحق الثواب عند اللّه، و القبيح ما استحق العقاب عنده. و لكنه خارج عن مجال البحث أيضا، كيف و قد بحث عن أصل التحسين و التقبيح البراهمة الذين لا يدينون بشريعة فضلا عن الاعتقاد بالثواب و العقاب في الآخرة، فكيف يكون هذا ملاك البحث. نعم قد اتخذ هذا الوجه سنادا من أراد أن ينكر الحسن و القبح، بحجة أنّ العلم باستحقاق الثواب و العقاب على الفعل خارج عن نطاق العقل، و داخل في مجال الشرع.

و مما قدمنا يعلم ما فيه.

و لأجل زيادة البيان في تعيين محل النزاع بين الأشاعرة و العدلية نأتي بالتوضيح التالى:

ص: 235

إنّ كثيرا من الباحثين عن التحسين و التقبيح العقليين، يعلّلون حسن العدل و الإحسان، و قبح الظلم و العدوان، باشتمال الأول على مصلحة عامة و باشتمال الثاني على مفسدة كذلك. و لأجل تلك النتائج عم الاعتراف بحسن الأول و قبح الثاني الجميع. و لكنك عرفت أنّ ملاك البحث أوسع من ذلك، و أنّ المسألة مركزة على لحاظ نفس الفعل مع غض النظر عن تواليه و توابعه، هل يدرك العقل حسنه أو قبحه، أو لا؟ و هل العقل يمدح إحسان المحسن بالإحسان، و يذم جزاء المحسن بالإساءة أو لا؟ و هل العقل يقبح تكليف الإنسان بما لا يطيقه، أو لا؟ و هل العقل يحسّن عمل العامل بالميثاق، أو لا؟ فالنقاش على هذا الصعيد لا بالنظر إلى الأغراض و المصالح، فرديّة كانت أم اجتماعيّة.

فالقائلون بالتقبيح و التحسين العقليين يقولون: إنّ كل عاقل مميّز، يجد من صميم ذاته حسن بعض الأفعال و قبح بعضها الآخر، و إنّ هذه الأحكام نابعة من صميم القوة العاقلة و الهويّة الإنسانيّة المثاليّة.

و أول من قام بتحرير محل النزاع على الوجه الذي قررناه هو المحقق اللاهيجي في تأليفه الكلامية. و أوضح دليل على صواب تحريره هو أن الغرض من طرح هذه المسألة التوصل إلى التعرف على أفعاله سبحانه، و أنّ العقل هل يستطيع أن يستكشف وصف أفعاله، أو لا؟ و أنّ ما هو حسن عند العقل أو قبيح عنده هل هو كذلك عند اللّه تعالى ؟ و لا يمكن ذلك الاستكشاف إلاّ بكون المدار في التحسين و التقبيح على ملاحظة نفس الفعل بما هو هو.

و على ذلك فلا معنى للبحث عن التحسين و التقبيح بالملاكات السّابقة من الملاءمة و المنافرة للطبع، أو موافقة الغرض و مخالفته، أو كونه حافظا و هادما للنظام و المجتمع، و إلاّ لبطلت الغاية التي طرحت لأجلها تلك المسألة و هي التعرف على أفعال الباري سبحانه.

ص: 236

هل التّحسين و التّقبيح العقليّان من المشهورات ؟

ربما يظهر من بعض الحكماء و المتكلمين أنّ التحسين و التقبيح العقليين من المشهورات التي اتفقت عليها آراء العقلاء و تسمى ب «الآراء المحمودة».

و قال الشيخ الرئيس في (الإشارات): فأما المشهورات... و منها الآراء المسماة ب «المحمودة»، و ربما خصصناها باسم «المشهورة»، إذ لا عمدة لها إلاّ الشهرة. و هي آراء لو خلّي الإنسان و عقله المجرد، و وهّمه و حسّه، و لم يؤدّب بقبول قضاياها و الاعتراف بها، و لم يمل الاستقراء بظنه القوي إلى حكم، لكثرة الجزئيات، و لم يستدع إليها ما في طبيعة الإنسان من الرحمة و الخجل و الأنفة و الحميّة و غير ذلك، لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسّه. مثل حكمنا إنّ سلب مال الإنسان قبيح و إنّ الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه. و من هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس، و إن صرف كثيرا عنه الشرع من قبح ذبح الحيوان، اتباعا لما في الغريزة من الرقة لمن تكون غريزته كذلك، و هم أكثر الناس.

و ليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج، و لو توهم نفسه و أنّه خلق دفعة تام العقل و لم يسمع أدبا و لم يطع انفعالا نفسانيا أو خلقيا، لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء، بل أمكنه أن يجهله و يتوقف فيه. و ليس كذلك حال قضائه بأنّ الكلّ أعظم من الجزء - إلى أن قال -: فالمشهورات إمّا من الواجبات و إما من التأديبات الصلاحية، و ما يتطابق عليه الشرائع الإلهية، و إمّا خلقيّات و انفعاليّات، و إمّا استقرائيات و إما اصطلاحيّات، و هي إمّا بحسب الإطلاق، و إما بحسب أصحاب صناعة و ملة»(1).

ص: 237


1- الإشارات و التنبيهات، ج 1، ص 219-220 - قوله: «و إمّا اصطلاحيات»: يريد منه أن تكون مشهورة عند الكل كقولنا: «العلم بالمتقابلات واحد»، فإنّ العلم بأبوة زيد لعمرو مساوق للعلم ببنوة عمرو لزيد. أو عند أصحاب صناعة كقولنا: «التسلسل محال»، و هو مشهور عند المناظرة. أو عند أصحاب ملة كقولنا: «الإله واحد» و «الرّبا حرام».

فها إنّك ترى أنّ الشيخ الرئيس يعدّ كون سلب مال الإنسان قبيحا، من القضايا المشهورة و أنّه ليس له مدرك سوى آراء العقلاء و أن الإنسان لو خلي و عقله، و لم يؤدب بقبول قضاياها، لم يقض بقبحه.

و قد وافقه على ذلك المحقق الطوسي في شرحه على الإشارات.

يلاحظ عليه: إنّ القياس ينقسم إلى أقسام خمسة:

1 - برهاني، 2 - جدلي، 3 - خطابي، 4 - شعري، 5 - سفسطي.

و الأول منها يتركب من اليقينيّات و أصولها ستة:

1 - الأوليّات، 2 - المشاهدات، 3 - التجربيّات، 4 - الحدسيّات، 5 - المتواترات، 6 - الفطريات.

و أما الثاني - أعني القياس الجدلي - فيتألف من المشهورات و المسلّمات، سواء أ كانت عند الكل أم عند طائفة خاصة.

و على ذلك فالمشهورات من مبادي الجدل، و هو يقابل القياس البرهاني. فلو جعل التحسين و التقبيح العقليان من المشهورات و أدخل في القياس الجدلي و عرف بأنّه لا مدرك له إلاّ الشهرة التي لو خلي الإنسان و عقله المجرّد و وهمه و حسّه، و لم يؤدّب بقبول قضاياها لم يقض بها، يلزم إنكار التحسين و التقبيح العقليين و إثبات العقلائي منهما. و هو غير ما يتبناه القائلون بالعقلي.

أضف إليه أنّ جعلهما من المشهورات و إخراجهما من القياس البرهاني و إدخالهما تحت القياس الجدلي يبطل جميع الأحكام و الآثار التي تترتب على القول بالعقلي، كما أوضحناه. إذ على هذا، لا يكون التحسين و التقبيح برهانيا، فلا يكون ما يترتب عليه مبرهنا به بل يعدّ من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء. و من الممكن جدا اتفاق العقلاء على

ص: 238

ضدها، فعند ذلك يكون الحسن قبيحا و القبيح حسنا.

فإن قلت: إنّ الشيخ الرئيس جعل المشهورات أعم مما هو من مبادي الجدل، فأدخل فيها الأوليّات حيث قال في صدر كلامه: «أمّا المشهورات من هذه الجملة فمنها أيضا هذه الأوليات و نحوها مما يجب قبوله و منها الآراء المسماة ب (المحمودة) و ربما خصصناها باسم (المشهورة) إذ لا عمدة لها إلاّ الشهرة».

قلت: ما ذكرتم صحيح، فإنّ المشهورات عنده أعمّ من اليقينيات و غيرها حتى أنّ الأوليات لها اعتباران، فمن حيث انه يعترف بها عموم الناس تعدّ مشهورات، و من حيث إنه يحكم بها محض العقل و يجب قبولها يقينيات. و في مقابل هذا القسم، قسم آخر للمشهورات و هي غير يقينيات و يتوقف العقل الصرف في الحكم بها، و لكن لعموم النّاس بها اعتراف و تسمى «آراء محمودة»، و ربما يخصص هذا القسم باسم المشهورات.

فالمشهورات تقال بالاشتراك المعنوي على ما يعمّ اعتراف الناس بها، و لها قسمان: يقينيّات، و غير يقينيّات. و لكن الشيخ و من تبعه عدّوا التحسين و التقبيح من القسم الثاني، و هو يستلزم إنكار التحسين و التقبيح العقليين و ما بني عليه من الأحكام، فلاحظ.

ما هو الملاك للحكم بحسن الأفعال و قبحها؟

إذا كان محل النزاع ما ذكرنا من إدراك العقل حسن الفعل أو قبحه بالنظر إلى ذاته مع غض النظر عما يترتب عليه من التوالي، فيقع الكلام في أنّ العقل كيف يقضي بالحسن و القبح، و ما هو الملاك في قضائه ؟ إنّ الملاك لقضاء العقل هو أنه يجد بعض الأفعال موافقا للجانب الأعلى من الإنسان و الوجه المثالي في الوجود البشري، و عدم موافقة بعضها الآخر لذلك.

و إن شئت قلت: إنّه يدرك أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحي

ص: 239

المختار، و بعضها الآخر نقص له، فيحكم بحسن الأول و لزوم الاتصاف به، و قبح الثاني و لزوم تركه. و لو عمّم الطبع - فيما ذكرنا من الملاكات - لهذا المعنى أي الطبع الأعلى في الإنسان، لكان هذا المعنى داخلا في لملاك الأول.

توضيح ذلك: إنّ الحكماء قسموا العقل إلى عقل نظري و عقل عملي، فقد قال المعلم الثاني: «إنّ النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان، و العملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته».

و قال الحكيم السبزواري في توضيحه: «إنّ العقل النظري و العقل العملي من شأنهما التعقّل، لكن النظري شأنه العلوم الصرفة غير المتعلقة بالعمل مثل: اللّه موجود واحد، و أنّ صفاته عين ذاته، و نحو ذلك.

و العملي شأنه العلوم المتعلقة بالعمل مثل: «التوكّل حسن» و «الرضا و التسليم و الصبر محمودة». و هذا العقل هو المستعمل في علم الأخلاق، فليس العقلان كقوتين متباينتين أو كضميمتين، بل هما كجهتين لشيء واحد و هو الناطقة»(1).

ثم، كما أنّ في الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية، و لو لا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة، فهكذا في الحكمة العملية، قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضرورية، و إلاّ لما عرف الإنسان شيئا من قضايا الحكمة العملية. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظرية من صميم ذاته فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاته بلا حاجة إلى تصور شيء آخر.0.

ص: 240


1- تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة، ص 310.

مثلا: إنّ تصديق كلّ القضايا النظرية يجب أن ينتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشيء من القضايا، و لذا تسمى ب «أمّ القضايا» و ذلك كاليقين بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، فإنّه لا يحصل إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية، أي عدم مساواتها لهما. و إلاّ فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. و لأجل ذلك اتفقت كلمة الحكماء على أن إقامة البرهان على المسائل النظرية إنما تتم إذا انتهى البرهان إلى أمّ القضايا التي قد عرفت.

و على ضوء هذا البيان نقول: كما أنّ للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوليّة تنتهي إليها، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي، يجب أن تنتهي إلى قضايا أولية و واضحة عنده بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صح التصديق بقضية من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي، مسألة التحسين و التقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا بوضوح، مثل قولنا «العدل حسن» و «الظلم قبيح» و «جزاء الإحسان بالإحسان حسن» و «جزاؤه بالإساءة قبيح».

فهذه القضايا قضايا أوليّة في الحكمة العملية و العقل العملي يدركها من صميم ذاته و من ملاحظة القضايا بنفسها. و في ضوء التصديق بها يسهل عليه التصديق بما يبنى عليها في مجال العقل العملي من الأحكام غير البديهية، سواء أ كانت مربوطة بالأخلاق أولا، أم تدبير المنزل ثانيا، أم سياسة المدن ثالثا، التي يبحث عنها في الحكمة العملية.

و لنمثل على ذلك: إنّ العالم الأخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين و المعلمين و أولي النعمة، و ذلك لأنّ التكريم من شئون جزاء الإحسان

ص: 241

بالإحسان، و هو حسن بالذات، و الإهانة لهم من شئون جزاء الإحسان بالإساءة و هو قبيح بالذات.

و الباحث عن أحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بالوظائف الزوجية من الطرفين و قبح التخلف عنها، ذلك لأن القيام بها قيام بالعمل بالميثاق، و التخلف عنها تخلف عنه، و الأول حسن بالذات و الثاني قبيح بالذات.

و العالم الاجتماعي الذي يبحث عن حقوق الحاكم و الحكومة على المجتمع يحكم بأنّه يجب أن تكون الضرائب معادلة لدخل الأفراد، و ذلك لأن الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعيّة و هو قبيح بالذات.

و قس على ذلك كلّ ما يرد عليك من الأبحاث في الحكمة العملية، سواء أ كانت راجعة إلى الفرد (الأخلاق)، أو إلى المجتمع الصغير (البيت)، أو إلى المجتمع الكبير (السياسة). فكل ما يرد فيها و يبحث عنه الباحثون، بما أنّه من شئون العقل العملي، يجب أن ينتهي الحكم فيه إيجابا و سلبا، صحة و بطلانا إلى القضايا الواضحة البديهية في مجال ذلك العقل.

إلى هنا انتهينا إلى أنّه يجب انتهاء الأحكام غير الواضحة ابتداء في مجال العقلين (النظري و العملي) إلى أحكام بديهية مدركة ابتداء بلا مئونة شيء منهما. و ذلك دفعا للدور و التسلسل الذي استند إليه علماء المنطق و الحكمة في القسم الأول، أي الحكمة النظرية. و الدليل واحد سار في الجميع.

إذا عرفت ما ذكرنا، يقع الكلام في أمر آخر و هو تعيين الملاك لدرك العقل صحة القضايا البديهية أو بطلانها في مجال العقلين، فنقول:

إنّ الملاك في مجال العقل النظري عبارة عن انطباق القضية مع التكوين و عدم انطباقها، فالعقل، يدرك من صميم ذاته أن اجتماع النقيضين

ص: 242

شيء غير متحقق في الخارج، و أنّه لا يمكن الحكم بكون شيء موجودا و في الوقت نفسه الحكم بكونه معدوما، يدرك ذلك بلا حاجة إلى تجربة و استقراء.

و أما الملاك في العقل العملي فهو عبارة عن درك مطابقة القضية و ملاءمتها للجانب المثالي من الإنسان غير الجانب الحيواني، أو منافرتها له.

فالإنسان بما هو ذو فطرة مثالية، يتميز بها عن الحيوانات، يجد بعض القضايا ملائمة لذلك الجانب العالي أو منافية له. فيصف الملائم بالحسن و لزوم العمل، و المنافي بالقبح و لزوم الاجتناب. و لا يدرك القضايا بهذين الوصفين لشخصه فقط أو لصنف خاص من الإنسان أو لكل من يطلق عليه الإنسان، بل يدرك حسن صدورها أو قبحه لكل موجود عاقل مختار سواء وقع تحت مظلة الإنسانية أو خارجها. و ذلك لأن المقوم لقضائه بأحد الوصفين نفس القضية بما هي هي من غير خصوصية للمدرك. فهو يدرك أنّ العدل حسن عند الجميع و من الجميع، و الظلم قبيح كذلك، و لا يختص حكمه بأحدهما بزمان دون زمان و لا جيل دون جيل.

إلى هنا تم تبيين الأمرين اللذين لهما دور في الحكم بالتحسين و التقبيح العقليين و يجب أن لا يخلط أحدهما بالآخر لكون الأول مقدمة للثاني، و هما:

أ - انتهاء كل القضايا في مجال العقلين إلى قضايا بديهية دفعا للمحذور.

ب - تبيين ملاك درك العقل صحة تلك القضايا البديهية في مجال العقلين.

و قد اتضح بذلك أنّ المدعي للتحسين و التقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه، كما أنّ المدعي لامتناع اجتماع النقيضين

ص: 243

و ارتفاعهما كذلك. و العجب أنّ الحكماء و المتكلمين اتفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية، و إلاّ عقمت الأقيسة و لزم التسلسل في مقام الاستنتاج، و لكنهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي و لم يقسموا القضايا العملية إلى فكرية و بديهية، أو نظرية و ضرورية. كيف و الاستنتاج و الجزم بالقضايا غير الواضحة الواردة في مجال العقل العملي لا يتم إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال. و قد عرفت أنّ المسائل المطروحة في الأخلاق، مما يجب الاتصاف به أو التنزّه عنه، أو المطروحة في القضايا البيتية و العائلية التي يعبر عنها بتدبير المنزل، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة و تدبير المدن، ليست في الوضوح على نمط واحد، بل لها درجات و مراتب. فلا ينال العقل الجزم بكل القضايا العملية إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهية واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العملية حتى يحصل الجزم بها و يرتفع الإبهام عن وجهها. و لأجل ذلك نحن في غنى عن التوسع في طرح أدلة القائلين بالتحسين و التقبيح و لا نذكر إلاّ النّزر اليسير منها.

فكما أنهم غفلوا عن تقسيم القضايا في الحكمة العملية إلى القسمين، فهكذا غفلوا عن تبيين ما هو الملاك لدرك العقل صحة بعض القضايا أو بطلانها في ذلك المجال. و يوجد في كلمات المتكلمين في بيان الملاك و المعيار أمور غير تامة يقف عليها من راجع الكتب الكلامية.

أدلة القائلين بالتّحسين و التّقبيح العقليين
الدليل الأول:

هو ما أشار إليه المحقق الطّوسي بقوله: «و لانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا»(1). أي إنّا لو قلنا بأنّ الحسن و القبح يثبتان من طريق الشرع، يلزم من ذلك عدم ثبوتهما بالشرع أيضا.

توضيحه: إنّ الحسن و القبح لو كانا بحكم العقل، بحيث كان العقل

ص: 244


1- كشف المراد، ص 186.

مستقلا في إدراك حسن الصدق و قبح الكذب، فلا إشكال في أنّ ما أمر به الشارع يكون حسنا و ما نهى عنه يكون قبيحا، لحكم العقل بأنّ الكذب قبيح، و الشارع لا يرتكب القبيح، و لا يتصور في حقه ارتكابه.

و أما لو لم يستقل العقل بذلك، فلو أمر الشارع بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق و قبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقا في كلامه حتى نعتقد بمضمونه لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو إخباره فإن الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد، حتى لو قال الشارع بأنّه لا يكذب لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار. فيلزم على قول الأشعري أن لا يتمكن الإنسان من الحكم بحسن شيء لا عقلا و لا شرعا.

و إن شئت قلت: لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال و قبح بعضها الآخر، كالصدق و الكذب، و أخبرنا اللّه سبحانه عن طريق أنبيائه بأنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح، لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.

ثم إنّ الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الاستدلال بقوله «إنّا لا نجعل الأمر و النهي دليلي الحسن و القبح ليرد ما ذكر بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلق الأمر و المدح، و القبح عن كونه متعلق النهي و الذم»(1).

يلاحظ عليه: إنّ البحث تارة يقع في التسمية و المصطلح فيصح أن يقال إنّ ما وقع متعلق الأمر و المدح حسن، و ما وقع متعلق النهي و الذم قبيح. و العلم بذلك لا يتوقف إلاّ على سماعها من الشرع. و أخرى يقع في الوقوف على الحسن الواقعي أو القبح كذلك عند الشرع، فهذا مما لا يمكن استكشافه من مجرد سماع تعلق الأمر و النهي بشيء إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثا في أمره و نهيه. و لو قال إنّه ليس بعابث، لا يثبت به نفي2.

ص: 245


1- شرح التجريد للفاضل القوشجي، ص 442.

احتمال العابثية عن فعله و كلامه، لاحتمال كونه هازلا أو كاذبا في كلامه.

فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإدراكات العقلية شيء لا يتوقف درك حسنه و قبحه على شيء، و أن يكون العقل مستقلا في دركه، و هو حسن العدل و قبح الظلم و حسن الصدق و قبح الكذب حتى يستقل العقل بذلك على أنّ كل ما حكم به الشرع فهو صادق في قوله. فيثبت عندئذ أنّ ما تعلق به الأمر حسن شرعا، و ما تعلق به النهي قبيح شرعا. و هذا ما يهدف إليه المحقق الطوسي من أنّه لو لا استقلال العقل في بعض الأفعال ما ثبت حسن و لا قبح بتاتا.

الدليل الثاني -

ما أشار إليه المحقق الطوسي أيضا بقوله: «و لجاز التعاكس»(1) أي في الحسن و القبح.

توضيحه: إنّ الشارع على القول بشرعية الحسن و القبح، يجوز له أن يحسن أو يقبّح ما حسّنه العقل أو قبّحه. و على هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان و تحسين الإساءة و هو باطل بالضرورة. فإنّ وجدان كل إنسان يقضي بأنّه لا يصح أن يذمّ المحسن أو يمدح المسيء. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «و لا يكوننّ المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء»(2).

و الإمام يهدف بكلمته هذه إيقاظ وجدان عامله، و لا يقولها بما أنّها كلام جديد غفل عنه عامله.

الدليل الثالث -

لو كان الحسن و القبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة و الملاحدة الذين ينكرون الشرائع، و يحكمون بذلك مستندين إلى العقل.

و هؤلاء الماديون و الملحدون المنتشرون في أقطار واسعة من شرق الأرض و مغربها يرفضون الشرائع و الدين من أساسه، و يعترفون بحسن أفعال و قبح بعضها الآخر.

ص: 246


1- كشف المراد، ص 186.
2- نهج البلاغة، الكتاب 53.

و لأجل ذلك يغرّون شعوب العالم بطرح مفاهيم خدّاعة، بدعاياتهم الخبيثة، من قبيل دعم الصلح و السلام العالميين، و حفظ حقوق البشر و العناية بالأسرى و السجناء و نبذ التمييز العنصري، إلى غير ذلك مما يستحسنه الذوق الإنساني و العقل البشري في جميع الأوساط، يطرحون ذلك ليصلوا من خلاله إلى أهدافهم و مصالحهم الشخصية. و لو لا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية و الإلحاد في العالم.

و الحاصل أنّ هناك أفعالا لا يشكّ أحد في حسنها سواء ورد حسنها من الشرع أم لم يرد. كما أنّ هناك أفعالا قبيحة عند الكل، سواء ورد قبحها من الشرع أم لا. و لأجل ذلك لو خيّر العاقل الذي لم يسمع بالشرائع، و لا علم شيئا من الأحكام، بل نشأ في البوادي، خالي الذهن من العقائد كلّها، بين أن يصدق و يعطى دينارا، أو يكذب و يعطى دينارا، و لا ضرر عليه فيهما فإنه يرجّح الصدق على الكذب. و لو لا قضاء الفطرة بحسن الصدق و قبح الكذب لما فرق بينهما، و لما اختار الصدق دائما.

و هذا يعرب عن أنّ العقل له قدرة الحكم و القضاء في أمور ترجع إلى الفرد و المجتمع، فيحكم بحسن إطاعة وليه المنعم و قبح مخالفته، و أنّ المحسن و المسيء ليسا بمنزلة سواء، و نحو ذلك.

الدليل الرابع -

لو كان الحسن و القبح باعتبار السمع، لما قبح من اللّه تعالى شيء. و لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين. و تجويز ذلك يسدّ باب معرفة الأنبياء، فإنّ أيّ نبي أتى بالمعجزة عقيب الادّعاء، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.

و هذه النتيجة الباطلة من أهم و أبرز ما يترتب على إنكار القاعدة.

و بذلك سدّوا باب معرفة النبوّة.

و العجب أنّ الفضل بن روزبهان حاول الإجابة عن هذا الدليل بقوله:

ص: 247

«عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه أمرا قبيحا عقلا، بل لعدم جريان عادة اللّه، الجاري مجرى المحال العادي، بذلك. فعند ذلك لا ينسد باب معرفة الأنبياء، لأنّ العلم العادي حكم باستحالة هذا الإظهار»(1).

فإنّه يلاحظ عليه، إنّه من أين وقف على تلك العادة، و أنّ اللّه لا يجري الإعجاز على يد الكاذب. و لو كان التصديق متوقفا على إحرازها، لزم أن يكون المكذبون بنبوة نوح أو من قبله و من بعده، معذورين في إنكارهم لنبوّة الأنبياء، إذ لم تثبت عندهم تلك العادة، لأنّ العلم بها إنما يحصل من تكرر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.

و يمكن أن يقال: إنّ تحصيل جريان عادة اللّه بأن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب، يجب أن يستند إلى مصدر، فإن كان المصدر هو العقل فهو معزول عند الأشاعرة. و إن كان هو السمع فالمفروض أنّه يحتمل أن يكون الشرع كاذبا في هذا الادعاء، بل لا سمع قبل ثبوت نبوّة النبي.

و حصيلة البحث: إنّ منكر الحسن و القبح منكر لما هو من البديهيات. و لا يصحّ الكلام معه، لأن النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدمات ضرورية و هؤلاء ينازعون فيها.

ليت شعري، إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق، و جوّز أن ينهى اللّه سبحانه العبد عن الفعل و يخلق فيه اضطرارا و يعاقبه عليه، فقل: ها، أيّ أمر يدركه العقل ؟!!.

قيل: اجتمع النظّام و النجّار للمناظرة، فقال النّجّار: لم تدفع أن يكلف اللّه عباده ما لا يطيقون ؟.

فسكت النظّام، فقيل له: لم سكت ؟.9.

ص: 248


1- دلائل الصّدق، ج 1، ص 369.

قال: كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق، فإذ التزمه و لم يستح، فبم ألزمه ؟.

و بذلك تعرف مدى وهن ما ذكره أبو الحسن الأشعري في لمعه، و إليك نصه:

«فإن قال قائل: هل للّه تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة ؟ قيل له:

للّه تعالى ذلك، و هو عادل إن فعله».. إلى أن قال... «و لا يقبح منه أن يعذّب المؤمنين، و يدخل الكافرين الجنان. و إنما نقول إنّه لا يفعل ذلك، لأنه أخبرنا إنه يعاقب الكافرين و هو لا يجوز عليه الكذب في خبره»(1).

أدلة الأشاعرة على نفي التحسين و التقبيح العقليين
الدليل الأول - اللّه مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء

استدل الأشعري على مقالته بقوله: «و الدّليل على أنّ كل ما فعله فله فعله، أنّه المالك، القاهر، الذي ليس بمملوك، و لا فوقه مبيح، و لا آمر، و لا زاجر، و لا حاظر، و لا من رسم له الرسوم، و حدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا، لم يقبح منه شيء، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا، لأنّا تجاوزنا ما حدّ و رسم لنا، و أتينا ما لم نملك إتيانه. فلمّا لم يكن الباري مملوكا و لا تحت آمر، لم يقبح منه شيء. فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبّحه، قيل له: أجل، و لو حسّنه لكان حسنا، و لو أمر به لم يكن عليه اعتراض.

فإن قالوا: فجوّزوا عليه أن يكذب، كما جوزتم أن يأمر بالكذب.

قيل لهم: ليس كل ما جاز أن يأمر به، جاز أن يوصف به»(2).

ص: 249


1- اللّمع، ص 116.
2- اللّمع، ص 117.

يلاحظ عليه: أمّا أوّلا - فإننا نسأل الشيخ الأشعري إنّه سبحانه إذا أولم طفله في الآخرة و عذّبه بألوان التعذيب، مع كون الطفل بريئا لم يصدر منه ذنب، و رأى الأشعري ذلك بأم عينه في الآخرة، هل يرى ذلك عين العدل، و نفس الحسن ؟! أو أنه يجد ذلك الفعل، من وجدانه، أمرا منكرا؟.

و مثله ما لو فعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله مع كونه مؤمنا، فهل يرضي بذلك في أعماق روحه، و يراه نفس العدل، غير متجاوز عنه، بحجة أنّ اللّه سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء؟ أو أنه يقضي بخلاف ذلك ؟.

و أمّا ثانيا: فلا شك أنّه سبحانه مالك الملك و الملكوت يقدر على كل أمر ممكن - كما عرفت - من غير فرق بين الحسن و القبيح، فعموم قدرته لكل ممكن ممّا لا شبهة فيه، و لكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم، ليس تحديدا لملكه و قدرته. و هذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل و حكمه في أفعاله سبحانه نوع دخالة في شئون ربّ العالمين، و لكن الحق غير ذلك.

توضيحه: إنّ العقل بفضل التجربة، أو بفضل البراهين العقلية، يكشف عن القوانين السّائدة على الطبيعة، كما يكشف عن القوانين الرياضية، فلو قال العقل: إنّ كل زوج ينقسم إلى متساويين، فهل يحتمل أنّ العقل بذلك فرض حكمه على الطبيعة، أو يقال إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون و العقل كشفه و بيّنه ؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم و كشفه في عالم الطبيعة، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل و قبحه و أنّ أيّ فعل يصدر منه و أيّه لا يصدر منه، و فرضه الحكم على اللّه سبحانه فرضا يحدد سعة قدرته و إرادته و فعله. فليس العقل هنا حاكما و فارضا على اللّه سبحانه، بل هو - بالنظر إلى اللّه تعالى و صفاته التي منها الكمال و الغنى - يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات و خاصة الحكمة، لا

ص: 250

يصدر منه القبيح، و لا الأخلاق بما هو حسن.

و بعبارة أخرى: إنّ العقل يكشف عن أنّ المتّصف بكل الكمال، و الغنى عن كل شيء، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح، لتحقّق الصّارف عنه و عدم الداعي إليه، و هذا الامتناع ليس امتناعا ذاتيا حتى لا يقدر على الخلاف، و لا ينافي كونه تعالى قادرا عليه بالذات، و لا ينافي اختياره في فعل الحسن و ترك القبيح، فإن الفعل بالاختيار، و الترك به أيضا. و هذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح. و لا يهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل، بل اللّه بحكم أنّه حكيم، التزم و كتب على نفسه أن لا يخل بالحسن و لا يفعل القبيح. و ليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف و التبيين بالنظر إلى صفاته و حكمته.

و باختصار: إنّ فعله سبحانه - مع كون قدرته عامة - ليس فوضويا و متحررا عن كل سلب و إيجاب، و ليس التحديد مفروضا عليه سبحانه من ناحية العقل، و إنما هو واقعية و حقيقة كشف عنه العقل، كما كشف عن القوانين السائدة على الطبيعة و الكون. فتصوّر أنّ فعله سبحانه متحرر عن كل قيد و حدّ، بحجة حفظ شأن اللّه سبحانه، وسعة قدرته، أشبه بالمغالطة، فإنّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض انحلال فعله عن كل قيد و شرط.

و بالتأمل فيما ذكرنا يظهر ضعف سائر ما استدلّ به القائلون بنفي التحسين و التقبيح العقليين. و لا بأس بالإشارة إلى بعض أدلتهم التي أقامها المتأخرون عن أبي الحسن الأشعري.

الدليل الثاني: لو كان التحسين و التقبيح ضروريا لما وقع الاختلاف

قالوا: لو كان العلم بحسن الإحسان و قبح العدوان ضروريا لما وقع

ص: 251

التّفاوت بينه و بين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين، لكنّ التالي باطل بالوجدان.

و أجاب عنه المحقق الطّوسي بقوله: «و يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور»(1).

توضيحه: إنّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصور أطرافها. و قد قرر في صناعة المنطق أنّ للبديهيات مراتب: فالأوليّات أبده من المشاهدات بمراتب. و الثانية أبده من التجربيات و الثالثة أبده من الحدسيات، و الرابعة أبده من المتواترات، و الخامسة أبده من الفطريّات.

و الضابط في ذلك أنّ ما لا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره، و ذلك مثل الأوليات(2)، و هكذا.

فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة، لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات.

و باختصار، إنّ العلوم اليقينية، مع كثرتها ليست على نمط واحد، بل لها مراتب و درجات، و هذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه و يقينياته و على ذلك فلا مانع من أن يقع الاختلاف في بعض العلوم الضرورية لدوافع خاصة، و هي في المقام تصوّر أنّ الحكم بالحسن و القبح تحديد لسلطتها.

ص: 252


1- كشف المراد، ص 186.
2- وجه الضبط أنّ القضايا البديهية إمّا أن يكون تصور طرفيها مع النسبة كافيا في الحكم و الجزم، أو لا يكون. و الأول هو الأوليات، و الثاني إمّا أن يتوقف على واسطة غير الحس الظاهر و الباطن أو لا. و الثاني المشاهدات، و تنقسم إلى مشاهدات بالحس الظاهر و مشاهدات بالحسّ الباطن. و الأول إمّا أن تكون تلك الواسطة بحيث لا تغيب عن الذهن عند تصور الأطراف أو لا تكون كذلك، فالأول هي الفطريات، و تسمى بالقضايا التي قياساتها معها. و الثاني إمّا أن يستعمل فيه الحدس، و هو انتقال الذهن الدفعي من المبادي إلى المطالب أو لا يستعمل فيه، فالأول هو الحدسيات، و الثاني إن كان الحكم فيه حاصلا بإخبار جماعة يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب فهو المتواترات، و إن لم يكن كذلك بل حاصلا من كثرة التجارب فهي التجريبيات و قد علم بذلك حدّ كل واحد منها.

سبحانه، فلأجل ذلك رفضت الأشاعرة هذا العلم الضروري للحفاظ على عموم سلطته تعالى.

الدليل الثالث: لو كان الحسن و القبح عقليين لما تغيرا

إنّ الحسن و القبح لو كانا عقليين لما اختلفا، أي لما حسن القبيح و لما قبح الحسن، و التّالي باطل، فإنّ الكذب قد يحسن و الصدق قد يقبح و ذلك فيما إذا تضمن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك، و الصدق إهلاكه.

فلو كان الكذب قبيحا لذاته لما كان واجبا و لا حسنا عند ما استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله(1).

و أجاب عنه المحقق الطّوسي بقوله: «و ارتكاب أقل القبيحين مع إمكان التخلّص»(2).

و توضيحه: إنّ الكذب في هذه الصّورة على قبحه إلاّ أنّ ترك إنقاذ النبي أقبح من الكذب، فيحكم العقل بارتكاب أقلّ القبيحين تخلّصا من ارتكاب الأقبح.

على أنّه يمكن التخلص عن الكذب بالتعريض (أي التورية).

و باختصار: إنّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين و هو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة، على الصدق.

أضف إلى ذلك، أنّ الاستدلال مبني على كون قبح الكذب و حسن الصدق، كقبح الظّلم و حسن العدل، ذاتيين لا يتغيران. و أمّا على ما مرّ من أنّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن و القبح على أقسام منها ما يكون الفعل علة تامة لأحدهما، فلا يتغير حسنه و لا قبحه بعروض العوارض كحسن الإحسان

ص: 253


1- الإحكام، للآمدي، ج 1، ص 121.
2- كشف المراد، ص 187.

و قبح الإساءة. و منها ما يكون مقتضيا لأحدهما، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر، و هكذا في جانب القبح. و قد تقدم أنّ حسن الصّدق و قبح الكذب من هذا القبيل. و منها ما لا يكون علة و لا مقتضيا لأحدهما كالضرب، جزاء أو إيذاء.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ هناك أفعالا يستقل العقل بحسنها و قبحها، و يقضي بهما من دون أن يستعين بالشرع، و يرى حسنها و قبحها مطّردا في جميع الفاعلين، من غير اختصاص بالخالق أو المخلوق. و قد ذكرنا ملاك قضائه و هو ملاءمة الفعل أو منافرته للشخصية العلوية المثالية التي خلق الإنسان عليها.

ثم إنّ القول بالتحسين و التقبيح العقليين إنما يتم على القول بأنّ الإنسان فاعل مختار، و أمّا على القول بأنّه مجبور في أفعاله، فالبحث عنهما منفي بانتفاء موضوعه، لأن شيئا من أفعال المجبور لا يتصف بالحسن و لا بالقبح عقلا. و بما أنّ الأشاعرة يصوّرون الإنسان فاعلا مجبورا، فلازم مقالتهم نفي التحسين و التقبيح العقليين، و سيوافيك كون الإنسان فاعلا مختارا غير مجبور، كما سيوافيك نقد ما استدل به الأشاعرة على مقالة الجبر(1).

التّحسين و التقبيح في الكتاب العزيز

إنّ التدبّر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّه يسلّم استقلال العقل بالتحسين و التقبيح خارج إطار الوحي، ثم يأمر بالحسن و ينهي عن القبيح.

ص: 254


1- لاحظ شرح تجريد الاعتقاد للفاضل القوشجي، ص 329، حول قولهم يكون الإنسان مجبورا في فعله. و سيوافيك مفصّلا البحث في الجبر الأشعري عند البحث في «العدل الإلهي و أفعال الإنسان».

1 - قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1).

2 - قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوٰاحِشَ (2).

3 - يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (3).

4 - وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ (4).

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنَّ هناك أموراً توصف بالإحسان والفحشاء و المنكر و البغي و المعروف قبل تعلّق الأمر أو النهي بها، و أنَّ الإِنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاً من صميم ذاته، كما يعرف سائر الموضوعات كالماء و التراب. و ليس عرفان الإِنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع و إنما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن و النهي عن القبيح.

أضف إلى ذلك أنَّه سبحانه يتخذ وجدان الإِنسان سنداً لفضائه فيما تستقل به عقليّته:

5_ يقول تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَّ_الِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الاَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(5).

6_ و يقول سبحانه: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(6).

7_ و يقول سبحانه: (هَلْ جَزَآءُ الاِحْسَانِ إِلاَّ الاِحْسَانُ)(7).

ص: 255


1- سورة النحل: الآية 90.
2- سورة الأعراف: الآية 33.
3- سورة الأعراف: الآية 157.
4- سورة الأعراف: الآية 28.
5- سورة ص: الآية 28.
6- سورة القلم: الآيتان 35-36.
7- سورة الرحمن: الآية 60.

فالتدبّر في هذه الآيات لا يدع مجالا لتشكيك المشكّكين في كون التحسين و التقبيح من الأمور العقلية التي يدركها الإنسان بالحجة الباطنيّة من دون حاجة إلى حجة ظاهرية.

ص: 256

ثمرات التحسين و التقبيح العقليين
اشارة

تحتل مسألة التحسين و التقبيح العقليين مكانة مرموقة في الأبحاث الكلامية و ذلك أن أجلّ ما تثبته هذه المسألة حكمة الباري تعالى و أنّه منزّه عن فعل ما لا ينبغي، و به تنحل الكثير من المشاكل الكلامية و غيرها. و إليك فيما يلي بيان بعض منها.

1 - وجوب المعرفة

اتفق المتكلمون - ما عدا الأشاعرة - على لزوم معرفة اللّه سبحانه على كل إنسان لزوما عقليا، بمعنى أنّ العقل يحكم بحسن المعرفة و قبح تركها، لما في المعرفة من أداء شكر المنعم، و هو حسن، و في تركها من الوقوع في الضّرر المحتمل، و هو قبيح. هذا إذا قلنا باستقلال العقل، و إلاّ لما ثبت وجوب المعرفة، لا عقلا - لأنه حسب الفرض معزول عن الحكم - و لا شرعا، لأنه لم يثبت الشرع بعد.

2 - وجوب تنزيه فعله سبحانه عن العبث

ممّا يترتب على هذه المسألة تنزيه أفعاله سبحانه عن العبث و لزوم اقترانها بالغايات و الأغراض و هذه المسألة من المسائل التي تشاجرت فيها

ص: 257

العدلية و الأشاعرة فالأولى على الإيجاب و الثانية على السلب. و للحكماء فيها رأي خاص أيضا، و لذلك فإنّا نفردها بالبحث بعد عرض هذه النتائج.

3 - لزوم تكليف العباد

إذا كان فعله سبحانه منزّها عن العبث، يستقل العقل بالحكم بلزوم إيصال كل مكلف إلى الغايات التي خلق لها، و ذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال، و زجرهم عمّا يمنعهم عنه، حتى لا يتركوا سدى، و تتفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحية. و علم الإنسان بالحسن و القبح لا يكفي في استكماله، إذ هناك أمور تصده عن بلوغ الغاية أو توصله إليها و هي مجهولة له، و لا تعلم إلاّ من طريق الوحي و الشرع.

4 - لزوم بعث الأنبياء

إنّ مسألة لزوم إرسال الرسل أيضا، تبتني على هذه المسألة، فالعقل الذي يدرك بأنّ الإنسان لم يخلق سدى بل خلق لغاية، يدرك بأنه لا يصل إليها إلاّ بالهداية التشريعية الإلهية، فيستقل بلزوم بعث الدعاة من اللّه تعالى لهداية البشر(1).

5 - لزوم النظر في برهان مدّعي النبوّة

لا شكّ أنّ الأنبياء الحقيقيين يبعثون بمعاجز و بيّنات، فإذا ادّعى إنسان السّفارة من اللّه تعالى إلى النّاس، فهل يجب على الناس النظر في دعواه و برهانه ؟ على استقلال العقل في مجال التحسين و التقبيح، يجب النظر و الإصغاء دفعا للضرر المحتمل. و أمّا على القول بعدمه، فلا يجب ذلك عقلا - لأنه حسب الفرض معزول - و لا شرعا، لعدم ثبوته بعد. و نتيجة ذلك أنّ التارك للنظر معذور، لأنه لم يهتد إلى حقيقة الأمر!.

6 - العلم بصدق دعوى النبوّة

إذا اقترنت دعوة المتنبّئ بالمعاجز و البيّنات الواضحة، فلو قلنا

ص: 258


1- سنبحث مفصلا في لزوم بعثة الأنبياء في مباحث النبوّة العامّة.

باستقلال العقل في مجال الحسن و القبح، حكمنا بصدقه، لقبح إعطاء البيّنات للمدعي الكذّاب، لما فيه من إضلال النّاس. و أمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم في المقام، فلا دليل على كونه نبيّا صادقا، و الشرع بعد لم يثبت حتى يحكم بصدقه.

7 - الخاتمية و استمرار أحكام الإسلام

إنّ استقلال العقل بالتحسين و التقبيح، بالمعنى الذي عرفت من الملاءمة للفطرة العلوية و المنافرة لها، أساس الخاتميّة و بقاء أحكام الإسلام و خلودها إلى يوم القيامة. و ذلك أنّ الفطرة مشتركة بين جميع أفراد البشر و لا تتبدل بتبدل الحضارات و تطوّر المدنيّات، فإنّ تبدلها لا يمسّ فطرة الإنسان و لا يغيّر جبلّته، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالدا إلى يوم القيامة، و لا يتطرق التبدل و التغيّر إليه(1).

8 - ثبات الأخلاق

إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور و الحضارات أو تبدلها تبعا لاختلافها، مما طرح مؤخرا عند الغربيين و دارت حوله المناقشات و أبديت فيه الآراء، فمن قائل بثبات أصولها، و من قائل بتبدلها و تغيّرها حسب تغيّر الأنظمة و الحضارات. و لكن المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين و التقبيح العقليين الناشئين من قضاء الجبلّة الإنسانية العالية و الفطرة الثابتة، فعند ذاك تتّسم أصول الأخلاق بسمة الثبات و الخلود. و أما ما يتغير بتغير الحضارات فإنما هو العادات و التقاليد العرفية.

خذ على ذلك مثلا «إكرام المحسن»، فإنه أمر يستحسنه العقل، و لا يتغير حكم العقل هذا أبدا، و إنما الذي يتغير بمرور الزمان، وسائل الإكرام و كيفياته. فإذا، الأصول ثابتة، و العادات و التقاليد - التي ليست إلاّ لباسا للأصول - هي المتغيّرة.

ص: 259


1- سنبحث عن خاتمية الإسلام في مباحث النبوّة الخاصّة.
9 - الحكمة في البلايا و المصائب و الشرور

من المسائل المشهورة في الحكمة الإلهية مسألة البلايا و الشرور، فإنّ وجود هذه الحوادث أوجد إشكالات على حكمته بل علمه تعالى، فهي بظاهرها تدل على انعدام النّظام في الكون من جهة، و تنافي حكمته بمعنى إتقان أفعاله من جهة ثانية، و تنافي حكمته - على نحو الإطلاق - أعني كون فعله منزها عمّا لا ينبغي من جهة ثالثة، و تنافي حكمته - على نحو الخصوص - أعني عدله تعالى و قيامه بالقسط من جهة رابعة. و حيث إنها من المسائل الطويلة الذيل، التي وقع فيها البحث و النقاش سواء في علم الكلام أو الفلسفة و الحكمة الإلهية، فإنّا نفردها بالبحث بعد العرض الإجمالي لهذه النتائج.

10 - اللّه عادل لا يجور
اشارة

من أبرز مصاديق حكمته تعالى - الثابتة بفضل القول بالتحسين و التقبيح العقليين - عدله، بمعنى قيامه بالقسط و أنّه لا يجور و لا يظلم و سنفرده بالبحث مع بيان مكانته في التشريع الإسلامي. و يترتب عليه بعض النتائج منها:

أ - قبح العقاب بلا بيان

إذا كان اللّه تعالى عادلا، فإنه لا يعاقب عباده من دون أن يبين لهم تكاليفهم، فإنّ ذلك ظلم يحكم العقل بقبحه و لزوم تنزّه الواجب عنه. من دون فرق بين أن لا يقع البيان أصلا، أو يقع و لا يصل إليهم لأسباب و عوامل معينة. و هذا الأصل مما اتفق عليه الأصوليون و بنوا عليه أصالة البراءة في الشبهات غير المقترنة بالعلم الإجمالي.

نعم، المسألة تبتنى على التحسين و التقبيح العقليين إذا لم تثبت البراءة من الشرع بواسطة الكتاب و السنة، و المفروض أنّ البحث فيها بعده.

ص: 260

ب - قبح التكليف بما لا يطاق

من نتائج حكم العقل بعدله تعالى، حكمه بلزوم وجود التمكّن و القدرة في العبد للإتيان بما يكلّفون به، و أنّ تكليفهم و إلزامهم بما هو فوق طاقتهم ظلم و هو قبيح لا يصدر عن الحكيم، و لأجل أهمية هذا البحث نفرده أيضا ببحث مستقل بعد عرض هذه النتائج.

ج - مدى تأثير القضاء و القدر في مصير الإنسان

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى، تأثير القضاء و القدر في مصير الإنسان، و هذه المسألة مع كونها من المسائل الأصولية في العقيدة الإسلامية، مما وقع فيه الجدل و النقاش إلى درجة التكفير و إراقة الدماء بين المسلمين في العصور الأولى. و يتفرع عليها مسألة البداء أو تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة. و حيث إنّ الوقوف عليهما يتوقف على الإسهاب و التفصيل في مباحثهما، خصصنا كلاّ منهما بفصل خاص من فصول الكتاب.

د - اختيار الإنسان

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى، اختيار الإنسان في أفعال نفسه، و ذلك أنّ كونه مجبورا مسيّرا فيما يقوم به، ظلم و جور. و حيث إنّ هذه المسألة أيضا من المسائل التي كثر فيها الجدال و تعددت فيها الآراء بين إفراط و تفريط، أفردناها بالبحث في فصل مستقلّ من الكتاب، مع ما يتفرع عليها من البحوث حول الحسنة و السيئة، و الهداية و الضلالة و غير ذلك.

ه - المصحح للعقاب الأخروي

من جملة التساؤلات التي طرحت حول عدله سبحانه، ما هو المصحح للعقاب الأخروي ؟ و ذلك من جهتين:

ص: 261

الأولى - لما ذا العقاب الأخروي ؟ هل هو للتّشفي أو الانتقام و كلاهما نقص تعالى اللّه عنه.

الثانية - إنّ مقتضى القانون العقلي أن تكون العقوبة على مقدار الجرم، و التخلف عن ذلك ظلم و جور تنزّه اللّه عنه، فلم يخلّد الكافرون و المجرمون في النار أبدا؟.

و سنجيب عنهما بعد التعرّض للبحث عن عدله تعالى(1).1.

ص: 262


1- و هناك جملة أخرى من التساؤلات حول حكمته و عدله تعالى، أجاب عنها الأستاذ دام ظله في موسوعته «اللّه خالق الكون»، فلاحظ ص 97-99. و ص 269-281.
ثمرات التّحسين و التقبيح العقليين:
(1) أفعال اللّه سبحانه معللة بالغايات
اشارة

ذهبت الأشاعرة إلى أن أفعاله سبحانه ليست معللة بالأغراض و أنه لا يجب عليه شيء و لا يقبح منه شيء و استدلوا على ذلك بوجوه:

الوجه الأول

لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصا لذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه لا يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه و هو معنى الكمال(1).

و أجابت العدلية بأنّ أفعاله تعالى معللة بالمصالح و الحكم تفضلا على العباد فلا يلزم الاستكمال و لا وجوب الأصلح. و اختاره صاحب المقاصد و تبعته الماتريدية(2).

توضيح الجواب:

هل الغاية، غاية للفاعل أو للفعل ؟

إن الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل، و الغرض الراجع إلى فعله، فالاستكمال موجود في الأول دون الثاني، و القائل بكون أفعاله

ص: 263


1- المواقف ص 231.
2- إشارات المرام ص 54.

معلّلة بالأغراض و الغايات و الدواعي و المصالح، إنما يعني بها الثاني دون الأول، و الغرض بالمعنى الأول ينافي كونه غنيا بالذات و غنيا في الصفات و غنيا في الأفعال، و الغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثا و لغوا، و كونه سبحانه عابثا و لاغيا فالجمع بين كونه غنيا غير محتاج إلى شيء، و كونه حكيما منزها عن العبث و اللغو، بالقول باشتمال أفعاله على مصالح و حكم ترجع إلى العباد و النظام لا إلى وجوده و ذاته، كما لا يخفى.

تفسير العلة الغائية

العلة الغائية التي هي إحدى أجزاء العلة التامة، يراد منها في مصطلح الحكماء، ما تخرج الفاعل من القوة إلى الفعل، و من الإمكان إلى الوجوب، و تكون متقدمة صورة و ذهنا و متأخرة وجودا و تحققا، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلا بالقوة إلى كونه فاعلا بالفعل. مثلا: النجار لا يقوم بصنع الكرسي إلا لغاية مطلوبة مترتبة عليه، و لو لا تصور تلك الغاية لما خرج عن كونه فاعلا بالقوة، إلى ساحة كونه فاعلا بالفعل. و على هذا فللعلة الغائية دور في تحقق المعلول و خروجه من الإمكان إلى الفعلية، لأجل تحريك الفاعل نحو الفعل، و سوقه إلى العمل.

و لا نتصور العلة الغائية بهذا المعنى في ساحته، لغناه المطلق في مقام الذات و الوصف و الفعل، فكما أنه تام في مقام الوجود، تام في مقام الفعل، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته. و إلا فلو كانت فاعلية الحق، كفاعلية الإنسان، فلا يقوم بالإيجاد و الخلق إلا لأجل الغاية المترتبة عليه، فيكون ناقصا في مقام الفاعلية مستكملا بشيء وراء ذاته، و هو لا يجتمع مع غناه المطلق.

هذا ما ذكره الحكماء، و هو حق لا غبار عليه. و قد استغلته الأشاعرة في غير موضعه و اتخذوه حجة لتوصيف فعله عاريا عن أية غاية و غرض، و جعلوا فعله كفعل العابثين و اللاعبين، يفعل (العياذ باللّه) بلا غاية، و يعمل بلا غرض، و لكن الاحتجاج بما ذكره الحكماء لإثبات ما قالته، واضح البطلان، لأن

ص: 264

إنكار العلة الغائية بهذا المعنى، لا يلازم أن لا يترتب على فعله مصالح و حكم ينتفع بها العباد و ينتظم بها النظام، و إن لم تكن مؤثرة في فاعلية الحق و عليّته، و ذلك لأنه سبحانه فاعل حكيم، و الفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلا ما يناسب ذلك، و لا يصدر منه ما يضاده و يخالفه.

و بعبارة ثانية: لا يعني من ذلك أنه قادر على أحد الفعلين دون الآخر، و أنّه في مقام الفاعلية يستكمل بالغاية، فيقوم بهذا دون ذاك، بل هو سبحانه قادر على كلا الأمرين، و لا يختار منهما إلا ما يوافق شأنه، و يناسب حكمته، و هذا كالقول بأنه سبحانه يعدل و لا يجور، فلسنا نعني من ذلك أنه تام الفاعلية بالنسبة إلى العدل دون الجور، بل نعني أنه تام القادرية لكلا العملين.

لكن عدله و حكمته، و رأفته و رحمته، تقتضي أن يختار هذا دون ذلك مع سعة قدرته لكليهما.

هذه هي حقيقة القول بأن أفعال اللّه لا تعلل بالأغراض و الغايات و المصالح، مع كون أفعاله غير خالية من المصالح و الحكم من دون أن يكون هناك استكمال.

الوجه الثّاني

ثم إنّ أئمة الأشاعرة لما وقفوا على منطق العدلية في المقام و أنّ المصالح و الحكم ليست غايات للفاعل بل غايات للفعل، و أنّها غير راجعة إلى الفاعل، بل إلى العباد و النظام، طرحوه على بساط البحث فأجابوا عنه. و إليك نص كلامهم:

فإن قيل: لا نسلم الملازمة، و إنّ الغرض قد يكون عائدا إلى غيره.

قيل له: نفع غيره و الإحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه، جاء الإلزام لأنه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النفع و الإحسان، ما هو أولى به و أصلح، و إن لم يكن أولى بل كان مساويا أو مرجوحا لم يصلح أن

ص: 265

يكون غرضا له(1).

و قد جاء بنفس هذا البيان «الفضل بن روزبهان» في رده على «نهج الحق» للعلامة الحلي و قال:

إنّه لا يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه و ذلك لأن ما يستوي وجوده و عدمه بالنظر إلى الفاعل أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثا على الفعل و سببا لإقدامه عليه بالضرورة فكل ما يكون غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل و أليق به من عدمه فهو معنى الكمال فإذن يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بدونه(2).

يلاحظ عليه: أن المراد من الأصلح و الأولى به، ما يناسب شئونه فالحكيم لا يقوم إلا بما يناسب شأنه كما أن كل فاعل غيره يقوم بما يناسب المبادي الموجودة فيه. فتفسير الأصلح و الأولى بما يفيده و يكمله، تفسير في غير موضعه.

و معنى أنه لا يختار إلا الأصلح و الأولى ليس بمعنى أن هناك عاملا خارجيا عن ذاته، يحدد قدرته و مشيئته و يفرض عليه إيجاد الأصلح و الأولى، بل مقتضى كماله و حكمته، هو أن لا يخلق إلا الأصلح، و الأولى و يترك اللغو و العبث فهو سبحانه لما كان جامعا للصفات الكمالية و من أبرزها كونه حكيما، صار مقتضى ذلك الوصف، إيجاد ما يناسبه و ترك ما يضاده، فأين هو من حديث الاستكمال و الاستفادة و الإلزام و الفرض ؟ كل ذلك يعرب عن أن المسائل الكلامية طرحت في جو غير هادئ و أن الخصم لم يقف على منطق الطرف الآخر.

و الحاصل: إنّ ذاته سبحانه تامّة الفاعلية بالنسبة إلى كلا الفعلين:

الفعل المقترن بالحكمة، و الخالي عنها، و ذلك لعموم قدرته سبحانه للحسن3.

ص: 266


1- المواقف، ص 333. و شرحه، ج 8، ص 204.
2- دلائل الصدق، ج 1، ص 233.

و القبيح. و لكن كونه حكيما يصده عن إيجاد الثاني و يخص فعله بالأول، و هذا صادق في كل فعل له قسمان: حسن و قبيح. مثلا: اللّه قادر على إنعام المؤمن و تعذيبه، و تام الفاعلية بالنسبة إلى الكل و لكن لا يصدر منه إلا القسم الحسن منهما لا القبيح، فكما لا يستلزم القول بصدور خصوص الحسن دون القبيح (على القول بهما) كونه ناقصا في الفاعلية، فهكذا القول بصدور الفعل المقترن بالمصلحة دون المجرد عنها، و إنعام المؤمن ليس مرجوحا و لا مساويا لتعذيبه بل أولى به و أصلح لكن معنى صلاحه و أولويته لا يهدف إلى استكماله أو استفادته منه، بل يهدف إلى أنه المناسب لذاته الجامعة للصفات الكمالية، المنزهة عن خلافها. فجماله و كماله، و ترفعه عن ارتكاب القبيح، يطلب الفعل المناسب له - و هو المقارن للحكمة - و التجنب عن مخالفه.

الوجه الثالث:

و هناك دليل ثالث للأشاعرة حاصله أن غرض الفعل خارج عنه، يحصل تبعا له و بتوسطه. و بما أنه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداء، فلا يكون شيء من الكائنات إلاّ فعلا له، لا غرضا لفعل آخر لا يحصل إلاّ به، ليصلح غرضا لذلك الفعل. و ليس جعل البعض غرضا أولى من البعض(1).

و كان عليه أن يقرر الدليل بصورة كاملة و يقول: لو كان البعض غاية للبعض فإما أن ينتهي إلى فعل لا غاية له، فقد ثبت المطلوب. أو لا، فيتسلسل، و هو محال.

يلاحظ عليه:

لا يشك من أطلّ بنظره إلى الكون، بأنّ بعض الأشياء بما فيها من الآثار، خلق لأشياء أخر. فالغاية من إيجاد الموجودات الدانية كونها في خدمة العالية منها و أما الغاية من خلق العالية فهي إبلاغها إلى حد تكون مظاهر

ص: 267


1- المواقف، ص 322. و شرحه، ج 8، ص 204.

و مجالي لصفات ربّها و كمال بارئها.

إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي، نرى هناك أوائل الأفعال و ثوانيها و ثوالثها و... فيقع الداني في خدمة العالي و يكون الغرض من إيجاد العالي إيصاله إلى كماله الممكن الذي هو أمر جميل بالذات. و لا يتطلّب إيجاد الجميل بالذات غاية سوى وجوده، لأن الغاية منطوية في وجوده.

هذا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي.

و أما إذا نظرنا إلى الكون بالنظر العامّ فالغاية للنظام الجملي ليست أمرا خارجا عن وجود النظام حتى يسأل عنها بالنحو الوارد في الدليل، بل هي عبارة عن الخصوصيات الموجودة فيه و هي بلوغ النظام بأبعاضه و أجزائه إلى الكمال الممكن، و الكمال الممكن المتوخى من الإيجاد، خصوصية موجودة في نفس النظام و يعدّ صورة فعلية له، فاللّه سبحانه خلق النظام و أوجد فعله المطلق، حتى يبلغ ما يصدق عليه فعله، كلا أو بعضا، إلى الكمال الذي يمكن أن يصل إليه، فليست الغاية شيئا مفصولا عن النظام، حتى يقال: ما هي الغاية لهذه الغاية حتى يتسلسل أو يصل إلى موجود لا غاية له.

و بما أن إيصال كل ممكن إلى كماله، غاية ذاتية لأنه عمل جميل بالذات، فيسقط السؤال عن أنه لما ذا قام بهذا، لأنه حين أوصل كل موجود إلى كماله الممكن فالسؤال يسقط إذا انتهى إلى السؤال عن الأمر الجميل بالذات.

فلو سئلنا عن الغاية لأصل الإيجاد و إبداع النظام، لقلنا بأن الغرض من الإيجاد عبارة عن إيصال كل ممكن إلى كماله الممكن. ثم إذا طرح السؤال عن الهدف من إيصال كل ممكن إلى كماله الممكن، لكان السؤال جزافيا ساقطا لأن العمل الحسن بالذات، يليق أن يفعل، و الفعل و الغاية نفس وجوده.

فالإيجاد فيض من الواجب إلى الممكن، و إبلاغه إلى كماله فيض آخر، يتم به الفيض الأول، فالمجموع فيض من الفياض تعالى إلى الفقير المحتاج و لا ينقص من خزائنه شيء، فأي كمال أحسن و أبدع من هذا، و أي غاية أظهر من

ص: 268

ذلك، حتى تحتاج إلى غاية أخرى و هذا بمثابة أن يسأل لما ذا يفعل اللّه الأفعال الحسنة بالذات، فإن الجواب مستتر في نفس السؤال و هو أنه فعلها لأنّها حسنة بالذات و ما هو حسن بالذات، نفسه الغاية و لا يحتاج إلى غاية أخرى.

و لأجل تقريب الأمر إلى الذهن نمثل بمثال: إذا سألنا الشاب الساعي في التحصيل و قلنا له لما ذا تبذل الجهود في طريق تحصيلك ؟ فيجيب: لنيل الشهادة العلمية، فإذا أعدنا السؤال عليه و قلنا: ما هي الغاية من تحصيلها؟ يجيبنا: للاشتغال في إحدى المراكز الصناعية أو العلمية، أو الإدارية. فإذا أعدنا عليه السؤال و قلنا ما هي الغاية من الاشتغال فيها؟ يقول: لتأمين وسائل العيش مع الأهل و العيال. فلو سألناه بعدها عن الغاية من طلب الرفاه و تأمين سبل العيش، لوجدنا السؤال جزافيا لأن ما تقدم من الغايات و أجاب عنها غايات عرضية لهذه الغاية المطلوبة بالذات، فإذا وصل الكلام إلى الأخيرة يسقط السؤال.

القرآن و أفعاله سبحانه الحكيمة

و العجب من غفلة الأشاعرة عن النصوص الصريحة في هذا المجال يقول سبحانه: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ (1).

و قال عز من قائل وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ (2).

و قال سبحانه: وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا بٰاطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّٰارِ (3).

و قال سبحانه: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (4) إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله و تصرح باقترانه بالحكمة و الغرض.

ص: 269


1- سورة المؤمنون: الآية 115.
2- سورة الدخان: الآية 38.
3- سورة ص: الآية 27.
4- سورة الذاريات: الآية 56.

و أهل الحديث و بعدهم الأشاعرة الذين اشتهروا بالتعبد بظواهر النصوص تعبدا حرفيا غير مفوضين معانيها إلى اللّه سبحانه و لا مؤوّليها، لا مناص لهم إلا تناس الآيات الماضية أو تأويلها و هم يفرون منه و ينسبونه إلى مخالفيهم.

عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة

و من الخطأ الواضح، عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة و تصوير أن الطائفتين تقولان بأن أفعال اللّه سبحانه غير معللة بالأغراض، و هو خطأ محض كيف و هذا صدر المتألهين يخطّئ الأشاعرة و يقول: إنّ من المعطلة قوما جعلوا فعل اللّه تعالى خاليا عن الحكمة و المصلحة، و مع أنك قد علمت أن للطبيعة غايات(1). و قال أيضا: إنّ الحكماء ما نفوا الغاية و الغرض عن شيء من أفعاله مطلقا بل إنما نفوا في فعله المطلق إذا لوحظ الوجود الإمكاني جملة واحدة، غرضا زائدا على ذاته تعالى و أما ثواني الأفعال و الأفعال المخصوصة و المقيدة فاثبتوا لكل منها غاية مخصوصة كيف و كتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات و منافعها كما يعلم من مباحث الفلكيات و مباحث الأمزجة و المركبات و علم التشريح و علم الأدوية و غيرها(2).

و على ذلك فنظرية الحكماء تتلخص في أمرين:

1 - أن أفعاله غير متصفة بالعبث و اللغو و أن هنا مصالح و حكما تترتب على فعله، يستفيد بها العباد، و يقوم بها النظام.

2 - إذا لوحظ الوجود الإمكاني على وجه الإطلاق فليس لفعله غرض خارج عن ذاته، لأن المفروض ملاحظة الوجود الإمكاني جملة واحدة و الغرض الخارج عن الذات لو كان أمرا موجودا فهو داخل في الوجود الإمكاني و ليس شيئا وراءه.

ص: 270


1- الأسفار، ج 2، ص 280.
2- الأسفار، ج 7، ص 84.

و يقولون: ليس الغرض شيئا خارجا عن الذات و إنما الغرض نفس ذاته، لئلا يكون ناقص الفاعلية لأن الحاجة إلى شيء خارج عن ذاته في القيام بالفعل، آية كونه ناقصا في الفاعلية، و المفروض أنه سبحانه تام في فاعليته، غني في ذاته و فعله عن كل شيء سوى ذاته(1).

ثم إنّ لهم بيانا فلسفيا ممزوجا بالدليل العرفاني يهدف إلى كون الغرض من الخلق هو ذاته سبحانه و به فسروا قوله سبحانه:

مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ . و قوله في الحديث القدسي:

«كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف» و اللّه سبحانه هو غاية الغايات. و من أراد الوقوف على برهانهم فليرجع إلى أسفارهم(2).3.

ص: 271


1- الأسفار، ج 2، ص 263.
2- لاحظ الأسفار، ج 2، ص 263.

ص: 272

ثمرات التحسين و التقبيح العقليين

(2) البلايا و المصائب و الشرور و كونه حكيما
اشارة

إنّ مسألة البلايا و المصائب و الشرور، من المسائل المشهورة الذائعة الصيت في الحكمة الإلهية، و لها صلة بالمباحث التالية:

1 - إذا كان الدليل على وجود الخالق المدبر هو النظام السائد في الكون. فكيف يفسّر وجود بعض الظواهر غير المتوازنة العاصية عن النظام كالزلازل و السيول و الطوفانات، فإنها من أبرز الأدلة على عدم النظام.

2 - لو كان الصانع تعالى حكيما في فعله، متقنا في عمله، واضعا كل شيء في محله، منزّها فعله عمّا لا ينبغي، فكيف تفسّر هذه الحوادث التي لا تنطبق مع الحكمة سواء أ فسّرت بمن يصنع الأشياء المتقنة أو من يكون فعله منزها عمّا لا ينبغي.

3 - إذا كان الخالق عادلا و قائما بالقسط فكيف يجتمع عدله سبحانه مع هذه الحوادث التي تبتلع النفوس البريئة في آن واحد، و تخرّب الديار و تدمرها. إلى غير ذلك.

و على ذلك فالبحث عن المصائب و البلايا و الشرور يرتبط بالمسائل المتقدمة، و نحن نطرح هذه المسألة بعد أن أقمنا الدليل على كونه حكيما.

ص: 273

إنّ البحث عن الشرور، ليس مسألة جديدة كشف عنها فلاسفة الغرب و منهم الفيلسوف «هيوم» الإنكليزي، كما ربما يتخيله بعض من لا خبرة له بالفلسفة الإسلامية، بل و الإغريفية، فإن هذه المسألة قد طرحت بين القدامى من فلاسفة الإغريق، و المتأخرين من فلاسفة الإسلام.

فقد اشتهر قول أرسطو: «إنّ الموجودات الممكنة بالقسمة العقلية في بادئ الاحتمال تنقسم إلى خمسة أقسام:

1 - ما هو خير كله لا شرّ فيه أصلا.

2 - ما فيه خير كثير مع شرّ قليل.

3 - ما فيه شرّ كثير مع خير قليل.

4 - ما يتساوى فيه الخير و الشرّ.

5 - ما هو شر مطلق لا خير فيه أصلا».

ثم صرّحوا بأنّ الأقسام الثلاثة الأخيرة غير موجودة في العالم، و إنما الموجود من الخمسة المذكورة هو قسمان(1).

و قد بحث الفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي (ت 979 ه، م 1050 ه) عن مسألة الخير و الشر و المصائب و البلايا في كتابه القيّم «الأسفار الأربعة» في ثمانية فصول بحثا علميا، كما بحث عنها الحكيم السبزواري في قسم الفلسفة من شرح المنظومة بحثا متوسطا. و قد سبقهما عدة من الأجلاّء كما تبعهما ثلة أخرى من المفكرين الإسلاميين. و نحن نقتبس فيما يلي ما ذكره هؤلاء المحققون بتحليل و تشريح خاص فنقول:

إنّ مسألة الشرور و البلايا دفعت بعض الطوائف في التاريخ و حتى اليوم إلى الاعتقاد بالتعدد في الخالق، و هو الاتجاه المسمى بالثّنويّة، حيث تصوّر أنّ إله الخير هو غير إله الشّر، هروبا من الإشكال المذكور، و لأجل ذلك عرفوا بالثّنوية. و بما أنّهم يعتقدون بأنّ الإلهين مخلوقان للإله الواجب8.

ص: 274


1- الأسفار، ج 7، ص 68.

الواحد، فهم من أهل التثليث على هذا الاعتبار.

و على كل تقدير فالإجابة عن مشكلة الشرور تتحقق بوجهين:

الأول - تحليلها تحليلا فلسفيا كليا.

الثاني - تحليلها تحليلا تربويا مؤثرا في تكامل النفوس.

فعلى من يريد الإسهاب في البحث أن يلج البابين، و هاك البيان:

البحث الأول - التحليل الفلسفي لمسألة الشرور.
اشارة

حاصل هذا التحليل أنّ ما يظنه بعض الناس من أنّ هناك حوادث غير منتظمة، أو ضارّة مدمّرة، فإنما هو ناشئ من نظراتهم الضيّقة المحدودة إلى هذه الأمور. و لو نظروا إلى هذه الحوادث في إطار «النظام الكوني العام» لأذعنوا بأنها خير برمتها، و يكون موقف المسألة كما قاله الحكيم السبزواري:

ما ليس موزونا لبعض من نغم *** ففي نظام الكلّ كلّ منتظم

هذا إجمال الجواب، و أما تفصيله فيتوقف على بيان أمرين:

الأمر الأول - النّظرة الضيّقة إلى الظواهر

إنّ وصف الظواهر المذكورة بأنّها شاذّة عن النظام، و أنّها شرور لا تجتمع مع النظام السائد على العالم أولا، و حكمته سبحانه - بالمعنى الأعم - ثانيا، و عدله و قسطه ثالثا، ينبع من نظرة الإنسان إلى الكون من خلال نفسه، و مصالحها، و جعلها محورا و ملاكا لتقييم هذه الأمور. فعند ما ينظر إلى الحوادث و يرى أنّها تعود على شخصه و ذويه بالإضرار، ينبري من فوره إلى وصفها بالشرور و الآفات. و ما هذا إلاّ لأنه يتوجه إلى هذه الظواهر من منظار خاص و يتجاهل غير نفسه في العالم، من غير فرق بين من مضى

ص: 275

من غابر الزمان و من يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي و يعيش فيها. ففي النّظرة الأولى تتجلى تلك الحوادث شرا و بليّة. و لكن هذه الحوادث في الوقت نفسه و بنظرة ثانية تنقلب إلى الخير و الصلاح و تكتسي خلع الحكمة و العدل و النّظم. و لبيان ذلك نحلل بعض الحوادث التي تعد في ظاهرها من الشرور فنقول:

إنّ الإنسان يرى أنّ الطوفان الجارف يكتسح مزرعته، و السيل العارم يهدم منزله، و الزلزلة الشديدة تزعزع بنيانه، و لكنه لا يرى ما تنطوي عليه هذه الحوادث و الظواهر من نتائج إيجابية في مجالات أخرى من الحياة البشرية.

و ما أشبه الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر سبيل يرى جرّافة تحفر الأرض، أو تهدم بناء محدثة ضوضاء شديدا و مثيرة الغبار و التراب في الهواء، فيقضي من فوره بأنه عمل ضار و سيئ و هو لا يدري بأنّ ذلك يتم تمهيدا لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى و يعالج المصابين و يهيئ للمحتاجين إلى العلاج وسائل المعالجة و التمريض.

و لو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى، و لوصف ذلك التهديم بأنه خير، و أنه لا ضير فيما حصل من الضوضاء، و تصاعد من الأغبرة.

إنّ مثل هذا الإنسان المحدود النظر في تقييمه، مثل الخفاش الذي يؤذيه النور لأنه يقبض بصره، بينما يبسط هذا النور ملايين العيون على آفاق الكون و يسهل للإنسان مجالات السعي و الحياة. أ فهل يكون قضاء الخفاش على النور بأنه شرّ ملاكا لتقييم هذه الظواهر الطبيعية المفيدة ؟ كلا، لا.

الأمر الثّاني - الظواهر حلقات في سلسلة طويلة

إنّ النظر إلى ظاهرة من الظواهر، منعزلة عن غيرها، نظرة ناقصة

ص: 276

و مبتورة. لأنّ الحوادث حلقات مترابطة متسلسلة في سلسلة ممتدة، فما يقع الآن منها يرتبط بما وقع في أعماق الماضي و بما سيقع في المستقبل، في سلسلة من العلل و المعاليل و الأسباب و المسبّبات.

و من هنا لا يصحّ القضاء على ظاهرة من الظواهر بحكم مع غض النظر عما سبقها، و ما يلحقها، بل القضاء الصحيح يتحقق بتقييمها جملة واحدة و النظر إليها نظرا كليا لا جزئيا. فإنّ كل حادثة على البسيطة أو في الجو ترتبط ارتباطا وثيقا بما سبقها أو يلحقها من الحوادث. حتى أنّ ما يهب من النسيم و يعبث بأوراق المنضدة التي أمامك يرتبط ارتباطا وثيقا بما حدث أو سيحدث في بقاع العالم. فلا بد للمحقق أن يلاحظ جميع الحوادث بلون الارتباط و التّشكل. فعند ذاك يتغير حكمه و يتبدل قضاؤه و لن يصف شيئا بالشذوذ، و لن يسم شيئا بأنّه من الشرور.

إذا عرفت هذين الأمرين فلنأت ببعض الأمثلة التي لها صلة بهما:

1 - إذا وقعت عاصفة على السواحل فإنها تقطع الأشجار و تدمر الأكواخ و تقلب الأثاث، فتوصف عند ساكني الساحل بالشر و البلية، و لكنها في الوقت نفسه تنطوي على آثار حيويّة لمنطقة أخرى.

فهي مثلا توجب حركة السفن الشّراعيّة المتوقفة في عرض البحر بسبب سكون الريح. و بهذا تنقذ حياة المئات من ركّابها اليائسين من نجاتهم، و توصلهم إلى شواطئ النجاة، فهي موصوفة عند ركّاب السفينة بالخير.

2 - إنّ الرياح و إن كانت ربما تهدم بعض المساكن إلاّ أنها في نفس الوقت تعتبر وسيلة فعالة في عملية التلقيح بين الأزهار و تحريك السحب المولدة للمطر و تبديد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع و المعامل التي لو بقيت و تكاثفت لتعذرت أو تعسّرت عملية التنفس لسكان المدن و القاطنين حول تلك المصانع. إلى غير ذلك من الآثار الطيبة لهبوب الرياح، التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيئة أو تكاد تنعدم نهائيا.

ص: 277

3 - الزلازل و إن كانت تسبب بعض الخسائر الجزئية أو الكلية في الأموال و النفوس، إلا أنها توصف بالخير إذا وقفنا على أنّ علّتها - على بعض الفروض - جاذبية القمر التي تجذب قشرة الأرض نحو نفسها، فيرتفع قاع البحر و يوجب ذلك الزلازل في مناطق مختلفة من اليابسة. فإنّ هذا في نفس الوقت يوجب أن تصعد مياه البحار و الأنهار فتفيض على الأراضي المحيطة بها و تسقي المزارع و السهول فتجدد فيها الحياة و تجود بخير العطاء. و يترتب على الزلازل آثار نافعة أخرى يقف عليها الإنسان المتفحص في تلك المجالات، فهل يبقى مجال مع ملاحظة هذين الأمرين للقضاء العاجل بأنّ تلك الحوادث شرور و بلايا لا يترتب عليها أيّة فائدة ؟.

إنّ علم الإنسان المحدود هو الذي يدفعه إلى أن يقضي في الحوادث بتلك الأقضية الشاذة، و لو وقف على علمه الضئيل و نسبة علمه إلى ما لا يعلمه لرجع القهقرى قائلا: رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ (1).

و لأذعن بقوله تعالى: وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً (2). و قوله سبحانه: يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا (3).

و لهذا السبب نجد أنّ العلماء الموضوعيين الذين لم تبهرهم منجزات العلوم و لم يغرّهم ما حصل لهم من التقدم، يعترفون بقصور العلم البشري و يحذرون من التسرع في القضاء و الحكم على الأشياء. كيف و هذا العالم الإنكليزي الأستاذ (وليم كروكش) مكتشف إشعاع المادة، و المخترع لكثير من أدوات التجارب الكيميائية قال: «من بين جميع الصفات التي عاونتني في مباحثي النفسية، و ذلّلت لي طرق اكتشافاتي الطبيعية، و كانت تلك الاكتشافات أحيانا غير منتظرة، هو اعتقادي الراسخ بجهلي»(4). إلى غير6.

ص: 278


1- سورة آل عمران: الآية 191.
2- سورة الإسراء: الآية 85.
3- سورة الروم: الآية 7.
4- على أطلال المذهب المادي، ج 1، ص 136.

ذلك من الكلمات المأثورة عن كبار المفكرين و أعاظم الفلاسفة و المعنيين بتحليل الظواهر الطبيعية، فإنك تراهم يعترفون بجهلهم و عجزهم عن الوقوف على أسرار الطبيعة. و هذا هو المخ الكبير في عالم البشرية الشيخ الرئيس يقول: «بلغ علمي إلى حدّ علمت أني لست بعالم».

تحليل فلسفي آخر للشرور

قد وقفت على التحليل الفلسفي الماضي، و هناك تحليل فلسفي آخر لمشكلة البلايا و المصائب و لعله أدق من سابقه، و حاصله:

إنّ الشر أمر قياسي ليس له وجود نفسي و إنما يتجلى عند النفس إذا قيس بعض الحوادث إلى بعض آخر، و إليك بيانه:

إنّ القائلين بالثّنوية يقولون إنّ اللّه سبحانه خير محض، فكيف خلق العقارب السّامة و الحيّات القاتلة و الحيوانات المفترسة و السباع الضواري.

و لكنهم غفلوا عن أنّ اتصاف هذه الظواهر بالشرور اتصاف قياسي و ليس باتصاف نفسي، فالعقرب بما هو ليس فيه أي شر، و إنما يتصف به إذا قيس إلى الإنسان الذي يتأذّى من لسعته، فليس للشرّ واقعية في صفحة الوجود، بل هو أمر انتزاعي تنتقل إليه النفس من حديث المقايسة، و لولاها لما كان للشرّ مفهوم و حقيقة. و إليك توضيح هذا الجواب.

إنّ الصفات على قسمين: منها ما يكون له واقعية كموصوفه، مثل كون الإنسان موجودا، أو أنّ كل متر يساوي مائة سنتيمتر. فاتصاف الإنسان بالوجود و المتر بالعدد المذكور، أمران واقعيان ثابتان للموجود، توجه إليه الذهن أم لا. حتى لو لم يكن على وجه البسيطة إلاّ إنسان واحد أو متر كذلك فالوصفان ثابتان لهما.

و منه ما لا يكون له واقعية إلاّ أنّ الإنسان ينتقل إلى ذلك الوصف، أو بعبارة صحيحة ينتزعه الذهن بالمقايسة، كالكبر و الصغر، فإنّ الكبر ليس

ص: 279

شيئا ذا واقعية للموصوف و إنما يدرك بالقياس إلى ما هو أصغر منه.

مثلا: الأرض توصف بالصغر تارة إذا قيست إلى الشمس، و بالكبر أخرى إذا قيست إلى القمر. و لأجل ذلك لا يدخلان في حقيقة الموصوف، و إلا لما صح وصف الأرض بوصفين متعارضين.

إذا عرفت انقسام الأوصاف إلى القسمين، فعليك تحليل مفهوم الشر على ضوء هذا البيان فنقول: إنّ كون العقرب موجودا و ذا سمّ ، من الأمور الحقيقية. و أما كونه شرّا، فليس جزءا من وجوده، و إنما يتصف به سمّ العقرب إذا قيس إلى الإنسان و تضرره به أو فقدانه لحياته بسببه، و إلاّ فانه يعدّ كمالا للعقرب و موجبا لبقائه. فإذا كان كذلك سهل عليك حلّ عقدة الشرور من جوانبها المختلفة.

أما من جانب التوحيد في الخالقية و أنّه ليس من خالق في صفحة الوجود إلاّ اللّه سبحانه و هو خير محض ليس للشر إليه سبيل، فكيف خلق هذه الموجودات المتسمة بالشر، فالجواب أنّ المخلوق هو ذوات هذه الأشياء و ما لها من الصفات الحقيقية، و أما اتصافها بالشر فليس أمرا حقيقيا محتاجا إلى تعلق العلّة، بل هو أمر قياسي يتوجه إليه الإنسان عند المقايسة.

و إلى هذا المعنى تؤول كلمات الفلاسفة القدامى إذ قالوا:

«1 - الشر أمر عدمي، و ليس أمرا موجودا محتاجا إلى العلّة.

2 - الشّر ليس مجعولا بالذات بل مجعول بالعرض.

3 - إذا تصفحت جميع الأشياء الموجودة في هذا العالم المسمّاة عند الجمهور شرورا، لم تجدها في أنفسها شرورا، بل هي شرور بالعرض خيرات بالذات»(1).

و نحو ذلك الأخلاق الذميمة فإنها كلها كمالات للنفوس السّبعيّة و البهيمية و ليست بشرور للقوى الغضبية و الشّهويّة. و إنما شرّيّة هذه الأخلاق2.

ص: 280


1- الاسفار الاربعة، ج 7، ص 62.

الرذيلة بالقياس إلى النفوس الضعيفة العاجزة عن ضبط قواها عن الإفراط و التفريط و عن سوقها إلى مسلك الطاعة الّذي تناط به السعادة الباقية.

و كذلك الآلام و الأوجاع و الغموم و الهموم فهي من حيث كونها إدراكات، و من حيث وجودها أو صدورها من العلل الفاعلة لها، خيرات كمالية، و إنما هي شرور بالقياس إلى متعلقاتها.

و أمّا من جانب توصيفه سبحانه بالحكمة و الإتقان في الفعل و العمل، فليس في خلق هذه الحوادث و الموجودات شيء يخالف الحكمة، فإنه سبحانه خلق العقارب و الحيّات و الضواري و السباع بأحسن الخلقة و أعطاها ما يكفيها في الحياة اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ (1). و إنما تتسم هذه الحوادث و الموجودات بالشر و يتراءى أنها خلاف الحكمة من حديث المقايسة، و هو أمر ذهني لا خارجي.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ هناك عاملين دفعا الإنسان إلى تصور أنّ الشّر، أمر عيني خارجي يعد إيجاده على خلاف الحكمة و العدل و أنّه عصيان عن النظم و هما:

1 - النّظرة إلى الأشياء من منظر الأنانية و تناسي سائر الموجودات.

2 - تصور أنّ الشر له عينية خارجية كالموصوف، و الغفلة عن أنّه أمر عدمي يتوجه إليه الذهن عند المقايسة.

و قد حان وقت البحث عن التحليل التربوي للشرور الذي يسهّل التصديق بعدم كون إيجادها على فرض كونها أمورا عينية في الخارج - لأجل هذه الآثار التربوية - مخالفا للحكمة و العدل.

البحث الثّاني - التّحليل التربوي لمسألة الشرور
اشارة

إنّ لهذه الحوادث آثارا تربوية مهمة في حياة البشر المادية تارة، و في

ص: 281


1- سورة طه: الآية 50.

إزاحة الغرور و الغفلة عن الضمائر و العقول ثانيا. و لأجل هذه الفوائد صحّ إيجادها، سواء قلنا بأنّ الشّر موجود بالذات، كما عليه المعترض، أو موجود بالعرض، كما حققناه.

و إليك فيما يلي توضيح هذه الآثار واحدة بعد الأخرى.

أ - المصائب وسيلة لتفجير الطّاقات

إنّ البلايا و المصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات و تقدّم العلوم ورقي الحياة البشرية، فها هم علماء الحضارة يصرّحون بأن أكثر الحضارات لم تزدهر إلا في أجواء الحروب و الصراعات و المنافسات حيث كان الناس يلجئون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع في مواجهة الأعداء المهاجمين، أو إصلاح ما خرّبته الحروب من دمار و خراب. ففي مثل هذه الظروف تتحرك القابليات بجبران ما فات، و تتميم ما نقص، و تهيئة ما يلزم. و في المثل السائر: «الحاجة أمّ الاختراع».

و بعبارة واضحة: إذا لم يتعرض الإنسان للمشاكل في حياته فإن طاقاته ستبقى جامدة هامدة لا تنمو و لا تتفتح، بل نمو تلك المواهب و خروج الطاقات من القوة إلى الفعلية، رهن وقوع الإنسان في مهب المصائب و الشدائد.

نعم، لا ندّعي بأنّ جميع النتائج الكبيرة توجد في الكوارث و إنما ندّعي أنّ عروضها يهيئ أرضية صالحة للإنسان للخروج عن الكسل.

و لأجل ذلك، نرى أنّ الوالدين الذين يعمدان إلى إبعاد أولادهما عن الصعوبات و الشدائد لا يدفعان إلى المجتمع إلاّ أطفالا يهتزون لكل ريح كالنبتة الغضّة أمام كل نسيم.

و أما اللذان ينشئان أولادهما في أجواء الحياة المحفوفة بالمشاكل

ص: 282

و المصائب فيدفعان إلى المجتمع أولادا أرسخ من الجبال في مهب العواصف.

قال الإمام علي بن أبي طالب: «ألا إنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عودا، و الرّوائع الخضرة أرقّ جلودا، و النباتات البدويّة أقوى وقودا و أبطأ خمودا»(1).

و إلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه: فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (2).

و قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً (3).

و قوله تعالى: فَإِذٰا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَ إِلىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ (4) أي تعرّض للنّصب و التعب بالإقدام على العمل و السعي و الجهد بعد ما فرغت من العبادة، و كأنّ النصر و المحنة حليفان لا ينفصلان و أخوان لا يفترقان.

ب - المصائب و البلايا جرس إنذار

إنّ التمتع بالمواهب الماديّة و الاستغراق في اللذائذ و الشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقية، و كلما ازداد الإنسان توغّلا في اللذائذ و النعم، ازداد ابتعادا عن الجوانب المعنوية. و هذه حقيقة يلمسها كل إنسان في حياته و حياة غيره، و يقف عليها في صفحات التاريخ. فإذن لا بد لانتباه الإنسان من هذه الغفلة من هزّة و جرس إنذار يذكّره و يوقظ فطرته و ينبهه من غفلته. و ليس هناك ما هو أنفع في هذا المجال من بعض الحوادث التي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتى يدرك عجزه و يتخلى عن غروره و يخفف من طغيانه. و نحن نجد في الكتاب العزيز التصريح بصلة

ص: 283


1- نهج البلاغة - الخطبة 45.
2- سورة النساء: الآية 19.
3- سورة الانشراح: الآيتان 5 و 6.
4- سورة الانشراح: الآيتان 7 و 8.

الطغيان بإحساس الغنى، إذ يقول عز و جل: إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ * أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىٰ (1).

و لأجل هذا يعلل القرآن الكريم بعض النوازل و المصائب بأنها تنزل لأجل الذكرى و الرجوع إلى اللّه، يقول سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ أَخَذْنٰا أَهْلَهٰا بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (2).

و يقول أيضا: وَ لَقَدْ أَخَذْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (3).

هكذا تكون البلايا و المصائب سببا ليقظة الإنسان و تذكرة له، فهي بمثابة صفع الطبيب وجه المريض المبنّج لإيقاظه، الذي لو لا صفعته لانقطعت حياة المريض.

فقد خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ التكامل الأخلاقي رهن المحن و المصائب، كما أنّ التفتح العقلي رهن البلايا و النوازل.

و الإنسان الواعي يتخذها وسيلة للتخلي عن الغرور، كما يتخذها سلما للرقي إلى مدارج الكمال العلمي، و قد لا يستفيد منها شيئا فيعدّها مصيبة و كارثة في الحياة.

ج - البلايا سبب للعودة الى الحق

إنّ للكون هدفا، كما أنّ لخلق الإنسان هدفا كذلك، و ليس الهدف من خلقة الإنسان إلاّ أن يتكامل و يصل إلى ما يمكن الوصول إليه. و ليس الهدف من بعث الأنبياء و إنزال الكتب إلاّ تحقيق هذه الغاية السامية. و لما كانت المعاصي و الذنوب من أكبر الأسباب التي توجب بعد الإنسان عن الهدف الذي خلق من أجله، و تعرقل مسيرة تكامله، كانت البلايا

ص: 284


1- سورة العلق: الآيتان 6 و 7.
2- سورة الأعراف: الآية 94.
3- سورة الأعراف: الآية 130.

و المصائب خير وسيلة لإيقاف الإنسان العاصي على نتائج عتوه و عصيانه حتى يعود إلى الحق و يرجع إلى الطريق الوسطى. و إلى هذه النكتة يشير قوله سبحانه: ظَهَرَ اَلْفَسٰادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (1). و يقول سبحانه في آية أخرى:

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (2) .

د - البلايا سبب لمعرفة النّعم و تقديرها

إنّ بقاء الحياة على نمط واحد يوجب أن لا تتجلى الحياة لذيذة محبوبة، و هذا بخلاف ما إذا تراوحت بين المرّ و الحلو و الجميل و القبيح، فلا يمكن معرفة السلامة إلاّ بالوقوف على العيب. و لا الصّحة إلاّ بلمس المرض، و لا العافية إلاّ عند نزول البلاء. و لا تدرك لذة الحلاوة إلاّ بتذوق المرارة.

فجمال الحياة و قيمة الطبيعة ينشئان من التنوع و الانتقال من حال الى حال و من وضع إلى آخر. و لأجل ذلك نلمس أنّ خالق الطبيعة جعل الوديان إلى جانب الجبال، و الأشواك جانب الورود، و الثّمار المرّة جنب الحلوة، و الماء الأجاج جنب العذب الفرات، إلى غير ذلك من مظاهر التضاد و التباين التي تضفي على الطبيعة بهاء و جمالا، و كمالا و جلالا.

هذه هي الآثار التربوية للمصائب و البلايا، و تكفي في تسويغ نزولها، و تبرير تحقيقها في الحياة البشرية.

ص: 285


1- سورة الروم: الآية 41.
2- سورة الاعراف: الآية 96.
البلايا المصطنعة للأنظمة الطاغوتية

إنّ هناك من المحن ما ينسبه الإنسان الجاهل إلى خالق الكون، و الحال أنّها من كسب نفسه و نتيجة منهجه. بل الأنظمة الطاغوتية هي التي سببت تلك المحن و أوجدت تلك الكوارث، و لو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهية لما تعرض البشر لتلك المحن.

فالتقسيم الظالم للثروات هو الذي صار سببا لتجمع الثروة عند ثلّة قليلة، و انحسارها عن جماعات كثيرة، كما صار سببا لتمتع الطائفة الأولى بكل وسائل الوقاية و الحماية من الأمراض و الحوادث و حرمان الطائفة الثانية منها. فهذه البلايا المصطنعة خارجة عن إطار البحث، فلا تكون موقظة للفكر و لا مزكية للنفوس، بل تهيء أرضية صالحة للانتفاضات و الثورات.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ الظواهر غير المتوازنة بحسب النظرة السطحية متوازنة بالقياس إلى مجمل النّظام و لها آثار اجتماعيّة و تربويّة و لا مناص في الحياة البشريّة منها فلا تعد مناقضة للنّظم السائد و لا لحكمة الخالق و لا لعدله و قسطه سبحانه و تعالى.

ص: 286

ثمرات التّحسين و التقبيح العقليّين

(3) اللّه عادل لا يجور
اشارة

إنّ مقتضى التّحسين و التّقبيح العقليين - على ما عرفت - هو أنّ العقل - بما هو هو - يدرك أنّ هذا الشيء - بما هو هو - حسن أو قبيح، و أن أحد هذين الوصفين ثابت للشيء - بما هو هو - من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود، و من دون دخالة درك مدرك خاص.

و على ذلك فالعقل في تحسينه و تقبيحه يدرك واقعية عامة، متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين و الفاعلين، من غير فرق بين الممكن و الواجب. فالعدل حسن و يمدح فاعله عند الجميع، و الظلم قبيح يذمّ فاعله عند الجميع. و على هذا الأساس فاللّه سبحانه، المدرك للفعل و وصفه - أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذم - من غير خصوصية للفاعل، كيف يقوم بفعل ما يحكم بأنّ فاعله مستحق للذم، أو يقوم بفعل ما يحكم بأنه يجب التنزه عنه ؟ و على ذلك فاللّه سبحانه عادل، لأن الظلم قبيح و مما يجب التنزّه عنه، و لا يصدر القبيح من الحكيم، و العدل حسن و مما ينبغي الاتصاف به، فيكون الاتصاف بالعدل من شئون كونه حكيما منزها عما لا ينبغي.

و إن شئت قلت: إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال لكل احد.

ص: 287

و ارتكاب الظلم نقص لكل أحد. و هو كذلك - حسب إدراك العقل - عنده سبحانه. و معه كيف يجوّز أن يرتكب الواجب خلاف الكمال، و يقوم بما يجرّ النقص إليه(1).

دفع إشكال

ربما يقال إنّ كون الشيء حسنا أو قبيحا عند الإنسان، لا يدل على كونه كذلك عند اللّه سبحانه، فكيف يمكن استكشاف أنه لا يترك الواجب و لا يرتكب القبيح ؟.

و الإجابة عنه واضحة، و ذلك أنّ مغزى القاعدة السالفة هو أنّ الإنسان يدرك حسن العدل و قبح الظلم لكلّ مدرك شاعر، و لكلّ عاقل حكيم، من غير فرق بين الظروف و الفواعل. و هذا نظير درك الزوجية للأربعة، فالعقل يدرك كونها زوجا عند الجميع، لا عند خصوص الممكن، فليس المقام من باب إسراء حكم الإنسان الممكن إلى الواجب تعالى، بل المقام من قبيل استكشاف قاعدة عامة ضرورية بديهية عند جميع المدركين من غير فرق بين خالقهم و مخلوقهم. و لا يختص هذا الأمر بهذه القاعدة، بل جميع القواعد العامة في الحكمة النظرية كذلك.

و على هذا يثبت تنزهه سبحانه عن كل قبيح، و اتصافه بكل كمال في

ص: 288


1- و ربما يقرر وجه عدم صدور عدم القبيح عنه تعالى بأنّ الدّاعي إلى صدوره إما داعي الحاجة، أو داعي الحكمة، أو داعي الجهل. و الكل منتف في حقه سبحانه. أمّا الأول فلغناه المطلق، و أمّا الثّاني فلكون الحكمة في خلافه، و أما الثالث فلكونه عالما على الإطلاق. و بما أنّ هذا الدليل مبني على كون فاعلية الواجب بالداعي الزائد على ذاته، و هو خلاف التحقيق، لكونه تاما في الفاعلية فلا يحتاج فيها إلى شيء وراء الذات، أتينا به في الهامش. و قد اعتمد عليه العلاّمة في شرح التجريد ص 187-188. و الفاضل المقداد في شرح نهج المسترشدين ص 260 و غير ذلك من الكتب الكلامية.

مقام الفعل، فيثبت كونه تعالى حكيما لا يرتكب اللغو و ما يجب التنزه عنه، و بالتالي فهو عادل لا يجور و لا يظلم و لا يعتدي.

العدل في الذّكر الحكيم

تضافرت الآيات الكريمة مركزة على قيامه سبحانه بالقسط، نورد فيما بلي بعضا منها:

قال سبحانه: شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ (1).

و كما شهد على ذاته بالقيام بالقسط، عرّف الغاية من بعثة الأنبياء بإقامة القسط بين الناس.

قال سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ (2).

كما صرّح بأن القسط هو الركن الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً (3).

و ما في هذه الآيات و غيرها إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته، بأنّ العدل كمال لكل موجود حيّ مدرك مختار، و أنّه يجب أن يتصف اللّه تعالى به في أفعاله في الدنيا و الآخرة، و يجب أن يقوم سفراؤه به.

ص: 289


1- سورة آل عمران: الآية 18.
2- سورة الحديد: الآية 25.
3- سورة الأنبياء: الآية 47.
العدل في التشريع الإسلامي

و هذه المكانة التي يحتلها العدل - التي عرفت أنه لولاه لارتفع الوثوق بوعده و وعيده و انخرم الكثير من العقائد الإسلامية - هي التي جعلته سبحانه يعرّف أحكامه و يصف تشريعاته بالعدل، و أنه لا يشرّع إلاّ ما كان مطابقا له.

يقول سبحانه: وَ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا وَ لَدَيْنٰا كِتٰابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ (1).

فالجزء الأول من الآية ناظر إلى عدله سبحانه بين العباد في تشريع الأحكام، كما أنّ الجزء الثاني ناظر إلى عدله يوم الجزاء في مكافاته، هذا.

و إن شعار الذكر الحكيم هو: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (2). و هو يكشف عن عدالته سبحانه في التشريع و الجزاء.

العدل في روايات أئمة أهل البيت

اشتهر عليّ (عليه السلام) و أولاده بالعدل، و عنه أخذت المعتزلة، حتى قيل: «التوحيد و العدل علويان و التشبيه و الجبر أمويان». و إليك بعض ما أثر عنهم (عليهم السلام).

1 - سئل عليّ (عليه السلام) عن التوحيد و العدل، فقال: «التوحيد أن لا تتوهّمه و العدل أن لا تتّهمه»(3) و قد فرض كونه سبحانه عادلا فطلب معناه.

ص: 290


1- سورة المؤمنون: الآية 62.
2- سورة الروم: الآية 9.
3- نهج البلاغة - قسم الحكم - رقم 470.

قال ابن أبي الحديد: «هذان الركنان هما ركنا علم الكلام و هما شعار أصحابنا المعتزلة لنفيهم المعاني القديمة التي يثبتها الأشعري و أصحابه، و لتنزيههم الباري سبحانه عن فعل القبيح، و معنى قوله: «أن لا تتوهمه»:

أن لا تتوهمه جسما أو صورة أو في جهة مخصوصة أو مالئا لكل الجهات، كما ذهب إليه قوم، أو نورا من الأنوار، أو قوة سارية في جميع العالم كما قاله قوم، أو من جنس الأعراض التي تحل الحالّ أو تحل المحل و ليس بعرض، كما قاله النصارى، أو تحله المعاني و الأعراض فمتى توهم على شيء من هذا فقد خولف التوحيد.

و أما الركن الثاني فهو «أن لا تتهمه»: أي أن لا تتهمه في أنّه أجبرك على القبيح و يعاقبك عليه، حاشاه من ذلك و لا تتهمه في أنّه مكّن الكذّابين من المعجزات فأضل بهم الناس، و لا تتهمه في أنّه كلّفك ما لا تطيقه و غير ذلك من مسائل العدل التي تذكرها أصحابنا مفصلة في كتبهم، كالعوض عن الألم فإنه لا بدّ منه، و الثواب على فعل الواجب فإنه لا بد منه، و صدق وعده و وعيده فإنه لا بد منه.

و جملة الأمر أنّ مذهب أصحابنا في العدل و التوحيد مأخوذ عن أمير المؤمنين (عليه السلام). و هذا الموضع من المواضع التي قد صرّح فيها بمذهب أصحابنا بعينه، و في فرش كلامه من هذا النمط ما لا يحصى»(1).

2 - روى (الصدوق) عن الصادق (عليه السلام) أنّ رجلا قال له:

إنّ أساس الدين التوحيد و العدل، و علمه كثير، و لا بدّ لعاقل منه، فاذكر ما يسهل الوقوف عليه و يتهيّأ حفظه. فقال (عليه السلام): «أمّا التّوحيد فأن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك، و أمّا العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه»(2).6.

ص: 291


1- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 20، ص 227.
2- التوحيد، باب معنى التوحيد و العدل، الحديث الأول، ص 96.

3 - و قال علي (عليه السلام): «و أشهد أنّه عدل عدل، و حكم فصل»(1).

4 - و قال (عليه السلام): «الذي صدق في ميعاده، و ارتفع عن ظلم عباده، و قام بالقسط في خلقه، و عدل عليهم في حكمه»(2).

5 - و قال صلوات اللّه عليه: «الذي أعطى حلمه فعفا، و عدل في كل ما قضى»(3).

6 - و قال (عليه السلام): «اللّهمّ احملني على عفوك، و لا تحملني على عدلك»(4).

إلى غير ذلك من المأثورات عن أئمة أهل البيت، و سيوافيك قسم منها عند البحث عن القضاء و القدر، و البحث عن الجبر و الاختيار.7.

ص: 292


1- نهج البلاغة، الخطبة 214.
2- نهج البلاغة، الخطبة 185.
3- نهج البلاغة، الخطبة 191.
4- نهج البلاغة، الخطبة 227.

ثمرات التحسين و التقبيح العقليين

(4) ما هو المصحح لعقوبة العبد؟

لقد تضافرت النصوص السماوية على عقوبة المجرمين و التنكيل بالظالمين و عندئذ يقع الكلام في مقامين:

الأول: ما هو الغرض من العقوبة ؟ فهل هو التّشفي كما في قوله سبحانه: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً (1)؟ و لكن هذه الغاية منتفية في جانب الحق سبحانه لأنه أجلّ من أن يكون له هذا الداعي لاستلزامه طروء الانفعال إلى ذاته. أو لاعتبار الآخرين ؟ و هذا إنّما يصح في دار التكليف لا في دار الجزاء. يقول سبحانه: اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ، وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (2).

فقوله: وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قرينة على أنّ الغاية

ص: 293


1- سورة الإسراء: الآية 33.
2- سورة النور: الآية 2.

من جلد الزانية و الزاني هو اعتبار الآخرين، أو أنه أحد الغايات.

الثاني: إنّ من السنن العقلية المقررة مساواة العقوبة للجرم كما و كيفا، غير أن هذه المعادلة منتفية في العقوبات الأخروية، فإنّ قسما من المجرمين يخلدون في النار مع أن معصيتهم أقل مدة من مدة التعذيب.

قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (1).

و قال سبحانه: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْكُفّٰارَ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ (2).

قال المفيد: «اتّفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفّار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللّه تعالى و الإقرار بفرائضه من أهل الصلاة»(3).

و قال الصدوق في عقائده: «اعتقادنا في النار أنه لا يخلد فيها إلاّ أهل الكفر و الشرك، فأما المذنبون من أهل التوحيد فيخرجون منها بالرحمة التي تدركهم»(4).

و أما الجواب: عن السؤال الأول، فنقول: إن السؤال عن غاية العقوبة، و إنها هل هي للتشفي أو لإيجاد الاعتبار في غير المعاقب إنما يتوجه على العقوبات التي تترتب على العمل عن طريق التقنين و التشريع، فللتعذيب في ذلك المجال إحدى الغايتين: التشفّي أو الاعتبار.ر.

ص: 294


1- سورة البقرة: الآية 39.
2- سورة التوبة: الآية 68.
3- أوائل المقالات، ص 14.
4- عقائد الصدوق، ص 90، الطبعة القديمة الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.

و أما إذا كانت العقوبة أثرا وضعيا للعمل بالوجهين الآتيين، فالسؤال ساقط، لأن هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم و العقوبة التي تلابس وجوده في الحياة الأخروية، فعند ذلك لا يصح أن يسأل عن أن التعذيب لما ذا، و إنما يتجه السؤال مع إمكان التفكيك، و الوضع و الرفع، كالعقوبات الاتفاقية.

ثم إنّ الملازمة الخارجية بين الإنسان و العقوبة تتصور على وجهين:

الأول: إنّ كلا من الأعمال الإجرامية أو الصالحة التي تصدر من الإنسان في عالم الطبيعة توجد في النفس ملكة مناسبة لها، بسبب تكرار العمل و ممارسته. و هذه الملكات النفسانية ليست شيئا مفصولا عن وجود الإنسان، بل تشكل حاقّ وجوده و صميم ذاته. فالإنسان الصالح و الطالح إنما يحشران بهذه الملكات التي اكتسباها في الحياة الدنيوية عن طريق الطاعة و المعصية، و لكل ملكة أثر خاص يلازمها. و إن شئت قلت: إنّ كل نفس مع ما اكتنفها من الملكات تكون خلاّقة للصور التي تناسبها، إما الجنة و الروح و الريحان، أو النار و لهيبها و عذابها. فعلى ذلك يكون الثواب و العقاب مخلوقين للنفس قائمين بها على نحو لا يتمكن من ترك الإيجاد.

و هذا كالإنسان الصالح الذي ترسخت فيه الملكات الصالحة في هذه الدنيا، فإنه لا يزال يتفكر في الأمور الصالحة، و لا تستقر نفسه و لا تهدأ إلاّ بالتفكر فيها، و في مقابله الإنسان الطالح الذي ترسخت فيه الملكات الخبيثة عن طريق الأعمال الشيطانية في الحياة الدنيوية فلا يزال يتفكر في الأمور الشرّيرة و الرديئة، و لو أراد إبعاد نفسه عن التفكر فيما يناسب ملكتها لم يقدر على ذلك.

و يظهر من العلامة (الطباطبائي) أنّ الثواب و العقاب الأخرويين من الحقائق التي يكتسبها الإنسان بأعماله الصحيحة و الفاسدة، و هما موجودان في هذه النشأة غير أنّ الأحجبة تحجز بينه و بين ما أعد لنفسه من الجنة و النار، قال: «إن ظاهر الآيات أنّ للإنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش

ص: 295

بها فيها حياة أخرى سعيدة أو شقية، ذات أصول و أعراق، يعيش بها فيها و سيطلع و يقف عليها عند انقطاع الأسباب و ارتفاع الحجب».

إلى أن قال: «إنّ الأعمال تهيء بأنفسها أو باستلزامها و تأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليها الإنسان يوم يكشف عن ساق»(1).

و قد استظهر ما ذكره من عدة آيات ذكرها في كتابه.

و على ضوء ما ذكرنا، فالإنسان الوارد إلى الحياة الجديدة إنما يردها بملكات طيبة أو خبيثة، و لها لوازم تطلبها ضرورة وجوبا شاء أم لم يشاء.

و هذه اللوازم تتجلى بصورة النعم و النقم لكل من الطائفتين.

فعند ذلك يسقط السؤال عن الهدف من التعذيب. و هذا نظير من شرب السم فيقتل، أو شرب الدواء النافع فيبرأ، فلا يصح السؤال عن الهدف من القتل و الإبراء.

الثاني: إنّ من المقرر في محله أنّ لعمل الإنسان صورتين، صورة دنيوية و صورة أخروية، فعمل الإنسان يتجلى في كل ظرف بما يناسبه، فالصلاة لها صورتها الخاصة في هذه الحياة من حركات و أذكار، و لكن لها صورة أخرى في الحياة الأخروية.

كما أنّ الصوم له وجود خاص في هذا الظرف يعبر عنه بالإمساك عن المفطرات، و له وجود آخر في العالم الأعلى يعبر عنه بكونه جنّة من النار.

و هكذا سائر الأعمال من صالحها و طالحها. و هذا ما أخبر عنه الكتاب العزيز، يقول سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً (2).0.

ص: 296


1- الميزان، ج 1، ص 91-93.
2- سورة النساء: الآية 10.

و قال سبحانه: وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ، سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ (1).

و قال سبحانه: يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (2).

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على حضور نفس العمل يوم القيامة، لكن باللباس الأخروي، و هذا يعرب عن أنّ لفعل الإنسان واقعية تتجلى في ظرف بصورة و في آخر بأخرى.

و هذه الأعمال تلازم وجوده و لا تنفك عنه، فإذا كان عمل كل إنسان يعد من ملازمات وجوده، و ملابسات ذاته، فالسؤال عن أنّ التعذيب لما ذا، يكون ساقطا، إذ السؤال إنما يتوجه إذا كان التفكيك أمرا ممكنا.

و الفرق بين الوجهين واضح: ففي الوجه الأول تكون نفس الإنسان الصالح أو الطالح خلاّقة لثوابه و عقابه و جنته و ناره حسب الملكات التي اكتسبتها في هذه الدنيا بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة السكون و الهدوء إلاّ بفعل ما يناسبها. و في الوجه الثاني يكون العمل متجليا في الآخرة بوجوده الأخروي من دون أن يكون للنفس دور في تلك الحياة في تجلّي هذه الأعمال بتلك الصور بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور، فلا يحشر الإنسان وحده بل يحشر مع ما يلازم وجوده و يقارنه و يلابسه و لا ينفك عنه. و باختصار تكون رابطة الجزاء مع الإنسان في القسم الأول رابطة إنتاجية بحيث تكون النفس منتجة و مولّدة للجزاء الحسن و السيئ. و أما في الثاني فهي من ملازمات وجود الإنسان و ملابساته من دون انتاج.

قال تعالى: وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ5.

ص: 297


1- سورة آل عمران: الآية 180.
2- سورة التوبة: الآية 35.

كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً (1) .

و لعلك لو نظرت إلى الآيات التي تحكي عن حضور نفس العمل في الآخرة، و أضفت إليها «احتمال كون هذه الأعمال بصورها الأخروية من ملازمات ذات الإنسان صالحه و طالحه» لسهل عليك الإجابة عن السؤال من أنّ التعذيب لما ذا. قال سبحانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً (2) و قال سبحانه: وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (3). و قال سبحانه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا أَحْضَرَتْ (4). و قال سبحانه حاكيا عن لقمان: يٰا بُنَيَّ إِنَّهٰا إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّٰهُ (5).

فليس الحاضر يوم الجزاء إلاّ نفس العمل الذي يعبّر عنه بتجسم الأعمال و تحققها بالصور المناسبة لذلك الظرف.

و لعل ما ورد في الآيات و الروايات من أنّ العمل الصالح حرث الآخرة أو مطلق العمل كذلك إشارة إلى هذا الجواب. فذات العمل طاعة كان أو عصيانا، حبّ يزرعه الإنسان في حياته الدنيوية، و هذا الحبّ ينمو و يتكامل و يصير حرثا له في الآخرة يحصده بحسب ما زرع، قال سبحانه: مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيٰا نُؤْتِهِ مِنْهٰا وَ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (6).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «العمل الصالح حرث0.

ص: 298


1- سورة الإسراء: الآية 13.
2- سورة آل عمران: الآية 30.
3- سورة الكهف: الآية 49.
4- سورة التكوير: الآية 14.
5- سورة لقمان: الآية 16.
6- سورة الشورى: الآية 20.

الآخرة»(1).

كل ذلك يعرب عن أنّ رابطة الجزاء مع الإنسان رابطة العلية و المعلولية.

فالإنسان بوجوده علة لجزائه، إما بخلقه و إيجاده أو كونه زارعا في هذه الدنيا زرعا يحصد جناه في الآخرة، و ليس بينه و بين حرثه انفكاك. فإذا كانت الرابطة بهذه الصورة (العلية و المعلولية) لم يكن للسؤال مجال.

نعم، لا يصحّ لمتشرع ملمّ بالكتاب و السنّة أن يحصر النّعمة و النّقمة في هذين القسمين و ينكر جنة مفصولة أو عذابا كذلك عن وجود الإنسان و عمله، فإن الظاهر أنّ لكل من الجنة و النار وجودين مستقلين يرد إليهما الإنسان حسب أعماله. و مع ذلك كله، لا مانع من أن يكون هناك تعذيب أو تنعيم بأحد المعنيين الماضيين. و لمّا كان الإشكال عقليا، كفى في رفعه ما ذكرنا من الوجهين.

و أما الجواب عن السؤال الثاني فنقول:

إنّ ما ذكر من السّنة العقلية من التطابق بين الجرم و العقوبة كمّا و كيفا، إنما يرتبط بالعقوبات الجعلية، و أما إذا كانت العقوبة أثرا وضعيا للعمل فلا نجد تلك المطابقة في الكم و لا في الكيف.

فالسائق الغافل لحظة واحدة ربما يتحمل خسارات نفسية و مالية تدوم مدة عمره. و الإنسان الذي يستر بذرة شوك أو بذرة ورد تحت التراب، يحصد الأشواك و الورود ما دام العمر، فالعمل كان آنيا و النتيجة دائمية، فليست المعادلة محفوظة بين العمل و ثمرته.ه.

ص: 299


1- نهج البلاغة، الخطبة 22، طبعة عبده.

فإذا كان عمل الإنسان في هذه الحياة بذورا لما يحصده في الآخرة فلا مانع من أن تكون النتيجة دائمية و العمل آنيا أو قصير المدة. و هذا بنفسه كاف في ردّ الإشكال، و قد عرّفه سبحانه نتيجة عمله في الآخرة و أنّ أعماله القصيرة سوف تورث حسرة طويلة أو دائمة و أنّ عمله هنا سينتج له في الآخرة أشواكا تؤذيه أو ورودا تطيّبه، و قد أقدم على العمل عن علم و اختيار، فلو كان هناك لوم فاللوم متوجه إليه، قال سبحانه حاكيا عن الشيطان: وَ قٰالَ اَلشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مٰا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمٰا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1).

و فيما مرّ من الآيات التي تعدّ الجزاء الأخروي حرثا للإنسان تأييد لهذا النظر.

على أنّ من المحتمل أنّ الخلود في العذاب مختص بما إذا بطل استعداد الرحمة و إمكان الإفاضة. قال تعالى: بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (2).

و لعل قوله: وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ إحاطتها به إحاطة توجب زوال أي قابلية و استعداد لنزول الرحمة، و الخروج عن النقمة(3).

و كيف كان، فيظهر صحة ما ذكرنا إذا أمعنت النظر فيما تقدم في الجواب عن السؤال الأول و هو أنّ الجزاء إمّا مخلوق للنفس أو يلازم وجود الإنسان و في مثله لا تجري السنة العقلية كما هو واضح.6.

ص: 300


1- سورة إبراهيم: الآية 22.
2- سورة البقرة: الآية 81.
3- الميزان، ج 12، ص 86.

ثمرات التحسين و التقبيح و العقليين

(5) التكليف بما لا يطاق محال
اشارة

إنّ الوجدان السليم و العقل البديهي يحكم بامتناع التكليف بما لا يطاق، أما إذا كان الآمر إنسانا، فهو بعد وقوفه على عجز المأمور لا تنقدح الإرادة الجدّية في لوح نفسه و ضمير روحه. و لأجل ذلك يكون مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالا.

و أما إذا كان الآمر هو اللّه سبحانه، فالأمر فيه واضح من وجهين:

الأول: التكليف بما لا يطاق أمر قبيح عقلا، فيستحيل عليه سبحانه من حيث الحكمة أن يكلّف العبد بما لا قدرة له عليه، و لا طاقة له به. كأن يكلّف الزّمن بالطيران إلى السماء، أو إدخال الجمل في خرم الابرة، من غير فرق بين كون نفس التكليف بالذات ممكنا، و لكن كان خارجا عن إطار قدرة المخاطب، كالطيران إلى السماء، أو كان نفس التكليف بما هو هو محالا من غير فرق بين إنسان و إنسان. كدخول الجسم الكبير في الجسم الصغير من دون أن يتوسّع الصغير أو يتصغّر الكبير.

الثاني: الآيات الصريحة في أنّه سبحانه لا يكلف الإنسان إلاّ وسعه،

ص: 301

و قدر طاقته، قال سبحانه: لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا (1). و قال تعالى: وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (2).

و قال عزّ من قائل: وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (3). و الظلم هو الإضرار بغير المستحق، و أي إضرار أعظم من هذا، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

هذا ملخص القول في هذا الأصل، و قد بسط فيه الكلام الأصوليون و غيرهم في كتبهم الخاصة بفنهم.

و مع هذه البراهين المشرقة نرى أنّ الأشاعرة سلكوا غير هذا المسلك و جوّزوا التكليف بما لا يطاق. و بذلك أظهروا العقيدة الإسلامية، عقيدة مخالفة للوجدان و العقل السليم و الفطرة. و من المأسوف عليه أنّ المستشرقين أخذوا عقائد الإسلام عن المتكلمين الأشعريين، فإذا بهم يصفونها بكونها على خلاف العقل و الفطرة لأنهم يجوزون التكليف بما لا يطاق.

و المهم هو تحليل ما استدلوا به من الآيات(4).

أدلة الأشاعرة على التكليف بما لا يطاق

إنّ الأشاعرة - بدلا من الرجوع إلى العقل في هذا المجال - استدلوا بآيات تخيلوا دلالتها على ما يرتئونه مع انها بمنأى عما يتبنونه في المقام.

و إليك تلك الآيات مع بيان استدلالهم و تحليله.

ص: 302


1- سورة البقرة: الآية 286.
2- سورة فصلت: الآية 46.
3- سورة الكهف: الآية 49.
4- لاحظ اللّمع، ص 99 و 113 و 114، للوقوف على ما استدل به الشيخ أبو الحسن الأشعري على ما يتبنّاه في هذا المقام.

الآية الأولى - قوله تعالى: أُولٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ يُضٰاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذٰابُ مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ (1).

وجه الاستدلال: إنهم قد أمروا أن يسمعوا الحق و كلّفوا به مع أنهم مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ : فدلّ ذلك على جواز التكليف بما لا يطاق. و دلّ على أنّ من لم يقبل الحق و لم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعا.

يلاحظ عليه: إنّ الاستدلال ضعيف جدا. يظهر ضعفه بتفسير جمل الآية واحدة بعد الأخرى.

أ - قوله تعالى: أُولٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ : بمعنى أنّهم لم يكونوا معجزين للّه تعالى في حياتهم الأرضية و إن خرجوا عن زي العبودية فإن قدرتهم لم تغلب قدرة اللّه.

ب - قوله: وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ : أي إنّهم و إن اتخذوا أصنامهم أولياء، و لكنها ليست أولياء حقيقة، و ليس لهم أولياء من دون اللّه.

ج - قوله: يُضٰاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذٰابُ : أي يعاقبون عقابا مضاعفا جزاء بما أتوا به من الغي و الظلم و الأعمال السيئة.

د - قوله: مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ : هذه الجملة في مقام التعليل، يريد أنّهم لم يكفروا و لم يعصوا أمر اللّه لأجل غلبة إرادتهم إرادة اللّه. و لا لأن لهم أولياء من دون اللّه بل لأنهم ما كانوا0.

ص: 303


1- سورة هود: الآية 20.

يستطيعون أن يسمعوا أو يبصروا آياته حتى يؤمنوا بها، و لكن عدم استطاعتهم ليس بمعنى عدم وجودها فيهم من بداية الأمر بل لأنهم حرموا أنفسهم من هذه النعم بالذنوب فصارت الذنوب وسيلة لكونهم ذوي قلوب لا يفقهون بها، و ذوي أعين لا يبصرون بها، و ذوي آذان لا يسمعون بها، فصاروا كالأنعام بل هم أضل.

قال سبحانه: لَهُمْ قُلُوبٌ لاٰ يَفْقَهُونَ بِهٰا، وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاٰ يُبْصِرُونَ بِهٰا، وَ لَهُمْ آذٰانٌ لاٰ يَسْمَعُونَ بِهٰا، أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (1).

و باختصار: فرق بين عدم الاستطاعة فيهم من بداية التكليف و عدم قدرتهم على الإيمان و استماع الآيات و إبصارها. و عدم الاستطاعة لتماديهم في الظلم و الغيّ و إحاطة ظلمة الذنوب على قلوبهم و أعينهم و أبصارهم و أسماعهم. فالآية نزلت في المجال الثاني و البحث في الأول. و قد تواترت النصوص من الآيات و الأحاديث على أنّ العصيان و الطغيان يجعل القلوب عمياء و الأسماع صمّاء. قال سبحانه: فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ (2).

و قال سبحانه حاكيا عن المجرمين: لَوْ كُنّٰا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مٰا كُنّٰا فِي أَصْحٰابِ اَلسَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحٰابِ اَلسَّعِيرِ (3).

فالكلمة المعروفة بين المتكلمين و الحكماء من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار مقتبسة من هذه الآيات و صريح الفطرة.

الآية الثانية - قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى1.

ص: 304


1- سورة الأعراف: الآية 179.
2- سورة الصف: الآية 5.
3- سورة الملك: الآيتان 10-11.

اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ (1) .

وجه الاستدلال: إنّه سبحانه كلّفهم بالإنباء بالأسماء مع أنّهم لم يكونوا عالمين بها.

يلاحظ عليه: إنّ الأمر في قوله أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ للتعجيز لا للتكليف و البعث نحو الإنباء حقيقة نظير قوله سبحانه: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (2).

توضيحه: إنّ لصيغة الأمر معنى واحدا و هو إنشاء البعث نحو الشيء، لكنّ الغايات تختلف حسب اختلاف المقامات، فتارة تكون الغاية من الإنشاء هي بعث المكلف نحو الفعل جدا و هذا هو الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله و يعاقب تاركه، و يشترط فيه قدرة المكلف و استطاعته. و أخرى تكون الغاية أمورا غيره، فلا يطلق عليه «التكليف الجدّي»، كالتعجيز في الآية السابقة، و التسخير في الآية التالية: كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ (3).

إلى غير ذلك من الغايات التي تدفع المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر. و ذلك واضح لمن تتبع كلام العقلاء.

الآية الثالثة - قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ * خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كٰانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سٰالِمُونَ (4).3.

ص: 305


1- سورة البقرة: الآيتان 31 و 32.
2- سورة البقرة: الآية 23.
3- سورة البقرة: الآية 65.
4- سورة القلم: الآيتان 42-43.

وجه الاستدلال: إنّه إذا جاز تكليفهم في الآخرة بما لا يستطيعون جاز ذلك في الدنيا.

يلاحظ عليه: إنّ الدعوة إلى السجود في ذلك الظرف ليست عن جد و إرادة حقيقية. بل الغاية من إنشاء البعث إيجاد الحسرة في المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا. و الآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة رفضوا الإطاعة و الامتثال، و بعد ما كشف الغطاء عن أعينهم و رأوا العذاب همّوا بالطاعة و السجود و لكن أنّى لهم ذلك في الآخرة، و إليك تفسير جمل الآية واحدة بعد الأخرى:

أ - قوله: «يوم يكشف عن ساق»: كناية عن اشتداد الأمر تفاقمه لأن الإنسان إذا أراد عبور الماء المتلاطم يكشف عن ساقيه ثم يخوض غماره، فاستعير لبيان شدة الأمر و إن لم يكن هناك ماء و لا ساق و لا كشف، كما يقال للأقطع الشحيح: «يده مغلولة»، و إن لم يكن هناك يد و لا غلّ .

ب - قوله: يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ : لا طلبا و لا تكليفا عن جد، بل لزيادة الحسرة على تركهم السجود في الدنيا مع سلامتهم، كما يقول المعلم الممتحن لتلميذه الذي يعلم أنّه سيرسب في الامتحان، أدرس و طالع و اسهر الليالي، لإيجاد الحسرة في قلبه، مع أنّه ليس هناك مجال لواحد من هذه الأمور.

ج - قوله: فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ : إما لسلب السلامة عنهم إثر أعمالهم الأجرامية في الدنيا، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم - يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرٰائِرُ - أو لتعلق مشيئته سبحانه بانحصار العمل في الدنيا و انحصار الآخرة بالنتاج و الجزاء. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ألا و إنّ اليوم المضمار، و غدا السّباق، و السّبقة الجنّة، و الغاية النار، أ فلا تائب من خطيئته قبل منيّته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه، ألا و إنّكم في

ص: 306

أيام عمل من ورائه أجل»(1). و لعل الوجه الأول من هذه الوجوه الثلاثة أقرب إلى مفاد الآية، لما في آخرها من قوله: وَ قَدْ كٰانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سٰالِمُونَ ، الظاهر في عدم سلامتهم في غير ذاك الظرف.

د - قوله: خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ : أي تكون أبصارهم خاشعة و تغشاهم في ذلك اليوم ذلة.

ه - قوله: وَ قَدْ كٰانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سٰالِمُونَ : إنهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا عنه مع صحتهم و صحة أبدانهم، يدعون إلى السجود في الآخرة، و لا يستطيعون. و الغاية من الدعوة ازدياد حسرتهم و ندامتهم على ما فرّطوا في الدنيا و هم سالمون أصحاء.

و مجموع جمل الآية تعرب بوضوح عن أنّ الدعوة إلى السجود في ذلك الظرف لا تكون عن جد بل لغايات أخر لا يشترط فيها القدرة.

الآية الرابعة - قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً (2).

وجه الاستدلال: إنّه سبحانه أمر بالعدل في قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً (3) و مع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على العدل.

يلاحظ عليه: إنه سبحانه أمر بالعدالة من يتزوج أكثر من واحدة كما مرّ في هذه الآية. و في الوقت نفسه أخبر في الآية المستدل بها عن عدم3.

ص: 307


1- نهج البلاغة، الخطبة 28.
2- سورة النساء: الآية 129.
3- سورة النساء: الآية 3.

استطاعة المتزوجين أكثر من واحدة على العدل، و في الوقت نفسه أيضا نهى عن التعلق التام بالمحبوبة منهن و الإعراض عن الأخريات رأسا حتى لا تصرن كالمعلقات، لا متزوجات و لا مطلقات.

و بالتأمل في جمل الآيتين يظهر أن العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج على القيام بها.

فالمستطاع هو الذي يقدر عليه كل متزوج أكثر من واحدة، و هو العدالة في الملبس و المأكل و المسكن و غيرها من حقوق الزوجة التي يقوم الزوج بها بجوارحه التي تحت اختياره، لا بجوانحه و بواطنه التي لا سلطان له عليها.

و أما غير المستطاع منها فهو المساواة في إقبال النفس و البشاشة و الأنس و هو مما لا يملكه المرء و لا يحيط به اختياره و لا سلطان له عليه.

إلى هنا تبين أنّ التكليف بما لا يطاق سواء أ كان ممكنا بالذات أو غير ممكن، مما يأباه العقل و تنكره الفطرة، و لا يقرّ به العقلاء في حياتهم الاجتماعية، كما تنكره الآيات الصريحة.

و أما ما استدل به الشيخ الأشعريّ فلا دلالة فيه، و الحافز له على سوق هذه الآيات على ما يتبناه هو رأيه المسبق. و ذلك أنّه لما اختار عدم تأثير قدرة العبد في فعله و أنه بعامة أجزائه و خصوصياته للّه سبحانه، و ليس للعبد دور إلاّ كونه ظرفا للفعل، و كون الخلق من اللّه سبحانه مقارنا لإرادة العبد، رتب على ذلك أمرين:

الأول - جواز التكليف بما لا يطاق.

ص: 308

الثاني - كون الاستطاعة مقارنة للفعل.

أما الأول، فلأنه إذا لم يكن لقدرة العبد دور في نفس الفعل، فلا يفرق بين كون التكليف مقدورا عليه أو غير مقدور، و قد عرفت بطلانه.

و أما الثاني، فإنما ذهب إليه توهّما منه أنّ وجود القدرة و الاستطاعة قبل الفعل ربما لا يجتمع مع القول بكون الخلق و الإيجاد منه سبحانه، فقال بعدم تقدم الاستطاعة و لزوم مقارنتها مع وجود الفعل، و هذا هو ما عقدنا له عنوانا مستقلا في البحث التالي.

إنّ المشكلة المهمة في كلام الأشاعرة و أهل الحديث و الحنابلة هي رفضهم العقل و إعدامه في المجالات التي يختص بالقضاء فيها. و من أعدم العقل و صلبه فلا يترقب منه غير هكذا آراء.

ص: 309

ص: 310

ثمرات التحسين و التقبيح و العقليين

(6) القدرة على الفعل قبله
اشارة

هل الاستطاعة و القدرة في الإنسان متقدمان على الفعل أو مقارنان له ؟.

العدليّة على الأول، و الأشاعرة على الثاني. و الحق التفصيل و لعلّ هذا مراد الجميع.

بيان ذلك: إنّ القدرة تطلق و يراد منها أحد الأمرين:

الأول: صحة الفعل و الترك، و إن شئت قلت: كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل. فلو أريد من القدرة هذا المعنى، فلا شك أنها مقدمة على الفعل فطرة و وجدانا، فإنّ القاعد، قادر على القيام حال القعود، و الساكت قادر على التكلم في زمان سكوته، لكن بالمعنى المزبور.

الثاني: ما يكون الفعل معه ضروري الوجود باجتماع جميع ما يتوقف وجود الفعل عليه، و تحقق العلة التامة التي لا ينفك المعلول عنها. فالقدرة بهذا المعنى مقارنة للفعل، ليست مقدمة عليه تقديما زمانيا و إن كانت متقدمة رتبة.

ص: 311

و الحق إنّ المسألة بديهية للغاية و ما أثير حولها من الشبهات خصوصا ما ذكره الشيخ الأشعري في (اللمع) أشبه بالشبه السوفسطائية(1). و مثله ما ذكره تلاميذ مدرسته، كالتفتازاني في (شرح المقاصد). و نظام الدين القوشجي في (شرح التجريد)(2). و ما ذكرناه من التفصيل هو الحاسم في البحث، و يظهر لبّه من فخر الدين الرازي الذي نقله السيد الجرجاني في (شرح المواقف)(3).

و بذلك يظهر أنّ ما أقامته المعتزلة من البراهين على تقدم القدرة على الفعل تنبيهات على المسألة، و لا يحتاج الأمر إلى هذا التفصيل المسهب.

و لكن الذي ينبغي البحث عنه هو تبيين الحافز الذي دعى الشيخ الأشعريّ إلى اختيار ذلك المذهب (مقارنة القدرة للفعل). مع أنّ التقدم و المقارنة بالنسبة إلى ما جاء في الكتاب و السنّة متساويان، فإذا يقع الكلام في تعيين الداعي إلى اختيار القول بالتقارن بل التركيز عليه.

المحتمل قويا أن يكون الداعي هو قوله بمسألة خلق أفعال العباد، و إنها مخلوقة للّه لا للعباد لا أصالة و لا تبعا، حتى أنّ القدرة الحادثة في العبد عند حدوث الفعل غير مؤثرة في إيجاده بل مقارنة له. فإذا المناسب لتلك العقيدة نفي القدرة المتقدمة على الفعل، و الاكتفاء بالمقارن له، و كأن الشيخ تصوّر أن القدرة المتقدمة على الفعل تزاحم قدرة اللّه تعالى فلأجل ذلك وجد في نفسه دافعا روحيا إلى البرهنة على بطلان التقدم و إثبات التقارن.3.

ص: 312


1- لاحظ اللمع، ص 93-94.
2- شرح المقاصد، ج 1، ص 240. و شرح القوشجى، ص 392.
3- شرح المواقف، ج 6، ص 154. و قد جاء الأستاذ دام حفظه بجميع ما تصورته الأشاعرة من البراهين العقلية في كتابه «الملل و النحل» فلاحظ ج 2، ص 172-193.

نعم، القول بالتقارن و نفي التقدم لا يختص بالشيخ الأشعري و تلامذته، بل وافقهم عليه بعض المعتزلة، كالنّجار، و محمد بن عيسى، و ابن الراوندي، و غيرهم(1).

و قد اتفقت كلمة الجميع على أنّ قدرة اللّه تعالى متقدمة على الفعل.

و ذلك أيضا معلوم حسب أصولنا، لأن القدرة في غيره سبحانه عين القوة و الإمكان. و في الواجب تعالى عين الفعلية و الوجوب، و أنّ وجوده بالذات، و كل صفة من صفاته، بالفعل ليس فيها قوة و لا إمكان و لا استعداد.

و قد أسهب صدر المتألهين الكلام في هذا المقام في أسفاره و دفع بعض الإشكالات التي ترد على القول بقدم قدرته و فعليته(2).

الاستطاعة في أحاديث أئمة أهل البيت

لقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت على تقدم الاستطاعة على الفعل. و إليك بعض ما روي عنهم في هذا الشأن:

1 - روى الصدوق عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما كلّف اللّه العباد كلفة فعل و لا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة، ثم أمرهم و نهاهم، فلا يكون العبد آخذا و لا تاركا إلاّ بالاستطاعة متقدمة قبل الأمر و النّهي، و قبل الأخذ و التّرك، و قبل القبض و البسط»(3).

2 - و روى أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه قال: سمعته يقول - و عنده قوم يتناظرون في الأفاعيل و الحركات - فقال: «الاستطاعة قبل الفعل

ص: 313


1- شرح المواقف، ج 6، ص 92.
2- الأسفار الأربعة، ج 6، ص 312.
3- التوحيد للصدوق، باب الاستطاعة، الحديث 19، ص 352.

لم يأمر اللّه عز و جل بقبض و لا بسط إلاّ و العبد لذلك مستطيع»(1).

3 - و روى أيضا عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «لا يكون من العبد قبض و لا بسط إلاّ باستطاعة متقدّمة للقبض و البسط»(2).

4 - و روى أيضا عن محمد بن أبي عمير عمن رواه من أصحابنا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال سمعته يقول: «لا يكون العبد فاعلا إلاّ و هو مستطيع و قد يكون مستطيعا غير فاعل، و لا يكون فاعلا أبدا حتّى يكون معه الاستطاعة»(3) و هناك روايات كثيرة أخرى مبثوثة في باب الاستطاعة من (التوحيد) فلاحظها.

و من لطيف ما استدلّ به أئمة أهل البيت على تقدم الاستطاعة على الفعل قوله سبحانه: وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (4)، فقد «سأل هشام بن الحكم الإمام الصادق عن معنى الآية و قال: ما يعني بذلك ؟ قال: من كان صحيحا في بدنه، مخلى سربه، له زاد و راحلة»(5).

«و قال أبو بصير: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «من عرض عليه الحجّ و لو على حمار أجدع مقطوع الذّنب فأبى، فهو ممّن يستطيع الحجّ »(6).0.

ص: 314


1- التوحيد للصدوق، الحديث 21، ص 352.
2- المصدر السابق، الحديث 20، ص 352.
3- المصدر السابق، الحديث 13، ص 350.
4- سورة آل عمران: الآية 97.
5- التوحيد للصدوق، الحديث 14، ص 350.
6- المصدر السابق، الحديث 11، ص 350.

الباب الثالث الصّفات الخبريّة

اشارة

الإثبات مع التكييف و التشبيه.

الإثبات بلا تكييف و لا تشبيه.

التّفويض.

التّأويل.

الإجراء بالمفهوم التصديقي.

1 - عرشه سبحانه و استواؤه عليه.

2 - وجهه سبحانه.

3 - يده سبحانه.

ص: 315

ص: 316

الصّفات الخبرية قسّم بعض المتكلمين صفاته سبحانه إلى ذاتية و خبرية، و المراد من الأولى أوصافه المعروفة: من العلم و القدرة و الحياة، و المراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات و الأحاديث له سبحانه من العلو، و الوجه، و اليدين إلى غير ذلك. و قد اختلفت نظرية المتكلمين في تفسير هذا القسم من الصفات إلى أقوال:

الأول - الإثبات مع التكييف و التشبيه

زعمت المجسّمة و المشبّهة أنّ للّه سبحانه عينين و يدين مثل الإنسان.

قال الشهرستاني: «أما مشبّهة الحشويّة فقد أجازوا على ربّهم الملامسة و المصافحة، و أنّ المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا و الآخرة إذا بلغوا في الرياضة و الاجتهاد إلى حدّ الإخلاص»(1).

ص: 317


1- الملل و النحل، ج 1، ص 105. لاحظ بقية كلامه في هذا المجال فإنه يوقفك على مبلغ وعي المشبهة!.

و بما أنّ التشبيه و التجسيم باطل بالعقل و النقل فلا نحوم حول هذه النظرية.

الثاني - الإثبات بلا تكييف و لا تشبيه
اشارة

إنّ الشيخ الأشعري و من تبعه يجرون هذه الصفات على اللّه سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف، لكن لأجل الفرار عن التشبيه يقولون «بلا تشبيه و لا تكييف».

يقول الأشعري في كتابه (الإبانة): «إن للّه سبحانه وجها بلا كيف، كما قال: وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (1)، و إنّ له يدين بلا كيف، كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (2)»(3).

و ليست هذه النظرية مختصة بالأشعري، فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه قال: «و ما ذكر اللّه تعالى في القرآن من الوجه و اليد و النفس فهو له صفات بلا كيف».

و قد نقل عن الشافعي أنّه قال: «و نثبت هذه الصفات و ننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ».

و قال ابن كثير: «نحن نسلك مسلك السلف الصالح و هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف و لا تشبيه»(4).

و حاصل هذه النظرية أنّ له سبحانه هذه الحقائق لكن لا كالموجودة في

ص: 318


1- سورة الرحمن: الآية 27.
2- سورة ص: الآية 75.
3- الإبانة، ص 18.
4- لاحظ فيما نقلناه عن أبي حنيفة و الشافعي و ابن كثير «علاقة الإثبات و التفويض»، ص 46-49.

البشر. فله يد و عين، لا كأيدينا و أعيننا و بذلك توفقوا - على حسب زعمهم - في الجمع بين ظواهر النّصوص و مقتضى التنزيه.

تحليل هذه النظرية

لا شك أنّه يجب على كل مؤمن الإيمان بما وصف اللّه به نفسه، و ليس أحد أعرف به منه، يقول سبحانه: أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ (1). كما أنّه ليس لأحد أن يصرف كلامه سبحانه في أيّ مورد من الموارد عما يتبادر من ظاهره من دون قرينة قطعية تستوجب ذلك. فإنّ قول المؤوّلة - الذين يؤوّلون ظواهر الكتاب و السنة بحجة أنّ ظواهرها لا توافق العقل - مردود، إذ لا يوجد في الكتاب و السنة الصحيحة ما يخالف العقل، و إن ما يتصورونه ظاهرا و يجعلونه مخالفا للعقل ليس ظاهر الكتاب المتبادر منه، و إنما يتخيلونه ظاهرا كما سيبين.

ثم إنّ ما جاء به الأشاعرة في هذه النظرية و قولهم بأنّ للّه يدا حقيقة بلا كيف - مثلا - لا يرجع إلى معنى صحيح. و ذلك أنّ العقيدة الإسلامية تتسم بالدقة و الحصافة، و في الوقت نفسه بالسلامة من التعقيد و الإبهام، و تبدو جلية مطابقة للفطرة و العقل السليم. و على ذلك فإبرازها بصورة التشبيه و التجسيم المأثور من اليهودية و النصرانية، كما في النظرية الأولى، أو بصورة الإبهام و الإلغاز كما في هذه، لا يجتمع مع موقف الإسلام و القرآن في عرض العقائد على المجتمع الإسلامي. فالقول بأنّ للّه يدا لا كأيدينا، أو وجها لا كوجوهنا، و هكذا سائر الصفات الخبرية أشبه بالألغاز. و ما يلهجون به و يكررونه من أنّ هذه الصفات تجري على اللّه سبحانه بنفس معانيها الحقيقة و لكن الكيفية مجهولة، أشبه بالمهزلة. إذ لو كان إمرارها على اللّه

ص: 319


1- سورة البقرة: الآية 140.

تعالى بنفس معانيها الحقيقية، لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتى يكون الاستعمال حقيقيا، لأنّ الواضع إنما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي قوامها بنفس كيفيتها. فاستعمالها في المعاني الحقيقية و إثبات معانيها على اللّه سبحانه بلا كيفية، أشبه بكون حيوان أسدا حقيقة و لكن بلا ذنب و لا مخلب و لا ناب و لا و لا...

و باختصار، قولهم إنّ للّه يدا حقيقة لكن لا كالأيدي، كلام يناقض ذيله صدره. فاليد الحقيقية عبارة عن العضو الذي له تلك الكيفية المعلومة، و حذف الكيفية حذف لحقيقتها و لا يجتمعان.

أضف إلى ذلك أنّه ليس في النصوص من الكتاب و السنّة من هذه «البلكفة» (أي بلا كيف) عين و لا أثر، و إنما هو شيء اخترعته الأفكار للتدرع به في مقام رد الخصم عن تهجمه عليهم بتهمة التجسيم و لذلك يقول العلامة الزمخشري:

و قد شبّهوه بخلقه و تخوّفوا *** شنع الورى فتستّروا بالبلكفة

ليت شعري، لو كفت هذه اللفظة في دفع التجسيم و التشبيه، فليكف في مجالات أخر بأن يقال في حقه سبحانه إنّ له جسما لا كسائر الأجسام، و إنّ له دما لا كسائر الدماء و لحما لا كسائر اللحوم. حتى إنّ بعض المتجرئين من المشبهة قال: «إنّما استحييت، عن إثبات الفرج و اللحية، و اعفوني عنهما و اسألوا عمّا وراء ذلك»(1).

و بذلك تبين أنّ عقيدة الأشعري في باب الصفات الخبرية لا تخرج، عن إطار أحد الأمرين التاليين:5.

ص: 320


1- الملل و النحل ج 1، ص 105.

1 - التجسيم و التشبيه - لو أجريت هذه الصفات على اللّه سبحانه بمعانيها المعهودة في الأذهان و مع حفظ حقيقتها.

2 - التعقيد و الغموض - لو أجريت على اللّه سبحانه بمعانيها المتبادرة من دون تفسير و توضيح. فالقوم بين مشبّه و معقّد، بين مجسم و ملقلق باللسان.

و في الختام نقول إنّ نظرية «الإثبات بلا تكييف» و إن كانت رائجة في عصر الأشعري و قبله و بعده، و لكنها هجرت بعد ذلك إلى أن جاء ابن تيميّة الحرّاني فجددها و أثارها و أسماها مذهب السلف، و جعل مذهبهم بين التعطيل و التشبيه. قال في جملة كلام له: «فلا يمثلون صفات اللّه تعالى بصفات خلقه و لا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فيعطلوا أسماءه الحسنى و صفاته العليا - إلى أن قال: و لم يقل أحد من سلف الأمة و لا من الصحابة و التابعين إنّ اللّه ليس في السماء، و لا إنّه ليس على العرش، و لا إنّه في كل مكان، و لا إنّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، و لا إنّه داخل العالم و لا خارجه، و لا متصل و لا منفصل، و لا إنّه لا تجوز الإشارة الحسيّة إليه بالأصابع و نحوها»(1).

و على ذلك قال ابو زهرة: «يقرر ابن تيمية أنّ مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن من فوقية و تحتية، و استواء على العرش، و وجه، و يد، و محبة و بغض، و ما جاء في السنة من ذلك أيضا من غير تأويل، و بالظاهر الحرفي. فهل هذا هو مذهب السلف حقا؟ و نقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بيّناه، و ادّعوا أنّ ذلك مذهب السلف، و ناقشهم العلماء في ذلك الوقت و أثبتوا أنّه يؤدي إلى التشبيه و الجسمية لا محالة، فكيف لا يؤدي إليهما و الإشارة الحسية إليه جائزة.9.

ص: 321


1- المجموعة الكبرى في مجموعة الرسائل الكبرى، ص 489.

و لذا تصدّى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، و نفى أن يكون ذلك مذهب السلف»(1).

إنّ لابن الجوزي كلاما مبسوطا في نقد هذه النظرية و قد هاجم أحد الحنابلة المروجين لها أعني القاضي أبا يعلى الفقيه الحنبلي المشهور المتوفي سنة 457 ه، حيث قال: «لقد شأن أبو يعلى الحنابلة شيئا لا يغسله ماء البحار». و لأجل ذلك استتر هذا المذهب حتى أعلنه ابن تيميّة بجرأة خاصة له.

ثم إنّ أبا زهرة المعاصر انتقل إلى ما ذكرناه في نقد تلك النظرية و قال:

«و لنا أن ننظر نظرة أخرى و هي من الناحية اللغوية. لقد قال سبحانه:

يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ . و قال: كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ . أ هذه العبارات يفهم منها تلك المعاني الحسية ؟ أم أنها تفهم منها أمور أخرى تليق بذات اللّه تعالى ؟ فيصح أن تفسر اليد بالقوة (كناية أو استعارة عنها) و يصح أن يفسر الوجه، بالذات.

و يصح أن يفسّر النزول إلى السماء الدنيا بمعنى قرب حسابه، و قربه سبحانه و تعالى من العباد. و إن اللغة تتسع لهذه التفسيرات، و الألفاظ تقبل هذه المعاني. و هو أولى بلا شك من تفسيرها بمعانيها الظاهرة الحرفية، و الجهل بكيفياتها. كقولهم: «إن للّه يدا و لكن لا نعرفها»، «و للّه نزولا لكن ليس كنزولنا» الخ... فإن هذه إحالات على مجهولات، لا نفهم مؤداها، و لا غاياتها. بينما لو فسّرناها بمعان تقبلها اللغة و ليست غريبة عنها لوصلنا إلى أمور قريبة فيها تنزيه و ليس فيها تجهيل»(2).

ثم إنّ للغزالي كلاما متينا في نقد هذه النظرية نأتي بخلاصته. يقول:0.

ص: 322


1- تاريخ المذاهب الإسلامية، ج 1، ص 218.
2- المصدر نفسه، ص 219-220.

«إنّ هذه الألفاظ التي تجري في العبارات القرآنية و الأحاديث النبوية لها معان ظاهرة، و هي الحسّية التي نراها. و هي محالة على اللّه تعالى، و معان أخرى مجازية مشهورة يعرفها العربي من غير تأويل و لا محاولة تفسير.

فإذا سمع اليد في قوله (صلى اللّه عليه و آله) «إنّ اللّه خمّر آدم بيده» و «إنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن»، فينبغي أن يعلم أنّ هذه الألفاظ تطلق على معنيين: أحدهما - و هو الوضع الأصلي - و هو عضو مركب من لحم و عظم و عصب. و قد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى آخر ليس هذا المعنى بجسم أصلا، كما يقال: «البلدة في يد الأمير»، فإنّ ذلك مفهوم و إن كان الأمير مقطوع اليد. فعلى العامي و غير العامي أن يتحقق قطعا و يقينا أنّ الرسول لم يرد بذلك جسما و أنّ ذلك في حق اللّه محال. فإن خطر بباله أنّ اللّه جسم مركب من أعضاء، فهو عابد صنم. فإنّ كل جسم مخلوق، و عبادة المخلوق كفر، و عبادة الصنم كانت كفرا، لأنه مخلوق»(1).

و لقد أحسن الغزالي حيث جعل تفسير اليد في مثل قوله سبحانه:

يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالقدرة، معنى للآية من غير تأويل، و توضيحا لها من دون محاولة تفسيرها. و هذا ما سنركز عليه بعد البحث عن عقيدة المؤوّلة و نقول إنّ الواجب اتباع ظاهر الآية و السنة بلا انحراف عنه سواء أ كان موافقا لمعانيها الحرفية و الإفرادية أم لا، و هذه هي المزلقة الكبرى للحنابلة و نفس الإمام الأشعري، فزعموا أنّ الواجب اتباع معانيها الحرفية سواء أ كانت موافقة للظاهر أم لا.

الثالث - التفويض
اشارة

و قد ذهب جمع من الأشاعرة و غيرهم إلى إجراء هذه الصفات على اللّه سبحانه مع تفويض المراد منها إليه.

ص: 323


1- الجاء العوام.

قال الشهرستاني:

«إن جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين و الوجه و لا يؤولون ذلك، إلاّ أنهم يقولون إنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله:

اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ ، و مثل قوله: لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ . و لسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له، و ذلك قد أثبتناه»(1).

و إليه جنح الرازي و قال:

«هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد اللّه منها شيء غير ظواهرها، كما يجب تفويض معناها إلى اللّه تعالى و لا يجوز الخوض في تفسيرها»(2).

تحليل نظرية التفويض

إنّ التفويض شعار من لا يريد أن يقتحم الأبحاث الخطيرة، و يرى أنه يكفيه في النجاة قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «بني الإسلام على.

خمس: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة و الحج و صوم رمضان»(3).

و لأنه يرى أنّ التفويض أسلم من الإثبات الذي ربما ينتهي به إمّا إلى التشبيه و التجسيم الباطلين أو إلى التعقيد و الإبهام اللّذين لا يجتمعان مع سمة سهولة العقيدة.

و لكنّ أهل الإثبات - أعني أصحاب النظريتين السابقتين - عابوا على نظرية التفويض بأنّ غاية تلك النظرية مجرد الإيمان بألفاظ القرآن و الحديث

ص: 324


1- الملل و النحل، ح 1، ص 92-93 بتخليص.
2- أساس التقديس، ص 223.
3- صحيح البخاري، ج 1، كتاب الإيمان، ص 7.

من غير فقه و لا فهم لمراد اللّه و رسوله منها. فإنّ الإيمان بالألفاظ و تفويض معانيها إلى اللّه سبحانه بمنزلة القول بأنّ اللّه تعالى خاطبنا عبثا، لأنه خاطبنا بما لا نفهم، و اللّه يقول: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (1).

أقول: إنّ لأهل التفويض عذرا واضحا في هذا المجال، فإنهم يتصورن أنّ الآيات المشتملة على الصفات الخبرية، من الآيات المتشابهة، و قد نهى سبحانه عن ابتغاء تأويلها و أمر عباده بالإيمان بها. فقال سبحانه: فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ (2). فلا عتب عليهم إذا أعرضوا عن تفسيرها و فوضوا معانيها إليه سبحانه. نعم، الإشكال في عدم كون هذه الآيات من الآيات المتشابهة، فإنّ المفاد فيها غير متشابه إذا أمعن فيها الإنسان المتجرد عن كل رأي سابق، كما سيوافيك بيانه.

و العجب أنّ ما عابوا به أصحاب التفويض وارد عليهم أيضا، فإنّ إثبات الصفات الخبرية بمعانيها الحرفية التي تتبادر عند إيرادها مفردة، مع حفظ التنزيه، تجعلها ألفاظا بلا معان واضحة. لأنّ الكيفية المتبادرة من هذه الصفات هي المقومة لمعانيها فإثبات مفاهيمها الحرفية مع سلب كيفيّاتها أشبه بإثبات الشيء في عين سلبه. فعندئذ تنقلب الآيات البيّنات الدّالة على أشرف المعاني و أجلّها إلى آيات غير مفهومة و لا معقولة. و كأنّ اللّه تعالى خاطبهم و هم أميون لا يعلمون من الكتاب إلاّ أماني.7.

ص: 325


1- سورة إبراهيم: الآية 4. الفتوحات المكية، ج 4، ص 928. و تبعه ابن تيمية في هذا النقد كما نقله في علاقة الإثبات و التفويض، ص 60.
2- سورة آل عمران: الآية 7.
الرابع - التأويل

إنّ المعتزلة هم المشهورون بهذه النظرية حيث يفسرون اليد بالنعمة و القدرة، و الاستواء بالاستيلاء و إظهار القدرة. و سيظهر حقيقة التأويل في هذه الآية عند ما نورد عبارات تفسير (الكشاف) الذي ألف على نمط اعتزالي.

و يلاحظ عليهم. إنّ تأويل نصوص الآيات و ظواهرها مع قطع النظر عن مورد الصفات الخبرية، ليس بأقل خطرا من نظرية الإثبات، إذ ربما ينتهي التأويل إلى الإلحاد و إنكار الشريعة(1).

و ما أقبح قول من يقول: «إنّ ظاهر القرآن يخالف العقل الصحيح، فيجب ترك النّقل لأجل صريح العقل».

أو يقول: «التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب و السنّة من غير بصيرة، هو أصل الضلالة، فقالوا بالتشبيه و التجسيم و الجهة عملا بظاهر قوله:

اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ (2) .

و ذلك لأنه لا يوجد آية في الكتاب العزيز يخالف ظاهرها صريح العقل، فإنّ ما يتخيلونه ظاهرا ليس بظاهر، بل الآية ظاهرة في غير ما تصوروه، و إنما خلطوا الظاهر الحرفي بالظاهر الجملي. فإنّ اليد مفردة ظاهرة في العضو الخاص و ليست كذلك فيما إذا حفّت بها القرائن و جعلتها ظاهرة في معنى آخر. فإنّ قول القائل في مدح إنسان: إنّه «باسط اليد»، أو في ذمه بأنه «قابض اليد»، ليس ظاهرا في اليد العضوية التي أسميناها بالمعنى الحرفي بل ظاهر في البذل و العطاء أو في البخل و الإقتار و ربما يكون مقطوع اليد. و حمل الجملة على غير ذلك المعنى، حمل على غير ظاهرها.

ص: 326


1- قد استوفى الشيخ الأستاذ دام ظله الكلام في أقسام التأويل في مقدمة الجزء الخامس من موسوعته القرآنية «مفاهيم القرآن» ص 12-16.
2- شرح أم البراهين، ص 82 - كما في علاقة الإثبات و التفويض، ص 67.

و على ذلك يجب ملاحظة كلام المؤولة، فإن كان تأويلهم على غرار ما تقدّم منا، (تمييز الظاهر الجملي عن الظاهر الإفرادي)، فهؤلاء ليسوا بمؤوّلة، بل هم مقتفون لظاهر الكتاب و السنّة، و لا يصحّ تسمية تفسير الكتاب العزيز - على ضوء القرائن الموجودة فيه - تأويلا، و إنما هو اتباع للنصوص و الظواهر.

و إن كان تأويلهم باختراع معان للآيات من دون أن تكون في الآيات قرائن متصلة دالة عليها، فهم المؤوّلة حقا، و ليس التأويل بأقل خطرا من الإثبات المنتهي إما إلى التجسيم أو إلى التعقيد و الإبهام.

و باختصار، إنّ الذي يجب التركيز عليه هو أنّ الكلية (لزوم الأخذ بالكتاب و السنّة)، أمر مسلّم فيجب على الكل اتباع الذّكر الحكيم من دون أي تحوير أو تحريف، و من دون أي تصرف و تأويل. إنما الكلام في الصغرى، أي تشخيص الظاهر عن غيره إذ به ترتفع جميع التوالي الفاسدة.

و لو أنّ قادة الطوائف الإسلامية و أصحاب الفكر منهم نبذوا الآراء المسبقة و الأفكار الموروثة، و ركّزوا البحث على تشخيص الظاهر من غيره، حسب المقاييس الصحيحة، لارتفع جدال النّاس و نقاشهم حول الصّفات، الذي دار عبر مئات السنين، و الذي لم يكن نابعا إلاّ من إيثار الهوى على الحق.

الخامس - الإجراء بالمفهوم التصديقي

و حقيقة هذه النظرية أنّه يجب الإمعان في مفهوم الآية و مرماها و مفادها التصديقي (لا التصوّري) ثم توصيفه سبحانه بالمعنى الجملي المفهوم منها من دون إثبات المعنى الحرفي للصفات و لا تأويلها.

توضيحه: إنّ للمفردات حكما و ظهورا عند الإفراد، و للجمل المركبة من

ص: 327

المفردات ظهورا آخر. و قد يتحد الظهوران و قد يتخالفان. فلا شك أنك إذا قلت «أسد»، فإنّه يتبادر منه الحيوان المفترس. كما أنّك إذا قلت «رأيت أسدا في الغابة» يتبادر من الجملة نفس ما تبادر من المفرد.

و أما إذا قلت «رأيت أسدا يرمي» فإنّ المتبادر من الأسد في كلامك غير المتبادر منه حرفيا و انفرادا و هو الحيوان المفترس بل يكون حمله عليه، حملا على خلاف الظاهر. و أما حمله و تفسيره بالبطل الرامي عند القتال فهو تفسير للجملة بظاهرها من دون تصرف و تأويل.

و لو سمع عربي صميم قول الشاعر:

لدى أسد شاك السّلاح مجرّب *** له لبد، أظفاره لم تقلّم

فلا يشك في أنّ المراد من الأسد هو البطل المقدام المقتحم لجبهات القتال لا الحيوان المفترس. و كذا لو سمع قول القائل:

أسد عليّ و في الحروب نعامة *** فتخاء تنفر من صفير الصّافر

لا يتردد في نفسه بأنّ المراد هو الإنسان المتظاهر بالشجاعة أمام الضعفاء، الخائف المدبر عند لقاء الأبطال. فلا يصح لنا أن نتّهم من يفسر البيتين بالإنسان الشجاع أو المتظاهر به، بأنه من المؤوّلة. بل هو من المثبتين للمعنى من دون تأويل و لا تحوير.

فالواجب علينا هو الوقوف على المفاد التّصديقي و إثباته للّه سبحانه لا الجمود على المعنى الحرفي التصوري، و إثباته أو نفيه عن اللّه سبحانه. و لو أنّ القوم بحثوا عن مفاد الآيات، مجرّدين عن الآراء المسبقة، لوقفوا على الظّاهر التصديقي و أثبتوه للّه سبحانه من دون أن يكون هناك وصمة تأويل و تصرف أو مغبّة تجسيم و تشبيه.

و لأجل إراءة نموذج من هذا النّمط من البحث نركز على موارد مما وقع

ص: 328

في مجال النقاش بين المثبتين و المؤوّلين، حتى يتّضح أنّ الإثبات بالمعنى الذي يتبناه المثبتون، و التأويل و التصرف على النحو الذي ارتكبه المؤوّلون، غير صحيح و لا تام، بل هناك إثبات مجرد عن التجسيم و الإبهام و التأويل.

ص: 329

ص: 330

1 - عرشه سبحانه و استواؤه عليه

إنّ من صفاته سبحانه كونه مستويا على عرشه. و قد جاء هذا الوصف في كثير من الآيات، فقد ورد لفظ العرش في الذكر الحكيم اثنين و عشرين مرة. كما ورد لفظ «عرشه» مرة وحدة، و الكل راجع إلى عرشه سبحانه إلاّ آيتان هما: قوله سبحانه: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَهٰا عَرْشٌ عَظِيمٌ (1). و قوله سبحانه: وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ (2) كما ورد الاستواء اثنى عشر مرة، و هي - ما عدا ثلاث آيات - راجعة إلى استوائه سبحانه على العرش.

و قد ادعى أهل الحديث و تبعهم الأشعري أنّ الآيات ظاهرة في أنّ له سبحانه عرشا و أنه مستو عليه، غير أنّ الكيف مجهول. و قد أخذ المشبّهة بما ادعاه أهل الحديث من الظاهر من دون القول بكون الكيف مجهولا.

و قد أثارت هذه المسألة في الأوساط الإسلامية ضجيجا و عجيجا بالغين بين الصّفاتية و المؤوّلة. و نحن نقول، لو أنّ الباحثين أمعنوا النّظر في هذه الآيات مجرّدين عن كل ما يحملونه من العقائد الموروثة، لوقفوا على

ص: 331


1- سورة النمل: الآية 23.
2- سورة يوسف: الآية 100.

مفادها، و أنها لا تهدف إلى ما عليه الصفاتية من أنّ له سبحانه عرشا و سريرا ذا قوائم، موضوعا على السماء، و اللّه جالس عليه، و الكيف إمّا معلوم أو مجهول. و لا على ما عليه المؤوّلة من تأويل الآية بمعنى حاجة الآية إلى حملها على خلاف ظاهرها، بل القرائن الموجودة في بعض هذه الآيات تضفي على الآية ظهورا في المعنى المراد من دون مس بكرامة التنزيه و لا تعمّد و تعمّل في التأويل، فالآيات لا تحتاج إلى التأويل أي حملها على معان ليست الآيات ظاهرة فيها.

لا شك أنّ العرش بمعناه الحرفي معلوم لكل أحد بلا شبهة.

قال ابن فارس: «عرش: العين و الراء و الشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك. من ذلك العرش، قال الخليل العرش: سرير الملك. و هذا صحيح، قال اللّه تعالى:

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ . ثم استعير ذلك، فقيل لأمر الرجل و قوامه:

عرش. و إذا زال عنه قيل: ثلّ عرشه. قال زهير:

تداركتما الأحلاف قد ثلّ عرشها *** و ذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل»(1)

كما أنّ الاستواء معلوم لغة فإنّه التمكّن و الاستيلاء التام. قال الرّاغب في مفرداته: «و استوى يقال على وجهين: أحدهما يسند إليه فاعلان فصاعدا. نحو: استوى زيد و عمرو في كذا، أي تساويا. و قال تعالى:

لاٰ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّٰهِ . و الثاني أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته نحو:

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوىٰ ، فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ ، لِتَسْتَوُوا عَلىٰ ظُهُورِهِ ، فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ . و متى عدّي ب «على» اقتضى معنى الاستيلاء كقوله:

اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ »(2).».

ص: 332


1- معجم مقاييس اللغة، ج 4، ص 264.
2- مفردات الراغب، مادة «سوا».

و الذي نركّز عليه هو أنّ الاستواء في الآية ليس ظاهرا في معنى الجلوس و الاعتماد على الشيء، بل المراد هو الاستيلاء و التمكن التام، كناية عن سعة قدرته و تدبيره. و قد استعمل الاستيلاء بهذا المعنى في غير واحد من أبيات الشعر. قال الأخطل يمدح بشرا أخا عبد الملك بن مروان حين ولي إمرة العراق:

ثمّ استوى بشر على العراق *** من غير سيف و دم مهراق(1)

و قال آخر:

فلمّا علونا و استوينا عليهم *** تركناهم صرعى لنسر و كاسر

إنّ المقصود هو استيلاء بشر على العراق و قوم القائل في البيت الثاني على العدو. و ليس العلو هاهنا علوا حسيّا بل معنويا.

إذا عرفت ذلك فنقول، لو أخذنا بالمعنى الحرفي للعرش، كما هو المتبادر من قوله سبحانه: وَ لَهٰا عَرْشٌ عَظِيمٌ (2)، فيجب أن نقول إنّ للّه سبحانه عرشا، كعروش الملوك و السلاطين. و عند ذلك يتمحض المراد من استوائه عليه، بالجلوس عليه متمكّنا.

و أما لو نبذنا هذا المعنى، و قلنا بأنّ المراد من الظاهر هو الظهور التصديقي. و هو المتبادر من مجموع الآية بعد الإمعان في القرائن الحاقة بتلك الجملة، يكون المراد من الآية هو الكناية عن استيلائه على ملكه في الدنيا و الآخرة و تدبيره من دون استعانة بأحد.

و الجمل الواردة في كثير من الآيات الحاكية عن استوائه على العرش تدل3.

ص: 333


1- البداية و النهاية، ج 9، ص 7.
2- سورة النمل: الآية 23.

على أنّ المراد هو الثاني دون الأول، و تثبت بأنّ المقصود بيان قيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دقّ و جلّ ، و أنه سبحانه كما هو الخالق فهو المدبّر أيضا.

و قد استعان - لتبيين سعة تدبيره الذي لا يقف على حقيقته أحد - بتشبيه المعقول بالمحسوس و هو تدبير الملوك و السلاطين ملكهم متكئين على عروشهم و الوزراء محيطون بهم. غير أنّ تدبيرهم تدبير تشريعيّ و تقنينيّ و تدبيره سبحانه تدبير تكوينيّ .

و يدل على أنّ المراد هو ذلك أمران:

الأمر الأول: إنّه سبحانه قد أتى بذكر التدبير في كثير من الآيات بعد ذكر استوائه على العرش. فذكر لفظ التدبير تارة، و مصداقه و حقيقته أخرى.

أمّا ما جاء فيه التدبير بلفظه، فقوله سبحانه:

أ - إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ، مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ، ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ (1).

ب - اَللّٰهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا، ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2).

ج - اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ ، مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ شَفِيعٍ أَ فَلاٰ تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ (3).5.

ص: 334


1- سورة يونس: الآية 3.
2- سورة الرعد: الآية 2.
3- سورة السجدة: الآيتان 4-5.

ففي الآية الأولى يرتّب سبحانه التدبير على قوله: ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ ليكون المعنى «استوى على عرش التّدبير». كما أنّه في الآية الثانية بعد ما يذكر قسما من التدبير و هو تسخير الشمس و القمر يعطي ضابطة كلية لأمر التدبير و يقول: يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ . و على غرار الآية الأولى، الآية الثالثة.

و أما ما جاءت فيه الإشارة إلى حقيقة التدبير من دون تسميته فمثل قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ، تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (1).

فقوله: يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ الآية إشارة إلى حقيقة التدبير و بيان نماذج منه، ثم أتبعه ببيان ضابطة كلية و قال: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ .

أي إليه يرجع الخلق و الإيجاد و أمر التدبير.

و قس على هاتين الطائفتين سائر الآيات. ففي الكل إلماع إلى أمر التدبير إمّا بلفظه أو ببيان مصاديقه، حتى قوله سبحانه: فَإِذٰا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ نَفْخَةٌ وٰاحِدَةٌ * وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبٰالُ فَدُكَّتٰا دَكَّةً وٰاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ اَلْوٰاقِعَةُ * وَ اِنْشَقَّتِ اَلسَّمٰاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وٰاهِيَةٌ * وَ اَلْمَلَكُ عَلىٰ أَرْجٰائِهٰا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمٰانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاٰ تَخْفىٰ مِنْكُمْ خٰافِيَةٌ (2). فالعرش في هذه الآية هو عرش التدبير و إدارة شئون الملك يوم لا ملك إلاّ ملكه. قال تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ (3).

و قال سبحانه: وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ (4).3.

ص: 335


1- سورة الأعراف: الآية 54.
2- سورة الحاقة: الآيات 13-18.
3- سورة غافر: الآية 16.
4- سورة الأنعام: الآية 73.

فهذه الآيات تعبّر عن معنى واحد و هو تصوير سيطرة حكمه تعالى في ذلك اليوم الرهيب. قال سبحانه: أَلاٰ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحٰاسِبِينَ (1).

و قال سبحانه: هُنٰالِكَ اَلْوَلاٰيَةُ لِلّٰهِ اَلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (2).

فالمتدبّر في هذه الآيات يقف على أنها تهدف إلى حقيقة واحدة و هي أنّ خلق السموات و الأرض، لم يعجزه عن إدارة الأمور و تدبيرها، و أما جلوسه على العرش بمعناه الحرفي فليس بمراد قطعا.

الأمر الثاني: إنه قد جاء لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترنا بذكر فعل من أفعاله و هو رفع السموات بغير عمد، أو خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام أو ما يشبه ذلك. فإنّ ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني، بل الاستيلاء و السيطرة على العالم كله. فكما لا شريك له في الخلق و الإيجاد، لا شريك له أيضا في الملك و السلطة. و لأجل ذلك يحصر التدبير بنفسه، كما يحصر الخلق بها و يقول: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (3).

فالجمود على ظهور المفردات و ترك التفكّر و التعمّق، ابتداع مفض إلى صريح الكفر. حتى أنّ من فسّر قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ (4) بأنّ للّه مثلا، و ليس كمثله مثل، وقع في مغبة الشّرك و حبائله.

و الاستناد إلى الأحاديث التي يرويها ابن خزيمة و من تبعه، استناد إلى أمور جذورها من اليهود و النّصارى. و قد عرّف الرازي ابن خزيمة و كتابه المعروف ب «التوحيد» بقوله: «و اعلم أن محمد بن اسحاق ابن خزيمة1.

ص: 336


1- سورة الأنعام: الآية 62.
2- سورة الكهف: الآية 44.
3- سورة الأعراف: الآية 54.
4- سورة الشورى: الآية 11.

أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ في الكتاب الذي سماه ب «التوحيد». و هو في الحقيقة كتاب الشرك، و اعترض عليها. و أنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات لأنه كان رجلا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل»(1).

و لأجل ما في التشبيه و التجسيم، و القول بالقدر و الجبر، من مفاسد لا تحصى، قال الدكتور أحمد أمين:

«و في رأيي لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، و قد اعجزهم التسليم و شلّهم الجبر و قعد بهم التواكل»(2).

أقول: و في رأيي، لو سادت الحرية الفكرية على المسلمين، و تجرد المسلمون عن كل رأي سابق ورثوه من أهل الحديث، و نظروا إلى الكتاب العزيز و تمسكوا بالسنّة الصحيحة المروية عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) عن طريق أهل بيته (عليهم السلام) الذين عرّفهم الرسول في الحديث المتواتر (حديث الثقلين) لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي.

هذا، و على ضوء ما قررنا من الضابطة و الميزان، تقدر على تفسير ما ورد في التنزيل من الوجه و العين و اليدين و الجنب و الإتيان و الفوقية و ما يشابهها، دون أن تمسّ كرامة التنزيه، و من دون أن تخرج عن ظواهر الآيات بالتأويلات الباردة غير الصحيحة. و الإجراء، على النمط التصديقيّ ، لا المعنى الحرفي التّصوريّ .0.

ص: 337


1- تفسير الامام الرازي، ج 27، ص 150.
2- ضحى الإسلام، ج 3، ص 70.

ص: 338

2 - وجهه سبحانه

قد عرفت أنّ الإمام الأشعري قال في كتابه (الإبانة): «بأنّ للّه وجها بلا كيف كما قال: وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (1). و هو يريد بذلك إثبات الوجه للّه سبحانه بمعناه الحرفي و لكن فرارا عن التشبيه يذيله بالبلكفة و يقول «بلا كيف».

و المؤوّلة يعتقدون بلزوم التأويل في الآية و يقولون تأويلها الذات، و لكن ما قالت به المؤوّلة و إن كان صحيحا نتيجة، إلاّ أنّ الآية لا تحتاج إلى التأويل، و إنما تحتاج إليه لو فرضنا أنّ الوجه ظاهر في العضو الخاص. و أما لو كان ظاهرا - بسبب القرينة التي سنذكرها - في ذات الشيء و شخصه، فلا تحتاج إليه، و يكون الظاهر المتبادر هو المتبع.

و الدليل عليه هو أنّ الوجه، كما يأتي بمعنى العضو الخاص، يأتي بمعنى الذات. قال ابن فارس: «ربما عبر عن الذات بالوجه، قال:

استغفر اللّه ذنبا لست محصيه *** ربّ العباد إليه الوجه و العمل»(2).

ص: 339


1- سورة الرحمن: الآية 27.
2- المقاييس، ج 6، ص 88، مادة «وجه».

و لعل وجه التعبير عن الذات بالوجه، أنّ وجه الإنسان أو وجه كل شيء تمام حقيقته عند الناظر، و لأجل ذلك إذا رأى شخص وجه إنسان آخر يقول رأيته، كأنه رأى الذات كلها. و على ذلك فيحتاج حمل اللفظ على واحد من المعنيين الرائجين إلى قرينة، لأن المعنى الثاني بلغ بكثرة الاستعمال إلى حد الحقيقة.

و القرينة تعين المعنى الثاني، حيث وصف الوجه بقوله: ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ و من المعلوم أنّها من صفات الرب، أي ذاته سبحانه، لا من صفات الوجه، أعني الجزء من الكل. و لو كان الوجه هنا بمعنى العضو المخصوص، لوجب أن يجعل «الجلال و الاكرام»، و صفا للربّ (المضاف إليه)، و يقول «ذي الجلال و الاكرام».

و لأجل ذلك نرى أنه سبحانه جعله وصفا للمضاف إليه (الرب) لا المضاف، في آية أخرى و قال سبحانه: تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ ، و من المعلوم أنّ الاسم ليس صاحب هذا الوصف، و إنما صاحبه هو نفس الرب، و سيوافيك توضيح وافر عند البحث عن كونه سبحانه ليس بجسم في الصفات السلبية.

و هناك كلمة مروية عن الرسول الأعظم و هي: «إن اللّه خلق آدم على صورته» فاستدل به المشبهة على أنّ للّه سبحانه صورة و خلق آدم على طبقها. و لكن القوم لو رجعوا إلى أئمة أهل البيت لوقفوا على أنّ الحديث نقل مبتورا، فقد روى الصدوق بسنده عن علي (عليه السلام) قال: «سمع النبيّ رجلا يقول لرجل:

قبح اللّه وجهك و وجه من يشبهك. فقال (صلى اللّه عليه و آله): مه، لا تقل هذا، فإن اللّه خلق آدم على صورته»(1).

أي على صورة هذا الرجل الذي تسبه و تسب من يشبهه و هو آدم.2.

ص: 340


1- التوحيد للصدوق، الباب 12، الحديث 10، ص 152.

و روى أيضا عن الحسين بن خالد أنّه قال للرضا (عليه السلام): «يا ابن رسول اللّه: إنّ الناس يروون أنّ رسول اللّه قال إنّ اللّه خلق آدم على صورته، فقال: قاتلهم اللّه لقد حذفوا أول الحديث: إنّ رسول اللّه مرّ برجلين يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبح اللّه وجهك، و وجه من يشبهك، فقال (صلى اللّه عليه و آله): يا عبد اللّه، لا تقل هذا لأخيك، فإنّ اللّه عز و جل خلق آدم على صورته»(1).3.

ص: 341


1- التوحيد للصدوق، الباب 12، الحديث 11، ص 153.

ص: 342

3 - يده سبحانه

قال الإمام الأشعري: «إنّ للّه سبحانه يدين بلا كيف، كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (1)». و هو يريد حمل اليد على معناها الحرفي و الظهور الإفرادي، و لكن فرارا عن التشبيه يردفه بقوله «بلا كيف».

لا شك أنّ اليد أو اليدين إذا أطلقتا مفردتين، يتبادر منهما العضو الخاص.

و لكن هذا ظهوره الإفرادي، و لا يتّبع إلاّ إذا كان موافقا لظهوره التصديقيّ . و أمّا إذا كانا متخالفين فالمتبع هو الثاني، فربما يكون ظاهرا في غير هذا، و إليك البيان:

1 - ربما يكون ظاهرا في القوة: قال سبحانه: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ (2). و لا شك أنّه ليس المراد منه العضو الخاص، بل المراد هو القوة، كما يقال: «لفلان يد على كذا»، أو يقال «ما لي بكذا يد» قال الشاعر:

فاعمد لما تعلو فمالك بالذي *** لا تستطيع من الأمور يدان

و بهذا الاعتبار شبه الدهر و الريح فجعل لهما اليد، و يقال: «يد الدّهر»

ص: 343


1- سورة ص: الآية 75.
2- سورة ص: الآية 17.

و قال الشاعر «بيد الشمال زمامها»، لما لهما من القوة.

2 - و ربما يكون ظاهرا في النعمة: يقال «لفلان عندي أيادي كثيرة» أي فواضل و إحسان، «و له عندي يد بيضاء» أي نعمة. قال الشاعر: «فإنّ له عندي يديّا و أنعما». فهل يصح أن نحمل اليد في هذين الموضعين على العضو الخاص، و نتهم من فسّرها بالقوة في الموضع الأول، و النعمة في الموضع الثاني، بالتأويل و تحريف الآيات ؟ كلا، لا.

و بذلك يظهر صحة ما قلناه من أنّ المتبع ليس هو الظهور الافرادي بل الظهور التصديقي. أ لا ترى أنّه سبحانه ينسب الخدعة و المكر و النسيان إلى نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله: وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ (1).

و الظهور الإفرادي و المعنى الحرفي لهذه اللفظة (المكر) هو الخدعة، و من المعلوم أنّ الخدعة، وسيلة العاجز، تعالى عنه سبحانه. بينما الظهور التصديقي يمنع من حمله على المعنى الإفرادي، لأنّ الآية و ما يضاهيها وردت من باب المشاكلة، و هو متوفر في كلام العرب و غيرهم. فليس لنا الحمل على المعنى الحرفي بحجة أنّه يجب حمل كلام اللّه على ظاهره، و ليس لنا تأويله و تحريفه. و نحن نقول أيضا، يجب علينا حمل كلام اللّه على ظاهره. لكن ما يدعونه من الظاهر ليس ظاهرا للآية و إنما هو ظاهر كلمة من الآية، و المتبع هو ظهورها التصديقي و الجملي، و هو القوة في الموضع الأول و النعمة في الموضع الثاني.

إذا وقفت على ما ذكرنا، فيجب إمعان النظر في قوله سبحانه: لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فإنّ للمفسرين فيه آراء.

أ - اليد بمعنى القدرة.0.

ص: 344


1- سورة الأنفال: الآية 30.

ب - اليد بمعنى النعمة.

و أورد عليهما أنّ قدرة اللّه واحدة فما وجه التثنية في قوله «بيديّ »؟ كما أنّ نعمه سبحانه لا تحصى، فلما ذا ثنّاها؟.

ج - اليدان بمعنى القدرة و النعمة، و به يرتفع الإشكال المتقدم.

أقول: لو دلت القرائن على أنّ الآية ظاهرة فيما ذكر لوجب الأخذ به، لما عرفت من أنّ المتبع هو الظهور التصديقي لا الإفرادي، و لكن لم تتحقق القرائن عندنا.

د - الحمل على المعنى اللّغوي لكنه كناية عن كونه سبحانه متوليا لخلقه لا غيره، فإنّ أكثر الأعمال التي يقوم بها ذو اليدين، فإنما يباشرها بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما. حتى قيل في عمل القلب «هو مما عملت يداك». و لو سبّ إنسان إنسانا آخر و جزي بعمله، يقال له: «هذا ما قدّمت يداك». حتى قيل لفاقد اليدين: «يداك أوكتا و فوك نفخ». و لأجل ذلك ليس فرق بين قولك: «هذا مما عملته» و «هذا ما عملته يداك». و منه قوله سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا خَلَقْنٰا لَهُمْ مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً فَهُمْ لَهٰا مٰالِكُونَ (1).

و الكل ظاهر في كونه سبحانه هو المتولي للخلقة، و المبدع لا غيره.

إذا عرفت ذلك، يتبين مرمى الآية و هو أنّه سبحانه بصدد التنديد بالشيطان قائلا: بأنك لما ذا تركت السجود لآدم مع انّي توليت خلقه و إيجاده، و أنا أعلم بحاله، و المصالح التي دعت إلى أمرك و أمر الملائكة بالسجود له. فهل استكبرت علي، أم كنت من العالين.

و الدليل على أنّ الخلق باليدين كناية عن توليه سبحانه لخلقه بذاته و شخصه لا1.

ص: 345


1- سورة يس: الآية 71.

عن توليه و تصديه لخلقه بالعضوين، هو أنّ ملاك التنديد إعراض إبليس عن السجود لمصنوعه سبحانه من غير مدخليّة لخلقه بالعضو الخاص (اليد) بحيث لو خلقه بغيرها - و مع ذلك أعرض ابليس عن سجوده - لما توجه إليه لوم.

فالملاك هو الإعراض عن السجود لما قام به سبحانه من الخلق من دون دخالة لأداة الخلقة.

فإن قيل: إذا كان هو المبدع و المتولي لخلق سائر الأناسي، فلما ذا خص خلقه آدم بنفسه ؟ قلنا: إنّ الإضافة و التخصيص لبيان كرامته و فضيلته و شنيع فعل إبليس.

و مثله قوله سبحانه: فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ (1)فتخصيص الإضافة لبيان تشريفه سبحانه، كما يقول: أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ (2).

و مثل ما تقدم، الكلام في قوله سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (3) فهل عند ما نزلت الآية فهم منها السلف الصالح ما ينسبه إليهم ابن تيمية من أنّ المراد هو المعنى اللغوي لكن ليست يده كيد المخلوقات و هي فوق أيدي الصحابة، أو أنهم فهموا أنّ المراد سلطان اللّه و قدرته، بدليل ما فيها من تهديد لمن ينكث، بأنّ مغبّة النكث تعود عليه.

فلو تكاثفت الجهود على تشخيص الظواهر، سواء أ كانت معان حقيقية أم مجازية، لارتفعت جميع التوالي فلا يلزم تمثيل و لا تشبيه، و لا تعطيل و لا تجهيل، و لا تأويل و خروج عن الظواهر، بل كان أخذا بالظواهر بالمعنى المتبادر عند أهل اللغة أجمعين.0.

ص: 346


1- سورة الحجر: الآية 29.
2- سورة البقرة: الآية 125.
3- سورة فتح: الآية 10.

و نحو ذلك لو تدبروا في قوله سبحانه: وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ (1)، لأذعنوا بأنّ المراد من إثبات بسط اليد للّه سبحانه ليس هو البسط الحسي، بل المراد بيان سعة جوده و بذله. كما يذعنون به عند الوقوف على قوله سبحانه: وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (2).

فعندئذ نتساءل: أي فرق بين الآيتين بحيث أن المثبتين للصفات يحملون الآية الأولى على المعنى المتبادر من اليد عند الإفراد، ثم لأجل الفرار من التجسيم يعقبونه بقولهم «بلا كيف». و في الوقت نفسه لا يشك هؤلاء أنفسهم في أنّ المراد من الآية الثانية هو البذل و الجود أو التقتير و البخل ؟!! إلى هنا ظهر أنّ ما تمسكت به الحنابلة و الأشاعرة في مجال إثبات الصفات الخبرية للّه سبحانه، يبتني على التمسك بالظهورات الحرفية و المعاني الإفرادية، غافلين عن أنّ المتبع في المحاورات هو الظهور التصديقي برعاية القرائن المتصلة بالكلام و المفهومة عند العرب سواء أ وافقت المعاني الإفرادية أم لا. و لو مشوا على تلك الضابطة لوقفوا على تنزيهه سبحانه عن إثبات هذه الأعضاء و المعاني له. و قد اكتفينا في هذا المقام بتبيين الألفاظ الثلاثة: العرش و استواؤه عليه، الوجه، اليد. و على ضوء ما بيناه من الضابطة تقدر على تبيين سائر الألفاظ الواردة في الذكر الحكيم و السنّة الصحيحة.9.

ص: 347


1- سورة المائدة: الآية 64.
2- سورة الإسراء الآية 29.

ص: 348

الفهارس العامة

اشارة

فهرس الآيات فهرس الأحاديث فهرس الأشعار فهرس الأعلام و الكنى و الألقاب فهرس الفرق و الديانات و المذاهب فهرس الشعوب و القبائل و الأمم فهرس الأماكن و الوقائع فهرس المحتويات

ص: 349

ص: 350

فهرس الآيات

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 351

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 352

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 353

سورة الأنعام أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُ اَللّٰهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسّٰاعَةُ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * بَلْ إِيّٰاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مٰا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شٰاءَ وَ تَنْسَوْنَ مٰا تُشْرِكُونَ 40 و 137/41 وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا وَ لاٰ حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ 121/59 و 128 أَلاٰ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحٰاسِبِينَ 336/62 وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ 335/73 أَنّٰى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صٰاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ 77/101 لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ 163/103 و 164 أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّٰاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا 94/122 وَ هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ 217/155 سورة الأعراف وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ 255/28 قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوٰاحِشَ 255/33 إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ 215/54 و 335 و 336

ص: 354

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ أَخَذْنٰا أَهْلَهٰا بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 284/94 وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ 285/96 وَ لَقَدْ أَخَذْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 284/130 وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قٰالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قٰالَ لَنْ تَرٰانِي وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تَرٰانِي فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً فَلَمّٰا أَفٰاقَ قٰالَ سُبْحٰانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ 191/143 يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ 255/157 فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 23/176 لَهُمْ قُلُوبٌ لاٰ يَفْقَهُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاٰ يُبْصِرُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ آذٰانٌ لاٰ يَسْمَعُونَ بِهٰا أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ 304/179 سورة الأنفال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ قَتَلَهُمْ وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاٰءً حَسَناً إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 398/17 يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ 94/29 وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ 344/30 سورة التوبة لاٰ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّٰهِ 332/19 إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 225/28 يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ 297/35 وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْكُفّٰارَ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ 294/68 سورة يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ 216/3 و 334 إِنَّ فِي اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ 92/6 وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ 18/61 وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً 201/99 قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ 22/101 و 30 و 92 سورة هود الر كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 228/1 أُولٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ يُضٰاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذٰابُ مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ 303/20 سورة يوسف وَ اَللّٰهُ غٰالِبٌ عَلىٰ أَمْرِهِ 175/21 إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 164/83 وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قٰالَ يٰا أَبَتِ هٰذٰا تَأْوِيلُ رُءْيٰايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهٰا رَبِّي حَقًّا 332/100

ص: 355

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 356

لَقَدْ كٰانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 23/111 سورة الرعد اَللّٰهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ 216/2 و 334 اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثىٰ وَ مٰا تَغِيضُ اَلْأَرْحٰامُ وَ مٰا تَزْدٰادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدٰارٍ 129/8 يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ 121/39 سورة إبراهيم وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ 325/4 وَ قٰالَ اَلشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مٰا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمٰا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ 300/22 سورة الحجر إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ 210/9 فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ 346/29 سورة النحل يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنٰابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 40/11 وَ مٰا ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ 40/13 إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 215/40 وَ لِلّٰهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ 100/60 وَ اَللّٰهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ 40/65 وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنٰابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 40/67 وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ 117/68 ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 40/69 وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 21/78 إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 255/90 سورة الإسراء وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ 121/4 وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً 297/13 وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً 347/29

ص: 357

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 358

وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً 293/33 وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 20/36 تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً 89/44 وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً 130/85 و 229 و 278 وَ لَئِنْ شِئْنٰا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنٰا وَكِيلاً 210/86 قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً 213/88 سورة الكهف هُنٰالِكَ اَلْوَلاٰيَةُ لِلّٰهِ اَلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً 336/44 وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً 143/45 وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً 298/49 و 302 قُلْ لَوْ كٰانَ اَلْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمٰاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنٰا بِمِثْلِهِ مَدَداً 195/109 سورة مريم إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي اَلرَّحْمٰنِ عَبْداً 201/93 سورة طه اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ 324/5 و 326 و 332 رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ 281/50

ص: 359

سورة الأنبياء اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ 1-210/2 لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ 97/22 أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ هٰذٰا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ 97/24 وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً 289/47 سورة الحج مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 90/74 سورة المؤمنون فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ ... 332/28 وَ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا وَ لَدَيْنٰا كِتٰابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ 290/62 مَا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ 97/91 أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ 226/115 و 269 سورة النور اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ 293/2 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ 5/39 وَ اَللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ 77/45 سورة الفرقان وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً 226/2 وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لاٰ يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ 157/58 سورة الشعراء نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ 193-192/194 سورة النمل وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَهٰا عَرْشٌ عَظِيمٌ 331/23 و 333 سورة القصص فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ 192/30 لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ 322/88 سورة العنكبوت وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ 94/69

ص: 360

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 361

سورة الروم يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا 229/7 و 278 فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 290/9 فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ 12/30 ظَهَرَ اَلْفَسٰادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 285/41 سورة لقمان يٰا بُنَيَّ إِنَّهٰا إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّٰهُ 298/16 وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 130/27 و 195 سورة السجدة اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ شَفِيعٍ أَ فَلاٰ تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ 4 و 334/5 اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ 225/7 سورة الأحزاب وَ اَللّٰهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ 202/4 وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً 143/27

ص: 362

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ يَقُولُونَ يٰا لَيْتَنٰا أَطَعْنَا اَللّٰهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ * وَ قٰالُوا رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ * رَبَّنٰا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذٰابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً 66-21/68 سورة سبأ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ 129/3 وَ رَبُّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ 164/21 سورة فاطر يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ 69/15 وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كٰانَ عَلِيماً قَدِيراً 143/44 سورة يس وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ 121/12 أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا خَلَقْنٰا لَهُمْ مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً فَهُمْ لَهٰا مٰالِكُونَ 345/71 إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 172/82 سورة الصافات أَنْ يٰا إِبْرٰاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا 104-200/105 سورة ص وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ 343/17 وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا بٰاطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّٰارِ 226/27 و 269 أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ 255/28 لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 318/75 و 324 و 343 سورة غافر لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ 335/16 سورة فصلت وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ 302/46 سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ 23/53 و 164 سورة الشورى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ 99/11 مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيٰا نُؤْتِهِ مِنْهٰا وَ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ 298/20 وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ 191/51 سورة الزّخرف وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتٰابِ لَدَيْنٰا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ 121/4 لِتَسْتَوُوا عَلىٰ ظُهُورِهِ 332/13 بَلْ قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَ كَذٰلِكَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّٰ قٰالَ مُتْرَفُوهٰا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ 22-20/23 وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ 210/44 سورة الدخان وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ 269/38 سورة الجاثية تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ 217/2 سورة محمد أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا 101/24 وَ اَللّٰهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ 69/38 سورة الفتح يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ 322/10 كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ ... 332/29 سورة ق قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ 121/4 وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ 116/16 سورة الذاريات وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ 88/56

ص: 363

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 364

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 365

سورة الطور وَ كِتٰابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ 2-120/3 أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخٰالِقُونَ 69/35 أَمْ خَلَقُوا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ 70/36 سورة النجم ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوىٰ 332/6 وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنىٰ وَ أَقْنىٰ 69/48 سورة القمر عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ 133/55 سورة الرحمن وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ 318/27 و 339 هَلْ جَزٰاءُ اَلْإِحْسٰانِ إِلاَّ اَلْإِحْسٰانُ 255/60 تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ 83/78 و 340 سورة الواقعة أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ * أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلْخٰالِقُونَ 58-76/59 أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزّٰارِعُونَ 63-76/64 أَ فَرَأَيْتُمُ اَلنّٰارَ اَلَّتِي تُورُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهٰا أَمْ نَحْنُ اَلْمُنْشِؤُنَ 71-76/72 إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ 77-121/78

ص: 366

سورة الحديد سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظّٰاهِرُ وَ اَلْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ * هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ 1-89/5 يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ 89/6 يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ 94/12 اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰانٌ وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ اَلْغُرُورِ 4/20 لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ 289/25 يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 94/28 سورة المجادلة قَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 161/1 و 209

ص: 367

سورة الحشر هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ هُوَ اَلرَّحْمٰنُ اَلرَّحِيمُ * هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ * هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ 22-89/24 سورة الصف فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ 304/5 سورة الطلاق اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً 77/12 سورة الملك لَوْ كُنّٰا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مٰا كُنّٰا فِي أَصْحٰابِ اَلسَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحٰابِ اَلسَّعِيرِ 10-304/11 وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ 204/13 أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ 116/14 سورة القلم أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 35-255/36 يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ * خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كٰانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سٰالِمُونَ 42-305/43 سورة الحاقة فَإِذٰا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ نَفْخَةٌ وٰاحِدَةٌ * وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبٰالُ فَدُكَّتٰا دَكَّةً وٰاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ اَلْوٰاقِعَةُ * وَ اِنْشَقَّتِ اَلسَّمٰاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وٰاهِيَةٌ * وَ اَلْمَلَكُ عَلىٰ أَرْجٰائِهٰا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمٰانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاٰ تَخْفىٰ مِنْكُمْ خٰافِيَةٌ 13-335/18 سورة المزمّل يٰا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ 209/1 سورة المدثر يٰا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ 209/1 إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ قَوْلُ اَلْبَشَرِ 216/25 سورة الدهر هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً 77/1 سورة التكوير عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا أَحْضَرَتْ 298/14 سورة البروج بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ 21 و 120/22

ص: 368

سورة البقرة رقم الآية\الصفحة وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 305/23 وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 304/31 قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ 305/32 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 294/39 كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 305/65 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 300/81 وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 100/115 أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ 346/125 أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ 319/140 وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ * اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ * أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ 155-8/157 و 19 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 31/164 و 55 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 177/185-178 أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/224 وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 164/234 وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 161/244 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ 191/253 اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ 157/255 لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا 302/286 سورة آل عمران فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ 325/7 شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ 289/18 قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ 128/29 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً 298/30 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً 314/97 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً 121/145 وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ 297/180 إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ 22/190 و 92 رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ 278/191 سورة النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً 307/3 إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً 296/10 فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 283/19 يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 202/26 و 225 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 307/129 وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً 191/164 يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ 195/171 وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 164/176 سورة المائدة وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ 347/64

ص: 369

سورة البلد لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ 13/4 أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ * وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ 8-13/10 سورة الشرح فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذٰا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَ إِلىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ 5-283/8 سورة العلق كَلاّٰ إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ * أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىٰ 6-284/7 سورة التكاثر كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ 5-94/6

ص: 370

فهرس الأحاديث

الرسول الأكرم (صلى اللّه عليه و آله الصفحة «إني تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و إنّ اللّطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». ب «إنّ اللّه خمّر آدم بيده». 323 «إنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن». 323 «بني الإسلام على خمس: شهادة إن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، و إقام الصّلاة، و إيتاء الزّكاة، و الحجّ ، و صوم رمضان». 324 أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) «الحمد للّه الدّالّ على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته». 78 «الحمد للّه الواحد الأحد الصّمد المتفرّد الّذي لا من شيء كان، و لا من شيء خلق ما كان». 78 «لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة، و لا من أوائل كانت قبله أبديّة، بل خلق ما خلقه و أتقن خلقه، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته». 78 «لا يجري عليه السّكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه و يعود

ص: 371

فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه». 78 «لم يطلع العقول على تحديد صفته، و لم يحجبها عن واجب معرفته». 88 «علم ما يمضي و ما مضى، مبتدع الخلائق بعلمه و منشؤها بحكمته». 116 «إن اللّه عزّ و جلّ الأين فلا أين له، و جلّ أن يحويه مكان، و هو في كل مكان بغير مماسة، و لا مجاورة. يحيط علما بما فيها، و لا يخلو شيء منها من تدبيره». 120 «لا يعزب عنه عدد قطر السّماء، و لا نجومها و لا سوافي الرّيح في الهواء، و لا دبيب النّمل على الصّفا، و لا مقيل الذّرّ في اللّيلة الظّلماء، يعلم مساقط الأوراق، و خفيّ الأحداق». 130 «الحمد للّه الّذي يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النّينان في البحار الغامرات، و تلاطم الماء بالرّياح العاصفات». 131 «قد علم السّرائر، و خبر الضّمائر، له الإحاطة بكلّ شيء». 131 «فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرّياح برحمته، و وتّد بالصّخور ميدان أرضه». 138 «و أرانا من ملكوت قدرته و عجائب ما نطقت به آثار حكمته». 138 «فأقام من الأشياء أودها، و نهج حدودها، و لاءم بقدرته بين متضادّها». 138 «فأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته و عظيم قدرته». 138 «و البصير لا بتفريق آلة، و الشّاهد لا بمماسّة». 161 «من تكلّم سمع نطقه، و من سكت علم سرّه». 162 «يقول لما أراد كونه كن فيكون، لا بصوت يقرع، و لا بنداء يسمع، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا». 195 و 196 و 215 «يخبر لا بلسان و لهوات، و يسمع لا بخروق و أدوات، يقول و لا يلفظ، و يحفظ و لا يتحفّظ، و يريد و لا يضمر، يحبّ و يرضى من غير رقّة، و يبغض

ص: 372

«و يغضب من غير مشقّة». 196 «قدّر ما خلق فأحكم تقديره». 229 «مبتدع الخلائق بعلمه، و منشئهم بحكمه، بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء لمثال صانع حكيم». 229 «و لا يكوننّ المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء». 246 «ألا إنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عودا، و الرّوائع الخضرة أرقّ جلودا، و النّباتات البدويّة أقوى وقودا و أبطأ خمودا». 283 «التّوحيد ألاّ تتوهّمه، و العدل ألاّ تتّهمه». 290 «و أشهد أنّه عدل عدل، و حكم فصل». 292 «الّذي صدق في ميعاده، و ارتفع عن ظلم عباده، و قام بالقسط في خلقة، و عدل عليهم في حكمه». 292 «الّذي عظم حلمه فعفا، و عدل في كلّ ما قضى». 292 «اللّهمّ احملني على عفوك، و لا تحملني على عدلك». 292 «العمل الصّالح حرث الآخرة». 299 «ألا و إنّ اليوم المضمار، و غدا السّباق، و السّبقة الجنّة، و الغاية النّار، أ فلا تائب من خطيئته قبل منيّته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه، ألا و إنّكم في أيام عمل من ورائه أجل». 307 «و إنّكم في أيام عمل من ورائه أجل». 307 الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) «خلق الخلق فكان بديئا بديعا، ابتدأ ما ابتدع، و ابتدع ما ابتدأ». 78 الإمام محمد الباقر (عليه السلام) «إنّ اللّه تبارك و تعالى كان و لا شيء غيره، نورا لا ظلام فيه، و صادقا لا

ص: 373

كذب فيه، و عالما لا جهل فيه، و حيّا لا موت فيه، و كذلك هو اليوم و كذلك لا يزال أبدا». 158 «إنّه سميع بصير، يسمع بما يبصر، و يبصر بما يسمع». 162 الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) «كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك». 139 «الأشياء له سواء، علما و قدرة و سلطانا و ملكا و إحاطة». 143 «هو تعالى سميع بصير، سميع بغير جارحة، و بصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه و يبصر بنفسه». 162 «العلم ليس هو المشيئة، أ لا ترى أنّك تقول سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول سأفعل كذا إن علم اللّه» 169 «إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه. لم يزل اللّه عالما قادرا ثمّ أراد». 175 «المشيئة محدثة». 177 «هو (القرآن) كلام اللّه، و قول اللّه، و كتاب اللّه، و وحي اللّه، و تنزيله. و هو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد». 219 «أما التوحيد فإن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك، و أمّا العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه». 291 «ما كلّف اللّه العباد كلفة فعل و لا نهاهم عن شيء حتّى جعل لهم الاستطاعة ثمّ أمرهم و نهاهم، فلا يكون العبد آخذا و لا تاركا إلاّ باستطاعة متقدّمة قبل الأمر و النّهي و قبل الأخذ و الترك و قبل القبض و البسط». 313 «الاستطاعة قبل الفعل، لم يأمر اللّه عزّ و جلّ بقبض و لا بسط إلاّ و العبد لذلك مستطيع». 314 «لا يكون من العبد قبض و لا بسط إلاّ باستطاعة متقدّمة للقبض

ص: 374

و البسط». 314 «لا يكون العبد فاعلا إلاّ و هو مستطيع و قد يكون مستطيعا غير فاعل و لا يكون فاعلا أبدا حتّى يكون معه الاستطاعة». 314 في قول اللّه عزّ و جلّ وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ما يعني بذلك ؟.

قال: «من كان صحيحا في بدنه، مخلّى سربه، له زاد و راحلة». 314 «من عرض عليه الحجّ و لو على حمار أجدع مقطوع الذّنب فأبى فهو ممّن يستطيع الحجّ ». 314 الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) «هو القادر الّذي لا يعجز». 143 «إنّ اللّه لا إله إلاّ هو: كان حيا بلا كيف... كان عزّ و جلّ إلها حيّا بلا حياة حادثة، بل هو حيّ لنفسه». 158 قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): يا ابن رسول اللّه، ما تقول في القرآن ؟ فقد اختلف فيه من قبلنا، فقال قوم إنّه مخلوق، و قال قوم إنّه غير مخلوق.

فقال (عليه السلام): «أما إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون، و لكنّي أقول إنّه كلام اللّه». 219 الإمام علي الرضا (عليه السلام) «سبحان من خلق الخلق بقدرته، أتقن ما خلقه بحكمته، و وضع كلّ شيء موضعه بعلمه». 117 «لم يزل اللّه تعالى عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا». 162 «الإرادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يروّي و لا يهمّ و لا يتفكّر،

ص: 375

و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق. فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون بلا لفظ، و لا نطق بلسان، و لا همّة، و لا تفكّر، و لا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له». 176 «القرآن) كلام اللّه لا تتجاوزوه و لا تطلبوا الهدى في غيره، فتضلّوا». 218 قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول اللّه، إنّ النّاس يروون أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم) قال: إنّ اللّه خلق آدم على صورته.

فقال: «قاتلهم اللّه، لقد حذفوا أوّل الحديث، إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم) مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح اللّه وجهك و وجه من يشبهك، فقال (صلى اللّه عليه و آله و سلم): يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ خلق آدم على صورته». 341 الإمام علي الهادي (عليه السلام) «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، عصمنا اللّه و إيّاك من الفتنة فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة و إن لا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السّائل و المجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، و يتكلّف المجيب ما ليس عليه، و ليس الخالق إلاّ اللّه عزّ و جلّ ، و ما سواه مخلوق، و القرآن كلام اللّه، لا تجعل له اسما من عندك فتكون من الضّالّين، جعلنا اللّه و إيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب و هم من السّاعة مشفقون». 219

ص: 376

فهرس الأشعار

الصفحة

بالسّبب العلم بما هو السّبب *** علم بما مسبّب به وجب

115

و قد شبّهوه بخلقه و تخوّفوا *** شنع الورى فتستّروا بالبلكفة

320

لسالك نهج البلاغة انتهج *** كلامه سبحانه الفعل خرج

197

و عالم بغيره إذا استند *** إليه و هو ذاته لقد شهد

115

إنّ آثارنا تدلّ علينا *** فانظروا بعدنا إلى الآثار

29

ألا إنّ ثوبا خيط من نسج تسعة *** و عشرين حرفا عن معانيه قاصر

102

ص: 377

أ تزعم انّك جرم صغير *** و فيك انطوى العالم الأكبر

195

و أنت الكتاب المبين الّذي *** بأحرفه يظهر المضمر

195

أسد عليّ و في الحروب نعامة *** فتخاء تنفر من صفير الصّافر

328

فلمّا علونا و استوينا عليهم *** تركناهم صرعى لنسر و كاسر

333

إن تدر هذا حمد الأشياء تعرف *** إن كلماته إليها تضف

197

ثمّ استوى بشر على العراق *** من غير سيف و دم مهراق

333

ألا كلّ شيء ما سوى اللّه باطل *** و كلّ نعيم لا محالة زائل

53

معطي الوجود في الإلهي فاعل *** معطي التحرّك الطّبيعي قائل

76

إنّ الكلام لفي الفؤاد و إنّما *** جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

205

تداركتما الأخلاق قد ثلّ عرشها *** و ذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل

332

أستغفر اللّه ذنبا لست محصيه *** ربّ العباد إليه الوجه و العمل

339

ص: 378

و كم من عائب قولا صحيحا *** و آفته من الفهم السّقيم

ط

ما ليس موزونا لبعض من نغم *** ففي نظام الكلّ كلّ منتظم

275

لدى أسد شاك السّلاح مجرّب *** له لبد، أظفاره لم تقلّم

328

فاعمد لما تعلو فما لك بالّذي *** لا تستطيع من الأمور يدان

343

ص: 379

ص: 380

فهرس الاعلام و الكنى و الألقاب

(حرف الألف) آدم (عليه السلام): 304، 323، 340، 345، 346 ابن خلدون: د ابن أبي العوجاء: د ابن خزيمة: 82، 336 ابن سينا: 102، 138، 237، 238، 239، 279 ابن ميثم البحراني: 124 ابن منظور: 133 ابن أبي ليلى: 208 ابن تيمية: 87، 209، 321، 322، 325 ابن المرتضى: ه ابن عساكر: ه ابن الراوندي: 313 ابن كثير: 318 ابن الجوزي: 322 ابن فارس: 332، 339 ابن أبي الحديد: 291 ابو الحسن الندوي: 99 ابو حنيفة: 208، 318 ابو علي بن سالم: 218 ابو بصير: 313، 314 ابو يعلى (الفقيه الحنبلي): 322 ابو زهرة: 321، 322 ابو الحسن الاشعري: ه، 82، 205، 206، 208، 212، 213، 215-217، 249-251، 263،

ص: 381

291، 302، 308، 312، 313، 318، 320، 321، 323، 331، 339، 343 إبراهيم (عليه السلام): 200 ابليس: 346 احمد أمين: 337 أحمد بن أبي دؤاد: 220 أحمد بن حنبل: ب، 82، 205-207، 220 إدوين كونكلين: 42 ارسطو: 74، 274 اسماعيل (عليه السلام): 200 امرؤ القيس: 194، 207، 217 الأخطل: 333 (حرف الباء) برتراند راسل: 70 بشر (أخو عبد الملك بن مروان): 333 البلخي: 140، 148 (حرف التاء) التفتازاني: 312 (حرف الجيم) جبرئيل: 193 الجرجاني: 193، 199، 212 (حرف الحاء) حسن الصدر: ه حسن مكي: ي الحسين بن خالد: 341 الحلي (العلاّمة): 140، 149، 266، 288 حماد بن عجرد: د (حرف الخاء) (الخليل (بن احمد الفراهيدي): 332 (حرف الدال) الداماد: 640 ديفيد هيوم: 55، 56، 58، 59، 274 ديكارت: 110 (حرف الراء) الرازي (فخر الدين): 225، 226، 324، 336 الراغب: 133، 332 الريان بن الصلت: 218 (حرف الزاي) الزمخشري: 320

ص: 382

زهير: 332 (حرف السين) السبزواري: 76، 115، 197، 240، 274، 275 سفيان بن عيينة: 87 سليمان بن جعفر الجعفري: 219 سليمان بن خالد: 314 السيوري: 288 سيف الدين الآمدي: 253 (حرف الشين) الشافعي: 318 الشهرستاني: 317، 324 الشيطان: أ، 300، 345 (حرف الصاد) صدر المتألهين: 67، 74، 83، 115، 168، 178، 179، 180، 270، 274، 313 الصدوق: 158، 162، 218، 219، 291، 294، 313، 340 صفوان بن يحيى: 2176L(حرف الطاء) الطباطبائي: 67، 98، 163، 172، 195، 295 الطحاوي: 208 (حرف العين) عاصم بن حميد: 175 عبد اللّه بن المقفع: د عباد بن سليمان الصيمري: 140، 147 عبد الجبار (القاضي): 193، 207 علي بن سالم: 218 عيسى بن مريم: 190، 194، 195 عبد السلام بن محمد الجبائي: 140، 150 (حرف الغين) الغزالي: 226، 322، 323 (حرف الفاء) الفردوسي: 35 الفضل بن روزبهان: 198، 203، 215، 247، 266 فيلون: 55

ص: 383

(حرف القاف) القوشجي: 127، 198، 222، 245، 254، 312 (حرف الكاف) كرسي موريسون: 54 الكليني: 177 كلثانتس: 55 كلودم هزاوي: 41 (حرف اللام) اللاهيجي: 236 لقمان: 298 (حرف الميم) المأمون: 190، 205، 206، 220 مالك: 87 المتوكل: 190، 218، 220 محمد بن مكي: ك محمد فريد وجدي: 99 محمد بن مسلم: 177 محمد بن أبي عمير: 314 محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني: 219 محمد عبده: 209 مريم (عليها السلام): 190، 194، 195 المرتضى: د مطيع بن اياس: د المفيد: 294 موسى (عليه السلام): 192، 193، 206 مير حامد حسين الهندي: ب (حرف النون) النّجار: 248، 313 النظّام: 139، 146، 147، 248 (حرف الهاء) هشام بن سالم: 313 هشام بن الحكم: 314 (حرف الواو) الواثق باللّه: 205 وليم كروكش: 278 ويل ديورانت: 9 (حرف الياء) يحيى بن زياد: د يوحنا الدمشقي: 190

ص: 384

فهرس الفرق و الديانات و المذاهب

أئمة أهل البيت: 169، 175، 191، 218، 313، 314، 337، 340 الإسلام: ج، د، 21، 22، 23، 29، 139، 140، 219، 259، 319 الاشاعرة: 98، 190، 191، 197، 199، 204، 205، 207، 209، 210، 211، 213، 215، 221، 222، 223، 232، 233، 234، 235، 248، 252، 253، 254، 257، 258، 263، 264، 265، 267، 269، 270، 302، 309، 311، 312، 319، 323، 347 الإمامية: 98، 190، 191، 294 أهل الحديث: ه، 82، 85، 98، 99، 190، 205، 206، 209، 211، 213، 269، 309، 331، 337 أهل السنة: 82 البراهمة: 235، 246 الثنوية: ه، و، 140، 142، 143، 274، 279 الجهمية: 82، 207 الحنابلة: ه، 82، 98، 190، 191، 205، 207، 217، 218، 220، 309، 321، 323، 347 الشحوية: ه، 82، 317 الخابطية: 82 السوفسطائية: 312 الضرارية: 82 العدلية: ن، 191، 222، 231، 233، 234، 235، 251، 258، 265، 311 الفقهاء: 205، 206، 220

ص: 385

الفلاسفة (الحكماء): ز، 55، 67، 69، 71، 90، 102، 107، 115، 122، 134، 140، 142، 143، 157، 168، 194، 196، 197، 205، 237، 240، 241، 244، 258، 264، 270، 280، 304 الكرّامية: 212 الكلابية: 190 الكفار (الكافرون): 21، 202، 203، 294 المتكلمون: ز، ه، 90، 115، 134، 163، 171، 181، 205، 206، 212، 221، 237، 244، 257، 302، 304، 317 المجبرة (الجبرية): 82 الماتريدية: 263 الماركسيون: 14، 24، 39 المجسمة و المشبهة: 317، 320، 331، 340 المجوسية: د، المسلمون: ج، د، ه، 81، 139، 189، 190، 192، 214، 217، 221، 225، 261، 317، 337 المسيحية: د، ه، 81 المشركون: 90، 97، 212، 217، 306 المعتزلة: 82، 98، 139، 140، 143، 165، 190، 191، 192، 202، 205، 207، 209، 220، 222، 263، 290، 291، 312، 313، 326، 337 الملاحدة: د، ه، و، 246 الملكانية: 81 المؤولة: 319، 323، 327، 328، 329، 331، 332، 339 النجارية: 82، 607 النسطورية: 81 النصرانية: 319 النصارى: 190، 291، 336 النظامية: 82 الهزيلية: 82 الواصلية: 82 اليعقوبية: 81 اليهودية: د، ه، 319

ص: 386

فهرس الشعوب و القبائل و الأمم

الرومان (أهل الروم): ج.

العرب: 344، 347.

الفرس: ج.

اليونانيون: ج.

اليهود: 336، 347.

ص: 387

ص: 388

فهرس الأماكن و الوقائع

استراليا: 44، 45 ايران ج.

البصرة: 118.

الجنة: 146، 295.

الشام: ج، ك.

العراق: 333.

ص: 389

المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه : سبحانی تبریزی ، جعفر، ‫ 1308 -

عنوان و نام پديدآور : ‫الالهیات علی هدی الکتاب والسنه والعقل ‫/ محاضرات جعفر السبحانی ‫؛ بقلم حسن محمد مکی العاملی .

مشخصات نشر : ‫قم ‫: موسسه الامام الصادق (ع) ‫، 1423 ق. ‫= 1381.

مشخصات ظاهری : ‫4ج.

شابک : ‫160000ریال ‫: دوره ‫ 964-357-054-1 : ؛ ‫ج.2 ‫ 964-357-055-X : ؛ ج.3 ‫ 964-357-056-8 : ؛ ج.4 ‫ 964-357-057-6 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ قبلی : المرکزالعالمی للدراسات الاسلامیه ، 1369.

يادداشت : ‫ج. 1 و 2 (چاپ هفتم: 1430 ق.= 1388).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14

شیعه امامیه -- عقاید

شناسه افزوده : مکی عاملی ، حسن

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP211/5 ‫ /س 18‮الف 7 1381

رده بندی دیویی : ‫ 297/4172

شماره کتابشناسی ملی : م 82-15822

اطلاعات رکورد کتابشناسی : ركورد كامل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

تتمة الفصل الثالث

الباب الرابع الصفات السلبية

اشارة

ص: 5

ص: 6

جرت عادة الإلهيين على تقسيم صفات اللّه تعالى الذاتية إلى قسمين:

صفات ثبوتية و صفات سلبية، و إن شئت قلت: صفات الجمال و الإكرام، و صفات الجلال و التنزيه.

و تهدف الأولى منها إلى توصيفه تعالى بما يعد كمالا للموصوف، و جمالا له، كالعلم و القدرة و الحياة و الاختيار.

و تهدف الثانية إلى تنزيهه سبحانه عن النقص و العيب. و قد تقدم منّا في أوائل البحث عن الصفات، أن مجموع صفاته الثبوتية ترجع إلى وصف واحد و هو كونه متّصفا بكل كمال يعد كمالا للموجود، بما هو موجود. و أن ما يذكر في مقام العدّ من العلم و القدرة الخ..... فهو من باب بيان المثال، و لا تنحصر بما عدوّه. كما أن مجموع الصفات السلبية التي ستتلى عليك إنشاء اللّه ترجع إلى أمر واحد و هو تنزيهه عن كل نقص و عيب. و ما يذكر من تلك الصفات من نفي الشريك و التركيب الخ..... فهو من باب المثال و إعطاء النموذج من تلك السّلوب. و كأنّ الموحّد لا يخرج عن إطار التوحيد حتى في مقام بيان صفاته، فيصفه بوصف واحد جامع لكل الكمالات، كما يسلب

ص: 7

عنه كل ما يتصور من النقص و العيب بسلب واحد جامع لجميع السلوب.

ثم إنّ بعض المتكلمين أرجع صفاته الثبوتية إلى السلبية أيضا و قال إنّ معنى قولنا إنه عالم، أنّه ليس بجاهل. و إنه قادر، أنّه ليس بعاجز، و كذا باقي الصفات. محتجا بأن المعقول لنا من صفاته ليس إلاّ السلوب و الإضافات. و أما كنه ذاته و صفاته فمحجوب عن نظر العقول، و لا يعلم ما هو إلاّ هو.

و هذا صحيح عند لحاظ عجز البشر عن معرفة اللّه سبحانه، و لكن إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية على خلاف ما ورد في الذكر الحكيم فإنه سبحانه يصف نفسه بصفات ثبوتية، كما يصف نفسه بصفات سلبية.

يقول سبحانه: هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ * هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (1).

فإن بعض ما جاء في هاتين الآيتين و إن كان من صفات الفعل، غير أنّ بعضها الآخر من صفات الذات، و الكل نحو إثبات له سبحانه، و إرجاعها إلى السلوب لا يخلو من تكلّف. نعم له سبحانه صفات سلبية بلا شك.

و يكفي في ذلك قوله: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (2).

فإذا وقفت على أنّ الصفات السلبية ليس لها حد و لا عد مصداقا، فلنشرع ببيان المصاديق البارزة منها، و أهمها مسألة نفي الشريك عنه و يعبّر عنها بالتوحيد.

ص: 8


1- سورة الحشر: الآيتان 23 و 24.
2- سورة الاخلاص: الآيتان 3 و 4.

الصفات السلبية

(1) التوحيد
اشارة

يحتل التوحيد، بمراتبه المختلفة، المكانة العليا في الشرائع السماوية، فإنّ أتباعها لا يختلفون في الصفات الثبوتية الذاتية اختلافا بارزا يفرّقهم و يبددهم إلى مذاهب و طوائف، فإنّ الكل يعتقد بعلم الإله و قدرته و حياته إلى غير ذلك من الصفات الكمالية، و إن اختلفوا في تفاصيلها، و أما الصفات السلبية التنزيهية فهي، بتمام معنى الكلمة، مفترق الطرق، منها تتكون المذاهب و تتشعب.

و هذه هي الديانات البراهمانيّة و البوذيّة و الهندية و المجوسية و المسيحية ترجع أصول اختلافها إلى مسألة التوحيد بشعبه التي ستقف عليها، فليست الثنوية إلاّ وليدة رفض التوحيد عن معترك العقائد و الاعتقاد بإله غير واحد.

و لأجل ذلك يجب على الإلهي التركيز على الصفات السلبية أكثر من الثبوتية، و بين الصفات السلبية التركيز على التوحيد أكثر من غيره. و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعرف هدف بعثة الأنبياء و إرسالهم، بالتركيز على صورة من صور التوحيد و هو التوحيد في العبادة: قال سبحانه: وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ (1).

ص: 9


1- سورة النحل: الآية 36.

و على ضوء هذا الأصل، ترى البحث في المقام مترامي الأطراف، واسع النطاق، و قد فصّلنا ما يرجع إلى التوحيد عما يرجع إلى غيره من الصفات السلبية حتى يقف الباحث على شعب التوحيد و أصنافه مستمدا من الكتاب العزيز و الأحاديث الإسلامية و العقل.

ص: 10

التوحيد في الذات
(1) واحد: ليس له نظير و لا مثيل
اشارة

إنّ من أبرز صفاته تعالى أنه تعالى واحد لا ثاني له، و هذا هو المصطلح عليه في ألسنة المتكلمين بالتوحيد الذاتي، يهدفون به نفي أي مثل له. و ربما يطلق التوحيد الذاتي على كونه سبحانه واحدا بمعنى أنّه بسيط لا جزء له. و لأجل التفريق بين هذين التوحيدين الذاتيين يعبرون عن الأول، بالتوحيد الواحدي، مشيرين إلى أنه لا ثاني له، و عن الثاني بالتوحيد الأحدي، مشيرين به إلى أنه تعالى لا جزء له. و قد أشار سبحانه إليهما في سورة (الإخلاص) فقال في صدر السورة قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ هادفا إلى أنه بسيط لا جزء له و قال في ختامها: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ بمعنى لا ثاني له و قد فسرت الآيتان على النحو الذي ذكرناه دفعا للزوم التكرار. و نحن نبحث عن كل قسم من التوحيدين في فصل خاص، و هذا الفصل مختص بالقسم الأول منهما.

ثم إنّه ربما يستعمل في هذا المقام «نفي الشّريك»، و لكنه أخص مما نتبناه، فإنه يهدف إلى تنزيهه سبحانه عن وجود شريك له في الخلق و التدبير و العبادة، مع أنّ البحث أوسع من ذلك، لأنه مركز على أنّه سبحانه واحد لا ثاني له (يمتنع تثنّيه)، سواء أ كان هناك خلق أم لا، أ كان هناك تدبير أم

ص: 11

لا، أ كانت هناك عبادة أم لا. و التوحيد في هذه المراحل الثلاث: الخلق و التدبير و العبادة، متأخر عن التوحيد الذاتي، بمعنى أن ذاته واحدة لا ثاني لها.

و قد استدل الإلهيون على توحيد وجوده ببراهين عقلية واضحة، كما أنه تعالى وصف نفسه في الذكر الحكيم بهذا الوصف مقترنا بالبرهان العقلي و نحن نكتفي من البراهين بأخصرها و أوضحها و لا نستقصيها جميعا، و نقدم البحث عن معنى كونه واحدا.

معنى كونه واحدا

الوحدة على قسمين:

1 - الوحدة العددية، و هي عبارة عن كون شيء واقعا تحت مفهوم عام وجد منه مصداق واحد، و ذلك مثل مفهوم الشمس الذي هو مفهوم وسيع قابل للانطباق على كثير، غير أنه لم يوجد في عالم الحسّ منه إلاّ مصداق واحد مع إمكان وجود مصاديق كثيرة له. و هذا هو المصطلح عليه ب «الواحد العددي».

2 - الوحدة الحقيقية، و هي عبارة عن كون الموجود لا ثاني له، بمعنى أنه لا يقبل الاثنينية، و لا التكثّر و لا التكرر. و ذلك كصرف الشيء المجرد عن كل خليط. مثلا: الوجود المطلق عن كل قيد، واحد بالوحدة الحقة، لأنّه لا ثاني له. لأن المفروض ثانيا - بما أنه لا يتميز عن الأول - لا يمكن أن يعد شيئا آخر، بل يرجع إلى الوجود الأول.

و على ضوء ذلك، فالمراد من كون الشمس واحدة هو أنها واحدة لا اثنتان و لا ثلاثة و لا... و لكن المراد، من كون الوجود المطلق، - منزها عن كل قيد - واحد، أنه لا ثاني له و لا مثيل و لا شبيه و لا نظير، أي لا تتعقل له الاثنينية و الكثرة لأن ما فرضته ثانيا، بحكم أنه منزه عن كل قيد و خليط يكون مثل الأول، فلا يتميز و لا

ص: 12

يتشخص، فلا يكون متحققا، لأن الكثرة رهن دخول شيء مغاير في حقيقة الشيء. مثلا: البياض بما هو بياض، لا يتصور له الاثنينية، إلاّ إذا دخل فيه شيء غيره، كتعدد المحل، فيتعدد البياض، و لو لا ذلك لصار البياض صرف الشيء، و هو غير قابل للكثرة. يقول الحكيم السبزواري في هذا الصدد:

و ما له تكثّر قد حصلا *** ففيه ما سواه قد تخلّلا

إنّ الوجود ما له من ثان *** ليس قرى وراء عبّادان(1)

و المراد من كونه سبحانه واحدا، هو الواحد بالمعنى الثاني، أي ليس له ثان، و لا تتصور له الاثنينية و التعدد.

و لأجل ذلك يقول سبحانه في تبيين هذه الوحدة: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ، أي واحد لا نظير له.

و العجب إنّ الإمام أمير المؤمنين عليا (عليه السّلام) قام بتفسير كونه تعالى واحدا، عند ما كان بريق السيوف يشد إليه العيون، و ضربات الطرفين تنتزع النفوس و الأرواح في معركة (الجمل)، فأحس (عليه السّلام) بأنّ تحكيم العقيدة و صرف الوقت في تبيينها لا يقصر في الأهمية عن خوض المعارك ضد أهل الباطل:

روى الصدوق أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال: «يا أمير المؤمنين أ تقول إنّ اللّه واحد، قال فحمل الناس عليه، و قالوا: يا أعرابي أ ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب، فقال أمير المؤمنين: دعوه، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم»... ثم قال شارحا ما سأل عنه الأعرابي: «و قول القائل واحد، يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له، لا يدخل في باب الأعداد، أ ما ترى أنّه كفر من قال «ثالث ثلاثة»».

ص: 13


1- شرح المنظومة، ص 333.

ثم قال: «معنى هو واحد: أنّه ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا. و قول القائل إنه عز و جل أحديّ المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربنا عز و جل»(1).

فالإمام (عليه السّلام) لم يكتف ببيان المقصود من توصيفه سبحانه بأنه واحد، بل أشار إلى معنى آخر من معاني توحيده و هو كونه أحديّ الذات، الذي يهدف إلى كونه بسيطا لا جزء له في الخارج و الذهن. و هذا المعنى هو الذي نطرحه على بساط البحث في القسم الثاني من التوحيد الذاتي.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان البراهين العقلية على توحيده سبحانه بمعنى كونه واحدا لا ثاني له.

أدلة الوحدانية
1 - التعدد يستلزم التركيب

لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود، فلا بد من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك، كما هو الحال في كل مثلين. و ذلك يستلزم تركب كل منهما من شيئين: أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك، و الآخر إلى ما به الامتياز. و المركب بما أنه محتاج إلى أجزائه لا يكون متصفا بوجوب الوجود، بل يكون - لأجل الحاجة - ممكنا، و هو خلاف الفرض.

و باختصار، لو كان في الوجود واجبان للزم إمكانهما و ذلك أنهما يشتركان في وجوب الوجود فإن لم يتميزا لم تحصل الاثنينية، و إن تميزا لزم تركب كل واحد منهما مما به المشاركة و ما به الممايزة، و كل مركب ممكن، فيكونان ممكنين، و هذا خلاف الفرض.

ص: 14


1- توحيد الصدوق، ص 83-84.
2 - الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدد

هذا البرهان مؤلف من صغرى و كبرى. و النتيجة هي وحدة الواجب و عدم إمكان تعدده. و إليك صورة القياس حتى نبرهن على كل من صغراه و كبراه.

وجود الواجب غير متناه.

و كل غير متناه واحد لا يقبل التعدد.

فالنتيجة: وجود الواجب واحد لا يقبل التعدد.

و إليك البرهنة على كل من المقدمتين.

أما الصغرى: فإنّ محدودية الموجود ملازمة لتلبّسه بالعدم. و لأجل تقريب هذا المعنى، لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص، فإنك إذا نظرت إلى أي طرف من أطرافه ترى أنه ينتهي إليه و ينعدم بعده. و لا فرق في ذلك بين صغير الموجودات و كبيرها، حتى أنّ جبال الهملايا مع عظمتها، محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حده. و هذه خصيصة كل موجود متناه زمانا أو مكانا أو غير ذلك.

فالمحدودية و التلبس بالعدم متلازمان.

و على هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذاته سبحانه محدودة، لأن لازم المحدودية الانعدام بعد الحد كما عرفت، و ما هو كذلك لا يكون حقا مطلقا مائة بالمائة، بل يلابسه الباطل و الانعدام. مع أنّ اللّه تعالى هو الحق المطلق الذي لا يدخله باطل. و القرآن الكريم يصف وجوده سبحانه بالحق المطلق و غيره بالباطل و ما هذا إلا لأنّ وجود غيره وجود متلبس بالعدم و الفناء و أما وجود اللّه تعالى فطارد لكل عدم و بطلان. قال عزّ من قائل: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (1).

و بتقرير آخر: إنّ عوامل المحدودية تتمحور في الأمور التالية:

ص: 15


1- سورة الحج: الآية 62.

1 - كون الشيء محدودا بالماهية و مزدوجا بها. فإنها حد وجود الشيء.

و الوجود المطلق بلا ماهية غير محدّد و لا مقيد. و إنما يتحدد بالماهية.

2 - كون الشيء واقعا في إطار الزمان، فهذا الكم المتصل (الزمان) يحدد وجود الشيء في زمان دون آخر.

3 - كون الشيء في حيز المكان، و هو أيضا يحدد وجود الشيء و يخصه بمكان دون آخر.

و غير ذلك من أسباب التحديد و التضييق. و اللّه سبحانه وجود مطلق غير محدد بالماهية إذ لا ماهية له، كما سيوافيك البحث عنه. كما لا يحويه زمان و مكان. فتكون عوامل التناهي معدومة فيه، فلا يتصور لوجوده حد و لا قيد و لا يصح أن يوصف بكونه موجودا في زمان دون آخر أو مكان دون آخر. بل وجوده أعلى و أنبل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.

و أما الكبرى: فهي واضحة بأدنى تأمل، و ذلك لأن فرض تعدد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهيا من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. و لا يقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميزا عن الآخر، و التّميّز يستلزم أن لا يوجد الأول حيث يوجد الثاني، و كذا العكس. و هذه هي «المحدودية» و عين «التناهي»، و المفروض أنه سبحانه غير محدود و لا متناه.

و اللّه سبحانه لأجل كونه موجودا غير محدود، يصف نفسه في الذكر الحكيم ب اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (1). و ما ذلك إلا لأن المحدود المتناهي مقهور للحدود و القيود الحاكمة عليه. فإذا كان قاهرا من كل الجهات لم تتحكم فيه الحدود، فكأن اللامحدودية تلازم وصف القاهرية، و قد عرفت أنّ

ص: 16


1- سورة الرعد: الآية 16.

ما لا حدّ له يكون واحدا لا يقبل التعدد. فقوله سبحانه، و هو الواحد القهار، من قبيل ذكر الشيء مع البينة و البرهان.

قال العلامة (الطباطبائي): «القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإله جلّ ذكره، فإن هذه الوحدة لا تتم إلاّ بتميّز هذا الواحد، من ذلك الواحد، بالمحدودية التي تقهره. مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماء كلّ إناء ماء واحدا غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، و إنما صار ماء واحدا يتميّز عما في الآخر لكون ما في الآخر مسلوبا عنه، غير مجتمع معه، و كذلك هذا الإنسان إنما صار إنسانا واحدا لأنه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، و هذا إن دلّ فإنما يدل على أنّ الوحدة العددية إنما تتحقق بالمقهورية و المسلوبية أي قاهرية الحدود، فإذا كان سبحانه قاهرا غير مقهور و غالبا لا يغلبه شيء لم تتصور في حقه وحدة عددية، و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عند ما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلا على الأولى - قال سبحانه:

أَ أَرْبٰابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (1) ، و قال: وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاَّ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (2) و قال: لَوْ أَرٰادَ اَللّٰهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفىٰ مِمّٰا يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ ، سُبْحٰانَهُ هُوَ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (3).

و باختصار: إنّ كلاّ من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة، مقهور بالحد الذي يميز الفرد عن الآخر و النوع عن مثله، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء و هو القاهر فوق كل شيء فليس بمحدود في شيء، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حق لا يعرضه بطلان، و حي لا يخالطه موت، و عليم لا يدبّ

ص: 17


1- سورة يوسف: الآية 39.
2- سورة ص: الآية 65.
3- سورة الزمر: الآية 4.

إليه جهل، و قادر لا يغلبه عجز، و عزيز لا يتطرق إليه ظلم، فله تعالى من كل كمال محضه»(1).

و من عجيب البيان ما نقل عن الإمام الثامن (علي بن موسى الرضا) (عليه السّلام) في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء و قال في ضمن تحميده سبحانه:

ليس له حدّ ينتهي إلى حدّه، و لا له مثل فيعرف مثله(2).

ترى إنّ الإمام (عليه السّلام) بعد ما نفى الحد عن اللّه، أتى بنفي المثل له سبحانه، لارتباط و ملازمة بين اللامحدودية و نفي المثيل، و التقرير ما قد عرفت.

3 - صرف الوجود لا يتثنى و لا يتكرر

إنّ هذا البرهان مركب من صغرى و كبرى على الشكل التالي:

اللّه سبحانه وجود صرف.

و كل وجود صرف واحد لا يتثنّى و لا يتكرّر.

فالنتيجة: اللّه سبحانه واحد لا يتثنّى و لا يتكرّر.

أما الصغرى فإليك بيانها:

أثبتت البراهين الفلسفية أنّه سبحانه منزّه عن الماهية التي تحد وجوده. و تحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول: كل ما يقع في أفق النظر من الموجودات الإمكانية فهو مؤلف من وجود هو رمز عينيته

ص: 18


1- الميزان، ج 6، ص 89/88 - بتلخيص.
2- توحيد الصدوق، ص 33.

في الخارج، و ماهية تحد الوجود و تبين مرتبته في عالم الشهود و الخارج.

مثلا: الزّهرة الماثلة أمام أعيننا، لها وجود به تتمثل أمام نظرنا، و لها ماهية تحددها بحد النباتية، و تميزها عن الجماد و الحيوان. و لأجل ذلك الحد نحكم عليها أنها قد ارتقت من عالم الجماد و لم تصل بعد إلى عالم الحيوان. و بذلك تعرف أن واقعية الماهية هي واقعية التحديد. هذا من جانب.

و من جانب آخر، الماهية إذا لوحظت من حيث هي هي، فهي غير الوجود كما هي غير العدم. بشهادة أنها توصف بالأول تارة و بالثاني أخرى و يقال: النبات موجود، كما يقال: غير موجود. و هذا يوضح أن مقام الحد و الماهية مقام التخلية عن الوجود و العدم، بمعنى أن الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عاريا عن كل من الوجود و العدم. ثم يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما. و أما وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود و لا معدوم فلأجل أنه لو كان في مقام الذات و الماهية موجودا - سواء أ كان الوجود جزءه أو عينه - يكون الوجود نابعا من ذاته، و ما هذا شأنه يكون واجب الوجود، يمتنع عروض العدم عليه. كما أنه لو كان في ذلك المقام معدوما - سواء أ كان العدم جزءه أو عينه - يكون العدم نفس ذاته، و ما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود. فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود و العدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خاليا عن كلا الأمرين حتى يصح كونه معروضا لأحدهما. و إلى هذا يهدف قول الفلاسفة: «الماهية من حيث هي هي لا موجودة و لا معدومة». و مع هذا كلّه فهي في الخارج لا تخلو إما أن تكون موجودة أو معدومة. فالنبات و الحيوان و الإنسان في خارج الذهن لا تفارق أحد الوصفين. و بهذا تبين أنّ اتصاف الماهية بأحد الأمرين يتوقف على علة، لكن اتصافها بالوجود يتوقف على علة موجودة، و يكفي في اتصافها بالعدم، عدم العلة الموجودة. فاتصاف الماهيات بالأعدام الأزلية

ص: 19

خفيف المئونة، بخلاف اتصافها بالوجود فإنه رهن وجود علة حقيقية خارجية.

و على ضوء هذا البيان يتضح أنه سبحانه منزّه عن التحديد و الماهية و إلاّ لزم أن يحتاج في اتصاف ماهيته بالوجود إلى علة(1). و ما هذا شأنه لا يكون واجبا بل يكون ممكنا. و هذا يجرّنا إلى القول بأنه سبحانه صرف الوجود المنزه عن كل حد.

و أما الكبرى فإليك بيانها:

إن كل حقيقة من الحقائق إذا تجردت عن أي خليط و صارت صرف الشيء لا يمكن أن تتثنّى و تتعدد، من غير فرق بين أن تكون صرف الوجود أو تكون وجودا مقرونا بالماهية كالماء و التراب و غيرهما. فإنّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عاريا عن كل شيء سواه لا يتكرر و لا يتعدد. فالماء بما هو ماء، لا يتصور له التعدد إلاّ إذا تعدد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدد و التميز.

فالماء الصرف و البياض الصرف و السواد الصرف، و كل شيء صرف، في هذا الأمر سواسية. فالتعدد و الاثنينيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.

و على هذا، فإذا كان سبحانه - بحكم أنه لا ماهية له - وجودا صرفا، لا يتطرق إليه التعدد، لأنه فرع التميز، و التميز فرع وجود غيريّة فيه، و المفروض خلوّه عن كل مغاير سواه، فالوجود المطلق و التحقق بلا لون و لا تحديد، و العاري عن كل خصوصية و مغايرة، كلما فرضت له ثانيا يكون

ص: 20


1- و هنا يبحث عن العلة ما هي ؟ أ هي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر. فإن كان الأول لزم الدور، و إن كان الثاني لزم التسلسل. و التفصيل يؤخذ من محله. لاحظ الأسفار ج 1 - فصل في أنه سبحانه صرف الوجود.

نفس الأول، لا شيئا غيره، فاللّه سبحانه، بحكم الصغرى صرف الوجود، و الصرف لا يتعدد و لا يتثنّى. فينتج أنّ اللّه سبحانه واحد لا يتثنّى و لا يتعدّد.

خرافة التثليث: الأب و الابن و روح القدس

قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام و الغموض كما تعانى منها عقيدة التثليث في المسيحية.

إنّ كلمات المسيحيين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم، و لا مناص لأي مسيحي من الاعتقاد به. و في الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأن التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهمه، كما أن المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث، لأن حقيقته حسب زعمهم فوق المقاييس المادية.

هذا و مع تركيزهم على التثليث في جميع أدوارهم و عصورهم يعتبرون أنفسهم موحدين غير مشركين، و أنّ الإله في عين كونه واحدا ثلاثة، و مع كونه ثلاثة واحد أيضا. و قد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه و أقصى ما عندهم ما يلي:

إنّ تجارب البشر مقصورة على المحدود، فإذا قال اللّه بأنّ طبيعته غير محدودة تتألف من ثلاثة أشخاص، لزم قبول ذلك، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك و إن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه. بل يكفي في ذلك ورود الوحي به، و أنّ هؤلاء الثلاثة يشكلون بصورة جماعية «الطبيعة الإلهية اللامحدودة» و كل واحد منهم في عين تشخصه و تميزه عن الآخرين، ليس بمنفصل و لا متميز عنهم، رغم أنه ليست بينهم أية شركة في الألوهية، بل

ص: 21

كل واحد منهم إله مستقل بذاته و مالك بانفراده لكامل الألوهية، فالأب مالك بانفراده لتمام الألوهية و كاملها، من دون نقصان. و الابن كذلك مالك بانفراده لتمام الألوهية، و روح القدس هو أيضا مالك بانفراده لكمال الألوهية، و أنّ الألوهية في كل واحد متحققة بتمامها دون نقصان.

هذه العبارات و ما يشابهها توحي بأنهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال و البرهنة العقلية، و أنها بالتالي «منطقة محرمة على العقل»، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال. بل المستند في ذلك هو الوحي و النقل.

و يلاحظ عليه أولا: وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطاركة و من فوقهم أو دونهم من القسيسين. إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنه متشخص و متميز عن البقية، و في الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحدا حقيقة لا مجازا. أ فيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل، فإنّ التميّز و التشخص آية التعدد، و الوحدة الحقيقية آية رفعهما، فكيف يجتمعان ؟.

و باختصار، إن «البابا» و أنصاره و أعوانه لا مناص أمامهم إلاّ الانسلاك في أحد الصفين التاليين: صف التوحيد و أنه لا إله إلاّ إله واحد، فيجب رفض التثليث، أو صفّ الشرك و الأخذ بالتثليث و رفض التوحيد. و لا يمكن الجمع بينهما.

ثانيا: إن عالم ما وراء الطبيعة و إن كان لا يقاس بالأمور المادية المألوفة، لكن ليس معناه أنّ ذلك العالم فوضوي، و غير خاضع للمعايير العقلية البحتة، و ذلك لأن هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش و الجدل، و عالم المادة و ما وراءه بالنسبة إليها سيان، و مسألة امتناع اجتماع النقيضين و امتناع ارتفاعهما و استحالة الدور و التسلسل و حاجة

ص: 22

الممكن إلى العلة، من تلك القواعد العامة السائدة على عالمي المادة و المعنى.

فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلا مجال للاعتقاد بها. و أما الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنها ليست كتبا سماوية، بل تدل طريقة كتابتها على أنها ألّفت بعد رفع المسيح إلى اللّه سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين. و الشاهد أنه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفية صلبه و دفنه ثم عروجه إلى السماء.

ثالثا: إنهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم: «الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر، أى الأب و الابن و روح القدس، و الأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن، و الابن هو الفادي، و روح القدس هو المطهر. و هذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك، ذات رتبة واحدة و عمل واحد».

فنسأل: ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإن لها صورتين لا تناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه:

1 - أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخّص و وجود خاص، و يكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل و شخصية خاصة متميزة عما سواها.

لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائدا في عصر الجاهلية و قد تجلى في النصرانية بصورة التثليث. و قد وافتك أدلة وحدانية اللّه سبحانه.

2 - أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد، فيكون الإله هو المركب من هذه الأمور الثلاثة و هذا هو القول بالتركيب و سيوافيك أنه سبحانه بسيط غير مركب. لأن المركب يحتاج في تحققه إلى أجزائه، و المحتاج ممكن غير واجب.

ص: 23

هذه هي الإشكالات الأساسية المتوجهة إلى القول بالتثليث.

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنّ التاريخ البشري يرينا أنه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك و الوثنية، تحت تأثير المضلين. و بذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي و الغاية القصوى لبعثهم. إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى (عليه السّلام)، أفضل نموذج لما ذكرناه، و هو مما أثبته القرآن و التاريخ. و على هذا فلا داعي إلى العجب إذا رأينا تسرب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح (عليه السّلام) و غيابه عن أتباعه.

إن تقادم الزمن رسّخ موضوع التثليث و عمّقه في قلوب النصارى و عقولهم، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي - أعني لوثر - الذي هذب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير و الخرافات، و أسس المذهب البروتستانتي، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة.

إنّ القرآن الكريم يصرح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها، حيث يقول تعالى: وَ قٰالَتِ اَلنَّصٰارىٰ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّٰهِ ، ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ (1).

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر و آلهة:

ص: 24


1- سورة التوبة: الآية 30.

1 - براهما (الخالق).

2 - فيشنو (الواقي).

3 - سيفا (الهادم).

و قد تسربت من هذه الديانة البراهمانية إلى الديانة الهندوكية، و يوضح الهندوس هذه الأمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي:

«براهما» هو المبتدئ بإيجاد الخلق، و هو دائما الخالق اللاهوتي، و يسمى بالأب.

«فيشنو» هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

«سيفا» هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأولى.

و بذلك يظهر قوة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي «غستاف لوبون» قال:

«لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأولى من حياتها، مع أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية و الدينية اليونانية و الشرقية، و هكذا أصبحت خليطا من المعتقدات المصرية و الإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوروبية حوالي القرن الأول الميلادي، فاعتنق الناس تثليثا جديدا مكونا من الأب و الابن و روح القدس، مكان التثليث القديم المكون من «نروبى تر» و «وزنون» و «نرو»(1).

القرآن و نفي التثليث

إنّ القرآن الكريم يذكر التثليث و يبطله بأوضح البراهين و أجلاها، يقول: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ

ص: 25


1- قصة الحضارة.

صِدِّيقَةٌ ، كٰانٰا يَأْكُلاٰنِ اَلطَّعٰامَ (1) . و هذه الآية تبطل ألوهية المسيح و أمه، التي كانت معرضا لهذه الفكرة الباطلة، بحجة أن شأن المسيح شأن بقية الأنبياء و شأن الأم شأن بقية الناس، يأكلان الطعام. فليس بين المسيح و أمه، و بين غيرهما من الأنبياء و الرسل و سائر الناس أي فرق و تفاوت، فالكل كانوا يأكلون عند ما يجوعون و يتناولون الطعام كلما أحسوا بالحاجة إليه. و هذا العمل منضما إلى الحاجة إلى الطعام، آية المخلوقية.

و لا يقتصر القرآن على هذا البرهان، بل يستدل على نفي ألوهية المسيح بطريق آخر، و هو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح و أمه و من في الأرض جميعا، و القابل للهلاك لا يكون إلها واجب الوجود.

يقول سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً إِنْ أَرٰادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً (2). و في هذه الآية وردت ألوهية المسيح و أبطلت من طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. و يظهر من سائر الآيات أنّ ألوهيته كانت مطروحة بصورة التثليث، قال سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلاٰثَةٍ ، وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاّٰ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ (3).

و على كل تقدير، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح (عليه السّلام) أدل دليل على كونه بشرا ضعيفا، و عدم كونه إلها، سواء أطرح بصورة التثليث أم غيره.

ثم إنّ القرآن الكريم كما يفنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلها ابنا للّه في الآيات المتقدمة، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضا على وجه الإطلاق

ص: 26


1- سورة المائدة: الآية 75.
2- سورة المائدة: الآية 17.
3- سورة المائدة: الآية 73.

سواء أ كان عيسى هو الابن أو غيره، بالبيانات التالية:

1 - إنّ حقيقة البنوة هو أن يجزّئ واحد من الموجودات الحيّة شيئا من نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من الخواص و الآثار ما كان يترتب على الأصل. كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ثم يأخذ في تربيتها حتى تصير حيوانا. و من المعلوم أنه محال في اللّه سبحانه، لاستلزامه كونه سبحانه جسما ماديا له الحركة و الزمان و المكان و التركب(1).

2 - إنّه سبحانه، لإطلاق ألوهيته و خالقيته و ربوبيته على ما سواه، يكون هو القائم بالنفس و غيره قائما به، فكيف يمكن فرض شيء غيره يكون له من الذات و الأوصاف و الأحكام ما له سبحانه من غير افتقار إليه ؟.

3 - إن تجويز الاستيلاد عليه سبحانه يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه و هو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة و الحركة، و هو خلف، بل يقع ما شاء دفعة واحدة من غير مهلة و لا تدريج.

و الدقة في الآيتين التاليتين تفيد كل ما ذكرنا، قال سبحانه:

وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ ، بَلْ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ * بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2) .

فقوله: سُبْحٰانَهُ ، إشارة إلى الأمر الأول.

و قوله: لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ ، إشارة إلى الأمر الثاني.

ص: 27


1- ستوافيك أدلة استحالة كونه جسما أو جسمانيا و ما يستتبعانه من الزمان و المكان و الحركة.
2- سورة البقرة: الآيتان 116 و 117.

و قوله: بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذٰا قَضىٰ ... ، إشارة إلى الأمر الثالث(1).

إنّ القرآن الكريم يفند مزعمة «التثليث» ببراهين عقلية أخرى، فمن أراد الوقوف على الآيات الواردة في هذا المجال و تفسيرها، فليرجع إلى الموسوعات القرآنية(2).

ص: 28


1- لاحظ (الميزان)، ج 3، ص 287.
2- لاحظ ما ذكره الأستاذ دام حفظه في موسوعته القرآنية (مفاهيم القرآن)، ج 1، ص 264-272.

التوحيد في الذات

(2) أحد: بسيط لا جزء له خارجا و لا ذهنا

قد عرفت أن التوحيد الذاتي يفسر بمعنيين: الأول: إنّه واحد لا مثل له، و الثاني: إنه أحد لا جزء له، و يعبر عن الأول بالتوحيد الواحدي و عن الثاني بالتوحيد الأحدي و قد عرفت دلائل التوحيد بالمعنى الأول، و إليك البحث في المعنى الثاني فنقول:

التركيب يتصور على قسمين:

الأول: التركيب الخارجي، كتركيب الشّيء من أجزاء خارجيّة، من عناصر مختلفة كالعناصر المعدنية و المركبات الكيميائية. و هذا القسم من التركيب مستحيل عليه سبحانه، لأن الشيء المركب من مجموعة أجزاء، محتاج في وجوده إليها، و المحتاج إلى غيره معلول له و لا يوصف بوجوب الوجود و الألوهية، هذا.

مضافا إلى أنّ الأجزاء المؤلّفة للذات الإلهية، إما أن تكون «واجبة الوجود» فيعود إلى تعدد الآلهة و تكثر واجب الوجود، و قد فرغنا عن امتناعه أو تكون ممكنة الوجود، و في هذه الصورة تكون نفس تلك الأجزاء محتاجة إلى غيرها، و يكون معنى هذا أنّ ما فرضناه «إلها واجب الوجود» معلول

ص: 29

لأمور ممكنة هي في حدّ نفسها معلولة لموجود أعلى، و هذا أمر محال.

الثاني: التركيب العقلي، و المراد منه هو كون الشيء بسيطا خارجا و لكنه ينحلّ عند العقل إلى شيئين و هذا كالجنس و الفصل و ما يقوم مقامهما، فإن وزان الجنس عند العقل غير وزان الفصل فواقع الإنسانية و إن كان شيئا واحدا في الخارج، لكنّه ينحل في العقل إلى ما به الاشتراك و هو الحيوانية، و ما به الامتياز و هو الناطقية.

و هناك قسم آخر من التركيب العقلي أدق من تركب الشيء من جنسه و فصله، و هو كون كل ممكن مركبا من وجود و ماهية حتى اشتهر قولهم: «كل ممكن زوج تركيبي له ماهية و وجود». و هذه الكلمة لا تعني أنّ هناك شيئا يقابل الوجود و شيئا آخر يقابل الماهية، بل ليس في الخارج إلاّ شيء واحد و هو الوجود، و لكن الماهية تبين مرتبته الوجودية كالجماد و النبات و الحيوان و غيرها كما أن الوجود يحكي عن عينيته الخارجية التي تطرد العدم.

و التركيب في هذا القسم أدقّ من التركيب في القسم السابق أي تركب الشيء من جنسه و فصله و مع ذلك كله فهذا النوع من التركيب محال عليه سبحانه، إذ لو كان له ماهية، و شأن الماهية في حد ذاتها أن تكون عارية عن الوجود و العدم، قابلة لعروضهما، فعندئذ يطرح السؤال نفسه: ما هي العلّة التي أفاضت عليها الوجود؟ و المحتاج إلى شيء آخر يفيض الوجود على ماهيته يكون ممكنا لا واجبا. و لأجل ذلك ذهب الحكماء من الإلهيين إلى بساطة ذاته و تنزيهه عن أي تركيب خارجي أو عقلي و بالتالي كونه منزها عن الماهية.

ثم إنّ ما جاء في صدر سورة التوحيد يمكن أن يكون دالا على هذا النوع من التوحيد، قال سبحانه:

ص: 30

قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ (1) فهو يقصد ردّ التثليث التركيبي الذي تتبناه النصارى أو ما يماثل ذلك التركيب.

و الدليل على ذلك هو أنّه لو كان المقصود من توصيفه ب «أحد» غير البساطة للزم التّكرار بلا جهة لتعقيبه ذلك بقوله في ذيل السورة: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فصدر السورة ناظر إلى التوحيد بمعنى البساطة، كما أنّ ذيلها ناظر إلى التوحيد بمعنى نفي الشيء و النظير له، و يتضح ذلك إذا وقفنا على أن السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين، و إن لم يرد ذكرهم بالاسم.

و بذلك تقف على قيمة كلمة قالها الإمام الطاهر علي بن الحسين السجاد (عليه السّلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل اللّه عز و جل قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ، اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ و الآيات من سورة الحديد... إلى قوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ ، فمن رام ما وراء هنالك هلك(2).

و هناك حديث بديع عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) يشير فيه إلى كلا التوحيدين أي كونه واحدا لا مثيل له، و واحدا لا جزء له، قال (عليه السّلام): و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل:

1 - هو واحد ليس له في الأشياء شبه.

2 - إنّه عزّ و جلّ أحديّ المعنى: لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم»(3).

ص: 31


1- سورة الإخلاص: الآية 1.
2- توحيد الصدوق، ص 283-284، طبعة الغفاري.
3- توحيد الصدوق، ص 83-84. و هذه المفاهيم العالية الواردة في هذه الأحاديث آية كون العترة الطاهرة وارثة لعلوم النبي الأكرم و كونهم خلفاءه في الأرض.

ثم إن هناك قسما ثالثا من التركيب أوجد باختلاف الآراء منه فرقا و مناهج فكريه عديدة و هو زيادة صفاته على ذاته و هو ما نطرحه في القسم الثالث - التالي - من أقسام التوحيد.

ص: 32

التوحيد في الصفات
(3) صفاته عين ذاته
اشارة

اتّفق الإلهيون على كونه تعالى متصفا بصفات الكمال و الجمال، من العلم و القدرة و الحياة و غيرها من الصفات الذاتيّة، و لكنهم اختلفوا في كيفية إجرائها عليه سبحانه على أقوال:

الأول: نظرية المعتزلة

إنّ كيفية إجراء صفاته سبحانه على ذاته أوجد هوّة سحيقة بين المعتزلة و الأشاعرة فمشايخ الاعتزال - لأجل حفظ توحيده سبحانه و تنزيهه عن التركيب من الذات و الصفات - ذهبوا إلى أنّ ملاك إجراء هذه الصفات هو الذات و ليست هناك أية واقعية للصفات سوى ذاته.

توضيحه: إنّ حقيقة نظرية المعتزلة هي نظرية نيابة الذات عن الصفات من دون أن يكون هناك صفة و ذلك لأنهم رأوا أنّ الأمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين:

أولهما: إنّا لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات كالعلم، وجب الاعتراف بأنّ هناك ذاتا و صفة، لأنّ واقعية الصّفة هي مغايرتها للموصوف، و لا يمكن أن

ص: 33

يكون هنا صفة و لا تكون غير الموصوف، فعندئذ يلزم التركّب فيه سبحانه من ذات و صفة، و هو محال.

و ثانيهما - إنّ نفي العلم و القدرة و سائر الصفات الكمالية عنه سبحانه يستلزم النقص في ذاته أولا، و يكذّبه إتقان آثاره و أفعاله ثانيا.

فالمخلص و المفرّ من هذين المحذورين، انتخاب نظرية النيابة، و هي أن نقول بنيابة الذات مناب الصفات، و إن لم يكن هناك واقعية للصفات وراء الذات.

هذا هو المشهور عن المعتزلة و ممن صرح به منهم عبّاد بن سليمان قال: «هو عالم، قادر، حي، و لا أثبت له علما، و لا قدرة و لا حياة و لا أثبت سمعا و لا أثبت بصرا، و أقول هو عالم لا بعلم، و قادر لا بقدرة، و حيّ لا بحياة، و سميع لا بسمع، و كذلك سائر ما يسمّى من الأسماء التي يسمّى بها»(1).

يلاحظ عليه - أولا: إنّه لم يتحقق أنّ ما ذكر من قضية النيابة رأي جميع المعتزلة بل إن هناك جماعة منهم يذهبون إلى ما هو المختار عند الإمامية من عينية صفاته مع ذاته بمعنى أنّ الذّات هي نفس العلم و القدرة و الحياة لا أنها خالية عن الصفات تنوب منابها(2).

و ثانيا: إنّ المعتزلة يتصورون أنّ حقيقة الصفة ترجع إلى أمر زائد على الذات، و لا يتصور كون الشيء وصفا مع كونه نفس الذات و عينها و ما ذلك إلا لملاحظة الصفة في الموجودات الإمكانية فالعلم في الإنسان وصف و هو غير الذات، كما أنّ القدرة كذلك، فاتخذوه ضابطة كلية حتى في مقام

ص: 34


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 225.
2- قد جمع الأستاذ دام حفظه كلمات المعتزلة في هذا المقام في محاضراته القيمة في الملل و النحل، ج 2 الفصل السادس عند البحث عن كون علمه زائدا على الذات أو لا.

الذات الإلهية، فجعلوا كون الشيء وصفا ملازما للزيادة و عارضا على الذات، فوقعوا في محذور خاص و هو أنّ إثبات الصفات يستلزم تركب الذات من ذات و وصف أولا، و خلو الذات عن الكمال ثانيا، كما تقدم في كلامهم، و لأجل رفع هذين المحذورين ذهبوا إلى نفي الصفات و قيام الذات منابها.

و لكنهم لو وقفوا على أنّ ما اتخذوه ضابطة (كون الصفة غير الذات) ليس ضابطة كلية و إنما يختص ببعض الموجودات الإمكانية، لوقفوا على أنّ من الممكن أن تبلغ الذات في الكمال و الجمال مرتبة عالية تكون نفس العلم و الانكشاف و نفس القدرة و الحياة، و لم يدل دليل على أنّ الصفة في جميع المراتب عرض قائم بالذات بل لهذه الأوصاف عرض عريض و مراتب متفاوتة. ففي مرتبة يكون العلم عرضا، كما في علمنا بالأشياء الخارجية، و في مرتبة يكون جوهرا كما في علمنا بأنفسنا، و في مرتبة يكون واجبا نفس الذات كما سيوافيك بيانه، و عدم إطلاق الصفة على مثل هذا العلم لغة، لا يضرنا لأن الحقائق لا تقتنص عن طريق اللّغة. و لو كان الداعي إلى القول بالنيابة هو التحفظ على التوحيد و بساطة الذات، فالتوحيد ليس رهن القول بها فقط، بل هو كما يحصل بها، يحصل بالقول الآخر الذي يتضمن عينية الصفات و الذات، مع الاعتراف بواقعية الصفة فيها و بذلك يتميز عن القول بالنيابة.

الثاني: نظرية الأشاعرة

إنّ الأشاعرة ذهبت إلى وجود صفات كمالية زائدة على ذاته سبحانه مفهوما و مصداقا، فلا تعدو صفاته صفات المخلوقين إلاّ في القدم و الحدوث فالصفات في الواجب و الممكن زائدة على الذات غير أن صفات الأول قديمة و في غيره حادثة.

ص: 35

و استدل عليه الأشعري في «اللّمع» و «الابانة» بوجهين:

الوجه الأول - إنّ كونه سبحانه عالما بعلم، لا يخلو عن صورتين:

1 - أن يكون عالما بنفسه.

2 - أن يكون عالما بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.

فإن كان الأول، كانت نفسه علما، و يستحيل أن يكون العلم عالما، أو العالم علما. و من المعلوم أنّ اللّه عالم. و من قال إنّ علمه نفس ذاته، لا يصح له أن يقول إنّه عالم، فإذا بطل هذا الشق، تعين الشق الثاني، و هو أنه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه(1).

و صلب البرهان يرجع إلى أنّ واقعية الصفة هي البينونة، فيجب أن يكون هناك ذات و عرض، ينتزع من اتّصاف الذات بالعرض عنوان العالم و القادر. فالعالم من له العلم، و القادر من له القدرة، لا من ذاته نفسهما فيجب أن نفترض ذاتا غير الوصف.

يلاحظ عليه بأنّه لم يدل دليل على أنّ الصفة يجب أن تكون مغايرة للموصوف، و إنما هو أمر سائد في الممكنات، فإنّ العلم في الإنسان ليس ذاته، بشهادة أنّه قد كان، و لم يكن عالما، و لكن يمكن أن تبلغ الذات في الكمال و الجمال مرتبة تكون نفس العلم و نفس القدرة من دون أن يكون العلم أو القدرة زائدين عليها. و القول بأنّ واقعية الصفة مغايرتها للموصوف ما هو إلاّ نتيجة ما اعتدنا عليه من ممارسة الممكنات العالمة و الأنس بها، فإنّ الصفة فيها عرض و الموصوف معروض، و العرض غير المعروض و لكن لا غرو في أن يكون هناك علم قائم بالذات، و قدرة قائمة بنفسها من دون أن تكون عرضا. نعم، تصور ذلك لمن يمارس الأمور الممكنة و لا يجرّد نفسه عن هذا المضيق أمر مشكل.

ص: 36


1- اللمع، ص 30.

و على ذلك فالعلم عرض في بعض مراتبه، و غيره في المراتب العليا، و مثله القدرة. و كون لفظ العالم موضوعا لمن يكون علمه غير ذاته لا يكون دليلا على أنّه سبحانه كذلك. فإذا قام الدليل على عينية صفاته لذاته كان إطلاق العالم عليه سبحانه بملاك غير إطلاقه على الممكنات.

الوجه الثاني - لو كان علمه سبحانه عين ذاته، لصح أن نقول: «يا علم اللّه اغفر لي و ارحمني»(1).

و يلاحظ عليه: إنّ الشيخ لم يشخّص محل البحث، فإنّ القائل بالوحدة لا يقول بوحدة الذات و الصفة مفهوما فإنّ ذلك باطل بالضرورة، فإن ما يفهم من «لفظ الجلالة» غير ما يفهم من لفظ «العالم» و إنكار ذلك إنكار للبداهة، بل القائل بالوحدة يقصد منها اتحاد واقعية العلم و واقعية ذاته، و أنّ وجودا واحدا مع بساطته و وحدته، مصداق لكلا المفهومين، و ليس ما يقابل لفظ الجلالة في الخارج مغايرا لما يقابل لفظ «العالم». و إنّ ساحة الحق جلّ و علا منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات، بل وجوده البحث البسيط، نفس النعوت و الأوصاف الكمالية، غير أنها مع الذات متكثرة في المفهوم و واحدة بالهويّة و الوجود.

و على كل تقدير فيرد على الأشعري أنّ القول بالزيادة يستلزم القول بتعدد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. فإذا كان المجوس قائلين بقديمين، و النصارى بثلاثة، فالقول بالزيادة لازمه القول بقدماء ثمانية، أ فهل يصح في منطق العقل الالتزام بذلك لأجل أن المتبادر من صيغة الفاعل زيادة المبدأ على الذات ؟.

ص: 37


1- الإبانة، ص 108.
الثالث: نظرية الإمامية: عينية الصفات و الذات

هذه النظرية لا تعني نظرية النيابة، فإن تلك مبنية على نفي العلم و القدرة عنه سبحانه، غير أن ما يترقب منهما يترتب على ذاته سبحانه، و قد اشتهر قول تلك الطائفة: «خذ الغايات و اترك المبادي»، فما هو المطلوب من العلم تقوم به الذات و إن لم يكن فيها علم و لا قدرة. أولئك هم المعروفون بنفاة الصفات، و قد فروا من مضاعفات القول بالصّفة أعني التركب، إلى نفي الصفات رأسا، و هو أشبه بالفرار من المطر إلى تحت الميزاب.

و أما نظرية العينية فهي تعترف بوجود العلم و القدرة في مقام الذات و لكن تدّعي أن العرضية ليست أمرا لازما للعلم، بل تارة يكون عرضا و أخرى يكون جوهرا كعلم النفس بذاتها، و ثالثة فوق العرض و الجوهر فيكون واجبا قائما بنفسه، فهذا يباين نظرية نفاة الصفات مباينة الشرق للغرب.

و الدليل على العينية هو أنّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته يوجب غناءه في العلم بما وراء ذاته عن غيره، فيعلم بذاته كل الأشياء من دون حاجة إلى شيء وراء الذات و هذا بخلاف القول بالزيادة فإنه يستلزم افتقاره سبحانه في العلم بالأشياء و خلقه إياها إلى أمور خارجة عن ذاته، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته و يخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته، و يحيا بحياة غير ذاته، و الواجب سبحانه منزه عن الاحتياج إلى غير ذاته، فهو غني في ذاته و فعله عمن سواه، و الأشاعرة و إن كانوا قائلين بأزلية الصفات مع زيادتها على الذات، لكن الأزلية لا تدفع الفقر و الحاجة عنه، لأن الملازمة غير العينية فكون ذاته سبحانه ملازمة لهذه الصفات المغايرة من الأزل غير كونها نفس هذه الصفات.

و باختصار، إنّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول بحاجته في العلم و الإيجاد إلى غير ذاته فإن نتيجة فصل الذات عن الصفات هي إنه

ص: 38

يستعين في تحصيل العلم بعلم منفصل، و في الإيجاد بقدرة خارجة عن ذاته. و بالجملة إنّ التحرّز عن تعدد القدماء أولا، و حاجته سبحانه في مقام الفعل إلى غير ذاته ثانيا، يجرنا - مع الاعتراف بأنّ له سبحانه أوصافا من علم و قدرة و غيرهما - إلى القول بعينية الصفات و الذات.

بساطة الذات و تعدد الصفات كيف يجتمعان ؟

لقد قادتنا البراهين السابقة إلى بساطة الذات الإلهية، و خلوها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي الخارجي و هنا يطرح هذا السؤال نفسه و هو:

كيف يجتمع تعدد الأسماء و الصفات مع بساطة الذات ؟ أ ليس يستلزم تعدد الصفات تركّب الذات الإلهية من صفات متعددة ؟.

و الجواب عن ذلك بوجهين:

الأول: إنّ السؤال إنما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يشكّل جزءا خاصا، و يحتل موضعا معينا من ذاته سبحانه و حينئذ يمكن القول بأنه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه. و لكن إذا قلنا بأنّ كل واحد من هذه الصفات يشكل تمام الذات برمتها و أسرها، فحينئذ لا يبقى مجال لتصور التركيب في شأنه تعالى، إذ لا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال يكون فيها كلّه علما، و كلّه قدرة، و كلّه حياة، دون أن تظهر أية كثرة في ذاته. نعم، لو كانت هناك كثرة، فإنّما هي في عالم المفهوم دون الواقع الخارجي، إذ عندئذ تكون ذاته سبحانه مصداق العلم و مطابقه - و في الوقت نفسه - مصداق القدرة و مطابقها، بلا مغايرة و لا تعدد.

و لتقريب هذا المعنى نشير إلى مثال في عالم الممكنات و هو أنّ الإنسان الخارجي بتمام وجوده مخلوق للّه سبحانه و في الوقت نفسه معلوم له سبحانه. فمجموع الوجود الخارجي، كما هو مصداق لقولنا إنّه مخلوق للّه و مطابق له، مصداق و مطابق لقولنا إنّه معلوم للّه، من دون أن يخصّ جزء

ص: 39

بكونه معلوما و جزء بكونه مخلوقا، بل كله معلوم للّه في عين كونه مخلوقا له، و ليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

و باختصار، يصح انتزاع المفاهيم الكثيرة من الواحد البسيط البحت، و هذا على التقريب كالنّور، فإنّ الإضاءة و الحرارة من خواصّ النور، و ليست الأولى مختصة بناحية من وجوده و الثانية بناحية أخرى منه، بل النور بتمامه مضيء كما أنّه بتمامه حار. فالشيء الخارجي، أعني النور، مصداق لمفهومين؛ المضيء و الحار.

الثاني: إنّ وجوده سبحانه هو الكمال المطلق و الوجود الأتم، و أمّا انتزاع المفاهيم الكثيرة مثل العالم و القادر، فإنما هو بالنظر إلى تجلياته المختلفة في العالم الإمكاني. فإن إتقان الفعل و ظرافته دليل كونه قادرا، كما أنّ الصنع على سنن معقدة آية كونه عالما بهذه السنن و النّظم، و هكذا. فتجلّيه سبحانه على العالم بالشئون المختلفة صار سببا لانتزاع مفاهيم كثيرة منه، هذا.

و لكنّ الجواب الأول أتقن و أنسب بالأسس التي قدمناها.

عينية الصفات و الذات في النّصوص الإسلامية

إنّ عينية الصفات و الذات مما قادنا إليه العقل و تظافرت عليه السنة عن سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فهو سلام اللّه عليه أول من أصحر بالحقيقة و جهر بها في تلك العصور التي لم يكن فيها خبر عن نظرية المعتزلة (النيابة) و لا الأشاعرة (الزيادة).

قال أمير المؤمنين: «و كمال الإخلاص له نفي الصفات (الزائدة) عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، فمن وصف اللّه (أي بوصف زائد على ذاته) فقد قرنه (أي قرن

ص: 40

ذاته بشيء غيرها) و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّاه، و من جزّاه فقد جهله»(1).

و في هذا الكلام تصريح بعينية الصفات للذات، و فيه إشارة إلى برهان الوحدة، و هو أنّ القول باتحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن التركيب و التجزئة و نفي الحاجة عن ساحته. و لكن إذا قلنا بالتعدد و الغيريّة فذلك يستلزم التركيب و يتولد منه التثنية. و التركيب آية الحاجة، و اللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى من سواه.

و قال الإمام الصادق (عليه السّلام): «لم يزل اللّه جلّ و عزّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا مقدور»(2).

و الإمام (عليه السّلام) يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه - وراء عينية صفاته و ذاته - و هو وجود علمه بلا معلوم و سمعه بلا مسموع. و ما هذا إلا لأجل أنّ ذاته من الكمال و الجمال إلى حد لا يشذ عن حيطة وجوده أي شيء، و تشريح هذا القسم من العلم يطلب من الكتب الفلسفية.

و هناك روايات أخرى عن العترة الطاهرة يقف عليها من خاض أحاديثهم، و قد جمعها الشيخ الصدوق في كتاب (التوحيد)، و العلامة المجلسي في (كتاب البحار) و كل ذلك يدل على أنّ الأمة أخذت التوحيد في هذه المجالات عن باب علم النبي علي بن أبي طالب (عليه السّلام) و أنّ المعتزلة أخذوا ما قالوا به من التوحيد من ذلك المصدر، كيف و هم عيال عليه في تلك المباحث كلها(3).

ص: 41


1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
2- التوحيد للصدوق، ص 139.
3- إنّ حياة المعتزلة العلمية تدل على أنّ رئيسهم واصل بن عطاء تتلمذ على أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية و هو على أبيه عن علي (عليه السّلام). و قد أوضح الأستاذ دام ظله انتهاء أصول المعتزلة إلى علي (عليه السّلام) في موسوعته الكبيرة «مفاهيم القرآن» فلاحظ ج 4 ص 379-381.

ص: 42

التوحيد في الخالقية
(4) لا خالق سوى اللّه
اشارة

دلّت البراهين العقلية على أنّه ليس في الكون خالق أصيل إلا اللّه سبحانه، و أنّ الموجودات الإمكانية و ما يتبعها من الأفعال و الآثار، حتى الإنسان و ما يصدر منه، مخلوقات للّه سبحانه بلا مجاز و لا شائبة عناية، غاية الأمر أنّ ما في الكون مخلوق له إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب.

و ذلك لما عرفت من أنّه سبحانه هو الواجب الغني، و غيره ممكن بالذات و لا يعقل أن يكون الممكن غنيا في فعله و ذاته عن الواجب، فكما أنّ ذاته قائمة باللّه سبحانه، فهكذا فعله. و الحاجة في الذات إلى الواجب آية الحاجة في الفعل أيضا. و من عرف الممكن حق المعرفة و انه الفقير الفاقد لكل شيء، و الواجد - في ظل خالقه - فعله و أثره، لا يشك في استناد الأفعال و الآثار إلى اللّه سبحانه، و هذا ما يعبر عنه بالتوحيد في الخالقية و أنّ هنا خالقا واحدا أصيلا و هو اللّه سبحانه و أمّا غيره فبين غير خالق لشيء إلى خالق بإذنه و مشيئته و إقداره سبحانه.

هذا ما لدى العقل، و أما النّقل فقد تضافرت النصوص القرآنية على أنّ اللّه سبحانه هو الخالق، و لا خالق سواه (و سيوافيك أنّ المراد هو حصر

ص: 43

الخالقية بالأصالة على اللّه سبحانه، لا التبعة و الظلّيّة بإذنه)(1)، و إليك الآيات الواردة في هذا المجال.

قال سبحانه: قُلِ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (2).

و قال سبحانه: اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (3).

و قال سبحانه: ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ (4).

و قال سبحانه: ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ (5).

و قال سبحانه: هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (6).

و قال سبحانه: أَنّٰى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صٰاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (7).

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ (8).

و قال سبحانه: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (9).

هذا هو حكم العقل و هذه نصوص القرآن الكريم لا يشك فيها إلا

ص: 44


1- لاحظ نظرية الأمر بين الأمرين في الفصل السادس من الكتاب.
2- سورة الرعد: الآية 16.
3- سورة الزمر: الآية 62.
4- سورة المؤمن: الآية 62.
5- سورة الأنعام: الآية 102.
6- سورة الحشر: الآية 24.
7- سورة الأنعام: الآية 101.
8- سورة فاطر: الآية 3.
9- سورة الأعراف: الآية 54.

المنحرف عن الفطرة، غير أنّ الذي يهمنا هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات.

و هناك احتمالان ذهب إلى كلّ طائفة من المتكلمين و نحن نذكرهما، و ندعم الحق منهما بالبرهان.

نظرية الأشاعرة في التوحيد في الخالقية

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ المراد من التوحيد في الخالقية هو حصر الخلق و الإيجاد على الإطلاق باللّه سبحانه و أنه ليس في صفحة الوجود مؤثر و موجد و خالق إلاّ اللّه سبحانه و أمّا غيره، فليس بمؤثر و لا خالق لا على وجه الاستقلال و لا على وجه التبعية.

و على ذلك الأساس أنكرت العلّية و المعلوليّة، و التأثير و التأثّر بين الموجودات الإمكانية فزعمت أنّ آثار الظواهر الطبيعية كلها مفاضة منه سبحانه، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية و آثارها، فعلى مذهبهم «النار حارّة» بمعنى أنّه جرت سنّة اللّه على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك رابطة بين النار و حرارتها، و الشمس و إضاءتها، و القمر و إنارته، بل اللّه سبحانه جرت عادته على إيجاد الضوء و النور مباشرة عقيب وجود الشمس و القمر من دون أن يكون هناك نظام و قانون تكويني باسم العلّية و المعلوليّة. و على ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علة واحدة، و مؤثر واحد، يؤثر بقدرته و سلطانه في كل الأشياء، من دون أن يجري قدرته و يظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب و المؤثرات. بل هو بنفسه الشخصية قائم مقام جميع ما يتصور من العلل و الأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

هذا ما يتبناه الأشعري و اتباعه. ناسبين إياه إلى أهل السنة و الجماعة،

ص: 45

فهم لا يقيمون للعلل الطبيعية وزنا، فعامل الحمى في المريض هو اللّه سبحانه و ليس للجراثيم دور في ظهورها فيه، و مثل ذلك سائر الظواهر الطبيعية من تفتح الأزهار و نمو الأشجار، فالكل مخلوق للّه سبحانه بلا واسطة و لا تسبيب سبب من الأسباب.

و على هذا الأصل جعلوا أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه مباشرة، و لم يقيموا للقدرة الحادثة في العبد وزنا و لم يعترفوا بتأثيرها في فعله فصار كل ما في الكون من آثار الفاعلين، عالمين كانوا أم لا، صادرا منه سبحانه مخلوقا له.(1).

تحليل نظرية الأشاعرة

إنّ تفسير التوحيد في الخالقية بهذا المعنى، بما أنّه لا يستند إلى دليل عقلي بل يستند إلى ظواهر الآيات التي وقفت عليها، فلا مناص في تحليله من الرجوع إلى نفس الذكر الحكيم حتى يعلم أنّه غير معترف بهذا التفسير بل ينكره جدا.

إنّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العليّة و المعلوليّة بين الظواهر الطبيعية و تسند الآثار إلى موضوعاتها - و في الوقت نفسه تسندها إلى اللّه سبحانه - حتى لا يغتر القارئ بأنّ آثار الموضوعات متحققة من تلقاء نفسها.

و الآيات الواردة في هذا المجال كثيرة نكتفي بالقليل منها.

1 - قال سبحانه: وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ (2).

ص: 46


1- سيأتي البحث و التحليل في خصوص هذه الناحية في مباحث الجبر و التفويض في الفصل السادس من الكتاب، بإذنه تعالى.
2- سورة البقرة: الآية 22.

2 - و قال عزّ من قائل أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا نَسُوقُ اَلْمٰاءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعٰامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلاٰ يُبْصِرُونَ (1).

فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع إذ إنّ الباء في «به» في الموردين بمعنى السببية. و أوضح منهما الآية التالية.

3 - قال سبحانه: وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجٰاوِرٰاتٌ وَ جَنّٰاتٌ مِنْ أَعْنٰابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوٰانٌ وَ غَيْرُ صِنْوٰانٍ يُسْقىٰ بِمٰاءٍ وٰاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهٰا عَلىٰ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).

فإنّ جملة «يسقى بماء واحد» كاشفة عن دور الماء و أثره في إنبات النباتات و إنماء الأشجار، و مع ذلك يتفضل بعض الثمار على بعضها. و من أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على كيفية بيانه للمقدمات الطبيعية لنزول الثلج و المطر من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث و يطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية، و اكتشاف عللها و مقدماتها. و يتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين:

4 - قال سبحانه: اَللّٰهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمٰاءِ كَيْفَ يَشٰاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ فَإِذٰا أَصٰابَ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ إِذٰا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (3).

فقوله سبحانه: «فَتُثِيرُ سَحٰاباً» صريح في أنّ الرياح تحرك السّحاب و تسوقها من جانب إلى جانب.

5 - قال سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُزْجِي سَحٰاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ

ص: 47


1- سورة السجدة: الآية 27.
2- سورة الرعد: الآية 4.
3- سورة الروم: الآية 48.

يَجْعَلُهُ رُكٰاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشٰاءُ يَكٰادُ سَنٰا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصٰارِ (1) .

فالآية الرابعة تسند حركة السحاب إلى الرياح و تقول «فتثير سحابا» و هذه الآية تسندها إلى اللّه سبحانه و تقول «إنّ اللّه يزجي سحابا». و كلا الإسنادين صحيح، حيث إنّ الرياح جند من جنوده سبحانه و سبب من أسبابه التي تعلقت مشيئته على نزول الفيض من طريقها و لأجل ذلك يعدّ فعلها فعله. و الكلّ قائم به قيام الممكن بالواجب.

6 - قال سبحانه: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (2).

فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض و ربوتها، ثم تصرح بإنبات الأرض من كل زوج بهيج.

7 - قال سبحانه: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (3).

فالآية تسند إنبات السبع سنابل إلى الحبة.

و حصيلة البحث أنّه سبحانه يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض و الحبّ و لكنه يسند - في الوقت نفسه - ذلك الفعل إلى ذاته و يقول:

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ حَدٰائِقَ ذٰاتَ بَهْجَةٍ ، مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ

ص: 48


1- سورة النور: الآية 43.
2- سورة الحج: الآية 5.
3- سورة البقرة: الآية 261.

تُنْبِتُوا شَجَرَهٰا أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (1) .

و يقول أيضا: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (2). و لا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات إذ الفعل فعل اللّه سبحانه بما أنّه منشئ الكون و موجده، و مسبب الأسباب و مكونها. كما هو فعل السبب، لصلة بينه و بين آثاره. و الأسباب و العلل على مراتبها مخلوقات للّه مؤثرات بإذنه، و ليس الإسنادان في درجة واحدة و عرض واحد، بل أحدهما في طول الآخر.

8 - قال سبحانه: خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (3).

أي جعل على ظهر الأرض، الجبال الثوابت لئلا تضطرب بكم، فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب و الميدان إلى نفسه حيث قال «و ألقى». و إلى سببه حيث قال «رواسي أن تميد بكم»، أي لغاية أن تصونكم الرواسي عن ميدان الأرض بكم كرواسي السفن الصائنة لها عن الميدان و الاضطراب. و الكل يهدف إلى أمر واحد و هو الذي ورد في قوله سبحانه: هٰذٰا خَلْقُ اَللّٰهِ فَأَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظّٰالِمُونَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (4). أي هذا الذي تشاهدونه في السماء و الأرض و ما بينهما من الأسباب و المسبّبات كلّه مخلوق للّه، و الأسباب جنوده و الآثار آثار للسّبب و للمسبّب بالكسر. ما ذكرناه تحليل لنظرية الأشعري في ضوء الوحي، و قد عرفت أن الوحي يردها بحماس.

و هناك تحليل فلسفي لها و هو أنه لا شك أنّ كثيرا مما نجده من

ص: 49


1- سورة النمل: الآية 60.
2- سورة لقمان: الآية 10.
3- سورة لقمان: الآية 10.
4- سورة لقمان: الآية 11.

الموجودات الممكنة المادية تتوقف في وجودها على شروط لا تتحقق بدونها، كالإنسان الذي هو ابن فلان. فإن لوجود الابن توقفا على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانية و مكانية، فمن الضروري أنّ ما يتوقف عليه وجود الشيء يعدّ جزءا من العلة التامة. و على هذا، لا يصح عدّه سبحانه علة تامة وحدها لهذه الظاهرة أي كون زيد ابن فلان.

نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة، إذ لا يتوقف على شيء غيره سبحانه و أمّا سائر أجزاء العالم كوجود زيد فهو سبحانه جزء العلة التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدّات(1).

و الذي يوضح ذلك أنّ هناك أفعالا لا يمكن إسنادها إلى اللّه سبحانه مباشرة كأكل زيد و شربه و مشيه و قيامه و قعوده، فإنّ تحقق هذه العناوين يتوقف على وجود زيد و أعضائه من فمه و لسانه و رجليه و عضلاته فإنّ لها دخالة في تحقق هذه الأفعال، فكيف يمكن إنكار دخالتها؟ فهذه الأفعال لا تستند إلا إلى الموجود المادي مباشرة، و إلى الواجب سبحانه على وجه التسبيب و السببية الطولية(2).

فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بناموس السببية بين الأشياء و آثارها و إنهاء كل الكون إلى ذاته تبارك و تعالى. فلا يصح عندئذ حصر الخالقية و العلية الأعم من الأصلية و التبعية باللّه سبحانه، و تصوير غيره من الأسباب أمورا عاطلة غير مفيدة لشيء. و جعل القدرة الحادثة في العبد شيئا مقترنا بايجاده سبحانه فعل العبد. و على ذلك فيجب تفسير حصر الخالقية و توحيدها على وجه يتناسب مع جميع الآيات الماضية التي تدل على الحصر و أنّه لا خالق غيره، و في الوقت نفسه يعترف بتأثير العلل و إيجادها. و هذه هي النظرية التي نتلوها عليك بإذنه سبحانه.

ص: 50


1- الميزان، ج 15، ص 138.
2- سيوافيك معنى أدقّ من السببيّة الطولية لخالقيته سبحانه عند البحث في الجبر و التفويض.
نظرية العدلية في التوحيد في الخالقية

إنّ هناك معنى آخر لحصر الخالقية باللّه سبحانه و نفيها عن غيره بالمعنى الذي يناسب شأنه سبحانه، و ما نذكره هو الذي يدعمه العقل و يوافقه القرآن و تعضده البحوث العلمية في الحضارات الإنسانية و إليك بيانه:

إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات، غير المعتمدة على شيء منحصرة باللّه سبحانه و لا يشاركه فيها شيء. و أمّا غيره سبحانه فإنما يقوم بأمر الخلق و الإيجاد بإذن منه و تسبيب و يعدّ الكلّ جنود اللّه سبحانه يعملون بتمكين منه لهم و يظهر هذا المعنى من ملاحظة الأمور التالية:

أ - لا يشك المتأمل في الذكر الحكيم في أنه كثيرا ما يسند آثارا إلى الموضوعات الخارجية، و الأشياء الواقعة في دار المادة كالسماء و كواكبها و نجومها، و الأرض و جبالها و بحارها و براريها و عناصرها و معادنها و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و الماء و الأعشاب و الأشجار و الحيوان و الإنسان إلى غير ذلك من الموضوعات الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنما أنكره باللسان، و قلبه مطمئن بخلافه. و قد ذكرنا نزرا من الآيات الواردة في هذا المجال.

ب - إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالا لا تقوم إلا به، و لا يصح إسنادها إلى اللّه سبحانه بلا واسطة، كأكله و شربه و مشيه و قعوده و نكاحه و نموه و فهمه و شعوره و سروره و صلاته و صيامه. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه، فهو الذي يأكل و يشرب و ينمو و يفهم.

ج - إنّ اللّه سبحانه أمر الإنسان بالطاعة أمر إلزام، و نهاه عن المعصية نهي تحريم، فيجزيه بالطاعة و يعاقبه بالمعصية. فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال و تأثير في الطاعة و العصيان فما هي الغاية من الأمر و النهي، و ما معنى الجزاء و العقوبة.

ص: 51

و هذه الأمور الثلاثة إذا قورنت بقوله سبحانه: قُلِ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (1)، الذي يدل على بسط فاعليته و عليته على كل شيء، يستنتج أنّ النظام الامكاني على اختلاف هوياته و أنواعه فعّال و مؤثر في آثاره، لكن بتقديره سبحانه و مشيئته و إذنه و هو القائل جل و علا: اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ (2) و قال تعالى: وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (3). فتنتهي وجودات هذه الأشياء و أعمالها و آثارها و حركاتها و سكناتها إلى قضائه و تقديره و هدايته و إجراء الأسباب في النظام الإمكاني.

فعلى هذا فالأشياء في جواهرها و ذواتها و حدود وجودها و خصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليه أيضا و ليس العالم و مجموع الكون إلا مجموعة متوحدة، يتصل بعضها ببعض، و يتلاءم بعضها مع بعض، و يؤثر بعضها في بعض، و اللّه سبحانه وراء هذا النظام و معه و بعده، لا خالق و لا مدبر، حقيقة و بالأصالة، إلاّ هو، كما لا حول و لا قوة إلا باللّه.

و بهذه النظرية - أي نظرية كون العالم مخلوقا على النظام السببي و المسببي و أنّ فيه فواعل اضطرارية كما أنّ فيه فواعل اختيارية - تتناسق الأمور الثلاثة و تتوحد نتائجها، و هذا بخلاف ما قلناه في النظرية الأولى، فإنها توجب التضاد بين الأمور الثلاثة المسلّمة.

النظام الإمكاني نظام الأسباب و المسبّبات

إنّ الإمعان في الآيات الكريمة يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الكتاب العزيز يعترف بأنّ النظام الإمكاني نظام الأسباب و المسبّبات، فلأجل ذلك ينسب الفعل الواحد إلى اللّه سبحانه و في الوقت نفسه إلى غيره من دون أن يكون هناك تضادّ في النسبة.

ص: 52


1- سورة الرعد: الآية 16.
2- سورة طه: الآية 50.
3- سورة الأعلى: الآية 3.

1 - يقول سبحانه: اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا (1). فينسب توفي الأنفس إلى نفسه، بينما نجده سبحانه ينسه إلى رسله و ملائكته و يقول: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا (2).

و لا يجد الإنسان العارف بالقرآن أي اختلاف في النسبة.

2 - إنّ الذكر الحكيم يصفه سبحانه أنه الكاتب لأعمال عباده و يقول:

وَ اَللّٰهُ يَكْتُبُ مٰا يُبَيِّتُونَ (3) . و لكن في الوقت نفسه ينسب الكتابة إلى رسله و يقول: بَلىٰ وَ رُسُلُنٰا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (4).

3 - إنّه سبحانه ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه و يقول: إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ (5). و في الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان و يقول: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ وَ قٰالَ لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ (6).

و في آية أخرى ينسبها إلى قرنائهم و يقول: وَ قَيَّضْنٰا لَهُمْ قُرَنٰاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ (7) و لا تصح هذه النسب المختلفة ظاهرا إلا بالقول بأنّ الكون مبني على النظام السببي و المسبّبي و سببية كل شيء بتسبيب منه سبحانه و ينتهي الكل إليه فالفعل مع أنه فعل السبب فعل المسبّب بالكسر أيضا.

4 - لا شك أنّ التدبير كالخلقة منحصر في اللّه سبحانه (كما سيوافيك بيانه في القسم الآتي من التوحيد) حتى لو سئل بعض المشركين عن المدبّر

ص: 53


1- سورة الزمر: الآية 42.
2- سورة الأنعام: الآية 61.
3- سورة النساء: الآية 81.
4- سورة الزخرف: الآية 80.
5- سورة النمل: الآية 4.
6- سورة الأنفال: الآية 48.
7- سورة فصلت: الآية 25.

لأجاب بأنّ اللّه هو المدبر، كما يقول سبحانه: وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللّٰهُ (1) لكن نرى أنّ القرآن يعترف بمدبريّة غير اللّه سبحانه حيث يقول:

فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (2) .

5 - إنّ القرآن يشير إلى كلتا النسبتين (أي نسبة الفعل إلى اللّه سبحانه إشارة إلى الجانب التسبيبي و إلى الإنسان إشارة إلى الجانب المباشري) بقوله: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ (3).

فهو يصف النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بالرمي و ينسبه إليه حقيقة و يقول: «إذ رميت»، لكنه يصف اللّه سبحانه بأنه الرامي الحقيقي و ما ذلك إلا لأن النبي إنما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له، و كان مفيضا لها عليه حين الفعل، فيكون فعله فعلا للّه أيضا.

و هذه المجموعة من الآيات ترشدك إلى النظرية الحقّة في تفسير التوحيد في الخالقية. و في الحديث القدسي إشارة إليها.

يقول: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك، و بقوتي أدّيت إلي فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا»(4).

ثم إنّ هذه النظرية، على تقاريرها المختلفة من حيث الدقّة و الرقّة(5)

ص: 54


1- سورة يونس: الآية 31.
2- سورة النازعات: الآية 5.
3- سورة الأنفال: الآية 17.
4- البحار، ج 5، ص 57.
5- إن تفسير مسألة «الأمر بين الأمرين» و أنّ فعل العبد في حال كونه فعله، فعلا للّه سبحانه يختلف حسب اختلاف الأفهام في المقام، فيفسره المتكلم على نمط يناسب أبحاثه، فيصور كونه سبحانه فاعلا بالتسبيب من حيث أنه أعطى القدرة و الحياة للعبد، فلولاه لما قدر العبد على العمل، و أما الحكيم الإلهي فيرى الموجودات على تباينها في الذوات و الصفات و الأفعال، و ترتبها في القرب و البعد من الحق تعالى، قائمة بذاته سبحانه، فهو مع بساطته ينفذ نوره في الموجودات الإمكانية، عامة. و لا يوجد ذرة من ذرات الأكوان الوجودية، إلا و نوره محيط بها، قاهر عليها و هو قائم على كل نفس بما كسبت و هو مع كل شيء لا بمقارنة و غير كل شيء لا بمزايلة. فإذا، كما أنه ليس في الوجود شأن إلاّ و هو شأنه كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ و هو فعله، لا بمعنى أنّ فعل زيد ليس فعلا له بل بمعنى أنّ فعل زيد مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعله سبحانه كذلك. فهو مع غاية عظمته و علوه، ينزل منازل الأشياء و يفعل فعلها، كما أنّه مع غاية تجرّده و تقدسه لا يخلو منه أرض و لا سماء. فإذا نسبة الفعل و الإيجاد إلى العبد صحيحه، كما أنّ نسبتها إلى اللّه تعالى كذلك. و تفصيل ذلك يأتي عند البحث في الجبر و التفويض.

مما أطبقت على صحته الإمامية و المعتزلة و أيدته النصوص المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) و قد قال به بعض الأشاعرة أيضا كإمام الحرمين (أبي المعالي الجويني) و هو من أعلام القرن الخامس و الشيخ (الشعراني) و هو من أقطاب الحديث و الكلام في القرن العاشر، و الشيخ (محمد عبده) مفتي الديار المصرية في القرن الرابع عشر. و من أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى مصادرها(1).

ثم إنّ هنا ضابطة لتمييز الأفعال التي تسند إلى الفاعل القريب عن الأفعال التي تسند إلى القريب و البعيد تفطّن إليها العلامة (الطباطبائي) في تفسيره فقال: «إن من الأفعال ما يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة كالأكل بمعنى الالتقام، و البلع و الشرب بمعنى المص و التجرع، و القعود بمعنى الجلوس، لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر، فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاء كذا و يشرب شرابا كذا، و يقعد على كرسي كذا، قيل:

«أكل الخادم و شرب و قعد، و لا يقال أكله سيده و شربه و قعد عليه.

و أما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة و الحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل و الأسر و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و الإحسان و نظائرها فإنها تنسب إلى الفاعل القريب و البعيد على السوية، بل

ص: 55


1- الملل و النحل، ج 1، ص 98-99 نقل كلمة إمام الحرمين، و اليواقيت و الجواهر للشعراني، ص 139-141، و رسالة التوحيد، ص 59-62. و قد جاء الاستاذ دام ظله بنص كلامهم في كتابه (أبحاث في الملل و النحل).

ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب، كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجودا و أشد سلطة و إحاطة، و بذلك يظهر سر نسبة التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه و يقول:

قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (1) . كما يظهر أنّ القول بالتوحيد في الخالقية و استناد الحوادث و انتهائها إلى اللّه سبحانه لا يستلزم استناد القبائح إليه سبحانه، بل الأفعال التي تعتبر فيها خصوصيات المباشرة، كالنكاح و الزنا و الأكل المحرّم و المحلّل، فإنما تنسب إلى الإنسان فقط لأنه هو الموضوع المادي الذي يقوم بهذه الحركات و أما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته - و ليس اللّه بنفسه متحركا بهذه الحركات و إنّما يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها و أسبابها - فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بعضو من أعضاء الإنسان»(2).

و أنت إذا أمعنت في هذه الضابطة تقدر على التفريق بين ما يصح فيه الإسناد و ما لا يصح، كما تقف على أن القول بالتوحيد في الخالقية على الوجه الذي فسرناه، لا يستلزم مضاعفات نظرية الأشاعرة، فإنها مبنية على إنكار رابطة العلية و المعلولية بين الإنسان و فعله، و فرض وجوده سبحانه قائما مقام جميع العلل، و سيوافيك ما يزيدك توضيحا عند البحث عن الجبر و الاختيار.

الثنوية باشكالها المختلفة
اشارة

إنّ التوحيد في الخالقية يقابله الاعتقاد بأنّ أمر الخلقة لا ينحصر باللّه سبحانه بل هناك وراءه سبحانه خالقا أو خالقين مستقلّين بأمر الخلقة يعتمدون على أنفسهم و قدرتهم من دون أن يستمدوا منه سبحانه أو يكونوا مؤتمرين

ص: 56


1- سورة التوبة: الآية 14.
2- لاحظ الميزان، ج 9، ص 193-197.

و خالقين بأمره و هذا ما يعبّر عنه في مصطلح المتكلمين بالثنوية سواء أ كان الشريك واحدا أو أكثر فهذه اللفظة رمز لمن يرفض التوحيد في الخالقية من غير فرق بين أن يعتقد باثنين أو بأكثر و لأجل ذلك يدخل تحت هذا العنوان كثير من الفرق التي لا تعتقد بانحصار الخالقية في اللّه سبحانه منها:

1 - المفوّضة:

و هم الذين يعتقدون بتفويض أفعال البشر إلى أنفسهم، فهم مستقلون في خلق الأفعال و إيجادها و لا صلة لها بخالق البشر. و قد رميت المعتزلة من المسلمين بهذه العقيدة، و هؤلاء لأجل التحفظ على عدله سبحانه و قسطه بين عباده التجئوا إليها زاعمين أن القول بعدم صلة أفعال البشر بخالقهم ينفعهم في القول بالعدل، و يكون البشر نفسه مسئولا عن فعله و عمله. غير أن النسبة لو تحققت يكون هذا العمل كالفرار من المطر إلى تحت الميزاب فإنهم و إن توفقوا في مجال توصيف الرب بالعدل، غير أنهم رسبوا في مجال التوحيد فجعلوا الإنسان خالقا في مقابل خالقه العظيم، فما قيمة توصيفه بالعدل إذا كان مستلزما للانسلاك في عداد المشركين ؟.

و لأجل ذلك ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعال الإنسان أفعال للّه سبحانه مباشرة و بلا سبب كما ذهبت الإمامية من العدلية إلى أنّ أفعاله فعل للّه سبحانه و في الوقت نفسه فعل للبشر و النسبة إليهما مختلفة فأحد الفاعلين خالق بالتسبيب و الآخر خالق بالمباشرة على النحو الذي وقفت على بيانه.

2 - الزرادشتية:

و هم القائلون بأنّ في عالم الكون أمورا توصف بالخير و البركة كما أنّ هناك أمورا توصف بالشرور و البلايا فلا يصح إسناد كلا الصنفين من الأفعال إلى الخالق الحكيم فيجب الاعتقاد بأنّ خالق الخير غير خالق الشر. و قد اخترعوا عقيدة خيالية و هي: إنّ خالق الخير موجود يدعى ب «يزدان» كما إنّ خالق الشر موجود يدعى ب «أهريمن» و كلا الخالقين مخلوق للّه سبحانه. و بهذه الفرضية الخيالية، تمكنوا من إقناع أنفسهم بحلّ مشكلة الشرور و البلايا في صفحة الوجود.

ص: 57

و هناك طوائف أخرى تدعى بالثنوية لها عقائد خاصة متواجدة في بلاد الهند و جنوب شرق آسيا فمن أراد الوقوف على عقائدها فليرجع إلى الكتب المترجمة لها.

ص: 58

التوحيد في الرّبوبية
(5) انحصار التّدبير في اللّه سبحانه
اشارة

يستفاد بجلاء من مطالعة عقائد الوثنية في كتب الملل و النحل أنّ مسألة التّوحيد في الخالقية كانت موضع اتفاق، و أنّ الانحراف كان في مسألة التدبير أولا، و العبادة ثانيا. فكان الوثنيون موحدين في أمر الخلقة مشركين في الربوبية ثم في العبادة.

و كان الشّرك في العبادة عاما، بخلاف الشّرك في التدبير فلم يكن مثله في السعة و الشمول.

و ما ذكرناه يجده التالي للكتاب العزيز، قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ (1): و مثله في سورة الزّمر، الآية 38.

و قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ (2).

و قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ ، فَأَنّٰى

ص: 59


1- سورة لقمان: الآية 25.
2- سورة الزخرف: الآية 9.

يُؤْفَكُونَ (1) .

و هذه الآيات تعرفنا موقف الوثنيّين في مسألة التوحيد في الخالقية، و أنّ تلك العقيدة كانت عامة للمشركين أو لأكثرهم في الجزيرة العربية.

نعم، كان الاعتقاد بوجود مبدءين و خالقين لهذا العالم، أحدهما:

«يزدان» و الآخر «أهريمن» أمرا مشهورا بين «الزرادشتيين» و لكن عقيدتهم تحيط بها هالة من الإبهام و الغموض، كعقيدة البراهمة و البوذيين و الهندوكيين في هذا المجال و البحث فيه خارج عن إطار الموضوع و قد تقدم شيء عنهم آنفا.

و أمّا مسألة التوحيد في التدبير فلم تكن أمرا مسلّما عندهم، بل الشرك في التدبير كان شائعا بين الوثنيين، حيث كانوا يقولون بأنه ليس للكون سوى خالق واحد و هو موجد السّماوات و الأرض و خالقهما و لكنه بعد أن خلق الكون فوّض تدبير بعض أموره إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه، و اعتزل هو أمر التدبير. و هذه المخلوقات المفوّض إليها أمر التدبير كانت في نظر هؤلاء عبارة عن «الملائكة» و «الجنّ » و «الكواكب» و «الأرواح المقدسة» و...

التي تكفلت كل واحدة منها تدبير جانب من جوانب الكون على حدّ زعمهم.

إنّ عبدة الكواكب و النجوم في عصر بطل التوحيد «إبراهيم» كانوا من المشركين في أمر التدبير، حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأجرام العلوية هي المتصرفة في النظام السفلي من العالم و أنّ أمر تدبير الكون و منه الإنسان، فوّض إليها فهي أرباب لهذا العالم و مدبرات له لا خالقات له(2). و لأجل ذلك نجد أنّ إبراهيم يرد عليهم بإبطال ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أفولها و غروبها و يقول: إذا كانت هذه الأجرام حسب زعمكم هي المدبرات

ص: 60


1- سورة الزخرف: الآية 87.
2- سيأتي البحث في التفويض عند البحث في التوحيد في العبادة.

للموجودات الأرضية و منها الإنسان، فيجب أن يكون لها إشراف دائم على المدبّرات، و اتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها و لكنه لا يجتمع مع الأفول و الغروب، لأنهما يستلزمان غيبة المدبّر عن مدبّره بالفتح و جهله بحاله، فيكون دليلا قاطعا على عدم كونها مدبّرة للموجودات الأرضية.

و لأجل أنّ شرك عبدة الأجرام كان شركا في الربوبية و التدبير نرى أنّ إبراهيم يستعمل في طرح عقيدتهم و ردّها لفظ «الربّ ». يقول سبحانه حاكيا عنه: فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي (1). و قال أيضا:

فَلَمّٰا رَأَى اَلْقَمَرَ بٰازِغاً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي (2) . فاستعمل لفظة «الربّ » فيهما و في غيرهما من الآيات الواردة في احتجاجه مع المشركين، و لم يستعمل كلمة «الخالق»، للفرق الواضح بين التوحيدين و عدم إنكارهم التوحيد الأول و إصرارهم على الشّرك في الثاني.

و أمّا لفظة «الرّب» في لغة العرب فهي بمعنى المتصرف و المدبّر و المتحمل أمر تربية الشيء، و كأنه بمعنى الصاحب. و هذه، أعني التدبير و التصرف، من لوازم كون الشخص صاحبا و مالكا. فربّ الضيعة يقوم بأمرها، و ربّ البيت و الغنم يقوم بالتصرف اللازم فيهما.

و باختصار، إنّ في زعم المشركين أنّ مقام الخلق غير التدبير و أنّ الذي يرتبط باللّه إنما هو الخلق و الإيجاد و أمّا التدبير فيتعلق بموجودات أخرى غير اللّه سبحانه و تعالى. فهي المتصرفات فيه و قد فوّض إليها تدبير عالم الطبيعة، و ليست للّه تعالى أية دخالة في أمر تدبير الكون و إدارته و تنظيم شئونه و التصرف فيه.

هذه حقيقة الشّرك في التدبير و وجه الفرق بينه و بين الشّرك في الخالقية

ص: 61


1- سورة الأنعام: الآية 76.
2- سورة الأنعام: الآية 77.

و نرى ذلك الشّرك في كلام (عمر بن لحيّ ) و هو أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة و نواحيها فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أناسا يعبدون الأوثان و عند ما سألهم عن شئونها قالوا:

«هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أ فلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض العرب فيعبدوه». فاستصحب معه صنما كبيرا باسم «هبل» و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة و دعى الناس إلى عبادته(1).

و هاهنا نكتة يجب التنبيه عليها و هي: إنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور أنّ الوثنية تعتقد بأنّ هذه الأصنام الحجرية و الخشبية هي ذاتها المتصرفة و المدبرة للكون إذ لا يصدر ذلك عن عاقل، بل كانوا يعتقدون بكونها أصناما للآلهة المدبّرة لهذا الكون فوّض إليها إدارته. و لما لم تكن هذه الآلهة المزعومة في متناول أيديهم و كانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحسّ و اللمس صعبة التصور، عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة و تصويرها في أوثان و أصنام و رسوم و أجسام و قوالب من الخشب و الحجر، و صاروا يعبدونها عوضا عن عبادة أصحابها الحقيقيين و هي الآلهة المزعومة.

ثم إنّ الاعتقاد بربوبية غير اللّه سبحانه كما يتصور في مسألة التكوين فيعتقد المشرك بكون الملك أو الجنّ أو غيرهما متصرفا في العالم، فكذلك يتصور في عالم التشريع. فمن أعطى زمام التشريع و التقنين أو الحلال و الحرام إلى الإنسان فقد اتخذه ربّا لنفسه و صاحبا لها، و لأجل ذلك نرى أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ اليهود و النصارى اتخذوا الأحبار و الرّهبان أربابا لأنفسهم و لم يكن الاعتقاد بربوبيتهم بصورة الاعتقاد بتصرفهم في العالم السفلي و إنما كان يتجلّى في اتخاذهم أربابا و أصحابا لأنفسهم في إطار التقنين، فاستحلوا ما أحلّوه، و حرّموا ما حرموه. يقول سبحانه: اِتَّخَذُوا

ص: 62


1- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 79.

أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ (1) و يقول عزّ و جل: وَ لاٰ يَتَّخِذَ بَعْضُنٰا بَعْضاً أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ (2).

و حصيلة البحث

1 - إنّ ربوبيّة اللّه عبارة عن مدبريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

2 - دلّت الآيات التي ذكرناها على أنّ مسألة التوحيد في التدبير «لم تكن موضع اتفاق، بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» و أنّه كان في التاريخ ثمة فريق يعتقد بمدبريّة غير اللّه للكون كله أو بعضه، و كانوا يخضعون أمامها باعتقاد أنها أرباب.

3 - و بما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فقد تكون بعض الفرق موحدة في الثاني و مشركة في الأول فاليهود و النصارى تورطوا في «الشرك الربوبي التشريعي» لأنهم أعطوا زمام التقنين و التشريع إلى الأحبار و الرهبان و جعلوهم أربابا من هذه الجهة، فكأنهم فوّض أمر التشريع إليهم.

و بذلك يتجلّى أنّ التوحيد في الربوبية هو الاعتقاد بأنّ الخير و الشرّ و تدبير الحياة و الكون كلّها بيد اللّه سبحانه و أنّ الإنسان بل كل ما في الكون لا يملك لنفسه شيئا من التدبير، و أنّ مصير الإنسان في حياته كلها إليه سبحانه و لو كان في عالم الكون أسباب و مدبرات له، فكلها جنود له سبحانه يعملون بأمره و يفعلون بمشيئته. و يقابله الشرك في الربوبية و هو تصوّر أن هناك مخلوقات للّه سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون و مصير الإنسان في حياته تكوينا أو تشريعا و أنّه سبحانه اعتزل هذه الأمور بعد خلقهم و تفويض الأمر إليهم.

هذا خلاصة التوحيد و الشّرك في مجال الربوبية و إنما الكلام في إقامة الدليل عليه:

ص: 63


1- سورة التوبة: الآية 31.
2- سورة آل عمران: الآية 64.
أدلة التوحيد في الربوبية
1 - التدبير لا ينفك عن الخلق

إنّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أمور عائلة أو مؤسسة و تصوروا أنهما من نوع واحد.

إنّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه، أو ربّ البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنّ ذاك التدبير يتمّ بإصدار الأوامر، و لكن التدبير في الكون في الحقيقة إدامة الخلق و الإيجاد و قد سبق أنّ الخالقية منحصرة في اللّه سبحانه فالقول بالتوحيد فيها يستلزم القول بالتوحيد في التدبير.

توضيح ذلك: إنّ كل فرد من النظام الإمكاني بحكم كونه فقيرا ممكنا فاقد للوجود الذاتي، لكن فقره ليس منحصرا في وجوده في بدء تحققه و إنما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة و الأمكنة. فهو محتاج في إدامة وجوده بل حتى في علاقاته و روابطه و انسجامه مع مجموع العالم. و حقيقة التدبير ليست إلاّ خلق العالم و جعل الأسباب و العلل بحيث تأتي المعاليل و المسبّبات دبر الأسباب و عقيب العلل، و بحيث تظهر أجزاء الكون إلى الوجود وراء بعضها البعض تباعا، و بحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كماله المناسب و هدفه المطلوب. فإذا كان المراد من التدبير هو هذا، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق، فكيف يمكن أن نعتقد بأنّ التدبير مغاير للخلق و نعتبرهما أمرين مختلفين ؟.

إن تدبير الوردة ليس إلا تكوّنها من المواد النيتروجينية الموجودة في التربة مع استنشاقها لثاني أو كسيد الكاربون من الهواء و امتصاصها لأشعة الشمس و حدوث سلسلة معقدة من التفاعلات الكيميائية في خلاياها نتيجة ذلك، لتنمو بالتدريج و تتفتّح و تخضر و تزهر. و ليس كل منها إلا شعبة من الخلق. و مثلها الجنين مذ تكونه في رحم الأم، فلا يزال يخضع لعمليات التفاعل و النمو حتى يخرج من بطنها، و ليست هذه التفاعلات إلاّ شعبة من عملية الخلق و فرع منه و إيجاد بعد إيجاد.

ص: 64

و لأجل وجود الصلة الشديدة بين التدبير و الخلق نرى أنه سبحانه بعد ما يذكر مسألة خلق السّماوات و الأرض يطرح مسألة تسخير الشمس و القمر(1)الذي هو نوع من التدبير.

و من هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق و قد عرفت أن لا خالق إلاّ اللّه.

2 - وحدة النظام دليل على وحدة المدبّر
اشارة

إنّ مطالعة كل صفحة من صفحات الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحّد، و كأنّ أوراق الكتاب التكويني - على غرار الكتاب التدويني شدّ بعضها إلى بعض بيد واحدة و أخرجت في صورة موحدة.

إنّ القوانين و السنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كليّة و شاملة، بحيث لو أتيح لأحد أن يكشف ناموسا طبيعيا في نقطة من نقاط الكون فهو يكشف قانونا كليا سائدا على النظام من غير فرق بين أرضيّه و فلكيّه.

إنّ وحدة النظام و شمول السنن تقودنا إلى موضوعين:

1 - ليس للعالم إلاّ خالق واحد.

2 - ليس للعالم إلاّ مدبّر واحد.

و عند ذلك يتجلى مفاد قوله سبحانه: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (2).

إنّ جملة «له الخلق» إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

و جملة «و الأمر» إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية.

و باختصار، إنّ وحدة النظام و انسجامه و تلاحمه لا تتحقق إلاّ إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم و مدبر واحد، و لو خضع الكون لإدارة مدبرين،

ص: 65


1- سورة الأعراف: الآية 54، سورة الرّعد: الآية 2.
2- سورة الأعراف: الآية 54.

لما كان من النظام الموحّد أي أثر لأن تعدد المدبّر و المنظّم - بحكم اختلافهما في الذات أو في المصنّفات و المشخصات - يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير و الإدارة، و يستلزم تعدد التدبير فناء النظام الموحد و غيابه.

و بعبارة أخرى، إنّ المدبرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم يكن هنا اثنينية في المدبر، و إن لم يكونا متساويين بل كان هناك اختلاف بينهما في الذات أو في عوارضها، فالاختلاف فيها يؤثر اختلافا في التدبير و هو خلاف الحسّ .

إلى هنا خرجنا بهاتين النتيجتين:

الأولى: التدبير نوع من الخلق، و التوحيد في الثاني يلازمه في الأول.

الثانية: إن وحدة النظام و انسجامه و تلاصقه و تماسكه كاشف عن وحدة التدبير و المدبّر.

إجابة عن إشكال

إنّ هناك إشكالا دارجا في الألسن و هو أنّ الأرباب المفروضين و إن كانوا متكثري الذوات و متغايريها و يؤدي ذلك بالطبع إلى اختلاف الأفعال و تدافعها، لكن من الممكن أن يتواطئوا على التسالم و هم عقلاء، و يتوافقوا على التلاؤم رعاية لمصلحة النظام الواحد و تحفظا على بقائه. هذا هو الإشكال.

و أمّا الإجابة فبوجود الفرق الواضح بين العقلاء و الأرباب المفروضين فإنّ عمل العقلاء مبني على علومهم و ليست هي إلاّ قوانين كلية مأخوذة من النظام الخارجي الجاري في العالم. فللنظام الخارجي نوع تقدم على تلك الصور العلمية و هي تابعة لنفس النظام الخارجي، فعند ذلك يتصالح العقلاء المتنازعون حسب ما تنكشف لهم المصلحة، فيأخذون بالطريق الوسط الذي تجتمع فيه مصالحهم و أغراضهم و غاياتهم. هذا هو حكم العقلاء المتنازعين

ص: 66

أولا فالمتنازلين ثانيا حسب تطابق أعمالهم على النظام السائد.

و أما الأرباب المفروضون فالأمر فيهم على العكس لأن الكيفية الخارجية تتبع علمهم لما عرفت من أنّ التدبير ليس منفكا عن الخلق و الإيجاد، و ليس شأنهم شأن مدراء الدوائر و المنشآت حيث إنّ شأنهم التبعية للسنن السائدة فيها كما عرفت، فإنّ تدبير الآلهة تدبير تكويني ينشأ عن الخلق و الإيجاد و لو بقاء لا حدوثا، فعند ذلك يكون الخارج تابعا لعلمهم لا أنهم يتبعون السنن الموجودة فيه. و على ضوء ذلك فلا معنى للتوافق في التدبير.

و باختصار هناك فرق بين تدبير خال عن الإيجاد و الخلق كرئيسين بالنسبة إلى مرءوسيهما، فيمكن تصالحهما على كيفية الاستفادة منها، و بين تدبير ملازم للخلق و الإيجاد و إدامة الحياة و استمرار الوجود، فالرئيس في الأول يقتفي السنن السائدة و الرئيس في الثاني يوجد السنن و يبدعها.

3 - القرآن و التّوحيد في الرّبوبية

إنّ القرآن الكريم ينكر أي مدبّر سوى اللّه تعالى و يستدلّ على ذلك ببرهان ذي شقوق و قد جاء البرهان ضمن آيتين، تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعض الشقوق منه، و إليك الآيتين:

لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ (1) .

وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ (2) .

و أمّا مجموع شقوق البرهان فبيانها بما يلي:

ص: 67


1- سورة الأنبياء: الآية 22.
2- سورة المؤمنون: الآية 91.

إنّ تصور تعدّد المدبر لهذا العالم يكون على وجوه:

1 - أن ينفرد كل واحد من الآلهة المدبرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دون ما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير، لأنّ المدبّر متعدّد و مختلف في الذات، و هذا يستلزم طروء الفساد على العالم. و هذا ما يشير إليه قوله سبحانه: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ .

2 - و إما أن يدبر كل واحد قسما من الكون الذي خلقه و عندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام خاص مغاير لنظام الجانب الآخر و غير مرتبط به أصلا و عندئذ يلزم انقطاع الارتباط و ذهاب الانسجام المشهود في الكون، في حين أننا لا نرى في الكون إلاّ نوعا واحدا من النظام يسود كل جوانبه من الذرّة إلى المجرّة و إلى هذا الشق أشار بقوله في الآية الثانية: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ .

3 - أن يتفضل أحد هذه الآلهة على البقية و يكون حاكما عليهم، و يوحّد جهودهم و أعمالهم، و يسبغ عليها الانسجام، و عندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون البقية و إلى هذا يشير قوله سبحانه: وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ .

فتلخص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد، ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعضها.

التوحيد في التدبير في أحاديث أئمة أهل البيت (ع)

جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول هذا القسم من التّوحيد مركزة على الدلائل التي تقدم ذكرها.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «فلما رأينا الخلق مسطما و الفلك جاريا، و اختلاف الليل و النهار و الشمس و القمر، دلّ صحة الأمر

ص: 68

و التدبير، و ائتلاف الأمر على أنّ المدبر واحد»(1).

و سأل هشام بن الحكم الإمام الصادق (عليه السلام): «ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟» قال: «اتصال التدبير و تمام الصنع كما قال اللّه عزّ و جل: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (2).

سؤال و جواب

إنّ التّوحيد في التدبير و أنّه لا مدبر سواه لا يجتمع مع تصريح القرآن بوجود مدبرات في الكون يقول سبحانه: فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (3) و يقول عز و جل: وَ هُوَ اَلْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً (4). و لا شك أنّ هؤلاء الحفظة إذ يراقبون البشر و يحفظونهم من الشر، فلا محالة يكونون مدبرين لهم بنحو ما.

و الجواب عنه بما عرفته منا غير مرة من أنّ معنى التّوحيد في الخالقية أو الربوبية ليس كونه سبحانه خالقا لجميع الأشياء مباشرة و بلا سبب و لا مدبرا كذلك، بل معناه أنّه ليس في الكون خالق أو مدبر مستقل سواه، و أنّ قيام الأشياء الأخرى بدور الخلقة و التدبير هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه.

و الاعتراف بمثل هذه المدبرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في اللّه سبحانه. و من له أدنى إلمام بألف باء المعارف و المفاهيم القرآنية يقدر على الجمع بين تلكما الطائفتين من الآيات كما أوضحنا ذلك عند البحث عن الخالقية، و لأجل إيضاح الحال نأتي بكلام العلاّمة الطباطبائي في المقام.

ص: 69


1- توحيد الصدوق، ص 244.
2- المصدر السابق، ص 250.
3- سورة النّازعات: الآية 5.
4- سورة الأنعام: الآية 61.
الملائكة وسائط في التدبير

الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءا و عودا، على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة، و بعده.

أمّا في العود، أعني حال ظهور آيات الموت و قبض الروح و إجراء السؤال و ثواب القبر و عذابه، و إماتة الكل بنفخ الصور و إحيائهم بذلك مجددا، و الحشر و إعطاء الكتاب و وضع الموازين، و الحساب، و السوق إلى الجنة أو النار فوساطتهم فيها غنية عن البيان. و الآيات الدّالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها و الأخبار المأثورة فيها عن النبي و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فوق حدّ الإحصاء. و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين عن المداخلة فيه، و تسديد النبي، و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار.

و أمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها قوله سبحانه: وَ اَلنّٰازِعٰاتِ غَرْقاً * وَ اَلنّٰاشِطٰاتِ نَشْطاً * وَ اَلسّٰابِحٰاتِ سَبْحاً * فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (1).

فإنّ المراد من «النّازعات» التي أقسم بها القرآن هو الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، و «غرقا» كناية عن الشديد في النزع. و المراد من «الناشطات» التي تخرج الأرواح برفق و سهولة. و «السابحات» النازلة من السماء مسرعة و السبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جريه. و «السابقات» نفس الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح و «فالمدبّرات أمرا» الملائكة المدبرة لأمور الكون.

فشأن الملائكة أن يتوسطوا بينه تعالى و ينفذوا أمره كما يستفاد من قوله

ص: 70


1- سورة النّازعات: الآيات 1-5.

تعالى: بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ * لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (1).

و قوله: يَخٰافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ (2).

و لا ينافي ما ذكرنا (توسطهم بينه تعالى و بين الحوادث و كونهم أسبابا تستند إليها الظواهر الكونية) إسناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإنّ السببية طولية لا عرضية فإنّ السبب القريب سبب للحادث، و السبب البعيد سبب للسبب.

كما لا ينافي توسطهم و استناد الحوادث إليهم، استناد الحوادث إلى اللّه تعالى، و كونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإنّ السببية طولية كما سمعت لا عرضية. و لا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة، و قد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدّق استنادها إلى الملائكة.

و ليس لشيء من الأسباب استقلال في مقابله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه، إلى اللّه سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين. فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة، فالملائكة، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرّا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا.

فمثل الأشياء في استنادها إلى الأسباب المترتبة: القريبة و البعيدة، و انتهائها إلى اللّه سبحانه بوجه بعيد، كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده و بالقلم، فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الذي توسل إليها باليد و القلم. و السبب الحقيقي هو الإنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته، استناد الكتابة بوجه إلى اليد و القلم(3).

ص: 71


1- سورة الأنبياء: الآيتان 26 و 27.
2- سورة النّحل: الآية 50.
3- الميزان، ج 20، صفحة 183-184 بتلخيص.

ص: 72

التوحيد في الحاكمية
(6) انحصار حق الحاكمية في اللّه سبحانه

إنّ التوحيد في الحاكمية من شئون التوحيد في الربوبية فإنّ الربّ بما أنّه صاحب المربوب و مالكه، و بعبارة ثانية خالقه و موجده من العدم، له حق التصرف و التسلط على النفوس و الأموال و إيجاد الحدود في تصرفاته. و هذا يحتاج إلى ولاية بالنسبة إلى المسلّط عليه، و لو لا ذلك لعدّ التصرف تصرفا عدوانيا. و بما أنّ جميع الناس أمام اللّه سواسية، و الكل مخلوق و محتاج إليه لا يملك شيئا حتى وجوده و فعله و فكره، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات و الأصالة، بل الولاية للّه المالك الحقيقي للإنسان و الكون و الواهب له وجوده و حياته كما يقول سبحانه: هُنٰالِكَ اَلْوَلاٰيَةُ لِلّٰهِ اَلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (1).

و الاستدلال بهذه الآية على انحصار الولاية في اللّه سبحانه مبني على أن يكون اسم الإشارة «هنالك» إشارة إلى الوقت الذي يتنازع فيه الكافر و المؤمن في هذه الدنيا، و أن تكون الولاية بمعنى تولي الأمور فهو الذي يتولى أمر عباده(2).

ص: 73


1- سورة الكهف: الآية 44.
2- لاحظ مجمع البيان، ج 3، ص 472.

و على هذا فالحاكمية خاصة باللّه سبحانه و هي منحصرة فيه و تعد من مراتب التّوحيد و لك أن تستظهر هذه الحقيقة من الآيات التالية:

إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفٰاصِلِينَ (1) .

أَلاٰ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحٰاسِبِينَ (2) .

لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىٰ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (3) .

هذا من جانب، و من جانب آخر إنّ وجود الحكومة في المجتمع أمر ضروري. و المراد الحكومة التي تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية، و تسعى إلى تنظيم الطاقات و تنمية المواهب، و توقف أبناء المجتمع على واجباتهم، و تجري القوانين و السّنن الإلهية و البشرية.

و من المعلوم أنّ تجسيم الحكومة و تجسيدها في الخارج و ممارسة الإمرة ليس من شأنه سبحانه بل هو شأن من يماثل المحكوم في الجنس و النوع و يشافهه و يقابله مقابلة الإنسان للإنسان. و على ذلك، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في اللّه سبحانه و لزوم كون الحاكم و الأمير بشرا كالمحكوم، هو لزوم كون من يمثل مقام الإمرة مأذونا من جانبه سبحانه لإدارة الأمور و التصرف، في النفوس و الأموال، و أن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه و منبعثة منها و لو لا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة و لا دليل.

و إن شئت قلت، إنّ المقصود هو حصر الولاية التي تنبعث منها الحاكمية في اللّه سبحانه، لا حصر الإمرة و التصدي لتنظيم البلاد، و إقرار الأمن في المجتمع. فالولاية و حق الحاكمية له سبحانه، و على ضوء ذلك يجب أن يكون المتمثل بها منصوبا من قبله سبحانه باسمه الخاص أو بوصفه المخصوص.

ص: 74


1- سورة الأنعام: الآية 57.
2- سورة الأنعام: الآية 62.
3- سورة القصص: الآية 70.

و لأجل ذلك نجد أنّ أمة كبيرة من جنس البشر تولوا منصة الحاكمية من جانب اللّه سبحانه و إذنه الخاص، يديرون شئون الحياة الاجتماعية للإنسان. و في ذلك يخاطب اللّه نبيّه داود و يقول:

يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لاٰ تَتَّبِعِ اَلْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ (1) .

إنّ الآية الكريمة و إن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء، لكن نفوذ قضائه كان ناشئا من حاكميته الواسعة التي تشمل الحكم و الإمرة بحيث كان نفوذ قضائه من لوازمها و فروعها. و لم يكن القضاء في تلك الأعصار منفصلا عن سائر شئون الحكومة و لم يكن شأن داود منحصرا في بيان الأحكام و المعارف، بل كان يتمتع بسلطة تامة تشمل التنفيذية و القضائية، بل التشريعية أيضا بوحي من اللّه سبحانه. يقول سبحانه: وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ (2).

قال العلاّمة الطباطبائي: و يدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ أَمَرَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ (3).. فالحكم للّه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه غير واحد من الآيات، غير أنه سبحانه ربما ينسب الحكم و خاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره، كقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ (4)، و قوله للنبيّ : وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ (5). و قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ (6) و قوله: يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ (7) إلى غير ذلك

ص: 75


1- سورة ص: الآية 26.
2- سورة البقرة: الآية 251.
3- سورة يوسف: الآية 40.
4- سورة المائدة: الآية 95.
5- سورة المائدة: الآية 49.
6- سورة المائدة: الآية 48.
7- سورة المائدة: الآية 44.

من الآيات، فإذا انضم هذا القسم من الآيات إلى القسم الأول الحاصر له باللّه سبحانه يفيد أنّ الحكم الحق للّه سبحانه بالأصالة و أوّلا لا يستقل به أحد غيره، و يوجد لغيره بإذنه و بالعرض ثانيا، و لذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين و خيرهم لأنه لازم الأصالة و الاستقلال فقال: أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِأَحْكَمِ اَلْحٰاكِمِينَ (1) و قال: وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ (2)، و عمّ الحكم التكويني فلا يوجد - على ما أذكر - ما يدل على نسبته إلى غيره، و إن كان معاني عامة الصفات و الأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره انتسابا إذنيا، كالعلم و القدرة و الحياة و الخلق و الرزق، و الإحياء و المشيئة التي انتسبت إلى غيره سبحانه في آيات كثيرة، و لعل عدم نسبة الحكم التكويني إلى غيره سبحانه لحرمة جانبه تعالى، لإشعار هذا الوصف بنوع من الاستقلال الذي لا مسوّغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة. و نظيرها في ذلك ألفاظ البديع و البارئ و الفاطر و ألفاظ أخرى تجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص، و إنما كفّ عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية(3).

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ الحاكمية فرع الولاية على المحكوم، و لا ولاية إلاّ للّه سبحانه. فلا حكومة إلاّ له. غير أن تجسيد الحكومة في المجتمع، بمعنى الإمرة عليه، ليس من شئونه سبحانه، بل يقوم به المأذون من جانبه إمّا بالاسم كما مرّ في حق داود، أو بالوصف و العنوان كما هو الحال في حق العلماء و الفقهاء الذين لهم الحكم و الإمرة عند غيبة النبي أو الإمام المنصوص عليه بالاسم.

و على هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون شرعيتها مستمدة من ولايته سبحانه و حكمه بوجه من الوجوه، و إذا كانت علاقتها

ص: 76


1- سورة التين: الآية 8.
2- سورة الأعراف: الآية 87.
3- الميزان، ج 7، ص 116-117. و سيوافيك معنى الحكم التكويني عند البحث عن القضاء و القدر التكويني، فإن الحكم التكويني هو القضاء التكويني.

منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا قيمة لها، فلا حاكمية لأحد على أحد إلاّ من حكّمه اللّه على الإنسان في ظل شروط خاصة من العدل و القسط و رعاية الأحكام الإلهية.

ص: 77

ص: 78

التّوحيد في الطّاعة
(7) انحصار حق الطّاعة في اللّه سبحانه

إنّ انحصار حق الطّاعة في اللّه سبحانه من شئون انحصار الرّبوبية فيه سبحانه. فإنّ الربّ بما هو صاحب الإنسان و مدبر حياته و مخطط مساره، و خالقه على وجه، له حق الطاعة كما له حق الحاكمية، فليس هناك مطاع بالذات إلاّ هو فهو الذي يجب أن يطاع و يمتثل أمره و لا يجب إطاعة غيره إلاّ إذا كان بإذنه و أمره.

و بعبارة أخرى، إنّ المالك للوجود بأسره و ربّ الكون الذي منه و إليه الإنسان يجب أن يطاع دون سواه. و المراد من الطاعة هو أن نضع ما وهبنا من الآلاء، حتى وجودنا و إرادتنا، في الموضع الذي يرضاه. و المروق من هذه الطّاعة عدوان على المولى و ظلم له، الذي يقبحه العقل.

و أمّا غيره تعالى، فبما أنّه لا دخل له في وجود الإنسان و حياته و نعمه و آلائه بل هو أيضا إنسان محتاج مثله، فلا يتصور له حق الطاعة إلاّ إذا أمر المطاع بالذات بإطاعته.

و لأجل ذلك نجد الآيات على صنفين صنف يعرفه سبحانه مطاعا و يقول: وَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا غُفْرٰانَكَ رَبَّنٰا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ (1).

ص: 79


1- سورة البقرة: الآية 285.

و صنف يعطف على إطاعة اللّه سبحانه إطاعة رسوله و لكن يجعل لزوم إطاعته مقيدا بإذنه سبحانه وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (1)و يقول: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اَللّٰهَ (2).

لا شك أنّ الرسول الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله)، و أولي الأمر، و الوالدين، و غيرهم يجب طاعتهم، و تحرم معصيتهم و مخالفتهم، لكن وجوب إطاعتهم إنما هو بأمر من اللّه سبحانه و لو لا أمره لما كان لأحد على أحد حقّ الطاعة و بذلك تقدر على تصنيف الآيات و جمعها.

نعم، ليست طاعة الرسول منحصرة في سماع الأحكام التي جاء بها و العمل على طبقها، بل للرسول الأعظم مناصب وراء بيان الوحي و تبيين الأحكام، و وراء تعليم القرآن و تلاوة آياته، و منها إصدار الأوامر و النواهي إلى المؤمنين في مختلف شئون الحياة فإذا أمر بتجهيز الجيش و النفر إلى الجهاد و مكافحة الظالمين فله حق الطاعة عليهم، و من خالفه فقد خالف الرسول و عصاه. و هذا بخلاف ما إذا بلّغ الرسول أحكام اللّه و رسالاته إلى الناس كالصلاة و الصيام فتركهما يعدّ معصية للّه سبحانه لا معصية للرسول.

فيجب على الموحّد الإمعان في هذه المجالات المختلفة و يعترف:

أوّلا: إنّ الطّاعة على وجه الإطلاق مختصة باللّه سبحانه و لا طاعة لغيره بالذات.

و ثانيا: إنّ الرسول الأعظم له مقامات فهو في مقام مبلغ و بشير و نذير، كما في إبلاغ رسالاته. و هو في الوقت نفسه في مقام آخر آمر و ناه له حق الأمر و النهي، كما هو في مقام ثالث فاصل للخصومات و قاض بين الناس فيجب تنفيذ حكمه. و تمييز هذه المقامات غير خفي لمن أمعن و تدبّر.

ص: 80


1- سورة النساء: الآية 64.
2- سورة النساء: الآية 80.
التوحيد في التشريع
(8) انحصار حق التقنين و التّشريع في اللّه سبحانه

إنّ التّوحيد في التشريع من فروع التّوحيد في الربوبية، فإذا كان اللّه سبحانه هو الربّ و المدبّر و المدير للكون و الإنسان، و المالك و الصاحب فلا وجه لسيادة رأي أحد على أحد. لأن النّاس في مقابلة سبحانه سواسية كأسنان المشط فلا فضل لأحد على أحد من حيث هو هو.

و بعبارة أخرى: إنّ المشرّع و المقنّن لا ينفك تشريعه و تقنينه عن إيجاد الضيق على الفرد و المجتمع، فينهى عن شيء تارة و يسوّغه أخرى، و يعاقب على العصيان و المخالفة. و من المعلوم أنّ هذا العمل يتوقف على ولاية المقنن على الفرد أو المجتمع و لا ولاية لأحد على أحد إلاّ اللّه سبحانه.

فلأجل ذلك لا مناص من القول بأنّ التقنين و التشريع الذي هو نوع تدبير لحياة الفرد و المجتمع مختص باللّه سبحانه و ليس لأحد ذلك الحق.

و على هذا الأساس لا يوجد في الإسلام أي سلطة تشريعية لا فردية و لا جماعية و لا مشرّع إلاّ اللّه وحده، و أمّا الفقهاء و المجتهدون فليسوا بمشرعين بل هم متخصصون في معرفة تشريعه سبحانه و وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها و جعلها في متناول الناس.

و أمّا ما تعورف في القرن الأخير من إقامة مجالس النواب أو الأمة أو

ص: 81

الشورى في البلاد الإسلامية، فليست لها وظيفة سوى التخطيط لإعطاء البرامج للمسئولين في الحكومات في ضوء القوانين الإلهية لتنفيذها.

و التخطيط غير التقنين كما هو واضح.

و على ذلك فهناك مقنّن و مشرّع و هو اللّه سبحانه، كما أنّ هناك مبيّن و كاشف عن القوانين و هو الفقيه، و هناك جماعة الخبراء الواقفون على المصالح و المفاسد و شأنهم التخطيط و البرمجة في مجالات الزراعة و التنمية و الاقتصاد و الصناعة و غير ذلك ممّا لا تتم الحياة في هذه العصور إلاّ به و هم نواب الأمة و وكلاؤهم في تلك المجالس.

ثم إنّ هناك آيات في الذكر الحكيم تدل بوضوح على اختصاص التشريع باللّه سبحانه، نذكر بعضا منها:

قال سبحانه: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ (1).

و قال سبحانه: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ (2).

و قال سبحانه: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ (3).

فهذه المقاطع الثلاثة تعرب عن انحصار حق التقنين باللّه سبحانه و ذلك لأنه يصف كل من حكم بغير ما أنزل اللّه تارة بالكفر و أخرى بالظلم و ثالثة بالفسق، فهم كافرون لأنهم يخالفون التشريع الإلهي بالرّد و الإنكار و الجحود، و ظالمون لأنهم يسلّمون حق التقنين الذي هو مختص باللّه سبحانه إلى غيره، و فاسقون لأنهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة اللّه تعالى.

ص: 82


1- سورة المائدة: الآية 44.
2- سورة المائدة: الآية 45.
3- سورة المائدة: الآية 47.

و باختصار، يعدّ الحكم صنفين: حكم اللّه تبارك و تعالى و حكم الجاهلية و يقول: أَ فَحُكْمَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (1).

«فالحكم حكمان، حكم اللّه و حكم أهل الجاهلية فمن أخطأ بحكم اللّه حكم بحكم أهل الجاهلية»(2).

و على ضوء ذلك فالسلطات التشريعية السائدة في العالم، إذا كان تشريعها مطابقا لتشريع اللّه سبحانه فهو حكم اللّه، و لو أضيف إلى المجالس فقد سبقه التشريع الإلهي و لم يكن حاجة لتشريعه. و إن كان على خلافه فهو حكم الجاهلية حسب النصّ الشريف.

نعم هاهنا أسئلة حول اختصاص التشريع باللّه سبحانه نترك الإجابة عنها إلى الأبحاث الفقهية. و لكن نأتي بنكتة و هي أنّ حق التشريع على العباد من شئون الربوبية فمن أعطى زمام التشريع إلى غيره سبحانه فقد اتخذه ربّا و لو في بعض الشئون لا كلّها. و لأجل ذلك نرى أنه سبحانه يرمي اليهود و النصارى بأنهم اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ (3) و لم يكن اتّخاذهم أربابا لأجل عبادتهم بل لأجل دفع حق التشريع إليهم.

روى الثعلبي في تفسيره عن علي بن حاتم قال: «أتيت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و في عنقي صليب من ذهب فقال لي: يا علي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته ثم انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً حتى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم فقال: أ ليس يحرمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه و يحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه قال: فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم».

ص: 83


1- سورة المائدة: الآية 50.
2- من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 3.
3- سورة التوبة: الآية 31.

و روي عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: «أما و اللّه ما صاموا و لا صلّوا و لكنهم أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا، فاتّبعوهم و عبدوهم من حيث لا يشعرون»(1).

ص: 84


1- مجمع البيان، ج 3، ص 23. فاتخاذ الرّب و إعطاء زمام التشريع كان على وجه الحقيقة، و في تسمية ذلك عبادة نوع تجوّز و توسع كما سيوافيك في معنى العبادة.
التوحيد في العبادة
(9) لا معبود سوى اللّه
اشارة

التّوحيد في العبادة ممّا اتفق على اختصاصه باللّه سبحانه جميع المسلمين بل الإلهيّين، فلا يسجل اسم أحد في سجلّ الموحدين أو المسلمين إلاّ أن يخصّص العبادة باللّه وحده فلو عممها له و لغيره، لا يكون مسلما و لا موحدا.

و هذه القاعدة الكلية لا يشك فيها أي مسلم، كيف و القرآن يصرّح بأن الغاية و الهدف الأسنى من بعث الأنبياء هو الدعوة إلى التوحيد في العبادة، قال سبحانه: وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ (1). و شعار المسلمين من لدن بعثة النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى يومنا هذا هو تخصيص العبادة باللّه سبحانه، كيف و هم يقرءون في صلواتهم: إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ (2). و كانت مكافحة النبي (صلى اللّه عليه و آله) للثنويين تتركز على هذه النقطة غالبا كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.

و بالجملة، لا تجد مسلما ينكر أصل الضابطة و القاعدة بل الكل

ص: 85


1- سورة النّحل: الآية 36.
2- سورة الفاتحة: الآية 5.

متفقون على صحتها قائلون بأنّ استحقاق العبادة من شئون الربوبية، فمن كان ربّا فهو مستحق للعبادة، و إذ لا ربّ سواه فلا معبود سواه. و إنما الكلام في تشخيص مصاديقها و جزئياتها عن غيرها، و هذه هي المشكلة الوحيدة في هذا الفصل، فإنّ جلّ من يعدّون بعض الأفعال عبادة لم يتوفقوا في تحديد العبادة تحديدا منطقيا يتميز به مصداق العبادة عن غيرها. فلأجل ذلك ضربوا الكل بسهم واحد فخلطوا العبادة بغيرها، و أجروا على الكل حكم الشّرك. و من هنا يجب على الباحث الكلامي تحديد مفهوم العبادة حتى يتميز مصداقها عن مصداق غيرها كالخضوع و التعظيم.

و هذا البحث هو البحث الرئيسي في هذا الفصل و ليس للباحث غنى عنه، و نحن نرسل الكلام في الموضوع لما نجد فيه من الأهمية الخاصة في هذه الأعصار.

ما هي العبادة ؟
اشارة

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء و الأرض و لكن مع وضوح مفهومها و حضور هذا المفهوم في الذهن يصعب التعبير عنه بالكلمات، فكما هي واضحة مفهوما، كذلك واضحة مصداقا بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم و التكريم. فتقبيل العاشق دار معشوقته، أو تراب قبرها بعد موتها لا يوصف بالعبادة، كما أن ذهاب الناس إلى زيارة من يعينهم من الشخصيات، و الوفود إلى مقابرهم، أو الوقوف أمامها احتراما لا يعد عبادة و إن بلغ من الخضوع ما بلغ. و لكن لكي نعطي ضابطة كلية لتمييز المصاديق نأتي بتعاريف ثلاثة تتميز بها العبادة عن التكريم و التعظيم و إليك بيانها.

التعريف الأول

العبادة هي: «الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد بألوهية المخضوع له»(1) و يتضح صدق هذا التعريف ببيان أمرين:

ص: 86


1- سيوافيك فيما يأتي معنى الألوهية.

الأول: إن العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم و بيئاتهم، بل كل الوثنيين و عبدة الشمس و الكواكب و الجن، كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم، و يتخذونها آلهة صغيرة، و فوقها الإله الكبير الذي نسميه ب «اللّه» سبحانه و تعالى.

الثاني: إنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بألوهية المعبود، و أنّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد، فلا يكون الخضوع أو التعظيم و التكريم عبادة.

أما الأمر الأول فيدل عليه آيات كثيرة نشير إلى بعضها، يقول سبحانه:

اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (1) .

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (2) .

أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اَللّٰهِ آلِهَةً أُخْرىٰ (3) .

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْنٰاماً آلِهَةً (4) .

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أصنامهم و قد فسّر الشرك في بعض الآيات ب «اتخاذ الإله مع اللّه»، و ذلك في قوله سبحانه: وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ * إِنّٰا كَفَيْنٰاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ * اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (5).

ص: 87


1- سورة الحجر: الآية 96.
2- سورة مريم: الآية 81.
3- سورة الأنعام: الآية 19.
4- سورة الأنعام: الآية 74.
5- سورة الحجر: الآيات 94-96.

و في آية أخرى يفسّر حقيقة الشّرك ب «اعتقاد ألوهية المعبود» و ذلك في قوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلٰهٌ غَيْرُ اَللّٰهِ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (1).

فجعل ملاك الشّرك الاعتقاد بألوهية غير اللّه و المراد من الشّرك هنا، الشّرك في العبادة.

فبهذه الآيات و نظائرها يتجلى بوضوح تام أنّ شركهم كان بسبب اعتقادهم ألوهية معبوداتهم و بسبب هذا الاعتقاد كانوا يعبدونها و يقدمون لها النذور و القرابين و غير ذلك من التقاليد و السنن العبادية. و بما أنّ كلمة التّوحيد تهدم عقيدتهم بألوهية غير اللّه سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعها كما قال عزّ و جل: إِنَّهُمْ كٰانُوا إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ يَسْتَكْبِرُونَ (2)أي يرفضون ما قيل لهم، لأنهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم أيضا، و يعبدونها لأنها آلهة بحسب تصورهم.

و لأجل هذه العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي اللّه وحده كفروا به، و إذا أشرك به آمنوا كما قال سبحانه: ذٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذٰا دُعِيَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ (3).

و أما الأمر الثاني: فيدل عليه الآيات التي تأمر بعبادة اللّه و تنهى عن عبادة غيره، مدلّلة ذلك بأنّه لا إله إلا اللّه كقوله سبحانه و تعالى: يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ (4) و معنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلها، و ليس هو إلاّ اللّه. و عندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله. و كيف تتركون عبادة اللّه و هو الإله الذي يجب أن يعبد دون سواه ؟ و في هذا المضمون وردت آيات كثيرة أخرى(5).

ص: 88


1- سورة الطور: الآية 43.
2- سورة الصافات: الآية 35.
3- سورة غافر: الآية 12.
4- سورة الأعراف: الآية 59.
5- قد ورد هذا المضمون في عشرة موارد أو أكثر في القرآن الحكيم و يمكن للقارئ الكريم أن يراجع لذلك الآيات التالية الأعراف/ 65 و 73 و 85، هود/ 50 و 61 و 84، الأنبياء/ 25، المؤمنون/ 23 و 22، طه/ 14.

فهذه التعابير التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف، تفيد أنّ العبادة هي الخضوع و التذلّل النابعين من الاعتقاد بألوهية المعبود، إذ نلاحظ بجلاء كيف أنّ القرآن استنكر عبادة المشركين غير اللّه بأنّ هذه المعبودات ليست بآلهة، و أنّ العبادة من شئون الألوهية، فإذا تحقق وصف الألوهية في شيء جازت عبادته و اتخاذه معبودا. و حيث أنّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في اللّه سبحانه وجب عبادته دون سواه.

فإلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال: «إنّ العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بألوهية المعبود» و إلى ذلك يشير العلاّمة الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي في تفسيره المسمى ب «آلاء الرحمن» في معرض تفسيره و تحليله لحقيقة العبادة قال: «العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلها ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالألوهية»(1).

لقد صبّ العلامة البلاغي ما يدركه فطريا للعبادة في قالب الألفاظ و البيان. و الآيات المتقدمة تؤيد صحّة هذا التعريف و استقامته.

التّعريف الثاني

العبادة هي: «الخضوع أمام من يعتقد بأنه يملك شأنا من شئون وجود العابد و حياته و آجله و عاجله».

توضيح ذلك: إنّ العبودية من شئون المملوكية و مقتضياتها، فعند ما يحسّ العابد في نفسه بنوع من المملوكية، و يحسّ بالمالكية في الطرف الآخر، يفرغ إحساسه هذا، في الخارج، في ألفاظ و أعمال خاصة، و تصير الألفاظ و الأعمال تجسيدا لهذا الإحساس، و يكون كل عمل أو لفظ مظهر لهذا الإحساس العميق، عبادة.

ص: 89


1- آلاء الرحمن، ص 57، طبعة صيدا. و قد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

و لا شك أن ليس المقصود بالمالكية، مطلق المالكية، فالاعتقاد بالمالكية القانونية و الاعتبارية لا يكون أبدا موجبا لصيرورة الخضوع عبادة.

و البشر في عصور «العبوديات الفردية» بالأمس، و «العبودية الجماعية» في الحاضر، لا يعدون امتثالهم لأوامر أسيادهم عبادة. و إنما المقصود من المملوكية هنا، القائمة على أساس الخلق و التكوين و التسلّط على شأن من شئون التكوين. فالمالكيات الحقيقية لها مناشئ مختلفة و هاك بيانها:

1 - قد يوصف بالمالكية لكونه خالقا، و من هنا يكون اللّه سبحانه مالكا حقيقيا للبشر لأنه خالقه و موجده من العدم. و لهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة عبيدا للّه، و يصفهم تعالى بأنه مالكهم الحقيقي و ذلك لأنه خلقهم، إذ يقول سبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي اَلرَّحْمٰنِ عَبْداً (1).

و لأجل ذلك أيضا نجده سبحانه يأمرهم بعبادة نفسه معللا بأنه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه، إذ يقول: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (2) و يقول جل شأنه: ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ (3).

2 - و يوصف بالمالكية لكونه رازقا و محييا و مميتا، و لذلك يحس كل إنسان سليم الفطرة بمملوكيته للّه تعالى، لأنّه سبحانه مالك حياته و مماته و رزقه. و من هنا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية اللّه تعالى لرزق الإنسان و أنه تعالى هو الذي يميته و هو الذي يحييه، ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ اللّه هو الذي يستحق العبادة فحسب، إذ يقول عزّ من قائل: اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (4). و يقول سبحانه: هَلْ لَكُمْ مِنْ مٰا

ص: 90


1- سورة مريم: الآية 93.
2- سورة البقرة: الآية 21.
3- سورة الأنعام: الآية 102.
4- سورة الروم: الآية 40.

مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ شُرَكٰاءَ فِي مٰا رَزَقْنٰاكُمْ (1) و يقول تعالى: هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ (2).

3 - و يوصف بها لكون الشفاعة و المغفرة بيده، و حيث إنّ اللّه تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة لقوله تعالى: قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً (3)، و لمغفرة الذنوب لقوله تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّٰهُ (4)، بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلاّ بإذنه، لذلك يشعر الإنسان في قرارة ضميره بأنّ اللّه سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأخروية، و إذا أحس إنسان بمملوكية كهذه و مالكية كتلك، ثم جسّد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل، كان عابدا له بلا ريب.

و إلى ذلك يرجع ما ربما يفسّر العبادة بأنّها خضوع أمام من يعتقد بربوبيته، فمن كان خضوعه العملي، أو القولي أمام أحد نابعا من الاعتقاد بربوبيته، كان بذلك عابدا له. و يكون المقصود من لفظة «الرّب» في هذا التعريف هو المالك لشئون الشيء، القائم بتدبيره و تربيته.

و يدل على ذلك أنّ قسما من الآيات تعلل الأمر بحصر العبادة في اللّه وحده بأنّه الربّ ، فمن ذلك قوله سبحانه: وَ قٰالَ اَلْمَسِيحُ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ (5). و قوله سبحانه: إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (6). و قوله سبحانه إِنَّ اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ (7). و غير ذلك من الآيات التي تجعل العبادة دائرة مدار

ص: 91


1- سورة الروم: الآية 28.
2- سورة يونس: الآية 56.
3- سورة الزّمر: الآية 44.
4- سورة آل عمران: الآية 135.
5- سورة المائدة: الآية 72.
6- سورة الأنبياء: الآية 92.
7- سورة آل عمران: الآية 51.

الربوبية(1).

التعريف الثالث

و يمكننا أن نصبّ إدراكنا للعبادة في قالب ثالث فنقول: العبادة هي «الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده و فعله، أمام من يكون مستقلا فيهما». و ليس الغني المستقل إلا اللّه سبحانه، و قد وصف نفسه تعالى في غير موضع من كتابه بالقيوم قال عز من قائل: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (2) و قال سبحانه: وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ (3). و لا يراد منه سوى كونه قائما بنفسه، ليس فيه أيّة شائبة من شوائب الفقر و الحاجة إلى الغير، بل كل ما سواه قائم به.

و بعبارة أخرى: العبادة نداء اللّه تعالى و سؤاله، و القيام بخضوع في محضره، و طلب حاجات الدنيا و الآخرة منه على أنه الفاعل المختار و المالك الحقيقي لأمور الدنيا و الآخرة كلها، و المتصرف فيها، فلو نودي موجود آخر بهذا الوصف، تماما أو بعضا، فالنداء عبادة له و شرك فيه، و المنادي مشرك بلا كلام. فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل اللّه سبحانه، و نميزه عن فعل غيره و صلاحيته، حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأنبياء و الأولياء و غيرهم من الناس، فنقول:

إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل اللّه تعالى من غيره. و من المعلوم أنّ فعل اللّه تعالى ليس هو مطلق الخلق و التدبير و الرزق سواء أ كان عن استقلال أم بإذن اللّه لأنه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن، بل هو القيام بالفعل مستقلا من دون استعانة بغيره، فلو خضع احد أمام آخر بما أنه

ص: 92


1- لاحظ الآيات الكريمات التاليات: يونس: الآية 3، الحجر: الآية 99، مريم: الآيتان 36 و 65، الزخرف: الآية 64.
2- سورة البقرة: الآية 255، و آل عمران: الآية 2.
3- سورة طه: الآية 111.

مستقل في فعله سواء أ كان الفعل فعلا عاديا كالمشي و التكلم، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح (عليه السّلام) مثلا، من خلق الطّير من الطين و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى و الإنباء بالمغيّبات، يعدّ الخضوع عبادة للمخضوع له.

توضيح ذلك: إنّ اللّه سبحانه غني في فعله، كما هو غني في ذاته عما سواه، فهو يخلق و يرزق و يحيي و يميت من دون أن يستعين بأحد - سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية - أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة له. فلو اعتقدنا بأن أحدا مستغن في فعل العادي و غير العادي عمن سواه، و أنّه يقوم بما يريد من دون استمداد و احتياج إلى أحد حتى اللّه سبحانه، فقد أشركناه مع اللّه و اتخذناه ندّا له تعالى.

فالملاك في هذا التعريف هو «استقلال الفاعل» في فعله، و عدم استقلاله. و التوحيد بهذا المعنى مما يشترك فيه العالم و الجاهل.

نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود، و عدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية و الكتاب العزيز، ممّا يدركه غيره أيضا بفطرته التي خلق عليها، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة (أي المتألّهين البصيرين) حرمان الجاهليين من فهم معاني العبادة و مشتقاتها الواردة في القرآن و محاوراتهم العرفية، فالعبادة بهذا المعنى - أي باعتقاد كون المعبود مستقلا - يشترك فيه العالم و الجاهل، و الكامل و غير الكامل، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أعطي من الفهم و الدرك كما قال سبحانه: فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا (1) و حيث أنّ الدارج في ألسنة المتكلمين في المقام، التعبير ب «التفويض» فلنشرح.

مقاصدهم.

ص: 93


1- سورة الرعد: الآية 17.
ما ذا يراد من التفويض ؟
اشارة

اتّفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشّرك، و أنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعدّ عبادة للمخضوع له، و التفويض يتصور في أمرين:

1 - تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة و الأنبياء و الأولياء، و يسمى بالتفويض التكويني.

2 - تفويض الشئون الإلهية إلى عباده كالتقنين و التشريع، و المغفرة و الشفاعة، مما يعد من شئونه سبحانه و يسمى بالتفويض التشريعي.

أمّا القسم الأول:

فلا شك أنّه موجب للشرك، فلو اعتقد أحد بأنّ اللّه فوّض أمور العالم و تدبيرها من الخلق و الرزق و الإماتة و نزول الثلج و المطر و غيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده، فقد جعلهم أندادا له سبحانه، إذ لا يعنى من التفويض إلاّ كونهم مستقلين في أفعالهم، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون و ما يريدون.

فالأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال و الانقطاع عن اللّه سبحانه(1) أو كونه ذا شأن بأمره تعالى و إذنه و مشيئته و لا قسم ثالث. و الأول منهما هو التفويض. و أما الثاني و هو الاعتقاد بأنّ القديسين من الملائكة و الجنّ أو الأنبياء أو الأولياء مدبرون للعالم بإذنه و مشيئته و أمره و قدرته من دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون، أو مفوّضين فيما يعملون، فليس موجبا

ص: 94


1- و هو قسمان استقلال العبد في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم و الحوادث الواقعة فيه و هو محل البحث. و استقلاله في أفعال نفسه كمشيه و تكلمه و هو ما يأتي البحث عنه في الجبر و التفويض و هو الفصل السّادس من الكتاب.

للشرك، بل أمره دائر حينئذ بين كونه صحيحا مطابقا للواقع - كما في الملائكة - أو غلطا مخالفا له، كما في الأنبياء و الأولياء، فإنهم غير واقعين في سلسلة العلل و الأسباب بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم و حياتهم عند اختلال تلك النّظم. و معلوم أنه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركا، إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية و النظم المادية، و ليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل و الأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركا.

و قد مرّ أنّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعا من الاستقلال في الفعل و كانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس. و قد جاء في السيرة أنه لما أصاب المسلمين مطر في الحديبية لم يبلّ أسفل نعالهم أي ليلا، فنادى منادي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مناديه أن ينادي ألا صلّوا في رحالكم. و قال (صلّى اللّه عليه و آله) صبيحة ليلة الحديبية لما صلّى بهم: «أ تدرون ما قال ربّكم». قالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال: قال اللّه عز و جل: «صبّح بي من عبادي مؤمن بي و كافر، فأمّا من قال: مطرنا برحمة اللّه و فضله، فهو مؤمن باللّه و كافر بالكواكب، و من قال: مطرنا بنجم كذا - و في رواية بنوء كذا و كذا - فهو مؤمن بالكواكب و كافر بي»(1).

و أمّا القسم الثاني

و هو الاعتقاد بأنّ اللّه سبحانه فوّض إلى أحد مخلوقاته بعض شئونه كالتقنين و التشريع و الشفاعة و المغفرة، فلا ريب أنه شرك باللّه، و اتخاذ ندّ له كما يقول سبحانه: وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْدٰاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّٰهِ (2) و الموجود لا يكون ندّا للّه سبحانه، إلاّ إذا كان قائما بفعل أو

ص: 95


1- السيرة الحلبية، ج 3، ص 29.
2- سورة البقرة: الآية 165.

شأن من أفعال اللّه و شئونه سبحانه مستقلا، لا ما إذا قام به بإذن اللّه و أمره، فلا يكون عندها ندّا، بل عبدا مطيعا له مؤتمرا بأمره، منفذا لمشيئته تعالى، هذا.

و قد كان أخف ألوان الشرك و أنواعه بين اليهود و النصارى و العرب الجاهليين اعتقاد فريق منهم بأنّ اللّه سبحانه فوّض حقّ التقنين و التشريع إلى الرهبان و الأحبار كما يقول القرآن الكريم: اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ (1)، و أنّ اللّه فوّض حقّ الشفاعة و المغفرة اللذين هما من حقوقه المختصة به - إلى أصنامهم و معبوداتهم، و أن هذه الأصنام و المعبودات «مستقلة» في التصرف في هذه الشئون، فهي شفعاؤهم عند اللّه، و لأجل ذلك كانوا يعبدونها، كما يقول عزّ من قائل: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (2).

و لذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنّه لا يشفع أحد إلاّ بإذن اللّه، فلو كان المشركون يعتقدون بأنّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن اللّه لما كان لهذا الإصرار على مسألة متفق عليها بين المشركين، أيّ مبرر. على أن ذلك الفريق من الجاهليين إنما كانوا يعبدون الأصنام لكونها تملك شفاعتهم، و أنّ عبادتها توجب التقرب إلى اللّه، لا لكونها خالقة أو مدبرة للكون، و في هذا يقول القرآن الكريم حاكيا مقالتهم: مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ (3).

زبدة المقال

خلاصة القول في المقام، إنّ أي عمل ينبع من الاعتقاد بأنّ اللّه سبحانه إله العالم أو ربّه أو غني في فعله، و يكون كاشفا عن هذا النوع من التسليم المطلق، يعد عبادة له، و يكون صاحبه مشركا إذا فعل ذلك لغير اللّه.

ص: 96


1- سورة التوبة: الآية 31.
2- سورة يونس: الآية 18.
3- سورة الزمر: الآية 3.

و يقابل ذلك، القول و الفعل و الخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد.

فخضوع أحد أمام موجود و تكريمه - مبالغا في ذلك - من دون أن ينبع من الاعتقاد بألوهيته، لا يكون شركا و لا عبادة لهذا الموجود، و إن كان من الممكن أن يكون حراما. مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها، فإنه و إن كان حراما في الشريعة الإسلامية لكنه ليس عبادة بل حرمته لوجه آخر فالعبادة و التحريم شيئان.

و من هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام و هو:

إذا كان الاعتقاد بالألوهية أو الربوبية أو التفويض، شرطا في تحقق العبادة فيلزم من ذلك جواز السجود لأي شخص من دون ضمّ هذه النية.

و يجاب عليه: بأنّ السجود حيث إنّه وسيلة عامة للعبادة، و حيث إنّ اللّه تعالى يعبد بها عند جميع الأقوام و الملل و الشعوب، و صار بحيث لا يراد منه إلاّ العبادة، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي لا تكون عبادة. و هذا التحريم إنما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراما قبله، و إلاّ لما سجد يعقوب و أبناؤه ليوسف (عليه السّلام) إذ يقول عز و جل: وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً (1). و من هذا القبيل سجود الملائكة لآدم كما يقول سبحانه:

وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا... (2) فإنه لم يكن إلاّ سجود تكريم و احترام.

قال الجصاص: «قد كان السجود جائزا في شريعة آدم (عليه السّلام) للمخلوقين، و يشبه أن يكون قد كان باقيا إلى زمان يوسف (عليه السّلام) فكان فيما بينهم لمن يستحق ضربا من التعظيم و يراد إكرامه و تبجيله، بمنزلة المصافحة و المعانقة فيما بيننا، و بمنزلة تقبيل اليد، و قد روي عن النبي (عليه السّلام) في إباحة تقبيل اليد أخبار، و قد روي الكراهة إلاّ أنّ السجود

ص: 97


1- سورة يوسف: الآية 100.
2- سورة البقرة: الآية 34.

لغير اللّه على وجه التكرمة و التحية منسوخ بما روت عائشة و جابر و أنس إنّ النبي قال: «ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، و لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها»(1).

و الحاصل: إنّ خضوع أحد أمام آخرين لا باعتقاد أنهم «آلهة» أو «أرباب» أو «مصادر للأفعال و الشئون الإلهية» بل لأن المخضوع لهم مستوجبون للتعظيم لأنهم: عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ * لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (2)، ليس هذا الخضوع و التعظيم و التواضع و التكريم عبادة قطعا.

و قد مدح اللّه تعالى فريقا من عباده بصفات تستحق التعظيم عند ما قال: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (3). و قال في اصطفاء إبراهيم: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً (4). فهذه الأوصاف العظيمة توجب نفوذ محبتهم في القلوب و الأفئدة و تستوجب احترامهم في حياتهم و بعد مماتهم. بل إنّ بعض الأولياء (عليهم السّلام) فرضت على المسلمين محبتهم بنصّ القرآن إذ يقول سبحانه و تعالى: قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ (5).

و على ما ذكرنا لا يكون تقبيل يد النبي، أو الإمام، أو المعلم، أو الوالدين، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية، أو أضرحة الأولياء و ما يتعلق بهم من آثار، إلا تعظيما و تكريما، لا عبادة.

إلى هنا تبينت و اتضحت حقيقة العبادة بالتعريفات الثلاثة التي ذكرناها و أسهبنا في توضيحها و يمكنك بعد ذلك أن تعرف مدى وهن التعريفات الأخرى التي تذكر للعبادة و نذكر منها التعريفين التاليين:

ص: 98


1- أحكام القرآن، ج 1، ص 32 لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصّاص المتوفى عام (370 ه ق).
2- سورة الأنبياء: الآيتان 26-27.
3- سورة آل عمران: الآية 33.
4- سورة البقرة: الآية 124.
5- سورة الشورى: الآية 23.
تعريفان ناقصان للعبادة

أ - العبادة: «خضوع و تذلّل».

و قد ورد هذا التعريف في كتب اللّغة، و لكنه لا يعكس المعنى الحقيقي للعبادة الذي نردده في قولنا: إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ .

و إنما هو معنى مجازي لمناسبة ما يلازم العبادة الحقيقية عادة من إظهار الخضوع و التذلّل. و قد استعملت العبادة في هذا المعنى المجازي في القرآن الكريم في حكايته قول موسى (عليه السّلام): وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهٰا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ (1) و يدلنا على أنّ هذا المعنى ليس حقيقيا للعبادة أمران:

الأول: لو كانت العبادة مرادفة في المعنى للخضوع و التذلّل، لما أمكننا أن نعتبر أي إنسان موحدا للّه، لأن البشر - بفطرته - يخضع لمن يتفوق عليه، معنويا أو ماديا، كالتلميذ يخضع لأستاذه، و الولد لوالديه، و المحب لحبيبه، و المستعطي لمعطيه.

الثاني: إنّ القرآن الكريم يأمر الإنسان بأن يتذلّل لوالديه فيقول:

وَ اِخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً (2) فلو كان الخضوع و التذلّل معناه عبادة من تذلّلت له، لاستلزم الحكم بكفر من يبرّ والديه، و الحكم بتوحيد من يعق والديه.

ب - العبادة: «نهاية الخضوع».

لقد حاول بعض المفسرين بعد أن أدركوا نقصان تعريف اللغويين للعبادة - ترميم هذا النقص و إصلاحه، فقالوا: «العبادة: نهاية الخضوع بين يدي من تدرك عظمته و كماله». و هذا التعريف يشترك مع سابقه في النقص و الإشكال و ذلك:

ص: 99


1- سورة الشعراء: الآية 22.
2- سورة الإسراء: الآية 24.

1 - لأنّ اللّه تعالى يأمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول: وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ (1) و السجود هو نهاية التذلّل و الخضوع للمسجود له، فإذا كان معنى العبادة هو نهاية الخضوع فإنه يستلزم القول بكفر الملائكة الذين سجدوا لآدم امتثالا لأمره تعالى مع ما رواه فيه من الاختصاص بعلم الأسماء كلها.

2 - إنّ إخوة يوسف و والديه سجدوا جميعا ليوسف بعد استوائه على عرش الملك و السلطنة كما يقول تعالى: وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً، وَ قٰالَ يٰا أَبَتِ هٰذٰا تَأْوِيلُ رُءْيٰايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهٰا رَبِّي حَقًّا (2).

و الرؤيا التي أشار إليها يوسف في الآية هي ما أشار إليه تعالى بقوله:

إِذْ قٰالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سٰاجِدِينَ (3) .

3 - إنّ كل المسلمين اقتداء برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقبّلون الحجر الأسود المستقر في زاوية الكعبة المشرّفة، و يتبركون به، و نفس العمل هذا يقوم به عبّاد الأصنام تجاه أصنامهم مع العلم أنّ عملهم ذلك شرك قطعا، و عمل المسلمين توحيد قطعا.

إذن ليس معنى العبادة نهاية الخضوع و التذلّل، و إن كان ذلك من أركانها، و لكنه ليس الركن الوحيد لأن العبادة كما عرفت هي الخضوع و التذلّل المقرون بالاعتقاد الخاص «و هو الاعتقاد بألوهية المعبود» على ما عرفت ذلك مفصلا.

ص: 100


1- سورة البقرة: الآية 34.
2- سورة يوسف: الآية 100.
3- سورة يوسف: الآية 4.
نتائج البحث

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي: إنّ العبادة ليست سوى إظهار الخضوع أمام موجود يعتقد بأنّه إله أو ربّ أو مفوّض إليه الأفعال الإلهية، فلو كان الخضوع خاليا عن هذا الاعتقاد فلا يعد عبادة و لا شركا فيها. و أمّا كونه جائزا أو لا، نافعا أو لا، فالكل خارج عن إطار البحث. و بذلك يتضح أنّ كثيرا من الموضوعات التي تعرّفها فرقة الوهابية عبادة لغير اللّه و شركا به، ليس صحيحا على إطلاقه، و إنما هو شرك و عبادة على وجه، و خضوع عقلائي على وجه آخر. و لا يكون شركا إلاّ إذا كان المخضوع له معنونا بأحد العناوين الثلاثة الآتية:

1 - إنّه إله، ب - إنه رب، ج - إنه مفوّض إليه فعل الإله.

و من تلك الموضوعات:

1 - التوسل بأولياء اللّه.

2 - الاستعانة بأولياء اللّه في حياتهم.

3 - الاستعانة بأرواحهم بعد مماتهم.

4 - طلب الشفاعة منهم في الحياة و الممات.

5 - استحلاف اللّه سبحانه بحق الأولياء.

6 - الاستغاثة بأولياء اللّه.

7 - الحلف بغير اللّه.

8 - الاعتقاد بالقدرة الغيبية لأولياء اللّه.

9 - التبرك و الاستشفاء بآثارهم.

10 - النذر لأهل القبور.

و غير ذلك ما أوجد به الوهابيّون صخبا و هياجا بين السطحيين من المسلمين المتأثرين بأفكارهم.

فإن الكلمة الحاسمة في هذه الموضوعات من وجهة التوحيد و الشرك هي محاسبة عقيدة القائم بهذه الأفعال و الدقة فيما يعتقد به. فلو قام بها على

ص: 101

أنّ أولياء اللّه آلهة (آلهة صغيرة و إن كان فوقها إله كبير)، أو أنهم أرباب مدبرون و مديرون للكون كله أو بعضه، أو أنهم مفوّض إليهم أفعال اللّه سبحانه، فلا شك أنّ أقلّ عمل صادر من أي شخص بهذه النية، حتى و لو كان كتقبيل الضريح و لمس القبر، يتصف بالعبادة، و يكون العامل مشركا غير موحد في العبادة.

و أمّا إذا قام بها مجردة عن تلك العقيدة، بل بما أنهم عباد مخلصون مكرّمون، كرّسوا حياتهم في طريق رضا اللّه سبحانه، و قاموا ببذل النفس و النفيس في سبيله فلا يعد عبادة حتى و لو ركعوا و سجدوا لهم. و قد عرفت أنّ سجود الملائكة لآدم و يعقوب و أبنائه ليوسف كان مجسدا لأعظم خضوع و تعظيم، و لم يكن شركا في العبادة. و أنّ العرب الجاهليين كانوا واقعين في حبائل الشرك لا لأجل الخضوع المجرد للأصنام و الأوثان، بل لأجل اعتقاد الألوهية و الربوبية في حقهم و اعتقادهم باستقلالهم بالنفع و نفوذ المشيئة. يقول سبحانه موبخا إيّاهم يوم القيامة على ما اعتقدوه للأصنام من الاستقلال في إيصال النفع و دفع الضرر: أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اَللّٰهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (1). و يقول حاكيا اختصامهم يوم القيامة إنهم يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية و خصائصها: تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (2) فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب و يندم المجرم حين لا ينفعه ندم. فالتسوية المذكورة هي التي صيّرتهم مشركين، سواء أ كانت تسوية في جميع الصفات أو في بعضها.

و ممّا يدل على اعتقادهم الربوبية في معبوداتهم، قوله سبحانه:

وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْدٰاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّٰهِ (3) ، و غير ذلك من الآيات الدّالة على أنهم كانوا يعتقدون في الأوثان و الأصنام شيئا من

ص: 102


1- سورة الشعراء: الآيتان 92 و 93.
2- سورة الشعراء: الآيتان 97 و 98.
3- سورة البقرة: الآية 165.

الألوهية و الربوبية و لمعة من التفويض. فلو لا هذا الاعتقاد لما اصطبغ العمل بالشرك بل صار بين كونه أمرا عقلائيا مفيدا كما إذا كان الخضوع عن حق كالخضوع للأنبياء و الأولياء و العلماء و الصلحاء و الآباء و المربّين، و كونه عملا لاغيا غير مفيد إذا وقع في غير محله على ما عرفت.

فأنت بعد ما وقفت على تحديد العبادة تقدر على القضاء في المسائل السابقة المطروحة من جانب الوهابية.

ص: 103

ص: 104

التوحيد في الشفاعة و المغفرة و...
(10) الشفاعة و المغفرة حقه سبحانه

قد تعرفت على أهم أصناف التوحيد و أقسامه و أنّ الموحد الحقيقي من يوحّد اللّه تعالى في جميع المجالات سواء فيما كان راجعا إلى ذاته و صفاته أو إلى أفعاله أو إلى تخصيص العبادة به. هذا هو التقسيم الدارج بين المتكلمين لا سيما العدلية منهم، فتراهم يقسّمون التّوحيد إلى المراتب المذكورة و يقولون: «ينقسم التّوحيد إلى: التوحيد الذاتي و التّوحيد الصفاتي و التّوحيد الأفعالي و التوحيد العبادي». و نحن حرصا على تفسير مراتب التوحيد فصلناه على النحو الذي تعرفت عليه. و الذي يجب التنبيه عليه أنّ التوحيد في الخالقية، و الربوبية، و الحاكمية، و التشريع من فروع التوحيد الأفعالي فهذا اللفظ يعمّ تلك الأقسام كلها التي ذكرناها، كما يعمّ ما لم نذكر من أفعاله سبحانه، كالمغفرة و حق الشفاعة و غيرهما. فمعنى التوحيد الأفعالي هو: تخصيص فعله سبحانه بذاته و أنّه لا يقوم به إلاّ هو و على ذلك فلو كنّا في مقام التفصيل لوجب علينا أن نقول: إنّ الموحّد من يشهد بأنّ كل فعل يعد من خصائصه سبحانه لا يسند إلاّ إليه، سواء أ كان من قبيل الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و المغفرة و حق الشفاعة أو غيرها.

و إنما ذكرنا الشفاعة و المغفرة و خصصناهما بالذكر لوقوع الشرك فيهما بين المشركين في عصر الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، كما أنّ جماعات

ص: 105

من المسيحيين مشركون في مجال المغفرة. فقد فوضت الطائفتان حق الشفاعة إلى بعض عباده سبحانه و عزلوه عن حقه و مقامه.

توضيح ذلك: إنّ هناك آيات تخص الشفاعة باللّه لا يشاركه فيها غيره مثل قوله سبحانه: وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (1).

و قوله سبحانه: قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (2) و غير ذلك من الآيات.

غير أنّ بعض المشركين كانوا يعبدون الأصنام معتقدين بأنّ الشفاعة حق مطلق لهم، و أن اللّه فوّض ذلك الحقّ إليهم يقول سبحانه: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّٰهَ بِمٰا لاٰ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (3) و قال سبحانه: أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ شُفَعٰاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَعْقِلُونَ (4).

فهاتان الآيتان تردان على المشركين بأنّ الأصنام لا تملك شيئا، فكيف تشفع لهم ؟! و قد أبطل سبحانه هذه المزعمة بصور مختلفة قال سبحانه:

وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّٰهِ (5) و قال: وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبٰابُ (6). فهذه الآيات التي مرّت عليك تخصّ حق الشفاعة باللّه سبحانه و تسلب عن الأصنام حقّها. فمن زعم أنّ الشفاعة على وجه الملكيّة التامة بيد المخلوق فهو مشرك.

ص: 106


1- سورة الأنعام: الآية 51.
2- سورة الزمر: الآية 44.
3- سورة يونس: الآية 18.
4- سورة الزّمر: الآية 43.
5- سورة الانفطار: الآية 19.
6- سورة البقرة: الآية 166.

و أمّا من قال بأنّ هناك عبادا صالحين تقبل شفاعتهم عند اللّه في إطار خاص و شرائط معينة في الشفيع و المشفوع له بإذن منه سبحانه، فهو لا ينافي اختصاص حقّ الشفاعة باللّه سبحانه. كيف و قد ورد النصّ بشفاعة طائفة عند اللّه بإذنه قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (1).

و بذلك يظهر حال المغفرة. فإنّ المغفرة و حطّ الذنوب و التكفير عن السيئات حقه سبحانه. و من زعم أنّ غيره سبحانه يملك أمر الذنوب و يغفرها و يكفر عنها فهو مشرك في مجال التّوحيد الأفعالي. و قد صرّح سبحانه في الذّكر الحكيم باختصاصها به قال عزّ و جل: أَلاٰ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (2) و قال سبحانه: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّٰهُ (3). فالموحّد في هذا المجال لا يرى مثيلا للّه سبحانه في أمر المغفرة. و أما الأنبياء و الأولياء فلهم حقّ الاستغفار للمذنبين، كما أنّ للمذنبين الرجوع إليهم و الطلب منهم أن يستغفروا لهم قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً (4). و قال سبحانه حاكيا عن أبناء يعقوب: قٰالُوا يٰا أَبٰانَا اِسْتَغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا إِنّٰا كُنّٰا خٰاطِئِينَ * قٰالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (5). و مع ذلك كله فالمغفرة بيد اللّه سبحانه.

هذا تمام الكلام في التوحيد بأقسامه و لنشرع في سائر صفاته الجلالية.

ص: 107


1- سورة طه: الآية 109.
2- سورة الشورى: الآية 5.
3- سورة آل عمران: الآية 135.
4- سورة النساء: الآية 64.
5- سورة يوسف: الآيتان 97 و 98.

ص: 108

الصّفات السّلبية

(2) ليس بجسم و لا في جهة و لا محلّ ، و لا حالّ و لا متّحد
اشارة

اتفقت كلمة أهل التنزيه تبعا للأدلة العقلية و النقلية على أنّه سبحانه جميل أتم الجمال، و كامل أشدّ الكمال لا يتطرق إليه الفقر و الحاجة، و هو غني بالذات، و غيره محتاج إليه كذلك.

أمّا العقل، فلأن كل متصوّر إمّا أن يكون واجب الوجود أو ممكنه أو ممتنعه. و الثالث غير مطروح في المقام. و الممكن لا يتصف بالألوهية، فيبقى أن يكون واجب الوجود هو الذي تنتهي إليه سلسلة الموجودات. و ما هو واجب الوجود لا يكون فقيرا و محتاجا في ذاته و فعله، لأنّ الفقر آية الإمكان.

و أمّا النقل، فيكفي في ذلك ما ورد من الآيات من توصيف نفسه بالغناء قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (1).

إنّ معنى كون أسمائه و صفاته توقيفية، لا يهدف إلاّ إلى أنّه ليس لإنسان تسميته باسم أو وصف إلاّ بما ورد في الكتاب و السّنة، و أمّا تنزيهه

ص: 109


1- سورة فاطر: الآية 15.

سبحانه عن كل شين و عيب، و عن كل ما يناسب صفة المخلوق فليس ذلك أمرا توقيفيا، و التوقف حتى في تنزيهه سبحانه عن صفات المخلوقين، و نقص الممكنات، ليس أمرا توقيفيا، و إلاّ لكان معنى ذلك تعطيل باب المعارف. و من يتوقف في تنزيهه عن هذه الصفات غير المناسبة لساحته سبحانه فهو معطّل في باب المعرفة، عنّين في ذلك المجال قال سبحانه:

وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (1) .

و على ذلك يترتب نفي كل صفة تناسب صفة الممكنات و كل نقص لا يجتمع مع الغنى و وجوب الوجود، سواء أ كان داخلا فيما عددناه في عنوان البحث أو خارجا عنه، غير أنا توضيحا للبحث نشير إلى دليل كل واحد مما أوردناه في العنوان.

1 - ليس بجسم

عرّف الجسم بتعاريف مختلفة لا يتسع المجال لذكرها. و على كل تقدير فالجسم هو ما يشتمل على الأبعاد الثلاثة من الطول و العرض و العمق، و على قول ما يشتمل على الأبعاد الأربعة بإضافة البعد الزماني إلى الأبعاد الثلاثة المكانية.

و هو ملازم للتركيب، و المركّب محتاج إلى أجزائه، و المحتاج ممكن الوجود لا واجبه، و الممكن لا يكون إلها خالقا مدبّرا تنتهي إليه سلسلة الموجودات.

و بدليل آخر، إنّ كل جسم محتاج إلى الحيّز و المحل، و المحتاج إلى غيره ممكن لا واجب.

و بدليل ثالث، إنّ الحيّز أو المحل، إمّا أن يكون واجب الوجود كالحالّ ، فيلزم تعدد الواجب، و إمّا أن يكون ممكن الوجود، مخلوقا للّه

ص: 110


1- سورة الأنعام: الآية 91.

سبحانه فهذا يكشف عن أنه كان موجودا غنيا عن المحل و الحيز فخلقهما، فكيف يكون الغني عن الشيء محتاجا إليه.

2 - ليس في جهة و لا محل

و قد تبين حال استغنائه عنهما مما ذكرنا من الدليل على نفي الجسمية فلا نعيد.

3 - ليس حالاّ في شيء

إنّ المعقول من الحلول قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعية.

و هذا المعنى لا يصحّ في حقه سبحانه لاستلزامه الحاجة و قيامه في الغير.

أضف إلى ذلك أنّ ذلك الغير إما ممكن أو واجب، فلو كان ممكنا فهو مخلوق له سبحانه، فقد كان قبل إيجاده مستقلا غير قائم فيه، فكيف صار بعد خلقه قائما و حالاّ فيه، و لو كان واجبا يلزم تعدد الواجب و هو محال.

4 - ليس متّحدا مع غيره

حقيقة الاتحاد عبارة عن صيرورة الشيئين المتغايرين شيئا واحدا، و هو مستحيل في ذاته فضلا عن استحالته في حقه تعالى، فإنّ ذلك الغير بحكم انحصار واجب الوجود في واحد، ممكن. فبعد الاتحاد إمّا أن يكونا موجودين فلا اتحاد لأنهما اثنان أو يكون واحد منهما موجودا و الآخر معدوما.

و المعدوم إمّا هو الممكن، فيلزم الخلف و عدم الاتحاد، أو الواجب فيلزم انعدام الواجب و هو محال.

و بذلك تبين أنّ ما يدّعيه أصحاب الفرق الباطلة كالمسيحيين و الحلوليين من المسلمين، بل القائلين باتحاده سبحانه مع القديسين من الأنبياء و الصلحاء و الأقطاب و غيرهم، كلها من شطحات الغلاة و إرجاف الصوفية أعاذنا اللّه من شرورهم.

ص: 111

ثم إن تنزيهه سبحانه بحجة نفي الحاجة لا ينحصر في ما ذكرناه في عنوان البحث بل كل صفة و تعريف للّه سبحانه يستلزم تشبيهه بالمخلوقات، فهو منفي عنه.

و بذلك يعلم صحة نفي التركيب عنه الذي تقدم بحثه في التّوحيد الذاتي الأحدي.

الكتاب العزيز و نفي الجسميّة

إنّ التدبّر في الذكر الحكيم يوفّقنا على أنّه سبحانه منزّه عن كل نقص و شين، و أنّه ليس بجسم و لا جسماني. و هذا المعنى و إن لم يكن مصرّحا به في الكتاب، لكن التدبّر في آياته، الذي أمرنا به في ذلك الكتاب في قوله سبحانه: كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ مُبٰارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ (1). يوصلنا إلى ذلك. و لأجل إيقاف القارئ على موقف الكتاب في ذلك نشير إلى بعض الآيات:

1 - إنّ الذكر الحكيم يصف الواجب تعالى بقوله: يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) و الآية صريحة في سعة وجوده سبحانه، و أنّه معنا في كل مكان نكون فيه.

و ما هذا شأنه لا يكون جسما و لا حالاّ في محل أو موجودا في جهة. إذ لا شك أنّ الجسمين لا يجتمعان في مكان واحد و جهة واحدة، فالحكم بأنّه سبحانه معنا في أي مكان كنا فيه، لا يصحّ إلاّ إذا كان موجودا غير مادي و لا جسماني.

ثمّ إنّ المجسّمة، و من يتلو تلوهم إذا وقفوا على هذه الآية يؤولونها بأنّ

ص: 112


1- سورة ص: الآية 29.
2- سورة الحديد: الآية 4.

المراد إحاطة علمه، لا سعة وجوده. و لكنه تأويل باطل لا دليل عليه.

و العجب أنّ هؤلاء يفرّون من التأويل في الصفات الخبرية، و يرمون المؤوّلة بالتعطيل مع أنهم ارتكبوا ما ألصقوه بغيرهم.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه صرّح بإحاطة علمه بكل شيء في نفس الآية، و قال: يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا فإذا لا وجه لتكرار هذا المعنى بعبارة مبهمة، و على ذلك لا مناص من حمل الآية على سعة وجوده و إحاطته بكل شيء لا إحاطة حلوليّة حتى يحل في الأجسام و الإنسان، بل إحاطة قيّومية عبّر عنها في الآيات الأخر بقوله: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (1). أي قائما بالذات، و سائر الأشياء قائمة به. فليست كل إحاطة ملازمة للحلول و الاتحاد، و لا يمكن أن يكون ما تقوم الأشياء بذواتها به غائبا عنها غيبوبة الجسم عن الجسم.

2 - يقول سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ وَ لاٰ خَمْسَةٍ إِلاّٰ هُوَ سٰادِسُهُمْ وَ لاٰ أَدْنىٰ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْثَرَ إِلاّٰ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مٰا كٰانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (2).

و الآية صريحة في سعة وجوده و أنّه موجود في كل مكان و مع كل إنسان لكن لا بمعنى الحلول بل إحاطة قيومية قيام المعلول بالعلّة، و المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، و مع ذلك فلا يصل الإنسان إلى كنه هذه الإحاطة و هذه القيومية. فالآية تفيد المعية العلميّة و المعية الوجودية، فكلما فرض قوم يتناجون، فاللّه سبحانه هناك موجود سميع عليم.

و بعبارة أخرى إنّه سبحانه وصف نفسه في الآية بالعلم بما في السموات و ما في الأرض، ثم أتى بقوله: مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ ،

ص: 113


1- سورة البقرة: الآية 255. و آل عمران: الآية 2.
2- سورة المجادلة: الآية 7.

كالدليل على تلك الإحاطة العلمية، فبما أنّه يسع وجوده كل مكان وجهة، فهو عالم بكل ما يحويه المكان و الجهة.

و مثل هذا لا يمكن أن يكون جسما، لأنّ كل جسم إذا حواه مكان خلا منه مكان آخر.

3 - قال تعالى: وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (1).

لمّا أمر سبحانه بالتوجه إلى القبلة - و ربما أوهم ذلك أنّ اللّه في مكان يستقر فيه - دفعه سبحانه بقوله: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ أي لا يخلو مكان عن ذاته و وجوده.

فالمراد من الوجه هنا هو الذات، قال ابن فارس: «و ربما عبّر عن الذات بالوجه قال:

أستغفر اللّه ذنبا لست محصيه *** ربّ العباد إليه الوجه و العمل»(2)

و لا ينحصر تفسير الوجه بالذات بهذه الآية بل هو كذلك في الآيتين التاليتين:

1 - قوله سبحانه: لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ (3).

2 - و قوله سبحانه: وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (4).

و الدليل على أنّ الوجه في هاتين الآيتين بمعنى الذات، لا العضو المخصوص، واضح.

أمّا الآية الأولى، فلأنّه سبحانه بصدد بيان أنّ كل شيء يهلك و يفنى

ص: 114


1- سورة البقرة: الآية 115.
2- المقاييس، ج 6، ص 88، مادة «وجه». و غيره من المعاجم.
3- سورة القصص: الآية 88.
4- سورة الرحمن: الآية 27.

إلاّ نفسه و ذاته. و هذا لا يصحّ إلاّ أن يكون المراد من الوجه هو الذات لا العضو المخصوص.

و أمّا الآية الثانية، فلأنّه وصف الوجه بقوله: ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ ، بمعنى ذو الطّول و الإنعام و ما يقاربه. و من المعلوم أنهما من صفات نفس الربّ لا من صفات الوجه، أعني الجزء من الكل. و لو كان الوجه هنا، بمعنى العضو المخصوص لوجب أن يقول: «ذي الجلال و الإكرام» حتى يقع وصفا للربّ لا للوجه.

و يشهد على ذلك قوله سبحانه: تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (1). فلما كان الاسم غير المسمى وصف الرب بقوله «ذي الجلال»، و لم يصف الاسم به و إلاّ لقال «ذو الجلال».

فإذا تبين أنّ الوجه في هذه الآيات بمعنى الذات، أ فهل يجتمع قوله فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ مع كونه جسما محددا في جهة خاصة و موجودا فوق العرش، متمكنا فيه أو جالسا عليه، و ما أشبه ذلك ممّا يوجد في كلمات المجسّمة و من هو منهم، و إن كان يتبرأ من وصفه بالتجسيم.

4 - يقول سبحانه و تعالى: فٰاطِرُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً وَ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ أَزْوٰاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (2).

إنّ الآية بصدد نفي التشبيه على الإطلاق، و ليس من كلمة أجمع من قوله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ . أو ليس القول بكونه جسما ذا جهة و محل، موجودا فوق العرش متمكنا فيه أو جالسا عليه، تشبيه للخالق بالمخلوق ؟ صدق اللّه العلي العظيم إذ قال: وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (3). فما هذا الصمم و العمى في الأسماع و الأبصار و القلوب ؟!!.

ص: 115


1- سورة الرحمن: الآية 78.
2- سورة الشورى: الآية 11.
3- سورة الأنعام: الآية 91.

نعم، ربما يتوهم القاصر، دلالة الآيتين التاليتين على كونه سبحانه في السماء و أنّه في جهة، و هما قوله سبحانه: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ اَلْأَرْضَ فَإِذٰا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (1)و لكن المتأمل فيما تقدمهما من الآيات يخرج بغير هذه النتيجة فإنه سبحانه يقول قبلهما: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ (2).

فهذه الآية تذكر نعمة اللّه سبحانه على أهل الأرض ببيان أنّه جعل الأرض ذلولا فسهل سلوكها، و هيأ لهم رزقه فيها، و عند ذلك ينتقل في الآية الثانية إلى ذكر أنّ وفرة النعم على البشر يجب أن لا تكون سببا للغفلة و التمادي و العصيان، فليس من البعيد أن يخسف الأرض بهم، فإذا هي تمور و تتحرك و ترتفع فوقهم كما ليس من البعيد أن ينزل عليهم ريحا حاصبا ترميهم بالحصباء. فعند ذلك، عند معاينة العذاب، يخرجون من الغفلة و يعرفون الحق، و هذا هو هدف الآيات الثلاث.

و أمّا التعبير ب مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ فيحتمل أن يراد منه من سلطانه و قدرته في السماء، لأنه مسكن ملائكته و اللوح المحفوظ و منها تنزل قضاياه و كتبه و أوامره و نواهيه. كما أنّ منها ينزل رزق البشر، و فيها مواعيده:

وَ فِي اَلسَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ فيصح التعبير بمن في السّماء عن سلطانه و قدرته و كتبه و أوامره و نواهيه.

كما يحتمل أن يكون الكلام حسب اعتقادهم، بمعنى أ أمنتم من تزعمون أنّه في السّماء أن يعذبكم بخسف أو بحاصب، كما تقول لبعض المشبّهة: «أ ما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل».

ص: 116


1- سورة الملك: الآيتان 16-17.
2- سورة الملك: الآية 15.

و هناك احتمال ثالث و هو أن يكون المراد من الموصول هو الملائكة الموكلون بالخسف و التدمير، فإنّ الخسف و الإغراق و إمطار الحجارة كانت بملائكته سبحانه في الأمم السالفة.

فبعد هذه الاحتمالات لا يبقى مجال لما يتوهمه المستدل.

أضف إلى ذلك أنه سبحانه يصرّح بكون إله السماء هو إله الأرض و يقول: وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلٰهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ (1). فليس الإله بمعنى المعبود كما هو بعض الأقوال في معنى ذلك اللفظ، بل «الإله» و «اللّه» بمعنى واحد، غير أنّ الأول جنس و الثاني علم. و لو فسّر أحيانا بالمعبود، فإنّما هو تفسير باللازم، فإنّ لازم الألوهية هو العبادة، لا أنه بمعنى المعبود بالدلالة المطابقية.

فعلى ذلك فمفاد الآية وجود إله واحد في السماء و الأرض و هذا يكون قرينة على أنّ المراد من قوله: مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ هو أحد الاحتمالات الماضية.

مكافحة علي (عليه السّلام) القول بالتجسيم

إنّ عليّا (عليه السّلام) و سائر الأئمة من أهل البيت مشهورون بالتنزيه الكامل. و كانوا يقولون إنّه سبحانه لا يشبهه شيء بوجه من الوجوه، و لا تدرك الأفهام و الأوهام كيفيته و لا كنهه. و يظهر ذلك من خطبه (عليه السّلام) و الآثار الواردة عن سائر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام).

و قد وقف على ذلك القريب و البعيد. قال القاضي عبد الجبار: «و أمّا أمير المؤمنين (عليه السّلام) فخطبه في بيان نفي التشبيه و في إثبات العدل أكثر من أن تحصى»(2).

ص: 117


1- سورة الزخرف: الآية 84.
2- فضل الاعتزال، ص 163.

روى المبرّد في الكامل: «قال قائل لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أين كان ربّنا قبل أن يخلق السّماوات و الأرض ؟ فقال علي (عليه السّلام): أين، سؤال عن مكان، و كان اللّه و لا مكان»(1).

و قال البغدادي: قال أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه: «إنّ اللّه تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته، لا مكانا لذاته»، و قال أيضا: «قد كان و لا مكان و هو الآن على ما كان»(2).

و قد بلغ بعلي (عليه السّلام) من الأمر أنّه كان يراقب العوام و السّوقة في مجالسهم و ما يصدر منهم فدخل يوما سوق اللحامين و قال: «يا معشر اللحامين، من نفخ منكم في اللحم فليس منّا. فإذا هو برجل موليه ظهره، فقال: كلا و الذي احتجب بالسبع. فضربه على ظهره ثم قال يا لحّام، و من الذي احتجب بالسبع ؟ قال: ربّ العالمين يا أمير المؤمنين فقال:

اخطأت، ثكلتك أمك، إنّ اللّه ليس بينه و بين خلقه حجاب، لأنّه معهم أينما كانوا. فقال الرجل ما كفارة ما قلت يا أمير المؤمنين ؟ قال: أن تعلم أنّ اللّه معك حيث كنت. قال: أطعم المساكين ؟ قال: لا إنّما حلفت بغير ربّك»(3).

و هذه المعية التي ذكرها علي (عليه السّلام) قد وردت في آيات الذكر الحكيم، منها ما سبق و منها قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ لاٰ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّٰهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ .. (4).

و قال (عليه السّلام): «و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال «فيم ؟» فقد ضمّنه. و من قال «علام ؟» فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة،

ص: 118


1- الكامل، ج 2، ص 59.
2- الفرق بين الفرق، ص 200.
3- الغارات، ج 1، ص 112.
4- سورة النساء: الآية 108.

و غير كل شيء لا بمزايلة»(1).

و قال (عليه السّلام): «الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النواظر، و لا تحجبه السواتر»(2).

و قال (عليه السّلام): «ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إياه عنى من شبّهه، و لا حمده من أشار إليه و توهّمه»(3).

و قال (عليه السّلام): «قد علم السرائر، و خبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء، و الغلبة لكل شيء و القوة على كل شيء»(4).

إلى غير ذلك من خطبه و كلمه في التنزيه و نفي الشبيه. و من أراد الإسهاب في ذلك و الوقوف على مكافحة أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) لعقيدة التشبيه و التكييف و التجسيم، فعليه مراجعة الأحاديث المروية عنهم في الجوامع الحديثية.(5).

ص: 119


1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى، طبعة مصر.
2- نهج البلاغة، الخطبة 180، طبعة مصر.
3- نهج البلاغة، الخطبة 181، طبعة مصر.
4- نهج البلاغة، الخطبة 82، طبعة مصر.
5- راجع توحيد الصدوق باب التوحيد و نفي التشبيه، فقد نقل فيه (27) حديثا. و بحار الأنوار، ج 3 باب نفي الجسم و الصورة فقد نقل فيه (47) حديثا. و الجزء الرابع منه. و بذلك تعرف مدى وهن الكلمة التي نشرتها جريدة أخبار العالم الإسلامي العدد (1058) من السنة الثانية و العشرين المؤرخ: 29 جمادي الأولى، عام 1408 هجرية، للشيخ عبد اللّه بن عبد العزيز بن باز حيث نقد مقالة الدكتور محي الدين الصافي التي كتبها تحت عنوان «من أجل أن تكون أمة أقوى». و جاء في تلك المقالة «إنه قام الدليل اليقيني على أنّ اللّه ليس بجسم». فردّ عليه ابن باز بقوله: «هذا الكلام لا دليل عليه لأنّه لم يرد في الكتاب و لا في السنة وصف اللّه سبحانه بذلك و نفيه عنه. فالواجب السكوت عن مثل هذا لأنّ مأخذ صفات اللّه جلّ و علا توقيفي لا دخل للعقل فيه. فيوقف عند حدّ ما ورد في النصوص من الكتاب و السنة». و لا نعلّق على ذلك إلاّ بقوله سبحانه: وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، و أنّه نفس الدعوة إلى تعطيل عن المعارف و الأصول، على أنّك عرفت مفصلا تضافر النصوص. على تنزيهه سبحانه عن التجسم و التشبيه.

ص: 120

الصفات السّلبية

(3) ليس محلا للحوادث

اتفق الإلهيّون ما عدا الكرّاميّة على أنّ ذاته تعالى لا تكون محلا للحوادث، و يستحيل قيام الحوادث بذاته. و الدليل على ذلك أنّه لو قام بذاته شيء من الحوادث للزم تغيّره، و اللازم باطل، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة: إنّ التغير عبارة عن الانتقال من حالة إلى أخرى.

فعلى تقدير حدوث ذلك الأمر القائم بذاته، يحصل في ذاته شيء لم يكن من قبل، فيحصل الانتقال من حالة إلى أخرى.

و أمّا بطلان اللازم: فلأن التغيّر مستلزم للانفعال أي التأثّر، و إلاّ لما حصل له، و الاستعداد يقتضي أنّ يكون ذلك الشيء له بالقوة، و ذلك من صفات الماديات، و اللّه تعالى منزّه عنها فلا يكون منفعلا، و لا يكون متغيّرا، و لا يكون محلا للحوادث.

و بعبارة ثانية: إنّ التغيّر نتيجة وجود استعداد في المادة التي تخرج تحت شرائط خاصة من القوة إلى الفعل. فالبذر الذي يلقى في الأرض و يقع تحت التراب، حامل للقوة و الاستعداد، و يخرج في ظل شرائط خاصة من تلك الحالة و يصير زرعا أو شجرا. فلو صحّ على الواجب كونه محلا للحوادث، لصحّ أن يحمل وجوده استعدادا للخروج من القوة إلى الفعلية.

ص: 121

و هذا من شئون الأمور المادية، و هو سبحانه أجلّ من أن يكون مادة أو مادّيا.

و بالجملة، لو وقفت الكرّاميّة على ما يترتب على قولهم من حلول الحوادث فيه من المفاسد، لما أصرّوا على ذلك. فإن ظهور الحوادث في الذات، سواء أ كان بمعنى تغيّر الذات و صفاتها و تبدلها، أو وجود الحركة فيها، عبارة أخرى عن كون وجوده ذا إمكان استعدادي يخرج من القوة إلى الفعل و من النقص إلى الكمال، كخروج عامة الموجودات الإمكانية صوب الفعلية، و نحو الكمال. و من كانت هذه صفته يعدّ من الممكنات.

و هناك بيان آخر لهذا المطلب، و هو أنّ وجوب الوجود يقتضي تحقق كل شئونه و كمالاته فيه طرّا، و ما لم يزل في طريق التكامل و التغاير، لا يتصف بوجوب الوجود. إذن، الوجوب يلازم الفعلية و يناقض التدرّج.

و على ذلك اعتمد المحقق الطوسي في التجريد(1).

ص: 122


1- لاحظ تجريد الاعتقاد، ص 180، طبعة صيدا، و إرشاد الطالبين، ص 232.

الصفات السلبية

(4) لا يقوم اللذة و الألم بذاته

قد يطلق الألم و اللذة و يراد منهما الألم و اللذة المزاجيان. و الألم حالة حاصلة من تغير المزاج إلى الفساد. و اللذة حالة حاصلة من تغير المزاج إلى الاعتدال، و عروض النشاط و السرور على الملتذ، و من كان متصفا بهما يجب أن يكون موجودا ماديا قابلا للانفعال. و من المعلوم لزوم تنزيهه سبحانه عن المزاج و الفعل و الانفعال لاستلزامه توالي فاسدة لا تحصى.

و بالجملة، فالألم و اللذة من توابع المزاج، منفيّان بانتفاء المتبوع.

و قد يطلقان و يراد منهما العقليان، و المراد منهما إدراك كل قوة عقلية ما يلائمها أو ينافيها. فالقوة العاقلة لها كمال و لذّة هي إدراكها للمعقولات الكليّة. و إنكار ذلك مكابرة. فإن العلماء الغائصين في لجج التحقيق لهم لذات لا يختارون اللذات الحسية بأجمعها على أقل مسألة من مسائلها، و يقابله الألم العقلي. و لأجل ذلك كلما كان المعقول أفضل و أتم، كانت اللذة أبلغ و أوفر.

فلذا يكون إدراك القوة العقلية للمعقولات أتم من إدراك الحس للمحسوسات، لأن القوة العقلية تصل إلى كنه المعقول و إلى ذاته و ذاتياته، فتكون اللذة العقلية أبلغ و أعظم من الحسية.

ص: 123

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الألم على وجه الإطلاق منفي عنه سبحانه، أمّا الألم المزاجي فلما عرفت، و أمّا الألم العقلي فلأنه إدراك المنافي من حيث هو مناف. و هو مستحيل عليه سبحانه، إذ لا منافي له لأن جميع ما عداه لوازم و معلولات له، و الكل في قبضة قدرته، مجتمع معه، غير مناف له.

و أمّا اللذة العقلية فإن بعض الحكماء نسبوها إلى اللّه تبارك و تعالى قائلين بأنّه مدرك لأكمل الموجودات - و هي ذاته - فيكون متلذذا.

و بعبارة أخرى: إنّ واجب الوجود الذي هو في غاية الجمال و الكمال و البهاء، إذا عقل ذاته فقد عقل أتم الموجودات و أكمل الأشياء، فيكون أعظم مدرك لأجلّ مدرك بأتم إدراك.

هذا ما عليه الحكماء. و لكن المتكلمين منعوا من توصيفه سبحانه باللذة على وجه الإطلاق مزاجيا كان أو عقليا، و لعل عذرهم في ذلك كون أسمائه و صفاته أمرا توقيفيا.

أقول: لا شك أنّ إطلاق الملتذ على اللّه سبحانه لا يجتمع مع القول بتوقيفية أسمائه و صفاته، و أما كونه مبتهجا بذاته ابتهاجا عقليا لإدراكه أتمّ الموجودات، و ملتذا في ظله، فليس شيء يمنع منه. و إنّ الحقيقة شيء و التسمية شيء آخر.

ص: 124

الصّفات السلبيّة

(5) امتناع رؤية اللّه سبحانه
اشارة

اتفقت العدلية على أنّه سبحانه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا و لا في الآخرة. و أما غيرهم، فالكرّاميّة و المجسّمة الذين يصفونه سبحانه بالجسم و يثبتون له الجهة، جوزوا رؤيته بلا إشكال في الدارين. و أهل الحديث و الأشاعرة - مع عد أنفسهم من أهل التنزيه و تحاشيهم عن إثبات الجسمية و الجهة له سبحانه - قالوا برؤيته يوم القيامة و أنه ينكشف للمؤمنين انكشاف القمر ليلة البدر، تبعا لبعض الأحاديث، و استظهارا من بعض الآيات و قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالا مختلفة حول الرؤية ربما تناهز التسع عشر قولا، و أوردها الواحدة تلو الأخرى و أكثرها لا يستحق الذكر.

و من عجيب ما جاء في تلك الأقوال ما نقله عن «الضرار» و «حفص الفرد» من أنّ اللّه لا يرى بالأبصار و لكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسنا، و ندرك ما هو بتلك الحاسّة. و قول البكرية: إنّ اللّه يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها و يكلم خلقه منها. و قول حسين النجار إنه يجوز أن يحول العين إلى القلب و يجعل لها قوة العلم فيعلم بها، و يكون ذلك العلم رؤية له(1).

ص: 125


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 261-265 و 314.

و هذه الأقوال الثلاثة، خصوصا الأخير منها إنكار للرؤية، و إن جاء بها الأشعري في عداد الأقوال المثبتة لها. نعم، ذكر أقوالا يشمئز الإنسان من سماعها مثلا: قال جماعة يجوز أن نرى اللّه بالأبصار في الدنيا و لسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات. و أجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام و أصحاب الحلول إذا رأوا إنسانا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه. و أجاز كثير ممن جوّز رؤيته في الدنيا مصافحته و ملامسته و مزاورته إياه. و غير ذلك من الأقوال السخيفة الساقطة التي نبتت في منابت الإعراض عن الأصول الصحيحة لتحليل العقائد.

و لنقدم البحث عن عقائد العدلية فإن في إثباتها كفاية لردّ سائر الأقوال و بيان وهنها. و لكن إكمالا للبحث نذكر بعده ما عليه الأشاعرة من التفصيل في الرؤية بين الدنيا و الآخرة.

ما هي حقيقة الرؤية

اختلف المتكلمون في حقيقة الإبصار تبعا للباحثين الطبيعيين و المشهور بينهم قولان:

الأول: خروج الشعاع على هيئة المخروط من العين بحيث يكون رأسه في العين و قاعدته منطبقة على المبصر. و هذا القول متروك بفضل ما توصلت إليه الأبحاث الحديثة.

الثاني: انعكاس صورة المرئي على العين. و قد أوضحته الأبحاث العلمية بما حاصله أنّ الأشياء الخارجية ترى إذا وصل نورها إلى العين إما نورها النابع منها إذا كانت منيرة بنفسها كالشمس، أو المنعكس عليها من مصدر منير إذا لم تكن منيرة كما هو الغالب. فإذا وصل النور إلى العين فإنه يخترق أوّلا القرنية و هي غطاء العين الخارجي شفافة و محدّبة، فينكسر ثم يعبر «العنبية»، و يرد «العدسية» فينكسر مرة أخرى و يتمركز على طبقة حساسة داخل كرة العين تسمى الشبكية موجدا صورة مضيئة مقلوبة عن صورة

ص: 126

المرئي الخارجي. و يتصل بهذه الشبكية أطراف أعصاب الرؤية، فيوجب انطباع الأشعة على الشبكية تحريك تلك الأعصاب و إرسال التموّجات المناسبة للأشعة المنطبقة إلى الدماغ، فيحللها الدماغ و يفسرها و يتعقلها بالشكل و الصورة التي نعرفها.

هذا هو واقع الإبصار و الرؤية، فيجب أن يكون كل من النفي و الإثبات على هذا المعنى الذي كشف عنه جهابذة العلم. و بذلك يعلم أنّ تفسير الإبصار و رؤيته سبحانه بالعلم به أو بإدراكه في القلب أو من طريق الشهود خروج عن البحث و نحن مركزون على إمكان رؤيته بهذه الأبصار التي يملكها كل إنسان، لأنّ هذا هو محط البحث بين العدلية و الأشاعرة فنقول:

يدل على امتناع الرؤية وجوه:

1 - إنّ الرؤية إنما تصح لمن كان مقابلا أو في حكم المقابل، و المقابلة إنما تتحقق في الأشياء ذوات الجهة، و اللّه تعالى منزه عنها فلا يكون مرئيا.

و بعبارة أخرى: إنّ المراد من الرؤية إما حقيقتها، أعني الإدراك بحس البصر، و هو مستلزم لإثبات الجهة له تعالى بالضرورة، سواء أقلنا بأنّ الإبصار يتحقق بانطباع صورة الشيء في العين أو بخروج الشعاع منها. و إما غير حقيقتها مما يعبر عنه بالإدراك العلمي و الشهود القلبي و غير ذلك مما لا يعرف حقيقته إلا القائل به، فهو حينئذ خارج عن محط البحث و مجال النزاع(1).

2 - إنّ الرؤية إما أن تقع على الذات كلها أو على بعضها. فعلى الأول يلزم أن يكون المرئي محدودا متناهيا محصورا شاغلا لناحية من النواحي، و خلو النواحي الأخرى منه تعالى. و على الثاني يلزم أن يكون مركبا متحيزا ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة، المرفوضة في حقه سبحانه.

ص: 127


1- لاحظ قواعد المرام في علم الكلام، ص 76. أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 82.

3 - إنّ الرؤية لا تتحقق إلا بانعكاس الأشعة من المرئي إلى أجهزة العين، و هو يستلزم أن يكون سبحانه جسما ذا أبعاد، و معرضا لعوارض و أحكام جسمانية، و هو المنزه عن كل ذلك.

4 - إنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة إليه بالحدقة و هو سبحانه منزه عن الإشارة. فإنّ كل مرئي في جهة يشار إليه بأنه هنا أو هناك، و يصح أن يقال: إنه مقابل للرائي أو في حكمه. و هذا المعنى منتف في حقه سبحانه.

إنّ مجموع الأدلة الأربعة تعتمد على أمر واحد و هو أنّ تجويز الرؤية على اللّه سبحانه يستلزم كونه جسما أو جسمانيا. فالأول يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن يكون ذا جهة و تحيّز. و الثاني يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم تناهي ذاته إذا وقعت الرؤية على تمامها، أو مركبة إذا وقعت على بعضها.

و الثالث يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن يكون جسما و ذا عوارض جسمية.

و الرابع يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم الإشارة إليه تعالى، و هو فوق أن يقع في ذلك المجال. فروح الأدلة الأربعة يرجع إلى أمر واحد، و هو أنّ تجويز رؤيته معناه كونه سبحانه موجودا متحيزا و محدودا و ذا جهة و عوارض جسمانية و قابلا للإشارة و كل ذلك مستحيل، فتكون النتيجة امتناع وقوع الرؤية عليه.

و مبادي هذه البراهين أمور بديهية حسيّة يكفي في تصديقها تصور القضايا بموضوعاتها و محمولاتها و نسبها.

محاولة فاشلة

إنّ المتفكرين من الأشاعرة لما رأوا أنّ القول بإمكان رؤيته سبحانه يستلزم هذه المحاذير و يوجب خروج المجوّز عن صفوف المنزهين إلى عداد المجسمين، حاولوا تصحيح مقولتهم بوجوه خارجة عن محل النزاع، و إليك بعض ما ذكروه:

1 - قال الشهرستاني في نهاية الإقدام: «لم يصر صائر إلى تجويز اتصال أشعة من البصر بذاته أو انطباع شبح يتمثل في الحاسة منه و انفصال

ص: 128

شيء من الرائي و المرئي و اتصاله بهما، لكن أهل الأصول اختلفوا في أنّ الرؤية إدراك وراء العلم أم علم مخصوص. و من زعم أنّه إدراك وراء العلم اختلف في البنية، و اتصال الشعاع، و نفي القرب المفرط، و البعد المفرط، و توسط الهواء المشفّ (النور الحامل للصورة). فشرطها المعتزلة و نفوا رؤية الباري تعالى بالأبصار نفي الاستحالة، و الأشعري أثبتها إثبات الجواز على الإطلاق، و الوجوب بحكم الوعد»(1).

يلاحظ عليه: إنّ الرؤية التي يدعيها أهل الحديث تبعا لما يروونه في هذا المجال، و لما استظهروه من القرآن عبارة عن رؤية اللّه تبارك و تعالى بهذه الأبصار الحسية كرؤية القمر في ليلة البدر. و أما غير ذلك مما يدعيه العرفاء و أهل الكشف و الشهود، خارج عن محط البحث. و من المعلوم أنّ الرؤية بهذا المعنى لا تتحقق إلا بالشرائط التي أطبق عليها علماء الطبيعة، قديمها و حديثها، مع اختلاف في تحقيق الشرائط و تحليلها، فلو أريد من الرؤية غير هذا، لما ورد النفي و الإثبات على شيء واحد. و تمنّي الرؤية بلا هذه الشرائط كتمني رسم الأسد على عضد البطل من دون أن يكون له رأس و لا ذنب(2).

2 - قال الفاضل القوشجي بعد شرح معنى الرؤية إما بالارتسام أو خروج الشعاع: «إنا إذا عرفنا الشمس مثلا بحد أو رسم، كان نوعا من المعرفة، ثم إذا أبصرناها و غمضنا العين، كان نوعا آخر فوق الأول. ثم إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسميه الرؤية، و لا يتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة و مكان. فمحل النزاع أنّ مثل هذه الحالة الإدراكية يصح أن تقع بدون المقابلة، و تتعلق بذات اللّه منزهة عن الجهة و المكان،

ص: 129


1- نهاية الإقدام، ص 356.
2- مثل يضرب لتمني الشيء المحال و أصل القصة: إنّ بطلا ورد كانا يريد أن يضرب على بدنه صورة الأسد. فكان كلما وخزه صاحب الدكان بالإبرة صرخ و قال: ما ذا تضرب ؟ فيجيب: رأسه. فيقول: لا تضرب رأسه. فإذا وخزه أخرى صرخ و تأوّه و قال: ما ذا تضرب ؟ فيجيب: ذنبه. فيقول: لا تضربه. و هكذا. فضرب به المثل.

أولا؟»(1).

أقول: إنّ تمني الرؤية و الإبصار بغير المقابلة و الجهة مع تحققها بالعيون و الأبصار، أشبه بتمني وجود الشيء مع التأكيد على عدمه، و هذا نظير أن يقال حقيقة المربع عبارة عن وجود أضلاع متصلة، فهل يمكن أن تتحقق تلك الهيئة بدون الأضلاع(2).

و من أمعن النظر في كتب الأشاعرة خصوصا القدامى منهم، و بالأخص كتب أهل الحديث، و الحنابلة، يرى أنهم يفرون من هذه المحاولات و لا يرون لها قيمة في أوساطهم، و هم يتمسكون بالروايات و ما استظهروه من الآيات و يحكمون بالرؤية الحقيقية كرؤية القمر.

قال الشيخ الأشعري في الإبانة: «و ندين بأنّ اللّه تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)»(3).

و قال في اللمع: «إن قال قائل: لم قلتم إنّ رؤية اللّه بالأبصار جائزة من باب القياس. قيل له: قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به اللّه تعالى و يستحيل عليه، لا يلزم في القول بجواز الرؤية»(4).

ص: 130


1- شرح التجريد للقوشجي، ص 428.
2- و قد جمع الأستاذ حفظه اللّه مجلس مع بعض فضلاء الشام فانجرّ البحث إلى إمكان الرؤية فقال الشيخ الأستاذ: إنّ تجويز الرؤية يستلزم تجويز المقابلة و الجهة. فقال الشامي: كل شيء في الآخرة غيره في الدنيا. فأجابه: ما ذا تريد من كلامك «كل شيء في الآخرة غيره في الدنيا»، فهل تريد أن الأشياء الدنيوية توجد في الآخرة بوجودات كاملة، فهذا ما نعترف به. و إن أردت أنّ الأشياء الأخروية تضاد ماهياتها و حدودها، الموجود في الدنيا، فهذا مما لا يمكن التصديق به. فإنّ نتيجة ضرب اثنين في اثنين هو أربعة لا خمسة، و لا يمكن تكذيب هذه القضية بحجة أنّ كل شيء في الآخرة غيره في الدنيا. فإنّ هناك قضايا قطعية و علوما ضرورية صادقة في النشأتين من دون أن يختص امكانها بواحدة منهما. فالدور و التسلسل محالان في الدنيا و الآخرة، و قاعدة كل ممكن يحتاج إلى علّة صادقة في كلتا النشأتين فالتمسك بهذا الكلام نوع فرار من البحث و التحقيق.
3- الابانة، ص 21.
4- اللمع، ص 61 بتلخيص.
الأدلة العقلية للقائلين بالجواز

إنّ الشيخ الأشعري استدل على جواز الرؤية بوجوه عقلية نقتطف منها وجهين:

الأول - قال: «ليس في جواز الرؤية إثبات حدث، لأنّ المرئي لم يكن مرئيا لأنه محدث، و لو كان مرئيا لذلك للزمه أن يرى كل محدث و ذلك باطل عنده»(1).

يلاحظ عليه: إنّ الحدوث ليس شرطا كافيا في الرؤية حتى تلزم رؤية كل محدث، بل هو شرط لازم يتوقف على انضمام سائر الشروط التي أشرنا إليها. و بما أنّ بعضها غير متوفر في الموجودات المجردة المحدثة، لا تقع عليها الرؤية.

الثاني - قال: «ليس في اثبات الرؤية للّه تعالى تشبيها»(2).

يلاحظ عليه: إنّ حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة أو ما في حكمها، و هي لا تنفك عن كون المرئي في جهة و مكان. و هو يستلزم كونه سبحانه ذا جهة و مكان، فأي تشبيه أظهر من ذلك، و كيف يقول: إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم التشبيه ؟! «ما هكذا تورد يا سعد الابل».

ثم إنّ أئمة الأشاعرة في العصور المتأخرة لما وقفوا على وهن الدليلين السابقين، عدلوا إلى دليل عقلي آخر و حاصله أنّ ملاك الرؤية و المصحح لها أمر مشترك بين الواجب و غيره، قالوا: «إنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر و العرض، و لا بد للرؤية المشتركة من علة واحدة. و هي إما الوجود أو الحدوث. و الحدوث لا يصلح للعلية لأنه أمر عدمي، فتعين الوجود. فينتج أنّ صحة الرؤية مشتركة بين الواجب و الممكن»(3).

ص: 131


1- اللمع، ص 61 و 62.
2- اللمع، ص 61 و 62.
3- تلخيص المحصّل، ص 317. و غاية المرام، ص 160، و شرح المواقف، ج 8، ص 115. و شرح التجريد للقوشجي، ص 431.

و هذا الدليل، مع أنه لم يتم عند المفكرين من الاشاعرة، ظاهر الضعف، إذ لقائل أن يقول إنّ الجهة المشتركة للرؤية في الجوهر و العرض ليس هو الوجود بما هو وجود، بل الوجود المقيّد بعدة قيود، و هو كونه ممكنا ماديا يقع في إطار شرائط خاصة، كشف عنها العلم في تحقيق الرؤية، فإنّ الإبصار رهن ظروف خاصة. و ادعاء كون الملاك هو الوجود بما هو وجود غفلة عما يثبته الحس و التجربة.

و العجب من هؤلاء كيف يدعون أنّ المصحح للرؤية هو الوجود مع أنّ لازمه صحة رؤية الأفكار و العقائد، و الروحيات و النفسانيات كالقدرة و الإرادة و غير ذلك من الأمور الروحية الوجودية الّتي لا تقع في مجال الرؤية.

الأدلة النقلية للقائلين بالرؤية

استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات كثيرة، المهم منها آيتان نذكرهما:

الآية الأولى: قوله سبحانه: كَلاّٰ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعٰاجِلَةَ * وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ * إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ (1).

قالوا: «إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار، يستعمل بغير صلة، و يقال: «انتظرت». و إذا كان بمعنى الرؤية يستعمل ب «إلى». و النظر في هذه الآية استعمل بلفظ «إلى» فيحمل على الرؤية»(2).

و قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة و المعتزلة، فالفرقة الأولى تصر على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية و الثانية تصر على أنها بمعنى الانتظار لا الرؤية قائلة بأنه يستعمل بمعنى الانتظار مع لفظة «إلى» أيضا قال الشاعر:

ص: 132


1- سورة القيامة: الآية: 20-25.
2- شرح التجريد للقوشجي، ص 334. و غيره.

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرّحمن يأتي بالفلاح

و لكن الحق أنّ الإصرار على أنّ النظر بمعنى الرؤية أو الانتظار يوجب كون الآية مجملة من حيث المراد، مع أنها من المحكمات و لا إجمال فيها.

و الذي يبطل الاستدلال هو أنّ النظر سواء أ كان بمعنى الرؤية أم بمعنى الانتظار لا يدل على أنّ المراد هو الرؤية الحقيقية، و يعلم ذلك بمقارنة بعض الآيات المذكورة ببعضها، و عندئذ يرتفع الإبهام عن وجهها. و إليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

أ - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ يقابلها قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ .

ب - إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ يقابلها قوله: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ .

و لا شك أنّ الفقرتين الأوليين واضحتان جدا، و إنما الكلام في الفقرة الثالثة فيجب رفع إبهامها عن طريق الفقرة الرابعة التي تقابلها.

و بما أن المراد من الفقرة الرابعة هو أنّ الطائفة العاصية التي عبّر عن صفتها بكونها ذات وجوه باسرة، تظن و تتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها و يقصم ظهرها، يكون ذلك قرينة على المراد من الفقرة الثالثة، و هو أنّ الطائفة المطيعة ذات وجوه ناضرة تتوقع عكس ما تتوقعه الطائفة الأولى، و تنتظر فضله و كرمه. هذا هو الذي يستظهره الذهن المجرد عن كل رأي مسبق، من مقابلة الآيتين.

و بعبارة أخرى: لا يصح لنا تفسير الفقرة الثالثة إلا بضد الفقرة الرابعة. فبما أنّ الفقرة الرابعة صريحة في أنّ المراد توقع العصاة العذاب الفاقر، يكون المراد من الفقرة الثالثة توقع الرحمة و الفضل و الكرم حتى و لو كان النظر بمعنى الرؤية، و لكن ليست كل رؤية معادلة للرؤية بالأبصار، بل ربما تكون الرؤية كناية عن التوقع و الانتظار مثلا يقال: «فلان ينظر إلى يد فلان» و يراد أنه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء و إنما يتوقع عطاء الشخص، فما أعطاه ملكه و ما منعه حرم منه. و هذا مما درج عليه الناس في

ص: 133

محاوراتهم العرفية و يقال: «فلان ينظر إلى اللّه» ثم إليك. فالنظر و إن كان هنا بمعنى الرؤية لا الانتظار، و لكنه كناية عن توقع رحمته سبحانه أولا، و كرم الشخص المأمول ثانيا كما يقال: «يتوقع فضل اللّه سبحانه ثم كرمك».

و الآية نظير قول القائل:

إني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

فمحور البحث و المراد هو توقع الرحمة و حصولها أو عدم توقعها و شمولها، فالطغاة يظنون شمول العذاب، و الصالحون يظنون عكسه و ضده و أما رؤية اللّه سبحانه و وقوع النظر إلى ذاته فخارج عما تهدف إليه الآية.

هذا هو مفتاح حل المشكلة المتوهمة في الآية. فتفسير الآية برؤية ذاته غفلة عن القرينة الموجودة فيها.

و في الختام نذكر نكتتين:

الأولى - إنّ هنا فرقا واضحا بين قولنا: «عيون يومئذ ناظرة» و قولنا:

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ » . فلو كان المراد رؤية ذاته سبحانه لناسب التعبير بالأول، فالوجوه الناظرة غير العيون الناظرة، و الأول منهما يناسب التوقع و الانتظار دون الثاني.

الثانية - قال الزمخشري في كشّافه: «و سمعت سرويّة مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، و يأوون الى مقائلهم تقول: «عيينتيّ نويظرة إلى اللّه و إليكم» تقصد راجية و متوقعة لإحسانهم إليها(1).

الآية الثانية - قوله سبحانه: وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قٰالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قٰالَ لَنْ تَرٰانِي وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تَرٰانِي، فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً، فَلَمّٰا

ص: 134


1- الكشاف ج 4، ص 662.

أَفٰاقَ قٰالَ سُبْحٰانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ (1) .

احتجّت الأشاعرة بهذه الآية بوجهين و إليك بيانهما:

الوجه الأول

إنّ موسى (عليه السّلام) سأل الرؤية، و لو كانت ممتنعة لما سألها، لأنه إما أن يعلم امتناع الرؤية أو يجهله فإن علم فالعاقل لا يطلب المحال، و إن جهله فهو لا يجوز في حق موسى، فإنّ مثل هذا الشخص لا يستحق أن يكون نبيا.

و يلاحظ عليه: إنّ الاستدلال بآية واحدة، و ترك التدبّر في سائر الآيات الواردة في الموضوع، صار سببا للاستظهار المذكور. و لو اطّلعنا على مجموع ما ورد من الآيات في هذه القصة، لتجلى خطأ الاستظهار.

و إليك البيان:

إنّ الكليم (عليه السّلام) لما أخبر قومه بأنّ اللّه كلّمه و قرّبه و ناجاه، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت. فاختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سيناء و سأله سبحانه أن يكلمه. فلما كلّمه اللّه و سمعوا كلامه، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة، فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم و عتوّهم و استكبارهم، و إلى هذه الواقعة تشير الآيات الثلاث التالية:

1 - وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (2).

2 - يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتٰاباً مِنَ اَلسَّمٰاءِ ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَقٰالُوا أَرِنَا اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّٰاعِقَةُ

ص: 135


1- سورة الأعراف: الآية 143.
2- سورة البقرة: الآية 55.

بِظُلْمِهِمْ (1) .

3 - وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغٰافِرِينَ (2).

ثم إن الكليم طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم، فلربما قالوا إنك لم تكن صادقا في قولك إن اللّه يكلمك، ذهبت بهم فقتلتهم، فعند ذلك أحياهم اللّه و بعثهم معه، و إلى هذا الطلب يشير قول الكليم في الآية الثالثة: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ و عندئذ يطرح السؤال التالي: هل يصح أنّ ينسب إلى الكليم - بعد ما رأى بام عينه ما رأى القوم من الصاعقة و الدمار إثر سؤالهم الرؤية - أنه قام بالسؤال لنفسه بلا داع و سبب مبرر، أو إنه لم يسأل بعد هذه الواقعة إلا لضرورة ألجأته إليه ؟ و الجواب: إنّ الثاني هو المتعين، و ذلك لأنه (عليه السّلام) عرّف سؤال الرؤية بأنه فعل السفهاء في قوله: أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ ، و معه كيف يصح له الإقدام على الطلب بلا ملزم و مبرر. و عند ذلك يجب علينا أن نقف على العلّة الدافعة إلى السؤال.

الدافع إلى السؤال

إنّ قومه بعد الإحياء طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحلّ رؤيته للّه مكان رؤيتهم، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية، و عندئذ أقدم الكليم على السؤال تبكيتا لهؤلاء و إسكاتا لهم و بما أنه لم يقدم إلا اثر الإصرار من

ص: 136


1- سورة النساء: الآية 153.
2- سورة الأعراف: الآية 155.

جانبهم، لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أي لوم و عتاب أو مؤاخذة و عذاب، بل اكتفى تعالى بقوله:

لَنْ تَرٰانِي وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تَرٰانِي .

فلا يكون السؤال دليلا على إمكان الرؤية و بعبارة أخرى: إنّ موسى كان من أعلم الناس باللّه و صفاته و ما يجوز عليه و ما لا يجوز، و لكن ما كان طلب الرؤية إلا لتبكيت هؤلاء الذين دعاهم «سفهاء» و تبرأ من فعلهم. فبما أنهم لجّوا و تمادوا و قالوا بأنهم لا يؤمنون له حتى يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك، و هو قوله: لَنْ تَرٰانِي فطلب موسى الرؤية ليتيقنوا و يزول ما دخلهم من الشبهة، فلأجل ذلك قال:

رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ و لم يقل ربّ أرهم ينظروا إليك.

و العجب أنّ الآية على خلاف مطلوب الأشاعرة أدلّ ، فإنه سبحانه رد طلب الكليم بقوله: «لن تراني» و «لن» للتأبيد، كقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ (1).

و هاهنا نكتة ينبغي التنبيه عليها و هي أنّ الميقات الوارد في قوله تعالى: وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ (2)، نفس الميقات الوارد في قوله سبحانه: وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا (3). و لم يكن لموسى مع قومه إلا ميقات واحد و قد وقعت الحادثتان فيه في ظرف واحد، غير أن سؤال قومه رؤية اللّه كان قبل سؤال موسى الرؤية لنفسه.

الوجه الثّاني

إنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، و هو أمر ممكن في نفسه، و المعلّق على الممكن، ممكن.

ص: 137


1- سورة الحج: الآية 73.
2- سورة الأعراف: الآية 143.
3- سورة الأعراف: الآية 155.

يلاحظ عليه: إنّ المعلق عليه في قوله: فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ ليس هو إمكان الاستقرار، بل وجود الاستقرار و تحققه بعد تجلّيه، و المفروض أنه لم يتحقق بعد التجلي. و إذا كان إمكان الرؤية معلقا على تحقق الاستقرار بعد التجلي فينتج أنّ الرؤية ليست أمرا ممكنا لفقدان المعلّق عليه و هذا نظير قول القائل:

و لو طار ذو حافر قبلها *** لطارت و لكنّه لم يطر

ثم إنّ الأشاعرة استدلت بعدّة أخرى من الآيات القرآنية، نتركها للباحث الكريم. كما أنهم استدلوا ببعض الروايات نحن في غنى عن الإجابة عنها بعد دلالة العقل السليم و الذكر الحكيم على امتناع الرؤية. و لكن إكمالا للبحث نأتي بأمرين:

الأمر الأول: جذور مسألة الرؤية

إنّ مسألة الرؤية إنما طرحت بين المسلمين من جانب الأحبار و الرهبان بتدليس خاص. فإنّ أهل الكتاب يدينون برؤيته سبحانه، و يظهر ذلك لمن راجع العهد القديم و إليك مقتطفات منه:

1 - «رأيت السيد جالسا على كرسي عال... فقلت: ويل لي لأن عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود» (إشعيا 1:6-6). و المقصود من السيد هو اللّه جل ذكره.

2 - «كنت أرى أنه وضعت عروش و جلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج، و شعر رأسه كالصوف النقي و عرشه لهيب نار» (دانيال: 9:7).

3 - «أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك» (مزامير داود 15:17).

4 - «فقال منوح لامرأته: نموت موتا لأننا قد رأينا اللّه» (القضاة:

13).

ص: 138

5 - «فغضب الربّ على سليمان، لأن قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين» (الملوك الأول: 11).

6 - «قد رأيت الرب جالسا على كرسيه و كل جند البحار وقوف لديه» (الملوك الأول: 22).

7 - «كان في سنه الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر و أنا بين المسبيين عند نهر خابور، إنّ السموات انفتحت فرأيت رؤى اللّه...

إلى أن قال: هذا منظر شبه مجد الرب و لما رأيته خررت على وجهي و سمعت صوت متكلم» (حزقيال: 1:1).

و القائلون بالرؤية من المسلمين، و إن استندوا إلى الكتاب و السنّة و دليل العقل، لكن غالب الظن أنّ القول بها تسرب إلى أوساطهم من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار و الرهبان، و ربما صاروا مصدرا لبعض الأحاديث في المقام و صار ذلك سببا لجرأة طوائف من المسلمين على جوازها، و استدعاء الأدلة عليها من العقل و النقل.

الأمر الثاني: الرؤية في كلمات أهل البيت (عليهم السّلام)

إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي (عليه السّلام) في التوحيد و ما أثر عن أئمة العترة الطاهرة يقف على أنّ مذهبهم في ذلك امتناع الرؤية و أنه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون. و إليك نزرا يسيرا مما ورد في هذا الباب:

1 - قال الإمام علي (عليه السّلام) في خطبة الاشباح: «الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، و الآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، و الرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه»(1).

ص: 139


1- نهج البلاغة، الخطبة 87 طبعة مصر المعروف بطبعه عبده. و الأناسي جمع إنسان، و إنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتازا عنها في لونها.

2 - و قد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ فقال (عليه السّلام): أ فأعبد ما لا أرى ؟ فقال: و كيف تراه ؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين(1).

3 - و قال (عليه السّلام): «الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النواظر، و لا تحجبه السواتر»(2).

إلى غير ذلك من خطبه (عليه السّلام) المطفوحة بتقديسه و تنزيهه عن إحاطة القلوب و الأبصار به(3).

و أما المروي عن سائر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام)، فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه «الكافي» بابا خاصا للموضوع روى فيه ثمان روايات(4)، كما عقد الصدوق في كتاب التّوحيد بابا لذلك روى فيه إحدى و عشرين رواية يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسية البصرية و قسم منها يثبت رؤية معنوية قلبية سنشير إليه و في الكل نور للقلوب و شفاء للصدور(5).

الرؤية القلبية

قد اثر عن أئمة أهل البيت رؤية اللّه سبحانه بالقلب و قد أثر في ذلك روايات يقف عليها المتتبع في توحيد الصدوق و غيره.

منها: ما رواه الصدوق عن الرضا (عليه السّلام) في خطبة له قال:

«أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة»(6).

ص: 140


1- نهج البلاغة، الخطبة 174.
2- نهج البلاغة، الخطبة 180.
3- لاحظ الخطبتين 48 و 81 من الطبعة المذكورة.
4- الكافي، ج 1، ص 95، باب إبطال الرؤية.
5- التوحيد، الباب 8، ص 107-122.
6- التوحيد، باب التوحيد و نفي التشبيه، الحديث 2، ص 37.

و منها: ما رواه أيضا عن الصادق (عليه السّلام) في كلام له في التوحيد قال: «واحد، صمد، أزلي، صمدي، لا ظل له يمسكه، و هو يمسك الأشياء باظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، لا خلقه فيه و لا هو في خلقه»(1).

فقوله: معروف عند كل جاهل، لا يهدف إلى المعرفة الحاصلة بالاستدلال لعدم ثبوت هذه المعرفة لكل جاهل جاحد، فلا بد أن يكون المراد معرفة أخرى لا تزول صورتها عن الذهن.

إلى غير ذلك من الروايات التي مرّ بعضها(2). و أما البحث عن حقيقة تلك الرؤية القلبية التي هي غير الرؤية البصرية الحسية فموكول إلى محله الخاص.

ص: 141


1- التوحيد باب التوحيد و نفي التشبيه، الحديث 15، ص 57.
2- لاحظ التوحيد باب 8، الحديث 2 و 4 و 5 و 6 و 16 و 17 و 20 يقول الصدوق: «و قد تركت إيراد بعض الروايات في هذا المضمار خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر باللّه عز و جل و هو لا يعلم».

ص: 142

الصّفات السلبيّة

(6) ليست حقيقته معلومة لغيره

إن أدوات المعرفة للإنسان عبارة عن القوى العقلية التي تقوم بالتعرف على الشيء بالوقوف على حدود وجوده و ماهيته. فإذا كان الشيء مركبا من وجود و ماهية، فالوقوف على حده تعرّف على كنهه. فإذا أردنا أن نعرف الإنسان لزم إعمال القوى العقلية حتى نقف على مرتبة وجوده و ذاته و ذاتياته التي جسّدها عروض الوجود عليها في الخارج. فيقال إنّ ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق أي ذلك المفهوم عاريا عن الوجود و العدم، الذي إذا عرضه الوجود في الخارج جسّده و حققه.

و أما حقيقة الوجود العارض فلا يمكن للنفس التعرّف عليها، لعدم المسانخة بين أدوات المعرفة و المعرّف. فإن الإنسان إنما يحصّل المعرفة بفكره و ذهنه و المفاهيم التي تلقي ضوءا على الخارج. و مثل ذلك لا يمكن أن يتعرف إلاّ على ما يسانخه من المفاهيم و الماهيات. و أمّا الوجود المحقق للماهية فسنخه سنخ العينية و الواقعية و الخارجية، فلا يحصّل الإنسان واقعيته لعدم السنخية بين العاقل و المعقول.

و لأجل ذلك اتفق أهل المعقول على أن الإنسان يعرف ماهية الأشياء و حدودها لا حقيقة الوجود العارض عليها الذي ليس له واقعية إلا العينية

ص: 143

الخارجية. فإذا كان هذا حال الوجود العارض للأشياء، فكيف بالتعرف على وجوده سبحانه الذي هو وجود محض لا حدّ له، و حقيقة خارجية لا ماهية لها.

فليس في وسع الإنسان الذي تنحصر أدوات معرفته بالذهن و الفكر و القوى الموجودة فيهما، أن يتعرف على الحقيقة العينية الخارجية التي يمتنع أن تنعكس على الذهن و تتخذ منها صورة مسانخة لعمل الذهن.

و بعبارة أخرى: لو وقف الإنسان على مدى قدرته في التعرف على الحقائق و أدوات معرفته و القوى الموجودة في ذهنه لأذعن أنّ حقيقته سبحانه أعلى من أن تقع في إطار ذهن الإنسان و فكره. فالذهن يدرك المفاهيم و المعاني و الصور التي لا عينية لها إلاّ بالوجود، و اللّه سبحانه هو نفس الوجود، فكيف يمكن للذهن أن يدرك حقيقة الشيء الذي ليس بين المدرك و المدرك أي سنخية. و لأجل ذلك تنحصر معرفة الإنسان باللّه سبحانه بالعناوين و المعرّفات التي نسميها بالأسماء و الصفات و هي لا توقفه على حقيقته تبارك و تعالى، فإنها نوافذ على الغيب يشرف بها الإنسان البعيد عن ذلك العالم عليه إشرافا غير كامل، فلا تعدو المعرفة الحاصلة بها عن التعرف بالاسم. يقول ابن أبي الحديد:

فيك يا أعجوبة الكو *** ن غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي اللّ *** ب و بلبلت العقولا

كلّما قدّم فكري في *** ك شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في *** عمياء لا يهدى سبيلا

و بذلك يعلم صدق ما ذكرناه عند البحث عن الأسماء و الصفات بأنّ الصفات الثبوتية لا تنحصر بالثمان المعروفة و لا الصفات السلبية بما ذكرناه، بل اللّه جل جلاله موجود تام من جميع الجهات، فكل كمال لا يشذ عن حيطة وجوده، كما أنّ وجوده مقدس عن كل نقص يتصور تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (1).

ص: 144


1- سورة الرحمن: الآية 78.
خاتمة أسماء اللّه تعالى في الكتاب و السنّة
اشارة

* هل الأسماء توقيفية أو لا؟

ص: 145

ص: 146

أسماؤه في الكتاب و السّنّة ورد في القرآن الكريم مائة و ثمانية و عشرون اسما للّه تعالى و هي:

الإله، الأحد، الأول، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم، أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب، الأبقى، البارئ، الباطن، البديع، البرّ، البصير، التوّاب، الجبّار، الجامع، الحكيم، الحليم، الحيّ ، الحقّ ، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحفيّ ، الخبير، الخالق، الخلاّق، الخير، خير الماكرين، خير الرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنزلين، ذو العرش، ذو الطّول، ذو الانتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوة، ذو الجلال و الإكرام، ذو المعارج، الرّحمن، الرحيم، الرءوف، الربّ ، رفيع الدرجات، الرزّاق، الرقيب، السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب، الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المحال، الصمد، الظاهر، العليم، العزيز، العفوّ، العليّ ، العظيم، علاّم الغيوب، عالم الغيب و الشهادة، الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفّار، فالق الأصباح، فالق الحب و النوى، الفاطر، الفتّاح، القوي، القدّوس، القيّوم، القاهر، القهّار، القريب،

ص: 147

القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كل نفس بما كسبت، الكبير، الكريم، الكافي، اللطيف، الملك، المؤمن، المهيمن، المتكبر، المصور، المجيد، المجيب، المبين، المولى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المقتدر، المستعان، المبدئ، المعيد، مالك الملك، النّصير، النور، الوهّاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود، الهادي.

و أمّا في السنّة، فقد جاءت الروايات من طرق الخاصة و العامة على أنّ للّه تعالى تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة.

فمن روايات الخاصة ما رواه الصدوق بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ للّه تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما، مائة إلاّ واحدا، من أحصاها دخل الجنة و هي:

اللّه، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأول، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، البارئ، الأكرم، الظاهر، الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحقّ ، الحسيب، الحميد، الحفي، الربّ ، الرحمن، الرحيم، الذارئ، الرزّاق، الرقيب، الرءوف، الرائي، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبر، السيد، السبوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الطاهر، العدل، العفوّ، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتّاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المقيت، المصور، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضرّ، الوتر، النور، الوهاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البر، الباعث، التوّاب، الجليل، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديّان، الشكور،

ص: 148

العظيم، اللطيف، الشافي»(1).

و المذكور في الحديث مائة اسم، لكن الظاهر أنّ لفظة الجلالة ليس من الأسماء الحسنى، و لا بدّ أن يكون ذكر بعنوان المسمى الجاري عليه الأسماء و بذلك يستقيم العدد.

و المراد من إحصائها ليس عدّها بل الإحاطة بها و الوقوف على معانيها، أو التمثل و التشبه بها ما أمكن.

و من روايات العامة ما في الدرّ المنثور قال: أخرج الترمذي، و ابن المنذر، و ابن حبان، و ابن مندة، و الطبراني، و الحاكم، و ابن مردويه، و البيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ للّه تسعة و تسعين اسما مائة إلاّ واحد، من أحصاها دخل الجنة، إنّه وتر يحب الوتر: هو اللّه الذي لا إله إلاّ هو الرّحمن الرحيم، الملك، القدوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهّار، الوهّاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال و الإكرام، الوالي، المتعال، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع،

ص: 149


1- التوحيد للصدوق، ص 194، ح 8.

الضّارّ، النّافع، النّور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور(1).

هل أسماء اللّه تعالى توقيفية ؟

نقل غير واحد من المتكلمين و المفسّرين أنّ أسماءه تعالى و صفاته توقيفية، و جوّزوا إطلاق كل ما ورد في الكتاب و الأحاديث الصحيحة دعاء أو وصفا له و إخبارا عنه. و منعوا كل ما لم يرد فيهما، و سمّوا ذلك إلحادا في أسمائه، و على ذلك منع جمهور أهل السنّة كل ما لم يأذن به الشارع، مطلقا.

و جوّز المعتزلة ما صحّ معناه و دلّ الدليل على اتصافه به و لم يوهم إطلاقه نقصا. و قد مال إلى قول المعتزلة بعض الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، و توقف إمام الحرمين الجويني.

و التفصيل يقع في مقامين:

الأول - تفسير ما استدلوا به من الآية.

الثاني - تجويز ما لم يوهم إطلاقه نقصا.

أما الأول: فقد قال سبحانه: وَ لِلّٰهِ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ فَادْعُوهُ بِهٰا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمٰائِهِ سَيُجْزَوْنَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2).

الاستدلال مبني على أمرين:

أ - إنّ اللام في الأسماء الحسنى للعهد، تشير إلى الأسماء الواردة في الكتاب و السنّة الصحيحة.

ب - إنّ المراد من الإلحاد، التعدي إلى غير ما ورد.

و كلا الأمرين غير ثابت. أمّا الأول فالظاهر أنّ اللام للاستغراق قدّم عليها لفظ الجلالة لأجل إفادة الحصر، و معنى الآية إنّ كل اسم أحسن في

ص: 150


1- الدّرّ المنثور.
2- سورة الأعراف: الآية 180.

عالم الوجود فهو للّه سبحانه، لا يشاركه فيه أحد. فإذا كان اللّه سبحانه ينسب بعض هذه الأسماء إلى غيره كالعالم و الحي، فأحسنها للّه، أعني الحقائق الموجودة بنفسها الغنية عن غيرها. و الثابت لغيره من العلم و الحياة و القدرة المفاضة من جانبه سبحانه، من تجليات صفاته و فروعها و شئونها.

و الآية بمنزلة قوله سبحانه: أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً (1).

و قوله: إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً (2) إلى غير ذلك.

و على ذلك فمعنى الآية أنّ للّه سبحانه حقيقة كل اسم أحسن لا يشاركه غيره إلاّ بما ملّكهم منه، كيف ما أراد و شاء.

و أمّا الثاني: فلأن الإلحاد هو التطرف و الميل عن الوسط إلى أحد الجانبين، و منه لحد القبر، لكونه في جانبه. بخلاف الضريح الذي في الوسط، و أمّا الإلحاد في أسمائه فيتحقق بأمور:

1 - إطلاق أسمائه على الأصنام بتغيير ما، كإطلاق «اللات» المأخوذة من الإله بتغيير، على الصنم المعروف، و إطلاق «العزّى» المأخوذة من العزيز، و «المناة» المأخوذة من المنان، فيلحدون و يميلون عن الحق بسبب هذه الإطلاقات لإرادتهم التشريك و الحط من مرتبة اللّه و تعلية ما صنعوه من الأصنام. و سيجزي هؤلاء على طبق أعمالهم فلا يصل النقص إلى اللّه و لا يرتفع مقام مصنوعاته.

2 - تسميته بما لا يجوز وصفه به لما فيه من النقص، كوصفه سبحانه بأبيض الوجه و جعد الشعر.

و من هذا القبيل تسميته سبحانه بالماكر و الخادع تمسكا بقوله سبحانه:

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ (3) . و قوله سبحانه: إِنَّ

ص: 151


1- سورة البقرة: الآية 165.
2- سورة يونس: الآية 65.
3- سورة آل عمران: الآية 54.

اَلْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ (1) . فإنّ المتبادر من هذين اللفظين غير ما هو المتبادر من الآية. فإنّ المتبادر منهما منفردين مفهوم يلازم النقص و العيب بخلاف المفهوم من الآيتين فإنه جزاء الخادع و الماكر على وجه لا يبقى لفعلهما أثر.

3 - تسميته ببعض أسمائه الحسنى دون بعض كأن يقولوا «يا اللّه» و لا يقولوا «يا رحمان» و قد قال اللّه تعالى: قُلِ اُدْعُوا اَللّٰهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (2). و قال سبحانه: وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ ، قٰالُوا وَ مَا اَلرَّحْمٰنُ أَ نَسْجُدُ لِمٰا تَأْمُرُنٰا وَ زٰادَهُمْ نُفُوراً (3).

إلى غير ذلك من أقسام الإلحاد و العدول عن الحق في أسمائه.

و بذلك يظهر أنّه لا مانع من توصيفه سبحانه بالواجب أو واجب الوجود أو الصانع أو الأزلي، أو الأبدي و إن لم ترد في النصوص، إذ ليس في إطلاقها عليه سبحانه طروء نقص أو إيماء إلى عيب، مع أنّه سبحانه يقول:

صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ (4) .

هذا كله حول المقام الأول.

و أما المقام الثاني: و هو تجويز تسميته تعالى بكل ما يدل على الكمال أو يتنزّه عن النقص و العيب، فذلك لأن الألفاظ التي نستعملهما في حقه سبحانه لم توضع إلاّ لما نجده في حياتنا المشوبة بالنقص و العيب، فالعلم فينا الإحاطة بالشيء من طريق أخذ صورته من الخارج بوسائل مادّيّة، و القدرة فينا هي المنشئيّة للفعل بكيفيّة مادية موجودة في عضلاتنا. و من

ص: 152


1- سورة النساء: الآية 142.
2- سورة الإسراء: الآية 110.
3- سورة الفرقان: الآية 60.
4- سورة النمل: الآية 88.

المعلوم أنّ هذه المعاني لا يصح نسبتها إلى اللّه إلاّ بالتجريد. كأن يفسّر العلم بالإحاطة بالشيء بحضوره عند العالم، و القدرة بالمنشئية للشيء بإيجاده. و مثله مفاهيم الحياة و الإرادة و السمع و البصر فلا تطلق عليه سبحانه إلاّ بما يليق بساحة قدسه، منزّهة عن النقائص. فإذا كان الأمر على هذا المنوال في الأسماء التي وردت في النصوص فيسهل الأمر فيما لم يرد فيها، و كان رمزا للكمال أو معربا عن فعله سبحانه على صفحات الوجود، أو مشيرا إلى تنزيهه و غير ذلك من الملاكات المسوّغة لتسميته و توصيفه.

نعم بما أنّ العوام من الناس ربما لا يتبادر إلى أذهانهم ما يدلّ على الكمال أو يرمز إلى التنزيه أو لا أقل يخلو من الإشارة إلى النقص، فيبادرون إلى تسميته و توصيفه بأسماء و صفات فيها أحد المحاذير السابقة، فمقتضى الاحتياط في الدين الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع بل التجنّب عن الإجراء و الإطلاق عليه سبحانه و إن لم يكن هناك تسمية.

هذا تمام الكلام في الأسماء و الصفات.

ص: 153

ص: 154

الفصل الرابع القضاء و القدر

اشارة

* موقف النبي و أهل بيته.

* التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين.

* الأمويون و تفسير القضاء بالجبر.

* مصادر القضاء و القدر في الكتاب و السنّة.

* تفسير القضاء و القدر العينيان * تفسير القضاء و القدر العلميان.

* القضاء و القدر في الصّحاح و المسانيد.

* الأحبار و إشاعة فكرة القدر بين المسلمين.

* «القدرية» في الحديث النبوي.

ص: 155

ص: 156

القضاء و القدر

اشارة

إنّ القضاء و القدر من الأصول الإسلامية الواردة في الكتاب و السنّة و ليس لمن له إلمام بهذين المصدرين الرئيسين أن ينكرهما أو ينكر واحدا منهما.

و ربما يصل إليهما العقل الفلسفي في تحليلاته و تفسيراته للكون المستند إلى الواجب سبحانه، و يخرج الجميع بنتيجة واحدة هي أنّ لوجود كل شيء تحديدا و تقديرا، كما أنّ له قضاء و حكما إبراميا. و أمّا ما هو المقصود منهما في الكتاب و السنّة أو فيما يرشد إليه العقل فسوف يظهر في الفصول الآتية، و قد أصبح لفظ «المصير» في مصطلح اليوم قائما مكان هذين اللفظين.

إنّ الوقوف على حقيقة المصير من المسائل الفلسفية التي يتشوق إليها الكل، حتى من لم يكن فيلسوفا، فإن المسائل الفلسفية على صنفين:

صنف مطروح للخواص و لا حظّ لغيرهم فيه و هذا كمسألة «عينية الصفات مع الذات»، أو كون «الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد» إلى غير ذلك من المسائل التي لا يقف على مغزاها و لا يتفكر فيها إلاّ الباحث في المسائل العقلية.

ص: 157

و هناك صنف اخر، و إن كان أقل من سابقه، مطروح لكل الناس و الفيلسوف و غيره في التشوق إلى فهمه متساويان و من هذا القسم فهم القضاء و القدر في الكتاب و السنّة و موقع الإنسان بالنسبة إليهما، و هل للإنسان في مقابل التقدير اختيار و حرية، و أنّ ما قدّر في الأزل، و قضي به لا يسلب حريّته، أو أنّ الإنسان بعد التقدير و القضاء، كالريشة المعلّقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما مالت، و هل الإنسان على مسرح الحياة ممثّل أو مشاهد. فالمتعمقون من الناس يميلون إلى الأول، و السطحيون إلى الثاني. و لأجل ذلك ترى أن القضاء و القدر لعب دورا كبيرا في آداب الأمم و أشعارهم، فترى أنّ كل شاعر و أديب يفسّر القضاء و القدر على الوجه الذي يناسب نزعاته أو يؤيده بيئته و ظروفه الاجتماعية و من هنا نرى تناقضا واضحا للغاية بين الأدباء و الكتّاب في تحليل هذا الأصل.

إنّ مسألة التقدير - لأجل الخصيصة الماضية - قد ابتليت بتفسيرين مختلفين لا يجتمعان أبدا، بينهما بعد المشرقين، فالمأثور الصحيح عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أهل بيته و بعض الصحابة أنّه لا صلة بين الاعتقاد بالقضاء و القدر و تبرير المعاصي و المساوي عن ذلك الطريق و أنّ القضاء و القدر ليسا سالبين للاختيار بل مؤيدان لحرية الإنسان في حياته.

و في مقابلهم جماعة سطحيون من الناس تدرعوا بالقضاء و القدر، و أخذوا يبرّرون أفعالهم فيهما و كأنه ليس في الحياة عامل مؤثر سواهما، و أنّ الإنسان في حياته مشاهد لما خطّط من قبل، و ليس ممثلا لشيء من الأشياء.

و لأجل إيقاف القارئ على موقف كلا الطائفتين، نورد كلماتهم في هذا المجال:

موقف النبي و أهل بيته و بعض الصحابة

1 - قال النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله): «سيأتي زمان على أمتي

ص: 158

يؤوّلون المعاصي بالقضاء، أولئك بريئون مني و أنا منهم براء»(1).

2 - قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم مرّ بحائط مائل و هو يقبل إليه، و لم يسرع المشي حتى سقط عليه...»(2).

3 - قيل لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «رقى يستشفى بها هل ترد من قدر اللّه فقال: إنها من قدر اللّه»(3). و الرقى جمع الرقية بمعنى العوذة. فقد جعل رسول اللّه التمسك بالأسباب جزءا من تقديره سبحانه، فأعلم بذلك أن ليس التقدير سالبا للاختيار، بل خيرة الإنسان و حريته في مجال الحياة من تقديره سبحانه.

4 - قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «في كل قضاء اللّه عز و جل خيرة للمؤمن»(4).

5 - و هذا أمير المؤمنين، باب علم النبي يوضح لنا مكانة التقدير بالنسبة إلى الاختيار. روى الأصبغ بن نباتة أن أمير المؤمنين (عليه السّلام) عدل من حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له يا أمير المؤمنين أ تفرّ من قضاء اللّه ؟ قال: «أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عز و جل»(5).

6 - لما انصرف أمير المؤمنين (عليه السّلام) من صفين أقبل شيخ فجثا بين يديه ثم قال له يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام، أ بقضاء اللّه و قدره ؟ فقال: أجل يا شيخ، ما علوتم من طلعة، و لا هبطتم من واد، إلاّ بقضاء من اللّه و قدر فقال الشيخ: عند اللّه احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين: مه يا شيخ! فو اللّه لقد عظّم اللّه لكم الأجر

ص: 159


1- الصراط المستقيم، ص 32.
2- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء و القدر، ذيل الحديث 31، ص 105.
3- المصدر نفسه، الحديث الأول، ص 87.
4- التوحيد للصدوق ذيل الحديث الحادي عشر، ص 371.
5- التوحيد للصدوق، ص 369.

في مسيركم و أنتم سائرون، و في مقامكم و أنتم مقيمون، و في منصرفكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين و لا إليه مضطرين. فقال الشيخ: كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين و لا إليه مضطرين و كان بالقضاء و القدر مسيرنا و منقلبنا و منصرفنا. فقال أمير المؤمنين: أو تظن أنّه كان قضاء حتما، و قدرا لازما؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثّواب و العقاب، و الأمر و النهي، و الزّجر من اللّه تعالى، و سقط معنى «الوعد و الوعيد» و لم تكن لائمة للمذنب، و لا محمدة للمحسن، و لكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، و لكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب... و تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، و خصماء الرحمن، و حزب الشيطان، و قدريّة هذه الأمة و مجوسها(1). و إنّ اللّه كلف «تخييرا» و نهى «تحذيرا» و أعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكرها، و لم يملك مفوّضا، و لم يخلق السموات و الأرض و ما بينهما باطلا، و لم يبعث النبيين مبشرين و منذرين عبثا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار(2).

7 - و قال أمير المؤمنين عند ما سئل عن القضاء و القدر: «لا تقولوا و كلهم اللّه إلى أنفسهم فتوهنوه، و لا تقولوا أجبرهم على المعاصي فتظلموه، و لكن قولوا الخير بتوفيق اللّه و الشر بخذلان اللّه، و كلّ سابق في

ص: 160


1- قد أطلق الإمام لفظ القدرية هنا على مثبتي القدر لا نفاته على خلاف ما اشتهر بين المتكلمين.
2- التوحيد للصدوق، ص 380، ح 28. و هذا الحديث الذي نقلناه ذكره الكليني المتوفى عام 329 ه في كافيه، و الشيخ الصدوق المتوفى عام 381 ه. في توحيده، و الشريف الرضي المتوفى عام 406 في نهج البلاغة. و ما أفرغه (عليه السّلام) في هذه الخطبة لا يمتاز عن سائر خطبه و كلمه. و العجب كل العجب من الدكتور علي سامي النشار الذي نقل الحديث في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 1، ص 411، عن كتاب المنية لابن المرتضى، و زعم أنه من موضوعات المعتزلة و أنّ أسلوب الكلام فيه يمتاز عن أسلوب علي (عليه السّلام). و لكنه غفل عن أن الحديث منقول في كتب السلف من الشيعة الذين لا يمتّون إلى المعتزلة و لا إلى غيرهم من الفرق بصلة، و للتفصيل مجال آخر.

علم اللّه»(1).

8 - و قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «ما غلا أحد في القدر إلاّ خرج من الإسلام». و في نسخة «من الإيمان»(2).

9 - كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليهما يسأله عن القدر، فكتب إليه: «فاتبع ما شرحت لك في القدر مما أفضي إلينا أهل البيت، فإنه من لم يؤمن بالقدر خيره و شره فقد كفر، و من حمل المعاصي على اللّه عز و جل فقد افترى على اللّه افتراء عظيما، إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يطاع بإكراه، و لا يعصى بغلبة و لا يهمل العباد في الهلكة، لكنه المالك لما ملكهم، و القادر لما عليه أقدرهم. فإن ائتمروا بالطاعة، لم يكن اللّه صادّا عنها مبطئا، و إن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم و بين ما ائتمروا به فعل. و إن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسرا، و لا كلفهم جبرا بل بتمكينه إياهم بعد إعذاره و إنذاره لهم و احتجاجه عليهم، طوقهم و مكنهم و جعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم، و ترك ما عنه نهاهم جعلهم مستطيعين لأخذ ما أمرهم به من شيء غير آخذيه. و لترك ما نهاهم عنه من شيء غير تاركيه، و الحمد للّه الذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوة، و ما نهاهم عنه. و جعل العذر لمن يجعل له السبيل حمدا متقبلا فأنا على ذلك أذهب و به أقول. و اللّه و أنا و أصحابي أيضا عليه و له الحمد»(3).

10 - و قال الإمام الصادق (عليه السّلام): «كما أنّ بادئ النعم من اللّه عز و جل و قد نحلكموه، كذلك الشرّ من أنفسكم و إن جرى به قدره»(4).

ص: 161


1- بحار الأنوار ج 5، باب القضاء و القدر، ح 16، ص 95.
2- المصدر نفسه، ح 60، ص 120.
3- المصدر نفسه، ح 71، ص 123.
4- المصدر نفسه، ح 42، ص 114.

11 - و قال الإمام الرضا (عليه السّلام)، فيما يصف به الربّ : «لا يجور في قضية، الخلق إلى ما علم منقادون، و على ما سطر في كتابه ماضون، لا يعملون خلاف ما علم منهم، و لا غيره يريدون»(1).

فقد صدّر كلامه (عليه السّلام) بقوله: «لا يجور في قضيته»، أي لا يكون جائرا في قضائه. و هو نفس القول بأنّ القضاء لا يجعل الإنسان مكتوف الأيدي. و أمّا قوله: «لا يعملون خلاف ما علم منهم» فلا يلازم الجبر، إذ فرق بين أن يقول «لا يعملون خلاف ما علم»، و قوله «لا يعملون خلاف ما علم منهم». فإنّ الثاني ناظر إلى أنّ علمه لا يقبل الخطأ، و أنّ علمه بأفعال العباد لا يتخلف، و لكن المعلوم له سبحانه هو صدور كل فعل من فاعله بما احتفّ من المبادي؛ من الاختيار أو ضده. و سيوافيك تفسيره.

هذا هو المأثور عن النبي الأعظم و أهل بيته الطاهرين، فالكل يركزون على أنّ القضاء و القدر لا يسلبان الحرية عن الإنسان. و لأجل اشتهار علي و أهل بيته في هذا المجال بهذا، قيل من قديم الأيام:

«الجبر و التشبيه أمويان، و العدل و التّوحيد علويان».

نعم وجد بين الصحابة من قال بهذا القول متأثرا بما سمعه من النبي الأكرم أو صحابته الوعاة و نأتي في المقام ببعض النماذج من هذه الكلمات:

12 - روى الطبري في تاريخه: «و قدم عمر بن الخطاب الشام فصادف الطّاعون بها فاشيا، فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع و أن لا يدخلها إلاّ أبا عبيدة ابن الجراح فإنه قال: «أ تفرّ من قدر اللّه» قال:

«نعم، أفرّ من قدر اللّه بقدر اللّه إلى قدر اللّه، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!» فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «إذا كنتم ببلاد الطّاعون فلا تخرجوا منها، و إذا قدمتم إلى

ص: 162


1- المصدر نفسه، ح 25، ص 101.

بلاد الطاعون فلا تدخلوها». فحمد اللّه على موافقة الخبر لما كان في نفسه و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدينة»(1).

ترى أنّ الخليفة - مع أنه كان يعتقد بخلاف ذلك على ما أثر عنه في غزوة حنين كما سيأتي - لا يرى الاعتقاد بالقضاء و القدر مخالفا لكون الإنسان ممسكا إرادته أو مرخيا لها في الدخول إلى بلاد الطاعون.

و روى ابن المرتضى في طبقات المعتزلة عن عدة من الصحابة جملا تحكي عن كونهم متحيزين في مسألة القضاء و القدر إلى القول بالاختيار و إليك بعض ما نقله عنهم، قال:

13 - و قد أتي عمر بسارق فقال: لم سرقت فقال قضى اللّه عليّ .

فأمر به فقطعت يده و ضرب أسواطا، فقيل له في ذلك، فقال: القطع للسرقة و الجلد لما كذب على اللّه(2).

14 - و قيل لعبد اللّه بن عمر يا أبا عبد الرّحمن إنّ أقواما يزنون و يشربون الخمر و يسرقون و يقتلون النفس و يقولون: كان في علم اللّه فلم نجد بدا منه، فغضب ثم قال: سبحان اللّه العظيم، قد كان ذلك في علمه إنهم يفعلونها و لم يحملهم علم اللّه على فعلها.... الحديث(3).

15 - روى مجاهد عن ابن عباس أنّه كتب إلى قراء المجبرة بالشام:

أما بعد، أ تأمرون الناس بالتقوى و بكم ضل المتقون، و تنهون الناس عن المعاصي و بكم ظهر العاصون. يا أبناء سلف المقاتلين، و أعوان الظالمين، و خزان مساجد الفاسقين، و عمّار سلف الشياطين، هل منكم إلاّ مفتر على اللّه يحمل إجرامه عليه و ينسبها علانية إليه... الحديث.

و لعل وجه افترائهم على اللّه سبحانه هو تعليل أعمالهم الإجرامية بسبق

ص: 163


1- تاريخ الطبري، ج 3، ص 606 ذكره في حوادث عام 17.
2- طبقات المعتزلة لأحمد بن يحيى بن مرتضى، ص 11، طبعة بيروت 1380.
3- المصدر السابق، ص 12.

علمه سبحانه عليها، فصوروا أنفسهم مجبورين و مسيرين، فرد عليهم ابن عباس بما قرأت.

هذه هي الكلمات المأثورة عن النبي الأكرم و أهل بيته الطاهرين و بعض الصحابة و لكن تجاه هؤلاء جماعة يرون القضاء و القدر هو العامل المؤثر في الحياة، و أنّ الإنسان مكتوف اليدين في مصيره و مسيره. و ليست تلك الفكرة مختصة ببعض المسلمين، بل القرآن الكريم يحكيها عن بعض المشركين و إليك نقل ما وقفنا عليه في القرآن الكريم، و ما ضبط في التاريخ:

التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين

تنص الآيات القرآنية على أنّ المشركين كانوا معتقدين بالتقدير أولا، و في الوقت نفسه يرونه مساوقا للجبر و راسما للحياة و معينا للمصير. و لعل ما لهج به بعض الصحابة من تفسير التقدير بالجبر و سلب الاختيار كان من آثار العهد الجاهلي التي بقيت في أذهانهم و سيوافيك كلامهم في هذا المجال.

و إليك فيما يلي نقل ما ذكره القرآن في عقيدة المشركين:

1 - قوله تعالى: سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا أَشْرَكْنٰا وَ لاٰ آبٰاؤُنٰا وَ لاٰ حَرَّمْنٰا مِنْ شَيْ ءٍ (1).

ترى أنّ المشركين يسندون شركهم إلى إرادة اللّه و مشيئته و أنّ المشيئة الإلهية هي التي دفعتهم إلى الدخول في حبائل الشرك و لولاها لما أشركوا و لما سوّوا أصنامهم بخالقهم كما يحكي عنهم سبحانه قولهم: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (2).

و لكن الذكر الحكيم يرد عليهم تلك المزعمة بقوله:

ص: 164


1- سورة الأنعام: الآية 148.
2- سورة الشعراء: الآية 98.

كَذٰلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّٰى ذٰاقُوا بَأْسَنٰا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنٰا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَخْرُصُونَ (1) .

2 - و يقول تعالى في آية أخرى حاكيا كلام المشركين في تعليل ارتكابهم الفحشاء بأمر اللّه و إرادته: وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا، قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (2).

3 - و يقول تعالى: وَ قٰالُوا لَوْ شٰاءَ اَلرَّحْمٰنُ مٰا عَبَدْنٰاهُمْ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ (3).

فهذه الآيات و ما يضاهيها من الآيات الأخر تبين لنا موقف المشركين من التقدير و تحليلهم لهذا الأصل، و لأجل ذلك يجب أن يكون تفسير التقدير على وجه لا يتفق مع زعم المشركين فيه. و العجب أنّ هذا الاستنتاج الباطل قد بقي بحاله في بعض الأذهان حتى بعد بزوغ فجر الإسلام و قد سجل التاريخ بعض المحادثات في هذا المجال نشير إليها:

1 - روى عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال: «أ رأيت الزنا بقدر؟ قال: نعم قال: فإنّ اللّه قدّرني عليه ثم يعذبني ؟ قال: نعم يا ابن اللّخناء. أما لو كان عندي إنسان أمرته أن يجفأ أنفك»(4).

فإنّ السائل أدرك في ضميره أنّ التقدير و المجازاة على العمل لا يجتمعان مع عدله سبحانه و قسطه، فلا بد من قبول أحد الأصلين و رفض الآخر و لما لم يجد الخليفة جوابا صالحا لسؤاله قام بتهديده كما سمعت في الخبر، و هذا يوضح أنّ التقدير في بعض الأذهان كان مساوقا للجبر و سلب

ص: 165


1- سورة الأنعام: الآية 148.
2- سورة الأعراف: الآية 28.
3- سورة الزخرف: الآية 20.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 95.

الاختيار و لو لا تلك المساوقة لما كان للسؤال موقع و لا لتهديده وجه.

2 - نقل الواقدي في مغازيه عند ما تعرض لغزوة حنين و هزيمة المسلمين أنّ أم الحارث الأنصارية رأت عمر بن الخطاب في حال الهزيمة و الفرار من أرض المعركة فقالت له ما هذا؟ فقال عمر: أمر اللّه!(1)

الأمويون و تفسير القضاء بالجبر

1 - قال أبو هلال العسكري في الأوائل: إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلها(2).

2 - روى الخطيب عن أبي قتادة عند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة: قالت عائشة: ما يمنعني ما بيني و بين عليّ أن أقول الحق، سمعت النبي يقول: تفترق أمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلقون رءوسهم يحفون شواربهم، أزرهم إلى أنصاف سوقهم، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبّهم إليّ و أحبّهم إلى اللّه. قال: فقلت: يا أم المؤمنين: فأنت تعلمين هذا!! فلم كان الذي منك ؟ قالت: يا قتادة و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، و للقدر أسباب(3).

3 - لقد سعى معاوية بن أبي سفيان - بعد ما سمّ الحسن (عليه السّلام) و رأى الجو السياسي مناسبا - إلى نصب ولده يزيد خليفة من بعده، فلما اعترض عليه عبد اللّه بن عمر، قال له: «إنّي أحذرك أن تشق عصا المسلمين و تسعى في تفريق ملئهم، و أن تسفك دماءهم و إنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء و ليس للعباد خيرة من أمرهم»(4).

و أجاب بهذا الكلام أيضا عائشة أم المؤمنين عند ما نازعته في هذا

ص: 166


1- المغازي للواقدي، ج 3، ص 904.
2- الأوائل، ج 2، ص 125.
3- تاريخ بغداد، ج 1، ص 160.
4- الإمامة و السياسة، لابن قتيبة، ج 1، ص 171.

الاستخلاف، فقال لها: «إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء، و ليس للعباد الخيرة من أمرهم»(1).

فإنك ترى أنّ معاوية يتوسل في تحقيق أهدافه بإيديولوجية دينية مسلّمة بين الناس من المعترضين و غيرهم و هي تفسير عمله بالتقدير و القضاء الإلهي.

و في هذا الصدد يقول أحد الكتّاب المصريين المعاصرين: «إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب و لكن بإيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، و لقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه و بين علي (عليه السّلام) قد احتكما فيها إلى اللّه له على عليّ (عليه السّلام) و كذلك حين أراد أن بطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز، أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء ليس للعباد خيرة في أمرهم، و هكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى و لو كانت طاعة اللّه في خلافه فهو قضاء من اللّه قد قدّر على العباد»(2).

4 - و من مظاهر هذه الفكرة الخاطئة (مساوقة التقدير للجبر) تبرير عمر بن سعد بن أبي الوقاص قاتل الإمام الطاهر الحسين بن علي سلام اللّه عليه مبررا جنايته بأنها تقدير إلهي. و عند ما اعترض عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي بقوله: اخترت همدان و الري على قتل ابن عمك. قال عمر بن سعد: كانت أمورا قضيت من السماء و قد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى(3).

و على هذا الأصل قامت السلطة الأموية و نشأت و ارتقت فكان الخلفاء

ص: 167


1- المصدر نفسه، ص 167.
2- نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية للدكتور أحمد محمود، ص 334.
3- طبقات ابن سعد ج 5، ص 148، طبعة بيروت.

من هذا البيت يهددون من يخالفهم فيه، و يعاقبون بما هو مسجل مضبوط في التاريخ.

5 - إنّ الحسن البصري (ت 22 - م 110) من الشخصيات البارزة في عصره و كان يشغل منصة الوعظ و الخطابة و الإرشاد. و مع ذلك كله لم يكن معتقدا بالتقدير المصوّب عند الأمويين فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان وعد أن لا يعود. روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال: «نازلت الحسن في القدر غير مرة حتى خوّفته من السلطان فقال لا أعود بعد اليوم»(1).

6 - إنّ محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة التي قام بتلخيصها ابن هشام، اتهم بالمخالفة في التقدير و ضرب عدّة سياط تأديبا.

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: إن محمد بن اسحاق اتهم بالقدر، و قال الزبير عن الدراوردي: و جلد ابن إسحاق، يعني في القدر(2).

7 - و روى ابن قتيبة أنّ عطاء بن يسار كان قاضيا للأمويين و يرى رأي معبد الجهني، فدخل على الحسن البصري و قال له: يا أبا سعيد إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين و يأخذون أموالهم و يقولون إنما تجري أعمالنا على قضاء اللّه و قدره، فقال له الحسن البصري: كذب أعداء اللّه(3). و نقل المقريزي أنّ عطاء بن يسار و معبد الجهني دخلا على الحسن البصري فقالا له: إنّ هؤلاء يسفكون الدماء و يقولون إنها تجري أعمالنا على قدر اللّه، فقال: كذب أعداء اللّه فطعن عليه بهذا(4).

8 - يقول ابن المرتضى: «ثم حدث رأي المجبّرة من معاوية و ملوك بني مروان فعظمت به الفتنة»(5).

ص: 168


1- طبقات ابن سعد ج 7، ص 167، طبعة بيروت.
2- تهذيب التهذيب، ج 9، ص 38 و 46.
3- المذاهب الإسلامية، زهرة، ص 175. و الملل و النحل، ج 1، ص 113.
4- الخطط المقريزية، ج 2، ص 356.
5- طبقات المعتزلة، ص 6، تأليف أحمد بن يحيى بن مرتضى المعتزلي.

هذه نماذج مما سجله التاريخ في شأن هذا الاستنتاج، نعم كان هناك فرق بين الحافز الذي دعى المشركين إلى استنتاج الجبر، و الحافز الذي ساق الأمويين إلى نشر تلك الفكرة، فإن الداعي عند المشركين كان داعيا دينيا محضا بينما كان عند الأمويين مشوبا بالسياسة و تبرير الأعمال المنحرفة و إخماد الثورات، و تخدير المجتمع من القيام في وجه السلطة، حتى يتسنى لهم بذلك الحكومة عليه، و استقرار عروشهم، و انغماسهم في ملذاتهم الدنيوية.

إلى هنا عرفت وجهة المسألة عبر العصور و القرون الأولى، و لكن أي الفريقين أحقّ أن يتبع، لا أرى في الإدلاء به إلزاما، فالأمر واضح عند كل ذي لب و بصيرة. و ما ذكرناه كان عرضا إجماليا لتاريخ المسألة تلقي ضوءا على فهم آيات الكتاب و السنّة الواردة في القضاء و القدر. فلنشرع ببيان مصادر المسألة في الكتاب و السنّة و تحليلها.

ص: 169

ص: 170

مصادر القضاء و القدر في الكتاب و السنّة

اشارة

الاعتقاد بالقضاء و القدر من صميم العقائد الإسلامية التي جاءت في الكتاب و السنة و ليس لمسلم واع إنكار وجودهما، إنما الكلام في تفسيرهما و تحليلهما. و قبل أن نذكر ما ورد في المصدرين نأتي بمقدمة يسهل معها تصنيف الآيات و الروايات:

إنّ «التقدير» - كما سيوافيك بيانه مفصلا - هو التحديد، و «القضاء» هو الحكم و الإبرام و كلاهما ينقسم إلى علمي و عيني.

«فالتقدير العلمي» عبارة عن تحديد كل شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه قبل أن يخلق العالم أو قبل أن يخلق الأشياء الحادثة. فاللّه سبحانه يعلم حد كل شيء و مقداره و خصوصياته الجسمانية و المعنوية. كما أنّ المراد من «القضاء العلمي» هو علمه بضرورة وجود الأشياء و إبرامها، و أنّ أي شيء يتحقق بالضرورة و ما لا يتحقق كذلك. فعلمه السابق بحدود الأشياء و ضرورة وجودها، تقدير و قضاء علميان.

و أمّا «التقدير العيني» فهو عبارة عن الخصوصيات التي يكتسبها الشيء من علله عند تحققه و تلبّسه بالوجود الخارجي. كما أن المراد من «القضاء العيني» هو ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامة ضرورة عينية خارجية.

فلو كان القدر و القضاء العلميان ناظرين إلى التقدير و الضرورة في علم

ص: 171

اللّه سبحانه، فالتقدير و القضاء العينيان ناظران إلى التقدير و الضرورة الخارجيين اللّذين يحتفان بالشيء الخارجي.

و التقدير و القضاء هناك مقدّمان على وجود الشيء و هاهنا مقارنان بل متحدان مع وجوده.

و الآيات الواردة في الكتاب على صنفين: صنف ينصّ على العلمي منهما و صنف على العيني منهما، و لأجل ذلك نفسّر الآيات و نصنّفها حتى يكون الباحث في المسألة على بصيرة:

التقدير و القضاء العلميان في الكتاب

1 - قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً (1).

و هذا كاشف عن أنّ مقدار حياة الإنسان مقدّر من قبل، لا يتخلف.

و الآية تعريض بما نقله تعالى عن بعض المنافقين في الآية التالية:

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قٰالُوا لِإِخْوٰانِهِمْ إِذٰا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كٰانُوا غُزًّى لَوْ كٰانُوا عِنْدَنٰا مٰا مٰاتُوا وَ مٰا قُتِلُوا (2) . فرد عليهم سبحانه بما عرفت في الآية.

2 - قال سبحانه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنٰا إِلاّٰ مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَنٰا هُوَ مَوْلاٰنٰا وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (3).

و الآية تهدف إلى أنّ ولاية أمرنا للّه سبحانه، كما يدل عليه قوله:

هُوَ مَوْلاٰنٰا ، و قد كتب كتابة حتم ما يصيبنا من حياة و شهادة. فلو أصابتنا الحياة كان المنّ له و إن أصابتنا الشهادة كانت المشيئة و الخيرة له، فالكل من

ص: 172


1- سورة آل عمران: الآية 145.
2- سورة آل عمران: الآية 156.
3- سورة التوبة: الآية 51.

اللّه و كلاهما حسنة و لأجل ذلك يقول: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلاّٰ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينٰا فَتَرَبَّصُوا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (1).

3 - قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوٰاجاً، وَ مٰا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىٰ وَ لاٰ تَضَعُ إِلاّٰ بِعِلْمِهِ وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ (2).

فالآية تنص على سبق علمه سبحانه على تحقق الأشياء و تكوّنها و تحددها و تقدرها، و كل ما يحف بها من الخصوصيات.

4 - قال تعالى: وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ * وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (3).

«الزّبر» كتب الأعمال، و المراد بالصغير و الكبير، صغيرها و كبيرها و الكل مكتوب في كتاب خاص.

5 - قال تعالى: مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ (4).

المصيبة هي النائبة التي تصيب في الأرض كالجدب و عاهة الثمار و الزلزلة المخربة، أو التي تصيب في الأنفس، كالمرض و الجرح و الكسر و القتل، و المراد من الكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة. و إنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض أو في الأنفس من المصائب لكون كلامه فيهما، و إلاّ فالمكتوب لا يختص به.

و قوله: إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ دالّ على أنّ تقدير الحوادث قبل وقوعها و القضاء عليها بقضاء، لا صعوبة فيه.

ص: 173


1- سورة التوبة: الآية 52.
2- سورة فاطر: الآية 11.
3- سورة القمر: الآيتان 52-53.
4- سورة الحديد: الآية 22.

و يقول سبحانه بعد هذه الآية: لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ ، وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ (1).

و الآية بمنزلة التعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها.

و المعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل الوقوع لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النّعم، و لا تفرحوا بما أعطاكم اللّه منها، لأنّ الإنسان إذا أيقن أنّ المصاب مقدر كائن لم يحزن لفوته و لم يفرح لمجيئه.

هذه بعض الآيات التي وردت في بيان أنّ خصوصيات الأشياء و ضرورة وجودها متحققة في علمه الأزلي أو مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات الماضية. و إليك بيان القسم الثاني من التقدير و القضاء:

التقدير و القضاء العينيان في الكتاب

في هذا القسم من الآيات نقف على أنّ الخصوصيات المتحققة في الأشياء أو ضرورة وجودها كلاهما من اللّه سبحانه، فالتقدير و القضاء منه.

و إليك بعض ما يدل عليه:

1 - قال تعالى: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (2).

قدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه، و الحد الذي لا يتجاوزه من جانبي الزيادة و النقيصة.

2 - قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (3).

فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه و صراط ممدود في وجوده يسلكه و لا يتخطاه.

ص: 174


1- سورة الحديد: الآية 23.
2- سورة القمر: الآية 49.
3- سورة الحجر: الآية 21.

3 - قال تعالى: اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (1).

الضمير في «بينهن» يرجع إلى السّماوات و الأرض. و المراد من «الأمر» هو الأمر التكويني الذي ورد في قوله سبحانه: إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2). و المراد من تنزله هو أخذه بالنزول من مصدر الأمر حتى ينتهي إلى هذا العالم فيتكون ما قصد بالأمر من موت و حياة أو عزّة و ذلّة، أو خصب و جدب، إلى غير ذلك من الحوادث الأرضية و النفسية.

و هذه الآيات كافية في تبيين التقدير العيني. و هناك من الآيات ما يشير إلى القضاء العيني، و أنّ ضرورة تحقق الأشياء - عند اجتماع عللها التامة - من جانبه سبحانه. فكما أنّ التقدير من اللّه سبحانه فكذلك القضاء و الحكم بالشيء في عالم العين، منه سبحانه.

4 - قال تعالى: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا (3).

5 - قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً (4).

6 - قال تعالى: فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ (5).

و غيرها من الآيات الحاكية عن قضائه سبحانه بالشيء و إبرامه على صفحة الوجود.

ص: 175


1- سورة الطلاق: الآية 12.
2- سورة يس: الآية 82.
3- سورة فصلت: الآية 12.
4- سورة الأنعام: الآية 2.
5- سورة سبأ: الآية 14.
التقدير و القضاء في السّنة الصحيحة

روى السنة و الشيعة روايات كثيرة في هذا المجال، و لكن العبرة في الصحة بما لا يخالف القرآن. و إليك بعض ما وقفنا عليه في الجوامع الحديثية من الشيعة أولا و السّنّة ثانيا.

1 - روى الصدوق في الخصال بسنده عن علي (عليه السّلام) قال:

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة:

حتى يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أني رسول اللّه بعثني بالحق، و حتى يؤمن بالبعث بعد الموت، و حتى يؤمن بالقدر»(1).

2 - و روى أيضا بسنده عن أبي أمامة الصحابي قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «أربعة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة: عاقّ ، و منّان، و مكذّب بالقدر، و مدمن خمر»(2).

3 - و روى أيضا بسنده عن علي بن الحسين قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ستة لعنهم اللّه و كل نبي مجاب: الزائد في كتاب اللّه، و المكذب بقدر اللّه، و التارك لسنتي، و المستحل من عترتي ما حرّم اللّه، و المتسلّط بالجبروت ليذل من أعزه اللّه و يعزّ من أذلّه اللّه، و المستأثر بفيء اللّه المستحل له»(3).

4 - و روى أيضا بسنده عن أبي الحسن الأول (موسى الكاظم) (عليه السّلام) قال: «لا يكون شيء في السّماوات و الأرض إلاّ بسبعة:

بقضاء، و قدر، و إرادة، و مشيئة، و كتاب، و أجل، و إذن. فمن قال غير هذا فقد كذب على اللّه أو ردّ على اللّه عزّ و جل»(4).

ص: 176


1- البحار ج 5 باب القضاء و القدر، الحديث 2، ص 87.
2- المصدر نفسه، الحديث 3.
3- المصدر نفسه، الحديث 4، و بهذا المضمون الحديث الخامس و السادس مع إضافة يسيرة.
4- المصدر نفسه، ح 7، ص 88.

5 - و روى الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن علي قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه عزّ و جل قدّر المقادير، و دبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام»(1).

و أما ما روي من طرق أهل السّنّة فالذي يمكن الأخذ به فهو الذي ننقله فيما يلي(2).

6 - روى الترمذي عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره و شره و حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه و أنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه»(3).

هذه الرواية و نظائرها لا تنافي اختيار الإنسان و صحة التكليف لأن المراد مما يصيب و ما لا يصيب هو الأمور الخارجة عن إطار اختياره، كالمواهب و النوازل، فلا شك أنّ الإصابة و عدمها خارجان عن اختيار الإنسان و ليس له دور و إنما الكلام في حكومة القضاء و القدر على ما يناط به التكليف و يثاب به أو يعاقب فإن سيادة القضاء و القدر على اختيار الإنسان أمر لا يقبله العقل و لا يوافقه النقل، كما سيأتي. و قس على هذا باقي ما رواه أهل السنة في باب القضاء و القدر.

ص: 177


1- المصدر نفسه، حديث 12، ص 93.
2- سيوافيك في باب خاص أنّ أكثر ما رواه أهل الحديث في باب التقدير يلازم الجبر الباطل و يضاد كتاب اللّه، و أنّ كثيرا منها من الإسرائيليات التي بثها نظراء كعب الأحبار، فترقب.
3- جامع الأصول، ج 10، كتاب القدر، الحديث 7552، ص 511.

ص: 178

تفسير التقدير و القضاء

اشارة

قد عرفت أنّ القضاء و القدر من الأصول المسلّمة في الكتاب و السنّة و ليس لمسلم واع أن ينكر واحدا منهما. إلاّ أنّ المشكلة في توضيح ما يراد منهما، فإنه المزلقة الكبرى في هذا المقام. و لأجل ذلك نأتي في هذا الباب بالمعنى الصحيح لهذين اللفظين الذي يدعمه الكتاب، و أحاديث العترة، و براهين العقل السليم.

أما القدر، فالظاهر من موارد استعماله أنّه بمعنى الحدّ و المقدار و إليه تشير الآيات التالية:

يقول سبحانه: أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا (1)و يقول سبحانه: قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (2).

و يقول سبحانه: وَ اَللّٰهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ (3).

و يقول تعالى: وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (4).

ص: 179


1- سورة الرعد: الآية 17.
2- سورة الطلاق: الآية 3.
3- سورة المزّمّل: الآية 20.
4- سورة الحجر: الآية 21.

قال ابن فارس: «القدر بفتح الدال و سكونه حدّ كل شيء و مقداره و قيمته و ثمنه، و منه قوله تعالى: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي قدر بمقدار قليل»(1).

قال الراغب: «القدر و التقدير تبيين كمية الشيء يقال قدرته و قدّرته و قدّره بالتشديد: أعطاه القدرة فتقدير الأشياء على وجهين: أحدهما بإعطاء القدرة (و هذا خارج عن موضوع البحث)، و الثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص و وجه مخصوص حسب ما اقتضت الحكمة» ثم قال: «إنّ فعل اللّه تعالى ضربان: ضرب أوجده بالفعل، و معنى إيجاده بالفعل أنّه أبدعه كاملا دفعة واحدة لا تعتريه الزيادة و النقصان إلى أن يشاء أن يفنيه أو يبدله كالسّماوات و ما فيها(2). و منها ما جعل أصوله موجودة بالفعل و أجزاءه بالقوة و قدّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدّره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح و الزيتون، و تقدير منيّ الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات و على ذلك قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3)و قوله: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (4).

و قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (5)»(6).

إلى هنا وقفت على معنى القدر حسب اللّغة.

و أما القضاء، فقد ذكروا له معاني كثيرة، حتى أنّ الشيخ المفيد قال باستعمالها في معاني الخلق، و الأمر و الإعلام، و القضاء بالحكم،

ص: 180


1- المقاييس، ج 5، ص 63.
2- الصحيح أن يمثل بالمجرّدات عن المادة فإنّ تقديرها هو اتصافها بالإمكان من دون أن يطرأ عليه التغيير و التبدّل و أما السّماوات فتغيرها أمر بديهي.
3- سورة الطلاق: الآية 3.
4- سورة القمر: الآية 49.
5- سورة عبس: الآية 19.
6- مفردات الراغب، مادة «قدر»، ص 409، تحقيق نديم مرعشلي، ط دار الكتاب العربي.

و استشهد لكلامه بآيات قرآنية(1).

و قال العلامة الحلّي باستعماله في معاني عشر، و استدل لكل معنى بآية(2).

و الظاهر أنّه ليس له إلا معنى واحد، و ما ذكر من المعاني كلها مصاديق معنى واحد و أول من تنبه لهذه الحقيقة هو اللغوي المعروف أحمد بن فارس بن زكريا يقول: «القضاء أصل صحيح يدل على إحكام أمر و إتقانه و إنفاذه لجهته قال اللّه تعالى: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي أحكم خلقهن.... إلى أن قال: و القضاء الحكم قال اللّه سبحانه في ذكر من قال: فَاقْضِ مٰا أَنْتَ قٰاضٍ أي اصنع و أحكم و لذلك سمي القاضي قاضيا لانه يحكم الأحكام و ينفذها و سميت المنية قضاء لأنّها أمر ينفذ في ابن آدم و غيره من الخلق»(3).

و قال الراغب الأصفهاني: «القضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، و كل واحد منهما على وجهين: إلهي و بشرى، فمن القول الإلهي:

وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ (4) أي أمر بذلك. و من الفعل الإلهي:

قوله سبحانه: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ (5) إشارة إلى إيجاده الإبداعي و الفراغ منه. و من القول البشري نحو: «قضى الحاكم بكذا» و من الفعل البشري : فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ (6)»(7).

و لا يخفى إن ما ذكره ابن فارس أدقّ و مجموع النّصين من العلمين يرجع إلى أنّ أي قول أو عمل إذا كان متقنا محكما، و جادا قاطعا، و فاصلا صارما لا يتغير و لا يتبدل، فذلك هو القضاء.

ص: 181


1- شرح تصحيح الاعتقاد، ص 19.
2- كشف المراد، ص 195، طبعة صيدا.
3- المقاييس، ج 5، ص 99.
4- سورة الاسراء: الآية 23.
5- سورة فصّلت: الآية 12.
6- سورة البقرة: الآية 200.
7- مفردات الرغب، مادة قضى، ص 421.

هذا ما ذكره أئمة اللغة، و قد سبقهما أئمة أهل البيت ففسروا القدر و القضاء على النحو التالي:

روى الكليني بسنده إلى يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) و قد سأله يونس عن معنى القدر و القضاء فقال: «هي الهندسة و وضع الحدود من البقاء و الفناء، و القضاء هو الإبرام و إقامة العين»(1).

روى البرقي في محاسنه عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام): «قال: قلت: ما معنى «قدر»؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه، قلت: فما معنى «قضى»؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له»(2).

روى البرقي في محاسنه أيضا بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) ليونس مولى علي بن يقطين: «أ و تدرى ما «قدر» قال: لا. قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء. ثم قال: إنّ اللّه إذا شاء شيئا أراده، و إذا أراده قدّره، و إذا قدّره قضاه، و إذا قضاه أمضاه»(3).

و أنت إذا أمعنت النظر في مفاد هذه الروايات تقدر على تمييز ما يرجع فيها إلى التقدير و القضاء الكليين عمّا يرجع إلى العينيين منهما و لأجل ذلك تركنا التصنيف فيها.

فإذا اتّضح ما ذكرناه، فلنرجع إلى تفسير ما تهدف إليه الآيات و الروايات، و قد عرفت أنّ كلاّ من التقدير و القضاء على قسمين:

علمي و عيني. فلنقدم البحث في العيني منهما ثم نبحث عن العلمي منهما لأنّ استنتاج الجبر ربما يترتب عند القائل به على العلمي.

ص: 182


1- الكافي ج 1، ص 158. و رواه الصدوق في توحيده بتغيير يسير.
2- المحاسن، ص 244. و نقله المجلسي في البحار، ج 5، ص 122، الحديث 68.
3- المصدر نفسه، ص 244. و رواه المجلسي في بحاره، ج 5، ص 122، الحديث 69.
1 - تفسير القدر و القضاء العينيين
اشارة

حاصل التقدير العيني أنّ الموجودات الإمكانية على صنفين: موجود مجرد عن المادة و الزمان و المكان، فقدره هو ماهيته التي يتحدد بها وجوده.

و بما أنّ ماهية هذه الموجودات العليا خفية علينا، فنكتفي في بيان تقديرها بلفظ «الإمكان» و «الحاجة» فكلها مصبوغة بهذه الصبغة و لا تخرج عن هذا الإطار، و تلك كالملائكة و العقول و النفوس.

و موجود مادي خلق في إطار الزمان و المكان، فقدره عبارة عن جميع خصائصه الزمانية و المكانية و الكيفية و الكمية. و بعبارة أخرى: حدود وجوده، و خصوصياته التي تحف به من بدو تحققه إلى فنائه.

و أما القضاء، فهو عبارة عن الضرورة التي تحف وجود الشيء بتحقيق علته التامة بحيث يكون وجوده ضروريا مقطوعا به من ناحية علته الوجودية.

و على ذلك فكل ما في الكون لا يتحقق إلا بقدر و قضاء أما القدر فهو عبارة عن الخصوصيات الوجودية التي تبين مكانة وجود الشيء على صفحة الوجود، و أنّه من قبيل الجماد أو النبات أو الحيوان أو فوق ذلك، و أنّه من

ص: 183

الوجودات الزمانية، و المكانية إلى غير ذلك من الخصوصيات التي تبين وضع الشيء و موضعه في عالم الوجود.

و أمّا القضاء، فهو عبارة عن وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد يكون وجوده ضروريا و عدمه ممتنعا، بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنّه ضروري الوجود.

فلأجل ذلك استعير لبيان مقدار الشيء من الخصوصيات لفظ «القدر»، و لتبيين ضرورة وجوده و عدم إمكان تخلفه، لفظ «القضاء» و لأجل ذلك فسر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) القدر بالهندسة و وضع الحدود من البقاء و الفناء، و القضاء بالإبرام و إقامة العين.

و على ذلك فيجب علينا أن نبحث عن التقدير و القضاء العينيين اللّذين أخبر عنهما الكتاب العزيز و قال: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (1).

و قال سبحانه: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا وَ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ حِفْظاً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (2).

فلا يوجد على صفحة الوجود الإمكاني شيء إلا بظل هذين الأمرين:

1 - تقدير وجود الشيء و تحديده بخصوصيات تناسب وجوده، فلا يوجد شيء خاليا عن الحد و التقدير سوى اللّه تعالى سبحانه.

2 - لزوم وجوده و ضرورة تحققه بتحقق علته التامة التي تضفي على الشيء وصف الضرورة و التحقق.

و إلى ذلك يشير النبي الأكرم بقوله: «لا يؤمن عبد حتّى يؤمن بأربعة»، و عدّ

ص: 184


1- سورة القمر: الآية 49.
2- سورة فصلت: الآية 12.

منها القدر(1). و يشير إليه الإمام الطاهر موسى بن جعفر بقوله: «لا يكون شيء في السموات و الأرض إلاّ بسبعة» و عدّ منها القضاء و القدر(2).

فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير و قضاء. فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها، و آثار وجودها، و خصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود و الآثار بموجودات أخرى، أعني العلل و الشرائط، فيختلف وجودها و أحوالها باختلاف عللها و شرائطها، فهي متشكلة بأشكال تعطيها الحدود التي تحدها من الخارج و الداخل، و تعين لها الأبعاد من عرض و طول و شكل و هيئة و سائر الأحوال من مقدار الحياة و الصحة و العافية أو المرض و العاهة ما يناسب موقعها في العالم الإمكاني. فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر له في مسير وجوده. قال تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى * وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له. و قال سبحانه: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ (3).

و في قوله سبحانه ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ إشارة لطيفة إلى أنّ التقدير لا يسلب منه الاختيار، و في وسع الإنسان أن يبطل بعض التقدير أو يؤيده و يدعمه فيذهب عن نفسه العاهة أو يؤكدها و يثبتها.

و أما قضاؤه، فلما كانت الحوادث في وجودها و تحققها منتهية إليه سبحانه فما لم يتم لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها فإنها تبقى على حال التردد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا تمّت عللها و عامة شرائطها و لم يبق لها إلا أن توجد، كان ذلك من اللّه قضاء و فصلا لها من الجانب الآخر و قطعا للإبهام.

يقول السيد الطباطبائي رحمه اللّه: «إنا نجد الحوادث الخارجية و الأمور الكونية بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى الحالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها و قبل أن تتم الشرائط و ترتفع

ص: 185


1- البحار، ج 5، ص 87، ح 2.
2- المصدر نفسه، ص 88، ح 7.
3- سورة عبس: الآيتان 19 و 20.

الموانع التي يتوقف عليها حدوثها، لا يتعين لها التحقق و الثبوت.

فإذا تمت عللها الموجبة لها، و كملت ما تتوقف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع، خرجت من التردد و الإبهام و تعين لها أحد الطرفين و هذا هو القضاء و إلى ذلك يشير قوله سبحانه: فَإِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1).

و قال سبحانه: قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيٰانِ (2)»(3).

و بذلك يظهر أنّ التقدير، بمعنى إفاضة الحد على الشيء، و القضاء بمعنى إفاضة الضرورة على وجود الشيء، من صفاته الفعلية سبحانه، و إليه يشير الإمام الصادق (عليه السّلام) في قوله: «إنّ القضاء و القدر خلقان من خلق اللّه و اللّه يزيد في الخلق ما يشاء»(4).

و إنما يكون القضاء و القدر مخلوقين للّه تعالى من حيث إنّ وجود أيّة ظاهرة يكون ملازما مع قدرها الذي يعطي لها الحد و المقدار، و يخصّصها بشكل خاص كما يكون ملازما مع القضاء الذي هو ضرورة وجودها من قبل علتها فخالق الشيء خالق قدره و خالق قضائه.

التقدير مقدّم على القضاء

إذا كان التقدير بمعنى تحديد وجود الشيء و الحدّ الذي يتحدد به فهو مقدّم على القضاء بمعنى ضرورة وجوده، لأن الشيء إنما يتحدد، بكل جزء من أجزاء العلة فإن كل واحد منها يؤثر أثره في المعلول على حدته. فحيث إن أجزاء العلّة تتحقق قبل تمامها، و كل جزء منها يؤثر أثره في محيطه،

ص: 186


1- سورة غافر: الآية 68.
2- سورة يوسف: الآية 41.
3- الميزان ج 13 ص 72 بتلخيص.
4- التوحيد، ص 364.

و يكون أثره تحديد الموجود و صبغه، يجب أن يكون التقدير مقدما على القضاء فصانع الطائرة يهيئ لمصنوعه قطعا و أجزاء صناعية مختلفة، كل منها من صنع مصنع، ثم تركب هذه الأجزاء بعضها مع بعض، فيصل إلى حد القضاء، فتكون طائرة تحلق في السماء.

و مثله الثوب المخيط، فإنّ هناك عوامل مختلفة تعطيه صورة واحدة، مثل تفصيل القميص، و الخياطة الخاصة، و غير ذلك من الخصائص التي تحدد الثوب قبل وجود العلّة التامة.

و في ضوء هذا البيان يمكن أن يقال: إذا كان الشيء موجودا ماديا، و كانت علته علة مركبة من أجزاء، فتقديره مقدم على قضائه حيث إنّ تأثير الجزء مقدم على تأثير الكل. و أما الموجودات المجرّدة المتحققة بعلّة بسيطة، فالتقدير و القضاء العينيان فيها يكونان في آن واحد فإن الخلق و الإيجاد، الذي هو ظرف القضاء، هو نفس ظرف التقدير و التحديد.

و بهذا يتضح سر تأكيد الإمام (عليه السّلام) على تقدم القدر على القضاء.

روى البرقي في المحاسن بسنده عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «إنّ اللّه إذا أراد شيئا قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه»(1).

و روى أيضا بسنده عن محمد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن ليونس مولى علي بن يقطين: «يا يونس لا تتكلم بالقدر، قال: إني لا أتكلم بالقدر، و لكن أقول: لا يكون إلا ما أراد اللّه و شاء و قضى و قدر. فقال:

ليس هكذا أقول، و لكن أقول: لا يكون إلا ما شاء اللّه و أراد و قدر و قضى»(2).

ص: 187


1- المحاسن، ص 243-244. و رواه المجلسي في البحار، ص 121، الحديث 64.
2- المحاسن، ص 244. و رواه المجلسي في البحار، ص 122، الحديث 69.

بقي هنا نكتتان هامتان يجب التنبيه عليهما:

الأولى: قد عرفت عناية النبي و أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) بالإيمان بالقدر، و أنّ المؤمن لا يكون مؤمنا إلا بالإيمان به، فما وجه هذه العناية ؟.

و الجواب: إنّ التقدير و القضاء العينيين من شعب الخلقة، و قد عرفت أنّ من مراتب التوحيد، التوحيد في الخالقية و أنه ليس على صفحة الوجود خالق مستقل سواه. و لو وصفت بعض الأشياء بالخالقية، فإنما هي خالقية ظليّة تنتهي إلى خالقيته سبحانه، انتهاء سلسلة الأسباب و المسببات إليه.

و لما كان القدر العيني، تأثر الشيء عن علله و ظروفه الزمانية و المكانية، و انصباغه بصفة خاصة فهو نوع تخلّق و تكوّن للشيء فلا محالة يكون المقدّر و المكوّن هو اللّه سبحانه.

و لما كان القضاء العيني، هو ضرورة تحققه و لزوم وجوده، فهو عبارة أخرى عن الخلقة الواجبة اللازمة، فلا محالة يستند إليه سبحانه.

فلأجل ذلك ترى أنه سبحانه تارة يسند التقدير إلى نفسه و يقول: قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (1) و يقول اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (2).

و أخرى يسند القضاء و يقول: فَإِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3) و يقول: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ (4).

فبما أنّ التقدير و القضاء عبارة أخرى عن كيفية الخلقة، فلا يوجد شيء في صفحة الوجود إلا بهما، و إلى ذلك يشير ما تقدم من الإمام الصادق

ص: 188


1- سورة الطّلاق: الآية 3.
2- سورة الأعلى: الآية 3.
3- سورة البقرة: الآية 117.
4- سورة فصلت: الآية 12.

(عليه السّلام) من قوله: «إنّ القضاء و القدر خلقان من خلق اللّه و اللّه تزيد في الخلق ما يشاء»(1).

الثانية: إن كون التقدير و القضاء العينيّين منه سبحانه لا يلازم كون الإنسان مسلوب الاختيار، لأن المفروض أنّ الحرية و الاختيار من الخصوصيات الموجودة فيه، فاللّه سبحانه قدر وجوده بخصوصيات كثيرة منها كونه فاعلا بالاختيار مقابل الفواعل الطبيعية التي لا تفعل إلا عن جبر طبيعي.

كما أنّه سبحانه إذ قضى بأفعال الإنسان فإنما قضى على صدورها منه عن طريق المبادي الموجودة فيه التي منها الحرية و الاختيار. فقضى قضاء تكوينيّا بصدور فعل الإنسان منه عن اختياره و حريته التامة. و على ذلك فكون التقدير و القضاء العينيّين منه سبحانه لا يسلب الاختيار عن فاعل مختار مثل الإنسان.

نعم، لو قدره بغير هذه الخصوصية و قضى على صدور فعله منه لا عن هذا الطريق، لكان لما توهم مجال. و سيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن العلميّين منهما.

هذان هما التقدير و القضاء العينيّان و هناك معنى آخر للعيني من القضاء و القدر يستفاد من آيات كثيرة، و المعنيان غير متزاحمين، غير أنا نعبر عن المعنى الأول بالقضاء و التقدير العينيّين الجزئيّين، و عن الآخر بالعينيّين الكلّيّين. و إليك بيان ذلك القسم الآخر:

القضاء و القدر العينيّان الكليّان

إن وجود السّنن الإلهية السائدة على الكون و المجتمع الإنساني و على أفراده مما لا ينكر، كما أنّ تأثير هذه السنن في السعادة و الشقاء أمر قاطع لا

ص: 189


1- التّوحيد، ص 364، الحديث 1.

يتخلف. و على ذلك فالسّنن الإلهية الواردة في الكتاب و السنّة، أو التي كشف عنها الإنسان عبر ممارساته و تجاربه، كلها من تقديره و قضائه سبحانه.

و الإنسان تجاه هذه النواميس و السنن السائدة حرّ مختار، فعلى أيّة واحدة منها طبّق حياته يرى نتيجة عمله، و إليك المثال:

إنّ التقدير الإلهي على أمة يعيش أكثرها في الفقر و الحرمان، و قليل منها بالغنى و الرفاه عن طريق الظلم و التعدّي على حقوق الآخرين، هو أن لا ترى الطائفة المرفّهة الراحة و لا الهناء بل لا تعيش إلا حياة القلق و الاضطراب خوفا من ثورة الكادحين و حذرا من بطشة المحرومين.

بينما تقديره تعالى على أمة تعيش آلام المحرومين و آمال الكادحين و تهيء لهم الحياة اللائقة بهم و تقلل من غلواء الطبقات المرفهة لصالح الفقراء، و تأخذ منهم حقوقهم التي جعلها اللّه لهم وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّٰائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ، هو أن يعيشوا عيشة الثبات و الاستقرار و الرّقي و التقدم و التحرك و البناء.

و هذان التقديران واضحان محسوسان يستوي فيهما جميع أمم العالم و ليس هناك عامل خارج عن إطار اختيار الأمّة و إرادتها، يجبرها على اختيار أحدهما؛ فالأمّة إمّا أن تتبع العقل و الحكمة، أو تتبع الغرور و الشهوة. و كل تصل إلى النتيجة التي تترتب على عملها، و الكل بقضاء اللّه تعالى فإنه هو الذي أودع في الكون هذه السنن و جعل الناس أحرارا في اختيار سلوك أحد الطريقين.

فإذا كان ما مرّ من المثال راجعا إلى سنّة إلهيّة في حق المجتمع فهناك سنن راجعة إلى كل فرد من أفراد المجتمع مثلا: الشاب الذي يبدأ حياته بإمكاناته الحرة و أعصابه المتماسكة، و ذكائه المعتدل، فإما أن يصرف تلك المواهب في سبيل تحصيل العلوم و الفنون و الكسب و التجارة، فمصيره و تقديره هو الحياة السعيدة الرغيدة.

و إمّا أن يسيء الاستفادة من رصيده المادي و المعنوي و يصرفه

ص: 190

في الشهوات و اللذات الزائلة، فتقديره هو الحياة الشقيّة المظلمة.

و التقديران كلاهما من اللّه تعالى، و الشاب حر في اختيار أحد الطريقين و النتيجة التي تعود إليه، بقضاء اللّه و قدره. كما أنّ له أن يرجع أثناء الطريق فيختار بنفسه تقديرا آخر و يغيّر مصيره، و هذا أيضا يكون من تقدير اللّه عزّ و جلّ فإنه هو الذي خلقنا و خيّرنا و أقدرنا على الرجوع و فتح لنا باب التوبة.

و إليك مثالا ثالثا: المريض الذي يقع طريح الفراش أمامه تقديران:

1 - إما أن يرجع إلى الأطباء الخبراء و يعمل بالوصفة التي تعطى له، فعندئذ يكون البرء و الشفاء حليفه.

2 - أو يهمل نفسه و لا يشاور الطبيب أو لا يتناول الدواء فاستمرار المرض و الداء حليفه.

و التقديران كلاهما من اللّه تعالى و المريض حرّ في اختيار سلوك أي الطريقين شاء. و أنت إذا نظرت إلى الكون و المجتمع و الحياة الإنسانية تقدر على تمييز عشرات من هذه السنن السائدة، و تعرف أنها كلها من تقاديره سبحانه. و الإنسان حرّ في اختيار واحد منها. و لأجل ذلك نرى أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقول: «خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم مرّ بحائط مائل و هو يقبل إليه، و لم يسرع المشي حتى سقط عليه»(1).

و السر في عدم استجابة دعائه واضح، لأن تقديره سبحانه و قضاءه على الإنسان الذي لا يقوم من تحت ذلك الجدار المائل هو الموت و بذلك تقف على مغزى ما روي عن علي أمير المؤمنين عند ما عدل من حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له يا أمير المؤمنين: أ تفرّ من قضاء اللّه ؟ فقال (عليه السّلام): أفرّ من قضاء اللّه إلى قدره عز و جل(2)، يعني أنّ ذلك باختياري فإن شئت بقيت في هذا القضاء و إن شئت مضيت إلى قدر آخر. فإن بقيت اقتل

ص: 191


1- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء و القدر، ذيل الحديث 31، ص 105.
2- التّوحيد للصدوق، ص 369

بقضاء اللّه، و إن عدلت أبقى بتقدير منه سبحانه، و لكل تقدير مصير، فأيهما فعلت فقد اخترت ذلك المصير.

ثم إنّ في القرآن الكريم آيات كثيرة بصدد بيان السنن الإلهية السائدة على المجتمع الإنساني التي تعدّ الكل من تقديره و قضائه سبحانه، و المجتمع محكوم بنتائج هذه السنن حكما قطعيا و قضاء باتّا، و لكن له الاختيار في سلوك أي طريق شاء. و لأجل إيقافك على بعض هذه السنن التي تعد من القضاء و القدر العينيّين الكليّين نشير إلى بعضها:

السنن الإلهية في المجتمع البشري

ننقل في هذا الباب بعض الآيات التي تنص على قوانين كلية و سنن إلهية سائدة على المجتمع البشري من غير فرق بين مجتمع و آخر و إنما المهم هو اختيار أحد جانبي تلك السنن.

1 - قال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح: فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً * يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (1).

فترى أنّ نوحا (عليه السّلام) يجعل الاستغفار سببا مؤثرا في نزول المطر و كثرة الأموال و جريان الأنهار، و وفرة الأولاد. و إنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. و موقف الاستغفار هنا موقف العلة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها و الآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى اللّه و إقامة دينه و أحكامه يسوق المجتمع إلى النظم و العدل و القسط و في ظله تتركز القوى على بناء المجتمع على أساس صحيح، فتصرف القوى في العمران و الزراعة و سائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنة، و هو رجوع المجتمع عن اللّه و عن الطهارة في القلب و العمل، ينتج خلاف ذلك.

ص: 192


1- سورة نوح: الآيات 10-12.

فللمجتمع الخيار في التمسك بأهداب أي من السنتين، فالكل قضاء اللّه و تقديره.

2 - قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (1).

3 - قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (2).

4 - و قال سبحانه: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهٰا عَلىٰ قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (3).

و التقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.

5 - و قال سبحانه: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ (4).

نرى أنّ الآية تتكفل ببيان كلا طرفي السّنة الإلهية إيجابا و سلبا و تبين النتيجة المترتبة على كل واحد منهما. و الكل قضاؤه و تقديره و الخيار في سلوكهما للمجتمع.

6 - و قال سبحانه: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (5).

7 - و قال سبحانه: يُثَبِّتُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّٰابِتِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلظّٰالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ (6).

ص: 193


1- سورة الأعراف: الآية 96.
2- سورة الرعد: الآية 11.
3- سورة الأنفال: الآية 53.
4- سورة إبراهيم: الآية 7.
5- سورة الطّلاق: الآيتان 2 و 3.
6- سورة إبراهيم: الآية 27.

فالمجتمع المؤمن باللّه و كتابه و سنة رسوله إيمانا راسخا يثبته اللّه سبحانه في الحياة الدنيا و في الآخرة، كما أنّ الظالم و العادل عن اللّه سبحانه يخذله اللّه سبحانه و لا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته و هدايته. و لأجل ذلك يرتب على تلك الآية قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دٰارَ اَلْبَوٰارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهٰا وَ بِئْسَ اَلْقَرٰارُ (1).

8 - و قال سبحانه: وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ (2).

فالصالحون لأجل اتصافهم بالصلاح في العقيدة و العمل، يغلبون الظالمين و تكون السيادة لهم، و الذلة و الخذلان لمخالفيهم.

9 - و قال سبحانه: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ (3).

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان باللّه و العمل الصالح و إقامة دينه بتمام معنى الكلمة و يترتب عليه - وراء الاستخلاف - ما ذكره في الآية من التمكين و تبديل الخوف بالأمن.

10 - و قال سبحانه: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكٰافِرِينَ أَمْثٰالُهٰا (4).

و الآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض و الاعتبار بما جرى على الأمم السالفة لاجل عتوهم و تكذيبهم رسل اللّه سبحانه، كثيرة في القرآن

ص: 194


1- سورة إبراهيم: الآيتان 28 و 29.
2- سورة الأنبياء: الآية 105.
3- سورة النور: الآية 55.
4- سورة محمد: الآية 10.

الكريم تبين سنته السائدة على الأمم جمعاء.

11 - و قال سبحانه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (1).

12 - و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (2).

13 - و قال سبحانه: مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ * وَ كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ (3).

فالآية من أثبت الآيات المبينة لسنته تعالى في الذين كفروا فلا يصلح للمؤمن أن يغره تقلبهم في البلاد و عليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح و الأحزاب من بعدهم، حتى يقف على أنّ للباطل جولة و للحق دولة، و أنّ مردّ الكافرين إلى الهلاك و الدمار.

14 - و قال سبحانه: وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ لَئِنْ جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدىٰ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً * * اِسْتِكْبٰاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لاٰ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّٰ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَحْوِيلاً (4).

ص: 195


1- سورة آل عمران: الآية 137.
2- سورة الأنفال: الآية 29.
3- سورة غافر: الآيات 4-6.
4- سورة فاطر: الآيتان 42-43. و راجع في الوقوف على هذه الآيات المبينة لسننه الكلية في الأمم السالفة الآيات التالية: يوسف: الآية 109، الحج: الآية 46، الروم: الآية 9 و 42، فاطر: الآية 44، غافر: الآية 120 و 82، الأنعام: الآية 11، النّحل: الآية 36، النّمل: الآية 69، العنكبوت: الآية 20.

و ما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهية السائدة على الفرد و المجتمع. و في وسع الباحث أن يتفحص آيات الكتاب العزيز و يقف على سننه تعالى و قوانينه، ثم يرجع إلى تاريخ الأمم و أحوالها فيصدّق قوله سبحانه:

فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَحْوِيلاً (1) .

فقد خرجنا بهذه النتائج:

1 - إنّ التقدير العينيّ عبارة عن الخصوصيات و المشخّصات الموجودة في وجود الشيء المكتسبة من علله. و القضاء ضرورة وجوده عند وجود علته التامة، و الكل منته إلى اللّه سبحانه انتهاء الأسباب و المسبّبات إلى مسببها الأوّل.

و إنّ هذا التقدير و القضاء من شعب الخلقة فمقتضى التوحيد هو القول بأنّه لا مقدر و لا قاضي إلا اللّه سبحانه، لكن على التفصيل الذي سمعته منا في البحث السابق.

2 - إنّ الاعتقاد بهذا النوع من التقدير و القضاء لا ينتج مسألة الجبر، كما أنّ الاعتقاد بالتوحيد في الخالقية لا ينتجه، و قد مر بيانه.

3 - إنّ ما مضى من القضاء و القدر العينيّين إذا كان راجعا إلى خصوصيات وجود الشيء و ضرورة وجوده الخارجي فليسمّ بالجزئي منهما.

و إذا كان تقديره و قضاؤه على الإنسان و المجتمع بصورة تسنين قوانين كلية واسعة لا تتخلف في حق فرد دون فرد أو مجتمع دون مجتمع، فليسمّ بالتقدير و القضاء العينيّين الكليّين. و تصويب هذه السنن و إعطاء الاختيار إلى الإنسان المختار، نفس القول بحريته في معترك الحياة.

ص: 196


1- سورة فاطر: الآية 43.
2 - تفسير القدر و القضاء العلميّين
اشارة

إذا كان التقدير و القضاء العينيّان راجعين إلى إطار وجود الشيء في الخارج من اتصافه بالتقدير و الضرورة، يكون المراد من التقدير و القضاء العلميين، علمه سبحانه بمقدار الشيء و ضرورة وجوده في ظرف خاص، علما ثابتا في الذات أو علما مكتوبا في كتاب. و الأول يكون علما في مقام الذات و الآخر يكون علما في مقام الفعل.

و لكن الفلاسفة خصّوا القضاء بالجانب العلمي و القدر بالجانب العيني فقالوا: «القضاء» عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام و أكمل الانتظام و هو المسمى ب «العناية» التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه و أكملها.

و «القدر» عبارة عن خروجها على الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء».

كما أنّ الأشاعرة خصّوا «القضاء» بكون الشيء متعلقا للإرادة الأزلية قبل إيجادها، و «القدر» بإيجادها على قدر مخصوص، فقالوا: «إن «قضاء اللّه» هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال.

ص: 197

و «قدره» إيجاده إياها على قدر مخصوص و تقدير معين في ذواتها و أحوالها».

و المعتزلة أنكروا وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العبادة متعلقا للقضاء و القدر و أثبتوا علمه تعالى بهذه الأفعال، و لكن أنكروا إسناد وجودها إلى ذلك العلم، بل إلى اختيار العباد و قدرتهم(1).

و لكن الحق حسب ما تعطيه الآيات القرآنية أنّ كلاّ من القضاء و القدر على قسمين علمي و عيني. أمّا العيني فقد تقدّم، و أمّا العلمي فالتقدير منه هو علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلّها من حدود و خصوصيات. و القضاء منه، علمه سبحانه بحتميّة وجود تلك الأشياء عن عللها و مبادئها. و إليك فيما يلي بيان العلمي منهما، ثمّ بيان عدم استلزامه وجود الجبر في الأفعال الاختيارية للعبادة؛ فتارة نبحث عن كون أفعال العباد، معلومة للّه سبحانه في الأزل، و أخرى عن كونها متعلقة للإرادة الأزلية، حتى يكون البحث واضحا.

أفعال العباد و علمه الأزلي

لا شك أنّ اللّه سبحانه كان عالما بكل ما يوجد في هذا الكوكب و مطلق الكون، فكان واقفا على حركة الإلكترونات في بطون الذّرات، و على حفيف أوراق الأشجار في الحدائق و الغابات، و حركات الحيتان العظيمة في خضم أمواج المحيطات. كما أنه سبحانه كان عالما قبل أن يخلق العالم بأفعال المجرمين و قسوة السفّاكين، و طاعة الطائعين هذا من جانب.

و من جانب آخر: إنّ علمه تعالى بالأمور علم بالواقع و الحقيقة و هو لا يتخلف عن الواقع قيد شعرة و قد عرفت سعة علمه بالأشياء و قبل الكينونة في الآيات المتقدمة صدر الفصل. و قال سبحانه: وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (2).

ص: 198


1- شرح المواقف، ج 8، ص 180-181.
2- سورة الأنعام: الآية 59.

و قال سبحانه: قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (1).

و على هذين الأساسين ربما يتصور أنّ تعلق ذلك العلم بكل الأشياء عموما، و الأفعال الاختيارية للإنسان خصوصا، يجعل الإنسان مجبورا مضطرا متظاهرا بالحرية و الاختيار، لأنه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل، أنّ هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة، فبما أنّ العلم الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدرا لهذا الذنب، و لا يستطيع أن يتخلف عنه بأية قوة و قدرة، بل لا يستطيع أن يغير من كميته و كيفيته، إذ تخلفه نفس تخلف علم اللّه عن الواقع، و صيرورة علمه جهلا تعالى اللّه عنه.

أقول: إنّ هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيّين الذين مالوا إلى الجبر، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى، غير متخلفة عن متعلقها و لكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم، لرجعوا عن هذا الحكم الخاطئ.

و الجواب عن ذلك: إنّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق، و إنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة للشعور و الاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها و أثرها عنها بهذه الخصوصية، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلا عن أن تريد، و يصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم و لكن لا بإرادة و اختيار، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع و عدم تخلفه عنه قيد شعرة.

و إن كانت العلّة عالمة و شاعرة و مريدة و مختارة كالإنسان، فقد تعلق علمه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات و انصباغ فعلها بصبغة الاختيار و الحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية، لكان علمه مطابقا للواقع

ص: 199


1- سورة الطلاق: الآية 12.

غير متخلف عنه، و أمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر و اضطرار بلا علم و شعور، أو بلا اختيار و إرادة فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.

نقول توضيحا لذلك، إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين:

قسم يصدر منه بلا شعور و لا إرادة كأعمال الجهاز الدموي و الجهاز المعوي و جهاز القلب، و الأحشاء، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية، غير الاختيارية.

و قسم آخر يصدر منه عن إرادة و اختيار. و يتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية كدارسته و كتابته و تجارته و زراعته.

و على ما سبق من أنّ علم اللّه تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه قيد شعرة، فتقع أعماله موردا لتعلق علم اللّه بها على ما هي عليه من الخصائص و الألوان. فتكون النتيجة أنه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمّا بالاضطرار و الإكراه أو بالاختيار و الحرية، و تعلق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر، بل يلازم الاختيار. و لو صدر كل قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلفا عن الواقع.

و بعبارة أخرى: إن علم اللّه بما أنّه يطابق الواقع الخارجي و لا يتخلف عنه أبدا، فيجب أن يقوم الإنسان بكل قسم من أعماله على حسب السمة التي اتّسم بها. فلو كان مصدرا لعمل الجهاز الدموي عن اختيار و قد تعلق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار، لزم تخلف علمه عن معلومه. كما أنّه لو كان مصدرا للقسم الآخر من أفعاله ككتابته و خياطته على وجه الإلجاء و الاضطرار، لزم تخلف علمه عن الواقع لتعلق علمه بصدوره عنه بسمة الاختيار و سيوافيك نصوص من أئمة الحكماء كصدر المتألّهين و غيره عند البحث عن الجبر الأشعري.

فعلينا في هذا الموقف الالتفات إلى كيفية تعلق علمه بصدور الأفعال عن مبادئها و عللها. نعم، من أنكر وجود الأسباب و المسببات في الوجود، و اعترف بعلّة واحدة و سبب مفرد و هو اللّه سبحانه و جعله قائما مقام جميع العلل و الأسباب، و صار هو مصدرا لكل الظواهر و الحوادث مباشرة و لم يقم

ص: 200

للعلل الطبيعية و للإنسان و ما فيه من المبادي وزنا و قيمة، و لم يعترف بتأثيرها في تكوّن الظّواهر و الحوادث، لا مناص له عن القول بالجبر. و هو مصير خاطئ يستلزم بطلان بعث الأنبياء و إنزال الكتب.

تمثيل خاطئ

ربما يتمسك في تحليل علمه سبحانه بمثال خاص و يقال إنّ باستطاعة كثير من الأساتذة أن يتكهنوا بمستقبل تلامذتهم، فإنّ المعلم الذي يعرف حدود السعي و العمل و الاستعداد في تلميذه المعيّن، يستطيع أن يتكهن بنجاح التلميذ أو رسوبه بصورة قاطعة، فهل نستطيع أن نقول: إنّ علم المعلم بوضع التلميذ صار علّة لعدم نجاحه في الامتحان بحيث لو تكهّن المعلم بعكس هذا، لكان النجاح حليف التلميذ، أو إنّ السبب في فشله في الامتحان هو تكاسله أيام الدراسة، و إهماله طول السنة الدراسية مطالعة و مباحثة الكتاب المقرر. و صرفه أوقاته في الشّهوات.

إنّ هذا التمثيل نافع للأذهان البسيطة التي لا تفرق بين علم المعلم، و علمه سبحانه. و أما العارف بخصوصية علمه تعالى و أنّه نفس ذاته، و ذاته علّة لما سواه، فهو يرى قياس أحد العلمين بالآخر قياسا خاطئا، فإن علم المعلم ليس في سلسلة علل الحوادث، و في مورد المثال: رسوب التلميذ أو نجاحه. و هذا بخلاف علمه تعالى فإنه في سلسلة العلل، بل تنتهي إليه جميع الأسباب و المسببات. و قد عرفت أنّ القضاء عند الفلاسفة عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام و أكمل الانتظام، و هو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات، من حيث جملتها على أحسن الوجوه و أكملها. فعند ذلك يصبح التمثيل في مقام الإجابة أجنبيا عن الإشكال(1).

ص: 201


1- و سيأتي الإيماء إلى هذا الجواب عند البحث عن الأصول التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالجبر، و منها علمه الأزلي.

و الحق في الإجابة ما ذكرنا من أنّ علمه العنائي الذي هو السبب لظهور الموجودات على صفحة الوجود، و إن كان علة لظهور الأشياء، لكنه ليس بالعلّة الوحيدة القائمة مقام الأسباب و العلل المتأخرة (كما عليه الأشاعرة المنكرين للأسباب و المسببات) بل هناك أسباب و مسببات كثيرة يؤثر كل سبب في مسببه بإذنه سبحانه و مشيئته. و في خلال تلك الأسباب سببية الإنسان لفعله بإذنه سبحانه، فتعلّق علمه على أن يكون الإنسان في معترك الحياة فاعلا مختارا و سببا حرّا لما يفعل و يترك. فكون مثل هذا السبب متعلقا لعلمه العنائي المبدأ لفيضان الموجودات، لا ينتج الجبر بل ينتج الاختيار.

أفعال العباد و إرادته الأزلية

قد عرفت أنّ القضاء العلمي عند الأشاعرة هو عبارة عن إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. و عند ذلك يتحد هذا التفسير مع التفسير السابق إشكالا و جوابا. و بما أنّا سنبحث في فصل الجبر و الاختيار عن شمول إرادته سبحانه لأفعال العباد و عدمه، فنترك التفصيل إلى مكانه. و سيوافيك أنّ شمول إرادته سبحانه لجميع الكائنات عموما و أفعال الإنسان خصوصا، ممّا لا مناص عنه، كتابا و سنّة و عقلا (و إن خالف في ذلك كثير من العدلية حذرا من لزوم الجبر). لكن القول بعموم الإرادة و شمولها للأفعال الاختيارية لا ينتج الجبر كما أوضحنا حاله في العلم.

هذا حال التقدير و القضاء العلميين و النتيجة التي تترتب على هذه العقيدة حسب تحليل الأشاعرة و تحليلنا. و بقي هنا بحث و هو سرد بعض الروايات الواردة في القضاء و القدر في الصحاح و المسانيد التي لا تتخلف عن الجبر قيد شعرة، و عرضها على الكتاب و السنّة و العقل ليعلم ناسجها و مصدرها. و يتلوه بحث في تفسير «القدرية» الواردة في الأخبار.

ص: 202

القضاء و القدر في الصّحاح و المسانيد

اشارة

لقد عرفت أنّ القدر و القضاء أمر ثابت في الشريعة الإسلامية و لا يمكن إنكاره أبدا. و هما لا يعدوان العلمي و العيني، و أنّ كلاّ منهما غير سالب للاختيار. غير أنّ الظاهر ممّا رواه أصحاب الصّحاح و المسانيد أنّ القدر عامل غالب على الإنسان في أفعاله الاختيارية، يتحكّم بها، و يسلب عنه الاختيار رغم إرادة مخالفته. و أنّ الإنسان مسيّر في حياته يسير حسب ما قدر له و كتب عليه. فلنعرض بعض ما وقفنا عليه كنموذج من هذه الروايات:

1 - روى البخاري في صحيحه: «احتج آدم و موسى، فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيّبتنا، و أخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك اللّه بكلامه، و خطّ لك بيده، أ تلومني على أمر قدّر اللّه عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة»(1).

فآدم حسب هذا النقل يبرر عمله الذي وصفه سبحانه بقوله:

وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ (2) بالقدر، و كأن القدر عامل خارج عن إطار حياة

ص: 203


1- صحيح البخاري، ج 8، باب في القدر، ص 122.
2- سورة طه: الآية 121.

الإنسان، حاكم عليه، رغم أنّه يريد أن لا يطيعه.

2 - و روى أيضا عن زيد بن وهب عن عبد اللّه قال حدثنا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو الصادق المصدّق:.. إلى أن قال: «ثم يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع: برزقه و أجله و شقي أو سعيد. فو اللّه إنّ أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل الكتاب حتى ما يكون بينه و بينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. و إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»(1).

3 - روى مسلم في صحيحه عن سراقة بن مالك بن جعشم أنه قال:

«يا رسول اللّه بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن، فيم عمل اليوم ؟ أ فيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل ؟».

قال: «لا، بل فيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير».

قال: «ففيم العمل ؟».

قال: «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له، و كل عامل بعمله»(2).

4 - و روى البخاري عن أبي هريرة قال: «قال لي النبي (صلّى اللّه عليه و آله): جفّ القلم بما أنت لاق»(3). و رواه مسلم في صحيحه.

و ينقل النّووي في شرح هذا الحديث: «و يقول الملك الموكل بالنطفة: «يا رب أ شقي أم سعيد» فيكتبان، و يكتب عمله و أثره، و أجله و رزقه ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها و لا ينقص»(4).

5 - و روى مسلم عن حذيفة: «بعد ما يجعله اللّه سويّا أو غير سويّ ، ثم يجعله اللّه شقيا أو سعيدا، و ما من نفس منفوسة إلاّ و كتب اللّه مكانها من

ص: 204


1- المصدر نفسه، ص 123.
2- صحيح مسلم، ج 8، ص 44 - طبعة القاهرة، يلاحظ شرح النووي، ج 16 - ص 186
3- صحيح البخاري، ج 8، ص 1222.
4- صحيح مسلم، ج 8، ص 45. و شرح النووي، ج 16، ص 193.

الجنة و النار، إلاّ و قد كتبت شقية أو سعيدة»(1).

6 - روى الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسول اللّه و في يده كتابان قال: أ تدري ما هذان الكتابان. قلنا: لا يا رسول اللّه إلاّ أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنة و أسماء آبائهم و قبائلهم، ثم أجمل على اخرهم، فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم أبدا. و قال للذي في شماله: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار و أسماء آبائهم و قبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم أبدا. قال أصحابه:

ففيم العمل يا رسول اللّه ؟ إن كان أمرا قد فرغ منه. فقال: سدّدوا و قاربوا، فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة و إن عمل أي عمل. و إنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار و إن عمل أي عمل. ثم قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بيده فنبذهما. ثم قال: فرغ ربّكم من العباد فريق في الجنة و فريق في السعير(2).

7 - و روى البخاري و مسلم و ابن داود عن عمران بن حصين قال: قال رجل يا رسول اللّه أعلم أهل الجنة من أهل النار؟.

قال: نعم.

قال: ففيم يعمل العاملون ؟.

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «كل ميسّر لما خلق له». أخرجه مسلم و أبو داود.

و في رواية البخاري: أ يعرف أهل الجنة من أهل النار؟.

قال: نعم.

قال: فلم يعمل العاملون ؟.

قال: كل يعمل لما خلق له أو لما يسّر له.

ص: 205


1- صحيح مسلم. و شرح النووي له - الطبعة السابقة.
2- جامع الأصول، ج 10، كتاب القدر، الحديث 7555، ص 513.

و لمسلم من رواية أبي الأسود الدؤلي: قال لي عمران بن حصين:

أ رأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه ؟ أ شيء قضي عليهم و مضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به ممّا أتاهم به نبيّهم و ثبتت الحجة عليهم.

فقلت: بل شيء قضي عليهم و مضى.

قال: أ فلا يكون ظلما.

قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، و قلت: كل شيء خلق اللّه و ملك يده، فلا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون.

فقال لي: يرحمك اللّه: إنّي لم أرد بما سألتك إلاّ لأحرز عقلك فإن رجلين من مزينة أتيا رسول اللّه فقالا:

يا رسول اللّه أ رأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه أ شيء قضي عليهم و مضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم و ثبتت الحجة عليهم فقال: لا، بل شيء قضي عليهم و مضى فيهم و تصديق ذلك في كتاب اللّه وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا * فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (1).

8 - و روى الترمذي عن عبد اللّه بن عمر قال: قال عمر: يا رسول اللّه أ رأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو مبتدأ أو فيما قد فرغ منه ؟ فقال بل فيما قد فرغ منه يا بن الخطاب، و كل ميسّر. أمّا من كان من أهل السعادة، فإنه يعمل للسعادة، و أمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء.

قال: لما نزلت «فمنهم شقي و سعيد» سألت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقلت يا نبي اللّه: فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه ؟ أو على شيء لم يفرغ منه ؟.

قال: بل على شيء قد فرغ منه و جرت به الأقلام يا عمر و لكن كل

ص: 206


1- جامع الأصول، ج 10، الحديث 7556، ص 514-515.

ميسّر لما خلق(1).

هذه نماذج مما ذكره القوم في باب القدر، و كأن القدر حاكم، متعنت، حمق، قاس، حقود، على المساكين العاجزين بلا سبب و مبرر، و بذلك شقيت الكفار و العصاة بشقاوة الأبد، و لا مجال بعد ذلك لرأفته سبحانه و رحمته و إحسانه.

بل لقد قدّر كل ذلك لجماعة آخرين غرباء لا يهمه أمرهم بلا جهة و لا سبب، كما في بعض رواياتهم: «خلقت هؤلاء للجنة و لا أبالي. و خلقت هؤلاء للنّار و لا أبالي».

عرض هذه الروايات على الكتاب

لا شك أنّ هذه الروايات مخالفة للكتاب و السنّة. فإنّ الكتاب يعرّف الإنسان في موقف الهداية و الضلالة موجودا مختارا و أنّ هدايته و ضلالته على عاتقه. قال سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (2).

و قال سبحانه: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (3).

و قال سبحانه: قَدْ جٰاءَكُمْ بَصٰائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهٰا وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (4).

ص: 207


1- جامع الأصول - ج 10 - الحديث 7559، ص 516. ذكر العلامة الطباطبائي تفسيرا خاصا لهذا الحديث و أشباهه مما مر في رواية سراقة بن جعشم، فراجع الميزان، ج 11، ص 29. و سيوافيك توجيه آخر عند البحث عن السعادة و الشقاء و قد روى الصدوق في كتاب التّوحيد روايات أئمة أهل البيت ربما يتمكن بها الإنسان من تفسير ما ورد في الصحاح و الأسانيد فلاحظ ص 354-358.
2- سورة الدهر: الآية 3.
3- سورة سبأ: الآية 50.
4- سورة الأنعام: الآية 104.

و قال سبحانه: كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ (1).

و قال سبحانه: إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (2).

و قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (3).

أ فبعد هذه الآيات المحكمات يصح لمسلم أن يؤمن بما جاء في هذه الروايات و يسندها إلى الرسول، حتى يبرر العصاة و الطغاة أعمالهم الإجرامية بسبق القدر، و جفاف القلم، و انطواء الكتب، بحيث لا يزيد و لا ينقص.

فعند ذلك يصير مثل الإنسان مثل الملقى في اليمّ مكتوف الأيدي، و مثل أمره و نهيه مثل أمر الملقى بأن لا يبتل بالماء. قال:

ألقاه في اليمّ مكتوفا و قال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

إنّ صريح هذه الآيات هو أنّ صانع مصير الإنسان اختياره الذي تميز به عن سائر الموجودات بفضل منه سبحانه و أنّ له الخيرة في اختيار أي طريق يشاؤه من الهداية و الضلالة و السعادة و الشقاء، و ليس القدر عاملا صانعا للمصير في مجال أفعاله الاختيارية. نعم، هناك أمور خارجة عن اختياره ليس هو مسئولا عنها، و لا يعد صانعا بالنسبة إليها. و لكن كلامنا غايته في أفعاله النفسية من إطاعته و معصيته، و هذا هو الذي نقصده من اختيار الإنسان فيه، لا الأفعال و الحوادث الكونية الخارجة عن إطار قدرته.

و لكن الروايات المتقدمة، المبثوث إضعافها في الصحاح و المسانيد، تجعل من القدر قدرة صنّاعة لمصير البشر في الأفعال التي يسألون عنها، و هذا ممّا لا يصدقه الكتاب كما عرفت، و لا السنّة.

أمّا السنّة، فيكفي في كون ظواهر تلك الروايات غير مرادة، و أنها رويت على غير وجهها، ما رووه هم عن علي (عليه السّلام) عن رسول اللّه

ص: 208


1- سورة الطور: الآية 21.
2- سورة الطور: الآية 16.
3- سورة المدثّر: الآية 38.

(صلّى اللّه عليه و آله). قال علي (عليه السّلام): «كنّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، فقعد و قعدنا حوله، و معه مخصرة. فنكس و جعل ينكت بمخصرته. ثم قال: ما منكم من أحد إلاّ و قد كتب مقعده من النّار و مقعده من الجنة. قالوا: يا رسول اللّه، أ فلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا. فكل ميسّر لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة. و أمّا من كان من أهل الشقاء، فسيصير لعمل أهل الشقاء. ثم قرأ: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ الآية» أخرجه البخاري و مسلم.

و في رواية الترمذي قال: «كنّا في جنازة في بقيع الغرقد. فأتى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقعد و قعدنا حوله و معه مخصرة، فجعل ينكت بها، ثم قال ما منكم من أحد، أو من نفس منفوسة، إلاّ و قد كتب اللّه مكانها من الجنة و النار، و إلاّ قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل يا رسول اللّه، أ فلا نمكث على كتابنا و ندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة، ليكونن إلى أهل السعادة، و من كان منا من أهل الشقاوة، ليكونن إلى أهل الشقاوة ؟.

فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): بل اعملوا، فكل ميسّر.

فأمّا أهل السعادة، فييسّرون لعمل أهل السعادة و أمّا أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ * وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ وَ اِسْتَغْنىٰ * وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ (1).

فلو كان كل إنسان ميسرا لخصوص ما خلق له، كما هو ظاهر الرواية، بمعنى أنّ أهل السعادة ميسرون للسعادة و أهل الشقاء ميسرون للشقاء بحيث لا يقدر كل صنف على الالتحاق بالصنف الآخر، فلما ذا قرأ

ص: 209


1- جامع الأصول، ج 10، الحديث 7557، ص 515-516.

قوله سبحانه في ذيل الحديث: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ * وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ وَ اِسْتَغْنىٰ * وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ . فإنّ ظاهرها أنّ لكل إنسان الخيار بين الإعطاء و الاتقاء و التصديق بالحسنى، و ضدها. فهذه الرواية عن عليّ (عليه السّلام) تعرب عن أنّ كثيرا من روايات القدر، إمّا منحوتة و موضوعة على لسان رسول اللّه بهذا المعنى الذي شرحناه، أو منقولة بغير وجهها. أضف إلى ذلك أنّ الروايات مخالفة للفطرة الإنسانية التي فطر اللّه كل إنسان عليها.

و لأجل ذلك نرى أنّ أصحاب النبي بعد ما سمعوا حقيقة القدر على الوجه الذي جاء في الرواية، استوحشوا، فقالوا: «ففيم العمل يا رسول اللّه، إن كان أمر قد فرغ منه». و ما أجيبوا به من قوله (صلّى اللّه عليه و آله): سدّدوا و قاربوا إلخ، ليس جوابا قالعا للشبهة و رافعا للإشكال(1).

كما أنّ الإجابة بأن كلاّ ميسّر لما خلق، لا يحل العقدة إن لم يزدها تعقيدا. فإنّ مفاده أنّ أهل السعادة ميسرون للسعادة التي خلقوا لها و أهل الشقاء للشقاء الذي خلقوا له. و هذا نفس الإشكال الذي تردد في نفس السائل.

و في ذيل رواية عمران بن حصين يظهر أنّ القدر بالمعنى الوارد في الرواية مظنة كونه ظلما للعباد، و أنّ أبا الأسود الدؤلي فزع منه فزعا شديدا، و الجواب الذي ذكره أبو الأسود من أنّ كل شيء خلق اللّه و ملك يده فلا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون، لا يرد الشبهة بل يؤكّدها.

إنّ للعقيدة الإسلامية سمة البساطة لا التعقيد، و سهولة التكليف لا مشقته. أ في ميزان النّصفة يتّسم القدر - بهذا المعنى - بالبساطة و السهولة ؟! و سيوافيك أن يد الأحبار و الرهبان لعبت في هذا المجال، و أنهم هم الذين أوردوا القدر بهذا المعنى إلى الساحة الإسلامية، و غيّروا ما عليه الكتاب

ص: 210


1- لاحظ الحديث رقم (6) مما أوردنا فيما مضى.

و السنّة من التقدير غير السالب للاختيار، بل بمعنى علمه سبحانه المحيط بأفعال الإنسان خيرها و شرّها، حتى يترك الشرّ و ينحو نحو الخير.

روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السّلام) قال: «إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف النّاس ما لا يطيقون، و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(1).

فالشقّ الأول من الحديث ينفي الجبر بتاتا سواء استند إلى القدر أو غيره. و الشقّ الثاني ينصّ على عموم إرادته سبحانه لكل الكائنات و الأفعال الاختيارية للعباد. و ستعرف عند البحث عن الجبر و التفويض أنّ شمول إرادته سبحانه لأفعال العباد لا يهدف إلى الجبر لأنه تعلقت إرادته بصدور كل فعل عن علّته بالخصوصيات و المبادي الكامنة فيها. و من المبادي الموجودة في الإنسان حريته و اختياره.

الأحبار و إشاعة فكرة القدر بين المسلمين

لقد ابتلي المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابيّ آخر قد بلغ الغاية في بث الإسرائيليات بين المسلمين، هو وهب بن منبه، قال الذهبي: ولد في آخر خلافة عثمان، كثير النقل عن كتب الإسرائيليات. توفي سنة 114.

و قد ضعّفه الفلاّس(2).

و قال في (تذكرة الحفاظ): عالم أهل اليمن ولد سنة 34، و عنده من علم الكتاب شيء كثير، فإنه صرف عنايته إلى ذلك، و بالغ. و حديثه في الصحيحين عن أخيه همّام(3).

و يظهر من تاريخ حياته أنّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار

ص: 211


1- البحار، ج 5، باب القضاء و القدر، الحديث 64، ص 41.
2- ميزان الاعتدال، ج 4، ص 352-353.
3- تذكرة الحفاظ، ج 1، ص 100-101.

و المشيئة عن الإنسان حتى المشيئة الظلية لمشيئته سبحانه التي لولاها لبطل التكليف و ألغيت الشريعة.

روى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: سمعنا وهب بن منبّه قال:

كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعا و سبعين كتابا من كتب الأنبياء في كلها:

«من جعل لنفسه شيئا من المشيئة فقد كفر»، فتركت قولي(1).

و المراد من «القدر» في قوله: «كنت أقول بالقدر»، هو القدرة الإنسانية التي عبّر عنها في ذيل كلامه بالاختيار و المشيئة. كما يمكن أن يكون المراد منه نفي القدر، كما ربما يقال «القدرية» على نفاة القدر و القضاء.

و هذا النقل يعطي أنّ القول بنفي المشيئة للإنسان ممّا ورد في أزيد من سبعين كتابا من كتب الأنبياء، حسب زعم هذا الكتابي، و منها تسرب هذا القول إلى الأوساط الإسلامية، حتى أصبح من قال بالمشيئة يكفر حسب نقل هذا الكتابي. و قد تسنم الرجل منبر التحدث عن الأنبياء يوم كان نقل الحديث عن النبي ممنوعا، و كان نتيجة ذلك التحدث انتشار الإسرائيليات الراجعة إلى حياة الأنبياء في العاصمة الإسلامية المدينة المنورة، و قد جمع ما ألقاه في مجلد أسماه في كشف الظنون: «قصص الأبرار و قصص الأخيار»(2).

القدرية في الحديث النبوي

روى الفريقان عن النبي الأكرم أنّه قال: «القدرية مجوس هذه الأمة». و كل من الفريقين فسّر «القدرية» بخصمه. فالقائلين بالقدر بالمعنى السالب للاختيار، يقولون إن المراد: المفوضة القائلة بالاختيار و عدم شمول القدر لأفعال الإنسان، فكانوا كالمجوس، القائلة بإلهين

ص: 212


1- ميزان الاعتدال، ج 4، ص 353.
2- كشف الظّنون، ج 2، ص 223، مادة «قصص».

و خالقين، و هؤلاء يقولون بأن هناك خالقا لجميع الكائنات و هو اللّه سبحانه، و خالق آخر لأفعاله و أعماله هو الإنسان، فهو عندهم إله ثان.

يلاحظ عليه، أولا: إنّ تفسير القدرية بنفاة القدر بعيد جدا، غير مأنوس في اللغة العربية، فالمتبادر من القدرية هم القائلون بالقدر، كما أن المتبادر من العدلية هم مثبتوا العدل لا نفاته، فإطلاق القدرية و إرادة الطائفة النافية أشبه بإطلاق الحميريّة و الهذيليّة و إرادة من لا يمتّ إليهما بصلة.

و ثانيا: إنّ القائلين بالقدر بالمعنى الذي عرفت، لا ينقصون عن المفوضة في التشبه بالمجوس، فإن القدر عندهم إله حاكم في الكون و أفعال الإنسان بل حاكم على أفعال الخالق و إرادته و مشيئته، بحيث لا يمكن تغييره و تبديله و لا النقيصة و الزيادة عليه. و لأجل ذلك يصبح الحديث على فرض صدوره عن النبي مجملا لا يمكن الاحتجاج به على طائفة، هذا.

و قد وردت القدرية في المرويات عن أئمة أهل البيت و استعملت تارة في «المثبت للقدر» و أخرى في «نافيه».

أمّا الأول فمنه ما رواه الصدوق عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال:

«ما يستطيع أهل القدر أن يقولوا و اللّه لقد خلق آدم للدنيا و أسكنه الجنة ليعصيه فيردّه إلى ما خلقه»(1).

و منه ما رواه الصدوق أيضا عن علي (عليه السّلام) في حديثه مع الشيخ الشامي عند منصرفه من صفين حيث قال الإمام: فو اللّه ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من اللّه و قدر. فقال الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي.

فقال (عليه السّلام): «مهلا يا شيخ لعلّك تظن قضاء حتما و قدرا لازما.. إلى أن قال: تلك مقالة عبدة الأوثان و خصماء الرّحمن و قدرية هذه

ص: 213


1- البحار، ج 5، باب القضاء و القدر، الحديث التاسع، ص 89.

الأمة و مجوسها»(1).

و منه ما رواه صاحب (الفائق) و غيره من علماء الإسلام عن محمد بن علي المكي بإسناده قال: «إنّ رجلا قدم على النبي فقال له رسول اللّه:

أخبرني بأعجب شيء رأيت. قال: رأيت قوما ينكحون أمهاتهم و بناتهم و أخواتهم، فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك، قالوا: قضاء اللّه تعالى علينا و قدره. فقال النبي (صلّى اللّه عليه و آله) سيكون من أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أولئك مجوس أمتي»(2).

و أمّا الثاني، فمنه ما رواه الحميري في (قرب الإسناد) بسنده عن الرضا، قال: كان علي بن الحسين إذا ناجى ربّه قال: «يا رب قويت على معصيتك بنعمتك»، قال: و سمعته يقول في قول اللّه تبارك و تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَ إِذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاٰ مَرَدَّ لَهُ ، فقال: إنّ القدرية يحتجون بأولها و ليس كما يقولون. أ لا ترى أنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: وَ إِذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاٰ مَرَدَّ لَهُ . و قال نوح على نبينا و آله و عليه السّلام: وَ لاٰ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كٰانَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ . قال: «الأمر إلى اللّه يهدي من يشاء»(3).

و منه ما رواه القمي في تفسيره في رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر قال: «و هم القدرية الذين يقولون: لا قدر، و يزعمون أنهم قادرون على الهدى و الضّلالة»(4).

و منه ما رواه القمي أيضا في تفسيره عن الرضا (عليه السّلام) قال:

«يا يونس لا تقل بقول القدرية فإنّ القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة و لا

ص: 214


1- توحيد الصّدوق باب القضاء و القدر، الحديث 28، ص 380.
2- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 74، ص 47.
3- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 4، ص 5.
4- المصدر نفسه، الحديث 13.

بقول أهل النار و لا بقول إبليس. فإنّ أهل الجنة قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا. وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاٰ أَنْ هَدٰانَا اَللّٰهُ . و لم يقولوا بقول أهل النار فإن أهل النار قالوا: رَبَّنٰا غَلَبَتْ عَلَيْنٰا شِقْوَتُنٰا . و قال إبليس: رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي . فقلت يا سيدي و اللّه ما أقول الخ....».

و منه ما رواه العياشي في تفسيره من احتجاج الإمام (عليه السّلام) مع القدري في الشام عند ما بعث عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة أن وجّه إليّ محمد بن علي بن الحسين و لا تهيّجه و لا تروّعه، و اقض له حوائجه.

و قد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية فحضر جميع من كان بالشام فأعياهم جميعا، فقال: ما لهذا إلاّ محمد بن علي.

فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن علي إليه، فأتاه صاحب المدينة بكتابه، فقال له أبو جعفر (عليه السّلام): إني شيخ كبير لا أقوى على الخروج و هذا جعفر ابني يقوم مقامي، فوجّهه إليه، فلما قدم على الأموي أزراه لصغره، و كره أن يجمع بينه و بين القدري مخافة أن يغلبه، و تسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدري، فلما كان من الغد اجتمع الناس بخصومتهما، فقال الأموي لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): إنّه قد أعيانا أمر هذا القدري و إنما كتبت إليك لأجمع بينك و بينه، فإنّه لم يدع عندنا أحدا إلاّ خصمه. فقال: إنّ اللّه يكفيناه.

قال: فلما اجتمعوا قال القدري لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): سل عمّا شئت. فقال له: اقرأ، سورة الحمد، قال: فقرأها. و قال الأموي - و أنا معه -: ما في سورة الحمد غلبنا، إنّا للّه و إنّا إليه راجعون. قال:

فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتى بلغ قول اللّه تبارك و تعالى: إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ فقال له جعفر: قف، من تستعين ؟ و ما حاجتك إلى المئونة ؟ إنّ الأمر إليك. فبهت الذي كفر، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين(1)

ص: 215


1- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 98، ص 55. و العياشي، ج 1، ص 23.

و منه ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرّقى أ تدفع من القدر شيئا؟ فقال: هي من القدر. و قال (عليه السّلام): إنّ القدرية مجوس هذه الأمة و هم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه من سلطانه، و فيهم نزلت هذه الآية:

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنّٰارِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (1) .

و الصنف الأول من الروايات أقوى سندا، و لعل كلمة القدرية تطورت من حيث المعنى في عصر الصادقين و بعدهما فاستعملت في غير معناها القياسي.

ثم إنّ الشيخ التفتازاني في (شرح المقاصد) أقام وجوها على أنّ المراد من القدرية نفاة القدر، كما أنّ العلامة أقام وجوها أخر على تطبيقها على مثبتي القدر. فليرجع إليهما(2).

التقدير و تشريع الأحكام

بقيت هنا كلمة و هي: إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فسّر القضاء و القدر للشامي الذي سأله عنهما بالأمر بالطاعة و النهي عن المعصية، و ذلك عند ما قال الرجل له: «فما القضاء و القدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين».

فقال: «الأمر بالطاعة و النهي عن المعصية و التمكين من فعل الحسنة و ترك السيئة، و المعونة على القربة إليه و الخذلان لمن عصاه و الوعد و الوعيد

ص: 216


1- سورة القمر: الآيتان 48-49. التّوحيد للصدوق، باب القضاء و القدر، ح 29، ص 382.
2- شرح المقاصد، ص 143. و كشف المراد، ص 196.

و الترغيب و الترهيب، كل ذلك قضاء اللّه في أفعالنا و قدره لأعمالنا، و أمّا غير ذلك فلا تظنه، فإن الظن له محبط للأعمال.

فقال الرجل: «فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج اللّه عنك»(1).

و قد اختار هذا المعنى شيخنا المفيد رحمه اللّه في (تصحيح الاعتقاد) فقال: «و الوجه عندنا في القضاء و القدر بعد الذي بيّناه أنّ للّه تعالى في خلقه قضاء و قدرا، و في أفعالهم أيضا قضاء و قدرا معلوما. و يكون المراد بذلك أنّه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها. و في أفعالهم القبيحة بالنهي عنها... و في أنفسهم بالخلق لها، و فيما فعله فيهم بالإيجاد له، و القدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في حقه و موضعه. و في أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر و النهي و الثواب و العقاب، لأن ذلك كله واقع موقعه»(2).

و قد ذكره المحقق الطوسي رحمه اللّه وجها في تفسير القضاء و القدر حيث قال: «و القضاء و القدر، إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال، أو الإلزام صحّ في الواجب خاصة، و الإعلام صحّ مطلقا»(3).

و أوضحه العلاّمة الحلّي رحمه اللّه بقوله: «ما ذا يعنى من القول بأن اللّه قضى أعمال العباد و قدّرها، فإن أرادوا به الخلق و الإيجاد، فهو باطل لأنّ الأفعال مستندة إلينا. و إن أرادوا به الإلزام لم يصح إلاّ في الواجب، و إن عني به أنّه تعالى بيّنها و كتبها و أعلم أنّهم سيفعلونها، فهو صحيح، لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ و بيّنه لملائكته، و هذا المعنى الأخير هو المتعين»(4).

نقول: إنّ القضاء و القدر ممّا اتفق عليه جميع الملل، لكن القدر لا ينحصر في هذا فقط، حسب ما عرفت من الآيات و الروايات. و أما اكتفاء

ص: 217


1- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء و القدر، ح 74 - ص 126.
2- تصحيح الاعتقاد، ص 20.
3- كشف المراد، ص 194.
4- المصدر السابق.

الإمام بهذا الجواب فهو لملاحظة حال السائل، فلو كان مستطيعا لأن يتحمل بعض المعارف الإلهية لما اقتصر الإمام عليه.

و لأجل هذه الملاحظة كان الإمام (عليه السّلام) يجيب بعض من يسألوه عن القضاء و القدر بقوله: «طريق مظلم فلا تسلكوه، و بحر عميق فلا تلجوه، و سرّ اللّه فلا تتكلّفوه»(1).

و أمّا البحث عن التقدير المحتوم و غير المحتوم الذي يظهر من الآيات و الروايات فسيوافيك بيانه في الفصل التالي.

ص: 218


1- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم 287.

الفصل الخامس البداء

اشارة

* تفسير لفظ البداء.

* إحاطة علمه تعالى بكل شيء.

* الكتاب و السنّة مليئان بالمجاز.

* تغيير المصير بالأعمال الصالحة و الطالحة.

* إمكان النسخ في التشريع و التكوين.

* حقيقة البداء في ضوء الكتاب و السنّة.

* الأثر التربوي للبداء.

* البداء ليس تغييرا في علمه و لا في إرادته سبحانه.

* البداء في التقدير الموقوف لا المحتوم.

* الأجل و الأجل المسمى.

* ما يترتب على البداء في مقام الإثبات.

ص: 219

ص: 220

البداء أو تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

اشارة

تحتل مسألة البداء في عقائد الشيعة الإمامية المكانة الأولى. و بقدر ما تحظى هذه المسألة من الاهتمام و العناية لديهم تلقى نقدا لاذعا و هجوما عنيفا من جانب علماء السنة. فلا يمرون عليها إلاّ و يهاجمونها بشدة و قسوة. و هذا من العجب أن تعتبر طائفة مسألة، من صميم الدين و جوهره، و أخرى تعتبرها فكرة هدّامة للدين.

و أعجب منه أنّ الباحث إذا نظر فيما سيأتي، يقف على أنّ النزاع القائم على قدم و ساق نزاع لفظي، لا يمت إلى النزاع المعنوي و الجوهري بصلة. و قد حصل النزاع من عدم إمعان المخالف فيما يتبناه الموافق. و لو وقف على مراده و مقصده لاتفق معه في هذه المسألة و قال: إنّ البداء بهذا المعنى هو عين ما نطق به الكتاب العزيز، و تحدثت عنه السنّة الطاهرة، و أذعن به جهابذة العلم من أهل السنة.

الأمر الأول - تفسير لفظ البداء.

إنّ البداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء. قال الراغب في (مفرداته): «بدا الشيء بدوءا و بداء: ظهر ظهورا بيّنا، قال تعالى:

ص: 221

وَ بَدٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا (1) »(2).

و البداء بهذا المعنى لا يطلق على اللّه سبحانه بتاتا. لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله به، و لا يظن بمسلم عارف بالكتاب و السنة أن يطلق البداء بهذا المعنى على اللّه سبحانه. فالشيعة الإمامية الذين يسعون إلى تنزيهه سبحانه من كل نقص و عيب بحماس أكبر من سائر الفرق الإسلامية، يستحيل عليهم أن يطلقوا البداء على اللّه بهذا المعنى. بل لهم في ذلك تفسير آخر سيأتي بنص كلامهم.

الأمر الثاني - إحاطة علمه بكل شيء:

اتفقت الإمامية تبعا لنصوص الكتاب و السنة و البراهين العقلية على أنه سبحانه عالم بالأشياء و الحوادث كلها غابرها و حاضرها و مستقبلها، كلّيها و جزئيها، لا يخفى عليه شيء في السّماوات و الأرض.

قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ (3). و قال سبحانه: وَ مٰا يَخْفىٰ عَلَى اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ (4).

و قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «كل سر عندك علانية، و كل غيب عندك شهادة»(5).

و قال الإمام الباقر: (عليه السّلام): «كان اللّه و لا شيء غيره، و لم

ص: 222


1- سورة الزمر: الآيتان 47 و 48.
2- المفردات، مادة «بدا»، ص 40.
3- سورة آل عمران: الآية 5.
4- سورة إبراهيم: الآية 38.
5- نهج البلاغة، الخطبة 105، طبعة عبده.

يزل اللّه عالما بما كوّن، فعلمه به قبل كونه، كعلمه به بعد ما كوّنه»(1).

و قال الإمام الصادق (عليه السّلام): «من زعم أنّ اللّه عز و جل يبدو في شيء لم يعلمه أمس، فابرءوا منه»(2).

و قال أيضا: «فكل أمر يريده اللّه فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء يبدو له إلاّ و قد كان في علمه، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل»(3).

و قال الإمام الكاظم (عليه السّلام): «لم يزل اللّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء»(4).

و قال الإمام أبو الحسن الرضا (عليه السّلام): «إن اللّه علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه. قال: كذلك هو»(5).

هذه تصريحات أئمة الشيعة في سعة علمه سبحانه(6)، و امتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء و هم في الوقت نفسه يقولون: «ما عبد اللّه بشيء مثل البداء». و يقولون: «ما بعث اللّه نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، و خلع الأنداد، و أنّ اللّه يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء» و يقولون: «ما تنبّأ نبي قط حتى يقرّ للّه تعالى بخمس: «البداء و المشيئة... الخ» و يقولون: «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر، ما فتروا

ص: 223


1- بحار الأنوار، ج 4، باب العلم و كيفيته، ج 23، ص 86.
2- المصدر السابق، ص 111، الحديث 30.
3- المصدر نفسه - ص 121 - الحديث 63.
4- الكافي ج 1، باب صفات الذات، ص 107.
5- بحار الأنوار، ج 4، ص 84، الحديث 17.
6- تقدم البحث مفصلا في سعة علمه تعالى، عند البحث عنه في الصفات الثبوتية في هذا الجزء.

عن الكلام فيه»(1).

أ فهل يصح أن ينسب إلى عاقل فضلا عن باقر العلوم و صادق الأمة القول بأنّ اللّه لم يعبد و لم يعظم إلاّ بالقول بظهور الحقائق له بعد خفائها عنه، و العلم بعد الجهل، كلا. كل ذلك يؤيد أنّ المراد من البداء في كلمات هؤلاء العظام غير ما يفهمه المعترضون سواء أ كان إطلاق البداء عليه حقيقة أم كان من باب المجاز.

الأمر الثالث - الكتاب و السنة مليئان بالمجاز

إن القرآن الكريم و سنّة النبي الأكرم مليئان بالمجاز و المشاكلة، فترى القرآن ينسب إلى اللّه تعالى «المكر» و «الكيد» و «الخديعة» و «النسيان» و «الأسف»، إذ يقول:

يَكِيدُونَ كَيْداً * وَ أَكِيدُ كَيْداً (2) .

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنٰا مَكْراً (3) .

إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ (4) .

نَسُوا اَللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ (5) .

فَلَمّٰا آسَفُونٰا اِنْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ (6) .

إلى غير ذلك من الآيات و الموارد.

ص: 224


1- راجع للوقوف على هذه الأحاديث، بحار الأنوار، ج 4، الأحاديث 11، 19، 23، 26، ص 107-108.
2- سورة الطارق: الآيتان 15 و 16.
3- سورة النّمل: الآية 50.
4- سورة النساء: الآية 142.
5- سورة التّوبة: الآية 67.
6- سورة الزّخرف: الآية 55.

و ليس لأحد أن يغتر بظواهر هذه الآيات و الألفاظ فيثبت للّه سبحانه هذه الصفات بالمعاني المتبادرة منها، بل لا بد أن يمعن النظر في القرائن حتى يقف على المراد الواقعي، سواء أ كان موافقا للمعنى اللغوي أم لا(1).

و من هذا القبيل توصيفه سبحانه بالبداء في أحاديث أئمة أهل البيت و كلمات العلماء. فلا يصح الاغترار بظاهر هذه الكلمة.

الأمر الرابع - تغيير المصير بالأعمال الصالحة و الطالحة
اشارة

دلت الآيات و الأحاديث الصحيحة على أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بحسن أفعاله و صلاح أعماله، بمثل الصدقة و الإحسان و صلة الأرحام و برّ الوالدين و الاستغفار و التوبة و شكر النعمة، إلى غير ذلك مما يوجب تغير المصير و تبدل المقدر السيئ، إلى المقدر الحسن. كما أنه قادر بسبب الأعمال الطالحة على تغيير مصيره من الحسن إلى السيئ بارتكاب طالح الأعمال و سيّئها. فليس الإنسان محكوما بمصير واحد و مقدّر غير قابل للتغيير، و لا أنّه يصيبه ما قدّر له شاء أم لم يشأ، بل المصير و المقدّر يتغيّر و يتبدل بشكر النعم، أو كفرانها، و بالتقوى و المعصية إلى غير ذلك من الأمور، من دون أن يمس ذلك بكمال علم اللّه سبحانه بأن يوجد فيه التغير و التبدل. كما سيوافيك بيانه.

و هناك آيات كثيرة و روايات صحيحة تنص على تغيير المصير بعمل الإنسان نذكر القليل منها:

القرآن و تأثير عمل الإنسان في تغيير مصيره:

1 - قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (2).

ص: 225


1- تقدم مفصلا بيان الطريق القويم في ذلك عند البحث في الصفات الخبرية من هذا الجزء.
2- سورة الرعد: الآية 11.

2 - و قال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح (عليه السّلام):

فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً * يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (1) .

3 - و قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (2).

4 - و قال سبحانه: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (3).

5 - و قال سبحانه: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ (4).

6 - و قال سبحانه: وَ نُوحاً إِذْ نٰادىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (5).

7 - و قال سبحانه: وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ ضُرٍّ... (6).

8 - و قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (7).

ص: 226


1- سورة نوح: الآيات 10-12.
2- سورة الأعراف: الآية 96.
3- سورة الطلاق: الآيتان 2-3.
4- سورة إبراهيم: الآية 7.
5- سورة الأنبياء: الآية 76.
6- سورة الأنبياء: الآيتان 83 و 84.
7- سورة الانفال: الآية 33.

9 - و قال سبحانه: فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنٰاهُ بِالْعَرٰاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَ أَنْبَتْنٰا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (1).

10 - و قال سبحانه: فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (2).

11 - و قال سبحانه: فَلَوْ لاٰ كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ (3).

و هناك آيات أخرى تدل على تأثير الأعمال الطالحة في تغيير المصير كقوله تعالى: ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً قَرْيَةً كٰانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهٰا رِزْقُهٰا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّٰهِ فَأَذٰاقَهَا اَللّٰهُ لِبٰاسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِمٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ (4).

و قوله تعالى: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهٰا عَلىٰ قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (5).

و قوله تعالى: لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ، جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنٰاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوٰاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجٰازِي

ص: 227


1- سورة الصافات: الآيات 143-146.
2- سورة الأنبياء: الآية 88.
3- سورة يونس: الآية 98.
4- سورة النّحل: الآية 112.
5- سورة الأنفال: الآية 53.

إِلاَّ اَلْكَفُورَ (1) .

فقوله سبحانه: وَ هَلْ نُجٰازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ بعد عرض القصة، نصّ في كونه ضابطة إلهية جارية في الأمم جمعاء، و ليست مجازاة الكفور إلاّ سلب النعمة عنه.

و في هذه الآيات - في كلا الطرفين - دليل على ما نقول و لأجل إكمال البحث نذكر بعض الأحاديث:

الروايات و تأثير العمل في تغيير المصير

1 - قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «أفضل ما توسّل به المتوسلون الإيمان باللّه و صدقة السر، فإنها تذهب الخطيئة و تطفئ غضب الرب، و صنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء و تقي مصارع الهوان»(2).

2 - و قال الإمام الباقر: «صلة الأرحام تزكي الأعمال، و تنمي الأموال، و تدفع البلوى، و تيسّر الحساب، و تنسئ في الأجل»(3).

3 - و قال الصادق (عليه السّلام): «إنّ الدعاء يرد القضاء، و إنّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق»(4).

4 - و قال الإمام موسى الكاظم (عليه السّلام): «عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء و الطّلبة إلى اللّه عزّ و جل يرد البلاء. و قد قدّر و قضى فلم يبق إلاّ إمضاؤه، فإذا دعي اللّه عز و جل و سئل صرف البلاء صرفه»(5).

5 - و قال الإمام أبو الحسن الرضا (عليه السّلام): «يكون الرّجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيره اللّه ثلاثين سنة

ص: 228


1- سورة سبأ: الآيات 15-17.
2- البحار، ج 90، كتاب الذكر و الدعاء، الباب 16، الحديث 2.
3- الكافي، ج 2، ص 470.
4- البحار، ج 90، كتاب الذكر و الدعاء، الباب 16.
5- البحار، ج 90، باب فضل الدعاء و الحث عليه، ص 295.

و يفعل اللّه ما يشاء»(1).

هذا بعض يسير مما روي عن أئمة أهل البيت و قد روى أهل السنّة نظير هذه الروايات نذكر بعضها:

6 - روى السيوطي عن علي رضي اللّه عنه أنّه سأل رسول اللّه عن هذه الآية: «يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ » ، فقال: «لأقرّنّ عينيك بتفسيرها. و لأقرّنّ عين أمتي بعدي بتفسيرها: الصّدقة على وجهها، و برّ الوالدين، و اصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة و يزيد في العمر، و يقي مصارع السوء»(2).

7 - و أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «لا ينفع الحذر من القدر، و لكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر»(3).

8 - و عن أبي هريرة عن النبي قال: «لا يردّ القضاء إلاّ الدعاء، و لا يزيد في العمر إلاّ البرّ»(4).

9 - و روى الحاكم في المستدرك بسنده عن ثوبان، قال: قال رسول اللّه: «لا يرد القدر إلاّ الدعاء. و لا يزيد في العمر إلاّ البر. و إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»(5).

10 - و روى عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «الدعاء ينفع مما نزل و ممّا لم ينزل، فعليكم عباد اللّه بالدعاء»(6).

و هذا قليل من كثير، و غيض من فيض مما ورد في تغيير المصير

ص: 229


1- الكافي، ج 2، ص 470.
2- الدرّ المنثور، ج 4، ص 66.
3- الدر المنثور، ج 4، ص 66.
4- التاج، ج 5، ص 111.
5- المستدرك، ج 1، ص 493.
6- المصدر السابق.

بالأعمال الصالحة و الطالحة، و قد نقلها أصحاب الصحاح و المسانيد، فمن أراد استقصاءها فليرجع إلى مظانّها.

و في الختام نذكّر بأنّ القول بوجود الرابطة بين الحسنات و السيئات و الحوادث الكونية لا يهدف إلى إبطال العلل الطبيعية و إنكار تأثيرها، كما لا يهدف إلى تشريك الحسنات و السيئات مع العوامل المادية. بل المراد إثبات علة في طول علة و عامل معنوي فوق العوامل المادية و إسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب.

الأمر الخامس - إمكان النسخ في التشريع و التكوين

إنّ المعروف من عقيدة اليهود أنهم يمنعون النسخ سواء أ كان في التكوين أم في التشريع. و قد استدلوا على امتناعه في التشريع بوجوه مذكورة في الكتب الأصولية أوضحها هو أنّ رفع الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة و علم ناسخه بها، و إما أن يكون من جهة البداء و كشف الخلاف على ما هو الغالب في نسخ الأحكام العرفية، فالأول ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم. و الثاني يستلزم جهله تعالى. و كلاهما ممتنع.

و أجيب عنه في الكتب الأصولية بما مثاله: إنّ النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة كما لا يلزم منه البداء المحال في حقه. لأن معنى النسخ ارتفاع الحكم المجعول المقيّد بزمان معلوم عند اللّه و مجهول عند الناس.

و يكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لأجل انتهاء أمده الذي قيّد به، و حلول غايته الواقعية التي أنيط بها. و من المعلوم أنّ للزمان دخالة في مناطات الأحكام فيمكن أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين ثم يخلو عن تلك المصلحة بعد انتهائها. و عندئذ ربما تقتضي المصلحة بيان الحكم من دون بيان حدّه مع أنّ المراد لبّا هو المحدود بالحد الزماني، فالنسخ بهذا المعنى تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان، و لا يستلزم أحدا من التاليين المذكورين في الاستدلال.

ص: 230

و استدلّ اليهود على امتناع النسخ في التكوين(1) بأنّ قلم التقدير و القضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه.

و بعبارة أخرى: ذهبوا إلى أنّ اللّه قد فرغ من أمر النظام، و جف القلم بما كان، فلا يمكن للّه سبحانه محو ما أثبت و تغيير ما كتبه أوّلا.

و يردّ عليهم سبحانه في بيان إمكان هذا النسخ في مجال التكوين بالآية التالية: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (2). و على ذلك فإنّ اللّه سبحانه باسط اليدين في مجال التكوين و التشريع، يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و يثبت ما يشاء و يمحو ما يشاء لا يمنعه من ذلك مانع. و ما تتخيله اليهود، و ما انتحلوه من أنّ اللّه قد فرغ من الأمر و انتهى من الإيجاد و التكوين فصار مكتوف اليدين، مسلوب القدرة، فتردّه هذه الآية و ما سبقها من الآيات و الأحاديث. و هذا هو القرآن الكريم يصرّح بكونه تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (3).

و يقول أيضا: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (4).

و الآية مطلقة غير مقيدة بزمان دون زمان. و لأجل ذلك ينسب إلى نفسه كل ما يرجع إلى الخلق و الإيجاد و يبين ذلك بصيغ فعلية استقبالية دالة على الاستمرار، و ناصّة على أنّ الفيض و الخلق و الإيجاد و التدبير بعد مستمر.

يقول سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُزْجِي سَحٰاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكٰاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ ، وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشٰاءُ (5).

ص: 231


1- الذي يراد منه في مورد الإنسان أنّه مخيّر في حياته، غير مسيّر، و أنّ له تغيير مصيره بتغييره مسيره على ما تقدّم.
2- سورة الرعد: الآية 39.
3- سورة الرّحمن: الآية 29.
4- سورة الأعراف: الآية 54.
5- سورة النور: الآية 43.

فالأفعال المتعددة الواردة في هذه الآية أعني قوله: «يزجي»، «يؤلف»، «يجعل»، «يخرج»، «ينزل» تكشف عن كونه كل يوم هو في شأن و أنّ أمر الخلق و الإيجاد و التصرف بعد مستمر و لم يفرغ منه سبحانه كما تدعيه اليهود.

و قد حكى سبحانه عقيدة اليهود بقوله: وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ ... (1). فقول اليهود: يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ يعكس عقيدتهم الكلية في حق اللّه سبحانه، و أنّه مسلوب الإرادة تجاه كل ما كتب و قدّر و بالنتيجة عدم قدرته على الإنفاق زيادة على ما قدّر و قضى. فردّ اللّه سبحانه عليهم بإبطال تلك العقيدة أوّلا بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ .

و ثانيا بقوله: بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ . و لأجل ذلك فسّر الإمام الصادق الآية المذكورة بقوله:

«إنّ اليهود قالوا: قد فرغ من الأمر فلا يزيد و لا ينقص. فقال اللّه جل جلاله تكذيبا لقولهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ (2).

إلى هنا تبين أنّ القول بتغيير المصير بالأعمال الصالحة و الطالحة يوافق الكتاب و السنة. و القول بأنّ المقدر لا يتغير و أنّ اللّه فرغ من الأمر يوافق قول اليهود.

و العجب أنّ بعض العقائد اليهودية تسربت إلى المجتمعات الإسلامية في بعض الفترات، فهذا عبد اللّه بن طاهر دعى الحسين بن فضل و قال له:

أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي... قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ و قد صح أنّ القلم قد جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة.

ص: 232


1- سورة المائدة: الآية 64.
2- التوحيد، باب معنى قوله عز و جل وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ، الحديث الأول، ص 167.

فأجاب الحسين - متأثرا بالعقيدة اليهودية - بقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فإنها شئون يبديها لا شئون يبتدئها»(1).

و هذه العبارة من المسئول تكشف عن تسرب عقيدة اليهود إلى تلك الأوساط. و هو باطل بنفس الآية لأن معناها أنّه يحدث الأشياء و يبتدئ بها لا أنّه يبديها بعد ما ابتدأها في الأزل. و يظهر ذلك جليا بالمراجعة إلى الأحاديث التي نقلناها عن الصحاح حول القدر، فإن مضامينها تطابق هذه النظرية، و تعرب عن أنّ القدر في نظر هؤلاء عامل حاكم على كل شيء.

حقيقة البداء في ضوء الكتاب و السنّة

إذا عرفت هذه الأمور، تقف على أنّ المراد من البداء عند الشيعة الإمامية ليس إلاّ تغيير المصير و المقدّر بالأعمال الصالحة و الطالحة.

فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّرا بل هو - بعد - مخيّر في أن يغيّره بصالح أعماله أو بطالحها، حتى أنّ هذا (تمكن الإنسان من تغيير المصير بالعمل) أيضا جزء من تقديره سبحانه.

فبما أنه سبحانه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (2). و بما أنّ مشيئته حاكمة على التقدير، و بما أنّ العبد مختار لا مسيّر، فله أن يغيّر مصيره و مقدّره بحسن فعله و يخرج نفسه من عداد الأشقياء و يدخلها في عداد السعداء، كما أنّ له عكس ذلك.

و بما أنّ اللّه لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (3)، فاللّه سبحانه لا يغير قدر العبد إلاّ بتغيير من العبد بحسن عمله أو سوئه. و لا يعد تغيير

ص: 233


1- الكشّاف، ج 3، ص 189. تفسير سورة الرّحمن.
2- سورة الرّحمن: الآية 29.
3- سورة الرعد: الآية 11.

التقدير الإلهي بحسن الفعل أو سوئه معارضا لتقديره الأول سبحانه، بل هو أيضا جزء من قدره و سنته. فإنّ اللّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئا و قضى له بأمر، لم يقدره و لم يقضه عليه على وجه القطع و الحتم، بحيث لا يغير و لا يتبدل، بل قضاؤه و قدره على وجه خاص، و هو أنّ ما قدّر للعبد يجري عليه ما لم يغير حاله بحسن فعل أو سوئه، فإذا غيّر حاله تغيّر قدر اللّه و قضاؤه في حقه و حلّ مكان ذلك القدر قدر آخر، و مكان ذلك القضاء قضاء آخر.

و الجميع (من القضاء و القدر السابقين و اللاّحقين) قضاء اللّه و قدره، و هذا هو البداء الذي تتبناه الإمامية من مبدأ تاريخها إلى هذا الوقت. و لأجل إيقاف الباحث على صدق هذا المقال نأتي ببعض النصوص لأقطابها القدماء حتى يعرف أنّ ما نسب إليها من معنى البداء أمر لا حقيقة له.

قال الشيخ الصدوق (ت 306 - م 381) في باب الاعتقاد بالبداء:

«إنّ اليهود قالوا: إنّ اللّه تبارك و تعالى قد فرغ من الأمر، قلنا: بل هو تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (1) لا يشغله شأن عن شأن. يحيي و يميت و يخلق و يرزق و يفعل ما يشاء. و قلنا: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (2)»(3).

و قال الشيخ المفيد (ت 336 - م 413) في (شرح عقائد الصدوق): «قد يكون الشيء مكتوبا بشرط فيتغير الحال فيه، قال اللّه تعالى: ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ (4). فتبين أنّ الآجال على ضربين، و ضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة و النقصان. أ لا ترى قوله تعالى: وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ (5).

ص: 234


1- سورة الرّحمن: الآية 29.
2- سورة الرعد: الآية 39.
3- عقائد الصدوق، المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر، ص 73.
4- سورة الأنعام: الآية 2.
5- سورة فاطر: الآية 11.

و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ (1).

فبيّن أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر، و الانقطاع عن الفسوق.

و قال تعالى فيما أخبر به عن نوح (عليه السّلام) في خطابه لقومه:

اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً... (2) إلى آخر الآيات.

فاشترط لهم في مدّ الأجل و سبوغ النعم، الاستغفار. فلما لم يفعلوا، قطع آجالهم و بتر أعمالهم و استأصلهم بالعذاب، فالبداء من اللّه تعالى(3)يختص بما كان مشترطا في التقدير و ليس هو الانتقال من عزيمة الى عزيمة، تعالى اللّه عما يقول المبطلون علوا كبيرا»(4).

و قال أيضا في (أوائل المقالات): «أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ و أمثاله، من الإفقار بعد الإغناء، و الإمراض بعد الإعفاء، و بالإماتة بعد الإحياء، و ما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال و الأرزاق و النقصان منها بالأعمال»(5).

و قال الشيخ الطوسي (ت 385 - م 460) في (العدة): «البداء حقيقة في اللغة هو الظهور، و لذلك يقال «بدا لنا سور المدينة» و «بدا لنا وجه الرأي». و قال اللّه تعالى وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا (6).

وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا (7) . و يراد بذلك كله «ظهر».

ص: 235


1- سورة الأعراف: الآية 96.
2- سورة نوح: الآيتان 10 و 11.
3- سيوافيك وجه إطلاق البداء على اللّه و أنّه من مقولة المجاز، كما قوله سبحانه وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ ، تمثيلا لفعل الباري بفعل البشر.
4- تصحيح الاعتقاد، باب معنى البداء، ص 25.
5- أوائل المقالات، باب القول في البداء و المشيئة، ص 53.
6- سورة الجاثية: الآية 33.
7- سورة الزمر: الآية 48.

و قد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا و كذلك في الظن. و أمّا إذا أضيفت هذه اللفظة إلى اللّه تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه و منه ما لا يجوز. فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه و يكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع. و على هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين (عليهم السّلام) من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى اللّه تعالى، دون ما لا يجوز عليه: من حصول العلم بعد أن لم يكن. و يكون وجه إطلاق ذلك على اللّه تعالى، التشبيه و هو أنّه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا لهم و يحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلا لهم أطلق على ذلك لفظ البداء»(1).

و يريد الشيخ أن إطلاق البداء على اللّه تعالى لأجل كونه بداء في أذهان الناس، و ظهورا بعد خفاء، فكان ذلك مصححا لإطلاقه على اللّه سبحانه بالمجاز و التوسع، كما عرفت نظيره في بعض الألفاظ.

هذا بعض ما أفاده علماء الشيعة القدامى، و أما ما كتبه المتأخرون حوله فحدث عنه و لا حرج و في وسعك المراجعة إليه(2).

هذا هو الذي تقول به الشيعة و تسميه بداء، و أما غيرهم فيقولون به حسب ما مرّ من الآيات و الروايات و لا يسمونه بداء، فالنزاع في الحقيقة إنما هو في التسمية، و لو عرف المخالف أنّ تسمية فعل اللّه سبحانه بالبداء من باب المجاز و التوسع لما شهر سيوف النقد عليهم. و إن أبى حتى الإطلاق التجوزي فعليه أن يتبع النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) حيث أطلق لفظ البداء عليه سبحانه بهذا المعنى المجازي الذي قلناه، في حديث

ص: 236


1- عدة الأصول، ج 2، ص 29. و له كلام آخر في كتاب «الغيبة»، ص 262-264، طبعة النجف يحذو فيه حذو ما ذكره في (العدة) فليرجع إليه.
2- لاحظ مصابيح الأنوار، للسيد شبّر، ج 1، أجوبة موسى جار اللّه للإمام شرف الدين ص 101-103.

الأقرع و الأبرص و الأعمى: «بدا للّه عزّ و جلّ أن يبتليهم»(1).

فبأي وجه فسّر كلام النبي يفسر به كلام أوصيائه.

فاتضح بذلك أنّ التسمية من باب المشاكلة و أنّه سبحانه يعبر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبر به الناس عن فعل أنفسهم، لأجل المشاكلة الظاهرية، و لكونه مقتضى المحاورة مع الناس و التحدث معهم. و قد ذكرنا نماذج من ذلك فيما سبق.

و باختصار: إنّ البحث في حقيقة البداء المقصودة للإمامية أمر اتفق المسلمون حسب نصوص كتابهم و أحاديث نبيّهم عليه، و لا يمكن لأحد إنكاره.

و أما التسمية بالبداء فمن باب المشاكلة و المجاز، فمن لم يستسغه فليسمه باسم آخر «و ليتّق اللّه ربه في أخيه المؤمن، و لا يبخس منه شيئا»؛ وَ لاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2).

و بذلك تقف على أنّ ما ذكره الإمام الأشعري في (مقالات الإسلاميين)(3) و البلخي في تفسيره(4)، و الرازي في (نقد المحصّل)(5)، و غيرهم حول البداء، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه. فإنهم فسروا البداء للّه بظهور ما خفي عليه و الشيعة براء منه، بل البداء عندهم تغيير التقدير بالفعل الصالح و الطالح فلو كان هناك ظهور بعد الخفاء فهو بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى اللّه تعالى، بل هو بالنسبة إليه إبداء ما خفي و إظهاره. و لو أطلق عليه فمن باب التوسع.

ص: 237


1- النهاية في غريب الحديث و الأثر، للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري، ج 1 - ص 109.
2- سورة هود: الآيتان 85 و 86.
3- مقالات الإسلاميين و اختلاف المصلين، ص 107 و 109 و 119، طبعة محي الدين عبد الحميد.
4- نقله شيخنا الأكبر الطوسي في تفسيره: التبيان، ج 1، ص 13-14، طبعة النجف.
5- نقد المحصّل، ص 421.
بقيت أمور يجب التنبيه عليها:
1 - الأثر التربوي للبداء

إنّ الأثر التربوي الذي يترتب على القول بالبداء أمر لا يمكن إنكاره، كيف و الاعتقاد بالبداء يبعث الرجاء في قلوب المؤمنين، كما أنّ إنكاره و الالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة دون استثناء، يترتب عليه اليأس و القنوط. فيستمر الفاسق في فسقه و الطاغي في طغيانه، قائلين بأنه إذا كان قلم التقدير مضى على شقائنا، فلأي وجه نغير نمط أعمالنا بأعمال البر و التضرع و الدعاء.

إنّ الاعتقاد بالبداء يضاهي الاعتقاد بقبول التوبة و الشفاعة و تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، فإنّ الجميع يبعث الرجاء في النفوس و يشرح قلوب الناس أجمعين، عصاة و مطيعين حتى لا ييأسوا من روح اللّه و لا يتصوروا أنّهم إذا قدر كونهم من الأشقياء فلا فائدة في السعي و الكدح بل يعتقدوا بأنّ اللّه سبحانه لم يجف قلمه في لوح المحو و الإثبات، فله أن يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء، و يسعد من شاء، و يشقي من شاء، حسب ما يتحلى به العبد من مكارم الأخلاق و صالح الأعمال أو يرتكب من طالحها و فاسدها. و ليست مشيئته سبحانه جزافية غير تابعة لضابطة حكيمة، فلو تاب العبد و عمل بالفرائض، و تمسك بالعصم، خرج من صفوف الأشقياء و دخل في عداد السعداء و بالعكس.

و هكذا كل ما قدر في حق الإنسان من الحياة و الموت و الصحة و المرض و الغنى و الفقر يمكن تغييره بالدعاء و الصدقة و صلة الرحم و إكرام الوالدين، فالبداء يبعث نور الرجاء في قلوب هؤلاء.

2 - البداء ليس تغييرا في علمه و لا في إرادته سبحانه

إنّ علمه سبحانه ينقسم إلى علم ذاتي و علم فعلي، فعلمه الذاتي نفس ذاته و هو لا يتغير و لا يتبدل، و أما علمه الفعلي فهو عبارة عن لوح المحو

ص: 238

و الإثبات، فهو مظهر لعلم اللّه في مقام الفعل، فإذا قيل بدا للّه في علمه فمرادهم البداء في هذا المظهر.

و إن شئت قلت: إنّ مراتب علمه سبحانه مختلفة، و محالّها متعددة.

فأولها و أعلاها العلم الذاتي المقدس عن التكثر و التغير و هو محيط بكل شيء و كل شيء حاضر عنده بذاته. ثم يليه علمه الفعلي و له مراتب و مظاهر كاللوح المحفوظ و لوح المحو و الإثبات و نفوس الملائكة و الأنبياء. فلو كان هناك تغيير فإنما هو في هذه المظاهر، و بالأخص لوح المحو و الإثبات.

فيقدر في ذلك اللوح كون الشخص من السعداء و لكنه يرتكب عملا طالحا يوجب التغيير فيه فيكتب من الأشقياء، و مثله خلافه. و إليه يشير سبحانه:

يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ .

فالظاهر من الآية أنّ أم الكتاب هو الكتاب الوسيع الأصيل الذي يكتب فيه تقدير الكائنات بجملتها و منها الإنسان، و لأجل ذلك يكون مصونا من التغيير، لانعكاس جميع التقديرات فيه جملة واحدة و هذا بخلاف لوح المحو و الإثبات فيكتب فيه التقدير الأول و لكنه لما كان مشروطا بشرط غير متحقق، يغيره التقدير الثاني.

و بذلك يظهر أنّ التغيير في التقدير لا يلازم التغيّر في العلم و لا التغيّر في الإرادة، و إنما التغيير في مظاهر علمه الفعلي أي ما خلقه من الألواح و النفوس التي تنعكس فيها تقاديره.

و على ضوء ذلك فما أخذه أبو زهرة المصري في كتابه (الإمام الصادق)، على الشيعة الإمامية في مسألة البدء ناشئ عن الغفلة عن محل المحو و الإثبات و طروء التغير و التحول حيث قال: «من البداء الزيادة في الآجال و الأرزاق و النقصان منها بالأعمال و لا شك أنّ الزيادة في الآجال، إن أريد ما قدّره اللّه تعالى في علمه الأزلي و الزيادة عما قدر، فذلك يقتضي تغيير علم اللّه، و إن أريد الزيادة عما يتوقعه الناس فذلك مما ينطبق عليهم قوله تعالى:

ص: 239

وَ بَدٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ »(1).

فيلاحظ عليه أو لا: إنّ زيادة الآجال و الأرزاق أو نقصانها بالأعمال مما لم تنفرد به الشيعة الإمامية. و من العجيب أن يغفل عما رواه أئمة أهل الحديث، و قد ذكرنا جملة منها فيما سبق.

و ثانيا: إنّ الزيادة في الآجال و الأرزاق و إن كانت توجب التغيير في التقدير، لكنها لا توجب التغيير في علم اللّه أو مشيئته و إرادته.

و منشأ الخلط بين الأمرين هو جعل تقديره سبحانه نفس علمه الذاتي، و توهم أنّ التغيير في الأول يوجب التغيير في الثاني. بل التقدير إنما هو في مظاهر علمه التي تسمى علما فعليا، و هي عبارة عن الألواح الواردة في الكتاب و السنة: من المحفوظ، و المحو و الإثبات. فزعم الكاتب أنّ للّه علما واحدا و هو علمه الأزلي و أنّه هو مركز التقدير و استنتج منه أنّ القول بالبداء يستلزم تغيير العلم الذاتي.

نعم هو سبحانه يعلم من الأزل أي عبد يختار أي واحد من التقديرين على مدى حياته، و أي عبد ينتقل من تقدير إلى تقدير، فليس هاهنا تقدير واحد بل التقديرات بجملتها موجودة هناك بوجود جمعي لا يستلزم الكثرة و التثني.

3 - البداء في التقدير الموقوف لا المحتوم

إنّ البداء (تغيير التقدير بالأعمال) إنما يتصور في التقدير الموقوف.

و أما القطعي المحتوم فلا يتصور فيه. و توضيح ذلك بما يلي:

إنّ للّه سبحانه قضاءين: قضاء قطعيا و قضاء معلقا، أما الأول فلا يتطرق إليه البداء و لا يتغير أبدا.

ص: 240


1- الإمام الصادق، لأبي زهرة، ص 238.

و أما الثاني فهو الذي يتغير بالأعمال الصالحة و الطالحة. و قد صرّح أئمتنا في أحاديثهم بهذا الأمر و نصّوا على هذا التقسيم.

و المراد من التقدير الحتمي ما لا يبدل و لا يغير و لو دعي بألف دعاء.

فلا تغيّره الصدقة و لا شيء من صالح الأعمال أو طالحها. و ذلك كقضائه سبحانه للشمس و القمر مسيرا إلى أجل معين، و للنظام الشمسي عمرا محددا، و تقديره في حق كل إنسان بأنه يموت، إلى غير ذلك من السنن الثابتة الحاكمة على الكون و الإنسان.

و المراد من الثاني الأمور المقدّرة على وجه التعليق، فقدّر أن المريض يموت في وقت كذا إلاّ إذا تداوى، أو أجريت له عملية جراحية أو دعي له و تصدّق عنه و غير ذلك من التقادير التي تتغير بإيجاد الشرائط و الموانع، و اللّه سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين: الموقوف، و تحقّق الموقوف عليه و عدمه. و له نظائر حتى في التشريع الكلي و السنن الوسيعة الإلهية، فقد قضى سبحانه في حق المسرفين بأنهم أصحاب النار، و قال حاكيا عن مؤمن آل فرعون:

وَ أَنَّ مَرَدَّنٰا إِلَى اَللّٰهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ (1) .

غير أنّ هذا التقدير حتى بصورته الكلية ليس تقديرا قطعيا غير قابل للتغيير بشهادة قوله سبحانه: قُلْ يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّٰهِ (2). و الهدف من الآيتين تقوية حرية الإنسان و تفهيمه بأن له الخيار في اختيار أي واحد شاء من التقديرين.

و إليك بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت حول هذا التقسيم:

سئل أبو جعفر الباقر (عليه السّلام) عن ليلة القدر، فقال: «تنزل فيها الملائكة و الكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة.

ص: 241


1- سورة غافر: الآية 43.
2- سورة الزّمر: الآية 53.

قال: و أمر موقوف للّه تعالى فيه المشيئة، يقدّم منه ما يشاء و يؤخر ما يشاء.

و هو قوله: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ »(1).

و روى الفضيل قال: سمعت أبا جعفر يقول: «من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، و من الأمور أمور موقوفة عند اللّه يقدم منها ما يشاء، و يثبت منها ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحدا - يعني الموقوفة - فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته»(2).

و في حديث قال الرضا (عليه السّلام) لسليمان المروزي: «يا سليمان إنّ من الأمور أمورا موقوفة عند اللّه تبارك و تعالى يقدم منها ما يشاء و يؤخر ما يشاء»(3).

هذا بعض ما ورد في تقسيم التقدير إلى قسميه.

و قد خرجنا بهذه النتيجة و هي: إنّ التقدير على نوعين موقوف و غير موقوف، و اللّه سبحانه من وراء الكل واقف على تحقق الموقوف عليه.

4 - الأجل و الأجل المسمى:

إنّ القرآن الكريم يصف الكائنات السّماوية و الأرضية بأنّ لها «أجلا» و «أجلا مسمى». فما هو المراد منهما؟.

إنّ «الأجل» بلا قيد هو التقدير الموقوف. «و الأجل المسمى» هو المحتوم. و إليك بيانه:

قال سبحانه: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً، وَ أَجَلٌ

ص: 242


1- بحار الأنوار، ج 4، ص 102، باب البداء، الحديث 14، نقلا عن أمالي الطوسي.
2- المصدر السابق، ص 119، الحديث 58.
3- المصدر السابق، ص 95، الحديث 2.

مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (1) .

قال سبحانه: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى مِنْ قَبْلُ ، وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2).

إنّ اللّه سبحانه جعل للإنسان في هاتين الآيتين أجلين مطلقا و مسمّى، كما أنّه جعل للشمس و القمر أجلا مسمّى، قال سبحانه: وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (3). و مثله في سورة الزّمر المباركة، الآية الخامسة. و إليك توضيح مفهوم الأجلين بالمثال التالي:

إذا وهب اللّه تعالى لأحدنا ولدا و أجريت عليه مختلف الفحوص الطبية بحيث اطمأن الأطباء أنّ باستطاعة هذا الوليد أن يحمل أعباء الحياة إلى مائة سنة، فمن الواضح أنّ معنى هذا ليس أكثر من «الإمكان» أو «الاقتضاء».

و ليس معناه أنه يعيش هذه المدة كيفما كان، و في أي وضع كان، بل هو مشروط بشروط عديدة، منها استمرار صحته و عدم عروض مانع لاستمرار بقائه، حتى تصل هذه القابلية من القوة إلى الفعلية. و إلاّ فربما يموت قبل أن يصل إلى تلك المدة.

و على ضوء هذا فللطفل من يومه الأول أجلان:

1 - أجل مطلق، و هو إمكانه و اقتضاؤه للبقاء، و قابليته الجسمية لمدة مائة سنة من العمر. و حيث إنّ لاستمرار البقاء في هذا الكواكب سلسلة من الشرائط و المقتضيات، و لا يعلم بالجزم و اليقين تحققها، يكون هذا أجلا مبهما لا محتوما و مبرما.

2 - أجل محتوم، و هو مقدار عيشه حسب تحقق شروطه في الواقع

ص: 243


1- سورة الأنعام: الآية 2.
2- سورة غافر: الآية 67.
3- سورة الرعد: الآية 2.

و نفس الأمر، أو عدم تحققها. و هذا هو الذي لا يقف عليه إلاّ الخبير و المحيط بالعالم و تحقق الشرائط و عدمها و ما يعرض على الطفل في مسير حياته، و ليس هو إلاّ اللّه سبحانه. إذ هو الذي يعلم ما يعرض للطفل مما يوجب طول حياته أو قصرها.

و هذا تقدير مقطوع به بعيد عن أي إبهام و ترديد.

و قد عبّر القرآن الكريم عن الأول بالأجل، الشامل بإطلاقه للموقوف و المحتوم و الممكن و المتحقق، و عن الثاني بالأجل المسمّى، الشامل لخصوص المحتوم، و خصّ العلم بالأجل المسمّى بنفسه تعالى، دون العلم بالأجل المطلق، فقال: وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ . و لأجل أنّ شرائط الحياة للإنسان تختلف حسب توفر الشروط و عدمها جعل للإنسان أجلين، مع أنه لم يجعل للشمس و القمر إلاّ أجلا واحدا و هو الأجل المسمّى.

و إلى الأجل المسمى يشير قوله سبحانه: فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ (1).

و إلى ما ذكرنا من التفسير يشير الإمام الصادق بقوله: «أجل مسمى؛ و هو قوله تعالى: فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ و أجل غير مسمى يتقدم و يتأخر»(2).

و قال (عليه السّلام) أيضا في تفسير قوله سبحانه: ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ .

قال: «الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما يشاء و يؤخر منه ما شاء، و أما الأجل المسمى فهو الذي ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل، فذلك قول اللّه: فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ »(3).

ص: 244


1- سورة الأعراف: الآية 34 و سورة النحل: الآية 61.
2- أصول الكافي، ج 1، ص 71.
3- البحار، ج 4، ص 116، الحديث 44. و لاحظ الأحاديث 45 و 46 و 47.

و قد فسّر غير واحد من المفسرين كلا الأجلين بما ذكرنا، و ذكر الرازي الوجه المروي عن حكماء الإسلام و قال:

«إنّ لكل إنسان أجلين أحدهما: الآجال الطبيعية و الثاني الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني. و أمّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بالأسباب الخارجية كالغرق و الحرق و غيرهما من الأمور المنفصلة»(1).

و قال العلاّمة الطباطبائي: «إنّ الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، و الأجل المسمى عند اللّه تعالى. و هذا هو الذي لا يقع فيه تغيير لمكان تقييده بقوله «عنده»، و قد قال تعالى: وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ بٰاقٍ . و هو الأجل المحتوم الذي لا يتغير و لا يتبدل، قال تعالى: إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ فَلاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ (2). فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى، نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق، فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علّق عليه، بخلاف المطلق المنجز، فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.

و التدبّر في الآيات يفيد أنّ الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب، و غير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه ب «لوح المحو و الإثبات».

و بتعبير آخر: إنّ أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى أسبابها التامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، و لوح المحو الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها»(3).

ص: 245


1- مفاتيح الغيب للرازي، سورة الأنعام، آية 2.
2- سورة يونس: الآية 49.
3- الميزان، ج 7، تفسير سورة الأنعام، الآية الثانية، ص 9.

نعم، يقع السؤال عن نكتة ذينك التحديدين، و أنه إذا كان الأجل غير المسمى يختلف مع المسمى غالبا، فأي فائدة في ترسيمه ؟.

و لكن الإجابة عنه واضحة، و هي أن ترسيمه يثير النشاط في المجتمع الإنساني حتى يقوم بتهيئة الشرائط و رفع الموانع للبلوغ إلى ذلك الأجل و العمر الطويل الذي حدّدوه بمائة و عشرين سنة.

أضف إلى ذلك أنّ هذين الترسيمين نتيجة ارتباط أجزاء الكون و تأثيره في الوجود الإنساني فإن التركيب الخاص للشخص الإنساني و إن كان يقتضي أن يعمّر العمر الطبيعي، و هذا يقتضي تحديدا له من حيث هو نفسه، و لكن بما أنّ أجزاء الكون مؤثرة في حياة الإنسان، فربما تفاعلت الأسباب و الموانع التي لا نحصيها و لا نحيط بها، فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأجل الطبيعي و هو المسمى بالموت الاخترامي. و ليس يختص الاخترامي بالحوادث المنفصلة كالموت و الحرق كما عليه الرازي في تفسيره، بل يعم فقدان شرائط الحياة، و سوء التغذية، و هجوم الغصص و الحوادث النفسية المؤلمة.

5 - ما يترتب على البداء في مقام الإثبات

إذا كان البداء هو تغيير المصير بالعمل الصالح و الطالح، و أنّه يقع في الأمور الموقوفة لا المحتومة، يسهل على الباحث علاج الإخبار بالمغيبات من جانب الأنبياء مع عدم تحققه.

و نرى من هذه الإخبارات نماذج في الكتاب و السنّة:(1) - رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل، و رؤيا الأنبياء وحي(1)، فتلك الرؤيا الصادقة تحكي عن حقيقة ثابتة و واقعية مسلّمة، و هو أمر اللّه لإبراهيم بذبح ولده أولا، و تحقق ذلك في عالم الوجود ثانيا، و كأنّ

ص: 246


1- لاحظ الدر المنثور، ج 5، 280.

قوله: إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يكشف عن أمرين:

أ - الأمر بذبح الولد و هو أمر تشريعي.

ب - الحكاية عن تحقق ذلك في الواقع الخارجي. فقد أخبر إبراهيم بذلك من طريق الوحي. و أخبر هو ولده بذلك.

و مع ذلك كله لم يتحقق و نسخ نسخا تشريعيا، كما نسخ نسخا تكوينيا. و يحكي عن كلا الأمرين قوله سبحانه: وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ .

فينطرح في ذهن الإنسان: كيف يجوز أن يخبر النبي بشيء من المغيبات ثم لا يتحقق ؟! (1) - إنّ يونس (عليه السّلام) أخبر قومه بنزول العذاب و أنّه مصيبهم. و مع ذلك كله لم يأتهم(2) يقول سبحانه:

فَلَوْ لاٰ كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ (2) .(3) - ما جاء في قصة موسى بن عمران حيث إنّ موسى أخبرهم بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة كما عن ابن عباس حيث قال: «إنّ موسى قال لقومه إنّ ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه، و أخلف هارون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربه زاده اللّه عشرا، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها اللّه»(3). قال سبحانه: وَ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ ثَلاٰثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنٰاهٰا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقٰاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قٰالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هٰارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (4).

ص: 247


1- سورة يونس: الآية 98.
2- مجمع البيان، ج 3، ص 135. و تفسير الطبري و تفسير الدر المنثور.
3- الدر المنثور، ج 3، ص 115.
4- سورة الأعراف: الآية 142.

هذه جملة الإخبارات التي وردت في القرآن و التي أخبر بها الأنبياء و لم تتحقق و قد جاء نظير ذلك في الروايات الإسلامية نذكر منها:

ما روي عن المسيح عيسى بن مريم أنّه مرّ بقوم مجلبين. فقال ما لهؤلاء؟ قيل يا روح اللّه إنّ فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه.

قال: يجلبون اليوم و يبكون غدا. فقال قائل منهم: و لم يا رسول اللّه ؟.

قال: لأن صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه... فلما أصبحوا جاءوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء.

فقالوا يا روح اللّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنها ميتة لم تمت. فقال عيسى: يفعل اللّه ما يشاء فاذهبوا بنا إليها.. حتى قرعوا الباب فخرج زوجها فقال له عيسى استأذن لي على صاحبتك. فتخدرت، فدخل عليها. فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه ؟ قالت كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. و إنّه جاءني في ليلتي هذه و أنا مشغولة بأمري و أهلي بمشاغل، فلما سمعت مقالته قمت متنكرة حتى نلته كما كنّا ننيله.

ففي هذه اللحظة قال عيسى لها تنحي عن مجلسك. فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه.

فقال (عليه السّلام): بما صنعت صرف عنك هذا»(1).

و منها - ما روي أنّه مرّ يهودي بالنبي فقال: السام عليك، فقال النبي له: و عليك.

فقال أصحابه: إنما سلّم عليك بالموت، فقال الموت عليك! فقال النبي: و كذلك رددت.

ص: 248


1- بحار الأنوار، ج 4، ص 94، ذكرنا الرواية بتلخيص.

ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله) لأصحابه: إنّ هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله.

فذهب اليهودي فاحتطب حطبا فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف. فقال له ضعه، فوضع الحطب: فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود.

فقال (صلّى اللّه عليه و آله). يا يهودي ما عملت اليوم ؟ قال ما عملت عملا إلاّ حطبي هذا فحملته فجئت به، و كان معي كعكتان فأكلت واحدة و تصدقت بواحدة على مسكين. فقال رسول اللّه: بها دفع اللّه عنه. و قال: إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان(1).

و هناك نظائر لما مضى لا تخرج عن عدد الأصابع.

تبيين الحال في هذه الإخبارات الغيبية

يقع الكلام في هذه الملاحم و الأخبار الغيبية تارة من جهة أن الأنبياء كيف علموا بهذا الأمر الموقوف، و لم يعلموا بالأمر الموقوف عليه.

و أخرى أنّ هذا الإخبار مع عدم الوقوع كيف لا يعد تكذيبا لقولهم ؟ أما الأول، فلا شك أنّ النبي إذا أخبر بشيء ثم حصل البداء في تحققه فلا بد أن يستند في إخباره إلى شيء يكون مصدرا لإخباره و منشأ لاطلاعه. فيمكن أن يكون المصدر اتصاله بعالم لوح المحو و الإثبات، فاطلع على المقدّر، و لم يطلع على كونه معلقا على أمر غير واقع، لعدم إحاطة ذلك اللوح بجميع الأشياء.

كما أنه يمكن أن تتعلق مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره، فيلهم أو يوحي إلى نبيه مع علمه سبحانه بأنه يمحوه.

نعم، من شملته العناية الإلهية و اتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ تنكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها، و إن كان ذلك قليل كما يتفق ذلك لخاتم الأنبياء و بعض الأوصياء.

ص: 249


1- بحار الأنوار، ج 4، ص 118.

و على ضوء ذلك فالحكم الذي يوحى إلى الأنبياء، تارة يكون ظاهرا في الاستمرار و الدوام، مع أنه في الواقع له غاية و حدّ يعيّنه بخطاب آخر.

و أخرى يكون ظاهرا في الجد مع أنّه لا يكون جديا واقعا، بل لمجرد الاختبار و الابتلاء.

و ثالثة يوحى إليهم بالإخبار بوقوع عذاب لحكمة في هذا الإخبار، و مع ذلك لا يقع.

هذه هي الجهات التي يمكن أن تكون مصدرا لعلمه و اطلاعه. و الكل يرجع إلى وقوفه على المقتضيات و عدم وقوفه على العلة التامة. فلأجل ذلك صح له أن يخبر عن التقدير الأول لأجل وجود المقتضى، و لو اطلع على العلة التامة لأخبر عن التقدير الثاني. و لا بعد في أن يخفي تعالى على نبيه شرائط التقدير الأول و موانعه لأجل مصالح يعلمها اللّه سبحانه.

فقد كان هناك مصلحة في الإخبار عن تحقق ذبح إسماعيل، و نزول العذاب إلى قوم يونس، و كون الميقات ثلاثين يوما، و أنّ العروس و اليهودي يقتلان. فللّه سبحانه في إخباره و إظهاره حكم و مصالح نقف على بعضها و لا نحيط بجملتها.

هذا كله حول مصدر علم النبي في إخباره.

و أما الثاني، و هو أنّ إخبار النبي بشيء و عدم وقوعه يعد في نظر الناس تكذيبا للنبي. فنقول: إنّ المغيبات التي وقع فيها البداء إنما توجب معرضية الأنبياء لوصمة الكذب و التقول بالخلاف إذا لم يكن هناك قرائن تدل على صدق مقالهم، و لذلك نرى أن عيسى (عليه السّلام) لما أخبر أصحابه بأن العروس ستهلك، برهن على صدق مقاله بإراءة الأفعى تحت مجلسها كما أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) برهن على صدق إخباره بهلاك اليهودي بالأمر بوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود.

و نظيره قصة إبراهيم، فإن في التفدية بذبح عظيم دلالة على صدق ما أخبر به الخليل من الرؤيا. كما أنّ الحال كذلك في قصة يونس حيث أخبر عن العذاب، و قد رأى القوم طلائعه، فقال لهم العالم: افزعوا إلى اللّه

ص: 250

فلعله يرحمكم و يرد العذاب عنكم، فاخرجوا إلى المفازة، و فرّقوا بين النساء و الأولاد، و بين سائر الحيوانات و أولادها، ثم ابكوا و ادعوا ففعلوا فصرف عنهم العذاب(1).

و بالجملة، إذا كانت إخبارات النبي مقترنة بالقرائن الدالة على صدق اخباره، و أنّ الوقوع كان حتميا قطيعا لو لا فعل ما فعلوه، لما عدّ ذلك تقولا بالخلاف، بل يعد من دلائل الرسالة.

و على ذلك فإخباراتهم الغيبية إما كانت على وجه التعليق في اللفظ، كما في قصة يونس، حيث روي أنه قال لقومه: «إنّ العذاب مصبحكم بعد ثلاث إن لم تتوبوا»(2). أو في اللب، كما إذا دلت القرائن الماضية على أنّ كلامه كان معلقا على مشيئته سبحانه، و كانت مشيئته سبحانه معلقة على عدم صدور أمر يدفع العذاب.

و أنت إذا أحطّت بما ذكرنا من الأمور تقف على مدى صحة ما نقله الرازي عن سليمان بن جرير من أنّ أئمة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم، فإذا قالوا سيكون لهم أمر و شوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروا، قالوا: بدا للّه تعالى(3)!. و كأنّ الرجل كان غافلا عن تلك المعارف العليا في الكتاب و السنّة.

و نضيف أخيرا بأنّ هذا النوع من الإخبارات التي تعد نتيجة للبداء لا نفس البداء، لا تتجاوز في كلمات الأئمة عن مواضع أربعة(4)، ذكر تفصيلها في موضعها، فكيف يدّعي الرازي وضع ضابطة كلية ؟!

ص: 251


1- مجمع البيان، ج 3، ص 153.
2- مجمع البيان، ج 3، ص 135.
3- نقد المحصل، للرازي، ص 421.
4- راجع في تفسير ذلك كتاب «البداء في ضوء الكتاب و السنة» للأستاذ دام حفظه ص 107-108.

ص: 252

الفصل السادس العدل الإلهي و أفعال العباد

اشارة

* الجبر الأشعريّ .

* الجبر الفلسفيّ .

* الجبر الماديّ .

* الاختيار المعتزليّ .

* الاختيار لدى الوجوديين.

* الاختيار في مذهب الأمر بين الأمرين.

ص: 253

ص: 254

العدل الإلهي و أفعال العباد

اشارة

قد عرفت أنّ العدل من صفاته سبحانه، و كأن هذا الوصف يقتضي البحث عن كيفية صدور أفعال العباد منهم، و هل هم فاعلون بالاختيار أو بالجبر و الإلجاء؟ و الأول موافق لعدله سبحانه و الثاني يخالفه. و لكننا أفردنا المسألة بالبحث لتشعب شقوقها و كثرة ما طرح فيها من الإشكالات و قبل الخوض في المقصود نقدم أمورا:

الأمر الأول: في كون المسألة عامة

إنّ الوقوف على كيفية صدور فعل الإنسان منه، و إن كان مسألة فلسفية، غاصّ فيها كبار المفكرين من الفلاسفة الذين يقدرون على تحليل المسائل العامة في الفلسفة الإلهية، إلاّ أنّ اشتمال المسألة على خصيصة خاصة و هي صلتها بمصير الإنسان في مسيره جعلتها مسألة مطروحة أيضا بين البسطاء و العاديين من الناس. و لأجل ذلك تغايرت فيها أفكارهم و آراؤهم.

فهذه المسألة من حيث العمومية كالمسائل الثلاث الفلسفية التي يتطلع

ص: 255

كل إنسان إلى حلّها سواء أقدر عليه أم لا و هي: من أين جاء؟ و لما ذا جاء؟ و إلى أين يذهب ؟.

و لأجل هذه الخصيصة في المسألة لا يمكن تحديد زمن تكوّن هذه المسألة في البيئات البشرية و مع ذلك فالمسألة كانت مطروحة في الفلسفة الإغريقية، إشراقيّها و مشّائيها، ثم تسربت إلى الأوساط الإسلامية و منها تسربت إلى المجتمعات الغربيّة، كغيرها من المسائل و العلوم الإسلامية.

الأمر الثاني: في الجبر بأقسامه

إن أحد شقوق هذه المسألة هو القول بالجبر، و أنّ الإنسان مسلوب الاختيار، و لكن تصويره يختلف حسب نفسيات الباحث و الملاكات التي يجعلها محور البحث. فالإلهي القائل بالجبر، يطرحه على نمط مغاير لما يطرحه المادي و الفلسفي القائلين به. فالإلهي لا يصوّر للجبر عاملا سوى ما يرتبط باللّه سبحانه من تقديره و قضائه أو علمه الأزلي أو مشيئته القديمة المتعلقة بأفعال الإنسان(1). و المادي بما أنه غير معتقد بهذه المبادي يسند الجبر إلى العامل المادي و هو «الوراثة» و «التعليم» و «البيئة»، التي تسمى بمثلث الشخصية، و أنّ نفسيات كل إنسان و روحياته تتكون في ظل هذه العوامل الثلاثة، و هي عوامل خارجة عن الاختيار. و من المعلوم أنّ فعل كل إنسان رد فعل لشخصيته و ملكاته التي اختصرت فيها.

و للفلاسفة القائلين بالجبر منحى آخر فيه. فتارة يستندون إلى أنّ الإرادة الإنسانية هي العلة التامة للفعل، بحيث إذا حصلت في ضمير الإنسان يندفع إلى الفعل بلا مهلة و انتظار، و بما أنّ الإرادة ليست أمرا

ص: 256


1- هذه ثلاثة من العوامل التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالجبر. و هناك عامل رابع، و هو القول يكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه مباشرة. و عامل خامس و هو ما يبدو من القرآن الكريم من نسبة الهداية و الضلالة إلى اللّه سبحانه و هذه هي النقاط الرئيسية لأبحاثهم في المسألة.

اختياريا، تتسم أفعال الإنسان بسمة الجبر لانتهائها إليها.

و أخرى إلى انتهاء العلل الطولية إلى ذاته سبحانه فهو العلة التامة لتلك السلسلة، فيكون النظام الخارجي و منه الإنسان و فعله واجب التحقق و ضروري الكون.

و ثالثة إلى أن الشيء ما لم تجتمع أجزاء علته، فلا يتحقق في الخارج، فوجود كل شيء و منه فعل الإنسان ضروري التحقق عند اجتماع أجزاء علته التامة. و ما هو كذلك كيف يتسم بالاختيار. و إلى ذلك يشير قولهم: «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

فهذه ملاكات ثلاثة للذهاب إلى الجبر عند بعض الفلاسفة.

و بذلك يتضح أنّ القول بالجبر ينقسم إلى أقسام تبعا للقول بملاكات خاصة فينقسم إلى:

1 - جبر إلهي مسند إلى علّة سماوية.

2 - جبر مادي مسند إلى علل مادية.

3 - جبر فلسفي مسند إلى علة نفسية و غيرها.

و لأجل ذلك يجب البحث عن كل قسم على حدة.

الأمر الثالث: في الاختيار بألوانه

و من شقوق هذه المسألة القول بالاختيار و هو ينقسم حسب انطلاق القائلين به عن مواضع مختلفة، إلى أقسام:

1 - الاختيار بمعنى التفويض، بمعنى أنه ليس للّه سبحانه أي صنع في فعل العبد، و أن ذات الإنسان و إن كانت مخلوقة للّه سبحانه، و لكن لا يمت فعله إليه بصلة، فهو مستقل في فعله و في إيجاده و تأثيره، حفظا لعدله سبحانه. فيكون الإنسان في هذه النظرية خالقا ثانيا في مجال أفعاله، كما أنه سبحانه خالق في سائر المجالات. و هذا مذهب «المعتزلة».

ص: 257

2 - الاختيار بمعنى تكوّن الإنسان بلا لون و ماهية، و أنّه مذ يرى النور يوجد بلا خصوصية و لا نفسية خاصة، بل يكتسب الكل بإرادته و فعله، لأنه لو ظهر على صفحة الوجود مع الخصوصية المعينة لزم كونه مجبورا في الحياة، و هذا هو منطق الوجوديين في الغرب.

و بذلك تقف على أنّ المعتزلة تنطلق من مبدأ العدل، كما أنّ الوجوديين ينطلقون من مبدأ تكون الإنسان بلا لون و لا ماهية.

3 - الاختيار بمعنى الأمر بين الأمرين لا على نحو الجبر و لا على نحو التفويض. و هذا هو موقف القرآن الكريم و أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) كما سيوافيك شرحه.

و بذلك تقف على أنّ الجبر لا يختص بالإلهي بل يعمه و المادي، كما أنّ الاختيار مثله. فالإلهي و المادي تجاه هذه المسألة متساويان و الاختلاف في ذلك ينطلق من الطرق التي يسلكها المستدل، فيلزم لتوضيح البحث إفراد كل واحد من هذه المناهج عن البقية حتى يكون الباحث على بصيرة.

الأمر الرابع: الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي

الآيات القرآنية و المأثورات التاريخية تشهد بأن فكرة الجبر كانت موجودة قبل الإسلام و قد ذكرنا بعض الآيات الدالّة على أنّ المشركين كانوا معتقدين بذلك عند البحث عن القضاء و القدر.

و من المؤسف أن يكون الاعتقاد السائد بين بعض أهل الحديث هو القول بالجبر لعلل سياسية من السلطات الغاشمة، و احتكاكات ثقافية مشبوهة بين المستسلمين من الأحبار و الرهبان، و المسلمين. و قد وقفت على بعض النصوص في ذلك فيما مضى. و إليك ما له صلة بهذا المقام.

1 - نقل القاضي عبد الجبار عن أبي علي الجبّائي في كتاب (فضل الاعتزال): «ثم حدث رأي المجبرة من معاوية لما استولى على الأمر،

ص: 258

و حدث من ملوك بني أمية مثل هذا القول. فهذا الأمر الذي هو الجبر نشأ في بني أمية و ملوكهم و ظهر في أهل الشام ثم بقي في العامّة و عظمت الفتنة فيه»(1).

2 - و قال ابن المرتضى: «ثم حدث رأي المجبرة من معاوية و ملوك بني مروان فعظمت به الفتنة»(2).

3 - و هذا معبد الجهني و هو أول من قال بنفي القدر بمعنى نفي الجبر و نشر هذه الفكرة، فقتله الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي تولى إمارة العراق من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 80. و قيل إنّ الذي تولى قتله صلبا هو نفس عبد الملك بن مروان(3).

4 - و هذا غيلان الدمشقي أخذ القول بالاختيار عن معبد الجهني، فنشر الفكرة في دمشق فكاد عمر بن عبد العزيز أن يقتله لو لا أن تراجع غيلان عن رأيه و أعلن توبته و لكنه عاد إلى هذا الكلام أيام هشام بن عبد الملك فأمر هشام بصلبه على باب دمشق، بعد أن أمر بقطع يديه و رجليه، عام 125(4).

5 - قال ابن الخياط: إنّ هشام بن عبد الملك لما بلغه قول غيلان بالاختيار، قال له: ويحك يا غيلان لقد أكثر الناس فيك، فنازعنا في أمرك، فإن. كان حقا اتّبعناك. فاستدعى هشام، ميمون بن مروان ليكلمه فقال له غيلان: أشاء اللّه أن يعصى. فأجابه ميمون: أ فعصي كارها؟ فسكت غيلان. فقطع هشام بن عبد الملك يديه و رجليه(5).

6 - و جاء في رواية ابن نباتة: إنّ عمر بن عبد العزيز لما بلغه قول

ص: 259


1- فضل الاعتزال، ص 122.
2- البحر الزخار، لابن المرتضى، ج 1، ص 39، س 17.
3- الكامل لابن الأثير ج 4، ص 456.
4- تاريخ الطبري ج 5، ص 516. و الكامل، ج 5، ص 363.
5- الانتظار لابن الخياط، ص 139.

غيلان بالاختيار استدعاه و قال له: ما تقول ؟ قال: أقول ما قال اللّه.

قال: و ما قال اللّه ؟ قال: إنّ اللّه يقول: هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً... حتى انتهى إلى قوله سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً .

قال له عمر بن عبد العزيز: اقرأ.

فلما بلغ إلى قوله سبحانه: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً ، قال: يا ابن الأتانة، تأخذ بالفرع و تدع الأصل!!(1).

فهذه النصوص التاريخية تفيد أولا: إن السلطة الأموية من لدن عصر معاوية إلى آخر حكّامها كانت تروّج فكرة الجبر، و تسوس من يقول بالاختيار بسياسة الإرهاب و القمع، و تنكل بهم أشدّ التنكيل. و الغاية من إشاعة هذه الفكرة معلومة فإنها تخلق لهم المبررات لتصرفاتهم الوحشية و انهماكهم في الملذات و الشهوات و استئثارهم بالفيء، إلى غير ذلك من جرائم الأعمال و مساوئها.

و ثانيا: إنّ معبد الجهني في العراق و تلميذه غيلان الدمشقي في الشام كانا يتبنيان فكرة الاختيار و نفي الجبر لا فكرة نفي القدر و القضاء الواردين في القرآن الكريم. و الشاهد على ذلك أنّ معبد الجهني دخل على الحسن البصري و قال له: يا أبا سعيد إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين و يأخذون أموالهم و يقولون إنما تجري أعمالنا على قضاء اللّه و قدره. فقال له الحسن البصري: كذب أعداء اللّه. انتهى. و من المعلوم أنّ الحسن البصري لم يكن ينكر ما جاء في الكتاب العزيز من أنّ : وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ * وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (2). و غير ذلك من الآيات التي مضت

ص: 260


1- لاحظ الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة، ص 174.
2- سورة القمر: الآيتان 52 و 53.

في الفصل الرابع، و إنما ينكر أن يكون القضاء و القدر مبررين لطغيان الطغاة و جرائم الطغمة الأثيمة من الحكّام. فبالنتيجة كان معبد و أستاذه الحسن من دعاة القول بالاختيار لا من دعاة منكري القضاء و القدر. و لما كان الأمويون، يرون أنّ القول بالقضاء و القدر يساوق الجبر و سلب الاختيار، اتهموا القائلين به بنفي القضاء و القدر مع أنّ بين القول بالاختيار و نفي القدر بونا بعيدا.

و يشهد على ذلك أيضا أنّ غيلان يعرب عن عقيدته في محاجته مع عمر بن عبد العزيز بالاستشهاد بقوله سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً ، فالرجل كان يتبنى الاختيار و يكافح الجبر، لا أنّه كان ينكر ما ثبت في الكتاب و السنّة الصحيحة. كما أنّه في محاجته مع ميمون بن مروان أعرب عن عقيدته بقوله: «أشاء اللّه أن يعصى ؟» قائلا بأنّه ليس هناك مشيئة سالبة للاختيار جاعلة الإنسان مجرد متفرّج في مسرح الحياة.

و أظن أنّ اتهام الرجلين و من جاء بعدهما بالقدرية تارة (نفي القضاء و القدر بالمعنى الصحيح) أو بالتفويض و أن الإنسان في غنى عن اللّه تعالى في أفعاله، أخرى، لم يكن في محله. فهؤلاء كانوا يكافحون فكرة الجبر لا نصوص الكتاب و السّنّة. و أما فكرة التفويض فإنما تمحضت و نضجت إثر إصرار الأمويين على الجبر، و اتخذته المعتزلة مذهبا في النصف الثاني من القرن الثاني، و إلاّ فالمتقدمون عليهم حتى مؤسس الاعتزال واصل بن عطاء مبرّءون عن فكرة التفويض.

فالقول بالتفويض الذي هو صورة مشوهة للاختيار، إنّما تولد من إصرار الأمويين و المتأثرين بهم من أهل الحديث على القول بالجبر من جهة، و إصرار هؤلاء الأقدمين على اختيار الإنسان و حريته في مجال الحياة.

و إلا فإنّه لم يكن من التفويض أثر في كلمات الأقدمين.

و من الأسف أنّ القول بالجبر قد بقي بين المسلمين بصورة خاصة حتى في المنهج الذي ابتدعه إمام الأشاعرة، إلى العصور الحاضرة. و المنكر إنما ينكر بلسانه و لكنه موجود في المنهج الذي ينتسب إليه.

ص: 261

و قد كان اليهود القاطنون في شبه الجزيرة العربية خير معين على إشاعة هذه الفكرة، بل منهم انبعثت.

نعم هناك رجال من أهل السنّة و الجماعة، متحررون عن عقيدة الجبر و في مقدمهم الشيخ محمد عبده فقد ردّ على من نسب الجبر إلى الكتاب العزيز أو المسلمين عامة و قال: «إن القول بالجبر قول طائفة ضئيلة انقرضت و غلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر و الاختيار و هو مذهب الجد و العمل»(1).

و لا يخفى ما في كلام الأستاذ من الملاحظة فإن الأكثرية الساحقة من أهل السّنّة على مذهب الإمام الأشعري، و سيوافيك نصوصه على القول بالجبر، فكيف يمكن أن يقال إنّ الجبر قول طائفة ضئيلة.

و على كل تقدير فقد أجاد في هذا البيان و أبان القول الحق، كما سيوافيك.

الأمر الخامس: رءوس المجبرة و أقطابها في العصور الإسلامية الأولى
1 - الجهميّة

اعتبر أصحاب الملل و النحل الطائفة الجهمية(2) أول طائفة قالت بالجبر، و وصفوها بالجبرية الخالصة، و كان جهم يخرج بأصحابه فيقفهم على المجذومين و يقول: «انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا!»، إنكارا لرحمته. و كان يقول: «لا فعل و لا عمل لأحد غير اللّه، و إنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز»(3).

ص: 262


1- رسالة «هل نحن مسيرون أم مخيّرون»، ص 11.
2- نسبة إلى جهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم، الذي قتله خالد بن عبد اللّه القسري سنة 124 ه.
3- الفرق بين الفرق، ص 128.

و قال الأشعري في (مقالات الإسلاميين): «تفرّد جهم بأمور منها:

إنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ اللّه وحده، و إنّ الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال تحركت الشجرة، و دار الفلك، و زالت الشمس»(1).

و عرفهم الشّهرستاني بأنهم يقولون: «إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، و لا يوصف بالاستطاعة و إنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له و لا استطاعة و لا إرادة و لا اختيار و إنما يخلق اللّه تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات و إذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا»(2).

2 - النجاريّة

و يليهم في القول بالجبر الطائفة النجارية(3) فقالت: إنّ أعمال العباد مخلوقة للّه و هم فاعلون و إنه لا يكون في ملك اللّه سبحانه إلاّ ما يريده و إنّ الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم على الفعل(4).

و عرفهم الشّهرستاني بأنهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها و شرها، حسنها و قبيحها، و العبد مكتسب لها، و يثبتون تأثيرا للقدرة الحادثة، و يسمّون ذلك كسبا(5).

و لأجل أنّ النجارية أضافت نظرية الكسب إلى القول بأنّ اللّه سبحانه خالق أفعال العباد، خرجت عن الجبرية الخالصة. و قد تبنّت هذه النظرية أيضا الطوائف الأخرى كما سيوافيك.

ص: 263


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 312.
2- الملل و النحل، ج 1، ص 87.
3- هم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد اللّه النجار، و له مناظرات مع النظام، توفي عام 230 ه.
4- مقالات الإسلاميين ج 1، ص 283.
5- الملل و النحل، ج 1، ص 89.
3 - الضراريّة

و يليهم في تبنّي الجبر، الطائفة الضرارية(1) فقالت: إنّ أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى حقيقة و العبد مكتسبها. و وافقت المعتزلة بأنّ الاستطاعة تحصل في العبد قبل الفعل(2).

و هذه الطائفة تسمى بالجبرية غير الخالصة أيضا، لإضافتها نظرية الكسب إلى أفعال العباد.

قال الشهرستاني: «الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى الربّ تعالى فالجبرية أصناف: فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلا و لا قدرة على الفعل أصلا. و الجبرية المتوسطة هي التي لا تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا. و أمّا من أثبت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل، و سمى ذلك كسبا، فليس بجبري. و المصنفون في المقالات، عدّوا النجارية و الضرارية من الجبرية»(3).

و لكن الحق أنّ إضافة نظرية الكسب من النجّارية و الضرارية، و من الأشاعرة تبعا لهم لا تسمن و لا تغني من جوع و لا تخرج القائل من القول بالجبر قدر شعرة، و إنما هو غطاء و تلبيس على القول بالجبر. و سيوافيك بحث الكسب بتفاسيره المختلفة من أئمة الأشاعرة. و يكفي في عد منهج الأشعري منهجا جبريا، ما ذكره في (الإبانة) و (مقالات الإسلاميين) عند بيان عقيدة أهل السنّة التي هي عقيدته (بعد رجوعه عن الاعتزال و التحاقه بمنهج أهل الحديث)، يقول: «و أقروا بأنه لا خالق إلاّ اللّه، و أنّ سيئات العباد يخلقها اللّه، و أن أعمال العبد يخلقها اللّه عز و جل. و أنّ العباد لا

ص: 264


1- هم أصحاب ضرار بن عمرو. و قد ظهر في أيام واصل بن عطاء، و قد ألف قيس بن المعتمر كتابا في الرد على ضرار سماه: «كتاب الرّد على ضرار».
2- الملل و النحل، ج 1، ص 90 و 91. و مقالات الإسلاميين، ص 129.
3- الملل و النحل، ج 2، ص 85 و 86.

يقدرون أن يخلقوا منها شيئا»(1).

فترى أنّ هذه الجمل لا تفترق عمّا ذكره الجهمية و الطائفتان الأخريان، و سيوافيك نظرية الإمام الأشعري بأدلتها و ملاحظاتها.

ص: 265


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 321.

ص: 266

مناهج الجبر

(1) الجبر الأشعري
اشارة

قد عرفت الطوائف القائلة بالجبر في العصور الإسلامية الأولى، و لكنها انقرضت و لم يبق منها إلاّ الفكرة السائدة بين جماعة من أهل السنّة و هي نظرية الإمام الأشعري، و هي عند الشهرستاني جبرية غير خالصة و لكنها عندنا لا تفترق عن الجبرية الخالصة.

إنّ الأشاعرة و إن كانوا ينزهون أنفسهم عن كونهم مجبرة، لكن الأصول التي اعتقدوها و اتخذوها أداة للبحث، لا تنتج إلاّ القول بالجبر، و إليك فيما يلي أصولهم و ما يستندون إليه في تفسير أفعال العباد.

الأصل الأول: أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه
اشارة

الأصل الأول: أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه(1)

قد عرفت أنّ من فروع التوحيد القول بأنّه لا خالق إلاّ اللّه سبحانه من غير فرق بين الذوات و أفعال العباد، و الآيات الواردة في القرآن الكريم

ص: 267


1- عنون أوائل الأشاعرة هذه المسألة باسم خلق الأعمال. و لكن المتأخرين منهم بحثوا عنها تحت عنوان أن اللّه قادر على كل المقدرات، أو أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه و تعالى وحدها، لاحظ (شرح المواقف)، ج 8، ص 145.

مطلقة تعمّ الجميع. و إنّما الاختلاف في تفسير هذا الأصل التوحيدي فالأشاعرة بما أنهم أنكروا وجود أي تأثير ظلّي لغيره سبحانه قالوا بوجود علّة واحدة قائمة مكان جميع العلل و الأسباب (المنتهية إلى اللّه سبحانه في منهج العليّة)، فلا تأثير لأي موجود سوى اللّه سبحانه، فهو الخالق و الموجد لكل شيء، و قد عرفت كلام الإمام الأشعري عند بيان معتقدات أهل السنّة و إليك كلامه في (الإبانة):

قال في الباب الثاني: «إنّه لا خالق إلاّ اللّه، و إنّ أعمال العبد مخلوقة للّه مقدرة كما قال: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ (1). و إنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا و هم يخلقون، كما قال سبحانه: هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ (2)»(3).

قال شارح المواقف: «إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه وحدها و ليس لقدرتهم تأثير فيها، و اللّه سبحانه أجرى عادته بأنّ يوجد في العبد قدرة و اختيارا. فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون فعل العبد مخلوقا للّه إبداعا و إحداثا، و مكسوبا للعبد و المراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته و إرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير و مدخل في وجوده سوى كونه محلاّ له. و هذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري»(4).

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأول: تفسير عموم قدرته تعالى لعامة الكائنات و منها أفعال البشر و أنّه لا خالق إلاّ هو.

الثاني: تفسير حقيقة الكسب الذي تدرعت به الأشاعرة في مقابل العدلية.

ص: 268


1- سورة الصّافات: الآية 96.
2- سورة فاطر: الآية 3.
3- الإبانة، ص 20.
4- شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني، ج 8، ص 146.
المقام الأول: في عموم القدرة
اشارة

قد أوضحنا فيما مضى المراد من التّوحيد في الخالقية و قلنا: إنّ المراد من أنّه لا خالق إلاّ هو ليس هو نفي التأثير عن العلل الطولية المنتهية إليه، كيف و قد نصّ القرآن الكريم على تأثير العلل الطبيعية في آثارها كرارا، فيكون معنى التوحيد في الخالقية: إنّ الخالق الأصيل غير المعتمد على شيء هو اللّه سبحانه و إن قيام غيره بالخلق و الإيجاد، بقدرته و مشيئته و لطفه و عنايته. فالكل مستمد في وجوده و فعله منه، لا غنى لهم عنه في حال من الحالات، يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (1).

و نزيد هنا بيانا فلسفيا على إبطال النظرية التي تتبناها الأشاعرة.

الوجود حقيقة واحدة

إنّ سلب وصف المؤثريّة و العليّة عن كل شيء حتى على نحو التبعية و الظلية، مضافا إلى أنّه مخالف للحكم الفطري الذي يجده كل إنسان في نفسه حيث يعتقد بأنّ للأشياء و للعقاقير و النباتات آثارا، و لا معنى لخلقه سبحانه هذا الحكم الخاطئ و الباطل في نفوسنا، أقول - مضافا إلى ذلك - إنّ البرهان الفلسفي يرده بوضوح، و ذلك أنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة في جميع مراتبها، من الواجب إلى الممكن، فالجميع يشترك في حقيقة واحدة نعبر عنها ب «طرد العدم». و لأجل تلك الوحدة نطلق الوجود على الجميع بمعنى واحد، و لو كانت حقيقته في الواجب مباينة لحقيقته في الممكن لوجب أن يكون لفظ الوجود مشتركا لفظيا بينهما، و أن يطلق على الواجب بملاك آخر.

فإذا كانت حقيقة الوجود بين عامة المراتب حقيقة واحدة، فإذا ثبت التأثير لمرتبة عليا منه، يجب أن يكون ثابتا للمراتب الدنيا أيضا لكن حسب ما يناسب شأنها، فإنّ حقيقة الوجود - حسب الفرض - موجودة في جميع

ص: 269


1- سورة فاطر: الآية 15.

المراتب فإذا كانت مؤثرة في مرتبة كالواجب، يجب أن تكون مؤثرة في غيرها أخذا بوحدة الحقيقة السائدة على المراتب.

نعم يمكن أن يقال إنّ التأثير من آثار شدة الوجود و قوته، فلا يصح تعميم أثر مرتبة إلى أخرى. و لكنه ليس بكلام تام، لأن الشدة ليست شيئا زائدا على نفس الحقيقة بل الشدة شدة الحقيقة و تأكدها، فإذا كانت الشدّة من سنخ الوجود و الحقيقة، يقتضي ذلك أن يكون الأثر لحقيقة الوجود، غاية الأمر كما تختلف المراتب من حيث الشدّة و الضعف، تختلف آثارها كذلك أيضا. فالحقيقة في جميع المراتب واحدة تختلف بالشدّة و الضعف، و الأثر المترتب على الحقيقة واحد لكنه يختلف بالشدّة و الضعف أيضا.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يحكي سريان العلم إلى جميع الموجودات حتى الجمادات بقوله: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً (1).

فاللّه سبحانه عالم، كما أنّ غيره عالم، و لكن يختلف الأثر باختلاف الموضوع. و بذلك يظهر أنّ القول بحصر الخالقية باللّه سبحانه و نفيها عن غيره بتاتا، حتى بنحو المعنى الحرفي، يخالف الآيات القرآنية أولا، و الفطرة الإنسانية ثانيا، و البرهان الفلسفي ثالثا. غير أنّ إكمال البحث يتوقف على تحليل ما اعتمد عليه الأشعري من البرهان العقلي في هذا المقام.

الأدلة العقلية على خلق الأعمال
اشارة

إنّ الشيخ الأشعري و تلاميذ منهجه أقاموا حججا و أدلة، بل شبهات و تشكيكات على خلق الأعمال، و أنّ أعمال العباد مخلوقة للّه سبحانه

ص: 270


1- سورة الإسراء: الآية 44.

مباشرة، و ليس لقدرة العبد فيها دور. و لأجل إيقاف الباحث على مدى وهن هذه الحجج نأتي ببعضها منهم.

الدليل الأول:

إنّ المؤمن ليس موجدا لإيمانه كما أنّ الكافر ليس موجدا لكفره، لأن الكافر يقصد الكفر بما أنه أمر حسن، و لكنه في الحقيقة قبيح، كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنه غير متعب و هو ليس كذلك.

فينتج أنّه إذا لم يكن المحدث للإيمان و الكفر بما لهما من الخصوصيات، شخص المؤمن و الكافر، يكون المحدث هو اللّه سبحانه(1).

يلاحظ عليه: أولا، بالنقض بأنه لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء الذي يتخيّل أنّه خمر، لم يشرب ماء و لم يصدر منه عمل و لا فعل لأنّه قصد شرب الخمر و كان الواقع شرب الماء، فما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

و ثانيا: إنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية و الصفات الانتزاعية. فالأولى كالحرارة و البرودة تحتاج إلى محدث كما يحتاج موصوفها إليه كذلك. و أمّا الثانية كالصغر و الكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء فلا تحتاج إلى صانع وراء محدث ذات الشيء، لأن هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن و مخترعاته، فالجسم الذي هو بقدر ذراع أكبر من الجسم الذي على نصفه، و الفاعل يوجد ذات الجسمين لا وصفهما و إنما ينتقل الإنسان إليهما عند المقايسة، و على ضوء ذلك فالموجد للإيمان إنما يوجد نفس الإيمان و الموجد للكفر يوجد ذات الكفر، و أمّا كون الأول مؤلما متعبا، و الثاني قبيحا فلا يحتاج إلى فاعل سوى الموجد الذي أوجد ذات الإيمان أو الكفر. فإن الوصفين أعني كون الإيمان متعبا و كون الكفر قبيحا إنما يحصلان عند المقايسة، فالإيمان بما أنّه يجعل الإنسان مسئولا أمام اللّه أولا، و أمام الناس ثانيا، يستتبع الإتعاب. و الكفر بما أنّه على خلاف

ص: 271


1- اللمع، ص 71-72. و عبارة اللمع غير خالية عن البسط المملّ و التعقيد المخل، و ما ذكرناه ملخّص مراده.

الفطرة و الحقيقة، فإذا قيس إليهما يتصف بالقبح، فالإتعاب و القبح لا يحتاجان إلى فاعل سوى موجد الإيمان و الكفر.

و العجب أنّ الأشعري يعترف بالحسن و القبح العقليين هنا مع أنّ منهجه فيهما غير ذلك كما وقفت عليه في محله.

الدليل الثاني:

لا شك أنّ الحركة الاضطرارية مخلوقة للّه سبحانه.

و ما هو الملاك لإسنادها إلى اللّه، هو الملاك في حركة الاكتساب (الحركة الاختيارية). فما دلّ على أنّ حركة الاضطرار مخلوقة للّه تعالى، يجب به القضاء على أنّ حركة الاكتساب مخلوقة للّه تعالى، و ذلك لوحدة ملاكهما، و هو الحدوث(1).

يلاحظ عليه، إنّ اشتراكهما في الملاك لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضا محدثا، و أمّا وحدة محدثيهما و أن محدث الأولى هو نفس محدث الثانية، فلا يدل عليه البرهان، لأن نسبة الحركة الاضطرارية إلى اللّه و سلبها عن الإنسان لأجل خروجها عن اختياره و إرادته، فتنسب إلى اللّه سبحانه. و أمّا الحركة الاكتسابية فهي واقعة في إطار اختيار الإنسان و إرادته فلا وجه لمقايسة إحداهما بالأخرى.

نعم، لو قال أحد بمقالة الأشعري، و أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل، كان له أن يسند الحركتين إلى اللّه سبحانه. و لكنه أوّل الكلام و الاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدعى نفس الدليل.

ثم إنّ المتأخرين من الأشاعرة، كالرازي في (محصّله)، و الإيجي في (مواقفه)، و التفتازاني في (شرح مقاصده)، و القوشجي في (شرحه على التجريد)، بحثوا عن المسألة (خلق الأعمال) تحت عنوان عموم قدرته سبحانه لكل شيء و أن كل موجود واقع بقدرته، و لأجل إكمال البحث نأتي ببعض ما ذكروه من الأدلة.

ص: 272


1- اللمع، ص 74-75، و الدليل منقول بالمعنى.
الدليل الثالث -

لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه، لكان عالما بتفصيل أفعاله و هذا معنى قوله سبحانه: أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (1). و بما أنّ الإنسان غير عالم بتفاصيل أفعاله بشهادة أنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى، و لا نقصد جزئيات تلك الحركة، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها(2).

يلاحظ عليه: إنّ الفاعل لو كان قاصدا للفعل بالتفصيل، يوجده به، و لو كان قاصدا بالإجمال يوجده كذلك، فصانع شربة كيميائية من عدة عناصر مختلفة يقصد إدخال كل عنصر فيها على وجه التفصيل، فيلزمه العلم بها تفصيلا، و القائم بالأكل و التكلم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل، و يقصد مضغ كل حبة أو التكلم بكل حرف و كلمة إجمالا، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.

الدليل الرابع -

لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد، فلو اختلفت القدرتان في المتعلق، مثل ما إذا أراد تعالى تسكين جسم و أراد العبد تحريكه، فإما أن يقع المرادان، و هو محال. أو لا يقع واحد منهما و هو أيضا محال، لاستلزامه ارتفاع النقيضين. أو يقع أحدهما دون الآخر و هو أيضا محال، لأن وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر لأن اللّه تعالى و إن كان قادرا على ما لا نهاية له و العبد ليس كذلك إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة اللّه و قدرة العبد(3).

يلاحظ عليه: إننا نختار الشقّ الآخر أي وقوع مراد اللّه دون مراد العبد لأنّ قدرة اللّه في الصورة المفروضة، قدرة فعلية تامة في التأثير و قدرة العبد قدرة ممنوعة، و من شرائط القدرة الفعلية أن لا تكون ممنوعة من ناحية قدرة بالغة كاملة. فتعلق قدرته سبحانه و إرادته على الحركة تكون مانعة عن

ص: 273


1- سورة الملك: الآية 14.
2- الأربعون للرازي، ص 231-232. و شرح التجريد للقوشجي، ص 447.
3- الأربعون للرازي، ص 232.

وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير و الإيجاد، فإحداهما مطلقة و الأخرى مشروطة.

الدليل الخامس:

إنّ نسبة ذاته إلى جميع الممكنات على السوية فيلزم أن يكون تعالى قادرا على جميع الممكنات و على جميع مقدورات العباد.

و على هذا ففعل العبد إمّا أن يقع بمجموع القدرتين، أعني قدرة اللّه و قدرة العبد، و إمّا أن لا يقع بواحدة منهما، و إمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأخرى. و الأقسام الثلاثة باطلة، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على الإيجاد و التكوين(1).

يلاحظ عليه: إنّ لعموم قدرته سبحانه تفسيرين:

1 - أن يتحقق كل شيء بقدرته سبحانه مباشرة، و بلا واسطة كما هو الحال في الصادر الأول في جميع المذاهب.

2 - أن يتحقق بقدرة مفاضة منه إلى العبد، فيقوم العبد بإيجاده بحول و قوّة منه سبحانه، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة و مقدور للّه سبحانه عن طريق القدرة التي تفضل بها عليه و أقدر عبده بها على الفعل. فيكون الفعل فعل اللّه من جهة و فعل العبد من جهة أخرى.

و بعبارة أخرى إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه فالجليل و الحقير و الثقيل و الخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء قيامه بكل شيء مباشرة و خلع التأثير عن العلل و الأسباب، بل هو سبحانه يظهر قدرته و سلطانه عن طريق خلق الأسباب و بعث العلل نحو المسببات و المعاليل فالكل مخلوق له، و مظاهر قدرته و حوله.

فالأشاعرة خلعوا الأسباب و العلل و هي جنود اللّه سبحانه، عن مقام التأثير و الإيجاد. كما أنّ المفوضة عزلت سلطانه عن ملكه و جعلت بعضا منه

ص: 274


1- الأربعون للرازي، ص 232.

في سلطان غيره. و الحق الذي عليه البرهان و يصدقه الكتاب كون الفعل موجودا بقدرتين لكن لا بقدرتين متساويتين و لا بمعنى علتين تامتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأولى و شئونها و جنودها؛ وَ مٰا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّٰ هُوَ (1). و قد جرت سنة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها فجعل لكل شيء سببا، و للسبب سببا إلى أن ينتهي إلى اللّه سبحانه، و المجموع من الأسباب الطولية علة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل و نكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصّادق (عليه السّلام):

قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكل شيء سببا و جعل لكل سبب شرحا»(2).

ثم إنّ للقوم من المعتزلة و الأشاعرة أقوالا لا توافق الأصول الفلسفية و لا الكتاب العزيز، نذكرها في ملحق خاص آخر الكتاب خشية أن يطول المقام(3).

إلى هنا تم الكلام في المقام الأول و هو تفسير عموم قدرته تعالى و كون أفعال العباد مخلوقة له سبحانه.

***

المقام الثاني: في حقيقة الكسب
اشارة

إنّ القول بخلق الأفعال لما كان مستلزما للجبر حاول الأشعري معالجته بإضافة الكسب إلى الخلق، قائلا بأنّ اللّه هو الخالق و العبد هو الكاسب، و ملاك الطاعة و العصيان هو «الكسب»، دون «الخلق». فكل فعل صادر عن كل إنسان مريد يشتمل على جهتين: «الخلق» و «الكسب». فالخلق منه سبحانه و الكسب من الإنسان. و قد عرفت أنّ نظرية الكسب التي تدرع بها الأشاعرة أخذتها عن النجارية و الضرارية، فقد سبقتاها في تبني هذه

ص: 275


1- سورة المدثّر: الآية 31.
2- الكافي، ج 1، باب معرفة الإمام، الحديث 7، ص 183.
3- لاحظ الملحق الأول في آخر الكتاب.

النظرية حتى تخرج عن الجبرية الخالصة التي تتبناها الجهمية. و الحافز لإضافة هذا الأمر ليس إلاّ الخروج عن مضيق الجبر إلى فسيح الاختيار لكن مع الالتزام بالأصل الثابت عندهم أعني كونه سبحانه خالقا «لكل شيء مباشرة و بلا واسطة». و المهم هو الوقوف على حقيقة هذه النظرية، فقد اضطربت عبارات القوم في تفسيرها إلى حدّ صارت من الألغاز حتى قال الشاعر فيها:

مما يقال و لا حقيقة عنده *** معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعريّ ، و الحال *** عند البهشمي، و طفرة النّظّام(1)

و ها نحن نأتي فيما يلي بنصوصهم في المقام:

أ - الكسب: وقوع الشيء من المكتسب له بقوة محدثة

إنّ جماعة من الأشاعرة فسّروا الكسب بتأثير قدرة العبد المحدثة في الفعل و يظهر هذا التفسير من عدة:

منهم: الشيخ الأشعري حيث يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية و الحركة الاكتسابية: «لما كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسبا، لأن حقيقة الكسب هو أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة»(2).

و منهم: المحقق التفتازاني حيث يقول في شرح (العقائد النسفيّة):

«فإن قيل: لا معنى لكون العبد فاعلا بالاختيار إلاّ كونه موجدا لأفعاله بالقصد و الإرادة، و قد سبق أنّ اللّه تعالى مستقل بخلق الأفعال و إيجادها، و معلوم أنّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين.

ص: 276


1- القضاء و القدر لعبد الكريم الخطيب المصري، ص 185.
2- اللمع، ص 76. و لا يخفى أنّ ما نسبه إليه صاحب (شرح المواقف) في المقام و إن كان أوفق بمنهج الأشعري لكنه ينافي ما ذكره الشيخ في (اللمع). و قد ذكرنا كلام الشارح في صدر البحث فلاحظ.

قلنا: لا كلام في قوة هذا الكلام و متانته، إلاّ أنه لما ثبت (من جانب) بالبرهان أنّ الخالق هو اللّه تعالى و ثبت (من جانب آخر) بالضرورة أنّ لقدرة العبد و إرادته مدخلا في بعض الأفعال كحركة اليد دون البعض كحركة الارتعاش، احتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأنّ اللّه تعالى خالق و العبد كاسب»(1).

يلاحظ عليه: إنّه بعد لم يخرج عن هذا المضيق بل قال بأصلين متعارضين، فإذا ثبت بالبرهان أنّه لا خالق إلاّ هو تعالى، و فسّرت خالقيته العامة بكونه فاعلا مباشرا لكل فعل، لم يبق لتأثير قدرة العبد مجال. فالقول بالأصلين جمع بين المتعارضين.

و بعبارة ثانية، إنّ الخلق بتمام معنى الكلمة، إذا كان راجعا إليه و لا تصح نسبته إلى غيره كيف يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير، فلو كان لها تأثير يكون الفعل مخلوقا للعبد أيضا لا للّه وحده.

و باختصار، لو كانت القدرتان في عرض واحد، فإنه يستلزم اجتماع القدرتين على مقدور واحد. و لو كانت قدرة العبد في طول قدرة اللّه سبحانه، يلزم كون الفعل مخلوقا للعبد أيضا، و هم يفرون من نسبة الخلق و الإيجاد إلى غير اللّه سبحانه.

و منهم: القاضي الباقلاني فقال: «قد قام الدليل على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست الأفعال أو وجوهها و اعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أخر هي وراء الحدوث». ثم ذكر عدّة من الجهات و الاعتبارات، و قال: «إنّ الإنسان يفرّق فرقا ضروريا بين قولنا: «أوجد»، و قولنا: «صلى» و «صام» و «قعد» و «قام». و كما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى، فإذا جاز لكم إثبات

ص: 277


1- شرح العقائد النسفية، ص 115.

صفتين هما حالتان، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة، و من قال هي حالة مجهولة، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها، و عرّفنا أيّ شيء هي، و مثّلناها كيف هي»(1).

و حاصل كلامه: إنّ للقدرة الحادثة تأثيرا في حدوث العناوين و الخصوصيات التي هي ملاك الثواب و العقاب، و هذه العناوين وليدة قدرة العبد. مثلا: وجود الفعل مخلوق للّه سبحانه لكن تعنونه بعنوان الصوم و الصلاة و الأكل و الشرب راجع إلى العبد و القدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه: إنّ هذه العناوين و الجهات لا تخلو من صورتين:

إمّا أن تكون من الأمور الوجودية فعندئذ تكون مخلوقة للّه سبحانه حسب الأصل المسلم.

و إمّا أن تكون من الأمور العدمية، فعندئذ لا يكون للكسب واقعية خارجية بل يكون أمرا ذهنيا غنيا عن الإيجاد و القدرة، فكيف تؤثر القدرة فيه، و كيف يكون ملاكا للثواب و العقاب.

و باختصار: إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية متحققة، فحينئذ يكون (الكسب) مخلوقا للّه تعالى و لا يكون للعبد نصيب في الفعل، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمرا وهميا و ذهنيا فحينئذ لا يكون العبد مصدرا لشيء حتى يثاب أو يعاقب.

ب - الكسب: إيجاده سبحانه الفعل مقارنا لإرادة العبد و قدرته

يظهر من بعض أئمة الأشاعرة أنّ المراد من الكسب هو قيامه سبحانه بإيجاد الفعل مقارنا لإرادة العبد و قدرته من دون أن يكون لقدرة العبد تأثير.

و هذا يظهر من جماعة:

منهم: الغزالي و هو من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس

ص: 278


1- الملل و النّحل، ج 1، ص 97-98.

و أوائل السادس قال في (الاقتصاد) ما هذا حاصله: «إنما الحق إثبات القدرتين، على فعل واحد، و القول بمقدور منسوب إلى قادرين، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، و هذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان و اختلف وجه تعلقهما فتوارد القدرتين المتعلقتين على شيء واحد غير محال».

ثم حاول بيان تغاير الجهتين، فلاحظ(1).

و منهم، الفاضل القوشجي حيث قال: «و المراد بكسبه إياه، مقارنته لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له»(2).

يلاحظ عليهما: إنّ دور العبد في أفعاله على هذا التقرير ليس إلاّ دور المقارنة، فعند حدوث القدرة و الإرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل، و من المعلوم أنّ تحقق الفعل من اللّه مقارنا لقدرته، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد. و معه كيف يتحمل مسئوليته إذ لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه، و عندئذ تكون الحركة الاختيارية كالحركة الجبرية.

و الحق أنّ الأشاعرة مع أنهم مالوا يمينا و شمالا في توضيح الكسب لم يأتوا بعبارة واضحة مقنعة. و لأجل ذلك نرى أنّ التفتازاني يعترف بقصور العبارات عن تفهيم المراد حيث يقول: «إن صرف العبد قدرته و إرادته إلى الفعل كسب، و إيجاد اللّه تعالى عقيب ذلك خلق، و المقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين، فالفعل مقدور للّه بجهة الإيجاد و مقدور العبد بجهة الكسب، و هذا القدر من المعنى ضروري، و إن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق اللّه تعالى و إيجاده مع ما فيه للعبد من القدرة و الاختيار(3).

ص: 279


1- الاقتصاد في الاعتقاد، ص 47، طبعة البابي الحلبي بمصر.
2- شرح التجريد له، ص 445.
3- شرح العقائد النسفية، ص 117.

يلاحظ عليه أمران:

1 - إنّ مراده من الصرف هو توجه قدرة العبد إلى الفعل، فمجرد نوجهها إلى الفعل و إن لم يكن دخيلا في وجود الفعل، كسب. و من المعلوم أنّ صرف التوجه لا يعدو عن نية الفعل فكما أنّها لا تؤثر في المسئولية إذا نوى هو و قام الآخر به، فهكذا في المقام.

2 - إنّ الشيخ التفتازاني يعترف بعجزه عن تفسير الكسب.

و هناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه قال: «إنّ فساد المذهب يعلم بأحد طريقين:

أحدهما: أن يتبين فساده بالدليل.

الثاني: أن يتبين أنّه غير معقول في نفسه.

و المقام (الكسب) من قبيل الثاني فإذا تبين أنّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مئونة الكلام عليه، لأن الكلام على ما لا يعقل لا يمكن.

و الذي يبين لك صحة ما نقوله أنّه لو كان معقولا لكان يجب أن يعقله مخالف المجبرة في ذلك من الزيدية و المعتزلة و الخوارج و الإمامية، فإن دواعيهم متوفرة و حرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى. فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم، و تنائي ديارهم، و تباعد أوطانهم، و طول مجادلتهم في هذه المسألة من ادعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهمه، دل على أنّ ذلك مما لا يمكن اعتقاده و الإخبار عنه البتّة.

و مما يدل على أنّ الكسب غير معقول هو أنّه لو كان معقولا لوجب - كما عقله أهل اللغة و عبروا عنه - أن يعقله غيرهم من أهل اللغات و أن يضعوا له عبارة تنبي عن معناه. فلما لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة دل على.

أنه غير معقول»(1).

ص: 280


1- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص 364-366.
إنكار الكسب من محققي الأشاعرة

الأشاعرة و إن أصرّوا على نظرية الكسب إلاّ أنّ هناك رجالا منهم أدركوا جفاف النظرية و مضاعفاتها السيئة، فنقضوا ما أبرموه و أجهروا بالحقيقة. و نخص بالذكر منهم رجالا ثلاثة:

الأول: إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (ت 478)، فقد صرّح بتأثير قدرة العباد في أفعالهم، و أنّ قدرتهم تنتهي إلى قدرة اللّه سبحانه، و أنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب و المسببات، و كل سبب يستمد من سببه المقدم عليه، و في الوقت نفسه يستمد ذاك السبب من آخر، إلى أن يصل إلى اللّه سبحانه و هو الخالق للأسباب و مسبباتها المستغني على الإطلاق»(1).

الثاني: الشيخ الشعراني (ت 973) و هو من أقطاب الحديث و الكلام في القرن العاشر فقد وافق إمام الحرمين في هذا المجال، و قال من زعم أنه لا عمل للعبد فقد عاند، فإن القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها و عدمها سواء.

و من زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك، فلا بد أنه مضطر على الاختيار(2).

الثالث: الشيخ محمد عبده (ت 1323) فقد خالف الرأي العام عند الأشاعرة و صرّح بتأثير قدرة العبد في فعله و لم يبال في ذلك باعتراض رجال الأزهر الذين كانوا يكفّرون من قال بالعلّة الطبيعية أو بمطلق العلّة غيره سبحانه و يرددون في ألسنتهم قول القائل:

و من يقل بالطّبع أو بالعلّة *** فذاك كفر عند أهل الملّة

ص: 281


1- لاحظ نص كلامه في الملل و النحل، ج 1، ص 98-99 و هو بشكل أدق خيرة الحكماء و الإمامية جمعاء.
2- اليواقيت و الجواهر في بيان عقيدة الأكابر، للشعراني، ص 139-141.

قال الإمام عبده في كلام طويل: منهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله و استقلاله المطلق و هو غرور ظاهر(1).

و منهم من قال بالجبر و صرّح به و منهم من قال به و تبرأ من اسمه(2) و هو هدم للشريعة و محو للتكاليف و إبطال لحكم العقل البديهي، و هو عماد الإيمان.

و دعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله(3) يؤدي إلى الإشراك باللّه - و هو الظلم العظيم - دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب و السنّة. فالإشراك اعتقاد أنّ لغير اللّه أثرا فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظاهرة، و أنّ لشيء من الأشياء سلطانا على ما خرج عن قدرة المخلوقين...»(4).

و قد وقف مفتي الديار المصرية على هذا النوع من التفكير عن طريق اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) و اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي، فقد كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية و الفلسفية و الاجتماعية و السياسة.

بقيت هنا آراء غير قيّمة لبعض الأشاعرة في تفسير الكسب لا يهمنا ذكرها(5).

ص: 282


1- يريد المعتزلة.
2- يريد الأشاعرة.
3- يريد من الكسب، الإيجاد و الخلق لا الكسب المصطلح عند الأشاعرة كما هو واضح لمن لاحظ كلامه.
4- رسالة التوحيد، ص 59-62.
5- راجع في الوقوف عليها، «أبحاث في الملل و النحل» الجزء الثاني، ص 140-158.
القرآن و خلق الأعمال

قد عرفت الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة على مسألة خلق أعمال العباد بقدرة العباد وحدها، و لكن للقوم أدلّة سمعية نشير إلى بعضها. فقد استدل الشيخ الأشعري عليها في كتاب (الإبانة) بآيتين:

الآية الأولى: قوله سبحانه: أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ * وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ (1).

يلاحظ على الاستدلال أمران:

أ - إنّ الاستدلال مبني على كون «ما» في كلامه سبحانه، مصدرية و إنّ معنى الآية: و اللّه خلقكم و عملكم. و لكن الظاهر أن «ما» موصولة بقرينة قوله أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ ، و المراد من الموصول هناك الأصنام و الأوثان، و وحدة السياق تقتضي كون «ما» في الآية الثانية موصولة أيضا، فيكون معنى الآية: «أ تعبدون الأصنام التي تنحتونها و اللّه خلقكم أيها العبدة و الأصنام التي تعملونها». و تتم الحجة على المشركين بأنهم و معبوداتهم مخلوقات اللّه سبحانه، فلا وجه لترك عبادة الخالق و عبادة المخلوق.

و أمّا إذا قلنا بكون «ما» مصدرية، فتفقد الآية الثانية صلتها بالأولى و يكون مفاد الآيتين: «أ تعبدون الأصنام التي تنحتونها و اللّه خلقكم أيها العبدة و خلق أعمالكم و أفعالكم»، و الحال أنّه ليس لعملهم صلة بعبادة ما ينحتونه.

ب - إنّه لو كانت «ما» مصدرية لتمت الحجة على غير صالح الخليل و لانقلبت عليه، إذ عندئذ ينفتح لهم باب العذر بحجة أنّه لو كان اللّه سبحانه هو الخالق لأعمالنا فلما ذا توبخنا و تنددنا بعبادتنا إيّاهم.

الآية الثانية: قوله سبحانه: هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ

ص: 283


1- سورة الصافات: الآيتان 95 و 96.

اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ (1) .

يلاحظ عليه: إنّ الآيات الدّالة على حصر الخالقية باللّه سبحانه كثيرة في القرآن الكريم(2).

لكن المهم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات فإن لهذا القسم منها احتمالين لا يتعين أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأخر، و دونك الاحتمالين:

أ - حصر الخلق و الإيجاد على وجه الإطلاق باللّه سبحانه و نفيه عن غيره بتاتا على وجه الاستقلال و التبعية و هذا ما تتبناه الأشاعرة.

و يردّه ما مضى من الآيات الكثيرة الدّالة على أنّ للعلل الطبيعية دورا في عالم الوجود بإذن اللّه سبحانه(3).

ب - إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء منحصرة باللّه سبحانه، و لكن غيره يقوم بأمر الخلق و الإيجاد بمشيئته و إرادته، و الكل جنود للّه سبحانه. و يدل على هذه النظرية الآيات التي تثبت للموجودات تأثيرا و للإنسان دورا في أفعاله.

و نزيد هنا بيانا مضافا إلى ما مرّ في التوحيد في الخالقية: إنّ الآيات الواردة حول أفعال الإنسان على قسمين؛ قسم يعد الإنسان عاملا فاعلا لأفعاله، و قسم ينسب قسما من الأفعال إلى الإنسان. فمن القسم الأول قوله سبحانه: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ (4).

و قوله سبحانه: أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ (5).

و قوله سبحانه: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ * وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ

ص: 284


1- سورة فاطر: الآية 3.
2- لاحظ الأنعام: الآيتان 101 و 102. و الحشر: الآية 24. و الأعراف: الآية 54.
3- لاحظ بحث التّوحيد في الخالقية المتقدم.
4- سورة التوبة: الآية 105.
5- سورة محمد: الآية 33.

يُرىٰ (1) .

و أمّا القسم الثاني: فحدّث عنه و لا حرج، فقد نسب في الذكر الحكيم كثيرا من الأفعال إلى الإنسان كالجهاد، و الإنفاق، و الإحسان، و السرقة، و التطفيف، و الكذب و غير ذلك من صالح الأعمال و رديها.

فعل واحد ينسب إلى اللّه و إلى العبد معا

هناك قسم ثالث من الآيات ينسب الفعل الواحد إلى نفسه سبحانه، و إلى عبده في ضمن آيتين أو آية واحدة.

1 - يقول سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلرَّزّٰاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ (2).

فيخصّ الرّازقية بنفسه بشهادة تقدم الضمير المنفصل «هو». و في الوقت نفسه يأمر الإنسان بالقيام بالرزق بالنسبة إلى من تحت يده و يقول: وَ لاٰ تُؤْتُوا اَلسُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهٰا وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (3).

2 - يقول سبحانه: أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزّٰارِعُونَ (4). فيخص الزارعية بنفسه و ذلك معلوم من سياق الآيات.

و في الوقت نفسه يعد الإنسان زارعا و يقول: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ ... (5). فكيف تجتمع هذه التوسعة مع الحصر السابق.

3 - يقول سبحانه: كَتَبَ اَللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (6).

ص: 285


1- سورة النجم: الآيتان 39 و 40.
2- سورة الذاريات: الآية 58.
3- سورة النساء: الآية 5.
4- سورة الواقعة: الآيتان 63 و 64.
5- سورة الفتح: الآية 29.
6- سورة المجادلة: الآية 21.

فينسب الفعل الواحد و هو الغلبة في وقت واحد إلى نفسه و رسله.

4 - يقول سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ (1).

فيعد نفسه ناصرا و في الوقت نفسه يعد المؤمنين ناصرين أيضا.

5 - يقول سبحانه: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهٰا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي، وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِي (2). ترى أنّه سبحانه ينسب أمر الخلق إلى رسوله بصراحة، حتى أنّ الرسول يصف نفسه به و يقول أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ (3). و مع ذلك أنّ القرآن الكريم يخصّ الخالقية باللّه سبحانه في كثير من الآيات التي تعرفت عليها، و لا يحصل الجمع بين هذه الآيات إلاّ بالقول بأنّ الخالقية النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء تختص به سبحانه، و مثله سائر الأفعال من الرزق و الزرع و الغلبة و النصرة، فالكل بالمعنى السابق مختص به سبحانه لا يعدوه، لأنها من خصائص الواجب و لا يتصف بها الممكن. و أمّا الفعل المعتمد على الواجب المستمد منه فهو من شأن العبد يقوم به بإقدار منه سبحانه و إذن. و لأجل ذلك يكرر سبحانه لفظة «بإذني» أو «بإذن اللّه» في الآيات المتقدمة و هذا واضح لمن عرف الفباء القرآن. و الأشعري و من تبعه قصروا النظر على قسم واحد، و غفلوا عن القسم الآخر، و لا يقف على ذلك إلاّ من فسّر الآيات تفسيرا موضوعيا(4).

ص: 286


1- سورة محمد: الآية 7.
2- سورة المائدة: الآية 110.
3- سورة آل عمران: الآية 49.
4- المراد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة حول موضوع ما، ثم عرض بعضها على البعض الآخر، حتى يتبين المراد و المفهوم. و هذا نمط و طراز حديث من التفسير أبدعه شيخنا الأستاذ العلامة جعفر السبحاني و خرج منه أجزاء خمسة باسم «مفاهيم القرآن».
الأصل الثاني: علمه الأزلي المتعلق بأفعال العباد

هذا هو الأصل الثاني الذي اعتمد عليه اتباع الإمام الأشعري.

و بيانه: إنّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العباد فهو ممتنع الصدور عن العبد، و إلاّ جاز انقلاب العلم جهلا. و ما علم اللّه وجوده من أفعاله، فهو واجب الصدور عن العبد، و إلاّ جاز ذلك الانقلاب، و لا مخرج عنهما لفعل العبد. فيبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب، و الممتنع.

و كأن هذا الاستدلال، استدلال نقضي على القائلين بالاختيار.

و لأجل ذلك يقول المستدل بعد نقله: «إن ما ذكرنا يبطل التكليف لابتنائه على القدرة و الاختيار، فما لزم القائلين بمسألة خلق الأعمال فقد لزم غيرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلق بالأشياء» حتى أنّ الإمام الرازي ذكر هذا الدليل متبجحا بقوله: «و لو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلا بالتزام مذهب هشام و هو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها»(1).

أقول: يلاحظ عليه: مضافا إلى أنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم أمر غير ثابت و لم يقل به بعد انتمائه إلى الإمام الصادق (عليه السّلام): إنّ الإجابة عن هذا الاستدلال واضحة جدا، و إنّ زعم الرازي أنّ الثقلين لا يقدرون على حلّ عقدته، و هي كما أوضحناه عند البحث عن القضاء و القدر أنّ علمه الأزلي لم يتعلق على صدور كل فعل عن فاعله على وجه الإطلاق، بل تعلق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. و على ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر، بلا شعور و لا اختيار، كما تعلق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش على وجه الجبر عالما بلا اختيار، و لكن تعلق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار و الحرية. فتعلق علمه بوجود

ص: 287


1- شرح المواقف، ج 8، ص 155.

الإنسان و كونه فاعلا مختارا، و أنّ كل فعل منه يصدر اختيارا، و مثل هذا العلم يؤكد الاختيار و يدفع الجبر عن ساحة الإنسان، كما أوضحناه فيما مضى(1).

و في المقام كلمات للمحققين أوردناها في ملحق خاص، فلاحظ(2).

***

الأصل الثالث: إرادته الأزلية المتعلقة بأفعال العباد
اشارة

هذا هو الأصل الثالث الذي اعتمد عليه الأشاعرة، قالوا: ما أراد اللّه وجوده من أفعال العباد وقع قطعا، و ما أراد اللّه عدمه منها لم يقع قطعا، فلا قدرة له على شيء منهما(3).

يلاحظ عليه: إنّ هذا الاستدلال نفس الاستدلال السابق لكن بتبديل العلم بالإرادة، فيظهر الجواب عنه مما قدمناه من الجواب عن سابقه. و بما أنّ هذا البحث مما كثر النقاش فيه من جهات أخرى نفيض القول فيه حسب ما يسعه المقام، فيقع البحث في جهات:

الجهة الأولى:

هل إرادته سبحانه نفس علمه بالأصلح أو شيء آخر؟. قد أوضحنا الحال فيه عند البحث في الصّفات الثبوتية و قلنا إنّ الإرادة صفة كمال لا يمكن سلبها عن الذات بما هي كمال، و هي غير العلم. نعم، الإرادة المتجددة الحادثة المتدرجة الوجود، لا تليق بساحته سبحانه، و إنما اللائق بها كمال الإرادة متجردة عن وصمة الحدوث و التدريج و إن لم نعرف حقيقتها.

الجهة الثانية:

على القول بأنّ إرادته غير علمه وقع الكلام في شمول

ص: 288


1- راجع في توضيح الجواب بحث القضاء و القدر.
2- لاحظ الملحق الثاني في آخر الكتاب.
3- شرح المواقف، ج 8، ص 156.

إرادته سبحانه لأفعال الإنسان، أو أنّ أفعاله خارجة عن إطار الإرادة الإلهية.

فالمعتزلة على الثاني - حفظا لاختيار الإنسان و تجنبا عن القول بالجبر - و الأشاعرة على الأول لكن بالالتزام بتعلق إرادته سبحانه على أفعال البشر من غير واسطة كما هو الحال في غير الأفعال.

و أمّا الإمامية فقد اختلفت آراؤهم، فيظهر من الشيخ الصدوق سعة إرادته سبحانه لأفعال العباد، لكن بوجه مجمل لا يعلم كنه مراده منه.

و ذهب الشيخ المفيد إلى خلافه و قال: «إنّ اللّه تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الأفعال و لا يشاء إلا الجميل من الأعمال و لا يريد القبائح و لا يشاء الفواحش، تعالى اللّه عمّا يقول المبطلون علوا كبيرا. قال اللّه تعالى:

وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ و قال: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ ...» إلى أن قال: «فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك التخفيف و اليسر لهم، فكتاب اللّه شاهد على ضد ما ذهب إليه الضالون المفترون على اللّه الكذب»(1).

و قد صارت هذه المسألة مائزة بين الأشاعرة و المعتزلة و اتّخذ كل من الفريقين نتيجة رأيه شعارا لمنهجه. و لأجل ذلك لما دخل القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415) دار الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الأسفراييني الأشعري (ت 413)، قال القاضي: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء» (يريد بذلك أنّ القول بسعة إرادته لأفعال الإنسان يستلزم أنّه أراد الفحشاء). فأجابه أبو إسحاق بقوله: «سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء» (مريدا بذلك أنّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بوجود أشياء في سلطانه و مملكته خارجة عن مشيئته)(2).

و على كل تقدير، فالحق تعلّق إرادته بكل ما يوجد في الكون من دون فرق بين فعل الإنسان و غيره، و لا يقع في ملكه إلاّ ما يشاء و لكن لا على

ص: 289


1- تصحيح الاعتقاد ص 16 بتلخيص.
2- شرح المقاصد، ج 2، ص 145.

الوجه الذي ذهبت إليه الأشاعرة من أنّ ما يدخل في الوجود فهو بإرادته تعالى من غير واسطة سواء أ كان من الأمور القائمة بذاتها أو التابعة لها من الأفعال بلا واسطة. فإنه رأي زائف، لما دللنا عليه من أنّ نظام الوجود، نظام الأسباب و المسببات و أنّه لا تتعلق إرادته سبحانه على خلق شيء بلا توسيط أسبابه و علله و قد عرفت البرهان الفلسفي على ذلك و الآيات القرآنية(1).

فالأشاعرة و إن أصابوا في القول بسعة الإرادة لكنهم أخطئوا في جعل متعلقها نفس الفعل بلا واسطة، و لا يترتب على ذلك سوى الجبر الذي يتبنونه. بل الحق تعلق إرادته على جميع الكائنات لكن عن طريق صدورها عن أسبابها و عللها. فإنّ القول بخروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه لغاية تنزيهه تعالى عن وصمة القبائح و الشرور يستلزم القول بإثبات الشركاء للّه سبحانه بالحقيقة، لأنه يمثل الإنسان خالقا لأفعاله مستقلا في إيجادها، و هو كما قال صدر المتألهين: «أشنع من مذهب من جعل الأصنام و الكواكب شفعاء عند اللّه و يلزمهم أنّ ما أراد ملك الملوك لا يوجد في ملكه، و أنّ ما كرهه يكون موجودا فيه و ذلك نقصان شنيع، و قصور شديد في السلطنة و الملكوت تعالى القيوم عن ذلك علوّا كبيرا»(2).

و لكنّا، نعذّر الطائفتين، فإحداهما تعلقت فكرتها بتنزيهه سبحانه فلم تر بدّا من القول بعدم سعة إرادته لأفعال العباد و الأخرى أرادت توحيده و تنزيهه من الشرك و الثنويّة فلم تر بدا من القول بسعة إرادته.

و الحق إمكان الجمع بين التنزيه و التوحيد بالبيان التالي:

الجهة الثالثة -

إنّ القول بسعة إرادته سبحانه يبتني على مقدمات ثابتة:

1 - سعة قدرته و خالقيته سبحانه، و أنّ كل ما في صفحة الكون من

ص: 290


1- لاحظ ما ذكرناه عند البحث عن نظرية خلق الأعمال حيث قلنا بأنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة و هو يقتضي أن يكون التأثير ملازما له في جميع المراتب. و لاحظ الآيات التي ذكرناها بعده.
2- الأسفار، ج 6، ص 370.

دقيق و جليل، و ذات و فعل، مخلوق للّه سبحانه على البيان الذي سمعت.

2 - إنّ الوجود الإمكاني وجود فقير قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته و لا في فعله، و إنّ غناء فعل الإنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حد الإمكان و انقلابه موجودا واجبا، و هذا خلف فما في الكون يجب أن يكون منتهيا إلى الواجب قائما به قيام المعنى الحرفي بالاسمي. فالقول باستقلال الإنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.

3 - إرادته سبحانه نفس ذاته، فهو علم كله و قدرة كله، و حياة كله، و إرادة كله، و إن لم يتحقق لنا، كنه إرادته.

ففي ضوء هذه الأصول الثلاثة تثبت سعة إرادته بوضوح و لا يحتاج إلى التأكيد و التبيين.

هذا حال الدلائل العقلية، و هناك آيات في الذكر الحكيم تؤيد عموم إرادته:

1 - يقول سبحانه: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (1).

2 - و يقول سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (2).

و الآية و إن كانت ناظرة إلى ظاهرة خاصة و هي الإيمان، و لكنها تؤدي ضابطة كلية في جميع الظواهر.

3 - و يقول سبحانه: مٰا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا قٰائِمَةً عَلىٰ أُصُولِهٰا فَبِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ لِيُخْزِيَ اَلْفٰاسِقِينَ (3). و هذه الآية قرينة على أنّ الآية السابقة كنفس هذه الآية بصدد إعطاء الضابطة، و إن كان البحث فيهما في إطار الإيمان و قطع اللينات أو تركها.

ص: 291


1- سورة التكوير: الآية 29.
2- سورة يونس: الآية 100.
3- سورة الحشر: الآية 5.

و هناك آيات بهذا المضمون تركنا إيرادها(1).

هذا ما يرشدنا إليه الذكر الحكيم، و عليه تضافرت أحاديث أئمة أهل البيت.

1 - روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن قرط عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من زعم أنّ اللّه تعالى يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على اللّه، و من زعم أنّ الخير و الشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه، و من زعم أنّ المعاصي من غير قوة اللّه، فقد كذب على اللّه، و من كذب على اللّه أدخله النّار»(2).

2 - روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «إنّ اللّه أكرم من أن يكلف النّاس ما لا يطيقون و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(3).

3 - و روى عن حمزة بن حمران قال: قلت له: «إنّا نقول إنّ اللّه لم يكلف العباد إلاّ ما آتاهم، و كل شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع، و لا يكون إلاّ ما شاء اللّه، و قضى، و قدّر، و أراد. فقال: و اللّه إنّ هذا لديني و دين آبائي»(4).

4 - و روى الصدوق عن البزنطي أنّه قال لأبي الحسن الرضا (عليه السّلام): «إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر و بعضهم بالاستطاعة فقال لي: أكتب: قال اللّه تبارك و تعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بقوتي أديت إليّ فرائضي، و بنعمتي قويت على

ص: 292


1- راجع البقرة: الآيتان 249 و 251، الأعراف: الآية 58، الأنفال: الآية 66، آل عمران: الآية 49، النّساء: الآية 64 و غيرها.
2- توحيد الصدوق باب نفي الجبر و التفويض، الحديث 2، ص 359.
3- بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 64، ص 41.
4- المصدر السابق، الحديث 65، ص 41.

معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا»(1). الحديث.

و البرهان العقلي و آيات الذكر الحكيم و أحاديث العترة الطاهرة أثبتت سعة إرادته، و إنّما الكلام في أنّ القول بسعة الإرادة لا ينافي اختيار العبد و حريته، و هذا يبين في الجهة التالية:

الجهة الرابعة -

في أنّ سعة إرادته لأفعال الإنسان لا يستلزم الجبر، و ذلك لأن إرادته لم تتعلق على صدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة و بلا واسطة، بل تعلقت على صدور كل فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها.

مثلا تعلقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور و إرادة، كما تعلقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم و لكن لا بإرادة و اختيار، و هكذا تعلقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه المكتنفة به من العلم و الاختيار و سائر الأمور النفسانية.

و صفحة الوجود الإمكاني مليئة بالأسباب و المسببات المنتهية إليه سبحانه فمثل هذه الإرادة المتعلقة على صدور فعل الإنسان منه بقدرته المحدثة و اختياره الفطري تؤكد الاختيار و لا تسلبه منه.

و مع ذلك كله ليس فعل الإنسان فعلا أجنبيا عنه سبحانه غير مربوط به، كيف و هو بحوله و قوّته يقوم و يقعد و يتحرك و يسكن. ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز، فعل اللّه أيضا بالحقيقة فكل حول يفعل به الإنسان فهو حوله، و كل قوة يعمل بها فهي قوته.

قال العلاّمة الطباطبائي: «إنّ الإرادة الإلهية تعلقت بالفعل بجميع شئونه و خصوصياته الوجودية، و منها ارتباطه بعلله و شرائط وجوده، و بعبارة أخرى تعلقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا، بل من

ص: 293


1- التوحيد، باب المشيئة و الإرادة، الحديث 6، ص 338. و نظيره الحديث 10 و 13.

حيث إنّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا، في زمان كذا. فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كونه اختياريا و إلاّ تخلف متعلق الإرادة عنها.

فالإرادة الإلهية في طول إرادة الإنسان و ليست في عرضها حتى تتزاحما و يلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الإنسانية. فخطأ المجبرة في عدم تمييزهم كيفية تعلق الإرادة الإلهية بالفعل و عدم تفريقهم بين الإرادتين الطوليتين و الإرادتين العرضيتين، و حكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة اللّه تعالى به»(1).

الجهة الخامسة -

في تفسير ما استدلّ به شيخنا المفيد من الآيات على خروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه.

استدلّ القائلون بعدم سعة إرادته بآيات مثل قوله تعالى: وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ (2). و قوله: وَ لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ (3) و قوله:

وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَسٰادَ (4) و غير ذلك مما استند إليه شيخنا المفيد في «تصحيح الاعتقاد»(5).

يلاحظ عليه أولا: إنّ من المحتمل أن تكون الإرادة في المقام إرادة تشريعية لا تكوينية، و من المعلوم أنّ التشريعي من الإرادة، لا يتعلق إلاّ بما فيه الصلاح، و تتجلى بصورة الأمر بالمصالح و النهي عن المفاسد، فلا يأمر بالظلم و الفحشاء، قال سبحانه: قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (6).

ص: 294


1- الميزان، ج 1، ص 99-100، طبعة بيروت
2- سورة غافر: الآية 31.
3- سورة الزمر: الآية 7.
4- سورة البقرة: الآية 205.
5- تصحيح الاعتقاد، ص 16-18.
6- سورة الأعراف: الآية 28.

و ثانيا: نفترض أنّ الإرادة في قوله سبحانه: وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ (1) إرادة تكوينية، و تعرب الآية عن أنّ إرادته لا تتعلق بالظلم، و لكن المراد هو المشيئة التكوينية المتعلقة بالشيء من جانبه سبحانه من دون أن يكون للعبد فيها دور، بأن يقوم سبحانه بنفسه بأعمال الظلم و البغي على العباد، فيعذب البريء المطيع و ينعم المجرم الطاغي، إلى غير ذلك من الأفعال التي يستقل العقل بقبحها و شناعتها. و اللّه سبحانه أعلى و أجلّ من أن تتسم إرادته بهذا العنوان.

و أمّا مشيئته التكوينية المتعلقة بالأشياء لكن من خلال إرادة عباده و مشيئتهم، بحيث يكون لإرادتهم دور في تحقق المتعلق و اتصافه بالبغي و الظلم، فالآية ليست نافية له. و ذلك أنّ مشيئة العبد هي السبب الأخير لتعنون الفعل بالظلم و تلوّنه بالبغي، و لولاها لما كان عنهما خبر و لا أثر.

و لأجل دور العبد و دخالته في تحقق القبائح و المحرمات نرى أنّه سبحانه جعل - على ما في الحديث القدسي - حسنات العبد أولى إلى نفسه من العبد، و سيئاته على العكس، قال: «و ذلك أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني»(2). و ما هذا إلاّ لأنه سبحانه قد هيّأ للعبد، تكوينا و تشريعا، كل شيء يسعده فلم يصنع سبحانه إلاّ الجميل. فما أصابه من حسنة فمنه سبحانه لأنه عمل الجميل بمعدات جميلة واقعة منه سبحانه، في اختيار العبد، و إن ارتكب البغي و الظلم فقد ارتكب القبيح بالجميل الذي صنعه سبحانه له حيث تفضّل عليه بالمشيئة و الاختيار و القدرة، و لكنه صرفها في غير محله فهو أولى بسيئاته من اللّه الجميل الفاعل له.

و باختصار، إنّ فعل العبد لا يقع في ملكه تعالى إلاّ بإرادته سبحانه جميع مقدماته التي منها اختيار العبد الموهوب من عنده سبحانه إليه، فتعلق مشيئته بأفعال العباد بمعنى أن اختيار العبد و حريته مراد للّه سبحانه، فهو

ص: 295


1- سورة غافر: الآية 31.
2- التّوحيد للصدوق أبواب المشيئة و الإرادة، الحديث 7، ص 338.

تعالى أراد أفعال العبد لأجل أنّه أراد اختياره و حريته. فسعة المشيئة لفعل العبد و إن كان هذا الفعل ظلما و بغيا، لا يحدث في ساحته سبحانه و صمة عيب أو شين. لأن المسئول عن تحقق القبيح هو العبد الذي صرف هواه في البغي بدلا من العدل.

و لعلك لو وقفت على ما سنذكره عند البحث عن الأمر بين الأمرين لسهل عليك تصديق ذلك.

ثم إنّ لصدر المتألهين و تلاميذ منهجه و أستاذه السيد المحقق الداماد أجوبة أخرى مذكورة في كتابه فلاحظها(1).

الأصل الرابع لزوم الفعل مع المرجّح الخارج عن اختياره
اشارة

هذا هو الأصل الرابع الذي اعتمد عليه الأشاعرة، و حاصله: إنّ العبد لو كان قادرا لكان ترجيحه لأحد الطرفين إمّا لا لمرجح (أي بلا علّة) فيلزم انسداد باب إثبات الصانع، و إمّا لمرجّح، فإن كان من العبد تسلسل و إن كان من اللّه تعالى فعند حصول ذلك المرجّح يجب الفعل، و عند عدمه يمتنع فلا يكون مقدورا(2).

و توضيحه على ما في المواقف و شرحه: إنّ العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته فلا بدّ من أن يتمكن من فعله و تركه، و إلاّ لم يكن قادرا عليه، إذ القادر من يتمكن من كلا الطرفين. و على هذا يتوقف ترجيح فعله على تركه، على مرجح (علّة)، و إلاّ فلو وقع أحد الطرفين بلا مرجح يلزم وقوع أحد الجائزين بلا سبب و هو محال، فإذا توقف وجود الفعل على المرجح، فهذا المرجح إمّا أن يكون من العبد باختياره أو من غيره، فعلى الأول يلزم التسلسل لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عن العبد فيتوقف صدوره

ص: 296


1- الأسفار، ج 6. الفصل الثاني عشر، ص 379-395.
2- إرشاد الطالبين، ص 565.

على مرجح ثان و هكذا. و على الثاني يكون الفعل عند ذلك المرجح واجب الصدور عن العبد بحيث يمتنع تخلفه عنه، و إلاّ فلو لم يكن الفعل مع ذلك المرجح واجب الصدور، و جاز وقوع الطرف الآخر، يلزم أن يكون تخصيص أحد الطرفين بالتحقق دون الآخر بلا دليل. فيجب أن يكون أحد الطرفين مع المرجح واجب الصدور و معه يكون اضطراريا لا اختياريا(1).

يلاحظ عليه: إنّ كل ممكن يكون الوجود و العدم بالنسبة إليه متساويان، و يتوقف خروج الممكن عن أحد الطرفين إلى علّة تامة تجعله واجبا و تجعل الطرف الآخر ممتنعا. و إلاّ فلو كان - مع وجود العلّة التامّة - وقوع الطرف الآخر ممكنا للزم خروج الممكن عن مركز التساوي إلى أحد الطرفين بلا سبب و علّة و قد برهن الحكماء على قاعدتهم: «الشيء ما لم يجب لم يوجد»، بما ذكرناه. و بذلك يظهر: إنّ التعبيرات الواردة في الاستدلال تعبيرات غير فنّية، فإنّ وقوع الممكن لا يتوقف على وجود المرجح مع إمكان وجود الآخر، بل يتوقف على وجود علّة تامة تجعل أحد الطرفين ضروري التحقق و الآخر ممتنعه.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ صدور الفعل من الإنسان يتوقف على مقدمات و مبادي و معدّات كتصور الشيء و التصديق بفائدته و الاشتياق إلى تحصيله و غير ذلك من المبادي النفسانية و الخارجية ممّا لا يمكن حصره.

فربما تكون هناك العشرات من المقدمات تؤثر في صدور الفعل عن الإنسان سواء التفت إليها الإنسان أو لا. و لكن هذه المقدمات لا تكفي في تحقق الفعل و صدوره منه إلاّ بحصول الإرادة النفسانية التي يندفع بها الإنسان نحو الفعل، و معها يكون أحد الطرفين واجب التحقق و الطرف الآخر ممتنعه.

و المرجح الذي تلهج به الأشاعرة مبهم ليس شيئا وراء تلك الإرادة التي إذا انضمت إلى المبادي المتقدمة عليها تخرج الفعل عن حد الإمكان إلى حد الوجوب و تضفي على الطرف الآخر صبغة الامتناع. و ليس ذلك المرجح

ص: 297


1- شرح المواقف، ج 8، ص 149-150 بتلخيص و تصرّف.

مستندا إلاّ إلى نفس الإنسان و ذاته، فإنها المبدأ لظهوره في الضمير.

إنما الكلام في كون هذا المرجح فعل اختياري للنفس أو لا.

فمن قال بأنّ الفعل الاختياري ما يكون مسبوقا بالإرادة، وقع في المضيق في جانب الإرادة. إذ على هذا تصير الإرادة فعلا غير اختياري، لأنها غير مسبوقة بإرادة أخرى كما هو واضح وجدانا، و على فرض احتماله ننقل الكلام إلى الإرادة الثانية، فإمّا أن يتوقف فيلزم كون الثانية غير اختيارية، أو يتسلسل و هو باطل.

و أمّا على القول المختار، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الجبر الفلسفي، من أنّ التعريف المذكور مختص بالأفعال الجوارحية كالأكل و الشرب فإن الاختيارية منها ما يكون مسبوقا بالإرادة دون الأفعال الجوانحية للنفس، كالعزم و الإرادة، فإنّ ملاك اختياريتها ليس كونها مسبوقة بالإرادة بل كونها فعلا للفاعل المختار بالذات أعني النفس الناطقة، فإنّ الاختيار و الحرية نفس ذاته و حقيقته و سنبرهن على ذلك عند البحث عن الجبر الفلسفي.

و على هذا فالاستدلال مبتور جدا. أضف إلى ذلك: أنّ الظاهر من كلامهم أنّ المرجح للفعل شيء خارج عن محيط إرادة الفاعل و اختياره، و هو شيء يخالف الفطرة و الشهود الوجداني لكل فاعل. بل المرجح، و إن شئت قلت بعبارة صحيحة، الجزء الأخير من العلة التامة، هو الإرادة و هي فعل اختياري للنفس لا لكونها مسبوقة بالإرادة بل لكونها ظلالا للفاعل المختار بالذات، أعني النفس التي هي المثل الأعلى للّه سبحانه، فهو أيضا فاعل مختار بالذات تكون أفعاله أفعالا اختيارية لكونها ظلالا للفاعل المختار بالذات.

ثم إنّ بعض المحققين أجاب عن استدلال الأشاعرة بجواب غير تام و حاصله: إنّ الترجيح بلا مرجح لا مانع منه و إنّ وجود المرجح و أصل الفعل و طبيعته كاف و إن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجح على

ص: 298

البعض الآخر(1).

و لا يخفى أنّ امتناع التّرجّح من غير مرجح (كامتناع تحقق الممكن بلا علّة) و امتناع التّرجيح بلا مرجح من باب واحد، و القول بالامتناع في الأول يستلزم الامتناع في الثاني. و ذاك لأن أصل الفعل كما لا يتحقق بلا علة، فكذلك الخصوصيات لا تتحقق إلاّ معها، فالجائع بالنسبة إلى الرغيفين و الهارب بالنسبة إلى الطريقين كذلك، فكما أنّ صدور أصل الأكل و الهرب يحتاج إلى علّة، لامتناع وجود الممكن بلا سبب، كذلك تخصيص أحد الرغيفين بالأكل و ترك الآخر، بما أنّه أمر وجودي يحتاج إلى علّة. و القول بأنّ وجود أصل الفعل يتوقف على علّة دون خصوصياته، يرجع إلى القول بوجود الممكن - و لو في بعض مراتبه - و تحققه بلا علّة. و لأجل ذلك يقول المحققون إنّ مآل تجويز الترجيح بلا مرجح إلى تجويز الترجّح بلا مرجح.

فلازم هذا الجواب أنّ الخصوصية لا تطلب العلّة، و هذا انخرام للقاعدة العقلية، من حاجة الممكن إلى علّة.

و أمّا التمثيل برغيفي الجائع و طريقي الهارب، فلا شك أنّ للفعل و الخصوصية هناك مرجح و هو أنّ الإنسان العادي يجد في نفسه ميلا إلى جانب اليمين من كل من الرغيف و الطريق، فالميل الطبيعي يكون مرجحا لانصراف الإرادة إليه دون طرف اليسار. نعم ربما ينعكس لأجل طواري في الواقعة تلتفت إليها النفس فتختار ما في جانب اليسار(2).

ص: 299


1- المحاضرات، ج 2، ص 47-49. و يظهر ذلك الجواب أيضا من العلاّمة في (نهج المسترشدون) لاحظ إرشاد الطالبين ص 266.
2- ثم إنّ للمحقق الطوسي في المقام كلاما و هو: «الوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب». و قد جعله العلاّمة جوابا عن الاستدلال الذي نقلناه عن الأشاعرة. و الظاهر أن هذه العبارة ناظرة إلى تحليل دليل آخر للقائلين بالجبر و هو أنّ القاعدة الفلسفية المسلمة أعني «الفعل ما لم يجب لم يوجد»، تقتضي صدور الفعل عن الإنسان عن وجوب و اضطرار. و هذا لا يجتمع مع القول بالاختيار. فأجاب عنه المحقق الطوسي بأنّ الوجوب العرضي للداعي لا ينافي القدرة و الاختيار فالفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن، و بالنظر إلى داعيه واجب، و ذلك لا يستلزم الجبر. فإنّ كل قادر يجب صدور الأثر منه عند وجود الداعي كالواجب. و أنت تعلم أن هذا الجواب يمكن أن يكون رافعا للشبهة الثانية أعني وجوب الفعل عند وجوب العلّة، و لا يكون قالعا لما نحن فيه من الإشكال لأن كلام الأشاعرة مركز على أن هذا الداعي يوجد في النفس لا من جانب الإنسان بل من جانبه سبحانه و معه يكون الفعل واجبا ضروريا خارجا عن الاختيار، فالقول بأنّ الفعل واجب بالنظر إلى الداعي و هو لا ينافي القدرة و الإمكان بالنظر إلى نفس الفعل، لا يرتبط بالإشكال. نعم يمكن أن تكون عبارة المحقق جوابا نقضيا عن استدلال الأشاعرة ببيان أن ما ذكرتموه من الدليل في حق الإنسان قائم في حقه سبحانه حرفا بحرف كما نوّه به العلاّمة في (كشف المراد) و أوضحه شارح (المواقف) فلاحظهما. و قد خلط شيخنا المظفر في تقرير استدلال الأشاعرة، بين الدليلين. فلاحظ (دلائل الصدق)، ج 1، ص 511.
تشكيكات أخرى للأشاعرة

هذا هو المهم من الأصول التي اعتمد عليها الأشاعرة في إثبات الجبر و سلب الاختيار و لهم هناك تشكيكات واهية لا تستحق أن يطلق عليها اسم الاستدلال نكتفي بذكر أمرين منها:

الأول: التكليف واقع بمعرفة اللّه تعالى إجماعا، فإن كان التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل، و هو محال. و إن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلّف و صفاته المحتاج إليه في صحة التكليف منه، غافل عن التكليف. و تكليف الغافل تكليف بالمحال(1).

يلاحظ عليه: إنّ البحث في كون الإنسان مختارا أو مجبورا، و ليس البحث في جواز التكليف بالمحال و ما ذكر من الاستدلال راجع إلى الأول دون الثاني هذا أولا.

و ثانيا: إنّ التكليف بالمعرفة تكليف عقلي لا شرعي، و يكفي في التكليف العقلي التوجه الإجمالي إلى أنّ هناك منعما يجب معرفته و معرفة صفاته و أفعاله حتى يكون شاكرا في مقابل نعمه، أو يجب معرفته دفعا للضرر المحتمل على التقريرين في بيان لزوم معرفة الباري في مسلك المتكلمين.

و يكفي في حكم العقل التوجه الإجمالي لا التفصيلي. و على ذلك فنحن نختار الشقّ الأول من الاستدلال و لكن لا بمعنى المعرفة التفصيلية حتى

ص: 300


1- شرح المواقف، ج 28، ص 157.

يكون تحصيلا للحاصل، بل المعرفة الإجمالية الباعثة على التفصيلية منها.

الثاني: إنّ أبا لهب أمر بأن يؤمن دائما و هو ممتنع لأنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن. و الإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به، و ممّا جاء به أنّه لا يؤمن. فيكون هو في حال لزوم إيمانه على الاستمرار مأمورا بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن، و يصدّق بأنه لا يصدق. و إيمانه المشتمل على ما ذكر محال لاستلزامه الجمع بين التصديق و التكذيب. فإذا كان المكلف به محالا، لم يكن للتكليف به فائدة(1).

يلاحظ عليه: إنّ الإيمان هو التصديق الإجمالي بأنّ ما جاء به النبي حق. و هذا كاف في عد الإنسان مؤمنا. و لا يشترط في تحقق الإيمان التصديق التفصيلي بكل واحد مما جاء به النبي. و على ضوء هذا كان أبو لهب مأمورا بالتصديق الإجمالي و هو توحيده سبحانه و الاعتقاد بأنّ رسالة ابن أخيه من اللّه سبحانه. و هذا أمر ممكن لكل أحد و قد كان في وسعه أيضا و لكنه لم يؤمن به و أمّا التصديق التفصيلي بكل ما جاء في القرآن و منه أنّ أبا لهب لا يؤمن بتاتا و أنّ النار مثواه فلم يكن ممّا يجب الإيمان به حتى يلزم منه التناقض.

إلى هنا تمّ إيراد جملة من تشكيكات الأشاعرة الواردة في مجال الأفعال الاختيارية و لا حاجة إلى الإسهاب أزيد من هذا و فيما ذكرناه غنى و كفاية لمن أراد الحق و ابتغاه.

نعم استدلت الأشاعرة بالآيات المصرّحة بأنّ الهداية و الإضلال و الختم من جانبه سبحانه و سنعقد له فصلا خاصا عند البحث عن مذهب الحق. و هو الأمر بين الأمرين.

ص: 301


1- شرح المواقف، ج 8، ص 157.

ص: 302

مناهج الجبر

(2) الجبر الفلسفي
اشارة

قد عرفت حقيقة الجبر الأشعري و أنّه كان يردّ الاختيار بعوامل غيبية و سماوية من القضاء و القدر و سبق العلم الأزلي و المشيئة الإلهية و عرفت بعض التشكيكات التي ذكروها في المقام.

و أمّا الجبر الفلسفي فهو يعتمد على قواعد فلسفية مسلّمة عند الإلهي و المادي و نذكر فيما يلي المهم من أدلته:

الدليل الأول: وجود الشيء مقارن لوجوبه

قد ثبت في الفن الأعلى من الفلسفة أنّ «الشيء ما لم يجب لم يوجد»، و هذه قاعدة مسلّمة عند الكل، و حاصل برهانها أنّ الشيء الممكن في حدّ ذاته لا يقتضي الوجود و لا العدم، فنسبة الوجود و العدم إليه متساوية، و لا يتسم بهما إلاّ بلحاظ أمر خارج عن ذاته، غير أن اتصافه بالوجود يتوقف على انضمام عامل إلى ماهية الممكن حتى يضفي عليها الوجود في حين أنّه يكفي في اتصافه بالعدم لحاظ عدم العامل و عدم العلّة.

و على هذا فلو وجد عامل خارجي يقتضي وجوده اقتضاء إيجابيا، يتحقق. و إلاّ يكون تطرق العدم إليه جائزا و ممكنا، و معه لا يمكن أن يتحقق و يتلبس بالوجود.

ص: 303

و بعبارة ثانية: إذا كان هناك ما يقتضي وجوده، فإمّا أن يقتضي وجوبه أيضا أو لا، فعلى الأول فقد وجب وجوده، و تثبت القاعدة، و على الثاني يعود السؤال بأنه إذا كان تطرق العدم أمرا ممكنا جائزا، فلما ذا اتصف بالوجود دون العدم مع انفتاح طريق كل منهما، إذ المفروض أنّ العلّة ما اقتضت وجوبه و لم تسد باب العدم على وجه القطع و البت، بل كان باب كل مفتوحا على الشيء و إن ترجّح جانب الوجود، و لكنه لم يمتنع بعد الجانب الآخر، و الأولوية العارضة لجانب الوجود غير كافية إذ المفروض أنّ طريق العدم معها بعد مفتوح، و مع ذلك اتصف بالوجود و لم يتصف بالعدم.

و عندئذ، ينطرح السؤال التالي:

لما ذا تحقق هذا و لم يتحقق ذاك ؟ و لأجل ذلك ذهب الحكماء إلى أنّ وجود الشيء رهن سد باب العدم على وجه القطع و البت و اتصافه بالوجود على وجه الوجوب حتى ينقطع السؤال بأنه لم اتصف بهذا دون ذاك.

هذا برهان القاعدة، و رتب عليها القول بالجبر، لأن فعل العبد لا يصدر منه إلاّ بالوجوب، و الوجوب ينافي الاختيار.

يلاحظ عليه: إنّ القاعدة قاعدة متقنة لا غبار عليها غير أنّ استنتاج الجبر من القاعدة أمر عجيب، لأنها لا تعطي أزيد من أنّ المعلول إنما يتحقق بالإيجاب و الإلزام، و أمّا كون الفاعل، فاعلا موجبا (بالفتح) و مجبورا فلا يستفاد منها.

توضيح ذلك: إنّ الفاعل لو كان فاعلا طبيعيا غير شاعر و لا مختار، أو شاعرا غير مختار، يصدر الفعل منه بالوجوب مع امتناع العدم و يكون الفعل واجبا و الفاعل موجبا (بالفتح). و أمّا إذا كان الفاعل مدركا و مختارا، فصدور الفعل منه يتوقف على اتّصاف فعله بالوجوب، و العامل الذي يضفي هذا الوصف على المعلول هو نفس الفاعل، فهو باختياره و حريته يوصل الفعل إلى حد يكون صدوره عنه على نحو الوجوب و اللزوم. فعندئذ يكون الفاعل المدرك المختار فاعلا موجبا أي معطيا الوجوب لفعله و من هو كذلك

ص: 304

لا يتصف هو و لا فعله بالجبر. فالاستنتاج نبع من المغالطة بين الفاعل الموجب و الفاعل الموجب، و هو أحد أقسام المغالطة(1).

الدليل الثاني - الإرادة ليست اختيارية

هذا الدليل الذي لجأ إليه الجبريون من الحكماء، هو المزلقة الكبرى، و الداهية العظمى في المقام و لقد زلّت في نقده و تحليله أقدام الكثير من الباحثين، و لا عتب علينا لو أسهبنا البحث فيه، فنقول:

قال المستدل: إنّ كل فعل اختياري بالإرادة، و لكنها ليست أمرا اختياريا و الا لزم أن تكون مسبوقة بإرادة أخرى، و ينقل الكلام إليها، فإمّا أن تقف السلسلة فيلزم الجبر في الإرادة النهائية و إمّا أن لا تقف فيلزم التسلسل.

و بعبارة ثانية: إنّ الفعل الاختياري ما كان مسبوقا بالإرادة، و أمّا نفسها، فلا تكون كذلك، لأنا ننقل الكلام إلى الثانية منها فهل هي كذلك أو لا؟ و على الثاني يثبت كونها غير اختيارية لعدم سبق إرادة عليها، و عدم نشوئها من إرادة أخرى. و على الأول ينقل الكلام إليها مثل الأولى فإما أن يتوقف في إرادة غير مسبوقة، أو يتسلسل. و الثاني محال. فيثبت الأول.

و قد نقل صدر المتألهين هذا الإشكال عن المعلّم الثاني الفارابي حيث قال في نصوصه: «إن ظن ظان أنّه يفعل ما يريد و يختار ما يشاء، استكشف عن اختياره هل هو حادث فيه بعد ما لم يكن أو غير حادث ؟ فإن كان غير حادث فيه لزم أن يصحبه ذلك الاختيار منذ أول وجوده، و لزم أن يكون مطبوعا على ذلك الاختيار لا ينفك عنه، و إن كان حادثا - و لكل حادث محدث -

ص: 305


1- إن للمغالطة أقساما كثيرة ربما تناهز الثلاثة عشر قسما، و منها هذا القسم الوارد في هذا البحث. لاحظ قسم المغالطة في شرح المنظومة للحكيم السبزواري (ص 105 - قسم المنطق) حيث يقول: أنواعها الثلاثة عشر كما قد ضبطوها من كلام القدماء

فيكون اختياره عن سبب اقتضاه و محدث أحدثه فإمّا أن يكون هو أو غيره، فإن كان هو نفسه، فإمّا أن يكون إيجاده للاختيار بالاختيار، و هذا يتسلسل إلى غير النهاية، أو يكون وجودا لاختيار فيه لا بالاختيار فيكون مجبورا على ذلك الاختيار من غيره، و ينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست باختياره»(1).

و أنت ترى أنّ هذا البرهان لو صحّ لكان المادي و الإلهي متساويين بالنسبة إليه. و حاصل هذا البرهان أنّ الإرادة تعرض للنفس في ظل عوامل داخلية و خارجية فيكون اجتماع تلك العوامل موجبا لظهورها على لوح النفس. و لأجل ذلك تتصف الإرادة بالجبر لكون وجودها معلولا لتلك العوامل النفسانية و غيرها. فالفعل الاختياري ينتهي إلى الإرادة و هي تنتهي إلى مقدماتها من التصور و التصديق و الميل النفساني المنتهية إلى أشياء خارجة عن ذات المريد، نعم الإلهي يرجع هذه المقدمات النفسانية أو الخارجية، بعد سلسلة الأسباب و المسببات إلى اللّه سبحانه، و المادي يرجعها إلى العوامل الموجودة في عالم المادة و لذلك ذكرنا هذا البرهان في فصل الجبر الفلسفي لا في الأشعري الذي ينسب الأشياء إلى اللّه سبحانه مباشرة، و لا في فصل الجبر المادي الذي لا يرى علّة للجبر إلاّ العوامل المادية، بل ذكرناه في هذا الفصل الذي يمكن أن يكون مختارا للإلهي كما يمكن أن يكون مختارا للمادي.

أقول: إنّ هذا الإشكال هو من أهم الإشكالات في هذا الباب، و ربما نرى أنّ بعض الماديين لجئوا إلى تنمية هذا الإشكال بشكل يناسب أبحاثهم، و يصرون على أنّ الإرادة في الإنسان تحصل باجتماع معدات و شرائط و مقدمات و بواعث يكون الإنسان مقهورا في إرادته، و إن كان يتصور

ص: 306


1- الأسفار، ج 6 ص 390. و يظهر هذا الإشكال من الشيخ الرئيس في الفن الثالث من طبيعيات الشفاء و في أول العاشرة من إلهيات الشفاء. و قد نقل صدر المتألهين نصوصه في المصدر نفسه، فلاحظ.

نفسه مختارا، و يرددون في أشداقهم كون الإنسان مسيرا بصورة المختار و نحن نأتي ببعض ما ذكر من الأجوبة، ثم نذكر المختار من الجواب عندنا.

الأجوبة المذكورة في المقام
الجواب الأول: هو ما أجاب به صدر المتألهين

قال: «المختار ما يكون فعله بإرادته، لا ما يكون إرادته بإرادته. و القادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل، صدر عنه الفعل، و إلاّ فلا. لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل، و إلاّ لم يفعل»(1).

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكره من التعريف إنما هو راجع إلى الأفعال الجوارحية فالملاك في كونها أفعالا اختيارية أو جبرية هو ما ذكره و أمّا الأفعال الجوانحية الصادرة عن النفس و الضمير، فهي إمّا أفعال جبرية، أو إنّ لكونها أفعالا اختيارية ملاكا آخر يجب الإيعاز إليه.

و باختصار: إنّ البحث ليس في التسمية حتى يقال: إنّ التعريف المذكور للفعل الاختياري يوجب كون الإرادة و الفعل من الأمور الاختيارية، بل البحث في واقع الإرادة و حقيقتها، فإذا كانت ظاهرة في الضمير الإنساني في ظل عوامل نفسانية أو أرضية و سماوية، فلا تكون أمرا اختياريا. و بالنتيجة، لا يكون الفعل أيضا فعلا اختياريا.

الجواب الثاني: ما أفاده المحقق الخراساني

في الكفاية في بحث التجرّي من أنّ اختيارية الإرادة و إن لم تكن بالاختيار، إلاّ أنّ مبادئها يكون وجودها غالبا بالاختيار للتمكن من عدمه بالتأمل في ما يترتب على ما عزم عليه من اللوم و المذمة أو التبعة و العقوبة(2).

يلاحظ عليه: إنّه لا يدفع الإشكال، لأنّ تلك المبادي لا تخلو إمّا أن

ص: 307


1- الأسفار، ج 6 ص 388. و له جواب آخر عن الإشكال غير متين جدا، فمن أراد فليرجع إلى كتابه، كما نقل جوابا آخر عن أستاذه المفخم المحقق الداماد.
2- كفاية الأصول للمحقق الخراساني (ت 1255 - م 1329). ج 2، ص 14.

تكون مسبوقة بالإرادة أو لا، فعلى الأول يلزم عدم كونها أفعالا اختيارية و إن كانت أفعالا إرادية، و ذلك لأن الإرادة السابقة على تلك المبادي إرادة غير اختيارية و غير مسبوقة بإرادة أخرى، و إلاّ ينقل الكلام إليها و يلزم التسلسل.

و على الثاني يلزم عدم كونها فعلا إراديا للنفس أيضا، بل تكون أفعالا صادرة عن النفس بلا إرادة.

الجواب الثالث: ما ذكره شيخ المشايخ العلامة الحائري

و حاصله:

إنّ ما اشتهر من أنّ الإرادة لا تتعلق بها الإرادة و لا تكون مسبوقة بأخرى أمر غير صحيح بل تتحقق الإرادة لمصلحة في نفسها.

قال: «الدليل على ذلك هو الوجدان لأنّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنّ صحة الصوم و الصلاة تامة تتوقف على القصد المذكور، مع العلم بعدم كون هذا الأثر مرتبا على نفس البقاء واقعا فتتعلق بالإرادة، إرادة»(1).

يلاحظ عليه: إنّه لا يقلع الإشكال أيضا، إذ غايته كون الإرادة الأولى اختيارية لسبقها بإرادة ثانية و أمّا الإرادة الثانية فهي بعد باقية على صفة غير الاختيارية، لأنّ الميزان في الفعل الاختياري حسب معايير القوم كونه مسبوقا بالإرادة فلو سلمت هذه القاعدة لصارت الإرادة الثانية غير اختيارية.

الجواب الرابع: ما ذكره العلامة الطباطبائي

في ميزانه و حاصله: إنّ الحوادث بالنسبة إلى علتها التامة واجبة الوجود، و بالنسبة إلى أجزاء عللها ممكنة الوجود، فهذا هو الملاك في أعمال الإنسان و أفعاله فلها نسبتان:

نسبة إلى علّتها التامة و نسبة إلى أجزائها، فالنسبة الأولى ضرورية وجوبيه، و النسبة الثانية نسبة ممكنة. و كل فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علله التامة و ممكن بملاحظة أجزاء علته(2).

ص: 308


1- الدرر للشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم (ت 1274 - م 1355)، ج 2، ص 15.
2- الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 99.

و بما إنّ الإرادة ليست علّة تامة للفعل، تكون نسبة الفعل إليها نسبة الإمكان لا نسبة الوجوب.

يلاحظ عليه: بنفس ما لوحظ على كلام صدر المتألهين إذ المفروض أنّ ما وراء الإرادة أمر خارج عن الاختيار. فإذا كانت الإرادة مثله في الخروج عن الاختيار فلا يتصف الفعل بالاختيار و لا الإرادة به. و ما ذكره مجرّد اصطلاح إذ لا شك أنّ نسبة الفعل إلى أجزاء العلّة التامة نسبة ضرورية و إلى بعضها إمكانية و لكنه لا يشفي العليل و لا يروي الغليل، إذ البحث في أنّ مدار اختيارية الفعل هو الإرادة، و الإرادة ليست اختيارية لأنها تطرأ على النفس في ظل عوامل خاصة من نفسية و غيرها، فالنسبتان المذكورتان لا تدفعان الإشكال.

نعم قد ذكر في ذيل كلامه هنا و في موضع آخر من تفسيره(1) كلاما حاصله: إنّ إرادته سبحانه لم تتعلق بصدور الفعل عن الإنسان بأي نحو اتفق و إنما تعلقت بالفعل بجميع شئونه و خصوصياته و منها أنها فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا إلى آخر ما أفاده. فهو جواب عن إشكال آخر تقدم عند البحث عن الجبر الأشعري(2) و ليس هذا جوابا عن الإشكال المطروح في المقام.

الجواب الخامس: ما أجاب به السيد المحقق الخوئي (دام ظله)

في محاضراته في كلام مفصل نأخذ المهم منه، و حاصله: منع كون الإرادة علّة تامة للفعل بل الفعل على الرغم من وجوده و تحققه يكون تحت اختيار النفس و سلطانها و لو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات و مؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة، و لكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها..

ثم قال: «إنّ الميزان في الفعل الاختياري ما أوجدته النفس باختيارها و إعمال القدرة و السلطنة المعبر عنها بالاختيار و قد خلق اللّه النفس الإنسانية

ص: 309


1- لاحظ الميزان، ج 11، ص 21.
2- لاحظ الأصل الثالث من أصول الأشاعرة.

واجدة لهذه السلطنة و القدرة و هي ذاتية لها، و ثابتة في صميم ذاتها، و لأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها، و تنقاد في حركاتها، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة و القدرة إلى إعمال سلطنة»(1).

يلاحظ عليه أولا: إنّ الإصرار على أنّ الفعل بعد الإرادة تحت اختيار النفس و سلطانها و أنّ الإرادة ليست علّة تامة لصدور الفعل، إصرار غير لازم، إذ يكفي في ذلك إثبات كون الإرادة أمرا اختياريا و إن كان صدور الفعل بعدها أمرا إلزاميا. فالذي يجب التركيز عليه هو الأول (الإرادة فعل اختياري للنفس) لا الثاني (كون الفعل بعد الإرادة ممكن الصدور لا واجبه) و سيوافيك توضيحه في الجواب المختار.

و ثانيا: إنّ القاعدة الفلسفية القائلة بأنّ (الشيء ما لم يجب لم يوجد) غير قابلة للتخصيص، فكما هي تعم الأفعال الطبيعية، فهكذا تعم الأفعال النفسانية. و الملاك في الجميع واحد، و هو أنّ صدور الفعل يتوقف على سد باب العدم على الشيء و مع سدّه يتصف الفعل بالوجوب و لا يبقى لوصف الإمكان مجال كما أوضحناه.

و ثالثا: إنّ أعمال السلطنة و القدرة، فعل من أفعال النفس. فما هو الملاك لكونها اختيارية ؟، اللازم التركيز عليه بوجه واضح، و ما جاء في كلامه لا يزيد عن إشارات إلى البرهان و سيوافيك تفصيله.

الجواب السادس: ما أفاده السيد الأستاذ الإمام الخميني (دام ظله) بتوضيح و تحرير منا:

و حاصله: إنّ الكبرى ممنوعة و هي جعل ملاك الفعل الاختياري كونه مسبوقا بالإرادة حتى تخرج الإرادة عن إطار الفعل الاختياري، بل المناط في اختيارية الفعل سواء أ كان فعلا جوارحيا أو جوانحيا كونه صادرا عن فاعل مختار بالذات، غير مجبور في صميم ذاته، و لا مضطر في حاق وجوده، بل الاختيار مخمور في ذاته و واقع حقيقته،

ص: 310


1- المحاضرات، ج 1، ص 59-60 و قد أخذنا موضع الحاجة منه.

و الإنسان من مصاديق تلك الضابطة في أفعاله الاختيارية(1).

و إليك بيانه: إنّ ما يصدر من الإنسان من الأفعال على قسمين، قسم منه يصدر عن طريق الآلات و الأسباب الجسمانية كالخياطة و البناء، و هذا القسم من الفعل يكون مسبوقا بالتصور و التصديق و الشوق إلى الفعل و العزم و الجزم الذي يلازم تحريك العضلات نحو المراد. و هذا ما يسمى بالأفعال الجوارحية.

و قسم يصدر منه بلا آلة بل بخلاقية منها، و هذا كالأجوبة التي تصدر من العالم النحوي الذي له ملكة علم النحو عند السؤال عن مسائله. فإنّ هذه الأجوبة تصدر واحدة بعد الأخرى لا بتصور و لا بتصديق و لا بشوق و لا بعزم سابق على الأجوبة. و ليس صدور تلك الأجوبة عن النفس كصدور الأفعال الجوارحية من الأكل و الشرب مسبوقة بمبادئها، بل هي تظهر في لوح النفس و تصدر عنها بدون هذه التفاصيل.

و هذه الأجوبة التي تعد صورا علمية، موجودة للنفس مخلوقة لها، خلقا اختياريا بحيث لو شاء ترك، مع أنها ليست مسبوقة بالإرادة و لا بمبادئها، بل كفى في كونها اختيارية كون النفس «فاعلا مختارا بالذات» بحيث تكون حقيقتها كونها مختارة، و كونها مختارة نفس حقيقتها.

و بذلك يظهر أن وزان الإرادة بالنسبة إلى النفس وزان الصور العلمية.

فكما أنّ صدور الصور العلمية لا يتوقف على المبادي السابقة، فكذلك ظهور الإرادة في الضمير.

و كما أنّ ظهور تلك الأجوبة، ظهور اختياري لدى النفس، فكذلك الإرادة، و ليس مناط اختياريتها سبق إرادة أخرى، لما عرفت من عدم كونها مسبوقة بها، بل الملاك في اختياريتها كون النفس فاعلا مختارا بالذات و ليس الاختيار مفصولا عن ذاتها و هويتها.

ص: 311


1- لبّ الأثر في الجبر و القدر، تقرير لدرس السيد الإمام بقلم الأستاذ دام ظله، مخطوط.

و إن شئت فاستوضح الحال بأفعاله سبحانه، فإنها كلها اختيارية لكن لا بمعنى كونها مسبوقة بالإرادة التفصيلية الجزئية الحادثة لكونه سبحانه منزّها عن مثل هذه الإرادة، و قد عرفت أنّ حقيقة إرادته و واقع كونه مريدا هو كونه فاعلا مختارا بالذات، فلأجل ذلك تصبح أفعاله سبحانه في ظل هذا الاختيار الذاتي، أفعالا اختيارية و النفس الإنسانية في خلاقيتها بالنسبة إلى الصور العلمية و الإرادة التفصيلية مثال للواجب سبحانه، وَ لِلّٰهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1).

و ما اشتهر من أنّ ملاك الفعل الاختياري السبق بالإرادة، فإنّما هو ناظر إلى الأفعال الجوارحية الصادرة من الإنسان عن طريق الأسباب و الآلات و لا يعم كل فعل اختياري.

و يمكن أن يقال: إنّ تعريف الفعل الاختياري بسبق الإرادة من قبيل جعل ما بالعرض مكان ما بالذات، بل الملاك في كونه فعلا اختياريا للإنسان هو انتهاء الفعل إلى فاعل مختار بالذات، و صدوره عنه بالإرادة. غير أنّا لتسهيل الأمر على الطلاّب نتوافق على هذا التعريف في مورد الأفعال الجوارحية لا مطلقا.

إلى هنا خرجنا بهذه النتائج:

1 - إنّ الأفعال النفسانية تصدر عن النفس لا بإرادة مسبقة بل يكفي في صدورها الاختيار الذاتي الثابت للنفس.

2 - إنّ هذه الأفعال كما هي غير مسبوقة بالإرادة غير مسبوقة بمبادئها أيضا، فليس قبل صدورها تصوّر و لا تصديق و لا شوق و لا عزم و لا جزم.

3 - إنّ الأفعال القلبية اختيارية للنفس بملاك الاختيار الذاتي الثابت لها.

ص: 312


1- سورة النحل: الآية 60.

و أمّا الدليل على ثبوت اختيار ذاتي للنفس فيكفي في ذلك:

أولا: قضاء الفطرة و البداهة بذلك فإن كل نفس، كما تجد ذاتها حاضرة لديها فهكذا تجد كونها مختارة، و أنّ سلطان الفعل و الترك بيدها، و لها أن تقدم على عمل و أن لا تقدم عليه، و لا شيء أظهر عند النفس من هذا الاختيار، و إن أنكره الإنسان فإنما ينكره باللسان و هو معتقد به.

و ثانيا: إنّ فاقد الكمال لا يكون معطيه فالنفس واجدة للاختيار في مقام الفعل و يعد فعلها فعلا اختياريا لأجل كونه مسبوقا بالإرادة. فمفيض الاختيار في مقام الفعل واجد له في مقام الذات. و هذا نظير ما يقال: إنّ الصور التفصيلية الظاهرة في الضمير من أفعال النفس، و هي واجدة لها في مقام الذات، فمن كانت له ملكة علم النحو ثم سئل مسائل كثيرة فأجاب عنها واحدة بعد الأخرى بأجوبة تفصيلية فهي كانت موجودة في صميم الملكة و ذات النفس بوجود بسيط إجمالي، لا بوجود تفصيلي. و هذا يدلنا على أنّ كل ما يظهر للنفس في مقام الفعل و التفصيل، و منه الاختيار، فهي واجدة له في مقام الذات بوجه بسيط إجمالي مناسب لمقام الذات.

إذا عرفت ذلك فنحن في غنى عن إيضاح الجواب و لعل ما ذكرناه هو مقصود صاحب المحاضرات كما نقلنا عنه. و لكنه دام ظله يصرّ على أمر لا دخالة له في الإجابة و هو أنّه ليست الإرادة علّة تامة للفعل بل الفعل - على الرغم من وجوده و تحققه - يكون تحت اختيار النفس و سلطانها، و لو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات و مؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة و كانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها.

أقول: لو كانت الإرادة علّة تامة للفعل، أو كانت جزءا أخيرا من العلة التامة كما هو الحق بحيث يكون تحقق الفعل معها ضروريا، فلا ينافي ذلك سلطان النفس و اختيارها قبل الإرادة، إذ لها أن تتأمل فيما يترتب على الفعل و الإرادة من الآثار السيئة و لا تريدها، و لكنها باختيارها أوجدت الإرادة و حققتها، و معها وجب صدور الفعل من النفس. و مثل هذا لا يوجب خروج

ص: 313

الفعل عن كونه اختياريا. فالإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، و الفعل و إن كان يتحقق وجوده بعدها لكن لا يخرجه اللزوم عن كونه فعلا اختياريا، و هذا كالملقي نفسه من شاهق باختيار، لا يعد هبوطه و سقوطه فعلا خارجا عن الاختيار، لكون مباديه بالاختيار. فالذي يجب التركيز عليه هو اختيارية الإرادة و لا يضر وجوب الفعل بعد حصولها إذا كانت الإرادة اختيارية.

فالتركيز على عدم وجوب الفعل بعد الإرادة - فرارا عن اضطرارية الفعل - ليس بأولى من التركيز على وجوب الفعل بعد الإرادة، إذا كانت الإرادة فعلا اختياريا للنفس باختيار ذاتي لها.

فالذي تنحل به العقدة هو كون الإرادة تحت سلطان النفس لا كون الفعل غير واجب بعد حصول الإرادة.

ص: 314

مناهج الجبر

(3) الجبر الماديّ
اشارة

قد تعرفت على القسمين الأولين من الجبر و هما الجبر الأشعري و الجبر الفلسفي و بقي الكلام في الجبر المادي الذي يحلل فعل الإنسان من خلال العلل المادية المكونة لشخصيته: روحياته و نفسانياته. و ليست هي إلاّ ما يعبّر عنه في ألسنتهم ب «مثلث الشخصية»، فإنها المكونة لحقيقة كل إنسان و واقعيته التي تسوقه إلى الفعل المناسب لها «و كل إناء بما فيه ينضح». و قبل تقرير دليلهم نأتي بكلمة:

الانعتاق من القيود تحت غطاء «الجبر»

إنّ الاعتقاد بالجبر شيء يصادم الوجدان و الفطرة، كما يصادم ما اتفق عليه العقلاء، حتى أنّ القائلين به في الأبحاث الفلسفية يدافعون عن الحرية في حياتهم الاجتماعية و يقفون في وجه المعتدي على حقوقهم و يشجبون عدوانه و يشكونه إلى المحاكم القانونية فهؤلاء جبريون في الفكر، و لكنهم ملتزمون بالاختيار في مقام العمل و المعاشرة، فعند ذلك ينطرح هذا السؤال:

ما هذا التناقض بين الفكر و العمل ؟ و لما ذا يدّعي هؤلاء أنّ الإنسان

ص: 315

مسيّر لا مخيّر، مع أنهم يعاملون الإنسان في حياتهم معاملة الموجود المختار؟.

الحق أنّ هنا دوافع مختلفة بعضها اجتماعية و بعضها الآخر سياسية.

أما الأولى: فلأنّ هؤلاء يريدون تجاهل القوانين و تجاوز الحدود و الحصول على الحرية المطلقة في العمل، و الانحلال عن كل قيد و رفض كل قاعدة اجتماعية و أخلاقية. و من الطبيعي أنّ هذا لا يجتمع مع تحمل المسئولية المترتبة على الحرية و الاختيار، فلا بدّ من اللجوء إلى أصل فلسفي يرفع عن كاهل الإنسان تلك المسئولية و ليس هو إلاّ القول بالجبر و كون الإنسان مسيّرا.

و أمّا الثانية: فأكثر أصحاب هذه الفكرة هم السلطات الغاشمة الفارضة نفسها و سلطانها على الناس بالقهر، فهم يروجون تلك الفكرة حتى يبرروا بها أفعالهم الإجرامية.

و لأجل ذلك يصوّر شاعر مبدع العامل الأول قائلا:

سألت المخنّث عن فعله *** علام تخنّثت يا ماذق

فقال ابتلاني بداء عضال *** و أسلمني القدر السّابق

و لمت الزّناة على فعلهم *** فقالوا بهذا قضى الخالق

و قلت لآكل مال اليتيم *** أكلت و أنت امرؤ فاسق

فقال و لجلج في قوله *** أكلت و أطعمني الخالق

و كل يحيل على ربّه *** و ما فيهمو أحد صادق

هذا فكر جبريّ العصور السابقة، و أمّا الجبريّ الماديّ المعاصر، فقد أخذ هذا المنطق و نسبه إلى العوامل المادية ليصل إلى ما وصل إليه الجبري السابق من الانحلال من القيود.

ص: 316

العوامل المكوّنة للشخصية

استند أصحاب هذه النظرية إلى أنّ الإنسان و إن كان حرّا في ظاهره و لكن إذا لوحظت العوامل التي تكوّن شخصيته الفكرية، لحكمنا بأنّه لا مناص له إلاّ بالجنوح إلى ما توحي إليه نفسيته.

و العوامل المكونة لشخصيته: تفكراته و تعقلاته، و روحياته و نفسانياته، تتلخص في النواميس التالية:

1 - الوراثة، 2 - الثقافة، 3 - البيئة.

ففي ناموس الوراثة، يرث الأولاد من آبائهم و أمهاتهم السجايا العليا أو الصفات الدنيئة، فهي تنتقل عن طريق الحيوان المنوي في الأب و البويضة في الأم إلى الوليد، و من خيوطهما تنسج خيوط شخصيته، و بحسبها يكون سلوكه.

و أما الثقافة و التعليم، فلهما أيضا تأثير في شخصية الإنسان، فمن هذا الطريق تزرع في كيانه الشخصي الأفكار الخاصة من توحيد أو إلحاد، و ثورة أو خمود، و قناعة أو حرص، إلى غير ذلك من الروحيات التي لها اقتضاء خاص و بحسبها يميل الإنسان إلى سلوك معين.

و أما البيئة و المحيط، فالإنسان وليد بيئته في سلوكه و خلقه، و لأجل ذلك نجد اختلاف السوالك في المجتمعات حسب اختلاف البيئات.

هذه هي العوامل البنّاءة لشخصية الإنسان و روحياته، و كل إنسان يحوك على نولها و يعمل بحسب اقتضائها. و على ضوء هذا، فكل فعل ينتهي إلى علّة موجبة لوجود الفعل، و ليست هي إلاّ شخصيته المتكونة من العوامل المحيطة به السائقة له نحو الفعل. حتى أنّ الإرادة التي تعدّ رمزا للاختيار، وليدة تلك العوامل في صقع النفس،. فإذا كانت هذه العوامل خارجة عن الاختيار، فما ينتهي إليها كذلك يلاحظ عليه: إنّه لا شك في تأثير هذه العوامل في تكوين الشخصية،

ص: 317

و لكن ليس تأثيرها إلى درجة يسلب الاختيار من الإنسان. إذ لو صحّ هذا، للزم بطلان جهود المربّين، و صيرورة أعمال المصلحين هواء في شبك. بل هذه العوامل لا تعدو عن كونها مقتضيات و أرضيات تطلب أمورا حسب طبيعتها، و لكن وراءها حرية الإنسان و اختياره. و قد خلط المادي في هذه النظرية بين الإيجاب و الاقتضاء، و العلّة التامة و العلّة الناقصة. و لأجل إيضاح مدى تأثير هذه العوامل نبحث عن كل واحدة منها على وجه الإجمال.

أما الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة، و لكن لا يعلم حدودها سعة و ضيقا، فلا شك أن الأولاد يرثون الصفات الخلقية و الروحية على وجه الإجمال و لكن ما يتركه الآباء و الأمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين:

1 - ما يفرض على الأولاد فرضا لا يمكن إزالته مثل الحمق، و البلادة، و العقل و الذكاء، و الجبن و الشجاعة و غير ذلك مما لا يمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية و الإصلاحية.

2 - ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية و الاقتضاء، و بصورة تأثير العلّة الناقصة، فيمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية و الطرق العلمية و ذلك كالأمراض الموروثة كالسل و غيره، و مثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان و التمرد فإنه يمكن إزالتها برفع مستوى فكر الإنسان و عقليته، و إيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء و الأمهات مصيرا لازما و قضاء حتما، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإنسان و اختياره و سائر العوامل التربوية المغيرة لأرضية الوراثة.

و أما التعليم و الثقافة، فلا شك في تأثيرهما في شخصية الإنسان و لتأثيرهما شواهد جمّة في التاريخ، و لكن ليس دور التعليم في تكوين الشخصية على وجه الإيجاب، فله قبول ما يلقى إليه من المفاهيم و التعاليم، كما أنّ له رفضها، و لأجل ذلك يختلف خريجو الثقافة الواحدة بين قابل لما أوحته إليه، و رافض له. و هذا دليل على أنّ الثقافة لا تؤثر إلاّ بشكل غير إيجابي.

ص: 318

و أما الثالث من العوامل أعني البيئة، فلها دور خاص في تكوين الشخصية، فالقاطنون في المناطق الحارة تختلف طباعهم و روحياتهم عمن يعيشون في المناطق الباردة، لكن العوامل الطبيعية و الجغرافية كالعاملين السابقين لا تبلغ في التأثير حدّ الجبر بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص من أثرها.

فإذا كان تأثير كل منها تأثيرا اقتضائيا، فليس مجموعها أيضا مؤثرا على وجه الإيجاب بحيث لا يمكن تغيير آثارها بالعوامل المشابهة. و ليس الإنسان بعد ما تأثر بالوراثة و الثقافة و البيئة كمجسمة حجرية لا يمكن تغيير صفتها أو جزئها إلاّ بالقضاء عليها، بل الإنسان بعد ذلك قابل للتأثّر و التغيير في ظل عاملين مختلفين:

1 - التفكر و التدبّر في صالح أعماله و طالح أفعاله، و ما يترتب عليهما من الآثار و المضاعفات، سواء أ كانت الأفعال مناسبة لشخصيته المكونة في ظل تلك العوامل، أو منافية لها. و إنكار ذلك إنكار للبداهة.

2 - الوقوع في إطار ثقافة و بيئة تختلف عمّا كان فيه، فلا شك أنّ لهذين العاملين، حتى في السنين المتأخرة من العمر، تأثير في إزالة بعض أو كل ما خلفته العوامل السابقة. و هذا دليل على أنّ المثلث الماضي لم يكن مؤثرا بنحو الإيجاب حتى لا يمكن التخلّف عنه، بل التأثير بشكل الاقتضاء.

و في الختام، لا يمكن لإنسان أن ينكر دور الأنبياء و المصلحين في تغيير الأجيال و المجتمعات بعد ما تمت شخصيتهم و تكونت روحياتهم و نفسانياتهم و كم لذلك من شواهد تاريخية نتركها للباحث.

ص: 319

ص: 320

مناهج الاختيار

(1) الاختيار المعتزلي
اشارة

لقد وقفت في البحوث السابقة على مناهج الجبر و اختلافها، فحان وقت البحث عن مناهج الاختيار باختلافها، فأكثر المعتزلة إلاّ من شذّ - كالنجار و أبى الحسين البصري(1) - يقولون بأنّ أفعال العبد واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار(2).

و لب مذهبهم و من حذا حذوهم أنّ اللّه تعالى أوجد العباد و أقدرهم على أفعالهم و فوّض إليهم الاختيار. فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على وفق مشيئتهم، و طبق قدرتهم. و أنّ اللّه أراد منهم الإيمان و الطاعة و كره منهم الكفر و المعصية. قالوا: و على هذا يترتب أمور:

1 - فائدة التكليف بالأوامر و النواهي، و فائدة الوعد و الوعيد.

2 - استحقاق الثواب و العقاب.

3 - تنزيه اللّه سبحانه عن إيجاد القبائح و الشرور من أنواع الكفر و المعاصي و المساوئ.

ص: 321


1- لاحظ حاشية شرح المواقف، لعبد الحكيم السيالكوتي، ج 2، ص 146.
2- و لعل قولهم بلا إيجاب إشارة إلى أنّ الفعل حال الصدور لا يتصف بالوجوب أيضا و القاعدة الفلسفية (الشيء ما لم يجب لم يوجد) غير مقبولة عندهم.

قال السيد الشريف في (شرح المواقف): «إن المعتزلة استدلوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد و هو أنه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف، و بطل التأديب الذي ورد به الشرع، و ارتفع المدح و الذم، إذ ليس للفعل استناد إلى العبد أصلا، و لم يبق للبعثة فائدة، لأن العباد ليسوا موجدين لأفعالهم، فمن أين لهم استحقاق الثواب و العقاب»(1).

هذه هي النتائج المترتبة على أصلهم: استقلال العبد في أفعاله، و عدم وجود الصلة بينه و بين اللّه سبحانه.

و لأجل أن نقف على نصوص المعتزلة في هذا الباب نقتطف من شرح الأصول الخمسة لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة في عصره المتوفي عام 415، عدة مقاطع:

يقول: قد علم عقلا و سمعا فساد ما تقوله المجبرة الذين ينسبون أفعال العباد إلى اللّه تعالى و جملة القول في ذلك أن تصرفاتنا محتاجة إلينا و متعلقة بنا لحدوثها.

و عند جهم بن صفوان أنها لا تتعلق بنا و يقول إنما نحن كالظروف لها حتى إن خلق فينا كان، و إن لم يخلق لم يكن.

و عند ضرار بن عمرو أنها متعلقة بنا و محتاجة إلينا، لكن جهة الحاجة إنما هو الكسب و قد شارك جهما في المذهب و زاد عليه في الإحالة (الكسب). و ما ذكره جهم على فساده معقول و ما ذكره هو غير معقول أصلا.

فأمّا المتخلفون من المجبرة فقد قسموا التصرفات قسمين، فجعلوا أحد القسمين متعلقا بنا و هو المباشر، و القسم الآخر غير متعلق بنا و هو المتولد (كالإحراق المتولد من إلقاء القرطاس في النار).

ص: 322


1- شرح المواقف، ج 8، ص 154. و لاحظ الأسفار، ج 6، ص 370.

ثم استدل القاضي على مذهبه بوجوه نشير إلى بعضها:

قال: و الذي يدل على ذلك:

الأول: أن نفصل بين المحسن و المسيء، و بين حسن الوجه و قبيحه، فنحمد المحسن على إحسانه و نذم المسيء على إساءته. و لا تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه و قبيحه، و لا في طول القامة و قصرها، حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لم طالت قامتك و لا للقصير لما قصرت.

كما يحسن أن نقول للظالم لم ظلمت و للكاذب لم كذبت، فلو لا أنّ أحدهما متعلق بنا و موجود من جهتنا بخلاف الآخر، و إلاّ لما وجب هذا الفصل، و لكان الحال في طول القامة و قصرها كالحال في الظلم و الكذب و قد عرف فساده.

الثاني: إنّه يلزم قبح مجاهدة أهل الروم و غيرهم من الكفار لأنّ للكفرة أن يقولوا: إن كان الجهاد على ما خلق فينا و جعلنا بحيث لا يمكننا مفارقته و الانفكاك عنه فذلك جهاد لا معنى له.

الثالث: ما ثبت من أنّ العاقل لا يشوّه نفسه كأن يعلق العظام في رقبته. و إذا وجب ذلك في الواحد منّا فلأن يجب في حق القديم تعالى و هو أحكم الحاكمين أولى و أحرى. و على مذهبهم (المجبرة) إنّه تعالى شوّه نفسه و سوّأ الثناء عليه و أراد منهم كل ذلك تعالى عمّا يقولون.

الرابع: إنّ في أفعال العباد ما هو ظلم و جور، فلو كان تعالى خالقا لها لوجب أن يكون ظالما و جائرا تعالى اللّه عن ذلك.

الخامس: الاستدلال بعدّة من الآيات منها قوله: مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ (1). فقد نفى سبحانه التفاوت عن خلقه، و ليس المراد التفاوت في الخلق لوجوده فيه، بل المراد التفاوت من جهة الحكمة. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة اللّه تعالى لاشتمالها على التفاوت و غيره.

ص: 323


1- سورة الملك: الآية 3.

ثم إنّ القاضي يرد على أدلة الأشاعرة التي نقلناها عنهم(1).

و أنت خبير بأنّ هذه الدلائل على فرض تماميتها ترد القول بالجبر أي ارتباط أفعال العباد باللّه سبحانه و انقطاعها عن العبد و لا تثبت العكس، و أنّ فعل العبد مخلوق للعبد لا صلة له بنحو من الأنحاء باللّه سبحانه كما هو مدّعى المعتزلة، و لأجل ذلك هنا منهج ثالث و هو الأمر بين الأمرين كما سيوافيك:

و في الحقيقة، إنّ هذه الطائفة تنكر التوحيد الأفعالي الذي ركّز عليه النقل و العقل، و هو أنّه لا خالق إلاّ اللّه سبحانه.

توضيح ذلك: إنّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على وصف من أوصافه سبحانه و هو «العدل». فلما كان العدل عندهم هو الأصل و الأساس في سائر المباحث، عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد عليه فخرجوا بهذه النتيجة: إنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ينافي عدله. و لجئوا بعدها إلى القول بأنها من صنع العبد و ليس للّه فيها أي صنع. و لمّا كان الأصل عند الأشاعرة هو التوحيد الأفعالي و أنه لا مؤثر استقلالا و لا تبعا غيره سبحانه، عمدوا إلى تطبيق هذه المسألة على أساسهم. فجعلوا أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه و ليس للعبد فيها صنع.

فالطائفتان لم تتدبرا في مسألة أفعال العباد تدبرا عميقا، بل جعلتا النظر فيها فرعا للنظر في الأصل الذي تبنتاه. و قد غفلتا عن أنّ هناك طريقا ثالثا يجتمع فيه الأصلان: التوحيد الأفعالي و وصف العدل، مع القول بالاختيار، كما سيتضح ذلك عند البحث عن المنهج الثالث للاختيار.

فلنعطف عنان الكلام إلى الأصل الفلسفي الذي بني عليه القول بتفويض أفعال العباد إلى أنفسهم.

ص: 324


1- لاحظ شرح الأصول الخمسة، ص 332 و 336 و 344 و 345 و 355 و 372.
حاجة الممكن إلى العلّة تنحصر في حدوثه

قالوا: إنّ سرّ حاجة الممكن إلى الواجب و المعلول إلى العلّة هو حدوثه الذي يفسّر بالوجود المسبوق بالعدم و انقلاب العدم إليه. فإذا حدث الممكن ترتفع الحاجة، لأنّ البقاء شيء و الحدوث شيء آخر. إذ الحدوث لا ينطبق إلاّ على الوجود الأول القاطع للعدم. و أمّا الوجودات اللاحقة فلا تتصف بالحدوث بل تتصف بالبقاء. فعندئذ يكون الشيء في بقاء ذاته غير محتاج إلى العلّة. فإذا كان هذا حال الذات، فكيف حال الأفعال، فلا يحتاج في أعماله إلى العلّة.

و لأجل ذلك يفعل العباد أو يتركون بقدرة و إرادة من أنفسهم، و لا صلة في هذه الحال بين الذات و الأفعال، و الواجب الحكيم سبحانه.

يقول الشيخ الرئيس حاكيا عقيدة المفوضة: «و قد يقولون: إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى أنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء. و حتى أنّ كثيرا منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم لأنّ العالم عندهم إنما احتاج إلى الباري تعالى في آن أوجده (أخرجه من العدم إلى الوجود) حتى كان بذلك فاعلا، فإذا جعل و حصل له الوجود من العدم، فكيف يخرج بعد ذلك الوجود عن العدم حتى يحتاج إلى الفاعل»(1).

تحليل هذا الأصل و نقده
اشارة

إنّ هذا الأصل الذي بنى عليه القوم نظريتهم في أفعال العباد، بل في أفعال و آثار كل الكائنات، باطل لوجوه نشير إليها:

الوجه الأول:

إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الإمكان أي عدم

ص: 325


1- الإشارات للشيخ الرئيس، ج 3، ص 68. لاحظ كشف المراد، الفصل الأول، المسألة 29، و المسألة 44. و الأسفار، ج 2، ص 203-204.

كون وجوده نابعا من ذاته، و كون الوجود و العدم بالنسبة إلى ذاته متساويان، و هذا الملاك موجود في حالتي البدء و البقاء، و أمّا الحدوث فليس ملاكا للحاجة فإنه عبارة عن تحقق الشيء بعد عدمه، و مثل هذا أمر انتزاعي ينتزع بعد اتصاف الماهية بالوجود، و ملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.

إنّ الحدوث أمر منتزع من الشيء بعد تحققه، و يقع في الدرجة الخامسة من محل حاجة الممكن إلى العلّة. و ذلك لأن الشيء يحتاج أولا ثم تقترنه العلة ثانيا، فتوجده ثالثا، فيتحقق الوجود رابعا، فينتزع منه وصف الحدوث خامسا. فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الذي يجب أن يكون في المرتبة الأولى و قد اشتهر قولهم: الشيء قرّر (تصوّر)، فاحتاج، فأوجد، فوجد، فحدث.

و بعبارة ثانية: ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشيء (الماهية) متساوي النسبة إلى الوجود و العدم، و أنّه بذاته لا يقتضي شيئا واحدا من الطرفين و لا يخرج عن حد الاستواء إلاّ بعلة قاهرة تجره إلى أحد الطرفين، و تخرجه عن حالة اللااقتضاء إلى حالة الاقتضاء فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك (إن الشيء بالنظر إلى ذاته لا يقتضي شيئا) فهو موجود في حالتي الحدوث و البقاء. و القول باستغناء الكون في بقائه، عن العلّة، دون حدوثه، تخصيص للقاعدة العقلية التي تقول: إنّ كل ممكن ما دام ممكنا بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته يحتاج إلى علّة، و تخصيص القاعدة العقلية مرفوض جدا.

و يشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الأصفهاني في منظومته إلى هذا الوجه بقوله:

و الافتقار لازم الإمكان *** من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث و البقاء *** في لازم الذّات و لن يفترقا

الوجه الثاني:

إنّ القول بأنّ العالم المادي بحاجة إلى العلّة في

ص: 326

الحدوث دون البقاء، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلة دون الأبعاد الأخرى. فإنّ لكل جسم بعدين، بعدا مكانيا و بعدا زمانيا، فامتداد الجسم في أبعاده الثلاثة، يشكل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزمان يشكل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه، ذو أبعاد مكانية، و باعتبار استمرار وجوده مدى الساعات و الأيام ذو أبعاد زمانية. فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختص ببعض أجزائه و أبعاضه بل الجسم في كل بعد من الأبعاد المكانية محتاج إلى العلّة، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزمانية، حدوثا و بقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات المتتالية. فالتفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزماني و المكاني وجهان لعملة واحدة، و بعدان لشيء واحد فلا يمكن التفكيك بينهما.

و تظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظل الحركة الجوهرية، في تبدل مستمر، و تغيير دائم نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة العالم المادي، فذوات الأشياء في تجدد دائم و اندثار متواصل. و العالم حسب هذه النظرية أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر، فالناظر الساذج يتصور أنّ هناك صورة منعكسة على الماء و هي باقية ثابتة و الناظر الدقيق على أنّ الصور تتبدل حسب جريان الماء و سيلانه، فهناك صور مستمرة.

و على ضوء هذه النظرية: العالم المادي أشبه بعين نابعة من دون توقف حتى لحظة واحدة. فإذا كان هذا حال العالم المادي، فكيف يصح لعاقل أن يقول: إنّ العالم و منه الإنسان إنما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه، مع أنّه ليس هنا أي بقاء و ثبات بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوال بعد زوال، على وجه الاتصال و الاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء، و هو في حال الزوال و التبدل و السيلان: وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ (1).

ص: 327


1- سورة النمل: الآية 88. البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل و قد أشبع الأستاذ الكلام فيها في بعض محاضراته. لاحظ كتاب «اللّه خالق الكون» ص 525-555 تجد فيه بغيتك.
الوجه الثالث:

إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعية المعلول و نسبته إلى علّته فإن وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي. فكما أنّه ليس للأول الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث: التصوّر، و الدّلالة، و التحقّق، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث، و البقاء(1).

فإذا كان هذا حال المقاس عليه فاستوضح منه حال المقاس، فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود و هو لا يخلو عن إحدى حالتين: إمّا وجود واجب أو ممكن، و الأول خلف لأن المفروض كونه معلولا، فثبت الثاني، و ما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه (الإمكان) فكما هو ممكن حدوثا، ممكن بقاء، و مثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات لأن الاستغناء آية انقلابه عن الإمكان إلى الوجوب، و عن الفقر إلى الغنى.

نعم، ما ذكرنا من النسبة إنما يجري في العلل، و المعاليل الإلهية لا الفواعل الطبيعية، فالمعلول الإلهي بالنسبة إلى علته هو ما ذكرنا، و المراد من العلّة الإلهية، مفيض الوجود و معطيه كالنفس بالنسبة إلى الصور التي تخلقها في ضميرها، و الإرادة التي توجدها في موطنها، ففي مثل هذه المعاليل، تكون نسبة المعلول إلى العلّة، كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.

و أمّا الفاعل الطبيعي، كالنار بالنسبة إلى الإحراق، فخارج عن إطار بحثنا، إذ ليس هناك عليّة حقيقية، بل حديث العلية هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النار إلى الحرارة. و ذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائية

ص: 328


1- سيوافيك توضيح هذا التشبيه عند البحث عن المنهج الثالث للاختيار و هو القول بالأمر بين الأمرين.

و الكيميائية، فالعليّة هناك تبدل المادة إلى غيرها في ظل شرائط و خصوصيات توجب التبدّل و ليس هناك حديث عن الإيجاد و الإعطاء.

و على ذلك فالتفويض أي استقلال الفاعل في الفعل يستلزم انقلاب الممكن و صيرورته واجبا في جهتين:

الأولى: الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

الثانية: الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذات.

الوجه الرابع:

إنّ القول بالتفويض يستلزم الشرك، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلين أحدهما العلّة العليا التي أحدثت الموجودات و الكائنات و الإنسان، و الأخرى الإنسان بل كل الكائنات فإنها تستقل بعد الخلقة و الحدوث في بقائها أولا و تأثيراتها ثانيا.

فلو قالت المعتزلة بالتفصيل بين الكائنات و الإنسان و نسبت آثار الكائنات إلى الواجب بحجة أنها لا تنافي العدل دون الإنسان، يكون التفصيل بلا دليل.

ثم إنّ القوم استدلوا على المسألة العقلية (غناء الممكن في بقائه عن العلّة) بالأمثلة المحسوسة، منها: بقاء البناء و المصنوعات بعد موت البنّاء و الصانع، و لكن التمثيل في غير محلّه لأنّ البنّاء و الصانع فاعلان للحركة أي ضم بعض الأجزاء إلى بعض و الحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلا عن موتهما. و أمّا بقاء البناء و المصنوعات فهو مرهون للنظم السائد فيهما فإن البناء يبقى بفضل القوى الطبيعية الكامنة فيه، التي أودعها اللّه سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء و الصانع فيها صنع، و أمّا الهيئة و الشكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة، فتحصل من المجموع هيئة خاصة و ليس لهما فيها أيضا صنع.

ص: 329

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحق أنّ قياس المعقول بالمحسوس الذي ارتكبته المعتزلة قياس غير تام و لو أراد المحقق ارتكاب لهذا القياس و التمثيل فعليه أن يتمسك بالمثالين التاليين:

الأول: إنّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب، كمثل المصباح الكهربائي المضيء، فالحس الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأول، و يتصور أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء، دون استمراره.

و الحال أنّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في حصولها إلى ذلك المولد في كل لحظة، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنما هو استضاءة بعد استضاءة، و استنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي. أ فلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه و بين المولد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماما، فهو لكونه فاقدا للوجود الذاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه و بقائه لأنه يأخذ الوجود آنا بعد آن، و زمانا بعد زمان.

الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائما بتقطير الماء عليها، و إفاضته بما يشبه الرذاذ، فإن هذا الأمر يتوقف على استمرار تقاطر الماء عليها و لو انقطع لحظة ساد عليها الجفاف و صارت يابسة.

فمثل الممكن الذي يتصف بالوجود باستمرار، مثل هذه الأرض المتصفة بالرطوبة دائما، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آنا بعد آن، فهكذا الأول لا يتحقق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آنا بعد آن. و لو انقطع الفيض و الصلة بينه و بين المفيض لانعدم و لم يبق منه أثر.

ص: 330

التفويض في الكتاب و السنّة

إنّ الذكر الحكيم يردّ التفويض بحماس و وضوح:

1 - يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (1).

فالآية نصّ في كون الفقر ثابت للإنسان في جميع الأحوال، فكيف يستغني عنه سبحانه بعد حدوثه، و في بقائه. أو كيف يستغنى في فعله عن الواجب مع سيادة الفقر عليه.

2 - و يقول سبحانه: مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ ، وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (2) فاللّه تعالى ينسب الحسنة الصادرة من العبد إليه تعالى. فلو لم تكن هناك صلة بين الخالق و فعل العبد فما معنى هذه النسبة ؟.

3 - و يقول سبحانه: وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

4 - و يقول سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّٰهِ (4).

5 - و يقول سبحانه: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (5).

6 - و يقول سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً (6).

ص: 331


1- سورة فاطر: الآية 15.
2- سورة النساء: الآية 79.
3- سورة البقرة: الآية 102.
4- سورة البقرة: الآية 249.
5- سورة البقرة: الآية 251.
6- سورة آل عمران: الآية 145.

7 - و يقول سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (1).

إلى غير ذلك من الآيات التي تقيد فعل الإنسان بإذنه، و المراد منه مشيئته سبحانه. فيكون المراد أنّ أفعال العباد واقعة في إطار مشيئته تعالى، فكيف تستقل عنه سبحانه ؟ و ما ورد في الذكر الحكيم مما يفنّد هذه المزعمة أكثر من ذلك. و قد ذكرنا بعض الآيات عند البحث عن الجبر الأشعري فلاحظ.

و أمّا السنّة، فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض بصور مختلفة نذكر بعضها:

1 - روى الصدوق في (الأمالي) عن هشام قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «إنّا لا نقول جبرا و لا تفويضا»(2).

2 - روى الصدوق في (الأمالي) أيضا عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أنّ اللّه عز و جل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم اللّه عز و جل في حكمه، و هو كافر. و رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهن اللّه في سلطانه، فهو كافر. و رجل يقول: إنّ اللّه عزّ و جل كلّف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد اللّه و إذا أساء استغفر اللّه، فهذا مسلم بالغ»(3).

3 - روى الطّبرسي في (الاحتجاج) عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال:

قال أبو جعفر للحسن البصري: «إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ اللّه عز و جل لم يفوّض الأمر إلى خلقه و هنا منه و ضعفا، و لا أجبرهم على معاصيه ظلما»(4).

ص: 332


1- سورة يونس: الآية 100.
2- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، ص 4، ح 1.
3- المصدر السابق، ص 10، ح 14.
4- المصدر السابق، ح 26.

4 - روى الصدوق في (توحيده)، و البرقي في (محاسنه) عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «اللّه تبارك و تعالى أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون، و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(1).

5 - روى الصدوق في (توحيده) عن حفص بن قرط: عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من زعم أنّ اللّه تبارك و تعالى يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على اللّه. و من زعم أنّ الخير و الشر بغير مشيّة اللّه، فقد أخرج اللّه من سلطانه. و من زعم أنّ المعاصي بغير قوّة اللّه، فقد كذب على اللّه، و من كذب على اللّه أدخله اللّه النار»(2).

6 - روى الصدوق في (عيون أخبار الرضا) عن الرضا (عليه السّلام) أنّه قال: «مساكين القدرية، أرادوا أن يصفوا اللّه عزّ و جلّ بعدله فأخرجوه من قدرته و سلطانه»(3). و الحديث يشير إلى ما ذكرناه في صدر البحث من أنّ المعتزلة لما جعلوا العدل أصلا فرّعوا القول بالتفويض عليه، غافلين عن الطريق الذي يجمع بين العدل و وقوع الفعل في سلطانه سبحانه.

ص: 333


1- المصدر السابق، ح 64. و التّوحيد للصدوق باب نفي الجبر و التفويض، ص 360، ح 4.
2- المصدر السابق، ح 85. و التوحيد، ص 359، ح 2.
3- المصدر السابق، ص 54، ح 93.

ص: 334

مناهج الاختيار

(2) الاختيار لدى الوجوديين
اشارة

الاختيار لدى الوجوديين - الذائع الصيت في الغرب - يقوم مقام التفويض لدى المعتزلة في الشرق الإسلامي غير أنّ الداعي يختلف عند الفرقتين، فالمعتزلي الشرقي قال بثبوت الاختيار للإنسان في أفعاله بصورة التفويض حفاظا على العدل الإلهي. و الوجودي الغربي ذهب إلى أنّ الإنسان يتكون و يتولد مجردا عن كل لون و صبغة، و عن كل ميل و غريزة، للحفاظ على حريته و عدم انسياقه بالذات إلى جانب خاص.

و إذا كان التّفويض المعتزلي ردّ فعل على الجبر المعروف بين أهل الحديث و الحنابلة، ثم الأشاعرة، فالاختيار لدى الوجوديين بالنحو السابق ردّ فعل على الجبري المادي الذي يعتقد بأنّ الإنسان يتولد و هو أسير عامل الوراثة ثم الثقافة و البيئة. فالوجوديون تقدموا في إثبات الاختيار إلى حدّ أنكروا أن يكون لغير فعل الإنسان و عمله تأثير في تكوّن شخصيته.

و من روّاد هذا المسلك في الأوساط الغربية الفيلسوف الفرنسي جان يول سارتر(1) و حاصل مذهبه:

ص: 335


1- ولد في باريس عام 1905.

إنّ وجود الإنسان متقدم على طبيعته و ماهيته فهو يتكون بلا ماهية و يتولد بلا قيد. ثم إنّه بفعله و عمله في ظل إرادته و اختياره، يصنع لنفسه شخصية. و على ذلك فما اشتهر من وجود الميول و الغرائز في الوجود الإنساني التي تضفي على وجود الإنسان لونا و صبغة و توجد فيه انحيازا إلى نقطة و تمايلا إلى شيء، ليس بصحيح لأن الاعتراف بوجود هذه الغرائز، سواء أ كانت علوية أو سفلية يزاحم اختياره و حريته، و يسلب منه الحرية التامة و التساوي بالنسبة إلى كل شيء.

فلأجل الحفاظ على حرية الإنسان و كونه موجودا فعّالا بالاختيار و حرّا في الانتخاب يجب إنكار كل عقيدة مسبقة (يريد نفي القضاء و القدر)، و كل مصير يجعله مسيّرا. و هذا هو المراد ممّا اشتهر منهم بأنّ الإنسان يتكون بلا ماهية(1).

مناقشة النظرية
اشارة

إنّ للإنسان ماهيتين:

1 - ماهية عامة يتكون معها و يتولد بها.

2 - ماهية خاصة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل.

و عدم التفرقة بين الماهيتين دفعهم إلى الاعتقاد بتكون الإنسان و تولده مجرّدا عن كل صبغة طبيعية و سائقة ذاتية.

أما الطبيعة العامة،

فهي عبارة عن الطاقات و المواهب الإلهية المودعة في وجوده و هي ميول طبيعية تسوقه إلى نقطة خاصة فيها سعادته أو شقاؤه و قد أعطى سبحانه، زمامها بيد الإنسان المختار في كيفية الاستفادة منها كمّا و كيفا. و نحن نعترف بأنّ هذه المواهب و الاستعدادات توجد في نفس الإنسان محدودية خاصة و تحقق في وجوده انحيازا إلى جانب، و لكنها لا تعدو عن كونها قابليات و اقتضاءات و أرضيات لأهداف خاصة، و لكن زمام

ص: 336


1- عصر التجزية و التحليل، ص 125.

الاختيار فيها بيد الإنسان المختار فله أن يتطلب بهذه المواهب ما شاء. كما له أن يترك الاستفادة منها، بل له أن يكافحها.

و الذي يدل على ذلك ما كشف عنه العلم من أنّ الإنسان يتولد و فيه طاقات و سوائق متضادة و مختلفة، و كل يطلب منشودا خاصا، و لو لا هذه الطاقات المتضادة لما وصل الإنسان إلى قمة التكامل. مثلا:

الإنسان جبل على حب النفس، و يظهر هذا منه من نعومة أظفاره، و في الوقت نفسه جبل على حب الخير و يظهر بعد سنين من حياته. فالإنسان المختار يستفيد من تلك الميول الطبيعية على حد لا يجعله حب الذات حيوانا ضاريا، كما لا يجعله حبّ الخير إنسانا تاركا و مهملا لحياته.

فالحفاظ على حرية الإنسان لا يتوقف على إنكار الفطريات و الغرائز بل يكفي في ذلك القول بأنّ للإنسان ماهية عامة موجودة في جميع الأفراد ليس للإنسان في الانطباع بها أي صنع و دخالة. و ماهية خاصة، يستحصلها عن طريق العمل كما سنشرحه.

و أمّا الطبيعة الخاصة،

فهي عبارة عمّا يتكون في نفس الإنسان من الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأولية، إفراطا أو تفريطا أو اعتدالا. مثلا قد أودعت يد الخلقة في وجود الإنسان ميولا سافلة كالغضب. و في الوقت نفسه أودعت ميولا عالية كالرحمة و الرأفة.

فربما يتجلى الإنسان في مسرح الحياة سبعا ضاريا لإفراطه في أعماله قوة الغضب، كما قد يتجلى إنسانا مهملا تاركا لحقوقه الفردية و الاجتماعية و فريسة للمعتدين لتفريطه في أعمالها. و قد يتجلى إنسانا مثاليا يستفيد منها على حدّ الاعتدال بالموازنة مع جانب الرحمة و الرأفة فيدفع عن نفسه الاعتداءات و في بعض الأحيان يؤثر غيره و يقوم بحاجات بني نوعه. فهناك شخصيات ثلاث تتكون في الفرد الإنساني حسب إعماله تلك الموهبة الإلهية. و قس عليه سائر الميول و الغرائز عالية كانت أو سافلة، إنسانية كانت أو حيوانية.

ص: 337

ثم إنّ سعادة الإنسان و شقاءه ليسا رهن الماهية العامة، و الاعتراف بها لا يمس بكرامة سعادته، كما لا يجعله في عداد الأتقياء. بل الماهيات العامة تعبّد له طريق السعادة خصوصا الفطريات العالية الإنسانية التي كشف عنها العلم و هي:

1 - روح الاستقراء و اكتشاف الحقائق.

2 - حب الخير و النزوع إلى البر و المعروف.

3 - علاقته بالجمال في مجالات الطبيعية و الصناعة.

4 - الشعور الديني الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ.

فهذه الميول النابعة من داخل الإنسان و فطرته هي ماهيته العامة و كلها تسوقه إلى الخير و تصده عن الشر، لكن على وجه الاقتضاء فهناك إنسان يستخدم تلك المواهب في ظل الاختيار و الإرادة و يكون عالما كاشفا عن السنن الكونية، و إنسانا بارّا يفعل الخير لبني نوعه، و موجودا فنّانا يصنع المصنوعات الدقيقة، و إنسانا إلهيا، يعتقد بأنّ وراء العالم عالما آخر و أنّ هناك خالقا للكون و له تجاه خالقه مسئوليات و تكاليف.

كما أنّ هناك إنسان يترك الاستفادة منها أو من بعضها فيسقط في المهاوي و يتجلّى على خلاف الإنسان المتقدم.

فالاعتراف بهذه الفطريات لا يجعل الإنسان جاهز الصنع، كما عرفت، فإن الذي يرتبط بهذه الفطريات إنما هي شخصيته العامة و أمّا شخصيته الخاصة فهي مصنوعة إرادته و اختياره.

و العجب أنّ مبدع النظرية لم يقدر على إنكار ماهية عامة للإنسان في بعض المجالات، فهو يعترف بأنّ الإنسان يتولد في إطار قيود خاصة منها أنّ وجوده متعلق بهذا العالم، و يعيش حياة اجتماعية، و أنّه موجود فان، و غير ذلك من الحدود و القيود.

أقول: إنّ الحدود و القيود التي تحدّ شخصية الإنسان لا من قبل نفسه

ص: 338

أكثر مما اعترف به، فكل إنسان يعيش بين أحضان العالم المادي محكوم بقوانين الكون الفيزيائية و الكيميائية.

و الظاهر أنّ أصحاب النظرية قد ابتدعوا المدعى و صاغوه في قالب خاص لغايات اجتماعية ثم ذهبوا - للحفاظ على المدعى - إلى إنكار الفطريات و الغرائز المودوعة في وجوده و هو أشبه باتخاذ موقف خاص في موضوع ثم تعمّل الدليل عليه.

ص: 339

ص: 340

مناهج الاختيار

(3) الاختيار في مذهب الأمر بين الأمرين
اشارة

إنّ أصحاب المناهج الفكرية، في مسألة أفعال الإنسان، اعتقدوا بأنّ الحق ينحصر في القول بالجبر أو التفويض و أنّه ليس هناك طريق ثالث يسلكه الإنسان الباحث و يحفظ أساس القول بهما. و قد عرفت أنّ الجنوح إلى الجبر في العصور الأولى كان لأجل التحفظ على التوحيد الأفعالي و أنّه لا خالق إلاّ هو. كما أنّ الانحياز إلى التفويض كان لغاية التحفظ على عدله سبحانه فالأشاعرة جنحوا إلى الجبر حرصا على الأصل الأول، و المعتزلة إلى الثاني حرصا على أصل العدل. و كلا الطرفين غفل عن نظرية ثالثة يوافقها العقل و يدعمها الكتاب و السّنّة و فيها الحفاظ على كل من أصل التوحيد و العدل، مع نزاهتها، عن مضاعفات القولين. فإنّ في القول بالجبر بطلان البعث و التكليف، و في القول بالتفويض الثنوية و الشرك.

فهذه النظرية الثالثة، جامعة و حافظة لما يتبناه الطرفان من الأصول و في الوقت نفسه منزّهة عن التوالي و المفاسد. و هذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي لم يزل أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) يحثون عليه، من لدن حمي و طيس الجدال في أفعال الإنسان من حيث القضاء و القدر أو غيرهما. غير أنّ أكثر المتكلمين من السّنّة لم يقفوا على تلك النظرية بتاتا أو لم يتأمّلوا فيها. و قلّ فيهم من تأمل فيها و صرّح بصدقها كالإمام الرّازي في

ص: 341

تفسيره و الشيخ عبده في رسالة التوحيد(1)، فهما من قادة هذا المذاهب بين أهل السنة، و لكن غيرهما بين جبري لا يرى للإنسان حرية و اختيارا، و تفويضي وقع في حبال الشرك. نعم، قد انقرضت الطائفة الثانية بانقراض المعتزلة بالسيوف التي سلطت عليهم فلم يبق منهم و لا من آثارهم و كتبهم إلاّ شيئا لا يذكر.

و أمّا حقيقة هذا المذهب فتتعين في ظل أمور:(2).

الأول - الإمكان في الماهية غير الإمكان في الوجود

إنّ الإمكان تارة يقع وصفا للماهية و أخرى وصفا للوجود، و المقصود منه في الأول تساوي ماهية الشيء بالنسبة إلى الوجود و العدم، بمعنى أنها واقعة في مركز الدائرة، فلا تخرج عنه إلى أحد الطرفين، إلاّ بعامل يخرجها عن حالة التساوي و يضفي عليها لزوم الاتصاف بأحدهما، و هذا واضح.

و أمّا إذا وقعت وصفا للوجود بما هو وجود الذي يعبر عنه بالوجود الإمكاني و يعدّ فعلا للواجب، فليس معنى إمكانه تساوي نسبته إلى الوجود و العدم، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري، و سلبه عنه ممتنع فلا معنى لأن يقال إنّ نسبة الوجود إلى الوجود الإمكاني تساوي نسبته إلى العدم، بل نسبة الوجود إليه ضرورية و نسبة العدم إليه ممتنعة.

بل معنى توصيف الوجود بالإمكان عبارة عن كونه قائما بالعلّة بجميع شئونه و خصوصياته.

فكلما وصف الوجود بما هو وجود عار عن الماهية، و صادر عن العلّة الواجبة، يراد منه التعلّق و القيام، و الصلة و الارتباط لا التساوي. فافهم ذلك.

ص: 342


1- سيوافيك نصوصهما في مطاف البحث.
2- و قد أوعزنا إليها في الأبحاث السابقة عند الردّ على نظرية الطائفتين من الأشاعرة و المفوّضة فلاحظ.
الثاني - ما هو المراد من قيام المعلول بعلّته

إذا كان توصيف الوجود بالإمكان بمعنى قيامه بعلته، يقع الكلام في حقيقة ذلك القيام و أنّه من أي نوع من أنواعه. فهل هو من قبيل قيام العرض بموضوعه أو الجوهر بمحله ؟، أو أن قيامه بها يرجع إلى معنى دقيق و يشبه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي في المراحل الثلاث، التصور و الدلالة و التحقق ؟. إليك البيان:

إذا قلت: سرت من البصرة إلى الكوفة، فهناك معان اسمية هي السير و البصرة و الكوفة، و معنى حرفي و هو كون السير مبدوءا من البصرة و منتهيا إلى الكوفة. فالابتداء و الانتهاء المفهومان من كلمتي «من» و «إلى» فاقدان للاستقلال في مجال التصور فلا يتصوران مستقلين و منفكين عن تصور البصرة و الكوفة، و إلاّ لعاد المعنى الحرفي معنى اسميا، و لصار نظير قولنا:

«الابتداء خير من الانتهاء».

و كذلك فاقدان للاستقلال في مجال الدلالة فلا يدلان على شيء إذا انفكتا عن مدخوليهما.

كما هما فاقدان للاستقلال في مقام التحقق و الوجود، فليس للابتداء الحرفي وجود مستقل منفك عن متعلقه، كما ليس للانتهاء الحرفي وجود كذلك.

فالحافظ على المعنى الحرفي لا يتحقق إلاّ بثبوت عدم الاستقلال له في المجالات الماضية، و إلاّ لخرج عن كونه معنى حرفيا.

و على ضوء ذلك يتبين وزان الوجود الإمكاني الذي به تتجلى الأشياء و تتحقق الماهيات، و به تصير الماهيات كالشجر و الحيوان و الإنسان من الأعيان الخارجية، فإن وزانه إلى الواجب لا يعدو عن وزان المعنى الحرفي إلى الاسمي، و ذلك لأنّ الصادر من الواجب هو الوجود و هو لا يخلو من قسمين: إمّا واجب أو ممكن، و الأول خلف لكون المفروض معلوليته و صدوره عنه، و ما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه. فيتعين

ص: 343

الثاني. و قد عرفت أنّ معنى الإمكان في الوجود غير الإمكان في الماهية و أنّ معناه في الأول كونه متعلقا بالعلّة و قائما بها بجميع شئونه و خصوصياته، و الإمكان نافذ فيه و راسخ في واقعه رسوخ الحياة في الموجود الحيّ ، و عند ذلك يكون الفقر الارتباط بالعلّة و القيام بها غير خارج عن واقع الوجود الإمكاني و يكون الفقر و الربط نفس ذاته و عين واقعه، و إلاّ فلو كان في حاق الذات غنيا ثم عرض له الفقر يلزم الخلف، و خروج الموجود الغني عن كونه غنيا، إلى حيز الفقر و الحاجة.

و على هذا الأصل، لا يمكن إنكار صلة الوجودات الإمكانية باللّه سبحانه، من غير فرق بين الإنسان و غيره، و تبطل نظرية التفويض القائلة بانقطاع الصلة بين المبدأ و الموجودات الإمكانية. و هذه الحقيقة صادقة في الفواعل الإلهية و العلل غير الطبيعية ففيها يصدق ما ذكرنا من الوزان و المكانة و أمّا العلل الطبيعية فصدق العلّة عليها من باب المجاز، كما تقدم.

الثالث - وحدة حقيقة الوجود يلازم التأثير في جميع المراتب

قد وقع النزاع بين الفلاسفة في أنّ الوجود الواجب و الوجود الإمكاني هل هما حقيقتان متباينتان بحيث لا صلة جامعة بينهما أبدا، و أنّ إطلاق الوجود عليهما من باب إطلاق اللفظ الموضوع لمعنيين متباينين، كالعين الموضوعة تارة للشمس و أخرى للذهب، أو أنهما من مقولة واحدة يجمعهما قدر مشترك و هو الوجود و طرد العدم و ما يفيد ذلك(1). و أنّ الوجود يطلق عليهما بوضع واحد و بمعنى مفرد، و إطلاق المعنى الواحد على الشيئين يقتضي وجود قدر مشترك بينهما و إلاّ يلزم انتزاع المعنى الواحد بما هو معنى واحد من الأشياء الكثيرة التي لا جهة وحدة بينها.

ص: 344


1- و هذه العناوين ليست معرفات حقيقية بل هي عناوين مشيرة إلى حقيقة مجهولة فإنّ حقيقة الوجود لا يقدر الإنسان على دركها، لأنّ أدوات المعرفة لا تتجاوز الذهن و الذهنيات، و هي لا تدرك الحقيقة الخارجية بل المفاهيم العارية عنها كمفهوم النار. و أما حقيقة الوجود فهي نفس العينية الخارجية، فكيف يمكن أن تكون مدركة للذهن ؟!.

و الحق هو الثاني، لما عرفت من البرهان و عليه الحكماء غير المشائيين. و على ضوء هذا الأصل، إذا كانت الحقيقة في مرتبة من المراتب ذات أثر خاص، يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة، أخذا بوحدة الحقيقة، نعم يكون الأثر من حيث الشدة و الضعف، تابعا للمؤثر من هذه الحيثية، فالوجود الواجب بما أنّه أقوى و أشد، يكون العلم و الدرك و الحياة و التأثير فيه مثله. و الوجود الإمكاني بما أن الوجود فيه أضعف يكون أثره مثله. و لأجل ذلك ذهب الإلهيون إلى القول بسريان العلم و الحياة و القدرة إلى جميع مراتب الوجود الإمكاني و قد أثبتوه بهذا البرهان و حكموا بصحته من طريق الكشف و الشهود، و يشهد الكتاب العزيز على صحة نظريتهم في مجال السريان العلمي و الدركي إلى جميع مراتب الوجود حتى الجماد(1).

و على ضوء هذا الأصل، تبطل نظرية الأشاعرة المخصصة للتأثير بالواجب سبحانه، و السالبة له عن سائر المراتب زاعمة أنه مقتضى التوحيد الأفعالي، مع أنه كما يتحقق بسلب التأثير عمّا سواه يتحقق بتخصيص التأثير الاستقلالي باللّه سبحانه و إرجاع تأثير الوجود في المراتب الإمكانية إلى إذنه و مشيئته. و الثاني هو المتعين لما عرفت من البرهان.

إذا وقفت على هذه الأصول تقف على النظرية الوسطى في المقام و أنه لا يمكن تصوير فعل العبد مستقلا عن الواجب، غنيا عنه، غير قائم به، قضاء لكون الفعل وجودا إمكانيا، و الوجود الإمكاني حقيقته التعلق و الصلة و الربط. كما أنه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في آثارها قضاء لحكم الأصل الثالث من أنّ الوجود، في أي مرتبة كان من المراتب لا يخلو عن تأثير و دخالة فيما يظهر منه من الآثار، أو يقوم به من الأفعال. فالفعل مستند إلى الواجب من جهة و مستند إلى العبد من جهة أخرى. فليس الفعل

ص: 345


1- و قد أوعزنا إلى الآيات الناظرة إلى سريان العلم و إن أردت التفصيل فلاحظ مفاهيم القرآن ، الجزء الأول، ص 207-238.

فعله سبحانه بحيث يكون منقطعا عن العبد بتاتا و يكون دوره دور المحل و الظرف لظهور الفعل، كما أنّه ليس فعل العبد فقط حتى يكون منقطعا عن الواجب، قضاء بكون الفعل بل الفاعل، أمرين ممكنين غير مستغنيين عن الواجب في آن من الآنات.

و في هذه النظرية جمال التوحيد الأفعالي منزّها عن الجبر. كما أن فيها محاسن العدل منزّها عن مغبة الشرك و الثنوية، يدرك ذلك كل من أمعن النظر. و ينطبق عليها قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام): «اليمين و الشمال مضلّة، و الطريق الوسطى هي الجادّة عليها باقي الكتاب و آثار النبوّة»(1).

هذا إجمال النظرية حسب ما تسوق إليه البراهين الفلسفية، و لكن رفع الستار عن وجهها يحتاج إلى تمثيل يحقق واقعية النظرية بشكل محسوس.

و ما ذكروا من الأمثلة يختلف حسب إدراك الممثل حقيقة هذه النظرية و إليك بعضها.

مثالين للأمر بين الأمرين:
أ - اللّه فاعل بالتسبيب و العبد بالمباشرة

إنّ كثيرا من محققي الإمامية صوّروا هذه النظرية بما يوجبه هذا العنوان فجعلوا نسبة الفعل إلى اللّه نسبة تسبيبية و نسبته إلى العبد نسبة مباشرية بحجة أنّ اللّه سبحانه وهب الوجود و الحياة و العلم و القدرة لعباده، و جعلها في اختيارهم. و أنّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء، فينسب الفعل إليه سبحانه لأجل كونه معطي المبادي و مفيض الوجود و القدرة، و إلى العبد لأنه الذي يصرفها في أي مورد شاء. و المثال الذي يبين حقيقة النظريات الثلاث في هذا المجال هو ما ذكره المحقق الخوئي في تعاليقه القيّمة على أجود التقريرات، و محاضراته الملقاة على تلاميذه و إليك خلاصة البيان، قال:

ص: 346


1- نهج البلاغة، الخطبة 16.

لو فرضنا شخصا مرتعش اليد فاقد القدرة، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفا قاطعا و هو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر و يهلكه، فإذا وقع السيف و قتل، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

و لو فرضنا أنّ رجلا أعطى سيفا لمن يملك حركة يده و تنفيذ إرادته فقتل هو به رجلا، فالأمر على العكس، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

و لكن لو فرضنا شخصا مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلاّ بإيصال رجل آخر التيار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوة و نشاطا بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص في الحال و أصبح عاجزا. فلو أوصل الرجل تلك القوّة إلى جسم هذا الشخص فذهب باختياره و قتل إنسانا و الرجل يعلم بما فعله، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما، أمّا إلى المباشر فلأنه قد فعل باختياره و إعمال قدرته، و أمّا إلى الموصل فلأنه أقدره و أعطاه التمكن حتى في حال الفعل و الاشتغال بالقتل، و كان متمكنا من قطع القوة عنه في كل آن شاء و أراد.

فالجبري يمثل فعل العبد بالنسبة إلى اللّه تعالى كالمثال الأول، حيث أنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار و مضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني، فهو يصوّر أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة و الحياة منه سبحانه حدوثا لا بقاء و العلّة الأولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك فكان الإنسان محتاجا إلى رجل آخر في أخذ السيف، و بعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

و القائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث، فالإنسان في كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة و الحياة منه إليه بحيث لو قطع الفيض في آن

ص: 347

واحد بطلت الحياة و القدرة، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه و حياة كذلك من غير فرق بين الحدوث و البقاء. - إلى أن قال -: إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره و إعمال قدرته، و ثانيهما نسبته إلى اللّه تعالى باعتبار أنه معطي الحياة و القدرة في كل آن و بصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل(1).

و هذا التمثيل مع كونه رفيع المنزلة في تبيين المقصود إلاّ أنّ الفلاسفة الإلهيين لا يرضون بالقول بأنّ النفس تستخدم القوى كمن يستخدم كاتبا أو نقاشا قائلين بأنّ مقام النفس بالنسبة إلى قواها أرفع من ذلك لأن مستخدم البنّاء لا يلزم أن يكون بنّاء، و مستخدم الكاتب لا يكون كاتبا، و مستخدم القوة السامعة و الباصرة (النفس) لا يجب أن يكون سميعا و بصيرا. مع أنّ النفس هي السميعة البصيرة، فإذا كانت نسبة النفس إلى قواها فوق التسبيب و الاستخدام فكيف مثله سبحانه و هو الخالق القيوم و ما سواه قائم به قوام المعنى الحرفي بالاسمي.

و لذا فإن لهم تمثيلا آخر في المقام و هو التالي:

ب - الفعل فعل العبد و في الوقت نفسه فعل اللّه

إنّ بعض المحققين من الإمامية و في مقدمهم معلّم الأمّة الشيخ المفيد و بعده صدر المتألّهين و تلاميذ نهجه يرون الموقف أدق من ذلك و يعتقدون أنّ للفعل نسبة حقيقية إلى اللّه سبحانه، كما أنّ له نسبة حقيقية إلى العبد، و لا تبطل إحدى النسبتين الأخرى، و نأتي لتبيين ذلك بمثالين:

أحدهما، ما ذكره معلّم الأمّة الشيخ المفيد (ت 336 - م 413)، على ما حكاه عنه العلاّمة الطباطبائي في محاضراته، و لم أقف عليه في كتب الشيخ المفيد و هو:

ص: 348


1- المحاضرات، ج 2، ص 87 و 88. أجود التقريرات، ج 1، ص 90.

نفترض أنّ مولى من الموالي العرفيين يختار عبدا من عبيده و يزوجه إحدى فتياته، ثم يقطع له قطيعة و يخصّه بدار و أثاث، و غير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود و أجل مسمّى.

فإن قلنا إنّ المولى و إن أعطى لعبده ما أعطى، و ملّكه ما ملك فإنه لا يملك، و أين العبد من الملك، كان ذلك قول المجبرة.

و إن قلنا: إنّ المولى بإعطائه المال لعبده و تمليكه، جعله مالكا و انعزل هو عن المالكية و كان المالك هو العبد، كان ذلك قول المعتزلة.

و لو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين، و قلنا: إنّ للمولى مقامه في المولوية، و للعبد مقامه في الرقيّة و إنّ العبد يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أنّ العبد مالك، فهنا ملك على ملك، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) و قام عليه البرهان(1).

و في بعض الروايات إشارات رائعة إلى هذا التمثيل، منها:

ما رواه الصدوق في (توحيده) عن النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) قال: قال اللّه عز و جل: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد»(2).

ترى أنه يجعل مشيئة العبد و إرادته، مشيئة اللّه سبحانه و إرادته، و لا يعرّفهما مفصولتين عن اللّه سبحانه بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد منتسبة إلى اللّه سبحانه.

ثانيهما: ما ذكره صدر المتألهين و قال ما هذا حاصله:

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلا لشخصين على

ص: 349


1- الميزان، ج 1، ص 100. و قد أشار إلى هذا التنزيل في تعليقته على البحار، لاحظ ج 5، ص 83.
2- التوحيد باب المشيئة و الإرادة، ص 340، الحديث 10. و لاحظ بحار الأنوار كتاب العدل و المعاد ح 62 و 63 مع تعليقة العلاّمة الطباطبائي على الأول.

الحقيقة فلاحظ النفس الإنسانية، و قواها، فاللّه سبحانه خلقها مثالا، ذاتا و صفة و فعلا، لذاته و صفاته و أفعاله، قال سبحانه: وَ فِي اَلْأَرْضِ آيٰاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ (1). و قد أثر عن النبي و الوصي القول بأنّه «من عرف نفسه، عرف ربّه»(2).

إنّ فعل كل حاسة و قوة من حيث هو فعل تلك القوة، فعل النفس أيضا. فالباصرة ليس لها شأن إلاّ إحضار الصورة المبصرة، أو انفعال البصر منها، و كذلك السامعة، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها، و مع ذلك فكل من الفعلين، كما هو فعل القوة، فعل النفس أيضا، لأنها السميعة البصيرة في الحقيقة و ليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد أن نفوسنا بعينها الشاعرة في كل إدراك جزئي و شعور حسّي، كما أنها المتحرك بكل حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. و بهذا يتضح أنّ النفس بنفسها في العين قوة باصرة و في الأذن قوة سامعة و في اليد قوة باطشة، و في الرجل قوّة ماشية، و هكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء، فبها تبصر العين و تسمع الأذن و تمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها و تجردها عن البدن و قواه و أعضائه، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عاليا كان أو سافلا، و لا تبائنها قوة من القوى، مدركة كانت أو محركة، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلاّ و هو شأنه، كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ فعله، لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلا ليس صادرا عنه، بل بمعنى أنّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل اللّه بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقق في الواقع منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز، و هو مع ذلك شأن من شئون الحق الأول، فكذلك

ص: 350


1- سورة الذاريات: الآيتان 20 و 21.
2- غرر الحكم، ص 268، طبعة النجف. و روي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قوله: «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه». أمالي المرتضى، ج 2، ص 329.

علمه و إرادته و حركته و سكونه و جميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز و الكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه و مع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق الأول على الوجه اللائق بذاته سبحانه(1).

هذا ما أفاده صدر المتألهين من التمثيل عند تبيين حقيقة النظرية، و في بعض الأحاديث إشارة إليه، روى الكليني في (الكافي)، عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر الباقر: إنّ اللّه جلّ جلاله قال: «ما يقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، و إنّه ليتقرب إليّ بالنافلة، حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به و لسانه الذي ينطق به، و يده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته»(2).

إلى هنا تم تبيين التمثيل المبيّن لحقيقة النظرية، فسواء أ كان المختار هو البيان الأول المشهور بين الإمامية، أم كان ما ذكره صدر المتألّهين، فالتحقيق هو أنّ الفعل فعل اللّه و هو فعلنا إمّا بحديث التسبيب و الاستخدام أو لأجل أنّه لا يخلو شيء منه سبحانه، قال سبحانه: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ (3). و قال سبحانه: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ (4).

و اللّه سبحانه من وراء وجود فعل الإنسان و معه و بعده كالنفس بالنسبة إلى قواها و أفعالها. و قال سبحانه: وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (5).

ثم إنّ القول بأنّ فعل العبد فعل اللّه سبحانه لا يصحح نسبة كل ما يصدر عن العبد إلى اللّه سبحانه كأكله و شربه و نكاحه، و قد ذكرنا ضابطة قيّمة لتمييز ما يصحّ نسبته إليه عمّا لا يصح مع كون السببية محفوظة في

ص: 351


1- الأسفار، ج 6 ص 377 إلى 378، و ص 374.
2- وسائل الشيعة، ج 3. أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، ب 17، ح 6.
3- سورة الحديد: الآية 4.
4- سورة ق: الآية 16.
5- سورة الروم: الآية 27.

الجميع عند البحث في التوحيد في الخالقية، فراجع(1).

بقي الكلام في الآيات و الروايات التي يستنبط منها هذه النظرية بوضوح.

الأمر بين الأمرين في الكتاب و السنّة

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين و الإسنادين في فعل العبد، نسبة إلى اللّه سبحانه، و في الوقت نفسه نسبة إلى العبد، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى فإنّا نجد هاتين النسبتين في آيات:

1 - قوله سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ قَتَلَهُمْ وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاٰءً حَسَناً إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (2).

فترى أنّه سبحانه ينسب الرمي إلى النبي، و في الوقت نفسه يسلبه عنه و ينسبه إلى ذاته، كما هو مفاد قوله: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ . و لا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلاّ على الوجه الذي ذكرناه و هو أنّ نسبة الفعل إلى العبد ليست نسبة كاملة بأن يكون له الصلة، دون اللّه سبحانه. و مثله في جانبه تعالى. فلأجل ذلك تصح النسبتان، كما يصح سلبه عن أحدهما و إسناده إلى الآخر. فلو كانت نسبة الفعل إلى واحد منهما نسبة المعلول إلى العلّة التامة، لم يكن مجال إلاّ لإحداهما.

2 - قال سبحانه: قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (3).

فالظاهر أنّ المراد من التعذيب هو القتل لأن التعذيب الصادر من اللّه تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاّ ذاك، لا العذاب البرزخي و لا الأخروي فإنهما راجعان إلى اللّه سبحانه دون المؤمنين. و على ذلك فقد نسب فعلا

ص: 352


1- لاحظ ص 399 و 400.
2- سورة الأنفال: الآية 17.
3- سورة التوبة: الآية 14.

واحدا إلى المؤمنين و خالقهم. و لا تصح تينك النسبتين إلاّ على هذا المنهج، و إلاّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاّ إليه سبحانه، و في منهج التفويض على العكس و المنهج الّذي يصحح كلتا النسبتين هو منهج الأمر بين الأمرين، على البيان الماضي قال الرازي الأشعري المذهب: «احتجّ أصحابنا على قولهم بأنّ فعل العبد مخلوق للّه تعالى بقوله: يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ ، فإنّ المراد من هذا التعذيب القتل و الأسر. و ظاهر النّص يدل على أنّ ذلك القتل و الأسر فعل اللّه تعالى، إلاّ أنّه تعالى يدخله في عالم الوجود على أيدي العباد و هو صريح قولنا و مذهبنا»(1).

يلاحظ عليه: أنّ الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في الدلالة على مذهب الأشاعرة، فإنّ مذهبهم أنّ العباد بمنزلة الآلات المحضة بل أدون منها حيث لا تأثير لإرادتهم و قدرتهم، و هي قابلة للانطباق على مذهب العدلية، بمعنى أنّه سبحانه ينفذ إرادته من طريق إرادة المؤمنين لكونهم خاضعين له كخضوع العبد للمولى و المأمور للآمر. و قد شاع قولهم في التمثيل ب «فتح الأمير المدينة»، مع أنّ الفاتح هو الجيش، لكن بأمر الأمير.

ثم إنّ الجبّائي من المعتزلة أجاب عن استدلال الأشاعرة بأنّه لو صحّ أن يقال: إنّه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين لجاز أن يقال: إنّه يكذب أنبياءه بألسنتهم، و يلعن المؤمنين و يسبّهم بأفواههم، لأنّ المفروض أنّ اللّه خالق لذلك كله في كلا الجانبين.

و العجب أنّ الرازي قال في جواب الجبّائي: «و أجاب أصحابنا عنه فقالوا أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلاّ أنا لا نقوله باللسان»!!(2).

3 - هناك آيات نسب الفعل الواحد في آية منها إلى اللّه سبحانه و في

ص: 353


1- مفاتيح الغيب، ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.
2- مفاتيح الغيب، ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.

أخرى إلى المخلوق و لا تصح النسبتان إلاّ على هذا المبنى، و هي عديدة نكتفي بواحدة منها:

قال سبحانه: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجٰارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (1). و قال أيضا: وَ لٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2). ففي هاتين الآيتين ينسب القسوة إلى نفس اليهود و كأنهم صاروا هم السبب لعروض هذه الحالة إلى قلوبهم بشهادة أنّ الآيتين في مقام الذمّ و اللوم، فلو لم يكن هناك سببية من جانبهم لما صح تقريعهم.

و في الوقت نفسه يعرّف فاعل هذه الحالة الطارئة بأنّه هو اللّه تعالى و يقول: فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً (3).

4 - هناك مجموعة من الآيات تعرّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله، و هي كثيرة أوعزنا إلى كثير منها فيما سبق.

فمنها قوله سبحانه: مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسٰاءَ فَعَلَيْهٰا وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (4).

و منها قوله سبحانه: كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ (5).

و منها قوله سبحانه: لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ (6).

و منها قوله سبحانه: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ * وَ أَنَّ سَعْيَهُ

ص: 354


1- سورة البقرة: الآية 74.
2- سورة الأنعام: الآية 43.
3- سورة المائدة: الآية 13.
4- سورة فصّلت: الآية 46.
5- سورة الطور: الآية 21.
6- سورة النور: الآية 11.

سَوْفَ يُرىٰ * ثُمَّ يُجْزٰاهُ اَلْجَزٰاءَ اَلْأَوْفىٰ (1) .

و منها قوله سبحانه: وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شٰاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شٰاءَ فَلْيَكْفُرْ (2).

و منها قوله سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ (3).

و منها قوله سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (4).

و منها قوله سبحانه: إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اِتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً (5).

و منها قوله سبحانه: وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا * فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا * وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (6).

إلى غير ذلك من الآيات التي تعترف بدور الإنسان في حياته و كونه مالكا لمشيئته و معيّنا لمسيره في مصيره.

و هناك مجموعة أخرى من الآيات تصرّح بأنّ كل ما يقع في الكون من دقيق و جليل لا يقع إلاّ بإذنه سبحانه و مشيئته، و أنّ الإنسان لا يشاء لنفسه إلاّ ما شاء اللّه له و هي كثيرة نشير إلى بعضها:

منها - قوله سبحانه: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (7).

ص: 355


1- سورة النجم: الآيات 39-41
2- سورة الكهف: الآية 29.
3- سورة الزمر: الآية 7.
4- سورة الإنسان: الآية 3.
5- سورة المزمل: الآية 19، المدثر: الآية 55، النبأ: الآية 39، و عبس: الآية 12.
6- سورة الشمس: الآيات 7-10.
7- سورة التكوير: الآية 29.

و منها - قوله سبحانه آمرا نبيّه: قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ (1). و ليست الآية خاصة بالمواهب الطارئة عليه من غير طريق اكتسابه، بل تعمّها و تعمّ كل ضر و نفع يكسبهما بسعيه و فعله فلا يصل إليه الإنسان إلاّ عن طريق مشيئة اللّه سبحانه.

و منها - قوله سبحانه: وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (2).

و منها - قوله سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

و منها - قوله سبحانه: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (4).

و منها - قوله سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (5)إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ كل ما يقع في الكون أو يصدر من العباد فهو بمشيئة و إذن منه سبحانه.

فالمجموعة الأولى من الآيات تناقض الجبر و تفنده، كما أنّ المجموعة الثانية ترد التفويض و تبطله و مقتضى الجمع بين المجموعتين حسب ما يرشدنا إليه التدبر فيها ليس إلاّ التحفظ على النسبتين و أنّ العبد يقوم بكل فعل و ترك، باختيار و حرية، لكن بإقدار و تمكين منه سبحانه فليس العبد في غنى عنه سبحانه في فعله و تركه. فهو يعمل في ظل عناياته و توفيقاته و لعلّ المراجع إلى الذكر الحكيم يجد من الآيات الراجعة إلى المجموعتين أكثر مما ذكرنا، كما يجد فيها قرائن و شواهد تسوقه إلى نفي كل من الجبر و التفويض و اختيار الأمر بين الأمرين.

ص: 356


1- سورة الأعراف: الآية 188.
2- سورة البقرة: الآية 102.
3- سورة البقرة: الآية 249.
4- سورة البقرة: الآية 251.
5- سورة يونس: الآية 100.

هذا ما يرجع إلى الكتاب الحكيم و أمّا الروايات فنذكر النزر اليسير مما جمعه الشيخ الصدوق في (توحيده) و المجلسي في (بحاره).

1 - روى الصدوق عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام) قالا: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثم يعذبهم عليها و اللّه أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون. قال فسئلا (عليهما السّلام): هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة ؟ قالا: نعم أوسع ممّا بين السّماء و الأرض»(1).

2 - روى الصّدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال: «ذكر عنده الجبر و التفويض فقال: ألا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه، و لا تخاصمون عليه أحدا إلاّ كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك. فقال: إنّ اللّه عزّ و جل لم يطع بإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه. و هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته، لم يكن اللّه عنها صادا، و لا منها مانعا، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و إن لم يحل و فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثم قال (عليه السّلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه»(2).

3 - و روى الصدوق عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين أمرين» قال:

فقلت: و ما أمر بين أمرين ؟ قال: مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته، فتركته، ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية»(3).

4 - روى الصدوق في (معاني الأخبار) و (عيون أخبار الرضا) عن

ص: 357


1- التوحيد باب نفي الجبر و التفويض، الحديث 3، ص 360.
2- المصدر السابق، الحديث 7، و السند صحيح.
3- المصدر السابق، الحديث 8.

الفضل عن الرضا (عليه السّلام) فيما كتب للمأمون: «من محض الإسلام أن اللّه تبارك و تعالى لا يكلف نفسا إلاّ وسعها، و أن أفعال العباد مخلوقة للّه، خلق تقدير لا خلق تكوين، و اللّه خالق كل شيء و لا نقول بالجبر و التفويض»(1).

5 - روى السيد بن طاوس في (طرائفه) قال: روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرضا (عليه السّلام) بين يدي المأمون فقال: «يا أبا الحسن الخلق مجبورون ؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم. قال:

فمطلقون ؟ قال: اللّه أحكم من أن يهمل عبده و يكله إلى نفسه»(2).

6 - و قد كتب الإمام العاشر أبو الحسن الثالث (صلوات اللّه عليه) رسالة في الردّ على أهل الجبر و التفويض، و إثبات العدل، و الأمر بين الأمرين، و هذه الرسالة نقلها صاحب تحف العقول في كتابه و ممّا جاء فيها:

«فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أنّ اللّه جل و عز، أجبر العباد على المعاصي و عاقبهم عليها، و من قال بهذا القول فقد ظلّم اللّه في حكمه و كذّبه و ردّ عليه قوله: وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (3)، و قوله:

ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ يَدٰاكَ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (4) ، و قوله: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ شَيْئاً وَ لٰكِنَّ اَلنّٰاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (5). فمن زعم أنّه مجبر على المعاصي، فقد أحال بذنبه على اللّه، و قد ظلّمه في عقوبته، و من ظلّم اللّه فقد كذّب كتابه، و من كذّب كتابه، فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة. - إلى أن قال -: فمن زعم أنّ اللّه تعالى فوض أمره و نهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز... - إلى أن قال - لكن نقول: إنّ اللّه عز و جل خلق الخلق بقدرته، و ملّكهم استطاعة تعبّدهم بها فأمرهم و نهاهم بما أراد... إلى أن قال:

و هذا القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض و بذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم و يقعد و يفعل، فقال له أمير المؤمنين: سألت عن الاستطاعة، تملكها

ص: 358


1- البحار كتاب العدل و المعاد، ج 5، الحديث 38، ص 30.
2- المصدر السابق الحديث 120 ص 56.
3- سورة الكهف: الآية 49.
4- سورة الحج: الآية 10.
5- سورة يونس: الآية 44.

من دون اللّه أو مع اللّه ؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنين: قل يا عباية، قال: و ما أقول ؟. قال (عليه السّلام) إن قلت إنك تملكها مع اللّه قتلتك.

و إن قلت تملكها دون اللّه قتلتك. قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال (عليه السّلام) تقول: إنك تملكها باللّه الذي يملكها من دونك. فإن يملّكها إياك كان ذلك من عطائه، و إن يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملّكك، و القادر على ما عليه أقدرك»(1).

قال العلاّمة الطباطبائي: اختلف في الاستطاعة قبل الفعل هل العبد مستقل بها بحيث يتصرف في الأسباب و آلات الفعل من غير أن يرتبط شيء من تصرفه باللّه، أم للّه فيها صنع، بحيث إنّ القدرة للّه مضافة إلى سائر الأسباب، و إنما يقدر العبد بتمليك اللّه إيّاه شيئا منها، المعتزلة على الأول و المتحصل من أخبار أهل البيت (عليهم السّلام) هو الثاني(2).

و لكن إنّ تمليكه سبحانه لا يبطل ملكه، فالمولى مالك لجميع ما يملكه في عين كونه ملكا للعبد(3).

و قد اكتفينا بهذا النزر اليسير، و هو غيض من فيض، و قليل من الكثير من الأحاديث الواردة في باب الجبر و التفويض، و باب القضاء و القدر. و قد تقدم إيراد مجموعة من هذه الأحاديث فيما مضى.

و من ظريف ما روي عن الشهيد السعيد زين الدين الجبعي العاملي (ت 909 - م 966) قوله:

لقد جاء في القرآن آية حكمة *** تدمّر آيات الضّلال و من يجبر

ص: 359


1- المصدر السابق كتاب العدل و المعاد الباب الثاني الحديث 1، ص 71-75. و هذا الحديث يفسّر ما رواه المجلسي عن أبي إبراهيم موسى الكاظم برقم 61، ص 39، المصدر السابق نفسه.
2- المصدر السابق، ص 39، تعليقة العلاّمة الطباطبائي رحمه اللّه.
3- لاحظ تعليقته الأخرى، ص 83.

و تخبر أنّ أنّ الاختيار بأيدينا *** فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر(1)

رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين

إن فخر الدين الرازي (ت 543 - م 606)، مع كونه متعصبا في الذبّ عن كلام الأشعري، رجع إلى القول بالأمر بين الأمرين و قال:

«هذه المسألة عجيبة، فإن الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب أنّ ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة، فمعوّل الجبرية على أنّه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد، و معوّل القدرية على أنّ العبد لو لم يكن قادرا على فعل لما حسن المدح و الذمّ و الأمر و النهي». ثم ذكر أدلة الطائفتين إلى أن قال: «الحق ما قال بعض أئمة الدين إنّه لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين أمرين، و ذلك أنّ مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرته و اختياره و المبادي البعيدة على عجزه و اضطراره، فالإنسان مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب و الوتد في شق الحائط، و في كلام العقلاء قال الحائط للوتد: لم تشقّني ؟ فقال: سل من يدقّني»(2)

اعتراف شيخ الأزهر بصحة هذه النظرية

و ممن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته، الشيخ محمد عبده في رسالته حول التوحيد، و قد أثّر كلامه في الأجيال المتأخرة من تلاميذ منهجه و مطالعي كتبه، قال: «جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين، هما ركنا السعادة و قوام الأعمال البشرية، الأول: إنّ العبد يكسب بإرادته و قدرته

ص: 360


1- مقدمة الروضة البهية للشهيد الثاني، ص 188.
2- بحار الأنوار، ح 5، ص 82. و لا يخفى إنّه مع اعترافه ببطلان الجبر و التفويض في ثنايا كلامه لم يفسّر نظرية الأمر بين الأمرين تفسيرا لائقا بها.

ما هو وسيلة لسعادته. و الثاني: إنّ قدرة اللّه هي مرجع لجميع الكائنات و إن من آثارها ما يحول بين العبد و إنفاذ ما يريده و إنّ لا شيء سوى اللّه يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه...

و قد كلّفه سبحانه أن يرفع همته إلى استمداد العون منه وحده بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الكفر و إجادة العمل و هذا الذي قررناه قد اهتدى إليه سلف الأمة فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأمم و عوّل عليه من متأخرى أهل النظر إمام الحرمين الجويني رحمه اللّه، و إن أنكر عليه بعض من لم يفهمه»(1).

إلى هنا خرجنا بتوضيح حقيقة النظرية عن طريق البراهين العقلية و النقلية و لكن بقيت هاهنا أسئلة حول القول باختيار الإنسان نوردها واحدة بعد الأخرى فبعض هذه الأسئلة قرآني، و البعض الآخر روائي، و البعض الثالث فلسفي و الإجابة عليها تحل غالب المشاكل المحفوفة بنظرية الاختيار.

ص: 361


1- رسالة التّوحيد، ص 59-62 بتلخيص.

ص: 362

أسئلة و أجوبة حول اختيار الإنسان

اشارة

* هل الحسنة و السيئة من اللّه أو من العبد؟ * ما معنى السعادة و الشقاء الذاتيين ؟ * انتهاء الأمور إلى الإرادة الأزلية.

* ما معنى كون الهداية و الضّلالة بيده سبحانه ؟

ص: 363

ص: 364

أسئلة و أجوبة حول اختيار الإنسان

السؤال الأول هل الحسنة و السيئة من اللّه أو من العبد؟

ربما يتبادر إلى الذهن في بادئ النظر الاختلاف في قضاء القرآن في مبدأ الحسنة و السيئة حيث يرى في الآيتين التاليتين أقضية ثلاثة في مصادرهما و مباديهما:

1 - ما ينقل عن المنافقين حيث كانوا ينسبون الحسنة إلى اللّه و السيئة إلى النبي، كما يحكي عنه قوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ (1)، تطيّرا بوجود النبي، كما تطيروا بغيره في الأمم السالفة.

2 - ما يذكره سبحانه في نفس الآية ردّا عليهم بأنّ الحسنة و السيئة كلّ من عند اللّه، حيث قال: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (2).

3 - ما ذكره تعالى في الآية التالية حيث نسب الحسنة إلى اللّه و السيئة إلى العبد فجعل منشأ الأولى هو الباري تعالى، و منشأ الثانية الإنسان يقول:

ص: 365


1- سورة النساء: الآية 78.
2- سورة النساء: الآية 78.

مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (1) .

فكيف التوفيق بين القضاء الثاني و الثالث.

أما الجواب، فنقول: إنّه سبحانه نقل عن الفراعنة نظرية أشدّ بطلانا مما نقله عن المنافقين، حيث كانوا ينسبون الحسنات إلى أنفسهم و السيئات إلى موسى (عليه السّلام). قال سبحانه: وَ لَقَدْ أَخَذْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قٰالُوا لَنٰا هٰذِهِ ، وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسىٰ وَ مَنْ مَعَهُ ، أَلاٰ إِنَّمٰا طٰائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (2)و القرآن يجيب عن هذا القضاء المنقول عن المنافقين و الفراعنة، فيرد على الأول بأنّه مبني على وجود مؤثرين مستقلين في عالم الوجود، لكل واحد فعل خاص ينافي فعل الآخر، حيث قال: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (3).

كما ردّ على نظرية الفراعنة بقوله: أَلاٰ إِنَّمٰا طٰائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (4). فلا كلام في بطلان ما قضى به المنافقون و الفراعنة، و إنما نركز البحث على القضاءين المختلفين الواردين في القرآن الكريم فنقول:

إنّ المراد من الحسنة و السيئة في الآية، بقرينة وقوعها في سياق آيات الجهاد هو الغلبة فيه أو الهزيمة، فعمت الأولى المسلمين في غزوة بدر، كما شملتهم الهزيمة في أحد، فأراد المنافقون أو ضعفاء العقول الإزراء بالنبي، و أنّ الغلبة في غزوة بدر كانت من اللّه سبحانه و الهزيمة من النبي لسوء القيادة، فكانوا يتبجحون بهذه الفكرة تعبيرا بالنبي و تضعيفا لعقول المسلمين، فردّ اللّه سبحانه عليهم بأنّ الحسنة بقول مطلق كالفتوحات في

ص: 366


1- سورة النساء: الآية 79.
2- سورة الأعراف: الآيتان: 130 و 131.
3- سورة النساء: الآية 78.
4- سورة الأعراف: الآية 131.

مورد الآية، و كثرة الثمار و شمول الخصب كما في مورد الفراعنة، و السيئة بقول مطلق كالهزيمة في مورد البحث و نقص الثمرات و عموم الجدب في مورد الفراعنة، كلها من اللّه سبحانه، إذ لا مؤثر في الوجود إلاّ هو، و لا خالق غيره، فما يصيب الإنسان مما يستحسنه طبعه، أو يسوؤه كله من اللّه تعالى، فهو خالق الأكوان و الحوادث، و إنّ سلسلة الوجود تنتهي إليه سبحانه. و بذلك يعلم أنّ المراد من الحسنة و السيئة نظير هذه الأمور لا الأفعال الاختيارية التي يقوم بها الإنسان في حياته فالآيات الواردة في هذا المجال منصرفة عنه، فمقتضى التوحيد الأفعالي نسبة الكلّ إلى اللّه سبحانه. هذا هو وجه القضاء الأول.

و أمّا الآية الثانية التي تفكك بين الحسنة و السيئة، فتنسب الأولى إلى اللّه و السيئة إلى الإنسان فإنما هي ناظرة إلى مناشئهما و مباديهما، فلا شك أنّ الإنسان لا يستحق بذاته شيئا من النعم التي أنعمها اللّه عليه، و أنّ كل النعم و الحسنات تصيبه تفضلا من اللّه سبحانه و كرامة منه، و لأجل ذلك قال سبحانه: مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ و الخطاب و إن كان للنبي، و لكنه من قبيل الخطابات القرآنية التي يخاطب بها النبي و يقصد منها كل الناس؛ قال سبحانه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (1). و من هنا يركز القرآن على أنّ مبدأ الحسنة هو اللّه سبحانه.

و أمّا السيئة فهي و إن كانت من عند اللّه و لكن لو استقرأ الإنسان مناشئ الهزائم و الانكسارات أو البلايا و النوازل يجد أن المجتمع الإنساني هو المنشأ لنزولها، و أخذهم بها. قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (2). و قد تقدم في البحث عند البداء ما يفيدك في المقام.

ص: 367


1- سورة الزمر: الآية 65.
2- سورة الأعراف: الآية 96

و بذلك يسهل عليك فهم ما جاء في الآية التالية من التفريق بين الهداية و الضّلالة حيث يقول سبحانه: قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ مٰا يُبْدِئُ اَلْبٰاطِلُ وَ مٰا يُعِيدُ * قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي، وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (1) فترى أنّه سبحانه يأمر عبده بأن ينسب الضلالة إلى نفسه و الهداية إلى ربّه، مع أنّه سبحانه ينسبهما في آيات أخرى إلى نفسه و يقول:

فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2) . و ما هذا إلاّ لأن الهداية و الضلالة بما أنهما من الأمور الواقعية في الكون تنتهي وجودا إلى اللّه سبحانه، فينسبهما من حيث الوجود إلى نفسه سبحانه. و أمّا من حيث المناشئ و الحوافز التي تنزلهما إلى العبد، فبما أنّ الهداية نعمة من اللّه سبحانه لا يستحقها الإنسان بذاته، بل تعمه كرامة منه تعالى، فينسبها إلى اللّه تعالى من هذه الجهة و يقول: وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي .

و بما أنّ الضلالة نقمة يستحقها الإنسان لتقصيره في اتباع الرسل و الاهتداء بالكتب، صارت أولى بأن تنسب إلى العبد، و يقول: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي .

و بهذا البيان يرتفع ما يتراءى من الاختلاف بين نظائر هذه الآيات.

و بكلمة واحدة، إنّ الآيات من حيث المساق مختلفة، فعند ما يلاحظ الظاهرة - سواء أ كانت حسنة أو سيئة، هداية أو ضلالة - بما أنّها من الأمور الواقعية الإمكانية، لا تتحقق إلاّ بالانتماء إلى الواجب تعالى و الصدور منه، ينسبها إلى اللّه تعالى. و عند ما يلاحظها من حيث المناشئ و الدواعي التي تنزلها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فليس للحسنة و الهداية منشأ إلاّ اللّه تعالى، كما أنّه ليس للسيئة و الضلالة منشأ، سوى تقصير العبد في حياته كما عليه الآيات الكثيرة. و لأجل ذلك نرى أنّ الحديث القدسي المنقول عن

ص: 368


1- سورة سبأ: الآيتان 49 و 50.
2- سورة إبراهيم: الآية 4.

النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يفرق بين الحسنة و السيئة مع أنّ الكل يوجد بحوله و قوته سبحانه، يقول: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بنعمتي أدّيت إليّ فرائضي، و بقدرتي قويت على معصيتي، خلقتك سميعا بصيرا، أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني»(1).

ص: 369


1- بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الباب الأول الحديث 3، ص 4. و لاحظ ص 56.

ص: 370

السؤال الثاني ما معنى السعادة و الشقاء الذاتيين ؟
اشارة

قد اشتهر في ألسن الباحثين عن الجبر و الاختيار القول بأنّ الناس على صنفين سعيد و شقي، و أنّ سعادة كلّ و شقاءه مكتوب في علمه الأزلي سبحانه أولا، و محكوم بأحدهما آن كونه جنينا في بطن أمّه، و هذا يكشف عن أنّ الشقاء و السعادة ذاتيان، فكيف يمكن الحكم بالاختيار معهما.

أما الأول: أي كون كل واحد مكتوبا بأحد الوصفين في علمه الأزلي، فيستظهر من قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ * فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ * وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (1).

قال الرازي في تفسير الآية: اعلم أنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد، و على بعضهم بأنّه شقي، و من حكم اللّه عليه بحكم و علم فيه ذلك الأمر، امتنع كونه بخلافه، و إلاّ لزم أن يصير خبر اللّه تعالى

ص: 371


1- سورة هود: الآيات 105-108.

كذبا، و علمه جهلا و ذلك محال. فثبت أنّ السعيد لا ينقلب شقيا و أنّ الشقي لا ينقلب سعيدا». ثم استشهد لكلامه بما روي عن عمر أنّه قال:

«لما نزل قوله تعالى فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ قلت: يا رسول اللّه فعلى ما ذا نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه، فقال: على شيء قد فرغ منه يا عمر، و جفّت به الأقلام، و جرت به الأقدار، و لكن كل ميسّر لما خلق له». قال: و قالت المعتزلة: نقل عن الحسن أنّه قال:

فمنهم شقي بعمله و سعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات و أيضا فلا نزاع أنّه إنما شقي بعمله و إنما سعد بعمله. و لكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء اللّه و قدره، كان الدليل الذي ذكرناه باقيا»(1). فقد استفاد الرازي من الآية أنّ السعادة و الشقاء من الأمور الذاتية للموصوف بهما حتى قال إنّ السعيد لا ينقلب شقيا.

و أمّا الثاني: فقد روى المحدثون عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «الشّقيّ من شقي في بطن أمّه. و السعيد من سعد في بطن أمّه»(2).

تحليل الشقاوة و السعادة في الآية و الحديث
اشارة

إنّ البحث في هذا المجال يتم في ضمن جهات:

الجهة الأولى - في تقسيم الناس إلى شقي و سعيد.

إنّ الناظر في الآيات الماضية لا يدرك سوى أنّ هناك جماعة متصفون بالسعادة و أخرى بالشقاوة، و أمّا كونهما ذاتيين لموصوفيهما أو ثابتين بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها، أو يثبتان لهما عن اكتساب و عمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتيهما، فلا نظر في الآيات إلى شيء

ص: 372


1- تفسير «مفاتيح الغيب» للرازي، ج 5، ص 93، الطبعة الأولى 1308 ه.
2- التوحيد باب السعادة و الشقاوة، الحديث 3، ص 356.

من ذلك، لو لم نقل إنها إلى الثالثة أقرب. لأن الآيات واقعة في سياق الدعوة إلى الإيمان و الندب إلى الطاعة و ترك المعصية، فيدل على تيسير سبيل الوصول إلى كل واحد منهما. قال سبحانه: ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ (1). و بذلك يظهر أنّ القول بدلالة الآيات على الذاتيين منهما، قول بلا دليل.

و أمّا ما اعتمد عليه الرازي من قوله: «إنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد و على بعضهم بأنّه شقي»، و أسماه دليلا قاطعا، فهو بالمغالطة أشبه منه بالدليل. و ذلك لأنّه أخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته و أثره، فالحكم منه سبحانه و إن كان في زمن نزول الآية لكن زمان الاتصاف هو يوم القيامة، فكيف قال إنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد (فعلا) و على بعضهم بأنّه شقي (كذلك)، و إنما حكمت الآية في زمن النزول بأنّ الناس يتصفون في المستقبل بأحدهما لا في زمان الحكم القائم بالحاكم. فاستفادة كون الأشخاص سعداء أو أشقياء بالفعل و في زمن نزول الآية ناشئ عن الخلط بين زماني الحكم و الاتصاف، فالحكم فعلي و الاتصاف استقبالي. فعندئذ لا تدل على ما يتبناه من كون السعادة أو الشقاء حليف الإنسان و أليفه في الدنيا، و أنه بالفعل من زمن طفولته إلى كهولته و هرمه، محكوم بأحد الحكمين.

و أما إرادته سبحانه أو علمه الأزلي، فلا شك في عمومهما لكل حادثة و ظاهرة، و من المعلوم أنّه لا يتطرق التغير إليهما و إلاّ عاد جهلا. و لكنّ سبق تلك الإرادة و العلم لا يستلزم الجبر لو لم نقل إنّه يؤكد الاختيار، لما علمت من أنهما لم يتعلقا بصدور الفعل مجردا عن مباديهما و الخصوصيات المكتنفة بهما، و إنما تعلقا على أن يصدر كل منهما من الإنسان بالخصوصيات الموجودة فيه، و منها الاختيار. فقد تعلقت إرادته و قضى بعلمه سبحانه على

ص: 373


1- سورة عبس: الآية 20.

اتصاف صنف بالسعادة و صنف آخر بالشقاء من خلال اختيارهما أحد الأمرين.

قال العلاّمة الطباطبائي: «لو تعلق علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحترق بالنار، لا يوجب ذلك العلم وجوب تحقق الاحتراق مطلقا، سواء أ كانت هناك نار أم لم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، و إنما يوجب وجوب تحقق الاحتراق المقيّد بالنار لأنّه الذي تعلق به العلم الحق، و كذا علمه تعالى بأنّ الإنسان سيعمل بإرادته و اختياره عملا أو سيشقى في ظل عمل اختياري، يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء أ كان هناك اختيار أو لم يكن، كان هناك إنسان أو لم يكن، حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان و عمله، و نظيره علمه سبحانه بأن إنسانا كذا، سيشقى بكفره اختيارا يستوجب تحقق الشقوة التي هي نتيجة الكفر الاختياري دون الشقوة مطلقة سواء أ كان هناك كفر أو لا، و سواء أ كان هناك اختيارا أو لا»(1).

و أما الرواية التي استشهد بها الرازي فقد أوعزنا عند البحث عن القضاء و القدر إلى أنها أشبه بالإسرائيليات منها بالإسلاميات. و القرآن ينص على عدم الفراغ من العلم، قال سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (2). و قال سبحانه: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (3). على أنّه يمكن توجيه قوله (عليه السّلام): «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له»، بأن المراد من الموصول في قوله: «لما خلق له»، هو معرفة اللّه سبحانه و عبادته، لا الكفر به و إنكاره قال سبحانه: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (4). فإذا كانت الغاية من الخلقة هي العبادة، يكون كلام الرسول «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له»، ناظرا إلى هذه الغاية فقط، لا

ص: 374


1- الميزان، ج 11، ص 21.
2- سورة الرحمن: الآية 29.
3- سورة الرعد: الآية 39.
4- سورة الذاريات: الآية 56.

إلى السعادة و الشقاء و يؤيد ذلك ما ورد في بعض الروايات أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قرأ قوله: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ (1). و قد ورد هذا التفسير في كلام الإمام الطاهر موسى بن جعفر حيث يقول بعد ما سئل عن قول رسول اللّه: «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له»: إنّ اللّه عز و جل خلق الجن و الإنس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه و ذلك قوله عز و جل: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ ، فيسّر كلاّ لما خلق له، فالويل لمن استحب العمى على الهدى»(2).

نعم حاول العلاّمة الطباطبائي تصحيح الرواية بوجه خاص، فمن أراد الاطّلاع عليه فليرجع إلى كلامه(3).

الجهة الثانية - في معنى الرواية المروية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله)

إنّ السعادة و الشقاء من المفاهيم الواضحة و لا يحتاجان إلى التفسير و لكنهما يتشعبان و يختلفان حسب اختلاف متعلقهما فسعادة كل شيء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه، فهي في الإنسان - و هو مركب من روح و بدن - أن ينال الخير حسب قواه الجسمانية و الروحية فيتنعم به و يلتذ، و شقاؤه أن يفقد ذلك و يحرم منه. و على ضوء ذلك فالإنسان من حيث الصحة و السقم ينقسم إلى سعيد و شقي، و من حيث الغنى و الفقر في حوائج الحياة يتصف بأحدهما، كما هو كذلك إذا قيس إلى الزوجة و الرفيق و غير ذلك من ملابسات الإنسان، فيوصف بأنّه سعيد من هذه الجهة أو شقي و على ذلك فليس معنى السعيد على الإطلاق الخالد في الجنّة، و الشقي الخالد في النار، و إنما هما من أقسامهما و مصاديقهما. نعم، المراد منهما في الآية المتقدمة هو ذاك بشهادة قوله سبحانه: فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ و أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ . و لكنه معلوم من سياق

ص: 375


1- سورة الليل: الآيات 5-7.
2- التوحيد، باب السعادة و الشقاء، الحديث الثالث.
3- الميزان، ج 11، ص 37-38.

الآية، لا أنّهما موضوعان للسعيد و الشقي في الآخرة ليس غير.

و على ضوء ذلك فالخبر المروي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ليس إلاّ قوله: «الشقي من شقي في بطن أمّه و السعيد من سعد في بطن أمّه»، و هو كلام مطلق لا قرينة فيه على أنّ المراد منه هو القسم الوارد في الآيات الكريمة، بل يمكن أن يقال إنّ المراد منه هو السعادة و الشقاء من حيث الخلقة و المزاج بقرينة قوله: «في بطن أمّه». فمن المحتمل إذا صحّ سند الحديث و ثبت صدوره من النبي أن يكون المراد إنّ الإنسان في بطن أمه على صنفين: شقي و سعيد.

فالجنين المتكون من نطفة و بويضة لأبوين سالمين روحا و جسما يتصف بالسعادة في بطن أمه و ترافقه في حياته الدنيوية، و هذا بخلاف الجنين المتكوّن من نطفة و بويضة لأبوين عليلين و مريضين جسما و روحا، فهو من هذا الآن محكوم بالشقاء، و إذا تولد رافقه إلى آخر عمره إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ .

فالرواية لا صلة لها بالسعادة و الشقاء الأخرويين. و بالنتيجة لا ترتبط ببحث الجبر و الاختيار، و إنما حملوها عليهما لأجل كون السعادة و الشقاء في الآية راجعين إلى الحياة الأخروية، و لكنه ليس بدليل.

نعم روى الصدوق عن محمد بن أبي عمير (م 217) قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السّلام) عن معنى قول رسول اللّه:

«الشقي من شقي في بطن أمّه و السعيد من سعد في بطن أمّه». فقال: «الشقي من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء. و السعيد من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السعداء»(1).

ص: 376


1- التوحيد باب السعادة و الشقاوة، الحديث 3، ص 356.
الجهة الثالثة - في تحليل السعادة و الشقاء من حيث الذاتية و الاكتسابية

الذاتي قد يطلق و يراد منه ذاتي باب «الإيساغوجي»(1). و أخرى يراد منه ذاتي باب «البرهان». أما الأول فالمراد منه ما لا يكون خارجا عن ذات الشيء و يقابله العرضي، فالجنس و الفصل و النوع ذاتيات بهذا المعنى و العرض الخاص و العام عرضيان بالنسبة إليها، و ذلك واضح لا يحتاج إلى البيان، فالحيوانية و الناطقية و الإنسانية تعدّ ذاتيات بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الإنسان، و التعجب و المشي عرضيان بالنسبة إليه.

و أما الثاني، أعني ذاتي باب البرهان، فالمراد منه ما لا يكون جنسا و لا فصلا و لا نوعا، و لكنه ينتزع من نفس ذات الشيء و فرض حصوله في ظرف من الظروف من دون حاجة إلى ضم ضميمة خارجية إليه، بل يكفي وضع الموضوع في وضع المحمول. و هذا كالإمكان بالنسبة إلى ماهية الإنسان، و الزوجية بالنسبة إلى الأربعة. ففرض الإنسان في أي ظرف من الظروف، ذهنا كان أو خارجا، يصحح انتزاع الإمكان منه و حمله عليه، كما أنّ فرض الأربعة بالنسبة إلى الزوجية كذلك. فالإمكان و الزوجية ليسا جنسين و لا فصلين و لا نوعين بالنسبة إليهما، و لكن يكفي فرض الموضوع في فرض المحمول من دون حاجة إلى انضمام شيء و حيثية إلى جانب الإنسان أو الأربعة. فيطلق على كل واحد تارة «ذاتي باب البرهان» و أخرى «المحمول بالصميمة».

و يقابله ما لا يكون كذلك، أي يحتاج في توصيف الشيء به و حمله عليه إلى انضمام شيء إلى الموصوف حتى يصحّ في ضوئه حمله عليه، و ذلك كحمل الأبيض على الجسم فإن توصيفه به يتوقف على انضمام عرض كالبياض إليه و إلاّ ففرض الجسم في ظرف من الظروف لا يصحح الحمل كما لا يصحح اتصاف الجسم به. و مثله حمل الوجود على الماهية و اتصافها

ص: 377


1- الإيساغوجي في مصطلح المنطقيين اليونانيين يعادل «الكليّات الخمس» في مصطلح منطق الإسلاميين.

به، فإن فرضها بما هي هي، لا يكفي في اتصافها به بل يحتاج إلى ضم حيثية إلى الماهية تخرجها من حالة التساوي إلى أحد الجانبين. و هذه الحيثية هي الحيثية العلّية، و لولاها لما صح حمل الموجود عليها، فيطلق على البياض المنضم إلى الجسم «حيثية تقييدية»، كما يطلق على العلّة المخرجة للماهية من كتم العدم إلى الوجود «حيثية علية».

و لذلك اشتهر في كلامهم أنّ الذاتي في باب البرهان ما لا يحتاج في الحمل و الاتصاف إلى إحدى الحيثيتين، و غيره يتوقف صحة الحمل و الاتصاف فيه على ضم إحداهما(1).

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه لا يصحّ توصيف السعادة و لا الشقاء بالذاتي بكلا المعنيين.

أمّا الأول، فإن السعادة و الشقاء ليسا من مقولة الجنس و لا الفصل و لا النوع بالنسبة إلى الفرد المحكوم بأحدهما، و ذلك واضح لا يحتاج إلى بيان.

و أمّا الثاني، أعني «ذاتي باب البرهان» فقد عرفت أنّه عبارة عن الخارج عن ماهية الشيء (ليس جنسا و لا فصلا و لا نوعا) و لكن يحمل عليه بلا ضم ضميمة. و لكنهما ليسا كذلك إذ لا يكفي فرض فرد من الإنسان في اتصافه بأحدهما، بل يحتاج إلى ضم ضميمة إلى جانبه ككونه ذا عقائد حقّة و أعمال صالحة، أو ما يقابلها من العقائد الباطلة و الأعمال الطالحة، فيصحّ أن يطلق أنّه سعيد أو شقي، و في ضوء ذلك يجب أن يقال: إنّ السعادة و الشقاء من الأمور العرضية التي يكتسبها الإنسان في مدّة حياته.

و إن أريد أنّ مباديهما و مناشئهما من الأمور الذاتية التي تنتقل إلى

ص: 378


1- و إلى هذا التقسيم يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله: و الخارج المحمول من صميمه يغاير المحمول بالضّميمة كذلك الذاتيّ بذا المكان ليس هو الذاتي في البرهاني

الإنسان بالوراثة و الثقافة و البيئة، فإن ما تتركه هذه الأمور من الآثار بما أنها خارجة عن اختيار الإنسان يطلق عليها الذاتي. فقد عرفت أنّ تأثير كل واحد من هذه العوامل الثلاث تأثير اقتضائي غير مفروض على الإنسان، بل فوقه حرية الإنسان و اختياره، فله أن يزيل ما تركته و فرضته هذه العوامل بقوة و شدة. و قد اشبعنا الكلام في ذلك فيما مضى فلاحظ.

أضف إلى ذلك: إنّ كثيرا من الملكات الصالحة أو الطالحة لا تحصل في الإنسان إلاّ بتكرار العمل، فالشرير الذي يسهل عليه قتل الأبرياء، لم يكن يوم ولد بهذه الدرجة من الجناية و إنما أوجد تكرار العمل تلك الدرجة الخاصة التي يكون قتل الإنسان و قتل البق عنده سواء. و هذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أنّ الملكات الصالحة أو الخبيثة التي يعبّر عنها بالسّعادة و الشقاء، الباعثة إلى الأعمال المناسبة لها، إنما يكتسبها الإنسان عن طريق تكرار العمل و مع ذلك فكيف تعد تلك الملكات أمورا ذاتية.

تقسيم الإنسان إلى شقيّ و سعيد

إنّه سبحانه يقسم مجموع الإنسان إلى شقي و سعيد حيث يقول:

يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (1) . و لكنها لا تدل على أنّ الشقاء و السعادة من الأمور الذاتية اللاّزمة للإنسان لما عرفت من أنّ ظرف الحكم هو الدنيا و لكن ظرف الاتصاف في الآخرة. فاتصاف كل واحد بأحد الأوصاف لأجل الأعمال التي ارتكبها في حياته الدنيوية أو العقائد الباطلة التي اتصف بها فيها، و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرتب على كون الإنسان شقيا بأنّ له في الحياة الأخروية، زفير و شهيق، و على السعيد بأن له الجنة(2).

و هذا يعرب عن أنّ الزفير و الشهيق أو النعمة و الجنة من آثار الشقاء و السعادة كما أنهما من آثار تكذيب الأنبياء أو قبول دعوتهم إلى غير ذلك من

ص: 379


1- سورة هود: الآية 105.
2- سورة هود: الآيتان 106 و 107.

الأعمال التي توجب الشقاء و السعادة، و يدلّك على ذلك قوله سبحانه في الآية المتقدمة: وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمٰا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ اَلَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ مٰا زٰادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (1).

و بذلك يظهر ضعف ما اعتمد عليه المحقق الخراساني في معالجة مسألة العقاب حيث قال: «العقاب إنما يتبع الكفر و العصيان التابعين للاختيار (الإرادة) الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية، اللازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ السعيد سعيد في بطن أمه، و الشقي شقي في بطن أمّه»(2).

كيف و قد دلّت التجارب العلمية على أنّ كثيرا من الملكات و الصفات يكتسبها الإنسان على مدى حياته بممارسة الأعمال و الأفعال، و إلاّ فالإنسان يخلق على الفطرة الصحيحة السالمة قال سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (3)، فالآية تفسّر الدين الذي يجب التوجه إليه بقوله: فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا . و «الفطرة» بمعنى الخلقة بقرينة قوله سبحانه: لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ . و تشير الجملة إلى أنّ الذي يجب التوجّه إليه (لقوله فأقم وجهك للدين حنيفا) هو مما جبل الإنسان عليه، فإصغاؤه لدعوة الدين تلبية لنداء الفطرة، و من خلق على فطرة الدين كيف يكون شقيا بالذات ؟

تحليل لآية أخرى

ربما يتمسك في إثبات الشقاء الذاتي بقوله سبحانه، حاكيا عن

ص: 380


1- سورة هود: الآية 101.
2- كفاية الأصول، ج 1، بحث اتحاد الطلب و الإرادة، ص 100.
3- سورة الروم: الآية 30.

المجرمين يوم القيامة: قٰالُوا رَبَّنٰا غَلَبَتْ عَلَيْنٰا شِقْوَتُنٰا وَ كُنّٰا قَوْماً ضٰالِّينَ * رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْهٰا فَإِنْ عُدْنٰا فَإِنّٰا ظٰالِمُونَ (1). فيستظهر من إضافة الشقوة إلى أنفسهم أنّ شقاء المجرمين كان أمرا نابعا من ذواتهم، و لكنه ظهور بدوي يزال عن الذهن بعد التدقيق في مفاد الآيتين إذ لقائل أن يقول إنّ في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أنّ لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، و الدليل على ذلك قولهم: رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْهٰا فَإِنْ عُدْنٰا فَإِنّٰا ظٰالِمُونَ . إذ هو وعد منهم بالإتيان بالحسنات بعد الخروج من النار، فلو لم تكن الشقوة مكتسبة لهم بالإرادة و الاختيار لم يكن للوعد معنى، لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبله. و هذا يدل على أنّ المجرمين كانوا واقفين على أنّ السعادة و الشقاء بأيديهم، فقد اكتسبوا الشقاء بسوء الاختيار. فلما رأوا نتيجة أعمالهم، صاروا يعدونه سبحانه بأنهم إن خرجوا يكتسبون السعادة بصالح أعمالهم.

على أنّ الاستدلال بكلام المجرمين في يوم القيامة، بكون الشقاء ذاتيا، غير تام جدا، مع دلالة الآيات على أنهم يكذبون يومئذ، و ينكرون أشياء مع ظهور الحق و معاينته، لاستقرار ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم. قال تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً (2). و قال سبحانه: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا وَ اَللّٰهِ رَبِّنٰا مٰا كُنّٰا مُشْرِكِينَ (3). فإذا كان المجرم يكذب على اللّه سبحانه بهذا النحو، فلا عتب عليه أن يسند ضلالته إلى شقوته تبرئة لنفسه.

و نختم البحث برواية الصدوق في (الأمالي) عن علي (عليه السّلام) أنّه قال: «حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة، و حقيقة الشقاء أن

ص: 381


1- سورة المؤمنون: الآيتان 106-107.
2- سورة غافر: الآيتان 73 و 74.
3- سورة الأنعام: الآية 23.

يختم المرء عمله بالشقاء»(1).

ثم إنّ العلاّمة الطباطبائي (ره) طرح البحث عن الروايات الواردة حول الشقاء و السعادة في تفسيره عند البحث عن قوله سبحانه: كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (2). فمن أراد الوقوف على مضامين هذه الروايات و علاج اختلافها فعليه أن يرجع إليه(3).

ص: 382


1- بحار الأنوار، ج 5، باب السعادة و الشقاء، ص 154، الحديث 5. و في هذا الباب روايات لا توافق محكمات القرآن و الأحاديث فلا بد من التوجيه إن صحّت أسنادها.
2- سورة الأعراف: الآية 29.
3- الميزان، ج 8، ص 95-109.
السؤال الثالث انتهاء الأمور إلى الإرادة الأزلية
اشارة

لا شك أنّ ما يوجد في الكون عن طريق الأسباب و العلل تنتهي تأثيراتها إلى الإرادة الأزلية، فهي المؤثر التام لما يوجد في الكون، فيكون الوجود الإمكاني معلولا لها، و واجبا بوجودها، و مع ذلك كيف يمكن أن يتصف بعض الوجود الإمكاني كأفعال الإنسان بالاختيار، و هذا ما اعتمد عليه المحقق الخراساني في بحث اتحاد الطلب و الإرادة و قال:

«إنّ الكفر و العصيان من الكافر و العاصي، و لو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلاّ أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار. كيف، و قد سبقتهما الإرادة الأزلية و المشيئة الإلهية. و معه كيف تصح المؤاخذة على ما لا يكون أخيرا بلا اختيار»(1).

تحليل الإشكال

إنّ ما ذكر يتحد جوهرا مع ما مرّ في أدلّة الأشاعرة على الجبر و لكن التقرير مختلف، فإن مبدأ الإشكال هناك أنّ فعل العبد متعلق بمشيئته تعالى

ص: 383


1- كفاية الأصول، ج 1، ص 100.

و ما هو كذلك يكون متحققا إلزاما، فكيف يوصف بالاختيار.

و مبدأ الإشكال هنا هو أنّ مجموع الوجود الإمكاني معلول لوجود الواجب و إرادته، فإرادته سبحانه هي العلّة التامة لما سواه و معه كيف يتصف بعض الوجود الإمكاني كأفعال الإنسان بالاختيار؟. فالإشكالان متحدان جوهرا، مختلفان صورة و صياغة.

و لكن الجواب عن كلا الإشكالين، واحد، و لكي يكون الجواب مناسبا لهذا التقرير نقول:

إن فعل الإنسان إنما يتصف بالوجوب إذا نسب إلى جميع أجزاء العلّة التّامة المنتهية إلى الواجب و إرادته، و منها اختيار الإنسان و إرادته فإذا لوحظ الفعل بالنسبة إلى جميع أجزاء العلّة التامة يوصف بالوجوب، و هذا مما لا كلام فيه. إلاّ أنّ الكلام ملاحظة الفعل قبل اجتماع أجزاء العلّة التّامّة كالإنسان قبل أن يريد، فلا يوصف الفعل في هذه الحالة إلاّ بالإمكان، و بما أن ذات الإنسان و إرادته من أجزاء العلة أولا، و بما أنّ الإنسان فاعل مختار بالذات في إيجاد الجزء الأخير من العلّة التامة - أعني الإرادة - فلا يكون الفعل بالنسبة إليه فعلا إيجابيا، بل زمام الفعل بيده، فله أن يوجد الإرادة و له أن يترك، و قد تعلقت إرادته على اختياره أحد الطرفين باختيار ذاتي.

و بذلك يظهر أنّ نسبة الفعل تختلف حسب اختلاف المنسوب إليه، فلو نسب الفعل إلى مجموع أجزاء العلّة التّامّة من الواجب سبحانه إلى إرادة العبد فالفعل متصف بالوجوب.

و إن نسب إلى نفس الباري سبحانه مع حذف الوسائط و العلل فالنسبة تنقلب إلى الإمكان لعدم وجود العلّة التامة. كيف، و قد تعلقت مشيئته على صدور الفعل عن طريق العلل و الأسباب.

و إن لوحظ الفعل بالنسبة إلى نفس الإنسان بما أنّه فاعل مختار بالذات في إيجاد الإرادة في ضميره و عدمه، فالفعل فعل إمكاني، اختياري.

ص: 384

نعم، بعد ما أوجد الجزء الأخير من العلّة - أعني الإرادة - يتّصف الفعل بالوجوب و لكن لا يخرج عن كونه فعلا اختياريا للإنسان، لأن الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و كأنّ الإشكال نسج على منهج الأشعري القائل بعلة واحدة - أعني الواجب - و قيامه مكان جميع العلل، و قد عرفت بطلانه.

ص: 385

ص: 386

السؤال الرابع ما معنى كون الهداية و الضلالة بيده سبحانه ؟
اشارة

دلّت الآيات القرآنية على أنّ الهداية و الضلالة بيده سبحانه، فهو يضل من يشاء و يهدي من يشاء. فإذا كان أمر الهداية مرتبطا بمشيئته، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية و لا في الضلالة، فالضال يعصي بلا اختيار، و المهتدي يطيع كذلك و هذا بالجبر، أشبه منه بالاختيار.

قال سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً ، وَ لٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (2).

و قال سبحانه: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ (3).

ص: 387


1- سورة إبراهيم: الآية 4.
2- سورة النحل: الآية 93.
3- سورة فاطر: الآية 8.

إلى غير ذلك من الآيات المخصصة للهداية و الإضلال باللّه تعالى.

أمّا الجواب: فإن تحليل أمر الهداية و الضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعبة الأبحاث و لا يقف على المحصل من الآيات إلاّ من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد، ثم تفسير المجموع باتخاذ البعض قرينة على البعض الآخر. و بما أنّ هذا الطراز من البحث لا يناسب وضع الكتاب، نكتفي بما تمسك به الجبريون في المقام من الآيات لإثبات الجبر، و بتفسيرها و تحليلها يسقط أهم ما تسلحوا به من العصور الأولى.

حقيقة الجواب تتضح في التفريق بين الهداية العامة التي عليها تبتنى مسألة الجبر و الاختيار، و الهداية الخاصة التي لا تمت إلى هذه المسألة بصلة.

الهداية العامّة
اشارة

الهداية العامة من اللّه سبحانه تعمّ كل الموجودات عاقلها و غير عاقلها، و هي على قسمين:

أ - الهداية العامة التكوينية،

و المراد منها خلق كل شيء و تجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها: قال سبحانه حاكيا كلام النبي موسى (عليه السّلام): رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ (1). و جهّز كل موجود بجهاز يوصله إلى الكمال، فالنبات مجهز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته؛ فالحبّة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية و عوامل خارجية كالماء و النور إلى أن تصير شجرة مثمرة معطاءة. و مثله الحيوان و الإنسان، فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض و تمييز.

ص: 388


1- سورة طه: الآية 50.

قال سبحانه: سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى * اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى * وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (1).

و قال سبحانه: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ * وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ (2).

و قال سبحانه: وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا * فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (3).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من الأجهزة و الإلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة و الطريق المهيع، من غير فرق بين المؤمن و الكافر. قال سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (4).

فهذا الفيض الإلهي الذي يأخذ بيد كل ممكن في النظام، عام لا يختص بموجود دون موجود، غير أن كيفية الهداية و الأجهزة الهادية لكل موجود تختلف حسب اختلاف درجات وجوده. و قد أسماه سبحانه في بعض الموجودات «الوحي» و قال: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (5).

و من الهداية التكوينية في الإنسان العقل الموهوب له، المرشد له إلى

ص: 389


1- سورة الأعلى: الآيات 1-3.
2- سورة البلد: الآيات 8-10.
3- سورة الشمس: الآيتان 7 و 8.
4- سورة الروم: الآية 30.
5- سورة النحل: الآيتان 68 و 69.

معالم الخير و الصلاح، و ما ورد في الذكر الحكيم من الآيات الحاثّة على التعقل و التفكر و التدبر خير دليل على وجود هذه الهداية العامة في أفراد الإنسان و إنّ كان قسم منه لا يستضيء بنور العقل و لا يهتدي بالتّفكّر و التّدبّر.

ب - الهداية العامّة التّشريعية:

إذا كانت الهداية التكوينية العامة أمرا نابعا من ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من أجهزة تسوقه إلى الخير و الكمال، فالهداية التشريعية العامة عبارة عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المدرك، المفاضة عليه بتوسط عوامل خارجة عن ذاته، و ذلك كالأنبياء و الرسل و الكتب السماوية و أوصياء الرسل و خلفائهم و العلماء و المصلحين و غير ذلك من أدوات الهداية التشريعية العامة التي تعمّ جميع المكلفين. قال سبحانه:

وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّٰ خَلاٰ فِيهٰا نَذِيرٌ (1) .

و قال سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ (2).

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (3).

و قال سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ (4). و أهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار، و المجتمع المسيحي هم الرهبان.

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن الكريم التي تشير إلى أنّه سبحانه هدى الإنسان ببعث الرسل، و إنزال الكتب، و دعوته إلى إطاعة أولي الأمر و الرجوع إلى أهل الذكر.

ص: 390


1- سورة فاطر: الآية 24.
2- سورة الحديد: الآية 25.
3- سورة النساء: الآية 59.
4- سورة الأنبياء: الآية 7.

قال سبحانه مصرّحا بأنّ النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) هو الهادي لجميع أمته: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1).

و قال سبحانه في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (2).

هذا، و إن مقتضى الحكمة الإلهية أن يعمّ هذا القسم من الهداية العامة جميع البشر، و لا يختص بجيل دون جيل و لا طائفة دون طائفة.

و الهداية العامة بكلا قسميها في مورد الإنسان، ملاك الجبر و الاختيار فلو عمّت هدايته التكوينية و التشريعية في خصوص الإنسان كل فرد منه، لارتفع الجبر، و ساد الاختيار، لأنّ لكل إنسان أن يهتدي بعقله و ما حفّه سبحانه به من عوامل الهداية من الأنبياء و الرسل و المزامير و الكتب و غير ذلك.

و لو كانت الهداية المذكورة خاصة بأناس دون آخرين، و أنّه سبحانه هدى أمة و لم يهد أخرى، لكان لتوهم الجبر مجال و هو وهم واه، كيف و قد قال سبحانه: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً (3) و قال سبحانه:

وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىٰ حَتّٰى يَبْعَثَ فِي أُمِّهٰا رَسُولاً (4) . و غير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ نزول العذاب كان بعد بعث الرسول و شمول الهداية العامّة للمعذبين و الهالكين، و بالتالي يدلّ على أنّ من لم تبلغه تلك الهداية لا يكون مسئولا إلاّ بمقدار ما يدلّ عليه عقله و يرشده إليه لبّه.

الهداية الخاصّة

و هناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاءوا بنور

ص: 391


1- سورة الشورى: الآية 52.
2- سورة الإسراء: الآية 9.
3- سورة الإسراء: الآية 15.
4- سورة القصص: الآية 59.

الهداية العامة تكوينها و تشريعها، فيقعون موردا للعناية الخاصة منه سبحانه.

و معنى هذه الهداية هو تسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة، و توفيقهم للتزود بصالح الأعمال، و يكون معنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه المواهب، و خذلانهم في الحياة، و يدلّ على ذلك (أنّ هذه الهداية خاصة لمن استفاد من الهداية الأولى)، قوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنٰابَ (1). فعلّق الهداية على من اتصف بالإنابة و التوجّه إلى اللّه سبحانه.

و قال سبحانه: اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2).

و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا، وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ (3). فمن أراد وجه اللّه سبحانه يمده بالهداية إلى سبله.

و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً (4).

و قال سبحانه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنٰاهُمْ هُدىً * وَ رَبَطْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قٰامُوا فَقٰالُوا رَبُّنٰا رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلٰهاً لَقَدْ قُلْنٰا إِذاً شَطَطاً (5).

و كما أنّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العناية الخاصّة، علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال و الحرمان من الهداية الخاصة.

قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ (6).

ص: 392


1- سورة الرعد: الآية 27.
2- سورة الشورى: الآية 13.
3- سورة العنكبوت: الآية 69.
4- سورة محمد: الآية 17.
5- سورة الكهف: الآيتان 13 و 14.
6- سورة الجمعة: الآية 5.

و قال سبحانه: وَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلظّٰالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ (1).

و قال سبحانه: وَ مٰا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفٰاسِقِينَ (2).

و قال سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاٰ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّٰ طَرِيقَ جَهَنَّمَ (3).

و قال سبحانه: فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ (4).

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية و التوفيق الخاص، لأنهم كانوا ظالمين و فاسقين. كافرين و منحرفين عن الحق. و بالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية و الضلالة يظهر أنّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالا إلاّ ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب و نظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصة و حرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا، تقف على أنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر و الاختيار، عامة شاملة لجميع الأفراد، ففي وسع كل إنسان أن يهتدي بهداها. و أمّا الهداية الخاصة و العناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين و المستفيدين من الهداية الأولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية و الضلالة على مشيئته سبحانه ناظر إلى القسم الثاني لا الأول.

أما القسم الأول فلأن المشيئة الإلهية تعلقت على عمومها بكل مكلف بل بكل إنسان، و أما الهداية فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف و لم تكن مشيئته، مشيئة جزافية، بل الملاك في شمولها لصنف خاص هو

ص: 393


1- سورة إبراهيم: الآية 27.
2- سورة البقرة: الآية 26.
3- سورة النساء: الآيتان 168 و 169.
4- سورة الصف: الآية 5.

قابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية، لأنّه قد استفاد من كل من الهداية التكوينية و التشريعية العامتين، فاستحق بذلك العناية الزائدة.

كما أنّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العناية الزائدة.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يقول: فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ ، يذيله بقوله: وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1)، مشعرا بأنّ الإضلال و الهداية كانا على وفاق الحكمة، فهذا استحق الإضلال و ذاك استحق الهداية.

بقي هنا سؤال، و هو أنّ هناك جملة من الآيات تعرب عن عدم تعلق مشيئته سبحانه بهداية الكل، قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدىٰ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ (2).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا أَشْرَكُوا وَ مٰا جَعَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (3).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (4).

و قال سبحانه: وَ عَلَى اَللّٰهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهٰا جٰائِرٌ وَ لَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ (5).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شِئْنٰا لَآتَيْنٰا كُلَّ نَفْسٍ هُدٰاهٰا (6).

ص: 394


1- سورة إبراهيم: الآية 4.
2- سورة الأنعام: الآية 35.
3- سورة الأنعام: الآية 107.
4- سورة يونس: الآية 99.
5- سورة النحل: الآية 9.
6- سورة السجدة: الآية 13.

و الجواب: إنّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية بحيث تسلب عن الإنسان الاختيار و الحرية فلا يقدر على الطرف المقابل. و لما كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الاختيار، منافيا لحكمته سبحانه، و لا يوجب رفع منزلة الإنسان، نفى تعلّق مشيئته بها، و إنّما يقدّر الإيمان الذي يستند إلى اختيار المرء، لا إلى الجبر و الإلحاد(1).

قد وقع الفراغ من تبييض هذه المحاضرات بفضل اللّه سبحانه في الخامس و العشرين من شهر رمضان المبارك من شهور عام 1408 للهجرة النبوية الشريفة بيد مؤلفها الفقير بذاته حسن بن محمد مكي العاملي، عامله اللّه بلطفه الخفي، راجيا منه سبحانه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنّه على ذلك قدير. و يتلوه الجزء الثاني حول النبوّات العامة و الخاصة و الخلافة و الوصاية و المعاد و حشر الأجساد و ما يرتبط بهذه الموضوعات من المسائل الهامة بإذنه سبحانه(2).

ص: 395


1- هذا بعض الكلام في الهداية و الضّلالة بالمقدار المناسب لوضع الكتاب، و البحث في المقام واسع يلاحظ فيه الموسوعات التفسيرية.
2- لا يفوتنا في الختام أن نبارك للمركز العالمي للدراسات الإسلامية قيامه بتكليف الدار الإسلامية في بيروت بنشر هذا الكتاب على نطاق واسع ليكون محور الدراسة في جامعة العلوم الإسلامية في قم المقدّسة و الفروع التابعة لها بإذن منه سبحانه.
الملحق الأول

الملحق الأول(1)

ذكرنا عند البحث عن الجبر الأشعري أنّ للمعتزلة و الأشاعرة أقوالا لا توافق الأصول الفلسفية و لا الكتاب العزيز، و هاك بيانها.

الأول: قول الإمام الأشعري بأنّ الفعل يقع بقدرة اللّه سبحانه وحدها.

الثاني: قول المعتزلة أو أكثرهم بأنه يقع بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال.

الثالث: قول القاضي الباقلاني من الأشاعرة بأنّ قدرة اللّه تتعلق بأصل الفعل، و قدرة العبد تتعلق بالعناوين الطارئة عليه كالطاعة و المعصية لأجل التأديب و الإيذاء في لطم اليتيم، فأصل اللطم واقع بقدرة اللّه، و كونه طاعة لأجل التأديب و معصية لأجل الإيذاء بقدرة العبد.

الرابع: ما حكاه الإيجي عن أستاذه بأنّه يقع بمجموع القدرتين العرضيّتين حيث جوّزوا اجتماع المؤثّرين على أثر واحد.

الخامس: ما ذهب إليه إمام الحرمين الجويني بأنّ قدرة اللّه تتعلق

ص: 396


1- راجع إلى ص 275.

بقدرة العبد و قدرة العبد تتعلق بالفعل. و هو باعتبار نفس ما اخترناه و هو خيرة الفلاسفة.

و لكن الحقيقة أدق ممّا نسب إلى إمام الحرمين حيث إنّه فرض قدرة اللّه منفصلة عن الفعل و لا تتعلّق به إلاّ بواسطة قدرة العبد. مع أنّ مقتضى البراهين الفلسفية أنّ قدرة العبد من شئون قدرة اللّه سبحانه و ليست شيئا منفصلا عنها، و أنّ نسبة إحدى القدرتين إلى الأخرى كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي، كما ستعرفه عند التعرّض للبحث في سائر أدلة الأشاعرة على الجبر(1).

ثم إن للقوم أيضا احتجاجات و تشكيكات أخرى في المقام ذكر بعضها العلاّمة في (إرشاد الطالبيين) و شرحها الفاضل المقداد في شرحه عليه(2).

ص: 397


1- راجع في الوقوف على أقوالهم شرح المواقف، ج 2، ص 146-148.
2- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص 265-269.
الملحق الثاني

الملحق الثاني(1)

إن للمحققين كلمات مختلفة في تعلق علمه الأزلي بأفعال العباد ننقل بعضها:

قال صدر المتألهين: «إنّ علمه و إن كان سببا مقتضيا لوجود الفعل من العبد لكنه إنما اقتضى وجوده و صدوره المسبوق بقدرة العبد و اختياره أي إرادته لكونها من جملة أسباب الفعل و علله و الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه.

و نقل عن الإمام الرازي في المباحث المشرقية كلاما مفصلا، يقول هو في آخره ما يظهر منه الموافقة لهذا الأصل، و إليك نصه: «إذا من قضاء اللّه و قدره، وقوع بعض الأفعال تابعا لاختيار فاعله، و لا يندفع هذا إلاّ بإقامة البرهان على أن لا مؤثر في الوجود إلاّ هو»(2).

يقول العلاّمة الطباطبائي: «إن العلم الأزلي متعلق بكل شيء على ما هو عليه، فهو متعلق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية. و بعبارة أخرى: المقضيّ هو أن يصدر الفعل عن

ص: 398


1- راجع إلى ص 288.
2- الأسفار، ج 6، ص 385 و 387.

الفاعل الفلاني اختيارا، فلو انقلب الفعل من جهة تعلق هذا القضاء به، غير اختياري، ناقض القضاء نفسه»(1).

ثم إنّ شارح المواقف نقل جوابا آخر في المقام عن بعضهم و هو أنّ العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان و الأصل في هذه المطابقة هو المعلوم. أ لا ترى أنّ صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على هذه الهيئة المخصوصة، لأن الفرس في حدّ نفسه هكذا، و لا يتصور أن ينعكس الحال بينهما، فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا، إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس. فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل و امتناعه، و سلب القدرة و الاختيار و إلاّ لزم أن يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا و عدما(2).

و يلاحظ عليه - كما أوعزنا إليه عند البحث عن القضاء و القدر -: إنه خلط بين العلم الانفعالي كالصورة الواردة إلى النفس من ملاحظة ذيها، كما في المثال الذي ذكره، و بين العلم الفعلي الذي هو إما شرط لحصول المعلوم في الخارج أو سبب تام. فالأول كعلم المهندس المقدر لبناء البيت و المصوّر له. و الثاني كتصور السقوط من شاهق الذي يستلزمه. و علمه سبحانه ليس علما انفعاليا حتى يكون تابعا، بل هو في سلسلة العلل و إن لم يكن علّة تامة في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان ضرورة دور الإنسان في تحققها، فتكون المقايسة باطلة.

ص: 399


1- الأسفار، ج 6، تعليقة العلاّمة الطباطبائي، ص 318.
2- شرح المواقف، ج 8، ص 155-156.

المجلد 3

هویة الکتاب

سرشناسه : سبحانی تبریزی ، جعفر، ‫ 1308 -

عنوان و نام پديدآور : ‫الالهیات علی هدی الکتاب والسنه والعقل ‫/ محاضرات جعفر السبحانی ‫؛ بقلم حسن محمد مکی العاملی .

مشخصات نشر : ‫قم ‫: موسسه الامام الصادق (ع) ‫، 1423 ق. ‫= 1381.

مشخصات ظاهری : ‫4ج.

شابک : ‫160000ریال ‫: دوره ‫ 964-357-054-1 : ؛ ‫ج.2 ‫ 964-357-055-X : ؛ ج.3 ‫ 964-357-056-8 : ؛ ج.4 ‫ 964-357-057-6 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ قبلی : المرکزالعالمی للدراسات الاسلامیه ، 1369.

يادداشت : ‫ج. 1 و 2 (چاپ هفتم: 1430 ق.= 1388).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14

شیعه امامیه -- عقاید

شناسه افزوده : مکی عاملی ، حسن

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP211/5 ‫ /س 18‮الف 7 1381

رده بندی دیویی : ‫ 297/4172

شماره کتابشناسی ملی : م 82-15822

اطلاعات رکورد کتابشناسی : ركورد كامل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

تصدير بقلم المحاضر

تطوير علم الكلام أو رصد الحركات الإلحادية

الحمد للّه الذي هو الأول لا شيء قبله، و الآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة، و لا تقعد القلوب منه على كيفيّة، و لا تناله التجزئة و التبعيض، و لا تحيط به الأبصار و القلوب. و الصلاة و السلام على من أرسله على حين فترة من الرسل، و طول هجعة من الأمم، و اعتزام من الفتن، و انتشار من الأمور، و الدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، محمد الخاتم لما سبق، و الفاتح لمن غلق، و المعلن الحق بالحق(1). و على أهل بيته مصابيح الظلم، و عصم الأمم و منار الدين الواضحة، و مثاقيل الفضل الراجحة، صلاة تكون إزاء لفضلهم، و مكافئة لعملهم، و كفاء لطيب فرعهم و أصلهم، ما أنار فجر ساطع، و أضاء نجم طالع.

أما بعد:

فقد أسس علم الكلام في القرون الإسلامية الأولى و لم يكن تأسيسه و تدوينه إلا ضرورة دعت إليها حاجة المسلمين إلى صيانة دينهم و عقيدتهم و شريعتهم. و أول مسألة طرحت على بساط البحث بين المسلمين هي حكم مرتكب الكبيرة التي اختلف فيها المسلمون إلى أقوال، فمن قائل بأنه كافر،

ص: 5


1- اقتباس من خطب الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة، لاحظ الخطبة 69 و 81 و 85.

إلى قائل بانه ليس بمؤمن و لا كافر، بل في منزلة بين المنزلتين، و يعاقب أقل من عقاب الكافر، إلى ثالث بأنه مؤمن فاسق. و تلت هذه المسألة مسألة حدوث كلامه سبحانه أو قدمه فأحدثت بين المسلمين ضجة كبرى، و صارت مبدأ لمحنة أو محن. و في عرض هذه المسألة ارتفع النقاش حول الصفات الخبرية الواردة في الكتاب و السنة، كاليد، و العين و الاستواء على العرش إلى غير ذلك من الصفات.

ثم إنه كلما ازداد الاحتكاك الثقافي بين المسلمين و الأجانب، و شاعت ترجمة الكتب الفلسفية و العقيدية للفرس و اليونان و غيرهما، زاد النقاش و البحث حولها، لاصطكاك بين تلك الآراء و ما جاء به القرآن و السنة، فلم يجد المسلمون في تلك الاجيال إلا التدرع بالبراهين العقلية حتى يصونوا بذلك حوزة الإسلام من السهام المرقوشة التي ما زالت تطلق إلى قلب الإسلام و المسلمين، و نواميس الدين و الشريعة. فشكر اللّه مساعي الجميع من سنة و شيعة في حفظ الدين و صيانته.

هذا ما قام به القدماء في أداء وظيفتهم الرساليّة، لكن التاريخ يشهد بأن قسما كبيرا من مسائل علم الكلام، حول المبدأ و المعاد، و حول التوحيد و العدل، متخذة من خطب الإمام امير المؤمنين عليه السلام، و انه هو البطل المقدام في دعم هذه الأصول و إحكامها. و لو اعترفت المعتزلة بأن منهجهم الكلامي يرجع إلى عليّ عليه السلام فقد صدقوا في انتمائهم و انتسابهم إلى ذاك المنهل العذب الفياض. و ليس عليّ وحده من بين أئمة أهل البيت، أقام دعائم هذا العلم و أشاد بنيانه، بل تلاه الائمة الأخر منهم، كعليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام (ت 38 - م 94)، فقد صقل العقول و الأذهان الصافية بأدعيته المعروفة التي هي لباب التوحيد و صفوة المعارف الإلهية، و فيها من العرفان الصافي ما لا يوجد في غيرها. كما أن صادق الأمة و امامها جعفر بن محمد عليه السلام (ت 83 - م 148) رفع صرح المدرسة الكلامية الموروثة من آبائه و أجداده، يقف عليه من سبر أحاديثه و كلماته و أماليه، حتى جاء عصر الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (ت 148 - م 203)، فأضفى على المسائل

ص: 6

الكلامية ثوبا جديدا، و أبان عن المعارف في مناظراته مع أهل الكتاب و الزنادقة، و أسكت خصماءه، و دحض شبهاتهم، و ردّ أيديهم إلى أفواههم.

و لو لم يكن لأئمة أهل البيت ميراث كلامي سوى كتاب توحيد الصدوق (ت 306 - م 381)، و احتجاج الطبرسي (المتوفى حوالي 550) لكفى فخرا في الدفاع عن حياض الإسلام و معارفه و عقائده.

و قد استخدم ائمة أهل البيت في بحوثهم و مناظراتهم، الوسائل التي كان الخصم يستخدمها و يعتمد عليها. كان أن لفيفا من علماء الكلام قد دقوا هذا الباب و وردوا هذه الشريعة، فتدرعوا بأحسن ما كان خصماؤهم متدرعين به، كما انهم لم يزالوا بالمرصاد للحركات الإلحادية القادمة من جانب الروم و اليونان و مستسلمة أهل الكتاب، فأوجب هذا الرّصد و التدرّع بسلاح اليوم، أن يكون علم الكلام علما يباري الخصماء، و يصرعهم في ميادين البحث، و المناظرة، فجاء يماشي حاجات العصر جنبا إلى جنب، و كتفا إلى كتف. و لم يكن علما جامدا محصورا في إطار خاص، بل كان مادة حيوية تتحرك و تتكامل حسب تكامل العقول، و الأفهام، و حسب توارد الشبهات و الاسئلة التي بها ينمو كلّ علم، و بها يتكامل.

فإذا كانت هذه هي وظيفتهم الرسالية أمام الأمة الاسلامية و المسلمين في سبيل صيانة دينهم و شريعتهم، فهذه الرسالة بعد باقية في أجيالنا و أعصارنا، فيجب على علماء العقائد و الأخصائيين في علم الكلام، اقتفاء أثرهم، و رصد الحركات الإلحادية الهدامة المتوجهة إلى الإسلام من معسكرات الغرب و الشرق، بصورها الخداعة، و باسم العلوم الطبيعية و الاجتماعية و الإنسانية و الاقتصادية، بل باسم التاريخ و تحليل الأديان الكبرى. ففيها من السموم القتّالة ما يهدم عقيدة المسلمين، و يزعزع كيانهم، و هم جعلوها في متناول عقولهم و أفكارهم بشتى الطرق و الوسائل، فطفقوا يديفون السم بالعسل، حتى يذوقه غير الواعين من المسلمين، و ينهموه باشتهاء.

إن الحركات الإلحادية الهدامة ابتدأت دورها منذ ظهرت طلائع الحضارة

ص: 7

المادية في الغرب، و تديّن مفكروها بالمادية في عطاء المسيحية و واجهة اليهودية، و وقفوا على أنّ التغلب على الشرق يتوقف على تضعيف عقائد الشرقيين و إبعادهم عن ديانتهم، فصار ذلك مبدأ لتأسيس علم باسم الاستشراق، له واجهة الاستطلاع و التحقيق و التنقيب، و واقعية هي الإضلال و التحريف، و إضعاف عقائد الشبان. و ليس هذا شيئا مكتوما على من سبر كتب هؤلاء حتى من اشتهر بالوعي و الموضوعية.

هذا، و لو أردنا أن نسلك خطى من تقدم من علمائنا الكلاميين في الدفاع عن الدين و الشريعة، فلا مناص لنا إلا رصد الحركات الإلحادية التي تظهر في كل زمن و جيل باسم و صورة و واجهة، و هذا يقتضي تطوير علم الكلام الموروث و إكماله حتى يفي بحاجات العصر، و يقف موقف المعلم الرءوف بالنسبة إلى المستعلم الواعي فيجيب عن الشبهات المستحدثة في كل عصر و جيل باسم العلم و التاريخ. و لأجل ذلك لا مناص في تطوير علم الكلام من البحث في أمور يقتضي الزمان ضرورة طرحها و تحليلها:

الاول: فصل الدين عن العلم

إن فصل الدين عن السياسة من الخطط الإلحادية التي لم تزل تروّج في الغرب منذ كسرت شوكة الكنائس، فاتخذوها سندا وثيقا لإبعاد الدين عن السياسة، فطفق السياسيون يلعبون بكل شيء سواء أوافق الدين أم لا، قائلين بأن للدين مجالا، و للسياسة مجالا آخر، و لكلّ رجاله: (و للحرب و القصعة و الثريد رجالها).

و قد لعب السياسيون بهذا الحبل أدوارا، فخصوا الدين بالكنائس و البيع، و خارجهما بالسياسة التي لا تفارق الخدعة و الدغل.

و جاء بعد هذه الفكرة أو معها فصل الدين عن العلم، و صار هذا أصلا رصينا في العلوم الجامعية، تدرّس العلوم الطبيعية و الانسانية على هذا الأصل، فإذا شاهدوا في مورد تناقضا و تضادا، فأقصى ما عندهم أنّ للدين

ص: 8

مجالا و للعلم مجالا آخر، و لا يصح لواحد منهما التدخل في حدود الآخر.

و هذا من الحبائل الإلحادية التي يصطاد بها كثير من الشبان بلا مشقة و شدة، و هي تدعوهم إلى الاعتقاد بأمرين متضادين: أحدهما يدعو إلى شيء و الآخر إلى ما يضاده، و بما أن الطالب يمارس العلم كل يوم بالأدوات الحسية، فلا يزال يتباعد عن الدين إلى أن يرفضه و يتركه و يصير ملحدا محضا، و أقصى حاله، أن يكون مسيحيا أو مسلما بالهوية لا بالحقيقة.

إن الدين المعتمد على الوحي النازل من خالق الكون و صانع نواميسه لا يمكن أن يفترق عن العلم قيد شعرة. فإذا كانت العلوم البشرية كاشفة عن حقائق الكون مع أنها غير مصونة عن الخطأ، فالوحي الذي لا يأتيه الباطل أولى بأن يكون كاشفا عن الكون و سننه و نواميسه. و لأجل ذلك يجب في تطوير علم الكلام البحث عن الدين و تبيين مفاده و تعيين حدوده و تشريح موقفه من العلم، و أنهما هل يمشيان في طريقين مختلفين أو في طريق واحد، و هل الدين أمر فردي أو اجتماعي. و هل هو يتلخص في الأوراد و الأذكار،. و يعم جميع الشئون، و أنه هل يحكم و يبرم بلا سند قاطع، أو يعتمد على أوثق المصادر و أقوى المدارك التي لا تقبل الخطأ.

الثاني: النسبية أو نفي الحقائق المطلقة

كان الشك و الترديد في وجود الكون و ما فيه، و العلوم التي يتبناها الإنسان، منهجا رائجا في الفلسفة الإغريقية حتى قضى عليها أرسطو و أستاذه أفلاطون و غيرهما. إلى أن ظهرت طلائع الحضارة الإسلامية، فقام فلاسفة الإسلام بدحض شبهاتهم و محوها عن بساط البحث، فلا تجد بين المسلمين من ينتمي إلى السفسطة و يكون له شأن و مقام بينهم. و في النهضة الصناعية الأخيرة، عادت السفسطة إلى الأوساط العلمية بصورة أخرى، خادعة هدّامة.

و هؤلاء، مع أنهم يدّعون أنهم من أصحاب الجزم اليقين، و يكافحون الشك و الترديد، يعتقدون بأن ما يدركه الإنسان من القضايا بالأدوات المعروفة صادق صدقا نسبيا لا صدقا مطلقا، صدقا مؤقتا لا صدقا دائما، و ذلك لأن للظروف

ص: 9

الزمانية و المكانية و الأجهزة الدماغية تأثير في الإدراكات الإنسانية، فليس في وسع الإنسان أن ينال الواقع على ما هو عليه، و أن ترد على ذهنه صورة مطابقة له، مطابقة الفرع للأصل، بل كل ما يحكيه الإنسان بتصوراته و تصديقاته عن واقع الكون و نفس الأمر، فإنّما يحكيه بمفاهيم ذهنية تأثرت بأمور شتى خارجية و داخلية، فالإنسان في مبصراته و مسموعاته أشبه بمن نظر إلى الأشياء بمنظار ملوّن، فكما أنّه يرى ألوان الأشياء على غير ما هي عليه، فهذه الظروف الزمانية و المكانية، و ما في داخل المدرك و خارجه من الخصوصيات كهذا المنظار، تري الأشياء على غير ما هي عليه، و لكن لا تباينها، بل تطابقها مطابقة نسبية فالإنسان عند هؤلاء أشبه بمن ابتلي بمرض اليرقان، فكما أنّه يرى الأبيض و الأسود صفراوين، لأجل خصوصية في جهازه الإبصاري، فهكذا الإنسان في كل ما يدرك و يقضي، فإنّما يتوصل إلى الواقع بأجهزته التي يتأثر العلم الوارد إليها من الخارج بها، و مع ذلك كله فليس ما يدركه خطأ محضا، و لا صدقا محضا، بل هو صحيح في ظروف خاصة.

هذا إجمال ما يذهب إليه النسبيون من الفلاسفة، غير أنه أصبح أساسا للمناهج الفلسفية الغربية منذ عصر ديكارت إلى زماننا هذا، و الإنسان المتتبع في كلماتهم و نظرياتهم يقف على أنهم لا يعتقدون بالقضايا الصادقة المطلقة الدائمة الكلية، خصوصا في فلسفة «جان لاك» (ت 1632 - م 1704) و فلسفة «كانت» (ت 1724 - م 1804) فهؤلاء - بإضفاء النسبية على القضايا، و تأثر الإدراكات الإنسانية في جميع الموارد بالخصوصيات الداخلية و الخارجية - أعادوا حديث السفسطة و لكن بثوب جديد، و غطاء علمي خادع.

و من سبر دلائل السوفسطائيين في الفلسفة الإغريقية، يقف على أن ما ذكره الغربيون وجها لنسبية العلوم، هو نفس ما ذكر رئيس الشكاكين اليونانيين «بيرهون» في إثبات السفسطة و أن ما يدركه الإنسان من الخارج لا ينطبق عليه لأنّ الأجهزة الإدراكية تتأثر بالظروف الزمانية و المكانية و الحالات النفسانية، و بذلك لا يمكن أن نعتبر العلوم علما حقيقيا كاشفا عن الواقع.

و لو صدق حديث النسبية و أن الاجهزة الادراكية لم تزل خاضعة لشرائط

ص: 10

خاصة، فعلى العلم و كشفه السلام، و على ذلك يصبح الدين و معارفه و شرائعه علوما صادقة نسبيا، و لو تغيرت الظروف لتغيرت مفاهيم الدين و معارفه و تشريعاته، الى غيرها. فاي قيمة لدين هذا اساسه، و أي وزن لمعارف إلهية لا تزال متزلزلة متغيرة بتغير الظروف.

إن نظرية النسبية من أخطر الحبائل التي طرحت أمام المتدينين و الواقعيين و نحن لا نأتى عليها - هنا - بكلمة غير أنا نسأل أصحاب هذه الفكرة - و يا للاسف تحملها فلاسفة الغرب و أصحاب المناهج منهم، لا سيما الحسيين - هل أن القول بامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما، و اجتماع الضدين، و مسألة العلية و المعلولية، و انقسام المفاهيم إلى الممكن و الواجب و الممتنع، من العلوم النسبية ؟ أ فهل يحتمل هؤلاء أن للظروف الزمانية و المكانية، و الخصوصيات العالقة بذهن الإنسان، تأثيرا في هذه القضايا بحيث لو خرج الإنسان عن هذه القيود لتصوّر هذه القضايا بشكل آخر، فيجوّز اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، أو يجوز وجود المعلول بلا علّة ؟.

و العجب أن هؤلاء عند ما يضفون على عامة الإدراكات لون النسبية و ينكرون كل قضية صادقة على وجه الكلية و الإطلاق و الدوام - إن هؤلاء أنفسهم بذلك يثبتون قضية كلية دائمة الصدق غير متلونة بلون و لا محدودة بخصوصية خارجية أو ذهنية حيث يقولون ليس لنا قضية صادقة مطلقة كلية، فإن هذا القول منهم قضية مطلقة لا نسبية، و لو كان هذا النفى، نفيا نسبيا لا صبحت سائر القضايا مطلقة لا نسبية.

إن التركيز على أن للانسان علوما مطلقة، مضافا إلى أن له علوما نسبية يقتضي التركيز على نظرية المعرفة قبل كل شيء في علم الكلام، فإن لتلك النظرية تأثيرا هاما في جميع الأبحاث الكلامية، و قد كان القدماء من المتكلمين يبحثون عنها في مقدمات كتبهم فهذا هو الإمام الأشعري، كتب بحثا مطولا عن السوفسطائيين في مقدمة مقالات الإسلاميين، و تبعه البغدادي في كتاب أصول الدين، و غيرهما من المتكلمين، حتى أن الامام البزدوي رئيس الماتريدية في عصره، خصّ فصلا خاصا من كتابه في هذه النظرية.

ص: 11

إن علماء الغرب قد بلغوا القمة في البحث عن هذه النظرية، فبحثوا عن أدوات المعرفة، حسّيها و عقليّها، كما بحثوا عن قيمة العلوم الإنسانية مضافا إلى تحديد مجاري العلم و المعرفة، فإن لهذه المباحث أثرا خاصا في الأبحاث الكلامية و رصد الحركات الإلحادية، و لم يزل الإلحاد يدب بين السذج من الشباب من هذه الطرق، فمن قائل باختصاص أدوات المعرفة بالحس، إلى قائل بلزوم الإيمان بما تثبته التجربة و رفض غيرها، إلى ثالث يحدّد معرفة العلوم الإنسانية بشئون المادة و أعراضها، و يركز على أن ما وراء المادة خارج عن مجال الإدراك الإنساني و أنّه ليس للإنسان فيها القضاء و الإبرام نفيا و إثباتا.

و هذه الأفكار الفلسفية، أخطر على حياة الدين من الحملات العسكرية على كيان المسلمين.

الثالث: إنكار الفطريات

إن التعلّل بمعرفة النفس أصبح في هذه الأزمان أداة طيّعة في يد الإلحاد، خصوصا الجامعيين المؤمنين بفروض «فرويد» و منهجه فجعلوا علم النفس أساسا لإنكار الفطريات، التي يقوم عليها دين التوحيد، يقول سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

و قد عادت علاقة الدين بالانسان عندهم وليد الميول الجنسية للإنسان، بل أصبحت المعنويات عند أصحاب هذا المنهج ظاهرة طفولية، و استبقاء لعلاقة الطفل في يوم عجزه، بأمه و أبيه، فإذا كبر الانسان و أحس بعجز الأب و الأم تجاه الاخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر و أقدر على حمايته تجاه الحوادث حتى يحلّها محل أبيه، و هكذا نشأت عندهم فكرة الإله.

فالعالم الكلامي الذي يريد الدفاع عن حياض الإسلام و المسلمين لا

ص: 12


1- سورة الروم: الآية 30.

مناص له إلا التركيز على معرفة الإنسان، معرفة تامة، بنفس الطرق التي يستعملها علماء النفس في معرفته.

الرابع: الغرور بالعلم

إن الانغرار بالعلم الحديث - مع الاحترام التام للعلم و أهله - صار سببا لإنكار المعاجز، و خوارق العادات، و تسرب الشك إلى الوحي و الإدراك الخارج عن إطار الحس و العقل، كما تسرب الشك الى العصمة في الأنبياء، و بكلمة قصيرة، في أكثر ما يرجع إلى عالم الغيب و الخارج عن الشهادة، و صار هذا مبدأ لنزوع كثيرة من الباحثين عن القرآن و السنة الى تأويل ما لا يلائم قوانين الشهادة. و لأجل أن يكون القارئ الكريم على بصيرة من اغترار هؤلاء بالعلم، نذكر نماذج من أفكارهم.

فهذا هو شيخ الأزهر محمد عبده (ت 1323) - و قد خدم الازهر بفكره و قلمه و ورث عن أستاذه السيد جمال الدين الأسدآبادي، أفكاره و آراءه - يؤول الآيات الدالة على إحياء الموتى في هذه النشأة، تأويلا يناسب روح العصر الإلحادي(1).

كما أنه بطبيعته العلمية يحاول أن يفسر الملائكة بالقوى الطبيعية، و من المعلوم أنّ الحافز إلى هذا التوجه ليس إلاّ الاغترار بالأساليب العلمية التجريبية و الخوف من المتدرعين بالعلم الحديث، و الانهزام أمامهم. و إلاّ فقد كان اللائق بشيخ الأزهر الصمود أمام التيارات الإلحادية و أن يقول - رافعا عقيرته - إنّ أقصى ما للعلم من الحق هو الإثبات لا النفي، فالعلوم التجريبية مهما بلغت من القمة، ليس لها شأن إلاّ تحليل الموجودات المادية فقط، و أما نفي ما وراء الطبيعة و إنّه ليس هناك ملك و لا جن و لا وحي و لا لوح و لا قلم، فلا شأن له فيه، و لو تدخّل فيه فقد تطلع إلى ما هو أقصر منه.

و هذا هو الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، يرى أن التشريع الإسلامي غير

ص: 13


1- ستقف على نماذج من تأويلاته في بحث المعاد من هذا الجزء.

صالح للتطبيق على هذه الظروف، و إنه يختص بالعصور الغابرة يقول: إن من ينظر في كتب الشريعة الأصلية بعين البصيرة و الحذق، يجد أنه من غير المعقول أن تضع قانونا أو كتابا أو مبدأ في القرن الثاني من الهجرة ثم يجيء بعد ذلك، فتطبق هذا القانون في 1354 هجرية(1).

و هذا فريد وجدي - كاتب دائرة معارف القرن الرابع عشر - تجده يرقص لافلات الحكومات من سلطان رجال الدين و يمدح ثمرات العلوم مغمزا بثمرات الدين، يقول: «تقدم الزمان و أفلتت الحكومات من سلطان رجال الدين و اقتصر سلاح الدين على ما كان لديه من قوة الإقناع، ففي هذه الأثناء كان العلم يؤتي ثمرات من استكشاف المجهولات، و تخفيف الويلات، و ترقية الصناعات، و ابتكار الأدوات و الآلات، و يعمل على تجديد الحياة البشرية تجديدا، رفعها عن المستوى، فشعر الناس بفارق جسيم، بين ما انتهوا إليه في عهد الحياة الحرة و تحت سلطان العلوم المادية، و بين ما كانوا عليه ايام خضوعهم لحفظة العقائد(2).

و ليس هذا الداء مخصوصا بهؤلاء، بل هناك رجالات آخرون تأثروا بالفلسفة المادية الغربية فأخذوا ينظرون إلى منطق الدين باستصغار.

فهذا أحمد أمين المصري الطائر الصيت، يقول في كتابه: «إن قانون التناقض الذي يقول به المنطق الشكلي القديم و الذي يقرر أن الشيء يستحيل أن يكون و أن لا يكون في آن واحد، يجب عليه الآن أن يزول من أجل حقيقة «هيجل» العليا التي تنسجم فيها المتناقضات و التي تذهب إلى أن كل شيء يكون موجودا و غير موجود»(3).

ص: 14


1- مجلة الأهرام، 28 فبراير، عام 1936، لاحظ موقف العقل و العلم و العالم من رب العالمين و عباده المرسلين، تأليف مصطفى صبري، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، ج 1، ص 32.
2- مجلة الازهر، المجلد الثاني، الجزء التاسع، لاحظ موقف العقل و العلم و العالم، ج 1، ص 57.
3- قصة الفلسفة الحديثة، كما في موقف العقل و العلم و العالم، ج 1 ص 130.

و قد عزب عن المسكين أن ما يدّعيه «هيجل» من الجمع بين النقيضين لا يمت إلى النقيضين المبحوث عنهما في المنطق الشكلي، بصلة. و إنّما هو عبارة عن العناصر المتضادة في الطبيعة التي يحصل من تفاعلها شيء ثالث، و لو أردنا أن نعبر عنه باصطلاح صحيح، فيجب أن نقول: يريد المتضادين في مصطلح الفلسفة، لا النقيضين، و لا الضدين في مصطلح المنطق.

ثم نسأل الأستاذ، إذا كانت أبده القضايا، أعني امتناع اجتماع النقيضين، واقعة في إطار الشك و الترديد، بل الردّ و الإنكار، فأنّى له أن يثبت قضية يقينية طاردة للشك و اليقين، إذ المفروض عنده أنّ النقيضين يجتمعان، و أنّه لا مانع من أن تهدف قضية «قرأ أرسطو على أفلاطون» و نقيضها «لم يقرأ أرسطو على أفلاطون».

و أسوأ من ذلك قوله الآخر، منددا بعلم الكلام الذي نرى جذوره في القرآن و السنة، ثم العقل: «أما علم التوحيد فبرهان لمن يعتقد، لا لمن لا يعتقد، برهان لصاحب الدين، لا لمخالفه، و لهذا لم نر في التاريخ أن علم الكلام كان سببا في إيمان من لم يؤمن، أو إسلام من لم يسلم إلا نادرا، و إنّما كان سببا في ايمان الكثير و إسلام الجم الغفير، الدعوة من طريق القلب لا من طريق المنطق»(1).

نقول: إذا لم يكن علم الكلام سببا لايمان من لم يؤمن، فما معنى هذه البراهين التي يسوقها القرآن حول دحض الشرك و دعم التوحيد، و اذا كان العقل غير مفيد في الهداية، بل المفيد هو الكشف و الشهود، الذي يعبر عنه بطريق القلب، فما معنى دعوة الوحي الى التعقل و التدبر.

و العجب أن كل ما يقوله هو، هو برهنة و استدلال بالعقل، و هو يريد أن يرد العقل بالعقل، فما هذا التناقض ؟ اللهم إلاّ أن يلتجئ الأستاذ إلى فرضية «هيجل» و أنّه يصح الجمع بين النقيضين!!.

ص: 15


1- موقف العقل و العلم و العالم، ج 1، ص 257-258

و في مؤخر القوم، كاتب «حياة محمد»، محمد حسين هيكل، فإنّه يبث سمومه في مقدمة كتابه و ثناياه، و يرفع عقيرته بأن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق، يقول:

«انصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في الأديان و في الرسالة الإسلامية، و صاحبها. و زادهم انصرافا ما رأوا العلم الواقعي و الفلسفة الواقعية (الوضعية) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق و لا تدخل في حيز التفكير العلمي، و أن ما يتصل بها من صور التفكير التجريدي، الميتافيزقي، ليس هو أيضا من الطريقة العلمية في شيء»(1).

ما ذا يريد من قوله: إن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق. فهل يريد من المنطق، الاستدلال عليها، كما يستدل عليها بالبرهنة العقلية التي تقوم على أساس إرجاع النظريات إلى البديهيات، فهذا عدوان و ظلم، فان أصول المسائل الدينية إنما تثبت بالبرهان العقلي، و من سبر كتب الإلهيات للمعتزلة و الأشاعرة و الإمامية يجد مقدرتهم العلمية على إثبات ما يتبنونه.

و إن أراد أنّه لا يخضع للأساليب التجريبية التي هي من شئون العلوم المادية، فهو مسلم، لكن ذلك الترقب، ترقب في غير محله، لخروجه عن نطاق التجربة.

و العجب أن ما ذكره الأستاذ ليس أمرا تجريبيا بل هو برهنة عقلية استنتجها من المشاهدات، حسب زعمه.

هذه نماذج من الاغترار بالعلم و تسرب المادية إلى الاوساط الدينية، فإذا كان هذا حال هؤلاء الذين يعدون في الجبهة و السنام من الشخصيات الدينية في مصر العزيزة، فما حال البسطاء الذين ينهلون من مشارعهم و مشارع من يتظاهر بالمادية و يرفع عقيرته بأنّه قد مضى سلطان الدين و بدأ سلطان العلم.

ص: 16


1- حياة محمد، ص 15.

هذه و تلك و غيرها مما لم نذكر يفرض علينا رسالة جديدة في علم الكلام و هي التركيز على الموضوعات التي يتخذها الإلحاد منصة لإذاعة الإلحاد و إطلاقه. و لا نكتفي بعلم الكلام السابق، و الموضوعات المحدودة، بل نماشي حاجات العصر بتطوير خاص لنجابه بذلك ضوضاء الإلحاد، بالمنطق الرصين و العظات البالغة النافذة.

دواء يزيد داء.

و هناك رسالة أخرى لعامة المسلمين و هي ادلاء النصح للوهابية الذين يدعون أنهم يتبنون عقيدة السلف من الصحابة و التابعين لهم بإحسان فقابلوا هذا السبيل الالحادي الجارف بنشر ما ألف بيد المحدّثين في العصور السابقة، ثم نشر ما ألفه ابن تيمية و تلميذه ابن قيم و مقلده في العصور الأخيرة «محمد بن عبد الوهاب». زاعمين بأنّهم يوصدون بذلك الباب أمام تطرق الإلحاد إلى قلوب الشباب المسلم.

و لكنه اشبه بمداواة العجوز، ينفع مرة و يضر مرات، فان ما كتب بيد السلف يحتوي على كل رطب و يابس و صحيح و سقيم و رصين و زائف، و إن دلّ على كونه سبحانه جسما ذا اعضاء بشرية و أنه يجلس فوق العرش و يستوي عليه و ينزل كل ليلة الى السماء الدنيا، و غيره مما نستعيذ بالله منه، و نجلّه تعالى عنه، و قد اتخذها بعض السلف عن اليهود و مستسلمة أهل الكتاب فأودعوها كتبهم الحديثية إلى أن جاء الخلف و نظر إليها بتقدير و احترام و حسبها حقائق راهنة سمعها المسلمون من النبي الاكرم.

يشهد اللّه - و إنّه لقسم لو تعلمون عظيم - أنّ في بث هذه الكتب آثارا سيئة في أفكار الشبان و فيها حط لمقام نبي العظمة بل إنها حلقات بلاء تجر الويل على الإسلام، و الدمار للمسلمين، فيجب أن يكون هناك نظارة على نشر هذه الكتب حتى يميز الصحيح من غيره، و يعلق على غير الصحيح.

هذه نصيحتي للسلفيين أساتذتهم و أبنائهم، «أبلغتكم رسالة ربّي

ص: 17

و نصحت لكم»(1) و لعل بينكم من لا يجب الناصحين، غير أن ذلك لا يؤثر في عزمي، و دعوتي في الله سبحانه.

إذا رضيت عني كرام عشيرتي *** فلا زال غضبانا علي لئامها

الآن حصحص الحق، و أسفر الصبح لذي عينين، و أقدم شكري الجزيل، و ثنائي العاطر لولدنا العلامة المحقق فضيلة الشيخ حسن مكي العاملي، دامت إفاضاته، فقد بلغ النهاية، و بذل مبلغ جهده في تدوين هذه المحاضرات و ضبطها و تنسيقها و تنظيمها، و الرجوع إلى مصادرها، فجاء هذا الجزء كالجزء السابق، كسبيكة واحدة، تعلو عليه جودة البيان، و إحكام السبك، و روعة التنظيم، فحياه اللّه سبحانه و وفقه لما يحبه و يرضاه في مستقبل أيامه، و إنّه - دام فضله - ممن عقدت عليه آمال الخير و السعادة و أن يكون أحد أعلام المحققين و الخبراء في علم العقائد و الكلام، و من المدافعين المتحمسين عن حياض العقيدة و مناهل الشريعة، و أشكر اللّه سبحانه على هذه النعمة الجزيلة، و هو خير مسئول و خير معين.

حرّره صبيحة يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر شوال المكرم من شهور عام 1409 ه ق في قم المشرفة جعفر السبحاني عفي عنه

ص: 18


1- اقتباس من سورة الأعراف: الآية 79.

الفصل السابع النبوة العامة

اشارة

البحث الأول: لزوم بعثة الأنبياء - أدلة لزوم البعثة.

- أدلة منكري البعثة البحث الثاني: ما تثبت به دعوى النبوة - الإعجاز - تنصيص النبي السابق - جمع القرائن و الشواهد البحث الثالث: الوحي و اقسامه - الوحي في اللغة - الوحي في القرآن - حقيقة الوحي في النبوة البحث الرابع: سمات الأنبياء - العصمة - التنزه عن المنفرات - العلم بالمعارف و الأحكام - الكفاءة في القيادة

ص: 19

النبوة العامة

مقدمة

النبوة سفارة بين اللّه و بين ذوي العقول من عباده، لازاحة علّتهم في أمر معادهم و معاشهم.

و النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بإحدى الطرق المعروفة.

و البحث في النبوة يقع على صورتين:

الأولى - البحث عن مطلق النبوة، من دون تخصيص بنبيّ دون نبي.

الثانية - البحث عن نبوة نبي خاص، كنبوة سيدنا محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم.

و الأبحاث التي طرحها المتكلمون في النبوة العامة تتمحور في أربعة أمور، هي:

1 - البحث عن حسن بعث رجال الغيب و الوحي لهداية الناس و إرشادهم إلى الغاية المتوخاة من خلقهم، أو لزومه.

2 - إذا ثبت حسن البعثة، فما هي الطرق التي يعرف بها النبي الصادق من المتنبّئ الكاذب ؟ و هل هي منحصرة بالإعجاز، أو هناك طرق أخرى ؟ 3 - إذا كان النبي هو الإنسان المتصل باللّه سبحانه، فما هو ذاك الطريق الذي يتصل به عبره، و يتلقى من خلاله تعاليم الخالق سبحانه ؟

ص: 20

4 - ما هي الصفات المميزة للنبي عن غيره ؟ و يرجع البحث في الأول إلى تحليل أدلة مثبتي لزوم البعثة و منكريه، كما يرجع البحث في الثاني إلى الطرق التي تثبت بها نبوة الأنبياء. و يرجع البحث في الثالث إلى الوسيلة التي يتلقى بها النبي تعاليمه من الغيب، أعني الوحي و الإلهام. و يرجع البحث في الرابع إلى التعرف على صفات الأنبياء، كعصمتهم من الخطأ و الزلل و تنزههم عن الصفات المنفّرة.

و بإشباع البحث في هذه المجالات الأربعة، يكتمل البحث في النبوة العامة، و يقع الكلام بعده في النبوة الخاصة، بإذنه تعالى.

ص: 21

مباحث النبوة العامة

(البحث الأول) لزوم بعثة الأنبياء
اشارة

اتفق أهل الملل قاطبة على لزوم بعثة الأنبياء إلى الناس، بمعنى أن حكمة الخالق البالغة تقتضي إرسال الرسل لهداية الناس و إرشادهم إلى سبل السعادة.

و خالفهم في ذلك البراهمة، فقالوا بأن المجتمع الانساني بفطرته و عقليته، يصل إلى تلك الغاية، من دون حاجة إلى معلم غيبي.

و التعرف على الحق في ذلك يتوقف على تحليل أدلة الطائفتين، و نقدم أولا أدلة المثبتين، مختارين القليل من الكثير منها(1)، ثم نتبعها بأدلة النافين فنذكرها و نحلّلها.

ص: 22


1- - استدل المتكلمون بأدلة تقارب العشر على لزوم البعثة، فلاحظ تجريد الاعتقاد و شروحه
أدلة لزوم البعثة
(1) حاجة المجتمع إلى القانون الكامل
اشارة

و بيان هذا الدليل يستدعي رسم أمور:

الأمر الأول: نزعة الإنسان إلى الحياة المدنية.

لا يشك احد من الفلاسفة و الباحثين في الحياة الإنسانية، في أن للإنسان ميلا إلى الاجتماع و التمدن، فهو يفر من حياة الانفراد في الغابات و الصحاري و كهوف الجبال، و يتجه إلى التشكّل مع أبناء نوعه في اطار المجتمعات الكبرى، و كلّما تكاملت الحضارة الإنسانية، انحسرت تلك الحياة الفردية و ازدادت التشكّلات المدنية و الاجتماعية.

و هناك نظريتان في تفسير هذه النزعة الانسانية:

الاولى: أن الإنسان «مدني بالطبع» فهو بدافع فطري محض يفر من الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية.

و الثانية: أن الإنسان «مستخدم بالطبع»، يميل إلى استخدام كلّ شيء في الطبيعة لصالح غرائزه و متطلّبات فطرته، و لا يمكنه تحقيق هذا الدافع إلى الاستخدام إلا بالتشكل في إطار الحياة الاجتماعية. و لو لا وفاء التعاون مع أبناء نوعه - المستلزم للحياة الاجتماعية - بإشباع ميله للاستخدام، لظلّ حليف الغابات و الكهوف.

ص: 23

و على كل تقدير، لا مفر للإنسان عن الحياة الاجتماعية سواء لكونه مدنيا بالطبع أو مستخدما بالطبع.

الأمر الثاني: الحياة الاجتماعية رهن القانون

إن حاجة المجتمع إلى القانون مما لا يرتاب فيه، و ذلك لأن الانسان مجبول على حب الذات، و هذا يجرّه إلى تخصيص كل شيء بنفسه من دون أن يراعي لغيره حقا. و من المعلوم أن الحياة الاجتماعية بهذا الوصف تنتهي إلى التنافس و التشاجر بين أبناء المجتمع، و تؤدي بالتالي إلى عقم الحياة و تلاشي أركان المجتمع.

فلأجل ذلك لا يقوم للحياة الاجتماعية أساس إلا بوضع قانون دقيق و محكم و متكامل، يقوم بتحديد وظائف كلّ فرد و حقوقه، و يشرّع الحدود و القيود التي يجب تحرك الجميع من خلالها.

الأمر الثالث: شرائط المقنّن
اشارة

إن وضع قانون و لو للقضايا و المشاكل الجزئية، يعدّ من أصعب الأمور في مقام التحقيق، و لا يقوم به إلا أماثل رجال المجتمع الذين تجتمع فيهم مؤهلات عالية من العلم و الخبرة. و لكي تقف على حقيقة ما ذكرنا نضرب مثالا لبعض القضايا:

إنّ مشكلة أزمة السير من أعسر المشكلات التي تعاني منها المجتمعات المدنية الحديثة، و يعد حلّها من الأمنيات الكبرى لسكانها و القائمين عليها.

فلو قامت مدينة تعاني من هذه الأزمة بتشكيل لجنة مهمتها وضع قانون و ضوابط كفيلة بحلّها، فلا بد أن تتوفر لدى أعضاء هذه اللجنة، المعرفة و الخبرة اللازمين لتحقيق هذه الغاية، فلا بد أن تكون مطلعة على عدد شوارع المدينة و مقدار سعتها، و كيفية ارتباطها، و عدد الوسائط النقلية التي تجوبها، و كذلك المراكز الاقتصادية و الحيوية في المدينة، و مراكز الكثافة السكانية، و مراكز

ص: 24

المواقف العامة للسيارات، و مقدار سعتها و ضيقها، و كذلك الوعي الثقافي لدى الناس الداعي إلى رعاية النظم و التخطيطات، و التعرف أيضا على خبرات السابقين و المخططات التي طبّقت في المدن الاخرى..... الى غير ذلك من الشروط اللازمة لوضع قانون و خطة وافية بحل الأزمة. و الجهل بواحد منها فضلا عن جميعها، موجب للفشل و عدم نجاح القانون.

فإذا كان هذا الموضوع الجزئي بحاجة إلى علم و خبروية بهذا الحد حتى يجعل له قانون كافل لحل أزمته، فكيف يجعل القانون للمجتمعات البشرية المنتشرة في أصقاع الأرض، و التي تتباين من حيث الظروف الجغرافية و العادات و التقاليد، يكون متناولا لجميع جوانب الحياة ؟! لا ريب أن جعل قانون كهذا يحتاج إلى توفّر شروط و شروط، تخرج قطعا عن طاقة الإنسان مهما ترقّى في درجات العلم. و إليك ثلاثة من أمهات تلك الشروط.

الشرط الأول: أن يكون المقنّن عارفا بالإنسان.

إنّ أول و أهم خطوة في وضع القانون، معرفة المقنّن بالمورد الذي يضع له القانون، كما أشرنا إليه في المثال المتقدم. و على ضوء هذا، لا بد أن يكون المقنّن عارفا بالإنسان: جسمه و روحه، غرائزه و فطرياته، و ما يصلح لهذه الامور أو يضربها، و كلما تكاملت هذه المعرفة بالإنسان، كلما كان القانون ناجحا و ناجعا في علاج مشاكله و إبلاغه إلى السعادة المتوخاة من خلقه و وجوده في هذا الكون.

و مثل المقنّن في هذا المقام، مثل الطبيب، كلما كانت معلوماته حول المريض، جسمه و روحه و ظروفه المحيطة به، كاملة، كلما كانت الوصفة مفيدة و ناجعة في قلع المرض.

و هناك وجهة أخرى لاقتضاء طبيعة التقنين، المعرفة الكاملة بالانسان، و هي أن الانسان خلق مع غرائز جامحة لا تعرف لإرضائها قاعدة و لا حدّا. و من

ص: 25

المعلوم أن تعطيل هذه الغرائز بالكلية ينتهي إلى الفناء، كما أن اطلاق عنانها يؤدي نفس النتيجة. فالطريق الأوسط، كبح جماحها على حد يتم لصالح الإنسان الفرد أولا، و صالح المجتمع ككلّ ثانيا.

و من هذا يتبين أن من يريد أن يقنّن لصالح المجتمع، يجب أن يكون عارفا بالإنسان عرفانا كاملا، واقفا على زوايا روحه و أعماق ضميره و خصوصيات بدنه و طاقاته، و ما يرجع إليه بالصلاح أو الفساد.

الشرط الثاني: أن لا يكون المقنّن منتفعا بالقانون.

و هذا الشرط بديهي، فإن المقنن إذا كان منتفعا من القانون الذي يضعه، سواء كان النفع عائدا إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصة، فإنّ هذا القانون سيتم لصالح المقنّن لا لصالح المجتمع، و مثل هذا القانون ناكب عن الحق، متردّ في مهاوي التفرقة و التمييز، و نتيجته الحتمية الظلم و الإجحاف.

فالقانون الكامل لا يتحقق إلا إذا كان واضعه مجرّدا عن حب الذات و هوى الانتفاع الشخصي.

الشرط الثالث: إصلاح الباطن

إن للعقيدة دورها و أثرها في اختيار الفعل و انتخابه، و كلّ ما يصدر من الإنسان من فعل أو ترك فهو وليد عقيدته و تفكيره، فالمؤمن باللّه و شرائعه يسعى للإتيان بأعمال يرضي بها ربّه، كما أنّ الملحد و الكافر به و بشرائعه يسعى إلى الأعمال التي فيها رضى غرائزه و متطلبات نفسه.

و القانون مهما بلغ في درجات التكامل، لا يكون ناجحا و مفيدا إلا إذا كان في جوهره و صميم ذاته، ضمانات لإجرائه و تجسيده في الحياة.

و بضم هاتين المقدمتين إلى بعضهما يتضح أن الضمان الكامل لإجراء القانون لا يتحقق إلا بتوجه المقنّن إلى إصلاح الباطن مع إصلاح الظاهر، و لا يكون نظره محصورا بوضع الضوابط الماديّة الجافّة.

ص: 26

فالقانون الكامل يبتني على إيجاد عقيدة و إيمان بالغيب، و بقوة قاهرة كبرى، تراقب الإنسان في ليله و نهاره و في حياته الشخصية و علاقاته الاجتماعية، بالإضافة إلى ايجاد التنظيمات المادية لمراقبة أعمال الفرد الظاهرية.

و اجتماع هذين الأمرين يصنع من الفرد إنسانا اجتماعيا يعيش في ظل القانون مراعيا له و لا ينقضه إلا شاذا و نادرا.

و لو كان المقنّن ناظرا إلى الجهات الظاهرية فقط و مكتفيا في ضمانات الإجراء بالتنظيمات الرائجة، لكان خاسرا في تقنينه، و لن يرى له تجسّدا إلا في وضح النهار و أمام أعين القوى البشرية المجرية.

هذه أبرز الجهات الوافية بكمال القانون فهلمّ نرى أين تتحقق هذه الشرائط، و عند من ؟.

أما الشرط الأول، فإنا لن نجد في صفحة الوجود موجودا أعرف بالإنسان من خالقه، فإن صانع المصنوع أعرف به من غيره. يقول سبحانه: أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (1).

و اما الشرط الثاني، فلن نجد أيضا موجودا مجردا عن أي فقر و حاجة و انتفاع سواه سبحانه، و وجه ذلك أن الإنسان مجبول على حب الذات، فهو مهما جرّد نفسه من تبعات غرائزه، لن يستطيع التخلص من هذه النزعة، و إلا لزم أن ينسى نفسه، و يخرج بالتالي من عداد البشر.

و أما الشرط الثالث، أي تشريع القانون على صرح الإيمان و الاعتقاد بصحة التشريع، فلن نجده أيضا في غيره سبحانه، لأنه يدعو إلى ربوبية نفسه و عبوديّة غيره، و يبين للناس أن صلاحهم في إطاعته و شقاءهم في مخالفته و بهذا يسرى قانونه و تشريعه في الحياة و المجتمعات البشرية سريان الماء في الشجر و النبات، و يكون مضمون الإجراء و التطبيق.

ص: 27


1- سورة الملك: الآية 14.

أضف إلى ما ذكرنا، أن التبدل الدائم في القوانين، و النقض المستمر الذي يورد عليها، بحيث تحتاج في كل يوم إلى استثناء بعض التشريعات و زيادة اخرى، إضافة الى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر، كل ذلك دالّ على قصورها عن الوفاء بحاجة المجتمعات إليها، و ما ذلك إلا لقصورهم عن معرفة الانسان حقيقة المعرفة، و انتفاء سائر الشروط في واضعيها.

فتلخص من هذا الدليل أمور:

الأول: أنّ الإنسان يميل إلى الحياة المدنية، إما لكونه «مدنيا بالطبع»، أو لكونه «مستخدما بالطبع».

الثاني: أنّ الحياة الاجتماعية لا تستقر إلا بتعرف أعضاء المجتمع على وظائفهم و حقوقهم، و هذا لا يتسنى الاّ بالتقنين.

الثالث: أنّ مهمة التقنين الشاقة لا يقوم بها إلا من اجتمعت فيه عدّة شروط أهمها: معرفته الكاملة بالإنسان، و عدم انتفاعه من القانون الذي يجعله، و أن يبني قانونه على صرح الإيمان.

الرابع: أنّ تلك الشروط لا توجد على وجه الكمال إلاّ في اللّه سبحانه خالق البشر.

فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية للبشر متوقفا على التقنين الإلهي، فالواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم، ليوقفهم على ما فيه سعادتهم. و الحامل لرسالة اللّه سبحانه هو النبي المنبئ عنه و الرسول المبلغ إلى الناس، و يثبت بذلك أنّ بعث الأنبياء واجب في حكمته تعالى حفظا للنظام المتوقف على التقنين الكامل.

إشارة الى هذا الدليل في الذكر الحكيم.

إنّ في الكتاب الحكيم ما يشير إلى هذا الدليل، و هو قوله تعالى:

ص: 28

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ... (1) .

فجعل القيام بالقسط الذي هو عبارة أخرى عن ضبط المجتمعات بالنظم و القوانين ليحصل التآزر و التآلف المطلوبين لتأمين الأرضية الصالحة لسلوك الإنسان إلى معين السعادة، جعله علة و غاية لإرسال الرسل، فالقسط لا يتحقق إلا بالتسنين الصحيح و التقنين الكامل الذي لا يقوم به إلا خالق الانسان و بارئه.

ص: 29


1- سورة الحديد: الآية 25.

ص: 30

أدلة لزوم البعثة

(2) حاجة المجتمع الى المعرفة
اشارة

كل انسان عاقل إذا جال ببصره فيما يحيطه من أرض و سماء، يقف على أن الكون لم يخلق عبثا، بل له غاية و هدف تتفاعل كل أجزائه في سبيله.

و ليس معنى كونه ذا غاية أن الفاعل قام بإيجاده لسد حاجته كما هو المتعارف في أفعال غيره سبحانه، بل المراد أن الفعل ليس فعلا عبثيّا فاقدا للغاية، التي ترجع إلى غيره، فكون الفاعل ذا غرض يفارق كون الفعل ذا غاية، و المنفي عن ساحته سبحانه هو الأول دون الثاني - و قد أوضحنا حاله في الجزء الأول فلاحظ.(1)

إن النظام السائد على العالم، و الانسجام الموجود بين أجزائه يعرب عن أن الهدف من إيجاده هو استقرار الحياة في كوكبنا هذا. و هذه الغاية إن لم تكن هي الوحيدة فهي على الأقل - إحدى الغايات فكأن سير النجوم و الكواكب و الشمس و القمر، و نزول الأمطار و الثلوج، و حركة الرياح و السحب، و جزر البحار و مدّها، و اخضرار المزارع و تفتح الازهار و و... مما لا يعدّ و لا يحصى من الآثار الطبيعية، كلها لاجل تكوّن الحياة و استقرارها و تهيئة الأرضية الصالحة لتكامل الموجودات الحية.

ص: 31


1- الالهيات، ج 1، ص 263-271.

و تتضح حاجة الانسان إلى المعرفة بالوقوف على أمور:

الأمر الأول - الهداية التكوينية.

إن الموجودات الحية تصل إلى الغايات التي خلقت لها، في ظلّ الهداية التكوينية و الغرائز المودعة في ذواتها، و لا تحتاج في بلوغها ذلك الكمال إلى عامل خارج عن ذواتها، سوى الإنسان.

إن الإنسان، و إن كان مجهّزا بغرائز ذاتية، إلا أنها غير وافية في إبلاغه الغاية التي خلق لها، و لا تعالج إلا القليل من حاجاته الضرورية. و لاجل ذلك ضمّ خالق الإنسان إلى تلك الغرائز، مصباحا يضيء له السبيل في مسيرة الحياة، و يفي بحاجاته التي تقصر الغرائز عن إيفائها، و هو العقل.

و مع ذلك كله فإن العقل و الغرائز غير كافيين أيضا في إبلاغ الانسان إلى السعادة المتوخاة، بل يحتاج معهما إلى عامل ثالث يعنيه في بلوغ تلك الغاية.

و وجه ذلك أن العقل الإنساني غير مصون عن الخطأ و الزلل و الاشتباه، و ذلك لأن عمل العقل اختياري، فإنه يرى أمامه طرقا متعددة و خطوطا متفاوته، عليه أن يسلك إحداها و يتجنب بقيّتها، و كثيرا ما يركب الخاطئ منها و يحيد عن الصائب.

الأمر الثاني - قصور العلم الإنساني في مجال المعارف الإلهية

إذا كان العقل و الغرائز غير وافيين بحلّ عامة مشاكل الإنسان، فالعلم الإنساني أيضا غير كاف فيه، و ذلك أن الإنسان رغم التقدم الذي أحرزه في العلوم الطبيعية، لا يزال في بدايات سلّم هذا العلم، و ما أحرزه ضئيل جدا أمام أسرار الكون العظيم. و رغم أن الإنسان تمكّن من معرفة قسم من المعادلات و القوانين التي تسير عليها الظواهر الطبيعية و القوى الكونية، إلاّ أنّه لا يعلم أي شيء هي، و ما حقيقتها و ماهيتها(1).

ص: 32


1- وقف مرة اينشتاين العالم الكبير، عند درج صغير أسفل مكتبته، و قال: «إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي. و لو أنصف لقال: أقلّ من هذه النسبة، لما ذكرناه من جهل الإنسان حقائق القوى التي يكتشف معادلاتها. لاحظ مجلة رسالة الإسلام، الصادرة عن دار التقريب بالقاهرة، العدد الأول، السنة الرابعة، ص 24، تنحت مقاله بعنوان ما نعلم و ما لا نعلم للدكتور أحمد أمين.

و مما يوضح قصور العلم البشري في العلوم الالهية، أن هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات و العلوم الطبيعية، إلى حد أوقعوا العالم في اسارة استهلاك مصنوعاتهم، و مع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية. فجلّهم - إن لم يكن كلّهم - عبّاد الأصنام و الأوثان، و أسراء الأحجار و الاخشاب.

و قد بلغ الحد في بلاد اليابان أن جعلوا لكل حادثة ربّا، حتى أن هناك ربا باسم «رب الزواج»، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج، ليؤمن لهم الأزواج المناسبين.

و ببابك بلاد الهند الشاسعة، و ما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسة و تأله في «البقر». و ليست بعيدة عنّا أيام أصاب الجوع تلك البلاد، و أصدر المجلس العام إجازة بذبح قسم من الأبقار لسدّ الجوع و رفع الموت عن أبناء الشعب، فقد ثارت ثائرة الجماهير إلى الحدّ الذي أجبر الحكومة على إلغاء القانون. فرضوا أن يموت الإنسان بجوعه، و يعيش البقر بأطيب عيشه، يأكل محاصيلهم و يتلف ممتلكاتهم.

فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية في عصر الفضاء و الذرة، و بعد ما جاءت الرسل تترى لهداية البشر، فما هو حالها في غابر القرون و الأزمان ؟!. بل بأي صورة يا ترى كان وضعنا الآن لو لا الهداية الإلهية عن طريق الرسل ؟!.

نعم، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا الحق و تعرفوا عليه عن طريق التفكير و التعقل، كسقراط و أفلاطون و أرسطو. و لكنهم أناس استثنائيون، لا يعدون معيارا في البحث، و لا ميزانا في نفي لزوم البعثة. و كونهم عارفين بالتوحيد، لا يكون دليلا على مقدرة الآخرين عليه. على أنه من المحتمل جدا أن يكون

ص: 33

وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما وصل إليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه و أنبيائه.

الأمر الثالث - ضالة العلم الإنساني في التعرف على المصالح و المفاسد.

ربما يتصور أن الهدف الوحيد من بعثة الأنبياء، هو هداية الناس إلى المبدأ و المعاد، و ما في المبدأ من صفات جمال و جلال، و لكن هذه الفكرة نصرانية بحتة، فإن هدف الأنبياء أوسع من ذلك، فإنهم قد بعثوا - مضافا إلى ما مرّ - لهداية الناس إلى وسائل السعادة و الشقاء، فلأجل ذلك حثّوا على الأخلاق و المثل العليا في الحياة، كما بيّنوا مصالح العباد و مفاسدهم الفردية و الاجتماعية، و لذا كانت برامجهم تتسع و تتكامل بتكامل المجتمعات البشرية، حتى ختم التشريع بخاتم الأنبياء، و تبيّنت معالم الهداية في كافة الجوانب.

و الذي يحتم ضرورة هذا الهدف قصور العلم الإنساني عن تشخيص منافع البشر و المجتمعات و مضارّها، و يدل على ذلك:

أولا - إن المجتمع الإنساني - مع ما بلغه من الغرور العلمي - لم يقف بعد على ألفباء الاقتصاد. فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين: واحدة تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية و الاقتصاد الحر المطلق، و انه هو العامل الوحيد لرفاه المجتمعات و تفجّر الطاقات. و الأخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي بدء و الشيوعي غاية، فالسعادة كلها في سلب الملكية عن أدوات الإنتاج و تفويضها إلى الدولة الحاكمة.

فلو كان الإنسان قادرا بحق على تشخيص المصالح و المفاسد، و ما ينفعه و ما يضره، لما حصل هذا الاختلاف، الذي انجر إلى انقسام خطير بين دول العالم.

ثانيا - و كما أن الإنسان لم يصل إلى النظام الاقتصادي النافع له، فهو كذلك

ص: 34

لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق و قد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر الأخير إلى حد التضاد فيما بينها.

و نضرب مثالا بأحدها: الشيوعية. إنها تدعى لنفسها منهجا أخلاقيا من أصوله أن الإنسان لا يكون شيوعيا إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة العمال في العالم، و كل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق الفاضلة، و إن كان ذلك إعداما، و تدميرا و سرقة و اختلاسا. و لأجل تبرير هذه الآراء الشاذة اعتنقوا الأصل المعروف: «الغايات تبرر الوسائل».

يقول لينين - أحد زعماء الشيوعية بعد ماركس و انجلز -: «إن الشيوعي هو من يتحمل كل التضحيات و يلجأ إلى انواع الحيل و الأفعال غير المشروعة، ليجد لنفسه موضعا، و موطئ قدم في الاتحاديات التجارية»(1).

فإذا كان هذا حال الإنسان في معرفة المسائل الابتدائية في الاقتصاد و الأخلاق، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أسس تلك العلوم. أ فبعد هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الإنسان غني عن الوحي في سلوك طريق الحياة.

ثالثا - إنّ التعرف على عوامل السعادة و الشقاء له صلة وطيدة بسلوك الإنسان في الحياة، و مع الأسف إنّ الإنسان - مع ما يدّعيه من العلم و المعرفة - لم يدرك بعد تلك العوامل، بشهادة أنه يشرب المسكرات، و يستعمل المخدرات، و يتناول اللحوم الضارة. كما يقيم اقتصاده على الربا، الذي لا يشك إنسان عطوف على المجتمع بأنه عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع.

هذه الوجوه و أمثالها ترشدنا إلى أن الإنسان ليس - و لم يكن - غنيا عن تعاليم الأنبياء، و تدعم بوضوح لزوم بعثتهم لنشر المعرفة بين الأمم الإنسانية.

قال القاضي عبد الجبار: «إنه قد تقرر في عقل كل عاقل، وجوب دفع

ص: 35


1- موسوعة نيقولاي لينين، ج 17، ص 142، طبعة 1923.

الضرر عن النفس، و ثبت أيضا أن ما يدعو الى الواجب و يصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة. إذا صحّ هذا، و كنا نجوّز أن يكون في الافعال ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات(1) و اجتناب المقبّحات، و فيها ما اذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك، و لم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك و يفصل بين ما هو مصلحة و لطف، و بين ما لا يكون كذلك، فلا بد من أن يعرّفنا الله حال هذه الأفعال كي لا يكون عائدا بالنقص على غرضه بالتكليف. و إذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلاّ بأن يبعث إلينا رسولا مؤيّدا بالمعجز الدالّ على صدقه، فلا بدّ من أن يفعل ذلك، و لا يجوز له الإخلال به(2).

إشارة إلى هذا الدليل في الكتاب.

قد جاء في الكتاب العزيز و السنة الشريفة إشارة الى هذا الدليل نذكر منها:

قوله سبحانه: كٰانَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اَللّٰهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ ... (3).

فإن الاختلاف - إن كان عن نوايا صادقة - آية عجز البشر عن الوصول إلى الحقيقة.

و قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «و لا بعث اللّه نبيّا و لا رسولا حتى يستكمل العقل...»(4).

و قول أمير المؤمنين عليه السلام: «فبعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و آله

ص: 36


1- - المراد من الواجبات ليس الفرائض الشرعية بل ما يقابل المقبحات، و هي الامور التي يحكم العقل بحسنها و لزوم الإتيان بها.
2- - شرح الاصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص 564.
3- - سورة البقرة: الآية 213.
4- - الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 11.

ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، و من طاعة الشيطان إلى طاعته»(1).

و قوله عليه السلام: «... إلى أن بعث اللّه محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لانجاز عدته، و تمام نبوته... و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، و أهواء منتشرة، و طوائف متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في أسمائه، أو مشير به إلى غيره، فهداهم به من الضلالة...»(2).

و في هذا الحديث اشار إلى قصور الانسان في التعرف على المبدأ و المعاد.

و قول الإمام الكاظم عليه السلام لتلميذه هشام: «يا هشام، ما بعث الله أنبيائه و رسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة. و أعلمهم بأمر اللّه، أحسنهم عقلا. و أكملهم عقلا، أرفعهم درجة في الدنيا و الآخرة(3).

و قول الامام الرضا عليه السلام: «لم يكن بدّ من رسول اللّه بينه و بينهم، يؤدي إليهم امره و نهيه و أدبه، و يقفهم على ما يكون به من إحراز منافعهم و دفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه.(4)

ص: 37


1- - نهج البلاغة، الخطبة 147.
2- - نهج البلاغة الخطبة الاولى.
3- - الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 12.
4- - بحار الانوار، ج 11، ص 40.

ص: 38

أدلة لزوم البعثة

(3) هداية الفطريات و تعديل الغرائز
اشارة

و تقرير هذا الدليل يحتاج إلى تقديم أمرين:

الأمر الأول - الانسان مجبول على فطرياته و غرائزه.

لا تكتمل و تتوازن حياة الإنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة و متوخيات الغرائز، بل العيش على خلاف هذه المقتضيات يؤدي بالحياة البشرية إلى الهلاك، و ما مثل هذا إلا كالسابح في عكس تيار الماء، لن تكون عاقبته إلا الإرهاق و انهيار القوى فيتوقف عن السباحة و يبتلعه الماء.

فحاجة الخلايا إلى الغذاء، و البدن إلى الراحة و النوم، حاجة ضرورية لا بد من تلبيتها. كما أن الحاجة إلى اطفاء الشهوة بالزواج حاجة فطرية لا يمكن إهمالها، و إلا صار الإنسان موجودا عصبيا، و كانت الحياة كالعلقم في فمه.

و من جملة الفطريات المودعة في وجود الإنسان، و المكتوبة على جبينه بقلم القضاء و الخلقة، و التي تتفجر في أوائل بلوغ الإنسان عمر الشباب، معرفة اللّه سبحانه، و الميل إلى الأمور الحسنة، و الانزجار عن الأمور السيئة، و لأجل ذلك لا ترى إنسانا - لم يقع تحت تأثير الأهواء و عوامل الانحراف - يعدّ ردّ الامانة قبيحا، و الخيانة بها كرامة، كما لا يعد العمل بالعهد أمرا سيئا، و نقضه أمرا حسنا، و هكذا الكثير من الأمور كالميل إلى العفة و العدالة و الانزجار عن

ص: 39

الدناسة و الخيانة. و كل ذلك مما يلمسه الإنسان في حياته و يعايشه في وجدانه، و قد كشف عنه العلم الحديث و أيّده(1).

الأمر الثاني - حاجة الفطريات إلى الهداية و الغرائز إلى التعديل

إن إعمال الغرائز و الفطريات - و إن كان به قوام الحياة - إلا أنّه لا يصح في المقابل تركها و حالها و إفساح المجال لها، و إلا أدّى ذلك بالحياة البشرية إلى الفناء و الهلاك. و إنما تتحقق سعادة الإنسان بهداية فطرياته هداية صحيحة و تعديل غرائزه على وجه يفي بحاجاته و لا يخرجه عن طور إنسانيته.

بيان ما ذكرنا: إن الثلوج المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الانتفاع بها إذا كان هناك جداول و قنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة به، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج. و في غير تلك الصورة يسيل الماء كيف كان، جارفا في طريقه الاحجار و الصخور، و ربما أنقلب إلى سيل جارف يدمّر كلّ شيء أمامه.

و كذلك الفصل المغروسة، أو البذور المنثورة على الأرض، تحمل في ذواتها قوى و استعدادات، إلا أنّ تفجّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها حراسة و سقاية و عناية على النحو المأنوس، و عندها تصير الفصل أشجارا مثمرة، و البذور سنابل ذهبية.

ثم نقول: إذا كانت الاستفادة من الثلوج المتراكمة على الجبال، و الفصل المغروسة و البذور المنثورة على الأرض، متوقفا على هداية خاصّة، حتى تصب في مجراها الصحيح، و ترشد على نهجها الطبيعي، فكذلك الأمر في السجايا الإنسانية و الغرائز البشرية الكامنة في وجود الانسان، فإنها لن تعود عليه بالنفع و الصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط و التفريط، و تسيّرها في ما هو صالح البدن و الروح.

ص: 40


1- - تقدم التعرض لذلك في مقدمات الجزء الاول: الالهيات، ج 1، ص 11-13.

و خذ على ذلك مثالا، معرفة اللّه و الميل إلى عوالم الغيبية، فان لها جذورا في عمق وجود الانسان، و لم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالا إلى تلك العوالم، شغوفا بحب الاطلاع عليها، و الخضوع لها.

و لكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار الهداية و التوجيه الإلهي، يسفّ بالإنسان إلى الحضيض، و يصنع منه عابدا للحجر و الخشب و العجماوات، خاضعا للشمس و القمر و النار. أ لا ترى صانعي الآلات و مخترعي العقول الالكترونية كيف طفقوا يخضعون للأصنام و الأبقار؟! و لكنها إذا كانت تحت ظل هداية إلهية، تتجلى بمظهر التوحيد، و أنّ للعالم بأسره إلها واحدا أحدا عالما، قادرا، محيطا بكل شيء، جامعا لكل صفات الكمال و الجمال.

إن الميول الطبيعية، كالميل إلى الزواج و التسلط على المناصب و التكاثر في الأموال، مما خمّر عليه الإنسان، و لا بقاء لحياته إلا به، و لو سلبت عنه لصار موجودا مهملا خاملا طالبا للموت و جانحا إلى الفناء.

و لكن لو تركت هذه الغرائز و مجالها، لآل الإنسان إلى حيوان ضار، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال و الاستبداد بالمناصب.

و أما لو كبح جماحها، و عدّلت ميولها بهداية تحدد مجاريها و ترشد صاحبها الى كيفية الاستفادة منها، لصار موجودا عاقلا متكاملا سعيدا في حياته، متآلفا و متآزرا مع سائر بني نوعه، لبناء المجتمع الصالح.

و هكذا، فقد علم من هاتين المقدمتين أن وجود الفطريات و الغرائز في الإنسان، و حاجتها إلى الهداية و التعديل أمر لا ينكر، و إنّما الكلام كلّه في تعيين من يقوم بهذه المهمة:

فهل المحاسبات العقلية كافية في حمل الإنسان على هداية فطرياته و كبح جماح غرائزه عن الإفراط و التفريط؟ أم هل الشخصيات الممتازة في عالم الاجتماع، الموصوفة بالعقل

ص: 41

و الدراية و التجربة قادرة على القيام بهذه المهمة ؟ أم أنّ المرجعين المتقدمين - مع تقدير عملهما و الاعتراف بانتفاع الإنسان من هدايتهما في مسير حياته - قاصران عن القيام بهذه المهمة، و لا بدّ من مرجع ثالث له الإحاطة الكاملة بالفطريات و الغرائز البشرية و ما يصلحها و يقوّمها، و هم الأنبياء و الرسل الإلهيون المعصومون من الخطأ و الزلل، و المؤيدة هدايتهم بضمانات إجرائية قاهرة ؟.

نحن نعتقد أن الأمر الثالث هو المتعين، و أن المرجعين الأوّلين غير وافيين بمعالجة المشكلة.

أما العقل، فمع الاعتراف بأنه يضيء الطريق أمام الإنسان، و يأخذ بيده في المزلاّت و المزالق، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة و كبح ثورانها. فإن كلّ إنسان يعلم من نفسه أن غرائزه و ميوله الشهوية إذا تفجرت، لم تترك للعقل ضياء و لا للفكر نورا، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإنسان المبصر إذا وقع في مهب الرياح و الزوابع الرملية، فإنها تكفّ بصره عن الرؤية و تعرقل مسيره.

و في تلك الحالات، لا ينفك العقل عن خداع صاحبه و إراءة المحاسبات الكاذبة لتبرير عمله، و إيجاد الذرائع لارتكابه، بحيث لو كان هذا الإنسان في موقف عادي خال عن ذلك الثوران في العواطف و الغرائز لما اعتنى بشيء من تلك التسويلات، و لذلك لا تجد مجرما يقوم بجناية إلاّ و هو يلقي لنفسه الأعذار و التبريرات حين إقدامه عليها.

و كثيرا ما يستسهل الإنسان في تلك الحالات - على فرض التفاته إلى خطورة و قبح ما يقوم به - يستسهل ما يترتب عليه من الذم و اللوم و العقاب، قضاء لوطره منه، و إشباعا لشهوته مما يناله من اللذائذ المادية.

و أما رجالات الأخلاق و الاجتماع، فمع أنّ لهم دورا في تهذيب النفوس، و دفعها إلى الكمال، و كبح جماح غرائزها على الإجمال، إلا أنّ عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تذهب بأعمالهم أدراج الرياح.

ص: 42

أما أولا، فلأنّ شرط التربية، الوقوف على رموز الخلقة، و التعرف على خصوصيات من ترجى تربيته. و ليس لهذه الشخصيات، العلم المحيط بخصوصيات الإنسان، لا لقلة عملهم و ضيق أفكارهم، بل لعظمة الانسان في روحه و معنوياته، و غرائزه و فطرياته، و هو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله، و لا يضاء محيطه. و قد خفيت كثير من جوانب حياته و رموز وجوده، حتى لقّب ب «الموجود المجهول».(1)

و يصدّق ضالة هذه المعرفة، تزايد الفساد و ارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر نفس المناهج التربوية التي تصوّبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية.

و أما ثانيا، فلأن الحجر الأساس لتأثير التربية، أن يكون المربي إنسانا كاملا و موجودا مثاليا، يتمتع بسمو الأخلاق و الملكات، فيجذب بها القلوب، و يشد إليها النفوس.

و من المعلوم أن واضعي المناهج التربوية في العالم، و إن كانوا خبراء في مجال تخصّصهم، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس. أ لا ترى أنّهم يوصون ببسط العدل، و حماية المستضعف، و ترك الخمر و القمار و و... و مع ذلك فهم مرتكبون لها، واقعون فيها.

و لا يشذ عنهم إلا من كان مراعيا للدين متمسكا بأهدابه، و لكن الفضل حينئذ لا يعود إليه بل إلى صاحب الشريعة الذي سنّ تلك البرامج و المناهج.

و أما ثالثا، فلأن المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى الخالق سبحانه، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإجراء و التجسّد في المجتمع لارتباطها بعوامل التشويق إلى الثواب و التحذير من العقاب، و إلا فلن تعدو مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول الشهوة الثائرة.

ص: 43


1- و قد ألف الفيلسوف الفرنسي ألكسي كارل، كتابا خاصا حول الإنسان و غرائزه و فطرياته، أسماء «الإنسان ذلك الموجود المجهول».

و مجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة هداية الغرائز و الفطريات، التي تصنع من الإنسان موجودا عارفا بالنّظم، مؤمنا بالمناهج، مجريا لها في ليلة و نهاره، و سرّه و إعلانه، لا تتم إلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر، بمناهج كاملة أنزلها إليهم، و حفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب و المحذّرات من العقاب.

قال الشيخ الرئيس في بيان ما يلزم أن تشتمل عليه الأفعال التي يسنها النبي للبشر، أفراده و مجتمعاته حتى تأخذ لنفسها طريقا إلى التطبيق و مسلكا إلى البقاء:

«و يجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكّر اللّه تعالى و المعاد لا محالة، و إلا فلا فائدة فيها.

و التذكير لا يكون إلا بألفاظ تقال أو نيات تنوى في الخيال، و أن يقال لهم: إن هذه الأفعال يتقرب بها إلى اللّه و يستوجب بها الخير الكريم»....

إلى ان قال: «و بالجملة يجب أن يكون فيها منبّهات»(1).

الأنبياء و الفطرة في الحديث

إنّ الإمام أمير المؤمنين عليا عليه السلام يصوّر الإنسان موجودا يجمع في ذاته دفائن العقول و أنوار العرفان.

غير أنّ إثارة تلك المعارف الكامنة، و إبراز تلك الأسرار الدفينة، يحتاج إلى إنسان كامل يقوم بتلك المهمة و هو النبي.

فدور الأنبياء دور التذكير و التنبيه، لا دور التعليم و التأسيس، لأن كل ما يلقيه الأنبياء من أصول و معارف مختمر في وجود الإنسان بعلم فطري و قضاء خلقي، لكنه لا يلتفت إليها إلا بفضل من يوجّهه.

ص: 44


1- «النجاة» في الحكمة الإلهية، للشيخ الرئيس، ص 306، الطبعة الثانية 1357 ه - 1938 م.

يقول عليه السلام: «فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسيّ نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول...»(1).

فمثل الأنبياء على هذا التقدير، مثل المهندس الزراعي، فكما أنه ليس له دور في خلق الثمار على الأشجار و إظهارها على الأغصان، و انما ينحصر دوره في إخصاب الأرض و تهيئتها لتظهر الشجرة ثمارها و فواكهها، فهكذا الأنبياء بتعاليمهم السماوية، فإن دورهم تهيئة الإنسان ليبرز ما تعلّمه في مدرسة الفطرة من الأصول و المعارف التي تدعو إلى العدل و القسط، و نبذ الظلم و التعدي و غيرها.

نعم، للأنبياء - على تقدير آخر - دور التعليم، و ذلك في الوظائف الفرعية في مجال العبادات و المعاملات إذ لولاهم لما وقف الإنسان على طرق عبادة اللّه تعالى، و كيفية سلوكه مع بني نوعه في مقام المعاملة.

ص: 45


1- نهج البلاغة، الخطبة الاولى.

ص: 46

أدلة لزوم البعثة

(4) بعثة الأنبياء أولى من الكماليات

يعتمد هذا الدليل بنحو رئيسي على مشاهدة النعم التي أودعها الخالق في وجود الإنسان و ما يحيط به ليسهّل عليه معيشته و تكامله في الحياة. و ليست كلّ هذه النعم دخيلة في ضروريات حياته، بحيث ينعدم وجوده بدونها، بل إن كثيرا منها مما يدخل في الكماليات، و تسهيل مجاري الحياة. و كثير من هذه الكماليات أمور جزئية بسيطة لا يلتفت إليها الإنسان إلا بالتأمل و التدبّر. و لأجل زيادة التوضيح نمثّل ببعض الأجهزة في بدن الإنسان.

إن الصانع الحكيم جهّز العين بأجهزة مختلفة، منها ما هو دخيل في أصل تحقق الرؤية، و منها ما هو دخيل في سهولتها و تيسرها.

1 - فجعل العين في أعلى أجزاء بدن الإنسان حتى يتسلط بنحو كامل على ما أمامه.

2 - و جعل العين بمختلف طبقاتها في إطار جسم شحمي صلب أبيض اللون، حفظا لها مما قد يصيبها.

3 - و جعل العين بإطارها و جميع طبقاتها في حفرة عظيمة، زيادة في صيانتها من الصدمات الطارئة.

4 - و جعل فوق العين حاجبا يمنع من نزول العرق إليها، و أوجد في

ص: 47

ناصية الإنسان خطوطا ليسهل انحراف العرق يمينا و يسارا.

5 - و جعل لكل عين جفنين حافظين لها، و خلق فيهما أشفارا و أهدابا، صيانة لها عن الدخان و الأغبرة. و هما، مع أنهما يمنعان بضمهما دخول ما يؤذي العين، لكنهما لا يمنعان من الرؤية. فهما في هذا المجال أشبه بالستائر الحديديّة تسمح للنور بالدخول من دون دخول أشعة الشمس.

6 - و جعل في باطن كل جفن غددا يترشح منها سائل لزج يصون أنسجة العين من الاحتكاك بما يحيطها، و يسهل دوران كرة العين في جميع الجهات.

7 - و أحاط عدسية العين بمجموعة من الأنسجة العضلية، تجعلها تنقبض أمام الأنوار القوية و تنبسط أمام الضعيفة منها، صيانة للعين عن دخول أزيد مما تتحمله أو أقل مما تحتاج إليه من النور.

هذا بعض يسير مما يرجع الى العين، و في الأجهزة الأخرى بدائع و فوائد لا تحصى نذكر نذرا منها:

إنّ يد الخلقة جعلت تحت قدم الإنسان، أخمصا حتى يسهل عليه الوقوف و السير.

و جعلت في اليد أصابع، ثم فاوتت بينهما في الطول، ليسهل على الإنسان القيام بأعماله، و ليكون بذلك صانعا فنانا مبدعا.

و جعلت في بواطن الأنامل خطوطا و تعاريج ليسهل عليه الإمساك بالأجسام.

و هكذا إذا درسنا خلقة الإنسان وجدنا أنها مشتملة على أجهزة مختلفة بين دخيلة في أصل الحياة و دخيلة في كمالها و سهولتها. و كل ذلك يدفعنا إلى التساؤل: هل يمكن لخالق الإنسان أن يسهّل له كل طرق التكامل الظاهرية، ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي و المعنوي ؟.

و هل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء في تكامل الإنسان، و لو على وزان دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل ؟.

ص: 48

أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له تلك الأجهزة المؤثّرة في كمالاته المادية، و يترك ما هو مؤثر في تكامل روحه و فكره ؟.

و لقد ألهمنا هذا البرهان مما ذكره الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء حيث قال:

«الحاجة إلى هذا (بعث النبي) في أن يبقى نوع الإنسان و يتحصّل وجوده، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار و على الحاجبين، و تقصير الأخمص من القدمين، و أشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء.... فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقضي تلك المنافع، و لا تقضي هذه التي هي أسّها»(1).

و إلى هذا يشير صدر المتألهين بقوله: «إن ذاته سبحانه منبع الخيرات و منشأ الكمالات، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير و الكمال، و الزينة و الجمال، سواء أ كان ضروريا له، كوجود العقل للإنسان و النبي للأمة. و غير ضروري، كإنبات الشعر على الأشفار و الحاجبين، و تقصير الأخمص من القدمين»(2).

ص: 49


1- إلهيات الشفاء، بحث النبوة، ص 557 طبعة طهران. و أورده بعينه في كتاب النجاة، ص 304، طبعة 1357 ه.
2- - المبدأ و المعاد، لصدر المتألهين، ص 103، طبعة طهران.

ص: 50

أدلة لزوم البعثة

(5) اللّطف الإلهي
اشارة

استدلوا على لزوم بعث الرسل بقاعدة اللطف. و بما أن هذه القاعدة تطرح دليلا في مواضع مختلفة من المسائل الكلامية، فلا بد لنا من بسط الكلام فيها بشكل عام، حتى يتبين حالها في كل مقام يستدل بها، سواء فيما له صلة ببعث الرسل أو غيره، فنقول:

إن اللطف، في اصطلاح المتكلمين، يوصف بوصفين:

1 - اللطف المحصّل.

2 - اللطف المقرّب.

و هناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى الأول، و مسائل أخرى تترتب على اللطف بالمعنى الثاني، و ربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتب على الأول بما يترتب على الثاني. و لأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كل منهما، بنحو مستقل.

أ - اللّطف المحصّل.

اللّطف المحصّل عبارة عن القيام بالمبادي و المقدمات التي يتوقف عليها تحقق غرض الخلقة، و صونها عن العبث و اللغو، بحيث لو لا القيام بهذه

ص: 51

المبادي و المقدمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغا عن الغاية، و ناقض حكمته التي تستلزم التحرز عن العبث. و ذلك كبيان تكاليف الإنسان، و إعطائه القدرة على امتثالها.

و من هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة، و تيسير سلوكها. و قد عرفت في الأدلة السابقة، أن الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقة، أو يهتدي إلى طريق السعادة في الحياة، بالاعتماد على عقله، و الاستغناء عن التعليم السماوي. و وجوب(1) اللطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، و تنزيهه عن الفعل العبثي الذي اتفق عليه العقل و النقل(2). و إنما الكلام في «اللطف المقرّب»، و إليك البيان فيه.

ب: اللّطف المقرّب

اللطف المقرب عبارة عن القيام بما يكون محصلا لغرض التكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه و ذلك كالوعد، و الوعيد، و الترغيب و الترهيب، التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل، و بعده عن المعصية(3).

و هذا النوع من اللطف ليس دخيلا في تمكين العبد من الطاعة، بل هو

ص: 52


1- سيوافيك معنى الوجوب على الله سبحانه.
2- لاحظ سورة الذاريات: الآية 56، و سورة المؤمنين: الآية 115.
3- عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة إلى الطاعة و مبعّدة عن المعصية من دون أن يكون له حظ في التمكين و حصول القدرة، و لا يبلغ حد الإلجاء. فخرج بالقيد الأول (لم يكن له حظ.) اللطف المحصل، فإن له دخالة في تمكين المكلف من الفعل، بحيث لولاه لانتفت القدرة. و خرج بالقيد الثاني (لا يبلغ حد الإلجاء)، الإكراه و الإلزام على الطاعة و الاجتناب عن المعصية، فإن ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية الاختيار في المكلف (لاحظ كشف المراد، ص 201، ط صيدا) و قال القاضي عبد الجبار: اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب و يتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار (الواجب) أو ترك القبيح. (شرح الاصول الخمسة، ص 519).

قادر على الطاعة و ترك المخالفة سواء أ كان هناك وعد أم لا، فإن القدرة على الامتثال رهن التعرّف على التكليف عن طريق الأنبياء - مضافا إلى إعطاء الطاقات المادية. و المفروض حصول هذه المبادي و المقدمات، غير أن كثيرا من الناس لا يقومون بواجبهم بمجرد الوقوف على التكليف ما لم يكن هناك وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب، فهذا النوع من اللطف قد وقع موقع النقاش بين المتكلمين.

و الحق هو القول بوجوب اللطف إذا كان غرض التكليف (لا غرض الخلقة)، موقوفا عليه عند الأكثرية الساحقة من المكلفين.

مثلا: لو فرضنا أن غالب المكلّفين، لا يقومون بتكاليفهم بمجرد سماعها من الرسل - و إن كانوا قادرين عليها - إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد و الوعيد، و الترغيب و الترهيب، وجب على المكلّف القيام بذلك صونا للتكليف عن اللّغوية. و لو أهملها المكلّف ترتب عليه بطلان غرضه من التكليف، و بالتالي بطلان غرضه من الخلقة.

و في الكتاب و السنة إشارات إلى هذا النوع من اللّطف. يقول سبحانه: وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ وَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (1).

و المراد من الحسنات و السيئات، نعماء الدنيا و ضراؤها و كأن الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحق و الطاعة.

و يقول سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ أَخَذْنٰا أَهْلَهٰا بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (2). و في الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللطف، و مفاد الآية أن اللّه تعالى أرسل رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى إلى العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال (اللّطف المحصّل)، غير أن الرّفاه و الرّخاء و التوغل في النعم المادية، ربما يسبب الطغيان و غفلة الإنسان عن هدف الخلقة

ص: 53


1- سورة الاعراف: الآية 168.
2- سورة الاعراف: الآية 94.

و إجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء و الضراء، لعلهم يضرعون و يبتهلون إلى اللّه تعالى(1).

و لاجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم يكتفوا بإقامة الحجة و البرهان، و الإتيان بالمعاجز، بل كانوا - مضافا إلى ذلك - مبشرين و منذرين. و كان الترغيب و الترهيب من شئون رسالتهم، قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (2).

و الإنذار و التبشير دخيلان في رغبة الناس بالطاعة و ابتعادهم عن المعصية.

و في كلام الإمام علي عليه السلام إشارة إلى هذا، قال عليه السلام:

«أيها الناس، إن الله تبارك و تعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم، و التعريف لا يكون إلا بالأمر و النهي(3). و الأمر و النهي لا يجتمعان إلا بالوعد الوعيد، و الوعد لا يكون إلا بالترغيب، و الوعيد لا يكون إلا بالترهيب، و الترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم و تلذه أعينهم، و الترهيب لا يكون إلا بضد ذلك... الخ»(4).

و قوله عليه السلام: «و الأمر و النهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد و الوعيد»، إشارة إلى أنّ امتثال الأمر و النهي و نفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب و العقاب، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكليف إلاّ من العارفين الذين يعبدون اللّه تعالى لا رغبة و لا رهبة، بل لكونه مستحقا للعبادة.

فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة، و الابتعاد عن المعصية، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر، يجب على اللّه سبحانه القيام به صونا للتكليف عن اللغو، و بالتالي صونا للخلقة عن العبث.

ص: 54


1- لاحظ الإلهيات، ج 1، بحث البلايا و المصائب و الشرور و كونه حكيما، ص 273-286.
2- سورة النساء: الآية 165.
3- هذا إشارة إلى اللطف المحصل.
4- بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الباب الخامس عشر، الحديث 13، ص 316.

نعم إذا كانت هذه المبادي كافية في تحريك الأكثرية، نحو الطاعة، و لكن القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصة، كاليسر في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على اللّه سبحانه ؟.

الظاهر لا، إلا من باب الجود و التفضل.

و بذلك يعلم أن اللطف المقرب إذا كان مؤثرا في رغبة الأكثرية بالطاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة.

و أما اذا كان مؤثرا في آحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل و الكرم.

و بذلك تقف على مدى صحة ما استدل به بعضهم على اللطف في المقام، أو سقمه.

استدل القاضي عبد الجبار على وجوب اللطف بقوله: «إنه تعالى كلّف المكلّف، و كان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، و علم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، و اجتنب القبيح، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل و إلا عاد بالنقض على غرضه، و صار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه، و علم من حاله أنه لا يجيبه، إلا اذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه. و كذلك هاهنا»(1).

و قال العلامة الحلي: «إن المكلّف (بالكسر) إذا علم أن المكلّف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام، و هو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعا من التأدّب، فإن لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض»(2).

ص: 55


1- شرح الاصول الخمسة، ص 521.
2- كشف المراد، الفصل الثاني، المسألة الثانية عشرة، ص 325، ط قم 1407.

و قال الفاضل المقداد: «إنا بيّنّا أنه تعالى مريد للطاعة و كاره للمعصية، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب الى ذلك إلا عند فعل يفعله به، و ذلك الفعل ليس فيه مشقة و لا غضاضة، فإنه يجب في حكمته أن يفعله، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك: إما عن عدم إرادته لذلك الفعل، و هو باطل لما تقدم، أو عن نقض غرضه، إذا كان مريدا له، لكن ثبت كونه مريدا له فيكون ناقضا لغرضه.

و يجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، و عرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال، و لا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عدّ ناقضا لغرضه.

و نقض الغرض باطل، لأنه نقض، و النقص عليه تعالى محال، و لأن العقلاء يعدونه سفها و هو ينافي الحكمة»(1).

و هذه البيانات تدل على أن اللطف واجب من باب الحكمة.

هذا كلام القائلين بوجوب اللطف، و هو على اطلاقه غير تام، بل الحق هو التفصيل بين ما يكون مؤثرا في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين، فيجب من باب الحكمة، و الا فيرجع إلى جوده و تفضله من دون إيجاب عليه.

و استدل القائل بعدم وجوبه بقوله: «لو وجب اللطف على اللّه تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنه ما من مكلف إلا و في مقدور اللّه تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب القبيح، فلما وجدنا في المكلفين من أطاع و فيهم من عصى، تبين أن الألطاف غير واجبة على اللّه تعالى»(2).

يلاحظ عليه: أنّ كون العاصي دليلا على عدم وجوبه، يعرب عن أنّ

ص: 56


1- ارشاد الطالبين، ص 277-278.
2- شرح الاصول الخمسة، ص 523.

المستدل لم يقف على حقيقة اللطف، و لذلك استدل بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان بالطاعة و ترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلا على عدم وجوده، و عدم وجوده دليلا على عدم وجوبه، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما يكون مقربا إلى الطاعة و مبعّدا عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء.

يقول القاضي عبد الجبار بأن العباد على قسمين، فإن فيهم من يعلم اللّه تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنب القبيح، أو يكون اقرب الى ذلك. و فيهم من هو خلافه حتى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجبا و لا اجتنب قبيحا(1).

و يؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن هناك أناسا لا يؤمنون ابدا و لو جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات و المعاجز.

قال سبحانه: وَ مٰا تُغْنِي اَلْآيٰاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ (2).

و قال سبحانه: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ بِكُلِّ آيَةٍ مٰا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (3).

و في الختام، نقول: إن اللطف سواء أ كان المراد منه اللطف المحصّل أو اللطف المقرّب، من شئون الحكمة، فمن وصفه سبحانه بالحكمة و التنزّه عن اللغو العبث، لا مناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة، غير أنّ القول بوجوب اللطف في المحصّل أوضح من القول به في المقرّب.

و لكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب اللطف من باب الجود و الكرم، قال: «ان ما اوجبه أصحاب اللطف من اللطف، إنما وجب من جهة الجود

ص: 57


1- شرح الاصول الخمسة، ص 520.
2- سورة يونس: الآية 101.
3- سورة البقرة: الآية 145.

و الكرم، لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه، و أنه لو لم يفعل لكان ظالما»(1)يلاحظ عليه: إن إيجابه من باب الجود و الكرم يختص باللطف الراجع إلى آحاد المكلفين، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف عند الأكثرية الساحقة من المكلفين، كما عرفت.

ثم إن المراد من وجوب اللطف على اللّه سبحانه، ليس ما يتبادر إلى اذهان السطحيين من الناس، من حاكمية العباد على اللّه، مع أن له الحكم و الفصل، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فإن أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك و تعالى.

فإذا علمنا - بدليل عقلي قاطع - أنه تعالى حكيم، استتبع ذلك و استلزم العلم بأنه لطيف بعباده، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف، لو لا اللطف.

ص: 58


1- اوائل المقالات، ص 25-26
أدلة منكري بعثة الأنبياء
الدليل الأول.
اشارة

إن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها. فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، و لا فائدة فيه. و إن جاء بما يخالف العقول، وجب ردّ قوله.

و بعبارة أخرى: إنّ الذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون معقولا، و إمّا أن لا يكون معقولا.

فإن كان معقولا، فقد كفانا العقل التام بإدراكه و الوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول. و إن لم يكن معقولا، فلا يكون مقبولا. إذ قبول ما ليس بمعقول، خروج عن حدّ الإنسانية و دخول في حريم البهيمية.

و الجواب:

إن حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول و مخالفها، حصر غير حاصر. فإن هاهنا شقا ثالثا و هو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له. فإنك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلة على لزوم البعثة، أن عقل الإنسان و تفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل، فلاحظ.

ص: 59

الدليل الثاني:
اشارة

قد دلّ العقل على أن اللّه تعالى حكيم، و الحكيم لا يتعبّد الخلق الاّ بما تدل عليه عقولهم، و قد دلّت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعا عالما قادرا حكيما، و أنه أنعم على عباده نعما توجب الشكر. فننظر في آيات خلقه بعقولنا، و نشكره بآلائه علينا. و إذا عرفناه و شكرنا له، استوجبنا ثوابه. و إذا أنكرناه و كفرنا به، استوجبنا عقابه. فما بالنا نتّبع بشرا مثلنا؟!..

و الجواب:

إن قسما من هذا الدليل تكرار للدليل الأول. و أما ما افيد في ذيله من وقوف الإنسان على حسن الشكر و قبح الكفر، فهو و إن كان صحيحا، غير أنه يلاحظ عليه أمران:

الاول: إن كثيرا من الناس لا يعرفون كيفية الشكر. فربما يتصورون أن عبادة المقرّبين نوع شكر للّه سبحانه. فلأجل ذلك ترى عبدة الاصنام و الاوثان يعتقدون أن عبادتهم للمخلوق شيئا موجبا للتقرّب(1).

الثاني - إنّ تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر و النهي عن كفران النعمة، غفلة عن اهدافهم السامية. فإنهم جاءوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية و الاجتماعية، و لا تختص رسالتهم بالأوراد و الأذكار الجافة، كتلك التي يرددها أصحاب بعض الديانات أيام السبت و الأحد في البيع و الكنائس. و إنك لتقف على عظيم أهداف رسالة النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله إذا وقفت على كلمته المأثورة:

«إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة»(2).

ص: 60


1- قال تعالى حكاية عن المشركين: وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ ، مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ (سورة الزمر: الآية 3)
2- - تاريخ الطبري ج 2، ص 63 قاله النبي عند دعوة اقاربه إلى الاسلام، طبعة بيروت.
الدليل الثالث:
اشارة

قد دلّ العقل على أن للعالم صانعا حكيما، و الحكيم لا يتعبّد الخلق بما يقبح في عقولهم. و قد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقول، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة، و الطواف حوله، و السعي، و رمي الجمار، و الإحرام، و التلبية، و تقبيل الحجر الأصمّ . و كذلك ذبح الحيوان، و تحريم ما يكون غذاء للإنسان، و تحليل ما ينقص من بنيته.

و الجواب:

ان هذا الدليل مبني على الجهل بمصالح الأحكام و مفاسدها. و لذلك زعم هذا المنكر أن ما جاء في شريعة الإسلام من حج بيت اللّه الحرام بآدابه الكثيرة، أمر على خلاف العقل. و لكن الدارس لفلسفة الحج، يقف على عظيم المصالح و المنافع التي يتضمنها، و المجال لا يسمح باستقصائها، إلاّ انا نشير بايجاز إلى بعضها.

فالتوجه الى البيت، رمز الوحدة بين المسلمين في جميع أقطار المعمورة، و لو تعددت و جهاتهم في أداء مراسمهم العبادية، لسادت الفوضى فيهم و وقع الانشقاق بينهم في القطر الواحد فضلا عن سائر الأقطار.

و السعي بين الصفا و المروة تجسيد لعمل تلك المرأة البارّة التي سعت بين الجبلين سبع مرات طلبا للماء لطفلها الظمآن، حتى حصّلته. فجعل الباري سبحانه مواطئ أقدامها محلا للعبادة.

و رمي الجمار تجسيد لرمي الشيطان، فبما أن الشيطان لا يقع في أفق الحسّ حتى نرجمه، فنجسد وجوده في نقاط خاصة تمثّل فيها لإبراهيم عليه السلام، فنرجمها ظاهرا، و لكن الهدف رمي الشيطان باطنا و إبعاده عن حريم النفس و الروح.

و استلام الحجر الأسود، تعاهد مع إبراهيم عليه السلام في السعي على خطاه لإقامة التوحيد و هدم أركان الوثنية. فبما أن إبراهيم قد لبّى دعوة ربّه،

ص: 61

و ليس بين ظهرانينا حتى نبايعه على ذلك مباشرة، نبايعه بآثاره. و هذا أشبه ما يكون بتقبيل الجيوش راية بلادها - مع أنه ليس إلاّ كسائر الأقمشة - و ما هو الاّ إبراز للتعهد على حفظ البلاد، و ضمان أمنها و استقلالها.

و هكذا الحال في بقية المراسم العبادية، و الواجبات و المنهيات الشرعية.

و قد كشف العلم الحديث عن الفوائد العظيمة التي تشتمل عليها بعض الواجبات الشرعية كالصوم. و المضار الكبيرة التي تشتمل عليها بعض المنهيات الشرعية كأكل لحم الخنزير و شرب الخمر و غيرهما.

قال القاضي عبد الجبار في ردّ هذا الدليل: «إن مجرد الفعل لا يمكن أن يحكم عليه بالقبح و الحسن، حتى لو سألنا سائل عن القيام هل يقبح أم لا، فإنه مما لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك، و الجواب أن نقيّد، فنقول: إن حصل فيه غرض و تعرّى عن سائر وجوه القبح، حسن، و إلاّ كان قبيحا، هذا.

و إذا كان هكذا، و كنا قد علمنا بقول الرسول المصدّق بالمعجز أنّ لنا في هذه الأفعال مصالح و ألطافا، فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح ؟.

و يبين ذلك و يوضحه أنا نستحسن القيام في كثير من الحالات، نحو أن يكون تعظيما لصديق أو يتضمن غرضا من الأغراض، و كذلك القعود إذا تضمّن انتظار الرفيق، و كذلك الركوع، و السجود، و المشي، و الكلام، و الطواف، و غير ذلك، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلاّ و لها وجه في الحسن إذا تعلّق به أدنى غرض»(1).

الدليل الرابع:
اشارة

إن أكبر الكبائر في الرسالة، اتباع رجل هو مثلك في الصورة و النفس

ص: 62


1- شرح الأصول الخمسة - ص 566.

و العقل، يأكل مما تأكل، و يشرب مما تشرب.... فأي تميّز له عليك ؟ و أي فضيلة أوجبت استخدامك ؟ و ما دليله على صدق دعواه ؟(1)

و الجواب:

ليس هذا المذكور في الدليل بشيء مستحدث، بل هذا ما كان المشركون يكررونه على ألسنتهم معترضين على رسلهم، كما ذكره تعالى في الكتاب الكريم.

قال تعالى:... وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا: هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... (2).

و قال تعالى: وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنٰاهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا: مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، يَأْكُلُ مِمّٰا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَ يَشْرَبُ مِمّٰا تَشْرَبُونَ * وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخٰاسِرُونَ (3).

و لكن الرسل قابلتهم بالجواب، و صدّقتهم بأنّهم مثلهم في الجسم و الصورة، لكنهم غيرهم في المعرفة و الكمال الروحي، لصلتهم باللّه سبحانه دونهم، و اطلاعهم على الغيب بإذنه سبحانه.

قال عزّ من قائل:

قٰالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَمُنُّ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ ، وَ مٰا كٰانَ لَنٰا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطٰانٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (4) .

ص: 63


1- انظر للوقوف على مدارك أدلة البراهمة، الملل و النحل للشهرستاني، ج 2، ص 259-260، طبعة مصر، و كشف المراد، للعلامة الحلي، ص 217، طبعة صيدا. و شرح التجريد، لنظام الدين القوشجي، ص 463، طبعة إيران.
2- سورة الأنبياء: الآية 3.
3- سورة المؤمنون: الآيتان 33 و 34.
4- سورة ابراهيم: الآية 11.

و قد أمر اللّه تعالى رسوله أن يواجه هذا المنطق بقوله: قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، يُوحىٰ إِلَيَّ (1).

فالجملة الأولى، و هي الاتحاد في البشرية، إشارة إلى أحد ركني الرسالة، و هو لزوم المسانخة التامة بين المرسل - بالفتح - و المرسل إليه.

و قوله: يُوحىٰ إِلَيَّ ، إشارة إلى وجه الفرق بينهما، و أنّه لأجل نزول الوحي عليه يجب اتباعه و إطاعته.

و بذلك يظهر تميّز الأنبياء و فضيلتهم و تقدمهم على غيرهم.

و أمّا دليلهم على صدق ادعاءاتهم، فسيوافيك في البحث الثاني أنّ هناك طرقا ثلاثة لتمييز النبي الصادق عن المتنبّئ الكاذب.

و إلى هنا يتمّ الكلام في البحث الأول و هو تحليل حسن بعثة الأنبياء و لزومها، و نقض ما يثار حولها من الشبهات. و قد حان وقت الشروع بالبحث الثاني، و هو بيان الطرق التي يعرف بها صدق مدّعي النبوة.

ص: 64


1- سورة فصلت: الآية 6.

مباحث النبوة العامة

(البحث الثاني) ما تثبت به دعوى النبوة
اشارة

لا تجد إنسانا سالما في نفسه و فكره، يقبل ادعاءات الآخرين بلا دليل يثبتها. و هذا أمر بديهي فطري جبل الإنسان عليه. و في هذا الصدد يقول الشيخ الرئيس في كلمته المشهورة:

«من قبل دعوى المدعي بلا بيّنة و برهان، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية».

و على هذا، يجب أن تقترن دعوى النبوة بدليل يثبت صحتها، و إلاّ كانت دعوى فارغة، غير قابلة للإذعان و القبول.

طرق التعرّف على صدق الدعوى

إنّ هنا طرقا ثلاثة للوقوف بنحو قاطع على صدق مدّعي النبوّة في دعواه، و هي:

أ - الإعجاز.

ب - تصديق النبي السابق نبوة النبي اللاحق.

ج - جمع القرائن و الشواهد من حالات المدّعي، و تلامذته، و منهجه، بحيث تفيد العلم بصدق دعواه - و هذا الطريق من أحسن الطرق في عصرنا هذا.

و لنبدأ باستعراض هذه الطرق الواحدة تلو الأخرى.

ص: 65

ص: 66

طرق إثبات النبوة
(1) الإعجاز
اشارة

اتفق المتكلمون قاطبة على أنّ الإعجاز دليل قطعي على صدق مدّعي النبوة، وصلته بالخالق تعالى. و لما كان الإعجاز من المسائل المهمة في باب النبوة، استدعى ذلك بسطا في الكلام، فيقع البحث عن الجهات التالية:

الجهة الأولى - ما هي حقيقة الإعجاز و كيف نعرّفه ؟.

الجهة الثانية - هل الإعجاز يخالف القوانين العقلية ؟.

الجهة الثالثة - ما هي العلة المحدثة للمعجزة ؟.

الجهة الرابعة - هل الإعجاز يضعضع أصول التوحيد؟.

الجهة الخامسة - كيف يفسّر المتجدّدون من المسلمين معجزات الأنبياء؟.

الجهة السادسة - كيف يعدّ الإعجاز دليلا على صدق دعوى النبوة ؟.

الجهة السابعة - هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز و الكرامات ؟.

الجهة الثامنة - بما ذا تميّز المعجزة عن سائر خوارق العادات كالسحر و الكهانة ؟.

هذه رءوس المطالب المهمة في هذا البحث، و إذا وقف الباحث على أجوبتها، تتجلى عنده المعجزة بصورة دليل قاطع على صدق مدعي النبوة، كما

ص: 67

يتبيّن له أنّ القول بالإعجاز ممّا يؤيده العلم و الفلسفة، و ليس وليد الوهم و الجهل. و إليك فيما يلي البحث عنها، الواحدة تلو الأخرى.

ص: 68

الجهة الأولى تعريف المعجزة
اشارة

المشهور في تعريف المعجزة أنّها(1): «أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة»(2).

و بما أنّ الإعجاز يفارق الكرامة في أنّ الأول يكون مقرونا بدعوى النبوة بخلاف الكرامة، فيجب أن يضاف قيد: «مع دعوى النبوة» إلى التعريف، و لعلهم استغنوا عنه بقيد «التحدي». و إليك توضيح هذا التعريف.

1 - الإعجاز خارق للعادة و ليس خارقا للعقل

إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل، أي مضادة لحكم العقل الباتّ ، كاجتماع النقيضين و ارتفاعهما، و وجود المعلول بلا علّة، و انقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين... فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها و امتناع تحققها.

ص: 69


1- شرح التجريد، لنظام الدين القوشجى، ص 465.
2- و قد عرف المحقق الطوسي الإعجاز بقوله: «هو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة و مطابقة الدعوى»، (كشف المراد ص 218، طبعة صيدا - 1353 ه). و لا تخفى المناقشة في هذا التعريف لزيادة قوله مع «خرق العادة»، للاستغناء عنه بقوله: «ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد». أضف إلى ذلك أنّه ترك بعض القيود اللازمة فيه. و التعريف الذي ذكرناه أكمل منه.

و هناك أمور تخالف القواعد العادية، بمعنى أنّها تعدّ محالا حسب الأدوات و الأجهزة العادية، و المجاري الطبيعية، و لكنها ليست أمرا محالا عقلا لو كان هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة، و هي المسماة بالمعاجز. و لأجل تقريب ما ذكرنا تمثّل ببعض الأمثلة:

مثال أوّل: جرت العادة على أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل و أسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة. و لكن لم تعرف العادة أبدا حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين، بلا تلك الوسائط العادية. و لكن هذا غير ممتنع عقلا، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير، لم يقف عليها العلم بعد.

و من هذا القبيل قيام من أوتي علما من الكتاب بإحضار عرش بلقيس، ملكة سبأ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، في طرفة عين، بلا توسط شيء من الأجهزة المادية المتعارفة، بل بأسباب غيبية كان مطّلعا عليها. فعمله هذا الخارق للعادة، غير خارق للعقل لما ذكرنا، و هو معجزة.

مثال ثان: إنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسّل و العمى، أمر ممكن لذاته عقلا، و لكنه كان أمرا محالا عادة في القرون السالفة، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة و الأدوية التي تعيد الصحة إلى المسلول، و البصر إلى الأعمى. و مع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية و العمليات الجراحية.

و في المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج، و هي الدعاء و التوسّل إلى الخالق تعالى.

و العلاج - بكلا الطريقتين - يشترك في كونه أمرا ممكنا عقلا، غير أنّه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية، بالطريق و السبب، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية، فلا يعد عمله معجزة و لا كرامة، و النبي - كالمسيح و غيره - يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي، فيسمى معجزة.

ص: 70

فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل، إلاّ أنّه موافق للعادة في الأولى دون الثانية.

و قس على ما ذكرنا كثيرا من الأمثلة يتميز فيها خارق العادة عن خارق العقل.

2 - الإعجاز يجب أن يكون مقترنا بالدعوى

هذا هو القيد الثاني لتحديد حقيقة الإعجاز، و يهدف إلى أنّ خرق العادة لا يسمى إعجازا إلاّ بالإتيان به لأجل إثبات دعوى السفارة و النبوة، فإذا تجرّد عنها يسمى كرامة.

و قد نقل سبحانه في الذكر الحكيم كرامة لمريم عليها السلام، في قوله عزّ من قائل: كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً، قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰى لَكِ هٰذٰا، قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ ، إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (1).

و هذا الأمر (حضور الرزق بلا سعي طبيعي) لم يكن مقترنا بدعوى المقام و المنصب الرسالي، فلا يوصف بالإعجاز بل بالكرامة. و هكذا الحال فيما يقوم به الأولياء و الصلحاء من عظام الأمور الخارقة للعادة، فإنّها توصف بالكرامة.

3 - عجز الناس عن مقابلته

هذا هو القيد الثالث في تحديد حقيقة الإعجاز، و هو ينحلّ إلى أمرين:

الأول - دعوة الناس إلى المقابلة و المعارضة، و طلب القيام بمثله.

الثاني - عجز الناس كلهم عن الإتيان بمثله.

و إلى كلا الأمرين أشير في التعريف بلفظ «التحدي». و يترتب على هذا أنّ

ص: 71


1- سورة آل عمران: الآية 37.

ما يقوم به كبار الأطباء و المخترعين من الأمور المعجبة، خارج عن إطار الإعجاز، لانتفاء الأمرين فيهما. كما أنّ ما يقوم به السحرة و المرتاضون من الأعمال المدهشة، لا يعدّ معجزا لانتفائهما أيضا، خصوصا الأمر الثاني، لقيام المرتاض الثاني بمثل ما قام به المرتاض الأول، بل بأعظم منه.

4 - أن يكون عمله مطابقا لدعواه

لا بدّ من هذا القيد في صدق الإعجاز على فعل المدعي. فلو خالف ما ادّعاه لما سمّي معجزة، و إن كان أمرا خارقا للعادة. و ذلك كما حصل مع مسيلمة الكذّاب عند ما ادّعى أنّه نبي، و آية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء، يكثر ماؤها: فتفل فغار جميع مائها.

و قد كان من أفاعيله - الدالّة على كذب دعواه - أنّه أمرّ يده على رءوس صبيان بني حنيفة، و حنّكهم، فأصاب القرع كلّ صبيّ مسح على رأسه، و لثغ كلّ صبيّ حنّكه(1).

ص: 72


1- لاحظ تفصيل هذه الوقائع في تاريخ الطبري، ج 2، ص 507.
الجهة الثانية هل الإعجاز يخالف أصل العليّة ؟
اشارة

إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة إمكانية، تحتاج في تحقّقها إلى علّة، و هذا أمر لم يختلف فيه اثنان، و عليه أساس التجربة و البحث العلمي، فإنّ العلماء - في المختبرات و غيرها - يبحثون عن علل تكوّن الظواهر، و موجداتها، فشأنهم كشف الروابط بين العلل المادية و معاليلها، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ الكتب السماوية، و السير التاريخية، تنسب إلى الأنبياء، أمورا لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل، فتنسب إلى موسى عليه السلام: أنّه ألقى عصاه الخشبية الصمّاء، فانقلب حيّة تسعى. و أنّ المسيح عليه السلام كان يمسح بيده على المرضى فيبرءون. و أنّ الحصى سبّحت في كفّ النبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله، و غير ذلك من المعاجز. و الاعتقاد بهذه لا يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور، لأنّ الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها بمراحل عديدة من الانفعالات الداخلية. و إزالة المرض و عود الصحة، رهن استعمال الأدوية و إجراء العمليات الجراحية، و التسبيح نوع تكلم يحتاج إلى حنجرة و فم و لهوات، يقوم به العاقل. و هكذا.

و على الجملة، فظهور المعاجز على مسرح الوجود، مع عدم علل مادية تظهرها، يعدّ خرقا لقانون العلية، و قول بتحقق المعلول بلا علّة.

ص: 73

الجواب

إنّ المعترض خلط بين عدم وجود العلّة المادية التي اعتاد عليها الإنسان في حياته، و عدم العلّة على الإطلاق. فالذي يناقض قانون العلّية هو القول بأنّ المعجزة ظاهرة اتفاقية لا تستند إلى علّة أبدا. و هذا مما لا يقول به أحد من الإلهيين.

و أمّا القول بعدم وجود علّة مادية متعارفة للمعجزة، فليس هو بإنكار لقانون العلية على الإطلاق و نفيا للعلّة من الأساس، و إنّما هو نفي دور و تأثير قسم خاص من العلل، و نفي الخاص لا يكون دليلا على نفي العام.

و هذا القسم الخاص من العلل، المنفي في مورد المعجزة، هو العلل المادية المتعارفة التي أنس بها الذهن، و وقف عليها العالم الطبيعي، و اعتاد الإنسان على مشاهدتها في حياته. و لكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أخرى لم يشاهدها الناس من قبل، و لم يعرفها العلم، و لم تقف عليه التجربة، و بعبارة أخرى، كون المعجزة معلولا بلا علّة شيء، و كونها معلولة لعلّة غير معروفة للناس و العلم شيء آخر. و الباطل هو الأول، و المدّعى هو الثاني، و سيوافيك الكلام فيه في الجهة الثالثة.

ص: 74

الجهة الثالثة ما هي العلة المحدثة للمعجزة ؟
اشارة

قد وقفت في الجهة السابقة على أنّ القول بالمعاجز لا يضعضع أصل العلّية، و أنّ عدم العلّة العادية في موردها لا يدلّ على تحقق المعاجز بلا علّة أصلا، بل لها علّة غير معروفة بين العلل التي يشاهدها الإنسان. و الكلام في هذه الجهة يقع في تعيين تلك العلة، و فيها أقوال و احتمالات:

القول الأول - إنّها اللّه سبحانه

ربما يحتمل أن تكون العلّة هي اللّه سبحانه، و أنّه يقوم بإيجاد المعاجز و الكرامات مباشرة من دون توسط علل و أسباب. فكما هو أوجد المادة الأولى و أجرى فيها عللا و أنظمة، قام في فترات خاصة بخلق الثعبان من العصا الخشبية، و تفجير الماء من الصخور الصّمّاء... و غير ذلك من خوارق الطبيعة و العادة.

و لكن هذا - و إن كان أمرا ممكنا، لعموم قدرته تعالى على كل شيء ممكن بذاته - إلاّ أنّه على خلاف ما عرفناه من الربّ تعالى من سنته التي أجراها في الكون، و هي أن يكون لكل شيء سببا و علّة. و من البعيد أن يخالف تعالى سنته في مجال المعاجز(1).

ص: 75


1- هذا، على أن انتساب الحوادث المتجددة المتقضّية بلا واسطة علل و أسباب، إلى اللّه تعالى المنزّه عن
القول الثاني - إنّها علل مادية غير متعارفة

و هنا احتمال ثان، و هو أن تكون العلّة المحدثة للمعجزة، علة مادية غير متعارفة، اطّلع عليها الأنبياء في ظلّ اتصالهم بعالم الغيب. و لا بعد في أن يكون للشيء علتان، إحداهما يعرفها الناس، و الثانية يعرفها جمع خاص فيهم. و يمكن تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار، فإنّ له علة مادية يعرفها الزارع العادي، فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدّة أعوام. و هناك خبراء من مهندسي الزراعة واقفون على خصوصيات في التربة و الأشجار و البيئة و المياه و غير ذلك، توجب إثمار الأشجار في نصف تلك المدة مثلا. فإذا كان هذا ملموسا لنا في الحياة، فلا نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة. على أسرار و رموز فيها، يقدرون بها على إيجاد المعاجز.

و لكنه قول لا يدعمه دليل.

القول الثالث - إنّها الملائكة و الموجودات المجردة

و هنا احتمال ثالث و هو أنّ المعاجز تتحقق بفعل الملائكة - التي يعرّفها القرآن ب «المدبّرات»(1)، بأمر منه سبحانه، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها(2).

ص: 76


1- و هو قوله تعالى في سورة النازعات: فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً الآية 5.
2- و لعلّ من هذا القبيل تمثل الروح الأمين على السيدة مريم، كما في قوله سبحانه: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجٰاباً فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا (سورة مريم: الآية 17).
القول الرابع - إنّها نفس النبي و روحه

و ذهب إلى هذا جمع من الفلاسفة و المحققين، و إدراك صحته يتوقف على معرفة القدرة العظيمة التي تمتلكها النفس البشرية، فنقول:

إنّ الإنسان كلّما ازداد توجها إلى باطنه، و انقطاعا عن الظواهر المادية المحيطة به، كلما تفجّرت مكامن قدرات نفسه و تأجّج أوار طاقاتها، و بالعكس، كلما ازداد انغماسا في دركات الملذات، و إشباع الغرائز، كلما خمدت طاقاتها و انطفأت قدراتها.

و يدلّنا على ذلك عيانا، ما يقوم به المرتاضون(1) من خوارق الأفعال و عجائبها: فيرفعون الأجسام الثقيلة التي لا يتيسر رفعها إلاّ بالرافعات الآلية، بمجرد الإرادة. و يستلقون على المسامير الحادة ثم تكسر الصخور الموضوعة على صدورهم، بالمطارق، و يدفنون في الأرض أياما، ليقوموا بعدها أحياء. و غير ذلك مما يراه السائح في بلاد الهند و غيرها، و تواتر نقله في وسائل الإعلام كالجرائد و المجلات و الإذاعات. و كل ذلك دليل قاطع على أنّ في باطن الإنسان قوى عجيبة لا تظهر إلاّ تحت شرائط خاصة.

و بعبارة واضحة، إنّ نفس الإنسان كما تسيطر على أعضاء البدن، فتنقاد لإرادتها، و تتحرك قياما و جلوسا بمشيئتها، فكذلك تسيطر - في ظل تلك الظروف الخاصة - على موجودات العالم الخارجي، فتقودها بإرادتها، و تخضعها لمشيئتها، و تقدر، بمجرد الإرادة، على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير، و غير ذلك من الأفعال.

و ليس القيام بعجائب الأمور من خصائص المرتاضين، بل إنّ هناك أناسا مثاليين، أفنوا أعمارهم في سبل العبادة و معرفة الربّ ، بلغوا إلى حدّ قدروا معه على خرق العادة و المجاري الطبيعية.

ص: 77


1- و الرياضة هي التوجّه إلى الباطن و الانقطاع عن الظاهر.

يقول الشيخ الرئيس في هذا المجال: «إذا بلغك أنّ عارفا أطاق بقوته فعلا، أو تحريكا، أو حركة تخرج عن وسع مثله، فلا تتلقه بكل ذلك الاستنكار، فلقد تجد إلى سببه سبيلا في اعتبارك مذاهب الطبيعة... و إذا بلغك أنّ عارفا حدّث عن غيب فأصاب، متقدما ببشرى أو نذير، فصدّق و لا يتعسّرن عليك الإيمان به، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسبابا معلومة»(1).

و يقول صدر المتألّهين: «لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية، فيطيعها العنصر في العالم المادي، كإطاعة بدنه إياها. فكلّما ازدادت النفس تجرّدا و تشبّها بالمبادي القصوى، ازدادت قوة و تأثيرا فيما دونها.

فإذا صار مجرّد التصوّر سببا لحدوث هذه التغيرات (طاعة البدن للنفس) في هيولى البدن، لأجل علاقة طبيعية و تعلّق جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن يؤثّر في هيولى العالم مثل هذا التأثير، لأجل اهتزاز علويّ للنفس، و محبة إلهية لها، فتؤثّر نفسه في الأشياء»(2).

و يدلّ على أنّ خوارق العادة رهن فعل النفس الإنسانية، ما ينقله تعالى من أفعال السحرة الواقعة بإذنه تعالى، و ذلك في قوله عزّ من قائل: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

و هناك من الآيات ما هو أصرح منها في نسبة الخوارق إلى أصحاب النفوس القوية، كما ورد في أحوال سليمان النبي عند ما طلب من الملأ إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يأتوه مسلمين. فقال عفريت من الجن إنّه قادر على حمله و الإتيان به قبل انفضاض مجلس سليمان، و لكن من كان عنده علم من الكتاب قال إنّه قادر على الإتيان به قبل أن يرتد طرف سليمان إليه، و بالفعل، بأسرع من لمح البصر، كان العرش ماثلا أمامه.

ص: 78


1- الإشارات و التنبيهات، مع شرح المحقق الطوسي ج 3 ص 397. و بعدها أخذ الماتن و الشارح ببيان قدرة النفس على الأمور الخارقة للعادة.
2- المبدأ و المعاد، ص 355 - بتصرف.
3- سورة البقرة: الآية 102.

يقول سبحانه: قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي... (1).

بعد هذا كلّه نقول: إذا كان هذا حال الإنسان العادي الذي لم يطرق إلاّ باب الرياضة، أو العارف الذي قام بالفرائض و اجتنب المحرمات، فكيف بمن وقع تحت عناية اللّه سبحانه و رعايته الخاصة، و تعليم ملائكته، إلى أن بلغت نفسه أعلى درجات القوة و المقدرة، إلى حدّ يقدر - بإرادة ربّانية - على خلع الصور عن المواد و إلباسها صورا أخرى، و يصير عالم المادة مطيعا له، إطاعة أعضاء بدن الإنسان له.

و في الذكر الحكيم إشارات إلى هذا المعنى حيث ينسب تعالى الإتيان بالمعجزة إلى نفس الرسول بقوله: مٰا كٰانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (2).

فإنّ الفاعل في «يأتي» هو الرسول المتقدّم عليه.

و قد يؤيّد هذا الاحتمال بما ورد في توصيف الأنبياء بأنّهم جند اللّه، و أنّهم منصورون في مسرح التحدي و مقابلة الأعداء. قال سبحانه: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنٰا لِعِبٰادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ * وَ إِنَّ جُنْدَنٰا لَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ (3).

و كون النبي منصورا في جميع المواضع، و منها مواضع التحدي، يدلّ على أنّ له دورا و دخالة في الإتيان بخوارق العادات.

و نظير ذلك قوله سبحانه: كَتَبَ اَللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (4)، فوصف النبي صلى اللّه عليه و آله بكونه غالبا، و لا معنى للغالبية إلاّ لدخالته في مواضع التحدي.

ص: 79


1- سورة النمل: الآيات 38-40.
2- سورة غافر: الآية 78.
3- سورة الصافات: الآيات 171-173.
4- سورة المجادلة: الآية 21.

و لا دليل على اختصاص الآيتين بالمغازي و الحروب، بل إطلاقهما يدلّ على كونهم منصورين و غالبين في جميع مواقع المقابلة، سواء أ كانت محاجة أو تحدّيا بالإعجاز، أو حربا و غزوا.

و هذا الفعل العظيم للنفوس، إنّما يقع بأمره تعالى و تأييده، و لذا كانت تحصل لهم الغلبة في موارد المجابهة؛ قال تعالى: فَلَمّٰا أَلْقَوْا قٰالَ مُوسىٰ مٰا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ، إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ (1).

فهذه الآيات العامة المتقدمة، تدلّ بظهورها على كون الفاعل للمعاجز و الكرامات، نفوس الأنبياء و أرواحهم، بإذن اللّه سبحانه.

و هناك آيات أخرى خاصة، تسند إلى خصوص بعض الأنبياء خوارق العادة، بل ائتمار الكون بأمرهم.

قال تعالى: وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ عٰاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلىٰ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا، وَ كُنّٰا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عٰالِمِينَ (2).

و أنت إذا أمعنت في قوله: بِأَمْرِهِ ، ينكشف لك الستار عن وجه الحقيقة، و يظهر لك أنّ إرادته كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون.

و قال تعالى في المسيح عيسى بن مريم: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ ، وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

و يقول تعالى أيضا: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي، فَتَنْفُخُ فِيهٰا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي، وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي، وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِي (4).

فترى أنّ الآية تنصّ على أنّ نفخ الروح في الهيكل الطيني للطير، رهن طاقة

ص: 80


1- سورة يونس: الآية 81.
2- سورة الأنبياء: الآية 81.
3- سورة آل عمران: الآية 49.
4- سورة المائدة: الآية 110.

المسيح البشرية، و كذلك إبراء الأكمه و الأبرص، و إحياء الموتى، و كل ذلك بإذن اللّه تعالى و مشيئته.

و بعد هذا كله، أ يبقى شك في قدرة الأنبياء الشخصية على خرق العادة، و تكييف الطبيعة حسب ما يريدون ؟.

بل ما ذا يفهم الإنسان إذا قرأ هذه الآية - التي تنقل مخاطبة يوسف عليه السلام إخوته -: اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هٰذٰا فَأَلْقُوهُ عَلىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً... (1).

و الآية التالية تبين نتيجة أمره: فَلَمّٰا أَنْ جٰاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقٰاهُ عَلىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً... (2).

فما هو العامل المؤثّر في استرجاعه بصره، بعد ما ابيضت عيناه من الحزن ؟.

هل هو قميص الملطخ بالدم ؟ أو حامل البشارة و القميص ؟(3).

ليس هذا و لا ذاك، بل هو نفس إرادته الزكية المؤثّرة بإذن اللّه، و عند ما تقتضي المصلحة الإلهية ذلك. و إنّما توسّل بالقميص ليعلم أنّه هو القائم بذلك.

فاتّضح من جميع ما ذكرناه من الآيات و الشواهد أنّ للمعجزة علّة إلهية متمثلة في نفوس الأنبياء و إرادتهم القاهرة. و ليست إرادتهم هذه فوضوية، و إنّما لظهورها ظروف و شرائط خاصة سيأتي بيانها بإذنه تعالى.

ص: 81


1- سورة يوسف: الآية 93.
2- سورة يوسف: الآية 96.
3- في الروايات، أنّ حامله كان أحد إخوته.

ص: 82

الجهة الرابعة هل الإعجاز يضعضع برهان النظم ؟

إنّ برهان النّظم من أوضح الأدلة على أنّ العالم مخلوق لصانع عالم قادر.

حيث إنّ النظام الدقيق السائد على كل ظاهرة و جزء من ظواهر الكون و أجزائه كاشف عن دخالة قدرة كبرى و علم عظيم في تحققه و تكوّنه. هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ المعجزات - كما تقدّم - خارقة للعادة و السنن السائدة في هذا النظام، فهي تعدّ استثناء فيه و نوع مخالفة له. فالوليد الإنساني - مثلا - يتكوّن بعد التقاء نطفة الرجل و بويضة المرأة، فتتشكل منهما الخلية الإنسانية، ثم تمرّ بعد ذلك بمراحل التفاعل و التكامل، ليخرج بعدها من بطن الأم موجودا سويّا متكاملا.

و القول بأنّ المسيح - عليه السلام - ولد بلا سيادة هذا النظام، بل بمجرد نفخ الملك في رحم مريم - عليها السلام خرق لذاك النظام، و هو كاشف عن عدم كليته و اطراده. أ فبعد ذلك يمكن أن يستدلّ ببرهان النظم على وجود الصانع ؟.

و بعبارة ثانية: إنّ النظم السائد على العالم كاشف عن دخالة المحاسبة و التقدير في تكوّن كل شيء إنسانا كان أو حيوانا، أرضيا كان أو أثيريا. و لكن خلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس، و خروج الناقة من الجبل الصخري الأصم، و ما شابه ذلك، ينفي وجود المحاسبة في تكوّن تلك الظواهر.

ص: 83

و الجواب إنّ المعترض لم يقف على أساس برهان النظم أولا، كما لم يقف على حقيقة الإعجاز و ماهيته ثانيا. و لذلك اعترض بأنّ القول بالإعجاز يخالف برهان النظم.

أمّا الأول، فلأنّ المعترض تصوّر أنّ برهان النظم يبتني على وجود نظم واحد بالعدد سائد على الجميع، و قائم بمجموع الأشياء في العالم، بحيث لو شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان، بحكم كونه واحدا بالعدد غير قابل للانقسام.

و لكن الحقيقة خلاف ذلك، فإنّ برهان النظم واحد بالنوع كثير بالعدد.

فهو يتمثّل و يتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام. فتكون كل ذرة باستقلالها حاملة لبرهان النظم و الدلالة على وجود الصانع القادر العليم، من دون توقف في دلالتها على سيادة النظم في الذرّات الأخرى.

و في الحقيقة، إنّ برهان النظم يتكثر عددا بتكثر الذرات و الأجزاء و الظواهر الخاضعة للنظام، و لو فرض فقدان النظم في جزء و ظاهرة، أو أجزاء و ظواهر - كما يدعيه المعترض في مجال الإعجاز - لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء و الظواهر، في إثبات الصانع، و إلى هذا يهدف القائل:

و في كل شيء له آية *** تدل على أنّه واحد

ففي كل خلية و عضو من الإنسان الواحد يتجسد برهان النظم، و يتكثر بتكثرها. فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر و المخلوقات و الكواكب و المجرّات. و كما أنّ طغيان غدّة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان، كما هو الحال في السرطان، لا يضرّ ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان، فكذلك الخروج عن النظام في مجال الإعجاز، لأغراض تربوية، و لهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم الغيب، فإنّه لا يؤثّر شيئا في برهان النظم من باب أولى.

و أمّا الثاني، فلأنّ الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء، بحيث يكون النبي مصدرا له في كل لحظة و ساعة و يوم، و يكون خرق العادة و هدم

ص: 84

النظام شغله الشاغل. و إنّما يقوم به الأنبياء في فترات خاصة و حساسة لغايات تربوية.

ثم إنّ النبي إذا أراد الإتيان بالمعجزة، أطلع الناس مسبقا على أنّه سيقوم بخرق العادة في وقت خاص. و هذا دالّ على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم، تقوم كلما شاءت و اقتضت الحكمة و المصلحة القدسية، بخرق بعض النظم و التخلّف عنها. فالعالم، قبضه و بسطه، و سنّ أنظمته و خرقها، بيد خالقه، يفعل ما يشاء حسب المصالح.

و خلاصة البحث أنّ الإعجاز ليس خرقا لجميع النظم السائدة على العالم، و إنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام و الدالّة ببرهان النظم على وجود الصانع. و أيضا، إنّ قيام الأنبياء بالإعجاز إنّما يحصل بعد اقترانه بالإعلام المسبق، حتى يقف الناظرون على أنّ خرق العادة وقع بإرادة و مشيئة القوة القاهرة المسيطرة على الكون و المجرية للسنن و الأنظمة فيه.

هذا كلّه، مع أنّ الإعجاز، و إن كان خرقا للسنن العادية، إلاّ أنّه ربما يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها، فهي تخرق النظام العادي، و تجري نظاما آخر غير عادي، لا يقلّ في نظمه عنه.

ص: 85

ص: 86

الجهة الخامسة الإعجاز و المتجددون من المسلمين
اشارة

الإيمان بالغيب عنصر أساسي في جميع الشرائع السماوية، و لو انتزع هذا العنصر عن الدين الإلهي، لأصبح دستوره دستورا عاديا شبيها بالدساتير و الإيديولوجيات المادية البشرية التي لا تمت إلى الخالق و المدبّر لهذا الكون بصلة.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعدّ الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتّصف بها المتّقون إذ يقول - عزّ من قائل -: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ ، وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ (1).

و قد كان أصحاب الشرائع و أنصارها، و في مقدّمتهم علماء الإسلام، محتفظين بهذا الأصل، معتصمين به أشدّ الاعتصام، مؤكّدين عليه غاية التأكيد، باعتبار أنّه الفارق الجوهري بينها، و بين الأنظمة البشرية.

و لكن، من جانب آخر، إنّ الحضارة المادية الحديثة، اعتمدت على الحسّ و التجربة، و أعطت كل القيمة و الوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية.

و قد أدهشت هذه الحضارة، جماعة من المفكرين المسلمين، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب، باعتباره عنصرا أساسيا في الدين، و مبادي الحضارة المادية التي لا تعتبر إلاّ ما كان قائما على الحسّ و التجربة، فمن

ص: 87


1- سورة البقرة: الآية 3.

الجهة الأولى لم يجرءوا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية - كالمعاجز - لأنّهم مسلمون، و من الجهة الثانية لم يتجرءوا على التصريح بوجود الملائكة و الجن، و بخرق المعاجز للسنن الطبيعية و الأسباب المادية، تحرزا من رمي الماديين إيّاهم بالخرافة، و الإيمان بما لا تؤيّده التجربة و لا يثبته الحسّ .

و لأجل ذلك سلكوا طريقا وسطا، و هو تأويل بعض ما جاء في مجال الغيب، خصوصا المعاجز و الكرامات، حتى يستريحوا بذلك من هجمة الماديين، و يرضوا به طائفة المتدينين.

و ممّن سلك هذا الطريق الشيخ محمد عبده(1) في مناره، و الطنطاوي(2) في جواهره، و تلامذة منهجهما. فمن وقف على كلا التفسيرين في المواضع التي يحدّث القرآن فيها عن معاجز الأنبياء و خوارق العادات، يقف على أنّ الرجلين يسعيان بكل حول و قوة إلى تصوير الحوادث الإعجازية، و كأنّها جارية على المجاري الطبيعية، غير مخالفة أصول الحسّ و التجربة(3).

بل ربما نرى أنّ بعض مقتفي منهجهما ينكرون أن يكون للنبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله معجزة غير القرآن الكريم، و قد تبعوا في نفي معاجزه، قساوسة النصارى الذين يحاولون إنكار معاجز النبي الكريم ليتسنى لهم بذلك تفضيل سيدنا المسيح عليه السلام عليه أولا، و إنكار نبوته لكونه فاقدا للمعاجز، ثانيا(4).

ص: 88


1- توفي سنة 1323 ه ق.
2- توفي سنة 1358 ه ق.
3- لاحظ مثلا ما جاء في المنار، ج 1، ص 322، تفسير قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة البقرة: الآية 56). و فيه أيضا، ج 1، ص 343-344، تفسير قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ . (سورة البقرة: الآية 65). و فيه أيضا، ج 1، ص 350-351، تفسير قوله تعالى: فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ .... (سورة البقرة: الآية 73). و غير ذلك من الموارد.
4- راجع للوقوف على كلمات القساوسة في هذا المجال، كتاب «أنيس الأعلام»، ج 5، ص 351.

و هم يتمسكون في هذا المجال بعدّة آيات(1) خفي عليهم المراد منها، و نحن نكتفي في المقام بتفسير واحدة منها، لم يزل يتمسك بها كل برّ و فاجر منهم، و هي:

قوله سبحانه: وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً * وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهٰارَ خِلاٰلَهٰا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمٰاءَ كَمٰا زَعَمْتَ عَلَيْنٰا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللّٰهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقىٰ فِي اَلسَّمٰاءِ ، وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا كِتٰاباً نَقْرَؤُهُ ، قُلْ سُبْحٰانَ رَبِّي. هَلْ كُنْتُ إِلاّٰ بَشَراً رَسُولاً (2).

و قد استدلّ بها بعض القساوسة قائلا: إنّ نبيّ الإسلام لما طولب بالمعجزة، أظهر العجز بقوله إنّه ليس إلاّ بشرا رسولا.

إنّ تحليل هذا الاستدلال و نقده، يتوقّف على دراسة كلّ واحدة من المقترحات المذكورة في الآيات المتقدمة، و هي:

1 - أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا.

2 - أن يكون للنبي جنّة من نخيل و عنب، و تجري الأنهار خلالها بتفجير منه.

3 - أن يسقط السماء عليهم كسفا.

4 - أن يأتي باللّه و الملائكة قبيلا.

5 - أن يكون للنبي بيت من زخرف.

6 - أن يرقى النبي في السماء، و لا يكفي ذلك في إثبات نبوته حتى ينزّل عليهم كتابا من السماء يقرءوه.

ص: 89


1- هي ثمانية عشرة آية، تعرض لها الأستاذ، دام ظله، في موسوعته التفسيريّة مفاهيم القرآن، ج 4، ص 95 إلى 154.
2- سورة الإسراء: الآيات 89-93.

هذه هي مقترحات القوم، و نحن نجيب عليها بجوابين: إجماليّ و تفصيليّ :

إجمال الجواب عن هذه المقترحات، أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله إنّما لم يأت بها لعدم استجماعها لشرائط الإعجاز، إذ ليس القيام بالمعجزة من الأمور الفوضوية التي لا تخضع لشرط عقلي أو شرعي. و هذه المقترحات فاقدة لها.

تفصيل الجواب

أمّا الأول، فإنّ سنة اللّه الحكيمة في الحياة البشرية استقرت على أن يصل الناس إلى معايشهم و مآكلهم و مشاربهم عن طريق السعي و الجد، تكميلا لنفوسهم و تربية لعزائمهم.

فإذا كان مطلوب القوم أن يفجّر لهم النبي ينبوعا و عينا لا ينضب ماؤها، ليستريحوا بذلك من عناء تحصيل الماء، فهو على خلاف تلك السنة الحكيمة.

نعم، ربما تقتضي بعض الظروف - كإبقاء حياة القوم - قيام النبي بذلك، كما فعل موسى عند ما شكا إليه قومه الظمأ، فاستسقى اللّه تعالى لهم، فأوحى إليه أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا(1)، و لكن مثل هذا لا يعد نقضا للسنة العامة، كما أنّ الظروف في مكة لم تكن ظروفا اضطرارية.

و أمّا الثاني، و هو كون النبي مالكا لجنة من نخيل و عنب يفجّر الأنهار خلالها، فليس هو طلبا للإعجاز، و إنّما كانوا يستدلّون بوجود الثروة على عظمة الرجل، و بالفقر و فقدان المال و الإملاق على حقارته، و لذا قالوا، كما يحكيه عنهم تعالى: لَوْ لاٰ نُزِّلَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (2).

و على هذا، فإجابة هذا الطلب يكون نوع اعتراف بهذه المزعمة، إذ ليس هناك رابطة، عقلية بين كون الرجل صاحب ثروة، و كونه متصلا بالغيب. و إلاّ

ص: 90


1- لاحظ سورة البقرة: الآية 60.
2- سورة الزخرف: الآية 31.

لوجب أن يكون أصحاب الثروات، أنبياء إذا ادّعوا النبوة.

و أمّا الثالث، و هو إسقاط السماء عليهم، فإنّه يضاد هدف الإعجاز، لأنّ الغاية من خرق الطبيعة هداية الناس لا إبادتهم و إهلاكهم.

و أمّا الرابع، و هو الإتيان باللّه و الملائكة، فقد حكاه عنهم سبحانه في آية أخرى، بقوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ نَرىٰ رَبَّنٰا (1).

و من المعلوم أنّ هذا المقترح، أمر محال عقلا، و ممتنع بالذات، فكيف يقوم به النبي ؟!.

و أمّا الخامس، و هو كونه صاحب بيت من زخرف، فيردّ بما ردّ به الاقتراح الثاني.

و أمّا السادس، و هو طلب رقيّه إلى السماء و إنزال كتاب ملموس يقرءونه، فإنّ لحن هذا السؤال يدلّ على عنادهم و تعنتهم إذ لو كان الهدف هو الاهتداء، لكفى طلبهم الأول - أعني رقيّه إلى السماء - و لم تكن حاجة إلى الثاني، و من المعلوم أنّ النبيّ إنّما يقوم بالإعجاز لأجل الهداية و الإرشاد إلى نبوته و اتّصاله بعالم الغيب.

و مجموع هذه الأجوبة يوقفنا على أنّ النبيّ لم يجب مطالبهم إمّا لأجل فقدان المقتضي أو لوجود المانع. و على ذلك أجاب بما أمره سبحانه أن يجيبهم به، قائلا:

سُبْحٰانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّٰ بَشَراً رَسُولاً .

و هو في هذا الجواب يعتمد على لفظين: «بشرا» و «رسولا». و المراد أنّ هذه الطلبات التي طلبتموها مني إمّا لكوني بشرا، أو لكوني رسولا. و على الأول فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور، و على الثاني، فهو موقوف على إذنه سبحانه، لأنّ الرسول لا يقوم بشيء إلاّ بإذن مرسله، و ليس هاهنا إذن، لعدم استجماع هذه الطلبات شرائط الإجابة(2).

ص: 91


1- سورة الفرقان: الآية 21.
2- و إذا أردت التفصيل، فلاحظ «الميزان»، ج 13، ص 217-218.

و بالإجابة التي ذكرناها عن هذه الآيات، تقدر على الإجابة عن كثير من الآيات التي اتّخذها نفاة المعجزة ذريعة لنظريتهم.

أضف إلى ذلك أنّه كيف يمكن لأحد أن ينكر معاجز النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، مع أنّ القرآن الكريم يخبر عن بعضها أولا(1)، و السنّة متواترة بها، ثانيا.

و ليس إنكار المعاجز و غيرها ممّا يرتبط بالغيب - كالملائكة و الجن - إلاّ لفقدان الهوية الإسلامية، و اتّخاذ موقف الهزيمة في مقابل الهجمات المادية، التي أصبحت بحمد اللّه تعالى، و بفضل بحوث العلماء الغيارى، سرابا في صحراء.

ص: 92


1- لاحظ في ذلك الآيات التالية: سورة آل عمران: الآيتان 61 و 86، سورة الأنعام: الآية 124، سورة الإسراء: الآية 1. سورة الروم: الآيات 1-3، سورة الصافات: الآيتان 14-15، سورة القمر: الآيات 1-4، و لاحظ في تفصيل هذه الآيات، مفاهيم القرآن ج 4 ص 75.
الجهة السادسة دلالة الإعجاز على صدق دعوى النبوّة
اشارة

صفحات التاريخ تشهد على وجود أناس ادّعوا السفارة من اللّه و الإنباء عنه، عن كذب و افتراء، و لم يكن لهم متاع غير التزوير، و لا هدف سوى السلطة و الرئاسة.

و من هنا كان لا بدّ من معايير و ضوابط لتمييز النبي عن المتنبّئ، و من جملتها تجهّز المدّعي بالإعجاز، و إتيانه بخوارق العادة، متحديا بها غيره على وجه لا يقدر أحد على مقاومته، حتى نوابغ البشر.

و يظهر من الآيات الواردة في القرآن الكريم أن طلب الإعجاز دليلا على صدق المدّعي، كان أمرا فطريا، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوّة و السفارة الإلهية، و لأجل ذلك لمّا ادّعى «صالح» عليه السلام، النبوّة، قوبل بجواب قومه: مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ (1).

و قد يخبر الأنبياء الناس بتجهزهم بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوة، قبل أن يطلبها الناس منهم، كما قال موسى مخاطبا الفراعنة: حَقِيقٌ عَلىٰ أَنْ لاٰ أَقُولَ عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ * قٰالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ (2).

ص: 93


1- سورة الشعراء: الآية 154.
2- سورة الأعراف: الآيتان 105 و 106.

و كما جاء في عيسى المسيح عليه السلام، من قوله تعالى: وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (1).

و لكن الكلام في وجه دلالة الإعجاز على صدق قول المدعي، فهل هو دليل برهاني بحيث يكون بين المعجزة و صدق المدّعي رابطة منطقية، تستلزم الأولى معها، وجود الثانية ؟ أو هو دليل إقناعي، يرضي عامة الناس و سوادهم و يجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي ؟.

هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبي، دلالة إقناعية لا برهانية، و يستدلّ هؤلاء المتوهمون، على مقالتهم، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المدّعى و الدليل، و تلك الرابطة غير موجودة في المقام. إذ كيف يكون خرق العادة و عجز الناس عن المقابلة، دليلا على صدق المدّعي في كونه نبيّا و حاملا لشريعة إلهية. إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال: إنّ قيام الطبيب بعملية جراحية بديعة، دليل على صدق مقاله في المسائل النجومية و الفلكية. أو صدق تخطيطاته السياسية و الاجتماعية. و من المعلوم، انتفاء الرابطة المنطقية بينها.

و لأجل ذلك - يضيف المتوهم - لا يدلّ قيام المسيح بإحياء الموتى و إبراء المرضى، على صدق ما يدّعيه، بدلالة برهانية. و إنّما يكتفى به، لأنّ مشاهدة هذه الأعمال العظيمة تجعل للقائم بها في نفوس الناس مكانة عالية، بحيث يأخذ مجامع قلوبهم و يستولي على ألبابهم، فيقنعهم، و يجلب يقينهم بصدق دعواه.

هذا، و لكن الحق وجود الرابطة المنطقية بين الإعجاز و دعوى النبوة، و يمكن إثبات ذلك ببيانين:

البيان الأول لوجود الرابطة المنطقية و يتّضح بملاحظة الأمور التالية، التي يسلمها الخصم أيضا:

ص: 94


1- سورة آل عمران: الآية 49.

الأول: أنّ الخالق عادل لا يجور، و حكيم لا يفعل ما يناقض الحكمة.

الثاني: أنّه سبحانه يريد هداية الناس، و لا يرضى بضلالتهم و كفرهم.

الثالث: أنّ المعجزة إنّما تعدّ سندا لصدق دعوى النبوة إذ كان حاملها واجدا لشرطين:

1 - أن تكون سيرته نقية الثوب، و بيضاء الصحيفة، لم يسوّدها شيء من الأعمال المشينة.

2 - أن تكون شريعته مطابقة للعقل، و موافقة للفطرة. أو على الأقل، لا يرى فيها ما يخالف العقل و الفطرة.

فلو انتفى الشرط الأول، بأن كانت سوابقه سيئة، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه.

و كذا لو انتفى الشرط الثاني، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل و الفطرة، لما تقبّلها أصحاب العقول السليمة.

و أمّا لو توفّر الشرطان فيه، فتتطاول إليه الأعناق، و تنقاد له القلوب، و لشرعه العقول، فيسلّمون ما يقول، و يطيعون ما أمر.

و هنا نقول: لو كانت دعوة هذا المدّعي، صادقة، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب و الخوارق، مطابق للحكمة الإلهية.

و أمّا لو كانت دعواه كاذبة، فإعطاؤه تلك القدرة، و تسخير عالم التكوين له، في تلك الظروف، على خلاف الحكمة، و على خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس، و لا يرضى بإضلالهم، و ذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف توجد في الناس خضوعا لهذا الشخص، فيكون إقداره على الإعجاز، مع كونه كاذبا، إغراء بالضلالة، و صدّا عن الهداية، و اللّه تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه و ينافي إرادته، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك ؟.

ص: 95

و لك أن تصب هذا الاستدلال في قالب القياس المنطقي، فتقول:

إنّه سبحانه حكيم، و الحكيم لا يجعل الكون و لا بعضه مسخّرا للكاذب، فاللّه سبحانه لا يجعل الكون و لا بعضه مسخرا للكاذب. و لكن المفروض أنّ هذا المدّعي مسخّر للكون، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق.

و لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقف على القول بالحسن و القبح العقليين، و أمّا الذين أعدموا العقل و منعوا حكمه بهما، فيلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز، لأنّ الإعجاز إنّما يكون دليلا على صدق النبوّة، إذا قبح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب، فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه، و احتمل صحة إمكان ظهوره على يد الكاذب، لا يقدر على التمييز بين الصادق و الكاذب(1).

و في بعض كلمات المتكلمين إشارة إلى ما ذكرنا. يقول القوشجي: «إنّما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه لأنّ اللّه تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق(2)، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة، و ادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم، فطالبوه بالحجة، فقال: هي (الحجة) أن يخالف هذا الملك عادته، و يقوم على سريره، ثلاث مرّات و يقعد، ففعل. فإنّه يكون تصديقا له، و مفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب»(3).

و قال المحقق الخوئي: «إنّما يكون الإعجاز دليلا على صدق المدّعي، لأنّ المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلاّ بعناية من اللّه تعالى و إقدار منه. فلو كان مدّعي النبوّة كاذبا في دعواه، كان إقداره على المعجز

ص: 96


1- و إن للفضل بن روزبهان الأشعري كلاما في الخروج عن هذا المأزق، غير تام، فمن أراد فليرجع إلى دلائل الصدق، ج 1، ص 366، و قد أوردناه في الجزء الأول من الكتاب و أجبنا عليه لاحظ ص 247-248.
2- هذا التعبير صحيح على منهج الأشاعرة من أنّ أفعال العباد كلها مخلوقة للّه تعالى، و لكن الحق أنّ هذا العلم يوجد في الإنسان بعد عدّة عوامل.
3- شرح القوشجي على التجريد، ص 465 الطبعة الحجرية، ايران.

من قبل اللّه تعالى إغراء بالجهل و إشادة بالباطل، و ذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه و كاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوّته.

و هذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، و لا يشكون فيها أبدا. فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها، حين تشكّ الرعية بصدقه، و لا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين، فإذا علم الملك ما جرى بين السفير و بين الرعية ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة.

و لا يرتاب العقلاء في ذلك، لأنّ الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذبا، لأنّه يريد إفساد الرّعية»(1).

القرآن و الدّعوى الكاذبة

يخبر القرآن الكريم عن أنّه سبحانه فرض على نفسه معاقبة النبي و إهلاكه إذا كذب على اللّه تعالى، قال عزّ و جل: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ اَلْأَقٰاوِيلِ * لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ اَلْوَتِينَ * فَمٰا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حٰاجِزِينَ (2).

قال المحقق الخوئي: «المراد من الآية الكريمة أنّ محمدا الذي أثبتنا نبوّته، و أظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل و لو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، و لقطعنا منه الوتين، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل،

ص: 97


1- البيان في تفسير القرآن، ص 35-36، الطبعة الثامنة، 1401 ه - بيروت.
2- سورة الحاقة: الآيات 44-47.

إمضاء منّا لها، و إدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث»(1)إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم بالأدلّة القطعية و دلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه، الذي أقدرهم بها على التصرّف في الكون. فالإنسان الذي يصل إلى هذا المقام، يستولي على مجامع القلوب، و يسخّر الناس بذلك لمتابعته، فكل ما يلقيه، و يشرّعه، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس و المجتمع. فلو افتعل هذا الإنسان - في مثل هذه الظروف - كذبا على اللّه تعالى، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه و إبادته، لما في إبقائه و إدامة حياته، من إضلال الناس، و إبعادهم عن طرق الهداية، الأمر الذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت هداية الناس و إبعادهم عن وسائل الضلالة.

و التدبّر في مفاد هذه الآيات يرشدنا إلى وجود الرابطة المنطقية بين كون النبي محقّا في دعواه، و إتيانه بالمعجزة و أنّه يتصرف في الكون برضى مبدعه. و بقاؤه على وصف التصرّف كاشف عن رضاه تعالى، و صدق النبي فيما يأتي به.

و بما ذكرنا يعلم أنّ الآيات لا تهدف إلى أنّ دعوى النبوّة كافية في صدق المدّعي، و أنّ المدّعي لو كان كاذبا في دعواه لشملته نقمة اللّه سبحانه و إماتته، بحجة أنّه لو تقوّل عليه بعض الأقاويل لقطع منه الوتين، فاستمرار المدّعي للنبوّة على الحياة - و إن لم يأت بأية معجزة و لم يقم برهانا على صدق دعواه - هو، بحدّ نفسه، كاشف عن صدق دعواه(2).

إذ لا ريب أنّ هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت، و لو صحّت، للزم تصديق كل متنبئ في العالم - و إن ثبت كذبه - لمجرّد عدم إهلاك اللّه تعالى له.

إلى هنا وقفت على البيان الأول الذي يثبت أنّ بين دعوى النبوّة و الإتيان بالمعجزة، رابطة منطقية.

ص: 98


1- البيان في تفسير القرآن، ص 36، الطبعة الثامنة، 1401 ه - بيروت.
2- ادّعى ذلك الكاتب البهائي، أبو الفضل الجرفادقاني، في كتابه الفرائد، ص 240، طبعة مصر.

البيان الثاني لوجود الرابطة المنطقية إنّ نفي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة و صدق الدعوى، أمر يحتاج إلى التحليل، فهو باطل على وجه و صحيح على وجه آخر، و ذلك بالبيان التالي:

إن كان المراد من قلب العصا ثعبانا - مثلا - أنّه كالأوسط في القياس، دليل على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحد، عالم قادر، ليس كمثله شيء..

فلا ريب في عدم صحته. إذ لا يمكن الاستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون.

و لأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردة عن البرهنة، بل قرنها بلطائف الدلائل و الإشارات، يقف عليها كلّ متدبّر في الذكر الحكيم.

فيستدلّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقول: أَ فِي اَللّٰهِ شَكٌّ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ؟(1).

و في البرهنة على وحدة المدبّر، بقوله: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (2).

و في البرهنة على إبطال ألوهية الأصنام، بقوله: وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاٰ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ، وَ لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً، وَ لاٰ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاٰ حَيٰاةً وَ لاٰ نُشُوراً (3).

و في إبطال ألوهية المسيح، بقوله: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ ، وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كٰانٰا يَأْكُلاٰنِ اَلطَّعٰامَ ، اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآيٰاتِ (4).

إلى غير ذلك من عشرات الآيات التي تطرح الأصول و العقائد، بالبراهين

ص: 99


1- سورة إبراهيم: الآية 10.
2- سورة الأنبياء: الآية 22.
3- سورة الفرقان: الآية 3.
4- سورة المائدة: الآية 75.

الدقيقة. فالمعجزة غير دالّة بالدلالة المطابقية على صحّة المعارف و الأصول التي يأتي بها صاحبها، بمعنى أنّها ليست الحدّ الأوسط في صحّة المدّعى، كالتغيير في قولنا:

العالم متغيّر، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث.

و إن كان المراد أنّ خرق العادة الملموسة - أعني قلب العصا حيّة - دليل على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة - و هي الاتصال بعالم الوحي و كون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة - فهو صحيح، و إليك بيانه:

إنّ الأنبياء عليهم السلام، كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس:

الإشكال الأول - إنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب، يجب أن يكون من جنس الملائكة، و لا يصحّ أن يكون إنسانا مثلهم.

و القرآن الكريم يحكي عنهم هذا الاعتراض، بقوله: قٰالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونٰا عَمّٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا (1).

و كان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ، و الوحدة النوعية غير مانعة منه، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع، فيكون الفاضل مرسلا، و المفضول مرسلا إليه.

و القرآن الكريم يحكي هذا الجواب، بقوله: قٰالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَمُنُّ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ (2).

الإشكال الثاني - إنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يدّعون أنّهم يتلقون الأصول و المعارف و الأحكام و الفروع من اللّه سبحانه عن طريق الوحي، و هو إدراك خاص يوجد فيهم و لا يوجد في غيرهم، و ليس من قبيل الإدراكات العادية

ص: 100


1- سورة إبراهيم: الآية 10.
2- سورة إبراهيم: الآية 11.

التي يجدها كل إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين، و السمع بالأذن، و التفكّر و الاستدلال بالعقل.

و هذه الدعوى كانت تثير السؤال التالي:

إنّ ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي، ادعاء أمر خارق للعادة، فإنّ الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات و الخياليات و العقليات. فنحن لا نؤمن بقولكم هذا إلاّ إذا شاهدنا خرقا للعادة يماثل ما تدّعون، حتى نستدلّ بخرق عادة مرئية، على وجود نظيرها في باطن وجودكم، و صميم حقيقتكم.

و من منطلق إجابة هذا السؤال، كان الأنبياء يفعلون الخوارق، و يأتون بالمعاجز، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقا، سواء أ كانت مرئية - كقلب العصا إلى الثعبان، و تسبيح الحصى - أو غير مرئية - كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الذي هو الوحي.

و إن شئت قلت: كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة، على غير الملموسة منها.

و إلى ما ذكرنا يشير العلامة الطباطبائي رحمه اللّه بقوله: «إنّ دعوى النبوّة و الرسالة من كل نبي و رسول - على ما يقصه القرآن - إنّما كانت بدعوى الوحي و التكليم الإلهي بلا واسطة، أو بواسطة نزول ملك، و هذا أمر لا يساعده الحسّ و لا تؤيّده التجربة، فيتوجه عليه الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، و الثانية من جهة الدليل على عدمه. فإنّ الوحي و التكليم الإلهي و ما يتلوه من التشريع و التربية الدينية ممّا لا يشاهده البشر في أنفسهم، و العادة الجارية في الأسباب و المسبّبات تنكره، و قانون العليّة العامة لا يجوزه، فهو أمر خارق للعادة.

فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوّة و الوحي، لكان لازمه أنّه متصل بما وراء الطبيعة، مؤيّد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة، و أنّ اللّه سبحانه يريد بنبوّته و الوحي إليه، خرق العادة. فلو كان هذا حقا، و لا فرق بين خارق و خارق، كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع، و أن يخرق

ص: 101

اللّه العادة بأمر آخر يصدّق النبوة و الوحي من غير مانع عنه، فإنّ حكم الأمثال واحد، فلئن أراد اللّه هداية الناس بطريق خارق للعادة و هو طريق النبوة و الوحي، فليؤيدها و ليصدقها بخارق آخر و هو المعجزة.

و هذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة، كلما جاءهم رسول من أنفسهم(1).

ص: 102


1- الميزان، ج 1، ص 86.
الجهة السابعة هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز و الكرامات ؟
اشارة

لا شكّ أنّ للإعجاز أثرا بالغا في إيجاد الإيمان بدعوى المدّعي، و ربما يكون أثر الإعجاز في نفوس عامة الناس أبلغ من تأثير البراهين العقلية.

فإذا كان للإعجاز هذا الأثر البالغ، فلما ذا حرم منه إنسان ما بعد عصر الرسالة ؟ و لما ذا لا تظهر يد من الغيب تقلب العصا ثعبانا و تبرئ الكمه و البرص و المصابين بالسرطان ؟ مع أنّ إنسان القرن المعاصر أشدّ حاجة إلى مشاهدة المعجزة، لذيوع بذور الشكّ و الترديد بين الناس عامة و الشباب خاصة، أ فليس هذا حرمانا من الفيض المعنوي ؟.

الجواب: إنّ الإنسان المعاصر، بل من قبله ممن جاءوا بعد عصر الرسالة، ليس و لم يكونوا محرومين من المعجزة، بل إنّ هناك معجزتين ساطعتين، خالدتين على مرّ الدهور.

الأولى - القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم، معجزة النبي الأكرم الخالدة، المشرقة على جبين الدهر، تتحدّى المعاندين، و تواجه المشككين، بقولها: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (1)

ص: 103


1- سورة البقرة: الآية 23.

و هذا النداء القرآني يكرّره المسلمون في تلاواتهم و إذاعاتهم و أنديتهم الدينية، فلم يجب إلى الآن أحد من العرب و العجم، بل كلّهم انحنوا - مذهولين - أمام عظمة القرآن في فصاحته و بلاغته و نظمه و أسلوبه، كما سيأتي الكلام فيه مفصلا.

على أنّ القرآن الكريم أخبر بأنّ هذه المعجزة خالدة إلى يوم القيامة، و لن يقدر أحد من البشر على مقابلتها، بقوله: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1).

الثانية - المباهلة

روى أهل السير و التاريخ أنّه قدم وفد نصارى نجران على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فدارت بينه و بينهم أسئلة و أجوبة حول نبوته عليه الصلاة و السلام. فدعاهم الرسول إلى قبول الإسلام، فامتنعوا، فدعاهم إلى المباهلة فاستنظروه إلى صبيحة اليوم التالي:

فلما رجعوا إلى رجالهم، قال لهم الأسقف: «انظروا محمدا، فإن خرج بولده و أهله، فاحذروا مباهلته، و إن خرج بأصحابه فباهلوه».

فلما كان الغد، خرج النبي الأكرم و يده في يد علي بن أبي طالب، و الحسن و الحسين يمشيان أمامه، و فاطمة ابنته تمشي خلفه.

و خرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم، فلما رأى النبيّ قد أقبل بمن معه، سأل عنهم فقيل له: هذا ابن عمه، و هذان ابنا بنته، و هذه الجارية بنته فاطمة، أعزّ الناس عليه.

و تقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجثا على ركبتيه، فقال أبو حارثة الأسقف: «جثا و اللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة»، فرجع و لم يقدم على المباهلة.

ص: 104


1- سورة الإسراء: الآية 88.

و قال: «أنا أخاف أن يكون صادقا، و لئن كان صادقا، لم يحل و اللّه علينا الحول، و في الدنيا نصراني».

فصالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على ألف حلّة من حلل الأواقي، و قال النبي: «و الذي نفسي بيده، لو لاعنوني، لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم الوادي عليهم نارا، و لما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا»(1).

و في هذا المجال ورد قوله سبحانه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ (2).

و المباهلة معجزة إسلامية خالدة، يقوم بها الأمثل فالأمثل من الأمة في مقام محاجة المخالفين من اليهود و النصارى و غيرهم، و لا تختص بالنبي الأكرم.

إنّ بإمكان أصحاب النفوس الكاملة، في مراتب التقوى و الورع و اليقين، أن يباهلوا أعداء الدين، و يدعوا عليهم بالدمار و الهلاك، و لن يمضي زمن إلاّ و قد شملهم العذاب الإلهي.

و قد كان سيدنا العلامة الطباطبائي رحمه اللّه يرى هذا الرأي و يقول: «إنّ المباهلة معجزة خالدة للمسلمين يحتجون بها على صحّة عقائدهم و أصولهم فمن يريد المباهلة فيما جاء به النبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله، فأنّا على أتمّ الأهبة و الاستعداد لمباهلته، فليقدم المخالف إذا شاء».

و لعلّ الأستاذ الراحل أخذه من كلام الإمام الصادق عليه السلام، حينما قال له أحد أصحابه: «إنّا نكلّم الناس فنحتجّ عليهم يقول اللّه عزّ و جل:

أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (3) فيقولون: نزلت في أمراء السرايا. فنحتج عليهم بقوله عزّ و جل: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ - إلى آخر

ص: 105


1- مجمع البيان، ج 1، ص 452، طبعة صيدا.
2- سورة آل عمران: الآية 61.
3- سورة النساء: الآية 59.

الآية(1) فيقولون نزلت في المؤمنين. و نحتج عليهم بقول اللّه عزّ و جل: قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ (2) فيقولون نزلت في قربى المسلمين. قال فلم أدع ممّا حضرني ذكره من هذه و شبهها إلاّ ذكرته.

فقال عليه السلام: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة... إلى آخر الحديث»(3).

ص: 106


1- سورة المائدة: الآية 55.
2- سورة الشورى: الآية 33.
3- أصول الكافي، ج 3، باب المباهلة، الحديث الأول، ص 513، الطبعة الرابعة، 1401 ه، بيروت.
الجهة الثامنة بما ذا تميّز المعجزة عن السحر؟
اشارة

لا ريب في أن هناك جماعة من الناس لهم القدرة على القيام بأعمال مدهشة و عجيبة لا يمكن تفسيرها عن طريق العلوم المتعارفة و هؤلاء كالمرتاضين الهنود و غيرهم، الذين تقدم نقل شطر من أعمالهم. و كالسحرة و المشعوذين.

و كأساتذة التنويم المغناطيسي، الذي كشفه «مسمر» الألماني في القرن الثامن عشر، و به يتمكن الأستاذ من السيطرة على الوسيط الذي فيه استعداد خاص للتأثّر، و كيفية ذلك أنّ الأستاذ ينظر في عين الوسيط نظرات عميقة و يجري عليه حركات يسمونها «سحبات»، فما تمضي لحظة إلاّ و يغطّ الوسيط غطيط النوم، على وجه لو قام أحد يخزه بالإبرة وخزات عديدة، لا يبدي الوسيط حراكا، و لا يظهر أيّ شيء يدلّ على شعوره و إحساسه. فعند ذلك يقوم الأستاذ بسؤاله أسئلة ربما يقتدر معها على كشف المغيبات، و يستطيع أن يتصرف فيه بنحو يقنعه معه بتغيير اسمه، و غير ذلك(1).

و هنا يطرح السؤال التالي: مع وجود هذه الأمور المدهشة و العجيبة و الخارقة للقوانين المتعارفة، التي تحصل بالرياضة و سحر السحرة، و ألاعيب المشعوذين، فكيف نتمكن من تمييزها عن المعجزة و الآية الإلهية ؟.

ص: 107


1- لاحظ مناهل العرفان، ج 1، ص 61.

و هذا من المباحث الحساسة في النبوّة العامة، إذ به تتبين حدود المعجزة التي تميّزها و تفصلها عن سائر خوارق العادة.

و الجواب: إنّ هناك مجموعة من الضوابط و الحدود التي تمتاز بها المعجزة عن سائر خوارق العادة و هي:

الأول: إنّ السّحر و نحوه رهن التعليم دون الإعجاز

إنّ ما تنتجه الرياضة و السحر و الشعوذة من آثار خارقة للعادة، جميعها خاضعة لمناهج تعليمية، لها أساتذتها و تلامذتها، و تحتاج إلى الممارسة المتواصلة و الدءوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة، فينام على مسامير محدّدة، و تكسر الصخور بالمطارق على صدره، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره، أو يقوم بحركات توجب تأثيرا نفسيا على إنسان آخر، فيذهب وعيه و يتصرف فيه، أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون، و يستولي بها على القلوب، فيصوّر غير الواقع واقعا متحققا. و كل هذا أثر التعليم و التعلّم و كثرة الممارسة و المجاهدة.

و أمّا الإعجاز الذي يقوم به الأنبياء فإنّه منزّه عن هذه الوصمة، فإنّ ما يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة، لم يدرسوه في منهاج، و لا تلقوه على يد أستاذ، و لا قضوا أعمارهم في التدرّب و التمرّن عليه.

و لأجل ذلك نرى أنّ الكليم عليه السلام عند ما رجع من مدين إلى مصر:

نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ * وَ أَنْ أَلْقِ عَصٰاكَ ، فَلَمّٰا رَآهٰا تَهْتَزُّ كَأَنَّهٰا جَانٌّ وَلّٰى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ ، يٰا مُوسىٰ أَقْبِلْ وَ لاٰ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ * اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضٰاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ . وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنٰاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ ، فَذٰانِكَ بُرْهٰانٰانِ مِنْ رَبِّكَ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ .. (1) .

فكان هذا عملا إبداعيا غير مسبوق بتعلّم و لا تمرّن، و لذلك استولى عليه

ص: 108


1- سورة القصص: الآيات 30-32.

الخوف في بداية الأمر، فوافاه الخطاب من جانبه تعالى: يٰا مُوسىٰ لاٰ تَخَفْ إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ (1).

قال القاضي عبد الجبار: «إنّ الحيلة ممّا يمكن أن تتعلم و تعلّم، و هذا غير ثابت في المعجزة»(2).

الثاني - إنّ السّحر و نحوه قابل للمعارضة دون المعجزة

إنّ عمل المرتاضين و السّحرة بما أنّه نتاج التعليم و التعلّم، يكثر وقوعه و يسهل الإتيان بمثله على كل من تلقّى تلك الأصول و تدرّب عليها، و لذا قال القاضي عبد الجبار: «إنّ الحيل مما يقع فيها الاشتراك و ليس كذلك المعجزة»(3).

الثالث - إنّ السحر و نحوه لا يقترن بالتحدي بخلاف الإعجاز

إنّ السّحرة و المرتاضين، و إن كانوا يأتون بالعجائب و يفعلون الغرائب، إلاّ أنّ واحدا منهم لا يجرؤ على تحدّي الناس، و دعوتهم إلى مقابلته، لعلمهم بأنّ الدعوة إلى التحدّي لن تتم لصالحهم، إذ ما أكثر السحرة و أهل الرياضة من أمثالهم.

و هذا بخلاف أهل الإعجاز، فإنّهم لا يأتون بمعجزة إلاّ و يقرنوها بالتحدّي، و لذلك أمر النبي بأن يقول:

قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4) .

ص: 109


1- سورة النمل: الآية 10.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 572.
3- شرح الأصول الخمسة، ص 572.
4- سورة الإسراء: الآية 88.
الرابع - إنّ السحر و نحوه محدود من حيث التنوع دون المعاجز

إنّ عمل أهل الرياضة و السحر، لما كان رهن التعليم و التعلّم، متشابه في نوعه، متّحد في جنسه، يدور في فلك واحد، و لا يخرج عن نطاق ما تعلمه أهله و مارسوه، و لذا لا يأتون بما يريده الناس و المتفرجون، بل بما تدرّبوا عليه، وافق طلب الناس أو لا.

بخلاف إعجاز الأنبياء، فإنّه على جانب عظيم من التنوع في الكيفية إلى حدّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدرا مشتركا و جنسا قريبا. فشتّان ما بين قلب العصا إلى الثعبان الحي(1)، و ضربها على الأحجار ليتفجر منها الماء(2)، و ضربها على البحر لينفلق شطرين، كل فرق كالطّود العظيم(3)، و إخراج اليد من الجيب بيضاء تتلألأ(4)، و غير ذلك من معاجز موسى عليه السلام.

و كذلك الحال في آيات المسيح البيّنات، المبهرة للعقول و المدهشة للقلوب، فتارة ينفخ في هيئة الطير المجسّمة من الطين فتدبّ الحياة فيها، و تنبض بالدماء عروقها، فتكون طيرا بإذن اللّه. و أخرى يبرئ الأكمه و الأبرص، و ثالثة يحيي الموتى، و رابعة ينبئ الناس بما يأكلون في بيوتهم و يدّخرون فيها(5)، و لذلك يصفها تعالى بالجلال و التقدير بقوله: إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (6).

و هذا التنوع في الكيفية، نتيجة كون قدرتهم مستندة إلى القدرة الإلهية.

نعم إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون

ص: 110


1- قال تعالى: فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ (سورة الأعراف: الآية 107).
2- قال تعالى: وَ إِذِ اِسْتَسْقىٰ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً (سورة البقرة: الآية 60).
3- قال تعالى: فَأَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكٰانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ (سورة الشعراء: الآية 63).
4- قال تعالى: وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ (سورة الأعراف: الآية 108).
5- اقتباس من الآية 49 من سورة آل عمران المباركة.
6- سورة آل عمران: الآية 49.

الرائجة في عصورهم، حتى يتسنى لخبراء كل فنّ تشخيص المعاجز و إدراك استنادها إلى القدرة الغيبيّة، و تمييزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم و الفنون الرائجة. و تتّضح حقيقة ما ذكرناه، في السحرة الذين بارزوا موسى عليه السلام، فإنّهم - لكونهم من أهل الخبرة و المعرفة بحقيقة السحر و فنونه - أدركوا فورا، بعد ما ألقى موسى عصاه و انقلبت ثعبانا حيّا التقف حبالهم و عصيّهم أدركوا أنّه ليس من جنس السحر، و أنّه معجزة خارقة متصلة بالقدرة الإلهية، و لذلك سرعان ما خضعوا للحق كما يحكيه عنهم تعالى بقوله: وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سٰاجِدِينَ * قٰالُوا آمَنّٰا بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (1).

قال القاضي عبد الجبار: «إنّ المشعوذ و المحتال إنّما ينفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته، و لا يكون له دراية و معرفة، و ليس هذا حال المعجزة، فقد جعل اللّه سبحانه و تعالى معجزة كل نبي مما يتعاطاه أهل زمانه، حتى جعل معجزة موسى عليه السلام قلب العصا حيّة، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان، السحر. و جعل معجزة عيسى عليه السلام إبراء الأكمه و الأبرص، لما كان الغالب على أهل زمانه الطب. و جعل معجزة نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله «القرآن»، و جعله في أعلى طبقات الفصاحة، لما كانت الغلبة للفصاحة و الفصحاء في ذلك الزمان، و بها كان يفاخر أهله و يتباهى»(2).

الخامس - الاختلاف من حيث الأهداف و الغايات

إنّ أصحاب المعاجز يتبنون أهدافا عالية، و يتوسلون بمعاجزهم لإثبات أحقية تلك الأهداف، و نشرها. و هي تتمثل في الدعوة إلى عبادة اللّه تعالى وحده، و تخليص الإنسان من عبودية الأصنام و الحجارة و الحيوانات، و الدعوة إلى الفضائل و نبذ الرذائل، و استقرار النظام الاجتماعي للبشر، و غير ذلك.

و هذا بخلاف المرتاضين و السحرة، فغايتهم إمّا كسب الشهرة و السمعة بين

ص: 111


1- سورة الأعراف: الآيتان 120-121.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 572.

الناس، أو جمع المال و الثروة، و غير ذلك ممّا يناسب متطلبات القوى البهيمية، و إنّك لا ترى مرتاضا أو ساحرا يقوم بنشر منهج أخلاقي أو اجتماعي فيه إنقاذ البشر من الظلم و الاضطهاد، و يدعو إلى التقوى و العفة و ما شابه.

و السبب في ذلك واضح، فإنّ الأنبياء خريجو مدرسة إلهية تزخر بالدعوة إلى الفضائل و الاجتناب عن الرذائل، فلا يقومون بالإعجاز إلاّ لنشر أهداف مدرستهم. و أما غيرهم، فهم خريجو المدرسة المادية التي لا همّ لها إلاّ إرضاء ميولها الحيوانية، و إشباع لذّاتها و شهواتها.

السادس - الاختلاف في النفسانيات

إنّ أصحاب المعاجز - باعتبار كونهم خريجي المدرسة الإلهية - متحلّون بأكمل الفضائل و الأخلاق الإنسانية و المتصفح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عمل مشين و مناف للعفة و مكارم الأخلاق.

و أمّا أصحاب الرياضة و السحر، فهم دونهم في ذلك، بل تراهم غالبا متحللين عن المثل و الفضائل و القيم.

فبهذه الضوابط الستّ يتمكن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق، و النبيّ عن المرتاض و الساحر، و الحق عن الباطل. و هذه المميزات، و إن كانت تهدف إلى أمر واحد، إلاّ أنّها تختلف في الحيثيات:

فالأول منها يهدف إلى الفرق بين المعجزة و غيرها من حيث المبادي.

و الثاني إلى الفرق من حيث تحديد القدرة، فقدرة السحرة في حدّ القدرة البشرية، و قابلة للمعارضة، بخلاف إعجاز الأنبياء.

و الثالث إلى الفرق في كيفية الإتيان بالعمل، فالمعجزة تقترن بالتحدّي دون غيرها.

ص: 112

و الرابع إلى قلّة التنوع في عمل السحرة، و كثرته في عمل الأنبياء.

و الخامس إلى الفرق من حيث الغاية.

و السادس إلى الفرق من حيث صفات و روحيات أصحاب المعاجز، و غيرهم.

و إلى هنا يتم البحث في الطريق الأول من الطرق الثلاثة التي يعرف بها النبي من المتنبّئ، بجهاته الثمان. و يقع البحث فيما يلي في الطريق الثاني و هو تصديق النبي السابق نبوّة النبي اللاحق.

ص: 113

ص: 114

طرق إثبات النبوّة

(2) تنصيص النبي السابق على نبوة اللاحق

إذا ثبتت نبوة نبي بدلائل مفيدة للعلم بنبوته، ثم نصّ هذا النبي على نبوة نبي لاحق يأتي من بعده، كان ذلك حجة قطعية على نبوة اللاحق، لا تقل في دلالتها عن المعجزة.

و ذلك لأنّ النبي الأول، إذا ثبتت نبوته، يثبت كونه معصوما عن الخطأ و الزلل، لا يكذب و لا يسهو، فإذا قال - و الحال هذه -: سيأتي بعدي نبي اسمه كذا، و أوصافه كذا و كذا، ثم ادّعى النبوّة بعده شخص يحمل عين تلك الأوصاف و السمات، يحصل القطع بنبوته.

و لا بدّ أن يكون الاستدلال بعد كون التنصيص واصلا من طريق قطعي، و كون الأمارات و السمات واضحة، منطبقة تمام الانطباق على النبي اللاحق، و إلا يكون الدليل عقيما غير منتج.

و من هذا الباب تنصيص المسيح على نبوة النبي الخاتم صلى اللّه عليه و آله، كما يحكيه سبحانه بقوله: وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

ص: 115


1- سورة الصف: الآية 6.

و يظهر من الذكر الحكيم أنّ السلف من الأنبياء وصفوا النبي الأكرم بشكل واضح، و أنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي كمعرفتهم لأبنائهم. قال سبحانه: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1).

بناء على رجوع الضمير إلى النبي، المعلوم من القرائن، لا إلى الكتاب.

و قال سبحانه: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (2).

و قد آمن كثير من اليهود و النصارى بنبوة النبي الخاتم في حياته و بعد مماته، لصراحة التباشير الواردة في العهدين.

هذا، و إنّ الاعتماد على هذا الطريق في مجال نبوة النبي الخاتم، في عصرنا هذا، يتوقف على جمع البشائر الواردة في العهدين و ضمّها إلى بعضها، حتى يخرج الإنسان بنتيجة قطعية على أنّ المراد من النبي المبشّر به فيهما هو النبي الخاتم: و قد قام بهذا المجهود لفيف من العلماء و ألّفوا فيه كتبا(3)، و سيوافيك بحثه في النبوّة الخاصّة، بإذنه تعالى.

ص: 116


1- سورة البقرة: الآية 146.
2- سورة الأعراف: الآية 157.
3- لاحظ منها كتاب «أنيس الأعلام»، و مؤلفه كان قسيسا محيطا بالعهدين و غيرهما و قد تشرّف بالإسلام، و ألف كتبا كثيرة، منها ذاك الكتاب و قد طبع في ستة أجزاء.

طرق إثبات النبوّة

(3) جمع القرائن و الشواهد
اشارة

هذا هو الطريق الثالث لتمييز النبي الصادق عن المتنبّئ الكاذب و هذا الطريق ضابطة مطردة في المحاكم القانونية، معتمد عليه في حلّ الدعاوى و النزاعات، يسلكه القضاة في إصدار أحكامهم، و يستند إليه المحامون في إبراء موكليهم خاصة في المحاكم الغربية، التى تفتقد إلى القضاء على الأيمان و البيّنات، و تقضي هذه الطريقة بجمع كلّ القرائن و الشواهد التي يمكن أن تؤيّد دعوى المدّعي، أو إنكار المنكر، و ضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحة دعواه أو إنكاره.

و يمكن تطبيق هذه الطريقة بعينها في مورد دعوى النبوة، فنتحرى جملة القرائن التي يمكن أن نقطع معها بصدق الدعوى، و من هذه القرائن:

1 - نفسيات النبي

ممّا يدلّ على كون مدّعي النبوة صادقا في دعواه، تحلّيه بروحيات كمالية عالية، و أخلاق إنسانية فاضلة، غير منكب على الدنيا و زخرفها، و لا طالب للرئاسة و الزعامة، لم ير له في حياته منقصة، و دناسة، بل عرف بكل خلق كريم، و اشتهر بالنزاهة و الطهارة.

فجميع هذه الصفات تدلّ على صفائه في روحه و باطنه، و بالتالي صدقه في دعواه.

ص: 117

2 - سمات بيئته

إنّ ظهور مدّعي النبوّة في مجتمع أمّيّ ، لا يعرف الكتابة، بعيد عن مظاهر الحضارة و التمدّن، و مجيئه بشريعة تحمل سمات مناقضة بالكليّة لهذا الظرف السائد، قرينة على نبوّة هذا المدّعي.

فإنّ مجيء إنسان بشريعة تحمل الدعوة إلى التعلّم و نبذ الأميّة، و تشرّع القوانين الاجتماعية، و الاقتصادية بل تحمل في تعاليمها نظام الدولة و التقنين و القضاء و الروابط السياسية، أقول: إنّ إتيانه بهذه المظاهر الحضارية في مجتمع قبلي لم يسمع بشيء من تلك النظم، لدليل على ارتباط هذا الإنسان بمبدإ أعلى، غير خاضع لمقتضيات تلك البيئة. بل إنّ ظاهرة كهذه هي بحدّ نفسها نوع من الإعجاز و خروج عن المألوف.

3 - مضمون الدعوة

من جملة القرائن التي ترشد إلى صدق المدّعي أو كذبه في دعواه، مضمون العقيدة التي يحملها، و الدعوة التي يدعو إليها، و مقدار التوافق بينهما.

فإذا كانت العقيدة التي يحملها، و المعارف التي يدعو إلى اعتناقها، معارف إلهية تبحث في خالق الكون و صفاته و أفعاله، و كانت دعوته العملية مرشدة إلى التحلّي بالمثل الأخلاقية، و الفضائل الإنسانية، و ناهية عن الرذائل النفسية و ركوب الشهوات المنحرفة و الفسق و المجون، كانت هذه قرائن على اتصال دعوته بخالق الكون، و مبدأ الخير و الجمال.

4 - ثباته في طريق دعوته

إنّ آية كون الدعوى إلهية، لا يبتغي صاحبها شيئا من الأعراض المادية، و المناصب الدنيوية، ثباته في طريق دعوته، و تضحيته بنفسه و أعزّ أقربائه في ذاك السبيل.

ص: 118

و في المقابل، إنّ انهزامه أمام المصاعب، و تعلّقه بحفظ حياته، دليل عدم إيمانه بما يدعو إليه، و بالتالي عدم ارتباط دعوته بمبدإ إلهي.

5 - الأدوات التي يستفيد منها في دعوته

من القرائن التي تدلّ على صدق المدّعي في دعوى النبوّة و السفارة الإلهية، اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية، موافقة للفطرة و الطهارة، فإنّ لذلك دلالات على إلهية دعواه.

و أمّا لو اعتمد في نشر و تبليغ ما يدّعيه على وسائل إجرامية، و أساليب وحشية غير إنسانية، متمسكا بقول ماكيافللي: «الغاية تبرر الوسائل»(1)، كان هذا دليلا على كون دعواه شخصية محضة، لا صلة لها بالعالم الربوبي.

6 - المؤمنون به

إنّ لنفسيات المؤمنين بمدّعي النبوة و حواريه، دلالة خاصة على صدقه فيما يدّعيه، و ذلك أنّ أقرباء المدّعي و بطانته إذا آمنوا به، و اتّبعوا دعوته، و بلغوا فيها مراتب عالية من التقوى و الورع، كان هذا دالاّ على صدق المدعي في ظاهره و باطنه، و عدم التوائه و كذبه، لأنّ الباطن لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء و البطانة.

هذه القرائن و ما يشابهها إذا اجتمعت في مدّعي النبوة، و دعواه التي

ص: 119


1- نيكولو ماكيافللي (1469-1527). سياسي و مؤرخ إيطالي، أحد أعلام عصر النهضة في أوروبا، شارك في الحياة السياسية في إيطاليا ثم اعتزلها عام (1512 م) متفرغا للتأليف. و عرف في تاريخ الفكر السياسي بمؤلفه الشهير «الأمير»، حيث أيّد فيه نظام الحكم المطلق، و أحلّ فيه للحاكم اتّخاذ كل وسيلة تكفل استقرار حكمه و استمراره، و لو كانت منافية للدين و الأخلاق و ذلك على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة. و من هنا صار لفظ «المكيافللية» وصفا لكل مذهب ينادي بأنّ الغاية تبرر الواسطة أو الوسيلة. غير أنّ ماكيافللي عاد في كتابه «المحاضرات»، فأيّد النظام الجمهوري الذي يقوم على سيادة الشعب، و عدد مزايا هذا النظام و فضّله على النظام الملكي.

يدّعيها، كانت دليلا قاطعا على صدقه، فإنّ كلّ واحدة من القرائن، و إن كانت قاصرة عن إفادة اليقين، إلاّ أنّها بمجموعها تفيده.

أول من طرق هذا الباب

إنّ أوّل من طرق هذا الباب، و جعل القرائن المفيدة للقطع بصدق المدّعي، دليلا على صحة الدعوى، هو قيصر الروم، فإنّه عند ما كتب إليه الرسول محمد صلى اللّه عليه و آله، رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الذي أتى به، أخذ - بعد استلامه الرسالة - يتأمّل في عبارات الرسول، و كيفية الكتابة، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجول في الشام و البحث عمّن يعرف الرسول عن قرب، و مطّلع على أخلاقه و روحياته، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان و عدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فأحضروا إلى مجلس قيصر، فطرح عليهم الأسئلة التالية:

* قيصر: كيف نسبه فيكم ؟.

- أبو سفيان: محض، أوسطنا نسبا(1).

* قيصر: أخبرني، هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبّه به ؟.

- أبو سفيان: لا، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.

* قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه ؟.

- أبو سفيان: لا.

* قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم، من هم ؟.

- أبو سفيان: الضعفاء و المساكين و الأحداث من الغلمان و النساء. و أمّا ذوو الأسنان و الشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد.

* قيصر: أخبرني عمّن تبعه، أ يحبه و يلزمه ؟ أم يقليه و يفارقه ؟.

ص: 120


1- أي أعلانا نسبا.

- أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.

* قيصر: أخبرني كيف الحرب بينكم و بينه ؟.

- أبو سفيان: سجال، يدال علينا و ندال عليه.

* قيصر: أخبرني هل يغدر؟.

- أبو سفيان: (لم أجد شيئا ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت): لا، و نحن منه في هدنة. و لا نأمن غدره. (و أضاف أبو سفيان بأن قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه).

ثم إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن الأمور السابقة و أنّه كيف استنتج من الأجوبة التي سمعها من أبي سفيان أنّه نبي صادق، بقوله:

«سألتك كيف نسبه فيكم، فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسبا، و كذلك يأخذ اللّه النبي إذا أخذه، لا يأخذه إلاّ من أوسط قومه نسبا.

و سألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله، فهو يتشبه به، فزعمت أن لا.

و سألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه، فزعمت أن لا.

و سألتك عن أتباعه فزعمت أنّهم الضعفاء و المساكين و الأحداث و النساء، و كذلك اتباع الأنبياء في كل زمان.

و سألتك عمّن يتبعه، أ يحبّه و يلزمه، أم يقليه و يفارقه. فزعمت أن لا يتبعه أحد فيفارقه، و كذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه.

و سألتك هل يغدر، فزعمت أن لا. فلئن صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين، و لوددت أنّي عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك».

قال أبو سفيان: فقمت من عنده و أنا أضرب إحدى يديّ بالأخرى و أقول:

إي عباد اللّه، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في

ص: 121

سلطانهم بالشام(1).

و من المأسوف عليه أنّ هذا الطريق الذي سلكه قيصر، و وجده وسيلة كافية لكشف الحقيقة بذكائه، قد ترك بين المسلمين قرون عديدة.

و سلوك هذا الطريق، و جمع القرائن و الشواهد الدالّة على صدق دعوى المدّعي، أكثر ملائمة لروح أبناء هذا العصر من التركيز على المعاجز المدوّنة في كتب الحديث، التي مضت عليها قرون. نعم، المعاجز أشدّ تأثيرا، و أسرع في جلب القلوب لمن شاهدها بأم عينيه. و لأجل ذلك كان عامة الأنبياء مجهزين بها بالنسبة إلى أبناء زمانهم.

و ممن طرق هذا الباب في القرن الثالث عشر أحد مشايخ الشيعة في مدينة إسطنبول، فقد ألف كتابه «ميزان الموازين»، و أوعز إلى هذا الطريق عند البحث عن نبوّة خاتم الأنبياء(2). و بعده الكاتب السيد محمد رشيد رضا، مؤلّف المنار، في كتابه «الوحي المحمدي»، فقد بلغ الغاية في جمع الشواهد و القرائن.

و سنسلك نحن هذا الطريق عند البحث في النبوّة الخاصة.

و في الختام نركّز على نكتة، و هي أنّ الاعتماد على الطريقين الأخيرين، لا يعني الاكتفاء بهما و رفض ما ثبت بالتواتر من المعجزات و البيّنات، بل لكل موقعه الخاص يعرفه الكاتب القدير، و الخطيب البارع، و يستفيد من كلّ حسب ما يناسبه الحال.

ص: 122


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص 290-291. حوادث السنة السادسة للهجرة.
2- طبع الكتاب عام 1288.

مباحث النبوّة العامة

(البحث الثالث) الوحي و أقسامه
اشارة

إنّ تحديد حقيقة الوحي، و تبيين ماهيته و الفرق بينه و بين سائر الإدراكات البشرية، من المواضيع الحساسة في أبحاث النبوة العامة التي لم يستوف حقها في الكتب الكلامية، فأهمل في الكثير منها، و بحث في الأخرى على وجه الإجمال.

هذا مع أنّه أساس النبوات و التكاليف و الشرائع، لأنّ الأنبياء يتلقون التعاليم السماوية من هذا الطريق، و لولاه لانقطعت أخبار السماء(1)، و صلة الأنبياء باللّه سبحانه.

و لكن لأجل اختصاص الوحي بالأنبياء، و حرمان غيرهم من الناس منه، يصعب تحديده و بيان كيفيته، و يعدّ كشف الستر عن حقيقته، تطلّعا إلى شيء ليس في اختيار الباحث، و مع ذلك كلّه، فإلقاء الضوء عليه بوجه إجمالي، ممكن ببيان الأمور التالية:

الأمر الأول - الوحي في اللغة

قال ابن فارس في المقاييس: «الوحي أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء

ص: 123


1- هذا اقتباس من قول الإمام علي عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و تجهيزه: «بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك، من النبوة و الإنباء و أخبار السماء (نهج البلاغة، الخطبة 235).

(أو غيره)(1)، إلى غيرك. فالوحي: الإشارة، و الوحي: الكتابة و الرسالة و كل ما القيته إلى غيرك حتى علمه، فهو وحي كيف كان»... إلى أن قال:

«و الوحي: السريع. و الوحى: الصوت»(2).

و قال الراغب: «أصل الوحي الإشارة السريعة، و لتضمّن السّرعة قيل «أمر وحي». و قد يكون بالكلام على سبيل الرمز و التعريض، و قد يكون بصوت مجرد عن التركيب و بإشارة ببعض الجوارح، و بالكتابة، و قد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا: فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرٰابِ فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (3)»(4)و قال ابن منظور: «الوحي: الإشارة، و الكتابة، و الرسالة، و الإلهام، و الكلام الخفي، و كل ما ألقيته إلى غيرك. و يقال: و حيث إليه الكلام، و أوحيت، و وحى وحيا، و أوحى أيضا، أي كتب»(5).

و المستنبط من هذه النصوص و غيرها ممّا أورده أهل اللغة في معاجمهم، أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء، بطريق من الطرق(6).

الأمر الثاني - الوحي في القرآن الكريم
اشارة

جاء استعمال «الوحي» في القرآن الكريم في موارد متعددة، و مختلفة، يجمعها المعنى اللغوي الكلي و هو الإعلام بخفاء، و هذا المعنى الجامع موجود في بعضها حقيقة، و في البعض الآخر مجازا و ادعاء، كما لو كان الموحى إليه جمادا أو حيوانا لا يعقل. و يظهر ذلك بالتدبر في الموارد التالية:

ص: 124


1- كذا في نسخة الأصل، و الظاهر زيادته و يحتمل أن يكون عطفا على العلم.
2- معجم مقاييس اللغة، ج 6 ص 93. الطبعة الأولى - القاهرة - 1371.
3- سورة مريم: الآية 11.
4- المفردات: ص 515.
5- لسان العرب: ج 15، ص 379.
6- لاحظ تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد، ص 56.
1 - تقدير الخلقة بالسنن و القوانين

قال سبحانه: ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ ، فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ * فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا، وَ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ حِفْظاً، ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (1).

القضاء: فصل الأمر. و ضمير: «هنّ »، يرجع إلى السماء. و بما أنّ السماء كانت دخانا، كان أمرها مبهما غير مشخص من حيث الغاية و الفعلية.

ففصّل تعالى أمرها، فجعلها سبع سماوات في يومين، و أخرجها بذلك عن الإبهام.

و أمّا قوله: وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا ، فالمراد أنّه سبحانه أودع في كل سماء السنن و الأنظمة الكونية، و قدّر عليها دوامها.

فإذا كان إيجاد السنن و النّظم في بواطن السموات و مكامنها، على وجه لا يقف عليه إلاّ المتدبر في عالم الخلقة، أشبه ذلك الإلقاء و الإعلام بخفاء بنحو لا يقف عليه إلاّ الملقى إليه، و هو الوحي. فكان هذا كافيا في استعارة لفظ الوحي إلى مثل هذا التقدير و التكوين للسنن، فقال: فأوحى في كلّ سماء أمرها.

و من هذا القسم، قوله تعالى: إِذٰا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا * وَ أَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا * وَ قٰالَ اَلْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا (2).

2 - الإدراك بالغريزة

قال سبحانه: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً، وَ مِنَ اَلشَّجَرِ، وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ ، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ

ص: 125


1- سورة فصّلت: الآيتان 11 و 12.
2- سورة الزلزلة: الآيات 1-5.

ذُلُلاً... (1) .

فكلّ الأعمال العجيبة و المدهشة التي يقوم بها النحل، في صنع بيوته بتلك الأشكال الهندسية المتقنة، و إدارتها و تدبيرها و حراستها، ثم الحركة الدءوبة في التنقل بين البساتين و الحقول، و مصّ رحيق الأزهار، و تحويلها إلى عسل، ثم إيداعها في صفائح الشهد، و غير ذلك، فإنّما يقوم به عن غريزة إلهية مودعة في مكامن خلقته، و صميم وجوده، لا يتوانى معها عن عمله و لا يختار معه عملا آخر.

و حيث إنّ هذا الإيداع للغرائز في مكامن الخلقة أشبه بالإلقاء الخفي، و تلقّي النحل له بلا شعور و إدراك، أطلق عليه سبحانه الوحي فقال: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ .

3 - الإلهام و الإلقاء في القلب

قال سبحانه: وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (2).

و حيث إنّ تفهيم أمّ موسى مصير ولدها كان بإلهام و إعلام خفي، عبّر عنه بالوحي.

و مثله قوله تعالى: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوٰارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي... (3).

و أيضا، قوله تعالى في شأن يوسف عليه السلام: وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هٰذٰا وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ (4).

ص: 126


1- سورة النحل: الآيتان 68 و 69.
2- سورة القصص: الآية 7.
3- سورة المائدة: الآية 111.
4- سورة يوسف: الآية 15.

و أيضا قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا... (1).

4 - الإشارة

قال سبحانه حكاية عن زكريا: قٰالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً ، قٰالَ آيَتُكَ أَلاّٰ تُكَلِّمَ اَلنّٰاسَ ثَلاٰثَ لَيٰالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرٰابِ فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (2).

و المعنى: أشار إليهم من دون أن يتكلم، لأمره سبحانه إيّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليال سويا، فأشبه فعله، إلقاء الكلام بخفاء، لكون الإشارة أمرا مبهما.

5 - الإلقاءات الشيطانية

قال سبحانه: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيٰاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً (3).

و قال تعالى: وَ إِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ لَيُوحُونَ إِلىٰ أَوْلِيٰائِهِمْ لِيُجٰادِلُوكُمْ .. (4).

و يعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرناه فيما سبقه.

6 - كلام اللّه تعالى المنزل على نبي من أنبيائه

قال سبحانه: كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ

ص: 127


1- سورة الأنفال: الآية 12.
2- سورة مريم: الآيتان 10 و 11.
3- سورة الأنعام: الآية 112.
4- سورة الأنعام: الآية 121.

اَلْحَكِيمُ (1) .

و قد غلب استعمال الوحي في هذا القسم، فكلما أطلق الوحي و جرّد عن القرينة يراد منه ما يلقى إلى الأنبياء من قبل اللّه تعالى.

الأمر الثالث - حقيقة الوحي في النبوّة
اشارة

إنّ الإدراكات العادية التي يحصّلها الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق التفكر و الاستدلال، هي نتاج أدوات المعرفة الحسيّة و العقلية، فإدراك المبصرات و المسموعات و غيرها، رهن إعمال الحواس. كما أنّ الوقوف على الأصول الفلسفية و العلمية، نتاج إعمال الفكر و العقل، فإنّ قولنا: «كلّ ممكن، فهو زوج تركيبي له ماهية و وجود»، أو: «إنّ كلّ معلول يحتاج إلى علة»، لم نقف عليه إلاّ بالرياضات الفكرية، و هكذا الحال في القوانين العلمية.

كما أنّ هناك إدراكات تنبع من صميم الذات و يطلق عليها الوجدانيات، أو الفطريات. كإدراك حسن الأشياء و قبحها، و إدراك الإنسان جوعه و عطشه، فإنّ الجميع من ومضات الفطرة و الغريزة، و نظير ذلك ما يبدعه الذوق من الفنون و الآداب و الرسوم و الأعمال اليدويّة الظريفة، فإنّها كلّها من وحي الذوق و الغريزة إذا وقعت في إطار التربية و التوجيه.

و بالجملة، فإنّ كلّ ما يدركه الإنسان، نتاج أدوات المعرفة بأشكالها المختلفة، حسيّة كانت أو عقلية أو وجدانية.

و أمّا الوحي الذي يختص به الأنبياء، فإنّه إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات، فإنّه ليس نتاج الحسّ و لا العقل و لا الغريزة، و إنّما هو شعور خاص، لا نعرف حقيقته، يوجده اللّه سبحانه في الأنبياء. و هو شعور يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة، لا يغلط معه النبي في إدراكه، و لا يشتبه، و لا يختلجه شك و لا يعترضه ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو اللّه

ص: 128


1- سورة الشورى: الآية 3.

سبحانه، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر، أو التماس دليل، أو إقامة حجة، و لو افتقر إلى شيء من ذلك، لكان اكتسابا عن طريق القوة النظرية، لا تلقيا من الغيب، من غير توسيط القوة الفكرية.

قال سبحانه: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ (1).

فهذه الآية تشير إلى أنّ الذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي الشريفة (قلبك)، من غير مشاركة الحواس الظاهرة، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية. فالنبي يرى و يسمع حينما يوحى إليه، من غير أن يستعمل حاسّتي البصر و السمع.

قال سبحانه: وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنَا: اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هٰذٰا أَوْ بَدِّلْهُ . قُلْ : مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ ، إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ : لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (2).

فالأنبياء كلّهم يسندون تعاليمهم و تنبؤاتهم إلى هذا النوع من الإدراك، الذي لا مصدر له إلاّ عالم الغيب، و خالق الكون، و مثل هذا لا يمكن أن يدرك كنهه، بل يجب الإيمان به كما هو شأن كلّ أمر غيبي لا يحيط الإنسان المادي بحقيقته، و إنّما يذعن به عن طريق المخبر الصادق. قال سبحانه: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ (3).

و على هذا، فالوحي حصيلة الاتصال بعالم الغيب، و لا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة و لا بالأصول التي تجهّز بها العلم الحديث. و لما كان العالم الماديّ غير مذعن بعالم الغيب، و يرى أنّ الوجود مساوق للمادة و الطاقة، فيشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الذي لا صلة له بعالم المادة و أصوله.

ص: 129


1- سورة الشعراء: الآية 193 و 194.
2- سورة يونس: الآيتان 15 و 16.
3- سورة البقرة: الآية 3.

قال الشيخ محمد عبده، معرضا بأولئك المنكرين للوحي:

«إنّ انكشاف ما غاب من مصالح البشر عن عامتهم، لمن يختصه اللّه بذلك، لا أراه مما يصعب إدراكه، إلاّ على من يريد أن لا يدرك، و يحبّ أن يرغم نفسه الفهّامة على أن لا تفهم. نعم، يوجد في كلّ أمة و في كل زمان أناس يقذف بهم الطيش، و النقص في العلم، إلى ما وراء سواحل اليقين، فيسقطون في غمرات من الشك في كل ما لم يقع تحت حواسهم الخمس، بل يدركهم الريب فيما هو من متناولها، فكأنّهم بسقطتهم هذه انحطوا إلى ما هو أدنى من مراتب أنواع أخرى من الحيوان، فينسون النقل و شئونه، و يجدون في ذلك لذّة الإطلاق عن قيود الأوامر و النواهي. فإذا عرض عليهم شيء من الكلام في النبوات و الأديان، و هم من أنفسهم هامّ بالإصغاء، دافعوه بما أوتوا من الاختيار في النظر، و انصرفوا عنه، و جعلوا أصابعهم في آذانهم، حذر أن يخالط الدليل أذهانهم، فيلزمهم العقيدة، و تتبعها الشريعة، فيحرموا لذّة ما ذاقوا، أو ما يحبون أن يتذوقوا، و هو مرض في الأنفس و القلوب يستشفى منه بالعلم إنشاء اللّه».

ثم أضاف: «قلت: أي استحالة في الوحي، و أن ينكشف لفلان ما لا ينكشف لغيره، من غير فكر و لا ترتيب مقدمات، مع العلم أنّ ذلك من قبل واهب الفكر و مانح النظر، حتى حفّت العناية من ميّزته هذه النعمة.

فما شهدت به البديهة، أن درجات العقول متفاوتة، يعلو بعضها بعضا، و أنّ الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلاّ على وجه من الإجمال، و أنّ ذلك ليس لتفاوت المراتب في التعليم، بل لا بدّ معه من التفاوت في الفطر التي لا تدخل فيها، لاختيار الإنسان و كسبه.

فمن ضعف العقول، و النكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها، أن لا يسلم بأنّ من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى و تنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا، و تشهد من أمر اللّه شهود العيان، ما لم يصل غيرها إلى تعقّله أو تحسسه بعصا الدليل و البرهان، و تتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحا

ص: 130

على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعليم. ثمّ تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ما علمت، و دعوة الناس إلى ما حملت على إبلاغه إليهم، و أن يكون ذلك سنّة اللّه في كلّ أمّة و في كل زمان حسب الحاجة، يظهر برحمته من يختصه بعنايته، ليفي للاجتماع بما يضطرّ إليه من مصلحته، إلى أن يبلغ النوع الإنساني أشدّه و تكون الأعلام التي نصبها لهدايته إلى سعادته، كافية في إرشاده، فتختم الرسالة، و يغلق باب النبوة»(1).

ثم إنّ هؤلاء الذين اتّخذوا لأنفسهم موقفا مسبقا في سعة الوجود و ضيقه، و سعة أدوات المعرفة و ضيقها، فعجزوا عن إدراك الوحي كنوع متميز عن الإدراكات البشرية، حاولوا تحليله بأصول مادية حتى يسهل عليهم تصديق الأنبياء و عدم اتّهامهم بتعمد الكذب. فمالوا يمينا و شمالا في بيان حقيقته: فتارة يرون الوحي نوعا من النبوغ الخاص بالأنبياء، و أخرى نتيجة ظهور الشخصية الباطنية للرسول، فتلهمه بما ينفعه و ينفع قومه. و نحن فيما يلي نتعرض إلى هاتين النظريتين و نحللهما الواحدة بعد الأخرى، ثم نعرّج على بيان نظرية الفلاسفة في حقيقة الوحي:

النظرية الأولى - الوحي نتيجة النّبوغ
اشارة

إنّ هناك أناسا يفسرون النبوات و الرسالات و نزول الوحي على العباد الصالحين بنحو يجمع بين تصديق الأنبياء من جانب، و الأصول العلمية الحديثة المادية من جانب آخر. و من هذا الباب تفسير بعضهم النبوة بالنبوغ، و الوحي - الذي هو المصدر الوحيد للتسنين و التشريع - بلمعات ذاك النبوغ.

و حاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد الإنسان المتحضر، أشخاص يملكون فطرة سليمة، و عقولا مشرقة، تهديهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع و سعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع، و عمران الدنيا. و الإنسان

ص: 131


1- رسالة التوحيد. ص 109-111.

الصالح الذي يتميز بهذا النوع من النبوغ، هو النبي. و الفكر الصالح المترشح من مكامن عقله و ومضات نبوغه هو الوحي. و القوانين التي يسنّها لصلاح الاجتماع هي الدين. و الروح الأمين (جبرائيل)، هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه. و الكتاب السماوي، هو كتابه الذي يتضمن سننه و قوانينه. و الملائكة التي تؤيّده في حلّه و ترحاله، هي القوى الطبيعية. و الشيطان الذي يقاومه و يقاوم أتباعه هو النفس الأمّارة بالسّوء، أو سائر القوى الحيوانية الداعية إلى الشرّ و الفساد. و مع ذلك كلّه، فاللّه سبحانه من وراء الجميع.

تحليل نظرية النبوغ

إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيرا جديدا، و إن صيغ في قالب علمي جديد، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون يحسّون بجذبات القرآن و بلاغته الخلابة، فينسبونه إلى الشعر الذي كان الحرفة الرائجة عندهم، و يتبارز فيه النوابغ منهم، فكانوا يقولون: بَلْ هُوَ شٰاعِرٌ فَلْيَأْتِنٰا بِآيَةٍ كَمٰا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ (1).

و يرد عليهم القرآن الكريم بقوله: وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ (2).

و بقوله: وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ ، إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (3).

و مع ذلك يلاحظ عليه:

أولا: إنّ العودة إلى هذه النظرية ينبع من الإحساس بالصّغار أمام الحضارة المادية المدهشة، المقترنة بأنواع الاكتشافات و الاختراعات في مجال

ص: 132


1- سورة الأنبياء: الآية 5.
2- سورة الحاقة: الآية 41.
3- سورة يس: الآية 69.

الطبيعة، و القائلون بها جماعة من متجددي المسلمين، انسحبوا أمام هذه الحضارة ناسين شخصيتهم الإسلامية، فلجئوا إلى تفسير عالم الغيب و النبوة و الدين و الوحي بتفسيرات ملائمة للأصول المادية، حتى يجبروا مركّب النقص في أنفسهم من هذه الزاوية، و يصيحوا على رءوس الأشهاد بأنّ أصول الدين لا تخالف الأصول العلمية الحديثة.

و لو صحّت هذه النظرية، لم يبق من الاعتقاد بالغيب إلاّ شيء واحد، و هو الاعتقاد بوجود الخالق البارئ، و أمّا ما سوى ذلك، فكلّه بأجمعه نتاج الفكر الإنساني الخاطئ و بالنتيجة، لا يبقى إذعان بشيء مما أتى به الأنبياء من الأصول و المعارف في الدنيا و الآخرة. و هذا في الواقع نوع إنكار للدين، لكن بصورة لا تخدش العواطف الدينية.

و ثانيا: إنّ قسما مما يقع به الوحي و يخبر به النبي، الإنباء عن الحوادث المستقبلية، إنباء لا يخطئ تحققه أبدا.

أ فترى هل يجرؤ نابغة من نوابغ المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعا بعد أيام ثلاثة، و يقول: تَمَتَّعُوا فِي دٰارِكُمْ ثَلاٰثَةَ أَيّٰامٍ ، ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (1).

أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في مدة لا تزيد على تسع سنين و يقول:

الم * غُلِبَتِ اَلرُّومُ * فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ... (2) .

إنّ النوابغ و إن سموا في الذكاء و الفطنة، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية إلاّ مع الاحتياط و الترديد، لا بالقطع و اليقين و أمّا رجالات السياسة، اللاعبين بحبلها لمصالحهم الشخصية، سواء صدقت تنبؤاتهم أم كذبت، فإنّ حسابهم غير حساب النوابغ.

ص: 133


1- سورة هود: الآية 65.
2- سورة الروم: الآيات 1-4. و البضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.

و ثالثا: لو كان لهذه النظرية مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فما لنا لا نرى حملة الوحي و مدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك، بل نراهم على العكس، ينسبون تعاليمهم و سننهم إلى اللّه سبحانه، و لا يدّعون لأنفسهم شيئا.

هذا هو القرآن الكريم - الذي جاء به النبي الخاتم - يصرّح بأنّ ما حوى من الحقائق و القوانين، ممّا أوحى به اللّه سبحانه، و ليس هو من تلقاء نفسه:

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ (1) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (2) .

و لا يشك أحد في أنّ الأنبياء عباد صالحون، صادقون لا يكذبون و لا يفترون، فلو كانت السنن التي أتوا بها من وحي أفكارهم، فلما ذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى اللّه تعالى. فهذه النسبة، إن دلّت على شيء، فإنّما تدلّ على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراك هذه السنن و المعارف، إدارك وراء الشعور الفكري المشترك بين جميع أفراد الإنسان، و أنّ الطريق الذي يصلون به إليها، غير طرق الإدراك المألوفة و بكلمة جامعة، إنّا نرى في المجتمع الإنساني طائفتين من رجال الإصلاح و الصلاح، كلّ يدّعي سوق المجتمع إلى السعادة:

طائفة - و لهم جذور عريقة في التاريخ - ينسبون تعاليمهم و سننهم إلى عالم الغيب، و يثبتون لأنفسهم مقام الرسالة و السفارة و أنّهم ليس لهم شأن سوى كونهم وسائط لإبلاغ أمر اللّه و نهيه.

و طائفة أخرى - مع اتّصافهم بالصلاح و السداد و السعي وراء الصالح العام - ينسبون تعاليمهم إلى قرائحهم و بدائع أفكارهم، و يعلّلون مباديهم ببراهين اجتماعية أو تاريخيّة أو عقلية، و لا يتجاوزون هذا الحدّ قدر شعرة.

ص: 134


1- سورة الأنعام: الآية 50.
2- سورة النجم: الآية 4.

فلو كانت الطائفتان صادرتين عن أصل واحد، و تستقيان من عين واحدة، فلما ذا لم تدّع ثانيتهما ما ادعته الأولى ؟.

ثم إنّ علماء النفس الذين بحثوا عن النبوغ، ذكروا لبروزه و تفجّره في الإنسان عوامل، هي:

1 - العشق.

2 - انهضام الحقوق.

3 - العزلة.

4 - كثرة السكوت.

5 - التربية و التوجيه الأوّلي الذي يتلقّاه الإنسان في صغره.

فإنّ هذه العوامل توجد في الإنسان استغراقا في نفسه، و توقّدا في أفكاره، و تميّزا في فطنته و ذكائه. و لكن تفسير النبوات و الرسالات، و القوانين و الشرائع التي جاء بها الأنبياء بهذا الطريق، أشبه بتفسير علّة تفجر البركان و ثورانه، بسقوط طائر على فوهته.

هذا، و لو كانت شريعة النبي الخاتم صلى اللّه عليه و آله، و الكتاب المجيد الذي جاء به، و ليدي النبوغ و العبقرية، فلما ذا عجز عن مقابلته و مقارعته، النوابغ و العباقرة طرّا في جميع القرون إلى عصرنا هذا، كما سيوافيك تفصيله في النبوة الخاصة ؟.

النظرية الثانية - الوحي النفسي
اشارة

إنّ تفسير الوحي بصورة الوحي النفسي، منشؤه قساوسة المسيحيين الذين لا هدف لهم إلاّ تفنيد رسالة النبي الخاتم، و تخطئتها، فتشبث هؤلاء بكل وجه خادع، يوهم في ظاهره الملائمة لروح العصر و آخر ما توصلت إليه الحضارة من النظريات الفكرية، و الإبداعات العلمية، ثم طبقوه بعبارات و قوالب متجددة على حياة النبي الأكرم، و الوحي المنزل عليه.

ص: 135

و إرجاع الوحي الإلهي إلى الوحي النفسي هو الجامع بين النظريتين المتقاربتين التاليتين اللتين طرحتا في زماننا هذا..

الأولى - الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية
اشارة

هذه النظرية مأثورة عن المستشرق «مونتييه» و فصّلها «إميل درمنغام»، و حاصلها أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج. و ذاك أنّ منازع نفسه العالية، و سريرته الطاهرة، و قوة إيمانه باللّه و بوجوب عبادته، و ترك ما سواها من عبادة وثنية، و تقاليد وراثية رديئة، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، و يحدث في عقله الباطن، الرؤى و الأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه، إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة. أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، و قد يسمعه يقول ذلك و لكنه إنّما يرى و يسمع ما يعتقده في اليقظة، كما يرى و يسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي، عند جميع الأنبياء. فكلّ ما يخبر به النبي أنّه كلام القي في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده.

و يقول أصحاب هذه النظرية: لا نشك في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأوا و سمعوا، و إنّما نقول إنّ منبع ذلك من نفسه و ليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنّه وراء عالم المادة و الطبيعة(1).

و يقولون في نفس النبي الأكرم إنّه توصّل إلى الوحي بالانقطاع إلى عبادة اللّه تعالى و التوجه إليه في خلوته بغار حراء، و قوي هنالك إيمانه، و سما وجدانه، فاتّسع محيط تفكّره، و تضاعف نور بصيرته، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات في ملكوت السموات و الأرض، الدالّة على وحدانية مبدع الوجود، و سرّ النظام الساري في كل موجود، بما صار به أهلا لهداية الناس و إخراجهم من الظلمات إلى النور، و ما زال يفكّر و يتأمل، و ينفعل و يتململ، و يتقلّب بين الآلام و الآمال، حتى أيقن أنّه النبي المنتظر الذي يبعثه اللّه لهداية البشر. فتجلّى

ص: 136


1- لاحظ الوحي المحمدي، صفحة 66، الطبعة السادسة، 1960 م.

له هذا الاعتقاد في الرؤى المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثّل له الملك، يلقّنه الوحي في اليقظة.

و أمّا المعلومات التي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك الينابيع التي ذكرناها، و مما هداه إليه عقله و تفكّره في التمييز بين ما يصحّ منها و ما لا يصحّ ، و لكنها كانت تتجلّى له نازلة من السماء، و أنّها خطاب الخالق عزّ و جلّ ، بواسطة الناموس الأكبر و ملك الوحي، جبرئيل روح القدس(1).

و بكلمة أدقّ : إنّ معلوماته و أفكاره و آماله، ولّدت له إلهاما، فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية، على مخيّلته السامية؛ و انعكس اعتقاده على بصره: فرأى الملك ماثلا له، و على سمعه: فوعى ما حدّثه الملك به(2).

تحليل هذه النظرية
أ - نبوّة أو أضغاث أحلام

هذه النظرية التي جاء بها بعض الغربيين، و إن كانت تنطلي على السذج من الناس و تأخذ بينهم رونقا، إلاّ أنّ رجال التحقيق يدركون تماما أنّها ليست بشيء جديد قابل للذكر، و إن هي إلاّ تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوة و الوحي، غير أنّ الغربي أخذ يديف السم في الدسم، و يعرض ما أكل الدهر عليه و شرب، بصورة نظرية حديثة برّاقة تتمحور في أنّ رجال الوحي أناس مخبّطون، استغرقوا في التفكير في أمنياتهم عقودا من الدهر حتى رأوها ماثلة في خيالهم و أمام حسّهم.

إنّ الذكر الحكيم ينقل لنا أنّ من جملة مقالات العرب و افتراءاتهم على النبي الأكرم، و صم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة التي كانت تراود خاطره، ثم تتجلى على لسانه و بصره.

ص: 137


1- المصدر السابق، ص 90.
2- المصدر السابق، ص 35.

قال تعالى: بَلْ قٰالُوا أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ (1) أي قالوا: إنّ النبي ليس مختارا فيما جاء به من الكتاب، و شرّعه من الأحكام، و إنّما هو وحي الأحلام، و طوارق الرؤى تجري على لسانه.

و قد ردّ تعالى مزعمتهم هذه في موضع آخر من كتابه - من دون أن يذكر تهمتهم - بقوله: وَ اَلنَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ * مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ * وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوىٰ * وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلىٰ * ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى * فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ * فَأَوْحىٰ إِلىٰ عَبْدِهِ مٰا أَوْحىٰ * مٰا كَذَبَ اَلْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ * أَ فَتُمٰارُونَهُ عَلىٰ مٰا يَرىٰ * وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ * عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ * إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ * مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ * لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىٰ (2).

فهذه الآيات تركّز على صدق الوحي، و كونه أمرا واقعيا مفاضا من اللّه سبحانه. و أنت إذا لاحظت منها الآيتين التاليتين، يتجلى لك بوضوح حقيقة ذلك.

أ - قوله: مٰا كَذَبَ اَلْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ .

و المعنى لم يكذّب فؤاد محمد ما أدركه بصره، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة، و إدراكا على الحقيقة.

و هذا، سواء قرء «كذب» بالتشديد، فالموصول مفعوله، أو قرء بالتخفيف، كما هو القراءة المعروفة، فهو يتعدى إلى مفعول، قال الشاعر:

ص: 138


1- سورة الأنبياء: الآية 5.
2- سورة النجم: الآيات 1-18. و المراد من «شديد القوى» هو ملك الوحي و الضميران في «فاستوى» و «و هو بالأفق الأعلى»، يرجعان إلى شديد القوى و كذلك الضمير في قوله: «أوحى»، و أمّا الضمير في عبده فيرجع إلى اللّه سبحانه. و قد اشتبه الأمر على كثير من المفسّرين في تفسير هذه الآيات فزعموا أنّ النبي رأى اللّه سبحانه و تعالى.

كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظّلام من الرباب خيالا

و على كل تقدير، فالآية بصدد بيان أنّه لم يكن هناك اختلاف بين تصديق القلب و رؤية العين، فإذا صدّق القلب، تكون الرؤية حقيقة.

ب - قوله: مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ .

أي ما زاغ بصر محمد و ما طغى. و هو كناية عن صحة رؤيته و أنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية، و لا أبصر ما لا حقيقة له. بل أبصر غير خاطئ في إبصاره.

و الآيتان بصدد بيان مصونية قلبه و بصره عن الخطأ، في مقام الأخذ و التلقّي، و لا تتم الصيانة إلاّ بمصونية كل جوارحه إذا كانت في خدمة الوحي.

فهو صلى اللّه عليه و آله يبصر بعينه، و يسمع بأذنه، و يدرك بقلبه الأشياء و الحقائق على ما هي عليه من دون خطأ.

ب - نبوّة أو جنون

و لك أن تقول، إنّ مقالة هؤلاء المتجددين، ليست بعيدة و لا غريبة عن اتّهام الأنبياء بالجنون الذي هو في حقيقته مرتبة عالية و شديدة من تجلّي النزعات الخيالية. هذه التهمة التي افتراها العرب على النبي الخاتم، كما في قوله تعالى:

وَ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (1) . و أشار إليها القرآن في موارد عديدة أخرى(2)، و افتراها أعداء الأنبياء المتقدمين عليهم، كما يقول تعالى: كَذٰلِكَ مٰا أَتَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ قٰالُوا سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَ تَوٰاصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ (3)، ثم افتراها هؤلاء القساوسة و المستشرقون

ص: 139


1- سورة الحجر: الآية 6.
2- قد جاءت هذه الفرية في المواضع التالية من الذكر الحكيم: سورة سبأ: الآية 8، سورة الصافات: الآية 36. سورة الدخان: الآية 14. سورة الطور: الآية 29. سورة القلم: الآية 2. سورة التكوير: الآية 82.
3- سورة الذاريات: الآيتان 52 و 53.

بصياغة أدبية و قوالب علمية، تحت اسم «تجلّي الأحوال الروحية». و المغزى و الجوهر واحد.

سبحانك يا رب، ما أعظم جناية الإنسان على أوليائك و الصالحين من عبادك، البالغين القمة في العقل و الدراية و الفكر و الحكمة، حتى و سمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبط و أخرى بالجنون.

الثانية - الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنة
اشارة

و قد أسهب الأستاذ فريد وجدي الكلام فيها في موسوعته، نأتي منه بما يكفي في بيان المراد منها:

كان الغربيون إلى القرن السادس عشر - كجميع الأمم المتدينة - يقولون بالوحي، لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء. فلما جاء العلم الجديد بشكوكه و مادياته، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة، و غالت حتى أنكرت الخالق و الروح معا. و علّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاق من المتنبئة أنفسهم لجذب الناس إليهم و تسخيرهم لمشيئتهم، و إمّا هذيان مرضي يعتري بعض العصبيين، فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحا تكلّمهم، و هم لا يرون في الواقع شيئا.

و قد راج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي.

و ظلّ الأمر على هذا المنوال حتى العام 1846 عند ما ظهرت في أمريكا آية الأرواح و سرت منها إلى أوروبا كلها، و أثبت الناس بدليل محسوس وجود عالم روحانى آهل بالعقول الكبيرة و الأفكار الثاقبة، فتغير وجه النظر في المسائل الروحانية، و أحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة، و أعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر، لا على أسلوب التقليد الديني، و لا من طريق الضرب في مهامه الخيالات.

فقد تألّفت في لندرة سنة 1882 جمعية دعيت باسم «جمعية المباحث النفسية»، برئاسة السير «جويك» المدرس في جامعة كمبريدج، و هو من أكبر

ص: 140

العقول في انكلترا، و عضوية السير «أوليقرلودج» الملقب ب «داروين علم الطبيعة» - أي أنّه لعالم الطبيعة، كداروين للتاريخ الطبيعي - مع عدّة من الأساتذة المتخصصين في صنوف العلوم الطبيعية و الرياضية و الفلكية. و كان الغرض من هذه الجمعية البت في المسألة الروحية، و تحقيق حوادثها بأسلوب النقد الصارم، و الحكم بقبولها نهائيا في العلم إن كانت حقيقة، أو تقرير إبعادها عن العلم و الفلسفة إن كانت من الأمور الوهمية.

و في خلال مدّة تربو على خمس و أربعين سنة، حققت هذه الجمعية ألوفا من الحوادث الروحية، و عملت من التجارب في النفس و قواها ما لا يكاد يدرك، لو لا أنّه مدوّن في محاضر تلك الجمعية في نحو خمسين مجلدا ضخما، فكان من ثمرات جهادها:

1 - إثبات شخصية ثانية للإنسان أي إنّنا أحياء مدركون في حياتنا الحاضرة، لا بكل قوى الروح التي فينا، بل بجزء من تلك القوى، سمحت لنا بها حواسنا الخمس القاصرة. و لكن لنا فوق ما تعطيه لنا حواسنا هذه، حياة أرقى من هذه الحياة، لا تظهر بشيء من جلالها إلاّ إذا تعطّلت فينا هذه الشخصية العادية بالنوم العادي، أو بالنوم المغناطيسي.

و قد جرّبوا ذلك على المنوّمين تنويما مغناطيسيا، فوجدوا أنّ النائم يظهر بمظهر من الحياة الروحية و العلم، لا يكون له و هو يقظان، فيعلم الغيب، و يخبر عن البعيدين، يبصر و يسمع و يحسّ بغير حواسه الجسمية و يكون - و هو على تلك الحالة - على جانب كبير من التعقّل و الإدراك.

قالوا: و تكون هذه حالة الإنسان في نومه العادي. و الدليل على ذلك، ما يأتيه المصابون بمرض الانتقال النومي من الأفعال المعجزة، و المدارك السامية.

2 - ثبت لديهم وجود شخصية راقية للإنسان وراء شخصيته العادية.

و علموا أنّها هي التي كوّنت جسمه في الرحم. و هي التي تحرّك جميع أعضائه التي ليست تحت حكم إرادته، كالكبد، و القلب، و المعدة، و غيرها... فهو إنسان بها، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة.

ص: 141

قالوا: و هي التي تهديه بالخواطر الجيّدة من خلال حجبه الجسمية الكثيفة، و هي التي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة. و هي التي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحيا من اللّه، و قد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء.

قالوا: و هذه الشخصية الباطنة أصبحت مدركة بالحسّ ، فإنّ ظهور النائم نوما مغناطيسيا، بهذا المظهر من العقل الراجح، و الفكر الثاقب، و النظر البعيد، و اكتشافه لخفايا الأمور، و جولانه في الأقطار البعيدة، بينما يكون هو جاهلا غبيا في حالاته العادية، أدلّ دليل على أنّ للإنسان شخصية تحجبها هذه الحياة الجسدية، و لا تظهر إلاّ إذا وقع جسمه في نوم طبيعي أو صناعي.

و هناك أمور أخرى تدلّ بالحس على وجود تلك الشخصية، درستها الجمعية و حققت تجارب الذين درسوها:

فقد كتب الأستاذ الدكتور «ميرس»، فصولا ضافية في التنويم المغناطيسي، و العبقرية، و الوحي، و الشخصية الباطنة، فذكر الحاسبين على البديهية، و هم طائفة من الناس، تلقى عليهم أعوص المسائل الرياضية التي تحتاج إلى زمن طويل في الحساب و العمل، فيجيبون عليها على الفور، و هم لا يدرون كيف وجد هذا الحلّ في نفوسهم. و هذا الأمر يثبت وجود الشخصية الباطنة بدليل محسوس، لأنّ الجواب الصحيح عن المسائل الرياضية العويصة، إن لم تأت به هذه الشخصية العادية، فلا بدّ أن تكون ثمرة قوى باطنة أخرى لا تنكشف للإنسان إلاّ بآثارها هذه.

و حكى العلامة «ميرس» قول العالم الفرنسي «ترودم»: «حدث لي في بعض الأحايين أنّي كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية القيت إليّ منذ سنة، و ذلك من دون أن أعيرها أقل التفات. لعلّه يقال في تعليل ذلك إنّ المعلومات المختزنة في عقلي من مطالعاتي قد نضجت من نفسها، و ولّدت في عقلي البراهين عليها، من نفسها أيضا».

و قال «ميرس»: لقد كتب الشاعر المشهور «موسيه» عن نفسه يقول:

ص: 142

«أنا لا أعمل شيئا، بل أسمع، فأنقل، فكأنّ إنسانا مجهولا يناجيني في أذني»!!.

هذه خلاصة هذه النظرية و تاريخ نشأتها(1) و يمكن تحريرها بكلمتين:

الأولى: إنّ الشخصية الظاهرية العادية للإنسان، أسيرة قواه الظاهرية (الحواس الخمس).

الثانية: إنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلى، و تظهر آثارها، إذا تعطّلت القوى الظاهرية، و تخدّرت فعاليتها، كما في حالات النوم العادي أو المغناطيسي.

ثم بلحاظ هاتين النكتتين، يفسّر الوحي في الأنبياء، فإنّ كل ما يحدثون به من التعاليم و الإخبارات ليس إلاّ إفاضات شخصياتهم الباطنة و إيحاءاتها عند تعطّل قواهم الظاهرية.

تحليل نظرية الشخصية الباطنة
اشارة

إنّ هذا التفسير للوحي - الناتج عن الغرور العلمي و حصر جميع ما في الكون ضمن إطار الأصول التجريبية - فاشل من جهات شتّى:

الجهة الأولى:

إنّ الفرضية التي جاءت بها هذه النظرية - لو سلّمت - ليست دليلا و لا برهانا على كون خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية الباطنة و تجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية. بل قد تكون هذه الفرضية صحيحة، و مع ذلك يكون للوحي في الأنبياء عاملا إلهيا، يفيض تلك المعارف و الأصول و الإنباءات الغيبية إلى عقول الأنبياء و قلوبهم فيعرّفونها للبشر.

الجهة الثانية:

إنّ الذي تفيده هذه النظرية، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلّى و تجد مجالا للظهور بآثارها المختلفة، عند تعطّل القوى

ص: 143


1- لاحظ فيما نقلناه، دائرة معارف القرن الرابع عشر، ج 10، ص 712-716.

الظاهرية، فلذا يقوى ظهورها في المرضى و السكارى و النائمين و المرهقين و تبقى مندثرة و مغمورة في طوايا النفس عند ما تكون القوى الظاهرية و الحواس البشرية في حالة الفعالية و الجدّ و السعي.

هذا، و إنّ المعلوم من حالات الأنبياء عليهم السلام أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنبّههم و اشتغالهم بالأمور السياسية و الدفاعية و التبليغية، فكيف يكون ما تجلّى للنبي و هو يخوض غمار الحرب، تجليا للشخصية الباطنة، و الضمير المخفي، أو ما شئت فعبّر، ممّا لا يرى النور، إلاّ في حالات الغفلة و الغيبوبة و ما شابه ذلك، كما يصرّح به هؤلاء؟.

و أين الأنبياء من الخمول و الانعزال عن المجتمع، و هم أولو الجهاد، و الصبر و الثبات في مواجهة الأعداء و تبليغ رسالاتهم السماوية ؟.

فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان تفسير الوحي بما ذكروه.

الجهة الثالثة:

لا شكّ أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك المعلومات التي تفيضها في حالات تعطّل الحواس، من ذاتها و صميمها من دون أن تتلقى شيئا من خارجها. و إن دعوى ذلك، باطل، لا قيمة له في سوق العلوم النفسية. فإنّ الذي توصّل إليه علماء النفس قبل «فرويد» و بعده، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان تحفظ فيها المعارف التي تردّها عبر القوى و الشخصية الظاهرية، و ذلك عند ما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها و تفكرها، فتنسحب تلك الأفكار و المعارف إلى أعماق ضميره و شخصيته الباطنة، فتكمن في زواياها، و تختبئ بين طواياها، متحيّنة فرصة تعطيل الشخصية الظاهرية، حتى تنبعث من مكامنها، و تجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه و لا ميل، كما عرفت في حالات التنويم المغناطيسي، و كما يقع غالبا في حالات السهو و الغفلة، من تلفّظ الإنسان بما لا يرغب، أو يتحاشى إظهاره ممّا أضمره في نفسه، و لا يظهره قطعا عند التفاته و انتباهه. و في هذا المجال يقول علي عليه السلام: «ما أضمر أحد شيئا إلاّ ظهر في فلتات لسانه و صفحات وجهه»(1).

ص: 144


1- نهج البلاغة باب قصار الحكم، الحكمة 26.

و على ما ذكرنا يمتنع أن تكون تلك المعارف العليا، و الشرائع و القوانين الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء، نتاج الشخصية الباطنة، و الضمير المخفي و كيف يكون ذلك، و المصدر الوحيد للمعارف الموجودة في الضمير المخفي هو الشخصية الظاهرية و ما تأخذه الحواس من خارج الذهن و المحيط و البيئة.

و المحيط الذي عاش فيه الأنبياء، و ترعرعوا في أحضانه، في واد آخر من هذه المعارف و الشرائع، لم يسمع و لم يخبر بها.

فلا يبقى بالنتيجة إلاّ أن يكون لها مصدر و منبع آخر، غير ما يدعون.

إنّ هذه المعلومات التي يعطيها هؤلاء المحلّلون لمسألة الوحي، قليلة المواد، ضيقة النطاق عن أن تكون مصدرا لوحي مثل القرآن الكريم. فإنّ ما جاء في هذا الكتاب من الأحكام و المعارف العليا لا يمكن أن تكون مستمدة من الوحي بهذا المعنى.

و أنّى يكون ليتيم فقير، نشأ بين الأميين، ليس عنده كتاب يرشده، و لا أستاذ ينبّهه، و لا عضد إذا عزم يؤيده، أن يأتي و لو بمعشار ما في هذا الكتاب من السنن و النظم و المعارف و العقائد. فلا يبقى إلاّ القول بأنّه فائض من نور اللّه الأعظم على رسوله و خاتم أنبيائه محمد صلى اللّه عليه و آله، كما يقول البوصيري:

اللّه أكبر إنّ دين محمد *** و كتابه أقوى و أقوم قيلا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده *** طلع الصباح فاطفأ القنديلا(1)

ص: 145


1- في الختام نعاتب الأستاذ فريد وجدي بما أنّه رجل موحّد مؤمن بعوالم الغيب و رسالة السماء إلى الأرض، التي تلقّاها الأنبياء عن طريق الوحي، نعاتبه كيف نقل هذه النظرية الساقطة حول الوحي بإسهاب، و أوضحها، و لم يعلّق عليها شيئا، و كأنّه بها راض، و لها متبنّ !!. و هذا الذي وقع منه، ربما يؤيد ما ذكره مصطفى صبري، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، من أنّ الأستاذ المذكور كان منكرا لمعجزات الأنبياء، و مضيفا إليه عند النقاش إنكار البعث بعد الموت، و قد نقل عنه هذه العبارات: «ولد العلم الحديث، و ما زال يجاهد القوى التي كانت تساوره، فتغلب عليها، و دالت الدولة إليه في الأرض، فنظر نظرة في الأديان و سرى عليها أسلوبه، فقذف بها جملة في عالم الميتولوجيا (أي الأساطير). ثم بحث في اشتقاق بعضها عن بعض، و اتّصال أساطيرها بعضها ببعض، فجعل
الثالثة - نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي
اشارة

سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام، في تحليل الوحي، مسلكا خاصّا لا يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة، و تبتني نظريتهم على أصول لا مجال لذكرها هنا، و إنّما نأتي بمجمل معتقدهم و نبيّنه في أمور:

الأول: قد أثبتوا بفضل قاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد(1)، إنّ الصادر الأول من الواجب سبحانه شيء واحد و هو العقل الأول، ثم أفاض الوجود، فأوجد العقل الثاني، ثم أوجد الثاني الثالث إلى أن انتهى الفيض بإيجاد العقل العاشر، و هو المسمى عندهم بالعقل الفعّال. و ليست العقول عندهم منحصرة على وجه القطع بالعشرة، بل لم يجدوا دليلا على أزيد منها(2).

ص: 146


1- المراد قاعدة: «لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد»، و عكسها: «لا يصدر الواحد، إلاّ من الواحد». و قد برهنوا عليها ببرهان فلسفي، لا ينافي صدور ما في الكون جليله و دقيقه من اللّه سبحانه على نحو ترتب الأسباب و المسببات.
2- لأنّ طريق الاستكشاف هو الأفلاك التسعة المحسوسة الكاشفة عن النفوس التسع و العقول العشرة، و من أراد التفصيل فليرجع إلى محله.

الثاني: إنّ ما يقوم به العقل العاشر من الفعل و الإفاضة، هو تكميل النفوس الإنسانية أوّلا، و إفاضة الصور الجوهرية على عالم المادة ثانيا.

فالمخرج للنفوس الإنسانية من القوة إلى الكمال، و مفيض المعارف على قلوب الأولياء، و الصور الحيوانية و الشجرية و المعدنية على المادة الأولى، هو العقل الفعّال، بإذنه سبحانه.

الثالث: إنّ الإنسان مجهز بالحواس الظاهرية الخمس المعروفة، كما هو مجهز بحواس باطنية خمس، هي:

1 - الحس المشترك: و هو القوة المدركة لما يرد العقل عبر الحواس الخمس الظاهرية.

2 - الخيال: و هو مخزن الصور المحسوسة المأخوذة من الحسّ المشترك.

3 - الواهمة: و هي القوّة المدركة للمعاني الجزئية، كالعداوة و الصداقة.

4 - الحافظة: و هي مخزن المعاني الجزئية المرسلة من الواهمة.

5 - العاقلة: و هي القوّة المدركة للمفاهيم الكلية و الحقائق المطلقة عن المادة و آثارها، و لها شئون أخرى، كتركيب الأقيسة و الأدلة و غير ذلك.

الرابع: إنّ النفوس الضعيفة غير الكاملة، أسيرة القوى الباطنة في مدارجها المختلفة، من القوّة العاقلة إلى الحسّ المشترك، و منه إليها.

و أمّا النفوس القوية الصافية، فإنّ بإمكانها الخروج عن هذا الإطار و الاتصال بالعقل الفعّال، اتصالا روحانيا معنويا، و تلقّي الحقائق و المعارف من ذلك الموجود النوراني.

و هكذا، فإنّ المعارف العليا المفاضة من العقل الفعّال، تنعكس على القوّة العاقلة، ثم تفاض منها إلى القوة الخيالية، و منها إلى الحسّ المشترك، و تأخذ كل قوة ما هو المناسب لحالها و ذاتها: فالحقائق المفاضة من العقل الفعّال إلى النفوس الكاملة الإنسانية في مرحلة القوة العاقلة، علوم و معارف. و في مرتبة القوة الخيالية، صور و تمثّلات. و في مرحلة الحسّ المشترك، كلام فصيح و منظوم.

ص: 147

فالنبي إذا تمّ استعداده، و صفت نفسه، يجد في نفسه استعدادا للاتصال بذلك العالم الأعلى، فتفاض عليه الحقائق و الدقائق، من معارف المبدأ و المعاد، و الكون و الحياة، و الإنسان و المجتمع، كلّها بصورة معارف كليّة.

و لكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى الدرجة التالية، أعني القوة الخيالية، تتمثل في خياله ملكا نورانيا يكلمه و يخاطبه بتلك المعارف و الأحكام و السنن.

كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة الثالثة، أعني الحسّ المشترك، قرع أسماعه صوت و كلام تلتذ به نفسه، و تحفظه مصونا عن كل تغيّر و تبدّل.

فليس للوحي حقيقة إلاّ انعكاس ما في العقل الفعّال من المعارف و العلوم على عقل النبي، ثم تنزله منه إلى خياله، و منه إلى حسّه. و ليس هذا الاتصال و التنزل و تلقّي المعارف الكلية، و تمثل الملك و مشاهدته، و سماع الصوت و الكلام المنظوم، أشياء وهمية لا واقعية لها، بل لكلّ منها درجة واقعية أحقّ من الواقعية الظاهرية المادية.

يقول صدر المتألهين: «إنّ سبب إنزال الكلام و تنزيل الكتاب، هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن، مهاجرة إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى، و تطهّرت عن المعاصي و الشهوات و التعلّقات، لاح لها نور المعرفة و الإيمان باللّه و ملكوته الأعلى. و هذا النور إذا تأكّد و تجوهر، كان جوهرا قدسيا يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال، و في لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي.

و بهذا النور الشديد العقلي، يتلألأ فيها (أي الروح الإنسانية) أسرار ما في الأرض و السماء، و يتراءى منها حقائق الأشياء، كما يتراءى بالنور الحسيّ البصري، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب، و الحجاب هاهنا هو آثار الطبيعة و شواغل هذا الأدنى. و ذلك لأنّ القلوب و الأرواح - بحسب أصل فطرتها - صالحة لقبول نور الحكمة و الإيمان إذا لم يطرأ عليها ظلمة تفسدها كالكفر، أو حجاب يحجبها كالمعصية و ما يجري مجراها.

و بعبارة أخرى: إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة و ظلمات الهوى

ص: 148

و الاشتغال بما تحتها من الشهوة و الغضب و الحسّ و الخيال و ولّت بوجهها شطر الحق، و تلقاء عالم الملكوت، اتّصلت بالسعادة القصوى، فلاح لها سرّ الملكوت و انعكس عليها قدس اللاهوت، و رأت عجائب آيات اللّه الكبرى.

ثم إنّ هذه الروح، إذا كانت قدسية شديدة القوى، قوية الإنارة لما تحتها، لقوة اتّصالها بما فوقها، فلا يشغلها شأن عن شأن، و لا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها، فتضبط للطرفين، و تسع قوتها الجانبين (الملك و الملكوت)، لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك و الملكوت. لا كالأرواح الضعيفة، التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر، و إذا ركنت إلى مشعر من المشاعر، ذهلت عن المشعر الآخر.

فإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن، و لا يصرفها نشأة عن نشأة، و تلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري، بل من اللّه، يتعدى تأثيرها إلى قواها، و يتمثل لروحه البشرى، صورة ما شاهده بروحه القدسي و تبرز منها إلى ظاهر الكون، فيتمثل للحواس الظاهرة، لا سيما السمع و البصر، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة، فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن و الصباحة، و يسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة و الفصاحة، فالشخص هو الملك النازل بإذن اللّه، الحامل للوحي الإلهي، و الكلام هو كلام اللّه تعالى، و بيده لوح فيه كتاب.

و هذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه، ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن و التخيّل، كما يقوله من لا حظ له من الباطن، و لا قدم له في أسرار الوحي و الكتاب، كبعض أتباع المشائين، معاذ اللّه عن هذه العقيدة الناشئة من الجهل بكيفية الإنزال و التنزيل»(1).

ص: 149


1- الأسفار الأربعة، ج 7، ص 24-25
تحليل نظرية الفلاسفة

أعترض على هذه النظرية باعتراضات عديدة، غير واردة عند من أمعن النظر و تدبّر فيها، نذكر بعضا منها:

الاعتراض الأول: إنّ نتيجة هذه النظرية أنّه لا واقعية للملك و لا للصوت في مرتبة الحسّ ، لأنّ القوّة التخيّلية في ذهن النبي هي التي توجد الصوت و صورة الملك في تلك المرتبة، ثم ينعكس من الخيال إلى مرتبة الحسّ .

الجواب: إنّ ما ذكر من الاعتراض يرد على عقيدة بعض المشائيين في الوحي، كما صرّح به صدر المتألهين نفسه في كلامه المتقدم. و أمّا عند غيرهم، فللوحي درجات واقعية حسب مراتب وجوده. فله وجود عقلي و خيالي و حسيّ ، و ليس أيّ منها مصنوع ذهن النبي و نفسه، تلك النفس الصافية الصقيلة التي ينعكس فيها كل ما في عالم العقل الفعّال. و ما ذكرناه من عبارات صدر المتألهين أوضح شاهد على ذلك.

الاعتراض الثاني: إنّ هذا التصوير للوحي، مقلوب ما نأنسه من الإدراكات في هذه الحياة، فإنّ الترتيب الطبيعي للإدراك هو الحسيّ ثم الخيالي فالعقلي. و لكن على هذه النظرية، ينقلب الأمر و يشرع الإدراك من العقل و ينتهي بالحسّ .

الجواب: إنّ ما ذكره المعترض حقّ في الإدراكات المعاديّة، و أمّا الإدراكات المتجاوزة حدّ العادة، فهي على عكس المأنوس. و الوحي النازل على الأنبياء إدراك خارق للعادة بدليل عظمة المعارف و القوانين التي يأتي بها الوحي إليه.

و غير ذلك من الاعتراضات القابلة للجواب.

و الملاحظة الصحيحة على هذه النظرية، هي أنّ ما ذكروه من أنّ حقيقة واحدة تتجلى في نفس النبيّ بصور ثلاث، و إن كان غير ممتنع، إلاّ أنّه لا دليل على أنّ الوحي هو خصوص ذاك. إذ ربّ وليّ من الأولياء الذين صفت ضمائرهم، و طهرت قلوبهم، نالوا المعارف و الحقائق المفاضة من ذاك العالم

ص: 150

بالإشراق و مع ذلك لا يصحّ تفسيره بالوحي المصطلح و إلاّ كان كل إنسان يدرك في عقله حقيقة عليا ثم تتجلى في خياله ثم في حسّه، نبيا أو رسولا.

و قد بلغ الحواريون درجة راقية من المعرفة و الإدراك حتى خاطبهم الباري عزّ و جلّ ، كما يشير إلى ذلك بقوله: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوٰارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي، قٰالُوا آمَنّٰا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنٰا مُسْلِمُونَ (1). و مع ذلك لم يسمّهم القرآن رسلا، و لا أنبياء، و لا الكلام المنزل عليهم وحيا نبويا، رساليا، و إنّما كان إلهاما قويا.

فحق المقال في الوحي ما ذكرناه في صدر البحث، من أنّه مجهول الكنه، معلوم الآثار، يجب الإيمان به كالإيمان بالغيب على الإطلاق.

ص: 151


1- سورة المائدة: الآية 111.

ص: 152

مباحث النبوّة العامة

(البحث الرابع) سمات الأنبياء
اشارة

إنّ أخطر المناصب و أكبرها مسئولية، قيادة المجتمع البشري و هدايته إلى السعادة، فإنّها تتطلب في المتصدي لها مؤهّلات و امتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس.

و لتقريب عظمة تلك المؤهلات المطلوبة في هكذا إنسان، نلاحظ جانبا واحدا من الجوانب الحيوية، كإدارة الشئون الاقتصادية، أو السياسية، أو العسكرية أو التربوية، فإنّ القيادة في واحد منها تتطلب درجة عالية من الخبرة و المعرفة و التدبير، فكيف إذا كانت دائرة القيادة واسعة النطاق، تدير دفة كافة جوانب الحياة، كما هي وظيفة رسل السماء لا سيما خاتمهم الذي به سدّ باب الوحي و النبوة ؟ فلا بد، و الحال هذه، أن يتصفوا بفضائل روحية، و مثل خلقية، تميّزهم عن غيرهم من البشر، و تجعلهم في قمّة الأخلاق و التزكية و حسن السيرة، ثم في الإدارة و القيادة، و تجتمع هذه الصفات في الأمور التالية:

1 - العصمة، و لها مراتب ثلاث:

المرتبة الأولى - المصونية عن الذنب و مخالفة الأوامر المولوية.

المرتبة الثانية - المصونية في تلقي الوحي، و وعيه، و إبلاغه إلى الناس.

المرتبة الثالثة - المصونية من الخطأ و الاشتباه في تطبيق الشريعة و الأمور الفردية و الاجتماعية.

ص: 153

2 - التنزّه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه و عقم التبليغ.

3 - الاطلاع على أصول الدين و فروعه و كلّ ما ألقي إبلاغه على عاتقه.

4 - التحلّي بكفاءة خاصة في القيادة و الإدارة مقترنة بحسن التدبير(1).

و إليك البحث فيما يلي عن هذه السمات الواحدة تلو الأخرى.

ص: 154


1- هذه الصفة تختص بالنبوات التي تقود المجتمع في جميع المجالات و لا تشترط في كل نبي، إذ ربّ نبي لا تتجاوز نبوته نفسه، و لا تعدو قيادته إطارا خاصا، و ما أكثر الأنبياء عددا، و ما أكثر غاياتهم و أهدافهم اختلافا، سعة و ضيقا.
(1) العصمة
اشارة

قد عرفت أنّ للعصمة مراتب ثلاث: العصمة عن المعصية، و العصمة في تبليغ الرسالة، و العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة و الأمور الفردية و الاجتماعية.

و نحن نقدم البحث في عصمة الأنبياء عن المعصية، على عصمتهم في مقام تبليغ الرسالة، مع أنّ أكثر المتكلمين يقدمون الثاني على الأول باعتبار كونه أمرا متفقا عليه بين المسلمين إلاّ من شذّ. و إنّما خالفنا الترتيب، لأنّ العصمة عن المعصية تؤول إلى العصمة في مقام العمد، بينما العصمة في تبليغ الرسالة ترجع إلى العصمة عن السهو و الخطأ، فطبيعة البحث تقتضي ما نقوم به.

ص: 155

ص: 156

المرتبة الأولى للعصمة العصمة عن الذنوب
اشارة

و يقع البحث في مقامات ثلاثة:

الأول - بيان حقيقة العصمة عن المعاصي و الذنوب.

الثاني - بيان مبدأ ظهور فكرة العصمة.

الثالث - بيان الدليل على لزوم اتّصاف الأنبياء بها.

ثم نختم البحث بالإجابة عن سؤالين هامّين.

المقام الأول - حقيقة العصمة عن المعاصي
اشارة

قال ابن فارس: «عصم: أصل واحد صحيح يدلّ على إمساك و منع و ملازمة، و المعنى في ذلك كلّه واحد. من ذلك «العصمة»: أن يعصم اللّه عبده من سوء يقع فيه. و اعتصم العبد باللّه تعالى: إذا تمنّع. و استعصم: التجأ، و تقول العرب: أعصمت فلانا، أي هيّأت له شيئا يعتصم بما نالته يده، أي يلتجئ و يتمسك به»(1).

ص: 157


1- المقاييس، ج 4، ص 331.

هذا في اصطلاح أهل اللّغة.

و في اصطلاح المتكلّمين: «العصمة قوة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية، و الوقوع في الخطأ»(1).

و ربما تعرّف أيضا بأنّها: «لطف يفعله اللّه في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة، و لا إلى فعل المعصية، مع قدرته على ذلك»(2).

و من العجب تفسير الأشاعرة العصمة بأنّها عبارة عن أنّه سبحانه لا يخلق في المعصومين ذنبا(3). فإنّه تعريف واه سخيف على الأصول التي سلكناها من أنّ فاعل الذنب و موجده هو العبد مباشرة، بقوة منه سبحانه. نعم هو صحيح على أصولهم القائمة على إنكار السببية و العلّية بين الأشياء.

و فيما ذكرناه من التعاريف كفاية في المقام، و إنّما المهم بيان حقيقة العصمة بنحو يرفع الغموض عنها، و هو يحصل ببيان الوجوه التالية:

الوجه الأول: العصمة غصن من دوحة التقوى

إنّ التقوى في العاديين من الناس، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح و المعاصي، و لأجل ذلك نرى البون الشاسع بينهم و بين المجرمين، المليئة حياتهم بالجرائم و قبائح الأعمال، بينما حياة المتقين خلو منها إلاّ ما شذّ.

فإذا كان هذا أثر التقوى العمومية، فما بالك بالتقوى، إذا ترقت في مدارجها و علت في مراتبها، إنّها حينذاك تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة، و الامتناع المطلق عن ارتكاب أي قبيح من الأعمال، أو ذميم من الأفعال، بل يمتنع معها حتى عن التفكير في خلاف أو معصية.

ص: 158


1- الميزان، ج 8، ص 142.
2- إرشاد الطالبيين إلى نهج المسترشدين، ص 310.
3- إبطال نهج الباطل، للفضل بن روزبهان، على ما في ذيل دلائل الصدق، ج 1، ص 370.

و على هذا، فالعصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس، لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية مثل الشجاعة و العفة و السخاء: فإنّ الإنسان إذا كان شجاعا و صبورا، سخيا و باذلا، عفيفا و نزيها، تراه يتطلب في حياته معالي الأمور، و يتجنب سفاسفها، فيطرد عن نفسه الخوف و الجبن و البخل و الإمساك، و القبائح و المساوئ، و لا ترى لها أثرا في حياته.

و هكذا نقول في العصمة، فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة قصوى من التقوى، يصل إلى حدّ من الطهارة لا يرى معه في حياته أثر من آثار المعصية و التمرّد على أوامر اللّه تعالى. و أما كيف تحصل فيه هذه الكيفية النفسانية، فهو ما نبحثه في الوجه الثاني.

و على ما ذكرنا، تنقسم العصمة إلى عصمة مطلقة و عصمة نسبية، و الأولى تختص بطبقة خاصة من الناس، و الثانية تعمّ كثيرا منهم. فكم من الناس يتورعون عن السرقة و القتل و نحو ذينك، و إن عرضت عليهم المكافاة المادية الكبيرة، و ما ذلك إلاّ لانتفاء الحوافز إلى هذه الأفاعيل، في قرارة أنفسهم، إمّا نتيجة للتقوى أو غيرها من العوامل. و تصديق العصمة النسبية الملموسة لنا، يقرّب تصوّر العصمة المطلقة إلى الأذهان، و التي هي كون الإنسان في مرتبة شديدة من التقوى تمنعه عن اقتراف جميع أنواع القبائح، طرّا.

الوجه الثاني: العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال الخطيرة، يخلق في نفس الإنسان وازعا قويا يصدّه عن ارتكابها، و أمثاله في الحياة كثيرة. فلو وقف أحدنا على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها عارية من دون عائق، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك و الاقتراب منها. و نظير ذلك، الطبيب العارف بعواقب الأمراض و آثار الجراثيم، فإنّه إذا صادف ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص، أو إناء شرب منه مصاب بالسّلّ ، لا يقدم على الاغتسال فيه أو شربه، مهما اشتدت حاجته إليه، لعلمه بما يجرّ عليه الشرب و الاغتسال بذاك الماء الموبوء، من الأمراض، و قس على ذلك سائر العواقب

ص: 159

الخطيرة، و إن كانت من قبيل السقوط في أعين الناس، و فقدان الكرامة و إراقة ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه.

فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن الارتكاب، في نفس العالم، فكيف بالعالم القطعي بالعواقب و الأخروية للمعاصي و رذائل الأفعال، علما لا يداخله ريب و لا يعتريه شك، علما تسقط دونه الحجب فيرى صاحبه رأي العين، و يلمس لمس الحسّ ، تبعات المعاصي و لوازمها و آثارها في النشأة الأخرى. ذاك العلم الذي قال تعالى فيه:

كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ (1) ، فمثل هذا العلم يخلق من صاحبه إنسانا مثاليا، لا يخالف قول ربّه قيد أنملة، و لا يتعدى الحدود التي رسمها له في حياته قدر شعرة، و لن تنتفي المعصية من حياته فحسب، بل إنّ مجرّد التفكير فيها، لن يجد سبيله إليه. و كأنّ الإمام عليا يصف هؤلاء في قوله: «هم و الجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون»(2).

إنّ الإنسان إذا وصل إلى المقام الذي يرى فيه بالعيون البرزخية تبدّل الكنوز المكتنزة من الذهب و الفضة، إلى جمرات ملتهبة تكوى بها جباه الكانزين و جنوبهم و ظهورهم، يمتنع - شهد اللّه - عن كنزها. يقول سبحانه: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ ، هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (3).

إنّ قوله سبحانه: هٰذٰا مٰا كُنْتُمْ ، يعرب عن أنّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين و جنوبهم و ظهورهم ليست شيئا غير الذهب و الفضة، و إنّما هي تلك البيضاء و الصفراء التي تتجلى بوجودها الأخروي في تلك النشأة، فإنّ لها صورتان، صورة دنيوية معروفة، و صورة أخروية هي النيران المحماة.

ص: 160


1- سورة التكاثر: الآيتان 5 و 6.
2- نهج البلاغة، خطبة المتقين، الخطبة 193.
3- سورة التوبة: الآيتان 34 و 35.

فالإنسان العادي اللامس لهذه المعادن المكتنزة، لا يحسّ فيها بالحرارة، و لا يرى فيها الناس و اللهيب، لأنّه يفقد حين المسّ ، الحسّ المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة. و أمّا الإنسان الكامل، المالك لهذا الحسّ إلى جانب بقية حواسه العادية، فإنّه يدرك الوجه الآخر لهذه الفلزات، و يحسّ أيما إحساس بنارها و لهيبها، فلذلك هو يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية، و لن يقدم أبدا على جمعها و تكديسها.

و هذا البيان الثاني الذي ذكرناه، يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية، راسخة، تغلّب الإنسان على الشهوات و تصدّه عن فعل المعاصي و الآثام. و نجد هذا البيان في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد اللّه السيوري الحلّي في كتابه القيّم «اللّوامع الإلهية»، يقول: «العصمة ملكة نفسانية تمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه. و تتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي و مناقب الطاعات. لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس و انضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء و في الطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجبا لرسوخها في النفس، فتصير ملكة»(1).

و ليس المدّعى أنّ كل علم بعواقب الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها، و أنّ العلم بمجرده يقوم مقام التكليف الإلهي، فإنّ ذلك باطل بلا ريب، لأنّا نرى الكثيرين من ذوي العلوم بمضرات المخدّرات و المسكرات و الأعمال الشنيعة لا يتورعون عن ارتكابها، استسهالا للذم في مقابل قضاء وطرهم منها. فلو كان العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور و الإدراك، لتسرب إليه التخلّف، لكنّ سنخ العلم الذي يصيّر الإنسان معصوما، ليس من سنخ هذه العلوم و الإدراكات المتعارفة، بل علم خاص فوقها، ربما يعبر عنه بشهود العواقب و انكشافها كشفا تاما لا يبقى معه ريب.

و إن شئت تقريب ذلك أكثر، فلنفترض أنّ إنسانا يرى أمام ناظريه بركانا عظيما يقذف بكتل هائلة من الحميم الملتهب، و وقف على أنّ اقتراف عمل ما

ص: 161


1- اللوامع الإلهية، ص 170.

يوجب رميه في جوف هذا البركان الهائل ليبقى محبوسا في أحشائه مدة من الزمن يناله عذاب الحريق الرهيب و لا يموت. فهل يقدم إنسان يمتلك شيئا من العقل على اقتراف هذا العمل ؟.

يقول سبحانه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * اِنْطَلِقُوا إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * اِنْطَلِقُوا إِلىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ * لاٰ ظَلِيلٍ وَ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَللَّهَبِ * إِنَّهٰا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمٰالَتٌ صُفْرٌ (1).

و على ضوء هذا البيان، فشهود نتائج المعاصي و عواقبها، شهودا لا يبقي في النفس أيّ ريب و شك، يصدّ الإنسان عن اختيار ارتكابها، صدّا قاطعا، و مع ذلك لا يتنافى مع اختياره و لا يسلب حريته، كما سيوافيك.

الوجه الثالث: الاستشعار بعظمة الربّ و كماله و جماله

و إنّ هنا بيانا ثالثا للعصمة لا يخالف البيانين السالفين و لبّ هذا البيان يرجع إلى أنّ استشعار عظمة الخالق و التفاني في معرفته، و حبّه و عشقه، صادّ عن سلوك ما يخالف رضاه، و هذه الدرجة من الحبّ و العشق، أحد عوامل حصول تلك المرتبة من التقوى المتقدمة، و هي لا تحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهية.

إنّ الإنسان إذا عرف خالقه كمال المعرفة الميسورة، و استغرق في شهود كماله و جماله و جلاله، وجد في نفسه انجذابا نحوه، و تعلّقا خاصا به، على نحو لا يستبدل برضاه شيئا. و يدفعه شوق المحبة إلى أن لا يبتغي سواه، و يصبح كل ما يخالف أمره و رضاه منفورا لديه، مقبوحا في نظره أشدّ القبح، و تلك هي درجة العصمة الكاملة، و لا ينالها إلاّ الأوحديّ من الناس.

و إلى هذا يشير الإمام عليّ عليه السلام بقوله: «ما عبدتك خوفا من نارك، و لا طمعا في جنتك، إنّما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»(2).

ص: 162


1- سورة المرسلات: الآيات 28-33.
2- حديث معروف مروي عن الإمام عليه السلام.

هذه التحليلات و البيانات الثلاثة التي ذكرناها في حقيقة العصمة، نظرية واحدة، تعرب بمجموعها عن أنّ العصمة قوّة في النفس تعصم الإنسان عن مخالفة الرّب سبحانه و تعالى، و هي معجونة في ذات الإنسان الكامل و هويّته الخارجية.

نعم، كل ما ذكرناه يرجع إلى العصمة بأحد معانيها، و هو المصونية عن المعصية و التمرّد على أوامر المولى، و أمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلا، و التّحفّظ عليه ثانيا، و إبلاغه إلى الناس ثالثا، و العصمة عن الخطأ في الأمور الفردية و الاجتماعية، فلا بدّ لها من عامل آخر، نتعرض له في الأبحاث الآتية، بإذنه تعالى.

المقام الثاني - مبدأ ظهور فكرة العصمة

إنّ الكتب الكلامية، قديمها و حديثها مشحونة بالبحث عن العصمة، فيقع السؤال في مبدأ ظهور هذه الفكرة بين المسلمين، و من يقف وراء طرحها في الأوساط الكلامية.

لا ريب في أنّ علماء اليهود ليسوا هم المبدعين لهذه الفكرة، لأنّهم يصفون أنبياءهم بأقبح الذنوب و أفظع المعاصي و هذا العهد القديم يسجّل لداود و سليمان و قبلهما يعقوب، ما يندى له الجبين و يخجل القلم عن نقله(1)، فكيف يمكن بعد هذا أن يكون أحبار اليهود المظهرين للإسلام، هم المبدعون لهذه الفكرة.

و لا شك أيضا في أنّ علماء النصارى ليسوا هم كذلك، فإنّهم و إن كانوا ينزهون المسيح عن كلّ عيب و شين، إلاّ أنّ ذلك ليس بملاك أنّه بشريّ أرسل لتعليم الإنسان و إرشاده، بل بما هو «إله متجسّد»، أو «ثالث ثلاثة».

و بعد هذا فاعلم، أنّ بعض المستشرقين من رماة القول على عواهنه، لمّا

ص: 163


1- سنتعرض لذلك مفصّلا عند البحث في الشاهد الرابع من شواهد إعجاز القرآن، و هو هيمنته على الكتب السماوية، من مباحث النبوة الخاصّة.

حار في تحديد زمن و مصدر نشوء فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام، ذهب إلى أنّ هذه الفكرة مرجعها إلى تطور علم الكلام عند الشيعة، و أنّهم أوّل من تطرق إلى بحثها في العقائد. و مردّ ذلك - يضيف هذا المستشرق - إلى أنّ الشيعة لكي يثبتوا أحقيّة إمامة أئمّتهم و صحة دعوتهم في مقابل الخلفاء السنيين، أظهروا عصمة الرسل بوصفهم أئمة أو هداة(1).

هذا، و الحقّ أنّ العصمة بمفهومها العام قد وردت أوساط المسلمين من خلال الإمعان في الآية القرآنية التي يصف فيها اللّه تعالى ملائكته بقوله: عَلَيْهٰا مَلاٰئِكَةٌ غِلاٰظٌ شِدٰادٌ لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ (2). و لن يجد الإنسان كلمة أوضح في العصمة من قوله: لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ .

كما أنّ اللّه سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله: لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (3)، فإن هذا الوصف للقرآن عبارة أخرى عن المصونية من كل خطأ و تحريف.

بل إنّ اللّه سبحانه يصف منطق نبيه بالعصمة إذ يقول عزّ من قائل: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (4).

و يقول: مٰا كَذَبَ اَلْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ (5). و يقول: مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ (6).

فالعصمة بمفهومها الوسيع - مع قطع النظر عن موصوفها - مسألة ألفت القرآن الكريم نظر الناس إليها، فلا يحتاج معه علماء المسلمين إلى الأحبار و الرهبان أو إلى نضاجة علم الكلام في عصر الإمام الصادق عليه السلام، لينتقلوا إلى هذا الوصف.

ص: 164


1- عقيدة الشيعة، تأليف المستشرق رونالدسون، ص 328.
2- سورة التحريم: الآية 6.
3- سورة فصلت: الآية 42.
4- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.
5- سورة النجم: الآية 11.
6- سورة النجم: الآية 17.

و أي عتب بعد هذا على الشيعة إذا اقتفوا في كلامهم أثر كتاب اللّه، فوصفوا رسل اللّه و أنبياءه بما وصفهم به ربّ الجلال و العزّة في كتابه.

و لا يمكن لأحد إنكار عناية الشيعة بتنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث و الجسمية، و أنبياءه عن وصمة الذّنب و الخلاف. بل إنّك لن تجد في الأمة الإسلامية طائفة تهتم بالتنزيه و التقديس مثل الشيعة، سواء فيما يرجع إلى الخالق عزّ و جل، أو أنبيائه عليهم الصلاة و السلام.

المقام الثالث: دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذّنوب
اشارة

اختلف المتكلمون في حدود عصمة الأنبياء على أقوال:

1 - قالت الأزارقة من الخوارج: يجوز على الأنبياء الكفر، أخذا بمبدئهم من أنّ كلّ ذنب كفر(1).

2 - قالت الحشوية: «يجوز ارتكاب الكبائر على الأنبياء قبل البعثة و بعدها». و تمسكوا في ذلك بأباطيل لا أصل لها(2).

3 - و المعتزلة، منهم من قال: «يجوز على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة و لا يجوز بعدها»، و هو أبو علي الجبّائي. و منهم من قال: «إنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكبيرة، لا قبل البعثة و لا بعدها، و تجوز عليهم الصغيرة إذا لم تكن

ص: 165


1- المواقف، ص 359، و من عجيب النسب ما عزاه القاضي الإيجي إلى الشيعة من تجويزهم إظهار الكفر من الأنبياء تقية، ثم ردّه بأنّ ذلك يفضي إلى إخفاء الدعوة، إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة، للضعف و كثرة المخالفين. و لكنها فرية باطلة، الشيعة منها براء، فإنّ ذلك لا يجوز عندهم على الأنبياء و لا الأئمة بل لا يجوّزونه لأعاظم الأمة من الفقهاء إذا كان في إظهار الكفر مظنة تزعزع عقائد الناس و تزلزلهم عن دينهم.
2- شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار، ص 573.

منفّرة، لأنّ قلّة الثواب(1) ممّا لا يقدح في صدق الرسل و لا في القبول منهم»، و هو القاضي عبد الجبار(2).

4 - و أمّا الأشاعرة، فقد قال القوشجي: «المذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر و الصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقا، و الصغائر غير الخسيسة عمدا لا سهوا»(3).

و أما قبلها، فقد نقل القاضي الإيجي - و هو من الأشاعرة - أنّ الجمهور قال: «لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة»(4).

5 - و قالت الإمامية: «لا يجوز على الأنبياء صغيرة و لا كبيرة، لا قبل البعثة و لا بعدها»(5).

هذه هي عمدة الأقوال المطروحة في المسألة، و هناك أقوال أخر ضربنا عن نقلها صفحا. و الأولى لنا أن نتبع الدليل، و نميل معه كيفما يميل، و الأدلة العقلية تثبت القول الأخير، و إليك فيما يلي بيان أهمها.

ص: 166


1- لم يعلم كنه قوله «قلّة الثواب»، فإنّ ارتكاب الصغيرة موجب للبعد عن قرب الربّ ، و بالتالي فلا يخلو من العقاب المناسب، فكيف ينحصر أثره في قلّة الثواب. قال الشريف السيد المرتضى رحمه اللّه: «و اعلم أنّ الخلاف بيننا و بين المعتزلة في تجويزهم الصغائر على الأنبياء صلوات اللّه عليهم، يكاد يسقط عند التحقيق لأنّهم إنّما يجوّزون من الذنوب ما لا يستقرّ له استحقاق عقاب، و إنّما يكون حظّه تنقيص الثواب، على اختلافهم أيضا في ذلك، لأنّ أبا علي الجبائي يقول: إنّ الصغير يسقط عقابه بغير موازنة. فكأنّهم معترفون بأنّه لا يقع منهم ما يستحقون به الذمّ و العقاب. و هذه موافقة للشيعة في المعنى، لأنّ الشيعة إنّما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام، جميع المعاصي، حيث كان كل شيء منها يستحق به فاعله الذمّ و العقاب.... فإذا كان استحقاق الذمّ و العقاب منفيا عن الأنبياء، وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب». (تنزيه الأنبياء، للشريف المرتضى، ص 2).
2- شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار، ص 573-575.
3- شرح التجريد للقوشجي، ص 464.
4- المواقف، صفحة 359.
5- كشف المراد، ص 217، طبعة صيدا. و المواقف، ص 359.
الدليل الأول - الوثوق فرع العصمة

إنّ ثقة الناس بالأنبياء، و بالتالي حصول الغرض من بعثتهم، إنّما هو رهن الاعتقاد بصحة مقالهم و سلامة أفعالهم، و هذا بدوره فرع كونهم معصومين عن الخلاف و العصيان في السرّ و العلن من غير فرق بين معصية و أخرى، و لا بين فترة من فترات حياتهم و أخرى.

و ذلك لأنّ المبعوث إليه إذا جوّز الكذب على النبي، أو جوّز المعصية على وجه الإطلاق، جوّز ذلك أيضا في أمره و نهيه و أفعاله التي أمره باتباعه فيها. و مع هذا الاحتمال لا ينقاد إلى امتثال أوامره، فلا يحصل الغرض من البعثة، لأنّه - بحكم عدم عصمته - يحتمل أن يكون كاذبا في أوامره و نواهيه، و أن يتقول على اللّه ما لم يأمر به. و مع هذا الاحتمال، لا يجد المبعوث إليه في قرارة نفسه حافزا إلى الامتثال.

و مثل قوله فعله، فإنّ الأمة مأمورة باتباع أفعاله، قال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ (1). فإذا احتملنا كون عمله على خلاف رضاه سبحانه، فكيف نجد في أنفسنا الباعث على اتّباعه.

و بالجملة، بما أنّ النبيّ ، قوله و فعله، حجّتان، فيجب اتّباعه فيهما، و هذا لا يحصل إلاّ عند الوثوق بصحتهما، و مع عدم حصول هذا الوثوق تنتفي بواعث الاتّباع، فلا يحصل الغرض.

قال المحقق الطوسي في التجريد: «و يجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق، فيحصل الغرض»(2).

ثم إنّ هنا أسئلة حول هذا الدليل نطرحها، واحدا بعد الآخر:

* السؤال الأول - يمكن أن يقال: يكفي في الاعتماد على قول النبي، مصونيته عن معصية واحدة، هي الكذب، دون سائر المعاصي.

ص: 167


1- سورة آل عمران: الآية 31.
2- كشف المراد، ص 217، طبعة صيدا.

و الجواب: إنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا تصحّ أن تقع أساسا للتربية العامة، لما فيها من الاشكالات.

أمّا أولا - فلأنّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة، فإنّ تمّ وجودها أو وجود بعضها، حصلت المصونية عن المعاصي برمتها، و لا يعقل معها التفكيك بين الكذب و سائر المعاصي، بأن يجتنب الكذب طيلة حياته، بينما هو في الحين ذاته يسرح في سائر المعاصي و يمرح، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى اقترافها، تسوقه أيضا إلى اقتراف الكذب.

و أمّا ثانيا - فلأنّ التفكيك بينهما لو صحّ في عالم الثبوت، فلا يمكن إثباته في حقّ مدّعي النبوة بأن يثبت أنّه لا يكذب أبدا مع ركوبه سائر المعاصي، فمن أين يحصل للأمة العلم بأنّ مدّعي النبوة مع اقترافه لأنواع الفجور و المآثم لا يكذب أبدا، بل حتى لو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك، لم يذعن له أحد، لسريان الريب إلى نفس هذا التصريح.

* السؤال الثاني - إنّ أقصى ما يثبته هذا الدليل، هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في الظاهر و بين الناس، و هذا لا يخالف عصيانه في الخلوات، فإنّ ذاك القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

و الجواب: إنّ نسبة هذا الأمر (ركوب المعاصي في السرّ دون العلن) إلى مدّعي النبوّة، يهدم الثقة به من أساسها إذ - حينذاك - ما الذي يمنعه من أن يكذب و لا يعلم كذبه، فإذا تطرّق هذا الاحتمال إلى جميع أقواله، انتفت الثقة فيه بالكليّة.

أضف إلى ذلك، أنّ من كانت هذه حاله، و إن أمكنه خداع الناس بتزيين الظاهر مدّة من الزمن، إلاّ أنّه لن يتمكن من البقاء على ذلك أبدا، بل لن ينقضي زمان إلاّ و ترتفع الأستار و تكشف البواطن، فتظهر سوأته و يبدو عيبه.

* السؤال الثالث - إنّ هذا الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة لحصول الوثوق في تلك الفترة، و لا يثبت لزوم عصمتهم قبلها.

ص: 168

و الجواب من وجهين:

الأول: إنّ العصمة كما عرفت غصن من دوحة التقوى، و نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي، و استشعار عظمة الربّ . و هذه ليست وليدة ساعتها، فينقلب غير المعصوم معصوما بنزول جبرائيل عليه و إكسائه ثوب الرسالة، بل هي ملكة نفسانية لا تحصل إلاّ بعد رياضات و مجاهدات. فلا معنى حينئذ لجعل البعثة حدا في حياة النبي، لأنّا إذا قلنا بعصمته - و هي ملكة نفسانية - وجب أن تمتد جذورها إلى ما قبل البعثة بزمن مديد.

الثاني: لو كانت سيرة الداعي إلى اللّه، قبل بعثته مخالفة لما هو عليه بعدها، بأن يكون قبلها إنسانا سافلا مرتكبا لقبائح الأعمال، لا يحصل الوثوق بقوله و إن صار إنسانا مثاليا، بل يتسرب الريب إلى كل ما يتفوّه به من أمر و نهي و إرشاد، بحجة أنّه كان في طرف من حياته متهتكا، ملقيا جلباب الحياء، فكيف انقلب إلى رجل مثالي معصوم ؟!.

لا شك أنّ لكل صفحة من صفحات عمر الإنسان الداعي تأثيرا في جلب ثقة الناس و انقيادهم إليه، و لو كانت ملطخة بالسواد في بعضها، لما سكنت إليه النفوس. فتحقّق الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره.

يقول السيد المرتضى - رحمه اللّه - في الإجابة عن هذا السؤال:

«إنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر و الكبائر في حال من الأحوال، و إن تاب منهما، و خرج من استحقاق العقاب به، لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك في حال من الأحوال، و لا على وجه من الوجوه. و لهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى اللّه تعالى، و نحن نعرفه، مقارنا للكبائر، مرتكبا لعظيم الذنوب، و إن كان قد فارق جميع ذلك و تاب منه عندنا و في نفوسنا، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة و الطهارة. و معلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون النفور، و لهذا كثيرا ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة، بها، و إن وقعت التوبة منها، و يجعلون ذلك عيبا و نقصا و قادحا. و ليس إذا تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة

ص: 169

و ناقصا عن رتبته في باب التنفير و لأجل ذلك وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير، و إن كان أحدهما أقوى من الآخر»(1).

الدليل الثاني - التربية رهن عمل المربي

إنّ الهدف العام الذي بعث لأجله الأنبياء، هو تزكية الناس و تربيتهم، يقول سبحانه حاكيا عن لسان إبراهيم عليه السلام: رَبَّنٰا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2).

و إنّ التربية عن طريق الوعظ و الإرشاد و إن كانت مؤثرة، إلاّ أن تأثير التربية بالعمل أشدّ و أعمق و آكد. و ذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول و الفعل هو العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقيّة تعاليم المصلح و المربّي. و لو كان هناك انفكاك بينهما لا نفض الناس من حوله، و فقدت دعوته أي أثر في القلوب.

و لأجل ذلك يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ (3).

و لذاك أيضا، نرى في الحكم أنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلّت موعظته عن القلوب، كما يزلّ المطر عن الصفا(4).

و هذا الأصل التربوي يجرنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخاة من بعثة الأنبياء، و ترسخها في نفوس المتربين، لا تحصل إلاّ بمطابقة أعمالهم لأقوالهم.

ص: 170


1- تنزيه الأنبياء، ص 5.
2- سورة البقرة: الآية 129.
3- سورة الصف: الآيتان 2 و 3.
4- لاحظ أصول الكافي، ج 1، ص 44، باب استعمال العلم، الحديث 3.

قال القاضي عبد الجبار: «إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممن يخالف فعله قوله، سكونها إلى من كان منزها عن ذلك. فيجب أن لا يجوز في الأنبياء عليهم السلام، إلاّ ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب و الاستخفاف و الخروج من ولاية اللّه تعالى إلى عداوته.

يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر و المعاصي، بالمنع و الردع و التخويف، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك، لأنّ المعلوم أنّ المقدم على شيء، لا يقبل منه منع الغير منه بالنهي و الزجر و النكير، و أنّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر... و لو أنّ واعظا انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدما على مثلها، لاستخفّ به و بوعظه»(1).

و قال في موضع آخر: «إنّ الواعظ و المذكّر، و إنّ غلب على ظننا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة و الندامة، حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب و الفجور من قبل، لم يؤثّر وعظه عندنا، كتأثير المستمر على النظافة و النزاهة في سائر أحواله»(2).

و هذا كما يوجب العصمة بعد البعثة، يقتضيها قبلها أيضا، لأنّ لسوابق الأشخاص، و صحائف أعمالهم الماضية تأثيرا في قبول الناس كلامهم و إرشاداتهم و هداياتهم(3).

ثم إنّ هنا سؤالان مهمّان يطرحان حول العصمة، نفردهما بالذكر، و نجيب عليهما قبل أن ننتقل إلى بيان العصمة عن المعصية و المخالفة المولوية، في الذكر الحكيم.

ص: 171


1- المغنى، ج 15، ص 303.
2- المصدر نفسه، ص 305.
3- و قد أقام المتكلمون، على عصمة الأنبياء، دلائل كثيرة، فذكر المحقق الطوسي ثلاثة، و أضاف إليها القوشجي دليلين آخرين، و ذكر الإيجي تسعة أدلّة. غير أنّ بعض ما ذكروه ليس دليلا عامّا لجميع الأحوال و الفترات، بل يختص بعصر النبوة. و من أرادها فليلاحظ المواضع التالية: كشف المراد، ص 217. شرح التجريد للقوشجي، ص 464. المواقف، ص 359-360.
سؤالان هامّان
السؤال الأول: هل العصمة تسلب الاختيار؟
اشارة

ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية و الاختيار، و تقهره على ترك المعصية، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة و محمدة ربما تنسب إليه لاجتنابه المعاصي و المآثم. و قد أشير في أمالي السيد المرتضى إلى ما ذكرنا، عند إيراد السؤال التالي:

«ما حقيقة العصمة التي يعتقد وجوبها للأنبياء و الأئمة، و هل هي معنى يضطرّ معه إلى الطاعة، و يمنع عن المعصية، فكيف يجوز الحمد لتارك المعصية، و الذمّ لفاعلها. و إن كان معنى يضاهي الاختيار، فاذكروه و دلّوا على صحّة مطابقته له»(1).

جوابه

إنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن المعصوم بأيّ من التحاليل التي مضت، و يتّضح ذلك بالنظر في العصمة النسبية المتحققة في العاديين من الناس، فقد تقدم أنّ العالم بوجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك العارية، لا يمسّها، و الطبيب لا يشرب سؤر المجذومين و المسلولين، لعلمهما بعواقب فعلهما. و مع ذلك، فكل منهما - في حال اجتنابه عن الفعل - قادر على الفعل لو غضّ طرفه عن حياته و خاطر بها، و لكنهما لا يقومان به لحبّ كلّ منهما صحته و سلامته.

إنّ كلّ واحد من العملين المزبورين ممكن الصدور بالذات منهما، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض و العادة، لا ذاتا و عقلا، و كم فرق بين المحالين. ففي المحال العادي يكون الصدور من الفاعل ممكنا بالذات، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بالدواعي الموجودة في ذهنه، بخلاف الثاني، فإنّ أصل الفعل ممتنع بذاته، فلا يصدر لذلك، لا لعدم الدواعي. و هذا نظير صدور القبيح من

ص: 172


1- أمالي السيد المرتضى، ج 2، ص 347.

اللّه سبحانه، فإنّه ممكن بالذات، فيقع تحت إطار قدرته، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنم، لكنه لا يصدر منه، لكونه مخالفا للحكمة، و مبائنا لما وعد به.

و على ذلك فامتناع صدور الفعل من الإنسان، حفظا للأغراض و الغايات، لا يكون دليلا على سلب الاختيار و القدرة.

و هكذا، فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي، بمقتضى ما أعطي من القدرة و الحرية، غير أنّ تقواه العالية و علمه بآثار المعاصي، و استشعاره عظمة الخالق، يصدّه عن ذلك، فهو كالوالد العطوف الذي لا يقدم على ذبح ولده و لو أعطي ملء الأرض ذهبا، و إن كان مع ذلك قادرا على قطع وتينه، كما يقطع و تين عدوه.

يقول العلامة الطباطبائي: إنّ ملكة العصمة لا تغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية، و لا تخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار. كيف، و العلم من مبادي الاختيار، و مجرّد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة. كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّا قاتلا من حينه، فإنّه يمتنع باختياره من شربه، و يشهد على ذلك قوله سبحانه: وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ وَ هَدَيْنٰاهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذٰلِكَ هُدَى اَللّٰهِ ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ ، وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (1)، و الضمير في وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ يرجع إلى الأنبياء. و في الوقت نفسه تفيد الآية أنّ في إمكانهم أن يشركوا باللّه، غير أنّ الاجتباء و الهداية الإلهية، يمنعان من ذلك.

و مثله قوله سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ ، وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ (2).

ص: 173


1- سورة الأنعام: الآيتان 87-88.
2- سورة المائدة: الآية 67.

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قدرة الأنبياء على المخالفة»(1).

السؤال الثاني - العصمة موهبة فلا تكون مفخرة
اشارة

الظاهر من كلمات المتكلمين أنّ العصمة موهبة إلهية يتفضل بها سبحانه على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم و قابليات مصححة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد: «العصمة تفضّل من اللّه على من علم أنّه يتمسّك بعصمته»(2).

و قال السيد المرتضى: «العصمة لطف اللّه الذي يفعله تعالى، فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل القبيح»(3).

و في الآيات القرآنية تلميحات و إشارات إلى ذلك، مثل:

قوله سبحانه: وَ اُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ * إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ * وَ اُذْكُرْ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيٰارِ (4).

و قوله سبحانه: وَ لَقَدِ اِخْتَرْنٰاهُمْ عَلىٰ عِلْمٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ ، وَ آتَيْنٰاهُمْ مِنَ اَلْآيٰاتِ مٰا فِيهِ بَلٰؤُا مُبِينٌ (5) و الضمير يرجع إلى أنبياء بني إسرائيل.

فإنّ قوله إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ ، و قوله: وَ لَقَدِ اِخْتَرْنٰاهُمْ عَلىٰ عِلْمٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ ، يدلاّن على أنّ النبوة و العصمة و إعطاء الآيات

ص: 174


1- لاحظ الميزان، ج 11، ص 179.
2- تصحيح الاعتقاد، ص 61.
3- أمالي المرتضى، ج 1، ص 148.
4- سورة ص: الآيات 45-48.
5- سورة الدخان: الآيتان 32 و 33.

لأصحابها، من مواهب اللّه سبحانه للأنبياء و من يقوم مقامهم من الأوصياء.

و إذا كانت موهبة منه، فلا تعدّ كمالا و مفخرة للمعصوم، فتعود كصفاء اللؤلؤ، لا يستحق اللؤلؤ عليه حمدا و تحسينا، لأنّ الحمد و الثناء إنما يصحّان للفعل الاختياري، لا لما هو خارج عن الاختيار، و الفرض أنّ المعصوم و غيره في هذا المجال سواء، لأنّ ذاك الكمال لو أفيض على فرد آخر غيره لكان مثله.

جوابه

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض على المعصوم إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفسه، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إليه، و أمّا ما هي تلك الأرضيات، و القابليات، فخارج عن موضوع البحث، غير أنّا نشير إليها إجمالا.

إنّ القابليات التي تسوغ نزول الموهبة الإلهية على قسمين:

قسم خارج عن اختيار المعصوم، و قسم واقع في إطار إرادته و اختياره.

أمّا الأول - فهو عبارة عمّا ينتقل إلى النبي من آبائه و أجداده عن طريق الوراثة، فإنّ في ناموس الطبيعة و الخلقة أنّ الأبناء يرثون ما في الآباء من الصفات الظاهرية و الباطنية، فالشجاع يلد شجاعا، و الجبان جبانا.

و إضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عاملا آخر لتكوّن تلك القابليات في النفوس هو عامل التربية، و الأنبياء يتلقون الكمالات الموجودة في بيوتاتهم في ظل هذين العاملين، فيكوّن ذلك في أنفسهم الأرضية الصالحة لإفاضة المواهب عليهم، و منها العصمة و النبوة.

و أمّا الثاني - فهو عبارة عن المجاهدات الفردية و الاجتماعية التي يقوم بها رجالات الوحي من أوائل شبابهم إلى أواخر كهولتهم، من العبادة و الرياضات النفسية إلى مقارعة الطغاة و الظالمين(1).

ص: 175


1- أنظر إلى ما قام به إبراهيم على صغر سنه، و يوسف في بيت من تملكه، و موسى في مصر الفراعنة، و المسيح في بني إسرائيل، و النبي الأكرم (ص) في عامة فترات حياته.

فهذه العوامل الداخل بعضها في الاختيار، و الخارج بعضها الآخر عنه، أوجدت مجتمعة في الأنبياء القابلية لإفاضة وصف العصمة عليهم، فتكون العصمة عند ذاك مفخرة للمعصوم، يستحق عليها التحسين و التبجيل.

يقول العلامة الطباطبائي: «إنّ اللّه سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة، فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة، و إدراكات صحيحة، و نفوس طاهرة، و قلوب سليمة، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة و سلامة النفس، من نعمة الإخلاص، ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب، بل أعلى و أرقى، لطهارة داخلهم من التلوّث بأوساخ الموانع و المزاحمات. و الظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون (بالفتح) للّه في مصطلح القرآن.

و قد نصّ القرآن على أنّ اللّه اجتباهم أي خلقهم، قال تعالى:

وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ وَ هَدَيْنٰاهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1) ، و قال: هُوَ اِجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)»(3).

و ما جاء في كلامه يشير إلى القابليات الخارجة عن الاختيار، و لكنك عرفت أنّ هناك مقدمات واقعة في اختيارهم فإذا انضمت تلك إلى هذه، تتحقق الصلاحية المقتضية لإفاضة الموهبة الإلهية.

إجابة أخرى عن السؤال

و هناك إجابة أخرى و هي أنّ اللّه سبحانه وقف على ضمائرهم و نيّاتهم، و مستقبل أمرهم، و مصير حالهم، و علم أنّهم ذوات مقدسة لو أفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة و ترك المعصية بحرية و اختيار. و هذا العلم كاف في تصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم من نعومة أظفارهم إلى أن أدرجوا في أكفانهم، بخلاف من يعلم من حاله خلاف ذلك.

ص: 176


1- سورة الأنعام: الآية 87.
2- سورة الحج: الآية 78.
3- الميزان، ج 11، ص 177.

و هذا الجواب يستفاد من كلمات الشيخ المفيد و السيد المرتضى.

قال الشيخ المفيد: «العصمة تفضّل من اللّه تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته»(1).

و قال السيد المرتضى: «كلّ من علم اللّه تعالى أنّ له لطفا يختار عنده الامتناع من القبائح، فإنّه لا بدّ أن يفعل به، و إن لم يكن نبيا و لا إماما، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللّطف على ما دلّ عليه في مواضع كثيرة، غير أنّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئا متى فعل اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلّف لا عصمة له في المعلوم و لا لطف. و تكليف من لا لطف له يحسن و لا يقبح، و إنّما القبيح منع اللطف فيمن له لطف، مع ثبوت التكليف»(2).

و حاصل ما أفاد هو أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل، فكل من علم سبحانه أنّه لو أفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة و إن لم يكن نبيا و لا إماما و أمّا من علم أنّه متى أفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع عن القبيح، فلا يفيضها عليه لعدم استحقاقه لها.

و على ضوء ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين و التكريم، و قد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الذي يعطى للغريق ليتشبث به فيسلم، فالغريق مختار في التقاط الحبل و النجاة، أو عدمه و الغرق(3).

و يترتب على ما ذكره السيد عدم انحصار العصمة بالنبي و الوحي المنصوص عليه، بل تشمل كلّ من علم اللّه سبحانه أنّه ينتفع منها في طريق كسب رضاه.

ص: 177


1- شرح عقائد الصدوق، ص 61.
2- أمالي المرتضى، ج 2، ص 348، طبعة إحياء دار الكتب العربية.
3- لاحظ أوائل المقالات، ص 11.
العصمة في الكتاب العزيز

يصف الذكر الحكيم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان و دقائقه، مما يحتاج في الوقوف عليه إلى التدبّر بإمعان، و لأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه التوصيفات مع مراعاة ما يقتضيه المقام، نكتفي بالبحث عن آيتين منها(1).

الآية الأولى: قال عزّ و جل: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ وَ إِلْيٰاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ * وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنٰا عَلَى اَلْعٰالَمِينَ * وَ مِنْ آبٰائِهِمْ وَ ذُرِّيّٰاتِهِمْ وَ إِخْوٰانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ وَ هَدَيْنٰاهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذٰلِكَ هُدَى اَللّٰهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ ... أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّٰهُ فَبِهُدٰاهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ لِلْعٰالَمِينَ (2).

وجه الدلالة

إنّ الآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديّون بهداية اللّه سبحانه، على وجه يجعلهم القدوة و الأسوة، هذا من جانب.

و من جانب آخر، نرى أنّه سبحانه يصرّح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضلّ له، يقول تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ، وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ .... (3).

و في آية أخرى يصرّح بأنّ حقيقة العصيان، الضلالة و الانحراف عن الجادة الوسطى، يقول عزّ من قائل: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰا بَنِي آدَمَ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطٰانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ

ص: 178


1- راجع في الوقوف على سائر الآيات و دلالتها، مفاهيم القرآن، ج 4 ص 423-431.
2- سورة الأنعام: الآيات 84-90.
3- سورة الزمر: الآيتان 36 و 37.

كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (1) .

و بملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات، تستنتج العصمة بوضوح، و ذلك كما يلي:

إنّ اللّفيف الأول من الآيات يصف الأنبياء بأنّهم القدوة و الأسوة، و المهديّون من الأمة.

و اللّفيف الثاني يصرّح بأنّ من شملته العناية الإلهية لا ضلالة و لا مضلّ له.

و اللّفيف الثالث يصرّح بأنّ العصيان نفس الضلالة، حيث قال:

وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ . و ما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم و مخالفتهم لأوامره تعالى، و نواهيه.

فإذا كان الأنبياء مهديون بهداية اللّه، و من هداه اللّه لا تتطرّق إليه الضلالة، و كانت المعصية نفس الضلالة، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء.

و إن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الشكل المنطقي فقل:

* النبي قد شملته الهداية الإلهية.

* و من شملته الهداية الإلهية، لا تتطرق إليه الضلالة.

* فينتج: النبي لا تتطرق إليه الضلالة.

و بما أنّ الضلالة و المعصية متساويان، فيصحّ أن يقال في النتيجة: إنّ النبي لا تتطرق إليه المعصية.

الآية الثانية - قال عزّ و جل: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ وَ اَلصّٰالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ

ص: 179


1- سورة يس: الآيات 60-62.

رَفِيقاً (1) .

ففي هذه الآية المباركة يعدّ اللّه تعالى الأنبياء من الذين أنعم عليهم، هذا من جانب.

و من جانب آخر يصف سبحانه من أنعم عليهم بأنّهم غير مغضوب عليهم و لا ضالّين، في قوله: صِرٰاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّٰالِّينَ (2).

فيستنتج من ضمّ هاتين الآيتين إلى بعضهما، عصمة الأنبياء بوضوح، لأنّ العاصي يشمله غضب الربّ ، و يكون ضالاّ بقدر عصيانه. فإذا كان الأنبياء ممن أنعم اللّه عليهم، و الذين أنعم اللّه عليهم لا يشملهم غضب الربّ (غير المغضوب عليهم الخ)، فيكون الأنبياء منزّهين عن المعصية، و بريئين عن المخالفة.

و إن شئت إفراغ الاستدلال في قالب الشكل المنطقي، فقل:

* إنّ الأنبياء، قد أنعم اللّه عليهم.

* و كل من أنعم اللّه عليه، فهو غير مغضوب عليه و لا ضالّ .

* فينتج: إنّ الأنبياء غير مغضوب عليهم و لا ضالين.

و لما كان العصيان يلازم الغضب و الضلال بمقداره، فمن كان بعيدا عن جلب غضب الربّ إليه، و الضلالة، يكون بريئا عن المعصية.

و ستعرف فيما يأتي أنّ جميع الأمة ليسوا شهداء، و إنّما عبّر بالجمع و أريد منه لفيف من الأمة قد دلّ الدليل على عصمتهم.

و أمّا استلزام هذا الاستدلال، عصمة غير الأنبياء و الشهداء من الصديقين و الصالحين، فلا إشكال فيه كما عرفت عند نقل كلام السيد المرتضى فيما تقدم.

ص: 180


1- سورة النساء: الآية 69.
2- سورة الحمد: الآية 7.

و نظن أنّ الآيتين كافيتين في إذعان الباحث بعصمة الأنبياء من جهة النقل أيضا(1).

نعم، إنّ هناك لفيفا من الآيات ربما يستظهر منه عدم عصمة الأنبياء على الإطلاق أولا، و عدم عصمة عدّة منهم ك «آدم» و «يونس» ثانيا. غير أنّ دراسة هذه الأصناف من الآيات خروج عن طور البحث، فإنّها أبحاث قرآنية تطلب من مظانّها(2).

و إلى هنا يتمّ البحث في المرحلة الأولى من مراحل العصمة، أعني العصمة عن المعصية و المخالفة المولوية، و يقع الكلام بعدها في المرحلة الثانية، و هي العصمة في مقام تبليغ الرسالة.

ص: 181


1- و من أراد البسط فليرجع إلى المصدر الذي أشرنا إليه.
2- قد بحث الأستاذ - أطال اللّه بقاءه - عن مجموع هذه الآيات في موسوعته القرآنية «مفاهيم القرآن»، ج 4، ص 431-450 و ج 5، ص 19-134 فلاحظ.

ص: 182

المرتبة الثانية للعصمة عصمة النبي في تبليغ الرسالة
اشارة

ذهب جمهور المتكلمين من السنّة و الشيعة إلى عصمة الأنبياء في هذه المرحلة، و نسب إلى أبي بكر الباقلاني (المتوفى سنة 403) تجويز الخطأ في إبلاغ الرسالة سهوا و نسيانا، لا عمدا و قصدا.

قال صاحب المواقف: «أجمع أهل الملل و الشرائع على عصمتهم عن تعمّد الكذب فيما دلّت المعجزة على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة و ما يبلغونه عن اللّه.

و في جواز صدوره عنهم على سبيل السهو و النسيان خلاف، فمنعه الأستاذ و كثير من الأئمة، لدلالة المعجزة على صدقهم، و جوّزه القاضي مصيرا منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة»(1).

هذا رأي الأشاعرة، و أمّا المعتزلة فإليك رأيهم بلسان القاضي عبد الجبّار، قال:

«إنّا لا نجوز عليه (النبي) السهو و الغلط فيما يؤدّيه عن اللّه تعالى، و إنّما نجوّز عليه أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل، و أدّى ما يلزم فيه حتى لم يغاير منه شيئا. فإذا فعله مرة لمصالحه، لم يمتنع أن يقع فيه السهو و الغلط. و لذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، و كذلك ما وقع

ص: 183


1- المواقف، ص 358.

منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك»(1).

أقول: نظر القاضي في الاستثناء هو أنّ النبي لا يسهو في التبليغ، و لكن يعرض له السهو في عالم التطبيق. و قد نسبوا إليه السهو في الصلاة حيث سلّم في الركعة الثانية، فاعترض عليه ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت»، و سيوافيك الحال في هذا الاستثناء عند البحث في المرحلة الثالثة.

ثم إنّا نقول: إنّ العصمة في مرحلة تبليغ الرسالة على وجهين:

أ - العصمة عن الكذب، و هو داخل في العصمة عن المعصية، التي تقدم البرهان عليها.

ب - العصمة عن الخطأ سهوا في تلقّي الوحي و تحمّله (وعيه) و أدائه، و هذا هو الذي نركز البحث عليه.

إنّ الدليل الأول، أعني كون حصول الوثوق مرهونا بالعصمة، كما يثبت عصمة الأنبياء عن المعصية، فكذلك يثبت عصمتهم في هذا المجال. و لأجل ذلك اكتفى به المحقق الطوسي في إثبات العصمة على الإطلاق، إن في مقام الفعل و العمل، أو في مقام التبليغ و الرسالة.

توضيح ذلك: إنّ الهدف الاسمي من بعث الأنبياء، هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية التي ترشدهم إلى طريق السعادة، و لا تحصل هذه الغاية إلاّ بإيمان الناس بصدق المبعوثين و إذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه و أنّ كلامهم و أقوالهم، كلامه و قوله سبحانه. و هذا الإذعان لا يحصل إلاّ بعد إذعان آخر، و هو اعتقاد مصونيتهم عن الخطأ في المراحل الثلاث من مراحل تبليغ الرسالة، أعني: التلقّي، و التحمّل، و الأداء.

القرآن و عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة

إنّ في الذكر الحكيم آيات تدلّ على مصونية النبي الأعظم في مجال تبليغ

ص: 184


1- المغنى، ج 1، ص 281.

الرسالة بجوانبها المختلفة، من تلقي الوحي فوعاه و حفظه، إلى إبلاغه.

* الآية الأولى: قوله تعالى: كٰانَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اَللّٰهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ، وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ ، وَ اَللّٰهُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1).

إنّ هذه الآية تصرّح بأنّ من أهداف بعثة الأنبياء، القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه. و ليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق، و هو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير و لا تحريف.

ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه، كما هو صريح قوله: فَهَدَى اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ . و الهادي و إن كان هو اللّه سبحانه في الحقيقة، لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي بوساطته. و تحقق الهداية منه، فرع كونه واقفا على الحق بكماله و تمامه. من دون تحريف و لا زيادة أو نقصان. و كل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقّي الوحي و تحمله و إبلاغه إلى الناس.

و الحاصل أنّ الآية تدلّ على أنّ النبي يقضي بالحق أوّلا، و يهدي المؤمنين إليه ثانيا. و هذا يستلزم كونه واقفا على الحق على ما هو عليه، و مبلّغا له على نحو ما تلقّاه و وعاه.

* الآية الثانية: قوله تعالى: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (2).

فالآية تصرّح بأنّ النبي لا يتكلم بداعي الهوى، و المراد منه إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجالات الحياة على اختلافها، كما هو مقتضى إطلاقها، أو

ص: 185


1- سورة البقرة: الآية 213.
2- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.

خصوص ما يحكيه عن اللّه سبحانه. و على كلا التقديرين فهي تدلّ على صيانته و عصمته في مجال تبليغ الرسالة: تلقّي الوحي و وعيه و إبلاغه.

* الآية الثالثة - قال تعالى: عٰالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّٰ مَنِ اِرْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ وَ أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (1).

و موضع الدلالة من الآية:

أ - قوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ .

ب - قوله: مِنْ خَلْفِهِ .

ج - قوله: أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ .

فبالإمعان في هذه النقاط الثلاث، يظهر أنّ مشيئة اللّه تعالى الحكيمة، تعلّقت على حفظ الوحي من لدن أخذه إلى زمن تبليغه، و إليك توضيح الدلالة بتوضيح مفردات الآية.

1 - قوله: فَلاٰ يُظْهِرُ . الإظهار من باب الإفعال بمعنى الإعلان، كما في قوله سبحانه: وَ أَظْهَرَهُ اَللّٰهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ... (2).

2 - لفظ «من» في قوله: مِنْ رَسُولٍ ، بيانية. تبيّن المرضيّ عند اللّه. فالرسول هو الذي ارتضاه اللّه تعالى و اختاره ليعرّفه على الغيب.

3 - الضمير في قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ ، يرجع إلى اللّه تعالى. كما أنّ الضمير المستتر في قوله: يَسْلُكُ ، يرجع إليه سبحانه أيضا. و «يسلك» بمعنى يجعل.

ص: 186


1- سورة الجن: الآيات 26-28.
2- سورة التحريم: الآية 3.

4 - الضمير في قوله: بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ، يرجع إلى الرسول، و المراد من الأول ما بينه و بين الناس، و هم المرسل إليهم، فإنّ النبي يواجه الناس، و هم في مواجهته و بين يديه، كما أنّ المراد من الثاني، ما بين الرسول و مصدر الوحي الذي هو اللّه سبحانه. و إنّما عبّر بالخلف، لأنّ النبي بعث من اللّه إلى الناس، فاللّه خلفه و الناس أمامه بهذا الاعتبار.

5 - قوله: رَصَداً الرصد هو الحارس الحافظ، يطلق على الجمع و المفرد.

و التدبّر في مفاد الآية يثبت بأنّ الوحي مصون و محفوظ من لدن إفاضته من اللّه سبحانه، إلى وصوله إلى الناس، فإنّها تعتبر الوحي فيضا متصلا من المرسل (بالكسر) إلى المرسل إليهم.

إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل، و منهم إلى الناس، بأنّه محروس بالحفظة يمنعون تطرق أي خلل و انحراف فيه، حتى يبلغ الناس كما أنزل من اللّه تعالى. و يعلم هذا بوضوح مما تذكره الآية من أنّ اللّه سبحانه يجعل بين الرسول و من أرسل إليهم (من بين يده) و بينه و مصدر الوحي (و من خلفه)، رصدا مراقبين، هم الملائكة. و ليس الهدف من جعلهم في هذه المواضع إلاّ الحفاظ على الوحي من كل تخليط و تشويش، بالزيادة و النقصان، التي ربما يقع النبي فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة، أو معها. فإذا كان الوحي بهذه المثابة من الحراسة و المصونية في كلا المرحلتين، أعني المتقدمة - و هي من حين الإفاضة من المرسل إلى حين البلوغ إلى النبي - و المتأخرة - و هي إبلاغه إلى الناس - كان كذلك فيما بينهما، أعني مرحلة الحفظ و الوعي، فالنبي فيها مصون عن النسيان أو تدخل الواهمة لتغييره و تبديله. و لو لا ذاك لما كان لحفظ الوحي بين يديه أيّ معنى.

ثم إنّه سبحانه يؤكّد ذلك بجملتين أخريين:

الأولى، قوله: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ ، فإنّها علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول و خلفه. و المراد من العلم، التحقق الخارجي، على حدّ قوله سبحانه:... فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ (1)، أي ليتحقق إبلاغ رسالات اللّه على ما هي عليه من غير تبديل و لا تغيير، و هو - أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه - يتوقف على جعل الرصد و الحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها: الأخذ و الوعي و الإبلاغ.

ص: 187

الأولى، قوله: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ ، فإنّها علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول و خلفه. و المراد من العلم، التحقق الخارجي، على حدّ قوله سبحانه:... فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ (1)، أي ليتحقق إبلاغ رسالات اللّه على ما هي عليه من غير تبديل و لا تغيير، و هو - أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه - يتوقف على جعل الرصد و الحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها: الأخذ و الوعي و الإبلاغ.

و الثانية، قوله: وَ أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ . فإنّها أيضا جملة مؤكدة لجعل الحراسة، و معناها أنّه سبحانه يحيط بما لدى الأنبياء من الوحي، فيكون في أمان من تطرّق التحريف.

و أمّا قوله: وَ أَحْصىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً ، فمسوق لإفادة عموم علمه بكلّ شيء، من غير فرق بين الوحي الملقى إلى الرسول و غيره.

و خلاصة الكلام: إنّ الوحي كالماء الصافي الزلال، المنحدر من معينه، ينزل من مصدره و هو خزائن علم اللّه تعالى، إلى النبي، و منه إلى الناس، من دون أن يتطرق إليه التحريف و التبديل من جانب الشياطين أو القوى النفسانية في النبي، بل يصل كما صدر بلا أدنى تغيير.

قال العلامة الطباطبائي، بعد بحثه في مفردات الآية على غرار ما ذكرناه:

«إنّ الرسول مؤيّد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه، و في حفظه، و في تبليغه إلى الناس، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعا. لما مرّ من دلالة الآية على أنّ ما نزّل اللّه من دينه على الناس من طريق الوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس. و من مراحله، مرحلة أخذ الوحي و حفظه و تبليغه، و التبليغ يعمّ القول و الفعل، فإنّ في الفعل تبليغا، كما في القول. فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرمات و ترك الواجبات الدينية، لأنّ في ذلك تبليغا لما يناقض الدين. فهو معصوم من فعل المعصية، كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولا»(2).

و في ضوء هذه الآية الكريمة يمكن القول بأنّ مصونية الأنبياء عن الخطأ

ص: 188


1- سورة العنكبوت: الآية 3.
2- الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 133.

و الاشتباه فيما يرجع إلى الرسالة و الوحي، لا يرجع إلى ذواتهم و كيانات وجودهم، بل إلى عامل أو عوامل، خارجة عن ذواتهم، كالملائكة الرّصّد، الحافظين لهم من كل خطأ و زلّة، و الآخذين بأيديهم في مظانّ مزالق الألسن و الأيدي و الأقدام و سائر الجوارح.

ص: 189

ص: 190

المرتبة الثالثة للعصمة العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة و الأمور العادية
اشارة

إنّ صيانة النبي عن الخطأ و الاشتباه في مجال تطبيق الشريعة و الأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته الشخصية، ممّا طرح في علم الكلام، و طال البحث فيه بين المتكلمين. و الخطأ في تطبيق الشريعة، مثل أن يسهو في صلاته، أو يغلط في إجراء الحدود. و الخطأ في الأمور العادية مثل خطئه في مقدار دينه للناس، كما لو اقترض دينارا و ظنّ أنّه ديناران أو نصف دينار.

و الحقّ في هذه المسألة واضح غايته، ذلك أنّ الدليل العقلي الدالّ على لزوم عصمة النبي في مجال تلقّي الوحي و تحمّله و أدائه إلى الناس، دالّ - بعينه - على عصمته عن الخطأ في تطبيق الشريعة و أموره الفردية، حرفا بحرف. و لكن زيادة في البيان، نقول:

إنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هداية الناس إلى السعادة. و لا تحصل هذه الغاية إلاّ بكسب اعتمادهم و ثقتهم المطلقة بصحة ما يقوله الأنبياء و يحكونه عن اللّه تعالى. و لكن ما قولك فيما لو شاهد الناس نبيّهم يسهو في تطبيق الشريعة التي أمرهم بها، أو يغلط في أموره الفردية و الاجتماعية ؟. هل من ريب في أنّ الشّكّ سيجد طريقا رحبة للتسرب إلى أذهان الناس في ما يدخل في مجال الوحي و الرسالة ؟ بل لن يبقى شيء ممّا جاء به هذا النبي إلاّ و تطرقه علامات الاستفهام، و لسان حال الناس يقول: «هل ما يحكيه عن اللّه تعالى من

ص: 191

الوظائف، هي وظائف إلهية حقّا؟ أمّ أنّها مزيج من الأخطاء و الاشتباهات ؟ و بأي دليل هو لا يخطئ في مجال الوحي، إن كان يخطئ و يسهو في المجالين الآخرين ؟». و هذا الحديث النفسي و الشعور الداخلي، إذا تعمّق في أذهان الناس، سوف يسلب اعتمادهم على النبي، و تنتفي بالتالي النتيجة المطلوبة من بعثه.

نعم إنّ التفكيك بين صيانة النبي في مجال الوحي، و صيانته في سائر المجالات، و إن كان أمرا ممكنا عقلا، لكنه كذلك بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية، و أمّا عامة الناس و رعاعهم الذين يشكّلون أغلبية المجتمع، فإنّهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلا على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأخرى.

فلا بدّ - لسدّ هذا الباب الذي ينافي الغاية المطلوبة من إرسال الرسل - من أن يكون النبي مصونا عن الخطأ في عامة المراحل، سواء في حقل الوحي أم تطبيق الشريعة أم في الأمور الفردية و الاجتماعية. و هذا الذي ذكرناه مقتضى الدليل العقلي القائم في المقام. و القرآن الكريم يدعم ذلك ببيان خاص، نورده فيما يلي.

القرآن و عصمة النبي عن الخطأ

تستفاد عصمة الأنبياء عن الخطأ في مجال تطبيق الشريعة و الأمور الفردية من عدة من الآيات نكتفي في المقام بالبحث في آيتين منها. و لأجل توضيح دلالتهما، نذكر كلا منها، مع ما يرتبط بها من الآيات.

الآية الأولى - قال سبحانه: إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اَللّٰهُ وَ لاٰ تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً (1).

و قال سبحانه أيضا: وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ

ص: 192


1- سورة النساء: الآية 105.

يُضِلُّوكَ ، وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ ، وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ ، وَ أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (1) .

الاستدلال بهاتين الآيتين و إن كان لا يتوقف على معرفة أسباب نزولهما، إلاّ أنّ الإحاطة بأسباب النزول توجب ظهورهما في مفادهما.

إنّ مجموع ما ورد حول هاتين الآيتين و غيرهما، من أسباب النزول، متفق على أنّها نزلت في شكوى رفعت إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله، و كان كلّ من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه و يلقي التهمة على الآخر. لكن كان إلى جانب أحدهما رجل طليق اللّسان حاول أن يخدع النبي الأكرم بإثارة عواطفه على المتهم البريء، ليقضي على خلاف الحق، فعند ذلك نزلت الآيات و رفعت النّقاب عن وجه الحقيقة، و عرف المحقّ من المبطل(2).

و الدقة في فقرات الآية الثانية، يوقفنا على مدى صيانة النبي الأكرم و عصمته عن السهو و الخطأ، فإنّها مؤلفة من فقرات أربع كلّ منها يشير إلى أمر خاص.

1 - وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ .

2 - وَ أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ .

3 - وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ .

4 - وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً .

و إليك فيما يلي بيان ما تهدف إليه هذه الآيات و كيفية استنتاج العصمة منها.

الفقرة الأولى تدلّ على أنّ نفس النبي بمجرّدها لا تصونه من الضلال، أي من القضاء على خلاف الحق، و إنّما الصائن له هو اللّه سبحانه، فلو لا فضل اللّه

ص: 193


1- سورة النساء: الآية 113.
2- راجع في الوقوف على مجموع ما نقل من أسباب النزول، تفسير الطبري، ج 5، ص 169.

و رحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن فعل ذلك، و أبطل أمرهم الذي كان سيؤدّي إلى إضلاله.

و بما أنّ رعاية اللّه سبحانه و فضله الجسيم على النبي ليسا مقصورين على حال دون حال، أو وقت دون آخر، بل هو مشمول لهما و محاط بهما في جميع لحظات حياته، فلن يصيبه من إضلالهم شيء، و إنّما يضرّون بذلك أنفسهم، كما قال عزّ و جلّ : وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ .

و الفقرة الثانية تشير إلى مصادر حكمه و مدارك قضائه، و أنّه لا يصدر في هذا المجال إلاّ عن التعليم الإلهي.

و لما كان هذا النوع من العلم الكلّي أحد ركني القضاء، و هو لوحده لا يفي بالقضاء بالحق، و إنّما يتمّ القضاء بالحق بتمييز الصغريات، و هو تشخيص المحقّ من المبطل، و الخائن من الأمين، و الزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة، فقال: وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ . و مقتضى العطف، مغايرة المعطوف (و علّمك..) للمعطوف عليه (و أنزل..) فإذا كان المعطوف عليه ناظرا إلى تمكّنه من الركن الأول - و هو العلم بالاحكام الكليّة الواردة في الكتاب و السنّة - يكون المعطوف ناظرا إلى الركن الثاني للقضاء الصحيح و هو العلم بالموضوعات و الجزئيات.

فالعلم بالحكم الشرعي أولا، و تشخيص الصغريات و تمييز الموضوعات ثانيا، جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق، من دون أن يجنح إلى جانب الباطل أو يسقط في هوّة الضلال. و الفقرة الأولى تشير إلى الجانب الأول، و الثانية إلى الثاني.

و مجمل ما تقدم أنّ الآية الأولى تدلّ على أنّ الهدف من إنزال الكتاب، القضاء بين الناس بما أراه اللّه سبحانه، و لا يمكن أن يكون ما أراه سبحانه أمرا خاطئا، بل هو صواب على الإطلاق، هذا من جانب.

و من جانب آخر إنّ القضاء بالحق - الذي هو الغاية المتوخاة من إنزال

ص: 194

الكتاب - تتوقف على العلم بالكبريات و الصغريات، و هو ما أشارت إلى تحققه في النبي، الفقرتان الثانية و الثالثة من الآية الثانية.

قال العلامة الطباطبائي: «المراد من قوله سبحانه: وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، ليس علمه بالكتاب و الحكمة، فإنّ مورد الآية قضاء النبي في الحوادث الواقعة، و الدعاوى المرفوعة إليه، برأيه الخاص، و ليس ذلك من الكتاب و الحكمة بشيء، و إن كان متوقفا عليهما، بل المراد رأيه و نظره الخاص»(1).

فينتج كلّ ذلك أنّ النبي - لأجل عميم فضله سبحانه - مصون في مقام القضاء عن الخطأ و السهو.

و لما كان هنا موضع توهّم و هو أنّ رعاية اللّه لنبيّه تختصّ بمورد دون مورد، دفع ذلك التوهّم بالفقرة الرابعة و قال: وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أخرى، بل مقتضى عظمة الفضل سعة شموله لكل الوقائع و الحوادث، سواء أ كانت من باب المرافعات أم من الأمور العادية الشخصية.

و لا كلام أعلى و أغزر عاطفة من قوله سبحانه في حق حبيبه: وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً .

الآية الثانية - قال سبحانه: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.. (2).

إنّ الشهادة الواردة في الآية، من الحقائق القرآنية التي تكرر ورودها في الذكر الحكيم.

قال تعالى: فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً (3).

ص: 195


1- الميزان، ج 5، ص 81.
2- سورة البقرة: الآية 143.
3- سورة النساء: الآية 41.

و قال تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاٰ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (1).

و قال تعالى: وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ ... (2).

و هذه الشهادة يتحملها الشهداء في الدنيا و يؤدّونها في الآخرة، و يدلّ على ذلك:

قوله سبحانه: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (3).

و قوله سبحانه: وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (4).

فمجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في كلّ أمّة شهداء على أعمالها، و أنّ الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله على رأسهم، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ الشهادة هنا ليست على صور الأعمال و الأفعال، فإنّها غير كافية في القضاء الأخروي، بل المشهود عليه هو حقائق أعمال الأمة: الإيمان و الكفر و النفاق، و الرياء و الإخلاص... و من المعلوم أنّ هذه المشهودات لا يمكن تشخيصها و الشهادة عليها عن طريق الحواس الخمس، لأنّها لا يمكنها أن تستكشف حقائق الأعمال، و ما يستنبطه الإنسان. فيجب أن يكون الأنبياء مجهزين بحسّ خاص يقدرون معه على الشهادة على ما لا يدرك بالبصر و لا بسائر الحواس، و هذا هو الذي نسميه بحبل العصمة، و كلّ ذلك بأمر من اللّه سبحانه و إذنه، و المجهّز بهذا الحسّ لا يخطئ و لا يسهو.

و إن شئت قلت: إنّ الشهادة هنا، لو كانت خاطئة، للزم عقاب المطيع أو إثابة المجرم، و هو قبيح عقلا، لا سيما الأول، فيجب أن تكون شهادة الشاهد

ص: 196


1- سورة النحل: الآية 84.
2- سورة الزمر: الآية 69.
3- سورة المائدة: الآية 117.
4- سورة النساء: الآية 159.

مصونة عن الخطأ و الاشتباه حتى تكون منزهة عمّا يترتب عليهما من القبيح.

و هذه الآيات، و إن كانت لا تثبت إلاّ مصونيّته فيما يرتبط بالشهادة، و لكن التفصيل غير موجود في كلمات القوم.

تبيّن إلى هنا أنّ الأنبياء - بحكم العقل و الكتاب - مصونون عن الخطأ، و الزلل في تطبيق الشريعة أوّلا، و جميع أمورهم الفردية و الاجتماعية ثانيا.

أدلة المجوزين للخطإ على الأنبياء

جوّز جماعة من المتكلمين الخطأ و الاشتباه على الأنبياء، و استندوا في ذلك إلى آيات، غفلوا عن أهدافها. و نحن نذكرها على وجه نميط الستر عنها.

1 - قال سبحانه: وَ إِذٰا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطٰانُ فَلاٰ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرىٰ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (1).

فقد استدلّ بها المخطئة بأنّ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و آله، فالنتيجة أنّ النبي ربما يطرأ عليه النسيان، و هو لا يجتمع مع المصونية من الخطأ.

إلاّ أنّهم غفلوا عن أنّ وزان الآية وزان كثير من الآيات الأخر التي يخاطب فيها النبي و لكن يكون المقصود من الخطاب أبناء الأمة.

و من هذا القبيل، قوله سبحانه: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (2). فإنّ هذه الآية - و نظائرها - تركّز على الجانب التربوي من الشريعة، و الغاية منها تعريف الناس بوظيفتهم و تكليفهم تجاه الباري سبحانه، ببيان أنّ نبي الأمة إذا كان محكوما بهذه

ص: 197


1- سورة الأنعام: الآية 68.
2- سورة الزمر: الآية 65.

التكاليف و مخاطبا بها، فغيره أولى بأن يكون محكوما بها. و هذه الآيات تجري مجرى قول القائل: «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة».

فالمراد من الآية المستدلّ بها هو حثّ المؤمنين على اجتناب الحضور في المجالس التي يخاض فيها في آيات اللّه سبحانه. فالنهي عن الخوض تكليف عام يشترك فيه النبي و غيره، و كون الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأمة.

و يدلّ على ذلك قوله سبحانه في سورة النساء: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتٰابِ أَنْ إِذٰا سَمِعْتُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ يُكْفَرُ بِهٰا، وَ يُسْتَهْزَأُ بِهٰا فَلاٰ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، إِنَّ اَللّٰهَ جٰامِعُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (1).

فإنّ هذه الآية مدنية، و الآية المستدلّ بها مكية، و إذا قورنت إحداهما بالأخرى يستنتج منه أنّ الحكم النازل سابقا متوجه إلى المؤمنين، و أنّ الخطاب فيه و إن كان للنبي، إلاّ أنّ المقصود إنشاء حكم كلّيّ شامل لجميع المكلّفين من غير فرق بين النبي و غيره. و مع ما ذكرناه، لا يكون في الآية دلالة على تحقق النسيان من النبي، لأنّها إنّما تدلّ لو كان الخطاب مختصا بالنبي لا يتعداه.

2 - قال سبحانه: وَ لاٰ تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فٰاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذٰا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هٰذٰا رَشَداً (2).

المراد من النسيان الاستثناء، و هو قول «إلاّ أن يشاء اللّه». و الآية استدلالا و جوابا - كسابقتها.

3 - قال سبحانه: سَنُقْرِئُكَ فَلاٰ تَنْسىٰ * إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ وَ مٰا يَخْفىٰ (3).

و معنى الآية: إنّا سنجعلك قارئا بإلهامك القراءة، فلا تنسى ما تقرؤه.

ص: 198


1- سورة النساء: الآية 140.
2- سورة الكهف: الآيتان 23 و 24.
3- سورة الأعلى: الآيتان 6 و 7.

استدلّت المخطئة بالاستثناء الوارد بعدها على إمكان النسيان، غير أنّهم غفلوا عن نكتة الاستثناء، و هي عين النكتة في الاستثناء الوارد في قوله تعالى:

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (1) .

إنّ قوله سبحانه: عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، يدلّ على أنّ الخلود في الجنة لا يقطع و لا يجزّ، بل هو عطاء موصول من الربّ ، ما دامت الجنة باقية، و مع ذلك استثنى سبحانه الخلود بقوله: إِلاّٰ مٰا شٰاءَ . و ليس ذلك لأنّ الخلود يقطع، بل للإشارة إلى أنّ قدرة اللّه سبحانه بعد إدخالهم الجنة باقية بعد، فاللّه سبحانه - مع كونهم مخلّدين في الجنة - قادر على إخراجهم منها.

و على ما ذكرنا يعلم وجه الاستثناء في الآية التي وقعت مورد الاستدلال، فإنّه يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها، و أنّ عطية اللّه (جعل النبي قارئا لا ينسى) لا تسلب القدرة عن اللّه سبحانه على إنسائه، بل هو عليه قادر متى شاء، و إن كان لا يشاء ذلك.

و بدراسة هذه الآيات التي قدمناها، تقف على تحليل كثير من الآيات التي نسب فيها النسيان إلى غير النبي الأعظم من الأنبياء، مثل قوله سبحانه:

أ - وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (2).

ب - فَلَمّٰا بَلَغٰا مَجْمَعَ بَيْنِهِمٰا نَسِيٰا حُوتَهُمٰا... (3) الوارد في موسى و فتاه.

ج -... لاٰ تُؤٰاخِذْنِي بِمٰا نَسِيتُ ... (4) و هو قول موسى للخضر.

و غير ذلك من الآيات(5).

ص: 199


1- سورة هود: الآية 108.
2- سورة طه: الآية 115.
3- سورة الكهف: الآية 61.
4- سورة الكهف: الآية 73.
5- قد أجمل الأستاذ - دام ظلّه - الكلام هنا في هذه الآيات، فنحن نستدرك البحث فيها بما يرفع الستار عن وجهها، و نجعله في ملحق خاص آخر الكتاب.
الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي

الظاهر من المتكلمين الأشاعرة و المعتزلة، تجويزهم السهو على الأنبياء إجمالا، إمّا في مقام إبلاغ الدين، كالباقلاني(1)، و إمّا في غيره كما عليه غيره.

قال الإيجي في المواقف.

«أمّا الكبائر عمدا، فمنعه الجمهور، و الأكثر على امتناعه سمعا. و قالت المعتزلة - بناء على أصولهم - يمتنع ذلك عقلا. و أمّا سهوا فجوزه الأكثرون.

و أمّا الصغائر عمدا، فجوّزه الجمهور إلاّ الجبّائي. و أمّا سهوا فهو جائز اتّفاقا، إلاّ الصغائر الخسية، كسرقة حبة أو لقمة»(2).

و جوّز القاضي عبد الجبار صدور الصغائر منهم عمدا، قال في شرح الأصول الخمسة: «و أمّا الصغائر التي لا حظّ لها إلاّ في تقليل الثواب دون التنفير، فإنّها مجوّزة على الأنبياء و لا مانع يمنع منها»(3).

فإذا كانت الكبائر من الذنوب جائزة عليهم سهوا عند الأكثر، أو كان صدور الصغائر منها جائزا عليهم سهوا بالاتفاق، بل عمدا عند القاضي عبد الجبار كما تقدم في كلامه، فمن الأولى أن يجوزوا عليهم السهو في غير الذنوب، أعني في مجال تطبيق الشريعة أو أعمالهم الفردية و الاجتماعية، كيف لا و قد روى الجمهور في الصحاح و المسانيد وقوع السهو من النبي، كما يجيء بيانه و نقاشه.

و أمّا الإمامية، فالمحققون منهم متفقون على نفي السهو عن الأنبياء مطلقا حتى في تطبيق الشريعة كالصلاة، و إليك فيما يلي نقل نصوصهم في هذا الشأن.

ص: 200


1- قد مرّ نصّ كلام صاحب المواقف في هذا المجال عند البحث في المرحلة الثانية من مراحل العصمة، و هي عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة، فلاحظ.
2- المواقف، ص 359.
3- شرح الأصول الخمسة، ص 575.

قال الشيخ المفيد(1) في رسالته التي يرد فيها على من ذهب إلى تجويز السهو على النبي و الأئمة في العبادة ما هذا لفظه:

«الحديث الذي روته الناصبة و المقلّدة من الشيعة أنّ النبي سها في صلاته فسلّم ركعتين ناسيا، فلما نبّه على سهوه أضاف إليهما ركعتين ثم سجد سجدتي السهو، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علما و لا توجب عملا»(2).

و قال الشيخ الطوسي(3) بعد ما روى حديث أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ما سجد سجدتي السهو قطّ، قال بأنّ الذي يفتي به هو ما تضمنه هذا الخبر، لا الأخبار التي قدّم ذكرها و فيها أنّ النبي سها فسجد(4).

و قال المحقق(5) في المختصر النافع: «و الحقّ رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة»(6) و رفع منصب الإمامة عنه السهو يقتضي رفع منصب النبوة عنه.

و قال المحقق الطوسي(7) في التجريد: «و يجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض.. و (يجب) كمال العقل، و الذكاء و الفطنة، و قوّة لرأي، و عدم السهو»(8).

و قال العلامة(9) في التذكرة ما هذا لفظه: «و خبر ذي اليدين عندنا باطل، لأنّ النبي المعصوم لا يجوز عليه السهو»(10).

ص: 201


1- هو الشيخ محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، ت 338 - م 413.
2- التنبيه بالمعلوم من البرهان، تأليف الشيخ الحرّ العاملي، ص 7.
3- محمد بن الحسن الطوسي، ت 385 - م 460.
4- التهذيب، ج 2، ص 351.
5- أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي، ت 602 - م 676.
6- المختصر النافع، ص 45.
7- نصير الدين محمد بن محمد الحسن الطوسي، ت 597 - م 672.
8- شرح التجريد، ص 195.
9- الحسن بن يوسف الحلي، ت 648 - م 726.
10- تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 130، في مسألة وجوب ترك الكلام بحرفين فصاعدا مما ليس بقرآن و لا دعاء.

و قال أيضا في الرسالة السّعديّة: «لو جاز عليه السهو و الخطأ، لجاز ذلك في جميع أقواله و أفعاله، فلم يبق وثوق بإخباراته عن اللّه تعالى، و لا بالشرائع و الأديان، لجواز أن يزيد فيها و ينقص، فتنتفي فائدة البعثة، و من المعلوم بالضرورة أنّ وصف النبي بالعصمة أكمل و أحسن من وصفه بضدها، فيجب المصير إليه، لما فيه من دفع الضرر المظنون بل المعلوم»(1).

و قال الشهيد الأول(2) في الذكرى، بعد ذكره خبر ذي اليدين: «و هو متروك بين الإمامية لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي عن السهو»(3).

و قال الفاضل المقداد(4): «لا يجوز على النبي صلى اللّه عليه و آله السهو مطلقا، أي في الشرع و غيره. أمّا في الشرع، فلجواز أنّ لا يؤدّي جميع ما أمر به، فلا يحصل المقصود من البعثة. و أمّا في غيره، فإنّه ينفّر»(5).

و قال الشيخ بهاء الدين العاملي(6) - عند ما سأله سائل عن قول ابن بابويه إنّ النبي قد سها -: «بل ابن بابويه قد سها، فإنّه أولى بالسهو من النبي»(7).

و قد ألّف غير واحد من الأصحاب كتبا و رسائل في نفي السهو عن النبي منها: رسالة الشيخ المفيد(8)، و رسالة إسحاق بن الحسن الأقرائي(9)، و رسالة الحر العاملي(10) المسمّاة ب «التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو و النسيان». و قد فصل العلامة المجلسي (م 1111) في البحار، الكلام في

ص: 202


1- الرسالة السّعديّة، ص 76، طبعة النجف.
2- محمد بن مكي العاملي، ت 734 - م 786.
3- الذكرى، ص 134.
4- أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي، م 826.
5- إرشاد الطالبين، ص 305.
6- محمد بن الحسين بهاء الدين العاملي، ت 953 - م 1030.
7- التنبيه على المعلوم من البرهان، ص 13.
8- أدرجها العلاّمة المجلسي في البحار، لاحظ ج 17، ص 122-129.
9- رجال النجاشي، رقم الترجمة 178.
10- محمد بن الحسن الحرّ العاملي، المحدث المعروف، م 1104.

المسألة، و اطنب في بيان شذوذ تلك الأخبار التي استند إليها القائلون بالسهو(1)و ناقشها بأدلّة متعددة السيد عبد اللّه شبّر (ت 1188 - م 1242) في كتابيه:

حقّ اليقين(2) و مصابيح الأنوار(3).

نعم هناك من الإمامية من جوّز السهو على النبي، و إليك نصوصهم:

1 - قال محمد بن الحسن بن الوليد(4): «أوّل درجة في الغلو، نفي السهو عن النبي صلى اللّه عليه و آله، فلو جاز أن تردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى، لجاز أن تردّ جميع الأخبار، و في ردّها إبطال الدين و الشريعة، و أنّا أحتسب الأجر في تأليف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي و الرّدّ على منكريه إن شاء اللّه تعالى»(5).

2 - قال الصدوق(6): «إنّ الغلاة و المفوضة - لعنهم اللّه - ينكرون سهو النبي، و يقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة، لجاز أن يسهو في التبليغ، لأنّ الصلاة عليه، فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة».

ثم ردّ عليه بأنّ سهو النبي ليس كسهونا، لأنّ سهوه من اللّه عز و جل، و إنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق، فلا يتّخذ ربّا معبودا دونه. و ليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا. و سهونا من الشيطان، و ليس للشيطان على النبي صلى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السلام سلطان، إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (7) و(8).

3 - و قال الطبرسي(9) في تفسير قوله سبحانه: وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ

ص: 203


1- البحار، ج 17، الباب 16، ص 97-129.
2- حق اليقين، ج 1، ص 124-129.
3- مصابيح الأنوار، ج 2، ص 133.
4- محمد بن الحسن بن الوليد القمي، من مشايخ الصدوق، متوفى عام 343.
5- من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 360.
6- محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، ت 306 - م 381.
7- سورة النحل: الآية 100.
8- من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 360.
9- الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، ت 470 - م 538.

اَلشَّيْطٰانُ .. : «نقل عن الجبّائي أنّه قال: في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء».

ثم أجاب عليه بقوله: «و هذا القول غير صحيح، لأنّ الإمامية لا يجوزون السهو عليهم فيما يؤدّونه عن اللّه، فأمّا ما سواه، فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل»(1).

إلى هنا وقفت على أنّ المشهور بين علماء الإمامية هو القول الأول دون الثاني الذي هجر بعد الطبرسي، و لم ينبث به أحد، إلاّ بعض المشايخ المعاصرين(2)، فعمد إلى جمع الروايات الدالّة على طروء السهو و النسيان على النبي و الأئمة.

و لعلّه جامع غير معتقد به.

و القضاء بين القولين يتوقف على نقل بعض ما أثر من الروايات الدالّة على سهو النبي و مناقشتها:

1 - روى الشيخان (البخاري و مسلم) و أبو داود - و اللفظ للأخير - عن عمران بن حصين (رض): «إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كان في مسير له، فناموا عن صلاة الفجر، فاستيقظوا بحرّ الشمس، فقال عليه الصلاة و السلام:

تنحو عن هذا المكان ثم أمر بلالا فأذّن ثم توضئوا و صلّوا ركعتي الفجر(3). ثم أمر بلالا فأقام الصلاة، فصلّى بهم صلاة الصبح»(4).

و روى الشيخ الصدوق نحوه(5).

ص: 204


1- مجمع البيان، ج 7، ص 317.
2- و هو العلامة الشيخ محمد تقي التستري مؤلّف قاموس الرجال. و قد أدرج الرسالة في الجزء الحادي عشر من كتابه.
3- المراد نافلة فريضة الصبح.
4- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، ج 1، ص 120.
5- من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 360، رقم الحديث المتسلسل 1031 و في السند «الرباطي». فإن كان المراد منه علي بن رباط البجلي الكوفي، لقرينة رواية الحسن بن محبوب عنه، فهو ثقة و الرواية معتبرة.

2 - روى الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة قال: «صلّى لنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صلاة الفجر، فسلّم في ركعتين. فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول اللّه أم نسيت ؟.

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): كلّ ذلك لم يكن.

فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول اللّه!.

فأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على الناس فقال: أصدق ذو اليدين ؟.

فقالوا: نعم، يا رسول اللّه.

فأتمّ رسول اللّه ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين و هو جالس بعد التسليم»(1).

و روى نحوه الكليني بسند معتبر(2).

و بعد تقديم هذين النموذجين من الروايات نقول: إنّ الحق هو نفي السهو عن النبي، و عدم الاعتداد بهذه الروايات لوجوه:

الوجه الأول - إنّ هذه الروايات معارضة لظاهر القرآن الدالّ على أنّ النبي مصون عن السهو، على ما عرفت.

الوجه الثاني - إنّ هذه الروايات معارضة لأحاديث كثيرة تدلّ على صيانة النبي عن السهو. و قد جمعها المحدث الحرّ العاملي في كتابه(3).

الوجه الثالث - إنّ ما روته الإمامية من أخبار السهو، أكثر أسانيده ضعيفة، و أمّا النقي منها فهو خبر واحد لا يصحّ الاعتماد عليه في باب

ص: 205


1- التاج، ج 1، ص 196، و لاحظ جامع الأصول، ج 6، ص 350، الرقم المتسلسل 3762.
2- الكافي، ج 3، ص 355، باب من تكلم في صلاته، الحديث الأول.
3- لاحظ التنبيه بالمعلوم من البرهان، ص 26-44.

الأصول(1)الوجه الرابع - إنّها معارضة للأدلّة العقلية التي تقدم ذكرها.

و أمّا ما رواه أصحاب الصحاح، فمع غضّ النظر عن أسناده، فإنّه مضطرب جدا في متونه، و ذلك:

1 - فقد روى البخاري: صلّى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الظهر ركعتين فقيل صلّيت ركعتين. فصلّى ركعتين... الخ.

2 - و في رواية أخرى له: صلّى بنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الظهر و العصر ركعتين، فسلّم. فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول اللّه، أنقصت ؟... الخ.

3 - و روى مسلم عن أبي هريرة، يقول: صلّى لنا النبي (صلى اللّه عليه و آله) صلاة العصر، فسلّم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول اللّه أم نسيت ؟. فقال: كل ذلك لم يكن... الخ.

4 - و في رواية أخرى له: إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صلّى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلّم، فأتاه رجل من بني سليم، فقال: يا رسول اللّه أقصرت الصلاة أم نسيت... الخ.

5 - و روى البخاري و أبو داود و مسلم عن عمران بن حصين أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صلّى العصر و سلّم في ثلاث ركعات و دخل منزله فقام له رجل يقال له الخرباق و كان في يده طول... الخ.

6 - أخرج أبو داود، قال: صلّى بنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أحد صلاتي العشاء - الظهر أو العصر - قال فصلّى بنا ركعتين ثم سلّم، فقام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، إحداهما على الأخرى، يعرف في وجهه

ص: 206


1- و قد قام الشيخ الحرّ العاملي - قدّس سرّه - بتحقيق لمسانيد تلك الروايات و بيان ضعفها. لاحظ ص 64-66 من المصدر السابق نفسه.

الغضب، ثم خرج سرعان الناس و هم يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة. و في الناس أبو بكر و عمر، فهابا أن يكلماه. و قام رجل كان رسول اللّه يسمّيه ذا اليدين، فقال: يا رسول اللّه، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال: لم أنس و لم تقصر الصلاة. قال: بل نسيت يا رسول اللّه! فأقبل رسول اللّه على القوم فقال: أصدق ذو اليدين. فأومئوا: أي نعم. فرجع رسول اللّه إلى مقامه، فصلّى الركعتين الباقيتين ثم سلّم.. الخ.

7 - و أخرج البخاري و مسلم عن ابن مسعود قال: «صلّى النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم) فزاد أو نقص - شكّ بعض الرواة - و الصحيح أنّه زاد، فلما سلّم قيل له يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: و ما ذاك ؟ قالوا:

فإنّك صلّيت خمسا. فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم».

و في أخرى لمسلم قال: «صلّى بنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) خمسا، فقلنا يا رسول اللّه، أزيد في الصلاة ؟ قال: و ما ذاك ؟ قالوا: صلّيت خمسا، فقال: إنّما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون و أنسى كما تنسون.. الخ.

و روى الترمذي نحوها مع قوله: «صلى الظهر خمسا». و أخرجه أبو داود و الترمذي.

فيلاحظ فيما ذكرناه ما يلي:

أولا - اضطراب الروايات في تعيين الصلاة التي سها فيها رسول اللّه، فهي بين معيّنة للظهر (الرواية الأولى و الرابعة) أو معينة للعصر (الثالثة و الخامسة)، أو مردّدة بينهما (الثانية و السادسة).

و ثانيا - إنّ الرواية الخامسة تدلّ على نسيانه ركعة واحدة، بخلاف السابعة فتدلّ على زيادته ركعة، و بخلاف بقية الروايات فتدلّ على نسيانه ركعتين.

و ثالثا - قوله: «لم أنس و لم تقصر الصلاة»، في الرواية الخامسة. أو قوله في الثالثة: «كل ذلك لم يكن»، غير لائق بالرسول، لأنّه لو كان يجوز على نفسه السهو لما نفاه عن نفسه بنحو القطع، بل لقال: أظنّ أنّه لم يكن كذلك.

ص: 207

و رابعا - إنّ إنكاره قول ذي اليدين مستلزم لتجويز سهوين عليه، مكان تجويز سهو واحد، و هو أيضا عجيب في مورد واحد.

و خامسا - الظاهر أنّ سهو الرسول في الصلاة، واقعة واحدة، فاختلاف السهو بين الزيادة و النقصية، و اختلاف الاعتراض بين قولهم: «أقصرت الصلاة أم نسيت ؟»، و قولهم «أزيد في الصلاة ؟»، كما في رواية الترمذي من القسم السابع من الروايات، تناقض واضح.

و سادسا - اضطراب الروايات في بيان زمن التذكير، فإنّ في بعضها أنّه كان بعد الصلاة بلا فصل، و في أخرى بعد قيامه من الصلاة و استناده إلى خشبة في المسجد، و في ثالثة بعد دخوله حجرته. فما هذا التناقض مع كون الواقعة واحدة كما يظهر من مجموع ما تهدف إليه الروايات.

و سابعا - في ذيل الرواية الخامسة، أنّه بعد ما ذكر ذو اليدين صنيع رسول اللّه من السهو: فخرج غضبان يجرّ ردائه حتى انتهى إلى الناس فقال:

أصدق هذا، قالوا: نعم. فصلّى ركعة ثم سجد سجدتين.

ففي هذه الرواية ذكر الغضب بعد تنبيه ذي اليدين، بينما في الرواية التي أخرجها أبو داود أنّ الغضب كان متقدّما على تنبيهه.

و ثامنا - ما منشأ غضب رسول اللّه ؟ هل هو تنبيه ذي اليدين ؟! لا وجه له. مع أنّ الغضب لهذا الشأن لا يناسب قوله سبحانه في حقّ نبيه: وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (1).

و مجمل المقال إنّ هذه الروايات(2) مع ما فيها ممّا ذكرناه و لم نذكره، لا يصحّ أن تقع سنادا للعقيدة.

ص: 208


1- سورة القلم: الآية 4.
2- لاحظ مجموع ما نقلناه من مقاطع الروايات، جامع الأصول، ج 6، ص 346-357.

سمات الأنبياء

(2) التنزّه عن المنفّرات
اشارة

قد وقفت فيما تقدم على أنّ قيادة الناس و هدايتهم، من الأمور الصعبة التي تتطلب في المدير و القائد أن يتمتع بصفات عالية تسهّل توفيقه للغرض الذي بعث له، أو نهض لتحقيقه. و قد عرفت أنّ مسئولية هداية البشر في جميع النواحي ملقاة على عاتق الأنبياء، و أنّ العصمة - بمراتبها - إحدى الصفات اللازمة فيهم.

و هناك صفات أخرى يجب اتّصاف الأنبياء بها تحصيلا لغرضهم، التي لولاها لما وصلوا إليه. و يجمعها التنزّه عن كل ما يوجب تنفر الناس، و التحلّي بكلّ ما يوجب انجذابهم إليهم. و نحن نشير إلى بعض عناوين هذه الصفات مع تفسيرها إجمالا.

1 - التنزّه عن دناءة الآباء و عهر الأمهات

لا شكّ أنّ القائد إذا كان وليد بيت طيب طاهر، معروف بالعفاف و التّقى، فإنّ ذلك يكون له تأثيره الخاص في انسياق الناس و ميلهم إليه. بخلاف ما إذا كان وليد بيت صفر من القيم الأخلاقية سواء في جانب الآباء أو الأمهات، فإنّ أفئدة الناس تنفضّ من وليده بحجة أنّ الأبناء يرثون صفات الآباء و الأمهات.

ص: 209

2 - سلامة الخلقة

و من العوامل الباعثة على اجتماع الناس حول القائد، سلامته في بدنه من التشوّه، و من الأمراض التي يستوحش الناس معها من التعاطي مع المصاب بها، كالجذام و البرص.

3 - كمال الخلق

إنّ لحسن الخلق و كماله تأثيرا خاصا في جذب الناس، كما أنّ لقسوة القلب و فظاظة المعاملة تأثيرا في تنفير الناس، فلهذا يلزم أن يكون الأنبياء في القمة من صفاء النفس و لين الطباع، و التواضع و النزاهة عن الحسد و التجبّر و ما شاكل ذلك.

قال سبحانه: فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ (1).

4 - كمال العقل

كما أنّ للعقل سهما وافرا في حقل القيادة، فيجب أن يكون الأنبياء على درجة عالية من الذكاء و الفطنة و الرأي القاطع لا يتردّدون في أمورهم بعد تبيّنها.

و قد ذكرنا سابقا قوله عليه السلام. «و لا بعث اللّه نبيا و لا رسولا حتى يستكمل العقل، و يكون عقله أفضل من عقول أمته»(2).

5 - حسن السيرة

إنّ البسطاء من الناس - و ما أكثر وجودهم في الأمم - ينظرون إلى البواطن

ص: 210


1- سورة آل عمران: الآية 159.
2- الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 11.

من خلال الظواهر، فيستكشفون سرائر الأنبياء من ظواهر أفعالهم. و لذلك يجب أن يكون الأنبياء في معاشراتهم مجانبين للأراذل و السفلة و أرباب الهزل، مبرّئين عن المشاحنات و المشاجرات التافهة و غير ذلك ممّا يسقط شأن القائد في أعين الناس.

و ما عددناه من الصفات هنا، نماذج من الأصل الكلّي الذي صدّرنا به البحث و هو اتّصاف الأنبياء بكل ما يوجب توفيقهم في هداية الناس، الذي هو الغرض من بعثتهم. و لعلّ هناك مصاديق أخرى لها دخالة في هذا المضمار، لم نذكرها فيما ذكرناه.

ص: 211

ص: 212

سمات الأنبياء

(3) علم النبي بالمعارف و الأحكام
اشارة

إنّ الهدف الاسمي من بعث الأنبياء، هداية الناس إلى المعارف العليا الراجعة إلى المبدأ و المعاد، و ما يضمن سعادتهم في حياتهم الدنيوية و الأخروية بالعمل بالأحكام الشرعية. و لأجل تحقق تلك الغاية يشترط أن يكون النبي على كمال المعرفة بتلك المعارف و الأحكام، مستقيا لها من معينها و مصدرها، معرفة لا جهل فيها، و لا شك و لا شبهة.

و على ذلك ليس الأنبياء مجتهدين في استنباط المعارف و الأحكام و الوظائف العملية، فإنّه أمر لا يخلو عن الجهل و الاشتباه و الخطأ. فما أوهن ما ذكره القوشجي في تصحيح تحريم المتعتين من جانب الخليفة عمر تجاه تحليل النبي لها، بقوله: «إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحا فيه (الخليفة)، فإنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع!!»(1).

فيلاحظ عليه

أولا - إنّ النصوص القرآنية تضافرت على أنّ ما يحكم به النبي، عن وحي إلهي لا يتطرق إليه السهو و الخطأ، كما قال عزّ من قائل: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ

ص: 213


1- شرح التجريد للقوشجي، ص 484.

اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (1) .

و قال تعالى: قُلْ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ (2).

و قال تعالى: قُلْ مٰا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ مٰا أَدْرِي مٰا يُفْعَلُ بِي وَ لاٰ بِكُمْ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ (3).

و قد حظر اللّه تعالى على نبيّه العجل و لو بحركة لسان، فقال عزّ و جل:

لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ * فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ (4) .

فحينئذ لا يسوغ لأحد مخالفته و لا الاجتهاد في مقابل قضائه و حكمه أصلا.

كيف يكون ذلك، و قد قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاٰ مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً مُبِيناً (5).

و قال سبحانه: فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (6).

إلى غير ذلك من الآيات التي تبعث على طاعة النبي و الأخذ بما أتى به، و الانتهاء عمّا نهى عنه، قال تعالى: وَ مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7).

فإنّ كل ذلك يكشف عن أنّ كل ما يؤدّيه النبي لا يؤدّيه من تلقاء نفسه،

ص: 214


1- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.
2- سورة يونس: الآية 15.
3- سورة الأحقاف: الآية 9.
4- سورة القيامة: الآيات 16-19.
5- سورة الأحزاب: الآية 36.
6- سورة النساء: الآية 65.
7- سورة الحشر: الآية 7.

و لا دخالة لفكره و شعوره فيه، و إنّما هو إفاضة من ربّ العالمين إلى ذهنه و لوح عقله ليؤدّيه إلى الأمة بلا تصرف و لا تدخّل.

و ثانيا - إنّ الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في فهم حكم اللّه تعالى من الحجج الأربع و منها السنّة، و هي قول النبي و فعله و تقريره. فإذا كان هذا معنى الاجتهاد، فما معنى مخالفة الحجة باسم الاجتهاد. إن هو إلاّ اجتهاد في مقابل الوحي، و هو ساقط قطعا.

ص: 215

ص: 216

سمات الأنبياء

(4) الكفاءة في القيادة

إنّ القيادة و الحكم يقتضيان اعتبار سلسلة من الشروط في القائد و الحاكم، و بدونها تنحرف القيادة عن طريق الحق و تنتهي بالأمة إلى أسوإ مصير.

و قد كانت قيادة الأنبياء على نوعين:

الأول - القيادة المعنوية المحضة، و هي هداية الأمّة إلى عبادة اللّه سبحانه و إبعادهم عن عبادة الأصنام و الأوثان، و إرشادهم إلى وظائفهم أمام اللّه سبحانه.

و هذا القسم لا يشترط فيه من المؤهّلات أزيد ممّا أسلفنا سوى الاستقامة في طريق الدعوة و الصبر على النائبات و معاداة المخالفين و أذاهم.

الثاني - القيادة بجميع شئونها، و هي هداية الأمّة في حياتها الفردية و الاجتماعية، الدنيوية و الأخروية، كما كان الحال في نبوة الكليم و داود و سليمان، فلم تقتصر دعوتهم على الجهات المعنوية بل قاموا بتشكيل الممالك و الدول و نشر دعوتهم بالجهاد بالنفس و النفيس، و يكفي في ذلك مراجعة ما جاء حولهم في القرآن الكريم.

قال سبحانه: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ (1).

ص: 217


1- سورة البقرة: الآية 251.

و من المعلوم أن القيادة في هذا الإطار الواسع لا تتسنى إلاّ لمن كان ذا مواهب كثيرة في الإدارة و التدبير و حسن الولاية، يقدر معها على القيام بتلك المسئولية.

و يجمعها ما يسميه السياسيون في مصطلح اليوم بالنضج العقلي و الرشد السياسي، و بدونه لن يقوم للحكومة عمود، و لن يخضرّ لها عود. و لأجل ذلك أثر عن النبي الأكرم أنّه قال: «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال:

1 - ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

2 - و حلم يملك به غضبه.

3 - و حسن الولاية على من يلي حتى يكون كالأب الرحيم»(1).

و قال الإمام علي عليه السلام: «أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقومهم (و في رواية أقواهم) و أعلمهم بأمر اللّه، فإن شغب شاغب أستعتب، و إن أبى قوتل»(2).

ثم إنّ جمعا من المتكلمين التزموا بوجود سمات أخرى في الأنبياء وراء ما ذكرنا، ككونهم أشجع الناس و أعلمهم بالعلوم كافة، و أزهدهم و أعبدهم و نحو ذلك.

و لعلّ هذه الأوصاف من سمات من بعث لكافة الناس و هم على المشهور خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و النبي الأعظم عليهم السلام.

و على التحقيق هو نبي الإسلام صلى اللّه عليه و آله(3).

إلى هنا تمّ البحث عن النبوّة العامة التي تختص أبحاثها بنبوّة نبي معين، و حان وقت البحث عن النبوة الخاصة، المختصة مباحثها بنبوة نبي الإسلام، محمد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه و آله.

ص: 218


1- الكافي، ج 1، ص 407.
2- نهج البلاغة، الخطبة 172.
3- لاحظ مفاهيم القرآن، ج 3، ص 77-116.

الفصل الثامن النبوة الخاصة

اشارة

* طرق إثبات نبوة نبي الإسلام محمد بن عبد اللّه (ص) الطريق الأول - معجزاته:

المقام الأول: معجزته الخالدة القرآن الكريم.

المقام الثاني: سائر معجزاته.

الطريق الثاني: بشائره في العهدين.

الطريق الثالث: القرائن الداخلية و الخارجية.

* سمات الرسالة الإسلامية:

1 - عالمية الرسالة.

2 - خاتمية الرسالة.

أسئلة حول الخاتمية.

ص: 219

ص: 220

الدعوة الإسلامية

1 - ظروفها:

في الوقت الذي عمّت سيادة الشرك و عبادة الأصنام أكثر ربوع المعمورة، و كانت الشعوب المتحضرة في بلاد الفرس و الروم تعاني ألوان المظالم و التمييزات الطّبقيّة، و كان العمّال و الفلاحون يرزخون تحت ثقل الضرائب المجحفة، و كان اليأس ملقيا بظلاله السوداء على عامة الشعوب و الملل، و عاد رجال الإصلاح يعيشون مرارة اليأس من كل ثورة منجية.

في هذه الظروف، قام رجل بين أمّة متقهقرة، تقطن أراض جدباء قاحلة، و معشر ليس لهم من الحضارة أي سهم يذكر، يسفكون دماءهم و يقطعون أرحامهم، فادّعى النبوة و السفارة من اللّه الخالق، على أساس نشر التوحيد، و رفض الوثنية و عبادة الأصنام، و إقامة العدل و بسط القسط، و رفض التمييز و حماية المضطهدين و المظلومين.

2 - اسم الداعي و نسبه

هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، من قبيلة قريش، ولد بمكّة عام (570 م) في بيت عريق في العربية، مشهور بالكرم و السخاء و الستر و العفاف، أعني به أسرة بني هاشم.

ص: 221

3 - تاريخ الدعوة

و قد قام بالدعوة في أوائل القرن السابع الميلادي (610). و أول ما بدأ به، دعوة أقربائه و عشيرته، و قال في دعوتهم: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، و اللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصة و إلى الناس عامّة، و اللّه لتموتنّ كما تنامون، و لتبعثنّ كما تستيقظون، و لتحاسبنّ بما تعملون، و إنّها الجنة أبدا، و النار أبدا». ثم قال: «يا بني عبد المطلب، إنّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، و قد أمرني اللّه عز و جل، أن أدعوكم إليه»(1).

و بعد سنوات من بدء دعوته - استطاع في أثنائها هداية جمع من عشيرته - وجه دعوته إلى عموم الناس من غير خصوصية بين قبيلته و غيرها، و وقف على صخرة عند جبل الصفا، و نادى بصوت عال: «وا صباحاه»، و هي كلمة كانت العرب تطلقها كلما أحسّت بخطر أو بلغها نبأ مرعب، فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الإنذار بتعميم الدعوة، فالتفت عندها حوله جموع الناس من أبناء القبائل المختلفة و قالوا له: «ما لك ؟».

فقال: «أ رأيتكم، إن أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم، ما كنتم تصدقونني ؟».

قالوا: «بلى».

قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

ثم قال: «إنّما مثلي و مثلكم كمثل رجل رأى العدو انطلق يريد أهله، فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف، وا صباحاه»(2).

ثم استمر في رسالته، يدعو قومه إلى التوحيد و رفض الأصنام، و أنّ وراء هذه الحياة، حياة دائمة غير داثرة، و الناس بين مؤمن به مفاد بنفسه و نفيسه،

ص: 222


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص 62-63. و الكامل ج 2، ص 40-41.
2- السيرة الدحلانية، بهامش السيرة الحلبية، ج 1، ص 194.

عدو ينابذه و يتحين الفرص للفتك به و قتله، فلما أحسّ بالخطر، غادر موطنه مكة إلى مدينة يثرب، فأقام هناك سنين عشرة، لقي فيها من أهل يثرب عطفا و مودة و التفافا حوله، و إيمانا به و تفانيا دون دعوته بأموالهم و أنفسهم، فصار ذلك سببا لنشر دعوته في شبه الجزيرة العربية و خارجها عبر بعث رسله و موفديه، فكان النجاح حليفه، إلى أن أجاب داعي الموت تاركا أمّة كبيرة مؤمنة، موحّدة، و شريعة ذات نظم و سنن و طقوس، و ذلك في العام 633 ميلادية.

و لم تنكمش دعوته بعد وفاته، بل سرعان ما انتشرت في أكثر ربوع المعمورة، بفضل اتقان دينه، و جهاد معتنقي دعوته.

4 - سمات الدعوة
اشارة

يمكن تقسيم سمات و علامات هذه الدعوة إلى قسمين:

أ - قسم جاء في كتابه الذي جعله دليلا على رسالته و برهانا ساطعا على صدق نبوّته.

ب - و قسم يقف عليه المتتبع في حاله و حال دعوته و ما تركته من آثار في المجتمعات الإنسانية.

أ - سمات دعوته في كتابه المعجز

يعرّفه كتابه بصفات، و يصف دعوته بسمات عديدة، منها:(1) - أنّه رسول أرسل إلى العالمين جميعا، من دون فرق بين قوم و آخرين، و إقليم دون إقليم، و جيل دون جيل، بل رسالته موجهة إلى كل من يصدق عليه «يا أيها الناس»، و يقول:

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (1) .

ص: 223


1- سورة الأعراف: الآية 158.

وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (1) .

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2) .

(2) - و أنّ رسالته خاتمة الرسالات، و أنّ كتابه خاتم الكتب، و أنّه خاتم الأنبياء و يقول:

مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (3) .

(3) - و أنّه نبي قد بشّر بنبوته في الكتب السماوية الماضية، و يقول:

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ (4) .

و يقول: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (5).

و الضمير في «يعرفونه» يرجع إلى النبي بقرينة قوله: كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ .

و يقول بأنّ المسيح قد بشّر بنبوته في إنجيله:

وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) .(7)

ص: 224


1- سورة الأنبياء: الآية 107.
2- سورة الأنعام: الآية 19.
3- سورة الأحزاب: الآية 40.
4- سورة الأعراف: الآية 157.
5- سورة البقرة: الآية 146.
6- سورة الصف: الآية 6.
7- سورة المائدة: الآية 48.

- و يعرّفه رابعا بأنّ دعوته دعوة مكملة للشرائع السابقة، و أنّ كتابه و شريعته مصدّقة لها، لا مباينة و لا مخالفة و يقول:

وَ لَمّٰا جٰاءَهُمْ كِتٰابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَهُمْ ، وَ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ (1) .(2) - و يعرّفه بأنّه جاء بمعجزات و آيات، و أنّ معجزته الخالدة على جبين الدهر هي كتابه، لا يمكن لأحد من الخلق مقابلته و لا الإتيان بمثله، و يقول:

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (3) .

و يقول: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4).(5) - و أنّ كتابه كتاب فاصل بين الحق و الباطل و مهيمن على الكتب السالفة، و يقول: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... (4). و أنّ كتابه يفصل ما اختلف فيه بنو إسرائيل و يقول:

إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (5) .

(7) - و أنّ أصوله واضحة، و تعاليمه سهلة، فإذا سئل عن أصول عقيدته في اللّه سبحانه، يقول: قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ * اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (6).

ص: 225


1- سورة البقرة: الآية 89.
2- سورة النمل: الآية 76.
3- سورة البقرة: الآية 23.
4- سورة الإسراء: الآية 88.
5- سورة الإخلاص. و يعرف وضوح العقيدة إذا قيست هذه الآيات إلى التثليث الذي تتدين به المسيحية الحاضرة و غيره من العقائد التي اتّفق البطاركة على أنّها من الرموز التي ليس في مقدور

كما يقول: في تعاليمه و تكاليفه: وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1).

و يقول: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (2).

(8) - أنّ شريعته كافلة للسعادة الدنيوية و الأخروية، و يقول: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ (3).

(9) - أنّ دينه و تعاليمه تكافح الأساطير و الخرافات و كلّ عقلية متخلفة و يقول: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاٰلَ اَلَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ (4).

و المراد من الأغلال، الأوهام التي كانت تسود أفكار الشعوب آنذاك.

(10) - أنّ هذا الداعي أمّيّ لم يقرأ و لم يكتب، و مع ذلك جاء بأصول و معارف و قوانين لإدارة المجتمع، و يقول: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ (5).

و يقول: وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ (6).

ب - سمات دعوته من خلال التدبر في آثارها

إنّ الإمعان في الآثار التي تركتها هذه الدعوة بين الأمم البشرية، يدفع

ص: 226


1- سورة الحج: الآية 78.
2- سورة البقرة: الآية 185.
3- سورة الأعراف: الآية 157.
4- الآية السابقة.
5- الآية السابقة.
6- سورة العنكبوت: الآية 48.

الإنسان إلى الانتقال إلى سمات أخرى لدعوته، منها:

1 - سرعة انتشارها في أقطار العالم جميعا لا سيما بين الأمم المتحضرة، سرعة لم ير التاريخ لها مثيلا. فطفق المعتنقون به، المجهزون بسلاح الإيمان و الإخلاص، يغلبون الأمم القوية المتحضرة المجهزة بأرهب أنواع السلاح المادي و أفتكه. و لم يمض قرن و نصف من رحيل صاحب الدعوة، إلاّ و قد ملأ الإسلام مشارق الأرض و مغاربها، و انتشر انتشارا حيّر النّهى و العقول.

2 - إنّ الأمّة المؤمنة، و إن غلبت أصحاب الحضارات، و أزالت عروشهم، لكنها ما عفت على حضاراتهم العلمية و الصناعية، بل حفظت الصالح منها، و قامت بتأسيس حضارة جديدة تشتمل على الأصلح من السابقة، و ما أبدعته هي. و بذلك افترقت عن سائر الثورات البشرية التي كثيرا ما تنجر إلى تخريب البلدان و تدمير الحضارات. فأصبح التمدن الإسلامي، حضارة إنسانية مكتملة الأبعاد، بلغت في العظمة إلى حدّ شكّلت معه الأساس الذي بنيت عليه الحضارة الغربية الحديثة، بحيث لو لا الحضارة الإسلامية لزالت الحضارات السابقة عليها، و لما لحقها أيّ تمدن، لأنّها صانت السالف من الحضارات عن الاندثار و الضياع، و طورته و أبدعت فيه. فالحضارة الإسلامية - بلا تحفظ - جسر بين الحضارات اليونانية و الرومانية و الفارسية، و التمدّن الصناعي الحديث.

3 - تضحية المعتنقين لدينه، و تفانيهم في سبيله بالنفس و النفيس، و ذلك في ظل تحقق شعور ديني عميق و إيمان قوي به و بشريعته، حتى قدّموا كلّ دقيق و جليل مما يملكون في سبيل نصرته و إعزازه، و هذا لو دلّ على شيء لدلّ على إيمانهم بفضائله و كمالاته، و إيقانهم بأنّه رجل إلهي سماوي، بعث لإنقاذ البشر، و أنّ اجتماعهم و التفافهم حوله لم يكن طلبا لشيء من الزخارف الدنيوية. و هذا و إن كان لا يصدق على جميع أصحابه و حوارييه، لكنه صادق على الكثيرين ممن تربوا في أحضانه، و استنارت ألبابهم و استقامت فطرهم في ظل تعاليم شريعته.

و بعد جميع ما ذكرناه، فاللازم على المنصف المتحري للحقيقة، أن يبحث عن حقيقة هذه الدعوة، و صحة دلائلها، حتى يجيب الداعي النفساني للمعرفة

ص: 227

أولا، و يقوم بوظيفته - إذا وجدها صالحة للاعتناق - ثانيا(1).

الطرق الثلاثة للتعرف على صدق المدّعى

اشارة

قد وقفت عند البحث عن النبوّة العامة على أنّ للتعرف على صدق مدّعي النبوة طرقا ثلاثة:

1 - إتيانه بالمعجز، بشروطه المذكورة.

2 - تصديق النبي السابق عليه، و تنصيصه على نبوته.

3 - جمع القرائن و الشواهد القاضية بالضرورة بصدق دعواه.

و نحن نسلك في التعرف على صدق ادعاء نبي الإسلام النبوة، هذه الطرق، الواحدة بعد الأخرى.

ص: 228


1- و هذا هو الذي نستهدفه في هذا البحث. فنطرح هذه الدعوة الجديدة، بعد المسيح، على بساط البحث، بنحو الاستهداء و تحرّي الحقيقة و تمييز الحق عن الغثاء، على ضوء التحليلات المنطقية، و من دون تأثّر بعقيدة مسبقة، أو نزول على نزعة عاطفية، و بصورة يقتنع معها المنصف، و يتنزل المتعصّب على الإسلام عن تعصّبه، و تقوم الحجة على المعاند. فنسأله تعالى أن يوفقنا لبيان الحق و تجنّب القضاء الباطل و الفصل الممقوت، إنّه على ذلك لقدير.
الطريق الأول لإثبات نبوة نبي الإسلام الاستدلال بمعجزاته
اشارة

قد عرّفنا المعجز عند البحث في النبوة العامة بالنحو التالي:

المعجز أمر خارق للعادة، مقرون بالدعوى، و التحدّي، مع عدم المعارضة، و مطابقته للدعوى.

فعلينا أن نبحث عن انطباق هذا التعريف على دلائله التي أقامها مدّعي النبوة إثباتا لصحة دعواه.

إنّ التعريف المذكور ينطوي على أمور:

1 - دعوى النبوة.

2 - الإتيان بأمر خارق للعادة.

3 - التحدّي على الإتيان بمثله.

4 - العجز عن مقابلته.

5 - مطابقة المعجزة للدعوى.

و هذه القيود التي ذكرناها للمعجز تنطبق على ما جاء به نبي الإسلام، و إليك بيانها إجمالا:

ص: 229

1 - دعوى النبوة

لا شك أنّه ادعى النبوة، بضرورة التاريخ، و نصّ كتابه:

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (1) .

2 - خرق العادة

قد ضبط التاريخ أنّه كانت لنبيّ الإسلام معاجز كثيرة في مواقف حاسمة، غير أنّه كان يركّز على معجزته الخالدة و هي القرآن الكريم. و نحن نقدم البحث في هذه المعجزة الخالدة، ثم نتبعه بالبحث في سائر معجزاته.

3 - التحدّي

و لا شك أنّه تحدى - بما ادّعى أنّه أمر معجز - الإنس و الجنّ ، و قال بنصّ كتابه: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (2).

4 - العجز عن مقابلته

إنّ من ألمّ بتاريخ تحدّي النبي الأكرم: من زمن نزول القرآن إلى عصرنا هذا، يقف على أنّه لم يتمكن فرد، و لا لجنة علمية من الإتيان بمثل معجزته.

و يعرف تفصيل ذلك عند البحث عن إعجاز القرآن، فانتظر.

5 - مطابقة المعجزة للدعوى

إنّ هذا القيد، يبحث عنه في سائر معاجزه التي له فيها مورد، كما في إناطة

ص: 230


1- سورة الأعراف: الآية 158.
2- سورة البقرة: الآية 23. و في آيات أخرى تأتي الإشارة إليها.

قريش إيمانها بنبوته، بشقه القمر، و تسبيح الحصى، و غير ذلك، فقام بما اقترحوا عليه، بإذن اللّه سبحانه، و كانت المعجزة مطابقة لدعواه، كما سيوافيك في الفصل الخاص ببيان سائر معجزاته.

إذا وقفت على تعريف الإعجاز و انطباقه على ما أتى به، إجمالا، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول - في معجزته الكبرى الخالدة على جبين الدهر و هي القرآن الكريم، و إثبات أنّه كتاب خارق للعادة و خارج عن طور الطاقة البشرية.

المقام الثاني - في سائر معاجزه التي ضبطها التاريخ و الحديث.

ص: 231

ص: 232

المقام الأول المعجزة الخالدة
اشارة

و يقع البحث فيها عن أمور:

* الأمر الأول: ما هو سبب التحدّي بالكلام ؟. فيه وجهان، نذكرهما، ثم نلحقه ببيان بعض مزايا القرآن من حيث هو معجز.

* الأمر الثاني: وجه كون القرآن خارقا للعادة. و للوقوف عليه مسلكان:

المسلك الأول: إقرار بلغاء العرب بإعجازه.

المسلك الثاني: تحليل إعجازه مباشرة. و إعجاز القرآن يقوم على دعائم أربع:

- الدعامة الأولى: الفصاحة. و يراد منها جمال اللفظ و أناقة الظاهر.

- الدعامة الثانية: البلاغة. و يراد منها جمال العرض و سمو المعنى.

- الدعامة الثالثة: النّظم. و يراد منه رصانة البيان و استحكام التأليف.

- الدعامة الرابعة: الأسلوب. و يراد منه بداعة المنهج و غرابة السبك.

و يلحق بهذا الأمر تنبيهات ثلاثة:

التنبيه الأول، نطرح فيه آيتين على منضدة التشريح.

ص: 233

التنبيه الثاني، نشير فيه إلى بعض مزايا القرآن البيانية.

التنبيه الثالث، نتطرق فيه إلى بيان مذهب الصرفة، من مذاهب إعجاز القرآن.

* الأمر الثالث: عجز البشر عن معارضته و الإتيان بمثله.

* الأمر الرابع: الشواهد الدالّة على كون القرآن كتابا سماويا، و هي:

1 - أمية حامل الرسالة.

2 - عدم اختلافه في الأسلوب.

3 - عدم اختلافه في المضمون.

4 - هيمنته على الكتب السماوية.

5 - إتقانه في التشريع و التقنين.

6 - إخباره عن الغيب.

7 - إخباره عن الظواهر و القوانين الكونية.

8 - الأخلاق.

ص: 234

الأمر الأول سبب التحدّي بالكلام
اشارة

لا شك أنّ الكليم موسى، تحدّى بمعجزات خاصة، يعبر عنها القرآن الكريم بتسع آيات بينات، في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ (1).

و قوله: وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضٰاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيٰاتٍ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ (2).

كما أنّ المسيح تحدّى بمعجزات خاصة، تباين من حيث الماهية معجزات الكليم، و يحكي ذلك القرآن بقوله: وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ ، وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَ مٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3).

فعند ذلك يطرح السؤال نفسه: لما ذا اختص الكليم بهذه المعاجز، و المسيح بتلك الخوارق، و جاء نبي الإسلام بمعجزة الكلام ؟.

ص: 235


1- سورة الإسراء: الآية 101.
2- سورة النمل: الآية 12.
3- سورة آل عمران: الآية 49. و لاحظ سورة المائدة: الآية 110.
و الإجابة عن ذلك بوجهين:
الوجه الأول - أصدق المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر

إذا كان المعجز عبارة عما يخرق نواميس الطبيعة، فلا شك أنّ معرفة ذلك يختصّ بعلماء الصنعة التي يشابههما ذلك المعجز، فإنّ علماء أيّ صنعة أعرف بخصوصياتها، فهم يميّزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله، و بين ما يمكنهم. و لذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز من غيرهم، و أمّا الجاهل فباب الشكّ عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلا بمبادئ الصنعة، و ما دام يحتمل أنّ المدّعي قد اعتمد على مبادي معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة.

و لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يخصّ كلّ نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه، و التي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنّه أسرع للتصديق، و أقوم للحجة. فكان من الحكمة أن يخصّ موسى عليه السلام بالعصا، و اليد البيضاء، لما شاع السحر في زمانه و كثر الساحرون. و لذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق برهانه لعلمهم بأنّ ما أتى به موسى، خارج عن حدود السحر، فتيقّنوا من كونه معجزة إلهية.

و شاع الطب اليوناني في عصر المسيح و أتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، و كان للطب رواج باهر في سوريا و فلسطين، إذ كانتا مستعمرتين للرومان، فشاءت الحكمة الإلهية، أن تجعل برهان المسيح شيئا يشبه الطب، فقام بإحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص، ليعلم أهل زمانه أنّ ما أتى به خارج عن قدرة البشر.

و أمّا نبيّ الإسلام، فقد ادّعى النبوة بين العرب، و كان الفن الرائج بينهم هو الشعر و الخطابة، فقد برعوا في البلاغة، و امتازوا بالفصاحة، و بلغوا الذّروة في فنون الأدب. و كانوا يعقدون النوادي و يقيمون الأسواق لإلقاء الخطابة و الشعر، و كان المرء يقدّر على حسب ما يحسنه من إلقاء الخطب الرنّانة، و الأشعار البليغة.

و قد بلغ تقديرهم للأدب و الشعر إلى حدّ عمدوا إلى قصائد سبع، من خيرة

ص: 236

أشعارهم، فعلّقوها على جدار الكعبة، بعد ما كتبوها بماء الذهب، فكان يقال هذه مذهّبة امرئ القيس إذا كانت أجود شعر.

كما بلغ اهتمام رجال العرب و نسائهم بالخطابة و الشعر إلى أنّهم كانوا يحتفلون كل عام في موسم الحج احتفالات كبيرة لإلقاء الخطب و الأشعار. و كان النابغة الذبياني هو الحكم في تمييز الراجح من المرجوح، فيأتي سوق عكاظ و تضرب له فيه قبّة حمراء من الأدم، فيأتيه الشعراء، فيعرض كلّ أبياته التي صاغها طيلة السنة المتقدمة(1).

و في هذا الأجواء، كانت المناسبة تقتضي أن تكون معجزة المدّعي مشابهة للفن الرائج في ذلك الظرف، فلذلك جاء بمعجزة البيان و بلاغة الكلام، حتى يعرف كلّ عربي أو الأخصائي منهم، أن قرآنه بعذوبته و حلاوته، و سمو معانيه و عمقها، و روعة نظمه و بداعة أسلوبه(2)، خارج عن إطار الكلام الرائج بين فصحاء العرب، و بلغائهم أولا، و خارج عن طاقتهم و مقدرتهم ثانيا.

و سيوافيك تصديق أكابرهم و فحولهم المعاصرين للنبي الأعظم، بكون كلامه خارجا عن طوق البشر و مقدرته، كما سيوافيك تحليله بوجه علمي ملموس.

و هناك كلام لأحد أئمة الشيعة - قيّم جدّا - نأتي به:

روى الكليني عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكّيت(3)، لأبي الحسن(4): «لما ذا بعث اللّه موسى بن عمران عليه السلام بالعصا، و يده

ص: 237


1- شعراء النصرانية، ج 2، ص 640، ط بيروت.
2- سيوافيك أنّ الإعجاز البياني للقرآن يقوم على أسس أربعة هي التي أشرنا إليها في المتن.
3- أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي، أحد أئمة اللغة و الأدب، و كان حامل لواء علم العربية، و له تصانيف منها: كتاب تهذيب الألفاظ، و كتاب إصلاح المنطق، قتله المتوكل في خامس شهر رجب عام 244 ه، بحجة أنّه قال إنّ قنبرا - خادم علي - خير منه و من ابنيه. فقال المتوكل للأتراك، سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 376.
4- الإمام الهادي أبو الحسن، علي بن محمد بن علي الرضا، المدفون بسامراء، الشهيد بيد المعتز باللّه عام 252 ه.

البيضاء، و آلة السحر؟ و بعث عيسى بآلة الطب ؟ و بعث محمدا (صلى اللّه عليه و آله و على جميع الأنبياء) بالكلام و الخطب ؟».

فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إنّ اللّه لما بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله، و ما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجة عليهم.

و إنّ اللّه بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزّمانات(1)، و احتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيا لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن اللّه و أثبت به الحجة عليهم.

و إنّ اللّه بعث محمدا (صلى اللّه عليه و آله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب و الكلام - و أظنه قال: الشعر - فأتاهم من عند اللّه من مواعظه و حكمه ما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجة عليهم.

قال: فقال ابن السكّيت: «تاللّه ما رأيت مثلك قطّ»(2).

الوجه الثاني - الدين الخالد رهن المعجز الخالد

و هناك وجه ثان لاختصاص النبي بهذه المعجزة و هو الفرق الواضح بين دعوته، و دعوة سائر الأنبياء، فإنّ دعوتهم و شريعتهم كانت محدودة زمانا و مكانا، أو من حيث الزمان فقط. و لأجل ذلك كانوا يبشرون بمجيء نبي آخر ينسخ بشريعته شرائع من قبله. و مثل تلك الدّعوات يكفي في إثباتها وجود معاجز تنقلها الأجيال المعاصرة للأنبياء إلى الأجيال التالية لهم بصورة الأمر المتواتر، و مثل هذه المعاجز لا تكفي للدعوة الخالدة، لأنّ الإيمان بالمعاجز و الإذعان بصحتها من خلال نقلها بالتواتر يزول بمضي الزمان، إلى حدّ تصبح معه أمورا ظنية، غير قابلة لاتمام الحجّة، للأجيال المتلاحقة.

ص: 238


1- الزّمانات: الآفات الواردة على بعض الأعضاء فتمنعها من الحركة كالفالج و اللّقوة.
2- الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 20، ص 24-25.

فلأجل ذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الدين الخالد مقرونا بالمعجزة الخالدة، حتى تتم الحجة على جميع الأجيال و القرون إلى أن تقوم الساعة، و هذا لا يمكن إلاّ بأن يكون للإعجاز وجود خالد و ثابت عبر القرون، و ليس ذلك إلاّ أن يكون مثل القرآن.

و هذا لا يعني أنّه لم يكن للنبي الأكرم معجزة سوى القرآن، فإنّ ذلك باطل كما سنفصل البحث عنه في المقام الثاني، بل يعني أنّه صلى اللّه عليه و آله اختص بهذه المعجزة دون غيره، و أنّه كان يركز عليها دون غيرها من سائر معاجزه.

و بعبارة أخرى: إنّ لدعوته سمة الشمول و سمة الخاتمية، أمّا الشمول، فبعثه إلى البشر كلّهم، و أمّا الخاتمية فادعاؤه بأنّه خاتم النبيين و أنّ كتابه خاتم الكتب و شريعته خاتمة الشرائع، فمثل هذه الدعوة التي تعمّ جميع الأجيال و الأمكنة، لا تتم إلاّ باقترانها بمعجزة ساطعة على مرّ الدهور و تعاقب الأجيال أوّلا، و في جميع الأمكنة ثانيا، حتى يتمّ الاحتجاج على المتحرّي، في جميع الأمكنة و الأزمنة. و قد عرفت أنّ مرور الزمان يضفي على سائر المعاجز، ثوب الظنّ و الشك، إلى أن تصبح في أعين الناس، خصوصا الذين هم في منأى عن الأجواء الدينية، كالأساطير التي تقرأ في الكتب. فعند ذلك لا يتمكن المسلم المحتج من إقامة الحجة على مخالفه و معانده، بل لا تتم الحجة في حدّ نفسها على المخالف. فاقتضت مشيئته سبحانه أن يبرهن دعوة نبيّه الخاتم بمعجزة ناطقة بالحق، في جميع الأمكنة و الأزمنة تكون كفيلة بإتمام الحجة على البشر إلى قيام الساعة: لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اَللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ (1)، بل تكون فَلِلّٰهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبٰالِغَةُ (2) على الناس في كل مكان و زمان.

ص: 239


1- اقتباس من آيتين إحداهما في سورة النساء: الآية 165 و الثانية في سورة الأنعام: الآية 149.
2- اقتباس من آيتين إحداهما في سورة النساء: الآية 165 و الثانية في سورة الأنعام: الآية 149.
مزايا أخرى لهذه المعجزة
1 - القرآن كتاب الهداية و التربية

إنّ الكتاب الذي جاء به نبي الإسلام سندا لنبوته، يؤدّي مهمّتين:

1 - يثبت أنّه مبعوث من جانبه سبحانه، و في هذا يتساوى مع معاجز المتقدمين عليه من الأنبياء.

2 - يهدي الناس إلى أصول المعارف و العقائد، يتكفّل بتربية البشر و سوقهم إلى الفضائل الأخلاقية، و هذه مزية تختص بمعجزته الخالدة، و لا توجد في معجزة أخرى. فإن ما جاء به الكليم و المسيح من المعاجز كانقلاب العصا إلى الثعبان، و إحياء الموتى، لا يؤدّي سوى مهمة واحدة و هي إثبات أنّ الجائي بها مبعوث من جانب اللّه سبحانه. و أمّا المعجزة الخالدة، فهي تهدى - مضافا إلى ذلك - إلى المعارف العليا، و كرائم الأخلاق، و الفرائض و المنهيات. فهي بمفردها: برهان نبوته، و هادي أمّته إلى ما يجب عليهم الاعتقاد به أو العمل به.

و بعبارة أخرى: إنّ معاجز الكليم و المسيح معاجز جسمانية، لا تثبت إلاّ صلتهما باللّه سبحانه، و أمّا القرآن الكريم فهو معجزة معنوية، تصقل العقول و الأرواح، و ترشد إلى طريق الخير و الصلاح. و النبي الأكرم قام - بفضل هذه المعجزة - بصنع أمة، بلغت من الفضل و الكمال كل مبلغ بعد ما كانت غارقة في الجهل و الأميّة.

2 - استقلالها في إثبات الرسالة

إنّ لهذا الكتاب مزية ثانية تفتقدها سائر المعاجز، حتى المعجزات الأخرى للنبي الأكرم، و هي أنّ سائر المعاجز لا تثبت شيئا إلاّ أن يكون معها مدّعي النبوة، فيدّعي و يسأل البينة، فيأتي بالمعجز، و يتحدّى به، إلى آخر ما ذكرنا من شروط المعجز.

و أمّا القرآن الكريم، فإنّه بنفسه يقوم بكل هذه الأمور، فيطرح بنفسه

ص: 240

الدعوى، و يتساءل - هو - عن برهانها، ثم يثبتها بنفسه، و يتحدّى الناس على الإتيان بمثله، و يعجزهم و يدينهم. و هذه خصيصة لهذه المعجزة لا توجد في سائر المعاجز.

3 - التحدّي بأبسط الأشياء و أوفرها

قد تعرفت في مباحث الإعجاز - من النبوة العامة - على الفروق الواضحة بين المعجزة و غيرها، و قلنا إنّه ربما يصل العلم و الصنعة إلى الغاية التي وصلت إليها معاجز الأنبياء، و مع ذلك كلّه لا تتجاوز الصنعة عن كونها صنعة بشرية و لا تدخل في إطار الإعجاز.

مثلا: إنّ سليمان بن داود، أول من فتح أبواب الفضاء على عيون المجتمع الإنساني، فهو كان رائد الفضاء الأول بفضل الريح المسخرة له، يقول سبحانه:

فَسَخَّرْنٰا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخٰاءً حَيْثُ أَصٰابَ (1) .

و لم تتوفق الحضارة البشرية إلى إرسال الإنسان إلى الفضاء إلاّ بعد آلاف السنين، حتى تمكنت أخيرا من إنزاله على سطح القمر، و الركب بعد مستمر، و مع ذلك كلّه فما أنجزته هذه الحضارة لا يخرج عن إطار الصنعة، لوجود الميز الجوهري بين العملين، و إن اتحدا في النتيجة. و ذلك أنّ سليمان بدأ عمله بأبسط الأشياء، و أكثرها شياعا، و هو الجلوس على بساط، يحركه الريح، تجري بأمره حيث شاء، كما قال تعالى: وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهٰا شَهْرٌ وَ رَوٰاحُهٰا شَهْرٌ (2).

و أمّا ما قامت به الحضارة الصناعية من إرسال الرّواد إلى الفضاء، فهو صنعة بحتة، لأنّها قامت بهذا الفعل بأعقد الصناعات و أخفاها. فالسفينة الفضائية الحاملة لعدّة من الرواد، و التي هبطت على سطح القمر، اشترك في

ص: 241


1- سورة ص: الآية 36.
2- سورة سبأ: الآية 12.

صنعها مجموعة هائلة من الصناعيين و خبراء العلوم الطبيعية من علماء الفيزياء و الكيمياء و الفلك و الرياضيات و الطب، حتى علماء النفس و غيرهم ممن خدموا هذه السفينة و الصواريخ الحاملة لها. فلأجل ذلك كلما ازدادت الصناعة عمقا و تعقيدا، اتّضح كونها نتيجة حضارة بشرية بحتة، لا صلة لها بأمر سماوي.

و نفس هذه القاعدة تنطبق على معجزة النبي الأكرم بوضوح، فإنّه تحدّى بشيء مؤلف من مواد يعرفها كل الناس و في متناولهم، حيث إنّه لا يتجاوز عن كونه حروفا و ألفاظا تشكل لغة العرب و مفردات كلامهم و جملهم. فلو كان هذا القرآن مصنوع نفس من جاء به، فهو و سائر الناس في هذه الحلبة سواء، لأنّ موادّه في متناول الناس و اختيارهم، فليقم خبراؤهم و علماؤهم و بلغاؤهم و فصحاؤهم بصنع كتاب، أو عشر سور، أو سورة واحدة مثله..

و مع أنّ كل المعاجز تشترك في هذا المضمار، غير أنّ القرآن يمتاز عنها بمزية ثالثة و هي أنّ الإذعان بكون ما جاء به الكليم و المسيح من المعاجز، يحتاج إلى معلومات خاصة حتى يتميز في ظلّها السّحر و الطب من الإعجاز، و لكن الإذعان بكون القرآن معجزة إلهية لا يحتاج إلى شرائط في السامع أزيد من كونه عربيا صميما عارفا بأساليب الكلام، فإنّ ذلك كاف في تمييز ما هو داخل في حدود الطاقة البشرية عمّا هو خارج عنها، و لأجل ذلك كان النبي يتحدّى بالقرآن و يدعو كلّ الناس إلى المقابلة و المنازلة، و قلّما يتّفق أن يسمع إنسان كلامه و لا يتأثر منه، و إن كان أغلبهم يعارض ما يجده حقّا في فطرته و عمق ضميره، بأساليب شيطانية، كما سيوافيك في قصة الوليد بن المغيرة، و عتبة بن ربيعة و مجمل سيرة رؤساء قريش.

هذه المزايا الثلاث تختص بمعجزته الخالدة. و لها مزايا أخرى ستقف عليها خلال المباحث الآتية.

ص: 242

الأمر الثاني وجه إعجاز القرآن و كونه كتابا خارقا للعادة

إنّ إعجاز القرآن في عصر الرسالة، كان يتمثّل في فصاحة ألفاظه، و بلاغة معانيه، و روعة نظمه، و بداعة أسلوبه الخاص. فعرب عصر الرسالة و بلغاؤهم و حذّاقهم في الخطابة و الشعر، لمسوا أنّ القرآن في ظل عذوبة ألفاظه و سحر معانيه و جمال تأليفه و نظمه، و بداعة سبكه، لا يشبه الشعر و لا النثر، و أنّه كتاب جاء في قالب، لم يسبق له نظير فله جذابية خاصة، و هيبة رائعة تهتز بها النفوس تارة، و تقشعر منها الجلود أخرى. فأحسّوا بضعف الفطرة عن معارضته، و لمسوا أنّه جنس من الكلام غير ما هم فيه، و وجدوا منه ما يغمر القوة، و يخاذل النفس، مصادمة، لا حيلة و لا خدعة، مع أنّه مؤلف من نفس الحروف التي هي المادة الأولى لكلماتهم و كلمهم.

إنّ المحققين في علوم القرآن، و مبيّني وجوه إعجازه، و إن ذكروا وجوها كثيرة لكون هذا الكتاب معجزا، و سنمر على تلك الوجوه، غير أنّ جهة إعجازه في عصر الرسالة كان متمركزا في جانبه البياني الذي يتمثل في لفظه الجميل، و معناه البليغ، و نظمه المعجب، و أسلوبه الرائق. و لذلك أدهش عقول الفصحاء و البلغاء في عصر النبي، و لم يزل يدهش كلّ عربي ملمّ بلغته، أو غير عربي عارف باللغة العربية، من غير فرق بين جيل و جيل.

إنّ للقرآن في مجالي اللفظ و المعنى كيفية خاصة يمتاز بها عن كل كلام سواه،

ص: 243

سواء أصدر من أعظم الفصحاء و البلغاء أو من غيرهم، و هذا هو الذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة. و نحن نعيش في بدايات القرن الخامس من هجرة النبي، و ندّعي أنّ القرآن لم يزل معجزا إلى الآن، و أنّه أرقى من أن يعارض أو يبارى و يؤتى بمثله أبدا. غير أنّ لإثبات تلك الدعوى مسلكين.

الأول: المراجعة إلى أهل الخبرة ممّن يعدّون من صميم أهل اللغة العربية، و في الجبهة و السنام منهم.

الثاني: التعرّف عليه بالمباشرة و التحليل.

و نحن نسلك كلا الطريقين في هذا البحث و إن طال بنا الموقف و الكلام، و إليك البيان:

ص: 244

المسلك الأول في إثبات إعجاز القرآن اعتراف بلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني
اشارة

إنّ السيرة النبوية قديمها و حديثها، ضبطت اعتراف مجموعة كبيرة من فصحاء العرب بهذا الأمر، و نحن نأتي ببعض ما ظهرنا عليه.

1 - اعتراف الوليد بن المغيرة ريحانة العرب

كان رسول اللّه لا يكف عن الحطّ من آلهة المشركين، و كان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا و من حكّام العرب(1)، يتحاكمون إليه في أمورهم، و ينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مقدّما و مختارا. و قد كان من المستهزئين بالرسول (صلى اللّه عليه و آله).

و يروي التاريخ أنّ الوليد - الذي يصفه العرب بريحانتهم و حكيمهم - سمع الآيات التالية من النبي الأكرم: حم * تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ * غٰافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قٰابِلِ اَلتَّوْبِ ، شَدِيدِ اَلْعِقٰابِ ذِي اَلطَّوْلِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ * مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ ، لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ * وَ كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ

ص: 245


1- و هو عمّ أبي جهل بن هشام.

رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ (1) . فلما سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: «و اللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن، و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق، و إنّه ليعلو و ما يعلى عليه».

ثم انصرف إلى منزله(2)و لعلّ الوليد أوّل من تنبّه إلى عظمة القرآن و آي الذكر الحكيم، و هو من بلغاء عصر الوحي و زمن نزوله، و من شيوخ قريش و عوارف العرب في الأدب الجاهلي، و الخبراء بصناعة الإنشاء، و من هذه المنطلقات جاءت كلمته المأثورة تلك، سبيكة مرصعة، تعدّ أول تقريظ ناله القرآن من خبراء عصره و مصره، و إن حمله المحدثون إلينا عاريا عن التفسير. و لعمري إنّها شهادة من الخبير العدو، الذي التجأ إلى الاعتراف بدافع من ضميره، و إن أثر عنه تفسير آخر للقرآن الكريم دفعه إليه تعلقه بدين آبائه و سنن قومه، سيوافيك نقله. و لأجل كون هذه الكلمة من أستاذ البلاغة، كلمة شارحة لوجهة إعجاز القرآن في عصر الرسالة، نشرح بعض جملها.

1 - قوله: «ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ ». معناه أنّ المعروف من كلام الإنس المنثور، سبك العبارات غير مقيدة بالأسجاع و القوافي، فإذا أتوا بهما على عفو الخاطر، لم يلتزموا بها متقاربة قصيرة الخطوات، بخلاف كلمات الجن التي سمعوها على ألسنة الكهنة كعبارات مجملة صغيرة الحجم، كثيرة المقاطع مقرونة بأسجاع و قوافي، و عليها مسحة من غرابة الألفاظ و مجانسة الحروف و غموض المعاني(3).

فلوّح الوليد إلى أنّ هذا القرآن ليس من هذا القبيل؛ لا هو على أساليب

ص: 246


1- سورة غافر: الآيات 1-6.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 387.
3- سنذكر فيما يأتي نماذج من كلمات سطيح الكاهن الذي كان يتكلم عن لسان الجن.

كلام الناس، و لا على أساليب كلام الكهنة المترجمة للغة الجن و الشياطين، و لا مزيجا من هذا و ذاك.

2 - قوله: «إنّ له لحلاوة»: يريد أنّه شهي جذّاب للنفوس، جلاّب للميول، خلاّب للعقول، ترتاح إليه الأرواح.

3 - قوله: «و إنّ عليه لطلاوة»، أي إنّه محلّى بألفاظ جميلة و أنغام مقبولة.

4 - قوله: «إنّ أعلاه لمثمر و أسفله لمغدق»، يريد أنّ القرآن كشجرة كبيرة، غصونها زاخرة بالثمار و جذورها مستحكمة واسعة الانتشار في أعماق الأرض(1)

2 - اعتراف عتبة بن ربيعة

حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، و رأت قريش أصحاب رسول اللّه يزيدون و يكثرون، قام عتبة بن ربيعة يوما في نادي قريش، و رسول اللّه حينها جالس في المسجد وحده، و قال: «يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه، و أعرض عليه أمورا، لعلّه يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، و يكفّ عنّا؟».

فقالوا: «بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه».

فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول اللّه، فقال: «يا بن أخي، إنّك منّا حيث علمت، من السّطّة(2) في العشيرة، و المكان في النسب، و إنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، و سفّهت به أحلامهم، و عبت به آلهتهم و دينهم، و كفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها».

فقال له رسول اللّه: «قل يا أبا الوليد، أسمع». فاقترح عليه أمورا(3)

ص: 247


1- يقال غدق المطر، إذا كثر قطره. و أغدقت الأرض، إذا أخصبت. و أغدق العيش، إذا اتّسع. و في بعض المنقولات: «معذق» بالذال.
2- السّطّة: الشرف.
3- منها أن يتنازل عن دعوته فتتخذه العرب ملكا، و تجمع إليه أموال طائلة، و غير ذلك.

فلما فرغ عتبة من كلامه، قال رسول اللّه: «أ قد فرغت يا أبا الوليد؟».

قال: «نعم».

قال: «فاسمع مني».

قال: «أفعل».

فقال: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَ نَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ * وَ قٰالُوا قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ ، وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ، وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنٰا عٰامِلُونَ *...(1).

ثم مضى رسول اللّه فيها يقرأها عليه، و «عتبة» منصت لها، ملقيا يديه خلف ظهره، معتمدا عليهما، مذهولا، إلى أن انتهى رسول اللّه إلى آية السجدة منها(2) فسجد..

ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت و ذاك».

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: «نحلف باللّه، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به».

فلما جلس إليهم، قالوا: «ما وراءك يا أبا الوليد»؟.

قال: «ورائي أنّي قد سمعت قولا و اللّه ما سمعت مثله قط. و اللّه ما هو بالشعر، و لا بالسحر، و لا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني و اجعلوها بي، و خلّوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو اللّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم. و إن يظهر على العرب، فملكه ملككم، و عزّه عزّكم، و كنتم أسعد الناس به»..

قالوا: «سحرك و اللّه يا أبا الوليد بلسانه».

ص: 248


1- الآيات من أوائل سورة فصّلت.
2- سورة فصلت: الآية 28.

قال: «هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم»(1).

3 - تأثير آيتين
اشارة

إنّ حلاوة القرآن كانت بمكانة ربما يؤثّر سماع آيتين أو أكثر في نفس السامع، بحيث يخضع له و للجائي به غبّ سماعه منه، و يرفض الوثنية، و ينخرط في صفوف الموحدين، و ينتظم في عدادهم، و ما ذاك إلاّ لأنّه يجد من صميم ذاته أنّه كلام سماوي لا غير. و يدلّ على ذلك ما نسرده عليك من تاريخ دخول الخزرجيين في الإسلام.

كان بين الأوس و الخزرج حروب طاحنة، و كانوا لا يضعون السلاح لا بالليل و لا بالنهار، و كانت آخر حرب سجلت بينهم يوم «بعاث»، و كان النصر حليف الأوس على الخزرج، و لأجل ذلك خرج أسعد بن زرارة و زكوان الخزرجيّين، إلى مكة في عمرة رجب، يسألون الحلف على الأوس، و كان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه، فقال له:

«إنّه كان بيننا و بين قومنا حرب، و قد جئناكم نطلب الحلف عليهم».

فقال عتبة: «بعدت دارنا عن داركم، و لنا شغل لا نتفرغ لشيء».

قال: «و ما شغلكم و أنتم في قومكم و أمنكم».

قال له عتبة: «خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا، و أفسد شبابنا، و فرّق جماعتنا».

فقال له أسعد: «من هو منكم»؟.

قال: «ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفا، و أعظمنا بيتا».

فلما سمع ذلك أسعد، قال: «فأين هو»؟.

ص: 249


1- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1، ص 293-294.

قال: «جالس في الحجر، و إنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم، فلا تسمع منه و لا تكلّمه، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه».

و كان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: «فكيف أصنع و أنا معتمر، لا بدّ لي أن أطوف بالبيت».

فقال: «ضع في أذنيك القطن».

فدخل أسعد المسجد، و قد حشا أذنيه من القطن، و طاف بالبيت، و رسول اللّه جالس في الحجر، مع قوم من بني هاشم. فنظر إليه نظرة، فجازه.

فلما كان في الشوط الثاني، قال في نفسه: «ما أجد أجهل مني. أ يكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه، حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم»، ثم أخذ القطن من أذنيه و رمى به. فلما وصل إلى رسول اللّه، قال له: «أنعم صباحا».

فرفع رسول اللّه رأسه إليه، و قال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم»..

فقال له أسعد: «إنّ عهدك بهذا القريب. إلى م تدعو يا محمد»؟.

قال: «إلى شهادة أنّ لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه».

ثم قرأ هاتين الآيتين:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، أَلاّٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً، وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ ، وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ ، وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا، وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ ، وَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ أَوْفُوا، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) .

ص: 250


1- سورة الأنعام: الآيتان 151-152.

فلما سمع أسعد، قال: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، و أنّك رسول اللّه. بأبي أنت و أمّي، أنا من أهل يثرب و من الخزرج، و بيننا و بين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك، فلا أجد أعزّ منك، و معي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر، رجوت أن يتمّ اللّه لنا أمرنا فيك... فالحمد للّه الذي ساقنا إليك، و اللّه ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا، و قد آتانا اللّه بأفضل ما أتيت له».

ثم أقبل زكوان، فقال له أسعد: «هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به، و تخبرنا بصفته، فهلمّ فأسلم».

فأسلم زكوان. ثم قالا: «يا رسول اللّه، ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن، و يدعو الناس إلى أمرك».

فأمر رسول اللّه مصعب بن عمير - و كان فتى حدثا مترفا بين أبويه، يكرمانه و يفضلانه على أولادهم، و لم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، و كان مع رسول اللّه في الشعب حتى تغير و أصابه الجهد، و قد كان يعلم من القرآن كثيرا - أمره بالخروج مع أسعد و زكوان، فخرج معهما إلى المدينة، و قدما على قومهما و أخبراهم بأمر رسول اللّه و خبره، فأجاب من كلّ بطن، الرجل و الرجلان(1).

ترى أنّ سماع الآيتين يصنع من الكافر الوثني مسلما موحّدا، شهما هماما، يفدي بنفسه و ماله في طريق دينه، و ما ذاك إلاّ لتيقّنه من أنّ القرآن كلام سماوي خارج عن طوق قدرة البشر. و قد كان النصر حليف بعيث رسول اللّه، و ما كان ذاك، إلاّ لأنّه كان يقرأ ما نزل من القرآن و حفظه، حتى أنّ أسيد بن الحضير رئيس الخزرجين - لما سمع منه قوله سبحانه: حم * تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .. (2)، ظهرت أمارات الإيمان في وجهه، فبعث إلى منزله من يأتيه بثوبين طاهرين، و اغتسل،

ص: 251


1- أعلام الورى لأعلام الهدى، ص 37-38.
2- الآيات من أول سورة فصلت.

و شهد الشهادتين، ثم قام و أخذ بيد مصعب و قال: «أظهر أمرك و لا تهابنّ أحدا».

و لما كان للقرآن تأثيره العجيب في نفوس الشباب، احتالت قريش في اللّبس على الناس باللجوء إلى جملة من الأعمال الوقائية، لتصدّ تأثير القرآن في النفوس المتهيئة لقبول الحق، تعرّض لها التاريخ و السير النبوية، أهمها:

1 - منع الناس، و خاصة الشخصيات و الوجهاء، من سماع القرآن و مقابلة الرسول.

2 - عزو القرآن إلى السحر.

3 - دعوة القصاصين لسرد أخبار الأمم.

و كلّ ذلك يدلّ على أنّ القرآن كان كلاما ممتازا فائقا كلام البشر، له تأثير فريد في النفوس بحيث يجذب إليه الناس بمجرّد سماعهم، بلا اختيار. و فيما يلي بيان هذه الأعمال:

1 - منع سماع القرآن

يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا بترك سماع القرآن و الإلغاء عند قراءته في قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (1). أي عارضوه باللّغو بما لا يعتدّ به من الكلام، حتى لا يصل كلامه إلى أسماع الآخرين.

و مع ذلك كله فأولئك الذين كانوا مبدأ الردع الشباب عن سماع القرآن، قد نقضوا عهدهم، لشدّة التذاذهم من سماعه.

ص: 252


1- سورة فصلت: الآية 26.

فهؤلاء ثلاثة من بلغاء قريش و أشرافهم و هم أبو سفيان بن حرب، و أبو جهل بن هشام، و الأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و هو يصلّي من الليل في بيته، فأخذ كلّ رجل منهم مجلسا يستمع فيه، و كلّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر، تفرّقوا، فجمعهم الطريق فتلاقوا و قال بعضهم لبعض: «لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا»، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: «لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود»، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرّقوا(1).

فلو كان القرآن كلاما، يشبه كلام الإنس و يوازنه و يعادله، لم يكن هناك أي وازع لهؤلاء الصناديد الذين يعدّون في الطليعة و القمة من أعداء النبي، أن يهجروا فرشهم، و يقلوا دفء دثرهم، و يبيتوا في الظلام الحالك على التراب، حتى يستمعوا إلى كلامه و مناجاته في أحشاء الليل في صلاته و نسكه، و ما هذا إلاّ لأنّ القرآن كان كلاما خلاّبا، لعذوبة ألفاظه و بلاغة معانيه، رائعا في نظمه و أسلوبه، و لم يكن له نظير في أوساطهم، و لا في كلمات بلغائهم و فصحائهم، و هم الفصحاء و البلغاء و من يشار إليهم في تلك العصور.

و من الحبائل التي سلكوها لصدّ تأثير القرآن، منع متشخصي المشركين من لقاء الرسول، خصوصا من كان لإسلامه تأثير خاص في إيمان قومه بدين الرسول.

و من تلك الشخصيات الطفيل بن عمر الدوسي، فقد قدم مكة و رسول اللّه

ص: 253


1- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 315.

بها، فمشى إليه رجال من قريش و كان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: «يا طفيل إنّك قدمت بلادنا، و هذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، و قد فرّق جماعتنا و شتت أمرنا، و إنّما قوله كالسحر، يفرّق بين الرجل و أبيه، و بينه و أخيه و زوجته، و إنّا نخشى عليك و على قومك ما دخل علينا، فلا تكلّمنّه، و لا تسمعنّ منه شيئا».

يقول الطفيل: فو اللّه ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا و لا أكلّمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، و أنا لا أريد أن أسمعه.

قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول اللّه قائم يصلي عند الكعبة.

قال: فقمت منه قريبا فأبى اللّه إلاّ أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: «وا ثكل أمّي، و اللّه إنّي لرجل لبيب، شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل. فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته و إن كان قبيحا تركته. فمكثت حتى انصرف رسول اللّه إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه، فقلت:

«يا محمد إنّ قومك قد قالوا لي كذا و كذا، فو اللّه ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف، لئلا أسمع قولك، ثم أبى اللّه إلاّ أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك».

قال: فعرض عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الإسلام و تلا عليّ القرآن.

فلا و اللّه ما سمعت قولا قطّ أحسن منه، و لا أمرا أعدل منه.

قال: فأسلمت و شهدت شهادة الحق(1).

و ممّا نقل في هذا المجال أنّ الأعشى، أحد شعراء العرب، الطائر الصيت، بلغ إليه الإسلام، فخرج يريده، فمدح النبي بقصيدة أدرج فيها كثيرا من تعاليم الإسلام، مستهلها.

ص: 254


1- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1، ص 382-383.

أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا *** و بت كما بات السليم مسهّدا

إلى أن قال:

نبيا يرى ما لا ترون، و ذكره *** أغار لعمري في البلاد و أنجدا

فإياك و الميتات لا تقربنها *** و لا تأخذن سهما حديدا لتفصدا

و ذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه *** و لا تعبد الأوثان، و اللّه فاعبدا

و لا تقربن حرّة كان سرّها *** عليك حراما، فانكحن أو تأبّدا

و ذا الرحم القربى فلا تقطعنّه *** لعاقبة و لا الأسير المقيّدا

و سبّح على حين العشيات و الضحى *** و لا تحمد الشيطان و اللّه فاحمدا

فلما ورد الأعشى مكة، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنّه جاء يريد رسول اللّه ليسلم فقال له: يا أبا بصير، إنّه يحرّم الزنا.

فقال الأعشى: و اللّه إن ذلك لأمر ما لي فيه أرب.

فقال له: يا أبا بصير، فإنّه يحرّم الخمر.

فقال الأعشى: أمّا هذه فو اللّه إنّ في النفس منها لعلالات، و لكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم، فانصرف. فمات في عامه ذلك، و لم يعد إلى رسول اللّه(1).

2 - عزو القرآن إلى السّحر

أدرك فصحاء قريش و بلغاؤهم أنّ القرآن لا يشبه كلام الإنس، و هو فوق كلامهم، و لما كان مقتضى العجز، اعتناق الدين الذي كان النبي يدعو إليه، خدعوا عقولهم و عقول قومهم بتفسيره بالسحر، بحجة أنّ السحر يفرّق، و القرآن

ص: 255


1- السيرة النبوية لابن هشام: ص 386. و أضاف الشهرستاني في كتابه «المعجزة الخالدة»، ص 21: و اجتمعت عليه قريش لما سمعت بخبره و بمدحه النبي الأمي في قصيدة دالية، جاء بها ليجعلها تقدمة إيمانه و إذعانه، و قالوا للأعشى: «إن أنشدته هذه القصيدة لم يقبلها منك». و لم يزالوا يخدعونه و يمنعونه حتى سافر إلى اليمامة، و قال: «أقضي أياما هناك ثم أعود إليه».

أيضا فرّق بينهم. و هذا هو ريحانة قريش، الوليد بن المغيرة، و قد اجتمع مع رؤساء قريش في دار الندوة، فقال لهم: «إنّكم ذوو أحساب و ذوو أحلام، و إنّ العرب يأتونكم، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد. ما تقولون في هذا الرجل ؟».

قالوا: «نقول:

1 - إنّه شاعر».

فعبس عندها، و قال: «قد سمعنا الشعر، فما يشبه قوله الشعر».

فقالوا:

2 - «إنّه كاهن».

قال: «إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة». قالوا:

3 - «إنّه لمجنون».

فقال: «إذا تأتونه، فلا تجدونه مجنونا». قالوا:

4 - «إنّه ساحر».

قال: «و ما الساحر»؟.

قالوا: «بشر يحببون بين المتباغضين، و يبغّضون بين المتحابين».

قال: «فهو ساحر».

فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلاّ قال:

يا ساحر، يا ساحر».

و اشتدّ على النبي ذلك، فأنزل اللّه تعالى قوله:

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَ جَعَلْتُ لَهُ مٰالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً * وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاّٰ إِنَّهُ كٰانَ لِآيٰاتِنٰا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ * فَقٰالَ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ قَوْلُ اَلْبَشَرِ (1) .

ص: 256


1- سورة المدثر: الآيات 11-25.

و في رواية، بعد ما وصف الوليد ما سمع من كلام محمد، بقوله: «ما هو من كلام الإنس الخ..»(1)، ذهب إليه أبو جهل، فقعد إلى جنبه حزينا، فقال له الوليد: «ما لي أراك حزينا يا ابن أخي».

قال: «هذه قريش يعيبونك على كبر سنك، و يزعمون أنّك زيّنت كلام محمد».

فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال: «أ تزعمون أنّ محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق»؟.

فقالوا: «اللهم لا».

قال: «أ تزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك»؟.

قالوا: «اللهم لا».

قال: «أ تزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قطّ»؟.

قالوا: «اللهم لا».

قال: «أ تزعمون أنّه كذّاب، فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب»؟.

قالوا: «اللهم لا».

فقالت قريش للوليد: «ما هو؟».

فتفكّر في نفسه، ثم نظر و عبس، فقال: «ما هو إلاّ ساحر. ما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله، و ولده و مواليه ؟. فهو ساحر، و ما يقوله سحر يؤثر»(2).

إنّ تفسير القرآن بالسحر، و توصيف الداعي بالساحر - كما نقله القرآن في غير واحد من آياته - أدلّ دليل على أنّ فصحاء العرب وجدوا العجز في أنفسهم

ص: 257


1- تقدم كلامه في الصفحة السابقة.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 386-387.

و رأوا أنّ الهزيمة في حلبة السباق معقودة بنواصيهم، فما وجدوا مخلصا لتعمية من يفد على مكة في أيام الحج من عرب الجزيرة إلاّ بتفسيره بشيء ينطلي على طباع السّفهاء و أذهان السذج من الناس، و هو أنّه سحر و الجائي به ساحر، بحجة الاشتراك في الأثر.

و على ضوء ذلك تعود كلّ الشرائع السماوية سحرا و الأنبياء سحرة، بحجة أنّهم كانوا يفرّقون بشرائعهم بين أفراد الأمة الواحدة(1).

و كيف يكون القرآن سحرا، و السحر لا يبقى بعد موت الساحر، و لا يؤثّر في أقوياء النفوس، و ها هو القرآن قد مرّ عليه حتى اليوم أربعة عشر قرنا، و لما يزل غضّا طريا كما كان، لم يتضاءل نوره و أثره بمرور الزمان، و توالي الأعقاب في الأحقاب، كما خضع له أعاظم أهل الفكر و التعقل من البشر.

3 - دعوة القصاص لسرد الأساطير

و قد عمد رؤساء قريش، لإحباط تأثير القرآن الكريم - بعد أن رأوا أنّ الناس يدركون بفراستهم و فطنتهم أنّ للقرآن جاذبية غريبة لم يسبقه كلام في الحلاوة، و لا حديث في العذوبة، و لا عبارات في العمق، يتقبّله كل قلب واع، و تسكن إليه كل نفس مستعدة - عمدوا إلى تخطيط تدبير آخر، ظنّا منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه، ألا و هو معارضة القرآن الكريم، بدعوة النضر بن الحارث ليسرد للناس أخبار ملوك الفرس و قصصهم و حكايتهم و أساطيرهم، و ما طلبوا منه القيام بهذا العمل إلاّ ليلهي به الناس عن الإصغاء إلى القرآن الكريم.

فقام بهذا العمل و لكن كانت خطتهم، خطة حمقاء إلى درجة أنّها لم تدم إلاّ عدّة أيام، لأنّ قريشا سئمت من أحاديث النضر، و تفرّقت عنه(2).

ص: 258


1- قد ورد تفسير القرآن بالسحر، و الداعي بالساحر، في عدّة آيات منها في الأول الصافات: الآية 15، الأحقاف: الآية 7، سبأ: الآية 43. و في الثاني: يونس: الآية 3، ص: الآية 4.
2- لاحظ السيرة النبوية، ج 1، ص 300 و 358.
المسلك الثاني في إثبات إعجاز القرآن تحليل إعجاز القرآن الكريم
اشارة

المتسالم عليه بين العلماء أنّ القرآن كتاب سماوي معجز، لا يقدر الإنسان - مهما عظمت طاقاته - على الإتيان بمثله. و لكن عند ما يتساءل عن سرّ إعجازه، يتوقف الكثير منهم في ذلك و لا يأتون بكلمة شافية تغني السائل.

فمنهم من ذهب إلى أنّ شأن الإعجاز عجيب، يدرك و لا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تدرك و لا يمكن وصفها، و كالملاحة. و أضافوا: «إنّ مدرك الإعجاز هو الذوق ليس إلاّ، و طريق اكتساب الذوق، طول خدمة علمي المعاني و البيان. نعم، للبلاغة وجوه متلثمة، و ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتتجلى عليك. أمّا نفس الإعجاز، فلا»(1).

و منهم من يحيل سبب الإعجاز إلى فرط الفصاحة و البلاغة، من دون أن يشرح السبب، و يطرح آيات من القرآن على منضدة التشريح، و يقارنها بكلام من كلم فصحاء العرب و بلغائهم و أقصى ما عندهم هو التصديق بكونه معجزا بحجة أنّ أساطين البلاغة و أساتذتها عجزوا عن الإتيان بمثله في عصر نزول القرآن. و لكن هذا دليل إقناعي، و رجوع إلى أهل الخبرة.

إلاّ أنّ هناك جماعة من المحققين لم يقنعوا بهذا القدر دون البحث عن حقيقة

ص: 259


1- مفتاح العلوم، للسكاكي، قسم البيان، ص 176.

إعجازه، فبحثوا و نقبوا حتى رفعوا اللثام عن وجه إعجازه، و بيّنوا الدعائم و الأركان التي يقوم عليها تفوقه على كلام البشر، قائلين:

هل يمكن أن يعرّف سبحانه كتابه النازل على نبيّه، معجزا و خارقا، و يباري الناس و يدعوهم إلى مقابلته و الإتيان بمثله، ثم لا يوجد فيه حتى إشارات إلى ملاك إعجازه و وجه تفوّقه ؟! إنّ مثل هذا لا يصدر عن الحكيم تعالى.

فعلى ضوء ذلك، لا بدّ لنا من الإمعان في آيات القرآن الكريم حتى نلمس و نستكشف ملاك إعجازه و خرقه للعادة، و هذا هو ما نتعاطاه في هذا التحليل و الذي تبيّن لنا بعد دراسة ما كتبه المحققون حول إعجاز القرآن، و بعد الإمعان في نفس آيات الذكر الحكيم، أن ملاك تفوّقه هو الأمور الأربعة - الآتي ذكرها - مجتمعة.

أجل، إنّ ما نركّز البحث عليه في المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن، الذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول و عند فصحاء الجزيرة، و بلغائهم، و به وقع التحدي. و أمّا إعجازه من جهات أخرى، ككون حامله أميا، و كونه مبيّنا للعلوم الكونية التي وصل إليها البشر بعد أحقاب من الزمن، أو إخباره عن المغيّبات، أو كونه مصدرا لتشريع متقن و متكامل، أو غير ذلك من الجهات، فلا يمكن أن نعدّها أركانا للإعجاز، و وجه ذلك أنّ القرآن سحر العرب من اللحظة الأولى لنزوله، سواء منهم في ذلك من شرح اللّه صدره للإسلام و من جعل على بصره غشاوة. و كان القرآن هو العامل الحاسم في أوائل أيام الدعوة، يوم لم يكن للنبي حول و لا طول، و لم يكن للإسلام قوة و لا منعة.

فلا بدّ أن نبحث عن منبع السحر في القرآن، قبل التشريع المحكم، و قبل النبوءة الغيبيّة، و قبل العلوم الكونية، و قبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشتمل على هذه المزايا. فقليل القرآن الذي كان في أيام الدعوة الأولى، كان مجرّدا عن هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد، و كان مع ذلك محتويا على هذا النبع الأصيل الذي تذوقه العرب، فقالوا إن هذا إلاّ سحر يؤثر.

إنّنا نقرأ الآيات الكثير في هذه السور فلا نجد فيها تشريعا محكما، و لا

ص: 260

علوما كونية، و لا نجد إخبارا بالغيب يقع بعد سنين، و مع ذلك سحر عقول العرب و تحدث عنه ابن المغيرة بعد التفكير و التقدير، بما تحدّث.

لا بدّ إذن أنّ السحر الذي عناه، كان كامنا في مظهر آخر غير التشريع و الغيبيات و العلوم الكونية، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته، و كان هذا يتجلى من خلال التعبير الجميل المؤثّر المعمّر المصوّر.

و على ذلك فالجمال الفنّي الخالص، عنصر مستقل في إثبات إعجاز القرآن(1)، و يتجلى ذلك في أمور أربعة تضفى على القرآن - مجتمعة - إعجازه و تفوّقه، و هي:

1 - فصاحة ألفاظه و جمال عباراته.

2 - بلاغة معانيه و سموّها.

3 - روعة نظمه(2) و تأليفه. و يراد منه: ترابط كلماته و جمله، و تناسق آياته، و تآخي مضامينه، حتى كأنّها بناء واحد، متلاصق الأجزاء، متناسب الأشكال، لا تجد فيه صدعا و لا انشقاقا.

4 - بداعة أسلوبه الذي ليس له مثيل في كلام العرب، فإنّ لكل من الشعر و النثر بأقسامه، أسلوبا و سبكا خاصا، و القرآن على أسلوب لا يماثل واحدا من الأساليب الكلامية و المناهج الشعرية.

و هذه الدعائم الأربع إذا اجتمعت، تخلق كلاما له صنع في القلوب، و تأثير في النفوس. فإذا قرع السمع، و وصل إلى القلب، يحسّ الإنسان فيه لذّة و حلاوة في حال، و روعة و مهابة في أخرى، تقشعر منه الجلود، و تلين به القلوب، و تنشرح به الصدور، و تغشى النفوس خشية و رهبة و وجد و انبساط، و يحسّ البليغ بعجزه عن المباراة و المقابلة. و لأجل ذلك، كم من عدو للرسول من

ص: 261


1- لاحظ التصوير الفنّي في القرآن الكريم سيد قطب فصل سحر القرآن، ص 11-23.
2- ربما يطلق النظم في كلماتهم و يراد منه الأسلوب و السبك الذي هو الأمر الرابع، و لأجل ذلك نردفه بالتأليف حتى لا يشتبه المراد.

رجال العرب و فتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله و قتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم، أن تحوّلوا عن رأيهم الأول، و ركنوا إلى مسالمته، و دخلوا في دينه، و انقلبت عداوتهم موالاة، و كفرهم إيمانا.

يقول سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا اَلْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ (1)و يقول سبحانه: اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتٰاباً مُتَشٰابِهاً مَثٰانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ (2).

و يقول سبحانه: وَ إِذٰا سَمِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّٰا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ (3).

هذا ما يثبته التحليل الآتي لكلّ من هذه الدعائم. فليس المدّعى كون كل واحدة منها، وجها مستقلا للإعجاز، و إنّما المراد أنّ كلّ واحدة منها توجد أرضيّة خاصة، ليتشكل باجتماعها كلام معجز خارق، مبهر للعقول، و مدهش للنفوس. فيجد الإنسان في نفسه العجز عن المباراة. و الضعف عن التحدّي.

هذا، و قد نقل السيوطي عن عدّة من المحققين في مسألة إعجاز القرآن أقوالا كثيرة(4)، غير أنّ بعضها خارج عن الإطار البياني، الذي نحن بصدد تشريحه، مثل انطواء القرآن على الإخبار بالمغيّبات، الذي سنذكره في عداد الشواهد الدالة على أنّ القرآن كتاب إلهي لا بشرى، و لكن لبّ هذه الأقوال - التي ترجع إلى الإعجاز البياني - يتلخص في الدعائم الأربع التي اخترناها أساسا للإعجاز.

و لأجل توضيح هذه الدعائم الأربع نأتي بمقدمة نبيّن فيها معنى الفصاحة و البلاغة، حتى يتبيّن نسبة كل واحدة من هذه الدعائم إلى الأخرى.

ص: 262


1- سورة الحشر: الآية 21.
2- سورة الزمر: الآية 23.
3- سورة المائدة: الآية 83.
4- لاحظ الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص 6-17 ط مصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
تعريف الفصاحة

الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام.

و الفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف، و الغرابة، و مخالفة القياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة العربية.

و قد ذكر القوم للتنافر وجها أو وجوها، و الحق أنّه أمر ذوقي، و ليس رهن قرب المخارج، و لا بعدها دائما.

و أمّا الفصاحة في الكلام، فهي خلوصه من ضعف التأليف و تنافر الكلمات و التعقيد، مع فصاحتها، أي يشترط مضافا إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد، الأمور الثلاثة الواردة في صدر التعريف.

ثم إنّ التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام، بمعنى تقديم ما حقّه التأخير و بالعكس، و أخرى بسبب بعد المناسبة بين المعنى اللغوي و المعنى الكنائي المقصود.

و المتكفل لبيان الخلل في النظم هو النحو. و المتكفل لبيان الخلل في الانتقال هو علم البيان، فبما أنّه علم يبحث فيه عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه و خفائه، يشرح لنا التعقيد المعنوي و مراتبه، فإنّ لكل معنى لوازم، بعضها بلا واسطة، و بعضها بواسطة، فيمكن إيراده بعبارات مختلفة في الوضوح و الخفاء(1).

ص: 263


1- و بعبارة أخرى: إنّ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح، لا يتأتّى بالدلالة المطابقية، لأنّ السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ، لم يكن كل واحد منها دالا عليه، و إن كان عالما لم يكن بعضها أوضح دلالة عليه من بعض آخر، و إنّما يتأتّى في الدلالة العقلية، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح. و يتضح ذلك في الدلالة، الالتزامية مثل دلالة قولنا: «زيد كثير الرّماد» و «زيد جبان الكلب»، و «زيد مهزول الفصيل»، على لازمه، أعني كون زيد جوادا. فالكلّ يدلّ على ذلك اللازم، لكن يختلف في الوضوح و الخفاء، لقلة الوسائط أو كثرتها. و بما أنّ الخفاء و الوضوح في الانتقال إلى المعنى اللازم يتأتّى في الدلالة الالتزامية، انحصر المقصود من علم البيان في التشبيه و المجاز، و الكناية، لكون المقصود من الجميع هناك هو المعنى الخارج عن المدلول اللغوي للّفظ، فالمراد من المجاز هو المعنى غير الموضوع له بادعاء كونه من مصاديق الموضوع له، كما أنّ المراد من الكناية هو المعنى المكنّى عنه لا المكنى به. و أمّا التشبيه فهو و إن كان خاليا عن الدلالة الالتزامية، لكنه يبحث عنه مقدمة للاستعارة التي هي من أقسام المجاز. و بذلك يعلم أن الأولى تقديم علم البيان على علم المعاني، لكون الأول متكفلا بتفسير التعقيد المعنوي الدخل بالفصاحة، و أمّا علم المعاني فهو يرجع إلى البلاغة، كما سيظهر.
تعريف البلاغة

البلاغة في الكلام عبارة عن مطابقته لمقتضى الحال، أي مطابقته للغرض الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص. مثلا: كون المخاطب منكرا للحكم، حال يقتضي تأكيده، و التأكيد مقتضى الحال. كما أنّ كون المخاطب مستعدا لقبول الحكم، يقتضي كون الكلام عاريا عن التأكيد، و الإطلاق مقتضاها، و هكذا في سائر الأبواب.

هذا كلّه مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقق البلاغة، فالبلاغة لها عمادان. أحدهما مطابقة الكلام لمقتضى الحال، و الثاني فصاحة الكلام.

و هاهنا نكتة و هي أنّ القوم حصروا معنى البلاغة في هذا المعنى، و حاصله كون عرض المعنى موافقا للغرض الداعي إلى التكلم (مع فصاحة الكلام)، و جعلوا للبلاغة بهذا المعنى طرفين:

أحدهما: أعلى، و هو حدّ الإعجاز، و هو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر و يعجزهم عن معارضته.

و الثاني: ما لا يبلغ إلى هذا الحدّ.

و لكل واحد درجات و مراتب.

و لا يخفى أنّ جعل البلاغة بهذا المعنى (أي العرض الصحيح المطابق للغرض) لا يكون ركن الإعجاز و إن بلغ الكلام إلى نهاية الإتقان في العرض، ما لم يضمّ إليه شيء آخر، و هو إتقان المعاني و سمو المضامين. و إلاّ فالمعاني المبتذلة، و المضامين المتوفرة بين الناس إذا عرضت بشكل مطابق للغرض الداعي إلى التكلم، لا يصير الكلام معها معجزا خارقا للعادة.

ص: 264

و لأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا الفصاحة و البلاغة ركنين للإعجاز، و ملاكين له، إضافة قيد آخر، و هو كون المعاني و المضامين عالية و سامية، تسرح فيها النفوس، و تغوص فيها العقول.

و من هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن المعاصرين، عرفوا البلاغة بشكل آخر، قالوا: هي تأدية المعنى الجليل واضحا بعبارة صحيحة فصيحة، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه، و الأشخاص الذين يخاطبون(1).

فترى أنّه أضيف في التعريف وراء ملائمة كل كلام للموطن (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، كون المعنى جليلا.

و سيوافيك أنّ هذا المقدار من التعريف أيضا غير واف للرقي بالكلام إلى حدّ الإعجاز، بل يحتاج إلى دعامة أخرى و هي بداعة الأسلوب و رقيّه، كما سيوافيك.

نكتة مهمّة

إنّ هاهنا نكتة تلقي الضوء على سبب حصر فصاحة القرآن - كما سيأتي - في خلوه عن تنافر الحروف و الكلمات، و تركنا البحث عن كل ما ذكروه في فصاحة المفرد و الكلام من الشرائط المتعددة، فهل هذا يعني إنكار دخالة غيره في الفصاحة، أو له معنى آخر؟.

و الجواب: إنّ كون الكلمة متلائمة الحروف في فصاحة المفرد، و كون الكلام متلائم الكلمات في فصاحة الجملة، له القسط الأوفر في تحقق الفصاحة، لأنّ الفصاحة تعتمد على مقاطع الحروف و الكلمات أكثر من كل شيء. و أمّا غير ذلك ممّا ذكروه في تعريفهما، فكأنّها معدّات لخروج الكلام عذبا حسنا، بهيّا نضيرا، له وقع في القلوب. و لأجل ذلك ركزنا على حديث تلاؤم الحروف و الكلمات، و خلوهما عن التنافر، هذا.

ص: 265


1- البلاغة الواضحة، ص 8.

على أنّ البحث عن اشتمال القرآن على مخالفة القياس في فصاحة المفرد، و ضعف التأليف في فصاحة الكلام، بحث زائد، لأنّ القواعد تعرض على القرآن، و لا يعرض القرآن عليها، لأنّه إمّا هو كلام إلهي فهو فوق القواعد، و إمّا كلام بشري، فهو صدر من عربي صميم في أعرق بيت من العرب، ترحل إليه المواكب و تحطّ رحالها عنده. و المؤمن و الملحد يعترفان بكون القرآن في درجة عالية من الكلام الذي ينبغي أن يحتذى و يقتدى.

ص: 266

دعائم إعجاز القرآن
(1) الفصاحة: جمال اللفظ و أناقة الظاهر

اعتمد علماء المعاني و البيان في تعريف فن الفصاحة على أمور، و قد عرفت في المقدمة السابقة - نصوصهم على تلك الأمور.

لكن المهم في الفصاحة، كون الكلمة عذبة مألوفة الاستعمال، جامعة لنعوت الجودة و صفات الجمال، كما أنّ المهم في فصاحة الكلام تلاؤم الكلمات في الجمل، فإنّ التلاؤم يوجب حسن الكلام في السمع، و سهولته في اللفظ، و تقبل النفس معناه بوجه مطبوع، لما يرد عليها المعنى بصورة حسنة و دلالة واضحة.

و أمّا غير العذوبة و التلاؤم من الشرائط فهو في الدرجة الثانية من تحقيق معنى الفصاحة، و قد عرفت عدم اعتبار البعض - كمخالفة القياس في فصاحة المفرد، و ضعف التأليف بمعنى كونه على خلاف القانون النحوي المشتهر - في الفصاحة القرآنية، لأنّ القرآن هو المقياس لهما.

و الذوق السليم هو العمدة في معرفة حسن الكلمات و سلاستها و تمييز ما فيها من وجوه البشاعة و مظاهر الاستكراه. لأنّ الألفاظ أصوات، فالذي يطرب لصوت البلبل، و ينفر من أصوات البوم و الغربان، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافرة الحروف. أ لا ترى أنّ كلمتي «المزنة»، و «الديمة» للسحابة المطرة، كلتاهما سهلة عذبة، يسكن إليهما السمع بخلاف كلمة «البعاق» التي في معناهما، فإنّها قبيحة، تصكّ الآذان. و أمثال ذلك كثير في مفردات اللغة،

ص: 267

تستطيع أن تدركه بذوقك. و هذا نظير الخط الحسن، فإنّه يوجب إقبال الناس على قراءته، و إمعان النظر في معناه، بخلاف ما إذا كتب نفس ذلك الكتاب بخط رديء غير واضح.

يقول الإمام يحيى بن حمزة العلوي «إنّ الفصاحة راجعة إلى الألفاظ، و البلاغة راجعة إلى المعاني». و يشرحه في مكان آخر بقوله: «إنّ المزايا الراجعة إلى الألفاظ، تارة ترجع إلى مفردات الحروف، و أخرى إلى تأليفها من تلك الحروف، و ثالثة إلى مفردات الألفاظ، و مرة إلى مركباتها. فهذه أوجه أربعة لا بدّ من اعتبارها في كون اللفظ فصيحا»(1).

و لأجل أنّ لتلاؤم الحروف و الكلمات دورا عظيما في الفصاحة، نركّز في هذا البحث، على الخلو من تنافر الكلمة و الكلمات، بأن لا تكون نفس الكلمة ثقيلة على السمع، كما لا يكون اتّصال بعضها ببعض مما يسبب ثقلها على السمع و صعوبة أدائها باللسان. و بما أنّ مخارج الحروف مختلفة، فمنها ما هو من أقصى الحلق، و منها ما هو من أدنى الفم، و منها ما هو بين ذلك، فلا بدّ في حصول التلاؤم من مراعاة تلك الصفات، بأن لا يكون بين الحروف بعد شديد، أو قرب شديد، فعندها تظهر الكلمة أو الكلام سهلا على اللسان، و حسنا في الأسماع، و مقبولا في الطباع. و هذا إن لم يكن ملاكا كليّا لتمييز المتلائم عن المتنافر، إلاّ أنّه ميزان غالبي، فلاحظ البيتين التاليين ترى الكلام في أحدهما في نهاية التنافر، و في الآخر في كمال التلاؤم.

قال الشاعر:

و قبر حرب بمكان قفر *** و ليس قرب قبر حرب قبر

فقيل، إنّ هذا البيت يعسر لأحد أن ينشده ثلاث مرات متواليات دون أن يتتعتع، لأنّ اجتماع كلماته، و قرب مخارج حروفها يحدثان ثقلا ظاهرا، و إن كانت كلّ واحدة منها غير مستكرهة و لا ثقيلة.

و قال شاعر آخر:

ص: 268


1- الطراز: ص 214 و 220.

رمتني و ستر اللّه بيني و بينها *** عشية آرام الكناس رميم(1).

و لأجل دخالة عذوبة الكلمة و تلاؤم الكلمات في تحقق الفصاحة، أدرك صيارفة الكلام، و مشاهير الفصحاء في عصر النبي ما عبّر عنه الوليد بن المغيرة بقوله: «إنّ له لحلاوة و إنّ عليه لطلاوة».

يقول الإمام يحيى بن حمزة في شأن تركيب مفردات الألفاظ العربية، الذي له دور كبير في فصاحة الكلام: «و لا بدّ فيه من مراعاة أمرين:

أمّا أولا: فأن تكون كلّ كلمة منظومة مع ما يشاكلها و يماثلها، كما يكون في نظام العقد، فإنّه إنّما يحسن إذا كان كل خرزة مؤتلفة مع ما يكون مشاكلا لها.

لأنّه إذا حصل على هذه الهيئة كان له وقع في النفوس و حسن منظر في رأي العين.

و أمّا ثانيا: فإذا كانت مؤتلفة، فلا بدّ أن يقصد ما وضع لها بعد إحراز تركيبها.

و المثال الكاشف عمّا ذكرناه، العقد المنظوم من اللئالي و نفائس الأحجار، فإنّه لا يحسن إلاّ إذا ألّف تأليفا بديعا، بحيث يجعل كل شيء من تلك الأحجار مع ما يلائمه. ثم إذا حصل ذلك التركيب على الوجه الذي ذكرناه، فلا بدّ من مطابقته لما وضع له، بأن يجعل الإكليل على الرأس، و الطوق في العنق، و الشنف في الأذن، و لو ألّف غير ذلك التأليف، فلم يجعل كل شيء في موضعه، بطل ذلك الحسن. و زال ذلك الرونق»(2).

مثلا: قوله سبحانه: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ (3).

إنّ لهذه الآية تميّزا ذاتيا عن كلام البشر، لا يتمارى فيه منصف، و لا يشتبه على من له ذوق في معرفة فصاحة الكلام. و ذلك التميز رهن فصاحة أبنيتها،

ص: 269


1- هذا البيت لأبي حية النميري من شعراء الحماسة، لاحظ شرح الحماسة للتبريزي، طبع محي الدين، ج 3، ص 269.
2- الطراز، ج 3، ص 225-226.
3- سورة الشورى: الآية 32.

و عذوبة تركيب أحرفها، و كونها مجانبة للوحشي الغريب، و بعدها عن الركيك المسترذل، مضافا إلى سلاسة صيغها.

فإنّه سبحانه قال: اَلْجَوٰارِ ، و لم يقل: «الفلك»، لما في الجري من الإشارة إلى باهر القدرة حيث أجراها بالريح، و هي أرق الأشياء و ألطفها، فحرّك ما هو أثقل الأمور، و أعظمها في الجرم. (و الفلك، و إن كان مثل الجوار في العذوبة، لكنه يفقد النكتة التي يشملها الآخر).

و قال سبحانه: فِي اَلْبَحْرِ ، و لم يقل: «في الطمطام». و لا: «في العباب». و الكل من أسماء البحر، لأنّ البحر أسهل و أسلس، و بالتالي أعذب و أجمل.

و قال سبحانه: كَالْأَعْلاٰمِ ، و لم يقل: «كالروابي»، و لا:

«كالآكام»، إيثارا للأخف الملتذ به، و عدولا عن الوحشي المشترك(1).

من عجائب القرآن أنّه يعمد إلى ألفاظ ذات تركيب يغلب عليه الثقل و الخشونة، فيجمعها في معرض واحد، ثم ينظم منها آياته، فإذا هي وضيئة مشرقة، متعانقة متناسقة. و من نماذج ذلك، قوله سبحانه:

قٰالُوا تَاللّٰهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّٰى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهٰالِكِينَ (2) .

اسمعها، هل تجد نبرة تخدش أذنك ؟. و اقرأها، فهل تجد لفظا يتعسر على شفتيك، أو يضطرب في لسانك، فيا لها من سلاسة و عذوبة و اتّساق، مع أنّ فيها كلمات ثقيلة بمفردها ثقلا واضحا في الأذن و على اللسان، أعني قوله:

«تاللّه... تفتؤا... حرضا». و لكنها حين اجتمعت في نظم قرآني، خفّ ثقيلها، و لان يابسها. و سلس جامحها، و انقاد و ذلّ نافرها، فإذا هي عرائس مجلوة، تختال في روض نضير. فهذه ثلاث كلمات من أثقل الكلام، قد انتظمت

ص: 270


1- الطراز، ج 3، ص 215.
2- سورة يوسف: الآية 85.

مع خمس كلمات أخرى، فكان من ثمانيتها عقد نظيم يقطر ملاحة و حسنا.

و أيضا، من بدائع القرآن و غرائبه أنّه يكرر الحرف الثقيل في آية واحدة، و لكنه يلطفه بحروف خفيفة بنحو يعلو مجموعه العذوبة و الخفة، مكان الثقل و الخشونة، و من هذا النوع قوله سبحانه: قِيلَ يٰا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاٰمٍ مِنّٰا وَ بَرَكٰاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1).

فقد جمعت هذه الآية ثمانية عشر ميما، منثورة بين كلماتها، حتى كأنّ الآية مشكلة كلّها من ميمات، كما ترى في «أمم ممن معك... و أمم سنمتعهم»، و مع هذا فإنّك إذ ترتل الآية الكريمة على الوجه الذي يرتّل به القرآن، لا تحسّ أنّ هنا حرفا ثقيلا قد تكرر تكرارا غير مألوف، بل تجد الآية قد توازنت كلماتها و تناغمت مقاطعها في أعدل صورة و أكملها فلا تنافر بين حرف و حرف، و لا تباغض بين كلمة و كلمة.

و نظير هذا قوله سبحانه: قُلِ اَللّٰهُمَّ مٰالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ ، وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ ، وَ تُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ ، وَ تُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ ، بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2).

ففي الآية عشر ميمات، قد جاءت في مطلعها، و لكنها مع ذلك كأنّها ميم واحدة، و لو أنّ حرفا آخر دخل في نظم الآية لما انبعث منها هذا الصوت القوي المجلجل، الذي يقتضيه المقام هنا، و لتفككت أوصال النظم و تخاذلت قواه.

و هكذا، إنّ القاف من أثقل الحروف نطقا، تستنفر طاقة الحلق و اللسان ليشتركا في حملها و إخراجها مخرج الأصوات. و مع هذا الثقل، فقد جاءت في بعض الآيات مكررة بصورة مأنوسة لا يلتفت قارئها إلى التكرار، و لا يجد فيها الجهد و العناء.

ص: 271


1- سورة هود: الآية 48. و الميم المشدّدة عند القراءة تحسب اثنين.
2- سورة آل عمران: الآية 26.

قال سبحانه: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبٰا قُرْبٰاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمٰا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ، قٰالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ . قٰالَ : إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (1).

فقد جاء فيها أحد عشر قافا، لو نثرت هذه القافات في كلام أبسط من هذا، لظهر عليه الثقل، و لكنها جاءت في هذه الآية من غير أن تحدث قلقا و اضطرابا. و إنّما حصل هذا، لكثرة الباءات و اللامات في الآية، فإنّ الباء مخرجها الشفة، فهي أخفّ الحروف، و تليها اللام في الخفة، فإنّ مخرجها اللسان. و قد بلغت عدّة الباء أحد عشر، و اللام خمس عشر، فأوجب كثرة دوران هذين الحرفين، تلطيفا في الثقل الذي توجبه القاف في كيان الآية.

و مثل ذلك، قوله سبحانه: لَقَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قٰالُوا: إِنَّ اَللّٰهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيٰاءُ . سَنَكْتُبُ مٰا قٰالُوا، وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ (2).

فقد اجتمعت فيها عشر قافات، و تكررت فيها اللام أحد عشر مرة، فكسرت حدّة الثقل في القاف، فترى ماء الحسن يترقرق على محياها، و الملاحة تقطر من جبينها.

هذه هي الدعامة الأولى للإعجاز، و ليست هي سببا تامّا له. و لأجل ذلك ربما يوجد في كلام البشر ما هو مشتمل على هذه الدعامة بصورة رفيعة، مع أنّه ليس بكلام معجز، لإمكان مقابلته و الإتيان بمثله، لمن تبحّر في تلك الصنعة، و لأجل ذلك تعلو عليه سيماء الصنع البشري، و ما ذلك إلاّ لأنّ الإعجاز البياني يبتني على الدعائم الأربع مجتمعة، و ليس ذاك الكلام مستجمعا لها ليكون معجزا فإنّه يفقد الأسلوب القرآني، أعني الأسلوب الذي لا يشبه أسلوب المحاورة و لا أسلوب الخطابة و لا الشعر، كما سيوافيك شرحه. و إليك من ذلك نموذجا:

إنّ من أفصح كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام - الذي أصفقت

ص: 272


1- سورة المائدة: الآية 27.
2- سورة آل عمران: الآية 181.

جهابذة الأدب على أنّه فارس ميدان البيان، و بطل حلبته - قوله في وصف الإنسان:

«أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، و شغف الأستار، نطفة دهاقا، و علقة محاقا، و جنينا، و راضعا، و وليدا، و يافعا. ثم منحه قلبا حافظا، و لسانا لافظا، و بصرا لاحظا، ليفهم معتبرا، و يقصّر مزدجرا. حتى إذا قام اعتداله، و استوى مثاله، نفر مستكبرا، و خبط سادرا، ماتحا في غرب هواه، كادحا سعيا لدنياه، في لذات طربه، و بدوات إربه»(1).

فإنّ هذه القطعة من خطبه عليه السلام سبيكة مرصّعة بيواقيت الكلم، و معالي معاني الحكم، معدودة من مدهشات كلامه، و قد توفرت فيها جوامع وجوه الحسن. و مع ذلك، فأين هي من الكلام الإلهي المعجز، الذي إذا جعلته إلى جنب هذا الكلام، ظهر بكل وضوح أنّه ليس من كلام البشر.

لاحظ قوله تعالى: وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2).

أو قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى، وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلاٰ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (3).

هذا فيما يرجع إلى الدعامة الأولى لإعجاز القرآن. و يشير النبي الأعظم في كلمة له في تعريف القرآن إلى هذه الدعامة و الدعامة التالية:

ص: 273


1- نهج البلاغة، الخطبة 83.
2- سورة النحل: الآية 78.
3- سورة الحج: الآيتان 5 و 6.

قال صلى اللّه عليه و آله: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن»... إلى أن يصفه بقوله: «ظاهره أنيق، و باطنه عميق»(1).

ص: 274


1- الكافي، ج 2، ص 238.

دعائم إعجاز القرآن

(2) البلاغة: جمال العرض و سمو المعنى
اشارة

قد وقفت، في التعريف الفنّي للبلاغة على أنّها عبارة عن خروج الكلام مطابقا لمقتضى الحال. فلو كان المقام مقتضيا للتأكيد أو الإطلاق، و ذكر المسند و المسند إليه أو حذفهما، و الإيجاز أو الإطناب، و غير ذلك، جاء الكلام مطابقا له. و قد أسهب علماء المعاني في تبيين مقتضيات الأحوال، على وجه لم يدعوا لقائل مقالا.

و قد اهتمّ بعض من كتب في الإعجاز، بأمر البلاغة أزيد من غيرها. حتى أنّ الخطابي قال: «و ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أنّ وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة، و لكن صعب عليهم تفصيلها»(1).

غير أنّا ركّزنا على أنّ البلاغة بهذا المعنى، ترجع إلى عرض المقصود بشكل مطلوب، و مفيد في تحقق غرض المتكلم، و لكنه لا يكفي في توصيف الكلام بالبلاغة ما لم يضم إليه قيد آخر، و هو كون المعنى ساميا و رفيعا، و قابلا للذكر و الإفادة، و إلاّ فالمعاني المبتذلة، و إن ألبست أجمل الحلي، و عرضت بشكل يقتضيه الداعي إلى التكلم، لا توصف بالبلاغة، و على فرض صحة التوصيف، لا يكون مثل ذلك الكلام أساسا للإعجاز، و لا دعامة له. و لأجل ذلك قلنا إنّ

ص: 275


1- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، الرسالة الأولى للخطابي، ص 21.

التعريف الصحيح للبلاغة هو عبارة عن تأدية المعنى الجليل بعبارة صحيحة فصيحة، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه.

و على ضوء ذلك، فالكلام الساقط عن الاعتبار من حيث المضمون، لا يتّصف بالبلاغة، مثل ما حكي عن مسيلمة الكذّاب حيث أقسم بالطاحنات، و قال «و الطاحنات طحنا، و العاجنات عجنا، و الخابزات خبزا». فأين هذه المفاهيم الساقطة السوقية الركيكة الفاقدة لأيّة قيمة، من المعاني العالية السامية الواردة في قوله سبحانه: وَ اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرٰاتِ صُبْحاً (1).

فاللازم في البحث عن فصاحة القرآن، التركيز على أمرين:

1 - مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

2 - سمو المعاني و علو المضامين.

الأمر الأول - مطابقة الكلام المقتضى الحال
اشارة

إنّ استقصاء جميع الأحوال التي يقع الكلام مطابقا لها، راجع إلى علم المعاني، من علمي الفصاحة و البلاغة فذكروا مقتضيات الأحوال في أبواب الإسناد الخبري، و المسند إليه، و المسند، و متعلقات الفعل، و الإنشاء، و الفصل و الوصل، و الإيجاز، و الإطناب و المساواة، فذكروا الأحوال الطارئة على الكلام و مقتضياتها، من ذكر المسند إليه و حذفه، و تنكيره، و تقديمه و تأخيره، و توصيفه و تأكيده، إلى غير ذلك من الأحوال الطارئة على المسند إليه، و بشكل على المسند، و لكل مقام. كما أنّ لكل من الإيجاز و الإطناب و المساواة مقام.

ثم إنّ دراسة القرآن من حيث كونه مطابقا للأحوال المقتضية، يحتاج إلى

ص: 276


1- سورة العاديات: الآيات 1-3.

تفسير حافل، يفسّر القرآن من هذا الجانب، و لعلّ «الكشاف» أحسن ما كتب في هذا الموضوع، فقد ذكر الزمخشري فيه، النكات البلاغية، في تفسير الآيات، و بذلك أثبت للقرآن إعجاز بيانيا خاصا، و أنّ كل آية بل كلّ كلمة واردة موردها.

و لما كانت الإحالة على مثل هذا الكتاب و غيره، عن المحذور غير خالية، نأتي بنماذج تثبت بلاغة القرآن، و ورود آياته وفق مقتضى الحال، و نختار لذلك سورتين قصيرتين، من السور المكية، النازلة في أوائل البعثة.

1 - بلاغة سورة الكوثر

روى المفسرون أنّ العاص بن وائل السهمي رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، و تحدّثا، و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فقالوا: من الذي كنت تتحدث معه. قال: ذلك الأبتر، و كان قد توفي قبل ذلك عبد اللّه بن رسول اللّه و هو من خديجة، و كانوا يسمون من ليس له ابن أبتر، فسمته قريش عند موت ابنه أبتر، و مبتورا(1)، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآيات:

إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ * إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ (2) .

قال الزمخشري، في رسالته حول إعجاز سورة الكوثر: «أنظر، كيف نظمت النظم الأنيق، و رتّبت الترتيب الرشيق، حيث قدّم منها ما يدفع الدعوى و يرفعها، و ما يقطع الشبهة و يقلعها (إنّا أعطيناك الكوثر)، ثم لما يجب أن يكون عنه مسبّبا و عليه مترتبا (فصل لربك و انحر)، ثم ما هو تتمة الغرض من وقوع

ص: 277


1- مجمع البيان، ج 5، ص 549.
2- سورة الكوثر.

العدو في مغوّاته(1) التي حفر، و صليه بحر ناره التي سعر (إنّ شانئك هو الأبتر)».

و إليك بيان نكات آياته الثلاث:

إِنّٰا .

تأمّل كيف من أسند إليه إسداء هذه العطية و الموهبة السنية (الكوثر)، هو ملك السموات و الأرض، و مالك البسط و القبض. فدلّ بذلك على عظمة المعطي و المعطى، من المعلوم أنّه إذا كان المعطي كبيرا، كان العطاء كثيرا.

و جمع ضمير المتكلم، فأعلم بذلك عظم الربوبية.

أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ .

استعمل لفظ الماضي مكان المستقبل، مع أنّ الكوثر كما يتناول عطاء العاجلة، يتناول عطاء الآجلة، و ذلك لأنّ المتوقّع من سيب الكريم، تحققه على وجه القطع و البت.

و جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأنّ المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإبهام و الشياع.

و اختار الصفة المؤذنة بإفراط الكثرة، المبينة عن المعطيات الوافرة، و صدّرها باللام لتكون كاملة في إعطاء معنى الكثرة.

و المراد من الكوثر، أولاده حسما للشبهة، و قطعا لدعوى الخصم.

فَصَلِّ .

عقّب إبهامه الكوثر، بالفاء، ليكون دليلا لمعنى التسبيب، فالعطاء الأكثر، يستلزم الشكر الأوفر.

ص: 278


1- حفرة كالزبية، تحفر للذئب، و يجعل فيها جدي إذا نظر إليه سقط عليه يريده. و منه قيل لكل مهلكة مغوّاة. (لاحظ النهاية، ج 3، ص 398، مادة غوي).

لِرَبِّكَ .

و قصد بذلك، التعريف بدين «العاصي» و أشباهه، ممّن كانت عبادته و نحره لغير إلهه، و بالتالي لتثبيت قدمي رسول اللّه على صراطه المستقيم، و إخلاصه العبادة لوجهه الكريم.

و قال: «لربك» و لم يقل «لنا»، فصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر، إظهارا لكبرياء شأنه، و إنافة لعزّ سلطانه. و منه أخذ الخلفاء قولهم:

يأمرك أمير المؤمنين بالسمع و الطاعة، و ينهاك أمير المؤمنين عن مخالفة الجماعة.

و علّم، بالأمر بالصلاة للرب، أنّ من حقّ العبادة أن يخصّ بها العباد ربّهم و مالكهم، و من يتولى معايشهم و مهالكهم. و عرّض بخطإ من سفّه نفسه، و نقض لبّه، و عبد مربوبا، و ترك عبادة ربّه.

وَ اِنْحَرْ .

أشار بالأمر بالنحر، بعد الأمر بالصلاة، إلى قسمين من العبادات، فالقسم الأول عمل بدني، و الصلاة إمامها. و الثاني عمل مالي، و نحر البدن سنامها.

و نبّه على ما لرسول اللّه من الاختصاص بالصلاة التي جعلت لعينه قرّة، و بنحر البدن التي كانت همته متطاولة إليها.

قال: «و انحر»، و لم يقل «و انحر له»، رعاية لفواصل الآيات، و هو أمر مطلوب إذا سيق المتكلم، إليه، بلا تكلّف.

إِنَّ شٰانِئَكَ .

عنى بالشانئ: «السهمي». و إنّما ذكره بوصفه لا باسمه، ليتناول كلّ من كان مثل حاله. و أعرب بذلك عن أنّ عدوه لم يقصد بوصفه بالأبتر، الإفصاح بالحق، و لم ينطق إلاّ عن الشنآن الذي هو توأم البغي و الحسد، و عن البغضاء التي هي نتيجة الغيظ، فبذلك وسمه بما ينبئ عن المقت الأشدّ، و يدلّ على حنق الخصم الألدّ.

ص: 279

هُوَ .

أقحم الفصل لبيان أنّه المعيّن لهذه النقيصة (الأبتر)، و أنّه المشخّص لهذه الغميصة(1).

اَلْأَبْتَرُ .

عرّف الخبر، ليتمّ له البتر.

فسبحان من أعجز فصحاء العرب و العجم، عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها، مع تحدّيه إيّاهم بذلك، و حرصهم على بطلان أمره، منذ بعث النبي إلى أمرنا هذا.

و سبحان من لو أنزل هذه الواحدة وحدها، و لم ينزل ما قبلها و ما بعدها، لكفى بها آية تغمر الأذهان. و معجزة توجب الإذعان، فكيف بما أنزل من السبع الطوال(2).

2 - بلاغة سورة «و الضحى»

جرت حكمته سبحانه على نزول الوحي تدريجيا، لحكمة صرّح بها سبحانه في قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً ، كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ ، وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً (3).

و لأجل وقوع الفترة بين نزول الوحي، عابه المشركون على النبي الأكرم، فقالوا: إنّ محمدا قد ودعه ربّه و قلاه، و لو كان أمره من اللّه لتتابع عليه، فنزلت السورة التالية:

وَ اَلضُّحىٰ * وَ اَللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ * مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ * وَ لَلْآخِرَةُ

ص: 280


1- يقال اغتمصت فلانا اغتماصا: احتقرته (لسان العرب، مادة غمص، ج 7، ص 61).
2- ما ذكرنا من النكات البيانية لسورة الكوثر مقتبسة من رسالة الزمخشري، في إعجازها، التي طبعت في مجلة «تراثنا»، و مع ذلك كله، لم يأت بجميع النكات الموجودة في هذه الآيات الثلاث
3- سورة الفرقان: الآية 32.

خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلْأُولىٰ * وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ * أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ * وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ * وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ * فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ * وَ أَمَّا اَلسّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ * وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (1) .

إنّ في هذه السورة من أنواع البلاغة ما يبهر العقول، و في الدراسة التالية نشير إلى بعض منها.

وَ اَلضُّحىٰ * وَ اَللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ .

الواو في الموضعين للقسم. و الضحى، و الليل حال السجي، هو المقسم به. و قوله سبحانه فيما يأتي: مٰا وَدَّعَكَ هو المقسم له، بمعنى جواب القسم.

و قد ورد في القرآن الكريم، ثمان و ثلاثون قسما، أفردها ابن القيم بالتصنيف في كتاب أسماه «التبيان في أسماء القرآن». و قد وقع القسم فيها على أشياء مختلفة كالملائكة و النبي الأكرم و القرآن و القيامة، و النفس الإنسانية، و القلم، و الكتاب و الشمس، وضوئها، و الليل و غير ذلك. و اهتمّ المفسّرون ببيان سرّ القسم بهذه الأمور، و لكنهم غفلوا عن مهمة أخرى في هذه الأقسام، و هي المناسبة بين المقسم به و المقسم له، أي بيان الصلة بين الشيء الذي وقع الحلف عليه، كالنّهار و الليل، و ما رتب عليه من الجواب. و هذا من الأمور المهمة التي إذا كشفها المفسّر، لأدرك أنّ تخصيص شيء معين بالقسم في هذا المجال دون غيره، ليس إلاّ لرابطة بينه و بين جوابه، و ليس هو أمرا اعتباطيا فاقدا للمناسبة.

و إليك البيان في المقام.

إنّ المقسم به في آيتي «و الضحى»، صورة مادية، و واقع حسيّ يشهد به الناس تألّق الضوء في صحوة النهار، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجى و سكن، يشهدون الحالين معا في اليوم الواحد دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين عليه ما يبعث على إنكار. بل دون أن يخطر على بال أحد، أنّ

ص: 281


1- سورة «و الضحى»، و آياتها 11.

السماء قد تخلّت عن الأرض، و أسلمتها إلى الظلمة، و الوحشة بعد تألّق الضوء في ضحى النهار.

فإذا كان هذا حال الفيض المحسوس، الذي به حياة البشر، فهكذا حال الفيض المعنوي، فينزل الوحي و يغرق المجتمع في بهاء نوره، ثم يسكن، فلا عجب في أن يجيء - بعد أنس الوحي، و تجلّي نوره على النبي الأكرم - فترة سكون يفتر فيها الوحي على نحو ما نشهد من الليل الساجي، يوافي بعد الضحى المتألّق.

فإذن، القسم بالضحى، و بالليل إذا سجى، بيان لصورة حسيّة، و واقع مشهود، يمهّد لموقف مماثل لكن غير حسيّ و لا مشهود، و هو فتور الوحي بعد إشراقه و تجلّيه.

فعند ذلك، يتجلّى تخصيصهما بالقسم دون غيرهما ممّا ورد في القرآن من الأمور المقسم بها. كما يتّضح أنّ نزول الوحي تدريجا، ليس دليلا على أنّه سبحانه ترك نبيّه أو قلاه. و ذلك لأنّ فتور الوحي، كنزول الليل بعد الضحى، فكما هو ليس دليلا على تخلّي السماء عن الأرض، و تسليمها إلى الظلمة، فهكذا نزول الوحي نجوما، ليس دليلا على أنّه سبحانه تخلّى عن رسوله، و تركه بين أعدائه أو قلاه.

و بذلك يظهر إتقان جواب القسم أعني قوله سبحانه:

مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ .

و من لطائف ما ورد في الجواب هو أنّه حذف المفعول من قوله: وَ مٰا قَلىٰ ، و لم يقل: «قلاك». و ليس ذلك رعاية للفاصلة، لأنّه عدل عن رعايتها في آخر سورة الضحى، حيث قال: فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ * وَ أَمَّا اَلسّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ * وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ إذ ليس في السورة، حرف الثاء على الإطلاق، و كان بوسعه أن يقول مكان حدّث، فخبّر، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة. فهذا دليل على أنّ الحذف لوجه آخر، كما أنّ العناية بذكر بلفظة «حدّث»، مكان «خبّر»، لنكتة موجودة في الأولى دون الثانية.

ص: 282

و الظاهر أنّ حذف المفعول هو لتحاشي خطابه تعالى حبيبه المصطفى في مقام الإيناس، بقوله: «ما قلاك»، لما في القلي من الطرد، و الإبعاد و شدّة البغض.

و هو في الوقت نفسه أظهر المفعول في «ودّعك»، إذ ليس فيه شيء يكره، بل هو يؤذن بالفراق على كره، مع رجاء العود.

وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلْأُولىٰ .

إنّ الآخرة إذا قرنت بالأولى، يراد منها اليوم الآخر، كما في قوله سبحانه:

فَلِلّٰهِ اَلْآخِرَةُ وَ اَلْأُولىٰ (1) . و قوله سبحانه: فَأَخَذَهُ اَللّٰهُ نَكٰالَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلْأُولىٰ (2).

و لكن يرجح أن يكون المراد من الآخرة في الآية، هو الغد المرجو من أيام بعثته، لتخصيص كونها خيرا في الآية بالنبي الأكرم، حيث قال: خَيْرٌ لَكَ فالآية تبشّر بالمستقبل الزاهر للنبي الأكرم، و بهذا يتمّ تأكيد نفي التوديع و القلي، ليذهب عن الأذهان أثر فتور الوحي.

و الصلة بين هذه الآية و بين ما تقدمها، واضح على هذا البيان، و الكلّ كسبيكة واحدة.

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ .

اللام لتأكيد لزوم العطاء، و أنّه أمر محقّق. وَ لَسَوْفَ للتراضي.

و الجمع بين التوكيد مع التسويف الصريح، لبيان أنّه موضع عناية ربّه في أمسه و غده، و أولاه، و أخراه.

و أمّا العطاء الذي يحصل به رضا النبي، فغير محدّد بشيء. و ليس وراء الرضا مطمح، و لا بعده غاية، و لا حاجة لتحديد هذا الذي يرضي الرسول، حتى تقلّل من روعة ذاك البيان المعجز الذي يتجلى سرّه في إطلاقه العام و انتهائه إلى الرضا.

ص: 283


1- سورة النجم: الآية 25.
2- سورة النازعات: الآية 25، و لاحظ سورة القصص: الآية 70، و سورة الليل: الآية 13.

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ * وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ * وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ .

هذه الآيات تبث في نفس الرسول الطمأنينة، و تثبت قلبه، بإلفاته إلى ما أسبغه اللّه عليه في أولاه، من نعم: كان يتيما، فآواه، و وقاه مسكنة اليتم، و كان ضالاّ، فهداه تعالى إلى دين الحق(1) و كان عائلا فأغناه اللّه بفضله و كرمه.

أ فما يكفي هذا ليطمئن كلّ أحد إلى أنّ اللّه غير تاركه و لا قاليه ؟ و هل تركه حين كان صبيا يتيما متعرضا لما يتعرض له اليتامى من قهر و ضياع ؟ و هل قلاه حين كان ذا عيلة ؟ كلا، لا.

و اليتيم مظنة الضياع و القهر، قال سبحانه: وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ (2). و قد وجه اللّه محمدا يتيما عائلا، فأعفاه سبحانه من تلك الآثار البغيضة، و حفظ جوهره من الآفات التي كان معرّضا لها بحكم يتمه و عيلته، و بذلك تمّ فيه الاستعداد النفسي لتلقّي الرسالة الكبرى، التي بعث بها ليقي الناس من المذلّة و الضلال.

فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ * وَ أَمَّا اَلسّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ * وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ .

أتى بكلمة: «فلا تقهر»، مع أنّ في وسعه أن يستخدم كلمة أخرى، نحو: «فلا تظلم»، «فلا تمنع حقه» و غيرهما، و ذلك لأنّ في عبارة: «فلا تقهر»، معنى أعمق و أدق ممّا يفيده ذانك اللفظان و مشابههما، إذ يجوز أن يقع

ص: 284


1- المراد من الضلال، هو الضلال الطبيعي العام، فكل إنسان ضال بالطبع، و يخرج منه بهداية من اللّه سبحانه، فليست الآية دليلا على أنّه صلى اللّه عليه و آله كان ضالاّ غير عارف باللّه في فترات من عمره، ثم هداه اللّه سبحانه. و ليس الضلال مرادفا للكفر. بل هو بمعنى عدم الاهتداء إلى الصواب. و قد رموا يعقوب بالضلال كما في قوله سبحانه: تَاللّٰهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاٰلِكَ اَلْقَدِيمِ سورة يوسف: الآية 95. و ليس الضلال هناك كفرا، و إنّما هو الشغف بيوسف. و قالت النسوة في امرأة العزيز و يوسف قَدْ شَغَفَهٰا حُبًّا إِنّٰا لَنَرٰاهٰا فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ سورة يوسف: الآية 30
2- سورة النساء: الآية 9.

القهر مع إنصاف اليتيم و إعطائه ماله، و عدم التسلّط عليه بالأذى، لأنّ حساسية اليتيم إلى حدّ أنّه يتأثّر بالكلمة العابرة، و اللفتة الجارحة من غير قصد. و النبرة المؤلمة بلا تنبه، و إن لم يصحبها تسلّط بالأذى، أو غلبة على ماله و حقّه.

و يحتمل أن يكون المراد من النعمة هو الرسالة التي أكرمه اللّه تعالى بها، و تفضل بها عليه، و عند ذلك يكون المراد من التحدّث بها هو إبلاغ رسالة ربّه.

ثم في الآيات الثلاث الأخيرة نكتة بديعة، فإنّا نرى أنّه سبحانه قدّم النهي عن قهر اليتيم و نهر السائل، على التحدّث بنعمته تعالى، فأخّر حقّ نفسه و هو التحدث بالنعمة، و قدّم حقّ اليتيم و السائل. و ما هذا إلاّ لأنّه غنيّ و هما محتاجان، و تقديم حقّ المحتاج أولى.

و هناك نكتة أخرى، و هي أنّه تعالى لم يرض في حقهما إلاّ بالفعل، و رضى في نفسه بالقول(1).

فهاتان السورتان المتقدمتان أوقفتانا على نموذج من بلاغة القرآن - بمعنى المطابقة لمقتضى الحال - و زيادة في بيان هذا الجانب البلاغي، نأتي بنماذج أخرى من آياته، حصل فيها تقديم و تأخير و عكس في العبارات، ممّا قد يتخيل معه أنّه تنويع و تفنن في الكلام، و لكن بالتأمّل فيها يتّضح أنّه ليس كذلك، و إنّما اختلاف التعبير نشأ من اختلاف المقتضيات.

1 - يقول سبحانه في سورة الأنعام: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ (2).

و يقول سبحانه في سورة الإسراء: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ

ص: 285


1- ما ذكرناه في هذا العرض، اقتبسناه من كتاب «التفسير البياني للقرآن الكريم»، ج 1، ص 23 - 55. بتلخيص و تصرّف.
2- سورة الأنعام: الآية 151.

نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّٰاكُمْ (1) .

و النهي في كلتا الآيتين متوجه إلى الوالدين. و وجه الاختلاف بينهما أنّ الداعي إلى القتل في الآية الأولى هو الفقر المحقّق، السائد في حياة الوالدين، بدلالة قوله: مِنْ إِمْلاٰقٍ . و في الثانية هو الفقر المتوقع، بدلالة قوله:

خَشْيَةَ إِمْلاٰقٍ . فاختلفت حال الوالدين.

ففي الآية الأولى، الخطاب متوجه إلى الوالدين الفقيرين، حال الخطاب، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق بهما ثم بأولادهما.

و هذا بخلاف الآية الثانية، فإنّ الخطاب فيها متوجه إلى الوالدين الميسورين المرزوقين بالفعل، و يخافان العيلة و العجز عن رزق أولادهم و لأجل ذلك كانوا يرتكبون ذلك العمل الأسود الوبيل (قتل أولادهم)، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق، بالأولاد أوّلا، و بالوالدين ثانيا.

2 - يقول سبحانه في عرض مشهد من مشاهد يوم القيامة و ما يكون الناس عليه من فزع و كرب: يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ * وَ صٰاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ * لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (2).

و في سورة أخرى، في عرض مشهد من هذا اليوم، يقول: يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَ صٰاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ * وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ * وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (3).

ففي الآيتين ألفاظ مشتركة، مثل «بنيه» و «صاحبته» و «أخيه». لكن قدّم في الأولى الأخ، فالأم، فالأب، فالصاحبة، فالبنين، مبتدأ بالعزيز فالأعزّ.

و في الثانية عكس فقدّم البنين، فالصاحب، فالأخ، فالفصيلة، فسائر

ص: 286


1- سورة الإسراء: الآية 31.
2- سورة عبس: الآيات 34-37.
3- سورة المعارج: الآيات 11-14.

الناس، مقدّما الأعزّ فالعزيز. فما هو الوجه في هذا التقديم و التأخير؟.

الجواب: إنّ الآية الأولى تصوّر مشهد الفرار من العذاب و البلاء، و الآية الثانية تمثّل مشهد دفع العذاب عن النفس.

ففي المقام الأول يتخلّى الإنسان عن العزيز فالأعزّ، حتى لا يبقى معه شيء يمكنه أن ينخلع عنه لينجو بنفسه. فلأجل ذلك بدأ في الآية الأولى بالأخ، فالأم، فالأب، فالصاحبة، فالبنين.

و أمّا في المقام الثاني، فالإنسان فيه في حالة الافتداء من العذاب الشديد الرهيب، ففي هذا الحال يفدي بعض جوارحه ببعض ليدفع عنه لهيب جهنم.

فإن لم ينجع، يتناول للوقاية أقرب شيء و أحبّه إليه لعلّه ينجو، و هم البنون، فالصاحبة، فالأخ.

فصار الموقفان مختلفين متباينين، فالحالة الأولى تمثّل حركة فرار، و الثانية تمثّل حركة دفاع من خطر داهم. و هذه النكتة، أوجبت اختلاف النظم بين الآيتين، و عليها جرى قول الشاعر:

ألقى الصحيفة كي يخفّف رحله *** و الزاد حتى نعله ألقاها

فإنّ النعل للمسافر الراجل في الصحراء، أعزّ الأشياء. و بما أنّ الموقف موقف حركة فرار، ابتدأ بإلقاء العزيز فالأعز حتى وصل إلى النعلين.

3 - يقول سبحانه: لاٰ يَسْتَوِي اَلْقٰاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ، وَ اَلْمُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ دَرَجَةً ، وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْحُسْنىٰ وَ فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (1). فقدّم الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس في موردين من هذه الآية.

و يقول سبحانه في آية أخرى: إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ

ص: 287


1- سورة النساء: الآية 95.

وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ ، يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ (1) . فقدم هنا الأنفس على الأموال، مع أنّها واردة أيضا في مجال الجهاد.

فهل هذا للتفنن في العبارة ؟ أو أنّ الحال يقتضي في الآية الأولى و نظائرها، تقديم الجهاد بالأموال على الأنفس، و في الآية الثانية العكس.

التحقيق هو الثاني، بل هو المتعين، لأنّ الآية الأولى بصدد بيان جهاد المؤمنين بالأموال و الأنفس، و من المعلوم أنّ الإنسان يبتدئ في الجهاد بالعزيز فالأعز، فيجاهد بماله أولا ثم بنفسه. و أمّا الآية الثانية فهي بصدد بيان شراء اللّه سبحانه من المؤمنين، و من المعلوم أنّ المشتري يبتغي الأعزّ فالعزيز، و يختار لنفسه الأغلى فالغالي. و النفوس أغلى من الأموال.

و العجب أنّ القرآن راعى هذه النكتة في جميع الموارد التي ذكر فيها الجهاد بهما(2).

4 - يقول سبحانه حاكيا عن لسان إبراهيم عليه السلام: رَبَّنٰا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (3) فقدم فيها التعليم على التزكية.

و لكن في موضع آخر عكس و قدم التزكية على التعليم، فقال: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (4). فعكس في هذه الآية و قدّم فيها التزكية على التعليم.

ص: 288


1- سورة التوبة: الآية 111.
2- لاحظ الآيات التاليات: الأنفال: 72، التوبة: 20 و 41 و 44 و 81 و 88، الحجرات: 15، الصف: 11.
3- سورة البقرة: الآية 129.
4- سورة الجمعة: الآية 2.

و نحن نترك للباحث الكريم استكشاف وجه الاختلاف بين الآيتين، ليستنبطه على ضوء ما ذكرنا. و كم لهذا من نظير في كتاب اللّه المجيد.

الأمر الثاني - سمو المعاني
اشارة

إنّ التالي لآيات الذكر الحكيم - إذا كان ممعنا في تلاوته - يرى في كل سورة و آية عظة و تنبيها، و إعلاما و تذكيرا، و ترغيبا و ترهيبا، و تشريعا و تقنينا، و قصصا، و عبرا، و براهين و حجج، ترقى بروح الإنسان و تحلّق بها في سماء المعنويات. فهذه المعاني العالية السامية الدقيقة، إذا حملتها ألفاظ فصيحة، و صيغت في نظم رصينة، و رصّعت بأسلوب بديع، و ألقيت على مقتضى الحال، بهرت العقول، و خلبت النفوس، و سلّمت بعجزها عن معارضته و الإتيان بمثله.

و قد ركّز النبي الأعظم في حديثه عن القرآن، على هذا الأمر، حيث قال:

«و باطنه عميق». كما اعترف به عدوّه اللدود، الوليد بن المغيرة، حيث قال:

«إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق».

إنّ النظرة الفاحصة، في آثار الكتّاب و المؤلفين، تدفعنا إلى القول بأنّهم لا يخرجون عن طائفتين: طائفة تهتم بتزيين الألفاظ دون العناية بسمو المعنى.

و طائفة أخرى تهتم بإبداع المعاني من دون عناية بتحسين اللفظ.

و قلما يتّفق من يراعي كلا الأمرين، و الجمع بينهما مشكل. لأنّ الألفاظ و الجمل الخلاّبة لا تطابق الموضوعية و الواقعية. فالذين يرغبون في إفهام المعاني لا يفتشون عن الألفاظ و العبارات الخلاّبة. فالجمع بين الجمالين، رهن عبقرية و نبوغ قادرين على تحمّل عبئهما.

و القرآن الكريم أبرز نموذج للقسم الثالث. فألفاظه في منتهى العذوبة، و مقاطع الآيات و فواصلها في غاية الأناقة، و الأسلوب في منتهى البداعة، و قد ضمّ إلى هذا الجمال الظاهر، عمقا في المعنى، لا تجد له مثيلا في زبر الأولين و كتب الآخرين.

ص: 289

إن التصوير الدقيق لسمو معاني القرآن لا يتأتى إلاّ بذكر نماذج من الآيات في مجالات مختلفة.

1 - المعارف العليا

يتجلى سمو معاني القرآن في مجال المعارف بشكل واضح. فقد جاء هذا الكتاب بأسمى المطالب، و أغزر المضامين، في الدعوة إلى التوحيد و رفض الأصنام، و نفي الشرك و الاثنينيّة، بل في باب إثبات الصانع، و صفاته. مضافا إلى ما جاء من المضامين الدقيقة الفلسفية في الدعوة إلى عالم الغيب، و بقاء الروح بعد فناء البدن، و حشر الإنسان و عوده إلى الحياة، إلى غير ذلك ممّا ذكرنا بعضا منه في الجزء الأول، و نذكر بعضا آخر فيما يأتي من المباحث. و لكن لأجل عرض نموذج منه نأتي في هذا المقام بآيات:

أ - يقول سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخٰالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ اَلْمُصَيْطِرُونَ (1).

أنظر إلى هذا البيان الجزل، كيف يشير إلى برهان الإمكان بصورة موجزة مستحكمة لم يكن العرب و لا حكماؤهم عارفين به. و تتّضح حقيقة سمو المعنى إذا أمعنت النظر في كل شقّ من هذه الشقوق الأربعة.

ب - يقول سبحانه: مَا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ مِنْ وَلَدٍ، وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ ، وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ (2).

و يقول سبحانه: أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا، فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ (3).

ص: 290


1- سورة الطور: الآيات 35-37. و قد تعرضنا إلى مفاد الآيات في الجزء الأول من الكتاب.
2- سورة المؤمنون: الآية 91.
3- سورة الأنبياء: الآيتان 21 و 22.

فترى أنّه يستدلّ في هذه الآيات على التوحيد في التدبير، و أنّ النظام الجملي يدار بمدبّر واحد لا غير.

ج - إنّ القرآن يستدلّ على إمكان المعاد و عود الإنسان إلى الحياة ثانيا بطرق مختلفة، بشكل يقنع المتحري للحقيقة، المتجرّد عن العناد. و إليك نظرة عابرة عليها.

فتارة يستدلّ عن طريق عموم القدرة على كل شيء، على إمكان المعاد، و يقول: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىٰ بَلىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1).

و أخرى عن طريق قياس الإعادة على الحياة الأولى، و يقول: كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (2).

و ثالثة عن طريق قياس إمكان إحياء الموتى بإحياء الأرض - بعد موتها - بالمطر و النبات، و يقول: وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ (3).

و رابعة عن طريق قياس قدرة الإعادة، على القدرة على إخراج النار من الشجر الأخضر، و يقول: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نٰاراً فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (4).

و خامسة عن طريق الاستدلال بالوقوع على إمكان العود. فإن أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، و لأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل(5)و حديث عزير(6)

ص: 291


1- سورة الأحقاف: الآية 33.
2- سورة الأنبياء: الآية 104.
3- سورة الروم: الآية 19.
4- سورة يس: الآيتان 79 و 80. و سيوافيك مفاد الآية بشكل ألطف مما ذكر كثير من المفسّرين. و رائدنا فيه التدبير في ذيل الآية.
5- سورة البقرة: الآيات 67-73.
6- سورة البقرة: الآية 259.

و سادسة عن طريق الاستدلال بالنّومات الطويلة التي امتدت أكثر من ثلاثمائة سنة، فإنّ النوم أخو الموت، و لا سيما الطويل منه، و الاستيقاظ منه يشبه تطور الحياة و تجددها(1).

فهذا النوع من البرهنة على عقيدة هي كالعمود الفقري في باب العقائد، ممّا لا ترى له مثيلا في كتب الأقدمين، فإنّ هذه المعاني البديعة إذا انضمّ إليها الاستحكام في البيان، تبهر العقول و تدهش النفوس.

و هذا النوع من العمق وافر في الآيات الواردة حول المعارف و العقائد، و قد اكتفينا بما ذكرناه.

2 - سطوع براهينه

إنّ القرآن الكريم كتاب الهداية، نزل للناس أجمعين، ليبقى خالدا على جبين الدهر، يرجع إليه كل من تحرّى الحقيقة، و ارتاد الواقع، و لأجل ذلك اعتمد على البراهين اللامعة، لا على الأساليب المعقّدة التي كانت و لم تزل، رائجة بين الفلاسفة. فأخذ من المسلّمات برهانا على النظريات، و من المشاهدات دليلا على الحقائق غير المحسوسة، كل ذلك ببيان واضح، لا يقبل الخدش و الشك.

و يستلذّ به الذوق، و تستسلم له العقول. و إليك نماذج من هذه البراهين:

1 - قال تعالى: قُلْ إِنْ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعٰابِدِينَ (2).

فلاحظ ما أحلى استدلاله على نفي الولد، بأنّه لو كان له ولد كما يقول هؤلاء، فاللائق للاتخاذ ولدا، هم الأنبياء و المرسلون، الذين عبدوه، و خضعوا له، و ائتمروا بأمره.

ص: 292


1- سورة الكهف: الآيات 9-29.
2- سورة الزخرف: الآية 81.

2 - و قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (1). إذا كان الخصم معترفا بأنّ اللّه هو الذي بدأ الخلق... إذن فالإعادة أهون من البدأة، لأنّها من شيء، و تلك لا من شيء.

3 - و قال تعالى: وَ لاٰ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيٰاطِ (2). فقد رتّب دخولهم الجنة على ولوج الجمل في خرم الإبرة. و لما كان ذلك أمرا ممتنعا، كان ذاك أيضا مثله. فقد أبدى امتناع دخولهم الجنة بهذا الشكل القياسي بكناية بديعة.

4 - و قال تعالى: إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ (3). فقد رتّب النتيجة على صغرى القياس مع حذف الكبرى لظهورها، و هي: أنّ من أعطاه اللّه الكوثر - و هي مجموعة المكرّمات - فينبغي له أن يؤدّي شكره الواجب، بالابتهال إلى اللّه و المثول لديه بكل الوجود.

5 - و قال تعالى: وَ لَوْ شِئْنٰا لَرَفَعْنٰاهُ بِهٰا وَ لٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ (4).

قياس استثنائي مركّب من قضيّة شرطية مضمونها: وَ مَنْ أَرٰادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعىٰ لَهٰا سَعْيَهٰا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كٰانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (5). و أخرى حملية استثنائية مضمونها: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ * قٰالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قٰالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَ كَذٰلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسىٰ (6).

ص: 293


1- سورة الروم: الآية 27.
2- سورة الأعراف: الآية 40.
3- سورة الكوثر: الآيتان 1 و 2.
4- سورة الأعراف: الآية 176.
5- سورة الإسراء: الآية 19.
6- سورة طه: الآيات 124-126.

6 - و قال تعالى: فَلَمّٰا أَفَلَ قٰالَ لاٰ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ (1). الكبرى مطوية، أي و كلّ آفل غير مستحق للعبادة.

3 - بداعة التصوير و التعبير
اشارة

إنّ للقرآن طريقة موحدة في التعبير يتّخذها في أداء جميع الأغراض على السواء، حتى أغراض البرهنة و الجدل، و تلك طريقة صوغ المعاني العالية في قالب التجسيم و التمثيل. و نحبّ أن نزيد المسألة إيضاحا بالنماذج، و أنّه كيف يصوّر المعاني السامية و الحالات النفسية و يبرزها في صور حسيّة، من غير فرق بين المشاهد الطبيعية، و الحوادث الماضية و القصص المروية، و مشاهد القيامة، و صور النعيم و العذاب، فيعبّر عن الكلّ كأنّها حاضرة شاخصة، و لا شكّ أنّ هذه الطريقة تتفوق على نقل المعاني و الحالات النفسية في صورها الذهنية التجريدية، و نقل الحوادث و القصص أخبارا مروية، و التعبير عن المشاهد و المناظر تعبيرا لفظيا لا تصويرا خياليا. و إليك الأمثلة.

1 - معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان، يعبّر عنه بوجهين: أحدهما تجريدي، و الآخر تصويري.

فيقال في الأول: «إنّهم لينفرون أشدّ النّفرة من دعوة الإيمان». فيتملّى الذهن وحده معنى النفور في برود و سكون.

و يقال في الثاني: فَمٰا لَهُمْ عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (2) فتشترك مع الذهن حاسة النظر، و ملكة الخيال، و انفعال السخرية من هؤلاء الذين يفرون، كما تفر حمر الوحش من الأسد، لا لشيء إلاّ

ص: 294


1- سورة الأنعام: الآية 76.
2- سورة المدثّر: الآيات 49-51.

لأنّهم يدعون إلى الإيمان. فتأخذ النفس روعة الجمال الذي يرتسم فيه صورة شرود هذه الحمر يتبعها قسورة المرهوب.

2 - معنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون اللّه يعبّر عنه بوجهين:

أحدهما ذهني مجرّد، و الآخر تصويري.

ففي الأول يقال: «إنّ ما تعبدون من دون اللّه لأعجز عن خلق أحقر الأشياء». فيصل المعنى إلى الذهن مجرّدا باهتا.

و في الثاني يقال: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (1).

ففي الثاني أبرز هذا المعنى بصور متحركة متعاقبة.

«لن يخلقوا ذبابا»، هذه درجة.

«و لو اجتمعوا له»، هذه أخرى.

«و إن يسلبهم الذّباب شيئا لا يستنقذوه منه»، و هذه الثالثة.

ففيها تصوير للضعف المزري، و التدرّج في تصويره بما يثير في النفس السخرية اللاذعة و الاحتقار المهيب.

3 - يعبّر عن حالة تخلي الأولياء عن تابعيهم أمام هول القيامة بصورتين، كالسابقتين. في إحداهما، يقال: لا لقد تناكر الأصفياء و تخلّى المتبوعون عن التابعين حينما شاهدوا الهول يوم الدّين».

و في ثانيتهما، يقال: وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ جَمِيعاً، فَقٰالَ اَلضُّعَفٰاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا: إِنّٰا كُنّٰا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّٰا مِنْ عَذٰابِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ قٰالُوا: لَوْ هَدٰانَا اَللّٰهُ لَهَدَيْنٰاكُمْ ، سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ جَزِعْنٰا أَمْ صَبَرْنٰا مٰا لَنٰا مِنْ

ص: 295


1- سورة الحج: الآية 73.

مَحِيصٍ (1) .

ففي هذا الاستعراض يتجسم للخيال مشهدان:

الضعفاء الذين كانوا ذيولا للأقوياء، و هم ما يزالون في ضعفهم يلجئون إلى الذين استكبروا في الدنيا، يسألونهم الخلاص من هذا الموقف، و يعتبون عليهم إغواءهم في الحياة، متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة، و ضعفهم المعروف.

و الذين استكبروا، و قد ذلّت كبرياؤهم و واجهوا مصيرهم، و هم لا يملكون لذات أنفسهم خلاصا، فضلا عن تابعيهم، فما يزيدون على أن يقولوا لهم: «لو هدانا اللّه لهديناكم».

4 - يعبّر عن بطلان أعمال الكافرين بأنّها: «لا وزن لها و لا تنفع». كما يعبر عن ضلالتهم الدائمة، بأنّهم: «لا مخرج لهم منها و لا هادي لهم فيها».

و لكن في هذا التعبير ركود و سكون لا تنتعش النفس به أبدا.

و أين هو من التعبير القرآني في كلا الموردين (بطلان أعمالهم، و إحاطة الضلالة بهم) الذي تحيا فيه النفس و تتحرك، و ينتعش فيه الحسّ و الخيال:

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ (2) .

و يقول: أَوْ كَظُلُمٰاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ، ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ (3).

ففي التعبير الثاني - في كلا الموردين - صور متينة ساحرة فيها روح القصة، و الخيال العميق.

ص: 296


1- سورة إبراهيم: الآية 21.
2- سورة النور: الآية 39.
3- سورة النور: الآية 40.

و أين للريشة في ترسيم هذه الصور لو أريد تصويرها بالألوان، و إلى أين للعدسة لو أريد تصويرها بالحركات.

بل أين هي الريشة، و أين هي العدسة، التي تستطيع أن تبرز هذه الظلمات: فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ، ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا ؟. أو تصوّر الظمآن يسير وراء السراب: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، و وجد مفاجأة عجيبة لم تكد تخطر له على بال، وجد اللّه عنده، و في سرعة خاطفة تناوله، فوفّاه حسابه.

5 - و من هذا الوادي تصوير معنى الضلال بعد الهدى. و ضياع الجهد معه سدى، تلك الصور المتتابعة التي يجيش بها الحسّ و الخيال، و تحيى بها النفس، يقول سبحانه:

أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ ، فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً فَلَمّٰا أَضٰاءَتْ مٰا حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّٰهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فِيهِ ظُلُمٰاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ مِنَ اَلصَّوٰاعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللّٰهُ مُحِيطٌ بِالْكٰافِرِينَ * يَكٰادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰارَهُمْ ، كُلَّمٰا أَضٰاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذٰا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قٰامُوا، وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) .

إنّ هنا مشهدا من الصور المتتابعة في شرائط متحركة؛ هؤلاء هم قد أوقدوا النار فأضاءت، و فجأة يذهب اللّه بنورهم و يخيّم حولهم الظلام. أو ها هي ذي العاصفة صيّب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق، و هؤلاء هم مذعورون يتوقعون الصاعقة، و يخافون الموت، فيجعلون أصابعهم في آذانهم، و ما تغني الأصابع في الآذان، و لكنها حركة الغريزة في هذا الأوان. و ها هو ذا البرق يخطف الأبصار و لكنه ينير الطريق لحظة، فهم يخطون على ضوئه خطوة، و ها هو ذا ينقطع فيظلّون واقفين لا يدرون كيف يخطون.

ص: 297


1- سورة البقرة: الآيات 16-20.
لون آخر من التصوير الفني

هذه نماذج من التصوير الفني في القرآن الكريم و هناك لون آخر من التصوير يضفي على المعاني الذهنية و الحالات المعنوية صورا حسيّة. مثلا:

1 - الصبح مشهد مألوف متكرر، و لكنه في تعبير القرآن حيّ لم تشهده من قبل عينان، و أنه وَ اَلصُّبْحِ إِذٰا تَنَفَّسَ (1).

2 - و الليل آن من الزمان معهود، و لكنه في تعبير القرآن، حي جديد، وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَسْرِ (2)، و هو يطلب النهار في سباق جبّار يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً (3).

3 - و الظلّ ظاهرة تشهد و تعرف، و لكنه في تعبير القرآن نفس تحسّ و تتصرّف، وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لاٰ بٰارِدٍ وَ لاٰ كَرِيمٍ (4).

4 - و الجدار بنية جامدة كالجلمود، و لكنه في تعبير القرآن يحسّ و يريد:

فَوَجَدٰا فِيهٰا جِدٰاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقٰامَهُ (5) .

5 - و الطّير أبنية حية، و لكنها مألوفة لا تلفت الإنسان، أمّا في تعبير القرآن فمشهد رائع، يثير الجنان: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صٰافّٰاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ، مٰا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَلرَّحْمٰنُ (6).

6 - و الأرض و السماء، و الشّمس و القمر، و الجبال و الوديان، و الدور العامرة، و الآثار الداثرة، و النبات و الأشجار و الأفنان، أموات عند الناس، لكنها في القرآن أحياء، أو مشاهد تخاطب الأحياء، فليس هناك جامد و لا ميت بين الجوامد و الأشياء(7).

ص: 298


1- سورة التكوير: الآية 18.
2- سورة الفجر: الآية 4.
3- سورة الأعراف: الآية 54.
4- سورة الواقعة: الآيتان 43 و 44.
5- سورة الكهف: الآية 77.
6- سورة الملك: الآية 19.
7- ما ذكرناه اقتبسناه من «التصوير الفني في القرآن»، للسيد قطب، ص 193-203.
4 - الأمثال
اشارة

يشتمل القرآن الكريم على أكثر من خمسين مثلا في مجال هداية الناس.

و هذه الأمثال مع بساطتها غزيرة المعاني، عالية المضامين. و نحن نذكر في المقام نموذجا منها يتبلور فيه عمق المعنى بشكل آخر.

الصراع بين الحق و الباطل

يصوّر القرآن الكريم الصراع القائم بين الحق و الباطل بصورة مثل بديع، يشتمل على نكات بعيدة الأغوار، عميقة الإشارات، في ألفاظ قليلة، و عبارات متناسقة، و يقول:

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً ، فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا، فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رٰابِياً، وَ مِمّٰا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنّٰارِ اِبْتِغٰاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتٰاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ، كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبٰاطِلَ ، فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفٰاءً ، وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ ، كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ (1) .

إنّ هذه الآية من أعمق الآيات القرآنية، فهي - بلباس المثل - تطرح معاني سامية تبين فيها مكانة الباطل من الحق. ففي هذا المثال، تشبّه الآية كلا من الحق و الباطل بأمرين:

الأول: إنّ الحق كالماء النازل من السماء، المتجمع في أعماق الأرض، أو الجاري جداول و أنهارا، بعد انحداره من سفوح الجبال إلى الأودية و السهول.

و الباطل كالزبد و الرغوة التي تعلو وجه الماء حال سيلانه و اندفاعه، التي لا تلبث أن تتلاشى كأنّ لم تكن شيئا مذكورا.

الثاني: إنّ الحق كرواسب الأتربة المعدنية المذابة في الأفران، فإنّها خالص المعادن و الفلزات.

ص: 299


1- سورة الرعد: الآية 17.

و الباطل كالزبد و الفقاعات التي تعلو هذه الأتربة حال غليانها، التي سرعان ما تنفجر و تتبخر.

فالصورة العامة التي يعطيها هذا المثل، ترسيم ثبات الحق و دوامه بتشبيهه، بالماء النازل من السماء، الجاري في الأودية و الوهاد، الغائر في أعماق الأرض، ثم الظاهر، بصورة العيون و الينابيع، التي تستفيد المخلوقات منها في دوام حياتها.

و بالمعادن المذابة، الراسب خالصها في أعماق الأفران، التي يستفيد منها الناس في زينتهم و أمتعتهم.

و كذلك ترسيم سرعة أفول الباطل بعد نجومه بتشبيهه بالزبد الذي يرغو فوق الماء، و المعادن المنصهرة، الذي يتصوره الجاهل شيئا ثابتا قائما، و لكن ما أسرع اختفاءه و زواله، فلا يرى منه عين و لا أثر.

و على ذلك فللحق ثبات و دوام، و للباطل جولة و زوال.

و مع هذا، ففي هذا المثل معان عميقة، و إشارات دقيقة إلى مكانة كل من الحق و الباطل، نشير إلى بعضها..

1 - إنّ الحق و الباطل يتمثّلان في مجال العقيدة، في الإيمان و الكفر، و العدل و الظلم.

فبالإيمان باللّه تبارك و تعالى تحيا القيم الأخلاقية، كما أنّ بالكفر موت المثل و الفضائل و انعدام الكمالات الإنسانية.

و مثل ذلك العدل و الظلم، ففي ظلّ العدل تتفجّر الطاقات و تترقى المجتمعات، و ينال كل إنسان الغاية التي يليق بها، كما أنّ في الظلم كبت الاستعدادات، و تقديم المفضول و تأخير الفاضل، و لن يزال المجتمع الظالم يتدهور إلى أن لا يرى له أثر.

فأشبه الإيمان و العدل، الماء الذي به حياة كل شيء، و خالص المعادن المترسب في قعر أفران الصّهر، إذ عليها تعتمد حياة الإنسان الدنيوية، و تترتب المنافع الكثيرة، قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (1). فالحديد و أضرابه، هو الذي يدير عجلة الحضارة، و بفقدانه شللها التام.

ص: 300

فأشبه الإيمان و العدل، الماء الذي به حياة كل شيء، و خالص المعادن المترسب في قعر أفران الصّهر، إذ عليها تعتمد حياة الإنسان الدنيوية، و تترتب المنافع الكثيرة، قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (1). فالحديد و أضرابه، هو الذي يدير عجلة الحضارة، و بفقدانه شللها التام.

و أشبه الكفر و الظلم، الزبد الذي يرغو على وجه الماء و المعادن المنصهرة، لا يستفاد منه و لا يعتمد عليه في شيء.

2 - إنّ الباطل ربما يصير حجابا عن الحق، فيكون مانعا بينه و بين طالبه و لكن هذا الحجاب سرعان ما يزول و يتجلى وجه الحقيقة بصورته الواقعية، تماما كما أنّ الزبد يعلو وجه الماء و يوجب برغوته حدوث غشاوة ساترة لما تحته، و الإنسان الجاهل يحسب أن لا شيء تحته سوى العفن و الطين و التراب، و لكن سرعان ما تخمد رغوته، و تنقشع غشاوته، و يتجلى الماء صافيا زلالا، أو الأتربة المنصهرة، معادن و فلزات نفيسة و نافعة.

فالأفكار الإلحادية ربما تستر وجه الحق، و تحول بينه و بين طالبه، لكن تعلقت مشيئته سبحانه على إحقاق الحق و محو الباطل.

قال سبحانه: وَ يَمْحُ اَللّٰهُ اَلْبٰاطِلَ ، وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ (2).

و قال سبحانه: وَ قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبٰاطِلُ ، إِنَّ اَلْبٰاطِلَ كٰانَ زَهُوقاً (3).

3 - إنّ الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات، خال في نفسه عن الصور و الأقدار، و إنّما يتقدّر من ناحية الأشياء، أنفسها، كماء المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض، خال في نفسه عن الصور و الأقدار، و إنّما يحتمل من القدر و الصورة ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية، و مجاري الأنهار، و السواقي، و الأحواض و البرك و المستنقعات، المختلفة في الأقدار و الصور.

فالحق فيض إلهي، يأخذ منه كل إنسان بحسب لياقته وسعة ذهنه. فمن

ص: 301


1- سورة الحديد: الآية 25.
2- سورة الشورى: الآية 24.
3- سورة الإسراء: الآية 81.

الناس من يكون واسع الصدر، كامل الاستعداد فيأخذ منه القسط الأكبر، و منهم من لا يزيدون عن معشار ذلك.

و يلوّح إلى ما ذكرنا آيات كثيرة، منها قوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (1).

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها»(2).

4 - إنّ الباطل في ثورانه و جولانه في أمده القصير، فرع اعتماده على الحق، و اتّخاذه واجهة لأعماله. فلو تجرّد عن الحق بالكلية، لما كان له حتى هذا السهم القصير، كالزبد لا يتجلى إلاّ بركوبه الماء، كما أشار إليه سبحانه بقوله:

فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً (3) .

5 - إنّ الباطل لا يظهر إلاّ في الأجواء الصاخبة و المجتمعات المتضاربة.

كالزبد الذي لا يظهر إلاّ عند تدفق المياه و اجتياحها القنوات الضيقة، فإذا انتهت إلى السهول الفسيحة، زال الزبد شيئا فشيئا، و لا يبقى بعده إلاّ الماء الزلال.

و كذلك الزبد الناجم عند عملية الصهر، فطالما أنّ المعادن في حالة الغلي و الفوران يكون الزبد على وجهها، فإذا هدأت النار و توقف الغليان لم يبق إلاّ المعادن الخالصة.

فهذه بعض التصويرات للمفاهيم القيمة العميقة التي جاءت بها هذه الآية المباركة على وجازتها، و كلما تعمّق الإنسان فيها انفتحت له أبواب من المعارف

ص: 302


1- سورة الحجر: الآية 21.
2- نهج البلاغة، قصار الكلم، رقم 147.
3- خذ على ذلك شاهدا ما يستتر به الرأسماليون في نهبهم لثروات بلدانهم من الأقنعة الحقة، كإنشاء النقابات لعمّالهم، و الضمان الاجتماعي و ضمان الشيخوخة و التقاعد، و غير ذلك الكثير. و ما تتستر به الحكومات الاستعمارية من عناوين حقة، كرعاية حقوق الإنسان، و نبذ التمييز العنصري، و مكافحة الإرهاب، و حرية الرأي و التعبير، و غير ذلك، و كله لتغطية الوجه القبيح لإرهابهم و امتصاصهم لثروات الشعوب المستضعفة، و تضعيف عقائدهم، و المسّ بمقدساتهم...

العليا، و الحقائق السامية، و أقرّ بأنّ هذا القرآن: «باطنه عميق»، و أنّ «أعلاه لمثمر، و أسفله لمغدق».

5 - آية تحتمل مليونا و مائتين و ستين ألف احتمال

هناك نمط آخر من عمق المعنى، يغاير النمط السابق منه، و هو أنّه يوجد في القرآن آيات يتردد المقصود منها بين احتمالات تدهش العقول و تحيّر الألباب، و هي بعد معتمدة على أريكة حسنها، متجملة في أجمل جمالها، متحلية بحليّ بلاغتها و فصاحتها. و نذكر من هذا النمط نموذجا واحدا، و نشير في آخر الكلام إلى نموذج آخر:

قال سبحانه: وَ اِتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا اَلشَّيٰاطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا، يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ ، هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولاٰ إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلاٰ تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ ، وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ * وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (1).

إنّ هذه الآية تحتمل من المعاني الكثيرة ما يدهش الإنسان و يثير إعجابه، و هي ناشئة من كيفية تبيين مفرداتها و جملها. و هذه الاحتمالات يراها المتتبع في كتب التفاسير، و هي:

1 - ما هو المراد من الضمير في قوله: «اتّبعوا»، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول اللّه، أو الجميع ؟.

ص: 303


1- سورة البقرة: الآيتان 102 و 103.

2 - ما هو المراد من قوله: تَتْلُوا ، فهل هو بمعنى تتبع، أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب ؟.

3 - ما هو المراد من الشياطين: فهل هم شياطين الجن أو شياطين الإنس أو كلاهما؟.

4 - ما ذا يراد من قوله: عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ ، فهل هو بمعنى: «في ملك سليمان»، أو: «في عهد ملك سليمان»، أو: «على ملك سليمان»، بحفظ ظاهر الاستعلاء الموجود في معنى على، أو بمعنى: «على عهد ملك سليمان»، كذلك ؟.

5 - ما هو المراد من قوله: وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا . أ هو بمعنى:

«كفروا بما أخرجوه من السحر إلى الناس»، أو بمعنى: «إنّهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر»، أو بمعنى: «إنّهم سحروا»، فعبر عن السحر بالكفر؟.

6 - ما ذا يراد من قوله: يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ ، فهل هو بمعنى:

«ألقوا السحر إليهم فتعلموه»، أو بمعنى: «إنّهم دلّوا الناس على استخراج السحر»، و كان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه و تعلّموه ؟.

7 - ما هو المراد من «ما» في قوله: مٰا تَتْلُوا . فهل هي موصولة عطفت على قوله: «السحر»، أي «يعلمونهم ما أنزل على الملكين». أو نافية، و الواو استئنافية، أي «و لم ينزل على الملكين سحر كما يدّعيه اليهود»؟.

8 - ما ذا يراد من قوله: أُنْزِلَ . فهل المراد «إنزال من السماء»، أو:

«من نجود الأرض و أعاليها»؟.

9 - ما ذا يراد من قوله: اَلْمَلَكَيْنِ . فهل كانا من ملائكة السماء، أو كانا إنسانين ملكين (بكسر اللام)، كما في بعض القراءات، أو ملكين (بفتح اللام) أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح ؟.

10 - ما هو المراد من قوله: بِبٰابِلَ ، فهل هي بابل العراق، أو بابل دماوند، أو من نصيبين إلى رأس العين ؟.

ص: 304

11 - ما ذا يراد من قوله: وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ . فهل «علم» بمعناه الظاهر، أو بمعنى «أعلم»؟.

12 - ما ذا يراد من قوله: فَلاٰ تَكْفُرْ . فهل المراد: «لا تكفر بالعمل و السحر»، أو المراد: «لا تكفر بتعلمه»، أو كلاهما؟.

13 - ما ذا يراد من قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا ، فهل المراد: «يتعلمون من هاروت و ماروت»، أو المراد: «يتعلمون من السحر و الكفر»، أو المراد النهي إلى فعله ؟.

14 - ما هو المراد من قوله: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ فهل أريد منه أنّهم يوجدون به حبّا و بغضا بينهما، أو أنّهم يغرون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك فيفرّق بينهما اختلاف الملة و النحلة. أو أنّهم يسعون بينهما بالنميمة و الوشاية فيؤول إلى الفرقة ؟(1).

فهذه احتمالات تحتملها الآية. و أنت إذا ضربت عدد الاحتمالات التي ذكرناها في بعضها ارتقى عدد الاحتمالات إلى كمية عجيبة تقرب من مليون و مائتين و ستين ألف احتمال(2).

و ليست هذه الآية وحيدة في بابها، و إن كانت قليلة النظير، بل لها نظائر منها قوله سبحانه:

أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ ، وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً ، أُولٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ ، فَلاٰ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يُؤْمِنُونَ (3) .

ص: 305


1- لاحظ الميزان، ج 1، ص 233-234.
2- و هو حاصل ضرب الاحتمالات المذكورة و صورتها الرياضية:؟؟؟؟ 2 ضربدر 3 ضربدر 4 مساوى 1259712 احتمالا. و المراد من 2 4، 2 مضروب في نفسها أربع مرات و 3 9، 3 مضروب في نفسها تسع مرات. نعم الكثير من الاحتمالات ربما لا تتناسق مع بعضها، فينخفض عدد احتمالات التفسير الصحيحة.
3- سورة هود: الآية 17.

فإنّك لو تفحصت الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون لمفرداتها و جملها، لوقفت على أنّ الآية تحتمل من المعاني ما يدهش العقول.

قال العلاّمة الطباطبائي: «و أمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها و ضمائرها عجيب، فلو ضرب بعضها في بعض يرقى عدد الاحتمالات إلى ألوف منها، بعضها صحيح و بعضها غير صحيح»(1).

و قد ذكر هو قدس سرّه أصول الاحتمالات في تفسيره، فمن أراده فليرجع إليه.

ص: 306


1- الميزان، ج 12، ص 142، طبعة طهران.

دعائم إعجاز القرآن

(3) النظم: رصانة البيان و استحكام التأليف.
تعريف النظم
اشارة

1 - النظم هو لجام الألفاظ، و زمام المعاني، و به تنتظم أجزاء الكلام و يلتئم بعضها ببعض، فتقوم له صورة في النفس، يتشكل بها البيان.

2 - النّظم هو وضع كلّ لفظ في موضعه اللائق به، بحيث لو أبدل مكانه غيره، ترتب عليه إمّا تبدل المعنى، أو ذهاب رونقه و سقوط البلاغة معه.

3 - النظم هو رعاية قوانين اللغة و قواعدها، على وجه لا يكون الكلام خارجا عمّا هو المرسوم بين أهل اللغة.

هذه تعاريف ثلاثة للنظم، غير أنّ المقصود منه هنا هو تماسك الكلمات و الجمل، و وضع كل كلمة مكانها. و أمّا رعاية القوانين، فهي و إن كانت دخيلة في تحقق النظم - فإنّ الكلام الخارج عن إطارها متخلخل - غير أنّ القرآن أرفع شأنا من أن يعرض على القواعد، بل هي تعرض عليه، كما تقدم. و لأجل ذلك نركّز في النظم على الأمرين الأولين، الانسجام أولا، و وضع كل كلمة مكانها، ثانيا.

و قد أعطى الشيخ عبد القاهر الجرجاني للنظم القسط الأوفر من إعجاز القرآن، بل جعله السبب الوحيد فيه، و قال - بعد ردّ كل ما يمكن أن يكون وجها

ص: 307

للإعجاز -: «فلم يبق إلاّ النظم، و ليس هو شيئا غير توخي معاني النحو، و أحكامه. و إنّا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، و جامعا يجمع شملها، و يؤلفها، و يجعل بعضها بسبب من بعض، غير توفّي معاني النحو و أحكامه فيها، طلبنا ما كلّ محال دونه»(1).

و كلامه هذا لا ينافي ما ذكرناه، لأنّه يرمي إلى أنّ الانسجام التام بين جمل الآية حصل في ظل تحقيق هذه القواعد و رعايتها فيها.

و قال الزملكاني: «إنّ وجه الإعجاز يرجع إلى التأليف الخاص به، بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة، و علت مركباته معنى، بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ و المعنى»(2).

ثم ليعلم أنّ الكلام يقوم على ثلاثة أشياء:

1 - لفظ حامل.

2 - معنى قائم باللفظ.

3 - و رباط لهما.

و هذه الأمور الثلاثة توجد في القرآن على الوجه الأحسن، فالألفاظ عذبة (الدعامة الأولى)، و المعاني سامية و راقية (الدعامة الثانية)، و الكلمات و الجمل مترابطة و متلاحمة أشدّ التلاحم و التشاكل، و هذه هي الدعامة الثالثة التي نبحث فيها.

و نحن نبحث في تبيين النظم القرآني في مقامين:

الأول: انسجام الجمل و الكلمات، و تعانقها.

الثاني: وضع كل كلمة موضعها.

ص: 308


1- دلائل الإعجاز، ص 300. و ثلاث رسائل، الرسالة الشافية لعبد القاهر الجرجاني، ص 184.
2- الاتّقان في علوم القرآن، ج 4، ص 8.
1 - تجاذب الكلمات و تعانق الجمل
اشارة

إنّ القرآن بلغ من ترابط أجزائه، و تماسك كلماته و جمله و آياته، مبلغا لا يدانيه فيه أي كلام آخر، مع طول نفسه، و تنوع مقاصده، و افتنانه و تلوينه في الموضوع الواحد. و آية ذلك أنّك إذا تأمّلت في القرآن الكريم، وجدت منه جسما كاملا، تربط الأعصاب و الأغشية بين أجزائه، و لمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة، و الحسن، على تشابك و تساند بين أعضائه.

فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخي و التناسق ما جعلها رائعة التجانس و التجاذب. و بين جمل السورة الواحدة من التشابك و الترابط ما جعلها وحدة متآخذة الأجزاء، متعانقة الآيات. و لأجل ذلك يقول سبحانه: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (1).

و الآيات القرآنية، و إن كانت كلّها مظاهر لهذا الانسجام، كما يلاحظه التالي لها، غير أنا نختار من بينها آية تشع نورا بين الآيات في حسن الانسجام و روعة النظم، كأنّها سبيكة واحد، مع طولها، و كثرة جملها، و غزارة معانيها.

يقول سبحانه: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ ، لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ ، لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ ، مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ ، يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّٰ بِمٰا شٰاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ (2).

و بما أنّ مسألة الترابط و التآخي في الآيات القرآنية واضحة لمن أمعن فيها، فلذلك نطوي الكلام عن الإكثار فيها، و نعطف نظر الباحث إلى نمط خاص من النظم:

ص: 309


1- سورة الزمر: الآية 28.
2- سورة البقرة: الآية 255.
نمط خاص من النظم في بعض الآيات

إنّ الأهرام التي أقامها فراعنة مصر، فكانت إحدى عجائب الدنيا، قد بنيت حجرا على حجر دون أن تتماسك أحجارها بأيّة مادة غريبة دخلت بينها، و إنّما كان تماسكها تماسكا ذاتيا، و تجاذبا أحكمته هندسة البناء، فاستدعى الحجر صاحبه إليه، و اعتنقه في تآلف و ترابط. و إنّه بقدر ما كان بين هذه الأحجار من روابط ذاتية، بقدر ما يكون لها من ثبات و روعة على الزمن، و لكنها - مع هذا - صنعة إنسان، مقدور عليه الفناء، و إذن فلا خلود لها، لأنّ الفاني لا يخلق إلاّ فانيا.

فكان من إعجاز القرآن أن أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلاّ على ما بينها من تناسق هندسي، و تجاذب روحي، و ترابط الكلمات، و تعانق الآيات، أحكمه الحكيم العليم، و قدّره اللطيف الخبير.

و إليك نماذج من هذا النوع من النظم:

1 - يقول سبحانه: الم * ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ ، لاٰ رَيْبَ فِيهِ ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (1).

هذه جمل أربع لم يتوسط فيها حروف العطف، حتى تعطف بعضها على بعض و تجعل منها كيانا واحدا. و مع ذلك نرى فيها من التلاحم و التناسق ما يجعلها تبدو جملة واحدة، بل كلمة واحدة.

2 - يقول سبحانه: اَلرَّحْمٰنُ * عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ * خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ * عَلَّمَهُ اَلْبَيٰانَ * اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ (2).

فهذه الآيات تراها كأنّها جملة واحدة في اتّساقها و تجاذبها، و تعانقها لفظا و معنى. فإنّها تساوقت ألفاظها، و تناغمت حروفها في هذا النغم العلوي، كما

ص: 310


1- سورة البقرة: الآيات 1-3.
2- سورة الرحمن: الآيات 1-5.

تآخت معانيها و تناسبت فكانت نبعا سماويا يتدفق في تسلسل و ترابط، لا ترى العين منه إلاّ كيانا واحدا من منبعه إلى مصبّه.

3 - يقول سبحانه: سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ * لِلْكٰافِرينَ لَيْسَ لَهُ دٰافِعٌ * مِنَ اَللّٰهِ ذِي اَلْمَعٰارِجِ (1).

فليس في هذه الآيات حرف عطف يجمع كلمة إلى كلمة، أو آية إلى آية.

و هي مع هذا يسودها التلاحم و التآخي و التساند، يجذب بعضها بعضا. فهناك سائل يسأل، و موضوع سؤاله عذاب واقع، و الذين وقع بهم العذاب هم الكافرون، و هو عذاب لا يدفع، لأنّه عذاب من اللّه ذي المعارج.

2 - وضع كلّ كلمة في موضعها

إنّ لكل نوع من المعنى، نوعا من اللفظ هو به أولى و أصلح، و ضروبا من العبارة، هي بتأديته أقوم، و مأخذا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب و بالقبول أليق، و كان السمع له أوعى، و النفس إليه أميل.

إنّ في لغة العرب ألفاظا متقاربة في المعاني، ربما يحسب غير المطّلع ترادفها، و تساويها في إفادة المقصود، كالعلم و المعرفة، و الحمد و الشكر، و البخل و الشّح، و القعود و الجلوس، حتى بين الحروف ك «بلى» و «نعم»، و غير ذلك من الأسماء و الأفعال. فإنّ لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، و إن كانا يشتركان في بعضها.

و قد اهتمّ القرآن، باستعمال كل كلمة في موضعها بحيث لو أزيلت الكلمة و أقيمت مكانها ما يظن كونه مرادفا لها، لفسد المعنى، و زال الرونق.

و لأجل إيقاف الباحث على هذا النوع من النظم، نأتي بنماذج:

ص: 311


1- سورة المعارج: الآيات 1-3.

1 - نرى أنّه سبحانه يأمر عبده بحمده، و يقول: وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ (1).

و في موضع آخر يأمر بالشكر و يقول: اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً (2).

و ما هذا إلاّ لأنّ الحمد هو الثناء على الجميل، و الشكر هو الثناء في مقابل المعروف، فالحمد ضد الذم، و الشكر ضد الكفران. و بما أنّه سبحانه يصف نفسه في الآية الأولى، بقوله: «الذي لم يتخذ ولدا»، فناسب الأمر بالحمد.

و بما أنّه يذكر معروفه و إحسانه على آل داود في الآية الثانية، ناسب الأمر بالشكر على المعروف.

2 - نرى أنّه سبحانه يستعمل كلمة السهو تارة بلفظة «في»، و يقول:

قُتِلَ اَلْخَرّٰاصُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سٰاهُونَ (3) .

و أخرى بلفظة «عن» و يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ (4).

و ما هذا إلاّ لأنّ المراد من الآية الأولى أنّ الغفلة تعلوهم و تغمرهم، و أنّهم في ضلالتهم متمادون، فناسب لفظة «في» الدالّة على الظرفية. و لكن المراد من الآية الثانية هو السهو عن نفس الصلاة و عدم الإتيان بها في مواقيتها فناسب لفظة «عن»، و لو كان المراد السهو في نفس الصلاة، كأن لا يدري المصلي أنّه في شفع أو وتر، لقال «في صلاتهم».

3 - يقول سبحانه عن لسان إخوة يوسف: فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ مٰا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنٰا وَ لَوْ كُنّٰا صٰادِقِينَ (5). مع أنّ الرائج في فعل السباع هو الافتراس لا

ص: 312


1- سورة الإسراء: الآية 111.
2- سورة سبأ: الآية 13.
3- سورة الذاريات: الآيتان 10 و 11.
4- سورة الماعون: الآيتان 4 و 5.
5- سورة يوسف: الآية 17.

الأكل، و ما هذا إلاّ لإفادة أنّ الذئب أتى على جميع أجزاء يوسف و أعضائه، فلم يترك منه شيئا، حتى لا يطالبهم و الدهم بالإتيان ببقية أجزاء بدنه.

4 - يقول سبحانه عن لسان عبدة الأصنام: وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ ، إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ يُرٰادُ (1). و لم يقل: «ان امضوا و انطلقوا»، و ذلك لإفادة أنّ الدفاع عن الآلهة أمر يطابق سجيتهم، كالمشي وراء الحوائج.

5 - يقول سبحانه: وَ لَهُ مٰا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ، وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (2)، مع أنّ للّه سبحانه ما سكن فيهما و ما تحرك. و ما ذلك إلاّ لأنّه ليس المراد من السكون ما يضاد الحركة، و إنّما المراد من السكون هو الاستقرار في نظام العالم، سواء كان متنقلا عن موضعه أو ساكنا فيه.

فالسكون في الآية، نظيره في قوله سبحانه: وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا (3). فليس المراد من السكون فيها الاستقرار بلا حراك، بل الطمأنينة الروحية.

و لأجل ذلك لو وضعت مكان «سكن» أية كلمة أخرى ترادفها، مثل «خمد»، «استقرّ»، «وقف»، تخرج الآية من روعتها، و ربما يفسد المعنى.

و بذلك ينفتح باب واسع للدّقة في نظم القرآن، فنأتي بنموذجين مع إحالة الإجابة عنهما إلى الباحث الكريم، ليقف على جوابهما بالإمعان.

6 - يقول سبحانه: وَ جَنَى اَلْجَنَّتَيْنِ دٰانٍ (4) و لم يقل «قريب»، «حاضر» أو «عتيد»، لما ذا؟.

7 - يقول سبحانه - حاكيا عن زكريا -: إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي (5)

ص: 313


1- سورة ص: الآية 6.
2- سورة الأنعام: الآية 13.
3- سورة الروم: الآية 21.
4- سورة الرحمن: الآية 54.
5- سورة مريم: الآية 4.

و لم يقل «فتر»، «ضعف» أو «تخاذل»، لما ذا؟ و بعد هذا، تقف على سبب ما اشتهر بين أئمة البلاغة من أنّ الكلمة في نظم القرآن، تأخذ أعدل مكان في بناء هذا البنيان، و لا يصلح للحلول مكانها أي كلمة أخرى، لاستلزامه إما فساد المعنى، أو عدم إفادة المقصود، و إن اشتهر في وضع اللغة قيام المترادفات مقام بعضها.

هل في القرآن سجع ؟

من الملاحظ، أنّ كثيرا من آيات القرآن الكريم، تختم بفواصل فيها حروف متشاكلة في المقاطع، فهل هو من السجع أو لا؟.

ربما يرى بعض الأساتذة عدم اشتمال القرآن على السجع، بحجة أنّ الفواصل غير الإسجاع، لأنّ شأن القرآن أرفع من أن يسجع فيه، فإنّ السجع مأخوذ من سجع الحمامة، و ليس فيه إلاّ الأصوات المتشاكلة(1)يلاحظ عليه: إنّ إنكار السجع في بعض السور القصار، خلاف الإنصاف، غير أنّ السجع على قسمين، و نربأ بالقرآن عن اشتماله على السجع الذي يكون المعنى فيه تابعا له، دون السجع الذي يكون تابعا للمعنى.

فالأول مردود، و هو السائد في الخطب الرائجة أيام الأمويين و العباسيين.

و أمّا الثاني فهو يوجب حسنا في الكلام، لأنّه على عفو الخاطر، يأتي به المتكلم مرتجلا بلا تكلّف، كما هو الملموس في خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

و قد نبّه ابن سنان الخفاجي على هذه النكتة حيث قال، ردّا على الرماني:

«إنّه إن أراد بالسجع، ما يكون تابعا للمعنى، - و كأنّه غير مقصود - فذلك

ص: 314


1- لاحظ النكت في إعجاز القرآن، ص 89-90.

بلاغة، و فواصل الآيات مثله، و إن كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له، فذلك عيب، و أظن أنّ الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، و لم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا، هو رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عند الكهنة و غيرهم»(1).

ص: 315


1- سرّ الفصاحة، ص 247.

ص: 316

دعائم إعجاز القرآن

(4) الأسلوب: بداعة المنهج و غرابة السبك
اشارة

الأساليب السائدة في كلام العرب عصر نزول القرآن، كانت تتردد بين أسلوب المحاورة، و أسلوب الخطابة، و أسلوب الشعر، و أسلوب السجع المتكلف الموجود في كلام العرّافين و الكهّان.

فالأسلوب المحاوري، هو الأسلوب المتداول في المكالمات اليومية في رفع الحوائج، و تيسير الأمور المعيشية. و هذا الأسلوب دارج في كل لغة، و لم يكن في العرب بدعا منهم، فلم يكن كلامهم عند البيع و الشراء، و المعاشرة مثل كلامهم في مقام الخطابة، و إظهار المناقب و الفضائل.

و الأسلوب الخطابي، هو الأسلوب الرائج بين خطباء العرب و بلغائهم.

و يكفينا مئونة بيانه، التأمل في النموذجين التاليين لأشهر خطباء الجاهلية.

1 - وقف قس بن ساعدة في سوق عكاظ، و خطب: «أيّها الناس اسمعوا و عوا، من عاش مات، و من مات فات، و كل ما هو آت آت. ليل داج، و نهار ساج، و سماء ذات أبراج، و نجوم تزهر، و بحار تزخر، و جبال مرساة، و أرض مدحاة، و أنهار مجراة، إنّ في السماء لخبرا، و إنّ في الأرض لعبرا، ما بال الناس يذهبون و لا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟(1).

ص: 317


1- صبح الأعشى، ج 1، ص 212. و إعجاز القرآن، ص 124. البيان و التبيين، ج 1،

2 - و خطب المأمون الحارثي في قومه، فقال: «أرعوني أسماعكم، و أصغوا إليّ قلوبكم، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد؛ طمح بالأهواء الأشر، و ران على القلوب الكدر، و طخطخ(1) الجهل النظر، إنّ فيما ترى لمعتبرا لمن اعتبر، ارض موضوعه و سماء مرفوعة، و شمس تطلع و تغرب، و نجوم تسرى فتعزب، و قمر تطلعه النور، و تمحقه أدبار الشهور(2).

و يرى هذا الأسلوب في خطب النبي و عليّ عليهما السلام في مواقف مختلفة.

و الأسلوب الشعري، هو الأسلوب المعروف المبني على البحور المعروفة في العروض.

و أمّا أسلوب السجع المتكلف، فقد كان يتداوله الكهنة و العرّافون، كما تراه في قول ربيع الذئبي الشهير بسطيح لابن اخته عبد المسيح حول علامات ظهور النبي العربي: «يسيح عبد المسيح، على جمل مشيح، أقبل إلى سطيح، و قد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، و خمود النيران، و رؤيا المؤبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت الواد، و انتشرت في البلاد»(3).

و لكن القرآن جاء بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب، و خالف بأسلوبه العجيب و سبكه الغريب، جميع الأساليب الدارجة بينهم، و مناهج نظمهم و نثرهم.

و لأجل ذلك لم تتعامل معه العرب معاملة شعر أو نثر، بل أنصف المنصفون منهم بأنّه وحيد نسجه في أسلوبه و سبكه.

ص: 318


1- أي غلب.
2- الأمالي، لأبي علي القالي، ج 1، ص 276.
3- تاريخ الطبري، ج 2، ص 132. و العقد الفريد، ج 1، ص 108. و السيرة الحلبية، ج 1، ص 70. و المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء، ج 1، ص 110.

كان العرب يعرفون الأساليب الأربعة السالفة، و لكنهم لم يعرفوا الأسلوب القرآني الذي يأخذ فيه الكلام صورة خاصة، تأتي فيها الآيات، و تختم كل واحدة منها بفاصلة ذات نظم و رنين، فيجد الصدر لذلك راحة عند الوقوف على الفاصلة.

إنّ الأسلوب القرآني الذي تفرّد به، كان أبين وجه من وجوه الإعجاز، في نظر الباحثين عن إعجازه، و إن جعلناه أحد الأسس الأربعة التي يبنى عليها صرح الإعجاز القرآني.

و لأجل أهمية الأسلوب في رفع القرآن إلى درجة الإعجاز ركّز القاضي الباقلاني عليه و حصر وجه إعجازه فيه، و قال: «وجه إعجازه ما فيه من النظم و التأليف و الترصيف(1) و أنّه خارج عن وجوه جميع النظم المعتاد في كلام العرب و مباين لأساليب خطاباتهم، و لهذا لم يمكنهم معارضته».

و أضاف: «و لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر، لأنّه ليس ممّا يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم و التدريب و التصنع به، كقول الشعر، و رصف الخطب، و صناعة الرسالة، و الحذق في البلاغة، و له طريق تسلك. فأمّا شأو نظم القرآن، فليس له مثال يحتذى، و لا إمام يقتدى به، و لا يصحّ وقوع مثله اتّفاقا»(2).

و ممّن حصر وجه إعجاز القرآن بأسلوبه الراقي هو الأصفهاني - على ما حكاه السيوطي - فإنّه بعد ما أشار إلى أقسام الكلام من المحاورة، و النثر المسجع، و الشعر، قال: «و لكل من ذلك نظم مخصوص، و القرآن جامع لمحاسن الجميع، على نظم غير نظم شيء منها، يدلّ على ذلك أنّه لا يصح أن يقال له:

«رسالة»، أو «خطابة»، أو «شعر»، أو «سجع». كما يصح أن يقال هو كلام. و البليغ إذا قرع القرآن سمعه، فصل بينه و بين ما عداه من النظم، و لهذا

ص: 319


1- مراده من النظم و التأليف و الترصيف هو الأسلوب لا النظم الذي اصطلحنا عليه في الدعامة الثالثة، كما يظهر من القرائن.
2- الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص 8.

قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ * لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ (1)، تنبيها على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة و النقصان كحال الكتب الأخرى»(2).

و ممّا يدلّ على أنّ القرآن ليس كلام النبي الأعظم هو وجود البون الشاسع بين أسلوب القرآن و أسلوب الحديث النبوي. فمن قارن آية من القرآن الكريم مع الأحاديث القطعية الصادرة منه صلى اللّه عليه و آله، أحس مدى التفاوت البعيد بين الأسلوبين، و آمن بأنّ أسلوب التنزيل يغاير أسلوب الحديث. و هذا يدلّ على أنّ القرآن ينزل من عالم آخر على ضمير النبي، بينما الحديث يتكلم به النبي من إنشاء نفسه.

و على الجملة، جاء القرآن في ثوب غير الأثواب المعروفة للكلام عند العرب، و في صورة غير الصور المألوفة، جاء نسيج وحده، و صورة ذاته، لا يشبه غيره، و لا يشبهه غيره. فلا هو شعر، و لا هو نثر، و لا هو من قبيل سجع الحكماء أو العرّافين و الكهّان.

و الذي يمكن أن يقال إنّه قرآن فصّلت آياته، و كل آية لها مقطع تنتهي به، و هو الفاصلة، و هذه هي الظاهرة المحسوسة فيه، يقف عليها من يتصل بالقرآن الكريم، قارئا كان أو مستمعا، مؤمنا كان أو غير مؤمن.

و أنت إذا أردت أن تلمس الأسلوب القرآني عن كثب، و تقف عليه وقوف لامس للحقيقة، و مستكشف لها عن قرب. فلاحظ موضوعا واحدا ورد في القرآن المجيد، و في كلام النبي الأعظم أو الوصي. فكلاهما يهدفان إلى أمر واحد، و لكن لكل أسلوبه الخاص لا يختلط أحدهما بالآخر.

يقول الرسول صلى اللّه عليه و آله في وصف الغفلة عن الآخرة: «و كأنّ

ص: 320


1- سورة فصلت: الآيتان 41 و 42.
2- الإتقان، ج 4، ص 11. و هو يشير إلى أنّ التغيير في القرآن يوجب التغيير في تأليفه أوّلا، و أسلوبه ثانيا.

الموت فيها على غيرنا كتب، و كأنّ الحق فيها على غيرنا وجب، و كأنّ الذي نشيّع من الأموات سفر، عمّا قليل إلينا يرجعون».

و أنت إذا قارنته بما ورد في الذكر الحكيم في هذا المضمار ترى التفاوت بينهما بينا.

يقول سبحانه: وَ مٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ ، وَ إِنَّ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوٰانُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (1).

فهما قد اتّفقا على وصف معنى واحد، و هو الموت و العود إلى الآخرة، و تصرّم الدنيا و انقضاء أحوالها، و طيّها، و الورود إلى الآخرة، و لكن القرآن متميز في تحصيل هذا المعنى و تأديته بأسلوب خاص، تمييزا لا يدرك بقياس، و لا يعتوره التباس.

و هكذا، لاحظ قول علي عليه السلام: «أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، و شغف الأستار، نطفة دهاقا، و علقة محاقا، و جنينا، و وليدا، و يافعا»(2).

ثم قارنه إلى قوله تعالى: فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ (3).

فإنك ترى الأسلوبين يتغايران جوهرا، و لا يجتمعان في شيء.

نوع آخر من المقارنة

و هناك نوع آخر من المقارنة يتجلى فيها التفاوت بوضوح بين الأسلوبين، و هو ملاحظة خطب الرسول الأعظم و أمير المؤمنين عليهما السلام، عند ما يخطبان

ص: 321


1- سورة العنكبوت. الآية 64.
2- نهج البلاغة، الخطبة 83.
3- سورة الحج: الآية 5.

و يعظان الناس بأفصح العبارات و أبلغها، ثم يستشهدان في ثنايا كلامهما بآي من الذكر الحكيم، فعندها يلمس البون الشاسع بين الأسلوبين، من دون مداخلة شك و ريب.

خطب النبي الأكرم يوم فتح مكة في المسجد الحرام، فقال: يا معشر قريش إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، و تعظمها بالآباء. الناس من آدم و آدم خلق من تراب؛ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ »(1).

و قال أمير المؤمنين عليه السلام، في خطبته المعروفة بالشقشقية: «فما راعني إلاّ و الناس كعرف الضبع إليّ ، ينثالون عليّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، و شقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة، و مرقت أخرى، و قسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول: تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ».

و قال عليه السلام في كلام له لأصحابه في بعض أيام صفين: «و طيبوا عن أنفسكم نفسا، و امشوا إلى الموت مشيا سجحا، و عليكم بهذا السواد الأعظم، و الرّواق المطنّب، فاضربوا ثبجه، فإنّ الشيطان كامن في كسره، قد قدّم للوثبة يدا، و أخر للنكوص رجلا، فصمدا صمدا، حتى ينجلي لكم عمود الحق؛ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ ، وَ اَللّٰهُ مَعَكُمْ ، وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ (2).

و قال عليه السلام في خطبة له عند ذكر المشبهة: «لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، و لم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك، و كأنّه لم يسمع تبرّؤ التابعين من المتبوعين، إذ يقولون: تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (3).

ص: 322


1- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 3، ص 273. تاريخ الطبري، ج 3، ص 120.
2- نهج البلاغة، بتعليق محمد عبده، ص 115.
3- نهج البلاغة، بتعليق محمد عبده، ص 164.

و قال عليه السلام في خطبة له عند ذكر أهل القبور: «و كأن صرتم إلى ما صاروا إليه، و ارتهنكم ذلك المضجع، و ضمّكم ذلك المستودع، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور، و بعثرت القبور: هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ ، وَ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ ، وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ »(1).

و أخيرا، يجب التنبيه على أنّ الأسلوب وحده لا يكفي لجعل الكلام فوق كلام البشر، ما لم ينضم إليه الدعائم الثلاث الأخر، خصوصا سمو المعاني و علو المضامين، فإن له القسط الأكبر في جعل الأسلوب ممتازا، تمتدّ إليه الأعناق، و إلاّ فمحاكاة الأسلوب القرآني ملموس في كلام المدّعين للمعارضة مثل مسيلمة و غيره، كما سيوافيك، و لكنه يفقد المضمون الصحيح، و المعنى المتزن، و قد عرفت أن إعجاز القرآن بمعنى كونه خلابا للعقول، و مبهرا للنفوس رهن أمور أربعة توجب حصول تلك الحالات للإنسان فلا يجد في نفسه أمام القرآن إلاّ السكوت و السكون.

و هناك من خفي عليه دور الأسلوب في رفع شأن القرآن، و زعم أنّ إعجاز القرآن ينحصر في الدعائم الثلاثة الأول قال: «إنّ الأسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله، لأنّ الإتيان بأسلوب يماثله، سهل و يسير على كل واحد، بشهادة أن ما يحكى عن مسيلمة الكذاب من قوله: «إنّا أعطيناك الجواهر، فصلّ لربّك و جاهر»، يشبه أسلوب القرآن»(2).

و لكنه غفل عن أنّ الأسلوب أحد الدعائم لا الدعامة المنحصرة، حتى أنّ ما ادعاه من أن إعجاز القرآن لأجل الفصاحة، و البلاغة، و جودة النظم و حسن السياق، ليست دعائم كافية لإثبات الإعجاز، إذ في وسع البشر صياغة كلام في غاية الفصاحة و البلاغة مع حسن السياق و جودته، و مع ذلك لا يكون معجزا لإمكان منافحته و مقابلته و الإتيان بمثله، فيلزم على ذلك عدم كون القرآن من تلك الجهة معجزا. و الذي يقلع الإشكال أنّ الإعجاز رهن هذه القيود الأربعة، و أنّ

ص: 323


1- المصدر السابق، ص 164.
2- الطراز، ص 396.

الإتيان بكلام فصيح غايتها، و بليغ نهايتها، منضما إلى روعة النظم، في هذا الأسلوب الخاص المعهود من القرآن، أمر معجز. و لذلك لم تجد طيلة هذه القرون حتى يومنا هذا كلام يناضل القرآن في آياته و سوره.

و نضيف، أنّه ليس هنا مقياس ملموس كالأوزان الشعرية لتبيين حقيقة أسلوب القرآن، و إنّما هو أمر وجداني يدركه كل من له إلمام بالعربية.

و لأجل تقريب المطلب نذكر آية، ثم نذكر مضمونها بعبارة أخرى، فترى أنّ العبارة الثانية بشرية، و الأولى قرآنية.

قال سبحانه: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوٰاكِدَ عَلىٰ ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمٰا كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (1).

هذا هو الكلام الإلهي.

فلو أراد إنسان أن يصب هذا المعنى بصورة أخرى، يتغير الأسلوب، مهما بلغ في الفصاحة و البلاغة من العظمة، فيقال مثلا:

«و من أعظم علاماته الباهرة، جري السفن على الماء، كالأبنية العظيمة، إن يرد هبوب الريح تجري بها، و إن يرد سكون الريح فتركد على ظهره، أو يرد إهلاكها بالإغراق بالماء فيهلكهم بسيئات أعمالهم. و في ذلك آيات للمؤمنين».

فانظر الفرق بين الأسلوبين، و الاختلاف في السبكين، مضافا إلى افتقاد الثانية بعض النكات الموجودة في الآية.

إلى هنا تمّ الكلام حول الدعائم الأربع التي بني عليها صرح الإعجاز، و شيدت أركانه. غير أنّه بقي هنا أمور لا غنى عن الإشارة إليها و التنبيه عليها، لأنّها تقع في طريق تكميل مباحث إعجاز القرآن البياني، و فيما يلي بيانها.

ص: 324


1- سورة الشورى: الآيات 32-34.
التنبيه الأول آيتان على منضدة التشريح
اشارة

بعد أن وقفت على الدعائم الأربع التي يتحقق معها إعجاز القرآن، فهلمّ إلى تحليل آيتين من آياته، نستجلي فيهما حقيقة الإعجاز، و نقف على المزايا الفريدة الموجودة فيهما - مضافا إلى اشتمالهما على الدعائم الأربع - فسترى أنّ كل واحدة منهما كافية في إثبات أنّها أعلى من أن تكون مصنوعة للبشر، و إن بلغوا في الفصاحة و البلاغة كلّ مبلغ.

1 - آية يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي

قال - عزّ من قائل -: وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ ، وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي، وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ ، وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ ، وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (1).

هذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن الكريم، و هي التي أنزلت، فأنزلت قريش معلقاتها السبع عن جدران الكعبة، و هي التي شغلت بال باقعة الأدباء، عبد اللّه بن المقفع(2)، و هي التي شغلت بال أساتذة البديع، لأنّها

ص: 325


1- سورة هود: الآية 44.
2- روى هشام بن الحكم، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء و أبو شاكر الديصاني، و عبد الملك البصري، و ابن المقفع، عند بيت اللّه الحرام يستهزءون بالحاج، و يطعنون بالقرآن فقال ابن أبي العوجاء: «تعالوا ننقض كلّ واحد منا ربع القرآن و ميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه و قد نقضنا القرآن كلّه، فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمد، و في إبطال نبوّته إبطال الإسلام، و إثبات ما نحن فيه». فاتّفقوا على ذلك و افترقوا. فلما كان من قابل، اجتمعوا عند بيت اللّه الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: «أمّا أنا فمتفكر منذ افترقنا في هذه الآية: فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (سورة يوسف: الآية 80)، فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها و جميع معانيها شيئا، فشغلتني هذه الآية عن التفكر في سواها». و قال عبد الملك: «أنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (سورة الحج: الآية 73)، و لم أقدر على الإتيان بمثلها». فقال أبو شاكر: «أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (سورة الأنبياء: الآية 22)، و لم أقدر على الإتيان بمثلها. فقال ابن المقفع: «يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي، وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ ، وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (سورة هود: الآية 44)، لم أبلغ غاية المعرفة بها، و لم أقدر على الإتيان بمثلها». قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق (ع) فقال: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (سورة الإسراء: الآية 88). فنظر القوم بعضهم إلى بعض، و قالوا لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصية محمد إلاّ إلى جعفر بن محمد، و اللّه ما رأيناه قطّ إلاّ هبناه، و اقشعرت جلودنا لهيبته. ثم تفرّقوا مقرّين بالعجز. (الاحتجاج للطبرسي، ج 2، ص 142-143، ط النجف الأشرف).

اشتملت على عشرات الأنواع من المحسنات البديعية، بينما هي لا تتجاوز سبعة عشر لفظا. و إليك الإشارة إلى بعضها:

1 - المناسبة التامة بين «ابلعي و أقلعي».

2 - الاستعارة فيهما.

3 - الطّباق بين الأرض و السماء.

4 - المجاز في قوله: «يا سماء». فإنّ الحقيقة يا مطر السّماء.

ص: 326

5 - الإشارة في: وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ ، فإنّه عبّر به عن معان كثيرة، لأنّ الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء و تبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء.

6 - الإرداف في قوله: وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ فإنّه عبّر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظه الحقيقي.

7 - التمثيل في قوله: وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ . فإنّه عبّر عن هلاك الهالكين و نجاة الناجين بلفظ بعيد عن المعنى الموضوع.

8 - التعليل، فإنّ : غِيضَ اَلْمٰاءُ ، علّة الاستواء.

9 - صحّة التقسيم، فإنّه استوعب أقسام الماء حالة نقصه، إذ ليس إلاّ احتباس ماء السماء، و الماء النابع من الأرض، و غيض الماء الذي على ظهرها.

10 - الاحتراس في قوله: وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ ، إذ الدعاء يشعر بأنّهم مستحقوا الهلاك احتراسا من ضعيف يتوهم أنّ الهلاك لعمومه، ربما يشمل غير مستحقه.

11 - المساواة، لأنّ لفظ الآية لا يزيد على معناها.

12 - حسن النسق، فإنّه تعالى قصّ القصّة و عطف بعضها على بعض بحسن الترتيب.

13 - ائتلاف اللفظ مع المعنى، لأنّ كل لفظة لا يصلح معها غيرها.

14 - الإيجاز، فإنّه تعالى أمر فيها و نهى، و أخبر و نادى، و نعت و سمى و أهلك و أبقى، و أسعد و أشقى، و قصّ من الأنباء ما لو شرح لاستغرق كتابا مفردا.

15 - التفهيم، لأنّ أوّل الآية يدلّ على آخرها.

16 - التهذيب، لأنّ مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، إذ كل لفظة عليها رونق الفصاحة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة و تعقيد التركيب.

ص: 327

17 - حسن البيان، لأنّ السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام و لا يشكل عليه شيء منه.

18 - الاعتراض، و هو قوله: وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ .

19 - الكناية، فإنّه لم يصرّح بمن أغاض الماء، و لا بمن قضي الأمر، و لا بمن سوى السفينة و أقرّها في مكانها، و لا بمن قال: وَ قِيلَ بُعْداً . كما لم يصرّح بقائل: يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي ، و يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي في صدر الآية، سالكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، لأنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ من ذي قدرة قهّارة لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره سبحانه قائل: يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي ، وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي ، و لا أن يكون غائض ما غاض، و لا قاضي مثل ذلك أمر الهائل، غيره.

20 - التعرّض، فإنّه تعالى عرّض بكل من سلك مسلكهم في تكذيب الرّسل ظلما، و أنّ الطوفان و تلك الأمور الهائلة ما كانت إلاّ لأجل ظلمهم.

21 - التمكين، لأنّ الفاصلة مستقرة في محلّها، مطمئنة في مكانها غير قلقة و لا مستدعاة.

22 - الانسجام، لأنّ الآية بجملتها منسجمة، كالماء الجاري في السلاسة.

23 - اشتمالها على بعض البحور الشعرية، إذ قوله: وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ ، على وزن «مستفعلن مستفعلن فاعل». و يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي على وزن «مفاعلن مفاعل».

24 - تنزيل من لا يعقل منزلة من يعقل في النداء و المخاطبة.

25 - الإبهام في قوله: وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ و هو اسم الجبل الصغير، و الزق المنفوخ الذي تستقر عليه السفن المائية.

26 - المحافظة على فواصل الآيات فإنّ الرويّ في قوله: بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ مطابق للآيات المتقدمة و المتأخرة.

ص: 328

27 - التكرار، كما في «الماء»، معرّفا باللام تارة و بالإضافة أخرى.

28 - تخيّل مالكية الأرض، بحيث لها سلطة في إرجاع الماء.

إلى غير ذلك من المحاسن البديعية التي يدركها الممعن في الآية.

فهذه بعض الميزات الواردة في الآية الكريمة، و ليس كل واحد منها و لا جميعها أمرا معجزا، و لكن المجموع أعطى للآية نظما خاصا، و أسلوبا بديعا، يعرف الذوق العربي أنّه يغاير سائر الأساليب و النظم الكلامية. و هذا الجمال الطبيعي، يخلق في النفس جذبة روحية خاصة، كأنّها كهرباء القلوب و مغناطيس الأرواح، و لأجل ذلك يقول الكرماني في كتاب «العجائب»:

«أجمع المعاندون على أنّ طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية، بعد أن فتّشوا جميع كلام العرب و العجم، و لم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها، و حسن نظمها، في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال»(1).

و يقول العلامة الشهرستاني بأنّه أفرد بلاغة هذه الآية بالتأليف(2).

2 - آية وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ

قال تبارك و تعالى: وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ ، وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (3).

و هذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن، و هي على وجازتها، قد جمعت فعلين من الماضي (أوحينا، و خفت)، و فعلين من الأمر (أرضعيه، و ألقيه)، و فعلين من النهي (لا تخافي و لا تحزني)، و وزنين من اسم الفاعل (رادّوه،

ص: 329


1- العجائب، نقلا عن المعجزة الخالدة للشهرستاني، ص 60.
2- المصدر السابق.
3- سورة القصص: الآية 7.

جاعلوه)، و وزنين من اسم المفعول (موسى، مرسل)، و اسمين خاصين (موسى، و أمّه).

ثم قد تكررت فيها «فاء الجواب» مرتين (فإذا، فألقيه)، و حرف «إلى» مرتين (إلى أم موسى، إليك). ثم قد كرر الخوف مرتين، و عبّر عن أمّ موسى باسم مزدوج بدل أن يسميها باسمها.

و فيها نبأ غيبي و هو الإخبار بردّ موسى إلى أمّه، و فيها وعدان: الردّ، و النبوّة.

فاجتماع هذه الأمور في الآية يوجد في الإنسان عند سماعها، لذّة و انجذابا و استغراقا، و تطرأ عليه الحالة التي طرأت على عتبة بن ربيعة عند ما سمع من رسول اللّه آيات من سورة فصلت، فألقى يديه خلف ظهره، معتمدا عليهما مذهولا مبهوتا، كما تقدّم.

ص: 330

التنبيه الثاني مزايا القرآن البيانية
اشارة

قد تعرفت على الدعائم الأربع المحقّقة لإعجاز القرآن، و كفى بذلك عظمة لهذا الكتاب. غير أنّ لهذه المعجزة الخالدة مزايا أخرى يناسب ذكرها هنا، و ترجع جميعها إلى المزية البيانية التي نحن بصدد بيانها. و حيث إنّه لا يسع المقام الإتيان بجميع ما ذكره المحققون، فنأتي ببعضه، الذي يتجلى معه هذا الكتاب السماوي بمزاياه البيانية المنفردة.

1 - الصراحة في بيان الحقائق

إنّ الصراحة إحدى الميزات التي يتصف بها القرآن الكريم، و تظهر بوضوح في آياته. فمن ذلك صراحته في التنديد بالوثنية، و الطعن في الأصنام المعبودة يوم ذاك، و دعوته إلى تحطيمها.

يقول سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (1).

إنّ الصراحة وليدة الشجاعة المختمرة بالإيمان، في حين أنّ السكوت عن

ص: 331


1- سورة الحج: الآية 72.

الحق، أو التلوّن و التحفظ في الحديث، دليل على جبن القائل و عدم اعتقاده بالقول الذي يلقيه على الناس، و تخوّفه من المستمعين.

غير أنّ هذا الكتاب المعجز، منزّه عن هذه الوصمات. فهذا هتافه في أذن الكافرين، يقول: قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلْكٰافِرُونَ * لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (1).

هذه هي سيرة الأنبياء العظام، فهم يمتلكون الصراحة في البيان، و يمتازون بها عن غيرهم، فيعلنون الحقائق، بلا تتعتع و لا تحفّظ. هذا هو إبراهيم الخليل - بطل التوحيد - يندد بعمل عبدة الأصنام بقوله: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (2).

قل لي بربّك، هل تجد كلاما أصرح و أمتن و أبلغ في التنديد بمن يتخذ وليا غير اللّه من قوله سبحانه: مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْلِيٰاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (3).

و ليست الصراحة ميزة القرآن في مجال المعارف و العقائد فحسب، بل هي سارية أيضا في مجال العلاقات السياسية فها هو يقول: بَرٰاءَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (4).

هذه إلمامة عابرة في تبيين هذه الميزة، تعرب عن إيمان القائل و إذعانه بما يقول و يطرح في مختلف المجالات و الأصعدة.

ص: 332


1- سورة الكافرون.
2- سورة الأنبياء: الآيتان 66 و 67.
3- سورة العنكبوت: الآية 41.
4- سورة التوبة: لاحظ الآيات 1-16.
2 - علو الجهة المنزل منها القرآن

و من مزايا بيان القرآن، تكلّمه من موقع الاستعلاء و تحدّثه بلسان من يملك الأمر كلّه، و من بيده ملكوت السموات و الأرض، و في قبضته كلّ شيء. فهو في مخاطباته و مجادلاته و أوامره و نواهيه، و في وعده و وعيده، و في أمثاله و قصصه، و في مواعظه و نذره، يتّسم بالعلو الشامخ، و يتصدر المقام الرفيع الذي لا ينال، و يتحدث إلى الناس حديث من يملك كل شيء، و من يقوم على كل شيء، و من يدبّر و يقدّر، دون أن يقف أحد أمام سلطانه، فاستمع لقوله سبحانه:

تَبٰارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفُورُ * اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ طِبٰاقاً، مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ ، فَارْجِعِ اَلْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (1) .

و قوله سبحانه: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ، أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (2).

و قوله سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ، أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللّٰهُ فَقُلْ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ * فَذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ (3).

3 - العفة و الاحتشام

امتاز القرآن المجيد في تعابيره بالنزاهة و العفة، مع أنّه ظهر في بيئة لا تعرف للعفّة مفهوما، فلا تجد فيه تعبيرا سيئا، و منهجا ركيكا، يخالف الأدب حتى في

ص: 333


1- سورة الملك: الآيات 1-4.
2- سورة الملك: الآيتان 13 و 14.
3- سورة يونس: الآيتان 31 و 32.

سرده لقصة غرامية، هي قصة يوسف و زليخاء، قصّة عشق امرأة حسنة فاتنة، لفتى طاهر جميل، يخجل وجهه القمر.

إنّ الكاتب في حقل القصص عند ما يسرد أمثال هذه القصة الغرامية، لا يملك زمام قلمه، و يخرج عن النزاهة و العفة، و لكن القرآن قد شرح تلك القصة و صوّرها و وضع خطوطها الغرامية بدقة فائقة في البيان، مع وافر الاحتشام و الاتزان.

فعند ما يعرض اجتماع هذه المرأة الجميلة، مع ذاك الشاب الطاهر، و اختلاءهما في بيتها، و تعلّقها به، يشرح تلك الواقعة من غير أن يثير الغريزة الجنسية الحيوانية، لئلا يناقض هدفه الذي لأجله جاء بها و يقول:

وَ رٰاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا عَنْ نَفْسِهِ ، وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوٰابَ ، وَ قٰالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ ، إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ (1) .

ففي هذه الآية تتجلى عفة القرآن و احتشامه من جهات:

أولا: استعمل كلمة «راود»، و هي تستعمل في الإصرار على الطلب مع اللّين و العطف، فكأنّ زليخا طلبت من يوسف ما طلبت بإصرار و حنان.

و ثانيا: لم يصرّح باسم المرأة، حفظا لكرامتها، و إنّما عبّر عنها بقوله:

«اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا» ، مشيرا - إضافة إلى ذلك - إلى قوة الضغط و شدّة سيطرتها على يوسف، فزمام أمره بيدها، و لا مجال للهروب و التخلّص منها، لأنّه في بيتها.

و ثالثا: قالت الآية: وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوٰابَ ، إعرابا عن أنّ يوسف لم يجد بابا للفرار، و كانت مقدمات الاستسلام مهيئة.

و رابعا: و قالت الآية: هَيْتَ لَكَ ، و هذه كناية عن دعوتها إيّاه إلى التلذذ الجنسي، لكن بكناية فائقة، فإنّ هيت لك، اسم فعل بمعنى هلمّ .

ص: 334


1- سورة يوسف: الآية 23.

خامسا: أجاب يوسف طلبها بقوله: مَعٰاذَ اَللّٰهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ ، أي أعوذ باللّه معاذا. فيعرب عن أنّ يوسف لم يعرف خيانة، و لم يدر بخلده أن يخون صاحبه (العزيز) و منعمه و مربّيه، في امرأته. و الضمير في «إنّه»، يرجع إلى «العزيز». و لأجل ذلك بعد ما اتّضحت الحقيقة، و بانت خيانة الامرأة، أرسل يوسف من أعماق زنزانته إلى الملك، و وزيره «العزيز»، بقوله: ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخٰائِنِينَ (1).

و في القصة مسرحية غرامية أخرى هي دعوة امرأة العزيز، نسوة أشراف المدينة، إلى مأدبة ليقفن على بهاء جمال هذا الفتى، و أنّ التعلق به ليس أمرا اختياريا، بل كل من رآه يتعلق فؤاده به في أول لقاء. و يحكيه القرآن بقوله:

وَ قٰالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرٰاوِدُ فَتٰاهٰا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهٰا حُبًّا، إِنّٰا لَنَرٰاهٰا فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * فَلَمّٰا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَ آتَتْ كُلَّ وٰاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً، وَ قٰالَتِ اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّٰا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ مَلَكٌ كَرِيمٌ (2) .

أنظر إلى العفة و الاحتشام في التعبير عن جمال يوسف حيث قال: أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ مَلَكٌ كَرِيمٌ .

كل ذلك يعرب عن أنّ القصة سردت على أساس الدعوة إلى العفة و العبرة، و الانصراف عن الانهماك في الشهوات. فهل يستطيع إنسان أمّي، غير متعلم، ترعرع بين شعب متوحش، أن يعرض تلك المسرحية الغرامية، و لا يخرج عن حدود العفة و نطاق النزاهة ؟ كلا، لا(3).

ص: 335


1- سورة يوسف: الآية 52. لاحظ الميزان، ج 11، ص 215.
2- سورة يوسف: الآيتان 30 و 31.
3- أضف إلى ذلك أنّ القرآن يستمد في بيان ما يستقبح التصريح به، بالكلمات الكنائية، ككلمات «الفرج» (لاحظ المؤمنون: الآية 5) و «الغائط» (المائدة: الآية 16) فإنّ الفرج ليس علما للموضع الخاص من المرأة، و إنّما يراد منه الخلل بين الشيئين. كما أنّ الغائط، بمعنى الموضع المنخفض، و قس على ذلك غيرها من الكلمات التي جاءت في بيان المسائل الراجعة إلى الزوج

هذه بعض الميزات الموجودة في بيان القرآن الكريم، و الممعن في الذكر الحكيم يجد له ميزات كثيرة سامية يستنتج من مجموعها أنّ هذا الكتاب ليس نتاج و إبداع إنسان أمّي ولد و نشأ في أمّة متقهقرة، بل هو كتاب إلهي نزل على ضميره و قلبه؛ «ليكون من المنذرين»(1).

ص: 336


1- اقتباس من قوله سبحانه: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (سورة الشعراء: الآيتان 193 و 194).
التنبيه الثالث مذهب الصّرفة
اشارة

التنبيه الثالث مذهب الصّرفة(1)

اهتمّ المسلمون من الصدر الأول بالبحث عن وجه إعجاز القرآن، و كان الرأي السائد بينهم في إعجازه هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة، و الدرجة القصوى من البلاغة، مع ما له من النّظم الفريد، و الأسلوب البديع. و هذه الأمور الأربعة أضفت على القرآن وصف الإعجاز حتى صار معجزة القرون و الأعصار.

نعم نجم في القرن الثالث مذهب اشتهر بمذهب الصّرفة، و إليه ذهب جماعة من المتكلمين، و هو يقوم على أساس أنّ العرب لم يقدروا على الإتيان بمثل القرآن، لا لإعجازه بحدّ ذاته، و أنّ القرآن بلغ في فرط الفصاحة و البلاغة، و روعة النظم و بداعة الأسلوب شأوا لا تبلغه الطاقة البشرية، بل لأجل أنّه سبحانه صرف بلغاء العرب و فصحاءهم عن المعارضة بطريق من الطرق الآتي ذكرها.

و قد حكي هذا المذهب عن أبي إسحاق النّظام، و هو أقدم من نسب إليه هذا القول. و تبعه أبو إسحاق النصيبي، و عبّاد بن سليمان الصّيمري، و هشام بن عمرو الفوطي، و غيرهم.

ص: 337


1- التاء في الصّرفة، تاء المصدرية التي تلحق كثيرا من المصادر مثل: الرحمة، و الرأفة، و غيرهما.

و اختاره من الإمامية الشيخ المفيد (ت 338 - م 413) في أوائل المقالات، و إن حكي عنه غيره. و السيد المرتضى (ت 355 - م 436) في رسالته الخاصة بهذا الموضوع التي أسماها ب «الموضح عن جهة إعجاز القرآن». و الشيخ الطوسي (ت 385 - م 460) في شرحه لجمل السيد، و إن رجع عنه في كتابه «الاقتصاد». و ابن سنان الخفاجي (م 464) في كتابه «سرّ الفصاحة».

و لما كان هذا المذهب قد أحاط به الإبهام، و اضطربت في تفسيره الأذهان، فأقرب ما يمكن اعتماده في الوقوف على حقيقته، الرجوع إلى نفس عبارات المتمسكين به.

حقيقة الصّرفة

إنّ القائلين بأنّ القرآن معجز من حيث الفصاحة، و البلاغة، و روعة النظم و جماله، و بداعة الأسلوب و السّبك، يقولون بأنّ القرآن وصل من فرط كماله فيها إلى حدّ تقصر القدرة البشرية عن الإتيان بمثله، من غير فرق بين السابقين على البعثة و اللاحقين عليها.

و أمّا القائلون بمذهب الصّرفة، فإنهم يعترفون بفصاحة القرآن و بلاغته، و روعة نظمه و بداعة أسلوبه، لكنهم لا يرونه على حدّ الإعجاز، بل يقولون:

ليس الإتيان بمثله خارجا عن طوق القدرة البشرية، فهي كافية في مقام المعارضة، و إنّما العجز و الهزيمة في حلبة المبارزة لأمر آخر، و هو حيلولته سبحانه بينهم و بين الإتيان بمثله.

و بعبارة أخرى: إنّ القائلين بكون إعجاز القرآن من جهة فصاحته و بلاغته و نظمه و أسلوبه، يقولون إنّ الإعجاز إنّما يتعلق بأمر ممكن بالذات، لأنّه لو كان محالا بالذات - كاجتماع النقيضين و ارتفاعهما - فلا تتعلق به القدرة مطلقا، سواء أ كانت قدرة إلهية أو قدرة بشرية. و على ضوء ذلك، فالإتيان بكتاب مثل القرآن، أمر ممكن بالذات، و ليس أمرا محالا بالذات، غير أنّه لا تكفي لذلك القدرة البشرية العادية. فالإتيان بمثله محال عادي، لا تزول استحالته إلاّ أن يتجهّز الآتي بمثله بقدرة فوق القدرة العادية.

ص: 338

و أمّا القائلون بالصرفة، فيقولون إنّ معارضة القرآن و الإتيان بمثله ليس محالا عاديا حتى يحتاج فيه وراء القدرة العادية إلى قدرة خارقة. و لأجل ذلك كان يوجد في كلام السابقين على البعثة من فصحاء العرب و بلغائهم، ما يضاهي القرآن في تأليفه، غير أنّه سبحانه لأجل إثبات التحدّي، حال بين فصحاء العرب و بلغائهم، و بين الإتيان بمثله بأحد الأمور الثلاثة التالية:

1 - صرف دواعيهم و هممهم عن القيام بالمعارضة، فكلّما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفا و دافعا يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة. و لم يكن ذلك لعدم قدرتهم على الانصداع لهذا الأمر، بل إنّ المقتضي فيهم كان تامّا غير أنّ الدواعي و الهمم صارت مصروفة عن الالتفات إلى هذا الأمر، بصرف اللّه سبحانه قلوبهم عنه، و لو لا ذلك لأتوا بمثله.

2 - سلبهم سبحانه العلوم التي كانت العرب مالكة لها، و متجهزة بها، و كانت كافية في مقابلة القرآن. و لو لا هذا السلب - و كان وضع العرب حال البعثة كوضعهم بعدها - لأتوا بمثله.

3 - أنّهم كانوا قادرين على المعارضة، و مجهزين بالعلوم الوافية بها، مع توفّر دواعي المعارضة و عدم صرف همهم عنها، و لم يمنعهم عنها إلاّ إلجاؤه تعالى، فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم. و هذا نظير من يريد أن يتحرّك نحو المطلوب، فيحال بينه و بين مقصده بقاهر يصدّه عن التقدم.

و في خلال عبارات أصحاب هذا القول، إيماءات إلى هذه الوجوه المختلفة(1)، التي يجمعها قدرة العرب على معارضة القرآن.

1 - قال النظام: «الآية و الأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف و النّظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لو لا أنّ اللّه

ص: 339


1- و قد أشار إلى هذه الوجوه الثلاثة الإمام يحيى بن حمزة العلوى في كتابه «الطراز»، ج 3، ص 391-395، ط مصر سنة 1332 ه - 1914 م.

منعهم بمنع و عجز أحدثهما فيهم»(1).

و قال أيضا في إعجاز القرآن: «و إنّه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية و منع العرب عن الاهتمام به جبرا و تعجيزا، حتى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغة و فصاحة و نظما»(2).

2 - و قال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 296 - م 386): «أمّا الصّرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، و على ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، و ذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات التي دلّت على النبوة، و هذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول»(3).

3 - و قال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي (ت 319 - م 388):

«و ذهب قوم إلى أنّ العلّة في إعجازه الصّرفة أي صرف الهمم عن المعارضة، و إن كانت مقدورا عليها، غير معجوز عنها، إلاّ أنّ العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات، صار كسائر المعجزات فقالوا: و لو كان اللّه عز و جل بعث نبيا في زمان النبوات، و جعل معجزته في تحريك يده أو مدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه، ثم قيل له ما آيتك فقال آيتي أن أخرج يدي أو أمدّ رجلي و لا يمكن أحدا منكم أن يفعل مثل فعلي، و القوم أصحاء الأبدان، لا آفة بشيء من جوارحهم، فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله، فلم يقدروا عليه، كان ذلك آية دالّة على صدقه. و ليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي، و لا إلى فخامة منظره، و إنّما تعتبر صحتها خارجا عن مجرى العادات ناقضا لها، فمهما كانت بهذا الوصف، كانت آية دالّة على صدق من جاء بها. و هذا أيضا وجه قريب»(4).

ص: 340


1- نقله الأشعري في: «مقالات الإسلاميين» ج 1، ص 225. و لاحظ «الطراز»، ج 3، ص 391-395، ط مصر سنة 1332 ه - 1914 م.
2- نقله الشهرستاني في «الملل و النحل»، ج 1، ص 56-57.
3- النكت في إعجاز القرآن، ص 101.
4- بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ص 21. غير أنه يشير في ذيل كلامه إلى أنّ هذه النظرية يخالفها قوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ الآية. و سيوافيك نصّه عند نقد النظرية.

4 - و قال الشيخ المفيد في جهة إعجاز القرآن: «إنّ جهة ذلك هو الصرف من اللّه تعالى لأهل الفصاحة و اللسان عن معارضة النبي صلى اللّه عليه و آله بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، و جعل انصرافهم عن الإتيان بمثله - و إن كان في مقدورهم - دليلا على نبوته. و اللّطف من اللّه تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. و هذا أوضح برهان في الإعجاز، و أعجب بيان. و هو مذهب النظّام، و خالف فيه جمهور أهل الاعتزال»(1). هذا.

و قد نقل القطب الراوندي (م 573) في كتاب «الخرائج»، قولا آخر للشيخ المفيد، و لا نعلم أيّا من الرأيين هو المتقدم. قال في بيان وجوه إعجاز القرآن: «ما ذهب إليه الشيخ المفيد، و هو أنّه إنّما كان معجزا من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة، قال: لأنّ مراتب الفصاحة إنّما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها اللّه في العباد، فلا يمتنع أن يجري اللّه العادة بقدر من المعلوم، فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية، و يكون ما زاد على ذلك غير معتادة، معجزا خارقا للعادة»(2).

5 - و قال السيد المرتضى: «إنّ اللّه تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، و لو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم»(3).

6 - قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي (ت 374 - م 447) بعد استعراضه الوجوه المحتملة لإعجاز القرآن: «و إذا بطلت سائر الوجوه، ثبت أنّ جهة الإعجاز كونهم مصروفين». ثم قال: «معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة التي لو لا انتفاؤها لصحّت المعارضة، و هذا الضرب مختصّ بالفصاحة و النّظم معا، لأنّ التحدي واقع بهما، و عن الجمع بينهما كان الصّرف»(4).

ص: 341


1- أوائل المقالات، ص 31.
2- البحار، ج 92، ص 127.
3- الاقتصاد، ص 172.
4- تقريب المعارف، ص 107، ط 1404 ه.

7 - و قال الشيخ الطوسي: «القرآن معجز سواء كان معجزا خارقا للعادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه، أو لأنّ اللّه تعالى صرفهم عن معارضته، و لو لا الصرف لعارضوه».

و قال: «إنّ التحدّي إنّما وقع لعجزهم عن معارضته في المستقبل، لا لأنّه ليس في كلامهم مثله، و لو كان في كلامهم مثله لكان ترك المعارضة أبلغ و أعظم في باب العجز».

و قال: «إنّ القائلين بالصّرفة يقولون إنّ مثل ذلك كان في كلامهم و خطبهم، و إنّما صرفوا عن معارضته في المستقبل، فلا معنى لكونه أفصح»(1).

و قال: «و أما قولهم إنّه كان في كلامهم ما هو مثل القرآن، فلا يتوجه على أصحاب الصرفة لأنّهم يسلمون ذلك، لكنهم يقولون إنّهم منعوا من مثله في المستقبل فلا ينفع بأن ذلك فيما مضى منهم موجود، بل ذلك يؤكّد الحجة عليهم»(2).

و قال: «إنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة و البلاغة، و إنّما يقول هذه المزية ليست ممّا تخرق العادة و يبلغ حدّ الإعجاز. فليس في طرب الفصحاء و شهادتهم بفصاحة القرآن و فرط براعته، ما يوجب بطلان القول بالصرفة»(3).

ص: 342


1- الاقتصاد، ص 166، و ص 170، و ص 171.
2- تمهيد الأصول في علم الكلام، ص 331.
3- المصدر السابق، ص 337-338، و هذا الكتاب شرح على كتاب «جمل العلم و العمل»، للسيد المرتضى، فإنّه يشتمل على قسمين: قسم يختص بالعقائد، و هو الذي شرحه الشيخ الطوسي و أسماء: «تمهيد الأصول في علم الكلام»، نشرته جامعة طهران، و قد جعل المتن في أول الكتاب و الشرح بعده، و ليس المتن متميزا في الشرح عمّا علّق عليه. و قسم يختصّ بالأحكام، و هو الذي شرحه تلميذ السيد، القاضي ابن البراج المتوفى عام 481، و طبع باسم: «شرح جمل العلم و العمل». ثم إنّ للسيد نفسه شرحا على هذا الكتاب أملاه على بعض تلامذته، و هو بعد مخطوط لم ير النور، و ستقوم مؤسسة الإمام الصادق بنشره محقّقا إنشاء اللّه تعالى.

و قد كان الشيخ الطوسي قائلا بالصرفة، و لكنه عدل عنه بعد ذلك، كما يعترف به هو نفسه في كتابه «الاقتصاد»، قال: «و أقوى الأقوال عندي قول من قال إنّما كان معجزا خارقا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص، دون الفصاحة بانفرادها، و دون النظم بانفراده، و دون الصرفة.

و إن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصّرفة على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه اللّه، من حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه»(1).

8 - و قال ابن سنان الخفاجي: «إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن، صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك».

ثم قال: «إنّ الصحيح أنّ إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته، و أنّ فصاحته كانت في مقدورهم لو لا الصرف».

و قال في موضع آخر: «متى رجع الإنسان إلى نفسه، و كان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه»(2).

9 - و بسط ابن حزم (م 548) الكلام في إعجاز القرآن، و ذكر لإعجازه خمسة وجوه و ردّها، و ممّا قاله:

«و النحو الرابع: ما قالت طائفة: وجه إعجازه، كونه في أعلى مراتب البلاغة. و قالت طوائف إنّما وجه إعجازه أنّ اللّه منع الخلق من القدرة على معارضته.

فأمّا الطائفة التي قالت إنّما إعجازه لأنّه في أعلى درج البلاغة، فإنّهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ .

و موّه بعضهم بأن قال: «لو كان كما تقولون من أنّ اللّه تعالى منع من

ص: 343


1- الاقتصاد، ص 173.
2- سرّ الفصاحة، ص 89، و ص 217.

معارضته فقط، لوجب أن يكون أغثّ ما يمكن أن يكون من الكلام، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ».

ثم ردّ على هذين الدليلين بوجه تافه غير قابل للنقل، و قال في آخر كلامه:

«فإنّها معجزة لا يقدر على المجيء بمثلها أبدا، لأنّ اللّه تعالى حال بين الناس و ذلك»(1).

10 - قال المحقق الطوسي: «و إعجاز القرآن قيل: الفصاحة، و قيل:

الأسلوب و فصاحته معا، و قيل: للصرفة، و الكلّ محتمل»(2).

هذه حقيقة نظرية الصرفة، ذكرناها على وجه رفعنا عن وجهها الغشاوة و الإبهام.

مناقشة نظرية الصّرفة

إنّ نظرية الصرفة، نظرية قاصرة و سقيمة من جهات:

أما أوّلا: فلأنّه لو كان القرآن من حيث الفصاحة و البلاغة و روعة النظم و بداعة الأسلوب، غير بالغ حدّ الإعجاز، و كان العرب قبل البعثة متمكنين من إلقاء الخطب و الأشعار على هذا النمط من الكلام، فيجب أن ينتشر ما يضاهي القرآن في البلاغة، و الفصاحة بين أوساطهم و أندية شعرهم و أدبهم، و يكون مثله متوفرا بينهم، فعندئذ نسأل: أين هذه الخطب و الجمل المضاهية للقرآن الكريم، الرائجة بينهم ؟ و هل يمكن لأصحاب مذهب الصرفة إراءة نماذج منها؟! و نحن مع ما بذلنا من الفحص و التتبع عنها في مظانها من مجاميع الكتب الأدبية، لم نجد حتى النزر اليسير منها.

و ثانيا: فإنّ مذهب الصرفة يبتني على حصول الحيلولة بين العرب

ص: 344


1- الفصل، ج 3، ص 17 و ص 21.
2- كشف المراد، ص 223، ط صيدا.

و المقابلة، بعد البعثة، بما تقدم، لا قبلها، فعندئذ كان في وسع العرب القاء كلم و جمل و خطب مضاهية للقرآن الكريم من دون أن يتحملوا عبء المقابلة بإنشاء مثله، حتى يقال بأنّهم صرفوا عن المقابلة بسلب الهمم و العلوم و القدرة، لأنّ الإتيان بما هو دارج بين العرب لا يتوقف على مئونة. إلاّ أن يقال إنّهم صرفت هممهم حتى عن هذا المقدار، و هو كما ترى.

و ثالثا: فلو كان العرب قبل البعثة قادرين على الإتيان بكلام يشبه القرآن و يضاهيه، فلما ذا اندهش الوليد بن المغيرة عند ما سمع آيات من سورة فصلت و قال: «لقد سمعت من محمد كلاما لا يشبه كلام الإنس و الجن»(1). و لما ذا ارتمى عتبة بن ربيعة مدهوشا مبهوتا ملقيا يديه وراء ظهره متكيا عليهما، مشدقا بفيه مصعوقا عند ما سمع بعض آيات القرآن من النبي الصادع بالحق. فلو كانت فصاحة القرآن و بلاغته أو نظمه و أسلوبه من حيث العذوبة و الأناقة على نمط كلام الآخرين من فصحاء العرب و بلغائهم، فلم اهتزوا و تأثّروا بسماع آية أو آيات منه، و لم تكن لهم هذه الحالة في سماع شعر امرئ القيس، و لا عنترة، و لا غيرهما من أصحاب المعلقات، و لا من سماع خطب قس بن ساعدة و سحبان بن وائل و غيرهما من أصحاب الخطب و الكلام.

و إلى هذا الوجه يشير الإمام يحيى بن حمزة العلوي في نقد هذا المذهب، و يقول: «لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة كما زعموا، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، فلمّا ظهر منهم التعجّب لبلاغته و حسن فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: «إنّ أعلاه لمورق، و إنّ أسفله لمعذق، و إنّ له لطلاوة، و إنّ عليه لحلاوة»، فإنّ المعلوم من حال كل بليغ و فصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنّه يدهش عقله و يحيّر لبّه، و ما ذاك إلاّ لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف و حسن موانع التصريف في كل موعظة، و حكاية كل قصة، فلو كان كما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك، و لهذا فإنّ نبيّا لو قال: إنّ معجزتي أن أضع هذه الرمانة في كفي. و أنتم لا تقدرون على ذلك، لم يكن

ص: 345


1- السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 293-294.

تعجّب القوم من وضع الرمانة في كفه، بل كان من أجل تعذّره عليهم، مع أنّه كان مألوفا لهم، و مقدورا عليه من جهتهم. فلو كان كما زعمه أهل الصرفة، لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه. فلمّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة، دلّ على فساد هذه المقالة»(1).

و ما أجاب به الشيخ الطوسي عن هذا الدليل بأنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة و البلاغة، و إنّما يقول هذه المزية ليست مما تخرق العادة و يبلغ حدّ الإعجاز، فليس في طرب الفصحاء و شهادتهم بفصاحة القرآن و فرط براعته ما يوجب بطلان القول بالصرفة(2)، غير تام، إذ لو كان مثل القرآن متوفرا في الأوساط الأدبية قبل البعثة، لما كان لهذا الطرب و الاهتزاز و الانبهار و التضعضع، وجه وجيه، لأنّ المفروض أنّ القرائح العربية لم تكن قاصرة قبل البعثة عن إبداع أمثاله، و سمعت آذانهم كثيرا من هذا النمط من الكلام و إن قصرت من بعد. و لو كانت قرائحهم قادرة قبل البعثة على إنشاء كلام مثل القرآن، فلما ذا جمع الوليد صناديد قريش و قال لهم: «إنّ العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد، ما تقولون في هذا الرجل ؟ الخ(3)». فلو كانت قرائحهم كافية قبل صرف هممهم، أو سلب علومهم، أو الجائهم على الانقباض في مقام معارضته - لكان الجواب عن قرآن الرجل واضحا، و هو أنّه كلام عادي ما أكثره بيننا، و أكثر مثله في كلام خطباء العرب و شعرائهم.

و رابعا: فإنّ القول بالصرفة نجم من الاغترار بما روي من رشيق الكلمات، و بليغ العبارات، عن العرب، فزعم هؤلاء أنّ كل من قدر على تلك الأساليب البلاغية، يقدر على المعارضة، إلاّ أنّه سبحانه عرقلهم عنها و ثبّطهم فيها.

و لكن أين الثرى من الثريا، و أين المدر من الدرر، و ليس إعجاز القرآن

ص: 346


1- الطراز، ص 393-394.
2- تمهيد الأصول، ص 338.
3- مجمع البيان، ج 5، ص 386.

رهن العذوبة و الأناقة فقط، و إنّما هو رهن حلاوة ألفاظه و سمو معانيه، و رصانة نظمه - على وجه لو غيّرت كلمة أو جملة منه، لم يمكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة - و بداعة أسلوبه، مجتمعة. فهذه الأمور بجملتها، أضفت على الكلام جمالا رائعا لا يجد الإنسان له مثيلا في كلام من غبر و سبق، أو تبع و لحق.

فهو بنظمه العجيب، و أسلوبه الغريب، و ملاحته و فصاحته الخاصة، و معانيه العميقة، تحدّى الإنس و الجن، و لأجل ذلك لم يجد العرب لإغراء البسطاء، إلاّ تفسيره بالسحر، لأنّه يأخذ بمجامع القلوب، كما يأخذ السحر بها.

و خامسا: فإنّ المتبادر من آيات التحدّي أنّها تعرف القرآن بأنّه فوق قدرة الإنس و الجن، و أنّه مصنوع لا تصل إليه يد المخلوق، و هذا لا يجتمع مع مذهب الصرفة الذي لا يضفي على القرآن ذاك الجمال الرائع الذي يجعله متفوّقا على القدرة البشرية، و إنّما يضعه في عداد كلام عامة الفصحاء و البلغاء، غاية الأمر أنّه سبحانه - كلما همّت العرب بمباراته - صرف عنهم الهمة و القوة و منعهم من الإتيان بما اقترحه عليهم.

و بعبارة أخرى: إنّ المتبادر من ظواهر الآيات، أنّ القرآن في ذاته متعال، حائز أرقى الميزات، و كمال المعجزات، حتى يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه لو اجتمع الجن و الإنس الخ..

يقول الخطابي بأنّ قوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ الآية، يشهد بخلاف هذه النظرية، لأنّها تشير إلى أمر، طريقه التكلّف و الاجتهاد، و سبيله التأهّب و الاحتشاد، و ما فسّرت به الصرفة لا يلائم هذه الصفة(1).

و سادسا: فلو كان وجه الإعجاز في نكتة الصرفة، لكفى في ذلك أن يكون القرآن كلاما مبذولا و مرذولا للغاية، و ركيكا حدّ النهاية، لكن كلّما أراد سفلة الناس و أوباشهم، الذين يقدرون على صنع مثل تلك الكلم، الإتيان بمثله، حال سبحانه بينهم و بين مباراته. و هو كما ترى، لا يتفوّه به من له إلمام بهذه المباحث.

ص: 347


1- بيان إعجاز القرآن ص 21.

و سابعا: فلو كان عجز العرب عن المقابلة، لطارئ مباغت أبطل قواهم البيانية، لأثر عنهم أنّهم حاولوا المعارضة ففوجئوا بما ليس في حسبانهم، و لكان ذلك مثار عجب لهم، و لأعلنوا ذلك في الناس، ليلتمسوا العذر لأنفسهم و ليقللوا من شأن القرآن في ذاته(1).

و قد أشار إلى هذا الوجه علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز، كما أشار إليه الإمام يحيى بن حمزة العلوي، قال: «إنّهم لو صرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها، لوجب أن يعلموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، و أن يميّزوا بين أوقات المنع و التخلية. و لو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. و لو تذاكروه، لظهر و انتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة»(2).

و ثامنا: فإنّ القول بالصرفة، يستلزم القول بأن العرب قد تراجعت حالها في الفصاحة و البلاغة، و في جودة النظم و شرف الأسلوب و أن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم و أذهانهم، و عدموا الكثير ممّا كانوا يستطيعون، و أن تكون أشعارهم التي قالوها، و الخطب التي قاموا بها من بعد أن أوحى اللّه إلى النبي، قاصرة عمّا سمع منهم من قبل ذلك، القصور الشديد، و أن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال كان يتسع لهم، و نضبت عنهم موارد قد كانت تغزر، و خذلتهم قوى كانوا يصولون بها، و أن تكون أشعار شعراء النبي التي قالوها، في مدحه عليه السلام، و في الردّ على المشركين، ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية، و أن يكون شعر حسان بعد الإسلام دون شعره قبله، و الكل كما ترى.

و تاسعا: فإنّ الظاهر من مذهب الصرفة أنّ النقصان حدث فيهم من غير أن يشعروا به، و لازمه أن لا تتم الحجّة عليهم، لأنّهم و إن عدموا فضلهم في مجال الفصاحة و البلاغة، لكنهم غير شاعرين بهذا النقصان. و إذا كانوا لا يعلمون أنّ كلامهم الذي يتكلمون به بعد التحدّي، قاصر عن الذي تكلموا به أمس،

ص: 348


1- لاحظ مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني، ج 2، ص 314.
2- الطراز، ج 3، ص 393.

استحال أن يعلموا أنّ لنظم القرآن فضلا على كلامهم الذي يسمع منهم. و إذا لم يتصوروا للقرآن تلك المزية، كان كلامهم بعد التحدّي عندهم مساويا للقرآن.

فلازم ذلك أن يعتقدوا أنّ في جمله ما يقولونه في الوقت و يقدرون عليه، ما يشبه القرآن و يوازيه، فعندئذ لا تتم الحجّة عليهم، إذ لهم أن يقولوا بأنّ أشعارنا و خطبنا لا تقصر عن قرآنك، لأنّ المفروض أنّهم غير واقفين على نزول كلامهم عن الذروة و القمة السالفة، و متصورين أنّه بعد التحدي كما كان قبله. و من كانت له هذه الحالة، لا يتصور للقرآن مزية.

و عاشرا: فإنّ القائل بدخول النقصان على قرائح العرب، إمّا أن يستثني النبي من ذلك، أو لا. فعلى الأوّل يجب أن يقول بأنّ النبيّ عند ما كان يتلو عليهم قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ ، عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1) كان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، و يقدر عليه.

و على الثاني يلزم أنّ النبوة صارت وسيلة لنقصان مرتبة النبي في حلبة الفصاحة و البلاغة، اللهم إلاّ أن يقولوا بأنّ النبي كان دونهم في الفصاحة و البلاغة قبل التحدي، مع أنّ الأخبار تحكي عن أنّه كان أفصح العرب(2).

و لأجل وهن هذه النظرية، صار السائد بين المسلمين عامّة، و أكابر الشيعة خاصة، كون القرآن معجزا من حيث الفصاحة المفرطة و البلاغة السامية، و النّظم المخصوص، و الأسلوب البديع، الذي جعله - مجتمعا - كلاما خارقا للعادة. و زيادة في إيضاح الحال نورد ما ذكره الشيخ الطبرسي (ت 471 - م 548) في تفسير قوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (3)، قال:

ص: 349


1- سورة الإسراء: الآية 88.
2- الإشكالات الثلاثة الأخيرة، ذكرها الرماني في كتابه «النكت في إعجاز القرآن»، ص 133 - 155، و قد نقلناها بتلخيص و تصرّف.
3- سورة الإسراء: الآية 88.

«المراد أنّه لئن اجتمعت الجن و الإنس متعاونين متعاضدين، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته و بلاغته و نظمه على الوجوه التي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة، و الدرجة القصوى من حسن النظم، و جودة المعاني و تهذيب العبارة، و الخلو من التناقض، و اللفظ المسخوط، و المعنى المدخول على حدّ يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت، لعجزوا عن ذلك، و لم يأتوا بمثله، وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ، أي معينا على ذلك مثلما يتعاون الشعراء على بيت شعر»(1).

و قال العلامة الحلّي في كشف المراد: «أمّا إعجاز القرآن، فقد تحدّى به فصحاء العرب بقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ ، قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً . و التحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله، مع توفّر الدواعي عليه، إظهارا لفضلهم، و إبطالا لدعواه، و سلامة من القتل، يدلّ على عجزهم و عدم قدرتهم على المعارضة»(2).

و على أيّ حال، فإنّ القائلين بالصرفة، و إن كانوا من أعلام العلماء، لكن الحق لا يعرف بالرجال، و إنّما يعرف بسلامة الاستدلال، و قد خفّت هذه النظرية في ميزان النّصفة و البرهنة، و الحق أنّها ليست بنظرية قيّمة قابلة للاعتماد، و خلافا صالحا للاحتجاج.

و ليس كلّ خلاف جاء معتبرا *** إلاّ خلاف له حظّ من النّظر

ص: 350


1- مجمع البيان، ج 3، ص 438.
2- كشف المراد، ص 221، ط صيدا و ممن أفاض الكلام في وجوه إعجاز القرآن، و لم يعتمد على مذهب الصّرفة، السيد عبد اللّه شبّر في كتابه حق اليقين في أصول الدين (ج 1، ص 150 - 154). و أما المقاربين لعصرنا فممن كتبوا فيه، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه الدين و الإسلام (لاحظ كلامه في مجلة رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الثالثة، ص 298) و العلامة الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني (المعجزة الخالدة، ص 32-43)، و الزرقاني في مناهل العرفاء (ج 2، ص 310).
الأمر الثالث عجز البشر عن الإتيان بمثله
اشارة

الأمر الثالث عجز البشر عن الإتيان بمثله(1)

قد عرفت أنّ الرسول الأكرم تحدّى العالمين أجمع على الإتيان بكتاب مثل القرآن، و تنزّل حتى تحدّاهم على الإتيان بعشر سور، بل سورة من مثله.

و إنّ تحليل التاريخ المسطور يكشف لنا عجز العرب أمام هذا التحدّي، و ذلك أنّ النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، قد بقي يطالب العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن مدّة عشرين سنة، مظهرا لهم النكير، زاريا على أديانهم، مسفّها آراءهم و أحلامهم، و هم أهل البلاغة و الفصاحة، و فيهم أساطينها و أركانها، و لكنهم مع ذلك لم ينبثوا ببنت شفة، و لم يجرء أحد منهم على إبداع كلام يعارض فيه القرآن، و إنّما سلكوا مسلكا آخر، فنابذوه و ناصبوه الحرب، حتى هلكت فيه النفوس، و أريقت المهج، و قطعت الأرحام، و ذهبت الأموال.

و لو كان ذلك في وسعهم و تحت إقدارهم، لم يتكلّفوا هذه الأمور الخطيرة، و لم يتركوا السهل الدمث من القول إلى الحزن الوعر من الفعل. هذا ما لا يفعله عاقل، و لا يختاره ذو لبّ . و قد كانت قريش موصوفين برزانة الأحلام و وفرة العقول و الألباب. و قد كان فيهم الخطباء المصاقع، و الشعراء المفلقون(2).

ص: 351


1- قد عرفت أنّ إعجاز القرآن يتقوم بأمور ثلاثة: التحدي، و خرق العادة، و عجز البشر عن الإتيان بمثله.
2- لاحظ بيان إعجاز القرآن، لأبي سليمان الخطابي، ص 9.

قال الشيخ عبد القاهر: «إنّ المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف و طبائعهم التي لا تتبدل، أن لا يسلّموا لخصومهم الفضيلة، و هم يجدون سبيلا إلى دفعها، و لا ينتحلون العجز و هم يستطيعون قهرهم و الظهور عليهم. كيف، و إنّ الشاعر أو الخطيب أو الكاتب، إذا بلغه أنّ بأقصى الإقليم من يباهي بشعره، أو بخطبته أو برسالته التي يعملها، يدخله من الأنفة و الحميّة ما يدعوه إلى معارضته، و إلى أن يظهر ما عنده من الفضل. هذا فيما لم ير ذلك الإنسان قطّ، و لم يكن منه إليه ما يهزّ و يحرّك، فكيف إذا كان المدعي بمرأى و مسمع منه، فإنّ ذلك ادعى له إلى مباراته، و أن يعرّف الناس أنّه لا يقصر عنه، أو أنّه منه أفضل، فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مباراته، فذلك الذي يسهر ليله و يسلبه القرار، حتى يتفرّغ مجهوده في جوابه، و يبلغ أقصى الحدّ في مناقضته.

هذا، فكيف إذا ظهر في صميم العرب و في مثل قريش، ذوي الأنفس الأبية، و الهمم العليّة، من يدّعي النبوة و يخبر أنّه مبعوث من اللّه تعالى إلى الخلق، ثم يقول و حجتي أنّ اللّه تعالى قد أنزل عليّ كتابا عربيا مبينا، تعرفون ألفاظه، و تفهمون معانيه، إلاّ أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، و لا بعشر سور منه، و لا بسورة واحدة و لو جمعتم جهدكم و اجتمع معكم الجن و الإنس.

فلا يتصور منهم السكوت و السكون في مقابل هذا الادعاء، إلاّ إذا كانوا عاجزين»(1).

دفع توهّم

ربما يتصور الغافل أنّ البلغاء المعاصرين لداعي الحق، قد عارضوه بكتاب أو سور مثل كتابه و سوره، و لكنه اختفى أثره في شعاع ضوء قدرة الإسلام و المسلمين و سلطانهم على الجزيرة و خارجها.

و الجواب: إنّه رجم بالغيب و تصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية و العلمية، إذ لو كانت ثمة معارضة و مقابلة، لما اختفى على العرب المعاصرين و لا

ص: 352


1- ثلاث رسائل، الرسالة الشافية، لعبد القاهر الجرجاني، ص 110.

على غيرهم. كيف، و إن الإتيان بمثل معجزته، يسجل للمعارض خلود الذكر و سموّ الشرف، بل لسعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه و غيرهم، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم.

قال المحقق الخوئي - دام ظلّه -: «إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، و شهرتها في مواسمها و أسواقها، و لأخذ منه أعداء الإسلام نشيدا يوقعونه في كل مجلس، و ذكرا يرددونه في كل مناسبة، و علّمه السلف للخلف، و تحفّظوا عليه تحفّظ المدعى على حجّته، و كان ذلك أقرّ لعيونهم من الاحتفاظ بتاريخ السلف. كيف، و أشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ و جوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثرا لهذه المعارضة»(1).

يقول الخطابي: «إنّ هذا السؤال ساقط، و الأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأمور التي لها شأن، و للنفوس بها تعلّق، و كيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب، و سار ذكره بين الخافقين. و لو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظم خطره، و جلالة قدره، لجاز أن يقال إنّه خرج في ذلك العصر نبي آخر و أنبياء ذوو عدد، و تنزّلت عليهم كتب من السماء، و جاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة، و كتم الخبر فيها فلم يظهر، و هذا ممّا لا يحتمله عقل»(2).

أقول: و ممّا يدلّ على عدم وجود هذه المعارضة اللائقة بالذكر، ما ضبطه التاريخ من كلام مسيلمة الكذاب و غيره ممّن ادّعوا النبوة و أرادوا أن يخدعوا بسطاء العقول، فجاءوا بجمل تافهة ساقطة، لا يقام لها وزن و لا قيمة، ما سيأتي عرضه و تحليله بعد هذا البحث.

على أنّ القرآن ما خصّ العرب الجاهليين بالتحدّي، بل تحدّى جميع الناس سالفهم و حاضرهم، و هناك مجموعة كثيرة من العرب لا يعتنقون دين الإسلام و يتبعون ثقافات حديثة، و تؤيدهم القوى الكبرى الكافرة. فلو كانت المكافحة

ص: 353


1- البيان في تفسير القرآن، ص 52.
2- بيان إعجاز القرآن، ص 50.

أمرا ممكنا لقام هؤلاء بهذه المهمة و أراحوا أنفسهم من بذل الأموال الطائلة في طريق الحط من كرامة هذا الدين، و النيل من نبيّه الأعظم و كتابه المقدّس، و لاحتفلوا بذلك في أنديتهم و مؤتمراتهم العالمية، و زعزعوا بذلك إيمان المسلمين، الذي هو أمنيتهم الكبرى. و مع ذلك، لا ترى من هذا الأمر عينا و لا أثرا.

ثم إنّه قد نقل في مواضع متفرقة من كتب التاريخ، عبارات و جمل منثورة، يشبه - بحسب الظاهر - أسلوبها أسلوب القرآن، زعم أنّها لأناس ادّعوا النبوّة، و عارضوا بها القرآن الكريم، و هذا ما نطرحه على بساط البحث فيما يلي.

هل عورض القرآن الكريم ؟

إنّ المؤرخين ذكروا أسماء قوم زعموا أنّهم عارضوا القرآن الكريم، و أنّ بعضهم ادّعى النبوة، و جعل ما يلقيه معجزة لكي لا تكون دعواه بلا أداة و بيّنة.

و نحن نذكر بعض من ذكرهم التاريخ، و ننقل بعض ما نسب إليهم، حتى يعلم أنّ ما سمّوه معارضا للقرآن الكريم، ليس إلاّ كلاما ساقطا، لا يقام له وزن، بل لا يداني بلاغة كلام الأدباء المعروفين.

قوم زعموا أنّهم عارضوا القرآن الكريم
1 - مسيلمة الكذاب
اشارة

ذكر ابن هشام أنّ مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه، سلام عليك. أمّا بعد، فإنّي قد أشركت في الأمر معك، و إن لنا نصف الأرض، و لقريش نصف الأرض، و لكن قريشا قوم يعتدون».

فلما جاء الكتاب، كتب رسول اللّه إلى مسيلمة: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب، السلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين».

ص: 354

و ذلك في آخر سنة عشر(1).

و ذكر الطبري أنّ وفد بني حنيفة أتوا رسول اللّه مع مسيلمة، فلما رجعوا و انتهوا إلى اليمامة، ارتدّ مسيلمة و تنبّأ و تكذّب له، و قال: «إنّي قد أشركت في الأمر معه». ثم جعل يسجع السجاعات و يقول لهم فيما يقول، مضاهاة للقرآن. و ذكر من كلامه هذا:

«لقد أنعم اللّه على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، بين صفاق وحشى»(2).

إنّ هذين الكلامين، يكفيان شاهدا على ما لم نذكره. أمّا كتابه، فهو دليل على أنّه جعل دعوى النبوّة، أداة للحكومة، فلأجل ذلك قسّم الأرض بينه و بين رسول اللّه. فانظر إلى جواب رسول اللّه، المقتبس من القرآن الكريم: إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (3).

و أما قرآنه المنحول، المفترى على اللّه سبحانه، فما هو إلاّ جمل و فصول توازن سجع الكهان، حاول أن يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه. و ممّا اصطنعه في هذا المجال:

«الفيل، ما الفيل، و ما أدراك ما الفيل، له ذنب و بيل، و خرطوم طويل».

«يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء و نصفك في الطين، لا الماء تكدّرين، و لا الشارب تمنعين».

و على هذا الغرار سائر كلمه المنسوبة إليه. و كلها تعرب عن جهل و حماقة فيه. و لذلك، لما ذهب الأحنف بن قيس مع عمّه إلى مسيلمة، و خرجا من

ص: 355


1- السيرة النبوية لابن هشام، ج 2، ص 600. و تاريخ الطبري، ج 2، ص 399.
2- تاريخ الطبري، ج 2، ص 394، و لكن رواه في ص 499 هكذا: «أ لم تر كيف فعل ربك بالحبلى، الخ». و الصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن، و هو الذي إذا انشق كان منه الفتق.
3- سورة الأعراف: الآية 128.

عنده، و قال الأحنف لعمّه. «كيف رأيته ؟»، قال: «ليس بمتنبئ صادق، و لا بكذّاب حاذق»(1).

ما هي حقيقة المعارضة ؟

معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعرا، يجيء الآخر فيجاريه في لفظه و يباريه في معناه ليوازن بين الكلامين، فيحكم بالفلج على أحد الطرفين. و ليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه، ثم يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع و تلفيق، كما وقع في ذاك الكلام المنسوب إلى مسيلمة. و ها نحن نأتي ببعض المعارضات التي وقعت في العصر الجاهلي بين شاعرين كبيرين، فهذا النابغة الذبياني يصف ليله في أشعاره المعروفة التي يعتذر فيها للنعمان، و يقول:

كليني لهمّ يا أميمة ناصب *** و ليل أقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقض *** و ليس الذي يرعى النجوم بآئب

بصدر أراح الليل عازب همّه *** تضاعف فيه الحزن من كل جانب

و نرى أنّ امرئ القيس يقول في نفس الموضوع:

و ليل كموج البحر أرخى سدوله *** عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه *** و أردف أعجاز و ناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح و ما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومه *** بكل مغار الفتل شدّت بيذبل

هذه هي حقيقة المعارضة؛ فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه و طول ليله، و يقال إنّه لم يبتدئ شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصا قوله: «بصدر أراح الليل عازب همّه». و هو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة و العذوبة. إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة،

ص: 356


1- لاحظ ما نسب إليه في تاريخ الطبري، ج 2، ص 498-499، و ص 506.

و حسن التشبيه، و إبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلبا و أعجازا و كلكلا، و شبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضا، و جعل النجوم كأنّها مشدودة بحبال وثيقة، فهي راكدة لا تزول و لا تبرح، و جعل يتمنى تصرّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرّوح، ثم ارتجع ما أعطى و استدرك ما كان قدّمه و أمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف و انجلاء... إلى آخر ما في شعره من النكات.

فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما. لا بمثل ما أتى به هؤلاء المهزّلون، من الاكتفاء بالوزن و الفواصل، من دون نظر إلى المعاني. و هذا هو السائد في كل المعارضات التي نسبت إلى المعارضين.

و للمعارضة صور أخرى ذكرها الخطابي في بيان إعجاز القرآن(1).

مثال آخر

نرى أنّ جريرا يمدح بني تميم و يعرفهم بأنّهم كل الناس، في قوله:

إذا غضبت عليك بنو تميم *** حسبت الناس كلّهم غضابا

و يقول أبو نواس في هذا الصدد:

ليس على اللّه بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد

و قد زاد عليه أبو نواس زيادة رشيقة، و ذلك أنّ جريرا جعل الناس كلّهم بني تميم، و لكنّ أبا نواس جعل العالم كلّهم في واحد. فكان ما قاله أبلغ و أدخل في المدح و الإعظام(2).

إذا ظهرت لك حقيقة المعارضة، فانظر إلى قوله سبحانه: اَلْحَاقَّةُ * مَا اَلْحَاقَّةُ * وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ (3). و قوله سبحانه: اَلْقٰارِعَةُ * مَا اَلْقٰارِعَةُ * وَ مٰا

ص: 357


1- بيان إعجاز القرآن، ص 52-60.
2- لاحظ الطراز، ص 202-203.
3- سورة الحاقة: الآيات 1-3.

أَدْرٰاكَ مَا اَلْقٰارِعَةُ (1) ، ثم ما أتبع قوله هذا بذكر يوم القيامة و بيان أوصافها و عظيم أهوالها بقوله: يَوْمَ يَكُونُ اَلنّٰاسُ كَالْفَرٰاشِ اَلْمَبْثُوثِ * وَ تَكُونُ اَلْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ (2).

فأين هو من قول القائل: «الفيل، ما الفيل، و ما أدراك ما الفيل، له ذنب و بيل، و خرطوم طويل». فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مقدّمة لأمر عظيم الشأن متناه الغاية، فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذّنب و المشفر، و يتصور أنّه تحققت المعارضة، و يا ليته أتبع تلك المقدمة، بما أعطيت هذه البهيمة العجماء من الذهن و الفطنة التي به تفهم سائسها ما تريده، فلعلّه كان أقرب إلى مقصوده!!.

الشك في صحة نسبة هذه المعارضات

و هناك احتمال بأن لا تكون هذه الكلمات قد وضعت ليعارض بها القرآن، و إنّما وضعها أعداء مسيلمة للتفكّه و السّمر، أو وضعت لغاية دينية و هي تأكيد إعجاز القرآن عند ما تقارن هذه المفتريات إلى الآيات الباهرة في الكتاب العزيز.

مع أنّ إعجاز القرآن ليس في حاجة إلى مثل هذا بعد ما سكت فحول البلاغة عن معارضته.

و ممّا يثير الشكّ في كون مسيلمة قائل هذه الجمل التافهة، ما أثر عنه من بعض الكلمات التي هي في البلاغة بمكان عال، كقوله عند ما اجتمع مع سجاح التميمية: «هل لك أن أتزوّجك فآكل بقومي و قومك العرب ؟»(3). فإن هذه الكلمة تدلّ على مكانة الرجل في الفصاحة و جميل التأتي لما يريد. فخيّل لسجاح أنّه سيأكل بقومه و قومها العرب، و هل كانت تقصد سجاح غير هذا؟ و هل كان يقصد من اتبعوها إلاّ أكل العرب و الاستيلاء عليهم ؟ فإذا قارنّا بين كلمته هذه،

ص: 358


1- سورة القارعة: الآيات 1-3.
2- سورة القارعة: الآيتان 4 و 5.
3- تاريخ الطبري، ج 2، ص 499.

و ما عزي إليه من المعارضات، وجدنا فارقا كبيرا بينهما في الأسلوب و الروح.

فهذه الكلمة صادرة عن نفس جادة حازمة تتطلب أمرا عظيما، و أمّا ما نسب إليه فصادر عن نفس ماجنة عابثة، لا تدرك ما وراء هذه المغامرة من المخاطر.

و هناك كلمة أخرى نسبت إليه حين استحرّ القتل في قومه، و أخذتهم سيوف المسلمين من كل مكان، و قد سأله قومه ما وعد به، فقال: «أمّا الدين فلا دين، قاتلوا عن أحسابكم». فأي إيجاز، و أيّ قوة، و أيّ إيحاء و تحميس أقوى من هذا: قاتلوا عن أحسابكم ؟ و المنصف لا يشك في أنّ صاحب هذه الكلمات الموجزة ليس صاحب هذه المعارضات الركيكة المسهبة(1).

2 - طليحة بن خويلد الأسدي

قدم على النبي في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع، فأسلموا. ثم لما رجعوا، تنبّأ طليحة، و عظم أمره بعد أن توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله. و كان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي.

و من كلماته: «إنّ اللّه لا يصنع بتعفير وجوهكم، و قبح أدباركم شيئا.

فاذكروا اللّه قياما، فإنّ الرغوة فوق الصريح»(2). فهو يريد بكلامه هيئة الصلاة من الركوع و السجود، فكانت الصلاة في شرعه قياما.

و منها: «و الحمام و اليمام، و الصّرد الصوام، ليبلغ ملكنا العراق و الشام».

و لو كان الرجل ذا لبّ و عقل، لما عارض القرآن الكريم بهذه الكلمات الساقطة. فانظر كيف حلف على أمر عظيم و هو بلوغ ملك العراق و الشام بهذه الطيور!!.

و ممّا يثير الشك في صحة عزو هذه الجمل الجوفاء إلى طليحة، ما نقله

ص: 359


1- لاحظ مقال الشيخ علي العماري المصري، في «رسالة الإسلام» العدد الثالث من السنة الحادية عشرة.
2- معجم البلدان، كما نقله الرافعي في إعجاز القرآن، ص 199-200.

الطبري(1) عنه، حيث قال: إنّ طليحة وفد على عمر - و كان طليحة قد أسلم - فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة و ثابت - يريد عكاشة بن محصن و ثابت بن أكرم و هما سيدان من سادات المسلمين، و فارسان من فرسانهم - فقال طليحة في جواب عمر: «ما تهمّ من رجلين كرّمهما اللّه بيدي، و لم يهني بأيديهما».

فهناك فرق واضح بين ما عزي إليه من المعارضات، و عبارته أمام عمر، فإن كلمته الأخيرة فيها روح أمكن بها الرجل أن يؤثر على عمر، حيث قال له إن الرجلين ذهبا إلى الجنة، فأكرمهما اللّه على يدي طليحة. و أي شيء أحبّ إلى عمر من أن تكون الجنة نصيب عكاشة و ثابت!.

3 - سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية

إنّ قبيلة بني تغلب كانت راسخة في النصرانية، فادعت سجاح المذكورة، بعد وفاة رسول اللّه، النبوة، فاستجاب لها بعضهم، و ترك التنصّر، و كان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ و اشتدّت شوكة أهل اليمامة، فنهدت له بجمعها فمن قولها المزعوم: «إنّه الوحي، أعدّوا الركاب، و استعدوا للنّهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب». فلما توجهت لحرب مسيلمة قالت: «عليكم باليمامة، و دفّوا دفيف الحمامة، فإنّها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة».

و خافها مسيلمة، ثم اجتمعا و عرض عليها أن يتزوجها، و قال: «هل لك أن أتزوجك، فآكل بقومي و قومك العرب»؟ فأجابت، و انصرفت إلى قومها.

فقالوا: «ما عندك»؟. قالت: «كان على الحق فاتبعته فتزوجته». و لم تدّع قرآنا، و إنّما كانت تزعم أنّه يوحى إليها بما تأمر، و تسجع في ذلك سجعا، كالنّموذجين المتقدمين.

و التاريخ يحكي أنّها أسلمت بعد و حسن إسلامها(2). و في الحقيقة لم تكن نبوتها إلاّ زفافا على مسيلمة، و ما كانت هي إلاّ امرأة!.

ص: 360


1- الطبري، ج 3، ص 239.
2- راجع فيما نقلناه تاريخ الطبري، ج 2، ص 496-500.
4 - الأسود العنسي

كان رجلا فصيحا معروفا بالكهانة، و السجع، و الخطابة، و الشعر، و النسب. و قد تنبّأ على عهد النبي و خرج باليمن و هو ممن أراد أن يحذو حذو نبينا الأمين، لكن بتسجيع الكلم وحده. فأراد أن يباري سورة الأعلى فقال:

«سبّح اسم ربّك الأعلى، الذي يسرّ على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين أضلاع وحشى، فمنهم من يموت و يدسّ في الثرى، و منهم من يعيش و يبقى». و هي - كما ترى - صفر من الحكمة العالية، إلاّ الجملة الأولى.

فقد جاء هؤلاء إلى حلبة المعارضة لأنّهم كانوا بمكان من الانحطاط الفكري و الأخلاقي، و أمّا المحنكون ذوو الضمائر الحرّة من العرب فلم ينزلوا إلى ميدان المعارضة لوقوفهم على أنها تبوء بالفشل، و حفظوا كرامتهم من التسرع إلى حركات صبيانية.

و أمّا هؤلاء فهمّوا أن يعارضوا القرآن، فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون مجادلات مضحكة مخجلة، أخجلتها أمام الجماهير و أضحكت الجماهير منهم، فباءوا بغضب من اللّه و سخط من الناس، فكان مصرعهم هذا، كسبا جديدا للحقّ ، و رهانا آخر على أنّ القرآن كلام اللّه القادر وحده، لا يستطيع معارضته إنس و لا جان، و من ارتاب فأمامه الميدان.

هؤلاء هم الذين حاولوا معارضة القرآن من القدماء، الذين عاصروا النبي أو عاشوا بعده برهة من الزمن، و لم يكن ما أتوا به إلاّ سقطات من الكلم أو الفاظا جوفاء، أو أسجاعا سخيفة. و هناك رجالات آخرون رموا بأنّهم عارضوا القرآن الكريم، و هم في الثقافة و الأدب بمكان عال، غير أنا نشك في صحة نسبة المعارضة إليهم، و إنّما رموا بها إمّا لكونهم من الملاحدة المعروفين كعبد اللّه بن المقفع، أو من الشخصيات البارزة التي يحسدها أعداؤها فأوقعوها بافتراءات الزندقة، ثم معارضة القرآن الكريم، فمنهم:

ص: 361

رجالات آخرون رموا بأنّهم عارضوا القرآن الكريم
1 - عبد اللّه بن المقفّع (م 145 ه)

عبد اللّه بن المقفع أحد الأدباء في القرن الثاني، كان مجوسيا و أسلم، و تضلّع في اللغتين العربية و الفارسية، و قام بترجمة بعضها إلى اللغة العربية، مثل كتاب «كليلة و دمنة». و الرجل مع أنّه رمي بالإلحاد، قد صرّح بإسلامه في مقدمة ترجمته، و قد قتل حرقا في التنور عام 145 ه لإفساده عقائد الناس. و على كل تقدير، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بتأليف كتاب الدّرة اليتيمة، و لكن لم يعلم إلى الآن أنّ الرجل قام بتأليف ذلك الكتاب لأجل هذه الغاية، و ليس فيه ما يصدّق ذلك، و الكتاب مطبوع منشور في عدّة طبعات.

2 - أحمد بن الحسين المتنبي (ت 303 - م 354)

من الشعراء البارزين الذين ربما يحتجّ أو يستشهد بكلامهم، و له ديوان كبير اعتنى به الأدباء بالشرح و التعليق، والده كوفي، ولد في بيت الإسلام، و لكن قيل إنّه تنبّأ عام 320 و له من العمر سبعة عشر عاما.

و نسب إليه أنّه تلا على أهل البادية كلاما زعم أنّه قرآن أنزل عليه، يحكون منه سورا. قال علي بن حامد: نسخت واحدة منها، فضاعت مني، و بقي في حفظي من أولها: «و النجم السيّار، و الفلك الدّوّار، و الليل و النّهار، إنّ الكافر لفي أخطار، امض على سنّتك، واقف أثر من قبلك من المرسلين، فإنّ اللّه قامع بك زيغ من ألحد في دينه و ضلّ عن سبيله»، هذا.

و لو كان للرجل سور كثيرة يحاول بها المعارضة، لحفظها التاريخ و لو ازدراء عليه، مع أنّه لم ينقل عنه إلاّ هذه الجمل(1).

و ما بقي من أشعاره تعرب عن أنانية الرجل و أنّه يرى نفسه مقدّما في كل شيء، كما يظهر من قوله:

الخيل و الليل و البيداء تعرفني *** و السيف و الرّمح و القرطاس و القلم

ص: 362


1- إعجاز القرآن للرافعي، ص 208.

و قد اكتسب شهرة في الأدب و الشعر، كما نال بذلك أعداء حاقدين، و من المحتمل أنّه عزي إليه التنبؤ و معارضة القرآن الكريم من جانب أعدائه.

و قد قتل عام (354)، و لم يكن قتله إلاّ لهجوه رجلا يسمّى ضبّة.

3 - أبو العلاء المعرّي (ت 363 - م 449)

أحمد بن عبد اللّه من معرّة النعمان، أحد الأدباء الفحول، و الشعراء البارزين، و بما أنّه كان أعمى، و كان حليف بيته في أخريات عمره، كان يسمّي نفسه رهين المحبسين، و قد كان معاصرا للسيد المرتضى، و كان بينهما مساجلات و مناظرات.

و مع ذلك لما سئل عن فضل السيد و كماله، أجاب بالبيتين التاليين:

يا سائلي عنه لما جئت تسأله *** ألا هو الرجل العاري من العار

لو جئته لرأيت الناس في رجل *** و الدّهر في ساعة و الأرض في دار

و مات و لم يتزوج و لم يعقّب، و أوصى أن يكتب على صخرة قبره:

هذا جناة أبي ع *** لي و ما جنيت على أحد

و قد اختلف المؤرخون في إيمانه و كفره، فهناك من الناس من يرمونه بالكفر كياقوت الحموي، و الذّهبي، و سعد الدين التفتازاني، و معاصره الخطيب البغدادي. و الأشعار التي عزيت إليه تدلّ على انحرافه عن الإسلام.

و هناك من ذهب إلى خلاف ذلك منهم كمال الدين عمر بن أحمد بن عديم الحلّي، المتوفى عام 660، ألّف كتابا باسم «الإنصاف و التحري في دفع الظلم و التجرّي عن أبي العلاء المعرّي». و قد طبعت خلاصته في تاريخ حلب، فطرح دلائل المتخاصمين في المعري، ثم قضى بينهم على نهج أدى به إلى الحكم بكونه رجلا غير منحرف عن الإسلام. و ممّا قال فيه: «إنّ سائر ما في ديوانه من الأشعار الموهمة، فهي إمّا مكذوبة عليه أو هي مؤولة»(1).

ص: 363


1- تاريخ حلب، ج 4، ص 77-180.

و ممّا يؤيّد قول ابن عديم، ما ذكره ياقوت من أنّ المعرّي كان يرمى من أهل الحسد له، بالتعطيل، و تعلّم تلامذته و غيرهم على لسانه الأشعار. يضمنونها أقاويل الملاحدة.

و الذي يمكن أن يقال إنّ بعض شعره يدلّ على سوء عقيدته، غير أنّ قيام الرجل بمعارضة القرآن، موضع شكّ و ترديد، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بكتاب أسماه: «الفصول و الغايات في مجاراة السور و الآيات»، و قد نشرت بعض فصوله.

و ممّا يورث الشكّ في كون الهدف من تأليف هذا الكتاب هو المعارضة، ما ذكره هو نفسه في مقدمته، قال: «علم ربّنا ما علم، أنّي ألّفت الكلم، آمل رضاه المسلّم، و اتّقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ رضاك من الكلم، و المعاني الغراب»(1).

على أنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد شكّ في صحّة نسبة هذا الكتاب إليه، في قوله: «و قد خيّل إلى بعضهم - إن كانت الحكاية صحيحة - شيء من هذا (و هو كون التحدّي إلى فصول الكلام بأن يكون لها أواخر أشباه القوافي)، حتى وضع على ما زعموا «فصول الكلام»، أواخرها كأواخر الآي، مثل:

«يعملون»، و «يؤمنون»، و أشباه ذلك»(2).

كما نسبت إليه الجمل التالية:

«أقسم بخالق الخيل، و الريح الهابّة بليل، بين الشرط مطلع سهيل، إنّ الكافر لطويل الويل، و إن العمر لمكفوف الذيل، تعدّى مدارج السيل، و طالع التوبة من قبيل، تنج و ما أخالك بناج».

و الذي يعرب عن كون هذه الجمل مفتريات على الرجل ما نقل عنه في كتابه «الغفران»، قال - ردا على ابن الراوندي -: «و أجمع ملحد و مهتدي، و ناكب

ص: 364


1- الفصول و الغايات، ص 62.
2- دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، ص 297، ط المنار.

عن المحجة و مقتدي، أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز، و لقي عدوه بالأرجاز، ما هذا على مثال، و لا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، و لا في الرجز من سهل و حزون، و لا شاكل خطابة العرب، و لا سجع الكهنة ذوي الإرب... و إنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، و الزهرة البادية في جدوب ذات نسق، فتبارك اللّه أحسن الخالقين»(1).

هذا، و إن أكثر من ينسب المعارضات إلى أبي العلاء، يستند إلى ما كتبه ياقوت عنه. و يبدو للإنسان من مطالعة ما كتبه، أنّه متحامل على أبي العلاء، و يكفي في ذلك قوله: «كان المعرّى حمارا لا يفقه شيئا»!. و هذه عبارة لا يقولها إلاّ أشدّ الخصوم و المتعصبين على الرجل.

ص: 365


1- رسالة الغفران، ص 263.

ص: 366

الأمر الرابع الشواهد الدّالة على كونه كتابا سماويا
اشارة

قد تعرفت على الإعجاز البياني للقرآن الكريم و أنّه بفصاحته و بلاغته و نظمه و أسلوبه، تحدّى البشر، و أعجز أرباب النّهى، و قادة الكلام و البيان. فمن كان عربيا صميما، عارفا بأساليب الكلام، واقفا على خصوصيات اللغة، لا يتردد في كونه معجزا. و من لم يبلغ تلك المرتبة، أو لم يكن له إلمام بخصوصيات هذه اللغة، فعليه الرجوع إلى أهل الخبرة و المعرفة، حتى يقف على كونه معجزا.

غير أنّ حكمته سبحانه اقتضت أن يتم الحجّة على البشر أجمعين، عربيّهم و عجميّهم، و ذلك من طريق آخر غير الإعجاز البلاغي، فحضه سبحانه بقرائن و فيرة موجودة في نفس هذا الكتاب، و فيمن جاء به. و لو تدارس محايد هذا الكتاب، مجتنبا كل رأي مسبق، لوقف على أنّه من الممتنع أن يقوم بتأليف هذا الكتاب إنسان عادي، ليس له صلة بعالم الغيب، و هذا ما نبتغيه في هذا المقام، ذاكرين كلّ شاهد تحت عنوان خاص.

ص: 367

شواهد إعجاز القرآن
(1) أمّيّة حامل الرسالة

لم يختلف اثنان من الأمّة الإسلامية في أنّ النبيّ كان أمّيّا لا يحسن القراءة و الكتابة قبل بزوغ فجر دعوته، و صحائف حياته أوضح دليل على ذلك، فلم يدخل مدرسة، و لم يحضر على أحد للدراسة و تعلّم الكتابة، بل كان ربيب البادية، بعيدا عن حضائر الفنون، نائيا أيّ نأي عن محاضر الحكماء، و مجالس العلماء. بل ليس شيء في تاريخ النبي أوضح من أمّيّته.

و لم يكن هو فقط مختصا بهذا الوصف، بل كان علية القوم و السواد الأعظم في أمّ القرى و حولها، محرومين من هذا الكمال، و لأجل ذلك يصفهم القرآن بالأميين، في قوله سبحانه:

هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ ، وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ ، وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (1) .

كما يصف حال النبي بالنسبة إلى القراءة، و الكتابة بقوله: وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ (2).

و بالرغم من مغالطة قساوسة الغرب و المستغربة، و تشبثاتهم بمراسيل عن

ص: 368


1- سورة الجمعة: الآية 2.
2- سورة العنكبوت: الآية 48.

مجاهيل، و انتحالات الملاحدة في هذا الأمر، فإنّ أميّة النبي و قومه تموج بالشواهد الواضحة من الكتاب و التاريخ و الحديث(1).

لقد جاء قومه بهذا القرآن و بلاده آنذاك جرداء بلا مراء، كبعض القرى الوحشية، ببطنان بوادي إفريقيا، و خلو من وسائل العلم و العمران، و أهلوها البسطاء صفر الأكف من وسائل الرقي و الحضارة.

و كان الحجازيون من العرب ترتكز دائرة معارفهم، في أسواق عكاظ و مواسم الحجيج و النوادي، على الأمور التالية:

1 - أنساب القبائل و الخيل.

2 - القصائد و الأشعار في التهاني و المراثي، و الحماسة و الإغارة.

3 - علم القيافة(2).

4 - علم العيافة(3).

5 - علم الفراسة(4).

6 - علم الزجر(5).

7 - علم الرّيافة(6).

8 - تأويل الأطياف.

9 - أنواء النجوم و أسماء الكواكب، و الظواهر الجوية.

10 - الطب، و كان لا يتجاوز الكي و الميسم و عقاقير الحشائش.

ص: 369


1- و من أراد الوقوف على دلائله الساطعة و نقد تسويلات المستشرقين، فليرجع إلى «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 321-374.
2- علم القيافة: هو علم باحث عن تتبع آثار الأقدام و الأخفاف و الحوافر.
3- علم العيافة: هو علم زجر الطير ليتفأّل من كيفية طيرانها و جهته أو يتشأم. و هي مأخوذة من عاف الطير عيفا بمعنى استدارت و حامت حول الشيء. و النسور العوائف: التي تعيف على القتلى و تتردد.
4- علم الفراسة: هو علم الاستدلال بهيئة الإنسان و شكله و لونه و أقواله، على أخلاقه.
5- علم الزجر: هو علم الاستدلال بأصوات الحيوانات و حركاتها و سائر أحوالها، على الحوادث.
6- علم الريافة: هو علم استنباط وجود الماء في الأرض بشمّ التراب، أو برائحة بعض النباتات فيها، أو بحركة حيوان مخصوص.

11 - الموسيقى، و كانت لا تتجاوز حدّي الإبل.

12 - سحر النفّاثات.

13 - الكهانة و العرافة(1).

14 - الصنائع البدائية، و لا تتجاوز صنع السهام و الأقواس و الرماح و الجنان.

فهذا مبلغهم من العلم و الكمال. و أين هو ممّا جاء في القرآن الكريم في مجال العقائد و المعارف و التشريع العادل، و نظام المدنية و الأخلاق الفاضلة، و الأخبار الغيبية، إلى غير ذلك ممّا سيمرّ عليك من فنون المعارف.

فمن لاحظ هذا المعهد البسيط، يذعن بأنّ من الممتنع أن يخرج من هذا الحقل القاحل، شخصية فذّة كشخصية النبي، و كتاب مثل كتابه، إلاّ أن يكون له صلة بقدرة عظيمة مهيمنة على الكون.

و هذا أحد الشواهد الدالّة على أنّ الكتاب ليس من صنع النبي، بل هو كتاب سماوي، و إذا ضمّت إليه الشواهد الأخر الآتية تتجلى هذه الحقيقة بأوضح تجلّياتها.

***

ص: 370


1- الكهانة: ادّعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض، و الأصل فيها التلقّي من الجن.

شواهد إعجاز القرآن

(2) عدم الاختلاف في الأسلوب

إنّ القرآن الكريم نزل نجوما في مدّة تقرب من ثلاث و عشرين سنة(1)، في فترات مختلفة و أحوال متفاوتة من ليل و نهار، و حضر و سفر، و حرب و سلم، و ضرّاء و سرّاء، و شدّة و رخاء، و من المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثّر في الفكر و التعقّل و في قرائح قادة الكلام، و أصحاب البلاغة، فربما يقدر البليغ على إلقاء خطابة بليغة في حالة، و لا يقدر عليها في أخرى. أو الشاعر المفلق يجود بقريض معجب في ظروف روحيّة خاصة، يعجز عنه في أخرى. و ذلك أمر ملموس لمن مارس إلقاء الخطب و نظم القريض.

و لكن القرآن جاء على خلاف هذه القاعدة، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة. كما أنّ الأسلوب في جميع السور النازلة في هذه المدة المديدة، واحد. «فسورة العلق» التي هي أوّل سورة نزلت على النبي، نظير سورة «النصر» التي نزلت عليه في أخريات أيامه، في الأسلوب و البيان، من دون أن يكون هناك اختلاف بينهما.

ص: 371


1- قد تضافرت الآيات على أنّ القرآن نزل نجوما، و كان هذا أحد الإشكالات التي وجهها الكفّار و المشركون إلى النبي صلى اللّه عليه و آله، فقد كانوا يطلبون منه أن يأتي بكتاب مجموع مدوّن مرة واحدة، و هذا ما يحكيه سبحانه مجيبا عنه في قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً ، كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً (الفرقان: الآية 32).

إنّ السور المكية التي تتراوح بين ثلاث و ثمانين، و خمس و ثمانين سورة، نزلت كلّها في ظروف قاسية كانت الرهبة فيها حليف صاحب الرسالة، و كان الاستضعاف مسيطرا على المؤمنين به، و مع ذلك فهي لا تتفاوت في بداعة الأسلوب، و روعة النظم، و كمال الفصاحة و البلاغة، مع السور المدنية التي نزلت في ظروف هادئة كان الأمن و الهدوء مستتبين فيها. فلم يكن لتلك الأحوال القاسية، و لا لهذه الظروف الهادئة، تأثير في فصاحة القرآن و بلاغته، و روعة نظمه، و بداعة أسلوبه، فجاء الكلّ على نمط معجز لا يدرك شأوه، و لا يشقّ غباره.

فهذا يدلّ على أنّ هذا الكتاب، ليس وليد قريحة النبي و نتاج ذهنه و تفكّره، و إلاّ لكثر فيه الاختلاف و تفاوت في نظمه و بلاغته، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، و بعضه قاصرا عنه.

***

ص: 372

شواهد إعجاز القرآن

(3) عدم الاختلاف في المضمون

قد عرفت في القرينة السابقة أنّ المعجزة الخالدة نزلت على النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، طيلة أعوام مختلفة من حيث الشدّة و الرخاء، و الرغبة و الرهبة، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ الإنسان جبل على التكامل، فهو يرى نفسه في كل يوم أعقل من سابقه، و أنّ ما أتى به من عمل، أو اخترعه من صنعه، أو دبّره من رأي، أو أبدعه من نظر، يراه ناقصا مفتقرا إلى الإصلاح و التجديد. و هناك كلمة قيمة للكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد اللّه محمد بن حامد الأصبهاني (ت 597)، يقول فيها: «إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلاّ قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن، و لو زيد كذا لكان يستحسن، و لو قدّم هذا لكان أفضل، و لو ترك هذا لكان أجمل. و هذا من أعظم العبر، و هو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».

و هذا في الكاتب الصادق، و أمّا الكاتب الذي يبني أمره على الكذب و الافتراء في أنظاره و آرائه و أحكامه و إخباراته، فلا يمكن أن يتخلص عن التناقض و الاختلاف، و لا سيما إذا تعرّض لكثير من الأمور المهمة في مجال العقائد و التشريعات و النّظم الاجتماعية و الأخلاقية التي تتطلب لنفسها تبنّي أدقّ القواعد و أحكم الأسس، و لا سيما إذا طالت على ذلك المفترى أيام، و مرّت عليه عقود،

ص: 373

فإنّه سيرتبك و يقع في التناقض و التهافت من حيث لا يريد، و قد قيل قديما: «لا ذاكرة لكذوب».

و إنّا نرى العالم النابغ في علم معين، يؤلّف الكتاب و يستعين عليه بالباحثين، ثم يطيل التأمّل فيه و ينقّحه و يطبعه، فلا تمرّ سنوات قليلة إلاّ و يظهر له الخطأ و الاختلاف، فلا يعيد طبعه إلاّ بعد أن يغيّر منه و يصحح ما شاء.

و إنّ هذا القرآن قد تعرّض لمختلف الشئون، و توسّع فيها أحسن التوسّع، فبحث في الإلهيات و النبوات و سياسة المدن و نظم المجتمع، و قواعد الأخلاق، و قوانين السلم و الحرب، كما وصف الموجودات السماوية و الأرضية، من شمس و قمر و كواكب و رياح، و بحار و نبات، و حيوان و إنسان، و وصف أهوال القيامة و مشاهدها. و مع ذلك لا تجد فيه تناقضا و اختلافا، أو شيئا متباعدا عند العقل و العقلاء.

و العجب أنّه ربما يستعرض حادثة واحدة، فيطرحها مرتين أو مرّات، كقصة الكليم، و المسيح، و مع ذلك لا تجد فيها اختلافا في الجوهر.

و الحاصل أنّ الكتاب الذي يستعرض جميع الشئون المرتبطة بالإنسانية، كمعرفة المبدأ و المعاد و الفضائل الأخلاقية و القوانين الاجتماعية و الفردية، و القصص و العبر، و المواعظ و الأمثال، و ينزل في مدّة تعدل ثلاثا و عشرين سنة، على اختلاف الأحوال و الظروف و مع ذلك لا تجد في معارفه العالية، و حكمه السامية، و قوانينه الاجتماعية و الفردية، تناقضا و لا اختلافا، بل ينعطف آخره على أوله، و ترجع تفاصيله و فروعه إلى أصوله و عروقه.

إنّ مثل هذا الكتاب، يقضي الشعور الحي في حقّه أنّ المتكلم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيام و يتأثّر بالظروف و الأحوال، بل هو اللّه الواحد القهار.

و لعلّ قوله سبحانه: أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ ، وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً (1)، ناظر إلى كلتا القرينتين، و يبين أنّ مقتضى الطبع

ص: 374


1- سورة النساء: الآية 82.

الإنساني الناقص إذا خلا من التسديد، العجز عن الإتيان بكتاب على سبك واحد، و مضمون يؤكّد بعضه بعضا، فكيف إذا كان يعتمد في ادّعائه على الكذب و الافتراء، فإنّ هذا سيكون وجها آخر لوقوعه في التهافت و التناقض.

و العرب أحسّوا بالاستقامة في أسلوب القرآن، و مرور الزمن قد أثبت عدم التناقض و التهافت في ما يدعو إليه.

و أمّا «كثيرا» في قوله سبحانه: اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً ، فهو وصف توضيحي لا احترازي، و المعنى: لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا، و كان ذلك الاختلاف كثيرا على حدّ الاختلاف الكثير الذي يوجد في كل ما هو من عند غير اللّه. و لا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير(1).

***

ص: 375


1- لاحظ الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 7.

شواهد إعجاز القرآن

(4) هيمنة القرآن على الكتب السماوية
اشارة

بعث النبي الأكرم و تحدّى بالقرآن المجيد، و لما أعجز فصحاء العرب و بلغاءهم في المعارضة، وجّهوا إليه سهام التهم. فكان ممّا ألصقوه بكرامة كتابه أنّه ليس سوى أساطير الأوّلين تملى عليه بكرة و أصيلا(1).

و ربما يتهمون النبي بأنّه يأخذه من بشر، كما يحكيه سبحانه بقوله: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمٰا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ (2).

قال في الكشاف: «أراد بالبشر غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم و حسن إسلامه، اسمه عائش أو يعيش، و كان صاحب كتب. و قيل هو «جبر» غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي، و قيل عبدان «جبر» و «يسار»، كانا يصنعان السيوف بمكة و يقرآن التوراة و الإنجيل، و قيل هو سلمان الفارسي»(3).

ص: 376


1- اقتباس من قوله سبحانه: وَ قٰالُوا أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهٰا، فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (الفرقان: الآية 5) و فسّر في الكشاف قوله ب اِكْتَتَبَهٰا بمعنى اكتتبها لنفسه، فكأنّ التاء للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه.
2- سورة النحل: الآية 103.
3- تفسير الكشاف، ج 3، ص 218.

و على كل تقدير، كان العدو يتهم النبي بأنّه أخذ ما جاء به، من الكتب السماوية الماضية.

فعلى ذلك، من الجدير أن نقارن بين القرآن، و سائر الكتب السماوية المتقدمة عليه، حتى يتّضح مدى الاختلاف بينهما. و هذه المقارنة من أحدث المناهج التطبيقية التي تفيد علما بأنّ النبي الأكرم لم يعتمد فيما جاء به على هذه الكتب. و لنركز على ما جاء به العهدان في مجال الأنبياء، فنذكر ما جاء به القرآن أوّلا، ثم نتبعه بما جاء فيهما.

و قبل الخوض في المقصود نذكر بأمرين:

الأول - إنّ الذكر الحكيم يعترف بعظمة التوراة و حجيتها، و أنّها كتاب سماوي مثل القرآن، و أنّه يجب على كل مسلم أن لا يفرّق بين نبيّ و آخر، و لا يفرق بين كتبهم، يقول سبحانه: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاٰ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا غُفْرٰانَكَ رَبَّنٰا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ (1).

إنّ القرآن يصف التوراة في آياته، بقوله:

إِنّٰا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُدىً وَ نُورٌ (2) .

وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ اَللّٰهِ (3) .

كما يصف الإنجيل بقول: وَ آتَيْنٰاهُ اَلْإِنْجِيلَ ، فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ (4).

و يصفهما معا، بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقٰامُوا اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ ، وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (5).

ص: 377


1- سورة البقرة: الآية 285.
2- سورة المائدة: الآية 44.
3- سورة المائدة: الآية 43.
4- سورة المائدة: الآية 46.
5- سورة المائدة: الآية 66.

و على ضوء ذلك، فهذه الكتب السماوية كلّها نور و هداية، غير أنّه في مواضع أخرى يندد بعلماء اليهود و النصارى متهما إيّاهم بأنّهم حرّفوا كتبهم و دسّوا فيها ما ليس من اللّه، و كتموا آيات اللّه تبارك و تعالى.

يقول سبحانه: مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ (1).

و يقول: وَ قَدْ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مٰا عَقَلُوهُ (2).

و يقول: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ اَلْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي اَلْكِتٰابِ ، أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّٰعِنُونَ (3).

و في ضوء هذه الآيات يقف الباحث على أنّ سهم الاعتراض في هذا المجال ليس متوجها إلى الكتب الصحيحة السماوية، بل إلى المحرّف منها، الذي هو نتيجة تكالب الأحبار و الرهبان على الدنيا، و تغيير حكم اللّه طلبا لمرضاة الحكّام، و أصحاب الأموال.

و بما أنّ الموجود في زمن النبي، و الدارج عند نزول القرآن، هو الكتب المحرّفة لا الأصلية، فالبحث المقارن يثبت، أنّ النبي لم يعتمد على شيء من هذه الكتب، فيما يسرد من القصص و الأحكام، أو ما يبيّن من المعارف و العقائد، و إلاّ يجب أن تظهر فيه سمات الأخذ و التقليد. و لا يصحّ لأحد أن يحتمل أنّ النبي اطّلع على الصحيح من هذه الكتب، و ذلك لأنّ الأمة العربية كانت أميّة، غير واقفة على هذه الكتب، و لا متدارسة لها، و كانت إنّما توجد هذه الكتب عند الأحبار و الرهبان، و أولئك لم يكن في أيديهم إلاّ ما تطرّق إليه التحريف و الدسّ طيلة قرون.

الثاني: قد اخترنا في مجال المقارنة، موضوع الأنبياء، و ذلك لأنّ هذا

ص: 378


1- سورة النساء: الآية 46.
2- سورة البقرة: الآية 75.
3- سورة البقرة: الآية 159.

المجال من أبرز ما يفترق فيه القرآن عن العهدين. و الأنبياء هم رجال الوحي و الهداية، و رجال الإصلاح و التربية، قاموا بخدمة النوع الإنسانى، و لاقوا من المصائب و المتاعب الكثير في سبيل دعوتهم، فيصفهم سبحانه في القرآن بقوله:

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ (1) .

و بقوله: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (2).

إذا عرفت ذلك فلنبدأ بالمقارنة، و نكتفي بالأنبياء العظام: آدم، و نوح، و إبراهيم، و لوط، و يعقوب، و داود، و سليمان، و المسيح، عليهم السلام.

و بعد المقارنة يتجلى أنّ القرآن لم يتأثر في تقييمهم و توصيفهم بفضائل الأخلاق، بالعهدين الّذين يصفان رجال الوحى برذائل الأوصاف و سيئات الأعمال، كما سترى. نعوذ باللّه من سوء الظن برجالات الوحي و الهداية.

***

1 - آدم في القرآن و التوراة

يقول سبحانه في خلق الإنسان: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ * قٰالَ يٰا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ ، فَلَمّٰا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كٰانَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ * وَ قُلْنٰا يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا، وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطٰانُ عَنْهٰا فَأَخْرَجَهُمٰا مِمّٰا كٰانٰا فِيهِ ، وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَ لَكُمْ فِي

ص: 379


1- سورة ص: الآية 48.
2- سورة آل عمران: الآية 33.

اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ * فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ (1) .

هذه هي قصة أول الخليقة، و تلك مكانته عند اللّه سبحانه، و ذلك سجود الملائكة إجلالا لمقامه، و تكريما له، و هذا علم آدم بالأسماء و حقائق الأشياء، و أنّ الشيطان وسوس إليه، فأزلّه، فأكل من الشجرة الممنوعة، فكانت النتيجة هبوطه إلى الأرض.

أمّا التوراة، فتذكر في الأصحاحين الثاني و الثالث من سفر التكوين قصة آدم و حواء فتقول في الأصحاح الثاني:

«و أخذ الرّب الإله، آدم، و وضعه في جنّة عدن ليعملها و يحفظها * و أوصى الرّب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا * و أما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكل منها تموت موتا». ثم بعد أن تروي خلقة حوّاء من ضلع آدم، تقول:

«و كانا كلاهما عريانين - آدم و امرأته - و هما لا يخجلان»(2).

ثم جاء في الأصحاح الثالث: «و كانت الحية أحيل جميع حيوانات البريّة التي عملها الرب الإله. فقالت للمرأة: أ حقا قال اللّه لا تأكلا من كلّ شجر الجنة * فقالت المرأة للحيّة: من ثمر الجنة نأكل * و أمّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال اللّه لا تأكلا منه و لا تمسّاه لئلا تموتا * فقالت الحيّة للمرأة: لن تموتا * بل اللّه عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، و تكونان كاللّه عارفين الخير و الشّرّ * فرأت المرأة أنّ الشجرة جيدة للأكل، و أنّها بهجة للعيون، و أنّ الشجرة شهيّة للنظر، فأخذت من ثمرها، و أكلت، و أعطت رجلها أيضا معها فأكل * فانفتحت أعينهما و علما أنّهما عريانان، فخاطا أوراق تين و صنعا لأنفسهما مآزر».

«و سمعا صوت الرّب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ

ص: 380


1- سورة البقرة: الآيات 31-37.
2- لأنّهما لم يكونا يدركان بعد الخير و الشر.

آدم و امرأته من وجه الرّبّ الإله في وسط شجر الجنة * فنادى الرّبّ الإله آدم و قال له: أين أنت ؟ * فقال سمعت صوتك في الجنة، فخشيت، لأنّي عريان فاختبأت * فقال من أعلمك أنّك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ * فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت».

إلى أن تقول: «و قال الرّبّ الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منّا عارفا الخير و الشر، و الآن لعلّه يمدّ يده و يأخذ من شجرة الحياة أيضا و يأكل و يحيا إلى الأبد * فأخرجه الرّب الإله من جنة ليعمل الأرض التي أخذ منها * و أقام شرقي جنّة عدن، الكروبيم، و لهيب سيف متقلّب، لحراسة طريق شجرة الحياة»(1).

إنّ في هذه الأسطورة، قضايا غريبة تمسّ اللّه جلّ جلاله و تحطّ من كرامة نبيّه، و كلّ واحدة منها إساءة في حدّ ذاتها، و خزي و عار.

أولا - تنسب الكذب إلى اللّه سبحانه كما في قوله: «و أمّا شجرة معرفة الخير و الشرّ، فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكل منها تموت موتا». و الحال أنّها شجرة المعرفة.

ثانيا - تنسب إلى اللّه تعالى أنّه خشي من معارضة آدم إياه، و أن يكون مثله في معرفة الخير و الشر، و الخلود، و لكن آدم نال المقام الأول (المعرفة)، و خشي سبحانه من نيله المقام الثاني (الخلود) فأخرجه.

ثالثا - تصفه سبحانه بالجسمية، إذ تقول: «و سمعا صوت الربّ الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار».

رابعا - تنسب الجهل إلى اللّه سبحانه، و أنّه غير عالم بما يحدث قريبا منه، إذ تقول: «فاختبأ آدم و امرأته من وجه الربّ الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الربّ الإله آدم، و قال له: أين أنت ؟ الخ».

ص: 381


1- لاحظ العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاحين الثاني و الثالث، ص 5-7، طبعه دار الكتاب المقدس.

خامسا - الحيّة (الشيطان) أعطف من اللّه على آدم، كما تقول: «بل اللّه عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما و تكونان كاللّه عارفين الخير و الشر».

سادسا - أنّه سبحانه عاقب الشيطان (الحيّة) من غير ذنب، و أقصى ما ارتكبه هو أنّه علّم آدم و ثقّفه، و نصحه، و أخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة.

سابعا - إنّما أخرج آدم من الجنة لكونه أصبح إنسانا عالما بالخير و الشر، فصار علمه وبالا عليه.

إلى غير ذلك من المخزيات الواردة في هذه القصة.

***

2 - نوح في القرآن و التوراة

إنّ الذكر الحكيم يعظّم شيخ الأنبياء نوحا و يصفه بأنّه «محسن»، و «مؤمن»، و «صالح»، و «شكور»، و مطّلع على المعارف الغيبية.

يقول سبحانه: سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ فِي اَلْعٰالَمِينَ * إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (1).

و يقول سبحانه: إِنَّهُ كٰانَ عَبْداً شَكُوراً (2).

و يقول سبحانه: ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ، كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ (3).

و من أسمى المعارف التي أثرت عن شيخ الأنبياء أنّه كان يعتقد برابطة وثيقة بين عمل المجتمع، الحسن أو القبيح، و الظواهر الطبيعية. و أنّ عمل الإنسان،

ص: 382


1- سورة الصافات: الآيات 79-81.
2- سورة الإسراء: الآية 3.
3- سورة التحريم: الآية 10.

يؤثّر في انفتاح أبواب الخير من نزول المطر، و كثرة الأموال و الأولاد، و جريان الأنهار، و خصب الأرض.

و في هذا المجال يحكي عنه سبحانه قوله: فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً * يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ ، وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (1).

و إنّ القرآن يصفه بالصمود و الثبات أمام أعداء دعوته، صمودا قليل النظير، و يقول حاكيا عنه: قٰالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهٰاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعٰائِي إِلاّٰ فِرٰاراً * وَ إِنِّي كُلَّمٰا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيٰابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْبٰاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهٰاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرٰاراً (2).

و إنّك لترى صحيفة نضرة من صحائف ثباته في دعوته فيما يحكيه سبحانه من صنع سفينته، بقوله: وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمٰا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ، قٰالَ : إِنْ تَسْخَرُوا مِنّٰا، فَإِنّٰا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمٰا تَسْخَرُونَ (3).

و ظلّ شيخ الأنبياء يعيش مع قومه الألداء ألف سنة إلاّ خمسين عاما، حتى جاء أمر اللّه، ففار التنور و غرق من غرق، و نجا من نجا، يقول سبحانه:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفٰانُ وَ هُمْ ظٰالِمُونَ * فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَصْحٰابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنٰاهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ (4) .

هذه صحائف حياته المشرقة الوضّاءة، و في مقابل ذلك نقف على التصوير القاتم الذي تصوّره التوراة لهذا الرجل العظيم، تقول:

«و ابتدأ نوح يكون فلاحا و غرس كرما * و شرب من الخمر فسكر و تعرّى

ص: 383


1- سورة نوح: الآية 10-12.
2- سورة نوح: الآيات 5-9.
3- سورة هود: الآية 38.
4- سورة العنكبوت: الآيتان 14 و 15.

داخل خبائه * فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه و أخبر أخويه خارجا * فأخذ سام و يافث الرّداء و وضعاه على أكتافهما و مشيا إلى الوراء و سترا عورة أبيهما و وجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما * فلمّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير * فقال ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته»(1).

و لا نعلّق على هذا النصّ شيئا، و نحمّل القضاء فيه إلى الباحثين الكرام.

***

3 - إبراهيم في القرآن و التوراة

إنّ قصة إبراهيم في الذكر الحكيم تعرب عن مكانته السامية عند اللّه سبحانه، مكانة لا يصل إليها إلاّ الأمثل من الأنبياء، حيث إنّه سبحانه ذكر له ما يقرب من خمسة عشر وصفا، كل منها يدلّ على عظمته و سمو مكانته عند اللّه فهو: «إمام»، «صالح»، «حنيف»، «مسلم»، «موقن»، «أوّاه»، - «حليم»، «منيب»، «قانت»، «شاكر»، «مؤمن»، «أمّة» بنفسه، «خيّر»، «مصطفى»، و «صاحب قلب سليم».(2).

و هذه السمات بكثرتها و فخامتها، لم ترد في حق نبي آخر.

و أمّا بطولته و ثباته في مقابل الوثنيين، فحدّث عنها و لا حرج، و يكفي في ذلك أنّه دخل معبدهم، فَرٰاغَ إِلىٰ آلِهَتِهِمْ فَقٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ * مٰا لَكُمْ لاٰ تَنْطِقُونَ * فَرٰاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ... (3).

ص: 384


1- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح التاسع، الجملات 20-25، ص 5، ط دار الكتاب المقدّس.
2- لاحظ السور التالية: - البقرة: 124 و 130 - آل عمران: 67. - الأنفال: 65. - التوبة: 114. - هود: 75. - النحل: 120 و 121. - الصافات: 48 و 110. - ص: 47.
3- لاحظ سورة الصافات: الآيات 91 إلى 99.

و أي مقام أكرم و أعظم من إراءته ملكوت السموات و الأرض، كما يقول تعالى: وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ (1).

و أي تفان في جنب اللّه، و طلب مرضاته سبحانه، أقوى من تفانيه باستعداده لتضحية ولده و ذبحه امتثالا لأمره سبحانه(2).

هذا هو إبراهيم، بطل التوحيد، في الذكر الحكيم، فهلم نقرأ صحيفة حياته التي صوّرتها التوراة المحرّفة، بما يندى له الجبين من قراءته و سماعه، تقول:

«و حدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرّب هناك، لأن الجوع في الأرض كان شديدا * و حدث لما قرب أن يدخل مصر أنّه قال لسار أي امرأته:

إني قد علمت أنّك امرأة حسنة المنظر * فيكون إذا رآك المصريون أنّهم يقولون هذه امرأته، فيقتلونني و يستبقونك * قولي إنّك أختي، ليكون لي خير بسببك، و تحيا نفسي من أجلك * فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أنّ المصريين رأوا المرأة أنّها حسنة جدا * و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبراهيم خيرا بسببها، و صار له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و أتن و جمال * فضرب الربّ فرعون و بيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام * فدعا فرعون أبرام و قال: ما هذا الذي صنعت بي، لما ذا لم تخبرني أنّها امرأتك ؟ * لما ذا قلت هي أختي حتى أخذتها إليّ لتكون زوجتي. و الآن هو ذا امرأتك، خذها و اذهب * فأوصى عليه فرعون رجالا فشيّعوه و امرأته و كل ما كان له»(3).

فمغزى هذه الأسطورة أنّ إبراهيم صار سببا لأخذ فرعون سارة، زوجة

ص: 385


1- سورة الأنعام: الآية 75.
2- لاحظ سورة الصافات: الآيات 102 إلى 107.
3- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح الثاني عشر، الجملات 10-20، ص 19، ط دار الكتاب المقدس.

إبراهيم، زوجة له. و حاشا إبراهيم، و هو من أكرم أنبياء اللّه، أن يرتكب ما لا يرتكبه أدنى الناس. و هو و إن فعل ذلك طلبا لنجاة نفسه، لكن أصحاب الغيرة و الشهامة من الرجال يضحّون بأنفسهم دون أعراضهم.

ثم من أين علم إبراهيم أنّه لو عرفها المصريون امرأته يقتلونه، مع أنّ المستقبل لم يصدّق ذلك، و أظهر فرعون رجلا موضوعيا، لا يتجاوز أعراض الناس.

***

4 - لوط في القرآن و التوراة

إنّ لوطا، أحد الأنبياء المعاصرين لإبراهيم المقتفين لشريعته، و كان رجلا صمودا في مجال النهي عن المنكر، يقول سبحانه إِذْ قٰالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ * وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرٰانَ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ * وَ تَذَرُونَ مٰا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عٰادُونَ * قٰالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يٰا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ * قٰالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ اَلْقٰالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمّٰا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّٰ عَجُوزاً فِي اَلْغٰابِرِينَ (1).

و القرآن يذكر لوطا في عداد الأنبياء العظام و يقول: وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً، وَ كلاًّ فَضَّلْنٰا عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (2).

و في آية أخرى يقول: وَ لُوطاً آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبٰائِثَ ، إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فٰاسِقِينَ (3).

فهلمّ نرى ما تذكره التوراة في حقّه تقول:

«و صعد لوط من صوغر و سكن في الجبل و ابنتاه معه، لأنّه خاف أن يسكن

ص: 386


1- سورة الشعراء: الآيات 161-171.
2- سورة الأنعام: الآية 86.
3- سورة الأنبياء: الآية 74.

في صوغر، فسكن في المغارة هو و ابنتاه * و قالت البكر للصغيرة أبونا قد شاخ و ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلّ الأرض * هلمّ نسقي أبانا خمرا و نضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا * فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، و دخلت البكر و اضطجعت مع أبيها، و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها * و حدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة إنّي قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا * فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، و قامت الصغيرة و اضطجعت معه، و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها * فحبلت ابنتا لوط من أبيهما * فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، و هو أبو الموآبيين إلى اليوم * و الصغيرة أيضا ولدت ابنا و دعت اسمه بن عمّي، و هو أبو بني عمّون إلى اليوم»(1).

عجبا و اللّه، أي منطق هذا! و ما قيمة نبيّ لا يفرّق بين الخمر و الماء، و يسكر إلى حدّ يفعل ما ذكرته مع بنتيه. و لو صحت هذه القصة، فالموابيين، و بني عمّون، ينتهي نسبهم إلى الفسق و الفجور، أعاذنا اللّه من الوقيعة في الأنبياء.

و كفى في هذا النصّ دلالة على أنّ القرآن لم يتّخذ من التوراة، لأنّه لم يذكر في حقّ بنات نوح سوءا، و إنّما ندّد بزوجته، كما عرفت.

***

5 - يعقوب في القرآن و التوراة

إنّ يعقوب أحد الأنبياء العظام، يصفه سبحانه بأنّه كان محسنا، و صالحا، و مصطفى، و خيّرا، و بصيرا، و قد جعل النبوة في نسله.

يقول سبحانه: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ

ص: 387


1- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح التاسع عشر، الجملات 30-38، ص 29، ط. دار الكتاب المقدس.

قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ ، وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (1) .

و يقول سبحانه: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ نٰافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا صٰالِحِينَ (2).

و يقول سبحانه: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتٰابَ ... (3).

و يقول سبحانه: وَ اُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ * إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ (4).

و لم يزل يعقوب يكافح الوثنية، و قد أوصى بالتوحيد أولاده في آخريات حياته، كما يقول سبحانه:

إِذْ قٰالَ لِبَنِيهِ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، قٰالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَكَ وَ إِلٰهَ آبٰائِكَ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِلٰهاً وٰاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (5) .

فهلمّ معنا نقف على نصّ التوراة في حقّ هذا النبي العظيم، فهي تعرّفه بأنّه كاذب مخادع، كما تصف أباه بأنّه شارب للخمر.

إنّ إسحاق أراد أن يعطي ابنه «عيسو» بركة النبوة، فخادعه يعقوب و أوهمه أنّه «عيسو»، و قد كان أمر يعقوب «عيسو» أن يصنع طعاما كما يجب، و يأتي به ليأكل حتى يباركه قبل أن يموت. و قد علم بذلك يعقوب، تقول التوراة:

ص: 388


1- سورة الأنعام: الآية 84.
2- سورة الأنبياء: الآية 72.
3- سورة العنكبوت: الآية 27.
4- سورة ص: الآيات 45-47.
5- سورة البقرة: الآية 133.

«فدخل إلى أبيه و قال: يا أبي. فقال: ها أنا ذا، من أنت يا ابني * فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، قد فعلت كما كلّمتني، قم اجلس و كل من صيدي لكي تباركني نفسك * فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا ابني ؟! فقال إنّ الربّ إلهك قد يسّر لي * فقال إسحاق ليعقوب: تقدّم لأجسّك يا ابني، أ أنت هو ابني عيسو أم لا؟ * فتقدّم يعقوب إلى إسحاق أبيه، فجسّه، و قال: الصوت صوت يعقوب، و لكن اليدين يدا عيسو * و لم يعرفه، لأنّ يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه * و قال هل أنت هو ابني عيسو، فقال: أنا هو * فقال: قدّم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي، فقدّم له، فأكل و أحضر له خمرا فشرب!!...» إلى أن تقول:

«و حدث عند ما فرغ إسحاق من بركة يعقوب، و يعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه، أنّ عيسو أخاه أتى من صيده، فصنع هو أطعمة، و دخل بها إلى أبيه، و قال لأبيه: ليقم أبي و يأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك * فقال له إسحاق: أبوه: من أنت ؟ فقال: أنا ابنك بكرك عيسو * فارتعد إسحاق ارتعادا عظيما»... «فقال: قد جاء أخوك بمكر و أخذ بركتك»(1).

6 - داود و سليمان في القرآن و العهدين

يحدّث القرآن عن داود و يصفه بالشجاعة، و أنّه أحد من أعطي الكتاب، و جعل خليفة في الأرض ليحكم بين الناس بالحق، و أنّه أوتي العلم و الحكمة و فصل الخطاب. و قد بلغت عظمته الروحية إلى حدّ أنّه كان عند ما يسبّح، تسبّح الجبال و الطير معه.

كما أنّه يصف ابنه سليمان بالعلم و السيطرة على الفضاء، و إليك بعض الآيات الواردة في هذا المجال.

ص: 389


1- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح السابع و العشرون، لاحظ: الجملات 18-38، ص 42-43، ط دار الكتاب المقدس.

يقول سبحانه: وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ (1).

و يقول سبحانه: وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً (2).

و يقول سبحانه: اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ * إِنّٰا سَخَّرْنَا اَلْجِبٰالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرٰاقِ * وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوّٰابٌ * وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ (3).

و يقول سبحانه: يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ (4).

هذا بعض ما ذكره القرآن في داود، كما يذكر ولده البارّ بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ عِلْماً وَ قٰالاَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي فَضَّلَنٰا عَلىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ * وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ وَ قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ (5).

و إليك ما ينسبه العهد القديم إليهما، ممّا يندى له الجبين:

«و أمّا داود فأقام في أورشليم * و كان في وقت المساء أنّ داود قام عن سريره، و تمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم، و كانت المرأة جميلة المنظر جدا * فأرسل داود و سأل عن المرأة فقال واحد: أ ليست هذه بتشبع بنت أليعام، امرأة أوريا الحثيّ (6) * فأرسل داود رسلا و أخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها و هي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها * و حبلت المرأة فأرسلت و أخبرت داود و قالت: إنّي حبلى».

ثم يستمر في سرد هذه الخرافة، و أنّ داود استدعى زوجها و سأله عن مسار

ص: 390


1- سورة البقرة: الآية 251.
2- سورة النساء: الآية 163.
3- سورة ص: الآيات 17-20.
4- سورة ص: الآية 26.
5- سورة النمل: الآيتان 15-16. و قد اكتفينا بهذا المقدار من الآيات.
6- و هو من قادة جيوشه.

الحرب و وضع الجيوش، و أمره أن يرجع إلى بيته، لكن الزوج لم يرجع بل نام على باب بيت الملك، و لما علم داود بالأمر اعتذر الزوج بأنّه كيف يذهب إلى بيته ليأكل و يشرب و يضطجع مع امرأته و الجيوش نازلة في الصحراء و يهوذا ساكنون في الخيام، و في اليوم التالي أرسل داود رسالة إلى قائد جيشه يأمره فيها أن يجعل هذا الزوج في مقدم الجيوش ليقتل، ففعل ذلك، فقتل.

«فلما سمعت امرأة أوريا أنّه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها * و لما مضت المناحة أرسل داود و ضمّها إلى بيته و صارت امرأة له و ولدت له ابنا، و أمّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرّبّ »(1).

هذا ما يذكره في حقّ الوالد، و أمّا الولد فيعرفه العهد القديم و الإنجيل أيضا بأنّه ابن داود من أوريا هذه(2).

و العجب أنّ الولد اقتفى أثر الوالد في المعاشقة و مغازلة النساء، فانظر إلى ما جاء في «الملوك الأول»:

«و أحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون، موآبيات، و عمّونيات، و أدوميات، و صيدونيات، و حثيات * من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم و هم لا يدخلون إليكم لأنّهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة * و كان له سبع مائة من النساء السيدات، و ثلاث مائة من السراري، فأمالت النساء قلبه * و كان في زمان شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، و لم يكن قلبه كاملا مع الربّ إلهه كقلب داود أبيه * فذهب سليمان وراء عشتروت إلاهة الصيدونيين، و ملكوم رجس العمونيين * و عمل سليمان الشرّ في عيني الرب و لم يتبع الرب تماما كداود أبيه * حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي

ص: 391


1- لاحظ: العهد القديم، صموئيل الثاني، الأصحاح الحادي عشر، ص 497-499، ط دار الكتاب المقدس.
2- العهد القديم، صموئيل الثاني، الأصحاح الثاني عشر، الجملة 24، ص 501. و إنجيل متى، الأصحاح الأول، الجملة السادسة، ص 2، ط دار الكتاب المقدس.

تجاه أورشليم و لمولك رجس بني عمّون * و هكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي يوقدن و يذبحن لآلهتهن * فغضب الربّ على سليمان...». و هكذا يتابع نقل غضب الرب عليه ثم تهديده إيّاه بتمزيق مملكته(1).

هب أنّ النبي لا يلزم أن يكون معصوما - مع أنّ الأدلّة العقلية قائمة على لزوم عصمته - فهل يجوز في حكم العقل أن يعبد الأصنام و يبني لها المرتفعات، ثم يكون داعية للناس إلى التوحيد و عبادة اللّه ؟!.

7 - المسيح في القرآن و الإنجيل

إنّ المسيح المبشّر بالنبي الأعظم، من الأنبياء العظام، وصفه سبحانه بقوله:

إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ (2) .

و بقوله: وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ ، وَ أَيَّدْنٰاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ (3).

و قد بلغت عناية اللّه تعالى به أن أقدره على التكلّم و هو في المهد صبيا، يقول سبحانه: تُكَلِّمُ اَلنّٰاسَ فِي اَلْمَهْدِ (4).

و ممّا نلفت النظر إليه أنّه سبحانه ينقل عنه قوله: وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا (5).

ص: 392


1- العهد القديم، الملوك الأول، الأصحاح الحادي عشر، الجملات 1-13، ص 553-554. ط دار الكتاب المقدس.
2- سورة النساء: الآية 171.
3- سورة البقرة: الآية 87.
4- سورة المائدة: الآية 110.
5- سورة مريم: الآيتان 31 و 32.

فاتل هذه الآية و تأمّل فيما أوصاه اللّه سبحانه من البرّ بوالدته، ثم قارن ذلك بما ينقله عنه الإنجيل من ترك إكرامه لوالدته، يقول الإنجيل:

«فجاءت حينئذ إخوته و أمّه و وقفوا خارجا و أرسلوا إليه يدعونه * و كان الجمع جالسا حوله فقالوا له هوذا أمّك و إخوتك خارجا يطلبونك * فأجابهم قائلا: من أمّي و إخوتي ؟ * ثم نظر حوله إلى الجالسين و قال: ها أمي و إخوتي، لأنّ من يصنع مشيئة اللّه هو أخي و أختي و أمّي»(1).

فأين المسيح الذي ينكر أمّه القديسة البارّة، و يحرمها رؤيته، و يعرّض بقداستها، و يفضّل تلاميذه عليها، من المسيح الذي عرّفه القرآن بقوله:

وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي ، مع أنّ هؤلاء التلاميذ هم الذين تركوه، و وصفهم المسيح بقوله: «ما بالكم خائفين هكذا، كيف إيمان لكم»(2).

المسيح يحول الماء خمرا ليشرب الناس

إنّ الخمر إحدى الخبائث التي حرّمها اللّه سبحانه في الشرائع السماوية، من غير فرق بين شريعة و أخرى، و ها هو سفر اللاويين، من العهد القديم يقول:

«و كلّم اللّه هارون قائلا، خمرا و مسكرا لا تشرب أنت و بنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع، لكيلا تموتوا، فرضا دهريا في أجيالكم، و للتمييز بين المقدّس و المحلّل، و بين النجس و الطاهر»(3).

و مع ذلك فالمسيح يصنع للمحتفلين بالعرس خمرا ليشربوا كما يقول الإنجيل:

«و في اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل و كانت أمّ يسوع هناك * و دعي أيضا يسوع و تلاميذه إلى العرس. و لما فرغت الخمر قالت أمّ يسوع له ليس لهم

ص: 393


1- إنجيل مرقس، الأصحاح الثالث، الجملات 31-35، ط دار الكتاب المقدس.
2- إنجيل مرقس، الأصحاح الرابع، الجملة 40، ط دار الكتاب المقدس.
3- سفر اللاويين، الأصحاح العاشر، الجملات 8-11، ص 171، ط دار الكتاب المقدس.

خمر * قال لها يسوع: ما لي و لك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد!! * قالت أمّه للخدّام: مهما قال لكم فافعلوه * و كانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود، يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة * قال لهم يسوع: املئوا الأجران ماء، فملئوها إلى فوق * ثم قال لهم: استقوا الآن، و قدّموا إلى رئيس المتكأ، فقدّموا * فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا - و لم يكن يعلم من أين هي لكن الخدّام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا - دعا رئيس المتكأ العريس * و قال له: كل إنسان إنّما يضع الخمر الجيدة أولا و متى سكروا فحينئذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن * هذه بداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل، و أظهر مجده، فآمن به تلاميذه»(1).

***

هذه نماذج ممّا في العهدين من الأضاليل و الأباطيل التي لا تتفق مع البرهان، و لا يصدّقه المنطق، و هي تثبت أمرين:

الأول: أنّ هذه الكتب السخيفة ليست من وحي السماء، و إنّما هي من منشآت الأحبار و الرهبان، خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا، فموّهوا الكتب السماوية بخرافاتهم.

الثاني: أنّ النبي الأكرم لم يقتبس معارفه و قصصه و أحكامه من هذه الكتب، و إنّما هي مأخوذة من وحي السماء على قلبه، ليكون من المنذرين(2).

و بهذا تقف على مدى صدق قوله سبحانه: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (3).

ص: 394


1- إنجيل يوحنا، الأصحاح الثاني، الجملات 1-12، ص 147-148، ط دار الكتاب المقدس.
2- أنظر للتبسط في هذا البحث: «الهدى إلى دين المصطفى»، و «الرحلة المدرسية» كلاهما لشيخنا الحجة البلاغي (م 1352). و «إظهار الحق» للعالم الهندي. و «أنيس الأعلام في نصرة الإسلام» لمحمد صادق فخر الإسلام في خمسة أجزاء، و غير ذلك.
3- سورة النمل: الآية 76.

و قوله سبحانه: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ (1).

و لنكتف بهذا المقدار، و نترفع عن نقل العار، و أشنع القبائح، التي يرمي بها العهدان أنبياء اللّه تعالى، ممّا تشمئز النفوس من سماعه، و الأقلام عن الجريان به.

***

ص: 395


1- سورة المائدة: الآية 48.

شواهد إعجاز القرآن

(5) إعجازه من ناحية إتقان التشريع و التقنين
اشارة

جاء الإسلام برسالة عالمية، و بعقيدة و طقوس لا تنفرد بشعب أو مجتمع بعينه، و لا تختص بصقع أو أقطار معينة، بل ظهر دينا متكامل الجوانب في العقيدة و التشريع، يسري على الأفراد على اختلافهم في اللون، و الوطن، و اللسان، و لا يفترض لنفوذه حاجزا بين بني الإنسان، و لا يعترف بأيّة فواصل أو تحديدات عرقية أو إقليمية.

و يظهر هذا من تاريخ دعوة الرسول و سيرته في نشر دينه، و قبل كل شيء، نداءات القرآن و هتافاته الموجهة إلى الناس كلهم. و هذا ما يراد من كون الإسلام دينا عالميا.

و لم تكن هذه سمته الوحيدة بل له سمة أخرى هي سمة الخاتمية فهو خاتم الشرائع، كما أنّ نبيّه خاتم الأنبياء و على هذا كلمات الرسول و أوصيائه، و قبلها النصوص القرآنية(1).

كما أنّ له سمة ثالثة، و هو كونه دينا متكامل الجوانب، و شاملا لجميع النواحي الحيوية في حياة البشر، فلم يقتصر في تربية الإنسان و تنمية طاقاته على تشريع الأدعية و الطقوس فحسب، بل قرن إليها تشريعات و تقنينات رفع بها

ص: 396


1- سيأتي الكلام مفصلا في عالمية الرسالة الإسلامية و خاتميتها.

حاجة الإنسان إلى كل تشريع و تقنين، سواء في مجال الأخلاق أو الاجتماع أو السياسة و الإدارة، أو الاقتصاد.

و إنّ نفس وجود تلك القوانين في جميع تلك الجوانب، معجزة كبرى لا تقوم بها الطاقة البشرية، و اللجان الحقوقية، خصوصا مع اتّصافها بمرونة خاصة، تجامع كل الحضارات و المجتمعات البدائية، و الصناعية المتطورة.

ثم إنّه تظهر عظمة ذلك التقنين إذا وقفنا على أنّ دعوة الإسلام بزغت بين أقوام متأخرين في المجالات الخلقية و الثقافية، و لم يكن لهم منها نصيب سوى الإغارة و النهب و القتل و التفاخر. و يشهد لذلك صفحات تاريخ الجزيرة العربية، و لنكتف من ذلك بشاهد واحد يكشف لنا واقعية الحياة في ذلك العصر.

روى أهل السير و التاريخ أنّ رجلا من «زبيد» قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، و مخزوما، و جمحا، و سهما، و عدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل و انتهروه، فلما رأى الزبيدي الشرّ، أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس - و قريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الدار و النّفر

و محرم أشعث لم يقض عمرته *** يا للرجال و بين الحجر و الحجر

إنّ الحرام لمن تمّت كرامته *** و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، و قال: ما لهذا مترك.

فاجتمعت «هاشم» و «زهرة» و «تميم بن مرة»، في دار «عبد اللّه بن جدعان» فصنع لهم طعاما، و تحالفوا في ذي القعدة الحرام، فتعاقدوا و تعاهدوا باللّه ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى إليه حقّه، أبدا.

فسمّت قريش ذلك الحلف، حلف الفضول، و قالوا: «لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر».

ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، و دفعوها

ص: 397

إليه(1)فهذه الحادثة تكشف عن أنّ المجتمع في الجزيرة العربية أو في قسم الحجاز، كان خلوا من أي محكمة و قضاء، و لم يكن سائدا فيها إلاّ قوة الزور و شريعة الغاب، فلما اتّحد هؤلاء للدفاع عن المظلوم، اشتهر اسم ذلك الحلف، و صار نجما لا معا بينهم، و كأنّ شيئا عجيبا قد حصل.

ففي مثل هذا المجتمع ظهر رجل، و في يده كتاب، يدعو إلى الأخوّة الدينية أوّلا، و صيانة حقوق الإنسان في ظل العدالة في جميع المجالات ثانيا، و أتى بتشريعات بعث بها النور و الحياة في المجتمع. و هذا أوضح دليل على أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة طبيعية للبيئة.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى تبيين سمات التشريع الإسلامي، و ذكر نزر يسير منها في بعض المجالات، و المهم هو الوقوف على تلك السمات، و هي:

1 - مرونة التشريعات الإسلامية، و ملاءمتها لجميع الحضارات الماضية و السائدة، و الآتية.

2 - إنّ التشريعات القرآنية تعتمد قبل كل شيء على الفطرة الإنسانية التي لا تتغير في خضم التحوّلات و التبدّلات. فلا تجد تشريعا قرآنيا يضاد الفطرة.

3 - التشريع القرآني ينظر إلى الإنسان، بما هو موجود مركب من جسم و روح و مادة و معنى، و لكل حاجته و رغبته، فأباح اللذائذ الجسمانية في إطار لا يمسّ كرامة الإنسان، كما دعا إلى المثل الأخلاقية العليا، فصار بذلك دينا وسطا، لا يجنح إلى جانب خاص فينسى الجانب الآخر.

4 - الملاك في التشريع القرآني هو السعادة الإنسانية و مصالح المجتمع و مفاسده، فأرسى قوانينه على ذلك الأساس من دون جنوح إلى إرضاء عموم الناس و إشباع ميولهم، لأنّ إرضاءهم ربما يكون مخالفا لسعادتهم.

ص: 398


1- البداية و النهاية، لابن كثير (م 774)، ج 2، ص 241-242.

5 - إنّ التشريعات القرآنية ليست تقنينات جافة، خالية من الضمانات الإجرائية، بل لم تغفل عنها، فجعلت لتنفيذها ضمانات إجرائية داخلية و خارجية، فإيمان الرجل بدينه و قرآنه و ما يترتب عليه من مثوبات و عقوبات أخروية، أقوى و أعز داخلي و عاطفي في الإنسان يدفعه إلى التطبيق، و يردعه عن المخالفة. إضافة إلى العقوبات البدنية و الغرامات المالية التي حددها.

6 - إنّ التشريع القرآني ذو مادة حيوية، خلاقة للتفاصيل، بحيث يقدر معها علماء الأمة و الإحصائيون منهم على استنباط ما يحتاج إليه المجتمع في كل عصر. فإذا انضمت إليها الأحاديث النبوية، و ما وصل إلى الأمة، من أوصياء النبي، نجد التشريع الإسلامي وافيا باستنباط آلاف الفروع التي يحتاج إليها المجتمع على امتداد القرون و الأجيال.

هذا ما نتبناه في هذا البحث، و لا تظهر حقيقته إلاّ بشرح كل واحدة من هذه السمات شرحا إجماليا، يوقفنا على قوة التشريع القرآني و إتقانه.

السمة الأولى: مرونة التشريع القرآني
اشارة

من الأسباب، الدافعة إلى صلاح الإسلام للبقاء و الخلود، مرونة أحكامه التي تمكّنه من أن يماشي جميع الأزمنة، و الحضارات.

و قد تمثلت هذه المرونة بأمور نذكر منها اثنين:

أ - النظر إلى المعاني لا المظاهر

إنّ التشريعات القرآنية تنظر إلى المعاني و الحقائق لا إلى المظاهر و القشور، و لذلك لا تجد في الإسلام مظهرا خاصا من مظاهر الحياة له من القداسة ما يمنع من تغييره، و يوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص، و لأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه و التقدم العلمي الهائل في مظاهره و أشكاله الخارجية، و إليك بعض الأمثلة:

ص: 399

1 - إنّ الإسلام دعا إلى بثّ العلم و التربية، و لكن الذي يهم الإسلام، في جميع الأزمنة هو الحقيقة و الجوهر من ذينك الأمرين، و أمّا الكيفية و الشكل، فلا يهمّانه، بل الهدف إشاعة العلم بأي وسيلة كانت، و إرساخ التربية في نفوس الناس بأي سبب تحقق.

و إنّ أجهزة نشر العلم، و أسباب التربية، قد ترقت من أبسط الأساليب إلى أعقدها، فمن الكتابة بالقصب على أوراق الشجر و عظام الحيوانات و جلودها، إلى نشر العلم عن طريق الأجهزة الإذاعية و الدوائر الإلكترونية.

فلو كانت هناك قداسة لأسباب معينة، كالكتابة بالحبر أو بالجصّ ، لما كتب للإسلام البقاء(1).

2 - إنّ القرآن يدعو الأمّة الإسلامية إلى التأهّب في مقابل الأعداء، و إعداد ما استطاعوا من قوة، يقول تعالى: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (2).

فما هو المطلوب، هو كسب القوة و الاقتدار على كفاح المخالفين.

و المراد من القوة هو الآلات الحربية و أدوات النضال، سواء أ كانت أسهما و رماحا و سيوفا، أو دبابات و مدافع و طائرات و صواريخ. فالكلّ أشكال، و اللّب واحد، و هو دوام الاستعداد في مقابل الأعداء.

فلو كانت الفروسية و الرمي بالسهام هي مظاهر الكفاح العسكري الذي يدعو إليه الإسلام، فقد حلّ مكانها أدوات مهيبة مدمّرة قويّة، و الاقتصار على الأولى كان سينجر حتما إلى إبادة المسلمين. غير أنّ الجهاد بالسهم و الرمح، أو الجهاد بالصواريخ و الدبابات، أشكال و ألبسة للحكم الإسلامي بالجهاد، فاللّباس يتغير و يحتفظ باللّب.

3 - القرآن يدعو المسلمين إلى العزّة و العظمة و الاستقلال، و رفض التبعية

ص: 400


1- لاحظ ما ورد حول بثّ العلم و الكتابة و التربية في الكتاب العزيز. و أظن أن الباحث الكريم في غنىّ عن الإشارة إلى الآيات الواردة في هذا المجال.
2- سورة الأنفال: الآية 60.

للأعداء. يقول سبحانه: وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لٰكِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

و لكن نيل هذا الهدف السامي لم يكن يتطلب في السابق ما يتطلبه اليوم من وجود الأخصائيين من المسلمين في المسائل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.

فالقرآن يوجب على المسلمين دراسة هذه العلوم دراسة وافية، حتى تتحقق لهم العزّة. فليست هذه العلوم مطلوبة بالذات، بل المطلوب هو حفظ العزّة و العظمة و الاستقلال. و التدرع بهذه العلوم، ليس إلاّ سبب و أداة لنيل المطلوب.

4 - الإسلام يدعو المرأة إلى العفة و الستر و الحجاب خارج بيتها و في محيط عملها. و لكنه لم يقيّده بشكل خاص من اللباس، بل يكفي في ذلك كل لباس يكون مؤمّنا لهذا الغرض. فلو كان التشريع الإسلامي في هذا المجال على أساس إلزام المرأة باتّخاذ شكل خاص من الحجاب لربما تصادم مع حاجات الزمان المتطورة، أو استلزم تهديم التقاليد العرفية المحترمة عند الأمم. فلأجل ذلك ترك الكيفية و الشكل إلى المجتمع نفسه و طلب منه اللّب و هو الستر، و عدم الإغراء.

قال سبحانه: وَ لاٰ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّٰ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ (2).

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ (3).

5 - في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية الأصل الثابت هو رعاية مصالح الإسلام و المسلمين، و أمّا كيفية تلك الرعاية فتختلف باختلاف الظروف الزمانية و المكانية. فتارة تقتضي المصلحة، السلام و المهادنة، و مصالحة العدو. و أخرى تقتضي ضدّ ذلك.

ص: 401


1- سورة المنافقون: الآية 8.
2- سورة النور: الآية 31.
3- سورة الأحزاب: الآية 59.

يقول سبحانه: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (1).

و يقول سبحانه: لاٰ يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ ، وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ * إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ ، أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ (2).

فالإسلام لا يفرض الحرب دائما مع الكفار، كما لا يفرض السلم و الصلح كذلك، و إنّما الحرب و السلم يتبعان مصالح الإسلام و المسلمين.

6 - العلاقات الدولية التجارية، و إنشاء مؤسسات صناعية مشتركة بين المسلمين و غيرهم، يتبع ذلك الأصل الثابت، و هو تبنّي صلاح الإسلام و المسلمين. و لأجل ذلك ربما يكون عقد اتفاقية تجارية حراما في ظرف و حلالا في ظرف آخر. فلو كان التحريم هو الحكم الثابت لما أمكن تطبيقه في الظروف التي توجب عقد الاتفاقية، و هكذا العكس. و هذا ما نرومه في هذا المقام من أنّ المعنى ثابت و التعابير مختلفة، و كل الاتفاقيات تستمدّ من الأصول الثابتة في الإسلام، كقوله سبحانه: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (3). و قوله سبحانه: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوٰالِكُمْ لاٰ تَظْلِمُونَ وَ لاٰ تُظْلَمُونَ (4).

و قس على ذلك سائر التشريعات؛ فللإسلام خاصيّة الاهتمام باللّب و الجوهر، و هذا أحد العناصر التي تجعله يساير و يماشي عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.

ب - الأحكام التي لها دور التحديد

من الأسباب الموجبة لانطباق التشريع القرآني على جميع الحضارات،

ص: 402


1- سورة النساء: الآية 141.
2- سورة الممتحنة: الآيتان 8 و 9.
3- سورة النساء: الآية 141.
4- سورة البقرة: الآية 279.

تشريعه لقوانين خاصة، لها دور التحديد و الرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته.

فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل الأجيال و القرون.

يقول سبحانه: وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1).

و يقول سبحانه: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ، وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (2).

و يقول سبحانه: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ، فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ (3).

و يقول سبحانه: وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّٰ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (4).

و يقول سبحانه: إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ (5)و ما ورد حول النهي عن الضرر من الآيات، كلها تحدّد التشريعات القرآنية بحدود الحرج و العسر و الضرر. فإذا صارت الأحكام مبدأ لواحد منها، تكون مرتفعة غير لازمة الامتثال. فلو لا هذه التحديدات الحاكمة، لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات البشرية.

***

السمة الثانية: تشريعاته معتمدة على الفطرة

إنّ الحياة البشريّة في تغيّر دائم، و تبدّل مطّرد، و رسوم و تقاليد تزول، و أصول و حاجات جديدة تطرأ، تحتاج إلى تلبيتها و رفعها، هذا من جانب.

و من جانب آخر إنّ الهدف من التقنين هو رفع حاجات المجتمع في المجالين الفردي و الاجتماعي.

ص: 403


1- سورة الحج: الآية 78.
2- سورة البقرة: الآية 185.
3- سورة البقرة: الآية 173.
4- سورة الأنعام: الآية 119.
5- سورة النحل: الآية 106.

و بملاحظة هذين الجانبين، يتّضح أنّ أيّ تقنين لن تكتب له الحياة، و لن يكتسي ثوب البقاء إلاّ إذا كان متكئا و معتمدا في تقنينه على مبدأ و مرتكز ثابت لا يتبدل و لا يتغير، و ليس هو إلاّ الفطرة الإنسانية التي لا تتبدل مع الأجيال، و عبر القرون، و في خضم التحوّلات الطارئة على الحضارات الإنسانية.

و قد تنبّه التقنين القرآني إلى هذا الأساس فبنى مثله العليا و تشريعاته، على وفق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية و يتماشى معها.

يقول سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا، لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ، ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

فجعل الملاك في ثبات تشريعه و بقائه، خلقة الإنسان و طبعه، الثابتين في جميع ألوان الحياة و متغيراتها، فعلى الرغم من أنّ الحضارة الصناعية غيّرت لون الحياة، و رفعت الحواجز بين الإنسان و أمانيه، و قدّمت إليه حياة ناعمة كانت ممتنعة في عصر الحجر و السيف و السهم و الحضارات البدائية - فمع ذلك كلّه - لم تصل يد التغيّر إلى طبع الإنسان و فطرته، بل هي ثابتة كما كانت مذ داس الإنسان هذه الكرة، و لأجل ذلك ترى أمورا مشتركة بين الإنسان الذي عاش في الحضارات البدائية، و الذي يعاصر الحضارات الصناعية، و هكذا بين الإنسان القطبي و الإستوائي. و في ضوء ذلك جاء القرآن بقوانين ثابتة في عالم، التحوّل و التبدّل حليفة و أليفه. و إليك نماذج من هذه القوانين:

1 - إنّ التفاوت بين الرجل و المرأة أمر طبيعي محسوس. فهما موجودان مختلفان اختلافا عضويا و روحيا، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما. و لأجل ذلك اختلفت أحكام كلّ منهما في التشريع الإسلامي اختلافا يقتضيه طبع كلّ منهما. فإذا كان التشريع مطابقا لفطرتهما، و مسايرا لطبعهما، ظلّ ثابتا لا يتغير بمرور الزمان، لثبات الموضوع، المقتضي لثبات محموله.

ص: 404


1- سورة الروم: الآية 30.

و من جملة تلك الأحكام قوله سبحانه: اَلرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى اَلنِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اَللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ ، وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ (1). فهو تشريع مطابق للفطرة.

2 - التشريع القرآني حريص جدا على صيانة الأخلاق و حفظها من الضياع و الانحلال، و ممّا لا يشك فيه أن شرب الخمر و اللعب بالميسر، و الإباحة الجنسية، ضربات تقصم ظهر القيم و الأخلاق. و لأجل ذلك حرّمها الإسلام و جعل الحدود على مقترفيها. فالأحكام المتعلقة بها، من الأحكام الثابتة، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان، فالخمر يزيل العقل، و الميسر ينبت العداوة في المجتمع، و الإباحة الجنسية تفسد النّسل.

يقول سبحانه: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (2).

إنّ الميل الجنسي من الميول الطبيعية التي لا تنفك عن الإنسان من زمان مراهقته إلى فترات متقدمة من عمره، فلأجل ذلك دعا إلى النكاح و حذّر من الرهبانية.

قال سبحانه: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ ، إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (3).

و قد ورد في السّنة: «من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(4).

3 - إنّ الجهاد - بمعنى السعي في طريق الحياة - من الأمور الطبيعية المشتركة

ص: 405


1- سورة النساء: الآية 34.
2- سورة المائدة: الآية 91.
3- سورة النور: الآية 32.
4- مستدرك الوسائل: ج 14، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح، الحديث 15، الطبعة الحديثة.

بين الإنسان و الحيوان، و حتى النبات. فجذور الشجرة المشتملة على الشعيرات الدقيقة، تشقّ طريقها في أعماق التراب لتنمو الشجرة و تبقى حية. و هكذا الكريات الحمراء في الدم، تلاحق باستمرار الجراثيم و الميكروبات الطارئة على البدن و تقتلها لتصون البدن عن الأمراض.

فالإنسان المثالي الذي يتبنّى إيديولوجية إلهية، لا مناص له في نشر دعوته و بثّ أفكاره عن السعي وراء هدفه. و هذا ما يعبر عنه القرآن بالجهاد في سبيل اللّه، و قد جاءت الكلمة (الجهاد) ثمانية و عشرين مرة مع مشتقاتها في الكتاب العزيز، و هذا يعرب عن أنّ مسألة الجهاد ليس مجرّد مسألة قتل و قتال و سفك دماء و تدمير بيوت، و إنّما هو سعي في نشر الإيديولوجية الإلهية بأنواع الوسائل الممكنة، فإذا واجه الداعي، في طريق نشر دعوته، مقاومة من العدو و منعا من الطواغيت، فلا مناص له عندئذ من رفع المانع بالجهاد و القتال.

يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ ، وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (1).

4 - إنّ الميل إلى النظافة و الطهارة من الأمور الفطرية، و كل إنسان يشمئزّ من القذارة و الوساخة. و التشريع القرآني دعا إلى مقتضى الفطرة في هذا المجال فقال سبحانه: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا... مٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (2).

السمة الثالثة: التقنين الوسط بين المادية و الروحية

إنّ الناس قبل ظهور الإسلام كانوا على قسمين:

قسم لا يهمهم إلاّ الحظوظ المادية، كاليهود و المشركين.

ص: 406


1- سورة الأنفال: الآية 24.
2- سورة المائدة: الآية 6.

و قسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة و ترك الدنيا و ما فيها من اللذات الجسمانية، كالنصارى و الصابئين و طوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات.

فجاء التقنين القرآني و جمع بين الحقّين: حقّ الروح و حقّ الجسد، و لعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (1). فعدّل الغرائز و الميول تعديلا يضمن سعادة الإنسان.

فدعا إلى الالتذاذ بملاذ الحياة و قال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ اَلطَّيِّبٰاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ (2).

و في الوقت نفسه، دعا إلى النكاح و حسن معاشرة النساء و قال:

وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ (3) و قال:

وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (4) .

و دعا إلى الضرب في الأرض سعيا لطلب الرزق، فقال: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ (5).

و مع ذلك كلّه فلم يفسح له المجال للالتذاذ المطلق بل حدده في مجال إعمال الغريزة الجنسية و جمع الثروة و غير ذلك من ملاذ الحياة، بحدود و قيود. فمنع الفجور و الزّنا، و أكل المال بالباطل، و أخذ الربا، و غصب الأموال، و السرقة فالقرآن دعا إلى طلب الدنيا في نفس الوقت الذي دعا فيه إلى طلب الآخرة، فقال: وَ اِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اَللّٰهُ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ ، وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيٰا (6).

ص: 407


1- سورة البقرة: الآية 143.
2- سورة الأعراف: الآية 32.
3- سورة النور: الآية 32.
4- سورة النساء: الآية 19.
5- سورة الملك: الآية 15.
6- سورة القصص: الآية 77.
السمة الرابعة: رعاية الموضوعية في التقنين

التقنين القرآني يتبنّى الموضوعية في تشريعه و لا يتبنّى ترضية المجتمع و أهواء بني البشر، و بما أنّ الإنسان موجود مركّب من جسم و روح، فالتقنين القرآني يتبنّى سلامة الجسم و الروح معا، فما كان مضرّا بواحد منهما، يحرّمه، و إن كانت تلبية رغبات المجتمع على خلافه.

فحرّم الإسلام أكل الخنزير و شرب الخمر، و الدم، و كل خبيث، لأنّ كل ذلك ينافي صحة الإنسان في بدنه و عقله. كما حرّم الكذب، و التهمة، و النمامية، و الغيبة، و غير ذلك من رذائل الأخلاق، لأنّ في ذلك ضرر بالإنسان بجسمه و روحه، و فرده و مجتمعه. يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ وَ لاٰ تَجَسَّسُوا وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (1).

السمة الخامسة: ضمان الإجراء

إنّ العصر الحديث يواجه في سبيل تطبيق قوانينه الوضعية، مشكلة كبرى، ناتجة عن فقدان قوانينه للضمانات الكفيلة بتطبيقها بنحو كامل، و ليس لديه غير عقوبات جزائية، من المعلوم أنّها لا تكفي في تطبيقها، ما لم يكن هناك وازع داخلي يمنع من التخلّف عنها و لأجل ذلك يواجه المجتمع البشري مشكلة انعدام الأمن الاجتماعي بألوانه و صوره.

و أمّا قوانين الإسلام التي نادى بها القرآن، ففيها الدوافع و الحوافز المفقودة في غيرها من القوانين، و ذلك لأسباب:

الأول - المجتمع الإسلامي يرى القانون مظهرا لإرادة اللّه سبحانه، و أنّ مخالفته، مخالفة لدعوة قدرة كبرى لا يمكن الفرار منها، و أنّ العقوبة لفي المرصاد

ص: 408


1- سورة الحجرات: الآية 12.

للمجرم، لا مفرّ له منها، و ستناله يد العدالة الإلهية، و إن كان غائبا عن أبصار الناس، مختليا بجرمه في أعماق مغارات الأرض.

إنّ الكون كلّه في نظر المؤمن المسلم عيون تراقب أفعاله، و أسماع تسمع كلامه، و تسجل كل ما يفعل و يقترف:

يقول سبحانه: هٰذٰا كِتٰابُنٰا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ، إِنّٰا كُنّٰا نَسْتَنْسِخُ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (1).

و يقول سبحانه: مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (2).

و إنّما تتجلى تلك الحقيقة إذا كان المجتمع معتقدا بأنّ العقاب الأخروي، وجود أخروي لعمل المرء الدنيوي، و أنّ لكل عمل - خيرا كان أو شرا - وجودين متناسبين لظروفهما، فاكتناز الذهب و الفضة، و عدم إنفاقهما في سبيل اللّه، يتمثّل في الآخرة، نارا تكوي جباه الكانزين و ظهورهم و جنوبهم، و يقال لهم: هذا الذي يكوي أعضاءكم هو نفس الذهب و الفضة التي كنزتموها(3).

الثاني - إنّ التشريع القرآني ليس دين الرهبة فقط، بل هو دين الرّغبة أيضا، حيث وعد المطيعين، ثوابا عظيما قال سبحانه: مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا (4).

و قال سبحانه: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا... (5).

الثالث - قرن هذا الوازع الداخلي بوازع خارجي، فأوعد المتمردين عقوبات دنيوية من حدود و تعزيرات، فأكمل بذلك حوافز التطبيق.

ص: 409


1- سورة الجاثية: الآية 29.
2- سورة ق: الآية 18.
3- سورة التوبة: الآيتان 34 و 35.
4- سورة الأنعام: الآية 160.
5- سورة النساء: الآية 13.

بل إنّه ضمّ إلى تلك الحوافز أمرا رابعا و هو أنّه فرض الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على المجتمع الإسلامي، فرأى سكوت المسلم و المجتمع أمام المخطئ و المجرم خطأ و جرما، قال سبحانه: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (1).

و بذلك أصبح التشريع القرآني متكامل الجوانب في مجالي التسنين و التطبيق.

***

السمة السادسة: سعة القوانين

إنّ التشريع الإسلامي، في مختلف الأبواب، مشتمل على أصول و قواعد عامة تفي باستنباط الآلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري، على امتداد القرون و الأجيال، و هذه الثروة العلمية التي اختصّت بها الأمّة الإسلامية من بين سائر الأمم، أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام - في هذا المجال -: «إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله، و جعل لكل شيء حدّا، و جعل عليه دليلا يدلّ عليه»(2).

و الدليل الواضح على ذلك، أنّ المسلمين عند ما بسطوا ظلال دولتهم على أكثر من نصف المعمورة، و أمم الأرض المختلفة العادات و التقاليد و الوقائع و الأحداث، رفعوا - رغم ذلك - صرح الحضارة الإسلامية، و أداروا المجتمع الإسلامي طيلة قرون، في ظل الكتاب و السّنّة، من غير أن يستعينوا بتشريعات أجنبية. و هذا العلامة الحلّي أحد عظماء فقهاء الإمامية في القرن الثامن، ألّف كتابا باسم «تحرير الأحكام الشرعية»، أودع فيه من الأحكام و القوانين ما يربو

ص: 410


1- سورة آل عمران: الآية 104.
2- الكافي، ج 1، ص 59.

على أربعين ألف مسألة، استنبطها من الكتاب و السنة(1).

و هذا صاحب الجواهر جاء في مشروعه الوحيد «جواهر الكلام»، بأضعاف ما جاء به العلاّمة الحلي.

و قد استعارت منّا الأمم الغريبة كثيرا من قوانيننا، و ليس ذلك إلاّ لكون التقنين الإسلامي ذا قواعد متموجة تستطيع أن تجيب على كل ما يطرأ.

و هنا نكتة نلفت نظر الباحث إليها، و هي أنّ العدالة هي الركيزة الأولى للقوانين الإسلامية في مجالي التشريع و التطبيق، فما سنّ الإسلام قانونا إلاّ على أساس العدالة، و ما أمر بتطبيقه و إجرائه إلاّ بشكل عادل.

يقول سبحانه في القضاء - الذي يرجع إلى مجال تطبيق القانون: وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (2).

و يقول سبحانه: وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ (3).

و يقول سبحانه: فَلاٰ تَتَّبِعُوا اَلْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا (4).

كما أنّه أمر بالعدالة في التبادل الاقتصادي و قال: أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ (5).

كما أمر بها في إدارة أموال اليتامى، فقال: وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰامىٰ بِالْقِسْطِ (6).

و بالجملة يجب أن يكون التشريع و التطبيق على هذا الأساس. قال

ص: 411


1- الذريعة، ج 4، ص 378.
2- سورة النساء: الآية 58.
3- سورة الأنعام: الآية 152.
4- سورة النساء: الآية 135.
5- سورة الأنعام: الآية 152.
6- سورة النساء: الآية 127.

سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ ، وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1).

و قد استعان القرآن في تطبيق تشريعه، ببسط روح الأخوة في المجتمع الإنساني، فأعلن الوحدة و الترابط بين المسلمين، حتى كأنّهما غصنان من دوحة مثمرة. و ليست الأخوة الإسلامية أخوّة شعارية كالتي يحملها أبناء الماركسية، باسم الرفيق و الزميل، فإنّها شعارات فارغة عن كل حقيقة تربطهم إليها، فلأجل ذلك ترى أجسامهم متقاربة و لكن قلوبهم متشتتة، بل هي أخوّة عميقة راسخة على أساس الإيمان باللّه و اليوم الآخر، و على أساس أنّهما يرجعان إلى أصل واحد في الخلقة و الولادة، و أنّ الميزات القومية و القبليّة و الطبقيّة كلّها سدود اجتماعية لا قيمة لها عند اللّه، إلاّ أن تكون سببا للتعارف و رفعا للتناكر؛ قال سبحانه: إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا (2).

و عند ذلك لا يفقد المجتمع الإسلامي حافز التطبيق و الإجراء، بل يجد من داخله ما يبعثه إلى الأمانة، دون الخيانة، و الأخوّة دون العداوة، و غير ذلك ممّا يدعو إلى وحدة المجتمع و ترابطه و تراصّه.

ص: 412


1- سورة النحل: الآية 90.
2- سورة الحجرات: الآية 13.

شواهد إعجاز القرآن

(6) الإخبار عن الغيب
اشارة

الغيب في اللغة العربية يقابل الحضور، و يضاد الشهود. قال سبحانه:

عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ (1) .

و في الحديث النبوي: «ليبلّغ الشاهد الغائب»(2).

و في كلام علي عليه السلام: «و نصحت لكم فلم تقبلوا، أ شهود كغيّاب، و عبيد كأرباب»(3).

و أصول المغيّبات في القرآن ترجع إلى ثلاثة:

الأول: الإخبار عن اللّه سبحانه، و أسمائه و صفاته، و الإخبار عن الملائكة و الجن و عالم البرزخ و المعاد و ما فيه من نعيم أو جحيم، و القرآن يموج بهذه المعاني الغيبية، التي لا يتعرّف عليها الحسّ ، و لا تقع في أفقه في هذا الظرف.

الثاني: الإخبار عن بعض النواميس السائدة على الكون، و قد كانت مغيّبة، عند نزول الوحي، عن إدراك الحواس المجرّدة عن الأدوات المخترعة في

ص: 413


1- سورة الرعد: الآية 9.
2- مسند أحمد، ج 4، ص 31 و 32. و مواضع كثيرة أخرى.
3- نهج البلاغة، الخطبة 97.

هذا الزمان، و هذا ما نبحث عنه في المقام التالي، و هو إعجاز القرآن من جهة المعارف الكونية المستكشفة حديثا.

الثالث: الإخبار عن أمم قد خلت من قبل و طويت صفحات حياتها، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى آثار مساكنهم و مواطنهم، من دون مراجعة إلى كتب السير و التاريخ، أو سؤال الكهنة و المؤرخين، و هي القصص الواردة في القرآن الكريم، التي تشكّل قسما وافرا من الآيات القرآنية.

و هناك قسم آخر من هذا، و هو الإخبار عن شئون البشر في مستقبل أدواره و أطواره، و الإخبار بملاحم و فتن و أحداث ستقع في مستقبل الزمن، و هذا ما نتبناه في هذا المقام.

إنّ الإخبار عن المغيبات و عن شئون البشر في مستقبل أدواره و أطواره، و ما يلم به من ملاحم و فتن، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتابا سماويا أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الذين ارتضاهم من البشر، لأنّه أخبر عن حوادث كان التكهّن و الفراسة يقتضيان خلافها، و صدق هو في جميع ما أخبر به، و لم يخالف الواقع في شيء منها. و نحن نأتي هنا بقسم من تلك الإخبارات، و لا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة، أو على كونها على غرار إخبار الكهنة و العرّافين و المنجمين. فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم. على أنّ دأبهم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز و كنايات و إشارات، حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف و يقبل كلامهم التأويل، و هذا بخلاف إخبار القرآن، فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس و منطق قاطع، و إليك الأمثلة:

1 - التنبؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن

قال سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1).

ص: 414


1- سورة الإسراء: الآية 88. و لاحظ البقرة: الآيتان 23-24، يونس: الآية 38، هود: الآية 13.

ترى في هذه الآية و نظائرها التنبؤ الواثق، بعجز الجن و الإنس عن معارضة القرآن عجزا أبديا، و لكن المستقبل - كما يقال - غيب، لا يملكه النبيّ و لا الوصيّ و لا شخص آخر غيرهما. غير أنّ النبي صار صادقا في تنبؤه هذا، و لا يزال صادقا إلى الحال. فعلى أيّ مصدر اعتمد هو في هذا التحدّي غير الإيحاء إليه، الذي صدر عنه أيضا في جميع تشريعاته ؟.

2 - التنبؤ بانتصار الروم على الفرس

قال سبحانه: الم * غُلِبَتِ اَلرُّومُ * فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلّٰهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اَللّٰهِ ، يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ * وَعْدَ اَللّٰهِ ، لاٰ يُخْلِفُ اَللّٰهُ وَعْدَهُ ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

ينقل التاريخ أنّ دولة الروم - و كانت دولة مسيحية - انهزمت أمام دولة الفرس و هي وثنيّة، بعد حروب طاحنة بينهما سنة 614 م، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنية، و فرح المشركون، و قالوا للمسلمين بشماتة: إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب و قد غلبهم المجوس، و أنتم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم.

فعند ذاك نزلت هذه الآيات الكريمات تنبئ بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار لهم في بضع سنين، و هي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات و تسع. تنبّأ بذلك، و كانت المقدمات و الأسباب على خلافه، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها، كما يدلّ عليه قوله: فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ . و لأنّ دولة الفرس كانت دولة قوية، منيعة، و زادها الانتصار الأخير قوة و منعة. و لكن اللّه تعالى أنجز وعده، و حقّق تنبؤ القرآن، في بضع سنين، فانتصر الروم سنة 624 م، الموافقة للسنة الثانية للهجرة.

ص: 415


1- سورة الروم: الآيات 1-6.

و في الآية تنبؤ آخر، و هو البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون في الوقت الذي ينتصر الروم فيه، و قد صدق اللّه وعده حيث وقع في ذلك الظرف ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى، فتحققت النبوءتان في وقت واحد.

3 - التنبؤ بصيانة النبي عن أذى الناس

قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ ، بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ ، وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ (1).

روى الفريقان(2) أنّ الآية نزلت يوم الغدير حينما أمر النبي بنصب علي عليه السلام إماما للناس، و كان على حذر منهم في تنصيب ابن عمه و صهره للخلافة، فأخبر اللّه سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس و شرّهم، و لا يتمكنون من اغتياله، و تحقّق نبأ القرآن، و صدّق الخبر الخبر.

4 - التنبؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه

قال سبحانه: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّٰهُ إِحْدَى اَلطّٰائِفَتَيْنِ أَنَّهٰا لَكُمْ ، وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذٰاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ * لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ (3).

نزلت الآيتان قبل لقاء المسلمين العدو في ساحة المعركة، فأخبر سبحانه عن هزيمة المشركين و استئصال شأفتهم، و محق قوتهم، كما يدلّ عليه قوله: وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ .. .

و ليس تنبؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصرا بهذه الآية، بل تنبّأ به في آية أخرى، و هي قوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ

ص: 416


1- سورة المائدة: الآية 67.
2- لاحظ الغدير، ج 1، ص 194-217. و وقاية المرام، ص 335.
3- سورة الأنفال: الآيتان 7 و 8.

مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ (1) .

فأخبر عن انهزام الكفار و فرارهم عن ساحة الحرب، و قد تحقق التنبؤ يوم بدر، و كانت المقدمات و الأسباب الطبيعية على خلاف النتيجة، حيث إنّ المشركين كانوا تامّي العدّة و وافري العدد، و لم يكن عدد المسلمين يتجاوز ثلث عدد المشركين، لكنّه سبحانه حقّق كلمته و صدّق نبأ نبيّه.

5 - التنبؤ بكثرة ذرّية النبي (صلى اللّه عليه و آله)

قال سبحانه: إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ * إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ (2).

الكوثر هو الخير الكثير، و المراد هنا، بقرينة قوله: إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ ، كثرة ذرّيته، و يؤيّده أنّ السورة إنّما نزلت ردّا على من عابه بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان.

قال الرازي: «فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، و لم يبق من بني أميّة أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء، كالباقر، و الصادق، و الكاظم، و الرضا، و النفس الزكية، و أمثالهم»(3).

هذه نماذج من تنبؤات الذكر الحكيم، أتينا بها ليقف الباحث على معشار ما ورد فيه من التنبؤات الغيبية(4).

هذا و قد عرفت أنّ بعض العلماء، خصّوا إعجاز القرآن بإخباره عن الغيب، غير أنّه غير ظاهر بخصوصه، لأنّ القرآن يتحدّى حتى بسورة واحدة من سوره الكثيرة، و من المعلوم أنّه ليست كلّ سورة مشتملة على الأخبار الغيبية.

ص: 417


1- سورة القمر: الآيتان 44 و 45.
2- سورة الكوثر.
3- مفاتيح الغيب، ج 8، ص 498، ط مصر.
4- و من أراد استقصاء تنبؤات القرآن فليرجع إلى ما دوّنه الأستاذ دام ظلّه، في موسوعته «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 377-534.

شواهد إعجاز القرآن

(7) إخباره عن الظواهر و القوانين الكونية
اشارة

لا يصحّ لعارف أن يتجاهل أنّ القرآن كتاب الهداية و التزكية و ليس كتاب العلوم الطبيعية، يقول سبحانه: الم * ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1).

فالقرآن نزل لهداية الناس و سوقهم إلى الحياة السعيدة، و لم ينزل لتبيين القضايا الطبيعية، و القواعد الرياضية و ما يتعلق بعلم التشريح، و لا لتبيين خواصّ الأدوية و العقاقير.

و مع ذلك كلّه، ربما يتوقف غرض الهداية - خصوصا في الدراسات التوحيدية - على إظهار عظمة العالم و دقّة نظمه، و القوانين السائدة عليه، فعند ذلك يصحّ لهذا الكتاب الهادي، إلفات النظر إلى تلك المظاهر و القوانين الكونية.

و من هذا المنطلق، نرى أنّ القرآن أشار إلى رموز سائدة في الكون، و سنن جارية فيه، تتطابق مع القضايا العلمية الثابتة - حديثا - بالحسّ و اليقين. و قد كانت تلك السنن مجهولة على الأخصائيين في هذه العلوم، و أصحاب الحضارات في بلاد الفرس و الروم، و إنّما اهتدى إليها العلماء بعد قرون متطاولة من نزول القرآن و ذكره لها.

ص: 418


1- سورة البقرة: الآيتان 1 و 2.

روي عن ابن عباس أنّه قال: «القرآن يفسّره الزّمان»(1).

و هذه الكلمة سواء أصحّت نسبتها إلى تلميذ الإمام عليّ (عليه السلام) أو لا، كلمة قيمة، فإنّ مرور الزمان و تكامل الحضارات، يزيد من قدرة الإنسان على استجلاء حقائق القرآن و معارفه في شتى المجالات.

و ما هذا إلاّ لأنّ القرآن، كلام الموجود اللامتناهي، فيجب أن يكون في كلامه أثر من ذاته، فيكون ذا آفاق و أبعاد لا متناهية، و يجد الإنسان في كل جيل و عصر، الشيء الجديد فيه، الذي غفل عنه الأقدمون و لم يصلوا إليه. و على ذلك فلا غرو في أن نجتني نحن من هذه الدوحة المثمرة، ثمارا لم يجتنها الأوّلون، فما أعذب قول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، في جواب من سأله عن سبب غضاضة القرآن و طراوته في كل عصر، و أنّ النشر و الدراسة لا يزيده إلاّ طراوة: «إنّ اللّه تعالى، لم يجعله لزمان دون زمان و لا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، و عند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة»(2).

نعم، لسنا من المكثرين في تطبيق الآيات القرآنية على فروض متزلزلة، فإنّه دخول في المزالق الوعرة، فسوف تتبدل تلك الفروض بفروض أخرى، كما لسنا من المتحجرين الجامدين الذين يسدّون باب التعمّق و الإمعان في الآية. و إنّما نسلك في هذا طريقا وسطا، و هو أنّه إذا تمّت دلالة الآية على نظرية علمية، على ضوء القواعد الأدبية من دون تجشّم التأويل و التقدير، و ثبتت القضية العلمية ثبوتا واضحا حتى عدّت من القواعد الموضوعية، و دخلت في نطاق القوانين العلمية، كحركة الأرض و دورانها حول الشمس، و الزوجية في النباتات، و غير ذلك من الأصول العلمية التي أصبحت في عداد البديهيات، ففي هذه الظروف يصحّ لنا استنطاق الآية و القضاء بأنّها تشير إلى ذلك القانون العلمي الثابت.

و لأجل ذلك نأتي في المقام بنماذج في هذا المجال.

ص: 419


1- حكاه شيخنا المغفور له العلامة الشيخ محمد جواد مغنية عن مفتي موصل العبيدي في كتابه «النواة».
2- البرهان في تفسير القرآن، للعلاّمة البحراني، ج 1، ص 28.
1 - القرآن و الجاذبية العامة

اكتشف العالم الإنكليزي نيوتن (ت 1642 - م 1727) ناموس الجاذبية العامة، و أثبت به وجود جاذبية بين الكواكب و السيارات، و حتى في باطن الذرّة.

و قد كان لاكتشاف هذا القانون في القرن السابع عشر أهمية عظمى، حتى سمّي ذلك القرن باسم كاشفه.

و حاصل ما كشفه أنّ الأجرام السماوية كلّها متجاذبة فيما بينها و لا يشذّ جرم منها عن هذا الأثر العام، و أنّه كلما قربت الأجسام من بعضها، زادت الجاذبية بينها، و كلما تباعدت قلّت الجاذبية بينها. و على ضوء ذلك، فلو كان القانون السائد هو قانون الجاذبية فحسب، للزم صيرورة الكون كله كتلة واحدة، و لكن هناك قوّة أخرى مقابلة تحفظ النظام الكوني، هي قوة طاردة ناتجة عن الفرار من المركز. فالكواكب التي تدور حول الشمس، تتنازعها قوّتان، قوة جاذبة إلى الشمس، و قوة طاردة عنها، ناتجة من دورانها حولها. و في ظل تعادل هاتين القوتين، يأخذ النظام الكوني حالة الاستقرار، و تقع الأجرام الكبيرة في الفراغ من دون ماسك لها.

هذه خلاصة النظرية، بلفظها البسيط الواضح. و هي نظرية علمية محقّقة، هذا.

و بالرجوع إلى آيات الذكر الحكيم و التأمّل فيها، يظهر أنّ القرآن الكريم، قد أشار إلى هذا القانون الكوني، حيث يرى أنّ السموات مرفوعة في الفضاء بلا عمد مرئية، يقول تعالى: اَللّٰهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا، ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (1).

إنّ الضمير في قوله: تَرَوْنَهٰا ، يرجع إلى عَمَدٍ لا إلى اَلسَّمٰاوٰاتِ ، لقرب الأول و بعد الثاني، و المعنى «اللّه الذي رفع السموات

ص: 420


1- سورة الرعد: الآية 2.

بعمد غير مرئية الخ». بمعنى: إنّ للسماوات عمدا، و لكن لا ترونها. فما هذه الأعمدة التي يثبتها القرآن للسماوات، و لا نراها؟. فإذا كانت الجاذبية العامة، و القوة المركزية الطاردة، عمد تمسك السموات، فتكون الآية ناظرة إلى تلكما القوتين المتعاندتين، و إنّما جاء القرآن بتعبير عام حتى يفهمه الإنسان في القرون الغابرة و الحاضرة، و لو أتى بما اكتشفه العلم الحديث، لرمي القرآن قبل الاكتشاف، بالخطإ و الزلل.

أضف إلى ذلك ما رواه الصدوق، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: «أخبرني عن قول اللّه تعالى:

... رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا ». فقال: «سبحان اللّه، أ ليس يقول: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا ؟» فقلت:

«بلى». فقال: «ثمّ عمد، و لكن لا ترى»(1).

و روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «هذه النجوم التي في السماء مدائن، مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كل مدينة إلى عمود من نور». و في بعض النسخ: «عمودين من نور»(2).

و على كل تقدير فقد اختار القرآن في إفهام هذا الناموس تعبيرا صادقا في جميع الأدوار، مفهما أنّ هذه المعلّقات في الفضاء، تحملها أعمدة غير مرئية، ممسكة لها.

2 - القرآن و كروية الأرض

إنّ في القرآن الكريم آيات صريحة ناطقة بكروية الأرض، يعرفها من أمعن

ص: 421


1- البرهان، ج 22، ص 278.
2- سفينة البحار، مادة نجم، ج 2، ص 574. و راجع مجمع البحرين، مادة «كوكب»، و لعلّ المراد من عمودين، القوّتان الساريتان في الكون، الجاذبة و الطاردة.

فيها. يقول سبحانه: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كٰانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ، مَشٰارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغٰارِبَهَا اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا (1)و يقول سبحانه: رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ رَبُّ اَلْمَشٰارِقِ (2).

و يقول: فَلاٰ أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشٰارِقِ وَ اَلْمَغٰارِبِ إِنّٰا لَقٰادِرُونَ (3).

و من المعلوم أنّ الأرض على فرض انبساطها لا تخلو من مشرق واحد و مغرب كذلك، و إنّما تتعدد مشارقها و مغاربها إذا كانت كروية، فتكون النقاط الشرقية، غربية لسكنة النقاط الشرقية، و النقاط الغربية، شرقية لسكنة النقاط الغربية.

روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: صحبني رجل كان يمسي بالمغرب و يغلس بالفجر. و كنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، و أصلي الفجر إذا استبان الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا و تغرب عنا، و هي طالعة على قوم آخرين بعد. قال: فقلت: إنّما علينا أن نصلي إذا وجبت الشمس عنّا، و إذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلاّ ذلك، و على أولئك أن يصلّوا إذا غربت الشمس، عنهم»(4).

و الظاهر من الرواية أنّ الإمام، و مصاحبه، كانا يتفقان على كروية الأرض، و أنّ الشمس تطلع على قوم قبل أن تطلع على قوم آخرين، و أنّها تغرب عن قوم قبل أن تغرب عن قوم آخرين، و لو كانت منبسطة لطلعت على الجميع مرة واحدة، و غربت عن الجميع كذلك غير أنّ الإمام عليه السلام يعتقد بأنّ على كل مكلّف رعاية مشرقه و مغربه، و طلوع الشمس عليه و غروبها عنه، و ليس

ص: 422


1- سورة الأعراف: الآية 137.
2- سورة الصافات: الآية 5.
3- سورة المعارج: الآية 40.
4- الوسائل، ج 3، كتاب الصلاة، الباب 13، أبواب المواقيت، الحديث 22.

طلوعها على قوم و غروبها عنهم ميزانا له، و لأجل ذلك جاء في بعض الأحاديث:

«إنّما عليك مشرقك و مغربك»(1).

نعم، كان للفلاسفة الأقدمين نظريات شتى حول شكل الأرض و كرويتها، و كان الاعتقاد بكرويتها منتشرا عند ظهور نظرية بطلميوس، غير أنها لم تكن معروفة في الحجاز، و إنّما كان تفكير الأميين من العرب حول الأرض، تفكير إنسان بدوي يعيش في الصحراء القاحلة. فالإجهار بهذه الحقيقة في تلك البيئة البعيدة عن الحضارة، لا يصحّ إلاّ إذا اعتمد المخبر، على منطق الوحي.

3 - القرآن و العالم الجديد

من الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا، وجود العالم الذي اكتشفه البحّار كريستوف كولمبوس.

قال سبحانه: رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ (2).

و قد شغلت الآية بال المفسّرين، ففسّروها تارة بمشرقي الشمس و القمر، و مغربيهما، و أخرى بمشرقي الصيف و الشتاء، و مغربيهما. و لكن الظاهر هو الإشارة إلى وجود قارة أخرى، على الوجه الآخر من الكرة الأرضية، يلازم شروق الشمس عليها، غروبها عنّا، و ذلك لقوله سبحانه - حاكيا عن المجرمين يوم القيامة -: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَنٰا قٰالَ يٰا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ (3). فالظاهر أنّ المشرقين في الآيتين متحدّان أوّلا، و أنّ البعد بينهما أطول مسافة محسوسة للمتمني ثانيا. و ليست المسافة بين مشرقي الشمس و القمر أو مشرقي الصيف و الشتاء أطول مسافة محسوسة، فلا بدّ من أن يكون المراد منها

ص: 423


1- الوسائل، ج 3، كتاب الصلاة، الباب 20، من أبواب المواقيت، الحديث 2.
2- سورة الرحمن: الآية 17.
3- سورة الزخرف: الآية 38.

المسافة التي ما بين المشرق و المغرب. و معنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الأرضية، ليصحّ هذا التعبير. فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلاّ بعد مئات السنين من نزول القرآن، كما أنّ إفراد المشرق و المغرب في قوله سبحانه: وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (1)، لأجل الإشارة إلى المشرق و المغرب المحسوسين لمن يعيش على هذا الوجه من الأرض.

و بالجملة، إنّ تفسير المشرقين بالمعنى الأول و الثاني، بعيد عن الأفهام العرفية، و إنّما يختصّ التفسير بهما بالفلكيين الأخصائين في هذا الفن، و القرآن ينقله عن المجرم المتمني يوم القيامة.

***

4 - القرآن و حركة الأجرام السماوية

إنّ القرآن المجيد يخبر عن حركة الأجرام السماوية المحدودة، يقول سبحانه: لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ، وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ، وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (2).

و الفلك في اللغة العربية - كما صرّح به الراغب في مفرداته - مجرى الكواكب، و تسميته بذلك لكونه كالفلك(3).

و على ذلك فالفلك ليس بجسم و إنّما هو مدار النجوم.

و قد شبّه سبحانه حركة الشمس و القمر، بحركة الأسماك في البحار حيث يقول: يَسْبَحُونَ و السّبح: المرّ السريع في الماء، و استعير لمرّ النجوم في الفلك(4).

ص: 424


1- سورة البقرة: الآية 115.
2- سورة يس: الآية 40.
3- مفردات الراغب، مادة فلك، ص 385.
4- مفردات الراغب، مادة سبح، ص 221.

و لعلّ قوله سبحانه: وَ اَلسّٰابِحٰاتِ سَبْحاً (1)، إشارة إلى سباحة النجوم في الفضاء.

يقول سبحانه: وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (2).

و التحديد بقوله: لِأَجَلٍ مُسَمًّى سببه أنّ حركتيهما محدودتان إلى أمد معين، فإذا جاء أمر اللّه، ينطوي النظام الكوني و يتبدل. و ذلك عند ما يخطو العالم خطوته نحو الكهولة، و تستوي فيه الحرارة و البرودة. ففي ذلك الظرف تنتهي صفحة الحياة، و يطوى كتابها(3).

و ما ذكرنا لا يخالف ما ثبت من أنّ الشمس مركز للكواكب، فإنّ استقرارها استقرار نسبي بالنسبة إلى سائر المجموعة الشمسية، و لكن هذه المنظومة بعامّتها متحركة، في حركة داخل مجرّتها.

5 - القرآن و حركة الأرض

إنّ الهيئة اليونانية كانت تصرّ على سكون الأرض، و مركزيّتها بمعنى أنّ الشمس و جميع الكواكب و النجوم تدور حولها. و أوّل من خالف هذه النظرية - في الغرب - و كشف حركة الأرض حول نفسها و حول الشمس، العالم الپولوني «كوپرنيك» (1473 - 1534 م). و قد أيّده العالم الايطالي «جاليلو» (1554-1624 م) بعد أن صنع لنفسه منظارا فلكيّا صغيرا ليشهد به حركة الأرض بالدقّة و الحسّ . و لكنّه لقي بسبب تأييده هذا معارضة الكنيسة و ملاحقتها حتى حكم عليه بالاعدام بعد ما سجن طويلا. و لأجل ذلك كان العلماء يكتمون اكتشافاتهم خوفا من الكنيسة الرومية.

ص: 425


1- سورة النازعات: الآية 3.
2- سورة الرعد: الآية 2.
3- لاحظ برهان حدوث المادة الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب، ص 73، الطبعة الأولى.

و لكن القرآن أشار إلى حركة الأرض بعبارات لم تتضح إلاّ بعد قرون من الزمن، و قد جاء ذلك في ضمن آيتين:

الأولى - قوله تعالى: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً (1) فقد استعار للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع و يهزّ بهدوء لينام فيه مستريحا هادئا.

و كذلك الأرض، مهد للبشر، و ملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية و الانتقالية. فكما أنّ الغاية من حركة المهد رعاية الطفل و طمأنينته، فكذلك الأرض، فإنّ الغاية من حركتها اليومية و السنوية، تربية الإنسان، بل و جميع ما عليها من الحيوان و النبات و الجماد. و إنّما أشار إلى الحركة و لم يصرّح بها، لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنّه كان يعدّ من الضروريات التي لا تقبل التشكيك.

الثانية - قوله تعالى: وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً ، وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ (2).

إنّ بعض المفسّرين يخصّ الآية بيوم القيامة، لأنّها وردت في سياق آياتها، فقد ورد قبلها: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دٰاخِرِينَ (3).

و يلاحظ عليه أنّ الآية المتقدمة على هذه الآية، تبحث عن الحياة الدنيوية، يقول سبحانه: أَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (4). فتوسّط الآية الراجعة إلى يوم القيامة، لا يمنع صلة الآية بالحياة الدنيوية، إذا كان هناك صلة و تناسب بين الآيات، هذا.

مع أنّ القرائن الموجودة في نفس الآية تؤيّد خلافه، أمّا أوّلا: فإنّه سبحانه يقول: تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً ، مع أنّ يوم القيامة، يوم ظهور الحقائق و كشف

ص: 426


1- سورة طه: الآية 53.
2- سورة النمل: الآية 88.
3- سورة النمل: الآية 87.
4- سورة النمل: الآية 86.

البواطن، و ليس هناك ظنّ و حسبان، بل كلّ ما هنالك إذعان و يقين، يقول سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ (1).

و ثانيا: فإنّ الآية تبحث عن الجبال الموجودة، مع أنّ يوم القيامة يوم تبدّل النظام و تغيّره، يقول سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ (2).

و يقول سبحانه: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ ، فَقُلْ يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً (3).

و يقول سبحانه: وَ إِذَا اَلْجِبٰالُ سُيِّرَتْ (4).

و يقول سبحانه: وَ تَكُونُ اَلْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ (5).

فالكل يدلّ على زوال النظام بما فيه الجبال، فكيف تكون الآية ناظرة إلى يوم القيامة ؟.

و ثالثا: إنّ قوله سبحانه في ذيل الآية: صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ ، دليل على أنّه لا صلة للآية بالقيامة، إذ الصنع يناسب حياتنا الدنيوية، و أمّا يوم القيامة، فهو يوم إبادة نظام الحياة، فالجبال تتلاشى و تتمزق، فلا يناسبه التركيز على إتقان الصنع.

و رابعا: فإنّ قوله في ذيل الآية: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ ، صريح في أنّ الآية راجعة إلى الحياة الدنيوية، و لو كانت ناظرة إلى يوم القيامة، لكان المناسب أن يقول: «خبير بما فعلتم».

ص: 427


1- سورة ق: الآية 22.
2- سورة إبراهيم: الآية 48.
3- سورة طه: الآيتان 105 و 106.
4- سورة التكوير: الآية 3.
5- سورة القارعة: الآية 5.

فهذه القرائن تؤيّد كون الآية راجعة إلى حياتنا الدنيوية.

و أمّا دلالتها على حركة الأرض، فلا شكّ أنّ حركة الجبال متّصلة بحركة الأرض و تابعة لها، لرسوخها فيها، و تشعّب أصولها في بواطنها، فحركتها تلازم حركة الأرض. و معنى الآية: إنّ الأرض و الجبال و ما عليها و ما فيها، في حركة مستمرة كحركة السحاب. و أمّا تخصيص الجبال بالذكر، فلأجل ما فيها من الوزن و الثقل و الارتفاع، و قدرة اللّه تسيرها كالسحاب. و القرآن ذكر الجبال لعظمتها و ثقلها، ليبرهن بها على أنّ قدرة اللّه نافذة في كل موجود، و وسعت كل شيء.

و أمّا تشبيه حركتها بحركة السّحاب، فلإفهام أمرين:

1 - كما أنّ حركة السّحاب تكون بسكون و هدوء، بدون صخب و اضطراب، فكذلك حركة الجبال تتحقق بسكون و طمأنينة.

2 - سرعة الحركة، حيث تتحرك كتحرك السحاب حين تهب الريح. فإنّ حركة السّحب عند هبوب الرياح و العواصف حركة سريعة، و لأجل ذلك يشبهون مرور الفرص بمرّ السحاب، كما يقولون: «الفرصة تمرّ مرّ السحاب».

6 - القرآن و زوجية الموجودات

إنّ القرآن يدعو المسلمين عامة إلى التدبّر في الآيات الكونية، و يجعل ذلك علامة للإيمان، و يقول:

وَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهٰا صُمًّا وَ عُمْيٰاناً (1) .

و يقول سبحانه: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً، سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ (2).

ص: 428


1- سورة الفرقان: الآية 73.
2- سورة آل عمران: الآية 191.

فالتدبّر في الآيات الكونية، و كشف السنن السائدة عليها، آية الإيمان، و رمز العبودية.

و على ذلك، فهلمّ نتدبر في آي الذّكر الحكيم التي تصف النباتات بالزوجية.

يقول سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (1).

و في آية أخرى يعمّم وصف الزوجية إلى جميع الموجودات، و يقول: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (2).

و قد شغلت الآيتان، و ما ورد في مضمونهما، بال المفسّرين. ففسّروا الزوجية في النباتات بالأنواع و الأصناف المتشابهة. قال الراغب: «قوله:

أَزْوٰاجاً مِنْ نَبٰاتٍ شَتّٰى أي أنواعا متشابهة».

كما فسّروا الزوجية في الموجودات بتركّبها من جوهر و عرض، أو مادة و صورة، قال الراغب: «قوله: مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ تنبيه على أنّ الأشياء كلّها مركبة من جوهر و عرض، و مادة و صورة، و أن لا شيء يتعرى من تركيب يقتضي كونه مصنوعا، و أنّه لا بدّ له من صانع، تنبيها على أنّه تعالى هو الفرد، فبيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج، حيث إنّ له ضدا، أو مثلا ما، أو تركيبا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب و إنّما ذكر هاهنا زوجين، تنبيها على أنّ الشيء و إن لم يكن له ضدّ و لا مثل، فإنّه لا ينفك من تركيب جوهر و عرض، و ذلك زوجان»(3).

و ما ذكره الراغب هو عصارة ما في التفسير، فترى أنّ تفسيرهم لا يخرج عن

ص: 429


1- سورة الشعراء: الآية 7. و بهذا المضمون طه: الآية 53، و لقمان: الآية 10، و الشعراء: الآية 7، و يس: الآية 36، و ق: الآية 7، و الرحمن: الآية 53.
2- سورة الذاريات: الآية 49.
3- مفردات الراغب، مادة زوج، صفحة 216.

كون ملاك الزوجية، هو وجود الأصناف المتشابهة، أو التركب من جوهر و عرض، أو مادة و صورة، أو كون الشيء ذا ضد.

و كان في وسع هؤلاء المفسّرين، مكان التفكر فيما ورثوا من العلوم الطبيعية من الأمم السالفة، سلوك طريق التجربة و الاختبار في المختبرات. و لو سلكوا هذا الطريق لربما كشفوا عن الزوجية الحقيقة في عالم النبات.

لقد توصل أحد علماء النبات، و هو «لينه»، إلى تلك الحقيقة، فأعلن أنّ في كل فصل و نوع من أنواع النباتات ذكرا و أنثى، و أنّ إنتاج الأثمار رهن هذه الزوجية، و قد يستقلّ الزوجان عن بعضهما فيحصل اللقاح بينهما بواسطة الريح أو الحشرات كالنحل، و قد يجتمعان في نبتة واحدة، و زهرة واحدة، كما هو مفصّل في الكتب العلمية. و كان لإظهار هذه النظرية ردّ فعل من أصحاب الكنائس، فأصدروا بيانا حكموا فيه بضلالة كتبه.

نعم، كان سكنة المناطق الحارة ملمّين بوجود الزوجية في النخيل، فأدركوا أنّه إذا لم يلقّح و يطعّم بمادة الذّكورية، لا يثمر، و لكن الحالة العامة لم تتجاوز هذه المعرفة، حتى اكتشف ذاك الناموس العام.

و أمّا في جانب الزوجية في عامة الموجودات، فقد توصّل العلم إلى أنّ المادة وجود متكاثف من الذرّات، و كل ذرّة تشتمل على نواة مكوّنة من جسيمات تحمل شحنات كهربية موجبة تسمى البروتونات، و جسيمات محايدة لا تحمل شحنات كهربية باسم النيوترونات، و يدور حولها جسيمات تحمل شحنات كهربية سالبة تعرب بالإلكترونات و عددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرّة كهربيا. فذرّة تعرب بالإلكترونات و عددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرّة كهربيا. فذرّة الأوكسجين، مثلا، في نواتها ثمانية بروتونات يدور حولها ثمانية الكترونات.

و قد عبّر القرآن عن هذين الجزءين الحاملين للشحنتين المختلفتين، بالزوجية، حتى لا يقع موقع التكذيب و الردّ، إلى أن يكشف الزمان مغزى الآية و مفادها.

و بذلك يتجلّى إعجاز القرآن، حيث كشف عن هاتين الزوجيتين، قبل

ص: 430

قرون من الزمن، في عصر متخلّف، منحط، تنعدم فيه كل وسائل التجربة و الاختبار.

و العجب أنّ تلميذ النبي الأعظم، و ربيبه، و وصيّه، علي بن أبي طالب عليه السلام، يفسّر الآية بقوله: «مؤلّف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها، و ذلك قوله: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ »(1).

7 - القرآن و الحياة في الأجرام السماوية

لا يزل التحقيق و البحث مستمرا للتيقن من وجود حياة حيوانية في غير الكرة الأرضية، بعد أن كشف العلم عن وجود مظاهر للحياة النباتية على بعض الكرات، هذا. مع أنّ القرآن الكريم قد أخبر عن وجود الدوابّ في السموات و الأرض بقوله: وَ مِنْ آيٰاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَثَّ فِيهِمٰا مِنْ دٰابَّةٍ ، وَ هُوَ عَلىٰ جَمْعِهِمْ إِذٰا يَشٰاءُ قَدِيرٌ (2).

و الدّابّة، عبارة عن كل ما يدبّ و يتحرك، و بحكم عود ضمير التثنية (فيهما) إلى السموات و الأرض، نستكشف أنّ الحياة ليست مقصورة على الكرة الأرضية، و أنّها توجد أيضا في السموات و الأجرام العلوية.

و إلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله: «هذه النّجوم التي في السماء مدائن، مثل المدائن التي في الأرض»(3).

ص: 431


1- التوحيد، للصدوق. الباب 43، الحديث الثاني، ص 308. و قد نقله في ص 37، باب التوحيد و نفي التشبيه، و الحديث الثاني عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام.
2- سورة الشورى: الآية 29.
3- سفينة البحار، مادة نجم، ج 2، ص 574.
8 - القرآن و دور الجبال في إثبات القشرة الأرضية

القرآن الكريم يبحث عن أسرار الجبال، و الآثار المترتبة عليها في آيات شتّى، تكشف لنا دورها في ثبات القشرة الأرضية، و تأثيرها في جريان الأنهار الكبيرة.

قال سبحانه: وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهٰاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (1).

و قال سبحانه: وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً (2).

و قال سبحانه: أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهٰاداً * وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً (3).

و يستفاد من هذه الآيات أنّ للجبال دورا عظيما في الأمور التالية:

1 - الجبال هي الحافظة لقطعات القشرة الأرضية، تقيها من التفرق و التبعثر، كما أنّ الأوتاد و المسامير تمنع القطعات الخشبية عن الانفصال.

2 - الجبال تمنع المواد السائلة الملتهبة الواقعة تحت الأرض، من الانفجار و الاندلاع، حسب طاقات المواد، و لولاها لكانت الأرض على غير هذه الصورة، و لوجدتها إثر الضغط المستمر الناتج بسبب المواد الكامنة في جوفها، في ميدان دائم و اضطراب، و إذا كنا نجد في بعض المواضع جبالا تتدفق منها الحمم فما ذلك إلاّ لبلوغ الضغط مبلغا عظيما في الشدّة، يفوق قدرة الجبال، و تنوء عن تحمّله.

3 - وجود علاقة بين الجبال و توفير الماء، حيث عطف قوله: وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً ، على قوله: وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ .

و ذلك لأنّ ارتفاع الجبال يوجب انخفاض الحرارة فيها، و قلّة تأثير الشمس

ص: 432


1- سورة النّحل: الآية 15 و لاحظ سورة لقمان: الآية 10.
2- سورة المرسلات: الآية 27.
3- سورة النبأ: الآيتان 6 و 7.

عليها. فعندئذ تجتمع عليها الثلوج ثم تذوب في الفصول الحارّة، و تجري المياه الذائبة على وجه الأرض بهدوء و سكون، لتتشكل بعدها الأنهار و الجداول، و يرتوي منها الإنسان، و يروي دوابّه و مزارعه، و لو لا الجبال لانجذبت المياه إلى باطن الأرض، و لما استفاد منها الإنسان إلاّ بالمكائن و الأدوات الصناعية المعقّدة، و ربما لا تكون الآبار مفيدة و لا تسدّ حاجة المزارع و عموم الناس من الماء.

هذا بعض ما يرجع إلى فوائد الجبال التي يذكرها القرآن الكريم، ألمعنا إليها بصورة مبسطة. و أساتذة الفيزياء، و التضاريس الأرضية، يفسّرون كون الجبال أوتادا للأرض بشكل علمي خاص، لا يقف عليه إلاّ المتخصص في تلك العلوم، و المطّلع على قواعدها، و لأجل ذلك اكتفينا بما ذكرنا(1).

و في الختام نؤكّد ما سبق في صدر البحث من أنّ القرآن ليس كتابا يعالج قضايا العلوم الطبيعية و الرياضية و الهندسية، و إنّما يتعرض لبعض القوانين السائدة على الكون لأجل الاهتداء بها إلى المعارف و الأصول العقلية، كالتعرف على اللّه و صفاته و أفعاله، و على ذلك فلا يصحّ لنا الإكثار من هذا النوع من الإعجاز، و تطبيق الآيات على القوانين الكونية، حتى و إن لم يكن ظاهرا فيها. فما يرى من الإسراف في بعض التفاسير في هذا المجال، ليس بمرضيّ عند من يقف في تفسير القرآن الكريم على باب النصّ من نفس الكتاب، على اختلاف وجوهه و أقسامه، أو الأثر المأثور من صاحب الشريعة و آله، صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين.

ص: 433


1- و من أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الأستاذ - دام ظلّه - على سورة الرعد: «القرآن و أسرار الخلقة». و هو فارسي، لم يترجم بعد.

شواهد إعجاز القرآن

(8) الأخلاق

نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله، في عصر الظلمة و الجهل، حيث لم يكن من فضائل الأخلاق و مكارمها، ذكر و لا أثر إلاّ النذر اليسير. ففي ذاك الظرف جاء القرآن مستقصيا للأخلاق الفاضلة، و مبيّنا للأخلاق الرذيلة، فدعا إلى التزيّن بالأولى، و الانتهاء عن الثانية، و أقام بذلك أشرف مدرسة أخلاقية زاهرة، بجمل كلمه و جوامعها، و يكفي في ذلك قوله سبحانه:

إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ ، وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ، وَ اَلْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ ، وَ لاٰ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا، وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ (1) .

و في الآيات التالية اجتمعت أصول أخلاقية عشرة فيها حياة المجتمع، قال سبحانه: قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً، وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ ، وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ ، وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ،

ص: 434


1- سورة النحل: الآيتان 90-91.

ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ، لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا، وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ ، وَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ أَوْفُوا، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) .

هذه نماذج من الأصول الأخلاقية الواردة في القرآن الكريم، و للتوسع مجال ليس هنا موضعه.

نعم، نرى أنّ التوراة أمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لأقربائهم، و نهتهم عن الحقد على أبناء شعبهم، و عن السعي بالوشاية و شهادة الزور على أقربائهم و أن يغدر أحدهم بصاحبه، و لكنها شوّهت جمال هذه الأصول الأخلاقية، بتخصيص تعاليمها ببني إسرائيل، و بتخصيصها بالقريب و الشعب و الصاحب. و هذا بخلاف القرآن، فإنّه يوجّه خطاباته الأخلاقية إلى الناس أجمعين، من دون فرق بين قوم و قوم، و عنصر و آخر.

و أمّا الأناجيل الرائجة، فقد أفرطت في الدعوة إلى التصوّف البارد، حتى نهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم، و قطع مادة الفساد، بل قالت:

«لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدّك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضا * و من اراد أن يخاصمك و يأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضا!!»(2).

إنّ للأخلاق القرآنية صبغة خاصة و ميزة فريدة، فلا هي أخلاق يونانية تجعل الغاية من التزين بالأخلاق هي النفع المادي العائد من الإنسان، كالدعوة إلى إكرام الجار، حتى لا يسرق متاعا عند غيابك، أو يردع الطاغية الظالم عنها.

و لا هو أخلاق روحانية بحتة، لا ترى إلاّ ترقية الروح و إسعادها، و تنسى أنّ البشر مخلوق ممزوج من مادة و معنى، و جسم و روح، و لا تتحقق السعادة إلاّ

ص: 435


1- سورة الأنعام: الآيات 151-153.
2- لاحظ العهد الجديد، إنجيل متى، الأصحاح الخامس، الجملتان 39 و 40، ص 9، ط دار الكتاب المقدس.

بإعطاء كلّ حقّه. بل هي مثل أخلاقية وسطى، تضمن سعادة الإنسان في كلا الجانبين.

هذه ثمانية من الشواهد الدالّة بوضوح على أنّ القرآن ليس تقوّلا على الوحي، و لا نتاج فكر إنسان عادي منقطع عن التعليم الإلهي، و أنّ هذا الكتاب بهذه المزايا و السمات، يمتنع أن يقوم به إنسان مهما بلغ في العقل و الذكاء، أو فاق أقرانه و أماثله من بني البشر، إلاّ أن يكون متصلا بالوحي السماوي، مستمدا تعاليمه من خالق البشر.

ص: 436

المقام الثاني الاستدلال على نبوته بمعاجزه الأخر
اشارة

إنّ أوّل ما كان الأنبياء يطالبون به - كوثيقة تثبت صحّة مدعاهم، و صحة انتسابهم إلى اللّه تعالى - هو الإتيان بالبيّنات و المعجزات. و هذا هو القرآن يحدّثنا أنّ صالحا عليه السلام عند ما حذّر قومه من سخط اللّه، و أخبرهم بأنّه رسوله إليهم، طالبوه بالمعجزة قائلين: مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ (1).

و قد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم على ذلك، حيث طالبوه بالإتيان بالمعاجز في بدء دعوته، و كان الرسول العظيم يلبّي طلباتهم. و بالرغم من كثرة هذه المعاجز التي حفظها الحديث و التاريخ، أبى بعض من ناوئ الإسلام، إلاّ إنكارها، و الإصرار على أنّ نبيّ الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن.

إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول الأكرم، نجمت من الكتّاب المسيحيين، تقليلا من أهمية الدعوة المحمّدية، و حطّا من شأن الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم.

فهذا هو «فندر» - القسيس الألماني - يقول في كتابه «ميزان الحق»: إنّ

ص: 437


1- سورة الشعراء: الآية 154. و قد وردت آيات بهذا المضمون في سور شتّى.

محمدا لم يأت بأية معجزة قط»(1). و تبعه سائر القساوسة، و لاكوه بين أشداقهم، و ما زالوا إلى يومنا هذا. و إليك فيما يأتي تفنيد هذه المزعمة بأدلة ثلاثة.

1 - المحاسبة العقلية.

2 - الرجوع إلى نفس القرآن.

3 - معاجز الرسل في الحديث و التاريخ.

الدليل الأول - المحاسبة العقلية

إنّ القرآن الكريم وصف الرسول الأعظم بأنّه خاتم الأنبياء، و أنّ رسالته خاتمة الرسالات، و كتابه خاتم الكتب(2).

و أخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل و الأنبياء، فنقل في شأن موسى قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ (3).

كما تحدّث عن المسيح و دعوته، و بيّناته فقال: وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَ مٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (4).

و في ضوء هذا، هل يصحّ للقرآن الكريم أن يخبر بهذه المعاجز للأنبياء، و يصف محمدا بأنّه خاتمهم و آخرهم، و أفضلهم، ثم لا يكون له معجزة ؟ و إذا طلبوا منه إظهار الإعجاز، يتهرب أو يسكت، أو يقول ليس لي معجزة ؟.

ص: 438


1- ميزان الحق، ص 277. و قد كتبه حول حياة الرسول.
2- لاحظ مفاهيم القرآن، ج 3، ص 118-180.
3- سورة الإسراء: الآية 101.
4- سورة آل عمران: الآية 49.

و لو فرضنا أنّ النبي الأعظم لم يكن إلاّ نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أمّتهم، متسترا برداء النبوة، لما صحّ له أن يخبر عن معاجز الأنبياء السالفين، ثم يصف نفسه بالخاتمية، و دينه بالأكملية، و ينكص عن الإتيان بمثل معاجزهم عند الطلب منه.

فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان مزعمة القساوسة، بل تثبت أنّ النبي الأعظم قد أظهر معاجز عديدة لقومه عند ما طلبوا منه ذلك، كيف و القرآن يصفه بما لا يصف به أحدا من أنبيائه، و هو يقتضي عقلا أن يكون له أفضل ما أوتي سائر الأنبياء.

الدليل الثاني - القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن
اشارة

إنّ القرآن يخبر بصراحة عن وقوع معاجز على يدي الرسول الأمين، و فيما يلي نذكر الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال.

1 - انشقاق القمر

قال سبحانه: اِقْتَرَبَتِ اَلسّٰاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ * وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَ كَذَّبُوا وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ، مُسْتَقِرٌّ * وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبٰاءِ مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (1).

أطبق أكثر المفسّرين على أنّ المشركين اجتمعوا إلى رسول اللّه، فقالوا: إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين فقال لهم رسول اللّه: إن فعلت تؤمنون ؟.

قالوا: نعم. و كان ليلة بدر، فسأل رسول اللّه ربّه أن يعطيه ما قالوا: فانشق القمر فلقتين، و رسول اللّه ينادي: «يا فلان، يا فلان، اشهدوا»(2).

ص: 439


1- سورة القمر: الآية 1-4.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 186. تفسير الرازي، ج 7، ص 748، ط مصر في ثمانية أجزاء، الكشاف، ج 3، ص 181.

و معنى قوله: اِقْتَرَبَتِ اَلسّٰاعَةُ ، أنّ القيامة قد قربت، و قرب موعد وقوعها، و الكفار يتصورونها بعيدة، قال سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَ نَرٰاهُ قَرِيباً (1).

و قوله: وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ ، يدلّ على وقوع انشقاق القمر، لأنّه فعل ماض. و حمله على المستقبل، لانشقاق القمر يوم القيامة، تأويل بلا جهة.

و أمّا وجه الربط بين الجملتين (اقتراب الساعة و انشقاق القمر)، فهو أنّ انشقاقه من علامة نبوّة نبينا، و نبوّته و زمانه من أشراط الساعة، و قد أخبر القرآن عن تحقق هذين الشرطين (ظهور نبي الإسلام، و انشقاق القمر) و قال: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّٰاعَةَ ، أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا (2).

و في الآية قرينتان على أنّ المراد، انشقاق القمر بوصف الإعجاز، لا انشقاقه يوم القيامة.

الأولى: قوله: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ، فالمراد من الآية، الآية المعجزة، غير الآيات القرآنية، و ذلك لأنّه لو كان المراد هو الآيات القرآنية، لكان المناسب أن يقول: و إن سمعوا آية، أو نزلت عليهم آية. و على هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي تقدم ذكره في الآية.

الثانية: أنّ قوله: وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ، يعيّن ظرف هذا الحدث، و أنّه هو هذا العالم المنتظم لا يوم القيامة. إذ لو كان راجعا إليها، لما كان لأحد أن يتفوّه بغير الحق، أو يصف فعل الحق بالسحر، لأنّ ذلك الظرف ظرف الختم على الأفواه، و استنطاق الأيدي و الأرجل، قال سبحانه:

اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (3) .

ص: 440


1- سورة المعارج: الآيتان 6-7.
2- سورة محمد: الآية 18.
3- سورة يس: الآية 65.

فهذا المقطع من الآية يدلّ على أنّ ظرف الانشقاق كان في زمن الرسول، و لأجل ذلك اتّخذ منه المشركون موقفا متعنتا مجادلا، و قال قائلهم: «سحركم ابن أبي كبشة»(1). و قد كان المشركون يدعون الرسول الأعظم به، و أبو كبشة من أجداد النبي من ناحية أمه.

2 - إسراء و معراج النبي صلى اللّه عليه و آله

إنّ إسراء النبي ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أحد المعاجز العظيمة التي أنعم اللّه سبحانه بها على نبيه، و أخبر عنها القرآن حيث قال:

سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بٰارَكْنٰا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيٰاتِنٰا، إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (2) .

و قد تحقق عبور تلك المسافة الطويلة في زمن قصير، في ظرف لم يكن يتوفّر فيه شيء ممّا يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة، و هذا هو الوجه في إعجازها.

إنّ القرآن الكريم يثبت هذا الإعجاز، في سورة أخرى أيضا، و يدعمها بقوة لا تبقي في النفس شكا بها، و يخبر أنّ رحلة النبي تجاوزت المسجد الأقصى (الوارد في الآية السابقة) إلى سدرة المنتهى(3).

3 - مباهلة النبي لأهل الكتاب

تعرّض القرآن لقضية المباهلة، في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ، فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ (4).

إنّ قصة المباهلة مذكورة في التفاسير(5)، و معجزة النبي - و هي حلول

ص: 441


1- الدرّ المنثور، ج 6، ص 133، و قد جمع كلمات الصحابة حول شقّ القمر.
2- سورة الإسراء: الآية 1.
3- لاحظ سورة النجم: الآيات 5-18.
4- سورة آل عمران: الآية 61.
5- تقدمت إليها الإشارة في مباحث النبوة العامة.

العذاب على نصارى نجران - و إن لم تتحقق بسبب انصرافهم عن المباهلة، إلاّ أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة و استعداده لذلك من جانب، و انسحاب نصارى نجران من خوض معركة التباهل من جانب آخر، يكشفان عن أنّ حلول العذاب - بدعاء الرسول - كان حتميا لو تباهلوا، فقد أدركوا الخطر و أحسّوا بعواقب الموقف، فتنازلوا و تصالحوا.

4 - طلب المعاجز من النبي (ص) الواحدة تلو الأخرى

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ النبي كان كلما أتى قومه بآية، طالبوه بآية أخرى، و كانوا يصرّون على أن تكون مثل معاجز السابقين، و هذا يدلّ على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن حتى جاء الطلب منهم بعد الطلب.

قال سبحانه: وَ إِذٰا جٰاءَتْهُمْ آيَةٌ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّٰى نُؤْتىٰ مِثْلَ مٰا أُوتِيَ رُسُلُ اَللّٰهِ (1) و ليس المراد من آيَةٌ نفس القرآن، و لا الآية القرآنية، لوجهين:

1 - أنّها جاءت بصورة النكرة، و هذا يكشف عن نوع خاص من الآيات.

2 - لو كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية، كان المناسب إلقاء الكلام بنحو آخر بأن يقول بدل المجيء، «النزول»، فيقول: «إذا نزلت عليهم آية». و على هذا فلفظ «آية»، فيها، نظيرها في قوله سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ * وَ لَوْ جٰاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ (2).

و في قوله سبحانه حاكيا عن المسيح عليه السلام: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ ... الآية(3).

ص: 442


1- سورة الأنعام: الآية 124.
2- سورة يونس: الآيتان 96 و 97.
3- سورة آل عمران: الآية 49.

و أمّا علّة اختلاف الأنبياء في أصناف المعاجز، فقد قدمنا ذكره في صدر هذا الفصل.

5 - وصف معاجز النبي بالسحر

إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلما رأوا من الرسول آية، وصفوها بالسحر. قال سبحانه: وَ إِذٰا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَ قٰالُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ (1).

إنّ تنكير آيَةً ، و استعمال رَأَوْا ، دليل على أنّ المقصود من الآية، غير القرآن من المعاجز، و إلاّ لكان المناسب تعريف الآية، و وصفها بالسماع أو النزول.

و هذه الآية نظير قوله سبحانه: وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاٰ يُؤْمِنُوا بِهٰا.. (2).

6 - النبيّ الأعظم و بيّناته

يشير القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ الأعظم بعث مع البينات، و المراد منها المعاجز، كما تشهد به الآيات الأخر.

قال سبحانه: كَيْفَ يَهْدِي اَللّٰهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جٰاءَهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ ، وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ (3).

و «البيّنات» جمع «البيّنة»، و هي الدليل على الشيء، و ربما يحتمل أنّ المراد هو القرآن، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبله حول النبي، و لكن

ص: 443


1- سورة الصافات: الآيتان 14 و 15.
2- سورة الأنعام: الآية 25.
3- سورة آل عمران: الآية 86.

ملاحظة الآيات الأخر التي استعملت فيها هذه الكلمة، تؤيّد أنّ المراد المعاجز و الأعمال الخارقة للعادة.

قال سبحانه: وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ (1).

و قال سبحانه: ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ (2).

و قال سبحانه: وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ (3).

و قال سبحانه: وَ لَقَدْ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ (4).

إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات، و أريد منه الأفعال الخارقة للعادة.

و الظاهر أنّ المراد منه في الآية السابقة هو نظائر تلك المعاجز.

7 - إخبار النبي عن الغيب، كالمسيح

إنّ القرآن المجيد يعدّ إخبار المسيح عليه السلام، عن المغيبات، من معاجزه، في قوله - حاكيا عنه -: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَ مٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5).

فإذا كان الإخبار عن الغيب، آية معجزة للمسيح، فقد أخبر النبي عن المغيّبات بكتابه الذي جاء به، كما تقدم في الشواهد على إعجاز الكتاب.

الدليل الثالث - معاجز النبيّ في الحديث و التاريخ
اشارة

إنّ كتب الحديث و التاريخ، زاخرة بمعاجز النبي، التي لا يمكن نقل

ص: 444


1- سورة البقرة: الآية 87.
2- سورة النساء: الآية 153.
3- سورة المائدة: الآية 110.
4- سورة المائدة: الآية 32.
5- سورة آل عمران: الآية 49.

معشارها في هذا الكتاب. و قد قام بعض المحدّثين، بتآليف مفردة في هذا المجال، أجمعها فيه ما ألّفه الشيخ الحرّ العاملي (م 1104)، و أسماه ب «إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات»، و طبع في ثلاث مجلدات كبار. و قد جمع فيها معاجز النبي من كتب الشيعة و السنّة، جزاه اللّه عن الإسلام. خير الجزاء.

مقارنة بين معاجز النبي و غيره من الأنبياء

إنّ أحاديث المسلمين حول معاجز النبي، تمتاز على روايات اليهود و النصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين:

الأولى: قلّة الفترة الزمنية بيننا و بين حوادث العهد النبوي، و كثرتها بيننا و بين حوادث عهود النبيّين موسى و عيسى عليهما السلام، و غيرهما، و هذا يوجب الاطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من روايات غيرهم.

الثانية: تواتر الروايات الإسلامية حول معاجز النبي الأكرم و عدمه في الجانب الآخر، فإنّها تنتهي إلى أفراد قلائل.

و من أراد الوقوف على معاجز النبي فعليه المراجعة إلى الكتاب الذي أشرنا إليه حتى تتضح مصادر ما ذكره، و يتبين تواترها إجمالا، و إن لم يكن بعضها متواترا لفظا(1).

ص: 445


1- التواتر ينقسم إلى لفظي و معنوي و إجمالي، و الفرق بينهما واضح لمن كان له إلمام بعلم الدراية، و حاصله أنّ الحديث إذا كان بنصّه متواترا فهو التواتر اللفظي. و إذا كان كل واحد من الأحاديث غير متواتر نصّا لكن الجميع يشهد عن قدر مشترك بينها، كالأخبار الواردة حول سخاء خاتم، و بطولة الإمام علي، فإنّ كلّ واحد، و إن كان لا يتجاوز أخبار الآحاد، لكن الجميع يتفق في حكاية سماحة الأول، و شجاعة الثاني، فهذا الجامع، متواتر معنى. و أمّا الثالث فهو ما إذا كثرت الأخبار في موضوع، و نعلم بصدور عدّة منها، و إن لم يكن كل واحد معلوم الصدور، كما في المقام، فإنّ كلّ واحد من الأخبار حول معاجزه و إن كان غير متواتر، لكن نعلم بصدور البعض قطعا، فهو متواتر إجمالا.
خاتمة المطاف

لقد حصحص الحق، و ثبت لك وقوع المعاجز على يد النبي الأكرم، سواء معجزته الخالدة أم غيرها من المعاجز الواردة في القرآن، و كتب الحديث، و التاريخ. و ما ذكرناه كاف في إثبات نبوته، على وجه لا يدع لقائل مقالا، و لا لمرتاب شكّا و ريبة.

و قد عرفت في صدر الفصل أنّ للتعرف على صدق مدّعي النبوة طرقا ثلاثة:

الأول: التحدّي بالمعاجز.

الثاني: تنصيص النبي السابق على نبوّة النبي اللاحق.

الثالث: جمع القرائن و الشواهد القاضية بصدق المدّعي.

و قد فرغنا من سلوك الطريق الأول، و فيما يلي نسلك الطريق الثاني.

ص: 446

الطريق الثاني لإثبات نبوة نبي الإسلام بشائر خاتم الرسل في العهدين

إنّ النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلّم، كان يحتجّ على اليهود و النصارى، بأنّه قد بشّر به في العهدين، و أنّ الكليم و المسيح بشّرا برسالته، و أنّ أهل الكتاب لو رجعوا إلى كتبهم - حتى بعد التحريف - لوجدوا بشائره فيها، و تعرّفوا عليه، كتعرّفهم على أبنائهم. كان يحتجّ بهذه الكلمات، و لم يكن هناك أيّ ردّ من الأحبار و الرهبان في مقابله، بل غاية جوابهم كان السكوت و إخفاء الكتب، و عدم نشرها بين أتباعهم.

و لو كان النبي الأكرم غير صادق - و العياذ باللّه - في هذا الادّعاء، لثارت ثورتهم عليه، و لملئوا الأجواء و الطوامير بنقده و ردّه، غير أنّ صراحة النبي و صموده أمام علمائهم بشدّة، يكشف عن انهزام العدو أمام ذلك الادّعاء.

يقول القرآن الكريم: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ ، يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1).

و يقول: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (2).

ص: 447


1- سورة البقرة: الآية 146.
2- سورة الأعراف: الآية 157.

و يقول: وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ ، وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

ثم إنّ علماء المسلمين في الأعصار السابقة نقبوا في العهدين، و جمعوا البشارات الواردة فيهما. و نقل هذه البشائر، يوجب الإسهاب في الكلام و الخروج عن وضع الكتاب، و نكتفي في ذلك بهذه البشارة التي تكشف عنها الآية الأخيرة، فإنّ فيها تنصيص على الاسم مكان التنصيص على الصفات، و هذه الإشارة وردت في إنجيل يوحنا في الأصحاحات: الرابع عشر، و الخامس عشر، و السادس عشر. و إليك نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية:

1 - إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، و أنا أطلب من الأب فيعطيكم معزّيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد(2).

2 - و أمّا المعزّي، الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء، و يذكّركم بكل ما قلته لكم(3).

3 - و متى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي و تشهدون أنتم أيضا لأنّكم معي من الابتداء(4).

4 - لكني أقول لكم الحق، إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي، و لكن إن ذهبت أرسله إليكم * و متى جاء ذاك يبكّت العالم على خطيّة و على برّ و على دينونة(5).

5 - و أمّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه

ص: 448


1- سورة الصف: الآية 6.
2- إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملتان 15 و 16، ط دار الكتاب المقدس.
3- إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.
4- إنجيل يوحنا، الأصحاح الخامس عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.
5- إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملتان 7 و 8، ط دار الكتاب المقدس.

لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع، يتكلّم به، و يخبركم بامور آتية(1).

وجه الاستدلال يتوقف على بيان نكتة، و هي أنّ المسيح عليه السلام، كان يتكلم بالعبرية، و كان يعظ تلاميذه بهذا اللسان، لأنّه ولد و شبّ بين ظهرانيهم، و أمّه أيضا كانت عبرانية، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ المؤرّخين أجمعوا على أنّ الأناجيل الثلاثة غير متى، كتبت من أوّل يومها باللغة اليونانية، و أمّا إنجيل متى فكان عبريا من أوّل إنشائه.

و على هذا، فالمسيح بشّر بما بشّر باللغة العبرية أولا، و إنّما نقله إلى اليونانية، كاتب الإنجيل الرابع «يوحنا» و كان عليه التحفّظ على لفظ المسيح في مورد المبشّر به، لأنّ القاعدة الصحيحة، عدم تغيير الأعلام، و الإتيان بنصّها الأصلي، لا ترجمة معناها. و لكن «يوحنا» لم يراع هذا الأصل، و ترجمه إلى اليونانية، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح، و في غبّ ذلك حصل الاختلاف في المراد منه.

و أمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب «يوحنا» مكان اللفظ العبري، فهو مردد بين كونه «پاراقليطوس»(2) الذي هو بمعنى المعزّي و المسلّي و المعين و الوكيل، أو «پريقليطوس»(3) الذي هو بمعنى المحمود، الذي يرادف أحمد.

و لأجل تقارب الكلمتين في الكتابة و التلفظ و السماع، حصل التردد في المبشّر به.

و مفسّروا و مترجمو إنجيل يوحنا، يصرّون على الأول، و لأجل ذلك ترجموه إلى العربية ب «المعزّي»، و إلى اللغات الأخرى بما يعادله و يرادفه، و ادّعوا أنّ المراد منه هو روح القدس، و أنّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح، كما ذكر تفصيله في كتاب أعمال الرسل(4). و زعموا أنّهم بذلك خلعوا

ص: 449


1- إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملة 13، ط دار الكتاب المقدس.
2- في اليونانية هكذا: IIapakahtoe . و بالأفرنجى هكذا: Paracletos .
3- في اليونانية هكذا: IIepikahote . و بالأفرنجية هكذا: Pericletos .
4- أعمال الرسل، الأصحاح الثاني: الجملات 1-4، يقول: و لما حضر يوم الخمسين كان،

المسلمين عن السلاح الذي كانوا يحتجون به عليهم.

و مع ذلك، فهناك قرائن تلقي الضوء على أنّ المبشّر به هو الرسول الأعظم، لا روح القدس، و إليك تلك القرائن:

1 - إنّ المسيح بدء خطابه إلى تلاميذه بقوله: إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، و أنا أطلب من الأب فيعطيكم «معزيا» آخر، ليمكث معكم إلى الأبد.

و هذا الخطاب يناسب أن يكون المبشّر به نبيا، لأنّ المسيح يحتمل - في هذا الكلام - أن يتخلّف عدّة منهم عن اقتفاء أثره و دينه، و لذلك أثار عواطفهم في هذا المجال لئلا يتخلّفوا. و لو كان المراد منه روح القدس لما احتاج إلى تلك المقدمة، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني لا يمكن لأحد التخلّف عنه، و لا يبقى في القلوب معه شكّ ، و هذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثر ببيانه و كلامه في القلوب و الأرواح، و هو يختلف حسب اختلاف طبائع المخاطبين و استعدادهم.

و لأجل ذلك أصرّ على إيمانهم به في بعض خطاباته و قال: و قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون(1).

2 - إنّه وصف المبشّر به بلفظ «آخر»، و هذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده، و انحصاره في واحد، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحدا بعد الآخر، في فترة بعد فترة.

3 - إنّه ينعت ذلك المبشر به بقوله: ليمكث معكم إلى الأبد و هذا يناسب نبوة النبي الخاتم التي لا تنسخ.

ص: 450


1- إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 29، ط دار الكتاب المقدس.

4 - إنّه يقول: و أمّا «المعزّي الروح القدس» الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، و يذكركم بكل ما قلته لكم و هذه الجملة تناسب أن يكون المبشر به نبيّا يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير الشريعة السابقة على و شك الاضمحلال و الاندثار. فيأتي النبي اللاحق، يذكر بالمنسيّ ، و يزيل الصدأ عن الدين.

و أمّا لو كان المراد هو روح القدس فقد نزل على الحواريين بعد خمسين يوما من فقد المسيح، حسب ما ينصّ عليه كتاب أعمال الرسل(1). أ فيظن أنّ الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح و تعاليمه حتى يكون النازل هو الموعود به ؟!.

5 - و يصف المسيح المبشر به، بقوله: فهو يشهد لي. و هذه العبارة تناسب أن يكون المبشر به هو النبي الخاتم حيث بعث مصدّقا للشرائع السابقة و الكتب السالفة، و قد أمره سبحانه أن يخاطب أهل الكتاب بقوله: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ آمِنُوا بِمٰا نَزَّلْنٰا مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَكُمْ (2)، و غير ذلك. و من المعلوم أنّ الرسول الأكرم شهد برسالة المسيح، و نزّه أمّه و ابنها، عن كل عيب و شين، و ردّ كلّ ما ألصق بهما من جهلة اليهود من التهم التافهة. و هذا بخلاف ما إذا فسّر بروح القدس، إذ لم يكن للمسيح يوم ذاك أي حاجة لشهادته، و دينه و شريعته بعد غضّان طريّان.

6 - إنّه يقول: لأنّه إن لم انطلق، لا يأتيكم «المعزي»، و لكن إن ذهبت أرسله إليكم. و هذا يناسب أن يكون المبشّر به نبيا، حيث علّق مجيئه بذهابه، لأنّه جاء بشريعة عالمية، و لا تصحّ سيادة شريعتين مختلفتين على أمة واحدة.

و لو كان المبشّر به هو روح القدس، لما كان لهذا التعليق معنى، لأنّ روح

ص: 451


1- أعمال الرسل، الأصحاح الأول: الجملة 5. و الأصحاح الثاني: الجملات 1-4، ط دار الكتاب المقدس.
2- سورة النساء: الآية 47.

القدس حسب تصريح إنجيلي متى و لوقا، نزل على الحواريين عند ما بعثهم المسيح للتبشير و التبليغ(1).

7 - و يقول: و متى جاء ذاك يبكّت العالم على خطيّة، و على برّ، و على دينونة.... و هذا يؤيّد أن يكون المبشّر به نبيّا، إذ لو كان المراد هو روح القدس، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم، فما و بخّ اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا، لعدم رؤيتهم إيّاه. و لم يوبخ الحواريين، لأنّهم كانوا مؤمنين به.

8 - و يقول: و متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، و يخبركم بأمور آتية.

و هذا يتناسب مع كون المبشّر به نبيّا خاتما، صاحب شريعة متكاملة، لا يتكلم إلاّ بما يوحى إليه، و هذه كلّها صفات الرسول الأكرم محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم.

فجميع هذه القرائن تشهد بوضوح على أنّ المراد من «المعزي» المبشّر به، هو النبي الأكرم لا روح القدس، و لو أمعنت النظر في سائر القرائن التي ذكرها المحققون من المسلمين في تفسير هذا اللفظ، لعالت القرائن(2).

غير أنّ البشارات لا تنحصر بذلك بل هي موجودة في العهدين، و استقصاء البحث و جمعها، يستدعي تأليف كتاب منفرد حافل، إلاّ أنّا نلفت إلى نكتة و هي:

إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح كان كتابا واحدا، و هو عبارة عن هديه

ص: 452


1- لاحظ إنجيل متى: الأصحاح العاشر، الجملة الأولى فما بعدها. و إنجيل لوقا: الأصحاح العاشر، الجملة 11، و فيها: و لكن اعلموا هذا: إنّه قد اقترب منكم ملكوت اللّه.
2- من أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى كتاب أنيس الأعلام في نصرة الإسلام، ج 5، ص 139 - 172.

و بشارته بمن يجيء بعده، ليتم دين اللّه الذي شرعه على لسانه و ألسنة الأنبياء من قبله، فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم، و إنّما كثرت الأناجيل لأنّ كلّ من كتب سيرته سماه إنجيلا، لاشتماله على ما بشّر و هدى به الناس، و من تلك الأناجيل إنجيل «برنابا». و «برنابا» حوريّ من أنصار المسيح الذي يلقّبهم رجال الكنيسة بالرّسل، صحبه «بولص» زمنا، بل كان هو الذي عرّف التلاميذ ببولص، بعد ما اهتدى بولص و رجع إلى أورشليم، و لم يكن من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عثروا في أوروبا على نسخة منذ قرابة ثلاثة قرون، و هذا هو الإنجيل الذي حرم قراءته «جلاسيوس الأول» في أواخر القرن الخامس للميلاد.

و هذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة في عدّة أمور:

1 - ينكر ألوهية المسيح و كونه ابن اللّه.

2 - يعرّف الذبيح بأنّه اسماعيل لا إسحاق.

3 - أنّ المسيح المنتظر هو «محمد»، و قد ذكر «محمد» باللفظ الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول.

4 - أنّ المسيح لم يصلب بل حمل إلى السماء، و أنّ الذي صلب إنّما كان يهوذا الخائن. فجاء مطابقا للقرآن.

و من أراد الوقوف على بشائر هذا الإنجيل بوضوح، فعليه بالرجوع إليه(1).

***

ص: 453


1- و قد قام بترجمته من الإنكليزية الدكتور خليل سعادة، و قدم له مقدمة نافعة، و طبع في مطبعة المنار بتقديم السيد محمد رشيد رضا أيضا، عام 1326 ه، 1908 م.

ص: 454

الطريق الثالث لإثبات نبوة نبي الإسلام
القرائن الدالّة على نبوّة الرسول الأعظم
اشارة

قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ من الطرق التي يستكشف بها صدق دعوى المدّعي للنبوّة، شهادة القرائن الداخلية و الخارجية.

و هذا الطريق متين يستخدم في المحاكم القضائية في هذا العصر، لتبيين صدق المدّعي و المنكر أو كذبهما، و التوصّل إلى كنه الحوادث(1). و لكنه لا يختصّ بالمحاكم، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة، منها إثبات صدق دعوى المتنبّئ(2).

و أصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأمور التالية:

1 - سيرته النفسية و الخلقية قبل الدعوة و بعدها.

2 - الظروف التي فيها نشأ و تربّى و ادّعى النبوّة.

3 - المفاهيم التي تبنّاها و دعا إليها.

4 - الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته.

ص: 455


1- و الفرق بين هذا المقام و ما ذكرنا من الشواهد، هو أنّ الغاية من جمع الشاهد فيما مضى، إثبات كون القرآن كتابا سماويا، و لكن الغاية من جمع القرائن في المقام إثبات كون حامله رسولا إلهيا، لا مصلحا اجتماعيا.
2- و قد ذكرنا في النبوة العامة أنّ قيصر الروم هو أول من اعتمد هذا الأسلوب، و تبعه من أتى بعده.

5 - شخصية أتباعه الذين آمنوا به و لزموه و صحبوه.

6 - ثباته في سبيل أهدافه، و صموده في دعوته.

7 - أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها.

و من هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق الدعوى على وجه، و كذبها على وجه آخر، و لا ندّعي اختصاص القرائن بها، بل يمكن للممعن في رسالته، و حياته، استخراج قرائن أخر، يستدلّ بها على صدق دعواه، و إليك بيانها، واحدة بعد أخرى.

***

القرينة الأولى - سيرته النفسية و الخلقية قبل الدعوة و بعدها

نشأ النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله في أرفع بيت من بيوت قريش، و أعلاها كعبا، و أشرفها شأنا. فسيرة جدّه عبد المطلب، و عمّه أبي طالب، في الكرم و السخاء و إغاثة الملهوفين، و حماية الضعفاء، معروفة في التاريخ و السير.

و أمّا سيرة النبي الأكرم، فكفى في إشراقها أنّه كان يدعى ب «الأمين»، و كان محلّ ثقة و اعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم. فالتاريخ يروي أنّه لو لا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة. فالتاريخ يروى أنّه لو لا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة، و إجماعهم على قبول قضائه، لسالت دماؤهم و هلكت نفوسهم. و ذلك أنّهم لما بلغوا في بناء الكعبة - التي هدمها السيل - موضع الركن، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحالفوا و استعدّوا للقتال، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم و بنو عدي على الموت، و أدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، تفكّر في مخلص من هذه الورطة.

ثم إنّ أبا أمية ابن المغيرة، الذي كان أسن قريش كلها، اقترح عليهم اقتراحا، قال: «يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أوّل من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه». ففعلوا. فكان أول داخل

ص: 456

عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فلما رأوه قالوا: «هذا «الأمين»، رضينا، هذا محمد»، فلما انتهى إليهم و أخبروه الخبر، قال صلى اللّه عليه و آله:

«هلمّ ثوبا»، فأتي به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده. ثم قال: «لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا». ففعلوا. حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنوا عليه كما أرادوا.

و قد أنشد هبيرة بن وهب المخزومي هذه الحادثة بأبيات، منها:

رضينا و قلنا: العدل أوّل طالع *** يجيء من البطحاء من غير موعد

ففاجأنا هذا الأمين محمد *** فقلنا: رضينا بالأمين محمد

بخير قريش كلّها أمس شيمة *** و في اليوم مع ما يحدث اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثله *** أعمّ و أرضى في العواقب و ألبد

و تلك يد منه علينا عظيمة *** يروب لها هذا الزمان و يعتدي(1)

هذه لمحة موجزة عن خلقه و سيرته المحمودة المعروفة بين الناس، و قد احتفظ بها صاحب الرسالة بعد بعثته، و بعد غلبته على أعدائه الألداء، حتى في نصره النهائي حين فتح مكة و دخل صناديد قريش الكعبة، و هم يظنون أنّ السيف لا يرفع عنهم، فأخذ رسول اللّه بباب الكعبة، و قال: «لا إله إلاّ اللّه، أنجز وعده، و نصر عبده، و غلب الأحزاب وحده». ثم قال: «ما تظنون»؟.

فأجابت قريش «نظن خيرا، أخ كريم». فقال: «فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لاٰ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اَللّٰهُ لَكُمْ ، وَ هُوَ أَرْحَمُ

ص: 457


1- السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 192-199. لاحظ الكافي للكليني، ج 4، ص 217-218.

اَلرّٰاحِمِينَ (1) »(2).

و العجب أنّ الذين أحاطوا ببيته ليلة الهجرة، و همّوا باغتياله، و إراقة دمه، كانت أموالهم بين يديه، و أمانة عنده، فلأجل ذلك لما همّ بالخروج من البيت و الهجرة إلى المدينة، أمر عليّا أن يقيم صارخا، يهتف بالأبطح، غدوة و عشيا:

«من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة، فليأت، فلنؤدّ إليه أمانته»!.

فأقام عليّ بمكة ثلاث ليال و أيامها حتى أدّى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الودائع التي كانت عنده للناس(3).

و من ظريف أخلاقه عفوه عن العدو الغادر، الذي أراد قتله، بمجرد التجائه إليه:

فقد نقل أصحاب المغازي أنّه في إحدى الغزوات، ذهب النبي الأكرم لحاجته، فأصابه المطر، فبلّ ثوبه، فنزعه صلى اللّه عليه و آله و نشره ليجف، فألقاه على شجرة، ثم اضطجع تحتها. فرآه العدو وحيدا بعيدا عن أصحابه، فاختار أحدهم سيفا صارما، ثم أقبل حتى قام على رأس النبي بالسيف المشهور، فقال: «يا محمد، من يمنعك مني اليوم ؟».

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «اللّه».

عندئذ وقع السيف من يده فأخذه الرسول الأكرم و قام به على رأسه فقال:

«من يمنعك مني اليوم ؟».

قال: «لا أحد». ثم قال: «فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، و اللّه لا أكثر عليك جمعا أبدا».

فأعطاه رسول اللّه سيفه، ثم أدبر الرجل، ثم أقبل بوجهه، فقال: «أما و اللّه، لأنت خير مني».

ص: 458


1- سورة يوسف: الآية 92.
2- بحار الأنوار، ج 21، ص 132، و غيره من المصادر المتوفرة.
3- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 493. البحار، ج 19، ص 62.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أنا أحقّ بذلك منك»(1).

هذه نبذة يسيرة من سيرته الحميدة المعترف بها عند الصديق و العدو، و لو أردنا الإسهاب لاحتجنا إلى تأليف رسالة حافلة، في أدبه و خلقه و سيرته، و لأجل ذلك اعتمد قيصر في استنطاقه أبا سفيان، على تلك السيرة، و جعلها جزء من القرائن التي استفاد منها كونه صادقا في دعوته(2).

***

القرينة الثانية - الظروف التي فيها نشأ و ادعى النبوّة

كان العرب الجاهليون يضمّون إلى صفاتهم الحسنة من سخاء في الطبع و إكرام للضيف، و صيانة للأمانة و التزام بالعهود، صفات ذميمة و أخلاق رذيلة، و عادات قبيحة، و عقائد خرافية.

فالصورة العامة التي يمكن رسمها عنه، أنّه كان مجتمعا غارقا إلى آذانه في عبادة الحجارة و الأوثان، و الفساد الذريع في الأخلاق، يظهر في شيوع القمار و الزنا، و وأد البنات، و أكل الميتة، و شرب الدم، و الغارات الثأريّة، و تغيير الأشهر الحرم، و غير ذلك من التقاليد و الأعمال السيئة التي نقلها المؤرخون، و لا حاجة للتفصيل(3).

هذه هي عقائدهم و تقاليدهم، و عاداتهم، و النبي الأكرم وليد هذه البيئة المتدهورة، نشأ و ترعرع فيها، و قضى أربعين عاما بينهم، فإذا به قد بعث بأصول و آداب و معارف، تضاد ما كان سائدا في تلك البيئة. فلو كان هو في تعاليمه، مستمدا من بيئته، لكان قد تأثّر بها و لو في بعض هذه الصفات و التقاليد.

إنّه ليس من الغريب أن تنبت الأرض الخصبة، الأشجار النضرة و الأزاهير

ص: 459


1- المغازي للواقدي، (م 207)، ج 1، ص 195، ط أكسفورد.
2- تاريخ الطبري، ج 2، ص 290-291، حوادث السنة السادسة للهجرة.
3- لاحظ للوقوف على تاريخ العرب الجاهليين، «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» للشيخ الآلوسى (م 1270). و تاريخ العرب للكاتب د. علي جواد، في عشرة أجزاء. و غير ذلك.

و الرياحين، و إنّما العجب أن ينبت كل أولئك من أرض مجدبة قاحلة، يلقي عليها شبح الموت ظلاله السوداء، و هكذا كانت شريعة محمد صلى اللّه عليه و آله في البيئة التي ظهرت فيها.

***

القرينة الثالثة - المفاهيم التي تبنّاها و دعا إليها

جاء الرسول الأعظم بمفاهيم راقية في جميع شئون الحياة البشرية و شجونها.

فدعا إلى التوحيد، و نبذ الوثنية، و تنزيهه سبحانه عن كل نقص و عيب، فعرّف الإله الخالق سبحانه، بقوله: هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ هُوَ اَلرَّحْمٰنُ اَلرَّحِيمُ * هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ، سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ * هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1).

و أين هذا من مفاهيم الشرك و الوثنية التي كانت سائدة في ذلك الزمن.

و جاء بمفاهيم سامية حول الحياة الأخروية، فقرّر أنّ الموت ليس بمعنى ختم الحياة، و إنّما هو نافذة للحياة الأبدية، التي يحياها الإنسان بسعادة أو تعاسة، بحسب أعماله الحسنة أو السيئة، و أين هو من قولهم: مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا، وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ اَلدَّهْرُ (2).

و في حقل الأخلاق و التعاون و التآلف الاجتماعي، زرع في محيط البغضاء و الشحناء، بذور المحبة و المواساة، و جعل أبناء المجتمع الواحد إخوة في الدين، متعاضدين، متعاونين، كأنّهم جسد واحد، فقال: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (3).

ص: 460


1- سورة الحشر: الآيات 22-24.
2- سورة الجاثية: الآية 24.
3- سورة الحجرات: الآية 10.

و أرسى أركان الإحسان و العدالة الاجتماعية، و كافة أصول الشخصية الإنسانية الفاضلة، و حذّر من الفواحش و البغي و العدوان، فقال: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1).

و أين هذا من أقبح الممارسات الأخلاقية الرائجة، و مفاهيم الثأر و العصبية و الانتقام المحقونة في نفوسهم، و التي خلّفت حروبا طاحنة، بين القبائل العربية، منها حرب الأوس و الخزرج التي دامت قرابة مائة و عشرين سنة.

يقول ابن خلدون: «العرب الجاهليون، بطبيعة التوحش الذي فيهم، أهل انتهاب و عيث، ينتهبون ما قدروا عليه، و كان ذلك عندهم ملذوذا.

فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، و أنّ رزقهم في ظلال رماحهم، و ليس عندهم في أخذ أموال الناس حدّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون، انتهبوه»(2).

و في الحقل الاقتصادي، جاء بأصول و مفاهيم بنى عليها بنيانا محكما من التشريعات الاقتصادية، في مختلف أبواب المعاملات.

فمن ذلك أنّه نادى بحرمة الرّبا الذي كان الشغل الشاغل في الجزيرة العربية، حتى أنّ ثقيف طائف لما أسلموا طلبوا من الرّسول أن يكتب لهم كتابا يحلّ لهم فيه الربا و الزّنا، فلما جاء مبعوثهم بكتابهم قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «اقرأ». فلما انتهى إلى الربا، قال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده، فقال: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ ، وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبٰا (3) ثم محاها. فلما بلغ القارئ، الزنا، وضع يده عليها، و قال: وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلاً (4) ثم محاها(5).

ص: 461


1- سورة النحل: الآية 90.
2- مقدمة ابن خلدون، ص 149.
3- سورة البقرة: الآية 278.
4- سورة الإسراء: الآية 32.
5- أسد الغابة، ج 1، ص 216 في ترجمة تميم بن جراشة الثقفي. و السيرة النبوية لابن هشام. ج 1، ص 540، و بينهما اختلاف.

و من ذلك، قوله تعالى: لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ (1).

و قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا (2).

و لو أردنا أن نبين كافة التعاليم القرآنية في حقول المعارف، و السياسة، و الاجتماع، و الأخلاق، و الاقتصاد، لطال بنا الكلام، و فيما ذكرنا غنى و كفاية، و الكلّ يشهد على عظمة المفاهيم التي جاء بها الإسلام، و موافقتها لمقتضى حكم العقل الصريح، المتحرر عن قيود الشهوة و الخيال، و هو من أجلى القرائن على نبوّة من جاء بها.

***

القرينة الرابعة - الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته

لا شكّ أنّ النّبي الأعظم نجح في دعوته، و بلغ أهدافه التي قدّرها اللّه له، و لكنه لم يدرك تلك الغاية بالأساليب الملتوية، و لم يستعن في تحقيقها بكل وسيلة سائغة كانت أو محرمة، و لم يسلك سبيل الخداع و المكر و الحيلة باعتماد مبدأ:

«الغاية تبرر الوسيلة»، بل إنّ منطق النبي الأكرم و مسلكه - و كذا جميع الأنبياء - هو شقّ الطريق على نهج الصدق و العدل، و هذه حالته التي لم تتفاوت في سرّاء أو ضرّاء، أو شدّة أو رخاء،. و كان في كل ذلك ممتثلا قوله تعالى: وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ أَنْ تَعْتَدُوا (3)، و قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ، وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا، اِعْدِلُوا، هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ ، وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (4).

و هذه التعاليم التي اقتدى بها النبي الأكرم في نشر دعوته، تدلّ على أنّه

ص: 462


1- سورة النساء: الآية 29.
2- سورة النساء: الآية 58.
3- سورة المائدة: الآية 2.
4- سورة المائدة: الآية 8.

(صلى اللّه عليه و آله) كان يعامل عدوّه بالعدل و الرأفة، و لم يكن من الذين تحجب العداوة بصائرهم، و يعمي الانتصار أعينهم عن رعاية الحق و العدل.

و بإمكاننا أن نلمس ذلك في توجيهاته إلى أمراء السرايا، فإنّه كان إذا أراد أن يبعث سرية، دعاهم فأجلسهم بين يديه، و قال: «سيروا باسم اللّه، و باللّه، و في سبيل اللّه، و على ملّة رسول اللّه، لا تغلّوا»(1)، و لا تمثّلوا، و لا تغدروا، و لا تقتلوا شيخا فانيا، و لا صبيا، و لا امرأة، و لا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطروا إليها، و أيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار، حتى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم، فأخوكم بالدين، و إن أبي فأبلغوه مأمنه، و استعينوا باللّه».

و في رواية أنّ النبي كان إذا بعث أميرا له على سرية، أمره بتقوى اللّه عز و جل في خاصّة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: اغزوا باسم اللّه، و في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، لا تغدروا، و لا تغلّوا، و لا تمثّلوا، و لا تقتلوا وليدا و لا متبتّلا في شاهق، و لا تحرقوا النخل و لا تغرقوه بالماء، و لا تقطعوا شجرة مثمرة، و لا تحرقوا زرعا لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه. و إذا لقيتم عدوا للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم و كفّوا عنهم الخ...»(2).

و لقد كان النبي الأكرم يتحرز عن التذرع بوسائل غير واقعية، حتى لو كانت الوسيلة مفيدة و نافعة لأهدافه الشخصية، و شخصيته الاجتماعية، بل كان يناهضها، و يبطلها، ليستقيم الناس على جادة الواقع و الحق.

فنحن نرى أنّ السياسيين المتصدرين لكراسي الرئاسة، يتجاوبون مع عقائد الناس و إن كانت مخالفة لعقيدتهم، و ذلك للتحفظ على مناصبهم و عروشهم.

ص: 463


1- من الغل، و هو الخيانة و الغش و الحقد.
2- وسائل الشيعة، ج 11، كتاب الجهاد، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديثين 2 و 3. و قد جاءت نماذج من هذه التعاليم في تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 59. و «الأموال» لأبي عبيد، ص 212.

فهذا «نهرو» بلغ من التجاوب مع قومه إلى حدّ أنّه كان يشترك معهم في مراسم عبادة البقر، و التبرّك بفضلاتها، لكونه مطلوبا عند الشعب، و مخالفة الرأي العام مضرّة بشخصيته و أهدافه.

فالسياسيون لا يتورعون في تحقيق أهدافهم، عن استغلال جهل شعوبهم.

و أمّا الأنبياء فقد بعثوا لمكافحة الجهل، سواء أ كان جهل الناس مفيدا لأحوالهم الشخصية أم نافعا، و نذكر لذلك نموذجا من سيرة النبي الأكرم:

عند ما توفي ولده إبراهيم، غشي الشمس كسوف، فتلقاه الناس أمرا معجزا، و أنّ المصيبة تركت أثرها في الأرض و السماء، و انكسفت الشمس لموت ولده. فلو كان النبي رجلا ماديا، طالبا للمنصب و المقام، لأصفق مع شعبه في هذه العقيدة، و تركهم عليها، و لكنه رجل إلهي واقعي، فصعد المنبر، و أماط الستر عن وجه الحقيقة، فقال:

«أيّها الناس، إنّ الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه، يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد، و لا لحياته، فإذا انكسفا أو أحدهما، صلّوا».

ثم نزل من المنبر، فصلّى بالناس الكسوف، فلما سلّم، قال: «يا عليّ ، قم فجهّز ابني»(1).

و من دلائل كون النبي رجلا واقعيا، يطلب الحقائق، و لا يستعمل في أساليب دعوته الخدعة، هو أنّ نفرا من قريش طلبوا من النبي أن يعبد آلهتهم، حتى يعبدوا إلهه، فقام النبي في وجه المعترضين بصراحة، و قال: قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلْكٰافِرُونَ * لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (2).

ص: 464


1- المحاسن، للبرقي، ص 313. و بحار الأنوار، ج 22، ص 156. و السيرة الحلبية، ج 3، ص 348.
2- سورة الكافرون.

و لكن دعاة الإصلاح الماديين، يتّخذون ذلك الاقتراح مطيّة لآمالهم، فيجيبونه، حتى إذا تغلّبوا على أعدائهم، خالفوهم، و قضوا عليهم و على معتقداتهم.

***

القرينة الخامسة - شخصية المؤمنين به

الناموس المطّرد في الشخصيات، هو أنّ كل إنسان بارز، يجذب إليه من يوافق أفكاره و عقلياته، فالشخصيات الصالحة تجتمع حولها، رجال الطهارة و الإيمان و النزاهة، كما أنّ الشخصيات الطالحة، تجذب إليها الأشرار و الأراذل و لأجل ذلك يقال في المثل السائد: «قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت»، و يقول الشاعر:

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه *** فكلّ قرين بالمقارن يقرن

و هذه و إن لم تكن قاعدة كلية، إلاّ أنّها قاعدة غالبية.

و على ضوء ذلك الناموس الاجتماعي، يمكن التعرّف على النبي عن طريق حوارييه و أصحابه. فنجد فيهم أصحاب عقل و عبقرية، يضنّ بهم الدهر إلاّ في فترات متباعدة، كالإمام علي بن أبي طالب، و سلمان الفارسي، و أبى ذرّ المجاهد الكبير، و خبّاب بن الأرت، و غيرهم من الشخصيات. و هذا كتاب الرسول، يأمره بمجالسة الذين يدعون ربّهم بالغداة و العشي و تجنّب معاشرة المترفين المغفّلين.

يقول سبحانه: وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَ لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ لاٰ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (1).

ص: 465


1- سورة الكهف: الآية 28.

و يكفي في ذلك أنّه تربّى في أحضانه، رجال متفانون في طريق الدين و تحقيق أهدافه، و كفى في إظهار ذلك أنّ النبيّ استشار أصحابه في محاربة قريش في معركة بدر، و قال: أشيروا عليّ أيّها النّاس.

فقام المقداد بن عمرو، و قال: يا رسول اللّه، امض لما أراك اللّه، فنحن معك. و اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون»، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا فإنّا معكما مقاتلون.

فو الذي بعثك بالحق، لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا(1) و شوك الهراس(2) لخضناه معك(3).

و قال سعد بن معاذ: «فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد. و ما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، و إنّا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعلّ اللّه يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة اللّه، وصل من شئت، و اقطع من شئت، و خذ من أموالنا ما شئت، و ما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت»(4).

هؤلاء صحابة النبي و الرجال الذين التفوا حوله، فكانت حياتهم و كلماتهم: التفاني دون الحق، و العيش مع الرسول كيفما أراد. و لا نرى نظراءهم حول السياسيين من رجال الإصلاح، الذين يعيشون لأجل الأماني المادية.

نعم، وجود هذه الأنجم الزاهرة حول الرسول، كاف في كون دعوته إلهية، و لا يستلزم أن يكون كلّ من حوله رجلا مثاليا. و يكفي في ذلك ملاحظة التاريخ، و الآيات الواردة حول أصحابه و حوارييه.

***

ص: 466


1- النار المتّقدة.
2- شجر كبير الشوك.
3- السيرة النبوية، ج 1، ص 615، و تاريخ الطبري، ج 2، ص 140.
4- المغازي، للواقدي، ج 1، ص 48، و غيره.
القرينة السادسة - ثباته في طريق دعوته

إنّ ثبات المدّعي في طريق دعوته، آية إيمانه بها، فإذا رؤي فيه أنّه يضحّي بماله و نفسه و أقربائه و ولده في طريق دعوته، و يقتحم بنفسه المعارك الخطيرة، و لا يتجنّن بتقديم غيره، يستكشف من ذلك كونه مؤمنا بدعوته، صادقا في قوله.

و هذا علي بن أبي طالب يصف حال النبي في غزواته، و يقول:

«كنّا إذا احمرّ البأس، اتقينا برسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه»(1).

و قد اتّفق أهل المغازي و السير، على أنّ النبي لم يتراجع في حرب من الحروب، بل كان صمودا في وجه العدو، رغم ما كان يرد عليه من الجراحات، و شيوع اليأس في جيشه.

و يكفي في ذلك السبر في تاريخ حروبه لا سيما في أحد و غزوة حنين. ففي أحد عمّت الهزيمة جيشه، و لم يثبت معه في المعركة إلاّ أشخاص قلائل، فأخذ يدعو أصحابه و هم ينسحبون من أرض المعركة، و هو راسخ فيها كالجبل الأشمّ لا تحركه العواصف. يقول سبحانه، في حكايته لهذه الواقعة:

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لاٰ تَلْوُونَ عَلىٰ أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرٰاكُمْ ، فَأَثٰابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاٰ تَحْزَنُوا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ مٰا أَصٰابَكُمْ ، وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (2) .

و أوضح من هذا، ثباته في مكة، و قد كان وحيدا في دعوته، لم يؤمن به حينها إلاّ عدّة قليلة يعيشون حالة الخوف و المطاردة، و الطوارئ الشديدة تنزل على النبي، الواحدة منها تلو الأخرى، و قد سطّر من تلك الحالات الكثير، منها:

تعرّض الأراذل له بالشتم، و إلقاء القذورات عليه، أو إلقاء عمامته في عنقه و جرّه بها، و غير ذلك، و هو صابر محتسب(3). كما كان يتعرض للأذي المستمر من

ص: 467


1- نهج البلاغة، قسم الحكم، فصل غريب كلامه، الرقم 9.
2- سورة آل عمران: الآية 153.
3- لاحظ السيرة الحلبية، ج 1، ص 293.

جانب عمّه أبي لهب و زوجته، و كان رسول اللّه يجاورهما، فلم يألوا جهدا في إزعاجه و إيذائه، فكم من مرّة ألقيا الرماد و التراب على رأسه و ثيابه، و كم من مرة نشرت أم جميل الشوك على طريقه، أو جمعته خلف باب بيته لتؤذيه عند خروجه، و لأجل هذا الإيذاء، يخصّ القرآن أبا لهب باللّعن، و يسميه و زوجته(1).

و كم تعرض أصحابه لألوان العذاب، كبلال الحبشي، و آل ياسر و غيرهم، الذين هم رموز الصمود و المقاومة، و أوسمة الفخر و الاستقامة. و قد قام عبد اللّه بن مسعود يوما في المسجد، و رفع عقيرته بقراءة القرآن لإسماع قريش، فقرأ: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * اَلرَّحْمٰنُ * عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ ، فلم تمهله قريش حتى قامت إليه تضربه حتى أدمي وجهه و جسمه، و هو مع ذلك مسرور لإسماعهم كتاب اللّه العزيز و آياته المباركات(2).

***

القرينة السابعة - أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها

إنّ الإلمام العابر بأحوال العرب في شبه الجزيرة العربية، يكفي في إثبات أنّ الثورة العارمة على التقاليد و العادات السائدة هناك آنذاك، في مدّة لا تزيد على ثلاث و عشرين سنة، و صنع أمّة متحضرة منها، في هذه البرهة الوجيزة من الزمن، أمر يستحيل تحققه عن طريق العلل المادية، و الأساليب الإصلاحية، و قد شمل التحول جميع جوانب الثقافة و الفكر، و الاقتصاد، و النّظم الاجتماعية، و الطقوس الدينية.

و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ وراء هذه الثورة، إمدادات غيبية، نصرت الثائر، في جميع مواقفه، سواء أ كانت في مجال التبليغ و التبشير، أم في مجال الكفاح و الجدال، أم في قلب الأمة المتوحشة المستبدة، المتغلغلة في العداء البغضاء، أمّة موحّدة، متعاطفة و متآخية فيما بينها.

ص: 468


1- سورة المسد.
2- السيرة النبوية، ج 1، ص 314.

و هذا الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، يصف وضع العرب الجاهليين في بعض خطبة، و يقول:

«و أنتم معشر العرب على شرّ دين، و في شرّ دار، منيخون بين حجارة خشن، و حيّات صم، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دماءكم، و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الآثام بكم معصوبة»(1).

فهذه الأمة، على هذه الحال و هذه الأوصاف، تحولت إلى أمّة، عالمة، أرست قواعد الحضارة الإنسانية في مدّة قصيرة، و أخذت تكسح العراقيل أمامها، و تزعزع عروش الطواغيت في مشارق الأرض و مغاربها، حتى أرست بنيان دولة عظيمة، صارت همزة وصل بين الحضارة اليونانية القديمة و الحضارة الصناعية الحديثة.

***

هذه دراسة إجمالية للدعوة المحمدية، و تبيين القرائن الموجودة فيها، و الكلّ يشهد على أنّ الداعي كان صادقا في دعوته محقّا في نبوته، و هذا الطريق الثالث الذي سلكناه على وجه الإجمال، قابل للبسط و الإسهاب. ففي وسع المحققين في الحياة النبوية و الملمّين بكتابه و سنته، أن يشقوا هذا الطريق يشكل مسهب، حتى يتجلى صدق دعوته تجلّي الشمس في رائعة النّهار.

***

و بهذا البحث نختم البحث عن أصل النبوة الخاصة، و أمّا سمات دعوته من حيث كونها إقليمية أو عالمية، و كونها مرحلية أو خاتمة للرسالات، فالبحث عنه على عاتق علم التفسير. غير أنّ الإحالة، لما كانت عن المحذور غير خالية، نبحث فيما يلي عن تينك السّمتين بوجه الإجمال(2).

***

ص: 469


1- نهج البلاغة، الخطبة 25.
2- من أراد تفصيل البحث، فبإمكانه الرجوع إلى ما دوّنه الأستاذ دام ظلّه في موسوعته التفسيرية، «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 41-76 في العالمية، و ص 119-316 في الخاتمية.

ص: 470

سمات الدعوة الإسلامية
اشارة

السمة الأولى: عالمية الرسالة السمة الثانية: خاتمية الرسالة - أسئلة حول الخاتمية

ص: 471

ص: 472

السمة الأولى عالمية الرسالة
اشارة

الإسلام عقيدة و عمل، لا ينفرد بهما شعب أو مجتمع خاص، و لا يختصان ببلد معين، بل هو دين يعمّ المجتمع الإنساني ككل، على اختلافه في العنصر و الوطن و اللسان، و لا يفترض لنفوذه حاجزا بين أبناء الإنسان، و لا يعترف بأية فواصل و تحديدات جنسية أو إقليمية، و هذا ما ينصّ عليه الذكر الحكيم، و الأحاديث النبوية، و نلمسه من سيرة الرسول الأكرم في نشر دينه، و من تاريخ نشوء و تطور دعوته.

أمّا الكتاب العزيز، فإليك بعض نصوصه:

1 - قال تعالى: قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (1).

2 - قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً (2).

3 - قال تعالى: وَ أَرْسَلْنٰاكَ لِلنّٰاسِ رَسُولاً، وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً (3).

4 - قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (4).

ص: 473


1- سورة الأعراف: الآية 158.
2- سورة سبأ: الآية 28.
3- سورة النساء: الآية 79.
4- سورة الأنبياء: الآية 107.

5 - قال تعالى: تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً (1).

6 - قال تعالى: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ ، لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2).

أي كلّ من بلغه القرآن، و وصلت إليه تشريعاته في أقطار الأرض.

إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على شمول رسالته لعامة البشر.

و يمكن الاستدلال بوجه ثان، و هو أنّ القرآن كثيرا ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، و يقول: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ، اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (3) فلو كان الإسلام دينا إقليميا، أو كانت رسالته لعصر خاص، فما معنى هذه النداءات العامة ؟.

و يمكن الاستدلال بوجه ثالث، و هو أنّه ربما يتّخذ القرآن الكريم عنوانا عاما لكثير من الأحكام، من غير تقييد بلون أو عنصر، كما في قوله تعالى: وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (4)، فأوجب الحجّ على الناس إذا استطاعوا، عربا كانوا أم غيرهم، و لو كانت رسالته عنصرية، لكان عليه أن يقول: «و للّه على الأمة العربية - مثلا - حجّ بيته».

و هناك وجه رابع لعموم دعوته، و هو أنّه يعرّف كتابه نورا و هدى للنّاس كلهم، و يقول: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ ، هُدىً لِلنّٰاسِ (5)و يقول: وَ لَقَدْ ضَرَبْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (6).

هذه الوجوه الأربعة، تهدف إلى أمر واحد، و إن كانت تختلف في طريقة

ص: 474


1- سورة الفرقان: الآية 1.
2- سورة الأنعام: الآية 19.
3- سورة البقرة: الآية 21. و لاحظ سورة البقرة: الآية 168.
4- سورة آل عمران: الآية 97.
5- سورة البقرة: الآية 185.
6- سورة الزمر: الآية 27.

البرهنة، فقد اعتمد في الوجه الأول، على تصريح القرآن بعموم رسالته؛ و في الوجه الثاني، على نداءاته العامة؛ و في الوجه الثالث، على أنّ الموضوع لأحكامه و تشريعاته، أمر عام، و في الوجه الرابع، على أنّ القرآن يعرّف هدايته و إنذاره، أمرا عاما للناس كلّهم.

و هناك وجه خامس يتصل اتصالا وثيقا بطبيعة الإسلام و قوانينه و تشريعاته، و هو أنّ القرآن في تشريعاته لا يعتمد إلاّ على مقتضى الفطرة التي فطر عليها بنو البشر كلّهم، فإذا كان الحكم موضوعا على طبق الفطرة الإنسانية، الموجودة في جميع الأفراد، فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو شعب دون شعب.

هذا هو الإسلام، و تعاليمه القيمة و معارفه و سننه، فهل تجد فيها ما يشير إلى كونه دينا إقليميا، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم و أمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه و تشريعاته على ظروف بيئته و خصوصيات منطقته، بحيث لو فرض فقدانها، لأصبحت السنن و الطقوس التي يعتمد عليها الدين، سرابا يحسبه الظمآن ماء.

و نحن في غنى عن سرد آيات الذكر الحكيم التي تتبنى معارف و تشريعات تقتضي بطبيعتها كونها دواء للمجتمع الإنساني في جميع الأقطار و الأزمان، فقوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ الآية(1)؛ و قوله: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (2)، و قوله: إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (3)، و غير ذلك من تشريعاته في حقول الاقتصاد و الاجتماع و السياسة و الأخلاق، مما تقتضي بطبيعتها، العمومية لجميع البشر و المجتمعات.

ص: 475


1- سورة النحل: الآية 90.
2- سورة النساء: الآية 58.
3- سورة المائدة: الآية 90.

و أمّا السنة الشريفة، فيكفي في ذلك قوله صلى اللّه عليه و آله، في الخطاب الذي ألقاه في داره، حينما وفد إليه أعمامه و أخواله، و من كانت له به صلة:

«و اللّه الذي لا إله إلاّ هو، إنّي رسول اللّه إليكم خاصة، و إلى الناس عامة»(1).

و أمّا في سيرته في حقل الدعوة، فيكفي في ذلك وثائقة السياسية، و مكاتيبه التي وجّهها إلى أصحاب العروش و ملوك العالم، ككسرى ملك الفرس، و قيصر ملك الروم، و المقوقس عظيم القبط، و النجاشي ملك الحبشة، و غيرهم(2).

هذا، و إنّ الإسلام حارب العصبية، و النعرات الطائفية، في ظل وحدات ثمان، أعني: وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الأخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، و وحدة اللغة العربية، و هو القائل:

«أيّها الناس، إنّ اللّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تفاخرها بآبائها، ألا إنّكم من آدم، و آدم من طين، ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه».

و هو القائل: «إنّ العربية، ليست بأب والد، و لكنها لسان ناطق، فمن قصر عمله، لم يبلغ به حسبه».

و هو القائل: «إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل لعربيّ على عجميّ ، و لا لأحمر على أسود، إلاّ بالتقوى».

و هو القائل: «إنّما الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على اللّه، و فاجر شقي هيّن على اللّه»(3).

أ فيصحّ بعد هذه الكلم الدّرّيّة، رمي رسالته، بالطائفية، و العنصرية، و الإقليمية ؟.

ص: 476


1- الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 41، و غيره.
2- لاحظ للاطلاع على هذه النصوص، «مكاتيب الرسول»، ج 1، ص 91-240.
3- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: السيرة النبوية، ج 2، ص 412. و بحار الأنوار، ج 21، ص 105.
إزالة شبهات

شبهة - ربما يتمسّك بعض القساوسة لتحديد دعوته، بما في الكتاب العزيز من قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ فَهُمْ غٰافِلُونَ (1).

غير أنّ الجواب واضح، أمّا نقضا، فإنّ في نفس هذه السورة التي ورد فيها قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ، ما يدلّ بصراحة على عموم دعوته، و هو قوله تعالى:

لِيُنْذِرَ مَنْ كٰانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ (2) .

و أما حلا فإنّ طبيعة إبلاغ الدعوة ربما تقتضي توجيه الكلام إلى قسم خاص، و إنّ كانت الدعوة عالمية، و الرسول في بدء دعوته، كان يمارس هداية قومه أوّلا، ثم من يليهم في منطقة الحجاز، ثم من يليهم، و لأجل ذلك خصّ الخطاب بقومه:

و الشاهد أنّه يقول في آية أخرى: قُلْ إِنَّمٰا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ، وَ لاٰ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا مٰا يُنْذَرُونَ (3). فيخص الإنذار بالوحي بالمخاطبين، بينما يعمّ الإنذار به كلّ الناس في قوله: أَ كٰانَ لِلنّٰاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنّٰاسَ (4).

شبهة ثانية - و ربما يتمسك بتخصيص الإنذار بأمّ القرى و من حولها في قوله سبحانه: وَ هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا (5)، و أمّ القرى إمّا علم من أعلام مكّة، أو كلّي أطلق عليها، فتخصّ الآية دعوته بإطار أمّ القرى و من حولها.

و الجواب أما نقضا: فإنّ في نفس السورة التي وردت فيها تلك الآية ما يدلّ

ص: 477


1- سورة يس: الآية 6. و نظيره، القصص: الآية 46، سورة السجدة: الآية 3، سورة مريم: الآية 97.
2- سورة يس: الآية 70.
3- سورة الأنبياء: الآية 45.
4- سورة يونس: الآية 2.
5- سورة الأنعام: الآية 92، و نظيره سورة الشورى: الآية 7.

على عموم رسالته، لكل من بلغته، فإنّه يقول: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (1).

و أمّا حلا، فعين ما تقدّم في سابقه، من أنّ طبيعة الدعوة، ربما تقتضي توجيه الكلام إلى طائفة خاصة، و إن كانت الدعوة عالمية.

شبهة ثالثة - و ربما يستدلّ بقوله سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2)، على تحديد رسالته، بتوهّم أنّ معنى الآية أنّ كل رسول يوافق لسانه لسان من أرسل إليهم.

و أنت خبير بأنّه تفسير خاطئ، فمعنى الآية هو موافقة لغة الرسول لسان قومه، لا اتحاد لغته مع لسان كل من أرسل إليهم، فمن الممكن أن يكون المرسل إليهم أوسع من قوم الرسول، فهذا إبراهيم دعا عرب الحجاز إلى الحج و هو ليس منهم. و هذا الكليم دعا فرعون إلى الإيمان، و هو عبري و المرسل إليه قبطي.

شبهة رابعة - و ربما يستدل أيضا، بقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلنَّصٰارىٰ وَ اَلصّٰابِئِينَ ، مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ (3)، على تحديد رسالته.

و حاصل الاستدلال هو أنّ المتبادر من الآية هو نجاة أصحاب الشرائع السابقة حتى بعد بعثة الرسول الأكرم، إذا كانوا مؤمنين باللّه و اليوم الآخر و عملوا صالحا. فهذه الآية تعطي الضوء الأخضر لنجاة اليهود و النصارى و الصابئين إذا كانوا ملتزمين بهذه الشروط، و إن لم يعتنقوا رسالة الرسول الأعظم، أو لم يعملوا بأحكامه و تشريعاته. و هذا لا يجتمع مع القول بأنّ رسالته عالمية يجب على كلّ الناس اعتناقها.

ص: 478


1- سورة الأنعام: الآية 19.
2- سورة إبراهيم: الآية 4.
3- سورة البقرة: الآية 62. و لاحظ المائدة: الآية 69.

و الجواب: إنّ الاستدلال نجم من الجمود على نفس الآية، و الغفلة عما ورد حولها من الآيات. و مثل هذه الآية لا يصح تفسيره إلاّ على نمط التفسير الموضوعي، و استنطاق الآية بأختها، و عرض البعض على البعض حتى يهتدى إلى معالمها. و سيوافيك أنّ الآية - بقرينة الآيات التي تتلوها - بصدد تفنيد المزاعم الباطلة لليهود و النصارى، و ليست بصدد إمضاء الشرائع السالفة، بعد ظهور النبي الأكرم، و إليك البيان.

1 - تفنيد فكرة الشعب المختار

كان اليهود و النصارى يتبنون فكرة الشعب المختار، فكل من الطائفتين تدعي أنّها أسمى بني البشر. و قد نقل القرآن الكريم هذه الفكرة السخيفة عن كلتا الطائفتين بقوله: وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصٰارىٰ نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ وَ أَحِبّٰاؤُهُ ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ... (1).

فقوله: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، تفنيد لهذا الزّعم، و يدلّ على أنّهم و غيرهم عند اللّه سواسية، فهو سبحانه يثيب المطيع، و يعذب العاصي.

و قد بلغت أنانية اليهود و استعلاؤهم الزائف حدا، تفوهوا بما يحكيه سبحانه عنهم بقوله: وَ قٰالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّٰارُ إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودَةً (2).

و القرآن يفنّد هذا الزعم، بشكل الاستفهام الإنكاري، و يقول: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ عَهْداً، فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (3).

فهكذا، نستكشف من خلال هذه المزاعم و ردودها أنّ اليهود كانوا - و لا يزالون - يعدّون أنفسهم صفوة البشرية، و نخبة الشعوب. و كانوا يحاولون بمثل

ص: 479


1- سورة المائدة: الآية 18.
2- سورة البقرة: الآية 80.
3- سورة البقرة: الآية 80.

هذه المزاعم، فرض كيانهم على العالم، كأرفع نوع بشريّ انتخبه اللّه من بين سائر البشر، حتى كأنّهم أبناء اللّه المدلّلون.

2 - النجاة رهن العمل و الالتزام

كانت الطائفتان (اليهود و النصارى)، تزعمان أنّ الانتساب اسما إلى شريعة موسى أو المسيح، وسيلة النجاة. كما كان اليهود بالخصوص يزعمون أنّ الانتساب إلى «إسرائيل»، ينقذ من عذاب اللّه سبحانه؛ و لأجل ذلك قالوا:

لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ (1) .

و معنى هذا القول، أنّ بإمكان الانتساب إلى «إسرائيل»، أو كون الإنسان يهوديّا أو نصرانيا بالاسم، أن يجعل الإنسان سعيدا، مالكا لمفاتيح الجنة. و يردّ القرآن عليهم، بأنّ الوسيلة الوحيدة لامتلاك الجنة، ليس هو «الانتساب»، و لا التجنّن «بالتسمية»، بل هو الإيمان الصادق و العمل الصالح، يقول تعالى: تِلْكَ أَمٰانِيُّهُمْ ، قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ (2).

فقوله: بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ ، يعني الإيمان الخالص، و التسليم الصادق للّه.

و قوله: وَ هُوَ مُحْسِنٌ ، يعني العمل بالشريعة التي يؤمن الفرد بها.

و كلتا الجملتين تدلاّن على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة هو الإيمان و العمل، لا اسم اليهودية أو النصرانية، و لا الانتساب إلى بيت النبوّة، فليست المسألة أسماء، و لا مسألة انتساب، و إنّما هي مسألة إيمان صادق، و عمل صالح.

ص: 480


1- سورة البقرة: الآية 111.
2- سورة البقرة: الآية 111 و 112.
3 - الأصالة للتوحيد لا لليهودية و لا للنصرانية

لقد كان لهاتين الطائفتين ادعاء ثالث، هو أنّ الهداية الحقيقة، في اعتناق اليهودية أو النصرانية، كما يحكيه عنهم القرآن بقوله: وَ قٰالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ تَهْتَدُوا (1).

و القرآن يردّ عليهم هذا الزعم الواهي بقوله: بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (2). مشيرا إلى أنّ الهداية الحقيقية، هي في الأخذ بملة إبراهيم، و اعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة. فإذا عمّتهما الهداية، فإنّما هو لأخذهم بالحنيفية الإبراهيمية، لا لاعتناق اليهودية و المسيحية، فلا أصالة لهما، إلاّ إذا كانتا مشتملين على جوهر التوحيد الإبراهيمي و حنيفيّته.

و قد بلغت جسارة الطائفتين إلى حدّ أنّهم حاولوا إضفاء طابع اليهودية و المسيحية على إبراهيم، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهما، و يضفوا الشرعية على مسلكيهما. و لكن القرآن عاد إلى تفنيد هذه المزعمة الثالثة، كما فند المتقدمتين، بقوله: مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاٰ نَصْرٰانِيًّا، وَ لٰكِنْ كٰانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (3).

فهذه المقدمات، تثبت أنّ اليهود و النّصارى كانوا يتبنون هذه الأفكار الواهية الثلاثة:

1 - الرفعة على البشر أجمعين.

2 - كفاية مجرد الانتساب إلى مذهبهما في النجاة.

3 - اختصاص سبيل الهداية بالطائفتين.

فجاء القرآن يفنّد كلّ واحدة من هذه المزاعم، مستقلاّ، بعد نقلها، بالآيات التي عرفت. ثم يفندها جميعها بصورة إجمالية، بالآية التي وقعت ذريعة

ص: 481


1- سورة البقرة: الآية 135.
2- الآية السابقة نفسها.
3- سورة آل عمران: الآية 67.

لمنكري عالمية الرسالة، و هدف الآية أنّ فكرة الشعب المختار، أو كون النجاة رهن الانتساب و التسمية، أو اختصاص الهداية بإحدى الطائفتين، أمر باطل لا أساس له، فإنّ النجاة و الجنة يعمّان جميع البشر و جميع الطوائف، إذا كانوا مؤمنين باللّه و اليوم الآخر، و عاملين بالصالحات، من غير فرق بين إنسان و إنسان، و شعب و آخر، فلا استعلاء و لا تفوق لطائفة على غيرها، و لا الانتساب و التسمية ينجيان أحدا في العالم، و لا الهداية رهن اعتناق أحد المذهبين، و إنّما النجاح و الفوز و الصلاح في الإيمان و العمل الصالح. و هذا الباب مفتوح في وجه كل إنسان، يهوديا كان أو نصرانيا أو صابئيا.

فالآية بصدد تفنيد هذه المزاعم، و أمّا الاعتراف بإقرار الإسلام لشرعية الشرائع السابقة، بعد ظهوره، فليس لها دلالة على ذلك و لا إشعار، بشرط التوقف و الإمعان في الأفكار التي كانت الطائفتان تتبناهما.

و ممّا يوضح المراد من هذه الآية، قوله: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتٰابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنٰا عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ ، وَ لَأَدْخَلْنٰاهُمْ جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ (1). فتصرّح الآية بانفتاح أبواب الجنة في وجه البشر، من غير انحصار بجماعة دون جماعة، حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون، لقبلنا إيمانهم، و كفرنا عنهم سيئاتهم.

و مثله قوله سبحانه في سورة العصر: وَ اَلْعَصْرِ * إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ ، وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ (2).

و أمّا كفاية الإيمان و العمل الصالح، فقط، و عدم لزوم شيء آخر من المعارف و العقائد و الأعمال، فليست الآية، بصدد بيانها نفيا أو إثباتا، و إنّما يرجع فيها إلى الآيات الأخر.

و إذا أردت أن تصوغ الجواب في أسلوب منطقي، فقل: إنّ الحصر في

ص: 482


1- سورة المائدة: الآية 65.
2- سورة العصر.

الآية، حصر نسبي إضافي، بمعنى أنّ المؤثر في النجاة من النار، و الفوز بالجنة، إنّما هو الإيمان و العمل الصالح، و أمّا عدم دخالة شيء آخر كالأصول الثلاثة التي يتبناها اليهود و النصارى أو دخالته، فليست الآية في مقام تبيينه إثباتا أو نفيا، حتى يكون دليلا على إقرار الآية بشرعية الشرائع السابقة.

و بعبارة أخرى: إنّ الآية ساكتة عن بيان ما هو حقيقة الإيمان باللّه و ما هو شرطه، و ما هو المقصود من العمل الصالح، و كيف يتقبل، و إنّما يطلب ذلك من سائر الآيات.

و قد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان باللّه لا ينفك عن الإيمان بأنبيائه، و الإيمان بأنبيائه، لا ينفك عن الإيمان بنبيه الخاتم، قال سبحانه: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مٰا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا هُمْ فِي شِقٰاقٍ (1).

كيف و قد عدّت الآيات القرآنية الإيمان بالرسول مقوّما لحقيقة الإيمان، فقالت: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ (2)إلى هنا تمّ البحث عن عالمية رسالة الرسول الأكرم، و تمّ ردّ الشبهات التي قد تورد حوله، و يقع البحث في السمة الثانية لرسالته و هي خاتميتها، و هو من الموضوعات المهمّة التي لا يكون المسلم مسلما إلاّ بالإيمان بها.

ص: 483


1- سورة البقرة: الآية 137.
2- سورة النور: الآية 62.

ص: 484

السمة الثانية خاتمية الرسالة
اشارة

اتفقت الأمّة الإسلامية عن بكرة أبيها، على أنّ نبيّها محمدا صلى اللّه عليه و آله، خاتم النبيين، و أنّ شريعته خاتمة الشرائع، و كتابه خاتم الكتب و الصحف، فهو آخر السفراء الإلهيين، أوصد به باب الرسالة و النبوّة، و ختمت به رسالة السماء إلى الأرض، و أنّ دين نبيّها، دين اللّه الأبدي، و أنّ كتابه، كتاب اللّه الخالد، و قد أنهى اللّه إليه كل تشريع، فاكتملت بدينه و كتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.

و يدلّ على ذلك نصوص من الكتاب و السنّة، نستعرضها فيما يلي:

أ - الخاتمية في الكتاب العزيز
اشارة

لقد نصّ القرآن الكريم على الخاتمية تنصيصا لا يقبل الشك، و لا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية، و ذلك في مواضع:

1 - التنصيص على أنّه خاتم النبيين
اشارة

قال سبحانه: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ ، وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (1).

ص: 485


1- سورة الأحزاب: الآية 40.

و تتضح دلالة الآية بنقل سبب نزولها:

تبنّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، زيدا، قبل بعثته. و كان العرب ينزّلون الأدعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج و الميراث، فأراد سبحانه أن ينسخ تلك السنة الجاهلية، فأمر رسوله بتزوّج زينب، زوجة زيد، بعد مفارقته لها.

فأوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين، و المتوغلين في النزعات الجاهلية، فأخمد اللّه تعالى أصواتهم بقوله: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ ، أي من الذين لم يلدهم، و منهم زيد، وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ و هو لا يترك ما أمره اللّه به، وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ أي آخرهم، ختمت به النبوة، فلا نبي بعده، و لا شريعة سوى شريعته، فنبوته أبدية، و شريعته باقية إلى يوم القيامة.

الخاتم و ما يراد منه

الخاتم، بفتح التاء، كما عليه قراءة عاصم، أو بكسرها كما عليه الباقون، يدلّ على أنّ باب النبوة ختمت به. و ذلك لأنّه على الكسر، اسم فاعل من ختم يختم، فهو خاتم، و على الفتح، يحتمل وجوها ثلاثة:

أ - إنّه اسم بمعنى ما يختم به، أي المختوم به باب النبوة، فوجوده صلى اللّه عليه و آله في سلسلة الأنبياء، كالختم و الإمضاء في الرسائل. فكما أنّ الرسائل تختم في نهايتها، بالختم و الإمضاء، فكذا سلسلة الأنبياء ختمت بوجوده، فهو خاتم الأنبياء.

ب - إنّه فعل، «خاتم» ك «ضارب»، فهو صلى اللّه عليه و آله ختم باب النبوة.

ج - إنّه اسم بمعنى «آخر»، أي آخر النبيين و نهايتهم.

قال أبو محمد الدميري في منظومته:

و الخاتم الفاعل قل بالكسر *** و ما به يختم فتحا يجري(1)

ص: 486


1- التيسير في علوم التفسير، ص 90.

فأشار في هذا البيت إلى الوجهين، و أنّه بالكسر اسم فاعل، و بالفتح اسم بمعنى ما يختم به.

و قال البيضاوي: «و خاتم النبيين: آخرهم الذي ختمهم»(1).

و في هذا إشارة إلى المعنى الثالث.

ثم إنّ الختم له أصل واحد، و هو بلوغ آخر الشيء، يقال: ختمت العمل، و ختم القارئ السورة. و الختم، و هو الطبع على الشيء، فذلك من هذا الباب أيضا، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلاّ بعد بلوغ آخره(2).

و قد جاء هذا اللفظ في القرآن في موارد لا يشذّ واحد منها عن هذا الأصل، فمن ذلك.

قوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتٰامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذٰلِكَ فَلْيَتَنٰافَسِ اَلْمُتَنٰافِسُونَ (3)، أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه، تختم أوانيه و تسدّ بمسك.

و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ ، وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (4). أي نطبع على أفواههم، فتوصد، و تتكلم أيديهم و أرجلهم.

فاتضح مما ذكرناه، أنّ الآية صريحة في أنّ النبي الأكرم، نهاية سلسلة الأنبياء، و أنّه قد ختم بنبوته باب النبوة و أوصده إلى يوم القيامة.

ص: 487


1- أنوار التنزيل، في تفسير سورة الأحزاب، الآية 40.
2- مقاييس اللغة، مادة «ختم».
3- سورة المطففين: الآيتان 25 و 26.
4- سورة يس: الآية 65، و البقرة: الآية 7، و الأنعام: الآية 46، و الشورى: الآية 24، و الجاثية: الآية 23.
تشكيك ضئيل

إنّ هنا تشكيكا اختلقته بعض الطوائف(1) الخارجة عن الإسلام، العميلة لأعدائه، فقالت إنّ المراد من الخاتم في قوله، عزّ من قائل: خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، الحلية التي يزيّن بها الإصبع. و المراد أنّ النبي الأكرم زينة النبيين، كما أنّ الخاتم زينة يد الإنسان، فهو بين تلك العصابة، كالخاتم في يد لابسه.

و هذه شبهة واهية للغاية، نجمت - إن لم تكن متعمدة - من الجهل باللغة العربية، و ذلك لوجوه:

أولا - إنّه لم يعهد استعارة الخاتم في اللغة العربية، للزينة، فلا يقال إنّه خاتم القوم، أي زينتهم و حليتهم، فكيف يستعيره القرآن في هذا المعنى، و هو في قمة البلاغة ؟!.

و ثانيا - لو كان الهدف تشبيه النبي بالخاتم في كونه حلية، لكان المناسب أن يشبهه بالتاج و الإكليل، إذ هما أبلغ في بيان المقصود، أعني الزينة.

و ثالثا - إنّ الخاتم ليس له إلاّ أصل واحد، و هو ما يختم به، و لو استعمل في حلية الإصبع، فذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد، لأنّ الدارج في عهد الرسالة إنهاء الكتاب بالخاتم، فكانت خواتمهم أختامهم، لا أنّه وضع لحلية الإصبع وضعا على حدة.

و يدلّ على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته، من أنّ رسول اللّه أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام و كتب إليهم كتبا، فقيل يا رسول اللّه: إنّ الملوك لا يقرءون كتابا إلاّ مختوما، فاتّخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يومئذ، خاتما من فضة، فصّه منه(2)، نقشه ثلاثة أسطر:

«محمد»، «رسول»، «اللّه»، و ختم به الكتب(3).

ص: 488


1- كالبهائية و القاديانيّة.
2- كذا في النسخة، و الأولى: «منها»، و لعل التذكير باعتبار رجوع الضمير إلى الخاتم.
3- الطبقات الكبرى، ج 1، ص 248. و لاحظ مقدمة ابن خلدون ج 1، ص 220، تجد فيه بسطا في الكلام.

فظهر ممّا قدمنا أنّ الخاتم بمعنى ما يختم به، و له مصاديق، فتارة يختم بحلية الإصبع، و أخرى بشيء مثل الشمع، و ثالثة بمثل الطين، و أشياء أخرى درجت حديثا.

و أضعف من ذلك احتمال أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، أنّه مصدّق للنبيين، فاستعارة الخاتم له، لأجل أنّه صلى اللّه عليه و آله مصدّقهم كالخاتم المصدّق لمضامين الكتب.

و يردّه، أولا: لو كان المراد هو تصديق النبيين، فلم عدل عن التعبير الصريح، إلى هذا التعبير المعقد، مع أنّه استعمل لفظ مصدّق دون الخاتم عند ما أراد بيان تصديق نبيّ لنبيّ آخر؛ فقال: وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ (1).

و كذلك عند ما أراد بيان تصديق لكتاب لكتاب؛ فقال: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ (2).

و ثانيا - ليس الخاتم نفسه مصدّقا، و إنّما هو آلة التصديق، و ما يصدّق به، و إنّما المصدّق من يستعمل الختم، و هذا بخلاف النبي فإنّه بنفسه مصدق.

و لعمري، لو لا شيوع التشكيك بين البسطاء من غير العرب، لكان الأولى ترك التعرض له.

نعم، هنا تشكيك آخر قابل للطرح و الذكر، و إليك بيانه.

تشكيك آخر

إنّ المختوم في الآية المباركة هو منصب النبوة لا الرسالة، حيث قال:

خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ . و ختم باب النبوة، لا يلازم ختم باب الرسالة، فهو مفتوح على مصراعيه في وجه الأمة، و لم يوصد.

ص: 489


1- سورة الصف: الآية 6.
2- سورة المائدة: الآية 48.

و الجواب: إنّ رفع التشكيك يتوقف على تبيين الفرق بين النبوة و الرسالة، و بالتالي يعلم الفرق بين النبي و الرسول، فنقول:

النّبوّة منصب معنوي يستدعي الاتصال بالغيب بإحدى الطرق المألوفة، و الرسالة سفارة للمرسل (بالفتح) من جانبه سبحانه لإبلاغ ما أوحي إليه، إلى المرسل إليه، أو تنفيذ ما تحمّله منه سبحانه، في الخارج.

و بعبارة أخرى: النبوة، تحمل الأنباء؛ و الرسالة، إبلاغ ما تحمّله من الأنباء، بالتبشير و الإنذار، و التنفيذ.

و لأجل مناسبة الوحي لمقام النبوة، و التبليغ لمقام الرسالة، يقول سبحانه:

إِنّٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ كَمٰا أَوْحَيْنٰا إِلىٰ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (1) .

و يقول: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2). و يقول:

قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا (3) .

و في ضوء هذا يعلم الفرق بين النبيّ و الرّسول، فالنبيّ هو الإنسان الموحى إليه بإحدى الطرق المعروفة، و الرسول هو(4) الإنسان القائم بالسفارة من اللّه، للتبشير، أو لتنفيذ عمل في الخارج، أيضا.

إذا عرفت ذلك؛ فنقول: لو فرض إيصاد باب النبوة، و ختم نزول الوحي إلى الإنسان، كما يفيده قوله: خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، فعند ذلك يختم باب الرسالة الإلهية أيضا، لأنّ الرسالة هي إبلاغ أو تنفيذ ما تحمله الرسول عن طريق الوحي، فإذا انقطع الوحي و الاتصال بالمبدإ الأول، فلا يبقى للرسالة موضوع.

ص: 490


1- سورة النساء: الآية 163.
2- سورة المائدة: الآية 67. هذا في مجال التبليغ.
3- سورة مريم: الآية 19. هذا في مجال التنفيذ.
4- المقصود تعريف الرسول المصطلح، فلا ينافي إطلاقه على الملك، مثل قوله تعالى: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا (سورة الأنعام: الآية 61). أو على الإنسان العادي: فَلَمّٰا جٰاءَهُ اَلرَّسُولُ قٰالَ اِرْجِعْ إِلىٰ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مٰا بٰالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاّٰتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ... (سورة يوسف: الآية 50).

فإذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين، أي مختوما به الوحي و الاتصال بالغيب، فهو خاتم الرّسل أيضا. و هذا واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين النبوة و الرسالة(1).

2 - التنصيص على أنّ القرآن لا يأتيه الباطل

قال سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّٰا جٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ * لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (2).

و المقصود من الذكر هو القرآن، لقوله سبحانه: ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآيٰاتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ (3).

أضف إليه أنّ قوله: وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ ، يفسّر الذكر، و هو لا ينطبق إلاّ على القرآن.

و الضمير في قوله: لاٰ يَأْتِيهِ ، يرجع إلى الذكر، و مفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرق إليه، و لا يجد إليه سبيلا أبدا، بأي نحو كان، و دونك صورة:

1 - «لا يأتيه الباطل»، أي لا ينقص منه شيء و لا يزيد فيه شيء.

2 - «لا يأتيه الباطل»، أي لا يأتيه كتاب يبطله و ينسخه، فهو حق ثابت لا يبدّل و لا يغيّر و لا يترك.

3 - «لا يأتيه الباطل»، أي لا يتطرق الباطل إليه في إخباره عمّا مضى، و لا في إخباره عمّا يأتي، و لا يتخلف الواقع عنه قيد شعرة.

و على ضوء هذا، فإطلاق الآية ينفي كلّ باطل يتصور، و أنّ القرآن حقّ لا

ص: 491


1- إن لشيخنا الأستاذ، دام مجده، رسالة خاصة في الفرق بين النبي و الرّسول، لاحظ موسوعته القرآنية، مفاهيم القرآن، الجزء الرابع، ص 315-370.
2- سورة فصلت: الآيتان 41-42.
3- سورة آل عمران: الآية 58.

يدخله الباطل إلى يوم القيامة، و مثل هذا لا يصح أن يكون حجة في أمد محدود، بل يكون متّبعا، بلا حدّ، لأنّ خاصيّة الحقّ المطلق، و المصون عن تطرق الباطل مطلقا، هو كونه حجة لا إلى حدّ خاص، و اللّه سبحانه تعهد في الذكر الحكيم بإحقاق الحق و إبطال الباطل، كما قال: لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ (1).

و بعبارة أخرى: إنّ الشريعة الجديدة، إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة - كما نصّت الآية - التي لا يقارنها و لا يدانيها الباطل، أو غيرها، كلاّ أو جزء.

فعلى الأول، يكون إنزال الشريعة الثانية لغوا.

و على الثاني، تكون كلتا الشريعتين حقّة، فيلزم كون المتناقضين حقّا، و هو غير معقول.

فالآية صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن، و شريعة غير الإسلام، فتدلّ بالملازمة على نفي النبوة التشريعية بعد نبوته.

نعم، الآية لا تفي بنفي النبوة الترويجية، التبليغية، لغير شريعة الإسلام، و إنّما المتكفل له هي الآية الأولى.

3 - التنصيص على الإنذار لكل من بلغ

قال سبحانه: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهٰادَةً ، قُلِ اَللّٰهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2).

فالآية صريحة في أنّ النبي صار مأمورا بالإنذار، بقرآنه، لكل من بلغه

ص: 492


1- سورة الأنفال: الآية 8.
2- سورة الأنعام: الآية 19.

إلى يوم القيامة. فمن بلغه القرآن، فكأنّما رأى محمدا صلى اللّه عليه و آله، و سمع منه، و حيثما يأتيه القرآن، فهو داع له و نذير.

و قوله: وَ مَنْ بَلَغَ ، معطوف على الضمير المنصوب المتصل في قوله:

لِأُنْذِرَكُمْ ، لا على الفاعل المستتر، أعني ضمير المتكلم. فمن بلغه القرآن، منذر (بالفتح) لا منذر.

4 - التنصيص على أنّه نذير للعالمين

قال تعالى: تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً (1).

هذه الآية كما تدلّ على عالمية رسالته، دالّة على خاتميته إلى يوم القيامة.

و اختلف أهل اللغة في مفاد العالمين(2)، و لكن المراد به في المقام كلّ الناس، و نظيره قوله تعالى - حاكيا عن لسان لوط عليه السلام -: قٰالَ إِنَّ هٰؤُلاٰءِ ضَيْفِي فَلاٰ تَفْضَحُونِ * وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لاٰ تُخْزُونِ * قٰالُوا: أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ (3).

أي قالوا في جوابه: أو ليس كنا قد نهيناك أن تستضيف أحدا من الناس.

و بذلك يتضح عدم صحة ما يروى في تفسير العالمين بأنّ المراد الجن و الإنس، أو الجنّ و الملائكة، إذ لا معنى لنهي قوم لوط، نبيّهم عن استضياف هؤلاء.

ص: 493


1- سورة الفرقان: الآية 1.
2- و قد اختلف أهل اللغة في معني «العالم»، الذي يجمع على عالمين، على أقوال: 1 - إنّه اسم للفلك و ما يحويه من الجواهر و الأعراض، و هو في الأصل اسم لما يعلم به، كالطابع، و الخاتم، لما يطبع و يختم به. و أما جمعه، فلأنّ كلّ نوع من هذه قد يسمى عالما: عالم الإنسان، و عالم الماء، و عالم النّار... 2 - إنّه اسم لأصناف الخلائق من الملك و الجنّ و الإنس. 3 - إنّه الإنسان، و الجمع باعتبار كون كلّ واحد عالما. (مفردات الراغب، صفحة 349).
3- سورة الحجر: الآيات 68-70.

و نظيره قوله سبحانه - حكاية عن لوط عليه السلام في الردّ على قومه -:

أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرٰانَ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ (1) ، فالمراد منه هو الناس، بلا ريب، لا الجن و لا الملائكة.

و ما ذكرنا من المعنى هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«عنى به الناس، و جعل كلّ واحد عالما»(2).

و على كل تقدير، فسواء أ كان المراد من العالمين في الآيات الأخر غير هذا، أو كان هذا، فالمراد من قوله: نذيرا للعالمين، عموم البشر، أو مطلق من يعقل. فالآية صريحة في أنّ إنذاره لا يختص بناس دون ناس، أو زمان دون زمان، فهو على إطلاقه، يعطي كونه نذيرا للأمم البشرية، بلا قيد و حدّ.

و ربما يقال إنّ «العالمين» يطلق و يراد منه الجمّ الغفير من الناس، كما في قوله سبحانه: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (3) و يقال: «رأيت عالما من الناس»، يراد به الكثرة. و عند ذاك لا تكون الآية صريحة في عموم رسالته لجميع البشر إلى يوم القيامة.

و الجواب: إنّ المتبادر من اللفظ هو عموم الخلائق، كما في قوله سبحانه:

قٰالَ فِرْعَوْنُ : وَ مٰا رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ * قٰالَ : رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (4) . و استعماله في غير ذلك يحتاج إلى قرينة، و لأجل ذلك يحمل على المعنى الحقيقي في الآيات التالية:

وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعٰالَمِينَ (5) .

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ (6) .

ص: 494


1- سورة الشعراء: الآية 165.
2- مفردات الراغب، ص 349.
3- سورة البقرة: الآية 47.
4- سورة الشعراء: الآيتان 23 و 24.
5- سورة آل عمران: الآية 108.
6- سورة آل عمران: الآية 96.

أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرٰانَ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ (1) .

أَ تَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ (2) .

و أما ما ذكر من الآية، فليس ظاهرا في كون المراد منه الجمّ الغفير، بل كلّ الناس، غاية الأمر أنّها خصّصت بأهل عالمي زمانهم، مثل قوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ (3).

و على أي تقدير فسواء فسّرت الآية، بالجمّ الكثير من الناس، أو خصّصت بأهل عالمي زمانهم، فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهرها، حيث إنّ القرآن دلّ على أنّ الأمّة الإسلامية أفضل الأمم، مثل قوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (4). و دلّت الأحاديث على أنّ ابنة النبيّ الأكرم، فاطمة عليها السالم، مثل مريم أو أفضل منها(5). فهذه و تلك صارتا قرينتين على صرف الآيتين(6) عن ظاهريهما، و أمّا غيرهما فيحمل على المعنى الحقيقي، أي الناس كلّهم إلى يوم القيامة.

ص: 495


1- سورة الشعراء: الآية 165.
2- سورة الأعراف: الآية 80.
3- سورة آل عمران: الآية 42.
4- سورة آل عمران: الآية 110.
5- أخرج البخاري و مسلم و الترمذي في صحاحهم عن عائشة قالت: إنّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال لفاطمة في أخريات أيامه: «ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين أو سيّدة نساء هذه الأمّة»، (لاحظ التاج الجامع للأصول، ج 3، ص 314). و أخرج ابن سعد عن مسروق عن عائشة في حديث أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله أسرّ إلى فاطمة عند مرضه و قال: «أ ما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة، أو نساء العالمين». (الطبقات الكبرى، ج 8، ص 27. و حلية الأولياء، ج 2، ص 40)، و لو لا هذه الأحاديث لقلنا بتفضيل مريم على نساء العالمين إلى يوم القيامة، كما أنّه لو لا صراحة الآية في تفضيل هذه الأمة لقلنا بتفضيل بني إسرائيل على الناس كلّهم إلى يوم القيامة.
6- سورة البقرة: الآية 47 و سورة آل عمران: الآية 42.
5 - التنصيص على كونه مرسلا إلى الناس كافّة
اشارة

قال سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

المتبادر من الآية كون «كافّة»، حالا من النّاس، قدّمت على ذيها، و تقدير الآية: و ما أرسلناك إلاّ للناس كافّة، بشيرا و نذيرا، و قد استعمل «كافّة» بمعنى «عامّة»، في القرآن الكريم كثيرا، قال سبحانه: وَ قٰاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (2). و الآية دليل على كون رسالته عالمية، كما أنّها دليل على أنّه كان مبعوثا إلى كافة الناس إلى يوم القيامة.

و أمّا جعل لفظ كَافَّةً حالا من الضمير المتصل في قوله:

أَرْسَلْنٰاكَ ، ليعود معنى الآية: و ما أرسلناك إلاّ أن تكفّهم و تردعهم، فبعيد عن الأذهان، أضف إلى ذلك أنّ قوله في ذيل الآية: بَشِيراً وَ نَذِيراً ، كاف في هذا المعنى، لأنّ التبشير و الإنذار يتكفلان الكفّ و الردع عن المحرمات، و قد فهم الصحابة من الآية ما ذكرناه(3).

إشارات إلى الخاتمية في الذكر الحكيم

ما ذكرنا من الآيات كانت تصريحات بالخاتمية، و هناك آيات تشير إليها إذا أمعن النظر في مضامينها، و إليك نقل بعضها.

1 - قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ ، وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ

ص: 496


1- سورة سبأ: الآية 28.
2- سورة التوبة: الآية 36. و لاحظ أيضا البقرة: 208، و التوبة: 122.
3- روى ابن سعد في طبقاته عن خالد بن معدان، قال: قال رسول اللّه (ص): «بعثت إلى الناس كافّة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب...» و في نقل آخر عن أبي هريرة: «أرسلت إلى الناس كافة، و بي ختم النبيون». (الطبقات الكبرى، ج 1، ص 172).

مِنَ اَلْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهٰاجاً، وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً ، وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ .. (1) .

المهيمن هو الرّقيب(2)، فكتاب النبي الأكرم مهيمن على جميع الكتب النازلة من قبل و هو (مهيمنا عليه) متمم لقوله: مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ . تتميم إيضاح، إذ لولاه لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة و الإنجيل أنّه يصدّق ما فيهما من الشرائع و الأحكام، تصديق إبقاء، من غير تغيير و تبديل، لكن توصيفه بالهيمنة يبين أنّ تصديقه لهما بمعنى تصديق أنّها شرائع حقّة من عند اللّه، و أنّ للّه أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ و الإكمال، كما يشير إليه قوله - في ذيل الآية -: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ .

2 - قال سبحانه: أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتٰابَ مُفَصَّلاً، وَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ، فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ * وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ ، وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (3).

و قوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ... ، يدلّ على إيصاد باب الوحي، و انقطاعه إلى يوم القيامة، و تمامية الشرائع النازلة من اللّه سبحانه، طوال قرون، إلى سفرائه.

و المراد من الكلمة، الشرائع الإلهية، كما في قوله: وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمٰاتِ رَبِّهٰا وَ كُتُبِهِ (4)، و معنى الآية: تمّت الشرائع السماوية بظهور الدعوة المحمدية، و نزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، و صارت مستقرة في محلها، بعد ما

ص: 497


1- سورة المائدة: الآية 48.
2- فعيل بمعنى فاعل، أي مراقب.
3- سورة الأنعام: الآيتان 114 و 115.
4- سورة التحريم: الآية 12.

كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدرج، بمنح نبوّة بعد نبوّة، و إنزال شريعة بعد شريعة.

و الدليل على أنّ المراد من الكلمة، الشرائع الإلهية، هو قوله: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً ، أي جعلكم مقتفين لشريعة واحدة، و بما أنّ هذه الدعوة الإلهية الواردة في القرآن الكريم، صدق لا يشوبه كذب، و ما فيه من الأحكام عدل لا يخالطه ظلم، تمّت الشريعة السماوية، فلا تتبدل كلماتها و أحكامها من بعد. و هذا المعنى يظهر عند التأمل في سياق الآيات.

إلى هنا تم البحث عن الآيات الدالّة على الخاتمية بصراحة أو بالتلويح و الإشارة، و لأهمية الاعتقاد بها تضافرت فيها النصوص عن النبي الأكرم و عترته الظاهرة، غير أنّ سرد كل ما وقفنا عليه عنهم عليهم السلام، يستدعي وضع رسالة مستقلة، فنكتفي بنقل بعضها عن النبي الأكرم، و وصيّه الإمام عليّ عليه السلام، و نترك الباقي إلى محله.

ب - الخاتمية في الأحاديث الإسلامية
اشارة

لقد حصحص الحق، بما أوردناه من النصوص القرآنية، و انحسر الشّك عن محيّا اليقين، فلم تبق لمجادل شبهة في أنّ رسول اللّه، خاتم النبيين و المرسلين، و أنّ شريعته خاتمه الشرائع، و كتابه خاتم الكتب. و إليك فيما يلي كلم ذرّيّة، من صاحب الشريعة و وصيه في هذا المجال:

1 - خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من المدينة إلى غزوة تبوك، و خرج الناس معه، فقال له عليّ (عليه السلام): «أخرج معك ؟». فقال: «لا»، فبكى عليّ ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»، أو «ليس بعدي نبي»؟.

و هذا الحديث هو المشهور بحديث المنزلة، لأنّ النبي نزّل نفسه منزلة

ص: 498

موسى، و نزّل عليّا مكان هارون، و هو صحيح متفق عليه بين الأمّة، لم يشكّ أحد في صحّة سنده، و لا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في صدوره، و حسبك أنّه أخرجه البخاري في صحيحه، في غزوة تبوك(1)، و مسلم في صحيحه في باب فضائل عليّ عليه السلام(2)، و ابن ماجه في سننه في باب فضائل أصحاب النبي(3)، و الحاكم في مستدركه، في مناقب عليّ عليه السلام(4) و إمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة(5)، و أمّا الشيعة فقد أصفقوا على نقله في مجامعهم الحديثية(6).

و دلالة الحديث على الخاتمية واضحة، كدلالته على خلافة علي (عليه السلام) للنبي صلى اللّه عليه و آله بعد رحلته.

2 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ مثلي و مثل الأنبياء من قبل، كمثل رجل بني بيتا، فأحسنه و أجمله، إلاّ موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به و يعجبون له، و يقولون: هلاّ وضعت هذه اللّبنة. قال: «فأنا اللّبنة، و أنا خاتم النبيين»(7).

3 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لي خمسة أسماء: أنا محمد؛ و أحمد؛ أنا الماحي، يمحو اللّه بي الكفر؛ و أنا الحاشر، يحشر الناس على

ص: 499


1- صحيح البخاري، ج 3، ص 58.
2- صحيح مسلم، ج 2، ص 323.
3- سنن ابن ماجه، ج 1، ص 28.
4- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 109.
5- مسند أحمد، ج 1، ص 331، و ج 2، ص 369، 437.
6- لاحظ أمالي الصدوق، ص 29. و معاني الأخبار، ص 74. و كنز الفوائد ص 282. و الخرائج و الجرائح ص 75. و مناقب ابن شهرآشوب، ج 1، ص 222. و كشف الغمّة، ج 1، ص 44. و بحار الأنوار، ج 37، الباب 53 ص 254-289.
7- صحيح البخاري، ج 4، ص 226. و مسند أحمد، ج 2، ص 398 و 412. و لاحظ الدر المنثور للسيوطي، ج 5، ص 204. و للحديث صور مختلفة تشترك كلها في إثبات الخاتمية للنبي قال رسول اللّه: «فأنا موضع تلك اللبنة، فجئت فختمت الأنبياء». لاحظ التاج، ج 3، ص 22، نقلا عن البخاري و مسلم و الترمذي.

قدمي؛ و أنا العاقب، الذي ليس بعده النبي»(1).

4 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أرسلت إلى الناس كافة، و بي ختم النبيون»(2).

5 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «فضّلت بست:

أعطيت جوامع الكلم، و نصرت بالرّعب، و أحلّت لي الغنائم، و جعلت لي الأرض طهورا و مسجدا، و أرسلت إلى الخلق كافّة، و ختم بي النبيون»(3).

هذه أحاديث خمسة عن خاتم النبيين، و المروي في هذا المجال عنه صلى اللّه عليه و آله أكثر من ذلك(4).

تنصيص الإمام عليّ على الخاتمية

6 - قال علي عليه السلام: «.. إلى أن بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و آله، لإنجاز عدته، و تمام نبوّته، مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده»(5).

7 - قال علي عليه السلام: «أرسله على حين فترة من الرّسل، و تنازع من الألسن، فقفّى به الرسل، و ختم به الوحي»(6).

8 - قال علي عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:

«بأبي أنت و أمّي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك، من النّبوة و الإنباء، و أخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلّيا عمن سواك، و عممت

ص: 500


1- صحيح مسلم، ج 8، ص 89. الطبقات الكبرى، ج 1، ص 65، مسند أحمد، ج 4، ص 81 و 84.
2- الطبقات الكبرى، ج 1، ص 128، و مسند أحمد، ج 2، صفحة 412.
3- الجامع الصغير، ج 2، ص 216، الرقم 5880، ط دار الفكر - بيروت.
4- سيوافيك الإحالة إلى المصدر الجامع لهذه الأحاديث.
5- نهج البلاغة، الخطبة الأولى. و الضميران في «عدته»، و «نبوته»، للّه تعالى.
6- نهج البلاغة، الخطبة 129.

حتى صار الناس فيك سواء»(1).

9 - قال علي عليه السلام: «أمّا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فخاتم النبيين، ليس بعده نبي و لا رسول، و ختم برسول اللّه الأنبياء إلى يوم القيامة»(2).

10 - قال علي عليه السلام في خطبة الأشباح: «... بل تعاهدهم (العباد) بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، و متحملي ودائع رسالاته، قرنا فقرنا، حتى تمّت بنبينا محمد (صلى اللّه عليه و آله) حجّته، و بلغ المقطع عذره و نذره»(3).

ثم إنّه قد أورد على الخاتمية شبهات واهية، غنية عن الإجابة، يقف عليها كلّ من له إلمام بالكتاب و السّنة و الأدب العربي، و إنّما هي صخب و هياج و جدال باطل، يؤثّر في الجاهلين. و لأجل ذلك استخدمتها القاديانية، و البابية، و البهائية، ذريعة لاصطياد السذج من الناس غير العارفين باللّغة، و لا بالكتاب و السنّة، و لأجل إراءة ضآلة هذه الشبهات نأتي بشبهة واحدة منها، تعدّ من أقوى شبهاتهم، ثم نعطف عنان القلم إلى تحرير أسئلة صحيحة مطروحة حول الخاتمية، و هي قابلة للبحث و النقاش؛ فإليك البيان:

شبهة واهية

كيف يدّعي المسلمون انغلاق باب النبوة و الرسالة، مع أنّ صريح كتابهم قاض، بانفتاح بابها إلى يوم القيامة، و قد جاء في كتابهم قوله: يٰا بَنِي آدَمَ ،

ص: 501


1- نهج البلاغة، الخطبة 230. و مجالس المفيد، ص 527. و البحار، ج 22، ص 527.
2- الاحتجاج، ج 1، ص 220.
3- نهج البلاغة، الخطبة 87. و ما أوردناه نماذج من أحاديث الخاتمية اقتصرنا عليها روما للاختصار، و من أراد التفصيل و الإحاطة بأكثر ما ورد في هذا المجال من النبي و عترته الطاهرة فليرجع إلى مفاهيم القرآن، ج 3، ص 148-179. فقد وصل عدد الأحاديث في هذا المجال إلى 135 حديثا، و الكلّ يشهد على إيصاد باب النبوة و رسالة السماء إلى الأرض.

إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي، فَمَنِ اِتَّقىٰ وَ أَصْلَحَ ، فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ (1) .

فقوله: إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ - مقرونا بنون التأكيد - كاشف عن عدم إيصاد باب النبوة، و أنّه مفتوح.

و الجواب: إنّ هذه الشبهة حصلت من الجمود على نفس الآية، و الغفلة عن سياقها. فإنّ الآية تحكي خطابا خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة، و في الظرف الذي هبط فيه آدم إلى الأرض، و قد شرع القرآن بنقل القصة و الخطابات في سورة الأعراف من الآية الحادية عشر، و ختمها في الآية السابعة و الثلاثين، فبدأ القصة بقوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنٰاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنٰاكُمْ ثُمَّ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ ، لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّٰاجِدِينَ .

و ختمها بقوله:

قٰالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ * قٰالَ : فِيهٰا تَحْيَوْنَ ، وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ (2) .

و عند ذلك، خاطب سبحانه أبناء آدم بخطابات أربعة، تهدف إلى لزوم الطاعة، و التحرز عن إطاعة الشيطان، و أنّ لهم في قصة أبيهم و أمهم، عبرة واضحة، فقال:

1 - يٰا بَنِي آدَمَ ، قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ .. .

2 - يٰا بَنِي آدَمَ ، لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ ، كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ .. .

3 - يٰا بَنِي آدَمَ ، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... .

ص: 502


1- سورة الأعراف: الآية 35.
2- سورة الأعراف: الآيات 11-25.

4 - يٰا بَنِي آدَمَ ، إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ .

فالخطاب الأخير، ليس إنشاء خطاب في عصر الرسالة، حتى ينافي ختمها، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض.

و الذي يوضح ذلك قوله سبحانه في سورة أخرى:

قٰالَ اِهْبِطٰا مِنْهٰا جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدٰايَ فَلاٰ يَضِلُّ وَ لاٰ يَشْقىٰ (1) .

فقوله: فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، يتحد مع الآية السابقة، مضمونا.

و هذا النموذج من الشبهات يوقفك على حالة سائر ما استدلّت به الفرق الباطلة في هذا المجال، من القرآن، و لذلك ضربنا عن هذه الشبهات صفحا(2). و نعرّج إلى أسئلة جديرة بالبحث و النقاش، حول الخاتمية طرحها مرور الزمان، و تكامل الحضارات، و تفتّح العقول، على بساط البحث. فلأجل أهميتها، نطرحها، ثم نجيب عنها بما يناسب وضع الكتاب.

ص: 503


1- سورة طه: الآية 123.
2- لاحظ - للوقوف عليها و على أجوبتها - «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 185-216.

أسئلة حول الخاتمية 1 - لما ذا حرمت الأمّة من النبوة التبليغية ؟.

2 - لما ذا حرمت الأمّة من الاطّلاع على الغيب ؟.

3 - كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ التحول ناموس عام ؟.

4 - كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكلّ عصر اقتضاء خاصا؟.

5 - هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟.

ص: 504

أسئلة حول الخاتمية
السؤال الأول لما ذا حرمت الأمة من النبوة التبليغية ؟
اشارة

إنّ النبي إذا بعث بشريعة جديدة، و كتاب جديد، تكون نبوّته تشريعية، و إذا بعث لغاية دعم أحكام شريعة سالفة، فالنبوة ترويجية أو تبليغية. و القسم الأول من الأنبياء منحصر في خمسة، ذكرت أسماؤهم في القرآن(1). و أمّا القسم الثاني، فيشكّله أكثرية الأنبياء، لأنّهم بعثوا لترويج الدين النازل على أحد أولئك، فكانت نبوتهم تبليغية(2).

فعندئذ، يطرح السؤال التالي: إنّ نبيّ الإسلام جاء بأكمل الشرائع و أتمّها، و لذلك أوصد باب النبوة التشريعية، و لكن لما ذا أوصد باب النبوة التبليغية التي منحها اللّه للأمم السالفة، فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال و التمام، لا تستغني عمن يقوم بنشرها و تجديدها، لكي لا تندرس، حتى يتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأسلوب صحيح. فلم أوصد هذا الباب، بعد ما كان مفتوحا في وجه الأمم الماضية ؟.

الجواب:

إنّ انفتاح باب النبوة التبليغية في وجه الأمم السالفة و إيصاده بعد

ص: 505


1- سورة الشورى: الآية 13.
2- الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية، هي كلمة التشريع، و لكن كلمة التبليغ أولى و أليق، فهي مقتبسة من القرآن، و مدلولها اللغوي منطبق على المقصود.

نبي الإسلام، لا يعني أنّ الأمم السالفة تفرّدت بها لفضيلة استحقتها دون الخلف الصالح، أو أنّ الأمّة الإسلامية حرمت لكونها أقلّ شأنا من الأمم الخالية، بل الوجه هو حاجة الأمم السالفة إليها و غناء الأمة الإسلامية عنها، لأنّ المجتمعات تتفاوت إدراكا و رشدا فربّ مجتمع يكون في أخلاقه و شعوره كالفرد القاصر، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه، بل يضيعه، كالطفل الذي يمزق كتابه و قرطاسه، غير شاعر بقيمتهما.

و مجتمع آخر بلغ من القيم، الفكرية و الأخلاقية و الاجتماعية، شأوا بعيدا، فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه، بل يستثمره استثمارا جيدا، و هو عند ذاك غني عن كل مروّج يروّج دينه، أو مبلّغ يذكّره بمنسيه، أو مربّ يرشده إلى القيم الأخلاقية، أو معلّم يعلّمه معالم دينه، إلى غير ذلك من الشئون.

فأفراد الأمم السالفة كانوا كالقصر، غير بالغين في العقلية الاجتماعية، فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي في الكتاتيب، بكتابه أو قرطاسه، فيخرقه و يمزقه و لا يبقي شيئا ينتفع منه إلى آخر العام الدراسي. و لهذا كان على المولى سبحانه أن يبعث في كل جيل منهم نبيّا ليذكّرهم بدينهم، و يجدد به شريعة من قبله، و يزيل ما علاها من شوائب التحريف.

و أمّا المجتمع البشري بعد بعثه الرسول الأكرم (صلى اللّه عليه و آله و سلم) فقد بلغ من المعرفة و الإدراك و التفتّح العقلي شأوا، يتمكن معه من حفظ تراث نبيّه و صيانة كتابه عن طوارق التحريف و الضياع، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى حدّ تأسيس علوم عديدة لفهم كتابه. فازدهرت، تحت راية القرآن، ضروب من العلوم و الفنون. فلأجل ذلك الرشد الفكري، جعلت وظيفة التبليغ و الترويج و صيانة التراث على كاهل نفس الأمّة، حتى تبوّأت وظيفة الرسل في التربية و التبليغ، و استغنت عن بعث نبي مجدد.

و لأجل ذلك يقول سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (1).

ص: 506


1- سورة آل عمران: الآية 110.

و قال سبحانه: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (1).

و قد ظهرت طلائع هذا الاعتماد على الأمّة من قوله سبحانه: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (2).

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «إذا ظهرت البدع، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل، فعليه لعنة اللّه»(3).

و قال الإمام الباقر: «إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصلحاء، و فريضة تقام بها الفرائض، و تؤمن المذاهب، و تحلّ المكاسب، و تردّ المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر»(4).

و ما ذكرنا من الجواب يلائم أصول أهل السنة في دور الأمة و علمائها في حفظ الشريعة. و لكن هناك جواب آخر أصحّ و أجمع.

و حاصله: إنّ أئمّة الشيعة بحكم حديث الثّقلين، يحملون علم النبي في المجالات المختلفة سواء في مجال المعارف و العقائد، أو في مجال الأحكام و الوظائف، أو في مجال الاحتجاج و المناظرة، أو في مجال الأجوبة على الأسئلة المستجدة، كل ذلك بتعليم من اللّه سبحانه، من دون أن يكونوا أنبياء يوحى إليهم.

فلأجل ذلك، كل إمام في عصره، يقوم بمهمة التبليغ و الترويج، و يجلي الصدأ عن وجه الدين، و يردّ شبهات المبطلين، فاستغنت بهم الأمّة عن كل نبوة

ص: 507


1- سورة آل عمران: الآية 104.
2- سورة التوبة: الآية 122.
3- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف، الباب 40، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة، ج 11، كتاب الأمر بالمعروف، الباب الأول، الحديث 6.

ترويجية، و التاريخ يشهد بأنّ كل إمام من أئمة الشيعة الاثني عشرية، قام بأعباء مهمة التبليغ، و إيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الأمة، و لقد عانوا في ذلك من المشاق، و لاقوا من الأهوال ما لاقاه جدّهم النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم(1).

ص: 508


1- بما أنّ الأبحاث المعقودة في فصل الإمامة و الخلافة تتكفل بإثبات ذلك، اكتفينا بهذا المقدار، و سيوافيك التفصيل فيه.

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الثاني لما ذا حرمت الأمة من الاطلاع على الغيب ؟
اشارة

إنّ الشريعة الإسلامية، و إن كانت أكمل الشرائع، و الخلف من الأمّة، قادر على حفظ تراثه الديني، أو أنّ العترة الطاهرة تقوم بمهمة التبليغ، و لأجل ذلك أوصد باب النبوة التشريعية و التبليغية، إلاّ أنّ إيصادها على الإطلاق يستلزم انقطاع الفتوحات الباطنية عن طريق النبي المبعوث.

و ذلك، لأنّ انقطاع النبوة بمعنى انقطاع أخبار السماء عن أهل الأرض، و انقطاع الاطلاع على الغيوب، و هذا خسران للأمّة، مع أنّه كان مفتوحا في وجه الأمم السالفة، فهل معنى ذلك أنّ الأمّة الإسلامية أقلّ جدارة منها، و استحقاقا لها؟.

و حاصل السؤال أنّ إيصاد باب النبوة، لأجل كمال الشريعة و استغناء الأمّة عن نبي مبلغ، و إن كان أمرا لازما، غير أنّ سدّ باب النبوة يستلزم سدّ باب الفيوض المعنوية، و المكاشفات الغيبية، و المشاهدات الروحية التي تصل إلى الأمّة عن طريق نبيّها؛ فرفع النبوة و ختمها، يستلزم ذلك الحرمان.

الجواب:

إنّ سدّ باب النبوة لا يستتبع إلاّ سدّ باب الوحي في مجال تشريع الحكم، أو في مجال تبليغ الشريعة السابقة.

ص: 509

و أمّا سائر الفتوحات الباطنية فهي مفتوحة في وجه الأمّة إلى يوم القيامة، من غير فرق بين الاتصال بعالم الغيب عن طريق البرهنة و الاستدلال و التدبر في آياته الآفاقية، الذي يشير إليه تعالى بقوله: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ ، أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (1). و أمّا الاتصال به بلا توسيط برهان أو دليل، بل بمشاهده عين القلب و بصر الروح، و شهود الحقائق العلوية، و انكشاف ما وراء الحسّ و الطبيعة من العوالم الروحية، و معرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه و قدره، و الاتصال بجنوده سبحانه و ملائكته، و استماع كلامهم و أصواتهم، إلى غير ذلك من الأمور، إلاّ أنّه مقام خطير يحصل لعدّة من المتحررين عن سلوك طريق الطبيعة، الحابسين أنفسهم في ذات اللّه، العاملين بكتابه و سنّة نبيّه، حسب ما لهم من المقدرة و الطاقة، لتحمل الأمور الغيبية، و مشاهدة جلاله و جماله، و كبريائه و عظمته، و ما لأوليائه من مقامات و درجات و ما لأعدائه من نار و لهيب و دركات.

و ليس ما ذكرنا من إمكان الاتصال، كلمة خطابية، أو عرفانية غير معتمدة على الكتاب و السنّة، بل الكتاب الحكيم يقضي بذلك عند التأمّل و الإمعان فيه:

1 - قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً (2)، أي يجعل في قلوبكم نورا تفرّقون به بين الحقّ و الباطل، و تميّزون به بين الصحيح و الزائف بالبرهنة و الاستدلال، أو بالشهود و المكاشفة.

2 - و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).

و المراد من النور، هو ما يمشي المؤمن في ضوء هدايته في دينه و دنياه، و هذا النور الذي يغمره نتيجة إيمانه و تقاه، يوضحه قوله سبحانه: أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً

ص: 510


1- سورة فصلت: الآية 53. و نظيره الذاريات: الآيتان 20 و 21.
2- سورة الأنفال: الآية 29.
3- سورة الحديد: الآية 28.

فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّٰاسِ (1) .

3 - و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا (2).

4 - و قال سبحانه: كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ اَلْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ (3).

و المراد رؤيتها قبل يوم القيامة، رؤية البصيرة، و هي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين، على ما يشير إليه قوله تعالى: وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ (4). و هذه الرؤية القلبية، غير محققة قبل يوم القيامة لمن ألهاه التكاثر، بل ممتنعة في حقّه.

كما أنّ المراد من قوله: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ اَلْيَقِينِ . هو مشاهدتها يوم القيامة، بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ .

فالمراد بالرؤية الأولى رؤيتها قبل يوم القيامة، و بالثانية رؤيتها يوم القيامة(5).

5 - و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً وَ آتٰاهُمْ تَقْوٰاهُمْ (6).

فلو أنّ الإنسان جعل نفسه في مسير الهداية، و طلبها من اللّه سبحانه، لزاده تعالى هدى، و آتاه تقواه.

6 - و قال سبحانه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنٰاهُمْ هُدىً (7). و هذه الآية تبيّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم، و واجهوا المشاق في حفظ

ص: 511


1- سورة الأنعام: الآية 122.
2- سورة العنكبوت: الآية 69.
3- سورة التكاثر: الآيات 5-8.
4- سورة الأنعام: الآية 75.
5- لاحظ الميزان، ج 20، ص 496-497.
6- سورة محمد: الآية 17.
7- سورة الكهف: الآية 13.

إيمانهم و دينهم، فزاد اللّه من هداه في حقّهم، و ربط على قلوبهم، كما في الآية التالية:

7 - و قال سبحانه: وَ رَبَطْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قٰامُوا فَقٰالُوا رَبُّنٰا رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلٰهاً لَقَدْ قُلْنٰا إِذاً شَطَطاً (1).

إلى غير ذلك من الآيات التي تعرب عن عدم إيصاد هذا الباب.

ثم إنّ في السنّة النبوية الشريفة، و الخطب العلوية، تصريحات و إشارات إلى انفتاح هذا الباب.

فمن ذلك ما روته الصحاح عن النبي صلى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء»(2). و هذا هو المحدّث في مصطلح أهل الحديث. و قد تضافرت الروايات على أنّ مريم و فاطمة و عليا عليهم السلام كانوا محدّثين.

و يقول الإمام علي عليه السلام في كلام له، يحكي فيه عن صاحب التقوى: «قد أحيا عقله، و أمات نفسه، حتى دقّ جليله، و لطف غليظه، و برق له لامع كثير البرق، فأبان له الطّريق، و سلك به السّبيل، و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة، و دار الإقامة، و ثبتت رجلاه بطمأنينة في بدنه في قرار الأمن و الراحة، بما استعمل قلبه، و أرضى ربّه»(3).

و يقول عليه السلام، في كلمة أخرى تعرب عن رأي الإسلام في هذه المجال، قالها عند تلاوته قوله سبحانه: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ قال: «إنّ اللّه سبحانه جعل الذّكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، و تبصر به بعد العشوة، و تنقاد به بعد المعاندة، و ما برح للّه - عزّت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة، و في أزمان الفترات، عباد

ص: 512


1- سورة الكهف: الآية 14.
2- صحيح البخاري، ج 2، ص 149.
3- نهج البلاغة، الخطبة 215.

ناجاهم في فكرهم، و كلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار و الأسماع و الأفئدة، يذكّرون بأيّام اللّه، و يخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات... إلى أن قال: و إنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم اللّه، في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط، و يأتمرون به، و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة، و هم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حققت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس، و يسمعون ما لا يسمعون...»(1).

و قد تربى في أحضان علي عليه السلام، صفوة من رجال الخير، يستدرّ بهم الغمام و يضنّ بهم الزمان، كزيد و صعصعة ابني صوحان، و أويس القرني، و الأصبغ بن نباتة، و رشيد الهجري، و ميثم التّمار، و كميل بن زياد، و أشباههم، و كان هؤلاء مثلا للفضيلة و خزانة للعلم و الأسرار، منحهم أمير المؤمنين عليه السلام من سابغ علمه، و استأمنهم على غامض أسراره، ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم، حتى زكت نفوسهم، و كادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص، لا يعرفون الرذيلة و لا تعرفهم.

ص: 513


1- نهج البلاغة، الخطبة 217.

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الثالث أ ليس التحول ناموسا عاما، فما معنى الشريعة الثابتة ؟
اشارة

ليس في الكون المادي، أمر خالد باق مدى الدهور و تعاقب الأجيال، لأنّ التحوّل ناموس عام في الطبيعة، و على ذلك، فكيف يقرر الإسلام سننا و قوانين ثابتة، منذ بعثة الرسول إلى يوم القيامة، فإنّ الاعتقاد بخاتمية الرسول و كتابه و سننه و تشريعاته، يلازم الاعتقاد بثباتها في هذا الكون الذي كتب على جبينه عدم القرار و الثبات.

الجواب:

إنّ السؤال نجم من الخلط بين الموجودات المادية و النواميس الحاكمة عليها، فالمتغيّر هو الأول دون الثاني، فإنّ السماء و الأرض و ما فيهما لا تستقرّ على حالة واحدة، و أمّا النواميس السائدة عليها فهي ثابتة أبدية لا يصيبها التبدّل، و لا تقع في إطار الحركة و التحوّل.

مثلا: المعادلات الرياضية، و قانون الجاذبيّة، و الثقل النوعي في الموجودات، و انكسار الضوء و أحكام العدسيّات و سرعة النور و غيرها من القوانين الفيزيائية، ثابتة غير متغيرة، سائدة في كل الظروف و الأزمنة.

و مثله: الأحكام الشرعية، المحمولة على الموضوعات الخارجية فالموضوعات و إن كانت تتغير، و المجتمع يتحول من حال إلى أخرى، و لكن لكلّ

ص: 514

موضوع في حال خاص حكم لا يتغير ما دام الموضوع موضوعا، و إذا تبدّل، فالتبدّل يستلزم رفع الحكم برفع موضوعه لا استبداله بحكم آخر.

و بذلك تقف على مدى وهن ما يعترض به على ثبات قوانين الإسلام، بأنّه ليس عندنا أصل ثابت و شيء مستقر، بل الكون بأجمعه يموج بالتحولات و التغيرات.

إذ فيه مضافا إلى ما ذكرنا من الخلط بين القانون و منطبقه، أنّ قولهم هذا بأنّه ليس عندنا علم ثابت، هو بحدّ ذاته، قانون ثابت لدى المعترض، فهو في الوقت الذي يعترض فيه على ثبات القوانين و بقائها، يعترف بقانون ثابت في العالم، و هو أنّه «ليس عندنا قانون ثابت».

ص: 515

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الرابع كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصر اقتضاء خاصّا؟
اشارة

السؤال الرابع كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصر اقتضاء خاصّا؟(1)

التطور الاجتماعي يستلزم تطورا في قوانين المجتمع، و القانون الموضوع في ظرف خاص، ربما يكون مضرّا أو غير مفيد في ظرف آخر، و مقتضيات الزّمان (القوانين)، تختلف باختلاف ألوان الحياة و الظروف الطارئة على المجتمع، فما صحّ بالأمس، لا يصحّ اليوم، و ما يصحّ اليوم لا يصحّ غدا. و على هذا فلو كانت الحياة مستمرة على وتيرة واحدة، لساغ للتشريع الإلهي المحمدي أن يسود في جميع الظروف و الأحوال إلى يوم القيامة، لكنها لما كانت متغيرة و متحوّلة، فلا يصحّ للشريعة الإلهيّة السيادة على المجتمعات دائما، فكيف يصحّ القول بأنّ شريعة الإسلام شريعة خالدة، إذ لا يعنى من خاتمية النبوة، إلاّ خاتمية الشريعة و بقاؤها إلى الأبد.

الجواب:

إنّ هذه الشبهة من أهمّ الشبهات في موضوع الخاتمية، و منشؤها تخيل أنّ

ص: 516


1- الفرق بين هذا السؤال و سابقه واضح، فإنّ الأول، يعتمد على اصل فلسفي و هو شمول التحول لكلّ ما في الكون، و انطلاقا من هذا الأصل لا يمكن الاعتراف بثبات أصل و قانون. و السؤال الثاني سؤال اجتماعي، و هو لزوم اختلاف القوانين حسب اختلاف المقتضيات، و الاعتراف بهذا لا يجتمع مع القول بثبوت سنن الإسلام و قوانينه.

التحوّل يدبّ في جميع شئون الإنسان، و أمّا إذا قلنا بأنّ للإنسان - مع قطع النظر عمّا يحيط به من الظروف المختلفة - روحيات و غرائز لا تتغير أبدا، و لا تنفكّ عنه، و هي في الحقيقة مشخصات تكوينية له، بها يتميز عن سائر الحيوانات، فالشبهة مندفعة من رأس، فإنّ القوانين و السنن الراجعة إليها، تكون ثابتة خالدة، حسب خلودها، إذا كانت موافقة لما تقتضيه.

توضيحه: إنّ السائل قد قصر النظر على ما يحيط بالإنسان من الظروف المختلفة المتبدلة، التي هي نتيجة تكامل الحضارات و المجتمعات، و ذهل عن أنّ للإنسان غرائز ثابتة و روحيات خالدة، لا تستغني عن قانون ينظّم اتجاهاتها و تشريع يعدّلها، و يصونها عن الإفراط و التفريط، فبما أنّ هذه الغرائز و الفطريات، لا تمسّها يد التغيّر، فالتشريعات المطابقة لمقتضى الفطرة، و الصالحة لهدايتها، تخلد بخلودها و تثبت بثبوتها، فلو كان السائل واقفا على أنّ الإنسان مركب من مشخصات تكوينية أبدية، و مشخصات طارئة متغيرة، لوقف على أنّ القوانين الراجعة إلى هداية الفطرة و تعديلها، تثبت على جبين الدّهر، ما دام الإنسان إنسانا، و أمّا القوانين الراجعة إلى المشخصات الطارئة المتحولة، فلا تصلح للخلود و الثبات. و إليك فيما يلي أمثلة لما ذكرناه.

1 - الروابط العائلية، كرابطة الولد بوالديه، و الأخ بأخيه، هي روابط طبيعية، لوجود الوحدة الروحية، فالسنن الراجعة إلى تنظيم هذه الروابط، من التوارث أولا، و لزوم التكريم و الصّلة ثانيا، من الأحكام التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان، فلا تجد مجتمعا ينادي بقطع التوارث بين الوالد و الولد، أو قطع الحضانة بين الأم و ولدها، أو ما شابه ذلك.

2 - إنّ التفاوت بين الرجل و المرأة أمر طبيعي محسوس، فهما موجودان بشريان مختلفان اختلافا عضويا و روحيا، على رغم كل الدعايات السخيفة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما. و لأجل ذلك اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر اختلافا يقتضيه طبع كل منهما. فإذا كان التشريع مطابقا لفطرتهما و مسايرا لطبعهما، ظلّ ثابتا لا يتغير بمرور الزمان لثبات الموضوع المقتضي لثبات محموله.

3 - الإنسان بما هو موجود اجتماعي، يحتاج لحفظ حياته و بقاء نسله، إلى

ص: 517

العيش الاجتماعي، و الحياة العائلية، و هذان الأمران من أسس حياة الإنسان، ما برحت تقوم عليهما - في جمله ما تقوم عليه - منذ تكون الإنسان.

و من المعلوم أنّ الحياة الاجتماعية و العائلية، ليستا غنيتين عن التشريع لتنظيمهما، فلو كان التشريع حافظا لحقوق الأفراد، خاليا عن الظلم و الجور، مبنيا على ملاكات واقعية، يدوم هذا القانون، ما دام مرتكزا على العدل و الصلاح.

4 - التشريع الإسلامي حريص جدا على صيانة الأخلاق و حفظها من الضياع و الانحلال، و مما لا يشك فيه أنّ الخمر و الميسر، و الإباحية الجنسية، ضربات تقصم ظهر الأخلاق و تقضي عليها، فالخمر يزيل العقل، و الميسر ينبت العداوة في المجتمع، و الإباحية الجنسية تفسد الحرث و النسل، فالأحكام الراجعة إليها ثابتة دائما.

و حصيلة البحث أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها، لا يوجب أن يتغير النظام السائد على مقتضى الفطرة و لا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية من مصالح و مفاسد كامنة في موضوعاتها، فلو تغيّر لون الحياة في وسائل الركوب، و النقل، و معدات التكتيك الحربي، و..، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ أحكام الفطرة أو تنسخ حرمة الظلم، و وجوب العدل، و لزوم أداء الأمانة، و الوفاء بالعهود و الأيمان، إلى غير ذلك من الأحكام الراجعة إلى التحسين و التقبيح العقليين، التي يستقل العقل ببقاء أحكامهما ما دام الموضوع موضوعا.

أجل، إنّ تقلب الأحوال، و تحوّل الأوضاع الاجتماعية يتطلب تحولا في السنن و الأنظمة، و تبدّلا في الأحكام و القوانين، غير أنّه لا يتطلب تحوّلا فيما يمسّ واقعية الإنسان الثابتة في جميع الظروف، كما لا يتطلب تحوّلا في القوانين الكونية التي تدير الكون بأصولها الثابتة، فلا تتغير النسب الرياضية، و لا القواعد الهندسية، و إن تطورت الأوضاع و تحولت(1).

ص: 518


1- قد مضى عند البحث في الشاهد الخامس من شواهد إعجاز القرآن الكريم، و هو اتقان التشريع و التقنين، ما يفيدك، فراجع.

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الخامس هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟
اشارة

إنّ توسع الحضارة يلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى، و بما أنّ الحضارة و الحاجات في حال التزايد و التكامل، فكيف تعالج القوانين المحدودة الواردة في الكتاب و السنّة، الحاجات غير المحدودة.

و بما أنّ الإسلام نظام تشريعيّ كامل، تدخّل في شئون المجتمع كافّة، ثقافيّها، و سياسيّها، و اجتماعيّها، و عسكريّها، و عائليّها، و أغنى المجتمع عن كل تشريع سوى تشريعه، فعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: إنّ القوانين الواردة في الكتاب و السنّة، محدودة مهما توسّع نطاقها، فكيف تغني المجتمع عن ممارسة التشريع في الحوادث و الموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن و بعثة الرسول.

نعم، المسيحية أراحت نفسها من الإجابة عن هذا السؤال بادّعاء أنّ نظامها لا يخرج عن الطقوس الفردية و العبادية، و إنّما هو الإسلام، الذي يدّعي إغناء المجتمع عن كل تشريع في جميع حقول الحياة.

الجواب:

إنّ خلود التشريع الإسلامي، و غناه عن كل تشريع، مبني على وجود أمرين فيه:

ص: 519

1 - أنّه ذو مادة حيوية، خلاّقة للتفاصيل مهما كثرت الحاجات، و استجدّت الموضوعات.

2 - أنّه ينظر إلى الكون و المجتمع بسعة و رحابة، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة. و إليك بيان كلا الأمرين:

أما الأمر الأول:
اشارة

فقد أحرزه بتنفيذ أمور:

1 - الاعتراف بحجيّة العقل في مجالات خاصة

اعترف القرآن و السنّة بحجيّة العقل في مجالات خاصة، مما يرجع إليه القضاء فيها، و لا يكون هو أجنبيّا بالنسبة إليها، و ذلك كما في باب الملازمات التي ستأتي الإشارة إلى عناوينها. و ليس المراد من حجّيته، أنّه يطلق سراحه في مجال التعبديّات التي لا طريق إليها إلاّ بالوحي، فإنّه لا صلاحية له في ذاك المجال.

و أمّا الملازمات التي تعدّ من الأحكام العقلية القطعية، و هي مرادهم من قولهم بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، فأمثلتها:

أ - الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته.

ب - الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة ضده.

ج - الملازمة بين عدم جواز اجتماع الأمر و النهي، و بطلان العبادة.

د - الملازمة بين النهي عن العبادة و المعاملة، و فسادهما.

ه - الملازمة بين المنطوق و المفهوم في القضايا الشرطية، أو الوضعية، أو المغيّاة بغاية.

و نظير ذلك ما يستقل به العقل من أحكام عقلية تلازم أحكاما شرعية، كاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان، الملازم لعدم ثبوت الحرمة و الوجوب إلاّ بالبيان. و استقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية، و لزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية، و استقلاله بإجزاء

ص: 520

إطاعة الأوامر الاضطرارية أو الأوامر الظاهرية، و غير ذلك. و لعلّ الكلّ يرجع إلى مبدأ واحد، و هو استقلاله بالتحسين و التقبيح الذاتيين، و هذا هو المنتج لهذه الملازمات و الأحكام.

و قد فتح هذا الاعتراف، للإسلام، باب البقاء و الخلود، و غدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة و شمول لكثير من الموضوعات المستجدة أو غيرها مما لم يذكر حكمه في الكتاب و السنّة.

نعم، من أعدم العقل و عزله عن الحكم في مجالاته الخاصة به، أعطى للإسلام و لقوانينه سمة الجمود، و عدم الشمول كما أنّ من فسح المجال للعقل، للحكم في كل مورد ليس له طريق إليه، جعل التشريع الإسلامي لعبة تتلاعب بها الأهواء.

و بما أنّ هذا البحث، بحث يرجع إلى علم أصول الفقه، نقتصر على هذا القدر، و نختم الكلام بحديث عن الإمام الطاهر، موسى بن جعفر الكاظم، و هو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم، بقوله:

«إنّ للّه على الناس حجتين، حجة ظاهرة، و حجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء، و الأئمة، و أمّا الباطنة فالعقول»(1).

2 - الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد

الأحكام الشرعية - حسب ما ينصّ عليه الكتاب - تابعة للمصالح و المفاسد، فلا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه، و لا فريضة إلاّ لمصلحة في الإتيان بها.

و لا يراد من المصالح و المفاسد خصوص الدنيوية، بل الأعمّ مما يرجع إلى سعادة البشر في دنياه، و في أخراه.

يقول سبحانه: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ، وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (2).

ص: 521


1- الكافي، ج 1، ص 16.
2- سورة المائدة: الآية 91.

فإذا كانت الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد، و كانت الغاية المتوخاة من تشريعها هي الوصول إلى المصالح و التحرز عن المفاسد، و بما أنّ المصالح و المفاسد ليست على وزان واحد، بل لها درجات و مراتب، عقد الفقهاء بابا لتزاحم الأحكام و تصادمها، فيقدمون الأهمّ على المهم، و الأكثر مصلحة على الأقل منه، و الأعظم مفسدة على الأحقر منه. و قد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية، التي ربما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة.

و من أمثلته: إنّ تشريح بدن الإنسان في المختبرات، من الأمور الضرورية الحيوية التي يتوقف عليها نظام الطب اليوم. غير أنّ هذه المصلحة تصادمها حرمة التمثيل بالميّت، مسلما كان أو كافرا، و لكن عناية الشارع بالصحّة العامة تجعل إحراز هذه المصلحة مقدّمة على المصلحة الأخرى، و هي حرمة الميت، و لكن يقدم في هذا المجال بدن الكافر على المسلم، و المسلم غير المعروف على المعروف، و هكذا. و في ضوء هذا المثال نقدر على طرح أمثلة كثيرة.

3 - الكتاب و السنّة مادة خصبة للتشريع

إنّ الكتاب و السّنّة مشتملان على أصول و قواعد، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون و الأجيال.

و هذه الثروة العلمية التي اختصّت بها الأمّة الإسلامية من بين سائر الأمم، أغنت المسلمين عن التمسّك بكل تشريع سواه.

و تتجلى تلك الحقيقة إذا وقفنا على مرمى حديث الثقلين، و أنّ العترة الطاهرة، قرناء القرآن و أعداله، لا يفترقان أبدا، ففي ضوء الأحاديث الواردة عن الأئمة الاثني عشر من أهل بيت الرسول الأعظم، قدر التشريع الإسلامي - على مذهب الإمامية - على استنباط أحكام الموضوعات المستجدة الكثيرة، بوضوح و انطلاق، و لم ير هناك قصور فيه.

نعم، إنّ من اقتصر في مجال السنّة على خصوص ما روته الصحابة عن

ص: 522

النبي الأكرم، لم ير بدّا من اللجوء إلى مقاييس و قواعد ظنية ما أنزل اللّه بها من سلطان، كالقول بالقياس و الاستحسان و الاستقراء، و غيرها من الظّنّيات التي نهى الشارع المقدس عن التعبد بها في مجال العبودية، بقوله: قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّٰهِ تَفْتَرُونَ ؟(1)هذا، و إنّ الأحاديث الإسلامية في مجال الأحكام الفرعية، الواردة عن طريق الصحابة، المنتهية إلى النبي الأكرم، لا تتجاوز خمسمائة حديث، تمدّها أربعة آلاف(2).

و من المعلوم أنّ هذا المقدار من الأحاديث لا يفي بحاجات المجتمع البشري إلى يوم القيامة، و هذا يعرب عن أنّ الرسول لم يترك الأمّة سدى، و لم يدفعهم إلى العمل بمقاييس ظنية لا دليل عليها، و إنّما عالج هذه الناحية الحيوية بالأمر بالرجوع إلى عترته الطاهرة.

إنّ من المؤسف جدا، رفض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، الذين اعترف القريب و البعيد بطهارتهم و وثاقتهم و علوّ شأنهم، و الأخذ بمقاييس ظنية، و إدارة رحى التشريع بها.

«ودع عنك نهبا صيح في حجراته».

4 - تشريع الاجتهاد

المراد من الاجتهاد هو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعيّنة، و هو رمز خلود الدين و بقاء قوانينه، لأنّه به تحفظ غضاضة الدين و طراوته، و يصان عن الاندراس، و بالتالي يستغني المسلمون عن موائد الأجانب.

أمّا لزوم فتح هذا الباب، و لا سيما في العصر الحاضر فليس شيئا يحتاج إلى

ص: 523


1- سورة يونس: الآية 59.
2- لاحظ الوحي المحمدي، لمحمد رشيد رضا، الطبعة السادسة، ص 212.

البرهنة، إذ لم تزل الأمّة الإسلامية، في أعصارها الغابرة و الحاضرة، أمام موضوعات مستجدة و طارئة، فيجب عليها عند ذلك أن تختار سلوك أحد السبل التالية:

- إمّا بذل الوسع في استنباط أحكامها من الكتاب و السّنّة و العقل.

- أو اتّباع القوانين الوضعية البشرية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.

- أو الوقوف و السكوت من غير إفتاء.

و لا شك أن المتعين هو الأول.

و قد كان الاجتهاد مفتوحا بصورته البسيطة بين الصحابة فالتابعين، كما أنّه لم يزل مفتوحا على مصراعية بين أصحاب الأئمة الاثني عشر، و هم الذين قالوا لشيعتهم: «إنّما علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع»(1).

و إنّ من مواهب اللّه تعالى، العظيمة، على الأمّة الإسلامية، تشريع الاجتهاد، و فسح المجال لعلماء الأمّة لأن يناقشوا أفكارهم، فلم تقم للإسلام دعامة، و لا حفظ كيانه و نظامه إلاّ على ضوء هذه البحوث و المناقشات العلمية و ردّ صاحب فكر على ذي فكر آخر، و قد حكى شيخنا العلامة المتضلع، شيخ الشريعة الأصفهاني - رحمه اللّه - عن بعض الأعلام، قوله: «إنّ عدم محاباة العلماء، بعضهم لبعض، من أعظم مزايا هذه الأمّة، التي أعظم اللّه بها عليهم النعمة، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين، المؤدية إلى تحريف ما فيهما، و اندراس تينك الملتين، فلم يتركوا لقائل قولا فيه أدنى دخل إلاّ بيّنوه، و لفاعل فيه اعوجاج إلاّ قوّموه، حيث اتّضحت الآراء و انعدمت الأهواء، و دامت الشريعة البيضاء، على ملئ الآفاق بأضوائها، مأمونة عن التحريف، و مصونة عن التصحيف»(2).

و قد جنت بعض الحكومات الإسلامية، حيث أقفلت باب الاجتهاد، في

ص: 524


1- الوسائل، ج 18، كتاب القضاء، الباب السادس من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.
2- إبانة المختار، ص 1.

أواسط القرن السابع، و حرمت الأمّة الإسلامية من هذه الموهبة العظيمة، يقول المقريزي:

«استمرت ولاية القضاة الأربعة، من سنة 665، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام، غير هذه الأربعة و عودي من تمذهب بغيرها، و أنكر عليه، و لم يولّ قاض، و لا قبلت شهادة أحد، ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، و أفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار، في طول هذه المدة، بوجوب اتّباع هذه المذاهب و تحريم ما عداها، و العمل على هذا إلى اليوم»(1).

و من بوادر الخير أن وقف غير واحد من أهل النظر من علماء أهل السنة، وقفة موضوعية، و أحسّوا بلزوم فتح هذا الباب بعد قفله قرونا(2).

5 - حقوق الحاكم الإسلامي

من الأسباب الباعثة على كون التشريع الإسلامي، صالحا لحلّ المشاكل، أنّه منح للحاكم الإسلامي كافة الصلاحيات المؤدية إلى حقّ التصرّف المطلق في كل ما يراه ذا صلاحية للأمّة، و يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي و الإمام من النفوذ المطلق، إلاّ ما يعد من خصائصهما.

مثلا: إذا رأى الحاكم أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع في أملاك الناس، فله أن يقرّر و ينفّذ ما يحقّق هذه الغاية في ضوء العدل و الإنصاف: فله أن يجبر أصحاب الأراضي التي يمرّ بها الطريق، على بيع أراضيهم أو يشتريها بثمن مناسب.

أو إذا أراد رفع المعيشة العامة إلى مستوى خاص، فله وضع الضريبة على صنف خاص من أبناء الشعب، أو كلّهم لتأمين هذه الغاية.

ص: 525


1- الخطط المقريزية، ج 2، ص 344.
2- لاحظ تاريخ حصر الاجتهاد، لشيخنا العلامة الطهراني، و دائرة المعارف لفريد و جدي، مادة «جهد» و «ذهب». و غير ذلك ممّا ألف في هذا المضمار.

كما أنّ له أن يقرر ما يراه مناسبا لتنظيم السير في الشوارع، متوخيا في ذلك سلامة النفوس، و سهولة الذهاب و الإياب، كلّ ذلك في إطار العدل و الإنصاف و القوانين العامة الإسلامية.

قال المحقق النائيني رحمه اللّه: «فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازما من المقررات، لمصلحة الجماعة و سدّ حاجاتها في إطار القوانين الإسلامية»(1).

و هذه الحقوق ثابتة للنبي الأكرم، لقوله سبحانه: اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (2).

كما أنّها ثابتة لخلفائه المعصومين، و بعدهم لعلماء الأمّة و فقهاء الدين الذين ألقيت على كواهلهم أمور تدبير حياة الأمّة، و صيانة الشريعة.

و هناك كلمة قيمة للإمام الخميني - قدّس سرّه - نأتي بنصّها:

«إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام، أو في مناطقه كلّها، و توفرت فيه الشرائط و الصلاحيات اللازمة، و أخصّ بالذكر: العلم الوسيع، و العدل، يجب على المسلمين إطاعته، و له من الحقوق و المناصب و الولاية، ما للنبيّ الأكرم من إعداد القوات العسكرية، و دعمها بالتجنيد، و تعيين الولاة و أخذ الضرائب، و صرفها في محالّها، إلى غير ذلك...

و ليس معنى ذلك أنّ الفقهاء و الحكّام الإسلاميين، مثل النبي و الأئمة في جميع الشئون و المقامات، حتى الفضائل النفسانية، و الدرجات المعنوية، فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المحولة إلى الحاكم الإسلامي، و الموضوعة على عاتقه، لا في المقامات المعنوية و الفضائل النفسانية،

ص: 526


1- تنبيه الأمّة و تنزيه الملّة، ص 97.
2- سورة الأحزاب: الآية 6.

فإنّهم صلوات اللّه عليهم، في هذا المضمار، في درجة لا يدرك شأوهم، و لا يشق لهم غبار، حسب روائع نصوصهم و كلماتهم.

و ليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين، بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسئولية اجتماعية كبرى أمام اللّه سبحانه أوّلا، و أمام المسلمين ثانيا. و الجهة الجامعة ما بين الحاكم و الإمام في إدارة دفة الحكم و سياسة العباد، ليس لها أي ارتباط بالمثل الخلقية و الصفات النفسانية»(1).

ثم إنّ البحث حول حقوق الحاكم الإسلامي، الذي يمهّد الطريق لسيادة الأحكام الإسلامية طويل الذيل يرجع فيه إلى مفاهيم القرآن(2).

و أمّا الأمر الثاني،
اشارة

و هو أنّ التشريع الإسلامي ينظر إلى الكون و المجتمع بسعة و رحابة، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة، فقد أحرز ذلك بتحقيق أمور ثلاثة:

1 - النظر إلى المعاني دون الظواهر

الإسلام يهتم بالمعنى دون الظاهر، و هذه إحدى العلل لبقاء أحكامه و خلودها، و قد أوضحنا حال ذلك عند البحث عن إتقان التشريع و التقنين الإسلامي.

ص: 527


1- ولاية الفقيه، للإمام السيد الخميني، ص 63-66. و قد كان سماحته حيّا يرزق و نحن نجري القلم على هذه المواضع، لكنه لبّى دعوة ربّه و التحق بالرفيق الأعلى ليلة الأحد التاسع و العشرين من شهر شوال عام 1409 للهجرة. و قد كان - قدّس اللّه سرّه - رجلا مثاليا في التقوى، و بطلا في العلم، و مجاهدا مناضلا في سبيل إعلاء كلمة الحق. و بالحق كان مصداقا لقول الشاعر: ليس من اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد أعلى اللّه مقامه، و رفع في الجنان درجته.
2- قد أشبع شيخنا الأستاذ - دام ظله - الكلام في هذا المضمار، فلاحظ «مفاهيم القرآن»، ج 2، ص 265-296.
2 - الأحكام التي لها دور التحديد

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين و صلاحيته للبقاء، وجود قوانين حاكمة على القوانين العامة، مثل قاعدة، «لا حرج»، و «لا ضرر»، و غير ذلك مما أوضحنا حاله عند البحث عن إتقان التشريع و التقنين الإسلامي.

3 - الإسلام شريعة وسطى و الأمّة الإسلامية أمّة وسط

من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء و الخلود، كونه دينا جامعا بين الدعوة إلى المادة، و الدعوة إلى الروح، و دينا وسطا بين المادية البحتة، و الروحيّة المحضة، و بذلك جاء شريعة تامّة لم تعطّل الفطرة في تشريعاتها، و لم تلقي حبلها على عاتقها لتخرج عن حدودها، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح العباد، و من الآخرة مثله.

فكما أنّ الإسلام ندب إلى العبادة، ندب إلى طلب الرزق أيضا، بل ندب إلى ترويح النفس، و التخلية بينها و بين لذاتها.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «للمؤمن ثلاث ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، و ساعة يرمّ فيها معاشه، و ساعة يخلّي بين نفسه و لذّاتها»(1)..

فقد قرن بين عبادة اللّه، و طلب الرزق، و ترفيه النفس، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد.

فكما أنّ أداء الصلاة و الصوم، و الحج، وظائف دينية، فكذلك إنّ شقّ الطريق لطلب الرزق و المعاش، و القيام بنزهة بين الرياض، أو سباحة في الأحواض، و الأعمال الرياضية البدنية، وظيفة دينية للمؤمن، و لأجل هذا ينسجم الإسلام مع الحضارات المتواصلة.

ص: 528


1- نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 390.

هذه هي الخاتمية، و دلائلها المشرقة، و شبهاتها الضئيلة، و أسئلتها المهمة، و أجوبتها الرصينة، طرحناها معرض البحث و التنقيب، و لم يكن رائدنا إلاّ تبنّي الحقيقة، متجرّدين عن كل رأي مسبق لا دليل عليه.

تمّ الكلام بحمده تعالى في النّبوّة الخاصة.

ص: 529

ملحق(1)
تعليق للمؤلف

ملحق(1)

أما ما يرجع إلى آدم عليه السلام من النسيان - بل غيره من الصفات، كالعصيان - فمفتاح حلّه و فك عقدته أن يعلم أنّ الدار التي كان فيها آدم لم تكن دار تكليف، فلم تكن الأوامر التي تلقاها آدم، مولوية يترتب على فعلها الثواب و مخالفتها العقاب، بل كانت إرشادية إلى ما فيه المنفعة لا غير.

فإذا لم تكن تلك دار تكليف، و لا يترتب على نسيان آدم أي محذور عقلي من المحاذير المتقدمة، كأدائه إلى انتفاء الغرض من بعثه بتطرق احتمال النسيان إلى ما يحمله من شرع و يبلغه من مبادي، فلا مانع من تجويز السهو و النسيان عليه.

و أمّا ما وقع من موسى عليه السلام في الموردين، أعني قوله: «نسيا حوتهما»، و قوله «لا تؤاخذني بما نسيت»، فقد قيل إنّه بمعنى الترك، و ليس كذلك، لإباء السياق عنه أولا، و لأنّ الترك الذي يطلق عليه النسيان منشؤه إمّا ضعف القلب، أو الغفلة، أو القصد حتى ينحذف من القلب ذكره، و الأوّلان خلاف المطلوب و الثالث خلاف المورد و السياق.

و قال الشيخ الطوسي في التبيان، في قوله: نَسِيٰا حُوتَهُمٰا ؛ «إنّما نسيه يوشع بن نون - فتاه - و أضافه إليهما، كما يقال نسي القوم زادهم و إنّما نسيه بعضهم»(2). و لكنه لا ينفع في المراد، لأنّ يوشع بن نون نبي أيضا. نعم، لو

ص: 530


1- راجع إلى ص 199.
2- التبيان، ج 7، ص 66، ط النجف 1381.

لم يكن الفتى يوشع بن نون، لاتجه ما ذكره.

و قال في الآية الثانية: «و قيل في معنى نسيت ثلاثة أقوال:

أحدها: ما حكي عن أبيّ بن كعب أنّه قال: «معناه بما غفلت، من النسيان الذي هو ضدّ الذكر».

و الثاني: ما روي عن ابن عباس أنّه قال: «معناه بما تركت من عهدك».

و الثالث: لا تؤاخذني بما كأنّي نسيته، و لم ينسه في الحقيقة - في رواية أخرى عن أبيّ بن كعب»(1).

و اختار العلاّمة الطباطبائي في ميزانه وقوع النسيان من موسى في المورد الأول على حقيقته، قال: «فمعنى نسيا حوتهما بنسبة النسيان إليهما معا: نسيا حال حوتهما، فموسى نسي كونه في المكتل فلم يتفقده، و الفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره.

ثم قال في ذيل قول فتاه: أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنٰا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مٰا أَنْسٰانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، «و لا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنّه كان يوشع بن نون النبي، و الأنبياء في عصمة إلهية من الشيطان لأنّهم معصومون مما يرجع إلى المعصية، و أما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه.

قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطٰانُ بِنُصْبٍ وَ عَذٰابٍ (2).

و حمل النسيان في المورد الثّاني على ضرب من الاعتذار(3).

و الذي يمكن أن يقال جمعا بين ما أفاده العلمان، أن كون الفتى هو يوشع بن نون النبي غير مسلّم - و إن جاء في رواية العياشي عن أبي حمزة البطائني عن أبي

ص: 531


1- المصدر السابق، ص 74.
2- سورة ص: الآية 41، الميزان، ج 13، ص 339-341.
3- المصدر السابق، ص 344.

جعفر عليه السلام قال: «كان وصي موسى يوشع بن نون، و هو فتاة الذي ذكره في كتابه» - و لكنها مرسلة، فيقال هنا - حينئذ - إنّ الذي نسي هو الفتى و إنّما نسب إليهما، كما يقال: نسي القوم زادهم، و إنّما نسيه بعضهم، على ما ذكره الشيخ.

هذا في المورد الأول.

و أمّا في المورد الثاني، فهو ضرب من الاعتذار.

و بذلك ينجلي الحال فيما نسب إلى موسى من النسيان.

ص: 532

ملحق(2)

ملحق(1)

إنّ البحث عن الإعجاز البياني للقرآن الكريم بحث مهم لم يستوفه علماء العقائد في كتبهم الكلامية، و لأجل ذلك رأينا من اللازم الخوض فيه على وجه مبسوط مقنع. و قد كتبت حول هذا القسم من الإعجاز، كتب و رسائل، بيد أئمة البلاغة، قديما و حديثا و نشير هنا إلى بعض ما اعتمدنا عليه في تنظيم هذه المباحث، و استضأنا من أنواره:

1 - بيان إعجاز القرآن، لأبي سليمان، محمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 319 - م 388).

2 - النكت في إعجاز القرآن، لأبي الحسن، علي بن عيسى الرماني، (ت 296 - م 386).

3 - الرسالة الشافية، لأبي بكر عبد القاهر عبد الرحمن الجرجاني المتوفى عام 471.

و هذه الرسائل الثلاث طبعت في مجموعة واحدة باسم «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» في مصر.

4 - إعجاز القرآن: لأبي بكر محمد بن الطيّب الباقلاني، المتوفى عام 403.

5 - سر الفصاحة، لابن سنان الخفاجي، المتوفى عام 464 ه.

6 - الطراز المتضمن لأسرار البلاغة و علوم حقائق الإعجاز، تأليف السيد

ص: 533


1- راجع إلى ص 259.

يحيى بن حمزة العلوي اليمني متوفى عام 749 ه، طبع في مصر في ثلاثة أجزاء، طبعة المقتطف، عام 1333 ه. و هو كتاب قيّم، خصوصا الجزء الثالث منه.

7 - الإتقان في علوم القرآن، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى عام 911، أربع أجزاء في مجلدين.

8 - إعجاز القرآن و البلاغة النبوية، تأليف مصطفى صادق رافعي، الطبعة الثامنة.

9 - مناهل العرفان في علوم القرآن، تأليف محمد عبد العظيم الزرقاني، طبع في مصر في جزءين.

10 - إعجاز القرآن، تأليف عبد الكريم الخطيب، الطبعة الثانية، بيروت 1395.

11 - المعجزة الخالدة، تأليف العلامة هبة الدين الشهرستاني المتوفى عام 1386 طبعة 1339 ه.

12 - البيان في تفسير القرآن للعلامة المحقق السيد أبو القاسم الخوئي دام ظله.

و غير ذلك من عشرات الكتب التي رجعنا إليها في تدوين هذا القسم من الإعجاز.

ص: 534

المجلد 4

هویة الکتاب

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : الالهیات علی هدی الکتاب والسنه والعقل/ محاضرات جعفر السبحانی؛ بقلم حسن محمد مکی العاملی.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع)، 1423 ق.= 1381.

مشخصات ظاهری : 4ج.

شابک : 160000ریال: دوره 964-357-054-1 : ؛ ج.2 964-357-055-X : ؛ ج.3 964-357-056-8 : ؛ ج.4 964-357-057-6 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ قبلی: المرکزالعالمی للدراسات الاسلامیه، 1369.

يادداشت : ج. 1 و 2 (چاپ هفتم: 1430 ق.= 1388).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14

شیعه امامیه -- عقاید

شناسه افزوده : مکی عاملی، حسن

رده بندی کنگره : BP211/5/س 18الف 7 1381

رده بندی دیویی : 297/4172

شماره کتابشناسی ملی : م 82-15822

اطلاعات رکورد کتابشناسی : ركورد كامل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

الفصل التّاسع الإمامة و الخلافة * مقدّمات 1 - تعريف الإمامة.

2 - هل الإمامة من الأصول أو الفروع؟.

3 - ماهية الإمامة عند أهل السّنّة.

4 - مؤهلات الإمام عند أهل السّنّة.

5 - بما ذا تنعقد الإمامة عند أهل السّنّة؟.

6 - ماهية الإمامة عند الشيعة الإمامية.

7 - المصالح العامة و صيغة الحكومة بعد النبيّ.

8 - هل الشورى أساس للحكم و الخلافة؟.

9 - هل البيعة أساس للحكم و الخلافة؟.

10 - تصوّر النبيّ الأكرم للقيادة بعده.

11 - تصوّر الصحابة للخلافة بعد النّبي.

12 - صيغة القيادة في الشرائع السابقة.

* البحث الأول: السّنّة النبوية و تنصيب علي للإمامة.

* البحث الثاني: السّنّة النبوية و الأئمة الاثنا عشر.

* البحث الثالث: عصمة الإمام في القرآن.

* البحث الرابع: الإمام المنتظر في الكتاب و السّنّة.

- أسئلة مهمة حول المهدي عجّل اللّه فرجه.

ص: 5

ص: 6

الفصل التاسع الإمامة و الخلافة

اشارة

المقصود من الإمامة، إمامة الأمّة جمعاء. خلافة عن الرسول الأكرم.

صلى اللّه عليه و آله، و قبل الخوض في أصل المقصود، نقدّم أمورا:

ص: 7

الأمر الأول في تعريف الإمامة

عرّفت الإمامة بوجوه:

1 - الإمامة رئاسة عامّة في أمور الدين و الدنيا(1).

2 - الإمامة خلافة الرسول في إقامة الدين، بحيث يجب اتّباعه على كافة الأمة(2).

3 - الإمامة نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين و سياسة الدنيا(3).

4 - الإمامة خلافة عن الرسول في إقامة الدين و حفظ الملّة بحيث يجب اتّباعه على كافة الأمة(4).

و التعريف الأول أليق على مذهب الإمامية، و البقية ألصق بمذهب أهل السنّة في الإمام.

و الأولى أن تعرّف الإمامة بأنّها رئاسة عامة إلهية. و على كل تقدير، فالمهم هو تحليل ماهية هذه الخلافة، و تحديدها، و أنّه ما ذا يراد من الإمامة في مصطلح المتكلمين.

ص: 8


1- المواقف، ص 345، و قال فيه: «و نقض بالنبوة». و سيوافيك أنّ النقض غير وارد.
2- المصدر السابق نفسه.
3- مقدمة ابن خلدون، ص 191.
4- دلائل الصدق، ج 2، ص 4. و التعريف للفضل بن روزبهان الأشعري.

الأمر الثاني هل الإمامة من الأصول أو الفروع؟

اتّفقت كلمة أهل السنة، أو أكثرهم، على أنّ الإمامة من فروع الدين.

قال الغزالي: «اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضا ليس من المهمات، و ليس أيضا من فنّ المعقولات، بل من الفقهيات، ثم إنّها مثار للتعصبات، و المعرض عن الخوض فيها، أسلم من الخائض فيها، و إن أصاب، فكيف إذا أخطأ؟ و لكن إذ جرّ الرسم باختتام المعتقدات بها، أردنا أن نسلك منهج المعتاد، فإنّ فطام القلوب عن المنهج، المخالف للمألوف(1)، شديد النّفار»(2).

و قال الآمدي: «و اعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات، و لا من الأمور اللاّبدّيّات، بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها و الجهل بها، بل لعمري إنّ المعرض عنها لأرجى من الواغل فيها، فإنّها قلّما تنفك عن التعصّب، و الأهواء، و إثارة الفتن و الشحناء، و الرجم بالغيب في حق الأئمة و السّلف، بالإزراء، و هذا مع كون الخائض فيها سالكا سبيل التحقيق، فكيف إذا كان خارجا عن سواء الطريق. لكن لمّا جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلمين، و الإبانة عن تحقيقها في عامة مصنفات الأصوليين، لم نر من الصواب

ص: 9


1- كذا في المصدر، و الظاهر أنّ «المخالف» صفة «الفطام»، أو أنّ «المخالف» زائد.
2- الاقتصاد في الاعتقاد، ص 234.

خرق العادة بترك ذكرها في هذا الكتاب»(1).

و قال الإيجي: «و هي عندنا من الفروع، و إنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّيا بمن قبلنا»(2).

و قال التفتازاني: «لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة، بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة، و نصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة، من فروض الكفايات، و هي أمور كليّة تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلاّ بحصولها، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد. و لا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية»(3).

هذا ما لدى أهل السّنّة، و أمّا الشّيعة، فالاعتقاد بالإمامة عندهم أصل من أصول الدين، و سيظهر وجهه في الأبحاث التالية.

و هاهنا سؤال يطرح نفسه، و هو أنّه إذا كانت الإمامة من الفروع، فأي معنى لسلّ السيف على هذا الحكم الفرعي، حتى قال الشهرستاني: «و أعظم خلاف بين الأمة، خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان»(4).

فإذا كان الاعتقاد بإمامة شخص، تولّى الخلافة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، من الأحكام الفرعية، فإنّ المخالفة فيه لا تستلزم تكفير المخالف أو تفسيقه، إذا كان للمخالف حجة شرعية، كمخالفة المجتهد للمجتهد.

مثلا: إنّ المسح على الخفّين، أو جواز العمل بالقياس، من مسائل الفروع الخلافية، فهل ترى من نفسك تجويز تكفير المخالف، أو تفسيقه؟، أو

ص: 10


1- غاية المرام في علم الكلام، ص 363، لسيف الدين الآمدي، (ت 551 - م 631).
2- المواقف، ص 395.
3- شرح المقاصد، ج 2، ص 271.
4- الملل و النحل، للشهرستاني، ج 1، ص 24.

إنّ لكلّ حجّته و دليله، و إنّ للمصيب أجرين و للمخطئ أجرا واحدا، فما هذه الدمدمة و الهمهمة حول الإمامة؟.

و إذا كانت الإمامة، بعامّة أبحاثها من الفروع، فما وجه إقحام ذلك في عداد المسائل الأصولية، كما ارتكبه إمام الحنابلة، و قال: «خير هذه الأمة بعد نبيّنا، أبو بكر، و خيرهم بعد أبي بكر، عمر، و خيرهم بعد عمر، عثمان؛ و خيرهم بعد عثمان، عليّ؛ رضوان اللّه عليهم، خلفاء راشدون مهديّون»(1).

و مثله، أبو جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة الطحاوية، المسماة ب «بيان عقيدة السنّة و الجماعة»، حيث قال: «و تثبت الخلافة بعد النبي (صلى اللّه عليه و آله) لأبي بكر الصّدّيق، تفضيلا، و تقديما على جميع الأمّة، ثم لعمر بن الخطاب، ثم لعثمان بن عفّان، ثم لعليّ بن أبي طالب»(2).

و قد اقتفى أثرهما الشيخ أبو الحسن الأشعري، عند بيان عقيدة أهل الحديث و أهل السّنة، و الشيخ عبد القاهر البغدادي في بيان الأصول التي اجتمع عليها أهل السنّة(3).

و هذا الصراع بين القولين، أراق الدماء الطاهرة، و جرّ على الأمّة الويل و الثبور، و عظائم الأمور، فما معنى إقحام الاعتقاد بالأحكام الفرعية في قائمة العقائد؟ و إن هذا إلاّ زلة لا تستقال.

نعم، أوّل من لبّس الأمر، و جعل الاعتقاد بها من صميم الإيمان على

ص: 11


1- كتاب السنة ص 49، المطبوع ضمن رسائل بإشراف حامد محمد فقي. و هذا الكتاب ألّف لبيان مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السّنة، و وصف من خالف شيئا من هذه المذاهب أو طغى فيها أو عاب قائلها، بأنّه مخالف مبتدع و خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنّة و سبيل الحق.
2- شرح العقيدة الطحاوية، للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي، ص 471، و أخذنا العبارة من المتن. و توفي الطحاوي عام 321 هجرية.
3- لاحظ «الإبانة عن أصول الديانة»، الباب 16، ص 190 و «الفرق بين الفرق» ص 350. و لاحظ «لمع الأدلة» للإمام الأشعري، ص 114، و «العقائد النّسفية» ص 177.

مسلك أهل السنة، هو عمرو بن العاص، عند ما اجتمع مع أبي موسى الأشعري، في دومة الجندل. و ما جعل الاعتقاد بخلافة الخليفتين الأوّلين، إلاّ للازدراء بعلىّ (عليه السلام) و شيعته(1).

ص: 12


1- لاحظ مروج الذهب للمسعودي، ج 2، ص 397. و لاحظ «بحوث في الملل و النحل»، لشيخنا الأستاذ - دام ظلّه - ج 1، ص 265-272.

الأمر الثالث ماهية الإمامة عند أهل السنّة

إنّ اتّفاق مشايخ المتكلمين من أهل السنّة على كون الإمامة من الفروع التي يبحث عنها في الكتب الفقهية، و اتّفاق الشيعة الإمامية على أنّها من الأصول، ينشئان من أصل آخر، و هو أنّ حقيقة الإمامة تختلف عند السنّة، عمّا هي عند الشيعة، فالسّنة ينظرون إلى الإمام كرئيس دولة، ينتخبه الشعب أو نوّاب الأمّة، أو يتسلّط عليها بانقلاب عسكري، و ما شابه ذلك، فإنّ مثل هذا لا يشترط فيه سوى بعض المواصفات المعروفة، و من المعلوم أنّ الاعتقاد برئاسة رئيس جمهورية، أو رئيس وزراء، ليس من الأصول، بحيث يفسّق من لم يعتقد بإمامته و رئاسته و ولايته. و هذه هي البلاد الإسلامية لمّا تزل يسيطر عليها رئيس بعد آخر، رغبة أو رهبة، و لم ير أحد الاعتقاد بإمامته من الأصول، و لم يجعل فسقه موجبا لخلعه، و إلاّ لما استقرّ حجر على حجر.

و أمّا الشيعة الإمامية، فينظرون إلى الإمامة بأنّها استمرار لوظائف الرسالة (لا لنفس الرسالة، فإنّ الرسالة و النبوة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى)، و من المعلوم أنّ ممارسة هذا المقام، يتوقف على توفر صلاحيات عالية، لا ينالها الفرد، إلاّ إذا وقع تحت عناية إلهية ربّانية خاصة، فيخلف النبيّ في علمه بالأصول و الفروع، و في عدالته و عصمته، و قيادته الحكيمة، و غير ذلك من الشئون.

و ممّا يعرب عن أنّ الإمامة عند أهل السنّة أشبه بسياسة وقتية زمنيّة، يشغلها

ص: 13

فرد من الأمّة بأحد الطرق، ما اشترطوه من الشروط، و ذكروه من الأوصاف في حق الإمام، و ستوافيك فيما يأتي. و لأجل إيقاف الباحث على صحّة هذا التحليل نشير إلى بعض كلماتهم.

قال الباقلاني: «لا ينخلع الإمام بفسقه و ظلمه بغصب الأموال، و ضرب الأبشار، و تناول النفوس المحرمة، و تضييع الحقوق، و تعطيل الحدود، و لا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه و تخويفه و ترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه»(1).

و قال الطحاوي: «و لا نرى الخروج على أئمتنا و ولاة أمورنا، و إن جاروا، و لا ندعوا عليهم، و لا ننزع يدا من طاعتهم، و نرى طاعتهم من طاعة اللّه عز و جل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، و ندعو لهم بالصلاح و المعافاة»(2).

و قال: «و الحج و الجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برّهم و فاجرهم، إلى قيام الساعة، و لا يبطلهما شيء و لا ينقضهما»(3).

قال التفتازاني: «و لا ينعزل الإمام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى، و الجور (أي الظلم على عباد اللّه)، لأنّه قد ظهر الفسق، و انتشر الجور من الأئمة و الأمراء بعد الخلفاء الراشدين، و السلف كانوا ينقادون لهم، و يقيمون الجمع و الأعياد بإذنهم، و لا يرون الخروج عليهم». و نقل عن كتب الشافعية أنّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، و الفرق أن في انعزاله و وجوب نصب غيره إثارة الفتنة، لما له من الشوكة، بخلاف القاضي(4).

إلى غير ذلك من الكلمات التي ذكروها في وجوب إطاعة السلطان الجائر، و حرمة الخروج عليه(5). فإنّ هذه الكلمات تبين لنا موقع منصب الإمامة عند أهل

ص: 14


1- التمهيد، للقاضي أبي بكر الباقلاني، ص 181. توفي القاضي عام 403.
2- متن شرح العقيدة الطحاوية، ص 379، و لاحظ ما ذكره في شرحه.
3- المصدر السابق، ص 387.
4- شرح العقائد النسفيّة، المتن لأبي حفص عمر بن محمد النّسفي (م 537)، و الشرح لسعد الدين التفتازاني (م 791) ص 185-186، ط إسطنبول.
5- لاحظ مقالات الإسلاميين، للأشعري، ص 323، و أصول الدين، لمحمد بن عبد الكريم اليزدوي (إمام الماتريدية)، ص 190.

الحديث و الأشاعرة، و كلّها تعرب عن أنّهم ينظرون إلى الإمامة كسياسة وقتية زمنية، و إلى الإمام كسائس عاديّ يقود أمّته في حياتهم الدنيوية. و لأجل ذلك لا يكون الفسق و الجور، و هتك الأستار، قادحا في إمامتهم، كما أنّ التسلط على الرقاب بالقهر و الاستيلاء، و النار و الحرب، أحد الطرق المسوغة للتربع على منصّة الإمامة.

فإذا كانت هذه هي حقيقة الإمامة، و كان هذا هو الإمام، فلا غرابة حينئذ في جعلها من الأحكام الفرعية.

ص: 15

الأمر الرابع مؤهلات الإمام عند أهل السنّة

اشارة

انطلاقا من البحث السابق في تبيين ماهية الإمامة، عند أهل السنّة لم يشترطوا في الإمام سوى عدّة صلاحيات، تشترط في عامة الرؤساء، و إليك نصوصهم:(1) قال الباقلاني (م 403): «يشترط:

- أن يكون قرشيّا من صميم.

- و أن يكون في العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين.

- و أن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب، و تدبير الجيوش و السرايا، و سدّ الثغور، و حماية البيضة، و حفظ الأمّة، و الانتقام من ظالمها، و الأخذ لمظلومها»(1).

(2) و قال عبد القاهر البغدادي (م 429): «قال أصحابنا إنّ الذي يصلح للإمامة ينبغي أن يكون فيه أربعة أوصاف:

- أحدها: العلم. و أقل ما يكفيه منه، أن يبلغ فيه مبلغ المجتهدين في الحلال و الحرام، و في سائر الأحكام.

ص: 16


1- التمهيد، ص 181.

- الثاني: العدالة و الورع. و أقلّ ما يجب له من هذه الخصلة، أن يكون ممن يجوز قبول شهادته تحمّلا و أداء.

- و الثالث: الاهتداء إلى وجوه السياسة و حسن التدبير، و أن يعرف مراتب الناس، فيحفظهم عليها، و لا يستعين على الأعمال الكبار، بالعمّال الصغار، و يكون عارفا بتدبير الحروب.

- الرابع: النّسب من قريش»(1).(2) و قال أبو الحسن البغدادي الماوردي (م 450): «الشروط المعتبرة في الإمامة سبعة:

أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. الثاني: العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل و الأحكام. الثالث: سلامة الحواس من السمع و البصر و اللسان.

الرابع: سلامة الأعضاء. الخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية و تدبير المصالح. السادس: الشجاعة و النجدة. السابع: النّسب، و هو أن يكون من قريش(3).

(4) و قال ابن حزم (م 456): «يشترط فيه أمور:

1 - أن يكون صلبه من قريش، 2 - أن يكون بالغا مميزا، 3 - أن يكون رجلا، 4 - أن يكون مسلما، 5 - أن يكون متقدّما لأمره، 6 - عالما بما يلزمه من فرائض الدين، 7 - متّقيا للّه بالجملة، غير معلن الفساد في الأرض. 8 - أن لا يكون مولّى عليه»(3).

(5) و قال القاضي سراج الدين الأرموي (م 689): «صفات الأئمة تسع:

1 - أن يكون مجتهدا في أصول الدين و فروعه، 2 - أن يكون ذا رأي

ص: 17


1- أصول الدين، لأبي منصور البغدادي، م 429، ص 277. ط دار الكتب العلمية - بيروت.
2- الفصل، ج 4، ص 186.
3- الأحكام السلطانية، ص 6.

و تدبير، 3 - أن يكون شجاعا، 4 - أن يكون عدلا، 5 - أن يكون عاقلا، 6 - أن يكون بالغا، 7 - أن يكون مذكّرا، 8 - أن يكون حرّا، 9 - أن يكون قرشيّا»(1).

(6) و قال التفتازاني (م 791): «قد ذكرنا في كتبنا الفقهية أنّه لا بدّ للأمّة من إمام يحيي الشريعة، و يقيم السنّة، و ينتصف للمظلومين، و يستوفي الحقوق، و يضعها مواضعها، و يشترط أن يكون مكلّفا، مسلما، عدلا، حرّا، ذكرا مجتهدا، شجاعا، ذا رأي و كفاية، سميعا بصيرا، ناطقا، قريشيا، فإن لم يوجد من قريش من يستجمع هذه الصفات المعتبرة، ولي كنانيّ، فإن لم يوجد فرجل من ولد اسماعيل، فإن لم يوجد فرجل من العجم»(2).

(7) و قال الفضل بن روزبهان: «و شروط الإمام أن يكون مجتهدا في الأصول و الفروع ليقوم بأمر الدين، ذا رأي و بصارة بتدبير الحرب، و ترتيب الجيوش، شجاعا، قويّ القلب ليقوى على الذّبّ عن الحوزة»(3).

و يلاحظ على هذه الشروط

أوّلا: إنّ اختلافهم في عدد الشرائط قلّة و كثرة، ناشئ من افتقادهم النصّ الشرعي في مجال الإمامة و اعتقادهم أنّ منصب الإمامة، - مع عظمته - لم تنبس فيه النبي الأكرم ببنت شفة، و إنّما الموجود عندهم نصوص كلية لا تتكفل لتعيين هذه الشروط، و لا تتكفل لتبيين صيغة الحكومة الإسلامية بعد النبي، و المصدر لهذه الشروط عندهم هو الاستحسان، و الاعتبارات العقلائية، و ملاحظة الأهداف التي يمارسها الإمام و الخليفة بعد النبي الأكرم.

و هذا مما يقضي منه العجب، و هو أنّ النبي كيف ترك بيان هذا الأمر

ص: 18


1- مطالع الأنوار، ص 470.
2- شرح المقاصد، ج 2، ص 271.
3- دلائل الصدق، ج 2، ص 4.

المهمّ، شرطا و صفة، مع أنّه بيّن أبسط الأشياء و أدناها، من المكروهات و المستحبات.

و ثانيا: إنّ اعتبار العدالة لا ينسجم مع ما ذهبوا إليه من أنّ الإمام لا ينخلع بفسقه و ظلمه، و غيره ممّا نقلناه عنهم.

كما أنّهم جعلوا القهر و الاستيلاء، أحد الأمور التي تنعقد بها الإمامة - كما سيأتي - و تجعل المستولي و القاهر ولي أمر، يشمله قوله سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا، أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (1). و من المعلوم أنّ القاهر و المستولي بالحرب و النّار، لا يهمه إلاّ السلطة و إعمال القدرة، سواء اجتمعت فيه هذه الشروط أولا. أ فهل يجب إطاعة مثل هذا؟:

وجوب طاعته لا ينسجم مع اعتبار هذه الشروط، و عدم وجوب طاعته لا ينسجم مع كون القهر و الغلبة من الأمور التي تنعقد بها الإمامة.

و ثالثا: إنّ التاريخ الإسلامي يشهد بأنّ الخلفاء بعد عليّ عليه السلام، كانوا يفقدون أكثر هذه الصلاحيات و مع ذلك يمارسون الخلافة.

فهذه صحائف تاريخهم، من لدن تسنّم معاوية عرش الخلافة، إلى آخر خلفاء بني مروان، خضبوا وجه الأرض بدماء الأبرياء، و قتلوا الصحابة و التابعين، و نهبوا الديار و الأموال، و قد بلغ جورهم و ظلمهم الذروة، حتى ثارت عليهم الأمّة، و قتلت صغيرهم و كبيرهم، فلم يبق منهم إلاّ من فرّ إلى الأندلس.

و بعدهم تسلّط العباسيون، باسم حماية أهل البيت، و لكن حدث ما حدث، و لم تكن سيرتهم أحسن حالا من سيرة الأمويين، حتى قال القائل:

يا ليت جور بني مروان دام لنا و ليت عدل بني العبّاس في النار

ص: 19


1- سورة النساء: الآية 59.

الأمر الخامس بما ذا تنعقد الإمامة عند أهل السنّة؟

اشارة

قد تعرّفت على عقيدة أهل السنّة في باب الإمامة، و أنّها عندهم أشبه بسياسة وقتية زمنية، يقودها الحاكم العادي مع كفاءات و مؤهلات، تطابق شأنه.

و على ذلك يرجع تعيين الإمام إلى نفس الأمّة، لا إلى اللّه سبحانه و لا إلى رسوله، و هم قد اختلفوا فيما تنعقد به الإمامة على أقوال شتّى نأتي ببعضها:

1 - قال الأسفراييني: (ت 344 - م 406) في كتاب الجنايات: «و تنعقد الإمامة بالقهر و الاستيلاء، و لو كان فاسقا أو جاهلا أو عجميا»(1).

2 - قال الماوردي (م 450 ه): «اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتّى. فقالت طائفة: لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد و الحلّ من كل بلد، ليكون الرضا به عامّا، و التسليم لإمامته إجماعا، و هذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، و لم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

و قالت طائفة أخرى: أقلّ ما تنعقد به منهم الإمامة، خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالا بأمرين: أحدهما: أنّ بيعة

ص: 20


1- إحقاق الحق، للسيد التّستري، ج 2، ص 317.

أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، و هم عمر بن الخطاب، و أبو عبيدة بن الجراح، و أسيد بن حضير، و بشر بن سعد، و سالم مولى أبي حذيفة.

و الثاني: أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برصا الخمسة.

و هذا قول أكثر الفقهاء و المتكلمين من أهل البصرة.

و قال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكما و شاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بولي و شاهدين.

و قالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأنّ العباس قال لعلي: امدد يدك أبايعك، فيقول النّاس عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بايع ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان. و لأنّه حكم، و حكم واحد نافذ»(1).

3 - قال إمام الحرمين الجويني (م 478 ه): «اعلموا أنّه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة، و إن لم تجمع الأمّة على عقدها.

و الدليل عليه أنّ الإمامة لمّا عقدت لأبي بكر، ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين و لم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار، و لم ينكر عليه منكر.

فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود، و لا حدّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ و العقد»(2).

4 - قال القرطبي: (م 671 ه): «فإن عقدها واحد من أهل الحلّ و العقد، فذلك ثابت، و يلزم الغير فعله، خلافا لبعض الناس، حيث قال: لا تنعقد إلاّ بجماعة من أهل الحلّ و العقد، و دليلنا: أنّ عمر عقد البيعة لأبي بكر، و لم ينكر أحد من الصحابة ذلك(3). و لأنّه عقد، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد

ص: 21


1- الأحكام السلطانية، ص 6-7، ط الحلبي بمصر.
2- الإرشاد، ص 424.
3- و لعل القرطبي لم يقرأ مأساة السقيفة بين المهاجرين و الأنصار، و إلاّ فالاعتراض و النزاع كان قائما على قدم و ساق و يكفي في ذلك مراجعة كتاب الإمامة و السياسة لابن قتيبة، و تاريخ الطبري، و سيرة ابن هشام، و كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري المتوفّى عام 280. و فيما يأتي من المباحث نشير إلى بعض تلك الوقائع.

يعقدونه كسائر العقود»(1).

5 - و قال القاضي عضد الدين الإيجي (م 757): «المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة، و أنّها تثبت بالنّصّ من الرسول، و من الإمام السابق، بالإجماع، و تثبت ببيعة أهل الحلّ و العقد. لنا، ثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة».

و قال: «و إذا ثبت حصول الإمام بالاختيار و البيعة، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد و الاثنان من أهل الحلّ و العقد، كاف، لعلمنا أنّ الصحابة، مع صلابتهم في الدين، اكتفوا بذلك، كعقد عمر لأبي بكر، و عقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، و لم يشترطوا اجتماع من في المدينة، فضلا عن إجماعهم هذا، و لم ينكر عليه أحد، و عليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا»(2).

5 - و على ذلك مضى شارح المواقف السيد شريف الجرجاني (816)(3).

6 - و قال التفتازاني (م 791): «و تنعقد الإمامة بطرق:

أحدها: بيعة أهل الحلّ و العقد من العلماء و الرؤساء و وجوه النّاس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد، و لا اتّفاق من في سائر البلاد، بل لو تعلّق الحلّ و العقد بواحد مطاع كفت بيعته.

الثاني: استخلاف الإمام و عهده، و جعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف، إلاّ أنّ المستخلف عليه غير متعين فيتشاورون، و يتفقون على أحدهم، و إذا خلع الإمام نفسه كان كموته، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.

الثالث: القهر و الاستيلاء، فإذا مات الإمام و تصدّى للإمامة من

ص: 22


1- تفسير القرطبي، ج 1، ص 260.
2- المواقف، صفحة 399-400، ط عالم الكتب.
3- شرح المواقف، ج 8، ص 351-353.

يستجمع شرائطها من غير بيعة و استخلاف، و قهر الناس بشوكته، انعقدت الخلافة له و كذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر»(1).

يلاحظ على هذه الأقوال و النظريات

أولا - إنّ موقف أصحاب هذه الأقوال في المسألة، موقف من اعتقد بصحة خلافة الخلفاء، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي، من انعقادها بواحد أو اثنين، أو اتّفاق من تيسّر حضوره، دون النائين من الصحابة، و غير ذلك.

و هذا النّمط من الاستدلال، استدلال بالمدّعى على نفس المدّعى، و هو دور واضح. و العجب من هؤلاء الأعلام كيف سكتوا عن الاعتراضات الهائلة التي توجهت من نفس الصحابة من الأنصار و المهاجرين على خلافة الخلفاء، الذين تمّت بيعتهم، ببيعة الخمسة في السقيفة، أو بيعة أبي بكر لعمر، أو بشورى السّتّة، فإنّ من كان ملمّا بالتاريخ و مهتما به، يرى كيف كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالاعتراض. حتى أنّ الزبير وقف في السقيفة أمام المبايعين، و قد اخترط سيفه، و هو يقول: «لا أغمده حتى يبايع عليّ». فقال عمر: «عليكم الكلب»!. فأخذ سيفه من يده، و ضرب به الحجر، و كسر(2).

و يكفي في ذلك قول الطبري أنّه قام الحباب بن المنذر - و انتضى سيفه - و قال: «أنا جذيلها المحكّك، و عذيقها المرجّب، أنا أبو شبل، في عرينة الأسد، يعزى إليّ الأسد، فحامله عمر، فضرب يده، فندر السيف، فأخذه، ثم وثب على سعد (بن عبادة) و وثبوا على سعده و تتابع القوم على البيعة، و بايع سعد، و كانت فلتة كفلتات الجاهلية، قام أبو بكر دونها، و قال قائل حين أوطئ سعد: قتلتم سعدا. فقال عمر: قتله اللّه، إنّه منافق. و اعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه(3).

ص: 23


1- شرح المقاصد، ج 2، ص 272، ط اسطنبول.
2- الإمامة و السياسة، ج 1، ص 11.
3- تاريخ الطبري، حوادث عام 11، ج 2، ص 459. و في رواية أخرى للطبري أنّ عمر قام على رأس سعد، و قال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ سعد بلحية عمر، و قال: و اللّه لو حصحصت منه شعرة ما رجعت و فيك واضحة، أما و اللّه لو أنّ بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها و سككها زئيرا يجحرك و أصحابك (أي يلزمهم دخول الجحر، و هو كناية عن شدّة التضييق)، أما و اللّه، إذا لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع، احملوني من هذا المكان». فحملوه، فأدخلوه في داره. و ترك أياما، ثم بعث إليه أن أقبل، فبايع، فقد بايع الناس، و بايع قومك. فقال: أما و اللّه حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي و أخضّب سنان رمحي، و أضربكم بسيفي ما ملكته يدي، و أقاتلكم بأهل بيتي و من أطاعني من قومي، فلا أفعل. و أيم اللّه، لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربّي، و أعلم ما حسابي». فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم و لا يجمع معهم، و لا يفيض معهم إفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر. (المصدر نفسه). و سعد بن عبادة سيد الخزرجيين.

هذه نبذة يسيرة من الأصوات المدوّية التي عارضت الخلافة و الخليفة المنتخب، و كم لها من نظير في السقيفة و الشورى و غيرهما ضربنا عنه صفحا.

أ فيصح بعد ذلك قول القرطبي: «و لم ينكر أحد من الصحابة ذلك»، و كأن الحباب، و سعدا، و ابنه قيس، و عامة الخزرجين، و بني هاشم، و الزبير، لم يكونوا من الصحابة؟!.

و ثانيا - إنّ هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة، يعرب عن بطلان نفس الأصل لأنّه إذا كانت الإمامة مفوضة إلى الأمّة، كان على النبي الأكرم بيان تفاصيلها و خصوصياتها و خطوطها العريضة، و أنّه هل تنعقد بواحد أو اثنين من الصحابة؟ أو تنعقد بأهل الحلّ و العقد منهم؟ أو بالصحابة الحضور عند رحلة النبي أو رحلة الإمام السابق؟ أو باتّفاق جميع المسلمين بأنفسهم، أو بممثليهم؟.

و ليس عقد الإمامة لرجل، أقلّ من عقد النكاح بين الزوجين الذي اهتمّ القرآن و السنّة ببيانه و تحديده، كما اهتمت السنّة على الخصوص بشئونه و أحكامه.

و العجب أنّ عقد الإمامة الذي تتوقف عليه حياة الأمّة، لم يطرح في النصوص، لا كتابا و لا سنّة - على زعم القوم - و لم تبيّن حدوده و لا شرائطه، و لا سائر مسائله التي كان يواجهها المسلمون بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة!!.

ص: 24

و جملة القول، إنّ اختلافهم في شرائط الإمام و طرق تنصيبه، جعل الخلافة وبالا على المسلمين، حتى أخذت لنفسها شكلا يختلف كلّ الاختلاف عن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه. فقد أصبحت الخلافة الإسلامية، إمبراطورية، و ملكا عضوضا، يتناقلها رجال العيث و الفساد، من يد فاسق، إلى آخر فاجر غارق في الهوى، إلى ثالث سفّاك متعصّب. و قد أعانهم في تسنم ذروة تلك العروش، مرتزقة من رجال متظاهرين باسم الدين، فبرروا أفعالهم، و وجّهوا أعمالهم توجيها ملائما للظروف السائدة، و صحّحوا اتجاهاتهم السياسية الخاصة، فخلقوا في ذلك أحاديث و سنن مفتعلة على صاحب الرسالة، و اصطنعوا لهذا و ذاك فضائل، لتدعيم مراكزهم السياسية، و يكفيك النموذج التالي، لتقف على حقيقة تلك الأحاديث المفتراة.

رووا عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، و لا يستنّون بسنّتي و سيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال الراوي: قلت: كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال:

تسمع و تطيع للأمير، و إن ضرب ظهرك، و أخذ مالك، فاسمع و أطع»(1).

ص: 25


1- صحيح مسلم، ج 6، باب الأمر بلزوم الجماعة، و باب حكم من فرّق أمر المسلمين، ص 20-24، و في البابين نظائر كثيرة لهذا الحديث.

الأمر السادس الإمامة عند الشيعة الإمامية

اشارة

قد تعرفت على حقيقة الإمامة لدى أهل السنّة و الجماعة، و عرفت أنّ ما يتبنونه لا يقتضي أزيد من الشرائط المتوفرة في رؤساء الدول غير أنّ الإمامة عند الشيعة تختلف في حقيقتها عمّا لدى إخوانهم، فهي إمرة إلهية، و استمرار لوظائف النبوة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي. و مقتضى هذا، اتصاف الإمام بالشروط المشترطة في النبي، سوى كونه طرفا للوحي.

توضيح ذلك: إنّ النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، كان يملأ فراغا كبيرا و عظيما في حياة الأمّة الإسلامية، و لم تكن مسئولياته و أعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي، و تبليغه إلى الناس فحسب، بل كان يقوم بالأمور التالية:

1 - يفسّر الكتاب العزيز، و يشرح مقاصده و أهدافه، و يكشف رموزه و أسراره.

2 - يبيّن أحكام الموضوعات التي كانت تحدث في زمن دعوته.

3 - يردّ على الحملات التشكيكية، و التساؤلات العويصة المريبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود و نصارى.

4 - يصون الدين من التحريف و الدسّ، و يراقب ما أخذه عنه المسلمون من أصول و فروع، حتى لا تزلّ فيه أقدامهم.

ص: 26

و هذه الأمور الأربعة كان النبي يمارسها و يملأ بشخصيته الرسالية ثغراتها.

و لأجل جلاء الموقف نوضح كل واحد من هذه الأمور.

أمّا الأمر الأول: فيكفي فيه قوله سبحانه: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (1). فقد وصف النبي في هذه الآية بأنّه مبيّن لما في الكتاب، لا مجرّد تال له فقط.

و قوله سبحانه: لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ * فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ (2) فكان النبي يتولى بيان مجمله و مطلقه و مقيّده، بقدر ما تتطلبه ظروفه.

و القرآن الكريم ليس كتابا عاديا، على نسق واحد، حتى يستغني عن بيان النبي، بل فيه المحكم و المتشابه، و العام و الخاص، و المطلق و المقيّد، و المنسوخ و الناسخ، يقول الإمام علي عليه السلام: «و خلّف (النبي صلى اللّه عليه و آله) فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها: كتاب ربّكم فيكم، مبيّنا حلاله و حرامه، و فرائضه و فضائله، و ناسخه و منسوخه، و رخصه و عزائمه، و خاصّه و عامّة، و عبره و أمثاله، و مرسله و محدوده، و محكمه و متشابهه، مفسرا مجمله، و مبيّنا غوامضه»(3).

و أمّا الأمر الثاني: فهو بغنى عن التوضيح، فإنّ الأحكام الشرعية وصلت إلى الأمّة عن طريق النبي، سواء أ كانت من جانب الكتاب أو من طريق السنّة.

و أمّا الأمر الثالث: فبيانه أنّ الإسلام قد تعرض، منذ ظهوره، لأعنف الحملات التشكيكية، و كانت تتناول توحيده و رسالته و إمكان المعاد، و حشر الإنسان، و غير ذلك. و هذا هو النبي الأكرم، عند ما قدم عليه جماعة من كبار النصارى لمناظرته، استدلّوا لاعتقادهم بنبوة المسيح، بتولده من غير أب، فأجاب النبي بوحي من اللّه سبحانه، بأنّ أمر المسيح ليس أغرب من أمر آدم

ص: 27


1- سورة النحل: الآية 44.
2- سورة القيامة: الآيات 16-19.
3- نهج البلاغة، الخطبة 1.

حيث ولد من غير أب و لا أمّ قال سبحانه: إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اَللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1).

و أنت إذا سبرت تفاسير القرآن الكريم، تقف على أنّ قسما من الآيات نزلت في الإجابة عن التشكيكات المتوجهة إلى الإسلام من جانب أعدائه من مشركين و يهود و نصارى و سيوافيك في مباحث المعاد جملة كثيرة من الشبهات التي كانوا يعترضون بها على عقيدة المعاد، و جواب القرآن عليها.

و أمّا الأمر الرابع: فواضح لمن لاحظ سيرة النبي الأكرم، فقد كان هو القول الفصل و فصل الخطاب، إليه يفيء الغالي، و يلحق التالي، فلم ير إبّان حياته مذهب في الأصول و العقائد، و لا في التفسير و الأحكام. و كان - بقيادته الحكيمة - يرفع الخصومات و الاختلافات، سواء فيما يرجع إلى السياسة أو غيرها(2).

هذه هي الأمور التي مارسها النبي الأكرم أيام حياته. و من المعلوم أنّ رحلته و غيابه صلوات اللّه عليه، يخلّف فراغا هائلا و مفزعا في هذه المجالات الأربعة، فيكون التشريع الإسلامي حينئذ أمام محتملات ثلاثة:

الأول - أن لا يبدى الشارع اهتماما بسدّ هذه الفراغات الهائلة التي ستحدث بعد الرسول، و رأى ترك الأمور لتجري على عواهنها.

الثاني - أن تكون الأمّة، قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها، حدا تقدر معه بنفسها على سدّ ذلك الفراغ.

الثالث - أن يستودع صاحب الدعوة، كلّ ما تلقاه من المعارف و الأحكام

ص: 28


1- سورة آل عمران: الآية 59. و لاحظ سورة الزخرف: الآيات 57-61.
2- يكفي في ذلك ملاحظة غزوة الحديبية، و كيف تغلّب بقيادته الحكيمة على الاختلاف الناجم، من عقد الصلح مع المشركين و ما نجم في غزوة بني المصطلق من تمزيق وحدة الكلمة، أو ما ورد في حجة الوداع، حيث أمر من لم يسق هديا. بالإحلال، و نجم الخلاف من بعض أصحابه، فحسمه بفصله القاطع.

بالوحي، و كلّ ما ستحتاج إليه الأمّة بعده، يستودعه شخصية مثالية، لها كفاءة تقبّل هذه المعارف و الأحكام و تحمّلها، فتقوم هي بسد هذا الفراغ بعد رحلته صلوات اللّه عليه.

أمّا الاحتمال الأول - فساقط جدا، لا يحتاج إلى البحث، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة، فإنّ في ترك سدّ هذه الفراغات ضياعا للدين و الشريعة، و بالتالي قطع الطريق أمام رقيّ الأمّة و تكاملها.

فبقي الاحتمالان الأخيران، فلا بد لتعيين واحد منهما، دراستهما في ضوء العقل و التاريخ.

هل كانت الأمّة مؤهلة لسدّ تلك الفراغات؟

هذه هي النقطة الحساسة في تاريخ التشريع الإسلامي و مهمّته، فلعلّ هناك من يزعم أنّ الأمّة كانت قادرة على ملئ هذه الفراغات. غير أنّ التاريخ و المحاسبات الاجتماعية يبطلان هذه النظرة، و يضادّانها، و يثبتان أنّه لم يقدّر للأمّة بلوغ تلك الذروة، لتقوم بسدّ هذه الثغرات التي خلّفها غياب النبي الأكرم، لا في جانب التفسير، و لا في جانب التشريع، و لا في جانب ردّ التشكيكات الهدّامة، و لا في جانب صيانة الدين عن الانحراف، و إليك فيما يلي بيان فشل الأمّة في سدّ هذه الثغرات، من دون أن نثبت للأمّة تقصيرا، بل المقصود استكشاف الحقيقة.

أمّا في جانب التفسير، فيكفي وجود الاختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم، و قبل كل شيء نضع أمامك كتب التفسير، فلا ترى آية - إلاّ ما شذّ - اتّفق في تفسيرها قول الأمّة، حتى أنّ الآيات التي يرجع مفادها إلى عمل المسلمين يوما و ليلا لم تصن عن الاختلاف، و إليك النماذج التالية.

أ - قال سبحانه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ (1).

ص: 29


1- سورة المائدة: الآية 6.

فقد تضاربت الآراء في فهم الآية، فمن قائل يعطف الرّجل على الرءوس، و من قائل يعطفه على الأيدي، فتمسح على الأوّل، و تغسل على الثاني. فأيّ الرأيين هو الصحيح؟ و أيّ التفسيرين هو مراده سبحانه؟.

ب - قال سبحانه: وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا (1).

فاختلفت الأمّة في موضع القطع، فمن قائل بأنّ القطع من أصول الأصابع، و عليه الإمامية، و من قائل بأنّ القطع من المفصل، بين الكفّ و الذراع، و عليه الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، و مالك، و الشافعي. و من قائل بأنّ القطع من المنكب، كما عليه الخوارج(2).

ج - قال سبحانه: وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاٰلَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ (3).

و في آية أخرى يحكم سبحانه بإعطاء الكلالة، النصف أو الثلثين، كما قال: إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ، وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ، فَإِنْ كٰانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثٰانِ مِمّٰا تَرَكَ (4).

فما هو الحل، و كيف الجمع بين هاتين الآيتين؟.

و أمّا الآيات المحتاجة إلى التفسير في مجال المعارف، فحدّث عنها و لا حرج، و يكفيك ملاحظة اختلاف الأمّة في الصفات الخبرية، و العدل، و الجبر و الاختيار، و الهداية و الضلالة...

و كم، و كم من آيات في القرآن الكريم تضاربت الأفكار في تفسيرها، من غير فرق بين آيات الأحكام و غيرها.

و أمّا في مجال الإجابة على الموضوعات المستجدة، فيكفي في ذلك الوقوف

ص: 30


1- سورة المائدة: الآية 38.
2- الخلاف، كتاب السرقة، ج 3، المسألة 31، ص 201-202.
3- سورة النساء: الآية 12.
4- سورة النساء: الآية 176.

على أنّ التشريع الإسلامي كان يشق طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية، لأنّ حدوث الوقائع و الحاجات الاجتماعية، في عهد الرسول الأكرم، كان يثير أسئلة و يتطلب حلولا، و من المعلوم أنّ هذا النمط من الحاجة كان مستمرا بعد الرسول. غير أنّ ما ورثه المسلمون من النبي الأكرم لم يكن كافيا للإجابة عن جميع تلك الأسئلة.

أمّا الآيات القرآنية في مجال الأحكام، فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية. و أمّا الأحاديث - في هذا المجال - فالذي ورثته الأمّة لا يتجاوز الخمسمائة حديث.

و هذا القدر من الأدلة غير واف بالإجابة على جميع الموضوعات المستجدة إجابة توافق حكم اللّه الواقعي، و لأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه القصورات، نذكر بعضها:

أ - رفع رجل إلى أبي بكر و قد شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فادّعى أنّه نشأ بين قوم يستحلّونها، و لم يعلم بتحريمها إلى الآن، فتحيّر أبو بكر في حكمه(1).

ب - مسألة العول شغلت بال الصحابة فترة من الزمن، و كانت من المسائل المستجدة التي واجهت جهاز الحكم بعد الرسول، و قد طرحت هذه المسألة أيام خلافة عمر بن الخطاب، فتحيّر، فأدخل النقص على الجميع استحسانا، و قال: «و اللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه و لا أيّكم أخّر، ما أجد شيئا أوسع لي من أنّ أقسّم المال عليكم بالحصص، و أدخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة»(2).

ج - سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية، تطليقتين،

ص: 31


1- الكافي، ج 7، كتاب الحدود، ص 249، الحديث 4. الإرشاد للمفيد، ص 106، مناقب ابن شهرآشوب، ص 489.
2- أحكام القرآن، للجصاص، ج 2، ص 109، و مستدرك الحاكم، ج 4، ص 340. راجع في توضيح حقيقة العول المصدرين المذكورين و الكتب الفقهية في الميراث.

و في الإسلام تطليقة، فهل تضم التطليقتان إلى الثالثة، أو لا؟ فقال للسائل «لا آمرك و لا أنهاك»(1).

هذا، و لا نعني من ذلك أنّ الشريعة الإسلامية، ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية، و شمول المواضيع المستجدة، أو المعاصرة لعهد الرسول، بل التشريع الإسلامي كان وافيا بالجميع ببيان سوف نشير إليه(2).

و الذي يكشف عمّا ذكرنا، أنّه اضطرّ صحابة النبي منذ الأيام الأولى من وفاته صلوات اللّه عليه و آله، إلى إعمال الرأي و الاجتهاد في المسائل المستحدثة، و ليس اللجوء إلى الاجتهاد بهذا الشكل، إلاّ تعبيرا واضحا عن عدم استيعاب الكتاب و السنّة النبوية للوقائع المستحدثة، بالحكم و التشريع، و لا مجال للاجتهاد و إعمال الرأي فيما يشمله نصّ من الكتاب أو السنّة بحكم، و لذلك أحدثوا مقاييس للرأي، و اصطنعوا معايير جديدة للاستنباط، و ألوانا من الاجتهاد، منه الصحيح المتّفق عليه، يصيب الواقع حينا، و يخطئه أحيانا، و منه المريب المختلف فيه. و كان القياس أوّل هذه المقاييس و أكثرها نصيبا من الخلاف، و المراد منه إلحاق أمر بآخر، في الحكم الثابت للمقيس عليه، لاشتراكهما في مناط الحكم المستنبط. و كان القياس بهذا المعنى (دون منصوص العلة) مثارا للخلاف بين الصحابة، و العلماء، فقد تبنّته جماعة من الصحابة و التابعين، و أنكرته جماعة أخرى، و عارضوا الأخذ به، منهم الإمام علي بن أبي طالب، و ابن مسعود، و أئمة أهل البيت، ثم اصطنعوا بعد ذلك معايير أخرى، منها المصالح المرسلة، و هي المصالح التي لم يشرّع الشارع حكما بتحقيقها، و لم يدلّ دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها.

و هناك مقاييس أخرى، كسدّ الذرائع، و الاستحسان، و قاعدة شرع من

ص: 32


1- كنز العمال، ج 5، ص 116.
2- حاصله أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يراعي في إبلاغ الحكم حاجة الناس، و مقتضيات الظروف الزمنية، فلا بد - في إيفاء غرض التشريع - أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه، و يقوم مقامه، لإيفاء أغراضه التي لم يقدّر له تحقيقها في حياته الكريمة.

قبلنا، و ما إلى ذلك من القوانين و الأصول الفقهية، التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عند ما طرأ على المجتمع الإسلامي ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها، و لم تكن النصوص الشرعية من الكتاب و السنّة لتشمل تلك المظاهر الاجتماعية المستحدثة بحكم، و لم يجد الفقهاء بدّا من الالتجاء إلى إعمال الرأي و الاجتهاد في مثل هذه المسائل ممّا لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة، و تشعبت بذلك مدارس الفقه الإسلامي، و بعدت الشّقة بينها، و تبلورت تلك المعاني إثر التضارب الفكري الذي حصل بين هذه المدارس، و صيغت الأفكار في صيغ علمية محددة، بعد ما كان يغلب عليها طابع التذبذب و الارتباك.

و ذلك كلّه يدلّ على عدم وفاء نصوص الكتاب و السنّة، بما استجدّ للمسلمين بعد عصر الرسالة، من مسائل، أو ما جدّ لهم من حاجة.

و هناك نكتة تاريخية توقفنا على سرّ عدم إيفاء الكتاب و السنّة بمهمة التشريع، و هي أنّ مدّة دعوته صلى اللّه عليه و آله لا تتجاوز ثلاثا و عشرين عاما، قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو المشركين فيها. و لكن عنادهم جعل نتائج الدعوة قليلة. فلأجل ذلك لم يتوفق لبيان حكم شرعي فرعي إلاّ ما ندر. و من هنا نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكة تدور في الأغلب حول قضايا التوحيد و المعاد، و إبطال الشرك و مقارعة الوثنية، و غيرها من القضايا الاعتقادية، حتى صار أكثر المفسّرين يميّزون الآيات المكيّة عن المدنية بهذا المعيار.

و لما انتهت دعوته إلى محاولة اغتياله، هاجر إلى يثرب، و أقام فيها العشرة المتبقية من دعوته تمكّن فيها من بيان قسم من الأحكام الشرعية لا كلّها، و ذلك لوجوه:

1 - إنّ تلك الفترة كانت مليئة بالحوادث و الحروب، لتآمر المشركين و الكفّار، المتواصل على الإسلام و صاحب رسالته و المؤمنين به. فقد اشترك النبي في سبع عشرة غزوة كان بعضها يستغرق قرابة شهر، و بعث خمسا و خمسين سرية لقمع المؤمرات و إبطالها، و صدّ التحركات العدوانية.

2 - كانت إلى جانب هذه المشاكل، مشكلة داخلية يثيرها المنافقون الذين

ص: 33

كانوا بمنزلة الطابور الخامس، و كان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين، و خلق المتاعب للقيادة من الداخل. و كانوا بذلك يفوّتون الكثير من وقت النبي الذي كان يمكن أن يصرف في تربية المسلمين و إعدادهم و تعليمهم على حلّ ما قد يطرأ على حياتهم، أو يستجد في مستقبل الأيام.

3 - إنّ مشكلة أهل الكتاب، خصوصا اليهود، كانت مشكلة داخلية ثانية، بعد مشكلة المنافقين، فقد فوّتوا من وقته الكثير، بالمجادلات و المناظرات، و قد تعرّض الذكر الحكيم لناحية منها، و ذكر قسم آخر منها في السيرة النبوية(1).

4 - إنّ من الوظائف المهمة للنبي عقد الاتّفاقيات السياسية و المواثيق العسكرية الهامة التي يزخر بها تاريخ الدعوة الإسلامية(2).

إنّ هذه الأمور و نظائرها، عاقت النبي عن استيفاء مهمة التشريع.

على أنّه لو فرضنا تمكن النبي من بيان أحكام الموضوعات المستجدة، غير أنّ التحدّث عن الموضوعات التي لم يعرف المسلمون شيئا من ماهياتها و تفاصيلها في عهد الرسول، و إنّما كانت تحدث بصورة طبيعية شيئا فشيئا، أمر صعب للغاية، و لم يكن في وسع المسلمين أن يدركوا معناه.

فحاصل هذه الوجوه توقفنا على أمر محقق، و هو أنّه لم يقدر للنبي استيفاء مهمة التشريع، و لم يتسنّ للمسلمين أن يتعرّفوا على كل الأحكام الشرعية المتعلقة بالحوادث و الموضوعات المستجدة.

و أمّا في مجال ردّ الشبهات و التشكيكات و إجابة التساؤلات، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبي من هذه الناحية، فجاءت اليهود و النصارى تترى، يطرحون الأسئلة، و يشوّشون بها أفكار الأمّة، ليخربوا عقائدها و مبادئها، و نذكر من ذلك:

ص: 34


1- لاحظ السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1، ص 530-588، ط الحلبي - مصر - 1375.
2- لاحظ كتاب الوثائق السياسية لمحمد حميد اللّه، و «مكاتيب الرسول».

و فود أسقف نجران على عمر، و طرح بعض الأسئلة عليه(1).

و فود جماعة من اليهود على عمر، و طرح بعض الشبهات(2).

و فود جماعة من اليهود على عمر، و طرح بعض الأسئلة عليه(3).

سؤال عويص ورد من الروم على معاوية يلتمس الجواب عنه(4).

أسئلة وردت من جانب البلاط الروماني إلى معاوية(5).

و غير ذلك من الوفود و الأسئلة التي لم يكن هدفها إلاّ التشكيك في الدين و إيجاد التزلزل في عقيدة المسلمين.

و أمّا في جانب صيانة المسلمين عن التفرقة و الاختلاف، و الدين عن الانحراف، فقد كانت الأمّة الإسلامية في أشدّ الحاجة بعد النبي إلى من يصون دينها عن التحريف، و أبناءها عن الاختلاف، فإنّ التاريخ يشهد دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود و رهبان النصارى و مؤبدي المجوس، ككعب الأحبار، و تميم الدّاري، و وهب بن منبه، و عبد اللّه بن سلام، و بعدهم الزنادقة، و الملاحدة، و الشعوبيون، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية، و الأساطير النصرانية، و الخرافات المجوسية بينهم، و قد ظلّت هذه الأحاديث المدسوسة، تخيّم على أفكار المسلمين ردحا طويلا من الزمن، و تؤثّر في حياتهم العلمية، حتى نشأت فرق و طوائف في ظلّ هذه الأحاديث.

و ممّا يوضح عدم تمكّن الأمّة من صيانة الدين الحنيف عن التحريف و أبنائها عن التشتت، وجود الروايات الموضوعة و المجعولات الهائلة. و يكفي في ذلك أنّ يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ و أسفار في مختلف أقطار الدولة

ص: 35


1- تذكرة الخواص، لابن الجوزي، المتوفى عام 656، ص 144.
2- قضاء أمير المؤمنين، ص 64.
3- علي و الخلفاء، ص 313.
4- المصدر نفسه.
5- قضاء أمير المؤمنين، ص 78 و 114.

الإسلامية، و ما رواه بعد ذلك. فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية، تربو على ستمائة ألف حديث، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف، و معنى هذا أنّه لم يصحّ لديه من كل مائة و خمسين حديثا إلاّ حديث واحد، و أمّا أبو داود فلم يصحّ لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف و ثمانمائة، و كذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث. و كثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم، كانت موضع نقد و تمحيص عند غيرهم(1).

قال العلامة المتتبع الأميني: و يعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم - الصحاح و المسانيد - من أحاديث كثيرة هائلة، و الصفح عن ذلك الهوش الهائش، فقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف و ثمانمائة حديث، و قال انتخبته من خمسمائة ألف حديث(2). و يحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار، ألفي حديث و سبعمائة و واحد و ستين حديثا، اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث(3). و في صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات، صنفه من ثلاثمائة ألف(4). و ذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث، و قد انتخبه من أكثر من سبعمائة و خمسين ألف حديث، و كان يحفظ ألف ألف حديث(5). و كتب أحمد بن فرات، المتوفى عام 258، ألف ألف و خمسمائة ألف حديث، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير و الأحكام و الفوائد و غيرها(6).

فهذه الموضوعات على لسان الوحي، تقلع الشريعة من رأس و تقلب

ص: 36


1- لاحظ حياة محمد، لمحمد حسين هيكل، ص 49-50، الطبعة الثالثة عشر.
2- طبقات الحفاظ، للذهبي، ج 2، ص 154. تاريخ بغداد، ج 2 ص 57. المنتظم لابن الجوزي، ج 5، ص 97.
3- إرشاد الساري، ج 1، ص 28. صفة الصفوة، ج 4، ص 143.
4- المنتظم، لابن الجوزي، ج 5، ص 32. طبقات الحفاظ، للذهبي، ج 2، ص 151. شرح صحيح مسلم للنووي، ج 1، ص 36.
5- ترجمة أحمد، المنقولة من طبقات ابن السبكي، المطبوعة في آخر الجزء الأول من مسنده، طبقات الذهبي، ج 2، ص 17.
6- خلاصة التهذيب، ص 9. نقلناه برمّته متنا و هامشا من الغدير، ج 5، ص 292-293.

الأصول، و تتلاعب بالأحكام، و تشوش التاريخ، أو ليس هذا دليلا على عدم وفاء الأمّة بصيانة دينها عن التشويش و التحريف؟.

هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة، و هي عدم تمكّن الأمّة، مع ما لها من الفضل، من القيام بسدّ الفراغات الهائلة التي خلّفتها رحلة النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فلا مناص من تعيّن الاحتمال الثالث، و هو سدّ تلك الثغرات بفرد مثالي يمارس وظائف النبي في المجالات السابقة، بعلمه المستودع فيه، و يكون له من المؤهلات ما للنبي الأكرم، سوى النبوّة، و سوى كونه طرفا للوحي.

إنّ الغرض من إرسال الأنبياء هي الهداية الإلهية لبني البشر، إلى الكمال في الجانبين المادي و الروحي. و من المعلوم أنّ هذه الغاية لا يحصل عليها الإنسان إلاّ بالدين المكتمل أصولا و فروعا، المصون من التحريف و الدسّ. و ما دام النبي حيّا، بين ظهرانيّ الأمّة، تتحقق تلك الغاية بنفسه الشريفة، و أمّا بعده فيلزم أن يخلفه إنسان مثله في الكفاءات و المؤهّلات، ليواصل دفع عجلة المجتمع الديني في طريق الكمال، و يحفظه من الانقلاب على الأعقاب، و التقهقر إلى الوراء. و وجود إنسان مثالي، كالنبي في المؤهلات، عارف بالشريعة و معارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، و خطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي و المعنوي. فهل يسوغ على اللّه سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء، الهادي للبشرية إلى ذروة الكمال.

إنّ اللّه سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضرورية، و أجهزة كمالية. حتى أنّه قد زوّده بالشعر على أشفار عينيه و حاجبيه، و قعر أخمص قدميه، كل ذلك لتكون حياته سهلة لذيذة غير متعبة، فهل ترى أنّ حاجته إلى هذه الأمور أشدّ من حاجته إلى خلف حامل لعلوم النبوة، قائم بوظائف الرسالة.

و ما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت في فلسفة وجود هذا الخلف، و مدى تأثيره في تكامل الأمّة:

ص: 37

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه: بحجة، إمّا ظاهرا مشهورا، و إمّا خائفا مغمورا، لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته»(1).

و قال الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم، و لو لا ذلك لما يعرف الحق من الباطل»(2).

و قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الأرض لا تخلو و فيها إمام، كيما زاد المؤمنون شيئا ردّهم، و إذا نقصوا شيئا أئمّة لهم»(3).

هذه المأثورات من أئمة أهل البيت، تعرب عن أنّ الغرض الداعي إلى بعثة النبي، داع إلى وجود إمام يخلف النبي، في عامة سماته، سوى ما دلّ القرآن على انحصاره به، ككونه نبيّا رسولا و صاحب شريعة.

نعم، إنّ كثيرا ممّن ليست لهم أقدام راسخة في أبواب المعارف، يصعب عليهم تصوّر إنسان مثالي يحمل علوم النبوة، و ليس بنبي؛ و يقوم بوظائفها الرسالية، و ليس برسول؛ يحيط بمعارف الشريعة و أحكامها، و ليس طرفا للوحي؛ و يصون الشريعة من التحريف و الدسّ، و يردّ تشكيكات المبطلين، و ليس له صلة بسماء الوحي. و لأجل ذلك يثيرون في وجهه إشكالين، لا بدّ من ذكرهما، و الإجابة عنهما.

الإشكال الأول
اشارة

إنّ الفرد الجامع لهذه الخصائص، لا يفترق عن النبي، فتصبح الإمامة عندئذ، مرادفة للنبوّة، مع أنّ أدلّة الخاتمية قطعت طريق هذا الاحتمال(4).

ص: 38


1- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم 147.
2- الكافي، ج 1، ص 178.
3- الكافي، ج 1، ص 178.
4- و قد عرفت عن صاحب المواقف أنّه اعترض على تعريف الإمامة بأنّها رئاسة عامة في أمور الدين و الدنيا، بالنقض بالنبوة، ص 345.
الجواب

إنّ الفرق بين النبوّة، و احتضان علوم النبي الأكرم، واضح، لا يحتاج إلى البيان، فإنّ مقوم النبوّة عبارة عن كون النبي طرفا للوحي، يسمع كلام اللّه تعالى، و يرى رسوله، و يكون صاحب شريعة مستقلة، أو مروجا لشريعة من قبله.

و أمّا الإمام فهو الخازن لعلوم النبوة في كل ما تحتاج إليه الأمّة، من دون أن يكون طرفا للوحي، أو سامعا كلامه سبحانه، أو رائيا الملك الحامل له.

نعم، المهم هو الوقوف على أنّ في وسعه سبحانه أن يربي للأمّة، في حضن النبي الأكرم، رجلا مثاليا يأخذ علوم النبي بتعليم غيبي يفي بوظائف الرسالة بعد رحلته، حتى يسدّ الفراغات العلمية الحاصلة برحلته.

و بما أنّ المستشكل، و من تبعه، بريئون من هذه المعارف، و يخصّون التعليم، بالوسائل العادية، يتعجبون من بلوغ إنسان ذلك الحدّ من الكمال و العلم، من دون أن يدخل مدرسة، أو يخضع أمام شيخ، إلاّ أن يكون نبيّا.

و إنّ القرآن الكريم يحدّثنا عن أناس مثاليين نالوا الذروة من العلوم بتعليم غيبي، مع أنّهم لم يكونوا أنبياء، كمصاحب موسى عليه السلام الذي يقول سبحانه في شأنه: فَوَجَدٰا عَبْداً مِنْ عِبٰادِنٰا، آتَيْنٰاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا، وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً (1).

و لم يكن المصاحب نبيّا، بل كان وليّا من أولياء اللّه سبحانه، بلغ الذّروة من العلم، حتى قال له موسى - و هو نبي مبعوث بشريعة: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّٰا عُلِّمْتَ رُشْداً ؟(2).

و جليس سليمان عليه السلام، الّذي يقول سبحانه في شأنه: قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا

ص: 39


1- سورة الكهف: الآية 65.
2- سورة الكهف: الآية 66.

عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي... (1) .

و هذا الجليس لم يكن نبيّا، و لكن كان صاحب علم من الكتاب، و من المعلوم أنّ هذا العلم لم يحصل له من الطرق العادية التي يدرج عليها الأولاد و الشبّان في الكتاتيب و المدارس، و إنّما هو علم إلهي احتضنه بلياقته و كفاءته، و لأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه و يقول: هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي .

و الشاهد على رسالة النبي، إلى جانب شهادته سبحانه، الذي يقول سبحانه في شأنه: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً، قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ، وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ (2).

و السورة مكية على ما يدلّ عليه سياق آياتها، و نقل عن الكلبي أنّه قال:

«إنّها مكية إلاّ هذه الآية»، و يدفعه أنّها مختتم السورة، قوبل بها ما في مفتتحها، أعني قوله سبحانه: المر، تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ، وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يُؤْمِنُونَ (3)، فيبعد جدا أن يفرق بين المتقابلين بأعوام.

فعندئذ يجب الإمعان في هذا الشاهد الذي عطفه سبحانه على نفسه، و عدّه شاهدا على رسالة النبي كشهادة نفسه سبحانه. أ فيصحّ أن يقال إنّ المراد، القوم الذين أسلموا في المدينة، كعبد اللّه بن سلام، و تميم الداري، و سلمان الفارسي، مع أنّ الآية نزلت في مكّة؟.

على أنّ عطف هؤلاء في الشهادة، على اللّه سبحانه، لا يخلو من غموض و إبهام. فلا بدّ أن يكون المراد من الشاهد هنا إنسانا مثاليا، كان موجودا في مكة، و هو أعلم الناس بالكتاب، حتى يصحّ أن يجعل عدلا آخر للشهادة، و لا يكون هذا الإنسان إلاّ من تربّى في حجر النبوة و حضنها، و تحمّل علومها، بتعليم غيبي إلهي، لا بتعليم بشري عادي.

ص: 40


1- سورة النمل: الآية 40.
2- سورة الرعد: الآية 43.
3- سورة الرعد: الآية 1.

هذا و ذاك، و غيرهما ممّا لم نذكره، و جاء في الحديث و التاريخ، يعرب عن أنّ التعليم الغيبي لا يختصّ بالأنبياء، و أنّ هناك رجالا صالحين، يحملون علوم النبوة و يحتضنونها بفضل من اللّه سبحانه، لغاية قدسية هي إبلاغ الأمّة الغاية من الكمال، و إيصاد الثغرات الهائلة التي تخلفها رحلة النبي.

الإشكال الثاني
اشارة

إذا شهد التاريخ، و المحاسبات الاجتماعية، بعدم استيفاء النبي لمهمة التشريع، فما معنى قوله سبحانه: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً (1)؟.

الجواب

إنّ السؤال مبني على تفسير الدين بالأحكام الشرعية، و حمل الإكمال على بيانها. و ذلك غير صحيح لوجوه:

الأول - إنّ كثيرا من المفسّرين، فسّروا اليوم، بيوم عرفة، من عام حجة الوداع(2). و من المعلوم أنّ هناك روايات كثيرة لا يستهان بها عددا تدلّ على نزول أحكام و فرائض بعد ذلك اليوم، منها أحكام الكلالة، المذكورة في آخر سورة النساء(3)، و منها آيات الربا(4)، حتى روي عن عمر أنّه قال في خطبة خطبها:

«و من آخر القرآن نزولا آية الربا، و إنّه مات رسول اللّه و لم يبيّنه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم»(5). و روى البخاري في الصحيح، عن ابن عباس،

ص: 41


1- سورة المائدة: الآية 3.
2- لاحظ تفسير الطبري، ج 6، ص 54، تفسير الرازي، ج 3، ص 368.
3- سورة النساء: الآية 176.
4- سورة البقرة: الآيات 275-278.
5- الدر المنثور، للسيوطي، ج 1، ص 365. و لاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 374، ط مصر في ثمانية أجزاء.

قال: «آخر آية أنزلها اللّه على رسوله، آية الربا»(1)، و غير ذلك من الروايات.

الثاني - إنّ تفسير الدين بالأحكام، و إكمالها بالبيان و أنّه تحقق في يوم عرفة من عام حجّ الوداع، لا ينسجم مع سائر فقرات الآية، فإنّ الآية تخبر عن يوم تحققت فيه أمور ثلاثة: يأس الكفار من دين المسلمين، و إكمال الدين و إتمام النعمة.

توضيح ذلك إنّه إن أراد من الكفار، كفار العرب، القاطنين في الجزيرة، فالإسلام كان قد عمّهم يوم ذاك، و لم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام، فمن هؤلاء الكفار اليائسون؟ فإنّ سورة البراءة، و تلاوتها يوم عيد الأضحى، في العام التاسع للهجرة، صارت سببا لنفوذ الإسلام في كل أصقاع الجزيرة، و رفض الشرك و نبذ عبادة الأوثان، رغبة أو رهبة، و لم يبق مشرك إلاّ و قد كسر صنمه، و لا عابد وثن إلاّ و قد تحوّل إلى عبادة اللّه تعالى طمعا أو خوفا، فلم يبق هناك كافر يئس من دين المسلمين.

و إن أراد سائر الكفار من الأمم، من العرب و غيرهم، فلم يكونوا يائسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

فعلينا أن نتفحص عن يوم تتحقق فيه هذه الأمور الثلاثة، كما سيبين.

الثالث - إنّ ما ذكر لا ينسجم مع ما رواه عدّة من المحدثين من نزولها يوم الثامن عشر من ذي الحجة، في السنة العاشرة للهجرة، عند ما نصب النبي عليّا للولاية، و قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه»(2).

و يعرب عن صحة ذلك ما ذكره الرازي، قال: «قال أصحاب الآثار إنّه

ص: 42


1- الدر المنثور للسيوطي، ج 1، ص 365.
2- لاحظ في الوقوف على مصادر نزول الآية يوم الغدير، كتاب الغدير، ج 1، ص 230-238، و قد رواه عن ستة عشر محدثا، منهم أبو جعفر الطيري، و ابن مردويه الأصفهاني، و أبو نعيم الأصفهاني، و الخطيب البغدادي، و أبو سعيد السجستاني، و أبو الحسن المغازلي، و أبو القاسم الحسكاني، و ابن عساكر الدمشقي، و أخطب الخطباء الخوارزمي، و غيرهم من أعاظم المحدثين.

لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه و آله، لم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحدا و ثمانين يوما أو اثنين و ثمانين يوما، و لم يحصل بعدها زيادة و لا نسخ و تبديل البتة.

و كان ذلك جاريا مجرى إخبار النبي عن قرب وفاته، و ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا»(1).

و ما ذكره يؤيّد كون النزول يوم الغدير، أعني يوم الثامن عشر من ذي الحجة، لأنّه لو فرض كون الشهور الثلاثة (ذي الحجة، و محرم، و صفر) ناقصة، لكانت وفاته صلى اللّه عليه و آله بعد واحد و ثمانين يوما، و لو كان الشهران (محرم و صفر) ناقصان، لا نطبق على الاثنين و الثمانين، كل ذلك بملاحظة ما اتّفقت عليه كلمة الجمهور من أنّ النبي توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول.

و العجب أنّ الرازي غفل عن هذه الملازمة، و أنّه لا يجتمع مع نزولها يوم عرفة.

فعلى ذلك لا يصحّ تفسير الدين بالأحكام، و لا الإكمال بالبيان. و في ضوء ذلك يمكن أن يقال إنّ المراد من الدين هو أصوله، و المراد من الإكمال، تثبيت أركانه، و ترسيخ قواعده، و ذلك أنّ الكفار، خصوصا المستسلمين منهم، كانوا يتربصون بالنبي الدوائر، فإنّهم كانوا ينظرون إلى دعوته بأنّها ملك في صورة النبوة، و سلطنة في ثوب الرسالة، فإن مات أو قتل، ينقطع أثره و يموت ذكره، كما هو المشهور عادة، من حال السلاطين، و كان الكفار يعيشون هذه الأحكام و الأماني التي تعطيهم الرجاء في إطفاء نور الدين، و عفّ آثاره عبر الأيام.

غير أنّ ظهور الإسلام، تدريجيا، و غلبته على الكفار و المشركين، بدّد أحلامهم بالخيبة، فيئسوا من التغلّب على النبي و دعوته، فلم يبق لهم إلاّ حلم واحد، و هو أنّه لا عقب له يخلفه في أمره، فيموت دينه بموته. و كان هذا الحلم يتغلغل في أنفسهم، إلاّ أنّ الخيبة عمّتهم لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة

ص: 43


1- تفسير الرازي، ج 3، ص 369.

القيام بشخص النبي الأكرم إلى مرحلة القيام بشخص آخر مثالي يقوم مقامه، فعند ذلك تحققت الأمور الثلاثة: يئسوا من زوال الدين، بعد موته، و كمل الدين بتنصيب من يحمل وظائف النبي، و تمّت نعمة الهداية إلى أهداف الرسالة بالوصي القائم مقامه.

فالمراد من إكمال الدين، تحوّله من وصف الحدوث إلى وصف البقاء، و كان ذلك العمل، ردّا لما يحكيه سبحانه عن الكفار بقوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِكُمْ كُفّٰاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ، فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1).

و لعلّ المراد من قوله: يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ ، هو ما حدث في ذلك اليوم.

و على ذلك، فتنسجم الجمل الثلاث، و يرتبط بعضها ببعض، فالدين الذي أكمله اللّه اليوم، و النعمة التي أتمّها اللّه اليوم، أمر واحد بحسب الحقيقة، و هو الذي كان يطمع فيه الكفار، و يخشاهم فيه المؤمنون، فآيسهم اللّه منه، و أكمله و أتمّه، و نهاهم عن الخشية منهم، و قال: فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ (2).

هذه هي حقيقة الإمامة، و الإمام عند الشيعة، و بذلك يعلم اختلاف ما يتبنونه مع ما هو المعروف عند أهل السنّة، و من المعلوم أنّ كلاّ من المعنيين يستدعي لنفسه شروطا خاصّة، و الشروط عند الشيعة الإمامية أكثر ممّا اتّفقت عليه كلمة أهل السنّة، أهمها إحاطته بأصول الشريعة و فروعها، و المعرفة التامّة بكتاب اللّه، و سنّة نبيّه، و قدرته على دفع الشبهات، و صيانة الدين، يكون كلامه هو القول الفصل بين الأمّة، و لا تفترق هذه الشروط عن كونه معصوما، لا يضلّ في تعليم الأمّة.

قال الشيخ الرئيس ابن سينا في لزوم نصب الإمام من جانب النبي: «ثم إنّ هذا الشخص الذي هو النبي، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كل وقت، فإنّ

ص: 44


1- سورة البقرة: الآية 109
2- سورة المائدة: الآية 3.

المادة التي تقبل كمال مثله، تقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يسنّه و يشرّعه في أمور المصالح الإنسانية، تدبيرا عظيما»(1).

ص: 45


1- الشفاء، ج 2، الفن الثالث عشر في الإلهيات، المقالة العاشرة، الفصل الثالث، ص 558.

الأمر السابع المصالح العامة، و صيغة الحكومة بعد النبي

اشارة

يسود بين المسلمين، في صيغة الحكومة و قيادة الأمّة بعد النبي، رأيان و اتجاهان:

الأول: أنّ صيغة الحكومة صيغة التنصيب، و أنّ الإمام بعد النبي يعين عن طريق الرسول بأمر من اللّه سبحانه.

الثاني: تفويض الأمر إلى اختيار الأمّة، و انتخابها بشكل من الأشكال التي ستوافيك.

و البحث في المقام: يرجع إلى محاسبة مصالح الأمّة الإسلامية آنذاك، فهل كانت تقتضي تحقيق النظرية الأولى، و هي نظرية النصّ على شخص أو أشخاص معينين، أو تقتضي ترك مسألة الخلافة إلى رأي الأمّة؟.

و الحقّ أنّ هنا أمورا تدلّ على أنّ مصلحة الأمّة آنذاك، كانت تتطلب تنصيب الإمام و القائد الذي يخلف النبي، و تعيينه بلسانه في حياته، و كان في ترك هذا رمي للأمّة أمام أكبر المخاطر، و إليك بيان تلك الأمور:

الأول: الأمة الإسلامية و الخطر الثلاثي

إنّ الدولة الإسلامية، التي أسسها النبي الأكرم صلوات اللّه عليه، كانت

ص: 46

محاصرة حال وفاة النبي من جهتي الشمال و الشرق، بأكبر امبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة، و كانتا على جانب كبير من القوة و البأس، و هما الروم و إيران؛ هذا من الخارج.

و أمّا من الداخل، فقد كان الإسلام و المسلمون يعانون من وطأة مؤامرات المنافقين الذين كانوا يشكّلون جبهة عدوانية داخلية، أشبه بما يسمّى بالطابور الخامس.

و يكفي في خطورة إمبراطورية إيران أنّه كتب ملكها إلى عامله باليمن - بعد ما وصلت إليه رسالة النبي تدعوه إلى الإسلام و التسليم، و مزّقها -:

«ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز، رجلين من عندك، جلدين، فليأتياني به»(1).

و كفى في خطورة موقف الإمبراطورية البيزنطية، أنّه وقعت اشتباكات عديدة بينها و بين المسلمين في السنة الثامنة للهجرة، منها غزوة مؤتة التي قتل فيها قادة الجيش الإسلامي و هم جعفر بن أبي طالب، و زيد بن حارثة، و عبد اللّه بن رواحه، و رجع الجيش الإسلامي من تلك الواقعة منهزما، و قد أثارت هزيمتهم في هذه المعركة، و استشهاد القادة الثلاثة، نقمة شديدة في نفوس المسلمين تجاه الروم، و لأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم بنفسه على رأس الجيش الإسلامي إلى تبوك في السنة التاسعة لمقابلة الجيوش البيزنطية و لكنه لم يلق أحدا، فأقام في تبوك أياما ثم رجع إلى المدينة، و لم يكتف بهذا بل جهّز جيشا في أخريات أيّامه بقيادة أسامة بن زيد، لمواجهة جيوش الروم.

و أمّا خطر المنافقين، فحدّث عنه و لا حرج، هؤلاء أسلموا بألسنتهم دون قلوبهم، و أضمروا للمسلمين كلّ سوء، و كانوا يتحينون الفرص لإضعاف الدولة الإسلامية، بإثارة الفتن الداخلية، كما كانوا يتربصون الدوائر لاغتيال النبي و قتله(2).

ص: 47


1- الكامل، للجزري، ج 2، ص 145.
2- لاحظ التفاسير، في تفسير قوله سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ

و لقد انبرى القرآن الكريم لفضح المنافقين و التشهير بخططهم ضدّ الدين و النبي، في العديد من السور القرآنية مثل البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنفال، و التوبة، و العنكبوت، و الأحزاب، و محمد، و الفتح، و المجادلة، و الحديد، و الحشر، و قد نزلت في حقّهم سورة خاصة باسم المنافقين.

إنّ اهتمام القرآن بالتعرّض للمنافقين المعاصرين للنبي، المتواجدين بين الصحابة، أدلّ دليل على أنّهم كانوا قوّة كبيرة و يشكون جماعة وافرة، و يلعبون دورا خبيثا، خطيرا في تعكير الصف، و إفساح المجال لأعداء الإسلام، بحيث لو لا قيادة النبي الحكيمة، لقضوا على كيان الدين، و أطاحوا بصرحه.

و يكفي في ذلك قوله سبحانه: لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ، حَتّٰى جٰاءَ اَلْحَقُّ، وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ هُمْ كٰارِهُونَ (1).

و قد كان محتملا و مترقّبا أن يتحد هذا المثلث الخطير (الفرس، الروم، المنافقون)، لاكتساح الإسلام و اجتثاث جذوره، بعد وفاة النبي.

فمع هذا الخطر المحيق الداهم، ما هي وظيفة القائد الحكيم الذي أرسى قواعد دينه على تضحيات عظيمة، فهل المصلحة كانت تقتضي تنصيب قائد حكيم عارف بأحكام القيادة و وظائفها حتى يجتمع المسلمون تحت رايته، و يكونوا صفا واحدا في مقابل ذاك الخطر، أو أنّ المصلحة العامة تقتضي تفويض الأمر إلى الأمّة، حتى يختاروا لأنّفسهم أميرا، مع أنّ من المعلوم أن ترك الأمر إلى الأمّة في ذلك الوقت الحرج، يلازم الشغب و الاختلاف و التنافس الذي لم يكن لصالح الإسلام و المسلمين، في الوقت الذي يعانون فيه من وفاة النبي؟.

فاقض ما أنت قاض.

ص: 48


1- سورة التوبة: الآية 48.
الثاني - الحياة القبلية تمنع من الاتفاق على قائد

من أبرز ما كان يتميز به المجتمع العربي في حياة النبي الأكرم، هو حياة النظام القبلي، و التقسيمات العشائرية التي كانت تحتل - في ذلك المجتمع - مكانة كبرى.

و قد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية قبل الإسلام و بعده، و على أساسها كانت تدور المفاخرات، و تنشد القصائد، و تبنى الأمجاد، كما كانت هي منشأ أكثر الحروب و أغلب المنازعات.

إنّ التاريخ يشهد لنا كيف كاد التنازع القبلي في قضية بناء الكعبة المشرّفة، و وضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف، فالصراع الدموي، و الاقتتال المرير، لو لا تدخل النبي الأكرم(1).

و قد سعى النبي الأكرم، سعيا حثيثا، لمحو الروح القبلية، و إذابة الفوارق العشائرية، و جمع تلك المتشتتات في بوتقة الإيمان الموحّد، و لكن لم يكن من الممكن أن ينقلب النظام القبلي في مدة ثلاث و عشرين عاما إلى نظام موحد إسلامي، لا يرى للانتساب إلى القبيلة فخرا، سوى التعرّف و التعريف(2).

و الشواهد على تغلغل العصبيات القبلية في نفوس أكثر الصحابة، كثيرة، و يكفي في ذلك ما ورد في غزوة بني المصطلق، حيث تنازع مهاجري مع أنصاريّ، فصرخ الأنصاري: «يا معشر الأنصار»، و صرخ الآخر: «يا معشر المهاجرين». و لما سمع النبي هذه الكلمات قال: «دعوها فإنّها دعوى ميتة».

و لو لا قيادته الحكيمة، لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين و الأنصار(3).

و ما نقله ابن هشام من أن شعث بن قيس، و كان شيخا من اليهود، مرّ

ص: 49


1- قد ذكرنا هذه القضية فيما تقدم.
2- إشارة إلى قوله سبحانه: وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا (سورة الحجرات: الآية 13)
3- صحيح البخاري، ج 5، ص 119، باب غزوة بني المصطلق.

ذات يوم على نفر من أصحاب الرسول، من الأوس و الخزرج، فرآهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم و جماعتهم، فأمر فتى شابا من اليهود، كان معهم، فقال له: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث و ما كان قبله، و أنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل الشاب ذلك، فأثّر كيد ذلك اليهودي الماكر في نفوس الأخوة من المسلمين، فغضب الفريقان، و انتضوا أسلحتهم للقتال، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، و قال: «يا معشر المسلمين، اللّه، اللّه، أ بدعوى الجاهلية، و أنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام و أكرمكم به، و قطع به عنكم أمر الجاهلية و استنقذكم به من الكفر»؟(1).

و من ذلك الذي يدلّ على تعمّق رواسب القبلية في النفوس، ما ذكره الشيخ البخاري في صحيحه، في قصة الإفك، قال: «قال النبي و هو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، و اللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيرا، و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلاّ خيرا، و ما يدخل على أهلي إلاّ معي».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول اللّه أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت عائشة: فقام رجل من الخزرج، و هو سعد بن عبادة، و هو سيد الخزرج - قالت عائشة، و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية - فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر و اللّه، لا تقتله و لا تقدر على قتله، و لو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقال أسيد بن حضير، و هو ابن عمّ سعد بن معاذ، لسعد بن عبادة:

كذبت لعمر و اللّه، لتقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

ص: 50


1- السيرة النبوية، ج 1، ص 555.

قالت عائشة: فصار الحيّان (الأوس و الخزرج) حتى هموا أن يقتتلوا، و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، قائم على المنبر، و لم يزل رسول اللّه، يخفضهم (أي يهدئهم) حتى سكتوا»(1).

و لا يقل شاهدا على وجود هذه الرواسب في نفوس الكثيرين منهم، ما ظهر منهم في يوم السقيفة من روح القبلية، و نزعة التعصّب، و تبودل بينهم من الشتم و الضرب، و إليك نقل القصة عن لسان عمر، قال: «فقال ممثل الأنصار (سعد بن عبادة):

أما بعد فنحن أنصار اللّه، و كتيبة الإسلام، و أنتم يا معشر المهاجرين، رهط منا، و قد دفت دافة من قومكم (أي جاء جماعة ببطء) و إذا هم يريدون أن يختارونا (يدفعونا) من أصلنا، و يغصبونا الأمر.

فقال أبو بكر(2): أمّا ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أصل و لن تعرف العرب هذا الأمر، إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا و دارا.

ثم قال قائل من الأنصار: «أنا جذيلها المحكّك، و عذيقها المرجّب، منّا أمير و منكم أمير، يا معشر قريش». قال عمر: فكثر اللغط و ارتفعت الأصوات، حتى تخوفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار و نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم:

قتلتم سعد بن عبادة، قال: فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة»(3).

و لم يقتصر اختلاف الأمّة على ما جرى في السقيفة، بل جرت بين الأنصار و المهاجرين مشاجرات كلامية و شعرية و هجائية، هاجم كلّ الفريق الآخر، بأنواع الهجاء، نقلها المؤرخون و لا يعجبني نقل كلمهم(4).

ص: 51


1- صحيح البخاري، ج 5، ص 119، باب غزوة بني المصطلق.
2- لم يكن يوم السقيفة من المهاجرين إلاّ خمسة أشخاص، و لأجل ذلك لم نصف القائل بممثل المهاجرين.
3- السيرة النبوية، ج 2، ص 659-660. و إنّما بايعه الأوس من الأنصار، و أما الخزرجيون، فقد خرجوا غير مبايعين لأحد.
4- لاحظ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 6، ص 17-38 ط مصر.

و ما ذكرناه غيض من فيض ممّا جرى بين الصحابة من المنازعات و الخلافات الناشئة من روح القبلية، و التعصّب العشائري.

أ فهل يجوز في منطق العقل ترك هذا المجتمع، الغارق في نزاعاته العصبية، دون نصب قائد، يكون نصبه قاطعا لدابر الاختلاف، و مانعا من مأساة التمزّق و التفرق؟ فاقض ما أنت قاض.

و هاهنا محاسبة ثالثة لا تقلّ عن العاملين السابقين في استلزامها كون المصلحة تقتضي نصب القائد، لا تفويض الأمر إلى المسلمين أنفسهم، و هي ما يلي:

الثالث - الصحابة و مدى الوعي الديني

إنّ الأمّة الإسلامية - كما يدلّ عليه التاريخ - لم تبلغ في القدرة على تدبير أمورها. و إدارة شئونها حدّ الاكتفاء الذاتي الذي لا تحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب اللّه سبحانه. و قد كان عدم بلوغهم هذا الحدّ أمرا طبيعيا لأنّه من غير الممكن تربية أمّة كانت متوغلة في العادات الوحشية، و العلاقات الجاهلية، و النهوض بها إلى حدّ تصير أمّة كاملة تدفع عن نفسها تلك الرواسب، و تستغني عن نصب القائد المحنّك، و الرئيس المدبّر، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في هذا المجال.

إنّ إعداد مثل هذه الجماعة، و مثل هذه الأمّة، لا تتم في العادة إلاّ بعد انقضاء جيل أو جيلين، و بعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلامية إلى أعماق تلك الأمّة، بحيث تختلط مفاهيم الدين بدمها و عروقها، و تتمكن منها العقيدة إلى درجة تحفظها من التذبذب و التراجع إلى الوراء.

و يكفيك شاهدا على هذا، معركة أحد، فقد هرب المسلمون - إلاّ قليل - من ساحة المعركة عند ما أذيع نبأ قتل النبي من جانب الأعداء، و لاذ بعضهم بالجبل، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين، حتى أتاهم أحد المقاتلين و وبّخهم على فرارهم و تخاذلهم و ترددهم قائلا: «إن كان محمد قد مات، فربّ

ص: 52

محمد حي، قوموا و دافعوا عن دينه»(1) و في هذا نزل قوله سبحانه: وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ، أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ (2).

و يقول سبحانه في شأن من ذهبوا يفتشون عن ملجأ لهم فرارا من الموت:

وَ طٰائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَظُنُّونَ بِاللّٰهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجٰاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ:

هَلْ لَنٰا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ (3) .

و لم تكن واقعة أحد وحيدة في نسجها، بل كانت غزوة حنين على منوالها في التقهقر و الفرار عن ساحة الحرب، يقول ابن هشام عن جابر:

استقبلنا وادي حنين، و انحدرنا في واد من أودية تهامة، و كان العدو قد سبقونا إلى الوادي و كمنوا لنا في شعابه و احنائه، و مضائقه، و قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد، و انهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد. و انحاز رسول اللّه ذات اليمين و هو يقول: أين، أيها الناس؟ هلموا إليّ، أنا رسول اللّه. فانطلق الناس، إلاّ أنّه بقي مع رسول اللّه نفر من المهاجرين و الأنصار، فلما انهزم الناس و رأى من كان مع رسول اللّه من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: «لا تنتهي هزيمتهم دون البحر»، و إنّ الأزلام لمعه في كنانته. و صرخ جبلة بن الحنبل: «ألا لبطل السّحر»(4).

و غير ذلك من الأحداث و الوقائع التي كشفت عن عدم تغلغل الإيمان و العقيدة في قلوب الأكثرية منهم.

نعم كان بينهم رجال صالحون، يضحون في سبيل العقيدة، بأنفس النفائس، و أثمن الأموال، غير أنّ البحث مركز على دراسة وضع المجتمع

ص: 53


1- سيرة ابن هشام: ج 2، ص 83.
2- سورة آل عمران: الآية 144.
3- سورة آل عمران: الآية 154.
4- سيرة ابن هشام: ج 2، ص 448.

الإسلامي ككل، لا من حيث اشتماله على أفراد لا يدرك شأوهم في الفضيلة و الصلاح.

و لعلّ الباحث يتخيل أنّهم انقلبوا بعد رحلة الرسول إلى مجتمع ديني لا يتخطون سبيل الدين قيد أنملة، و لكن ما ورد في الصحاح و المسانيد من ارتداد أمّة كبيرة من الصحابة، يؤيّد ما ذكرناه من عدم رسوخ العقيدة و الإيمان في قلوبهم، و لا مجال لذكر جميع الروايات، إنّما نكتفي بواحدة منها و نحيل البقية إلى الباحث الكريم:

روى البخاري في تفسير قوله سبحانه: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ (1) قال: خطب رسول اللّه فقال: ألا و إنّه يجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ فيقال إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ما فارقتهم(2).

إنّ دراسة هذه الأمور الثلاثة، يرشدنا إلى أنّ القائد الحكيم، الذي مرّت عليه هذه الأوضاع و الأحوال و عاينها عن كثب، عليه أن يستخلف قائدا للأمّة لما في هذا التنصيب من مصلحة، و قطع لدابر الاختلاف، و جمع لشمل الأمّة.

و هذا بخلاف ما لو ترك الأمر إلى المسلمين أنفسهم، ففيه من الأخطار ما صوّرناه.

إنّ القائد الحكيم هو من يعتني بالأوضاع الاجتماعية لأمّته، و يلاحظ

ص: 54


1- سورة المائدة: الآية 117.
2- صحيح البخاري، ج 3، ص 85. و صحيح مسلم، كتاب الجنة و نعيمها، و مسند الإمام أحمد، ج 1، ص 235. إنّ الروايات الدالّة على ارتداد الصحابة بعد رحلة النبي الأكرم، كثيرة جدا، لا يمكن حملها على نفر أو اثنين منهم، بل لا يصحّ في تفسيرها إلاّ حملها على أمة كبيرة منهم، فلاحظ ما ورد في هذا المجال: جامع الأصول لابن الأثير، ج 11، كتاب الحوض، الفرع الثاني في ورود الناس عليه، الأحاديث 7969-7980.

الظروف المحيطة بها، و يرسم على ضوئها ما يراه صالحا لمستقبلها، و قد عرفت أنّ مقتضى هذه الظروف هو تعيين القائد و المدبّر، لا دفع الأمر إلى الأمّة.

و إلى ما ذكرنا ينظر قول حكيم الإسلام الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا في حقّ الإمام:

«و الاستخلاف بالنصّ أصوب، فإن ذلك لا يؤدّي إلى التشعب و التشاغب و الاختلاف»(1).

و حصيلة الكلام أنّ النظر إلى لزوم ملئ الفراغات الهائلة التي تخلفها رحلة النبي الأكرم و محاسبة مصالح الأمّة آنذاك، لا يدع شكّا في أنّ صيغة الحكومة بعد النبي، إنّما هي صيغة التنصيب، لا ترك الأمر إلى الأمّة و اختيار الإمام بطريق من الطرق التي سنشير إليها.

هذا، مع قطع النظر عن النصوص التي تعيّن النظرية الأولى بوضوح، و أنّه صلى اللّه عليه و آله، قد قام بنصب الوصيّ خضوعا لأمر اللّه أوّلا، و رعاية للمصالح التشريعية ثانيا، و اهتماما بمصالح الإسلام و المسلمين ثالثا، فإلى الملتقى في مورد هذه النصوص.

ص: 55


1- الشفاء، الفن الثالث عشر في الإلهيات، المقالة العاشرة، الفصل الخامس، ص 564.

الأمر الثامن هل الشورى أساس الحكم و الخلافة؟

اشارة

قد تعرفت على الكلمات السابقة التي تعرب عمّا تنعقد به الإمامة عند أهل السنّة، كما تعرفت على كيفية خلافة الخلفاء، و أنّ الأول منهم فاز بخمسة أصوات(1)، و أنّ الثاني أخذ بزمام الحكم بتعيين الخليفة الأول، و أنّ الثالث استتب له الأمر بشورى سداسية عيّنها نفس الخليفة الثاني. هذا هو واقع الأمر، و لم يكن في انتخاب هؤلاء ما يقتضيه طبع التشاور من عرض الموضوع على أهل المشورة، و مناقشة الآراء، و انتخاب واحد في ضوء الموازين العقلية و الاجتماعية و الشرعية. و أحسن كلمة تعبّر عن حقيقة هذا النوع من الانتخاب ما ذكره الخليفة الثاني بقوله: «إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة و تمّت، ألا و إنّها قد كانت كذلك و لكن اللّه وقى شرّها، و ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو، و لا الذي بايعه، تغرّة أن يقتلا»(2).

و قد حاول المتجددون من متكلمي أهل السنّة، صبّ صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي، بملاحظة أنّه لم يكن

ص: 56


1- لاحظ ما نقلناه من كلام الماوردي.
2- صحيح البخاري، ج 8، رجم الحبلى من الزنا إذا احصنت، ص 168، و طالع بقية كلامه. و لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 123. و ج 2، ص 19.

من الممكن بعد وفاة النبي مراجعة كل الأفكار و استعلام جميع الآراء في الوطن الإسلامي، لقلّة وسائل المواصلات، و فقدان سبل الاتصال المتعارفة اليوم.

و لذلك يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب: إنّ الذين بايعوا أوّل خليفة للمسلمين لم يتجاوزوا أهل المدينة، و ربما كان بعض أهل مكة، و أمّا المسلمون - جميعا - في الجزيرة العربية، فلم يشاركوا هذه البيعة، و لم يشهدوها، و لم يروا رأيهم، و إنّما ورد عليهم الخبر بموت النبي مع الخبر باستخلاف أبي بكر(1).

ثم إنّ من مظاهر الاختلاف الواقع في مسألة الشورى، أنّ القائلين بها اختلفوا على قولين: فمنهم من قال بأنّ انتخاب أهل الشورى ملزم للأمّة، و هو خبرة الأكثرية، و منهم من قال إنّه لا يزيد عن ترشيح له لمنصب الأمّة، و للأمّة اختياره أو رفضه(2).

و على كل تقدير، فما دليل هذه النظرية، أي كون الشورى أساس الحكم، سواء في الفترة التي تلت رحلة النبي أو في زماننا الحاضر.

استدلوا بآيتين:
الآية الأولى:

قوله سبحانه: وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ (3) فاللّه سبحانه يأمر نبيّه بالمشاورة، تعليما للأمّة، حتى يتشاوروا في مهام الأمور، و منها الخلافة.

يلاحظ عليه: أوّلا - إنّ الخطاب في الآية متوجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته، فيأمره سبحانه أن ينتفع من آراء رعيّته، فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية، هو أنّ من وظائف كلّ الحكام التشاور مع الأمّة، و أمّا أنّ الخلافة بنفس الشورى، فلا يمكن الاستدلال عليه بهذه الآية.

و الآية نظير قول علي عليه السلام: «من استبدّ برأيه هلك، و من

ص: 57


1- الإمامة و الخلافة، ص 241.
2- الشخصية الدولية، لمحمد كامل ياقوت، ص 463.
3- سورة آل عمران: الآية 159.

شاور الرجال في أمورها، شاركها في عقولها»(1).

و ثانيا - إنّ المتبادر من الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكما للحاكم، و لا يلزمه بشيء، بل هو يقلب وجوه الرأي و يستعرض الأفكار المختلفة، ثم يأخذ بما هو المفيد في نظره، و ذلك لقوله سبحانه في نفس الآية: فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ ، المعرب عن أنّ العزم و التصميم و الاستنتاج من الآراء و الأخذ بما هو الأصلح راجع إلى نفس المشير، و هذا يتحقق في ظرف يكون هناك مسئول تام الاختيار في استحصال الأفكار و العمل بالنافع منها، حتى يخاطب بقوله: فَإِذٰا عَزَمْتَ ، و أمّا إذا لم يكن ثمة رئيس، فلا تنطبق عليه الآية، إذ ليس في انتخاب الخليفة بين المشيرين من يقوم بدعوة الأفراد للمشورة، لغاية استعراض آرائهم، ثم تمحيص أفكارهم، و الأخذ بالنافع منها، ثم العزم القاطع عليه.

و كل ذلك يعرب عن أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الحكومة و ما شابهها.

و لأجل ذلك لم نر أحدا من الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.

الآية الثانية:

قوله سبحانه: وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ (2).

ببيان أنّ المصدر (أمر) أضيف إلى الضمير (هم)، و هو يفيد العموم و الشمول لكل أمر، و منه الخلافة، فيعود معنى الآية أنّ شأن المؤمنين في كل مورد، شورى بينهم.

يلاحظ عليه: إنّ الآية تأمر بالمشورة في الأمور المضافة إلى المؤمنين، و أمّا أنّ تعيين الخليفة من الأمور المضافة إليهم، فهو أول الكلام، و التمسك بالآية في هذا المجال، تمسّك بالحكم في إثبات موضوعه.

و بعبارة أخرى: إنّ الآية حثّت على الشورى فيما يمتّ إلى شئون المؤمنين بصلة، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم، أمّا كون تعيين الإمام داخلا في

ص: 58


1- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم 161.
2- سورة الشورى: الآية 38.

أمورهم، فهو أول الكلام، إذ لا ندري هل هو من شئونهم أو من شئون اللّه سبحانه، و لا ندري، هل هي إمرة و ولاية إلهية تتم بنصبه سبحانه و تعيينه، أو إمرة و ولاية شعبية، يجوز للناس التدخّل فيها. و مع هذا الترديد لا يصحّ التمسّك بالآية.

إجابة عن سؤال

لو لم تكن الشورى أساس الحكم، فلما ذا استدلّ الإمام علي عليه السلام، على المخالف، بمبدإ الشورى، و قال: - مخاطبا معاوية -: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليهم، فلم يكن للشاهد أن يختار، و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما، كان ذلك للّه رضى»(1).

و الجواب: إنّ ابن أبي الحديد المعتزلي هو أوّل من احتجّ بهذه الخطبة على أنّ صيغة الحكومة بعد وفاة النبي مستندة إلى الاختيار و نظام الشورى، و تبعه من تبعه، و لكنه غفل عن صدر الرسالة التي تعرب عن أنّ الاستدلال بالشورى من باب الجدل، خضوعا لقوله سبحانه: وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2)، فإنّ الإمام عليه السلام بدأ رسالته بقوله: «أمّا بعد، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام، لأنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر و عمر...»، ثم ختمها بقوله: «و إنّ طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، و كان نقضهما كردّهما، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق، و ظهر أمر اللّه و هم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون»(3).

فالابتداء بالكلام بخلافة الشيخين يعرب عن أنّه في مقام إسكات معاوية

ص: 59


1- نهج البلاغة: قسم الكتب، الرقم 6.
2- سورة النحل: الآية 125.
3- لاحظ وقعة صفين لنصر بن مزاحم (م 212)، ص 29، ط مصر. و قد حذف الرضي في نهج البلاغة من الرسالة ما لا يهمه، فإنّ عنايته كانت بالبلاغة فحسب.

الذي يعتبر البيعة وجها شرعيا للخلافة، و لو لا هذا لما كان وجه لذكر خلافة الشيخين، بل لاستدلّ بنفس الشورى.

و لأجل ذلك يتمّ كلامه بقوله: «فإن اجتمعوا على رجل..»، احتجاجا بمعتقد معاوية، عليه.

أسئلة حول مبدئية الشورى

من خلال التحليل المتقدم يمكن استخلاص أسئلة حول مبدئية الشورى للحكم، تزعزع كونها مبدأ له، و هي:

1 - لو كان أساس الحكم هو الشورى، لوجب على الرسول الأكرم التصريح به، أوّلا، و بيان حدوده و خصوصياته، ثانيا. بأن يبيّن من هم الذين يشتركون في الشورى، هل هم القراء وحدهم، أو السياسيون، أو القادة العسكريون، أو الجميع، و ما هي شرائط المنتخب، و أنّه لو حصل هناك اختلاف في الشورى، فما هو المرجّح، هل هو كمية الآراء و كثرتها، أو الرجحان بالكيفية، و خصوصيات المرشحين و ملكاتهم النفسية و المعنوية.

فهل يصحّ سكوت النبي عن الإجابة على هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر مسألة الشورى، و قد جعل الشورى طريقا إلى تعيين الحاكم؟!.

2 - إنّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى، بأهل الحلّ و العقد، و لا يفسّرونه بما يرفع إجماله، فمن هم أهل الحلّ و العقد؟ و ما ذا يحلّون و ما ذا يعقدون؟ أهم أصحاب الفقه و الرأي الذين يرجع إليهم الناس في أحكام دينهم؟ و هل يشترط حينئذ درجة معينة من الفقه و العلم؟ و ما هي تلك الدرجة؟ و بأي ميزان توزن؟ و من إليه يرجع الأمر في تقديرها؟ أم غيرهم؟. فمن هم؟.

و ربما تجد من يبدل كلمة أهل الحلّ و العقد، ب «الأفراد المسئولين»، و ما هو إلاّ وضع كلمة مجملة مكان كلمة مثلها.

3 - و على فرض كون الشورى أساس الحكم، فهل يكون انتخاب أعضاء

ص: 60

الشورى ملزما للأمّة، ليس لهم التخلّف عنه؟ أو يكون بمنزلة الترشيح، حتى تعطي الأمّة رأيها فيه؟ و ما هو دليل كل منهما؟.

هذه الأسئلة كلّها، لا تجد لها جوابا في الكتاب و السنّة و لا في كتب المتكلمين، و لو كانت مبدأ للحكم لما كان السكوت عنها سائغا، بل لكان على عاتق التشريع الإسلامي الإجابة عليها، و إضاءة طرقها(1).

ص: 61


1- يقول طه حسين: «و لو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب (نظام الشورى) لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك و ما يدعون، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف» (الخلافة و الإمامة: ص 271). و يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب: «ينظر البعض إليه على أنّ تعيين الإمام بالشورى نواة صالحة لأول تجربة، و أنّ الأيام كفيلة بأن تنميها، و تستكمل ما يبدو فيها من نقص، فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث. و ينظر بعض آخر إلى هذا الأسلوب بأنّه أسلوب بدائي عالج أهمّ مشكلة في الحياة، و قد كان لهذا الأسلوب أثره في تعطيل القوى المفكرة للبحث عن أسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الأمم». (الخلافة و الإمامة: ص 272). و معنى ما ذكره الخطيب، أنّ قضية الشورى كانت مجرد تجربة، و لم تكن قانونا إسلاميا أخذ به، و كانت في هذه القضية نقائص و عيوب، تركت آثارا سيئة على الفكر الإسلامي. و في المقام شبهة، يتشدق بها بعض المتعصبين، نذكرها و نجيب عليها في ملحق خاص آخر الكتاب، لاحظ الملحق رقم (1).

الأمر التاسع هل البيعة أساس الحكم؟

اشارة

البيعة مصدر بايع، لأنّ المبايع يجعل حياته و أمواله. بالبيعة، تحت اختيار من يبايعه، و يتعهد المبايع (بالفتح) في المقابل - على أن يسعى في إصلاح حال المبايع (بالكسر) و تدبير شئونه بصورة صحيحة، و كأنّهما يقومان بعملية تجارية، إذ يتعهد كل واحد منهما تجاه الآخر بعمل شيء للآخر، قال ابن خلدون: «إنّ البيعة هي العهد على الطاعة، كأنّ البائع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أموره و أمور المسلمين، و يطيعه فيما يكلفه، و كانوا إذا بايعوا الأمير، جعلوا أيديهم في يده تأكيدا، فأشبه ذلك فعل البائع و المشتري.

البيعة قبل الإسلام و بعده

كانت البيعة من تقاليد العرب قبل الإسلام و سننهم، و ليس من مبتكراته، بل أمضاها و جعلها من العقود اللازمة التي يجب العمل بها، و يحرم نقضها.

فقد بايع أهل المدينة النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله في السنة الحادية عشر، و الثانية عشر من البعثة، في العقبة، بمنى(1)، بايعوه على عادتهم قبل الإسلام، حيث كانوا يبايعون زعماءهم.

ص: 62


1- لاحظ سيرة ابن هشام، ج 1، ص 431 و 438.

و أمّا بعد الهجرة، فمرّة بايعه الصحابة في غزوة الحديبية، و سميت بيعة الرضوان، لقوله سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (1).

و أخرى بايعته الصحابيات في مكة المكرمة بعد فتحها، و عنه يحكي قوله سبحانه: إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ يُبٰايِعْنَكَ عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً وَ لاٰ يَسْرِقْنَ وَ لاٰ يَزْنِينَ... (2).

إذا عرفت ذلك فلنعطف نظر الباحث إلى نكات:

الأولى - إنّ بيعة المسلمين للنبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلّم، لم تعن الاعتراف بزعامة الرسول و رئاسته، فضلا عن نصبه و تعيينه، بل إنّ المبايعين، بعد أن آمنوا بنبوة النبي و اعترفوا بقيادته و زعامته، أرادوا أن يصبّوا ما يلازم ذلك الإيمان، من الالتزام بأوامر الرسول، في قالب البيعة، فكانت البيعة صورة عملية للالتزام النفسي بأوامر النبي، بعد الإقرار بنبوته، و زعامته. فكأنّ النبي الأكرم يقول: «فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني، و تصلّوا و تزكّوا، و أن تدفعوا عني العدو حتى الموت، و لا تفروا من الحرب».

و الهدف عندئذ من البيعة لم يكن هو الاعتراف بمنصب المبايع، و انتخابه و تعيينه لمقام الحكومة و الولاية، بل كانت لأجل التأكيد العملي على الالتزام بلوازم الإيمان السابق عليه، و هذا بارز في البيعة الثانية للأنصار في منى، و بيعة الصحابة في غزوة الحديبية.

الثانية - إنّ البيعة ميثاق بين شخصين، تندرج تحت قوله سبحانه:

وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً (3) .

و عقد بين المبايعين، فتندرج تحت قوله سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا

ص: 63


1- سورة الفتح: الآية 18.
2- سورة الممتحنة: الآية 12.
3- سورة الإسراء: الآية 34.

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) .

يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، من الحث على البيعة: «و أمّا حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد، و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم، و الطاعة حين آمركم»(2).

الثالثة - إنّه ليس هناك دليل شرعي على أنّ مجرّد البيعة، بغضّ النظر عن المواصفات و الضوابط الآتية، طريق إلى تعيين الخليفة و الإمام، و إنّما يتعيّن بها، إذا كان المبايع، واجدا للصفات اللازمة في الإمام.

الرابعة - الظاهر أنّ البيعة ليست طريقا لتعيين الحاكم و انتخاب القائد، و إنّما يتعين الحاكم بالمقاولة و تصويت الجماعة الحاضرين، ثم يصبّ ذلك الانتخاب في قالب الحسّ بالبيعة و الصفق، و كأنّ البيعة تأكيد لما التزموا، و تجسيد لما أضمروه أو تقاولوه. و على فرض كونها طريقا لتعيين الحاكم، فهي إحدى الطرق لا الطريق الوحيد، فلو علم رضا الأمّة بحكومة فرد و زعامة شخص عن غير طريق البيعة، و أبرزت رضاها بطريق من الطرق، لكفى ذلك في كونه قائدا لازم الطاعة، لأنّه أشبه بالعقد و العهد.

الخامسة - إنّ التصويت الشعبي أو بيعة الجماعة الحاضرين إنّما يعدّ طريقا لتعيين الحاكم إذا لم يكن هناك نصّ من الرسول على تنصيب شخص للزعامة، و إلاّ تكون البيعة رفضا للنصّ، و اجتهادا في مقابلة.

السادسة - إنّ البيعة الكاملة من الصحابة الحاضرين في المدينة، لم تتحقق في واحد من الخلفاء الأربعة، إلاّ في علي، فقد بايعه المهاجرون و الأنصار، إلاّ نفر قليل لا يتجاوز خمسة أشخاص، هم سعد بن أبي وقاص، و عبد اللّه بن عمر، و حسّان بن ثابت، و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة، و الباقون أصفقوا

ص: 64


1- سورة المائدة: الآية الأولى.
2- نهج البلاغة، الخطبة 34.

على يده بالبيعة و الطاعة، و إن نكث من نكث، و نقض من نقض، فيما بعد، و شقّ عصا الأمّة.

هذا و إنّ البيعة تحتاج إلى دراسة مبسوطة، موضوعا و حكما في ضوء الكتاب و السنّة، و منهج الكتاب لا يقتضي التوسّع أزيد ممّا ذكرنا(1).

ص: 65


1- لاحظ للتبسط: بحار الأنوار، ج 2، كتاب العلم، الباب 33. و أيضا: ج 27، كتاب الإمامة، الباب 3.

الأمر العاشر تصوّر النبي الأكرم للقيادة بعده

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم، تدلّ على أنّه صلى اللّه عليه و آله كان يعتبر أمر القيادة بعده، مسألة إلهية، و حقا خاصّا للّه جلّ جلاله، فاللّه سبحانه هو الذي له أن يعين القائد، و ينصب خليفة الرسول، و لا نجد في كل ما نقل عن النبي ما يدلّ على إرجاء الأمر إلى تشاور الأمّة، أو اختيار أهل الحلّ و العقد، أو بيعة الصحابة الحاضرين، أو غير ذلك، و يكفي في ذلك الشاهدين التاليين:

1 - لما دعا الرسول الأكرم بني عامر إلى الإسلام و قد جاءوا في موسم الحج إلى مكة، قال رئيسهم: «أ رأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك اللّه على من خالفك، أ يكون لنا الأمر من بعدك»؟.

فقال النبي صلى اللّه عليه و آله: «الأمر إلى اللّه، يضعه حيث يشاء»(1).

فلو كان أمر الخلافة بيد الأمّة، لكان على النبي صلى اللّه عليه و آله أن يقول: الأمر إلى الأمّة، أو إلى أهل الحلّ و العقد، أو ما يشابه ذلك. فتفويض الأمر إلى اللّه سبحانه، ظاهر في كونها كالنبوة، يضعها سبحانه حيث يشاء، قال تعالى: اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ (2). فاللّسان في الموردين واحد.

ص: 66


1- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 2، ص 424.
2- سورة الأنعام: الآية 124.

2 - بعث النبي الأكرم (صلى اللّه عليه و آله و سلّم) سليط بن عمرو العامري، إلى ملك اليمامة، «هوزة بن علي الحنفي»، الذي كان نصرانيا، يدعوه إلى الإسلام، و كتب معه كتابا، فقدم على ملك اليمامة، فأنزله و حباه، و كتب إلى النبي، يقول: «ما أحسن ما تدعوا إليه، و أجمله، و أنا شاعر قومي و خطيبهم، و العرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر، أتّبعك». فقدم سليط على النبي بكتابه، فلما قرأ عليه قال صلى اللّه عليه و آله: «لو سألني سيابة من الأرض ما فعلته. باد، و باد ما في يده»(1). و في نقل آخر: «أرسل هوزة إلى النبي وفدا يقول له، إن جعل له الأمر من بعده، أسلم، و صار إليه، و نصره، و إلاّ قصد حربه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «لا، و لا كرامة، اللهم اكفنيه»(2).

فلو كانت القيادة بعد النبي، قيادة دستورية انتخابية، و كان للشعب الإسلامي منه حظ، لكان على النبي إجابة السائل بشكل آخر، و هو أنّ الأمر من بعدي، يرجع إلى أمّتي، و المؤمنين بي، و لكنك ترى أنّه وقف في وجهه بقسوة و شدّة كما هو ظاهر.

ص: 67


1- الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج 1، ص 262.
2- الكامل في التاريخ، لابن الأثير، ص 146.

الأمر الحادي عشر تصوّر الصحابة للخلافة بعد النبي

إنّ المتتبع في تاريخ الخلفاء الذين تعاقبوا على مسند الحكومة، يرى بوضوح أنّهم كانوا يتّبعون الطريقة الانتصابية لا الانتخابية، بالتشاور أو البيعة، أو غير ذلك من المفاهيم التي حدثت في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين، و إليك الشواهد.

1 - إنّ خلافة عمر تمّت بتعيين من أبي بكر، و ليس هذا خافيا على أحد.

روى ابن قتيبة الدينوري، أنّ أبا بكر دعا عثمان بن عفان، فقال: أكتب عهدي، فكتب عثمان:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا، نازحا عنها... إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم، ظنّي به و رجائي فيه، و إن بدّل و غيّر، فالخير أردت..» ثم ختم الكتاب و دفعه، و دخل عليه المهاجرون و الأنصار حين بلغهم أنّه استخلف عمر(1).

ص: 68


1- الإمامة و السياسة، ج 1، ص 18. و رواه ابن سعد في طبقاته الكبرى، ج 3، ص 200، و ابن الأثير في تاريخه «الكامل»، ج 2، ص 292 باختلاف يسير و قد نقل موضوع استخلاف أبي بكر لعمر، عدّة من أعلام التاريخ و الحديث، و الكل يتحد جوهرا، و أنّ التنصيب صدر من الخليفة الأول.

2 - إنّ استخلاف عثمان تمّ عن طريق شورى عين أعضاءها عمر بن الخطاب، يقول التاريخ: دعا عمر عليّا، و عثمان و سعدا، و عبد الرحمن، و الزبير، و طلحة، فقال: «إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، و اختاروا منكم رجلا، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيام، و ليصلب الناس صهيبا، و لا يأتي اليوم الرابع إلاّ و عليكم أمير»(1).

فلو كانت صيغة الحكومة هي انتخاب القائد عن طريق المشورة باجتماع الأمّة، أو بالبيعة، فما معنى انتخاب الخليفتين بهذين الطريقين؟.

3 - لما اغتيل عمر بن الخطاب. و أحسّ بالموت، أرسل ابنه عبد اللّه إلى عائشة، و استأذن منها أن يدفن في بيتها مع رسول اللّه و مع أبي بكر، فأتاها عبد اللّه، فأعلمها، فقالت: نعم، و كرامة. ثم قالت: يا بني، أبلغ عمر سلامي و قل له، لا تدع أمّة محمد بلا راع، استخلف عليهم، و لا تدعهم بعدك هملا، فإنّي أخشى عليهم الفتنة، فأتاه، فأعلمه»(2).

4 - إنّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته، فقال: «إنّي سمعت الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك، و زعموا أنّك غير مستخلف، و أنّه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك و تركها، لرأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشد»(3).

5 - قدم معاوية المدينة لأخذ البيعة من أهلها لابنه يزيد، فاجتمع مع عدّة من الصحابة، و أرسل إلى عبد اللّه بن عمر، فأتاه، و خلا به، و كلّمه بكلام، و قال: إنّي كرهت أن أدع أمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها»(4).

هذه النصوص التي حفظها التاريخ، صدفة - و كم لها من نظائر - تدلّ على أنّ انتخاب الخليفة عن طريق أهل الحلّ و العقد، و الأنصار و المهاجرين، و أخيرا

ص: 69


1- الكامل لابن الأثير، ج 3، ص 35، أنظر باقي الواقعة.
2- الإمامة و السياسة، ج 1، ص 32.
3- حلية الأولياء، ج 1، ص 44.
4- الإمامة و السياسة، ج 1، ص 168.

الاستفتاء الشعبي، لم يكن له أصل في منطق الصحابة، و إنّما اخترعت هذه الألفاظ في فترة خاصة، في مقابل خلافة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام.

ثم إنّ هاهنا أمرا بديعا يجب إلفات نظر الباحث إليه و هو إنّه إذا كان ترك الأمّة بلا راع، أمرا غير صحيح في منطق العقل، أو كان ترك تعيين القائد كترك الضأن بلا راع لها، فكيف يجوز لهؤلاء أن ينسبوا إلى النبي أنّه ترك الأمّة بلا راع، و ودعهم بعده هملا، يخشى عليهم الفتنة. فكأنّ هؤلاء كانوا أعطف على الأمّة من النبي الأكرم، و أحنّ على مصالحها منه؟ إنّ هذا ممّا يقضي منه العجب.

غير أنّ كلّ من كتب في الإمامة، و واجه هذا التاريخ المسلّم، حاول تصحيح هذه التنصيبات بأنّ تعيين القائد السابق، الإمام اللاحق، أحد طرق انعقاد الإمامة، و لكن هؤلاء قد جمعوا بين المختلفين، فتارة يعترفون بالتنصيب، و أخرى بالانتخاب، و بعبارة أخرى: يعترفون بكفاية رأي واحد من الأمّة تارة، و يشترطون تصويت الشعب، أو الصحابة، ثانيا.

ص: 70

الأمر الثاني عشر صيغة القيادة في الشرائع السابقة

اشارة

المتبع بين الأنبياء السالفين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم، إلى خلفاء صالحين لائقين، ليتسنى لتلك الأمم في ظل الرعاية و التربية الصحيحة، التي يتولاها الأوصياء، أن يستمروا في طريق التكامل و الرشد.

نعم، كان كثير من الأوصياء أنبياء، و لكن بعضا منهم كانوا أوصياء خاصين، و هذا يعرب عن أنّ مسألة القيادة و الزعامة كانت من الأهمية و الخطورة، إلى حدّ لم يترك أمرها إلى اختيار الناس و نظرهم، بل كانت تعهد على مدى التاريخ إلى رجال أكفاء، يعيّنون بالاسم و الشخص، لأنّ تركه يؤدّي إلى الاختلاف و الفرقة و الفتنة، و كانت القيادة يتوارثها، في الغالب أفراد من سلالة الأنبياء و الرسل، خلفا عن سلف، و إليك بعض الآيات المشعرة بذلك.

قال سبحانه مخاطبا إبراهيم عليه السلام: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً، قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ (1) و ليس المراد من الإمامة هنا النبوة، كما زعمه بعض المفسّرين، لأنّه إنّما جعله إماما بعد ما كان نبيّا و رسولا، بشهادة أنّه يطلب هذا المقام لذرّيته، و إنّما صار ذا ذرّية، بعد ما كبر و هرم، قال:

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ (2) . و قد كان نبيّا قبل

ص: 71


1- سورة البقرة: الآية 124.
2- سورة إبراهيم: الآية 39.

أن يرزق ولدا، بشهادة نزول الملائكة عليه(1). بل المراد هو الإمامة المتمثلة في الحاكمية و القيادة، فدعا إبراهيم أن يجعل اللّه تعالى هذا المقام في ذرّيته، على النحو الذي جعله فيه (بالتنصيب)، و لم يردّه سبحانه، و ما أنكره عليه، بل أخبره بأنها لا تنال الظالمين منهم.

قال سبحانه - حاكيا عن موسى عليه السلام -: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هٰارُونَ أَخِي (2). فطلب موسى عليه السلام أن يكون أخاه هارون مساعدا و معينا له في القيادة، فقبله سبحانه، و أعطاه مضافا إلى الوزارة، النبوة. و يؤيّد ذلك تاريخ الأنبياء، فقد كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية، و قد ذكر المؤرخون قائمة أوصيائهم، فراجع(3).

هذه هي الطريقة المألوفة في الشرائع السابقة، و لا دليل على الانحراف عنها، و لا صارف عن الأخذ بها، بل نجد في السنّة ما يدلّ على أنّ كل ما جرى على الأمم السابقة، يجري على هذه الأمّة إلاّ ما استثني(4).

و يدلّ على ذلك بصراحة لا تقبل جدلا، ما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، و إنّه لا نبي بعدي، و سيكون بعدي خلفاء يكثرون»(5).

و ظاهر الحديث أنّ استخلاف الخلفاء في الأمّة الإسلامية، كاستخلاف

ص: 72


1- لاحظ سورة الحجر: الآيات 51-60.
2- سورة طه: الآيتان 29 و 30.
3- لاحظ إثبات الوصية، للمسعودي، مؤلّف مروج الذهب (م 345).
4- روى أحمد في مسنده، ج 3، ص 84، عن أبي سعيد الخدري، أنّ رسول اللّه (ص) قال: «لتتّبعنّ سنن الذين من قبلكم، شبرا بشبر، و ذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم». و رواه غيره من أصحاب الصحاح و السنن.
5- جامع الأصول لابن أثير الجزري، الفصل الثاني، فيمن تصح إمامته و إمارته، ص 443، أخرجه البخاري و مسلم.

الأنبياء في الأمم السالفة، و من المعلوم أنّ الاستخلاف كان هناك بالتنصيص، فيجب أن يكون هنا بالتنصيص كذلك.

إذا تعرفت على هذه الأمور الاثني عشر، فاعلم أنّ هذه المقدمات تعرب عن كون صيغة الحكومة بعد النبي هي صيغة التنصيص، و التنصيب، لا غير، لا بالطرق التي تقدمت عند البحث عمّا تنعقد به الإمامة عند أهل السنّة، و إليك البيان:

1 - قد عرفت أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة في الأمّة، لا مناص عن سدّها بواحد من أبناء الأمّة، و أنّ هذه الفراغات لا تسدّ بفرد عادي، له من المؤهلات و الكفاءات العلمية، ما لا يتجاوز عن حدود ما لغيره من أفراد الأمّة، بل يجب أن يكون له كفاءة و صلاحية توازن كفاءات النبي و مؤهلاته، و يكون مستودعا لعلوم النبي، واقعا تحت عناية اللّه تبارك و تعالى و كفالته.

و من المعلوم أنّ التعرّف على هذا الفرد ليس ميسّرا من طريق الانتخاب بالشورى أو بالبيعة، بل يعرف بتعيين من اللّه سبحانه عن طريق النبي الأكرم، نظير أوصياء سائر الأنبياء.

2 - كما عرفت أنّ الدولة الإسلامية الفتية كانت مهددة في أخريات أيام النبي، حال وفاته، بأعداء داخليين و خارجيين. أمّا الداخليون، فهم المنافقون الذين كانوا يتربصون بها الدوائر، و أمّا الخارجيون، فدولتا الروم و الفرس، فمقتضى المصلحة العامة في تلك الظروف الحرجة، تعيين الإمام و الخليفة بعده، لئلا تترك الدولة بعد وفاته عرضة للاختلاف، و بالتالي تمكّن أعدائها منها، خصوصا إذا لاحظنا أنّ حياة العرب حينذاك في عاصمة الإسلام و خارجها، كانت حياة قبلية، و التعصبات العشائرية لا تزال متغلغلة في نفوسهم، و ترك الأمر إلى مجتمع هذا حالة، يؤدّي إلى التشاغب و الاختلاف و بالتالي إلى القتل و الدمار.

أضف إلى ذلك أنّ الوعي الديني لم يكن راسخا في قلوب أكثر الصحابة، و إن كان القليل منهم قد بلغ القمة، و صاروا مثلا عليا للفضل و الفضيلة، و قد

ص: 73

عرفت دليل قلّة الوعي الديني، بفرارهم في بعض الغزوات.

3 - كما عرفت أنّه لو كان أساس الحكم على غير وجه التنصيب، لكان على النبي الأكرم بيان أسسه و أصوله و فروعه، و شرائط الإمام، و ما تنعقد به الإمامة، مع أنّ النبي سكت عن ذلك و لم ينبس منه بكلمة، فليس في الصحاح و المسانيد أحاديث أو حديث عن النبي حول أساس الحكم، أ فيصحّ لنا أن نتهم النبي بأنّه بلّغ أبسط الأمور و أيسرها، التي تقع في الدرجة الأخيرة من الأهمية في حياة الإنسان، و سكت عن عظائم الأمور و مهمّاتها التي تتوقف عليها حياة الأمّة.

كل ذلك يعرب عن أنّ سكوته لأجل أنّ أساس الحكم هو التنصيب، و نصب الإمام يغني عن البحث حول أساس الحكم و شروطه، لأنّ الإمام المنصوب يكون ميزانا للحق، و معيارا للتعرّف على أساس الحكم و شروطه؛ «و كلّ الصّيد في جوف الفراء»(1).

4 - كما عرفت أنّ تصوّر النبي للخلافة في عصره، هو إيكالها إلى اللّه سبحانه، و أنّه تعامل معها معاملة الرسالة، و أنّه عرّفها بنفس ما عرّف به اللّه سبحانه الرسالة، «يضعها حيث شاء».

5 - كما عرفت أنّ تصوّر الصحابة، و سيرتهم في الخلافة هي سيرة التنصيب، و قد كان ترك التنصيب، في نظرهم، إهمالا لأمر الأمّة، و تركا لها بلا راع فريسة للذئاب، و الأعداء، و بذلك استتبّ الأمر لعمر بيد أبي بكر، و لعثمان بيد عمر، و هكذا توالت السيرة في الأمويين من الخلفاء، و شذّت عنها خلافة علي حيث استتبت له ببيعة المهاجرين و الأنصار.

6 - كما عرفت أنّ صيغة القيادة في الشرائع السابقة كانت هي التنصيب، و كان الأوصياء ينصبون من طريق الأنبياء.

7 - كما أنّك عرفت أنّه لا دليل على كون أساس الحكم هو الشورى أو البيعة بألوانهما المختلفة.

ص: 74


1- مثل يضرب.

كل ذلك يعرب عن أنّ القائد الحكيم، بأمر من اللّه سبحانه، سلك مسلكا، و نهج منهجا، يطابق هذه الأصول و المقدمات، و ما خالفها قدر شعرة، و عيّن القائد بعده في حياته، و أعلنه للأمّة في موسم أو مواسم.

هذا ما يوصلنا إليه السبر و التقسيم و المحاسبة في الأمور الاجتماعية و السياسية، فيجب علينا عندئذ الرجوع إلى الكتاب و السنّة، لنقف و نتعرّف على ذلك القائد المنصوب، و نذعن - بالتالي - بأنّ عمل النبي كان موافقا لهذه الأصول العقلائية التي تقدمت، و هذا ما يوافيك في البحوث التالية.

ص: 75

البحث الأول: السنّة النبوية و تنصيب علي للإمامة
اشارة

إنّ من أحاط علما بسيرة النبي في تأسيس دولة الإسلام، و تشريع أحكامها و تمهيد قواعدها، يجد علي بن أبي طالب وزير رسول اللّه في أمره، و ظهيره على عدوه، و عيبة علمه، و وارث حكمه، و وليّ عهده، و صاحب الأمر من بعده.

و من وقف على أقوال النبي و أفعاله في حلّه و ترحاله، يجد نصوصه في ذلك متواترة متوالية، من مبدأ أمره إلى منتهى عمره، صلى اللّه عليه و آله، و إليك البيان.

أ - حديث بدء الدعوة
اشارة

أخرج الطبري و غيره، بسنده، عن علي بن أبي طالب، أنّه لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (1) دعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و قال لي: يا عليّ، إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، و عرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر، أرى منهم ما أكره، فصمّدت عليه حتى جاءني جبرئيل، فقال: يا محمد، إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به، يعذّبك ربّك، فاصنع (يا علي) لنا صاعا من طعام، و اجعل عليه رجل شاة، و املأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم و أبلّغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، و هم يومئذ أربعون

ص: 76


1- سورة الشعراء: الآية 214.

رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه... إلى أن قال: فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثم قال (النبي): أسقهم. فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعا، ثم تكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فقال: يا بني عبد المطلب، إنّي و اللّه ما أعلم شابا في العرب، جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا، و قلت: أنا يا نبي اللّه أكون و زيرك عليه فأخذ برقبتي، ثم قال: إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوه.

و في رواية أخرى قال ذلك القول ثلاث مرات، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول:

اجلس(1).

و دلالة الحديث على الخلافة لعلي و الوصاية له، لا تحتاج إلى بيان، و هذا إن

ص: 77


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص 63-64. و رجال السند كلّهم ثقات إلاّ أبو مريم عبد الغفار بن القاسم، فقد ضعّفه القوم، ليس ذلك إلاّ لتشيعه، فقد أثنى عليه ابن عقدة و أطراه، و بالغ في مدحه، كما في لسان الميزان، ج 4، ص 43 و أسند إليه. و أخرجه بهذا اللفظ أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي، في كتابه نقض العثمانية، على ما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 13، ص 244، و قال: «إنّه روي في الخبر الصحيح»، و ابن الأثير في الكامل، ج 2، ص 24، و أبو الفداء عماد الدين الدمشقي، في تاريخه: ج 3، ص 40. و الخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره، ص 390. و غيرهم من الحفّاظ و أساتذة الحديث و أئمة الأثر، و المراجع في الجرح و التعديل، و لم يقذف أحد منهم الحديث بضعف أو غمز لمكان أبي مريم في أسناده. على أنّه أخرجه الإمام أحمد في مسنده في غير مورد، فرواه في الجزء الأول، ص 159 عن عفان عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجز، و رجال السند كلّهم ثقات. كما أخرجه في الجزء الأول، ص 111، بسند رجاله كلّهم من رجال الصحاح بلا كلام، و هم شريك، و العمش، و المنهال، و عباد. و للحديث صور مختلفة رواها عدّة من الحفاظ، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المصادر التالية: الغدير، ج 2، ص 278-289. غاية المرام، للسيد البحراني، المقصد الثاني، الباب 15 و 16. و تعاليق إحقاق الحق، ج 4، ص 66-70. و المراجعات، المراجعة 20، و المراجعة 22، و قد تكلم في إسناد الحديث في المتن و تعاليقه بما لا يدع للمريب شكا.

دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ النبوة و الإمامة كانتا متعاقدتين بعقد واحد، تتجليان معا، و لا تتخلفان.

كتمان الحقائق

إنّ من العجب أنّ أناسا يدّعون أنّهم حفظة الحديث و عيبة آثار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، كتموا الحقائق و ارتكبوا جنايات في نقل الآثار، و إليك نبذة من هؤلاء.

1 - رأينا أنّ الطّبري في تاريخه، نقل قول النبي على الوجه التالي:

- «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي و وصي و خليفتي فيكم». كما نقل قوله الآخر:

- «إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوه».

و لكنه في تفسيره، لم يعجبه نقل الحقيقة، لمخالفتها لما يبطنه من العقيدة، فقال مكان الجملتين: «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي و كذا و كذا».

- «إنّ هذا أخي و كذا و كذا، فاسمعوا له و أطيعوه»(1).

2 - إنّ الحافظ أبا الفداء ابن كثير (م 774)، ذكر الحديث في تاريخه على النصّ الذي رواه الطبري في تفسيره، مع أنّه وضع تاريخه، على منوال تاريخ الطبري، و لكن لم يعجبه نقله من تاريخه، و اعتمد على التفسير الذي كنى عن نصّ رسول اللّه بالوصاية و الخلافة لعلي(2).

3 - إنّ محمد حسين هيكل، كتب ما هو خزاية فاضحة في مجال الحديث، فإنّه كتب الجملة الأولى أعني قول النبي الأكرم: «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر

ص: 78


1- تفسير الطبري، ج 19، ص 75.
2- البداية و النهاية، الجزء الثالث من المجلد الثاني، ص 40.

و أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم». و ترك من رأس الجملة الثانية التي قالها النبي لعلي.

و لكن هذا المقدار من الاعتراف بالحقيقة، لم يعجب القشريين من الأزهريين، فوقع موقع النقد منهم، و أسقط في الطبعة الثانية من الكتاب كلّ ما يرجع إلى عليّ عليه السلام، دفعا لأمواج اللوم و العتاب(1).

ب - حديث المنزلة

روى أهل السير و التاريخ أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، خلّف علي بن أبي طالب على أهله في المدينة، عند توجهه إلى تبوك، فأرجف به المنافقون، و قالوا: ما خلّفه إلاّ استثقالا له، و تخوّفا منه، فلما قال ذلك المنافقون، أخذ علي بن أبي طالب، سلام اللّه عليه، سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و هو نازل بالجرف(2)، فقال: يا نبيّ اللّه، زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني أنّك استثقلتني، و تخفّفت مني، فقال: كذبوا، و لكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك، أ فلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي؟.

فرجع علي إلى المدينة، و مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على سفره(3).

ص: 79


1- حياة محمد، الطبعة الثانية، سنة 1354، ص 139. و على هذه الطبعة جاءت الطبعات اللاحقة، و نسخت الطبعة الأولى و كأنّ الأستاذ لم يكتبها.
2- الجرف، بالضم ثم السكون، موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة.
3- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 2، ص 519-520، و قد نقله من أصحاب الصحاح: البخاري في غزوة تبوك، ج 6، ص 3، ط 1314. و مسلم في فضائل عليّ، ج 7، ص 120. و ابن ماجة في فضائل أصحاب النبي، ج 1، ص 55، ط المطبعة التازية بمصر. و الإمام أحمد في مسنده في غير مورد لاحظ ج 1، ص 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 185 و 330 و غيرهم من الأثبات الحفاظ، فلم يشك في صحة سند الحديث إلاّ الآمدي، و ليس هو من علم الحديث في حلّ و لا ترحال. (إذا ما فصّلت عليا قريش فلا في العير أنت و لا النفير)

و من عجيب القضايا ما رواه مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا، و قال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب، فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله)، فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقول له و قد خلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء و الصبيان. فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبوة بعدي.

و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله. قال: فتطاولنا لها، فقال: أدعو لي عليّا، فأتي به أرمد، فبصق في عينه، و دفع الراية إليه، ففتح اللّه عليه.

و لما نزلت هذه الآية: فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ ، دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا، فقال: «اللّهم هؤلاء أهلي»(1).

و أمّا دلالة الحديث على أنّ النبي أفاض على عليّ عليه السلام - بإذن من اللّه سبحانه - الخلافة و الوصاية، فيكفيك فيها أنّ كلمة «منزلة» اسم جنس أضيف إلى هارون، و هو يقتضي العموم، فيدلّ على أنّ كل مقام و منصب كان ثابتا لهارون فهو أيضا ثابت لعلي، إلاّ ما استثناه، و هو النبوّة.

على أنّ الاستثناء هو أيضا دليل العموم، و لولاه لما كان وجه للاستثناء.

و أمّا ما جاء في صدر الحديث من أنّه خلّفه على أهله، فلا يكون دليلا على الاختصاص، لبداهة أنّ المورد لا يكون مخصّصا، و هو أحد القواعد المسلّمة في

ص: 80


1- صحيح مسلم، ج 7، باب فضائل علي بن أبي طالب، ص 120-121.

علم الأصول، فلو رأيت أنّ الجنب يمسّ آية الكرسي، فقلت له، لا يمسّنّ آيات القرآن محدث، يكون دليلا على أنّ الجنب يحرم عليه مسّ القرآن على الإطلاق.

و أمّا منزلة هارون من موسى، فيكفي في بيانها قوله سبحانه - حكاية عن موسى -: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هٰارُونَ أَخِي * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1) فجاء الجواب:

قٰالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسىٰ (2) .

إنّ من تتبّع سيرة النبي يجده يصوّر عليّا و هارون كالفرقدين في السماء، و العينين في الوجه، لا يمتاز أحدهما في أمّته عن الآخر في أمته بشيء ما، و من ذلك:

أ - إنّ النبي سمّى أبناء علي كأسماء أبناء هارون، فسمّاهم حسنا و حسينا و محسنا، و قال: إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون: «شبّر، و شبير، و مشبر»(3).

ب - إنّ النبي اتّخذ عليّا أخاه، و آثره بذلك على من سواه، تحقيقا لعموم الشّبه بين منازل الهارونيّين من أخويهما، و حرصا على أن لا يكون ثمة من فارق بينهما. و قد آخى بين أصحابه، فجاء عليّ عليه السلام و قال: آخيت بين أصحابك، و لم تؤاخ بيني و بين أحد؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: أنت أخي في الدنيا و الآخرة(4).

ج - أمر بسد أبواب الصحابة من المسجد، تنزيها له عن الجنب و الجنابة، لكنه أبقى باب علي عليه السلام، و أباح له عن اللّه تعالى، أن يدخل المسجد جنبا، كما كان هذا مباحا لهارون، فدلّل ذلك على عموم المشابهة بين الهارونيّين

ص: 81


1- لاحظ سورة طه: الآيات 29-32 و قوله: وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي يدل على اشتراك هارون مع موسى في النبوة كما يدل عليه قوله تعالى: وَ وَهَبْنٰا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنٰا أَخٰاهُ هٰارُونَ نَبِيًّا (سورة مريم: الآية 53)، و لأجل ذلك استثناها النبي من منزلة هارون من موسى.
2- سورة طه: الآية 36.
3- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 165 و 168.
4- سنن الترمذي، ج 5، ص 636، الحديث 3720. و مستدرك الحاكم، ج 3، ص 14.

عليهما السلام، كما قال ابن عباس: «و سدّ رسول اللّه أبواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل المسجد جنبا، و هو طريقه ليس له طريق غيره»(1).

ج - حديث «الغدير»
اشارة

حديث الغدير، حديث الولاية الكبرى، حديث إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضى الرب تعالى. و هو حديث نزل به كتاب اللّه المبين، و تواترت به السنّة النبوية، و تواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة و التابعين إلى اليوم الحاضر، و قد صبّ شعراء الإسلام واقعة الغدير، في قوالب الشعر، و هو من أحسن ما أثار قرائحهم الشعرية و إليك فيما يلي حاصل تلك الواقعة، و خطبة النبي الأكرم فيها:

أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، الخروج إلى الحج في السنة العاشرة من الهجرة، و أذّن في الناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به حجته، تلك الحجة التي سميت بحجة الوداع، و حجة الإسلام، و حجة البلاغ، و حجة الكمال، و حجة التمام(2)، و لم يحج غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه اللّه سبحانه.

و اشترك معه جموع لا يعلم عددها إلاّ اللّه، و أقلّ ما قيل إنّه خرج معه تسعون ألفا، و أمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك، كالمقيمين بمكة، و الذين أتوا من اليمن. فلما قضى مناسكه و انصرف، راجعا إلى المدينة، و معه من كان من الجموع المذكورات، و وصل إلى غدير «خم» من الجحفة، التي تتشعب فيها

ص: 82


1- حديث «سدّ الأبواب كلّها إلاّ باب علي»، من الأحاديث المتضافرة المنقولة عن لفيف من الصحابة، منهم عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، لاحظ مسند أحمد، ج 2، ص 26. و منهم أبوه عمر بن الخطاب، لاحظ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 125. و من أراد التبسّط في أسانيده فعليه بالغدير، ج 3، ص 202-215. و المراجعات، المراجعة 34.
2- تسميتها بالبلاغ و بالتمام و الكمال، لنزول قوله سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. و قوله سبحانه: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً سورة المائدة: الآيتان 67 و 3 في ذلك الحج.

طرق المدنيين و المصريين و العراقيين، و ذلك يوم الخميس، الثامن عشر من ذي الحجة، نزل جبرئيل الأمين عن اللّه تعالى بقوله: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (1)، و كان أوائل القوم قريبين من الجحفة، فأمر رسول اللّه أن يرد من تقدم منهم، و يحبس من تأخّر عنهم، حتى إذا أخذ القوم منازلهم، نودي بالصلاة، صلاة الظهر، فصلّى بالناس، و كان يوما حارا، يضع الرجل بعض ردائه على رأسه و بعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء، فلما انصرف من صلاته، قام خطيبا وسط القوم على أقتاب الإبل، و أسمع الجميع رافعا عقيرته، فقال:

«الحمد للّه، و نستعينه، و نؤمن به، و نتوكل عليه، و نعوذ باللّه من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ و لا مضلّ لمن هدى، و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا عبده و رسوله، أمّا بعد:

أيّها الناس، إنّي أوشك أن ادعى فأجبت، و إنّي مسئول و أنتم مسئولون، فما ذا أنتم قائلون»؟.

قالوا: «نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت، و جهدت، فجزاك اللّه خيرا».

قال: «أ لستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا عبده و رسوله، و أنّ جنّته حقّ، و ناره حقّ، و أنّ الموت حق، و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور»؟.

قالوا: «بلى نشهد بذلك».

قال: «اللّهم اشهد». ثم قال: «أيّها الناس، ألا تسمعون؟».

قالوا: «نعم».

قال: فإنّي فرط على الحوض(2)، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى مناد: «و ما الثّقلان يا رسول اللّه؟».

ص: 83


1- سورة المائدة: الآية 67.
2- أي متقدّمكم إليه.

قال: «الثّقل الأكبر، كتاب اللّه، و الآخر الأصغر، عترتي، و إنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدّموهما فتهلكوا، و لا تقصروا عنهما فتهلكوا».

ثم أخذ بيد علي فرفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، و عرفه القوم أجمعون، فقال: «أيّها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا: «اللّه و رسوله أعلم».

قال: «إنّ اللّه مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم.

فمن كنت مولاه، فعليّ مولاه - يقولها ثلاث مرات - ثم قال: اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و أحبّ من أحبّه، و أبغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي اللّه بقوله:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي الآية، فقال رسول اللّه: «اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي، و الولاية لعلي من بعدي».

ثم أخذ الناس يهنئون عليّا، و ممّن هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر و عمر، كل يقول: بخ بخ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي، و مولى كل مؤمن و مؤمنة.

و قال حسان، ائذن لي يا رسول اللّه أن أقول في عليّ أبياتا، فقال: قل على بركة اللّه، فقام حسانا، فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ و اسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم و نبيّكم *** فقالوا و لم يبدوا هناك التّعاميا

إلهك مولانا و أنت نبيّنا *** و لم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني *** رضيتك من بعدي إماما و هاديا

ص: 84

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعى اللّهمّ وال وليّه *** و كن للذي عادى عليّا معاديا

فلمّا سمع النبي أبياته قال: «لا تزال يا حسّان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»(1).

هذا مجمل الحديث، في واقعة الغدير، و قد أصفقت الأمّة على نقله، فلا نجد حديثا يبلغ درجته في التواتر و التضافر، و لا في الاهتمام نظما و نثرا.

و الاحتجاج به على إمامة عليّ عليه السلام يتحقق ببيان الأمور التالية:
الأمر الأول: البلاغ الرسمي للولاية

إنّ النبي الأكرم أشاد بولاية علي و وصايته، في حديث يوم الدار، في مجتمع محدود، لا يربو عددهم الأربعين. كما أشاد بخلافته عند توجّهه إلى تبوك، أمام جماعة من الصحابة و المهاجرين، و كان هذا و ذاك، و غيرهما ممّا صدر منه صلى اللّه عليه و آله، في ظروف مختلفة، حول ولاية الإمام، تهيئة للأذهان، للإعلان الرسمي لهذه الولاية أمام الجموع الهائلة، ليقف عليها القريب و البعيد، و الحاضر و البادي، فقام بإبلاغ ذلك في ذلك المحتشد العظيم، و أخذ منهم الإقرار و الاعتراف، و هنّأ الصحابة عليّا عليه السلام، بهذه المكرمة الإلهية، فكان هذا إعلانا رسميا، للأمّة جمعاء، لا يصحّ لأحد إنكاره، و التغاضي عنه. و سيوافيك دلالة الحديث بوجه واضح لا يدع لقائل كلمة، و لا لمجادل شبهة.

ص: 85


1- هذا من أعلام النبوة، فقد علم أنّه سوف ينحرف عن إمام الهدى في أخريات أيّامه، فعلّق دعاءه على ظرف استمراره في نصرته. و قد نقل هذه الأبيات عن حسان بن ثابت عدّة من أعلام المؤرخين و المحدّثين، و إن حذف من ديوانه، فحرّفت الكلم عن مواضعها، و لعب بديوانه كما لعب بكثير من الدواوين، كديوان الفرزدق، و ديوان كميت، و ديوان أبي فراس، و ديوان كشاجم، التي حذفت منها ما يرجع إلى مدح أهل البيت و رثائهم. لاحظ الغدير، ج 2، ص 34-42.
الأمر الثاني: سند الحديث و تواتره

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة من عصر الرسول الأكرم إلى يومنا هذا، يقف عليه من سبر كتب الحديث و التاريخ و السّير و الكلام و التفسير و غيرها. و ما ربما يصدر من كلمات حول الحديث من أنّه من أحاديث الآحاد، فهو كلام صدر من المغرضين و رماة القول على عواهنه، من غير تدبّر و تثبت.

إنّ كتب الإمامية في الحديث و غيره، مفعمة بإثبات قصة الغدير و الاحتجاج بمؤداها. فمن مسانيد معنعنة إلى منبثق أنوار النبوة، إلى مراسيل أرسلها المؤلفون إرسال المسلّم، و حذفوا أسانيدها لتسالم الفريقين.

و أمّا المحدثون و غيرهم من أهل السنّة فلا يتأخرون عن الإمامية في نقل الحديث و البخوع لصحته، و الركون إليه، و التصحيح له، و الإذعان بتواتره إلاّ شذّاذ تنكبوا عن الطريقة، و قد ألّف غير واحد من علماء الإسلام كتبا مستقلة، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة في الكتب، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده، و ضبطوا ما صحّ لديهم من طرقه، كل ذلك حرصا على كلاءة متنه من الدثور، و عن تطرق يد التحريف إليه، منهم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ و التفسير المعروفين (ت 224 - م 310)، و أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني المعروف بابن عقدة (م 333)، و أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم التميمي البغدادي (م 355) و غيرهم(1).

و لأجل إيقاف القارئ على اهتمام الصحابة و التابعين، و تابعي التابعين، و العلماء، و الأدباء، و الفقهاء، بنقل الحديث و ضبط أسانيده، نذكر عدد رواته في كل قرن على وجه الإجمال و نحيل التفصيل إلى الكتب المعدّة لذلك.

1 - روى الحديث من الصحابة 110 صحابيا، و طبع الحال يستدعي أن يكون رواته أضعاف المذكورين، لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف، أو يزيدون.

ص: 86


1- ذكر شيخنا الحجة العلامة الأميني، أسماء المؤلفين و خصوصيات كتبهم، في الجزء الأول، من غديره، ص 152-157.

2 - رواه من التابعين 84 تابعيا.

و أما عدّة الرواة من العلماء و المحدثين فنذكرها على ترتيب القرون.

3 - عدد من رواه في القرن الثاني: 56 عالما و محدّثا.

4 - عدد من رواه في القرن الثالث: 92 عالما و محدّثا.

5 - عدد من رواه في القرن الرابع: 43 عالما و محدّثا.

6 - عدد من رواه في القرن الخامس: 24 عالما و محدّثا.

7 - عدد من رواه في القرن السادس: 20 عالما و محدّثا.

8 - عدد من رواه في القرن السابع: 20 عالما و محدّثا.

9 - عدد من رواه في القرن الثامن: 19 عالما و محدّثا.

10 - عدد من رواه في القرن التاسع: 16 عالما و محدّثا.

11 - عدد من رواه في القرن العاشر: 14 عالما و محدّثا.

12 - عدد من رواه في القرن الحادي عشر: 12 عالما و محدّثا.

13 - عدد من رواه في القرن الثاني عشر: 13 عالما و محدّثا.

14 - عدد من رواه في القرن الثالث عشر: 12 عالما و محدّثا.

15 - عدد من رواه في القرن الرابع عشر: 19 عالما و محدّثا.

و قد أغنانا المؤلفون في الغدير عن إراءة مصادره و مراجعه، و كفاك في ذلك كتب لمة كبيرة من أعلام الطائفة:

منهم العلاّمة السيد هاشم البحراني (م 1107) مؤلف غاية المرام.

و منهم السيد مير حامد حسين الهندي اللكهنوئي (م 1306)، ذكر حديث الغدير، و طرقه، و تواتره، و مفاده في مجلدين ضخمين في ألف و ثمان مائة صحيفة، و هما من مجلدات كتابه الكبير «العبقات»، فقد أتمّ اللّه به الحجة، و أوضح المحجة، و كتابه العبقات كتاب جليل، فاح أريجه بين لابتي العالم، و طبق حديثه المشرق و المغرب.

و منهم العلامة المتتبع المحقق الفذّ الشيخ عبد الحسين النجفي (ت 1320 - م 1390) في كتابه الفريد «الغدير»، و بعين اللّه، إنّ كتابه هذا هو المعجز

ص: 87

المبين، و من حسنات الدهر الخالدة، جزاه اللّه خير الجزاء(1).

الأمر الثالث - دلالة الحديث
اشارة

إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين، دلالة واضحة، لم يشك فيها أي عربي صميم، عصر نزول الحديث و بعده إلى قرون، و لم يفهموا من لفظة المولى سوى معنى الإمامة، و تتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء إلى أن ولّد الدهر إمام المشككين، فجاء بتشكيكات، كسائر تشكيكاته، التي تاب منها عند احتضاره(2).

و الدلالة مركزة على أن لفظ المولى نصّ فيما نثبته من الإمامة بالوضع اللغوي، أو بالقرائن المحتفة به. و على كلا التقديرين، يكون الحديث حجة قاطعة في الإمامة، و نحن نسلك كلا الطريقين.

الطريق الأول - الدلالة بالوضع اللغوي
اشارة

إنّ «مفعل» - هنا - بمعنى «أفعل»، و لفظ «مولى» أريد منه هنا الأولى، سواء أقلنا إنّه المعنى الوحيد - كما سيوافيك - أو أحد معانيه، كما في قوله سبحانه:

فَالْيَوْمَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاٰ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (3) .

و المفسّرون للآية على فريقين منهم من حصر التفسير بأنّها أولى بكم، و منهم

ص: 88


1- و من أراد التبسط فعليه الرجوع إلى ما ذكرنا من المصادر، و إلى كتاب «المراجعات» لمصلح الدين، السيد شرف الدين العاملي رحمه اللّه.
2- لاحظ دائرة المعارف، لفريد وجدي، ج 4، ص 149، و فيها أنّه قال: «و أمّا ما استكثرت من إيراد السؤالات، فإنّي ما أردت إلاّ تكثير البحث و تشحيذ الخاطر، و الاعتماد في الكلّ على اللّه تعالى».
3- سورة الحديد: الآية 15.

من جعله أحد المعاني، و هؤلاء أئمة العربية، عرفوا أنّ هذا المعنى من معاني اللفظ اللغوية، و لولاه لما صحّ لهم تفسيره به، يقول الخازن: «هي مولاكم، أي وليّكم، و قيل أولى بكم، لما أسلفتم من الذنوب، و المعنى: هي التي تلي عليكم، لأنّها ملكت أمركم و أسلمتم إليها، فهي أولى بكم من كل شيء»(1).

و قد نقل كون المولى بمعنى الأولى، الرازي في تفسيره عن الكلبي النسّابة (م 146) و الفرّاء (م 207)(2) و أبو عبيدة معمّر بن المثنى البصري (م 210)، و الأخفش الأوسط (م 218)(3)، و نهاية العقول(4).

و استشهد أبو عبيدة ببيت لبيد:

فقدت كلا الفرجين تحسب أنّه *** مولى المخافة خلفها و أمامها

حتى أنّ البخاري، صاحب الصحيح، في قسم التفسير منه، فسّره ب «أولى»(5).

نعم هنا شبهة ذكرها الرازي في تفسيره، حسب أنّها تصادم دلالة الحديث على الولاية الكبرى للإمام عليّ عليه السلام، فقال في تفسير قوله سبحانه: هِيَ مَوْلاٰكُمْ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ : «لو كان مولى و أولى بمعنى واحد في اللغة، لصحّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر، فيجب أن يقال: هذا مولى من فلان، و لمّا بطل ذلك، علمنا أنّ الذي قالوه معنى، و ليس بتفسير».

و قال في نهاية العقول: «لو كان المولى يجيء بمعنى الأولى، لصحّ أن يقرن بأحدهما، كلّما يصحّ قرنه بالآخر، لكنه ليس كذلك، فامتنع كون المولى بمعنى الأولى، مع أنّه لا يقال: هو مولى من فلان، و لا يصحّ أن يقال: «هو أولى» بدون من».

ص: 89


1- تفسير الخازن، نقلا عن الغدير، ج 1، ص 341.
2- معاني القرآن، للفراء، ج 3، ص 134.
3- لاحظ جميع ذلك في تفسير الرازي، ج 8، ص 93.
4- نهاية العقول، للرازي، أيضا.
5- صحيح البخاري، ج 7، ص 240.

يلاحظ عليه: قد فات الرازي أنّ اتّحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ، إنّما يقع في جوهريات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب، و تصاريف الألفاظ، و صيغها. مثلا: الاختلاف الحاصل بين المولى و الأولى، بلزوم مصاحبة الثاني بالباء (أولى به)، و تجرّد الأول منه، إنّما حصل من ناحية صيغة افعل من هذه المادة، كما أنّ مصاحبة «من»، هي مقتضى تلك الصيغة مطلقا، إذن مفاد «فلان أولى بفلان»، و «فلان مولى فلان»، واحد، حيث يراد به «الأولى به من غيره»، و يشهد لذلك أنّ «افعل» بنفسه، يستعمل مضافا إلى المثنّى و الجمع، أو ضمير هما بغير أداة، فيقال: زيد أفضل الرجلين، أو أفضلهما، و أفضل القوم و أفضلهم، و لا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفردا، فلا يقال: زيد أفضل عمرو، و إنّما يقال هو أفضل منه، و لا يرتاب عاقل في اتّحاد المعنى في الجميع.

قال الأزهري في باب التفضيل: «إنّ صحة وقوع المرادف موقع مرادفه، إنّما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع، و هاهنا منع مانع، و هو الاستعمال، فإنّ اسم التفضيل، لا يصاحب من حروف الجر إلاّ «من» خاصة، و قد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو: وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ (1)».(2)

ثمّ إنّ الرازي اختار أنّ المولى في الحديث بمعنى «الناصر»، مع أنّ ما أورده على القول بأنّه بمعنى «الأولى»، وارد عليه، فلا يقال في اللغة العربية، «هو مولى دين اللّه»، مكان «ناصر»، و لا يصحّ تبديل قوله: مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اَللّٰهِ (3). إلى «من مواليّ إلى اللّه»، أو تبديل قول الحواريين: نَحْنُ أَنْصٰارُ اَللّٰهِ (4) إلى «نحن موالي اللّه».

هذه الحالة مطّردة في كثير من المترادفات التي جمعها الرّماني (م 384) في تأليف مفرد، مع أنّ اختلاف الكيفية حاكم عليها أيضا، مثلا يقال: عندي

ص: 90


1- سورة الأعلى: الآية 17.
2- التصريح، لخالد بن عبد اللّه الأزهري، باب أفعل التفضيل.
3- سورة آل عمران: الآية 52.
4- الآية السابقة نفسها.

درهم غير جيد، و لا يصحّ أن يقال: عندي درهم إلاّ جيد، كما هو السائد في كلمة «هل» و «همزة الاستفهام»، فإنّهما بمعنى واحد، و لكن يفترقان بفروق ثلاثة، أو خمسة، أو ستة.

و لما كان الإشكال ضئيلا، قال النيسابوري، في تفسيره - بعد نقل كلام الرازي، إلى قوله: و حينئذ يسقط الاستدلال به -: «قلت: و في هذا الإسقاط بحث لا يخفى»(1).

و لما وقف التفتازاني على تمامية دلالة الحديث على الإمامة، حاول رمي الحديث بعدم التواتر، قال - في دلالة الحديث -: ««المولى» قد يراد به المعتق، و المعتق، و الحليف، و الجار، و ابن العم، و الناصر، و الأولى بالتصرف، قال اللّه تعالى: مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ ، أي أولى بكم، ذكره أبو عبيدة، و قال النبي: «أيّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن مولاها»، أي الأولى بها، و المالك لتدبير أمرها، و مثله في الشعر كثير. و بالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي، و المالك للأمر، و الأولى بالتصرف، شائع في كلام العرب، منقول عن كثير من أئمة اللغة، و المراد أنّه اسم لهذا المعنى، لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنّه ليس من صيغة اسم التفضيل، و أنّه لا يستعمل استعماله، و ينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى، ليطابق صدر الحديث، و لأنّه لا وجه للخمسة الأول، و هو ظاهر، و لا للسادس لظهوره، و عدم احتياجه إلى البيان و جمع الناس لأجله». إلى أن قال: «و لا خفاء في أنّ الولاية بالناس، و التولّي، و المالكية لتدبير أمرهم، و التصرّف فيهم، بمنزلة النبي، و هو معنى الإمامة»(2).

هذا من غير فرق بين تفسير مفعل ب أفعل، أي المولى بمعنى أولى، أو تفسيره بفعيل، أي الولي، و قد نصّ على ذلك أئمة العربية منهم الفراء في تفسيره، و أبو العباس المبرّد، قالا: «الولي و المولى، بمعنى في لغة العرب واحد»(3).

ص: 91


1- تفسير النيسابوري، تفسير سورة الحديد.
2- شرح المقاصد، ج 2، ص 290.
3- لاحظ معاني القرآن للفراء، ج 3، ص 124، و الغدير ج 1، ص 361.

قال في الصحاح: و الولي كل من ولي أمر واحد، فهو وليّه، و قول الشاعر:

هم المولى و إن جنفوا علينا *** و إنّا من لقائهم لزور(1)

و قال في النهاية: «و كلّ من ولي أمرا أو قام به فهو مولاه و وليه»(2).

و قال الفيروزآبادي، في قاموسه: «المولى: المالك، و العبد، و المعتق، و الولي، و الربّ»(3).

و استشهد الزبيدي في تاج العروس، على كون مولى بمعنى ولي، بقوله صلى اللّه عليه و آله: «أيّما امرأة أنكحت بغير إذن مولاها...»(4).

ليس للمولى إلاّ معنى واحد

إنّ السابر في كتب اللغة يرى أنّهم يذكرون في تفسير «المولى» أمورا، يبدو أنّها معان مختلفة له، مثلا يقول صاحب القاموس: «المولى: المالك، و العبد، و المعتق، و المعتق، و الصاحب، و القريب كابن العم و نحوه، و الجار، و الحليف، و الابن، و العمّ، و النّزيل، و الشّريك، و ابن الأخت، و الوليّ، و الربّ، و الناصر، و المنعم، و المنعم عليه، و المحبّ، و التابع، و الصّهر»(5).

و الحق أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد و هو الأولى بالشيء، و تختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل مورد من موارده، و الاشتراك معنوي، و هو الأولى من الاشتراك اللفظي المستدعي لألفاظ كثيرة غير معلومة بنصّ ثابت، و المنفية بالأصل المحكّم، و هذه النظرية أبدعها ابن البطريق الحلّي (ت 533 -

ص: 92


1- الصحاح، ج 6، مادة «ولى»، ص 2529.
2- النهاية لابن الأثير، ج 5، ص 228.
3- القاموس المحيط، مادة «ولى»، ج 4، ص 401.
4- تاج العروس، ج 10، ص 399.
5- القاموس، ج 4، ص 401.

م 600)(1).

و هذا المعنى الواحد، و هو الأولى بالشيء جامع لهاتيك المعاني جمعاء، و مأخوذ في كلّ منها بنوع من العناية، و لم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ بمناسبة لهذا المعنى:

1 - فالمالك أولى بكلاءة مماليكه، و أمرهم، و التصرف فيهم.

2 - و العبد أولى بالانقياد لمولاه من غيره.

3 - و المعتق (بالكسر) أولى بالتفضيل على من أعتقه من غيره.

4 - و المعتق (بالفتح) أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه و يشكره.

5 - و الصاحب، أولى بأن يؤدّي حقوق الصحبة من غيره.

6 - و القريب، هو أولى بأمر القريبين منه، و الدفاع عنهم، و السعي وراء صالحهم.

7 - و الجار، أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلّها من البعداء.

8 - و الحليف، أولى بالنهوض بحفظ من حالفه، و دفع عادية الجور عنه.

9 - و الابن أولى الناس بالطاعة لأبيه و الخضوع له.

10 - و العمّ، أولى بكلاءة ابن أخيه، و الحنان عليه، و هو القائم مقام والده.

11 - و النّزيل، أولى بتقدير من آوى إليهم و لجأ إلى ساحتهم، و أمن في جوارهم.

12 - و الشريك أولى برعاية حقوق الشركة و حفظ صاحبه عن الإضرار.

13 - و ابن الأخت، أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أمه.

14 - و الولي، أولى بأن يراعي مصالح المولّى عليه.

15 - و الناصر، أولى بالدفاع عمّن التزم بنصرته.

16 - و الربّ، أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.

ص: 93


1- عمدة عيون صحاح الأخبار، لابن البطريق، ص 114-115.

17 - و المنعم (بالكسر) أولى بالفضل على من أنعم عليه، و أن يتبع الحسنة بالحسنة.

18 - و المنعم عليه، أولى بشكر منعمه من غيره.

19 - و المحب، أولى بالدفاع عمّن أحبّه 20 - و التابع، أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.

21 - و الصهر، أولى بأن يرعى حقوق من صاهره، فشدّ بهم أزره، و قوي أمره.

إلى غير ذلك من المعاني التي هي أشبه بموارد الاستعمال. و الأولوية مأخوذة فيها بنوع من العناية.

إلى هنا قد ظهر أنّ المولى في الحديث الشريف بمعنى الأولى، أو بمعنى الولي، و أنّ ما ذكر للمولى من المعاني المختلفة، فليس من قبيل المعاني المختلفة، حتى يحتاج تفسير المولى بالأولى إلى قرينة معيّنة، بل من قبيل المصاديق.

هذا كلّه في الطريق الأول.

الطريق الثاني - الدلالة بالقرائن
اشارة

إنّ القرائن الحافة بالحديث تدلّ على أنّ المراد من المولى هو الأولى أو الولي، و هي على قسمين: قرائن حالية و قرائن مقالية:

و المراد من الأولى، ما احتف به الكلام الصادر من النبي الأكرم، من ظروف زمانية و مكانية. و المراد من الثانية ما يتصل بالكلام نفسه من الجمل و العبارات.

أمّا القرائن الحالية، فبيانها بكلمة جامعة أنا لو فرضنا أنّ لفظ المولى مشترك بين المعاني التي تلوناها عليك، إلاّ أنّه لا يمكن إرادة غيره في المقام، إمّا لاستلزامه الكفر، كما إذا أريد منه الرب.

أو الكذب، كما إذا أريد منه العم، و الابن، و ابن الأخت، و المعتق،

ص: 94

و المعتق، و العبد، و المالك، و التابع، و المنعم عليه، و الشّريك، و الحليف، و هو واضح لمن تدبر فيه.

و أمّا الصاحب، و الجار، و النزيل، و الصّهر، و القريب، فلا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني، لسخافته، لا سيما في هذا المحتشد الرهيب، و في أثناء المسير، و رمضاء الهجير، و قد أمر صلى اللّه عليه و آله بحبس المتقدم في السير، و منع التالي منه، في محلّ ليس صالحا للنزول، غير أنّ الوحي الإلهي، حبسه هناك، فيكون صلى اللّه عليه و آله قد عقد هذا المحتفل، و الناس قد أنهكتهم و عثاء السفر، و حرّ الهجير، و حراجة الموقف، حتى أنّ أحدهم ليضع طرفا من ردائه تحت قدميه، و طرفا فوق رأسه، فيرقى هنالك منبر الأهداج، و يعلمهم عن اللّه تعالى بأنّه من كان هو صلى اللّه عليه و آله مصاحبا أو جارا أو نزيلا عنده، أو صهرا أو قريبا له، فعليّ كذلك!!.

و أمّا المنعم، فلا ملازمة بين أن يكون كلّ من أنعم عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فعليّ منعم عليه.

و أمّا الناصر و المحب، فسواء كان كلامه صلى اللّه عليه و آله، إخبارا أو إنشاء، فاحتمالان ساقطان، إذ ليسا بأمر مجهول عندهم، لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة، و يحبس له الجماهير، و يعقد له ذلك المنتدى الرهيب، في موقف حرج، لا قرار فيه.

فلم يبق من المعاني إلاّ الولي، و الأولى به، و المراد منه المتصرف في الأمر و متوليه. ذكر الرازي في تفسير قوله تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلاٰكُمْ (1)، قال: قال القفال: «هو مولاكم، سيّدكم و المتصرّف فيكم»(2).

فتعين أنّ المراد بالمولى: المتصرّف، الذي قيّضه اللّه سبحانه لان يتّبع، و يكون إماما، فيهدي البشر إلى سنن النجاة، فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف

ص: 95


1- سورة الحج: الآية 78.
2- تفسير الرازي، ج 6، ص 21.

في المجتمع الإنساني، فليس هو إلا نبي مبعوث أو إمام مفترض الطاعة منصوص به من قبله تعالى، بأمر إلهي، لا يبارحه في أقواله و أفعاله: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (1).

و أمّا القرائن المقالية: فمتعددة تثبت أيضا أنّ المولى بمعنى الأولى بالشيء أو بمعنى الولي، إذا تنازلنا إلى أنّه أحد معانيه، و أنّه من المشترك اللفظي، و أمّا على القول بأنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد، كما أوضحناه، فلا حاجة لذكر القرائن إلاّ تأكيدا.

القرينة الأولى: صدر الحديث، و هو قوله صلى اللّه عليه و آله: «أ لست أولى بكم من أنفسكم»، أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة، ثم فرّع على ذلك قوله: «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». و قد روى هذا الصدر من حفاظ أهل السنّة، ما يربو على أربع و ستين عالما(2).

فإنّ هذا الصدر يعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى، و لا وجه للتفكيك المخل.

القرينة الثانية: ذيل الحديث، و هو قوله صلى اللّه عليه و آله: «اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه»، و في جملة من طرق الحديث قوله: و انصر من نصره، و اخذل من خذله، أو ما يؤدّي مؤدّاه، فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف، فما معنى هذا التطويل، فإنّه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلاّ بتنصيب علي مقاما شامخا، يؤهله لهذا الدعاء.

القرينة الثالثة: أخذ الشهادة من الناس، حيث قال صلى اللّه عليه و آله:

«أ لستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا عبده و رسوله، و أنّ حجته حقّ الخ». فإنّ وقوع قوله: «من كنت مولاه»، في سياق الشهادة بالتوحيد و الرسالة، يحقق كون المراد، الإمامة، الملازمة للأولوية على الناس.

ص: 96


1- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.
2- لاحظ نقولهم، في كتاب الغدير، ج 1، موزعين حسب قرونهم.

القرينة الرابعة: التكبير على إكمال الدين، حيث لم يتفرقوا بعد كلامه صلى اللّه عليه و آله، حتى نزل أمين وحي اللّه بقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (الآية)، فقال رسول اللّه: «اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة، و رضى الرب برسالتي، و الولاية لعلي من بعدي، فأي معنى يكمل به الدين، و تتم به النعم، و يرضى به الربّ في عداد الرسالة، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة، و كمال نشرها و توطيد دعائمها.

القرينة الخامسة: نعي النبي وفاته إلى الناس، حيث قال صلى اللّه عليه و آله: «كأنّي دعيت فأجبت». و في نقل: «إنّه يوشك أن ادعى»، أو ما يقرر ذلك، و هذا يعطي أنّ النبي قد بقيت من تبليغه مهمة، يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها، و هي تعرب عن كون ما أشاد به في هذا المحتشد، تبليغ أمر مهم، يخاف فوته، و ليس هو إلاّ الإمامة.

أضف إليه أنّه يعرب بذلك عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم، فيحصل بعده فراغ هائل، و أنّه يسدّ بتنصيب عليّ في مقام الولاية.

القرينة السادسة: التهنئة، جاء في ذيل الحديث، و أخرجه الطبري في كتاب «الولاية» عن زيد بن أرقم، أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، قال:

«معاشر الناس، قولوا: أعطيناك على ذلك عهدا عن أنفسنا، و ميثاقا بألسنتنا، و صفقة بأيدينا، نؤدّيه إلى أولادنا و أهالينا، لا نبغي بذلك بدلا، و أنت شهيد علينا، و كفى باللّه شهيدا، قولوا ما قلت لكم، و سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، و قولوا الحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه، فإنّ اللّه يعلم كلّ صوت، و خائنة كل نفس، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً قولوا ما يرضي اللّه عنكم، فإن تكفروا، فإنّ اللّه غنيّ عنكم».

القرينة السابعة: الأمر بإبلاغ الغائبين: و قد أمر صلى اللّه عليه و آله في آخر خطبته بأن يبلّغ الشاهد الغائب، فما معنى هذا التأكيد، إذا لم يكن هناك مهمة لم تتح الفرص لتبليغها على نطاق واسع، و لا عرفته جماهير المسلمين، و ما هي إلاّ الإمامة.

ص: 97

و غير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا المتتبع في غديره(1).

حديث الغدير و رجالات الأدب
اشارة

شاء المولى سبحانه أن يبقى حديث الغدير على مرّ العصور و الأيام، حجة على المسلمين في التعرّف على مستقرّ الولاية الكبرى بعد النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، فقيّض المولى سبحانه، رجالات الأدب، و أساتذة الشعر، فنظموا تلك المأثرة النبوية الخالدة، و صبّوها في قوالب أشعارهم، و قرائضهم، فترى أنّهم - و هم أساتذة اللغة و بواقع الأدب - يعبّرون عنه بكلمات صريحة في الإمامة، أو الخلافة. و قبل كل شاهد نذكر بيت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:

و أوجب لي ولايته عليكم *** رسول اللّه يوم غدير خمّ

ثم بعده حسان بن ثابت، الذي حضر مشهد الغدير، و قد تقدّم ذكر أبياته.

و منهم قيس بن سعد بن عبادة، الصحابي العظيم، يقول:

و عليّ إمامنا و إمام *** لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبيّ من كنت مولاه *** فهذا مولاه خطب جليل

و منهم داهية العرب، في قصيدته المعروفة ب «الجلجلية»، يقول فيها معترضا على معاوية:

و كم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصصة في علي

و في يوم خمّ رقى منبرا *** و بلّغ و الصحب لم ترحل

فامنحه إمرة المؤمنين *** من اللّه مستخلف المنحل

و غيرهم من الشعراء الذين يحتجّ بقولهم في الأدب و اللغة، ككميت بن زيد الأسدي المتوفي عام 126، و العبدي الكوفي من شعراء القرن الثاني، و شيخ

ص: 98


1- لاحظ الغدير، ج 1، ص 370-383.

العربية أبي تمّام، و غيرهم ممّن يطول بذكرهم المقام(1).

إلى هنا تمّ الكلام حول الحديث متنا و سندا، و هو يعرب عن حقيقة ناصعة من أجلى الحقائق الدينية، و هي ثبوت الولاية لعلي بعد النبي، و لا يرتاب فيها إلاّ مغرض لا يرتاد الحقيقة، أو غافل عن مصادر الحديث(2).

ثم إنّ هاهنا سؤالين مهمّين، ربما يدفع البعض بهما حديث الغدير و دلالته، لا بدّ من ذكرهما، و الإجابة عنهما:

السؤال الأول: لما ذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟
اشارة

إنّ هاهنا اعتراضا على تواتر حديث الغدير، أو دلالته على تنصيب عليّ في مقام الولاية و الخلافة، بأنّه لو كان الأمر كذلك، فلما ذا لم يأخذه الصحابة مقياسا بعد النبي. و ليس من الصحيح إجماع الصحابة، و جمهور الأمّة على ردّ ما بلّغه النبي في ذلك المحتشد العظيم.

و الجواب:

إنّ ذلك أقوى مستمسك لمن يريد التخلص من الاعتناق بالنصّ المتواتر الجلي في المقام، و لكنه لو رجع إلى تاريخ الصحابة، يرى لهذه الأمور نظائر كثيرة في حياتهم السياسية، و ليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل.

و فيما يلي نذكر نماذج من هذا الاجتهاد المرفوض قبال النصّ.

1 - رزية يوم الخميس

كلّ من ألّم بالحديث و التاريخ، يعرف حديث «رزية يوم الخميس»،

ص: 99


1- من أراد الوقوف على أشعارهم، فليرجع إلى الغدير بأجزائه.
2- لقد استندنا في هذا البحث الضافي إلى كتاب الغدير، فنقدر جهود شيخنا العلامة الأميني، المغفور له.

الذي رواه الشيخان و غيرهما، أخرج البخاري عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي: «هلم أكتب لكم كتاب لا تضلّوا بعده أبدا»، فقال عمر: «إنّ النبي قد غلب عليه الوجع، و عندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه». فاختلف أهل البيت، فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا، يكتب لكم النبي كتابا لن تضلّوا بعده، و منهم يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عند النبي، قال لهم (صلى اللّه عليه و آله): قوموا.

قال عبد اللّه بن مسعود: فكان ابن عباس يقول: «إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم»(1).

2 - سرية أسامة

قد اهتمّ النبي ببعث سرية أسامة بن زيد اهتماما عظيما، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها، و حثّهم عليها، ثم عبّأهم بنفسه الزكية، إرهافا لعزائمهم، و استنهاضا لهممهم، فلم يبق أحدا من وجوه المهاجرين و الأنصار كأبي بكر، و عمر، و أبي عبيدة، و سعد، و أمثالهم، إلاّ و قد عبّأه بالجيش، و كان ذلك لأربع ليال بقين من صفر، سنة إحدى عشرة للهجرة، فلما كان يوم الثامن و العشرين من صفر، بدأ به (صلوات اللّه عليه و آله) مرض الموت، فلما أصبح يوم التاسع و العشرين، و وجدهم مثّاقلين، خرج إليهم فحضّهم على السير، و عقد اللواء لأسامة بيده الشريفة، إرهافا لعزيمتهم ثم قال: «اغز باسم اللّه، و في سبيل

ص: 100


1- أخرجه البخاري، في غير مورد، لاحظ ج 1، باب كتابة العلم، الحديث 3؛ و ج 4، ص 70؛ و ج 6، ص 10؛ من النسخة المطبوعة سنة 1314. و الإمام أحمد في مسنده ج 1، ص 355، و فيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: يوم الخميس و ما يوم الخميس. ثم نظرت إلى دموعه على خدّيه تحدر كأنّها نظام اللؤلؤ قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، ائتوني باللوح و الدواة، أو الكتف، أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا. فقالوا: «رسول اللّه يهجر»!!.

اللّه». فخرج بلوائه معقودا، فدفعه إلى بريدة، و عسكر بالجرف.

ثم تثاقلوا هناك، فلم يبرحوا، مع ما وعوه و رأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم كقوله صلوات اللّه عليه و آله: «أغر صباحا على أهل أبنة».

و قوله: «و أسرع السير لتستبق الأخبار»(1).

و قد أغضب النبيّ تثاقلهم، حتى قال: «جهّزوا جيش أسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه»، فقال قوم: «يجب علينا امتثال أمره، و أسامة قد برز من المدينة»، و قال قوم: «قد اشتدّ مرض النبي، فلا تسع قلوبنا مفارقته، و الحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره»(2).

ثم إنّ من ذكر تخلّف القوم عن أسامة، حاول تعليل تخلّف الصحابة، فقال بأنّ الغرض منه إقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب، و تسكين نائرة الفتنة المؤثرة عند تقلّب القلوب(3).

فإذا صحّ هذا العذر، فليصحّ مثله في حديث الغدير، فإنّ القوم - أكثرهم لا جميعهم - ثقل عليهم إمامة علي بن أبي طالب الذي قتل من أبناء القوم و إخوانهم يوم بدر و حنين و غيرهما، ما قتل، فرجّحوا مخالفة الحديث حفظا للوحدة، أو لغير ذلك من هذه المبررات - عند القوم - للاجتهاد تجاه النصّ.

كما أنّهم في نفس القضية، طعنوا في إمارة أسامة، طعنا عظيما، و أقلّ ما قالوه، إنّ النبيّ قد أمر شابا غير مجرّب على شيوخ القوم و أكابرهم!!.

3 - صلح الحديبيّة و اعتراض القوم

إنّ النبي الأكرم صالح قريشا في أرض الحديبيّة لمصالح عالية، كشف المستقبل عنها بوضوح. و لما تمّ كتاب الصلح، اعترض عليه لفيف من الصحابة، حتى تصوّروا أنّه من باب إعطاء الدنيّة في طريق الدين.

ص: 101


1- طبقات ابن سعد ج 2، ص 189-192.
2- الملل و النحل، للشهرستاني، ج 1، ص 23.
3- المصدر سابق نفسه.

روى مسلم في باب صلح الحديبيّة أنّ عمر قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أو لسنا على الحق، و هم على الباطل؟» قال رسول اللّه: «بلى».

قال: «أو لسنا قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار»؟ قال: «بلى». قال: «ففيم نعطي الدّنية في ديننا، و نرجع و لمّا يحكم اللّه بيننا و بينهم»؟. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «يا ابن الخطاب، إنّي رسول اللّه، و لن يضيّعني اللّه أبدا»(1).

فانطلق عمر، و لم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حقّ و هم على باطل، قال: بلى، قال: أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار.

قال: بلى. قال: فعلى م نعطي الدنيّة في ديننا، و نرجع و لمّا يحكم اللّه بيننا و بينهم. فقال: يا ابن الخطاب، إنّه رسول اللّه، و لن يضيّعه اللّه أبدا.

فلما فرغ رسول اللّه من الكتاب قال لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا. قال الراوي: فو اللّه ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، دخل خباءه، ثم خرج، فلم يكلم أحدا منهم بشيء، حتى نحر بدنه بيده، و دعا حالقه، فحلق رأسه. فلما رأى أصحابه ذلك قاموا، فنحروا، و جعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعض(2).

و لسنا بصدد استقصاء مخالفات القوم لنصوص النبي و تعليماته، فإنّ المخالفة لا تقتصر على ما ذكرنا بل تربوا على نيف و سبعين موردا، استقصاها بعض الأعلام(3).

و على ضوء ذلك، لا يكون ترك العمل بحديث الغدير، من أكثرية الصحابة دليلا على عدم تواتره، أو عدم تمامية دلالته.

و المشكلة كلّها في هذا الباب، هي التعرّف على حكم الصحابة من حيث

ص: 102


1- صحيح مسلم، باب صلح الحديبية، ج 5، ص 175، و الطبقات الكبرى لابن سعد، ج 2، ص 114 حيث استغفر للمحلقين و رأى بعضهم غير محلق.
2- صحيح البخاري، ج 2، كتاب الشروط، ص 81.
3- لاحظ كتاب النصّ و الاجتهاد، للسيد الإمام شرف الدين، و هو كتاب ممتع ملئ بالأحداث التي قدّم فيها الاجتهاد الخاطئ - لا الصحيح فإنّه تبع النص - على النصّ النبوي الجليّ.

العدالة، فإنّ القوم ألبسوا مجموع الصحابة لباس العصمة، و حلّوهم أجمعين بحلية التقوى و العفاف، على وجه لا يكادون يخالفون الكتاب و السنّة قيد شعرة، فالصحابة بمجموعهم معصومون لا يخطئون. فمن كانت هذه عقيدته، فيشكل عليه القول بأن القوم خالفوا تنصيص النبي و تنصيبه لعلي عليه السلام.

و لكنها عقيدة تضاد كتاب اللّه و سنته، و التاريخ. فمن درس حياة الصحابة في ضوء الكتاب و السنّة النبوية و التاريخ الصحيح، يقف على أنّ فيهم صالحا و طالحا، كسائر أفراد المجتمعات البشرية، و ليس السلف خيرا من الخلف، بل السلف و الخلف على وتيرة واحدة، فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (1).

السؤال الثاني: ما فائدة البحث عن إمامة عليّ في هذه الأزمان؟
اشارة

و هاهنا سؤال آخر يطرحه لفيف من دعاة الوحدة، الذين لهم رغبة خاصة بتوحيد صفوف المسلمين و تقريب الخطى بينهم، و حاصله:

إنّ البحث عن صيغة الخلافة بعد النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلّم، يرجع لبّه إلى أمر تاريخي قد مضى زمنه و هو أنّ الخليفة بعد النبي هل هو الإمام أمير المؤمنين أو أبو بكر. و ما ذا يفيد المؤمنين البحث حول هذا الأمر الذي لا يرجع إليهم بشيء في حياتهم المعاصرة. أو ليس من الحريّ ترك هذا البحث حفظا للوحدة.

و الجواب

لا شك أنّ أعظم خلاف وقع بين الأمّة، اختلافهم في الإمامة، و ما سلّ

ص: 103


1- سورة فاطر: الآية 32، و قد أشبع الأستاذ دام حفظه، الكلام في حال الصحابة من حيث البرهان و العاطفة في بحوثه في الملل و النحل، فلاحظ: ج 1، ص 191-228.

سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة(1). فمن واجب المسلم الحرّ، الذي لا يتبنّى إلاّ مصلحة المسلمين، السعي وراء الوحدة، و لكن ليس معنى ذلك ترك البحث، و غلق ملف الدراسة، فإنّه إذا كان البحث نزيها موضوعيا يكون مؤثّرا في توحيد الصفوف و تقريب الخطى، إذ عندئذ تتعرف كل طائفة على ما لدى الأخرى، من العقائد و الأصول، و بالتالي تكون الطائفتان متقاربتين. و هذا بخلاف ما إذا تركنا البحث مخافة الفرقة، فإنّه يثير سوء ظنّ كلّ طائفة بالنسبة إلى الأخرى في مجال العقائد و المعارف، فربما تتصورها طائفة أجنبيا عن الإسلام. هذا أولا.

و ثانيا: إنّ لمسألة البحث عن صيغة الإمامة بعد النبي بعدين أحدهما بعد تاريخي مضى عصره، و الثاني بعد ديني باق أثره إلى يومنا هذا، و من واجب كلّ مسلم الأخذ به، و هو أنّه إذا صحّ تنصيب عليّ لمقام الولاية و الخلافة، بالمعنى الذي تتبناه الإمامية، يكون الإمام، وراء كونه زعيما في ذلك العصر، مرجعا في رفع المشاكل التي خلفتها رحلة النبي، ممّا قد مرّ عليك، فيجب على المسلمين الرجوع إليه في تفسير القرآن و تبيينه، و في مجال الموضوعات المستجدة التي لم يرد فيها النصّ في الكتاب و السنّة، كما يكون مرجعا في سائر الأمور.

و في ضوء هذا، فالبعد الذي مضى، و لا نعيد البحث فيه، هو كونه زعيما في ذلك العصر، و قد مضى زمنه، و لكن الباقي زعامته الدينية، و قيادته في مجال المعارف و المسائل الشرعية، فهو بعد باق، فيجب على كل المسلمين الرجوع إلى الإمام أخذا بهذه الأبعاد، لحديث الغدير و غيره. فليس البحث متلخصا في البعد السياسي حتى نشطب عليه بدعوى أنّه مضى ما مضى، بل له كما عرفت مجال و مجالات باقية.

فإذا وصل البحث إلى هنا، يجب علينا التركيز على مسألة أخرى و هي أنّ النبي الأكرم، لم يزل يهيب في الجاهلين، و يصرخ في الغافلين، داعيا إلى التمسّك بالكتاب و العترة معا، و هذا تصريح بأنّ لقيادة العترة الطاهرة وراء

ص: 104


1- تقدمت منا هذه الكلمة نقلا عن الشهرستاني في الملل و النحل.

الزعامة السياسية المحددة بوقت خاص، و زمن حياتهم، بعدا خالدا إلى يوم القيامة، و هو لزوم الانكباب عليهم فيما يطرأ علينا من الحوادث و الوقائع الدينية، و كل ما يمت إلى الدين بصلة، و نتطلب الجواب و الاهتداء منهم، و لأجل ذلك يجب علينا التعرّف على هذا القسم من الأحاديث الذي يركز على الجهات المعنوية أزيد من التركيز على الجهات السياسية.

1 - حديث الثّقلين
اشارة

روى أصحاب الصحاح و المسانيد عن النبي الأكرم أنّه قال: «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي».

و قال في موضع آخر: «إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». و غير ذلك من النصوص المتقاربة.

و قد صدع بها في غير موقف، تارة بعد انصرافه من الطائف، و أخرى يوم عرفة في حجة الوداع، و ثالثة يوم غدير خمّ، و رابعة على منبره في المدينة، و أخرى في حجرته المباركة في مرضه و الحجرة غاصّة بأهله.

و لا يشك في صحّة الحديث إلاّ الجاهل به أو المعاند، فقد روي بطرق كثيرة عن نيف و عشرين صحابيا(1).

إنّ الإمعان في الحديث يعرب عن عصمة العترة الطاهرة، حيث قورنت

ص: 105


1- و كفى في ذلك أن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية قامت بنشر رسالة جمعت فيها مصادر الحديث و نذكر من طرقه الكثيرة ما يلي: صحيح مسلم، ج 7، ص 122، سنن الترمذي، ج 2، ص 307، مسند أحمد، ج 3، ص 17 و 26 و 59. و ج 4، ص 366 و 371. و ج 5، ص 182 و 189. و قد قام المحدث الكبير السيد حامد حسين الهندي بجمع طرق الحديث و نقل كلمات الأعاظم حوله و نشره في ستة أجزاء و هو من أجزاء كتابه الكبير العبقات.

بالقرآن الكريم، و أنّهما لا يفترقان، و من المعلوم أنّ القرآن العظيم، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فكيف يمكن أن يكون قرناء القرآن و أعداؤه، خاطئين فيما يحكمون و يبرمون، أو يقولون و يحدّثون. فعدم الافتراق إلى يوم القيامة، آية كونهم معصومين فيما يقولون و يروون.

أضف إلى ذلك أنّ الحديث، يعدّ المتمسّك بالعترة غير ضالّ، بقوله:

«لن تضلّوا». فلو كانوا غير معصومين من الخلاف و الخطأ، فكيف لا يضلّ المتمسك بهم؟.

نعم، ورد في بعض النصوص مكان كتاب اللّه و عترتي، كتاب اللّه و سنّتي(1). و هو على فرض صحته، حديث آخر لا يزاحمه، على أنّه حديث واحد، و هذا الحديث متواتر نقله أعلام الأئمة، و أساتذة الحديث و التاريخ و السيرة، و لا يعلم حقيقة ذلك إلاّ من راجع مصادر الحديث(2). فيقدّم عليه في كل حال.

من هم العترة و أهل البيت؟

لا أظن أنّ أحدا، قرأ الحديث و التاريخ، يشكّ في أنّ المراد من العترة و أهل البيت لفيف خاص من أهل بيته. و يكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعه عن الصحاح، و نكتفي بالقليل من الكثير منها.

1 - روى الترمذي عن سعد بن أبي وقّاص قال: لمّا نزلت هذه الآية:

فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ... الآية، دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عليّا، و فاطمة، و حسنا، و حسينا، فقال:

«اللّهم هؤلاء أهلي».

ص: 106


1- الصواعق المحرقة، ص 89.
2- و راجع أيضا في الوقوف على مصادر الحديث، غاية المرام للسيد البحراني، ص 417-434. و المراجعات، المراجعة 8. و تعاليق إحقاق الحق، ج 9.

2 - و روى أيضا عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها، قالت: إنّ هذه الآية نزلت في بيتي: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، قالت: و أنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول اللّه، أ لست من أهل البيت، فقال: إنّك إلى خير، أنت من أزواج رسول اللّه. قالت: و في البيت رسول اللّه، و عليّ، و فاطمة، و حسن، و حسين، فجلّلهم بكسائه، و قال:

«اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا».

3 - و روى أيضا عن أنس بن مالك أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كان يمرّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريبا من ستة أشهر، يقول: «الصلاة أهل البيت: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ».

4 - و روى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال يزيد بن حيان: انطلقت أنا و حصين بن سبرة، و عمر بن مسلم، إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و سمعت حديثه، و غزوت معه، و صلّيت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله؟.

قال: يا ابن أخي و اللّه، لقد كبرت سني، و قدم عهدي، فما حدّثتكم فاقبلوا، و ما لا فلا تكلّفونيه. ثم قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا، بين مكة و المدينة، فحمد اللّه و أثنى عليه، و وعظ و ذكّر ثم قال: أما بعد، ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه، و استمسكوا به. فحثّ على كتاب اللّه و رغب فيه، ثم قال: و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي».

فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟. قال: لا، و أيم اللّه، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدّهر، ثم يطلّقها، فترجع إلى أبيها و قومها، أهل بيته،

ص: 107

أصله و عصبته الذين حرموا الصّدقة بعده(1).

***

2 - حديث السفينة

روى المحدّثون عن النبي الأكرم أنّه قال: «إنّما مثل أهل بيتي في أمّتي، كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق»(2).

فشبّه صلوات اللّه عليه و آله، أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله و فروعه عنهم نجا من عذاب النّار، و من تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطّوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه، غير أنّ ذاك غرق في الماء و هذا في الحميم.

فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت، فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ ؟.

يقول ابن حجر في صواعقه: «و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم و عظّمهم، شكرا لنعمة مشرّفهم، و أخذ بهدي علمائهم، نجى من ظلمة المخالفات. و من تخلّف عن ذلك، غرق في بحر كفر النّعم، و هلك في مفاوز الطغيان»(3).

***

ص: 108


1- لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث، جامع الأصول، ج 1، الفصل الثالث، من الباب الرابع، ص 100-103.
2- مستدرك الحاكم، ج 2، ص 151. الخصائص الكبرى للسيوطي، ج 2، ص 266. و للحديث طرق و مسانيد كثيرة، من أراد الوقوف عليها، فعليه بتعاليق إحقاق الحق، ج 9، ص 270-293.
3- الصواعق، الباب 11، ص 191. ألا مسائل ابن حجر أنّه إذا كان هذا مقام أهل البيت، فلما ذا لم يأخذ هو بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين و عقائده، و لا في شيء من علوم السنّة و الكتاب، و لا في شيء من الأخلاق و السلوك و الآداب؟ و لما ذا تخلّف عنهم، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم، و أهلكها في مفاوز الطغيان؟!.
البحث الثاني السنّة النبوية و الأئمة الاثنا عشر
اشارة

إنّ النبي الأكرم لم يكتف بتنصيب عليّ منصب الإمامة و الخلافة، كما لم يكتف بإرجاع الأمّة الإسلامية إلى أهل بيته و عترته الطاهرة، و لم يقتصر على تشبيههم بسفينة نوح، بل قام ببيان عدد الأئمة الذين يتولون الخلافة بعده، واحدا بعد واحد، حتى لا يبقى لمرتاب ريب، و لا لشاكّ شك، و قد جاء ذلك في الصحاح و المسانيد بصور مختلفة نشير إليها.

1 - كلهم من قريش

روى البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي يقول:

«يكون اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال:

كلّهم من قريش»(1).

2 - لا يزال الإسلام عزيزا

روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول:

ص: 109


1- صحيح البخاري، ج 9، باب الاستخلاف، ص 81. و رواه ناقصا كما يظهر ممّا نقله مسلم و غيره، رواه أحمد في مسنده، ج 5، ص 90، و ص 92، و ص 95، و ص 108.

«لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: كلّهم من قريش»(1).

3 - لا يزال الدين عزيزا منيعا

و روى أيضا عن جابر بن سمرة قال: انطلقت إلى رسول اللّه و معي أبي فسمعته يقول:

لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صمّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟. قال: كلّهم من قريش(2).

4 - لا يزال الدين قائما

و روى أيضا عنه، قال: سمعت رسول اللّه يوم جمعة عشية رجم الأسلمي، يقول: لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش(3).

5 - لا يزال الدين ظاهرا

روى أحمد في مسنده، عن جابر قال سمعت رسول اللّه يقول في حجة الوداع: إنّ هذا الدين لن يزال ظاهرا على من ناواه، لا يضرّه مخالف و لا مفارق حتى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة. ثم تكلم بشيء لم أفهمه، فقلت لأبي: ما

ص: 110


1- صحيح مسلم، ج 6، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش، ص 3. و روى هذا المضمون تارة عن سماك بن حزب عن جابر، و أخرى عن الشعبي عن جابر. و رواه أحمد في مسنده، ج 5، ص 90، و 98، و فيه: فكبّر الناس و ضجّوا.
2- المصدر السابق من صحيح مسلم، و مسند أحمد، ج 5، ص 98. و فيه: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا ينصرون على من ناواهم عليه».
3- المصدر نفسه. و مسند أحمد، ج 5، ص 86، ص 89، و في ص 92: «لا يزال الدين قائما يقاتل عليه عصابة حتى تقوم الساعة». و ص 98، و فيها «عصابة من المسلمين».

قال؟ قال: قال: كلهم من قريش(1).

6 - لا يزال هذا الأمر صالحا

روى أحمد في مسنده عن جابر عن سمرة قال: جئت أنا و أبي إلى النبي، و هو يقول: لا يزال هذا الأمر صالحا، حتى يكون اثنا عشر أميرا، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي ما قال؟. قال: كلّهم من قريش(2).

7 - لا يزال الناس بخير

و روى أيضا عنه قال: كنت مع أبي عند رسول اللّه، فقال رسول اللّه: لا يزال هذا الدين عزيزا، أو قال: لا يزال الناس بخير - شكّ أبو عبد الصمد - إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة خفيّة، فقلت لأبي، ما قال؟. قال: كلّهم من قريش(3).

فهلمّ الآن إلى البحث عن هؤلاء الخلفاء الاثني عشر، حتى نعرف من هم و قد وقفت على أنّ الرسول الأكرم قد عرفهم بالخصوصيات التالية:

- لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة.

- لا يزال الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة.

- لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة.

- لا يزال الدين ظاهرا على من ناواه... حتى يمضي من أمتي اثنا عشر خليفة.

- لا يزال هذا الأمر صالحا حتى يكون اثنا عشر أميرا.

- لا يزال الناس بخير إلى اثني عشر خليفة.

ص: 111


1- مسند أحمد، ج 5، ص 87 و ص 88 و ص 90. و لاحظ المستدرك، ج 3، ص 618 و فيه: «لا يزال أمر هذه الأمّة ظاهرا».
2- مسند أحمد، ج 5، ص 97 و ص 107 و لاحظ المستدرك، ج 3، ص 618.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 98.

و قد اختلفت كلمة شراح الحديث في تعيين هؤلاء الأئمة، و لا تجد بينها كلمة تشفي العليل، و تروي الغليل، إلاّ ما نقله القندوزي عن بعض المحققين، قال:

«إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده اثني عشر، قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان، و تعريف الكون و المكان، علم أنّ مراد رسول اللّه من حديثه هذا، الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته و عترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلّتهم عن اثني عشر، و لا يمكن أن يحمل على الملوك الأمويين لزيادتهم على الاثني عشر، و لظلمهم الفاحش إلاّ عمر بن عبد العزيز، و لكونه غير بني هاشم، لأنّ النبي صلى اللّه عليه و آله قال:

كلهم من بني هاشم، في رواية عبد الملك عن جابر، و إخفاء صوته في هذا القول يرجّح هذه الرواية، لأنّهم لا يحسّنون خلافة بني هاشم، و لا يمكن أن يحمل على الملوك العباسيين لزيادتهم على العدد المذكور، و لقلّة رعايتهم قوله سبحانه: قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ ، و حديث الكساء، فلا بدّ من أن يحمل على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته و عترته، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم، و أجلّهم، و أورعهم، و أتقاهم، و أعلاهم نسبا، و أفضلهم حسبا، و أكرمهم عند اللّه، و كانت علومهم عن آبائهم متصلة بجدّهم صلى اللّه عليه و آله، و بالوراثة اللّدنيّة، كذا عرّفهم أهل العلم و التحقيق، و أهل الكشف و التوفيق.

و يؤيّد هذا المعنى، أي أنّ مراد النبي الأئمة الاثني عشر من أهل بيته، و يشهد عليه و يرجّحه حديث الثقلين و الأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب و غيرها.

و أمّا قوله صلى اللّه عليه و آله: كلّهم يجتمع عليه الأمّة، في رواية جابر بن سمرة، فمراده أنّ الأمّة تجتمع على الإقرار بإمامة كلّهم وقت ظهور قائمهم المهدي»(1).

و العجب من بعض المتعصبين حمله على خلفاء بني أميّة من بعد الصحابة،

ص: 112


1- ينابيع المودة، للشيخ سليمان المعروف بالبلخي القندوزي، ص 446، ط اسطنبول عام 1301.

قال: «و ليس الحديث واردا على المدح، بل على استقامة السلطنة، و هم يزيد بن معاوية، و ابنه معاوية، و لا يدخل عبد اللّه بن الزبير لأنّه من الصحابة، و لا مروان بن الحكم لكونه بويع بعد ابن الزبير، فكان غاصبا، ثم عبد الملك، ثم الوليد، إلى مروان بن محمد»(1).

و هذا لعمري رمي للقول على عواهنه، فمن أين علم أنّه إشارة إلى إمارة غير الصحابة، مع أنّه قال: يكون بعدي. ثم ما فائدة هذا الإخبار و ما حاصله؟.

أضف إلى ذلك أنّ الرسول الأكرم أناط عزة الإسلام، و منعته، و قوام الدين و صلاح الأمّة، بخلافة هؤلاء. و هل كان في خلافتهم هذه الآثار، أو الذي كان هو ما يضادّها؟ فكيف يمكن حمل هذه البشائر التي صدرت على سبيل المدح، على مثل يزيد بن معاوية قاتل الإمام الطاهر، و الفاسق المعلن بالمنكرات و الكفر، و المتمثل بأشعار ابن الزّبعرى المعروفة(2). و موبقات هذا الرجل من استباحة دم الصحابة، و التابعين ثلاثة أيام(3)، و غير ذلك، ممّا لا يحصى. و كيف يعدّ وليد بن يزيد بن عبد الملك من خلفاء رسول اللّه الذين يعتزّ بهم الدين؟:

فتح الوليد المصحف ذات يوم و قرأ قوله تعالى: وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ (4)، فدعا بالمصحف، فنصبه غرضا للنشاب، و أقبل يرميه و هو يقول:

تهدّدني بجبار عنيد *** فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر *** فقل يا ربّ مزّقني الوليد

ص: 113


1- منتخب الأثر، ص 16، نقلا عن حواشي صحيح الترمذي.
2- ليت أشياخي ببدر شهدوا وقع الخزرج من وقع الأسل إلى آخر الأبيات و فيها: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل (البداية و النهاية، لابن الأثير، ج 8، ص 142. ط دار الفكر - بيروت، و تذكرة الخواص، لابن الجوزي، ص 235، ط بيروت 1401-1981).
3- لاحظ تاريخ الطبري، حوادث سنة 63، ص 370-381.
4- سورة إبراهيم: الآيتان 15 و 16.

و ذكر محمد بن يزيد المبرّد النحوي أنّ الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي صلى اللّه عليه و آله، و أنّ الوحي لم يأته من ربّه. كذب أخزاه اللّه من ذلك الشعر:

تلعّب بالخلافة هاشمي *** بلا وحي أتاه و لا كتاب

فقل للّه يمنعني طعامي *** و قل للّه يمنعني شرابي

فلم يمهل بعد قوله هذا إلاّ أياما حتى قتل(1).

و الإنسان الحرّ الفارغ عن كل رأي مسبق، لو أمعن النظر في هذه الأحاديث و أمعن في تاريخ الأئمة الاثني عشر من ولد الرسول، يقف على أنّ هذه الأحاديث لا تروم غيرهم، فإنّ بعضها يدلّ على أنّ الإسلام لا ينقرض و لا ينقضي حتى يمضي في المسلمين اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش، و بعضها يدلّ على أنّ عزّة الإسلام إنّما تكون إلى اثني عشر خليفة، و بعضها يدلّ على أنّ الدين قائم إلى قيام الساعة، و إلى ظهور اثني عشر خليفة، و غير ذلك من العناوين.

و هذه الخصوصيات لا توجد في الأمّة الإسلامية إلاّ في الأئمة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين، خصوصا ما يدلّ على أن وجود الأئمة مستمر إلى آخر الدهر، و من المعلوم أنّ آخر الأئمة هو المهدي المنتظر، الذي يعدّ ظهوره من أشراط الساعة.

و لو أضفنا إلى هذا، الروايات الكثيرة الواردة في الأئمة الاثني عشر، يقطع الإنسان بأنّه ليس المراد إلاّ هؤلاء الذين اعترف بفضلهم، و ورعهم، و تقاهم، و علمهم، و وعيهم، و حلمهم، و صبرهم، و درايتهم، و كفايتهم، الداني و القاصي، و الصديق و العدو، ألا و هم:

علي بن أبي طالب، فالحسن بن علي، فالحسين بن علي، فعلي بن الحسين، فمحمد بن علي، فجعفر بن محمد، فموسى بن جعفر، فعلي بن موسى، فمحمد بن علي، فعلي بن محمد، فالحسن بن علي، فمحمد بن الحسن

ص: 114


1- مروج الذهب، ج 3، ص 216.

العسكري، المهدي المنتظر الذي يملأ اللّه به الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا(1)، صلوات اللّه و تحياته و سلامه عليهم أجمعين.

و قد تضافرت النصوص في تنصيص الإمام السابق على الإمام اللاحق، فمن أراد الوقوف على هذه النصوص، فعليه الرجوع إلى الكتب المعدّة لإمامة الأئمة الاثني عشر(2).

ص: 115


1- سيوافيك الكلام في الإمام المنتظر، و أحاديثه في السنّة النبوية، و طول عمره، و علائم ظهوره، و غير ذلك مما يرجع إليه.
2- لاحظ الكافي، ج 1، كتاب الحجة، و أجمع كتاب في هذا الموضوع هو كتاب «إثبات الهداة» للشيخ الحرّ العاملي و قد جمع فيه النصوص المتضافرة على إمامة كلّ واحد من الأئمة الاثني عشر.
البحث الثالث عصمة الإمام في القرآن
اشارة

قد عرفت في البحث عن شروط الإمامة، اختلاف أهل السنّة في عددها، و علمت المتّفق عليه، و المختلف عليه منها. و قد اتّفقوا وراء ذلك على أنّ العصمة ليست من الشرائط، أخذا بمبادئهم حيث إنّ الخلفاء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، لم يكونوا بمعصومين قطعا، بل إنّ بعضهم لم يكن مجتهدا في الكتاب و السنّة.

و أمّا الشيعة الإمامية، فقد اتّفقت على هذا الشرط من بين الشروط، و استدلّوا عليه بأدلّة، نكتفي ببعضها:

1 - الإمامة استمرار لوظائف الرسالة

إنّ حقيقة الإمامة الذي تتبناه الشيعة الإمامية، هي القيام بوظائف الرسول بعد رحلته، و قد تعرفت على وظائفه الرسالية و الفراغات الحاصلة بموته و التحاقه بالرفيق الأعلى. و من المعلوم أنّ سدّ هذه الفراغات لا يتحقق إلاّ بأن يكون الإمام متمتعا بما يتمتع به النبي الأكرم من الكفاءات و المؤهلات، فيكون عارفا بالكتاب و السنّة على وفق الواقع، و عالما بحكم الموضوعات المستجدة عرفانا واقعيا، و ذابّا عن الدين شبهات المشككين، و من المعلوم أنّ هذه الوظيفة تستدعي كون الإمام مصونا من الخطأ. فما دلّ على أنّ النبيّ يجب أن يكون مصونا في مقام إبلاغ

ص: 116

الرسالة، قائم في المقام بنفسه، فإنّ الإمام يقوم بنفس تلك الوظيفة، و إن لم يكن رسولا و لا طرفا للوحي، و لكنه يكون عيبة لعلمه، و حاملا لشرعه و أحكامه، فإذا لم نجوّز الخطأ على النبي في مقام الإبلاغ، فليكن الأمر كذلك في مقام القيام بتلك الوظيفة بلا منصب الرسالة و النبوة.

2 - آية ابتلاء إبراهيم
اشارة

قال سبحانه: وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً، قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ (1).

إنّ تفسير الآية كما هو حقّها يتوقف على البحث عن النقاط التالية:

أ - ما هو الهدف من الابتلاء؟.

ب - ما هو المراد من الكلمات؟.

ج - ما ذا يراد من الإتمام؟.

د - ما هو المقصود من الإمام (إماما)؟.

ه - كيف تكون الإمامة عهدا إلهيا (عهدي)؟.

و - ما هو المراد من الظالمين؟.

و لكنّ إفاضة الكلام في هذه الموضوعات، يحوجنا إلى تأليف رسالة مفردة فنكتفي بالتركيز على اثنين من هذه الموضوعات(2).

الأول - ما هو المقصود من الإمامة التي أنعم اللّه سبحانه بها على نبيّه الخليل؟.

الثاني - ما هو المراد من الظالمين؟.

ص: 117


1- سورة البقرة: الآية 124.
2- و قد أشبع شيخنا الأستاذ، البحث عن هذه الموضوعات الستّة في موسوعته القرآنية «مفاهيم القرآن»، ج 5، ص 205-259.
الأول - ما هو المراد من الإمامة في الآية؟

ذهب عدّة من المفسّرين منهم الرازي في مفاتيحه، إلى أنّ المراد من الإمامة هنا، النبوة، و أنّ ملاك إمامة الخليل، نبوّته، لأنّها تتضمن مشاقّا عظيمة(1).

و قال الشيخ محمد عبده: «الإمامة هنا عبارة عن الرسالة، و هي لا تنال بكسب الكاسب»(2).

يلاحظ عليه: إنّ إبراهيم كان نبيّا قبل الابتلاء بالكلمات، و قبل تنصيبه إماما، فكيف يصحّ أن تفسّر الإمامة بالنبوّة على ما في لفظ الرازي، أو بالرسالة، على ما في لفظ المنار؟ و دليلنا على ما ذكرنا، أمران:

1 - إنّ نزول الوحي على إبراهيم، و جعله طرفا للخطاب بقوله: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً ، أوضح دليل على أنّه كان نبيّا متلقيا للوحي قبل نزول هذه الآية. و أسلوب الكلام يدلّ على أنّه لم يكن وحيا ابتدائيا، بل يعرب عن كونه استمرارا للوحي السابق، و المحاورة الموجودة بينه و بين اللّه تعالى، حيث طلب الإمامة لذريته، تناسب الوحي الاستمراري لا الوحي الابتدائي. و إن كنت في شكّ، فلاحظ الوحي الابتدائي، النازل على موسى في طور سيناء حيث خوطب بقوله:

فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (3) .

2 - إنّ الخليل طلب الإمامة لذرّيته، و من المعلوم أنّ إبراهيم كان نبيّا قبل أن يرزق أيّ ولد من ولديه إسماعيل و إسحاق، أمّا أوّلهما فقد رزقه بعد تحطيم الأصنام في بابل، و إعداد العدّة للخروج إلى فلسطين، حيث وافاه الوحي

ص: 118


1- مفاتيح الغيب، للرازي، ج 1، ص 490.
2- المنار، ج 1، ص 455.
3- سورة القصص: الآية 30. و لاحظ سورة العلق: الآيات 1-5، فإنّها من الوحي الابتدائي، و هي لا تشبه الخطاب الوارد في الآية الموجّه إلى الخليل.

و بشّره: فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ (1). و أمّا ثانيهما، فقد بشرته به الملائكة عند ما دخلوا عليه ضيوفا، فقالوا: إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ (2).

و على ذلك، يجب أن تكون الإمامة الموهوبة للخليل غير النبوة، و إلاّ كان أشبه بتحصيل الحاصل.

و الظاهر أنّ المراد من الإمامة، القيادة الإلهية للمجتمع، فإنّ هناك مقامات ثلاثة:

- مقام النبوة، و هو منصب تحمّل الوحي.

- مقام الرسالة، و هو منصب إبلاغه إلى الناس.

- مقام الإمامة، و هو منصب القيادة و تنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة و قدرة.

و يعرب عن كون المراد من الإمامة في المقام هو المعنى الثالث، قوله سبحانه: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّٰاسَ عَلىٰ مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنٰا آلَ إِبْرٰاهِيمَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْنٰاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (3).

فالإمامة التي أنعم بها اللّه سبحانه على الخليل و بعض ذرّيته، هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. و علينا الفحص عن المراد من الملك العظيم، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الإمامة، وراء النبوة و الرسالة، و إنّما هو قيادة حكيمة، و حكومة إلهيّة، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة. و اللّه سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية:

1 - يقول سبحانه - حاكيا قول يوسف عليه السلام -: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ (4). و من المعلوم أنّ الملك الذي منّ به

ص: 119


1- لاحظ سورة الصافات: الآيات 91-102.
2- لاحظ سورة الحجر: الآيات 51-55.
3- سورة النساء: الآية 54.
4- سورة يوسف: الآية 101.

سبحانه على عبده يوسف، ليس النبوة، بل الحاكمية، حيث صار أمينا مكينا في الأرض. فقوله: وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ ، إشارة إلى نبوته، و الملك إشارة إلى سلطته و قدرته.

2 - و يقول سبحانه في داود عليه السلام: وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ (1). و يقول سبحانه: وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ (2).

3 - و يحكي اللّه تعالى عن سليمان أنّه قال: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّٰابُ (3).

فملاحظة هذه الآيات يفسّر لنا حقيقة الإمامة، و ذلك بفضل الأمور التالية.

أ - إنّ إبراهيم طلب الإمامة لذريته، و قد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.

ب - إنّ مجموعة من ذريته، كيوسف و داود و سليمان، نالوا - وراء النبوة و الرسالة - منصب الحكومة و القيادة.

ج - إنّه سبحانه أعطى آل إبراهيم الكتاب، و الحكمة، و الملك العظيم.

فمن ضمّ هذه الأمور بعضها إلى بعض، يخرج بهذه النتيجة: إنّ ملاك الإمامة في ذريّة إبراهيم، هو قيادتهم و حكمهم في المجتمع، و هذه هي حقيقة الإمامة، غير أنّها ربما تجتمع مع المقامين الآخرين، كما في الخليل، و يوسف، و داود، و سليمان، و غيرهم، و ربما تنفصل عنهما، كما في قوله سبحانه: وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً، قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمٰالِ، قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ

ص: 120


1- سورة البقرة: الآية 251.
2- سورة ص: الآية 20.
3- سورة ص: الآية 35.

بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ، وَ اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (1) .

و الإمامة التي يتبناها المسلمون بعد رحلة النبي الأكرم، تتّحد واقعيتها مع هذه الإمامة.

الثاني - ما هو المراد من الظالمين
اشارة

الظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه، و مجاوزة الحدّ الذي عيّنه العرف أو الشرع، فالمعصية، كبيرها و صغيرها، ظلم، لأنّ مقترفهما يتجاوز عن الحدّ الذي رسمه الشارع.

و الظلم له مراتب، و المجموع يشترك في كونه تجاوزا عن الحدّ، و وضعا للشيء في غير موضعه.

و لما خلع سبحانه ثوب الإمامة على خليله، و نصبه إماما للناس، و دعا إبراهيم أن يجعل من ذريته إماما، أجيب بأنّ الإمامة وثيقة إلهية، لا تنال الظالمين، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس، المتصرف في الأموال و النفوس، و قائد المجتمع إلى السعادة، فيجب أن يكون على الصراط السويّ، حتى يكون أمره، و نهيه، و تصرّفه، و قيادته، نابعة منه. و الظالم المتجاوز عن الحدّ، لا يصلح لهذا المنصب.

إنّ الظالم الناكث لعهد اللّه، و الناقض لقوانينه و حدوده، على شفا جرف هار، لا يؤتمن عليه، و لا تلقى إليه مقاليد الخلافة، و لا مفاتيح القيادة، لأنّه على مقربة من الخيانة و التعدّي، و على استعداد لأن يقع أداة للجائرين، فكيف يصحّ في منطق العقل أن يكون إماما مطاعا نافذا قوله، مشروعا تصرّفه، إلى غير ذلك من لوازم الإمامة؟.

إنّ بعض المناصب و المقامات، تعيّن شروطها بالنظر إلى ماهيتها و واقعيتها،

ص: 121


1- سورة البقرة: الآية 247.

فمدير المستشفى مثلا، له شروط تختلف عن شروط القائد. فالإمامة، التي لا تنفك عن التصرف في النفوس و الأموال، و بها يناط حفظ القوانين، يجب أن يكون القائم بها إنسانا مثاليا، مالكا لنفسه، و لغرائزه، حتى لا يتجاوز في حكمه عن الحدّ، و في قضائه عن الحق.

الجمع المحلّى باللام العموم

الظاهر من صيغة الجمع المحلّى باللام، أنّ الظلم بكل ألوانه و صوره، مانع عن نيل هذا المنصب الإلهي، فالاستغراق في جانب الأفراد، يستلزم الاستغراق في جانب الظلم، و تكون النتيجة ممنوعية كل فرد من أفراد الظلمة عن الارتقاء إلى منصب الإمامة، سواء أ كان ظالما في فترة من عمره ثم تاب و صار غير ظالم، أو بقي على ظلمه. فالظالم عند ما يرتكب الظلم يشمله قوله سبحانه:

لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ . فصلاحيته بعد ارتفاع الظلم تحتاج إلى دليل.

و على ذلك، فكل من ارتكب ظلما، و تجاوز حدّا في يوم من أيام عمره، أو عبد صنما، أو لاذ إلى وثن، و بالجملة: ارتكب ما هو حرام، فضلا عمّا هو كفر، ينادى من فوق العرش: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ ، أي أنتم الظلمة الكفرة المتجاوزون عن الحدّ، لستم قابلين لتحمل منصب الإمامة؛ من غير فرق بين أن يصلح حالهم بعد تلك الفترة، أو يبقوا على ما كانوا عليه.

و هذا يستلزم أن يكون المؤهّل للإمامة، طاهرا من الذنوب من لدن وضع عليه القلم، إلى أن أدرج في كفنه و أدخل في لحده، و هذا ما نسميه بالعصمة في مورد الإمامة.

سؤال و جوابه

السؤال لسائل أن يسأل و يقول: إنّ الآية إنّما تشمل من كان مقيما على الظلم، و أمّا التائب منه، فلا يتعلق به الحكم، لأنّ الحكم إذا كان معلقا على صفة،

ص: 122

و زالت الصفة، زال الحكم. أ لا ترى أنّ قوله: وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا (1)، إنّما هو ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم، فقوله تعالى:

لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ . لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه، لأنّه في هذه الحالة، لا يسمى ظالما، كما لا يسمى من تاب من الكفر، كافرا.

و الجواب:

إنّ هذا الاعتراض ذكره الجصاص (م 370) في تفسيره على آيات الأحكام(2). و لكنه عزب عنه أنّ قوله: الحكم يدور مدار وجود الموضع، ليس ضابطا كليّا، بل الأحكام على قسمين، قسم كذلك، و آخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف و العنوان آنا ما، و لحظة خاصة، و إن انتفى بعد الاتصاف، فقوله: «الخمر حرام»، أو: «في سائمة الغنم زكاة»، من. قبيل القسم الأول، و أمّا قوله: «الزاني يحدّ»، و «السارق يقطع»، فالمراد منه أنّ الإنسان المتلبس بالزنا أو السرقة يكون محكوما بهما و إن زال العنوان، و تاب السارق و الزاني، و مثله: «المستطيع يجب عليه الحج»، فالحكم ثابت، و إن زالت عنه الاستطاعة تقصير لا عن قصور.

و على ذلك فالمدعى أنّ الظالمين في الآية المباركة كالسارق و السارقة(3) و الزاني و الزانية(4)، و المستطيع(5) و أمهات نسائكم(6) في الآيات الراجعة إليهم.

نعم المهم في المقام إثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل القسم الثاني، و أنّ

ص: 123


1- سورة هود: الآية 113.
2- تفسير آيات الأحكام، ج 1، ص 72.
3- سورة المائدة: الآية 38.
4- سورة النور: الآية 2.
5- سورة آل عمران: الآية 97.
6- سورة النساء: الآية 23. فمن صدق عليها الأمومة للزوجة يحرم على الزوج تزوّجها، و إن طلق ابنتها.

التلبس بالظلم و لو آنا ما، و فترة يسيرة من عمره يسلب من الإنسان صلاحية الإمامة و إن تاب من ذنبه.

و يدلّ على ذلك أمران:

الأول: إنّ الهدف الاسمي من تنصيب كل إنسان على الإمامة، تجسيد الشريعة الإلهية في المجتمع، فإذا كان القائد رجلا مثاليا نقي الثوب، مشرق الصحيفة، لم ير منه عصيان و لا زلّة، يتحقق الهدف من نصبه في ذلك المقام.

و أمّا إذا كان في فترة من عمره مقترفا للمعاصي، ما جنا، مجترحا للسيئات، فيكون غرضا لسهام الناقدين، و من البعيد أن ينفذ قوله، و تقبل قيادته بسهولة، بل ينادى عليه إنّه كان بالأمس، يقترف الذنوب، و أصبح اليوم آمرا بالحق و مميتا للباطل.

و لأجل تحقق الهدف يحكم العقل بلزوم نقاوة الإمام عن كل رذيلة و معصية في جميع فترات عمره، و أنّ الإنابة لو كانت ناجعة في حياته الفردية فليست كذلك في حياته الاجتماعية، فلن تخضع له الأعناق، و تميل إليه القلوب.

الثاني: إنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:

1 - من كان طيلة عمره ظالما.

2 - من كان طاهرا و نقيا في جميع فترات عمره.

3 - من كان ظالما في بداية عمره، و تائبا في آخره.

4 - من كان طاهرا في بداية عمره، و ظالما في آخره.

عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم عليه السلام، الذي سأل الإمامة لبعض ذريته، أيّ قسم منها أراد؟.

حاش إبراهيم أن يسأل الإمامة للقسم الأول، و الرابع من ذرّيته، لوضوح أنّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره، أو المتصف به أيام تصديه للإمامة، لا يصلح لأن يؤتمن عليها.

ص: 124

فبقي القسمان الآخران، الثاني و الثالث، و قد نصّ سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم، و الظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث، أعني من كان ظالما في بداية عمره، و كان تائبا حين التصدي.

فإذا خرج هذا القسم، بقي القسم الثاني، و هو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره، لم ير منه لا قبل التصدي و لا بعده أيّ انحراف عن جادّة الحق، و مجاوزة للصراط السوي.

3 - آية التطهير و عصمة أهل البيت (ع)
اشارة

هناك آية أخرى تدلّ على عصمة عدّة خاصة من أهل بيت النبي الأكرم.

يقول سبحانه: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ اَلْأُولىٰ، وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتِينَ اَلزَّكٰاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1).

و أداء حقّ الآية في التفسير، يتوقف على البحث عن النقاط التالية:

1 - ما هو المراد من الرّجس؟.

2 - هل الإرادة في الآية، إرادة تكوينية خاصة بأهل البيت، أو تشريعية تعمّ كلّ إنسان بالغ واقع في إطار التكليف؟.

3 - من المراد من أهل البيت؟.

4 - مشكلة السياق في الآية لو كان المراد منهم غير نسائه، صلوات اللّه عليه و آله.

5 - أهل البيت في حديث النبي، الذي يكون مفسّرا لإجمال الآية.

ص: 125


1- سورة الأحزاب: الآية 33.

و البحث عن هذه الأمور يحوجنا إلى تأليف مفرد، و هو خارج عن وضع كتابنا(1)، إلاّ أنّ المهم هنا هو التركيز على أنّ الإرادة في الآية تكوينية، خاصة بأهل البيت، و ليست تشريعية، و أمّا المقصود من أهل البيت، فقد تقدّمت المأثورات فيهم عند البحث عن حديث الثقلين.

الإرادة تكوينية لا تشريعية

إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى القسمين المذكورين، من الانقسامات الواضحة، و مجمل القول فيهما أنّه إذا تعلقت إرادته سبحانه على إيجاد شيء و تكوينه في صحيفة الوجود، فالإرادة تكوينية لا تتخلف عن المراد.

قال سبحانه: إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ، فَيَكُونُ (2).

و أما إذا تعلّقت بتشريع حكم و قانون، لفرض عمل المكلّف به، فالإرادة تشريعية، و متعلّقها هو التشريع، و أمّا امتثال المكلف فهو من غايات التشريع، ربما يقع و يترتب عليه، و ربما ينفك عنه.

و القرائن تدلّ على أنّ المراد هنا هو الأول من الإرادتين، بمعنى أنّ إرادته سبحانه، تعلّقت على إذهاب الرجس عن أهل البيت و تطهيرهم من كل شيء يتنفر منه، على غرار تعلق إرادته بإيجاد الأشياء في صحيفة الوجود.

و الذي يدلّ على ذلك أمور:

1 - إنّ الإرادة التشريعية لا تختص بطائفة دون طائفة، بل هي تعمّ المكلّفين عامة، يقول سبحانه، بعد أمره بالوضوء و التيمم عند فقدان الماء:

وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (3) .

ص: 126


1- قد أفاض الشيخ الأستاذ الكلام في هذه المواضيع في موسوعته التفسيريّة، مفاهيم القرآن، ج 5، ص 215-322.
2- سورة يس: الآية 82.
3- سورة المائدة: الآية 6.

و لكنه سبحانه خصّص إرادته في الآية المبحوث عنها، بجمع خاص، تجمعهم كلمة أهل البيت، و خصّهم بالخطاب و قال: عنكم أهل البيت، أي لا غيركم، فتخصيص الإرادة بجمع خاص على الوجه المذكور، يمنع من تفسيرها بالتشريعية.

2 - إنّ العناية البارزة في الآية المباركة، أقوى شاهد على أنّ المقصود هو التكوينية، لوضوح أنّ تعلّق الإرادة التشريعية لا يحتاج إلى العنايات التالية:

أ - ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر، و قال: إِنَّمٰا ، و لا معنى للحصر إذا كانت تشريعية، لعمومها لكلّ مكلّف.

ب - عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص، فقال: أَهْلَ اَلْبَيْتِ ، و هو منصوب على الاختصاص(1). أي أخصّكم أهل البيت.

ج - قد بيّن متعلق إرادته بالتأكيد، و قال بعد قوله: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ ، يُطَهِّرَكُمْ .

د - قد أكّده بالإتيان بمصدره بعد الفعل، و قال: وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، ليكون أوفى في التأكيد.

ه - إنّه سبحانه قد أتى بالمصدر نكرة، ليدلّ على الإكبار و الإعجاب، أي تطهيرا عظيما معجبا.

و - إنّ الآية في مقام المدح و الثناء، فلو كانت الإرادة تشريعية، لما ناسب الثناء و المدح.

و على الجملة: العناية البارزة في الآية، تدلّ بوضوح على أنّ الإرادة في المقام تغاير الإرادة العامة المتعلقة بكلّ إنسان حاضر، أو باد. و للمحققين من الشيعة الإمامية كلمات وافية حول الآية تلاحظ في مواضعها(2).

ص: 127


1- الاختصاص من أقسام المنادى، يقول ابن مالك: الاختصاص كنداء دون يا كأيّها الفتى بإثر ارجونيا
2- تفسير التبيان، للشيخ الطوسي، (ت 383 - م 460)، ج 8، ص 340. و مجمع البيان،

فالإرادة في الآية الشريفة، نظير الإرادة الواردة في الآيات التالية:

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ (1) .

وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ (2) .

وَ مَنْ يُرِدِ اَللّٰهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً، أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّٰهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، لَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ (3) .

و أمّا دلالتها على العصمة، فتظهر إذا اطّلعنا على أنّ المراد من الرجس هو القذارة المعنوية لا المادية، توضيح ذلك، إنّ الرجس في اللغة هو القذر(4)، و قد يعبّر به عن الحرام، و الفعل القبيح، و العذاب، و اللعن، و الكفر، قال الزجاج: «الرّجس - في اللغة - كل ما استقذر من عمل، فبالغ اللّه في ذمّ أشياء و سماها رجسا». و قال ابن الكلبي: «رجس من عمل الشيطان، أي مأثم»(5).

و المتفحص في كلمات أئمة أهل اللغة، و الآيات الواردة فيها تلك اللفظة، يصل إلى أنّها موضوعة للقذارة التي تتنفر منها النفوس، سواء أ كانت مادية كما في قوله تعالى: إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ (6)، أو معنوية كما في الكافر و عابد الوثن، و صنمه، قال سبحانه:

فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ (7) .

ص: 128


1- سورة القصص: الآية 5.
2- سورة الأنفال: الآية 7.
3- سورة المائدة: الآية 41.
4- مقاييس اللغة، ج 2، ص 490، و لسان العرب ج 6 ص 94.
5- لسان العرب، ج 6، ص 94.
6- سورة الأنعام: الآية 145.
7- سورة الحج: الآية 30.

و قال سبحانه: كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اَللّٰهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ (1).

فلو وصف العمل القبيح بالرجس، فلأنّه عمل قذر، تتنفر منه الطباع السليمة.

و على ضوء هذا، فالمراد من الرّجس في الآية، كلّ عمل قبيح عرفا أو شرعا، لا تقبله الطباع، و لذلك قال سبحانه بعد تلك اللفظة، وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، فليس المراد من التطهير، إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي تعدّ المعاصي و المآثم من أظهر مصاديقه.

و قد ورد نظير الآية في حق السيدة مريم قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ (2).

و من المعلوم أنّ تعلّق الإرادة التكوينية على إذهاب كلّ رجس و قذارة، و كلّ عمل منفّر عرفا أو شرعا، يجعل من تعلّقت به الإرادة، إنسانا مثاليا، نزيها عن كل عيب و شين، و وصمة عار(3).

إلى هنا ظهر بوضوح أنّ العصمة شرط للإمام بالمعنى الذي يتبناه الإمامية في مجال الإمامة، و الآيتان الأوليان تدلاّن على عصمة الإمام مطلقا، و الآية الثالثة تدلّ على عصمة أهل البيت الذين نزلت فيهم الآية و فسّرت في غير واحد من الروايات، و هم من كان إماما و خليفة للرسول كعلي و الحسنين عليهما السلام، و من كانت طاهرة مطهّرة كالسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، و إن لم تكن إماما.

بقيت هنا أبحاث موجودة في كتب الإمامة للشيعة الإمامية، طوينا البحث

ص: 129


1- سورة الأنعام: الآية 125.
2- سورة آل عمران: الآية 42.
3- و حول الآية أبحاث لطيفة، فمن أراد التبسّط فليرجع إلى المصدر الذي تقدّم الإيعاز إليه.

عنها، لعدم الحاجة إلى البحث فيها بعد انتشار هذه الكتب و ذيوعها و هي عبارة عن الأبحاث التالية:

1 - البحث عن الآيات الواردة في حق الإمام علي عليه السلام.

2 - البحث عن الفضائل و المناقب الواردة في حقّه على لسان النبي الأكرم، و نقلها أصحاب الصحاح و المسانيد.

3 - نفسيات الإمام و فضائله الأخلاقية التي اعترف بها التاريخ.

4 - كونه أعلم الصحابة و أوعاهم بالكتاب و السنّة، و قد كان الخلفاء يحتكمون إليه في مواضع لا تحصى.

5 - احتجاجاته على كونه أحقّ بهذا الأمر (خلافة الرسول) ممّن تسنموا منصة الخلافة.

و من أراد التبسّط في هذه المواضع، فعليه بالكتب المعدّة للإمامة(1).

ص: 130


1- لاحظ الشافي للسيد المرتضى (م 436)، و تلخيصه لتلميذه الشيخ الطوسي (م 460)، و نهج الحق و كشف الصدق للعلامة الحلي، (م 726)، و إحقاق الحق للقاضي التستري، (م 1019)، و دلائل الصدق للمظفر النجفي. و غيرها من مؤلفات كبار و رسائل صغار.
البحث الرابع الإمام المنتظر في الكتاب و السنّة
اشارة

قد تعرفت على عدد الأئمة و أسمائهم، غير أنّ إفاضة القول في خصوصياتهم، و علومهم و فضائلهم، و نتائج جهودهم في مجال العلم و الفقه و الحديث، و من ربّوه و أنتجوه من الرواة الوعاة، و ما لا قوه من اضطهاد خلفاء عصرهم، يحتاج إلى تأليف حافل.

و لأجل ذلك طوينا الصفح عن هذه المباحث، إلاّ انّ الاعتقاد بالإمام المنتظر، مهدي هذه الأمّة، لما كان أصلا رصينا في أبحاث الإمامة للشيعة، و كان الاعتقاد به أمرا مشتركا بين طوائف المسلمين، رجّحنا إلقاء الضوء على هذا الأصل على وجه الإجمال، و لا طريق لإثبات وجوده، و ولادته، و عمره، و ظهوره، و آثاره بعد الظهور، و أصحابه، إلاّ السمع، فنقول:

كلّ من كان له إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة، عن النبي و آله و أصحابه، بظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل و الظلم و الجور، و نشر أعلام العلم، و العدل و إعلاء كلمة الحق، و إظهار الدين كلّه و لو كره المشركون، فهو بإذن اللّه تعالى ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللّه، و يلغي الأخلاق و العادات الذميمة، و يبطل القوانين الكافرة التي سنتها الأهواء، و وضعتها يد بني البشر، و يقطع أواصر التعصبات القومية و العنصرية، و الوطنية، و يميت أسباب العداوة و البغضاء التي صارت سببا لاختلاف الأمّة

ص: 131

و افتراق الكلمة، و اشتعال نيران الفتن و المنازعات، و يحقق اللّه سبحانه بظهوره، وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله:

1 - وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ، وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ (1).

2 - وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ (2).

3 - وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ (3).

و يأتي عصر ذهبي لا يبقى فيه على الأرض بيت إلاّ دخلته كلمة الإسلام، و لا تبقى قرية إلاّ و ينادي فيها بشهادة: «لا إله إلاّ اللّه»، بكرة و عشيا.

هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأول، و الأزمنة المتلاحقة، و لأجل ذلك استغلّ بعض المتهوسين قضية الإمام المهدي، فادّعوا المهدويّة، و لم نعهد أحدا ردّه بإنكار أصل هذه البشائر، و إنّما ناقشوه في الخصوصيات و عدم انطباق البشائر عليه(4).

ص: 132


1- سورة النور: الآية 55.
2- سورة القصص: الآية 5.
3- سورة الأنبياء: الآية 105.
4- و قد ألّف غير واحد من أعلام السّنة كتبا حول الإمام المهدي عليه السلام، كالحافظ أبي نعيم الأصفهاني له كتاب: «صفة المهدي»، و الكنجي الشافعي له: «البيان في أخبار صاحب الزمان»، و ملاّ علي المتقي له: «البرهان في علامات مهديّ آخر الزمان»، و عباد بن يعقوب الرواجني له: «أخبار المهدي»، و السيوطي له: «العرف الوردي في أخبار المهدي»، و ابن حجر له: «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر»، و الشيخ جمال الدين الدمشقي له: «عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر»، و غيرهم قديما و حديثا. و لم ير التضعيف لأخبار الإمام المهدي إلاّ من ابن خلدون في مقدمته، و قد فنّد مقاله الأستاذ أحمد

و قد تضافر مضمون قول الرسول الأعظم صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل اللّه ذلك اليوم، حتى يخرج رجل من ولدي، فيملؤها عدلا و قسطا، كما ملئت جورا و ظلما»(1).

و قد عرفت أنّ بحث المهدي بحث نقلي لا يمتّ إلى العقل بصلة، فعلى من يريد اعتناقه، أو - و العياذ باللّه - ردّه و رفضه، الرجوع إلى الصحاح و المسانيد، و كتب الحديث و التاريخ، حتى يقف على عدد الروايات الواردة حول المهدي عليه السلام، في مجالات مختلفة، و ها نحن نأتي في المقام بفهرس الروايات التي رواها السنّة و الشيعة.

فنقول:

1 - الروايات التي تبشّر بظهوره 657 رواية.

2 - الروايات التي تصفه بأنّه من أهل بيت النبي الأكرم 389 رواية.

3 - الروايات التي تدلّ على أنّه من أولاد الإمام علي عليه السلام 214 رواية.

4 - الروايات التي تدلّ على أنّه من أولاد فاطمة عليها السلام بنت النبي 192 رواية.

5 - الروايات التي تدلّ على أنّه التاسع من أولاد الحسين عليه السلام 148 رواية.

6 - الروايات التي تدلّ على أنّه من أولاد الإمام زين العابدين عليه السلام 185 رواية.

7 - الروايات التي تدلّ على أنّه من أولاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام 146 رواية.

8 - الروايات التي تبيّن آباء الإمام الحسن العسكري عليه السلام 147 رواية.

9 - الروايات التي تدلّ على أنّه يملأ العالم قسطا و عدلا. 132 رواية.

ص: 133


1- لاحظ مسند أحمد، ج 1، ص 99. و ج 3، ص 17 و 70.

10 - الروايات التي تدل على أنّ للإمام المهدي غيبة طويلة. 91 رواية.

11 - الروايات التي تدلّ على أنّه يعمّر عمرا طويلا. 318 رواية.

12 - الروايات التي تدلّ على أنّ الإسلام يعمّ العالم كلّه بعد ظهوره 47 رواية.

13 - الروايات التي تدلّ على أنّه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت 136 رواية.

14 - الروايات الواردة حول ولادته. 214 رواية.

و لو وجد هنا خلاف بين أكثر السنّة، و الشيعة، فهو الاختلاف في ولادته، فإنّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان، و الشيعة بفضل هذه الروايات، تذهب إلى أنّه ولد في «سرّ من رأى»، عام 255، و غاب بأمر اللّه سبحانه سنة وفاة والده، عام 260، و هو يحيى حياة طبيعية كسائر الناس، غير أنّ الناس يرونه و لا يعرفونه(1)، و سوف يظهره اللّه سبحانه لتحقق عدله.

و لأجل أن يقف الباحث على نماذج من أحاديث المهدي في الصحاح و المسانيد، نذكر بعضا منها و هو نذر يسير من الأحاديث الكثيرة التي رواها المحدّثون و الحفاظ في كتبهم:

1 - روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال:

«لو لم يبق من الدّهر إلاّ يوم واحد، لبعث اللّه رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا، كما ملئت جورا»(2).

2 - أخرج أبو داود، عن عبد اللّه بن مسعود قال: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «لا تذهب - أولا تنقضي - الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»(3).

ص: 134


1- و أمّا ما يلهج به بعض النواصب الأعداء، من أنّ الشيعة تذهب إلى غيبته في السرداب في سامراء، فهو من الأكاذيب التي ليس لها أصل أبدا، لا في الكتب، و لا في صدور العوام، و إنّما افتعلوه ازدراء بالعقيدة.
2- مسند أحمد، ج 1، ص 99، و ج 3، ص 17 و 70.
3- جامع الأصول، ج 11، ص 48، الرقم 7810.

3 - أخرج أبو داود عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها، قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: المهديّ من عترتي من ولد فاطمة»(1).

4 - أخرج الترمذي عن ابن مسعود أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال:

«يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي». قال: و قال أبو هريرة: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم، لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يلي»(2).

5 - روى ابن ماجة في سننه عن أبي أمامة الباهلي، قال: خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدّجال، و حذّرناه، فكان من قوله: إنّه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ اللّه ذرية آدم، أعظم من فتنة الدجال...» إلى أن قال: «و إمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم ليصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى، ليقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له:

تقدّم فصلّ، فإنّها لك أقيمت. فيصلي بهم إمامهم..» (الحديث)(3).

و سيجيء ذكر ما رواه البخاري و مسلم فيما يأتي.

قال بعض المحققين المعاصرين من أهل السنّة: «لا أرى لزاما علينا نحن المسلمين أن نربط ديننا بهما (صحيحي مسلم و البخاري)، فلنفرض أنّهما لم يكونا، فهل تشل حركتنا و تتوقف دورتنا؟. لا، فالأمّة بخير و الحمد للّه، و الذين جاءوا بعد البخاري و مسلم استدركوا عليهما، و استكملوا جهدهما، و وزنوا عملهما، و كشفوا بعض الخلاف في صحيحهما، و ما زال المحدّثون في تقدم علمي، و بحث و تحقيق، و دراسة و جمع، و مقارنة و تمحيص، حتى يغمر الضوء كل مجهول، و يظهر كلّ خفي.

ص: 135


1- المصدر السابق، ص 49، الرقم 7812.
2- المصدر السابق، ص 48، الرقم 7810.
3- سنن ابن ماجه، ج 2، باب فتنة الدجال و خروج عيسى، ص 512-515، و كنز العمال، ج 14، ص 292-296، الرقم 38742.

و لما ذا نردّ حديثنا لمجرد أن قيل في بعض رواته أنّه لين، أو ضعيف، أو منقطع، أو مرسل، أو...؟.

نعم، هذه علل، تثير الشك و التساؤل، و تدفع إلى زيادة البحث و التعمّق، و لكن - كما أعتقد - إنّ بعض علل الحديث لا تلزم بالرد لهذا الحديث، فكثيرا ما نجد في بعض الطرق ضعفا، و في بعضها قوّة، فهو صحيح من طريق، حسن أو ضعيف من أخرى، و معنى هذا أنّ الراوي الذي حكم عليه مثلا بأنّه ينسى، تبيّن أنّه في هذه الواقعة لم ينس، فجاءت روايته مؤيّدة بما جاء عن غيره.

و أحاديث المهدي - في نظري - من هذا النوع، و لو بعضها. رغم أنّ بعض المسلمين - كابن خلدون - قد بالغ و ضعّفها كلّها، و ردّها و حكم عليها حكما قاسيا، و اتّهم كل هؤلاء الرواة و من رووا عنهم بما لا يليق أن يظنّ فيهم.

إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين، أو راو أو راويين، إنّها مجموعة من الأحاديث و الآثار تبلغ الثمانين تقريبا، اجتمع على تناقلها مئات الرواة، و أكثر من صاحب كتاب صحيح.

فلما ذا نردّ كلّ هذه الكمية؟ أ كلّها فاسدة؟. لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين - و العياذ باللّه - نتيجة تطرّق الشك و الظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله.

ثم إنّي لا أجد خلافا حول ظهور المهدي، أو حول حاجة العالم إليه، و إنّما الخلاف حول من هو، حسني، أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان، أو موجود الآن، خفي و سيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟. و لا عبرة بالمدّعين الكاذبين، فليس لهم اعتبار.

ثم إنّي لم أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث، و الذي أجده إنّما هو مناقشة و خلاف حول السند، و اتّصاله أو عدم اتّصاله، و درجة رواته، و من خرّجوه، و من قالوا فيه.

ص: 136

و إذا نظرنا إلى ظهور المهدي، نظرة مجرّدة، فإنّنا لا نجد حرجا من قبولها و تصديقها، أو على الأقل عدم رفضها.

فإذا ما تأيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة، و الأحاديث المتعددة، و رواتها مسلمون مؤتمنون، و الكتب التي نقلتها إلينا كتب قيمة، و الترمذي من رجال التخريج و الحكم، بالإضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها ما يصحّ أن يكون سندا لها في البخاري و مسلم، كحديث جابر في مسلم الذي فيه: «فيقول أميرهم (أي لعيسى) تعال صل بنا»(1) و حديث أبي هريرة في البخاري، و فيه: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم و إمامكم منكم»(2)، فلا مانع من أن يكون هذا الأمير، و هذا الإمام هو المهدي.

يضاف إلى هذا أنّ كثيرا من السلف رضي اللّه عنهم، لم يعارضوا هذا القول، بل جاءت شروحهم و تقريراتهم موافقة لإثبات هذه العقيدة عند المسلمين»(3).

ص: 137


1- صحيح مسلم، ج 1، باب نزول عيسى، ص 95. و فيه عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى، فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إنّ بعضكم على بعض أمراء، تكرمة اللّه هذه الأمّة. و لاحظ كنز العمال، ج 14، ص 334، الرقم 38846.
2- صحيح البخاري، ج 4، باب نزول عيسى بن مريم عليه السلام، ص 168. و صحيح مسلم، ج 1، باب نزول عيسى، ص 94، و كنز العمال، ج 14، ص 334، الرقم 38845.
3- بين يدي الساعة للدكتور عبد الباقي، ص 123-125.

ص: 138

أسئلة حول المهدي المنتظر عليه السلام 1 - كيف يكون إماما و هو غائب؟ 2 - لما ذا غاب المهدي عليه السلام؟ 3 - الإمام المهدي و طول عمره.

4 - علائم ظهوره، ما هي؟.

ص: 139

ص: 140

أسئلة مهمة حول المهدي عجل اللّه تعالى فرجه
اشارة

إنّ القول بأنّ الإمام المهدي لما يزال حي يرزق منذ ولادته عام 255 هجرية إلى الآن، و أنّه غائب سوف يظهر بأمر من اللّه سبحانه، أثار أسئلة خول حياته و إمامته، نذكر رءوسها.

1 - كيف يكون إماما و هو غائب، و ما الفائدة المترقبة منه في غيبته؟.

2 - لما ذا غاب؟.

3 - كيف يمكن أن يعيش إنسان هذه المدة الطويلة؟.

4 - ما هي أشراط و علائم ظهوره؟.

هذه أسئلة أثيرت حول الإمام المهدي منذ أن غاب، و كلّما طالت غيبته اشتدّ التركيز عليها، و قد قام المحققون من علماء الإمامية بالإجابة عليها في مؤلّفات مستقلة لا مجال لنقل معشار ما جاء فيها، غير أنّ الإحالة لما كانت عن المحذور غير خالية، نبحث عنها على وجه الإجمال، و نحيل من أراد التبسّط إلى المصادر المؤلّفة في هذا المجال.

ص: 141

السؤال الأول كيف يكون إماما و هو غائب؟ و ما فائدته؟

إنّ القيادة و الهداية و القيام بوظائف الإمامة، هو الغاية من تنصيب الإمام، أو اختياره، و هو يتوقف على كونه ظاهرا بين أبناء الأمّة، مشاهدا لهم، فكيف يكون إماما قائدا، و هو غائب عنهم؟!.

و الجواب: على وجهين نقضا و حلا.

أمّا النقض، فإنّ التركيز على هذا السؤال يعرب عن عدم التعرّف على أولياء اللّه، و أنّهم بين ظاهر قائم بالأمور و مختف قائم بها من دون أن يعرفه الناس.

إنّ كتاب اللّه العزيز يعرّفنا على وجود نوعين من الأئمة و الأولياء و القادة للأمّة، ولي غائب مستور، لا يعرفه حتى نبي زمانه، كما يخبر سبحانه عن مصاحب موسى عليه السلام بقوله: فَوَجَدٰا عَبْداً مِنْ عِبٰادِنٰا آتَيْنٰاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً * قٰالَ لَهُ مُوسىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّٰا عُلِّمْتَ رُشْداً الآيات(1).

و ولي ظاهر باسط اليد، تعرفه الأمّة و تقتدي به.

فالقرآن إذن يدلّ على أنّ الولي ربما يكون غائبا، و لكنه مع ذلك لا يعيش في

ص: 142


1- سورة الكهف: الآيتان 65 و 66.

غفلة عن أمّته، بل يتصرف في مصالحها و يرعى شئونها، من دون أن يعرفه أبناء الأمّة.

فعلى ضوء الكتاب الكريم، يصحّ لنا أن نقول بأنّ الولي إما ولي حاضر مشاهد، أو غائب محجوب.

و إلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب في كلامه لكميل بن زياد النخعيّ، يقول كميل: «أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فأخرجني إلى الجبّان، فلما أصحر، تنفّس الصعداء، و كان مما قاله: «اللّهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة، إمّا ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته»(1).

و ليست غيبة الإمام المهدي، بدعا في تاريخ الأولياء، فهذا موسى بن عمران، قد غاب عن قومه قرابة أربعين يوما، و كان نبيّا وليّا، يقول سبحانه:

وَ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ ثَلاٰثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنٰاهٰا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقٰاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَ قٰالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هٰارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (2) .

و هذا يونس كان من أنبياء اللّه سبحانه، و مع ذلك فقد غاب في الظلمات كما يقول سبحانه: وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغٰاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنٰادىٰ فِي اَلظُّلُمٰاتِ أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ، وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (3).

أو لم يكن موسى، و يونس نبيّين من أنبياء اللّه سبحانه؟ و ما فائدة نبي يغيب عن الأبصار، و يعيش بعيدا عن قومه؟.

فالجواب في هذا المقام، هو الجواب في الإمام المهدي عليه السلام، و سيوافيك ما يفيدك، من الانتفاع بوجود الإمام الغائب في زمان غيبته في جواب السؤال التالي.

ص: 143


1- نهج البلاغة بتعليقات عبده، ج 4، ص 37، قصار الحكم، الرقم 147.
2- سورة الأعراف: الآية 142.
3- سورة الأنبياء: الآيتان 87-88.

أمّا الحلّ فمن وجوه:

الأوّل - إنّ عدم علمنا بفائدة وجوده في زمان غيبته، لا يدلّ على عدم كونه مفيدا في زمن غيبته، فالسائل جعل عدم العلم، طريقا إلى العلم بالعدم!! و كم لهذا السؤال من نظائر في التشريع الإسلامي، فيقيم البسطاء عدم العلم بالفائدة، مقام العلم بعدمها، و هذا من أعظم الجهل في تحليل المسائل العلمية، و لا شك أنّ عقول البشر لا تصل إلى كثير من الأمور المهمّة في عالم التكوين و التشريع، بل لا يفهم مصلحة كثير من سننه، و إن كان فعله سبحانه منزّها عن العبث، بعيدا عن اللغو.

و على ذلك فيجب علينا التسليم أمام التشريع إذا وصل إلينا بصورة صحيحة، كما عرفت من تواتر الروايات على غيبته.

الثاني: إنّ الغيبة لا تلازم عدم التصرف في الأمور، و عدم الاستفادة من وجوده، فهذا مصاحب موسى كان وليا، لجأ إليه، أكبر أنبياء اللّه في عصره، فقد خرق السفينة التي يمتلكها المستضعفون، ليصونها عن غصب الملك، و لم يعلم أصحاب السفينة بتصرفه، و إلاّ لصدّوه عن الخرق، جهلا منهم بغاية عمله. كما أنّه بنى الجدار، ليصون كنز اليتيمين، فأي مانع، حينئذ من أن يكون للإمام الغائب في كل يوم و ليلة تصرّفا من هذا النمط من التصرفات.

و يؤيد ذلك ما دلّت عليه الروايات من أنّه يحضر الموسم في أشهر الحج، و يحجّ و يصاحب الناس، و يحضر المجالس، كما دلّت على أنّه يغيث المضطرين، و يعود المرضى، و ربما يتكفل - بنفسه الشريفة - قضاء حوائجهم، و إن كان الناس لا يعرفونه.

الثالث: المسلّم هو عدم إمكان وصول عموم الناس إليه في غيبته، و أمّا عدم وصول الخواص إليه، فليس بأمر مسلّم، بل الذي دلّت عليه الروايات خلافه، فالصلحاء من الأمّة، الذين يستدرّ بهم الغمام، لهم التشرف بلقائه، و الاستفادة من نور وجوده، و بالتالي، تستفيد الأمّة بواسطتهم.

الرابع: لا يجب على الإمام أن يتولّى التصرّف في الأمور الظاهرية بنفسه،

ص: 144

بل له تولية غيره على التصرف في الأمور كما فعل الإمام المهدي، أرواحنا له الفداء، في غيبته. ففي الغيبة الصغرى، كان له وكلاء أربعة، يقومون بحوائج الناس، و كانت الصلة بينه و بين الناس مستمرة بهم. و في الغيبة الكبرى نصب الفقهاء و العلماء العدول العالمين بالأحكام، للقضاء و إجراء السياسات، و إقامة الحدود، و جعلهم حجة على الناس، فهم يقومون في عصر الغيبة بصيانة الشرع عن التحريف، و بيان الأحكام، و دفع الشبهات، و بكل ما يتوقف عليه نظم أمور الناس(1).

و إلى هذه الأجوبة أشار الإمام المهدي عليه السلام في آخر توقيع له إلى بعض نوّابه، بقوله: «و أمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشّمس إذا غيّبها عن الأبصار، السحاب»(2).

ص: 145


1- المراد من الغيبة الصغرى، غيبته صلوات اللّه عليه، منذ وفاة والده عام 260 إلى عام 329، و قد كانت الصلة بينه و بين الناس مستمرة بواسطة وكلائه الأربعة: الشيخ أبي عمرو عثمان بن سعيد العمري، و ولده الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان، و الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح من بني نوبخت، و الشيخ أبي الحسن علي بن محمد السّمري. و المراد من الغيبة الكبرى، غيبته من تلك السنة إلى زماننا هذا، انقطعت فيها النيابة الخاصة عن طريق أشخاص معينين، و حلّ محلّها النيابة العامة بواسطة الفقهاء و العلماء العدول، كما جاء في توقيعه الشريف: «و أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجة اللّه عليهم». (كمال الدين، الباب 45، ص 484).
2- كمال الدين، للصدوق، الباب 45، الحديث 4، ص 485. و قد ذكر العلامة المجلسي في وجه تشبيهه بالشمس إذا سترها السحاب، وجوها، راجعها في بحار الأنوار، ج 52، الباب 20، ص 93-94.
السؤال الثاني لما ذا غاب المهدي عليه السلام؟

إنّ ظهور الإمام بين الناس، يترتّب عليه من الفائدة ما لا يترتب عليه في زمان الغيبة، فلما ذا غاب عن الناس، حتى حرموا من الاستفادة من وجوده، و ما هي المصلحة التي أخفته عن أعين الناس؟.

الجواب إنّ هذا السؤال يجاب عليه بالنقض و الحل:

أمّا النقض، فبما ذكرناه في الإجابة عن السؤال الأول، فإنّ قصور عقولنا عن إدراك أسباب غيبته، لا يجرنا إلى إنكار المتضافرات من الروايات، فالاعتراف بقصور أفهامنا أولى من ردّ الروايات المتواترة، بل هو المتعيّن.

و أمّا الحلّ، فإنّ أسباب غيبته، واضحة لمن أمعن فيما ورد حولها من الروايات، فإنّ الإمام المهدي عليه السلام هو آخر الأئمة الاثني عشر الذين وعد بهم الرسول، و أناط عزة الإسلام بهم، و من المعلوم أنّ الحكومات الإسلامية لم تقدّرهم، بل كانت لهم بالمرصاد، تلقيهم في السجون، و تريق دماءهم الطاهرة، بالسيف أو السمّ، فلو كان ظاهرا، لأقدموا على قتله، إطفاء لنوره، فلأجل ذلك اقتضت المصلحة أن يكون مستورا عن أعين الناس، يراهم و يرونه و لكن لا يعرفونه، إلى أن تقتضي مشيئة اللّه سبحانه ظهوره، بعد حصول استعداد

ص: 146

خاص في العالم لقبوله، و الانضواء تحت لواء طاعته، حتى يحقق اللّه تعالى به ما وعد به الأمم جمعاء من توريث الأرض للمستضعفين.

و قد ورد في بعض الروايات إشارة إلى هذه النكتة، روى زرارة قال:

سمعت أبا جعفر (الباقر عليه السلام)، يقول: إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم، قال: قلت. و لم؟. قال: يخاف. قال زرارة: يعني القتل.

و في رواية أخرى: يخاف على نفسه الذبح(1).

و سيوافيك ما يفيدك عند الكلام عن علائم ظهوره.

ص: 147


1- لاحظ كمال الدين، الباب 44، الحديث 8 و 9 و 10، ص 281.
السؤال الثالث الإمام المهدي و طول عمره

إنّ من الأسئلة المطروحة حول الإمام المهدي، طول عمره في فترة غيبته، فإنّه ولد عام 255، فيكون عمره إلى الأعصار الحاضرة أكثر من ألف و مائة و خمسين عاما، فهل يمكن في منطق العلم أن يعيش إنسان هذا العمر الطويل؟.

و الجواب من وجهين، نقضا وحلا.

أمّا النقض، فقد دلّ الذكر الحكيم على أن شيخ الأنبياء عاش قرابة ألف سنة، قال تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً (1).

و قد تضمنت التوراة أسماء جماعة كثيرة من المعمرين، و ذكرت أحوالهم في سفر التكوين(2).

و قد قام المسلمون بتأليف كتب حول المعمرين، ككتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني، كما ذكر الصدوق أسماء عدّة منهم في كتاب كمال الدين(3)، و العلامة

ص: 148


1- سورة العنكبوت: الآية 14.
2- التوراة، سفر التكوين، الإصحاح الخامس، الجملة 5، و ذكر هناك أعمار آدم، و شيث و نوح، و غيرهم.
3- كمال الدين، ص 555.

الكراجكي في رسالته الخاصة، باسم «البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان»(1)، و العلامة المجلسي في البحار(2)، و غيرهم.

و أمّا الحلّ، فإنّ السؤال عن إمكان طول العمر، يعرب عن عدم التعرّف على سعة قدرة اللّه سبحانه: وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (3)، فإنّه إذا كانت حياته و غيبته و سائر شئونه، برعاية اللّه سبحانه، فأي مشكلة في أن يمدّ اللّه سبحانه في عمره ما شاء، و يدفع عنه عوادي المرض و يرزقه عيش الهناء.

و بعبارة أخرى، إنّ الحياة الطويلة، إمّا ممكنة في حدّ ذاتها أو ممتنعة، و الثاني لم يقل به أحد، فتعين الأول، فلا مانع من أن يقوم سبحانه بمدّ عمر وليّه، لتحقيق غرض من أغراض التشريع.

أضف إلى ذلك ما ثبت في علم الحياة، من إمكان طول عمر الإنسان إذا كان مراعيا لقواعد حفظ الصحة، و أنّ موت الإنسان في فترة متدنية، ليس لقصور الاقتضاء، بل لعوارض تمنع عن استمرار الحياة، و لو أمكن تحصين الإنسان منها بالأدوية و المعالجات الخاصة لطال عمره ما شاء.

و هناك كلمات ضافية من مهرة علم الطب في إمكان إطالة العمر، و تمديد حياة البشر، نشرت في الكتب و المجلات العلمية المختلفة(4).

و بالجملة، اتّفقت كلمة الأطباء على أنّ رعاية أصول حفظ الصحة، توجب طول العمر، فكلما كثرت العناية برعاية تلك الأصول، طال العمر، و لأجل ذلك، نرى أنّ الوفيات في هذا الزمان، في بعض الممالك، أقلّ من السابق، و المعمّرين فيها أكثر من ذي قبل، و ما هو إلا لرعاية أصول الصحة، و من هنا أسّست شركات تضمن حياة الإنسان إلى أمد معلوم تحت مقررات خاصة

ص: 149


1- البرهان على طول عمر الإمام صاحب الزمان، للكراجكي، ملحق ب «كنز الفوائد»، له أيضا، الجزء الثاني. لاحظ في ذكر المعمرين ص 114-155، ط دار الأضواء، بيروت - 1405.
2- بحار الأنوار، ج 51، الباب 14، ص 225-293.
3- سورة الأنعام: الآية 91.
4- لاحظ مجلة المقتطف، الجزء الثالث من السنة التاسعة و الخمسين.

و حدود معينة، جارية على قوانين حفظ الصحة، فلو فرض في حياة شخص اجتماع موجبات الصحة من كل وجه، طال عمره إلى ما شاء اللّه.

و إذا قرأت ما تدوّنه أقلام الأطباء في هذا المجال، يتّضح لك معنى قوله سبحانه: فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (1).

فإذا كان عيش الإنسان في بطون الحيتان، في أعماق المحيطات، ممكنا إلى يوم البعث، فكيف لا يعيش إنسان، على اليابسة، في أجواء طبيعية، تحت رعاية اللّه و عنايته، إلى ما شاء؟.

ص: 150


1- سورة الصافات: الآيتان 143 و 144.
السؤال الرابع علائم ظهوره، ما هي؟

إذا كان للإمام الغائب، ظهورا بعد غيبة طويلة، فلا بدّ من أن يكون لظهوره علائم و أشراط، تخبر عن ظهوره، فما هي هذه العلائم؟.

الجواب إنّ ما جاء في كتب الأحاديث من الحوادث و الفتن الواقعة في آخر الزمان على قسمين:

قسم هو من أشراط الساعة و علامات دنو القيامة.

و قسم هو ما يقع قبل ظهور المهدي المنتظر.

و ربما وقع الخلط بينهما في الكتب، و نحن نذكر القسم الثاني منهما، و هو عبارة عن أمور عدّة، منها:

1 - النداء في السماء.

2 - الخسوف و الكسوف في غير مواقعهما.

3 - الشقاق و النفاق في المجتمع.

4 - ذيوع الجور و الظلم و الهرج و المرج في الأمّة.

ص: 151

5 - ابتلاء الإنسان بالموت الأحمر و الأبيض.

6 - قتل النفس الزكية.

7 - خروج الدجال.

8 - خروج السفياني.

و غير ذلك مما جاء في الأحاديث الإسلامية(1).

هذه هي علامات ظهوره، و لكن هناك أمورا تمهّد لظهوره، و تسهّل تحقيق أهدافه نشير إلى أبرزها:

1 - الاستعداد العالمي: و المراد منه أنّ المجتمع الإنساني - بسبب شيوع الفساد - يصل إلى حدّ، يقنط معه من تحقق الإصلاح بيد البشر، و عن طريق المنظمات العالمية التي تحمل عناوين مختلفة، و أنّ ضغط الظلم و الجور على الإنسان يحمله على أن يذعن و يقرّ بأنّ الإصلاح لا يتحقق إلاّ بظهور إعجاز إلهي، و حضور قوة غيبية، تدمر كل تلك التكتلات البشرية الفاسدة، التي قيّدت بأسلاكها أعناق البشر.

2 - تكامل العقول: إنّ الحكومة العالمية للإمام المهدي عليه السلام لا تتحقق بالحروب و النيران و التدمير الشامل للأعداء، و إنّما تتحقق برغبة الناس إليها، و تأييدهم لها، لتكامل عقولهم و معرفتهم.

يقول الإمام الباقر عليه السلام في حديث له يرشد فيه إلى أنّه إذا كان. ذلك الظرف، تجتمع عقول البشر و تكتمل أحلامهم: «إذا قام قائمنا، وضع اللّه يده على رءوس العباد، فيجمع بها عقولهم، تكتمل به أحلامهم»(2).

فقوله عليه السلام: يجمع بها عقولهم، بمعنى أنّ التكامل الاجتماعي يبلغ

ص: 152


1- لاحظ في الوقوف على هذه العلائم، بحار الأنوار، ج 52، الباب 25، ص 181-308. كتاب المهدي، للسيد صدر الدين الصدر (م 1373). و منتخب الأثر، ص 424-462.
2- منتخب الأثر، ص 483.

بالبشر إلى الحدّ الذي يقبل فيه تلك الموهبة الإلهية، و لن يترصد للثورة على الإمام و الانقلاب عليه، و قتله أو سجنه.

3 - تكامل الصناعات: إنّ الحكومة العالمية الموحّدة لا تتحقق إلاّ بتكامل الصناعات البشرية، بحيث يسمع العالم كلّه صوته و نداءه، و تعاليمه و قوانينه في يوم واحد، و زمن واحد.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ المؤمن في زمان القائم، و هو بالمشرق، يرى أخاه الذي في المغرب، و كذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق»(1).

4 - الجيش الثوري العالمي، إنّ حكومة الإمام المهدي عليه السلام، و إن كانت قائمة على تكامل العقول، و لكن الحكومة لا تستغني عن جيش فدائي ثائر و فعال، يمهّد الطريق للإمام عليه السلام، و يواكبه بعد الظهور إلى تحقق أهدافه و غاياته المتوخّاة.

إلى هنا تمّ البحث عن الإمامة، بالصورة التي تلائم العصر، و قد ركزنا على أهمّ الموضوعات، و تركنا البحث عن غيرها إلى الكتب المعدّة لها. و يقع البحث فيما يلي في المعاد، و حشر الإنسان في النشأة الأخرى، و هو الأصل الأصيل في الشرائع السماوية(2).

ص: 153


1- منتخب الأثر، ص 483.
2- و من حسن الختام، فراغنا من تدوين هذه المباحث ليلة الجمعة، الخامس عشر من شهر رمضان المبارك، عشية ولادة الإمام الطاهر الحسن بن علي بن أبي طالب، أبي محمد المجتبى، من شهور عام 1309 للهجرة النبوية، أسأله تعالى إدامة توفيقه لإخراج جميع ما تبقّى من المباحث التي تدور حول معاد الإنسان.

ص: 154

الفصل العاشر المعاد مباحث المعاد 1 - المعاد في الملل و الشرائع السابقة.

2 - أدلة وجوب المعاد و ضرورته.

3 - بواعث إنكار المعاد و شبهات المنكرين.

4 - أدلة العقل و النقل على تجرّد الروح.

5 - نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة.

6 - الموت نافذة إلى حياة جديدة.

7 - الحياة البرزخية و أدلتها في الكتاب.

8 - أشراط الساعة.

9 - مشاهد البعث و القيامة.

10 - المعاد الجسماني و الروحاني.

11 - الرجعة.

12 - التناسخ.

13 - الإيمان و أحكامه.

14 - التوبة و شرائطها.

15 - الشفاعة.

16 - الإحباط و التكفير.

17 - الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

* أسئلة حول المعاد

ص: 155

ص: 156

الفصل العاشر المعاد

اشارة

البحث عن المعاد و حشر الإنسان بعد الدنيا، إجابة عن أحد الأسئلة التي طالما كان الإنسان المفكّر يواجهها. فإنّه مذ فتح عينيه على الحياة، يسأل نفسه عن أمور:

1 - ما هو مبدأ العالم و الإنسان؟.

2 - ما هو الهدف من وجود الإنسان؟.

3 - إلى أين المصير بعد الموت؟.

فالبحث عن الصانع، إجابة عن السؤال الأول، كما أنّ البحث عن كونه سبحانه حكيما، و أنّ فعله منزّه عن العبث، إجابة عن الثاني، و ها هو حين البحث عن جواب السؤال الثالث، و إجماله:

إنّ الموت ليس نهاية الحياة، و إنّ الإنسان لا يفنى بموته، و إنّما الموت جسر لينتقل الإنسان عبره من نشأة إلى نشأة أخرى أكمل من الأولى، و إنّ الإنسان خلق للبقاء، لا للفناء، و إنّ النشأة الأخروية، منتهى السير و غاية الغايات.

و تفصيل ذلك يتمّ في ضمن المباحث التالية:

ص: 157

مباحث المعاد

(1) «المعاد» في الملل و الشرائع السابقة
اشارة

الاعتقاد بالمعاد عنصر أساسي في كل شريعة لها صلة بالسماء، و يحتل في الأصالة و التأثير محلّ العمود الفقري في بدن الإنسان، و بدونه تصبح الشرائع مسالك بشرية مادية، لا تمت إلى اللّه سبحانه بصلة. فقوام الشريعة بالمبدإ و المعاد، و لأجل ذلك لا ترى شريعة تتسم بأنّها شريعة إلهية و لو بعد تحريفها، خالية عن الدعوة إلى الحياة الأخروية و حشر الإنسان بعد الموت، و إقامة الحساب و الجزاء و الثواب و العقاب. و سيوافيك نصوص العهدين في هذا المجال.

إنّ المحققين في التاريخ البشري يصرحون بأنّ المجتمع الإنساني لم يزل معتنقا لهذا الأصل، و إن لم يعلم دينه و لا كتابه. و إليك التوضيح بوجوه:

1 - إنّ البدو القاطنين في الصحاري و البراري، الذي يعدّون نموذجا للمجتمع البدائي المنقرض، لهم طقوس خاصة في دفن الموتى تدلّ على اعتقادهم بعودة الأرواح إلى الأجسام المدفونة، و من ذلك أنّهم يضعون حجارة كبيرة على صدور موتاهم، و يربطون أعضاءهم بحبال متينة، لئلا يتحركوا بعد عود الروح و يخرجوا من أماكنهم(1).

2 - إنّ المصريين، ذوو الحضارة القديمة، كانوا يعتقدون أنّ الروح بعد

ص: 158


1- جامع الأديان، تأليف جان ناس، ترجمة علي أصغر حكمت، ص 17.

خروجها من البدن، لها علاقة به، و سوف ترجع إليه، و لذلك كانوا يتركون في القبور منافذ ليسهل دخول الروح إليها، و يضعون بعض الطعام و الشراب في جنب الميت. و لأجل صيانة الموتى عن أذى السباع، قام المتمكنون منهم ببناء الأهرام العظيمة فوق قبورهم.

3 - عند البراهمة تثليث تحيّلوه منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، و أطرافه الثلاثة: براهما، و فيشنو، و سيفا. فبراهما هو الإله الخالق، و فيشنو الإله الحافظ، و سيفا الإله الهادم. و التناسخ احتلّ في الديانة البراهمية مكان الاعتقاد بالمعاد، و يراد منه رجوع الروح بعد انحلال جسدها إلى العالم الأرضي متلبسة بجسد جديد، إنساني أو حيواني(1). فالاعتقاد بالتناسخ صورة منسوخة من العقيدة بالمعاد، و إرضاء لفطرة الإنسان في حب البقاء.

4 - إنّ مسلك البوذية الذي أسسه بوذا، غير خال عن عود الأرواح إلى الأبدان عودا تناسخيا، فإنّ لهذا المذهب، دعائم و أسس منها: «الألم من لوازم الوجود»، و منها: «الرجوع إلى هذه الدنيا بسبب الالتياث بالشهوات في حياة سابقة»، و منها: «الخلاص من أثر الشهوات هو الوسيلة الوحيدة للنجاة من الحياة الأرضية بعد الموت، و تلك النجاة هي نجاة من الألم، و سبب للوصول إلى مكانة»(2)..

5 - و عند المجوس أيضا فإنّ الاعتقاد ببقاء الروح بعد الموت و مجازات الإنسان حسب أعماله، من الأصول الأصيلة في ديانتهم، حتى أنّ بعض المرجفين في الكلام(3) تصوّر أنّ تعاليم التوراة و المسيح في المعاد مأخوذة من تلك الديانة، و لكن عزب عنه أنّ المجوسية، إن كانت شريعة سماوية، يجب أن تشترك مع سائر الشرائع في الأصول، و ليست وحدة الأصول فيها، دليلا على أخذ المتأخر من المتقدم، فإنّ الشريعة فيض سماوي، أفيض من السماء إلى الإنسان الأرضي في

ص: 159


1- لاحظ دائرة المعارف لفريد وجدي، ج 2، ص 155 و 161.
2- دائرة المعارف لفريد وجدي، ج 2، ص 388.
3- الكاتب الفارسي حميد نير نوري في كتابه: «مساهمة الإيرانيين في الحضارة العالمية»، ص 228.

أزمنة خاصة حسب لياقته و كفاءته، فاشتركت كل الشرائع في الأصول و اختلفت في المنهاج.

هذا بعض ما يمكن أن نلفت النظر إليه في عمومية المعاد بين الأقوام و الشعوب، و قد اختصرنا الكلام فيه، لأنّ الأولى عطف النظر إلى الكتب السماوية، المجموعة في العهدين و ما ينقله القرآن الكريم لنرى تركيز الأنبياء في القرون السالفة على المعاد، و نقتصر فى المقام على موارد خاصة.

المعاد في العهد القديم

إنّ من العجب أن التصريح بالحياة الأخروية في العهد العتيق قليل، و أنّ أكثر الوعود الواردة فيها على امتثال فرائض الربّ، عائدة إلى رجوعهم إلى الأرض المقدسة، و أنّ فيها من النّعم و البركات ما لا يحصى، و لعلّ يد التحريف حذفت ما دلّ على الحياة الأخروية و أنّ الإنسان يرى جزاء الأعمال و امتثال الفرائض، و ارتكاب المحرمات، في النشأة الأخرى، و هذا هو الذي أضفى على مذهب اليهود صبغة مادية، قلّ التوجه فيها إلى الأمور المعنوية، و مع ذلك كلّه فقد بقي فيها جمل تصرّح بحشر الإنسان بعد الدنيا، و إن كانت قليلة، منها:

- «الرّبّ يميت و يحيي»(1).

- «تحيا أمواتك يوم تقوم الجثث، استيقظوا ترنّموا يا سكّان التّراب»(2).

نعم لا ننكر أنّ في التوراة و غيرها جمل ربما تكون مشيرة إلى يوم البعث، و لكنها ليست صريحة في ذلك.

المعاد في العهد الجديد

بالرغم من قلة التصريح بالحياة الأخروية في العهد العتيق، نجد التصريح بها

ص: 160


1- صموئيل الأول: الأصحاح الثاني: الجملة 6، ط دار الكتاب المقدس.
2- اشعيا: الأصحاح 26: الجملة 19، ط دار الكتاب المقدس.

بكل وضوح في الجديد، في موارد كثيرة منها ما يلي:

1 - «فإنّ ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه، و ملائكته، و حينئذ يجازي كلّ واحد حسب عمله»(1).

2 - «هكذا يكون في انقضاء العالم، يخرج الملائكة و يفرزون الأشرار من بين الأبرار، و يطرحونهم في أتون النار هناك يكون البكاء، و صرير الأسنان»(2).

3 - «في ذلك اليوم جاء إليه حدقيون، الذين يقولون ليس قيامة، فسألوه * قائلين: يا معلم، قال موسى إن مات أحد و ليس له أولاد، يتزوج أخوه بامرأته، و يقيم نسلا لأخيه * فكان عندنا سبعة إخوة و تزوج الأول و مات، و إذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه، و كذلك الثاني و الثالث إلى السبعة * و آخر الكل ماتت المرأة أيضا * ففي القيامة لمن من السبعة تكون الزوجة فإنّها كانت للجميع * فأجاب يسوع، و قال لهم: تضلّون إذ لا تعرفون الكتب و لا قوة اللّه * لأنّهم في القيامة، لا يزوجون و لا يتزوجون بل يكونون كملائكة اللّه في السماء»(3).

و هذا يعرب عن كون المعاد عند كاتب الإنجيل روحانيا محضا، لا جسمانيا و روحانيا كما عليه الذكر الحكيم.

4 - «و إن أعثرتك رجلك، فاقطعها، خير لك أن تدخل الحياة أعرج، من أن تكون لك رجلان و تطرح في جهنم في النار التي لا تطفأ * حيث دودهم لا يموت و النار لا تطفأ * و إن أعثرتك عينك فاقلعها، خير لك أن تدخل ملكوت اللّه أعور من أن تكون لك عينان و تطرح في جهنم النار * حيث دودهم لا يموت و النار لا تطفأ»(4).

5 - «و هذه مشيئة الأب الذي أرسلني، إن كلّ ما أعطاني لا أتلف منه شيئا

ص: 161


1- إنجيل متّى: الأصحاح 16: الجملة 27، ط دار الكتاب المقدس.
2- إنجيل متى: الأصحاح 13: الجملتان 49 و 50. ط دار الكتاب المقدس.
3- إنجيل متى: الأصحاح 22: الجملتان 23-31، ط دار الكتاب المقدس.
4- إنجيل مرقس: الأصحاح 9: لاحظ الجملات 42-49، ط دار الكتاب المقدس.

بل أقيمه في اليوم الأخير * لأنّ هذه هي مشيئته الذي أرسلني إن كلّ من يرى الابن و يؤمن به تكون له حياة أبدية و أنا أقيمه في اليوم الأخير»(1).

هذا، و في العهدين جمل أخر تصرّح أو تشير إلى يوم القيامة، و قد اقتصرنا على ما ذكرنا روما للاختصار، و الذي نلفت النظر إليه هو عدم اهتمام يهود اليوم، و الأمّة المسيحية، بالبعث و يوم القيامة و ما فيها من الحساب و الجزاء، و هذا هو الذي أجرأهم على المعاصي، و الخلاعة، و الانحلال من كل القيم الأخلاقية، أعاذنا اللّه من ذلك، و لأجل عدم اهتمام البيع و الكنائس باليوم الموعود، صارت تلكما الأمّتين، يهوديّة و مسيحية بالهوية الدولية، لا أكثر.

القرآن و المعاد في الشرائع السماوية

قد بيّن الذكر الحكيم وجود تلك العقيدة في الشرائع السماوية من لدن آدم إلى المسيح، و لأجل أن يقف الباحث على نماذج من ذلك، نأتي ببعض الآيات الكريمات:

أ - إنّه سبحانه - بعد ما هبط آدم إلى الأرض - يخاطب الخليقة بخطابات عامّة، تعرب عن أنّ الهدف من إهباطه إليها هو استقرار الخليقة في الأرض استقرارا مؤقتة محدودا، ليعودوا بعد ذلك إلى النشأة الأخرى. و جاءت تلك الخطابات في آيات مختلفة، نذكر منها:

- قٰالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ (2).

- يٰا بَنِي آدَمَ إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي، فَمَنِ اِتَّقىٰ وَ أَصْلَحَ فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا، وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا، أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (3).

ص: 162


1- إنجيل يوحنّا: الأصحاح 6: الجملتان 39-40، ط دار الكتاب المقدس.
2- سورة الأعراف: الآية 24.
3- سورة الأعراف: الآيتان 35 و 36.

و هذه الخطابات العامة لجميع الخلائق، تعرب عن أنّ المعاد هو الهدف الأصيل لخلق الإنسان في الأرض، و أنّ اللّه سبحانه أنزل آدم لهذه الغاية.

ب - نرى أنّ شيخ الأنبياء نوحا، الذي جاء لهداية قومه بشريعة بسيطة، يخاطبهم بخطابات فيها الدعوة إلى تلك العقيدة، نذكر منها قوله:

- وَ اَللّٰهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبٰاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهٰا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرٰاجاً (1).

فالدعوة إلى المعاد في هاتين الآيتين صريحة، كما أنّها في الآية التالية بالإشارة.

- رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَ إِلاّٰ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (2).

ج - و هذا إبراهيم بطل التوحيد، يذكر المعاد و اليوم الآخر في غير واحد من كلماته، كما يحكيه عنه الذكر الحكيم:

- مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ (3).

- رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسٰابُ (4).

- وَ لاٰ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (5).

- وَ اُشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (6).

و هو سلام اللّه عليه، لم يكتف بذلك، بل طلب من اللّه تعالى إحياء

ص: 163


1- سورة نوح: الآيتان 17-18.
2- سورة هود: الآية 47، و هذا التضرع صدر منه عند ما علم بغرق ابنه في الماء، فالمراد من الخسران هو الخسران بعد الموت.
3- سورة البقرة: الآية 126.
4- سورة إبراهيم: الآية 41.
5- سورة الشعراء: الآية 87.
6- سورة العنكبوت: الآية 17.

الموتى، و حكاه الذكر الحكيم(1). و سيوافيك بيانه في المباحث الآتية.

د - و هذا موسى الكليم، خاطبه سبحانه عند التنديد بأعمال قومه بخطابات، فيها الوعد و الوعيد.

- سَأَصْرِفُ عَنْ آيٰاتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ... ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا عَنْهٰا غٰافِلِينَ * وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2).

و نرى أنّ موسى عند ما يدعو على طاغية عصره فرعون مصر، يطلب له العذاب الأليم و يقول:

رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ، وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا، حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ (3) .

كما أنّه عليه السلام، يخاطب من يفسّر معاجزه بالسحر قائلا:

رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جٰاءَ بِالْهُدىٰ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ، إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ (4) .

و يقول تنديدا بفرعون و ملائه:

إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاٰ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ (5) .

و إنّ بني إسرائيل لما كانوا أشدّ الناس لجاجا و عنادا، قام موسى - بأمر منه سبحانه - بإحياء الميت في قضية البقرة(6)، و سيوافيك بيانه في المباحث الآتية.

نعم، كانت العقيدة بالمعاد، عقيدة واضحة بين الشرائع السماوية، حتى

ص: 164


1- سورة البقرة: الآية 260.
2- سورة الأعراف: الآيتان 146 و 147.
3- سورة يونس: الآية 88.
4- سورة القصص: الآية 37.
5- سورة غافر: الآية 27.
6- سورة البقرة: الآية 72.

أنّ مؤمن آل فرعون أخذ يعظ قومه بكلمات فيها إخافتهم من يوم القيامة، و يقول:

- وَ يٰا قَوْمِ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنٰادِ (1).

- وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دٰارُ اَلْقَرٰارِ (2).

- وَ أَنَّ مَرَدَّنٰا إِلَى اَللّٰهِ (3).

ه - و هذا المسيح عيسى بن مريم، يخاطبه سبحانه بآيات فيها التذكير بيوم القيامة، يقول:

- إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رٰافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جٰاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ، وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ * وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ (4).

المعاد في القرآن

إذا كان المعاد يحتل المكانة العليا في الشرائع السماوية، و كان القرآن خاتم الكتب، و المبعوث به خاتم الأنبياء، فيناسب أن يكون المعاد مطروحا فيه، بشكل مستوف، مقترنا بالدلائل العقلية المقنعة.

و قد صدّق الخبر الخبر، فالذكر الحكيم يعتني بالمعاد، و يهتم به اهتماما بالغا، يكشف عنه كثرة الآيات الواردة في مجال المعاد، و قد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليه في القرآن فبلغ زهاء ألف و أربعمائة آية، و كان السيد العلامة الطباطبائي

ص: 165


1- سورة غافر: الآية 32.
2- سورة غافر: الآية 39.
3- سورة غافر: الآية 43.
4- سورة آل عمران: الآيات 55-57..

رحمه اللّه يقول بأنّه ورد البحث عن المعاد في القرآن في آيات تربو على الألفين، و لعلّه ضمّ الإشارة إليه، إلى التصريح به. و على كل تقدير، فهذه الآيات الهائلة، تعرب عن شدّة اهتمام القرآن به.

أسماء المعاد في القرآن

و يعرب عن هذا الاهتمام أنّه سبحانه يسميه بأسماء، و يصفه بصفات خاصة، فيسميه ب:

1 - يوم القيامة، 2 - يوم الدين، 3 - اليوم الآخر، 4 - يوم الحسرة، 5 - يوم الوقت المعلوم، 6 - يوم الحق، 7 - يوم الفصل، 8 - يوم الحساب، 9 - يوم التلاق، 10 - يوم الآزفة، 11 - يوم التناد، 12 - يوم الوعيد، 13 - يوم الخلود، 14 - يوم الخروج، 15 - يوم الجمع، 16 - يوم التغابن، 17 - اليوم الموعود، 18 - يوم البعث، 19 - الساعة، 20 - الحاقّة، 21 - القارعة، 22 - الطامّة الكبرى، 23 - الصاخّة، 24 - الميعاد، 25 - الغاشية، 26 - الآخرة.

و يصفه بأنّه: 1 - يوم عظيم، 2 - يوم كبير، 3 - يوم محيط، 4 - يوم عقيم، 5 - يوم أليم، 6 - يوم مشهود، 7 - يوم عسير، 8 - يوم عبوس قمطرير، 9 - يوم لا بيع فيه و لا خلّة و لا شفاعة، 10 - يوم مجموع له الناس، 11 - يوم تشخص فيه الأبصار. 12 - يوم على الكافرين عسير، 13 - يوم لا يجزي والد عن ولده، و لا مولود هو جاز عن والده شيئا، 14 - يوم يجعل الولدان شيبا، و غير ذلك من الأوصاف.

ص: 166

مباحث المعاد

(2) أدلة وجوب المعاد و ضرورته
اشارة

قد تعرفت على أنّ الحياة الأخروية للإنسان، أمر ممكن لا يمنع منه شيء، و إنّما الكلام في وجوب وقوعها و ضرورة وجودها. و فيما يلي نستدلّ على ضرورة وجود هذه النشأة بوجوه عقلية هدانا إليها القرآن الكريم.

الدليل الأول - صيانة الخلقة عن العبث
اشارة

ذكرنا أنّ أحد الأسئلة التي تلاحق كلّ إنسان و يعاني منها، هو الوقوف على هدف الخلقة، و أنّه لما ذا خلق، و ما هو الغرض من خلق الإنسان، و الإنسان الإلهي بما أنّه يصون فعل الحقّ عن العبث و اللغو (لا بمعنى أنّ هناك غرضا للخالق يستكمل به، بل بمعنى أنّ فعله ليس بلا غاية)، يجيب بأنّه لم يخلق عبثا و لا سدى، بل خلق ليبلغ الكمال الذي يناله في النشأة الأخروية، على وجه لولاها لأصبح خلقه و إيجاده لغوا و باطلا.

ثم إنّ هذا الدليل، أي صيانة فعل الباري عن العبث، يمكن بيانه بوجوه، تتحد في الجوهر، و إنّما تختلف في التقرير و هي:

1 - المعاد و غاية الخلقة.

2 - المعاد و الحقّ المطلق.

ص: 167

3 - المعاد و النّظم البديع.

فيستدلّ على المعاد تارة بأنّه هو غاية الخلقة، و أخرى بأنّ الحقّ تعالى شأنه لا ينفك فعله عن غاية، و ثالثة بأنّ النّظم البديعة السائدة على العالم لا تنفك عن غرض و غاية، و الكلّ صور مختلفة لاستدلال واحد، استوحيناه من الذكر الحكيم، فإليك بيانها:

1 - المعاد غاية الخلقة

يستدلّ الذكر الحكيم على لزوم المعاد بأنّ الحياة الأخروية هي الغاية من خلق الإنسان و إنزاله إلى هذه البسيطة، و أنّه لولاها لصارت حياته منحصرة في إطار الدنيا، و لأصح إيجاده و خلقه - بالتالي - عبثا و باطلا، و اللّه سبحانه منزّه عن الإيجاد بلا غرض، و إلى ذلك يشير قوله سبحانه: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ (1).

و من لطيف البيان في هذا المجال قوله سبحانه: مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ * مٰا خَلَقْنٰاهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقٰاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (2) فترى أنّه يذكر يوم الفصل بعد نفي كون الخلقة لعبا، و ذلك يعرب عن أنّ النّشأة الأخروية تصون الخلقة عن اللغو و اللعب، و بذلك تظهر صلة الآيات.

2 - المعاد و الحق المطلق

و من لطائف البيان في القرآن الكريم أنّه تعالى يصف نفسه بالحق (المطلق) و أنّه لا حقّ سواه، ثم يرتب على ذلك إحياء الموتى و النشأة الآخرة، و ذلك لأنّ الحق المطلق عبارة عن الوجود الذي لا يتطرق البطلان إلى ذاته أوّلا، و صفاته ثانيا، و أفعاله ثالثا، و لو كان فعله بلا غاية و لا هدف، لما كان حقّا مطلقا،

ص: 168


1- سورة المؤمنون: الآية 115، و لاحظ سورة ص: الآية 27.
2- سورة الدخان: الآيات 38-40.

فيستدلّ بكونه حقّا محضا على لزوم الغاية التي تتمثل في الحياة الأخروية للإنسان، يقول سبحانه:

ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ، وَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * وَ أَنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا، وَ أَنَّ اَللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ (1) .

و لعلّ من هذا الباب وصفه سبحانه نفسه بالحق، ثم ذكره بعد ذلك آيات البعث و القيامة، فكأنّه يشير بذلك إلى أنّ كونه حقّا مطلقا لا يعتريه الباطل، يلازم البعث، و إلاّ لا يكون حقّا مطلقا، نرى هذا البيان في قوله سبحانه:

ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ (2) .

ثم بعد ثلاث آيات يقول:

وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (3) .

و مثله قوله سبحانه: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبٰاطِلُ (4).

ثم بعد آيتين يقول: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لاٰ يَجْزِي وٰالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ... (5).

3 - المعاد و النظم البديع

و في الذكر الحكيم تلويح و إشارة إلى هذا النوع من الاستدلال، حيث نرى أنّه سبحانه يذكر النبأ العظيم و اختلاف الناس فيه بين مثبت و ناف، ثم يبيّن

ص: 169


1- سورة الحج: الآيتان 6 و 7.
2- سورة الحج: الآية 62.
3- سورة الحج: الآية 66.
4- سورة لقمان: الآية 30.
5- سورة لقمان: الآية 33.

النظام البديع السائد في الكون، ببيان رائق مبسوط، معربا عن أنّه لو لا النبأ العظيم، لأصبح خلق العالم بلا غاية.

يقول سبحانه: عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ * عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ * اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ .

ثم يقول: أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهٰاداً، وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً إلى قوله: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كٰانَ مِيقٰاتاً (1).

و بذلك تقف على انسجام الآيات وصلة بعضها ببعض.

و في كلمات الإمام أمير المؤمنين إشارة إلى هذا النمط من الاستدلال، يقول عليه السلام.

«و إنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مرفلين في مضمارها إلى الغاية القصوى»(2).

و في خطبة أخرى قال عليه السلام: «قد شخصوا من مستقر الأجداث و صاروا إلى مصائر الغايات»(3).

الدليل الثاني - المعاد مقتضى العدل الإلهي

لزوم العمل بالعدل، و الاجتناب عن الظلم، من فروع التحسين و التقبيح العقليين، اللذين هما من أحكام العقل العملي. فمن قال بلزوم فعل الحسن و اجتناب القبيح، يرى العمل بالعدل واجبا لكل فاعل مريد مختار، من غير فرق

ص: 170


1- سورة النبأ: الآيات 1-17.
2- نهج البلاغة، الخطبة 156.
3- نهج البلاغة، الخطبة 190. و في رسالته إلى ابنه الحسن: «و اعلم يا بنيّ أنّك خلقت للآخرة لا للدنيا الخ». (الكتاب 31).

بين أن يكون ممكنا، أو واجبا، لأنّ الحسن حسن في كل حال، و القبيح قبيح كذلك.

و هناك جماعة من المتكلمين - كالأشاعرة - ينكرون التحسين و التقبيح العقليين، و يتركون المجال في القضاء بهما للوحي السماوي، و هم أيضا يقولون بلزوم العمل بالعدل و الاجتناب عن الظلم، بحكم أن الشرع قد أمر بهما، و أنّه سبحانه وصف نفسه بالقيام بالقسط(1)، فتكون النتيجة لزوم معاملة العباد بالعدل.

ثم إنّ إثابة المطيعين من باب التفضل منه سبحانه، لأنّهم يطيعونه تعالى بفضل ما أنعمه عليهم من النعم الوجودية، كما أنّ عقاب العصاة، حق محض له، فله أن يعفو عنهم(2).

هذا هو حكم العقل في كل واحد من القسمين: المطيع و العاصي، إذا لوحظا مستقلين.

و لكن هناك كلام آخر، و هو أنّه لو كان جميع العباد مطيعين سالكين نهج الامتثال، فله التفضل بالثواب، كما له تركه. و كذلك لو كان جميع العباد، عصاة سالكين نهج المخالفة، فله سبحانه معاقبتهم أو العفو عنهم، و لكنّ العباد، ينقسمون إلى قسمين، فهم بين مطيع و عاص، و التسوية بينهم بصورها المختلفة، خلاف العدل. فإنّه لو أثاب الجميع أو عاقب الجميع، أو تركهم سدى من دون أن يحشروا في النشأة الأخرى، كان ذلك كلّه على خلاف العدل، و خلاف ما يحكم به العقل من لزوم كون فعله تعالى حسنا، فهنا يستقل العقل بأنّه يجب التفريق بينهما من حيث المصير و الثواب و العقاب. و بما أنّ هذا غير متحقق في النشأة الدنيوية، فيجب أن يكون هناك نشأة أخرى يتحقق فيها ذلك الميز، و يفرّق فيه بين المطيعين و العاصين، و هو المعاد.

و هذا الدليل العقلي يشير إليه القرآن الكريم في لفيف من آياته، و هي على

ص: 171


1- سورة آل عمران: الآية 18. و سورة يونس: الآية 44.
2- كل ذلك مع قطع النظر عن وعده و وعيده.

قسمين: قسم يندد بالتسوية و ينكرها، و قسم يصرّح بالفرق بين العاصي و المطيع في النشأة الآخرة.

فمن القسم الأول:

- قوله سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ (1).

- قوله سبحانه: أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (2).

- قوله سبحانه: أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ، سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ (3).

و من القسم الثاني:

- قوله سبحانه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ بِالْقِسْطِ، وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرٰابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ (4).

- و قوله سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ، وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ * وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفٰادِ * سَرٰابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرٰانٍ وَ تَغْشىٰ وُجُوهَهُمُ اَلنّٰارُ * لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ كُلَّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ، إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ (5).

- قوله سبحانه: إِنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ أَكٰادُ أُخْفِيهٰا لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا

ص: 172


1- سورة ص: الآية 28.
2- سورة القلم: الآيتان 35 و 36.
3- سورة الجاثية: الآية 21.
4- سورة يونس: الآية 4.
5- سورة إبراهيم: الآيات 48-51.

تَسْعىٰ (1) .

فقوله: لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ و لِتُجْزىٰ ، إشارة إلى أنّ قيام القيامة، تحقيق لمسألة الثواب و العقاب، الذين هما مقتضى العدل الإلهي.

و في كلام الإمام علي إشارة إلى هذا البيان:

قال عليه السلام: «يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين و الآخرين لنقاش الحساب، و جزاء الأعمال»(2).

و قال عليه السلام: «فجدّدهم بعد إخلاقهم، و جمعهم بعد تفرّقهم، ثمّ ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال و خبايا الأفعال».(3).

الدليل الثالث: المعاد مجلى لتحقق وعده و وعيده

و هناك دليل ثالث يضفي على المعاد الضرورة و القطعية، و هو مركب من مقدمة شرعية، و حكم عقلي، و ذلك أنّه سبحانه قد وعد المطيعين بالثواب، و العاصين بالعقاب، و هذه صغرى البرهان أخبر عنها الشرع. و حكم العقل عندئذ واضح، و هو أنّ إنجاز الوعد حسن، و التخلّف عنه قبيح. نعم، تقدم في الدليل السابق أنّ العباد لا يستحقون الثواب بطاعتهم، و إنّما هو جود و تفضّل، لكن هذا بغضّ النظر عن الوعد به، و أمّا معه، فالوفاء به لازم.

و الآيات الواردة في هذا المجال على قسمين: قسم يذكر فيه وعده بالقيامة و وعده بالثواب و وعيده بالعقاب. و قسم يذكر أنّه ينجز وعده و لا يخلف.

أمّا القسم الأول: فما يدلّ عليه كثير، نذكر بعضه.

- أمّا ما يدلّ على الوعد بالقيامة، فمنه قوله تعالى:

ص: 173


1- سورة طه: الآية 15. و لاحظ سورة سبأ الآيات 3-5، سورة الزلزلة: الآية 6.
2- نهج البلاغة، الخطبة 102.
3- نهج البلاغة، الخطبة 109.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ (1) .

- و ما يدل على الوعد بالثواب، فمنه قوله تعالى:

وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هٰذٰا مٰا تُوعَدُونَ (2) .

- و ما يدلّ على الوعيد بالعقاب، فمنه قوله تعالى:

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (3) .

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ (4) .

و أمّا القسم الثاني: الذي يركّز على حكم العقل و يدعمه، و ينفي الخلف عن وعده، فمنه قوله تعالى:

رَبَّنٰا إِنَّكَ جٰامِعُ اَلنّٰاسِ لِيَوْمٍ لاٰ رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ (5) .

وَ لاٰ تُخْزِنٰا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّكَ لاٰ تُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ (6) .

و على هذا الأساس يستدلّ المحقق الطوسي، على ضرورة المعاد، بقوله:

«و وجوب إيفاء الوعد، يقتضي وجوب البعث»(7).

ص: 174


1- سورة الزخرف: الآية 83. لاحظ الذاريات: 60، المعارج: 44، الأنبياء: 103.
2- سورة ق: الآيتان 31 و 32.
3- سورة الحجر: الآية 43.
4- سورة هود: الآية 17.
5- سورة آل عمران: الآية 9.
6- سورة آل عمران: الآية 194.
7- كشف المراد، المقصد السادس، المسألة الرابعة، ص 406.
الدليل الرابع: المعاد مجلى لرحمته سبحانه

و من لطائف الكلام في الذكر الحكيم أنّه عدّ المعاد فرعا لرحمته، و جعله مجلى لها، قال سبحانه: قُلْ لِمَنْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ؟ قُلْ لِلّٰهِ، كَتَبَ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ (1).

فترى أنّه سبحانه يرتّب جمع الناس إلى يوم القيامة، على قوله: كَتَبَ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ ، و ذلك لأنّ هذا اليوم يوم الرحمة للمؤمن و الكافر، غير أنّ الكافر، قد خسر نفسه باقتراف المعاصي و ترك الفرائض في الدنيا، فلا يتوفق لنيل رحمته تعالى، و لعلّه سبحانه إلى ذلك يشير في الآية بقوله: اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ .

و يعود معنى الآية إلى أنّ يوم القيامة أشبه بمائدة ممدودة، فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين، و لكن الانتفاع منها رهن قيود و شروط هي في وسع كل واحد من المكلّفين. فلو حرم الكافر من الرحمة، فهو بفعل نفسه و ما جنته يداه لا من جانبه سبحانه، و هذا كابتلاء العباد و امتحانهم، فإنّه رحمة، لأنّ الهدف منه خروج الطاقات من القوة إلى الفعل، و الكمالات من الخفاء إلى البروز، و لكن الكافر لا يخرج منه إلاّ راسبا غير مستفيد من أهداف الابتلاء، بل يخسر نفسه بفتور عزمه في مجال الطاعة.

و يمكن استفادة ذلك من الآية التالية، و هي قوله سبحانه:

فَانْظُرْ إِلىٰ آثٰارِ رَحْمَتِ اَللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا إِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) . فللآية دلالتان:

المطابقية منهما تهدف إلى تشبيه إحياء الموتى بإحياء الأرض حتى يرجع المنكر عن إنكاره بمشاهدة إحياء محسوس، و هو إحياء الأرض. و الالتزامية منهما تدلّ على أنّ

ص: 175


1- سورة الأنعام: الآية 12.
2- سورة الروم: الآية 50.

إحياء الموتى يوم القيامة، رحمة من اللّه سبحانه لهم، كما أنّ إحياء الأرض رحمة من اللّه سبحانه لعباده.

الدليل الخامس: المعاد خاتمة المطاف في تكامل الإنسان

إنّ الحركة تتقوم بأمور ستة، منها الغاية، كما حقق في محلّه. اعتبار الغاية في حقيقة الحركة ينشأ من تصوّر مفهومها، فإنّ الحركة جهد و سعي، يتطلب صاحبها غاية يفقدها، من غير بين أن تكون الغاية عقلائية، كحركة الطالب لتحصيل العلم، أو غير عقلائية، كاللعب بالسّبحة لترويح النفس.

و نرى أنّ الإنسان منذ تكونه نطفة فعلقة فمضغة، إلى أن يفتح عينه على الوجود، في حال حركة دائمة و سعي متواصل ليس له ثبات و لا قرار، و هو يطلب بحركته و سعيه شيئا يفقده. فعلى ذلك لا بدّ من وجود يوم يزول فيه وصف اللاقرار، و يدخل منزلا فيه القرار و الثبات، يكون غاية المطاف.

و الحركة و إن كانت تتوقف بالموت و لا يرى بعدها في الإنسان سعي، لكنّ تفسير الموت ببطلان الإنسان و شخصيته الساعية، إبطال للغاية التي كان يتوخاها من حركته، فلا بدّ أن يكون الموت ورودا إلى منزل آخر، يصل فيه إلى الغاية المتوخاة من سعيه و جهاده، و ذلك المنزل هو النشأة الأخروية.

و لا يصح أن يقال إنّ الغاية من الحركة و السعي و الكدح، هو نيل اللذائذ المادية و التجمّلات الظاهرية، لوضوح أنّ الإنسان مهما نال منها، لا يخمد عطشه، بل يستمر في سعيه و طلبه، و هذا يدلّ على أنّ له ضالة أخرى يتوجّه نحوها، و إن لم يعرف حقيقتها، فهو يطلب الكمال اللائق بحاله، و يتصور أنّ ملاذّ الحياة غايته، و منتهى سعيه، و لكنه سوف يرجع عن كل غاية يصل إليها و يعطف توجهه إلى شيء آخر.

قال صدر المتألّهين: الآيات التي ذكرت فيها النطفة و أطوارها الكمالية،

ص: 176

و تقلّباتها من صورة النقص إلى صورة أكمل، و من حال أدون إلى حال أعلى، فالغرض من ذكرها، إثبات أنّ لهذه الأطوار و التحولات غاية أخيرة، فللإنسان توجّه طبيعي نحو الكمال، و دين إلهي فطري في التقرّب إلى المبدأ الفعّال، و الكمال اللائق بحال الإنسان المخلوق أوّلا من هذه الطبيعة، و إلاّ كان لا يوجد في هذا العالم الأدنى، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعي، و فيها الغاية و المنتهى، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية، من الجمادية و النباتية، و الحيوانية، و بلغ أشدّه الصوري، و تمّ وجوده الدنيوي الحيواني، فلا بدّ أن يتوجه نحو النشأة الآخرة، و يخرج من القوة إلى الفعل، و من الدنيا إلى الأخرى، ثم المولى، و هو غاية الغايات، و منتهى الأشواق و الحركات(1).

و في الآيات الكريمات إشارات إلى هذا البرهان، يفهمها الراسخون في الذكر الحكيم.

يقول سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ تُبْعَثُونَ (2).

و أنت إذا لاحظت هذه الآيات و ما تقدمها ممّا يتكفل ببيان خلقة الإنسان، ترى لها انسجاما و ترابطا خاصّا، فاللّه سبحانه يصف الإنسان بأنّه كان نطفة فعلقة فمضغة، إلى أن أنشأه خلقا آخر، ثم يوافيه الموت، ثم يبعث يوم القيامة، فكأنّ الآية تبيّن تطور الإنسان تدريجا من النقص إلى الكمال، و من القوة إلى الفعل، و أنّه منذ تكوّن يسير في مدارج الكمال، إلى نهاية المطاف و هو البعث يوم القيامة، فهذا غاية الغايات، و منتهى الكمال.

و يمكن استظهار ذلك من قوله سبحانه: وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ * مِنْ نُطْفَةٍ إِذٰا تُمْنىٰ * وَ أَنَّ عَلَيْهِ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرىٰ (3)، بالبيان الماضي في الآية السابقة.

ص: 177


1- الأسفار، ج 9، ص 159.
2- سورة المؤمنون: الآيات 14-16.
3- سورة النجم: الآيات 45-47.

و لعلّه لأجل ذلك يصف القرآن يوم البعث ب «المساق»، و «الرّجعى»، و «دار القرار» و يقول: إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسٰاقُ (1)، و إِنَّ إِلىٰ رَبِّكَ اَلرُّجْعىٰ (2)، و إِنَّمٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا مَتٰاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دٰارُ اَلْقَرٰارِ (3).

الدليل السادس - المعاد مقتضى الربوبية

إنّ الربّ في اللغة بمعنى الصاحب، يقال: ربّ الدّار، و ربّ الضّيعة.

فالربوبية تحكي عن مالكية الرّبّ، و مملوكية المربوب.

و العلاقة المتّسمة بالربوبية، تقتضي كون المربوب ذا مسئولية أمام ربّه، و أنّ الربّ لا يتركه سدى، بل يحاسبه على أعماله و يجازيه بما أتى تجاهه، و بما أنّ هذه المحاسبة لا تتحقق في النشأة الدنيوية، فيجب أن يكون هناك نشأة أخرى تتحقق فيها لوازم الربوبية، فلا معنى لربّ بلا مربوب، كما لا معنى لمربوب يترك سدى، و لا يحاسب على أعماله و أفعاله.

و لعله لهذا الوجه، يركّز القرآن على كلمة الرّبّ في قوله: يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ (4).

و في قوله: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ (5).

و هذه الآية الثانية، أصرح في المطلوب، و هو أنّ كفرانهم بربّهم جعلهم

ص: 178


1- سورة القيامة: الآية 30.
2- سورة العلق: الآية 8.
3- سورة غافر: الآية 39.
4- سورة الانشقاق: الآية 6.
5- سورة الرعد: الآية 5.

منكرين للمعاد، فلو عرفوا حقيقة الربوبية، و عرفوا ربّهم، لأذعنوا بأنّ مقتضى الربوبية، لزوم وجود يوم تطرح فيه أعمال العباد على طاولة الحساب.

***

و هذه البراهين الستة تضفي على المعاد ضرورة، و قطعيّة، و وجوبا، و حتمية، و كلّها براهين عقلية أرشدنا إليها الذّكر الحكيم في محكم آياته.

***

ص: 179

مباحث المعاد

(3) بواعث إنكار المعاد و شبهات المنكرين
اشارة

الناس أمام دعوة الأنبياء إلى البعث في النشأة الأخرى كانوا على صنفين معتنق يشكل الأقليّة في المجتمع الإنساني، و منكر يشكّلون الأكثرية الساحقة فيه.

و كان المشركون من العرب، المعاصرون للنبي، أكثر عنادا و لجاجا في المعارف، خصوصا ما يرجع منها إلى البعث و يوم الحساب.

غير أنّه كانت لهم بواعث للإنكار، كما كانت لهم شبهات، و لم تكن شبهاتهم إلاّ واجهة لإنكارهم، فيبرروا بها جحودهم، و يعطوه صبغة الحجة، و العذر.

و نحن نذكر بواعث الإنكار أوّلا، ثم نردفها بالشّبهات ثانيا، و نعتمد في ذلك على الذكر الحكيم الذي ينقل ذلك عن المنكرين، سواء كانوا من الأمم السالفة، أو من المعاصرين لنزول الرسالة.

بواعث إنكار المعاد
اشارة

كثيرا ما نرى أناسا يتبنّون شيئا و يحتجون له بأدلة واهية، و هم يعلمون بوهنها، و أنّ المخاطبين يقفون على سقمها، و مع ذلك، يصرّون على مواقفهم.

و هذا من الأمور التي تمكّن من استكشاف الباعث أو البواعث الواقعية لهذا التبني من خلال أفعالهم و سيرتهم و معاشراتهم، و الذكر الحكيم كشف عن تلك البواعث

ص: 180

التي كانت تدفع المشركين إلى إنكار المعاد، ثم التعلل له بحجج واهية، و إليك بيانها.

الباعث الأول - التحلل من القيود و الحدود

إنّ الإيمان بالمبدإ، و المعاد، لا يتلخص في الإقرار اللساني، بل المؤمن يحمل مسئولية خاصة أمام اللّه سبحانه في الحياة الدنيوية، و لازم هذه المسئولية، الالتزام بحدود و قيود، تصدّه عن التحلل و الإفراط في الملاذ و الشهوات و الانهماك في إشباع الغرائز الحيوانية. و قد كان الالتذاذ و اتّباع الهوى، غاية المنى لأكثر المنكرين، و كان يسود عليهم سيادة الإله على خلقه، قال سبحانه: أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (1).

و لما كان الاعتقاد بالمعاد، مناف لهذا المبدأ الحيواني، أنكروه بحجج واهية يأتي الإشارة إليها، و يشير الذكر الحكيم إلى هذا الباعث، بقوله:

أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ * بَلىٰ قٰادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنٰانَهُ * بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسٰانُ لِيَفْجُرَ أَمٰامَهُ * يَسْئَلُ أَيّٰانَ يَوْمُ اَلْقِيٰامَةِ (2) .

فالآية الأولى تذكر معتقدهم و إنكارهم، و الآية الثانية تذكر باعث إنكارهم، و أنّه ليس هو ما يتظاهرون به من عدم إمكان جمع العظام، و إنّما هو رغبتهم في أن يرفعوا كل عائق يحدّ من انغماسهم في الملذات، و كل رادع يصدّهم عن إرضاء الغرائز البهيميّة. و قوله: لِيَفْجُرَ أَمٰامَهُ ، بمعنى ليشقّ أمامه، و لا يرتدع بشيء من القوانين و التشريعات.

الباعث الثاني - صيانة السلطة

إنّ السّنة السائدة عند أصحاب السلطة هي استعباد غيرهم و اضطهاد حقوقهم، كما أنّ السّنّة السائدة على المترفين في الحياة الدنيا، هي الانهماك في

ص: 181


1- سورة الفرقان: الآية 43.
2- سورة القيامة: الآيات 3-6.

اللذائذ، و كلاهما لا يتّفقان مع الاعتقاد بالمعاد و يوم الحساب، يقول سبحانه:

وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ، وَ أَتْرَفْنٰاهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّٰا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمّٰا تَشْرَبُونَ... هَيْهٰاتَ، هَيْهٰاتَ، لِمٰا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا، نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (1) .

فالآية الأولى تشير إلى باعثين من بواعث الإنكار، بينهما صلة قوية، و لذلك أدمجناهما و جعلناهما باعثا واحدا، أحدهما باعث نفسي هو الإتراف و التّمتّع بأسباب الشهوات، و الآخر باعث سياسي، هو ما كان للمنكرين من علية القوم و أشرافهم من تسلّط على أقوامهم فانكروا المعاد لئلا تتزعزع عروش سلطتهم بانتشار هذه العقيدة بين أتباعهم و مرءوسيهم، فكانوا يدعون الناس إلى إنكار المعاد و يقولون: هَيْهٰاتَ، هَيْهٰاتَ لِمٰا تُوعَدُونَ .

الباعث الثالث - التكذيب بالحق

إنّ هناك آيات تعرب عن أنّ المنكرين، من أول يوم واجهوا فيه دعوة الرسل، أنكروها و لم يعتنقوها، فجرّهم ذلك إلى إنكار المعارف كلّها و بالأخص المعاد، و حشر الإنسان في النشأة الأخرى.

نعم، لا ينفك عنادهم أمام الأنبياء عن علّة نفسية أو اجتماعية أو سياسية، جرّتهم إلى اتّخاذ ذلك الموقف السلبي في بدء الدعوة في كلّ ما يقوله الأنبياء و يدعون إليه، و إن كان بعضه موافقا لطبعهم و شعورهم و الذكر الحكيم يشير إلى هذا الباعث بقوله حاكيا عنهم:

أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً؟! ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (2) .

ص: 182


1- سورة المؤمنون: الآيات 33 و 36 و 37.
2- سورة ق: الآيات 3-5.

فيذكر في الآيتين الأوليين شبهتهم - التي سيأتي بيانها - إلاّ أنّه سرعان ما بيّن في الآية الثالثة أنّ هذه الشبهة واجهة و غطاء لها، و أنّ الباعث الواقعي هو تكذيبهم بالحق من أول الأمر، و لأجل ذلك هم في أمر مريج مضطرب.

هذه هي البواعث التي كانت تدفع إلى إنكار المعاد، و نحت الأعذار و الشبهات في هذا المجال. و إليك فيما يلي بيان شبهاتهم أوّلا، و أجوبتها ثانيا..

شبهات المنكرين للمعاد
اشارة

الشبهات التي ينقلها الذكر الحكيم عنهم تبلغ عشر شبهات، غير أنّ كثيرا منها ضئيل، ليس له دليل سوى البواعث التي قدّمناها، و مع ذلك لم يتركها القرآن بلا جواب، إمّا مقارن لذكرها أو في مواضع أخرى، و فيما يلي نذكر رءوس الشبهات الواهية، ثم نتبعها بذكر الشبهات القابلة للبحث، فنطرحها و نناقشها.

1 - لا دليل على المعاد

يقول سبحانه: وَ إِذٰا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ اَلسّٰاعَةُ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا قُلْتُمْ مٰا نَدْرِي مَا اَلسّٰاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّٰ ظَنًّا وَ مٰا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (1).

و قائل الشبهة يتظاهر بأنّه لا دليل على النّشأة الأخرى و إحياء الموتى فيها، و لو كان لاتّبعه. و لم يتركه القرآن بلا جواب، فقد أقام براهين دامغة على إمكانه و ضرورته كما سيوافيك.

و لأجل كون المعاد مقرونا بالبراهين، يتعجّب القرآن من إنكارهم و يقول:

وَ إِنْ تَعْجَبْ، فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (2) .

ص: 183


1- سورة الجاثية: الآية 32.
2- سورة الرعد: الآية 5.
2 - المعاد من أساطير الأولين

يقول سبحانه: قٰالُوا أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنٰا نَحْنُ وَ آبٰاؤُنٰا هٰذٰا مِنْ قَبْلُ، إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (1).

و بما أنّ الشرائع السماوية، متّحدة في الأصول، و إنّما اختلافها في الشرع و المنهاج(2)، كانت الدعوة إلى المعاد موجودة في الشرائع السالفة، فحسبها المشركون أسطورة من أساطير الأوّلين.

مع أنّ الدعوة إلى عقيدة قديمة لا يكون دليلا على بطلانها، كما أنّ استحداث عقيدة لا يكون دليلا على صحتها، و إنّما الضابط هو الدليل.

3 - المعاد افتراء على اللّه أو جنون من القول

يقول سبحانه: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذٰا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ (3).

و المنكرون لأجل التظاهر بالحرية في القضاء، و ابتعادهم عن العصبية، فسّروا الدعوة إلى المعاد بأنّ الداعي إمّا رجل غير صالح، افترى على اللّه كذبا، أو أنّه معذور في هذا القول و قاصر، لأنّ به جنة، و هذا نوع من الخداع، إذ كيف صار «أمينهم» مفتريا على اللّه الكذب، و متى كان الإنسان العاقل الذي أثبت الزمان عقله و ذكاءه و درايته و أمانته حتى قمع أصول الشرك عن أديم الجزيرة، متى كان مجنونا؟.

4 - إعادة الأموات سحر

يقول سبحانه: وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ

ص: 184


1- سورة المؤمنون: الآيتان 82 و 83.
2- إشارة إلى قوله سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهٰاجاً (سورة المائدة: الآية 48).
3- سورة سبأ: الآيتان 7 و 8.

كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ (1) .

فقد بلغ عنادهم في إنكار الحقيقة مبلغا لو قام النبي معه بإحياء الموتى أمامهم، و رأوه بأمّ أعينهم، لقالوا إنّه سحر مبين، و إنّك سحرت أعيننا، و لا حقيقة لما فعلت.

5 - إذا كان المعاد حقّا فأحيوا آباءنا

يقول سبحانه: وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ مٰا كٰانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا اِئْتُوا بِآبٰائِنٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (2).

غير أنّ طلبهم إحياء آبائهم لم يكن إلاّ تعلّلا أمام دعوة النبي، فلو قام النبي بهذا العمل، لطلبت كل قبيلة، بل كلّ إنسان نفس ذلك العمل من النبي، حتى يؤمن به، فتنقلب الدعوة لعبة في أيديهم. و لأجل ذلك يضرب القرآن عن الجواب صفحا، و يكتفي بقوله: قُلِ اَللّٰهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (3).

6 - حشر الإنسان عسير

إنّ هذا الاعتراض و إن لم ينقل عنهم صريحا و لكن يعلم من الآيات الواردة حول المعاد، أنّه كان أحد شبهاتهم.

يقول سبحانه في أمر المعاد: ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ (4) و يقول: ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ (5) و يقول: وَ مٰا أَمْرُ اَلسّٰاعَةِ إِلاّٰ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ

ص: 185


1- سورة هود: الآية 7.
2- سورة الجاثية: الآية 25.
3- سورة الجاثية: الآية 26.
4- سورة ق: الآية 44.
5- سورة التغابن: الآية 7.

أَقْرَبُ (1) و يقول: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (2).

و هذه الشبهة صورة خفيفة للشبهة السابعة الآتية التي سيوافيك الجواب عنها تفصيلا. و الإجابة عن تلك يغني عن الإجابة عن هذه. قال أمير المؤمنين عليه السلام: «و ما الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القويّ و الضّعيف في خلقه إلاّ سواء»(3).

هذه هي شبهاتهم الضئيلة الواهية التي لا يخفى بطلانها و كانت لهم معها شبهات أخرى أجدر بالبحث و التحليل، و هي أربع، نذكرها أوّلا ثم نجيب عنها بالتفصيل.

7 - إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة

يظهر من الذكر الحكيم أنّهم كانوا يعتمدون على هذه الشبهة، و يحكيها سبحانه بقوله: وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (4).

8 - التعرف على الأجزاء الرميمة غير ممكن

إنّ عادة الموتى بأعيانهم يتوقف على التعرف على أجزاء أبدانهم الرميمة المبعثرة، على أديم الأرض و في جوفها. و في أعماق البحار، ليعاد جزء كل إنسان إلى بدنه، و هذا أمر محال.

و هذه الشبهة و إن لم يصرّح بها القرآن، و لكن يستنبط من إجابة القرآن عليها أنّهم كانوا يعتمدون عليها.

ص: 186


1- سورة النحل: الآية 77.
2- سورة الروم: الآية 27.
3- نهج البلاغة، الخطبة 180.
4- سورة يس: الآية 78.

يقول سبحانه: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ، عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (1).

فإنّ قوله: عٰالِمِ اَلْغَيْبِ، لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ... يكشف عن أنّ شبهتهم في إمكان المعاد، هي عدم إمكان التعرّف على أجزاء الموتى المبعثرة.

9 - الموت بطلان للشخصية

و ممّا كانوا يعتمدون عليه في إنكارهم للمعاد، هو أنّ الموت و صيرورة الإنسان عظاما ثم ترابا، يلازم بطلان شخصيته و انعدامها، و المعدم لا يعاد.

و لعلّه إلى تلك الشبهة يشير قوله سبحانه: وَ قٰالُوا أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (2) و يحتمل كونه إشارة إلى الشبهة التالية.

10 - فقدان الصلة بين المبتدأ و المعاد

إذا كان الموت و صيرورة الإنسان ترابا، إعداما للشخصية، فالشخصية المحياة في النشأة الأخرى، لا تمت إلى الأولى بصلة، فكيف تكون إحياء لها؟ فإنّ المقصود من المعاد، إحياء الناس لإثابتهم أو معاقبتهم، و هو فرع وحدة المعاد و المبتدأ، و اتّحادهما، و هو منتف، و لعلّ الآية السابقة، تشير إلى هذه الشبهة.

هذه هي شبهاتهم التي تستحق البحث، و إليك فيما يلي مناقشتها:

الإجابة التفصيلية عن شبهاتهم
اشارة

الاعتقاد بالمعاد اعتقاد بالغيب و إيمان به، و هو فرع معرفة اللّه سبحانه، و معرفة أسمائه و صفاته، و أفعاله، و لو لا تلك المعرفة، لما حصل الإيمان بشيء من

ص: 187


1- سورة سبأ: الآية 3.
2- سورة السجدة: الآية 10.

الأمور الغيبية، فالاعتقاد بمعاجز الأنبياء، و كراماتهم التي يحكيها لنا القرآن الكريم، قائم على معرفة اللّه سبحانه. و معرفة شئونه تبارك و تعالى. و على هذا الأساس يبتني الجواب عن الشبهتين الأوليين:

جواب الشبهة الأولى - القدرة المطلقة و إحياء الموتى
اشارة

إنّ تخيل استحالة المعاد، الناشئ من توهّم أنّ إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة، جهل باللّه سبحانه، و جهل بصفاته القدسية، فإنّ قدرته عامة تتعلق بكل أمر ممكن بالذات، و من هنا نجد القرآن الكريم يندد بقصور المشركين و جهلهم في مجال المعرفة، و يقول: وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ (1). و معنى عدم التقدير هنا، عدم تعرفهم على اللّه سبحانه حقّ التعرف، و لذلك يعقبه بقوله: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ ، معربا عن أنّ إنكار المعاد ينشأ من هذا الباب.

و في آيات أخرى تصريحات بعموم قدرته، كقوله: أَيْنَ مٰا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّٰهُ جَمِيعاً، إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2).

و قوله تعالى: إِلَى اَللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (3).

و الآيات الواردة في هذا المجال كثيرة(4).

ثم إنّ القرآن يسلك طريقا ثانيا في تقرير إمكان المعاد، و ذلك عبر الآتيان بأمور محسوسة أقرب إلى الإذعان و الإيمان:

ص: 188


1- سورة الزمر: الآية 67.
2- سورة البقرة: الآية 148.
3- سورة هود: الآية 4.
4- لاحظ النحل: الآية 77، العنكبوت: الآية 20، الروم: الآية 50، فصلت: الآية 39، الشورى: الآية 9 و 29، الأحقاف: الآية 23، الحديد: الآية 2.
أ - القادر على خلق السموات، قادر على إحياء الموتى

يقول سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىٰ (1).

و كيفية الاستدلال بها واضحة، فإنّ القادر على إبداع هذا النظم البديع، أقدر على إحياء الإنسان.

ب - القادر على المبتدأ قادر على المعاد

إنّ من الضوابط العقلية المحكمة أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، و أنّ حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد، فلو كانت الإعادة أمرا محالا، لكان ابتداء الخلقة مثله، لأنّهما يشتركان في كونهما إيجادا للإنسان، و على ذلك قوله سبحانه: وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً...

فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنٰا، قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (2) .

و قوله سبحانه: أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسٰانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنىٰ * ثُمَّ كٰانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّٰى * فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ * أَ لَيْسَ ذٰلِكَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىٰ (3).

ج - القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الإنسان بعد موته

و يري الذكر الحكيم في آياته إعادة الحياة إلى التراب بشكل ملموس، و ذلك بصورتين:

أولاهما: أنّه إذا امتنع عود الحياة إلى التراب، فكيف صار التراب إنسانا في

ص: 189


1- سورة الأحقاف: الآية 33. و مثلها يس: الآية 81.
2- سورة الإسراء: الآيات 49-51.
3- سورة القيامة: الآيات 36-40، و قد ورد في هذا المجال آيات أخر، فلاحظ يس: الآية 79، سورة الطارق: الآيات 5-8.

بدء الخلقة، و في ذلك يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ... (1).

و يقول: مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ (2).

و ثانيتهما: إنّ الأرض الميتة تحيا كلّ سنة بنزول الماء عليها فتهتز و تربو بعد جفافها، و تنبت من كل زوج بهيج، يقول سبحانه: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا، عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ، وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ، وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ، وَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * وَ أَنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا، وَ أَنَّ اَللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ (3).

و يقول سبحانه: وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتّٰى إِذٰا أَقَلَّتْ سَحٰاباً ثِقٰالاً سُقْنٰاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنٰا بِهِ اَلْمٰاءَ فَأَخْرَجْنٰا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ، كَذٰلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (4).

فليس إحياء الإنسان من التراب إلاّ كإحياء التراب الميت، باخضرار نباته، و ازهرار أشجاره.

و بهذه النماذج المحسوسة يثبت القرآن عموم قدرته تعالى، مضافا إلى البراهين العقلية على عموم قدرته تعالى شأنه.

جواب الشبهة الثانية - العلم المطلق و التعرف على الأجزاء المندثرة

إنّ هذه الشبهة و سابقتها، لهما منشأ واحد هو عدم التعرف على اللّه سبحانه: صفاته و أفعاله، و هنا يقولون إنّ الأجزاء المتلاشية المبعثرة في أكناف

ص: 190


1- سورة الحج: الآية 5.
2- سورة طه: الآية 55.
3- سورة الحج: الآيات 5-7.
4- سورة الأعراف: الآية 57. و لاحظ الزخرف: الآية 11، الروم: الآية 19، سورة فاطر: الآية 9، سورة ق: الآيات 9-11.

الأرض لا يمكن التعرف عليها ليعاد جمع أجزاء كل إنسان.

و الجواب عنه واضح بعد التعرف على علمه الوسيع، سبحانه، و أنّ الممكنات بعامة أجزائها حاضرة لديه غير غائبة عنه.

يقول سبحانه: بعد نقل شبهتهم (أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً، ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) .

قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ (1) . فالتركيز في الجواب على علمه سبحانه بما تنقص الأرض منهم، و أنّ عنده كتابا حفيظا لكلّ شيء، يعرب عن أنّ شبهتهم كانت ترجع إلى عدم إمكان التعرف على الأجزاء البالية، حتى يعاد جمعها.

و نظير ذلك قوله سبحانه: مٰا خَلْقُكُمْ وَ لاٰ بَعْثُكُمْ إِلاّٰ كَنَفْسٍ وٰاحِدَةٍ إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (2). فالتركيز على كونه سميعا و بصيرا يعرب عن أنّ المقصود من صدر الآية هو نقل شبهتهم الراجعة إلى علمه سبحانه.

جواب الشبهة الثالثة - الموت ليس إبطالا للشخصية

إنّ القائل بأنّ الموت إبطال للشخصية، حسب أنّ الإنسان موجود مادي محض، و ليس هو إلاّ مجموعة خلايا و عروق و أعصاب و عظام و جلود، تعمل بانتظام، فإذا مات الإنسان صار ترابا، و لا يبقى من شخصيته شيء، فكيف يمكن أن يكون المعاد نفس الأول؟ و لعلّه إلى ذلك يشير قولهم: «أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد؟». بأن يكون المراد من الضلال في الأرض بطلان الهوية بطلانا كاملا لا يمكن أن تتسم معه بالإعادة، و يجيب القرآن عن هذه الشبهة بجوابين:

أوّلهما، قوله: بَلْ هُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ كٰافِرُونَ (3).

ص: 191


1- سورة ق: الآية 4.
2- سورة لقمان: الآية 28.
3- سورة السجدة: الآية 10.

و ثانيهما، قوله: قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (1).

و الجواب الأول راجع إلى بيان باعث الإنكار، و هو أنّ السبب الواقعي لإنكار المعاد، ليس ما يتقوّلونه بألسنتهم من الضلالة في الأرض، و إنّما هو ناشئ من تبنّيهم موقفا سلبيا في مجال لقاء اللّه، فصار ذلك مبدأ لطرح هذه الشبهات.

و الجواب الثاني جواب عقلي عن هذا السؤال، و تعلم حقيقته بالإمعان في معنى لفظ التوفي، فهو و إن كان يفسّر بالموت، و لكنّه تفسير باللازم، و المعنى الحقيقي له هو الأخذ تماما، و قد نصّ على ذلك أئمة أهل اللغة، قال ابن منظور في اللسان: «توفّي فلان و توفاه اللّه، إذا قبض نفسه، و توفّيت المال منه، و استوفيته، إذا أخذته كلّه. و توفيت عدد القوم، إذا عددتهم كلهم. و أنشد أبو عبيدة:

إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد *** و لا توفّاهم قريش في العدد

أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم و لا تستوفي بهم عددهم»(2).

و آيات القرآن الكريم بنفسها كافية في ذلك، يقول سبحانه: اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا، وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا (3). فإنّ لفظة «التي»، معطوفة على الأنفس، و تقدير الآية: يتوفى التي لم تمت في منامها. و لو كان التوفي بمعنى الإماتة، لما استقام معنى الآية، إذ يكون معناها حينئذ: اللّه يميت التي لم تمت في منامها. و هل هذا إلاّ تناقض؟ فلا مناص من تفسير التوفّي بالأخذ، و له مصاديق تنطبق على الموت تارة، كما في الفقرة الأولى، و على الإنامة أخرى، كما في الفقرة الثانية.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى قوله سبحانه: قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ ، فمعناه: يأخذكم ملك الموت الذي و كلّ بكم ثم إنّكم إلى اللّه ترجعون. و هذا

ص: 192


1- سورة السجدة: الآية 11.
2- لسان العرب، ج 15، ص 400، مادة «و فى».
3- سورة الزمر: الآية 42.

مآله إلى أنّ شخصيتكم الحقيقية لا تضل أبدا في الأرض، و ما يرجع إليها يأخذه و يقبضه ملك الموت، و هو عندنا محفوظ لا يتغير و لا يتبدّل و لا يضلّ، و أمّا الضال، فهو البدن الذي هو بمنزلة اللباس لهذه الشخصية.

فينتج أنّ الضال لا يشكل شخصية الإنسان، و ما يشكّلها و يقوّمها فهو محفوظ عند اللّه، الذي لا يضلّ عنده شيء.

و الآية تعرب عن بقاء الروح بعد الموت و تجرّدها عن المادة و آثارها، و هذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات التي تطرأ على المعاد الجسماني العنصري.

و بما أنّ تجرد النفس، ممّا شغل بال المنكرين، و اهتمّ به القرآن الكريم، عناية كاملة، فسنبحث عنه بعد الإجابة عن الشبهة الرابعة.

جواب الشبهة الرابعة - شخصية المعاد نفس شخصية المبتدأ

عرفت أنّهم قالوا: إذا كانت الغاية من المعاد، تحقيق العدل الإلهي، و إثابة المطيع، و عقاب العاصي، فيجب أن يكون المعاد نفس المبتدأ حتى لا يؤخذ البريء بجرم المتعدي، و هو يتوقف على وجود الصلة بين الشخصيتين، و ليس هناك صلة بينهما.

و هذه الشبهة ناشئة من نفس ما نشأت الشبهة السابقة منه، و هو تخيّل أنّ شخصية الإنسان منحصرة في الإطار المادي، لا غير. و لعلّ قولهم: «أ إذا ضللنا في الأرض»، يشير إلى هذه الشبهة.

و الجواب نفس الجواب السابق، و هو أنّ ما يرجع إلى حقيقة الإنسان محفوظ عند اللّه سبحانه، و هو الصّلة الوثيقة بين المبتدأ و المعاد، و هو الذي يجعل البدن الثاني، إعادة للشخص الأول، لأنّ شخصيته هي روحه و نفسه و هي محفوظة في كلتا الحالتين، و إنّما البدن أداة و لباس لها، و ليس هذا بمعنى أنّ الروح تعاد و لا يعاد البدن، و لا أنّه لا يعاد نفس البدن الأول، بل بمعنى أنّ المناط للشخصية الإنسانية، هو روحه و نفسه، و البدن غير مهتم به، و الغرض من حشره ببدنه، عدم إمكان تعذيب الروح أو تنعيمها إلاّ عن طريق البدن، فإذا كانت الشخصية

ص: 193

محفوظة، فلا تنقطع الصلة بين المبتدأ و المعاد، خصوصا أنّ أجزاء البدن المبعثرة، معلومة للّه سبحانه. فهو يركّب تلك الأجزاء المبعثرة، و تتعلق بها الروح، قال سبحانه: قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ، وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ (1). و قال سبحانه: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (2).

فالتعبير ب خَلْقٍ عَلِيمٌ مكان «خلق قدير»، إشارة إلى علمه تعالى بأجزاء بدن كل إنسان.

إلى هنا فرغنا من الإجابة عن الشبهات المطروحة حول المعاد التي ذكرها القرآن، و بما أنّ الإجابة عن الشبهتين الأخيرتين مبني على تجرّد الروح و بقائها بعد الموت، نفرده بالبحث و نثبت هذا التجرّد عقلا و نقلا، و هو من مهام البحوث في المعاد.

ص: 194


1- سورة ق: الآية 4.
2- سورة يس: الآية 79.

مباحث المعاد

(4) تجرد الروح الإنسانية
اشارة

لقد شغل أمر تجرد الروح بال المفكرين، و استدلوا عليه بوجوه عقلية عدة، كما اهتمّ القرآن الكريم ببيانه في لفيف من آياته، و فيما يلي نسلك في البحث عن تجرّد الروح هذين الطريقين: العقلي و النقلي.

1 - البراهين العقلية على تجرد الروح
اشارة

تدلّ براهين كثيرة على أنّ النفس مجرّدة غير مشوبة بالمادة و آثارها. و تجرّدها يعتبر من النوافذ إلى عالم الغيب و نكتفي فيما يلي بإيراد أبرز هذه البراهين و أوضحها، و إلاّ فهي كثيرة تتجاوز العشرة.

البرهان الأول - ثبات الشخصية الإنسانية في دوامة التغيّرات الجسدية

و هذا البرهان يتألّف من مقدمتين:

الأولى أنّ هناك موجودا تنسب إليه جميع الأفعال الصادرة عن الإنسان، ذهنية كانت أو بدنية.

و لهذا الموجود حقيقة، و واقعية يشار إليها بكلمة «أنا».

الثانية أنّ هذه الحقيقة التي تعدّ مصدرا لأفعال الإنسان، ثابتة و باقية

ص: 195

و مستمرة في مهبّ التغيرات، و هذا آية التجرّد.

أمّا المقدمة الأولى، فلا تحتاج إلى بحث كثير، لأنّ كل واحد ينسب أعضاءه إلى نفسه و يقول يدي، رجلي، عيني، أذني، قلبي،... كما ينسب أفعاله إليها، و يقول قرأت، كتبت، أردت، أحببت، و هذا مما يتساوى فيه الإلهي و المادي و لا ينكره أحد، و هو بقوله «أنا» و «نفسي»، يحكي عن حقيقة من الحقائق الكونية، غير أنّ اشتغاله بالأعمال الجسمية، يصرفه عن التعمّق في أمر هذا المصدر و المبدأ، و ربما يتخيل أنّه هو البدن، و لكنه سرعان ما يرجع عنه إذا أمعن قليلا حتى أنّه ينسب مجموع بدنه إلى تلك النفس المعبّر عنها ب «أنا».

و أمّا المقدمة الثانية، فكل واحد منا يحسّ بأنّ نفسه باقية ثابتة في دوامة التغيرات و التحوّلات التي تطرأ على جسمه، فمع أنّه يتصف تارة بالطفولة، و أخرى بالصبا، و ثالثة بالشباب، و أخيرا بالكهولة، فمع ذلك يبقى هناك شيء واحد تسند إليه جميع هذا الحالات، فيقول: أنا الذي كنت طفلا ثم صرت صبيا، فشابا، فكهلا، و كل إنسان يحسّ بأنّ في ذاته حقيقة باقية و ثابتة رغم تغير الأحوال و تصرم الأزمنة، فلو كانت تلك الحقيقة التي يحمل عليها تلك الصفات أمرا ماديا، مشمولا لسنّة التغيّر و التبدّل، لم يصحّ حمل تلك الصفات على شيء واحد، حتى يقول: أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت صبيا أو شابا، فلو لا وجود شيء ثابت و مستمر إلى زمان النطق، للزم كذب القضية، و عدم صحتها، لأنّ الشخصية التي كانت في أيام الصبا، قد زالت - على هذا الفرض - و حدثت بعدها شخصية أخرى.

لقد أثبت العلم أنّ التغيّر و التحوّل من الآثار اللازمة للموجودات المادية، فلا تنفك الخلايا التي يتكون منها الجسم البشري، عن التغير و التبدّل، فهي كالنهر الجاري تخضع لعملية تغيير مستمر، و لا يمضي على الجسم زمن إلاّ و قد احتلّت الخلايا الجديدة مكان القديمة. و قد حسب العلماء معدل هذا التجدد، فظهر لهم أنّ التبدّل يحدث بصورة شاملة في البدن، مرة كل عشر سنين.

و على هذا، فعملية فناء الجسم المادي الظاهري مستمرة، و لكن

ص: 196

الإنسان، في الداخل (أنا)، لا يتغير. و لو كانت حقيقة الإنسان هي نفس هذه الخلايا لوجب أن يكون الإحساس بحضور «أنا» في جميع الحالات أمرا باطلا، و إحساسا خاطئا.

و حاصل هذا البرهان عبارة عن كلمتين: وحدة الموضوع لجميع المحمولات، و ثباته في دوامة التحولات. و هذا على جانب النقيض من كونه ماديا.

البرهان الثاني - علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه

البرهان الثاني - علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه(1)

إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كل شيء، عن بدنه و أعضائه، و لكن لا يغفل أبدا عن نفسه، سليما كان أم سقيما و إذا أردت أن تجرب ذلك، فاستمع إلى البيان التالي:

افرض نفسك في حديقة زاهرة غناء، و أنت مستلق لا تبصر أطرافك و لا تتنبّه إلى شيء، و لا تتلامس أعضاؤك، لئلا تحسّ بها، بل تكون منفرجة، و مرتخية في هواء طلق، لا تحسّ فيه بكيفية غريبة من حرّ أو برد أو ما شابه، ممّا هو خارج عن بدنك. فإنّك في مثل هذه الحالة تغفل عن كل شيء حتى عن أعضائك الظاهرة، و قواك الداخلية، فضلا عن الأشياء التي حولك، إلاّ عن ذاتك، فلو كانت الروح نفس بدنك و أعضائك و جوارحك و جوانحك، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عنها، و التجربة أثبتت خلافه.

و بكلمة مختصرة: «المغفول عنه، غير اللامغفول عنه». و بهذا يكون إدراك الإنسان نفسه من أول الإدراكات و أوضحها.

البرهان الثالث - عدم الانقسام آية التجرّد

الانقسام و التجزؤ من آثار المادة، غير المنفكة عنها، فكل موجود مادي

ص: 197


1- هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات ج 2 ص 92. و الشفاء قسم الطبيعيات في موردين ص 282 و 464.

خاضع لهما بالقوة، و إذا عجز الإنسان عن تقسيم ذلك الموجود، فلأجل فقدانه أدواته اللازمة. و لأجل ذلك ذكر الفلاسفة في محلّه، بطلان الجزء الذي لا يتجزأ. و ما يسميه علم الفيزياء، جزء لا يتجزأ، فإنّما هو غير متجزّئ بالحسّ، لعدم الأدوات اللازمة، و أمّا عقلا فهو منقسم مهما تناهى الانقسام، لأنّه إذا لم يمكن الانقسام، و عجز الوهم عن استحضار ما يريد أن يقسّمه - حتى بالمكبرات - بسبب صغره، يفرض العقل فيه شيئا غير شيء، فيحكم بأنّ كل جزء منه يتجزأ إلى غير النهاية، و معنى عدم الوقوف أنّه لا ينتهي انقسامه إلى حدّ إلاّ و يتجاوز عنه(1).

و من جانب آخر، كلّ واحد منّا إذا رجع إلى ما يشاهده في صميم ذاته، و يعبّر عنه ب «أنا»، وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام و التجزّي، فارتفاع أحكام المادة، دليل على أنّه ليس بمادي.

إنّ عدم الانقسام لا يختص بما يجده الإنسان في صميم ذاته و يعبّر عنه ب «أنا»، بل هو سائد على وجدانياته أيضا من حبّ، و بغض، و إرادة، و كراهة، و تصديق، و إذعان. و هذه الحالات النفسانية، تظهر فينا في ظروف خاصة، و لا يتطرق إليها الانقسام الذي هو من أظهر خواص المادة.

اعطف نظرك إلى حبك لولدك، و بغضك لعدوك، فهل تجد فيهما تركّبا؟ و هل ينقسمان إلى جزء فجزء؟ كلا، لا.

فإذا كانت الذات و الوجدانيات غير قابلة للانقسام، فلا تكون منتسبة إلى المادة التي يعدّ الانقسام من أظهر خواصّها.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الروح و آثارها، و النفس و النفسانيات، كلّها موجودات واقعية خارجة عن إطار المادة، و من المضحك قول المادي إنّ التفحص، و التفتيش العلمي في المختبرات لم يصل إلى موجود غير مادي، حتى نذعن بوجوده، فقد عزب عنه أنّ القضاء عن طريق المختبرات يختصّ بالأمور المادية، و أمّا ما يكون

ص: 198


1- لاحظ شرح المنظومة، للحكيم السبزواري، ص 206.

سنخ وجوده على طرف النقيض منها، فليست المختبرات محلا و ملاكا للقضاء بوجوده و عدمه.

ثم إنّ البحث العقلي، في تجرّد الروح مترامي الأطراف مختلف البراهين، اكتفينا بهذا القدر منه، و من أراد التبسّط فليرجع إلى الكتب المعدة لذلك(1).

2 - القرآن و تجرّد النفس و خلودها
اشارة

الآيات التي يستظهر منها خلود الروح و تجرّدها على قسمين: قسم يدلّ عليه بصراحة لا تقبل الإنكار، و قسم آخر يستظهر منه، و إن كان قابلا للحمل على معنى آخر، و إليك نقل القسمين بإيضاح إجمالي:

القسم الأول من الآيات

(أ) يقول سبحانه: اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا، وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا، فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضىٰ عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ، وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرىٰ، إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2).

و الدلالة مبنية على إمعان النظر في لفظة التوفّي، و قد عرفت أنّها بمعنى الأخذ و القبض، لا الإماتة. و على ذلك فالآية تدلّ على أنّ للإنسان وراء البدن شيئا يأخذه اللّه سبحانه، حين الموت و النوم، فيمسكه إن كتب عليه الموت، و يرسله إن لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمى، فلو كان الإنسان متمحضا في المادة و آثارها، فلا معنى «للأخذ» و «الإمساك» و «الإرسال»، كما هو واضح.

(ب) يقول سبحانه: وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً، بَلْ

ص: 199


1- لاحظ الإشارات للشيخ الرئيس ج 2، ص 368-371. و الأسفار، ج 8 ص 38. و أصول الفلسفة للعلامة الطباطبائي، رحمه اللّه و ترجمة الأستاذ دام حفظه ج 1، المقالة الثالثة، ص 129-183. و في هذا الأخير يجد المتتبع ضالته.
2- سورة الزمر: الآية 42.

أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (1) .

و صراحة الآية غير قابلة للإنكار، فإنّها تقول: إنّهم أحياء أوّلا، و يرزقون ثانيا، و إنّ لهم آثارا نفسانية يفرحون و يستبشرون، لا يخافون و لا يحزنون ثالثا:

و نظيره قوله سبحانه: وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتٌ، بَلْ أَحْيٰاءٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَشْعُرُونَ (2).

و تفسير الحياة في الآيتين، بالحياة في شعور الناس و ضمائرهم، و قلوبهم، و في الأندية و المحافل و المناسبات الرسمية، تفسير مادي للآية، جرّت إليه النزعات الإلحادية، و لو كان المراد هو هذا النوع من الحياة، فما معنى قوله سبحانه: يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ ، يَسْتَبْشِرُونَ ، و ما معنى قوله:

وَ لٰكِنْ لاٰ تَشْعُرُونَ ، فإنّ الحياة بالمعنى الذي ذكروه يشعر بها كل الناس.

(ج) يقول سبحانه: وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ * اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا، وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ (3).

فترى أنّه سبحانه يحكم على آل فرعون بأنّهم يعرضون على النار، في كل يوم و ليلة، قبل يوم القيامة، بشهادة قوله بعده: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ ، فإنّه دليل على أنّ العرض على النار قبلها، فلو كان الموت بطلانا للشخصية، و اندثارا لها، فما معنى العرض على النار، صباحا و مساء.

(د) يقول سبحانه: مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نٰاراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْصٰاراً (4).

ص: 200


1- سورة آل عمران: الآيات 169-171.
2- سورة البقرة: الآية 154.
3- سورة غافر: الآيتان 45 و 46.
4- سورة نوح: الآية 25.

و دلالة الآية كدلالة سابقتها، و لا يمكن تفسير قوله: فَأُدْخِلُوا نٰاراً ، بنار القيامة، و ذلك لأنّ القيامة لم تقع بعد، و الآية تحكي عن الدخول أوّلا، و كونه متصلا بغرقهم لا منفصلا عنه ثانيا، قضاء بحكم الفاء في قوله:

فَأُدْخِلُوا .

(ه) يقول سبحانه: قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (1).

و قد تقدمت دلالة الآية، فقلنا إنّ محور الدلالة هو الإمعان في معنى التوفّي.

(و) يقول سبحانه: وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ فِي غَمَرٰاتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ بٰاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ اَلْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيٰاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (2).

و المراد من الأنفس، في الآية، هو عين ما ورد في قوله سبحانه: اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا ، و هي تحكي عن أنّ للظالمين أبدانا و أنفسا و الملائكة موكّلون بأخذ أنفسهم و ترك أبدانهم، و لو كان الإنسان موجودا ماديا محضا، فما معنى أخذ الأنفس، إذ يكون الموت حينئذ خمود الحرارة الغريزية لا أكثر.

أضف إلى ذلك أنّ الآية تدلّ على أن الظالم يعذب يوم خروج نفسه بعذاب الهون، و هذا يدل على أنّ وراء البدن شيء آخر يعذّب.

و تفسير عذاب الهون بشدة قبض الروح، تفسير على خلاف الظاهر.

(ز) يقول سبحانه: قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ، قٰالَ يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ (3).

يقول المفسرون: إنّ عيسى عليه السلام بعث رسولين من الحواريين إلى

ص: 201


1- سورة السجدة: الآية 11.
2- سورة الأنعام: الآية 93.
3- سورة يس: الآيتان 26 و 27.

مدينة أنطاكية، فلقيا من أهلها عنفا و ردّا، غير أنّ واحدا من أهلها اسمه حبيب النجار، آمن بهما و أظهر إيمانه، و قال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ، فلما سمع القوم إيمانه وطئوه بأرجلهم حتى مات، فأدخله اللّه الجنة، و خوطب بقوله تعالى: أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ . ثم هو تمنّى أن يعلم قومه بما آتاه اللّه تعالى من المغفرة و جزيل الثواب، فقال: يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ .

فالآية تدل على أنّ الموت ليس فناء للإنسان، بل هو بعد الموت يرزق في الجنة، و يتمنى أن يعلم قومه بما رزق من الكرامة.

أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى: أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ ، لا يمكن أن يكون خطابا للبدن لأنه يوارى تحت التراب، فالمخاطب به شيء آخر، و هو الروح، فتدخل الجنة و تتنعّم فيها، و كم فرق بين قوله: «أدخل الجنة» و قوله «أبشر بالجنة» فالثاني لا يدلّ على شيء مما ذكرنا بخلاف الأوّل.

(و) يقول سبحانه: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً، فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ (1).

و أمّا دلالة الآية على أنّ الروح أمر غير مادّي، فيظهر بالإمعان فيها، و بيانه: أنّ الآية تبيّن تكامل خلقة الإنسان من مرحلة إلى مرحلة، و المراحل الموجودة بين السلالة، و قوله: فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ، كلّها تكامل من صنف واحد، فمادة الإنسان لن تبرح تتكامل من السلالة إلى العظام المكسوة باللّحم.

و بعد ذلك نرى تغييرا في أسلوب بيان الآية، حيث يقول: ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ . فهو سبحانه:

أولا: يعطف هذه المرحلة على المراحل السابقة، بلفظة ثمّ، بخلاف

ص: 202


1- سورة المؤمنون: الآيات 12-14.

المراحل السابقة، فيعطفها بالفاء، و يقول فخلقنا العلقة... فخلقنا المضغة... فكسونا العظام... و هذا يدل على تغاير هائل بين هذه المرحلة و المراحل السابقة.

ثانيا: يستعمل في بيان خلقه هذه المرحلة لفظ الإنشاء، بمعنى الإبداع، و إنشاء شيء بلا مثال قبله، و هو أيضا يدل على مغايرة هذه المرحلة لما سبقها من المراحل، مغايرة جوهريّة.

و ثالثا: إنّه سبحانه بعد ما يقرر خلقه هذه المرحلة، يثني على نفسه، مما يعرب عن اختلاف هذه المرحلة مع ما تقدمها، و امتيازها عنها امتيازا جوهريا.

و هذه الوجوه، تكفي في دلالة الآية على أنّ المنشأ في هذه المرحلة شيء لا يشبه المنشآت السابقة، و يختلف عنها جوهرا، و حيث إنّ المنشآت السابقة من سنخ تكامل المادة، فيكون المنشأ في هذه المرحلة، منشأ غير مادي، و هو تعلّق النفس المجردة بالبدن في تلك المرحلة.

إلى هنا تم إيراد الآيات الصريحة في المطلوب، و يقع الكلام بعده في القسم الثاني من الآيات، و هي التي يستظهر منها الدلالة على تجرد الروح، و إن كانت قابلة للحمل على معان أخرى.

القسم الثاني من الآيات

أ - يقول سبحانه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً (1).

و تتضح الدلالة إذا أمعنّا أنّه سبحانه يخص النجاة ببدن فرعون، و يقول:

بِبَدَنِكَ و هذا يعرب عن أنّ هناك شيء آخر لا يشمله النجاة، و يقع مورد العذاب.

أضف إلى ذلك خطابه سبحانه أعني قوله: نُنَجِّيكَ ، فإنّه يدلّ على أنّ

ص: 203


1- سورة يونس: الآية 92.

هناك واقعية، غير البدن، يكلمها و يخاطبها، و يعلّمها بأنّ النجاة تشمل بدنها لا غيره.

ب - يقول سبحانه: فَعَقَرُوا اَلنّٰاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَ قٰالُوا يٰا صٰالِحُ اِئْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ * فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لٰكِنْ لاٰ تُحِبُّونَ اَلنّٰاصِحِينَ (1).

فقوله تعالى: فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ : بعد قوله: فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ ، يدل على أنّ توليه عنهم كان بعد هلاكهم، و يترتب على ذلك أن محاورتهم بقوله: يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ، كان محاورة بعد الدمار، فالآية تدل على أمرين، خلود الروح بعد الموت، و إمكان الاتصال بالأرواح كما اتصل صالح بها فقال ما قال.

و نظير ذلك ما نقله عن شعيب، قال: اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كٰانُوا هُمُ اَلْخٰاسِرِينَ * فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ، فَكَيْفَ آسىٰ عَلىٰ قَوْمٍ كٰافِرِينَ (2).

و وجه الدلالة في المقامين واحد خصوصا إذا أمعنّا في «الفاء»، في قوله فَتَوَلّٰى ، المعرب عن تأخّر التولّى و المحاورة عن الهلاك.

و إنما جعلنا هما من الآيات غير الصريحة، لاحتمال أن تكون المحاورة تأثّريّة، يتكلم بها الإنسان بلا اختيار عند ما يواجه حادثة مؤلمة حلّت على إنسان عاصي لا يسمع كلام ناصحه، كالمجرم المصلوب فإنه يخاطب، بمثل ما خوطب به هؤلاء، و لكنّ ظاهر الآية هو الأول.

ج - يقول سبحانه: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنٰا، أَ جَعَلْنٰا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (3).

و الآية تأمر النبي أن يسأل المتقدمين من الرسل في شأن اختصاص العبادة

ص: 204


1- سورة الأعراف: الآيات 77-79.
2- سورة الأعراف: الآيتان 92-93.
3- سورة الزخرف: الآية 45.

باللّه سبحانه، الذي يحكي عنه قوله تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ (1).

و السؤال فرع وجود المسئول أوّلا، و إمكان الاتصال ثانيا. فهي تدل على وجود أرواح الأنبياء، و إمكان اتصال النبي بها.

و مع ذلك يمكن أن يكون المراد هو سؤال علماء أهل الكتاب أو أتباعهم، لقوله سبحانه: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكَ، لَقَدْ جٰاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ (2) و الغاية من السؤال هو الاحتجاج، و مع ذلك فهذا الاحتمال على خلاف الظاهر.

و في الآيات(3) ما يدل على أنّ الآية تأمر النبي بالسؤال في ليلة المعراج، و لو تمت الروايات سندا، لما كانت مخالفة لما قلنا.

إلى هنا تم إيراد الآيات - بقسميها - الدالة على خلود الروح بعد الموت، و تجرّدها من آثار المادة، و إمكان الاتصال بها في هذه النشأة و بذلك ثبت بنحو قاطع، من طريقي العقل و النقل، وجود الروح و تجردها و خلودها(4)، الذي له دور عظيم في حلّ معضلات المعاد، و الإجابة على الأسئلة الواردة حوله.

ص: 205


1- سورة النحل: الآية 36.
2- سورة يونس: الآية 94.
3- لاحظ مجمع البيان، ص 49-50.
4- لاحظ في تكلّم النبي مع أرواح المشركين في غزوة بدر، المصادر التالية: صحيح البخاري، غزوة بدر، ج 5، ص 97، 98 و 110. و صحيح مسلم ج 4، كتاب الجنة. و سنن النسائي، ج 4، ص 89 و 90. و مسند أحمد، ج 2 ص 131. و سيرة ابن هشام، ج 1، ص 639، و مغازي الواقدي، ج 1، غزوة بدر. و بحار الأنوار، ج 19، ص 364. و تكلّم النبي مع أرواح المؤمنين المدفونين في البقيع: طبقات ابن سعد، ج 2، ص 204. و السيرة النبوية، ج 2، ص 642. و إرشاد المفيد، ص 45. و تكلّم أمير المؤمنين مع النبي عند تغسيله: نهج البلاغة، الخطبة 230.

مباحث المعاد

(5) نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة
اشارة

أثبت الحكماء لليقين مراتب و درجات، و لكل منها عندهم اسم خاص، و لتبيين هذه الدرجات نأتي بمثال:

إذا سمع الإنسان اسم النار، و لم يرها، و قيل له إنها موجود عنصري لها هيئة خاصة، و أثر و معيّن في الأعضاء، و أذعن بذلك لكون المخبرين صادقين، فهذه مرتبة من اليقين.

ثم إذا شاهدها من بعيد، و لكن لم تمسّ حرارتها بدنه، و إنما رأى هيئتها، و التهابها، بأم عينه، فهذه مرتبة من اليقين أقوى من السابقة.

و لكن أين هذه المرتبة مما إذا شاهدها عن كثب و مسّته حرارتها، ففي هذه المرتبة يتكامل يقينه بها، و يبلغ الدرجة القصوى.

و إذا كان لليقين مراتب و درجات، فلا لوم على الأنبياء و الأولياء أن يطلبوا من اللّه سبحانه إحياء الموتى حتى يشاهدوه بأعينهم لإكمال مراتب يقينهم بالقيامة، و تبديل علم اليقين فيهم بعين اليقين(1).

ص: 206


1- اقتباس من قوله سبحانه. كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ اَلْيَقِينِ (التكاثر: الآيات 5-7).

و من هنا نرى أنّ اللّه سبحانه أحيا الموتى لإبراهيم الخليل، و عزير، و غيرهم كما سيأتي، و الغاية كانت إكمال مراتب اليقين، أو إتمام الحجة على البعيدين عن هذه المعارف، كما هو الحال في إحياء عيسى الموتى لبني إسرائيل، و فيما يلي نورد هذه النماذج من القرآن الكريم.

1 - إبراهيم و إحياء الموتى

ذكر المفسرون أنّ إبراهيم عليه السّلام رأى جيفة تمزقها السباع، فيأكل منها سباع البر، و سباع الهواء و دواب البحر، فسأل اللّه سبحانه و قال: يا ربّ قد علمت أنّك تجمعها في بطون السباع و الطير و دواب البحر، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك؟ يقول سبحانه: وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ، قٰالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قٰالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1).

و ما ذكرنا من سبب النزول يكشف عن أنّه لم يكن غرض إبراهيم إحياء نفس فقط، و إلا لكفى فيه إحياء طير واحد بعد إماتته، و إنما لكان الغرض مشاهدة إعادة أجزاء كلّ طير إليه بعد اختلاطها بأجزاء الطيور الأخر، و هذا لا يتحقق إلا بتعدد الطيور أوّلا، و اختلافها نوعا، ثانيا، و اختلاطها بعد ذبحها، ثالثا، فلأجل ذلك ورد أنّه أخذ طيورا مختلفة الأجناس، قيل إنها: الطاوس، و الديك، و الحمام، و الغراب، فقطّعها، و خلط ريشها بدمها، ثم فرّقهن على عشرة جبال، ثم أخذ بمناقيرهن، و دعا هن باسمه سبحانه، فأتته سعيا، فكانت تجتمع و يأتلف لحم كلّ واحد و عظمه إلى رأسه، حتى قامت أحياء بين يديه.

و بذلك كمل إيمانه، و تم إذعانه بأنّه سبحانه يمكن أن يعيد أجزاء بدن كل

ص: 207


1- سورة البقرة: الآية 260.

حيّ إليه، و أن اختلط بحيّ آخر، كما لو أكلت الإنسان الميت سباع البراري و جوارح الهواء، و حيتان البحار، فإن الاختلاط لا يكون مانعا عن الإحياء و الإعادة، و قد تقدّم في بيان شبهاتهم أنّ المنكرين كانوا يركزون على «ضلالة الأجزاء» في الأرض، و اختلاط أجزاء الموتى بعضها ببعض، و قد قال سبحانه في هذا المجال: قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ (1).

و الاستدلال بالآية يتوقف على الإمعان في أمرين:

الأول - إنّ مقتضى البلاغة مطابقة الجواب للسؤال، و لما كان سؤاله عن مشاهدة إحياء الموتى - و اقتضى الحال الإجابة عنه - فيجب أن يكون ما يأمر به سبحانه محققا لإحياء الموتى، و هو لا يتحقق إلا بأن يقوم إبراهيم بتقطيعهن و خلط أجزائهن، و تفريقهن على الجبال.

الثاني: الإمعان في قوله: فَصُرْهُنَّ ، و المصدر الذي اشتقّ منه، و فيه احتمالات:

1 - ما نقل عن ابن عباس من أنه قرأ: «فصرّهنّ»، بتشديد الراء، من باب صرّ، يصرّ، من التصرية، و هي الجمع و الضم(2)، و هذه القراءة غير معروفة، فهذا الاحتمال ساقط.

2 - أن يكون مأخوذا من الصّير، معتل العين، فيقال صار يصير صيرا، بمعنى انتهى إليه، مثل قوله: إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ . و الأمر منه «صر» و لعل من فسره من أهل اللغة بمعنى الميل أخذه من هذا.

3 - أن يكون مأخوذا من «صري»، معتل اللام، ذكره الفراء في معاني القرآن، فقال إنها إن كانت بمعنى القطع، تكون من «صريت، تصري»، و استشهد بقول الشاعر:

ص: 208


1- سورة ق: الآية 4.
2- الكشاف، ج 1، ص 296.

صرت نظرة لو صادف جوز دارع غدا و العواصي من دم الجوف تنعر(1).

فإن جعل من «صير» يكون بمعنى «أملهنّ إليك»، و يجب عند ذلك تقدير كلمة اقطعهن، لدلالة ظاهر الكلام عليه، فيكون معنى الآية: أملهن إليك، فقطّعهنّ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزء، مثل قوله: اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ (2)، أي فضرب فانفلق.

و إن جعل من «صري»، تكون الكلمة متضمنة معنى الميل بقرينة تعدّيها ب «إلى»، فيكون المعنى: اقطعهن متمايلات إليك، كتمايل كل طير إلى صاحبه.

و على كل تقدير، فالآية تدل على أنّ إبراهيم قطّعهن و خلط أجزائهن، ثم فرقها على الجبال، ثم دعاهن، فأتينه سعيا.

و من غريب التفسير، ما ذكره صاحب المنار فقال في معنى الآية ما حاصله:

خذ أربعة من الطّير فضمها إليك، و آنسها بك، حتى تستأنس و تصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإن الطيور من أشدّ الحيوانات استعدادا لذلك، ثم اجعل كل واحد منها على جبل، ثم ادعها، فإنها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها و بعدها، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى، يدعوهم لكلمة التكوين: «كونوا أحياء»، فيكونون أحياء، كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات و الأرض: اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ (3) قال:

و الدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ ، فإن معناه «أملهن»، أي أوجد ميلا بها، و آنسها بك و يشهد به تعديته بإلى، فإنّ صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الإمالة»(4).

ص: 209


1- معاني القرآن: ج 1 ص 174. الشعر: «صرت نظرة»: أي قطعت نظرة، أي فعلت ذلك، و الجوز وسط الشيء و العواصي جمع العاصي و هو العرق، و يقال نعر العرق: فار منه الدم.
2- سورة الشعراء: الآية 63..
3- سورة فصلت: الآية 11.
4- لاحظ تفسير المنار، ج 3، ص 55-58: و ذكر وجوها في دعم هذه النظرية التي نقلها عن أبي مسلم، و قد استحسنها في آخر كلامه و قال «و للّه درّ أبي مسلم، ما أدقّ فهمه و أشدّ استقلاله فيه».

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكره خلاف نصوص الآية، فإن إبراهيم طلب من اللّه سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى أولا، و أراد سبحانه، بقرينة تخلل الفاء في قوله فَخُذْ ، إجراء ذلك بيد إبراهيم ثانيا، ثم أمره سبحانه أن يجعل كل جزء منهن على جبل، لا كل واحد منهن عليه ثالثا.

و هذه الوجوه تدعم صحة النظرية المعروفة في تفسير الآية. و أما تعدية فَصُرْهُنَّ ب إِلَيْكَ ، فقد عرفت الكلام فيه، و أنّه إن كان بمعنى الميل فالأمر بالتقطيع مقدّر، و إن كان بمعنى القطع، فالكلمة متضمنة لمعنى الميل.

على أنّه لو كان المراد ما اختاره من المعنى، لما احتاج إلى هذا التفصيل، بل يكفي في المقام إحالة إبراهيم إلى لاعبي الطيور، الذين يربون الطيور، حتى إذا استأنسوا بأصحابهن، يفرقونهن للطيران، ثم يدعونهن بالصفير و العلامات الخاصة، فيأتين سعيا.

و لعمري، إنّ هذا التفسير يحطّ من عظمة القرآن، و جلالته، و يفتح الباب للملحدين في تأويل ما دلّ عليه القرآن من معاجز و كرامات الأنبياء و الرسل، و لقد أعرب الكاتب عن باعثه في آخر كلامه بقوله: «و أمّا المتأخرون فهمّهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء، من الخوارق الكونية، و إن كان المقام، مقام العلم و البيان و الإخراج من الظلمات إلى النور، و هو أكبر الآيات، الخ»(1).

و هذا يعرب عن أن المعاجز بنظره، تضاد العلم و لا تصلح للإخراج من الظلمات إلى النور، مع أنه سبحانه أسماها بالبينات، و قال: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ (2).

ص: 210


1- المصدر السابق، ص 58.
2- سورة الإسراء: الآية 101 و لقد خرجنا في تفسير الآية عمّا اتبعناه من الإيجاز إيعازا للباحث بما في المنار و أمثاله من الدعوات التي لا تتفق مع مبادي الإسلام، و سيلاحظ نظيره في الآية التالية.
2 - إحياء عزير

يحكي الذكر الحكيم أنّ رجلا صالحا مرّ على قرية خربة، و قد سقطت سقوفها، فتساءل في نفسه، كيف يحيي اللّه أهلها بعد ما ماتوا؟، و لم يقل ذلك إنكارا و لا تعجّبا و لا ارتيابا، و لكنه أحبّ أن يريه اللّه إحياءها مشاهدة، مثل قول إبراهيم الذي تقدم، فأماته اللّه مائة سنة ثم أحياه، فسمع نداء من السماء:

«كم لبثت؟»، فقال: «لبثت يوما أو بعض يوم»، لأنّ اللّه أماته في أول النهار، و أحياه بعد مائة سنة في آخر النهار، فقال: يوما، ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فجاءه النداء بل لبثت مائة سنة، فانظر إلى طعامك و شرابك لم تغيّره السنون، و قيل كان زاده عصيرا، و تينا، و عنبا، و هذه الثلاثة أسرع الأشياء تغيّرا و فسادا فوجد العصير حلوا، و التين و العنب جنيان لم يتغيّرا، ثم أمر بأن ينظر إلى حماره كيف تفرقت أجزاؤه و تبدّدت عظامه، فجعل اللّه سبحانه إحياءه آية للناس و حجة في البعث. ثم جمع اللّه عظام حماره و كساها لحما و أحياه.

يقول سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلىٰ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا، قٰالَ: أَنّٰى يُحْيِي هٰذِهِ اَللّٰهُ بَعْدَ مَوْتِهٰا، فَأَمٰاتَهُ اَللّٰهُ مِائَةَ عٰامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، قٰالَ كَمْ لَبِثْتَ قٰالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قٰالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عٰامٍ فَانْظُرْ إِلىٰ طَعٰامِكَ وَ شَرٰابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَ اُنْظُرْ إِلىٰ حِمٰارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّٰاسِ، وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظٰامِ كَيْفَ نُنْشِزُهٰا ثُمَّ نَكْسُوهٰا لَحْماً فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ، قٰالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1).

و الإمعان في قوله سبحانه: فَأَمٰاتَهُ اَللّٰهُ مِائَةَ عٰامٍ ، يفيد أنه أماته سبحانه، ثم أحياه بعد تلك المدة.

كما أنّ الإمعان في قوله: وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظٰامِ ، سواء أريد منه عظام حماره أو غيره، يفيد أنّه سبحانه كساها لحما ثم أحياه، فكان هناك إحياء لميّتين.

و قد سلك صاحب المنار في تفسير الآية نفس المسلك السابق، فحملها على

ص: 211


1- سورة البقرة: الآية 259.

أنّ المراد من الإماتة هنا السّبات، و هو النوم المستغرق الذي سماه اللّه سبحانه:

وفاة، و استعان في تقريبه بأنّه قد ثبت في هذا الزّمان أنّ من الناس من تحفظ حياته زمنا طويلا يكون فيه فاقد الحس و الشعور، فلبث الرجل الذي ضرب على سمعه مائة سنة، غير محال في نظر العقل(1).

يلاحظ عليه: إنّ تفسير الموت بالسّبات يحتاج إلى دليل، و الظاهر منه هو الإماتة الحقيقية.

و قياس المقام بأصحاب الكهف، قياس مع الفارق، حيث إنه سبحانه يصرّح هناك بالسّبات، و يقول: فَضَرَبْنٰا عَلَى آذٰانِهِمْ فِي اَلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (2) و يقول: وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقٰاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ (3)، بخلاف المقام.

على أنه لا يتطرّق في العظام التي أنشزها، ثم كساها لحما و أحياها. فلا مصير لمفسّر كلام اللّه من الإذعان بالغيب، و القدرة المطلقة للّه جلّ و علا.

و محاولة تفسير المعاجز بما ثبت في العلوم، نوع انسحاب في الصراع مع الماديين المنكرين لكلّ ما لا يتّفق مع أصول العلم الحديث.

3 - إحياء قوم من بني إسرائيل

ذكر المفسرون أنّ قوما من بني إسرائيل فروا من الطاعون أو من الجهاد، لما رأوا أنّ الموت كثر فيهم، فأماتهم اللّه جميعا، و أمات دوابهم. ثمّ أحياهم لمصالح مذكورة في الآية التالية، قال سبحانه:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ، حَذَرَ اَلْمَوْتِ، فَقٰالَ لَهُمُ اَللّٰهُ مُوتُوا، ثُمَّ أَحْيٰاهُمْ، إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ (4) .

ص: 212


1- المنار، ج 3، ص 50.
2- سورة الكهف: الآية 11.
3- سورة الكهف: الآية 18.
4- سورة البقرة: الآية 243.

و الرؤية في الآية بمعنى العلم، أي: «أ لم تعلم»، و ذكر المفسّرون حول فرارهم من الموت، و كيفية إحيائهم، أمورا، يرجع إليها في محلّها(1).

و الآية كما تثبت وقوع إحياء الموتى، بعد إمكانه، تثبت إمكان الرجعة إلى الدنيا، على ما يتبنّاه الشيعة الإمامية، كما هو الحال أيضا في إحياء عزير، و سيوافيك الكلام فيها بعد الفراغ من المعاد.

و مما يثير العجب ما ذكره صاحب المنار حيث قال: «الآية مسوقة سوق المثل، و المراد بهم قوم هجم عليهم أولو القوة و القدرة من أعدائهم لاستذلالهم و استخدامهم و بسط السلطة عليهم،، فلم يدافعوا عن استقلالهم، و خرجوا من ديارهم و هم ألوف، لهم كثرة و عزة، حذر الموت، فقال لهم اللّه: موتوا موت الخزي و الجهل، و الخزي موت و العلم و إباء الضيم حياة، فهؤلاء ماتوا بالخزي، و تمكّن الأعداء منهم، و بقوا أمواتا ثم أحياهم بإلقاء روح النهضة و الدفاع عن الحق فيهم فقاموا بحقوق أنفسهم و استقلوا في ذلك»(2).

يلاحظ عليه: أولا: إن الظاهر أنّ الآية تبيّن قصة واحدة، و هي فرار قوم من الموت، فأماتهم اللّه، ثم أحياهم، لا بيان قصتين. بمعنى تشبيه من لم يدافعوا عن عزتهم، و غلبوا، و بقوا كذلك حتى نفث في روعهم روح النهضة، فقاموا للدفاع؛ بقوم فروا من الموت الحقيقي، فأماتهم اللّه موتا حقيقيا، ثم أحياهم، و لو كانت الآية جارية مجرى المثل لوجب أن يكون هناك مشبّه و مشبّه به، مع أنّ الآية لا تحتمل ذلك.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عند ما يريد التمثيل بمضمون آية يأتي بلفظ «مثل»، و يقول: كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً (3)؛ و إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ (4)؛ و مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرٰاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا كَمَثَلِ اَلْحِمٰارِ يَحْمِلُ

ص: 213


1- لاحظ مجمع البيان، ج 1، ص 346-347. و غيره.
2- المنار، ج 3، ص 458-459.
3- سورة البقرة: الآية 17.
4- سورة يونس: الآية 24.

أَسْفٰاراً (1) .

و ثانيا: لو كان المراد من الموت، موت الخزي، و من الحياة، روح النهضة، للزم على اللّه سبحانه مدحهم و ذكرهم بالخير، مع أنّه يذمّهم في ذيل الآية، فإن فيها: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَشْكُرُونَ (2).

ثم إنّ صاحب المنار استعان في ردّ نظرية الجمهور، بقوله سبحانه لاٰ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولىٰ (3) فلا حياة في هذه الدنيا إلا حياة واحدة(4).

و لكن عزب عنه أنّ ما جاء في الآية يدل على سنّة اللّه تعالى في عموم الناس، و هذا لا يخاف اقتضاء مصالح معيّنة، أن يذوق البعض النادر منهم حياتين، و قد وافاك الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخية.

4 - إحياء قتيل بني إسرائيل

روى المفسرون أنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له غنيا، ليرثه و أخفى قتله له، و رغب اليهود في معرفة قاتله، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة، و يضربوا بعض القتيل ببعض البقرة، ليحيا و يخبر عن قاتله، و قد قاموا بذبح هذه البقرة بعد تساؤلات بينهم و بين موسى تكشف عن لجاجهم و عنادهم. ثم ضربوا بعض القتيل بها، فقام حيّا و أوداجه تشخب دما، و قال: «قتلني فلان ابن عمي»، ثم قبض. يقول سبحانه:

وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً، قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ *.... * وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا، كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ

ص: 214


1- سورة الجمعة: الآية 5.
2- سورة النمل: الآية 73.
3- سورة الدخان: الآية 56.
4- المنار، ج 2، ص 459.

اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (1) .

إنّه سبحانه و إن كان قادرا على إحيائه من دون ذبح البقرة، و لكنه أمرهم بذلك لأنهم سألوا موسى أن يبيّن لهم حال القتيل و هم كانوا يعدّون القربان من أعظم القربات.

فأمرهم اللّه بتقديم هذه القربة تعليما منه لكلّ من اعتاص عليه أمر من الأمور، أن يقدّم نوعا من القرب قبل أن يسأل اللّه تعالى كشف ذلك عنه، ليكون أقرب إلى الإجابة، و إنما أمرهم بضرب بعض القتيل، ببعض البقرة، بعد أن جعل اختيار وقت الإحياء إليهم، ليعلموا أنّ اللّه سبحانه و تعالى قادر على إحياء الموتى في كل وقت من الأوقات، و معنى قوله: اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا، كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ ، إنهم ضربوه فأحيي، مثل قوله سبحانه: اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ ، أي فضربه فانفلق، و قوله: كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ ، يراد منه تفهيم قوم موسى بأنّهم إذ عاينوا إحياء الميت، فليعلموا أنّ اللّه قادر على إحياء الموتى للحساب و الجزاء.

هذا ما ذهب إليه الجمهور في تفسير الآية، و هو المتبادر منها، و قد اتخذ صاحب المنار في تفسير الآية، موقفه السلبي في باب المعاجز و الكرامات، فقال بعد ما ذكر نظرية جمهور المفسرين: «و الظاهر مما قدمناه أنّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل، إذا وجد القتيل قرب بلد و لم يعرف قاتله، ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده(2) و فعل ما رسم لذلك في الشريعة، برئ من الدم، و من لم يفعل، تثبت عليه الجناية. و معنى إحياء الموتى على هذا، حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أي يحييها بمثل هذه الأحكام. و هذا الإحياء على حد قوله تعالى:

ص: 215


1- لاحظ سورة البقرة: الآيات 67-73.
2- لاحظ في كفية ذلك، العهد القديم سفر التثنية: الأصحاح 21، ص 211، ط دار الكتاب المقدس، و حاصله أنّهم يغسلون أيديهم في دم عجلة و يقولون: أيدينا لم تسفك هذا الدم و أعيننا لم تبصر.

وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا اَلنّٰاسَ جَمِيعاً (1) و قوله: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ (2)»(3).

يلاحظ عليه: أوّلا: إنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله: فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا ، فإنّ معناه: اضربوا بعض النّفس المقتولة ببعض جسم البقرة، و أين هذا من غسل أيدي المتهمين في دم العجلة المقتولة، فهل غسل الأيدي في دمها عبارة عن ضرب المقتول ببعض البقرة؟! و ثانيا: إنّه سبحانه يقول: كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ ، فالقصة تتضمن آية من آيات اللّه، و معجزة من المعاجز، فهل في غسل الأيدي بدم العجلة و درء التهمة عن المتهم، إراءة للآيات الإلهية.

و ثالثا: إنّ تفسير الآية بالاستناد إلى الإسرائيليات و المسيحيات، مسلك ضال في تفسير كتاب اللّه العزيز، و ليس اللجوء إليها إلا لأجل ما اتخذه صاحب المنار من موقف مسبق تجاه المعاجز و خوارق العادات، و إصراره على إرجاع عالم الغيب إلى الشهادة.

5 - إحياء سبعين رجلا من قوم موسى

ذكر المفسرون أنّ موسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلا حين خرج من الميقات ليكلمه اللّه سبحانه بحضرتهم، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لعدم وثوقهم بأنّ اللّه سبحانه يكلّمه، فلما حضروا الميقات، و سمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية، فأصابتهم الصاعقة فماتوا، ثم أحياهم اللّه تعالى(4)، يقول سبحانه:

وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْكُمُ

ص: 216


1- سورة المائدة: الآية 32.
2- سورة البقرة: الآية 179.
3- لاحظ المنار ج 1، ص 345-350.
4- مجمع البيان، ج 2، ص 484.

اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1) .

و يقول سبحانه: وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ، أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ (2).

و المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت، و الخطاب لليهود و المعاصرين للنبي باعتبار أسلافهم، و لا يفهم أي عربي صميم من جملة: ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ : سوى الإحياء بعد الإماتة.

و قد اتخذ صاحب المنار في تفسير الآية موقفه المعلوم من المعاجز، فذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النّسل. أي إنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة، و ظنّ أن سينقرضون، بارك اللّه في نسلهم، ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها(3).

يلاحظ عليه: أوّلا: إنّ الظاهر من قول موسى: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ ، أنّه سبحانه أجاب دعوته، و أحياهم حتى يدفع عنه عادية اعتراض القوم بأنّه ذهب بهم إلى الميعاد، فأهلكهم. و هذا لا يتم إلا إذا كان المراد هو إحياؤهم حقيقة.

و ثانيا: إنّ الرجفة لم تأخذ إلا سبعين رجلا من قومه، فليس في إهلاكهم مظنة انقراض نسلهم.

و على كل تقدير فالباعث لصاحب المنار على تفسيره، هو جنوحه إلى إنكار المغيبات، و تطبيق ما ورد في الذكر الحكيم على العالم الحسّي التجريبي.

6 - المسيح يحيي الموتى

إنّ الكتاب الحكيم يذكر في غير مورد، إحياء المسيح للموتى. قال تعالى

ص: 217


1- سورة البقرة: الآيتان 55 و 56.
2- سورة الأعراف: الآية 155.
3- تفسير المنار، ج 1، ص 322.

حاكيا عنه أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ، وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ، وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (1).

و قال تعالى: إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ... وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِي (2).

و قد تضافر في التاريخ و الإنجيل و الحديث، قيام المسيح بإحياء الموتى مرات عديدة، بحيث صار المسيح علما و سمة لإحياء الموتى، و علاج الأمراض المستعصية.

7 - إيقاظ أصحاب الكهف

روى المفسرون أنّ فتية من قوم آمنوا باللّه تعالى و كانوا يخفون إيمانهم خوفا من ملكهم، الذي كان يعبد الأصنام و يدعو إليها، و يقتل من خالفه، و الفتية كانوا على دين المسيح، و كان كل واحد منهم يكتم إيمانه عن صاحبه. ثم اتفق أنّهم اجتمعوا و أظهروا أمرهم لبعضهم، و لجئوا إلى كهف، فضرب سبحانه على آذانهم، فناموا في الكهف ثلاثمائة و تسع سنين، ثم بعثهم. يقول سبحانه:

إِذْ أَوَى اَلْفِتْيَةُ إِلَى اَلْكَهْفِ، فَقٰالُوا رَبَّنٰا آتِنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنٰا مِنْ أَمْرِنٰا رَشَداً * فَضَرَبْنٰا عَلَى آذٰانِهِمْ فِي اَلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنٰاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصىٰ لِمٰا لَبِثُوا أَمَداً (3) .

و المراد من الضرب على الآذان هو إنامتهم، لا سلب حياتهم، كما يقول سبحانه: وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقٰاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ (4).

ص: 218


1- سورة آل عمران: الآية 49.
2- سورة المائدة: الآية 110.
3- سورة الكهف: الآيات 10-12.
4- سورة الكهف: الآية 18.

فإنامة اللّه سبحانه هؤلاء الفتية هذه المدّة المديدة، ثم إيقاظهم، لا يقصر عن الإماتة و الإحياء، و القادر عليه قادر على إحياء الموتى.

هذه النماذج المحسوسة من إحياء الموتى، إذا انضمت إلى البراهين الناصعة الدالة على إمكان إحياء الموتى، من طريق سعة قدرته سبحانه، توجب القطع بإمكان المعاد، و جمع العباد بعد موتهم، للحساب و الجزاء.

ص: 219

مباحث المعاد

(6) الموت نافذة إلى حياة جديدة
اشارة

الموت آخر مرحلة من مراحل الحياة الدنيوية، و أوّل مرحلة من الحياة الأخروية. و لأجل التعرف على ما ورد حوله من الآيات، نبحث عن الأمور التالية:

1 - الموت في اللغة و القرآن.

2 - هل الموت أمر عدمي أو وجودي؟ 3 - الموت سنّة من سنن اللّه العامة.

4 - لما ذا يستوحش الإنسان من الموت؟ 5 - الموت و أقسامه في القرآن.

6 - الموت و الأجل المسمى.

7 - الإنابة حال الموت.

8 - الوصية عند الموت.

9 - جهل الناس بأوان موتهم.

10 - الموت و الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح.

و فيما يلي نبحث عن كل واحد منها.

ص: 220

الأمر الأول - «الموت» في اللغة و القرآن

قال في المقاييس: «الموت، أصل صحيح يدل على ذهاب القوة من الشيء، منه: الموت خلاف الحياة»(1). و هذا هو الأصل في استعماله، فلو أطلق لفظ الموت على إطفاء النار، و خروج الأرض من قابلية الزرع و الاستصلاح، أو على النوم، فالكل يرجع إلى ذلك الأصل.

قال في اللسان: «الموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة، فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان و النبات، كقوله تعالى: يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا (2).

و منها زوال القوة الحسيّة، كقوله تعالى - حاكيا قول مريم عليها السلام - يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا (3).

و منها زوال القوة العاقلة، و هي الجهالة، كقوله تعالى: أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ (4)، و إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ (5).

و منها الحزن و الخوف المكدر للحياة، كقوله تعالى: وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ مٰا هُوَ بِمَيِّتٍ (6).

و قد يستعار الموت للأحوال الشّاقة، كالفقر و الذّلّ، و السؤال و الهرم، و المعصية»(7). فالاستعمال في الجميع بأصل واحد.

و قد استعمل القرآن لفظ الموت - كما عرفت - في موارد، بهذا الملاك، مثلا يقول: وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ (8). و يقول في الأصنام: أَمْوٰاتٌ غَيْرُ أَحْيٰاءٍ (9). و يطلقه على المراحل المتقدمة من خلق الإنسان، فيقول: وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ (10). فترى في الجميع نوع ذهاب و زوال، إمّا للطاقة كما في

ص: 221


1- مقاييس اللغة، ج 5، ص 283.
2- سورة الروم: الآية 50.
3- سورة مريم: الآية 23.
4- سورة الأنعام: الآية 122.
5- سورة النمل: الآية 80.
6- سورة إبراهيم: الآية 17.
7- لسان العرب، ج 2، ص 92. لاحظ بقية كلامه.
8- سورة يس: الآية 33.
9- سورة النحل: الآية 21.
10- سورة البقرة: الآية 28.

الأرض، أو للقدرة على الحركة و التكلم، كما في الأصنام، و غير ذلك.

الأمر الثاني - هل الموت أمر عدمي؟

إنّ ملاحظة المعنى اللغوي، و الاستعمال القرآني للفظ الموت، يفيد أنّ الموت أمر عدمي، و لكنه من زاوية أخرى، ليس أمرا عدميا في موت الإنسان، و ذلك لو فسّر الموت بقبض الملائكة الطاقات الحسية الموجودة في الإنسان، فإنّه أمر وجوديّ، و إن كانت النتيجة أمرا عدميا.

و يمكن جعله أيضا من الأمور الوجودية - في الإنسان، بمعنى آخر، و هو أنّ الموت نافذة على الحياة الجديدة، و انتقال من منزل إلى منزل، و إلى ذلك لمحات في كلام الأئمة الأطهار من أهل بيت الرسول صلى اللّه عليه و آله.

يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «أيّها الناس، إنّا خلقنا و إياكم للبقاء، لا للفناء، لكنكم من دار إلى دار تنقلون»(1).

و يقول سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام - مخاطبا أنصاره يوم عاشوراء - «صبرا بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبّر بكم عن البؤس و الضرّاء إلى الجنان الواسعة، و النعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر»؟(2).

و يمكن جعله أمرا وجوديا أيضا، ببيان ثالث، و هو أنّ الموت حدّ الحياة الدنيوية، و جدارها الذي إليه تنتهي.

أضف إلى ذلك أنّ الموت ربما يوصف بكونه أمرا عدميا إذا نسب إلى الجسم، و أمّا إذا نسب إلى الروح فلا يمكن تفسيره إلاّ بأمر وجودي، و هو انتقالها من مرحلة إلى مرحلة.

ص: 222


1- الإرشاد، للشيخ المفيد، ص 127.
2- معاني الأخبار، للصدوق، ص 289.

و لعلّه - لأحد هذه الوجوه - تعلق به الخلق في قوله سبحانه: اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيٰاةَ (1).

و التقدير في قوله سبحانه - في تقدير حياة الإنسان -: نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (2).

***

الأمر الثالث - الموت سنة عامة في الخلق

إن قوانين الديناميكا الحرارية تدلّ على أنّ مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا، و أنّها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض(3). فيومئذ تنعدم و تستحيل الحياة، و هذا ما كشف عنه العلم الحديث.

و القرآن يصف الموت سنة إلهية عامة، فيقول في الإنسان: أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (4).

و يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ (5) و يقول: وَ مٰا جَعَلْنٰا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ، أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخٰالِدُونَ (6).

و يقول الإمام علي عليه السلام: «و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس»(7).

ص: 223


1- سورة الملك: الآية 2.
2- سورة الواقعة: الآية 60.
3- و هي الصفر المطلق.
4- سورة النساء: الآية 78.
5- سورة آل عمران: الآية 185.
6- سورة الأنبياء: الآية 34. و لاحظ الآيات التالية: آل عمران: الآية 15، الأحزاب: الآية 60، الزمر: الآية 16، الواقعة: الآية 8، الجمعة: الآية 42، و غير ذلك.
7- نهج البلاغة، الخطبة 182.

و هناك آيات تدلّ على أنّ انهدام النظام أمر حتمي يوم القيامة، و هو موته و سيجيء الكلام فيه في المباحث الآتية.

***

الأمر الرابع - لما ذا يستوحش الإنسان من الموت؟

إنّ للإنسان علاقة شديدة بالبقاء، و هي ميل طبيعي يحسّه بفطرته. و بما أنّ الموت يضادّ تلك النّغمة الفطرية، فيجزع الإنسان العادي غير العارف بحقيقة الموت.

و على كل تقدير، فالناس في الحياة الدنيا على قسمين، قسم يستوحش من الموت، و يتصوره شبحا مخيفا، يريد أن يقطع أنياط قلبه و يفترس حياته، و هؤلاء بين من يرى الموت آخر الحياة و نفادها، و يتخيّلون أنّ الموت إبطال لذواتهم و شخصياتهم، و من يعتقد أنّ الموت نافذة للحياة الأخرى، من دون أن يستعدوا لتلك المرحلة بصالح الأعمال، بل أثقلوا كواهلهم بالمعاصي و الذنوب؛ فالموت عندهم سمّ يتجرعونه.

يقول سبحانه تنديدا باليهود: قُلْ إِنْ كٰانَتْ لَكُمُ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّٰهِ خٰالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّٰاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ (1).

و قسم آخر، يشتاقون إلى الموت و يتلقونه بصدور رحبة، و وجوه مشرقة، لأنّهم يرونه انتقالا من حياة مرّة إلى حياة حلوة، و هؤلاء هم الأنبياء و الأولياء.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «و لو لا الأجل الذي كتب عليهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، و خوفا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم».

ص: 224


1- سورة البقرة: الآيتان 94-95، و لاحظ الجمعة: الآيتان 7-8.
الأمر الخامس - الموت و أقسامه
اشارة

ينقسم الموت إلى أقسام نأتي بها فيما يلي:

أ - الموت السهل و الموت العسير

لا شكّ أنّ الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، لا يخلو من مشقة، حتى أنّ الطفل عند ما ينتقل من عالم الأجنة إلى عالم الشهود، يتحمل جهدا و مشقة بالغين. و للإنسان في إطار حياته في النشأتين مراحل حساسة تعدّ كلّ منها منعطفا في مسيرته الوجودية، و هي: مرحلة التّولّد، و مرحلة الموت، و مرحلة البعث، و إلى ذلك يشير قوله سبحانه: وَ سَلاٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (1).

فالموت أحد هذه الحلقات الرئيسية في وجود الإنسان، فهو لا يخلو بطبعه من مشقة و عسر، و لكن لو غضّ البصر عنه، فالموت حسب القرآن ينقسم إلى موت سهل و موت عسير:

الأول لصلحاء المؤمنين، و الثاني للعصاة و الكافرين.

يقول سبحانه: اَلَّذِينَ تَتَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (2).

و يقول سبحانه: يٰا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً (3).

و يقول سبحانه في العصاة و الظالمين: وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (4).

ص: 225


1- سورة مريم: الآية 15، و لاحظ مريم: الآية 33.
2- سورة النحل: الآية 32.
3- سورة الفجر: الآيتان 27 و 28.
4- سورة ق: الآية 19.

و يقول سبحانه: فَكَيْفَ إِذٰا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبٰارَهُمْ (1).

و في الروايات الإسلامية أخبار كثيرة فيما قدمنا(2).

ب - موت البدن و موت القلب

و هناك تقسيم آخر للموت حسب متعلقه، و هو أنّه تارة ينسب إلى الجسم و البدن، و أخرى إلى القلب و مراكز الإدراك، و الأول هو الموت الطبيعي، و الثاني من شئون بعض الأحياء، إذا حلّ الكف محلّ الإيمان، و الجهل مكان العلم في قلوبهم، فهؤلاء أموات بهذا النظر، و إن كانوا أحياء ماديين يأكلون و يشربون و يتحركون، يقول سبحانه: إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (3) و يقول: أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّٰاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا (4).

و لا يختص الموت بهذه الطغمة الظالمة، بل يعمّ المتخاذلين المستبطئين في الدفاع عن عزّهم و كيانهم، ليعيشوا أياما أو أعواما صاغرين، فهؤلاء أموات في منطق الإمام علي عليه السلام، كما أنّ المتفانين في حفظ عزّتهم و كرامتهم أحياء، و إن تضرّجوا بدمائهم في سوح الجهاد، يقول عليه السلام: «فالموت، في حياتكم مقهورين. و الحياة، في موتكم قاهرين»(5).

كما أنّ من لا يحسّ بالمسئولية أمام المجتمع، و يترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بعامة مراتبهما، ميّت الأحياء، يقول علي عليه السلام: «و منهم تارك لإنكار المنكر بلسانه، و قلبه و يده، فذلك ميّت الأحياء»(6).

ص: 226


1- سورة محمد: الآية 27.
2- لاحظ بحار الأنوار، ج 6 ص 122-154.
3- سورة النمل: الآية 80.
4- سورة الأنعام: الآية 122. و لاحظ الروم: الآية 51-52.
5- نهج البلاغة، الخطبة 51.
6- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم: 374.
ج - موت الفرد و المجتمع

إنّ للفرد شئونا من أوج و حضيض، و رقيّ و هبوط، و موت و حياة، كما أنّ للمجتمع نفس تلك الشئون، حرفا بحرف.

مثلا: إنّ الثورة نواة تنبت و تشتد و تستوي و تأخذ لنفسها حالة الهجوم و الاندفاع، و لا تبرح على تلك السّمة حتى تنتقل إلى حالة أخرى، تأخذ لنفسها حالة الدفاع، و ردّ السّهام الموجهة إليها. و لن تبرح على تلك الحالة حتى ينجرّ أمرها إلى الانكسار و الانقراض.

و نظير ذلك جميع الحضارات البشرية، و المناهج الاقتصادية و السياسية الإنسانية، فلكلّ منها حالات ثلاث: هجوم، دفاع، خمود.

فكما أنّ لكل فرد حياة و موتا و أجلا حسب القرآن، كذلك إنّ للمجتمع حياة و موتا و أجلا.

يقول سبحانه: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ، لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ (1).

و يعود القرآن ليبين، عامل تدمير الحضارات و المجتمعات و الأنظمة البشرية، و يركز منها على الظلم بالأخص، و على الإتراف ثانيا، فالظلم خروج عن الحدّ الوسط، و الإتراف هو الانهماك في المعاصي، و كلاهما يعجل في هلاك المجتمع و اندثاره.

يقول سبحانه: وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرىٰ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهٰا مُصْلِحُونَ (2). و يقول أيضا: وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا (بالطاعة) فَفَسَقُوا فِيهٰا، فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ، فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً (3).

و يقول سبحانه: وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ

ص: 227


1- سورة الأعراف: الآية 34. و لاحظ سورة يونس: الآية 49.
2- سورة هود: الآية 117.
3- سورة الإسراء: الآية 16.

بِذُنُوبِ عِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (1) . و الإمعان في هذه الآية يفيد أنّ الظلم و الفسق و الذنوب، مد مرات للمجتمع(2).

د - موت العزّ و موت الهوان

ينقسم الموت إلى موت عزّ و موت هوان، فالفادون أنفسهم في طريق نشر القسط و العدل و العلم و سائر المبادي الإلهية يموتون موت عزّ و شرف، و الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت و نشر الشرّ و الجهل و الفساد، لغاية نيل أجور ضئيلة و مناصب مؤقتة، يموتون موت الهوان و الذلّ و العار.

يقول سبحانه: وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتٌ، بَلْ أَحْيٰاءٌ، وَ لٰكِنْ لاٰ تَشْعُرُونَ (3).

و يقول سبحانه فيمن خرج طالبا للعلم و الإيمان: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهٰاجِراً إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ (4).

الأمر السادس - الموت و الأجل المسمّى

يقسم القرآن الأجل إلى أجل، و أجل مسمى، و بيانه:

إنّ لكل نوع من أنواع الموجودات الحيّة، بل مطلق الموجودات، قابلية خاصة لإدامة الحياة و الوجود. و من هذا، ما يقال إنّ العمر الطبيعي للإنسان هو

ص: 228


1- سورة الإسراء: الآية 17.
2- و أما ما هي الصلة بين هذه العوامل و تدمير المجتمع و انحلاله، فهو يحتاج إلى بيان خارج عن موضوع الكتاب، غير أنّا نقول إجمالا: إنّ بين هذه العوامل و إهلاك المجتمع، رابطة مادية و طبيعية، و في الوقت نفسه رابطة إلهية، فالوقوف على العلل المادية لا يغني عن الإذعان بأنّ هناك رابطة غيبية بين هذه العلل و معلولها.
3- سورة البقرة: الآية 154. و لاحظ سورة آل عمران: الآية 169.
4- سورة النساء: الآية 100، و لاحظ سورة الحج الآية 58.

مائة و عشرون سنة، فالإنسان - بما هو إنسان - قابل لأن يعيش هذا المقدار من الزّمن. و في ضوء ذلك، لكلّ إنسان «أجل»، بهذا المعنى، و لكنه ليس أجلا حتميا و قطعيا، بل قد ينقص عنه أو يزيد عليه لعوامل خاصة في حياته، فربّ إنسان يموت في العقد الخامس أو السادس من عمره، و هو أجلّ حتمي و مسمى له، مع أنّ الأجل المطلق كان أزيد منه. و ربّ إنسان يعيش أزيد من هذا الحدّ الطبيعي، و يموت في العقد الخامس عشر من عمره، و هو أجل حتمي و مسمى له، و إن كان الأجل المطلق أنقص منه.

و الأجل المطلق يعرفه غيره سبحانه، و لكنّ الأجل الحتمي عنده، فهو الذي يعرف الحدّ الذي تقف فيه حياة كل إنسان، و لا تتجاوزه قطعا، يقول سبحانه: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً، وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (1).

الأمر السابع - الإنابة عند الموت

قد عرفت أنّ قسما من النّاس يخافون من الموت لما علموا من أنّ كواهلهم مثقلة بعظائم الذنوب، أو لاعتقادهم بأنّه خاتمة المطاف في الحياة البشرية.

و الصنف الأول، إذا فوجئوا بالموت، يلجئون إلى التوبة و الإنابة، و يندمون، و لكن لات حين مندم، فإنّهم قد ضيّعوا الفرص، و التوبة إنّما تقبل إذا كان الإنسان ذا مقدرة على الفعل و الترك و الطاعة و العصيان، فيرجّح باختياره الانقياد، على المخالفة، و هذا من تقبل توبته، لأنّ الإنابة في هذا المقام، تكشف عن تحول روحي، و ثورة نفسانية على المعصية و التمرد و التجري، و أمّا إذا وصل الإنسان في مدارج حياته إلى نقطة ليس أمامها إلاّ طريق واحد، و هو ترك التمرّد،

ص: 229


1- سورة الأنعام: الآية 2. و بما أنّ الكلام فيه قد سبق في الجزء الثاني من هذا الكتاب «الإلهيات»، ص 242-246، فقد اكتفينا بهذا المقدار.

لفقدان القوة و الطاقة، فلا تقبل التوبة عند ذاك، لأنّها لا تكشف عن انقلاب روحي نحو الكمال، و إلى ذلك يشير قوله سبحانه:

وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ، حَتّٰى إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ، قٰالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ (1) .

و قد ندم طاغية مصر، فرعون، عند ما وافاه الغرق، و أحسّ بالعجز عن استمراره بالعصيان فأسلم، و قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ، وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ (2).

و قد كان الطغاة من الأمم السالفة على هذا النمط، فلا يلجئون إلى الإنابة إلاّ بعد ما يروا بأس اللّه تعالى، يقول سبحانه:

فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا (3) .

يقول الإمام علي عليه السلام: «فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره»(4).

الأمر الثامن - الوصية عند الموت

لا ينبغي لا مريء مسلم أن يبيت ليلة إلاّ و وصيته تحت رأسه(5).

و مع ذلك ربما يترك الإنسان هذه الفريضة، فله الإيصاء حال الموت.

يقول سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً

ص: 230


1- سورة النساء: الآية 18.
2- سورة يونس: الآيتان 90 و 91.
3- سورة غافر: الآيتان: 84 و 85.
4- نهج البلاغة، الخطبة 109.
5- وسائل الشيعة، ج 13، كتاب الوصايا، الباب الأول، الحديث 7.

اَلْوَصِيَّةُ (1) و المراد من الخير هو المال.

و يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ، حِينَ اَلْوَصِيَّةِ، اِثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ... (2).

***

الأمر التاسع - جهل الناس بأوان موتهم

اقتضت الحكمة الإلهية جهل الناس بزمان و مكان موتهم، و ذلك لوجهين:

أ - لو علم الإنسان بزمن موته، فربما يفشل في العمل قبل أن يحلّ أجله، فإنّ العامل الباعث إلى العمل و النشاط في الحياة، هو الأمل، فالأمل رحمة، و لولاه لما أرضعت والدة ولدها، و لا غرس غارس شجرة(3).

ب - إنّ لجهل الإنسان بأوان موته و مكانه، تأثيرا تربويا، فإنّه لو علم بأنّه سيموت بعد عام أو أشهر، فترك التمرّد و التجري، فلا يعد ذلك كمالا روحيا، و ثورة للفضائل على الرذائل، و هذا بخلاف ما إذا سلك طريق الطاعة، و ترك المعصية، و هو يرجو العيش أعواما طويلة، فإنّه يكشف عن كمال روحي، يدفعه نحو الفضائل، يقول سبحانه: وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (4).

***

الأمر العاشر - الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح

قد عرفت أنّ الخلق و التدبير من شئونه سبحانه، فهو القائل عزّ و جلّ:

ص: 231


1- سورة البقرة: الآية 80.
2- سورة المائدة: الآية 106.
3- سفينة البحار، مادة: «أمل».
4- سورة لقمان، الآية 34، و هاهنا وجه ثالث و هو أنّ علم الإنسان بزمن موته يشجّعه على الفجور و العصيان متكلا على التوبة و الإنابة قبل مدّة من حلول أجله.

أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ، تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (1) . غير أنّ كونه مدبّرا لا ينافي أن يكون هناك أسباب غيبيّة أو طبيعية لقبض الأرواح فإنّه أيضا من شئون التدبير. فتوفّي الأنفس و أخذها، فعل للّه سبحانه، و في الوقت نفسه فعل لملائكته، يقول سبحانه: اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا (2).

و في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة، و يقول: اَلَّذِينَ تَتَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ (3).

و في موضع ثالث ينسبه إلى ملك الموت، و يقول: قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ (4).

و النّسب كلّها صحيحة، أخذا بما ذكرناه في أقسام التوحيد من أنّ شيئا واحدا يكون فعلا للّه سبحانه، و في الوقت نفسه فعلا لعباده، و قد تقدّم ذلك مفصّلا.

***

ص: 232


1- سورة الأعراف: الآية 54.
2- سورة الزمر: الآية 42.
3- سورة النحل الآية 28، و الآية 32 منها.
4- سورة السجدة: الآية 11.

مباحث المعاد

(7) الحياة البرزخية
اشارة

البرزخ هو المنزل الأول للإنسان بعد مفارقة الدنيا بالموت، و تحقيق الحال يتوقف على تبيين معنى البرزخ، و إثبات الحياة في تلك النشأة التي هي قبل البعث يوم القيامة.

قال ابن فارس في المقاييس: «البرزخ: الحائل بين الشيئين، كأنّ بينهما برازا أي متسعا من الأرض، ثم صار كل حائل برزخا فالخاء زائدة لما ذكرنا»(1).

و يقول ابن منظور في اللسان: «البرزخ: ما بين شيئين. و في الصحاح الحاجز بين شيئين. و البرزخ ما بين الدنيا و الآخرة: قبل الحشر من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ»(2).

هذا معنى البرزخ و به يفسر قوله سبحانه: وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (3). و الوراء في الآية بمعنى الأمام كما في قوله سبحانه: وَ كٰانَ وَرٰاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (4).

ص: 233


1- المقاييس، ج 1، ص 333.
2- لسان العرب، ج 3، مادة برزخ، ص 8.
3- سورة المؤمنون: الآية 100.
4- سورة الكهف: الآية 79.

و الآية لا تفيد أزيد من وجود الفاصل، و الحاجز بين الدنيا و القيامة، مثل قوله سبحانه: بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ (1). و لا تدل على وجود حياة في هذا الفصل.

نعم، هناك آيات يستفاد منها وجود حياة واقعية للإنسان في تلك النشأة، نذكر منها ما يلي:

1 - قال تعالى: قٰالُوا رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ، فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (2)؟.

و هذه الآية تحكي عن تحقيق إحياءين و إماتتين إلى يوم البعث، و قد اختلف المفسّرون في تفسيرهما، و المروي عن ابن عباس أنّ الإماتة الأولى، حال كونهم نطفا، فأحياهم اللّه في الدنيا، ثم أماتهم الموتة الثانية، ثم أحياهم للبعث، فهذان إحياءان و إماتتان و نظيره قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (3).

يلاحظ عليه: إنّ الآية الثانية ليست نظير الآية الأولى حتى تفسّر بها، فإنّ الآية الثانية، تصف الناس بكونهم أمواتا، و هو ينطبق على الإماتة في حال كون الإنسان نطفة أو قبل ذلك، بخلاف الآية الأولى فإنّها تحكي عن إماتة الإنسان، و الفرق بين الموت و الإماتة واضح، فالأحوال المتقدمة على النطفة، و نفسها، توصف بالموت، دون الإماتة. فلأجل ذلك لا يصح تفسير الإماتة بما جاء في هذا القول.

و الظاهر أنّ المراد هو ما يلي:

الإماتة الأولى هي الإماتة عن الحياة الدنيا.

و الإحياء الأوّل هو الإحياء في البرزخ، و تستمر هذه الحياة إلى نفخ الصور الأول.

ص: 234


1- سورة الرحمن: الآية 20.
2- سورة غافر: الآية 11.
3- سورة البقرة: الآية 28.

و الإماتة الثانية، عند نفخ الصور الأول، يقول سبحانه: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ (1).

و الإحياء الثاني، عند نفخ الصور الثاني، يقول سبحانه: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (2).

و تعدد نفخ الصور يستفاد من الآيتين، فيترتب على الأول هلاك من في السموات و من في الأرض، إلا من شاء اللّه، و على الثاني قيام الناس من أجداثهم، و في أمر النفخ الثاني يقول سبحانه: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنٰاهُمْ جَمْعاً (3).

و يقول سبحانه: فَإِذٰا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاٰ أَنْسٰابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ (4). و اختلاف الآثار يدل على تعدد النفخ.

و على ضوء هذا فللإنسان حياة بعد الإماتة من الحياة الدنيا، و هي حياة برزخية متوسطة بين النشأتين.

2 - قوله سبحانه: مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نٰاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْصٰاراً (5).

و هذه الآية تدل على أنهم دخلوا النار بعد الغرق بلا فصل للفاء في قوله:

فَأُدْخِلُوا . و لو كان المراد هو نار يوم القيامة لكان اللازم الإتيان ب «ثم» أوّلا، و ارتكاب التأويل في قوله فَأُدْخِلُوا ، حيث وضع الماضي مكان المستقبل لأجل كونه محقّق الوقوع، و هو خلاف الظاهر، ثانيا.

3 - قوله سبحانه: اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا، وَ يَوْمَ تَقُومُ

ص: 235


1- سورة الزمر: الآية 68.
2- سورة يس: الآية 51.
3- سورة الكهف: الآية 99.
4- سورة المؤمنون: الآية 101.
5- سورة نوح: الآية 25.

اَلسّٰاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ (1) .

و هذه الآية تحكي عرض آل فرعون على النار صباحا و مساء، قبل يوم القيامة، بشهادة قوله بعد العرض: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ . و لأجل ذلك، عبّر عن العذاب الأول بالعرض على النار، و عن العذاب في الآخرة، بإدخال آل فرعون أشدّ العذاب، حاكيا عن كون العذاب في البرزخ، أخفّ وطئا من عذاب يوم الساعة.

نعم، هناك آيات تدلّ على حياة الإنسان في هذا الحدّ الفاصل بين الدنيا و البعث، حياة تناسب هذا الظرف، تقدّم ذكرها عند البحث عن تجرّد النفس، و نكتفي هنا بهذا المقدار، حذرا من الإطالة.

و أمّا من السنة، فنكتفي بما جاء عن الصادق عليه السلام، عند ما سئل عن أرواح المؤمنين، فقال: «في حجرات في الجنة، يأكلون من طعامها، و يشربون من شرابها، و يقولون ربّنا أتمم لنا الساعة و أنجز ما وعدتنا».

و سئل عن أرواح المشركين، فقال: «في النار يعذّبون، يقولون لا تقم لنا الساعة، و لا تنجز لنا ما وعدتنا»(2).

السؤال في القبر و عذابه و نعيمه

إذا كانت الحياة البرزخية هي المرحلة الأولى من الحياة بعد الدنيا، يظهر لنا أنّ ما اتّفق عليه المسلمون من سؤال الميت في قبره، و عذابه إن كان طالحا، و إنعامه إن كان مؤمنا صالحا، صحيح لا غبار عليه، و أنّ الإنسان الحي في البرزخ مسئول عن أمور، ثم معذّب أو منعّم.

قال الصدوق في عقائده: «اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حقّ لا بدّ منها، و من أجاب الصواب، فاز بروح و ريحان في قبره، و بجنة النعيم في الآخرة، و من

ص: 236


1- سورة غافر: الآية 46.
2- البحار، ج 6، باب أحوال البرزخ، ص 169، الحديث 122، و ص 270، الحديث 126.

لم يجب بالصواب، فله نزل من حميم في قبره، و تصلية جحيم في الآخرة»(1).

و قال الشيخ المفيد: «جاءت الآثار الصحيحة عن النبي أنّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم، و ألفاظ الأخبار بذلك متقاربة، فمنها أنّ ملكين للّه تعالى، يقال لهما ناكر و نكير، ينزلان على الميت فيسألانه عن ربّه و نبيّه و دينه و إمامه، فإن أجاب بالحق، سلّموه إلى ملائكة النعيم، و إن أرتج سلّموه إلى ملائكة العذاب. و في بعض الروايات أن اسمي الملكين الذين ينزلان على الكافر، ناكر و نكير، و اسمي الملكين الذين ينزلان على المؤمن مبشّر و بشير».

إلى أن قال:

«و ليس ينزل الملكان إلاّ على حيّ، و لا يسألان إلاّ من يفهم المسألة و يعرف معناها، و هذا يدلّ على أن اللّه تعالى يحيى العبد بعد موته للمسألة، و يديم حياته لنعيم إن كان يستحقه، أو لعذاب إن كان يستحقه»(2).

و قال المحقق الطوسي، في التجريد «و عذاب القبر واقع، للإمكان، و تواتر السمع بوقوعه».

و قال العلامة الحلي، في شرحه: «نقل عن ضرار أنّه أنكر عذاب القبر، و الإجماع على خلافه»(3).

و الظاهر اتّفاق المسلمين على ذلك، يقول أحمد بن حنبل: «و عذاب القبر حق، يسأل العبد عن دينه و عن ربه، و يرى مقعده من النار و الجنة، و منكر و نكير حق»(4).

و قد نسب إلى المعتزلة إنكار عذاب القبر، و النسبة في غير محلها، و إنّما المنكر واحد منهم، هو ضرار بن عمرو، كما تقدم، و قد تاب عن الاعتزال و لحق بالمجبرة، قال القاضي عبد الجبار في فصل عذاب القبر: «و جملة ذلك أنه لا

ص: 237


1- عقائد الصدوق، ص 81، من الطبعة الحجرية الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.
2- شرح عقائد الصدوق: ص 45-46.
3- كشف المراد، ص 266، ط صيدا، و لاحظ إرشاد الطالبين، ص 425.
4- السنة، لأحمد بن حنبل، ص 47، و لاحظ الإبانة للأشعري، ص 27.

خلاف فيه بين الأمّة إلاّ شيء يحكى عن ضرار بن عمرو، و كان من أصحاب المعتزلة ثم التحق بالمجبرة، و لهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا، فيقول: إنّ المعتزلة ينكرون عذاب القبر و لا يقرّون به»، ثم استدلّ بآيات على حياة الإنسان في البرزخ(1).

هذا كلّه ممّا لا ريب فيه، إنّما الكلام فيما هو المراد هنا من القبر، و الإمعان في الآيات الماضية التي استدللنا بها على الحياة البرزخية، و الروايات الواردة حول البرزخ، يعرب بوضوح عن أنّ المراد من القبر، ليس هو القبر المادي الذي يدفن فيه الإنسان، و لا يتجاوز جثّته في السّعة، و إنّما المراد منه هو النشأة التي يعيش فيها الإنسان بعد الموت و قبل البعث، و إنّما كنّى بالقبر عنها، لأنّ النزول إلى القبر يلازم أو يكون بدء لوقوع الإنسان فيها.

و الظاهر من الروايات تعلّق الروح بأبدان تماثل الأبدان الدنيوية، لكن بلطافة تناسب الحياة في تلك النشأة، و ليس التعلق بها ملازما لتجويز التناسخ، لأنّ المراد من التناسخ هو رجوع الشيء من الفعلية إلى القوة، أعني عودة الروح إلى الدنيا عن طريق النطفة فالعلقة، فالمضغة إلى أن تصير إنسانا كاملا، و هذا منفي عقلا و شرعا، كما سيوافيك. و لا يلزم هذا في تعلّقها ببدن ألطف من البدن المادي، في النشأة الثانية.

قال الشيخ البهائي: «قد يتوهم أنّ القول بتعلق الأرواح، بعد مفارقة أبدانها العنصرية، بأشباح أخر - كما دلّت عليه الأحاديث - قول بالتناسخ، و هذا توهّم سخيف، لأنّ التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه، هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها، بأجسام أخر في هذا العالم، و أمّا القول بتعلّقها في عالم آخر، بأبدان مثالية، مدّة البرزخ، إلى أن نقوم قيامتها الكبرى، فتعود إلى أبدانها الأوّلية بإذن مبدعها، فليس من التناسخ في شيء»(2).

قال الرازي: «إنّ المسلمين يقولون بحدوث الأرواح و ردّها إلى الأبدان،

ص: 238


1- شرح الأصول الخمسة، ص 730.
2- البحار، ج 6، ص 277.

لا في هذا العالم، و التناسخية يقولون بقدمها، و ردّها إليها، في هذا العالم، و ينكرون الآخرة و الجنّة و النار، و إنّما كفّروا من أجل هذا الإنكار»(1).

نفخ الصّور

إنّ الإنسان الذي يعيش في هذا الكوكب، بالنسبة إلى المعارف الغيبية، كالجنين في بطن أمّه، فلو قيل له إنّ وراء الرحم أنجما و كواكب و شموسا و أقمارا، و بحارا و محيطات، لا يفقه منها شيئا، لأنّها حقائق خارجة عن عالمه الضيّق، و الإنسان الماديّ القاطن في هذا الكوكب لا يفقه الحقائق الغيبية الموجودة وراء هذا العالم، فلأجل ذلك لا مناص له من الإيمان المجرّد من دون تعمق في حقيقتها، و هذا أصل مفيد جدا في باب المعاد، و على ذلك تبتني مسألة نفخ الصور، فما هو المراد من الصور، أ هو شيء يشابه البوق المتعارف أو شيء غيره؟ و ما هو المراد من النفخ؟ لا مناص لنا من الاعتقاد بوجوده و تحققه، و إن لم نتمكن من التعرف على واقعيته، و مع ذلك فلا بدّ أن تكون هناك حقيقة واقعية، لها صلة بين نفخ الصور في هذا العالم، و نفخه في النشأة الأخرى.

تدلّ الآيات على أنّ الإنسان يعيش في البرزخ إلى أن يفاجئه نفخ الصور، فعند ذلك يهلك كل من في السموات و الأرض إلاّ من شاء اللّه، يقول سبحانه:

وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذٰا هُمْ قِيٰامٌ يَنْظُرُونَ (2) . ففي النفخ الأول موت كل ذي حياة في السّماوات و الأرض، كما أنّ في النّفخ الثاني، إحياءهم.

يقول سبحانه: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (3).

ص: 239


1- نهاية العقول، للرازي، البحار، ج 6، ص 278.
2- سورة الزمر: الآية 68.
3- سورة يس: الآية 51. و الآية ناظرة إلى النفخ الثاني.

ما ذكرناه في هذا البحث تصوير و ترسيم للنشأة التي يمرّ بها الإنسان بعد موته إلى أن يقوم من جدثه، و يحشر إلى اللّه تعالى. و في البحث القادم تصوير لمشاهد القيامة، من بداية وقوعها إلى أن يحاسب الإنسان و يصير إلى مآله من الجنة أو النار.

ص: 240

مباحث المعاد

(8) أشراط الساعة
اشارة

الشرط - بالتحريك -: العلامة، و الجمع أشراط، و أشراط الساعة:

أعلامها(1).

و المراد من أشراط الساعة العلامات و الآيات التي تخبر عن دنو القيامة، و قربها، و هي مأخوذة من الذكر الحكيم، قال سبحانه: فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا (2).

و هذه العلامات بعضها مذكور في الكتاب العزيز، و بعضها مذكور في السّنة فنبحث عن كلا القسمين على وجه الإجمال.

و أمّا مشاهد القيامة، فهي الحوادث الهائلة التي تقع في نفس قيام الساعة، التي وردت في سور التكوير و الانفطار و الانشقاق و غيرها، كتكوير الشمس و انكدار النجوم و انفطار السماء و انتثار الكواكب، و تسجير البحار و تفجيرها، و غير ذلك. فالكل من مشاهد القيامة التي نأتي بها في بحث خاص و إليك الكلام في أشراط الساعة الواردة في الكتاب.

ص: 241


1- لسان العرب، ج 7، ص 329، مادة شرط.
2- سورة محمد: الآية 18.
أشراط الساعة في الكتاب
اشارة

جاء في الذكر الحكيم أمور يستظهر منها أنّها من أشراط الساعة، و الآيات الواردة في هذا المجال بين واضحة الدلالة و غيرها.

أ - بعثة النبي الأكرم

يقول سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّٰاعَةَ، أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا، فَأَنّٰى لَهُمْ إِذٰا جٰاءَتْهُمْ ذِكْرٰاهُمْ (1).

إنّ هذه الآية تندد بالمشركين بأنّهم لا يؤمنون، و لا ينتظرون شيئا إلاّ القيامة أن تأتيهم فجأة حتى يؤمنوا، و لكن لا يفيدهم عندها إيمانهم، و من أين لهم التذكّر و الاتعاظ و التوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة. و مع ذلك كله فليعلموا أنّ الساعة، و إن لم تأتهم، و لكن قد جاءتهم أشراطها و علاماتها، فعليهم أن يتّعظوا بذلك.

و الآية غير متضمنة لتعيين ما جاء من الأشراط، لكن قال ابن عباس:

«و النبيّ من أشراطها، و لقد قال بعثت أنا و الساعة كهاتين»(2).

و كون بعثة النبي من معالم الساعة، لا ينافي وجود هذه الفترة الطويلة بينه و بين القيامة، و ذلك لأنّ ما مضى من عمر الأرض و المجتمع الإنساني أزيد بكثير مما بقي منه، فيصحّ جعل ظهوره من معالم الساعة.

و يحتمل أن يكون المراد من أشراط الساعة التي جاءتهم انشقاق القمر بيده، و نزول القرآن الذي هو آخر الكتب(3).

ب - اندكاك السدّ و خروج يأجوج و مأجوج

جاء في الذكر الحكيم أنّ ذا القرنين وصل في مسيره إلى قوم طلبوا منه أن

ص: 242


1- سورة محمد: الآية 18.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 102.
3- لاحظ المصدر السابق نفسه.

يبني لهم سدّا يحجز عنهم يأجوج و مأجوج و يقيهم شرهما، فقام ذو القرنين بعملية كبيرة، حيث سدّ ما بين الجبلين - الذي كان طريق نفوذهما - بزبر الحديد ثم أنجز عملية بناء السدّ بما يحكيه تعالى من قوله: حَتّٰى إِذٰا سٰاوىٰ بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ قٰالَ اُنْفُخُوا، حَتّٰى إِذٰا جَعَلَهُ نٰاراً قٰالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (1).

فلما فرغ من بناء السدّ قال:

هٰذٰا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّٰاءَ وَ كٰانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَ تَرَكْنٰا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنٰاهُمْ جَمْعاً (2) .

و قوله: وَ تَرَكْنٰا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ، يعرب عن كون اندكاك السّدّ من أشراط الساعة(3). و المراد أنّه بعد انقضاء أمر السّدّ يموج بعض الناس في بعض، فيرتفع من بينهم النّظم، و يحكم فيهم الهرج و المرج، و يظهر هذا أيضا من آية أخرى، أعني قوله تعالى: حَتّٰى إِذٰا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذٰا هِيَ شٰاخِصَةٌ أَبْصٰارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا بَلْ كُنّٰا ظٰالِمِينَ (4).

فمفادها أنّه عند ما ينفرج سدّ يأجوج و مأجوج، يتفرق المحجوزون خلف السدّ، في الأرض، فلا ترى أكمة إلاّ و قوم منهم يهبطون منها، و عند ذلك يقترب الوعد الحق، أي قيام الساعة. فيكون اندكاك السدّ و انتشار يأجوج و مأجوج في الأرض من أشراط الساعة، لحكايته عن اقتراب الوعد الحقّ، و هذا هو المراد من أشراط الساعة.

ج - إتيان السماء بدخان مبين

إنّ الصناعات البشرية أوجدت قلقا في الحياة، و لوثت البيئة في الأرض

ص: 243


1- سورة الكهف: الآية 96.
2- سورة الكهف: الآيتان 98 و 99.
3- و يمكن جعله من أشراطها على حدة، فإنّها تحكي عن عموم حالة الفوضى و الهرج و المرج العالم بأسره.
4- سورة الأنبياء: الآيتان 96 و 97.

بالأدخنة المتصاعدة من معاملها، و الأبخرة المتطايرة من موادها. و لكنها إلى اليوم ليست إلى الحدّ الذي يزاحم الحياة، و اللّه يعلم مآل الأمور.

و لكنه تعالى يخبر عن حدوث دخان في السماء، يغشى الناس، و يكون عذابا أليما لهم، يقول تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى اَلنّٰاسَ هٰذٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذٰابَ إِنّٰا مُؤْمِنُونَ * أَنّٰى لَهُمُ اَلذِّكْرىٰ وَ قَدْ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قٰالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنّٰا كٰاشِفُوا اَلْعَذٰابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عٰائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرىٰ إِنّٰا مُنْتَقِمُونَ (1).

إنّ في تفسير الآية وجهين:

الوجه الأوّل - إن مجموع هذه الآيات راجعة إلى عصر النبي، و ذلك أنّ رسول اللّه دعا على قومه لمّا كذّبوه، فقال: اللهم سنينا كسني يوسف، فأجدبت الأرض و أصابت قريشا المجاعة، و كان الرجل لما به من الجوع، يرى بينه و بين السماء كالدخان، فجاءوا إلى النبي و قالوا: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم و قومك قد هلكوا. فسأل اللّه تعالى لهم بالخصب و السعة، فكشف عنهم، ثم عادوا إلى الكفر(2).

يلاحظ على هذا الوجه: أولا، إنّ ظاهر الآية أنّ السماء تأتي بدخان مبين، و تحدثه، و هو غير تجلّي السماء بصورة الدخان في عين الجائع، الذي هو انخداع الحواس لغلبة الجوع، من دون أن يكون هناك دخان في الواقع.

و ثانيا: إنّ أصحاب السّير النبوية لم يذكروا شيئا عن هذا الجوع المدقع الذي أحدق بقريش و أوجد فيهم سنينا كسني يوسف.

و ثالثا: إنّ ما جاء في القصة، لا يناسب خلق النبيّ و عطفه على قومه، و كونه رحمة للعالمين، كيف و قد قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ

ص: 244


1- سورة الدخان: الآيات 10-16.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 62، و تفسير الطبري، ج 15، ص 66. و بهذا المضمون روايات أخر في المصدرين.

فِيهِمْ، وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1) و هو صلوات اللّه عليه و آله، لم يدع عليهم في غزوة أحد، مع أنّهم شجّوا جبهته و كسروا أسنانه، و ضرّجوا وجهه بالدماء.

فهذه الأمور، توجب عدم الاطمئنان إلى هذا الوجه.

الوجه الثاني: إنّ مفاد الآية يرجع إلى أشراط الساعة، و أنه قبل قيام البعث يغشى الناس دخان مبين. و يؤيّد ذلك أنّ الآية تتضمن ذكر يومين:

1 - يوم تأتي السماء فيه بدخان مبين.

2 - و يوم يبطش فيه الرب تعالى البطشة الكبرى.

و بما أنّ البطشة الكبرى راجعة إلى يوم البعث الذي يأخذ فيه اللّه تعالى الظالمين و الكافرين بشدة و قدرة، يكون ذلك قرينة على أنّ ما يقع في اليوم الأول، من أشراط الساعة، فيوم تظهر فيه آية الساعة و علامتها، و يوم تتحقق فيه نفس الساعة.

و أما على التفسير الأول، فلا مناص، من جعل اليوم الأول يوم طروء الجوع في مكة، و اليوم الثاني يوم غلبة النبي على قريش في بدر، و لا يخفى أن تفسير اليومين بهذا النحو يحتاج إلى دليل.

و يؤيّد المعنى الثاني ما روي عن حذيفة بن اليمان، مرفوعا: أوّل الآيات الدّجال، و نزول عيسى، و نار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا، و الدّخان. قال حذيفة: يا رسول اللّه، و ما الدّخان؟ فتلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الآية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ... ، يملأ ما بين المشرق و المغرب، يمكث أربعين يوما و ليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، و أما الكافر بمنزلة السكران يخرج من منخريه و أذنيه و دبره(2).

ص: 245


1- سورة الأنفال: الآية 33.
2- تفسير الطبري، ج 25، ص 68. و الدر المنثور، ج 6، ص 29.

نعم بقي هنا شيء و هو أنّه لو كان صدر الآيات راجعا إلى أشراط الساعة، فما معنى قوله سبحانه: إِنّٰا كٰاشِفُوا اَلْعَذٰابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عٰائِدُونَ . فإنه بالمعنى الأوّل ألصق.

و لكن يمكن أن يقال: إن الجملة الخبرية متضمنة لقضية شرطية، و هي أنه حتى لو كشفنا عنهم العذاب، لعادوا لما كانوا عليه من العصيان نظير قوله سبحانه: وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ (1).

د - نزول المسيح

يقول سبحانه: وَ لَمّٰا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذٰا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَ قٰالُوا أَ آلِهَتُنٰا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مٰا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّٰ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ عَبْدٌ أَنْعَمْنٰا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنٰاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ * وَ لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰا مِنْكُمْ مَلاٰئِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّٰاعَةِ، فَلاٰ تَمْتَرُنَّ بِهٰا، وَ اِتَّبِعُونِ، هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ (2).

روى المفسرون أنه لما نزل قوله سبحانه: إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (3)، أحدثت قريش ضجة، و قاموا يجادلون النبي فقالوا: قد رضينا بأنّ تكون آلهتنا كذلك، حيث يكون عيسى أيضا مثلهم، و قالوا - كما يحكيه سبحانه عنهم: - آلِهَتُنٰا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ، فليست آلهتنا خيرا من عيسى، فإن كان عيسى في النار، فكذلك آلهتنا.

فأجاب سبحانه بأنّهم ما ضربوا هذا المثل إلا للمجادلة و المخاصمة، و أنهم قوم خصمون لا يتطلبون الحق. ثم أخذ بتوصيف عيسى بن مريم و تبيين مقامه فقال: وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّٰاعَةِ ، أي إنّ وجود عيسى في ظرف من الظروف، يعلم به قرب الساعة، فلا تكذبوا بها.

ص: 246


1- سورة الأنعام: الآية 28.
2- سورة الزخرف: الآيات 57-61.
3- سورة الأنبياء: الآية 98.

فالآية تدل على أنّ وجود عيسى في ظرف من الظروف يعلم به دنو السّاعة، و أما ظرفه، فالظاهر من الروايات هو نزوله بعد خروج الإمام المهدي عليه السلام(1).

و للآية تفسير آخر، يطلب من مظانّه(2).

ه - إخراج دابة من الأرض

قال تعالى: وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ (3).

و توضيح الآية يتوقف على إيضاح أمور:

1 - ما هو المراد من قوله: وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ؟.

2 - ما هو المراد من الدابة المخرجة من الأرض؟ 3 - بما ذا تتكلم هذه الدابة، و ما ذا تقول؟ 4 - ما هو موضع قوله سبحانه في الآية: إنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون؟ فهل هو يحكي قول الدابة، أو هو تعليل لصدر الآية (وقوع القول عليهم).

5 - ما هو المراد من الآيات؟ 6 - ما هو الهدف من إخراج الدابة؟ 7 - ما هو زمان إخراجها؟ و الحقّ أنّ هذه الآية، إحدى الآيات التي يحيق بها الإبهام من جهة أو جهات، و ليس لها في القرآن ما يشابهها في المضمون، حتى يستعان به على

ص: 247


1- لاحظ ما أوردناه من الروايات في بحث الإمامة.
2- لاحظ مجمع البيان، ج 5، ص 358.
3- سورة النمل: الآية 82.

تفسيرها، فلا مناص من الإمعان فيها نفسها، أو اللجوء إلى الروايات الواردة حولها، فنقول:

أما السؤال الأول، فالمراد من وقوع القول عليهم، هو استحقاقهم للعذاب، يظهر ذلك من قوله تعالى: وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمٰا ظَلَمُوا فَهُمْ لاٰ يَنْطِقُونَ (1). و ليس المراد من القول، القول اللفظي، بل القول التكويني المساوق لتحقّق العذاب، و حصوله في الخارج. و قد عرفت أنّ العالم فعل اللّه سبحانه، و فعله كلامه، و الآيتان نظير قوله سبحانه: أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذٰابِ، أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنّٰارِ (2).

و أما الثاني فالدابة في اللغة و القرآن تطلق على كل ما يدبّ على الأرض، يقول سبحانه: وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا (3). و لا يظهر من نفس الآية أنّه من أي نوع من الدواب، أ هو إنسان أو حيوان، فلا مناص من الرجوع إلى الروايات التي نشير إلى مصادرها آخر البحث.

غير أنّه يمكن أن يقال إن «الدابة» استعملت في القرآن كثيرا في المعنى العام، فإطلاقها على نوع خاص منه كالإنسان، يحتاج إلى قرينة.

أضف إلى ذلك أنّه ربما استعمل في مقابل الإنسان، يقول سبحانه:

.... وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّٰاسِ (4) و في آية أخرى: وَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ اَلدَّوَابِّ (5). و هذا يدفعنا إلى القول بأنّ المراد من الدابة هو غير الإنسان.

و أما الثالث: فلا يظهر من الآية شيء في جوابه إلاّ احتمال أن يكون مقول كلامها هو ما جاء في ذيل الآية من قوله أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ .

و قد ورد في بعض الروايات مضمون كلامها الذي تتكلم به.

ص: 248


1- سورة النمل: الآية 85.
2- سورة الزمر: الآية 19.
3- سورة هود: الآية 6.
4- سورة الحج: الآية 18.
5- سورة فاطر: الآية 28.

و أما الرابع، فيحتمل أن يكون قوله: أَنَّ اَلنّٰاسَ مقولا لكلامها، كما يحتمل أن يكون تعليلا لفرض العذاب عليهم، الذي يدل عليه صدر الآية، فكأنه يقول: حق عليهم العذاب لأنهم كانوا بآياتنا لا يوقنون، و يؤيّد هذا الوجه قراءة أَنَّ بالكسر، التي تجعلها جملة مستأنفة، واقعة موقع التعليل.

و أما الخامس، فيحتمل أن يكون المراد من الآيات هو الآيات الكونية و الأنفسية الواردة في قوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ، أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (1).

كما يحتمل أن يكون المراد من الآيات، المعاجز و خوارق الآيات التي جاءت بها الأنبياء، و إطلاق الآية على المعجزة في القرآن، كثير.

و يحتمل أن يكون المراد، الكتب السماوية، فإنها آيات إلهية.

و لا يظهر من الآية شيء في تعيين أحد هذه الاحتمالات، إلاّ أنّه يمكن تاييد الاحتمال الثالث بقوله سبحانه في آية سابقة عليها: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (2).

و أما السادس، و هو الهدف من إخراج الدابة، فيمكن أن يكون إعلام دنوّ السّاعة، كما يمكن أن يكون لأجل تمييز المؤمن من الكافر، و غير ذلك من الأهداف التي وردت فيها الروايات.

و أما السابع، و هو زمان الإخراج فسياق الآيات يثبت أنّها تقع قبل يوم القيامة، عند دنوّها لقوله سبحانه بعدها: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ يُوزَعُونَ (3). فبما أنّ الثانية تقع قبل القيامة، فسياق الكلام يقتضي كون الأولى كذلك.

و يتحصّل من الإمعان في الآيات أنّه سبحانه يحكي في لفيف منها عن أمور

ص: 249


1- سورة فصلت: الآية 53.
2- سورة النمل: الآية 76.
3- سورة النمل: الآية 83.

ثلاثة، الأولين راجعان إلى ما قبل القيامة، و يعدّان من أشراطها، و الثالث إلى نفس القيامة.

فالأول، هو وقع القول على الكافرين و خروج الدابة.

و الثاني، هو حشر فوج من كلّ أمة.

و الثالث، هو نفخ الصّور، أعني قوله سبحانه: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ (1).

و على ضوء ذلك يمكن عدّ الأوّل و الثاني من أشراط الساعة(2).

و - مجيء بعض آيات الربّ تعالى

يقول سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ لاٰ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمٰانُهٰا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمٰانِهٰا خَيْراً، قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنّٰا مُنْتَظِرُونَ (3).

الاستفهام في الآية إنكاري، وقع في مقام يعرب عن عدم نفع العظة و نجاح الدعوة، و أنّ المخاطبين كانوا في عناد و لجاج إزاء دعوة النبي الأكرم، كما هو الظاهر من الآيات المتقدمة عليها، فإنّه يقول:

أَنْ تَقُولُوا إِنَّمٰا أُنْزِلَ اَلْكِتٰابُ عَلىٰ طٰائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنٰا... .

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّٰا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْكِتٰابُ، لَكُنّٰا أَهْدىٰ مِنْهُمْ... .

ففي هذا السياق ورد قوله سبحانه:

هَلْ يَنْظُرُونَ ، أي هؤلاء لا ينتظرون إلا أمورا تترجح بين كونها موجبة لهلاكهم أو كونها أمرا محالا في نفسه، أو غير ناجعة في إيمانهم عند وقوعها.

ص: 250


1- سورة النمل: الآية 87.
2- و من أراد التبسط في الآية، فعليه الرجوع إلى المصادر التالية: تفسير الطبري، ج 20، ص 10-12. الدر المنثور، ج 5، ص 116. تفسير البرهان، ج 3، ص 209-211.
3- سورة الأنعام: الآية 158.

فالأوّل، هو قوله تعالى: أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ ، فإنّ نزول الملائكة عليهم يلازم هلاكهم. يقول سبحانه: مٰا نُنَزِّلُ اَلْمَلاٰئِكَةَ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ مٰا كٰانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (1).

و الثاني، هو مجيء الربّ و مشاهدته بأمّ أعينهم، و هو أمر محال. و إن أريد منه يوم اللقاء، الذي ينكشف منه الغطاء، و يتجلى سبحانه بأسمائه و صفاته، تجلّيا لا يبقى معه ريب و لا شك، فلا ينجع إيمانهم عند ذاك.

و الثالث، و هو مجيء بعض آياته، فهو مردد بين أن يكون المراد منه الموت الذي تتبدل فيه نشأة الحياة إلى نشأة أخرى، أو يكون المراد هو خروج الدابة عند دنو الساعة الذي مضى البحث عنه، و عند ذلك تكون الآية ناظرة إلى بعض أشراط الساعة.

و على كلا المرادين، لا ينفع بعدهما الإيمان و الاستغفار...

قال الطبرسي: «المراد الآيات التي تضطرهم إلى المعرفة، و يزول التكليف عندها (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) لأنّه ينسد باب التوبة بظهور آيات القيامة»(2).

روى العيّاشي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام، في تفسير الآية، قولهما: «طلوع الشمس من المغرب، و خروج الدابة، و الدخان، و الرّجل يكون مصرا و لم يعمل على الإيمان ثم تجيء الآيات، فلا ينفعه إيمانه»(3).

هذا بعض الكلام حول أشراط الساعة الواردة في آيات الذكر الحكيم.

و أما الروايات، فنقتبس منها ما يلي:

1 - روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أسيد الغفاري: اطّلع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله علينا و نحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قلنا: نذكر

ص: 251


1- سورة الحجر: الآية 8.
2- مجمع البيان، ج 2، ص 388.
3- البحار، ج 6، ص 312، الحديث 13.

الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر: الدّخان، و الدجّال، و الدابّة، و طلوع الشمس من مغربها، و نزول عيسى بن مريم، و يأجوج و مأجوج، و ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، و خسف بالمغرب، و خسف بجزيرة العرب، و آخر ذلك نار تطرد النّاس إلى محشرهم(1).

2 - روى القمي في تفسيره عن عبد اللّه بن عباس، قال: حججنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حجة الوداع، فأخذ باب الكعبة، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: ألا أخبركم بأشراط الساعة، و كان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رضي اللّه عنه، فقال: بلى يا رسول اللّه.

فقال: إنّ من أشراط القيامة، إضاعة الصلاة، و اتباع الشهوات، و الميل مع الأهواء، و تعظيم أصحاب المال، و بيع الدين بالدنيا، فعندها يذاب قلب المؤمن و جوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره...

لاحظ بقية الحديث(2).

ص: 252


1- جامع الأصول، ج 11، ص 87، الحديث (7898). و رواه الصدوق في الأمالي، و قال في آخره: و نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا، و تقبل معهم إذا اقبلوا (البحار، ج 6، ص 303).
2- البحار، ج 6، الحديث 6، ص 305-309. و قد روى المجلسي في الجزء السادس من بحاره، في باب أشراط الساعة ص 303-306، اثنين و ثلاثين حديثا. و ما نقلناه نموذج من تلك الأحاديث، كما روى الجزري، في الجزء الحادي عشر من جامع الأصول، في الباب المعقود لبيان أشراط الساعة، ص 74-94، مائة و ستة أحاديث.

مباحث المعاد

(9) مشاهد البعث و القيامة
اشارة

لقد تعرّفت على أشراط الساعة التي تخبر عن دنوّها، كتابا و سنة، و هي غير نفس القيامة، فإنها الأمور الكونية التي تدبّر النظام السائد، ليؤسس بعده نظام جديد لمحاسبة العباد، و جزائهم، و قد أكثر الذكر الحكيم من نقل و تصوير مشاهد القيامة في سوره القصار.

و بعد تلك الحوادث المريعة، تتلاحق مواقف العالم الأخروي، إلى أن يرد الخلق إلى مثواهم الأخير، و فيما يلي نستعرضها واحدة بعد الأخرى.

1 - انهدام النظام

تظافرت الآيات القرآنية على أن البعث لا يقوم على هذا النظام السائد، و إنما يقوم على نظام جديد، و هو لا يتحقق إلا بتلاشي النظام الموجود و انهدامه.

و القرآن يخبر عن مشاهد ذاك الانهدام الكوني العام، فيحدّث عن انشقاق السماء و انفطارها، و تكوير الشمس، و انكدار النجوم و تناثرها، و امتداد الأرض، و تفجير البحار و تسجيرها، و تسيير الجبال حتى تكون كالعهن المنفوش، و غير ذلك من المشاهد المروعة للقلوب(1).

ص: 253


1- لاحظ سور التكوير، و الانفطار، و الانشقاق و القارعة و غيرها.
2 - خروج الناس من القبور

و يستعقب ذلك مشهد آخر، ألا و هو خروج الناس من الأجداث.

يقول سبحانه: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا، هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ (1).

و بعد ذلك يدعى الناس إلى الحساب، و موقف العرض، و هو مشهد أشدّ في النفس هولا ممّا سبق، لعظم الحسرة و الخوف الحاكمين على القلوب آنئذ، يقول سبحانه:

يَوْمَ يَدْعُ اَلدّٰاعِ إِلىٰ شَيْ ءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّٰاعِ يَقُولُ اَلْكٰافِرُونَ هٰذٰا يَوْمٌ عَسِرٌ (2) لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (3) .

3 - إعطاء الكتب

و بعد خروج الناس من القبور، و إحضارهم إلى موقف المحاكمة، و وقوفهم على صعيد الحساب، تنشر الصحف وَ إِذَا اَلصُّحُفُ نُشِرَتْ (4).

فيأخذ كلّ إنسان كتابه الذي دوّن فيه - بيد الحفظة من الملائكة - ما عمله من صغير و كبير، فمنهم من يتلقاه بيمينه، و منهم من يتلقاه بشماله.

يقول سبحانه:

فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ حِسٰاباً يَسِيراً * وَ يَنْقَلِبُ إِلىٰ

ص: 254


1- سورة يس: الآيتان 51 و 52.
2- سورة القمر: الآيتان 6-8. و لاحظ الزلزلة الآية 6.
3- سورة عبس: الآية 37.
4- سورة التكوير: الآية 10.

أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ وَرٰاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (1) .

***

4 - الحساب و الشهود
اشارة

و بعد تناول الصحف يبدأ الحساب، و هو مشهد مروّع للقلوب و مقطّع للأرواح، إنّه مشهد القضاء على الناس بشهود لا يتطرق إلى شهادتهم ريب و لا يتّهمون بكذب. و هم بين شاهد خارجي كاللّه سبحانه، و الأنبياء، و الملائكة، و الأرض، و داخلي كالأعضاء و الجوارح حتى جلد البدن.

و هناك نوع آخر من الشهود لا يشابه القسمين، و هو تجسّم أعمال الإنسان بوجود يناسب تلك النشأة و هذا نظير عرض صور الجريمة و وقائعها التي التقطت عند ارتكاب المجرم لها، أو بثّ الشريط الذي سجل فيه كلام المعتدي بالسبّ و الوقيعة، و إن كان هناك فرق بين الممثّل و الممثّل له.

و بذلك لا يجد المجرم لنفسه إلا الاعتراف بالذنب و التقصير و الجرأة، لثبوت الجرم عليه بوجه لا يقبل الإنكار، و إليك عرض هؤلاء الشهود في ضوء آيات القرآن الكريم، مقدّمين الشهود الخارجيين على الداخليين.

الشاهد الأول - اللّه سبحانه

من عجيب الأمر أنّ اللّه سبحانه هو القاضي و الحاكم بين العباد، و هو بنفسه أيضا شاهد على أعمالهم، يقول سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (2).

و يقول سبحانه:... لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ شَهِيدٌ عَلىٰ مٰا تَعْمَلُونَ (3).

ص: 255


1- سورة الانشقاق: الآيات 7-11 و سيأتي بيان أوفى لإعطاء الكتب في الشهود.
2- سورة الحج: الآية 17.
3- سورة آل عمران: الآية 98.
الشاهد الثاني - نبيّ كلّ أمّة

يدل القرآن الكريم على أنّ لكلّ أمّة شهيدا من أنفسهم، و قد جاء ذلك في عدة آيات منها قوله سبحانه: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1).

و قوله سبحانه: وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَ نَزَعْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً... (2).

و الظاهر أنّ هذا الشاهد من كل أمّة هو نبيهم، و إن لم يصرح به في الآيات، و ذلك للزوم كون الشهادة القائمة هناك مشتملة على حقائق لا سبيل للمناقشة فيها، فيجب أن يكون هذا الشاهد عالما بحقائق الأعمال التي يشهد عليها، لا بظاهر صورها و هيئاتها المحسوسة لأنّ صورها مشتركة بين الطاعة و المعصية.

و لا يكون هذا إلاّ بأن يستوي عنده الحاضر و الغائب، و يعاين حقيقة ما انعقدت عليه القلوب فيتميز هذا الشاهد بخصوصيتين:

الأولى: أنّه محيط إحاطة علمية تامة على حقائق الأعمال و ما يجري في القلوب، و يختلج في النفوس.

الثانية: أن يكون ذا عصمة إلهية ليمتنع عليه الخطأ و الاشتباه عند تحمّل الشهادة، و الكذب و الخيانة عند أدائها.

و لا يتصور هذا المقام إلا لنبيّ كلّ أمّة، و سيأتي تتميم لذلك في الشاهد الرابع.

الشاهد الثالث: نبيّ الإسلام

عدّ القرآن نبيّ الإسلام شاهد أمّته، يقول سبحانه: فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ

ص: 256


1- سورة النحل: الآية 89.
2- سورة القصص: الآيتان 74 و 75.

كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً (1) .

و يقول سبحانه: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَ جِئْنٰا بِكَ شَهِيداً عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ.. (2).

و قد عرفت أنّ هذه الشهادة تستلزم من الكفاءات شيئا عظيما، و بهذا يظهر عظم مقام هذا الشاهد، لوقوفه على ضمائر القلوب و أعمال الأمّة، و إن كانوا بعيدين عنه. و من كان له هذا المقام، فتعرّفه على الغيب من أهون الأمور، و مع ذلك نرى بعض القشريين ينزعجون من إثبات علم الغيب للنبيّ، و يزعمون أنّ نسبته إليه و إلى اللّه سبحانه يستلزم الشرك، و لكن عزب عنهم الفرق بين العلم الكسبي و الذاتي، و المحدود و اللامحدود، و القائم بالغير و القائم بالنفس.

الشاهد الرابع: بعض الأمّة الإسلامية

يقوله سبحانه: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (3).

و الخطاب في الآية للأمّة الإسلامية، و لكن المراد قسم منها، نظير قوله سبحانه: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (4)، مخاطبا بني إسرائيل، و المراد بعضهم. فباعتبار وجود الصّلة القوية بين القبيلة و ملوكها، نسب الملوكية إلى الجميع.

و الدليل على أنّ المراد بعض الأمّة، هو أنّ أكثر أبناء الأمّة، مجهزون بحواس عادية لا تتحمل إلاّ صور الأفعال و الأعمال إذا كانوا في محضر المشهود عليهم، و هو لا يفي في مقام الشهادة، لأنّ المراد من الشهادة هو الشهادة على حقائق الأعمال، و المعاني النفسانية من الكفر و الإيمان و الفوز و الخسران، و على كل خفي عن الحسّ، و مستبطن عن الإنسان، و على كل ما تكسبه القلوب، الذي يدور عليه حساب ربّ العالمين، يقول سبحانه: وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ

ص: 257


1- سورة النساء: الآية 41.
2- سورة النحل: الآية 89. و لاحظ الحج: الآية 78.
3- سورة البقرة: الآية 143.
4- سورة المائدة: الآية 20.

قُلُوبُكُمْ (1) .

و ليس ذلك في وسع الإنسان العادي إذا كان حاضرا عند المشهود عليه، فضلا عن كونه غائبا، و هذا يدلّنا على أنّ المراد رجال من الأمّة لهم تلك القابلية، بعناية من اللّه تعالى، فيقفون على حقائق أعمال الناس من إخلاص و رياء، و انقياد و تمرد، و يؤدّون ذلك يوم القيامة. و هذه الكرامة ليس ينالها جميع الأمّة، بل الأولياء الطاهرون منهم، لا المتوسطون في الإيمان، فضلا عن الملوثين بالمعاصي و الملطخين بالجرائم.

و قد التجأ بعضهم إلى جعل متعلق الشهادة كون الأمّة على دين جامع و وسط، و هو بمعزل عن التحقيق، إذ ليس ذلك شهادة بشيء، و قد وردت لفظة الشهادة بمعنى واحد في جميع القرآن، في آياته المختلفة.

و بذلك يظهر معنى قوله سبحانه:... وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ، هُوَ سَمّٰاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هٰذٰا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَ تَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ (2). فالخطاب متوجّه إلى الأمّة، و المراد بعضهم ممن أعطيت لهم هذه الكرامة.

و هناك وجه آخر لما ذكرنا، و هو أنّ أقلّ ما يعتبر في الشهود هو العدالة و التقوى، و الصدق و الأمانة، و الأكثرية الساحقة من الأمّة، يفقدون ذلك، و هم لا تقبل شهادتهم على صاع من تمر أو باقة من بقل، فكيف تقبل شهادتهم يوم القيامة؟.

و إلى هذا تشير رواية الزبيري عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال اللّه تعالى: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (3)، فإن ظننت بأنّ اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين، أ فترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر، يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية. كلا، لم يعن اللّه

ص: 258


1- سورة البقرة: الآية 225.
2- سورة الحج: الآية 78.
3- سورة البقرة: الآية 143.

مثل هذا من خلقه»(1)إلى هنا تمّ الكلام حول الشهود الخارجيين، و إليك الكلام في الشهود الداخليين، الذين لا ينفكون عن نفس المجرم.

الشاهد الخامس: الأعضاء و الجوارح

من عجيب الأمر أن تشهد أعضاء الإنسان عليه: لسانه و يده و رجله، بأمر من اللّه سبحانه.

يقول سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2).

و يقول سبحانه: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (3).

و أما كيفية الشهادة فهي من الأمور الغيبية نؤمن بها، و ما إنطاقها عليه بعزيز، و قد وسعت قدرته تعالى كلّ شيء.

الشاهد السادس: الجلود

و تشهد على الناس جلودهم أيضا.

يقول سبحانه: حَتّٰى إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * وَ قٰالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنٰا، قٰالُوا أَنْطَقَنَا اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (4).

و قوله: أَنْطَقَنَا اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ ، يشير إلى سعة قدرته سبحانه

ص: 259


1- تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 113، الحديث 409.
2- سورة النور: الآية 24.
3- سورة يس: الآية 65.
4- سورة فصلت: الآيتان 20 و 21.

على إنطاق الجلود(1).

الشاهد السابع: الملائكة

إنّ للإنسان حفظة يصحبونه منذ بلوغه التكليف فيسجّلون أعماله خيرها و شرّها، و هذا قوله سبحانه: مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ، رَقِيبٌ عَتِيدٌ (2).

و هذا الرقيب العتيد يشهد أعمال من وكّل به يوم القيامة، عند ما يرد الإنسان صعيد الحساب مع سائقه، كما يقول سبحانه: وَ جٰاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ (3).

فأحد الملائكة يسوق الإنسان، و آخر يشهد على أعماله.

الشاهد الثامن: صحيفة الأعمال

هناك آيات تدلّ على وجود صحف تضبط فيها أعمال العباد خيرها و شرّها، و كتبة يمارسون كتابتها، و يوم الحساب تعرض على الإنسان، فيقرؤها، فيرى المجرم مشفقا منها، يغلبه التعجب من إحاطة الكتاب بدقيق أعماله و جليلها.

يقول سبحانه: قُلِ اَللّٰهُ أَسْرَعُ مَكْراً، إِنَّ رُسُلَنٰا يَكْتُبُونَ مٰا تَمْكُرُونَ (4).

و يقول سبحانه: وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ، فِي اَلزُّبُرِ * وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (5).

ص: 260


1- و لا ينبغي التعجّب من ذلك، و قد توصّل الإنسان في هذه الدنيا إلى معرفة فاعل كل جريمة، و مرتكب كل جناية، بتشخيص بصمات أصابعه، و يكفي في إتمام الحجة عليه إظهار آثار جلد إصبعه و شهادتها عليه.
2- سورة ق: الآية 18.
3- سورة ق: الآية 21.
4- سورة يونس: الآية 21، و بهذا المضمون الزخرف: الآية 80 و 89.
5- سورة القمر: الآيتان 52 و 53.

و يقول سبحانه: إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ نَكْتُبُ مٰا قَدَّمُوا وَ آثٰارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ (1).

و يقول سبحانه مصوّرا حال المجرم عند الحساب و شهادة الكتاب عليه:

وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ فَتَرَى اَلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ (2) .

و يقول سبحانه حاكيا تعجّب المجرمين من إحاطته بعظائم الأعمال و دقائقها: مٰا لِهٰذَا اَلْكِتٰابِ لاٰ يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً إِلاّٰ أَحْصٰاهٰا (3).

و كفى في إذعان الإنسان بجرمه و عصيانه، كتابه، يقول سبحانه: اِقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (4).

الشاهد التاسع: الأرض

إنّ كلّ عمل طالحا كان أو صالحا، إذا كان بدنيا، يصدر من الإنسان في نقطة و بقعة من بقاع الأرض، و هي تشهد يوم القيامة على الحوادث التي وقعت فيها، يقول سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا (5).

و كيفية شهادتها من الأمور الغيبية، و لكن يمكن أن نستعين على تقريبها بالأمور المحسوسة ببيان أنّ المجرم و المحسن يتركان بعد العمل آثارا يستدلّ بها على كيفية عمله.

هذا و إن الخبراء يستدلّون بالمستندات الحفرية، على كيفية حياة الماضين و حضارتهم و علومهم، و سائر شئون حياتهم، و قد ورد عن النبي أنّه لم يرتحل من منزل إلاّ صلى فيه ركعتين و قال: «حتى يشهد عليّ بالصلاة»(6).

ص: 261


1- سورة يس: الآية 12. و لاحظ الجاثية: الآيتان 28 و 29. و الانفطار: الآيتان 10 و 12.
2- سورة الكهف: الآية 49.
3- سورة الكهف: الآية 49.
4- سورة الإسراء: الآية 14.
5- سورة الزلزلة: الآيتان 4 و 5.
6- نقلا عن تفسير الميزان: ج 6، ص 337. و هناك روايات نقلها الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل،

روى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي ذرّ عن النبي صلى اللّه عليه و آله، في وصيته له: «يا أبا ذرّ، ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض، إلاّ شهدت له بها يوم القيامة»(1).

الشاهد العاشر: تجسم العمل بهويّته الأخروية

دلّ القرآن و الأحاديث على أنّ لكل عمل يرتكبه الإنسان في هذه النشأة، صورتين و ظهورين و هويتين، يتمثل بإحداهما في هذه النشأة، و بالأخرى في النشأة الآخرة. فالصلاة في هذه الدنيا عبارة عن الأذكار و الحركات، و هي هويتها الدنيوية، و لكنها لها في النشأة الأخروية ظهورا آخر. و مثله الأعمال الإجرامية، فإنّ لكلّ منها صورتين، يتمثّل بإحداهما في الدنيا، و بالأخرى في الآخرة.

يقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (2)، و ظاهر الآية هو مشاهدة نفس العمل. و تأويله بمشاهدة الجزاء، على خلاف الظاهر، و الآيات الواردة في مجال تجسّم الأعمال كثيرة، نكتفي بواحدة منها:

يقول سبحانه: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (3).

و الآية تعرب عن تجسم الذهب و الفضة الذي كنز بصورة النار المحمّاة، بحيث يطلق عليها أنّها نفس ما كنزوه.

ص: 262


1- المجالس و الأخبار، ص 216. نقله في الوسائل، ج 4، ص 474، الحديث 9.
2- سورة الزلزلة: الآيتان 7 و 8.
3- سورة التوبة: الآيتان 34 و 35.
5 - مشهد الميزان

إنّ هؤلاء الشهود الكثيرون يكفون في مقام القضاء و إتمام الحجة، غير أنّه سبحانه، لا يكتفي بهم، كما لا يكتفي بصحائف الأعمال التي ضبطت فيها جميع أفعال العبد جليلها، و دقيقها، بل يجسد وضع الإنسان بتوزين أعماله بالميزان الذي يضعه يوم القيامة.

يقول سبحانه: وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ (1).

و الناس بين ثقيل الميزان و خفيفه يقول سبحانه: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ * وَ مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَظْلِمُونَ (2).

غير أنّ الكلام في تبيين حقيقة هذا الميزان الذي توزن به الأعمال، فهل هو كهذه الموازين الحسية الموضوعة فوق مناضد البقالين و العطارين، أو شيء غيرها، فنقول:

لا شك أنّ النشأة الآخرة، أكمل من هذه النشأة، و أنّه لا طريق لتفهيم الإنسان حقائق ذاك العالم و غيوبه المستورة عنّا، إلاّ باستخدام الألفاظ التي يستعملها الإنسان في الأمور الحسية. و على ذلك، فلا وجه لحمل الميزان على الميزان المتعارف خصوصا بعد استعمال الميزان في القرآن في غير هذا الميزان المحسوس.

الميزان في اللغة اسم آلة يوزن بها الشيء، يقول سبحانه: وَ اَلسَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ اَلْمِيزٰانَ (3)، فاللّه سبحانه يخبر فيها عن رفع السماء و خلقها مرفوعة، كما يخبر عن أنّه وضع لكل شيء ميزانا يقدّر به، من غير فرق بين أن يكون جسما أو قولا أو فعلا أو عقيدة، فلكلّ شيء ميزان يميّز به الحقّ من

ص: 263


1- سورة الأنبياء: الآية 47.
2- سورة الأعراف: الآيتان 8 و 9.
3- سورة الرحمن: الآية 7.

الباطل، و الصدق من الكذب، و العدل من الظلم، و الرذيلة من الفضيلة.

و لأجل هذه السّعة في معنى الميزان يقول سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ (1)، فلا معنى لتخصيص الميزان هنا بما توزن به الأثقال، مع أنّ الهدف من إرسال الرسل و إنزال الكتب و الميزان هو قيام الناس بالقسط في جميع شئونهم العقيدية و السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية. و بذلك يعلم أنّ تفسير الميزان بالعدل، أو بالنبي، أو بالقرآن، كلّها تفاسير بالمصداق، فليس للميزان إلاّ معنى واحد هو: ما يوزن به الشيء، و هو يختلف حسب اختلاف الموزون من كونه جسما أو حرارة أو نورا أو ضغطا أو رطوبة أو غير ذلك.

يقول صدر المتأهلين رحمه اللّه: «و لو تأملوا قليلا في نفس معنى الميزان، و جرّدوا حقيقة معناه عن الزوائد و الخصوصيات، لعلموا أنّ حقيقة الميزان ليس يجب أن يكون البتة مما له شكل مخصوص، أو صورة جسمانية، فإنّ حقيقة معناه و روحه و سرّه، هو ما يقاس و يوزن به الشيء، و الشيء أعمّ من أن يكون جسمانيا أو غير جسماني، فكما أنّ القبّان، و ذا الكفتين و غيرهما، ميزان للأثقال، و الاسطرلاب ميزان للارتفاعات و المواقيت، و الشاقول ميزان لمعرفة الأعمدة، و المسطر ميزان لاستقامة الخطوط، فكذلك علم المنطق ميزان للفكر في العلوم النظرية، و علم النحو ميزان للإعراب و البناء، و العروض ميزان للشعر، و الحسّ ميزان لبعض المدركات، و العقل الكامل ميزان لجميع الأشياء، و بالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه، فالموازين مختلفة و الميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على أشرف الموازين و هو ميزان يوم الحساب، كما دلّ عليه قوله تعالى:

وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ (2) و هو ميزان العلوم و ميزان الأعمال القلبية، الناشئة من الأعمال البدنية»(3).

و يؤيد ذلك أنّه سبحانه يصف الميزان بكونه منزلا من جانبه سبحانه، كما في الآية السابقة و يقول: اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ، وَ اَلْمِيزٰانَ، وَ مٰا يُدْرِيكَ

ص: 264


1- سورة الحديد: الآية 25.
2- سورة الأنبياء: الآية 47.
3- الأسفار، ج 9، ص 299.

لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ قَرِيبٌ (1) .

و بما أنّ توزين الأعمال بالموازين القسط، من الأمور الغيبية التي لا يقف عليها الإنسان إلاّ بخرق الحجب و حضور ذلك المشهد، يعسّر تبيين حقيقته، و الذي يمكن أن يقال إنّه ليس من قبيل هذه الموازين الحسية التي توزن بها الأجسام الثقيلة و غيرها. و ما ذكر له من التفاسير لا يتجاوز حدّ الاحتمال.

يقول صدر المتألهين: «و أمّا القول في ميزان الأعمال، فاعلم أنّ لكل عمل من الأعمال البدنية، تأثيرا في النفس فإن كان من باب الحسنات و الطاعات، كالصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و الجهاد، و غيرها، فله تأثير في تنوير النفس و تخليصها من أسر الشهوات و جذبها من الدنيا إلى الأخرى، و من المنزل الأدنى إلى المحل الأعلى، و كذلك فلكل عمل حق مقدار معين من التأثير في التنوير و التهذيب. و إذا تضاعفت و تكثّرت الحسنات، فبقدر تكثرها و تضاعفها، يزداد مقدار التأثير و التنوير.

و كذلك لكل عمل من الأعمال السيئة قدرا معينا من التأثير في إظلام جوهر النفس و تكديرها و تعليقها بالدنيا و شهواتها، فإذا تضاعفت المعاصي و السيئات، ازدادت الظلمة و التكثيف شدّة و قدرا، و كل ذلك محجوب عن مشاهدة الخلق في الدنيا. و عند قيام الساعة و ارتفاع الحجب، ينكشف لهم حقيقة الأمر في ذلك، و يصادف كل أحد مقدار سعيه و عمله، و يرى رجحان إحدى كفتي ميزانه، و قوة مرتبة نور طاعته أو ظلمة كفرانه»(2).

و على هذه النظرية، فليس هنا ميزان وراء انكشاف السرائر و الملكات الحسنة و السيئة، و غاية ما في الأمر أنّ الإنسان يقف بعد رفع الحجاب على قربه و بعده من الربّ، و تتجسد له مرتبة نور طاعته أو ظلمة كفرانه.

و يقرب منه ما ذكره صاحب المنار، قال: «إذا كان البشر قد اخترعوا موازين للأعراض كالحرّ و البرد، أ فيعجز الخالق البارئ القادر على كل شيء،

ص: 265


1- سورة الشورى: الآية 17.
2- الأسفار، ج 9، ص 303-304.

عن وضع ميزان للأعمال النفسانية و البدنية، المعبّر عنها بالحسنات و السيئات بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق و الصفات، و النقل و العقل متفقان على أنّ الجزاء إنّما يكون بصفات النفس الثابتة، لا بمجرد ما كان سببا لها من الحركات و الأعراض الزائدة»(1).

و بما قدمنا يندفع عمدة ما أشكل على المتقدمين من المتكلمين في توزين الأعمال من أنّ العمل عرض غير باق، فكيف يمكن توزينه في الآخرة؟.

فبعد إمكان توزين الحرارة و البرودة، و الضغط و الرطوبة، و غيرها من الأعراض الزائلة، بل توزين الطاقة و الحركة و العمل التي هي الوجه الآخر للمادة، إذ ليست هي إلاّ المادة المستهلكة، و هي توزن بالآلات و تقاس، فيقال إن لهذا المحرك جهد كذا من الأحصنة، و غير ذلك من الأقيسة، فبعد إمكان وزن الأعراض و عمل الآلات، ألا يمكن وزن عمل الإنسان في الآخرة بوجه من الوجوه؟.

هذا كله حول الميزان في النشأة الأخرى، و اعلم أنّه سبحانه لم يترك الإنسان سدى، بل جعل لتشخيص صحة عقائده و أخلاقه و أعماله، موازين كالكتاب و السنّة و العقل، قال الإمام الباقر عليه السلام لأحد أصحابه: «أعرض نفسك على ما في كتاب اللّه، فإن كنت سالكا سبيله، زاهدا في تزهيده، راغبا في ترغيبه، خائفا من تخويفه، فاثبت و أبشر، فإنّه لا يضرك ما قيل فيك، و إن كنت مبائنا للقرآن، فما ذا الذي يغرّك من نفسك؟»(2).

و على ضوء هذا، فالقرآن ميزان، كما أنّ النبي ميزان، و الإمام المعصوم ميزان، فلا غرو من أن نزور عليا و نقول:

«السلام على يعسوب الإيمان و ميزان الأعمال، و سيف ذي الجلال»(3).

ص: 266


1- المنار، ج 8، 323.
2- البحار، ج 78، باب وصايا الباقر عليه السلام، ص 162.
3- مستدرك الوسائل، ج 2، ص 197.

و في الختام نشير إلى أمرين:

الأول: إنّ بعض السلف، اغترارا بالظواهر، ذهب إلى أنّ الميزان له كفّتان و لسان و ساقان. و هو تعبّد بالظاهر و تعطيل للتعقل و التدبّر في نفس القرآن الكريم. بل الأولى لهم أن يقولوا: الميزان عبارة عمّا يعرف به مقادير الأعمال و ليس علينا البحث عن كيفيته بل نؤمن به و نفوض كيفيته إلى اللّه تعالى، كما قال المحقق الدواني(1).

الثاني: المنقول عن المعتزلة(2) أنّهم ينكرون الميزان قائلين بأنّ الأعمال أعراض و قد عدمت، فلا يمكن إعادتها. و على تقدير إعادتها، لا يمكن وزنها، و على تقدير إمكانه، مقاديرها معلومة له تعالى فوزنها عبث.

يلاحظ عليه: لو صحّت النسبة، فإنّما يرد لو كان المراد من الميزان هو ما نقل عن بعض السلف. و أمّا على ما عرفت من التطور في الميزان فالشبهة مندفعة. و أمّا القول بأنّها معلومة، فالحكمة في التوزين مثل الحكمة في الحساب، الذي لا شبهة فيه.

6 - الصراط

الصراط في اللغة هو الطريق، و يغلب استعماله على الطريق الذي يوصل

ص: 267


1- شرح العقائد العضدية، ج 2، ص 264.
2- و هذه النسبة التي ذكرها المحقق الدواني في شرح العقائد العضدية غير صحيحة. قال القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: فإن قالوا: و أي فائدة في وضع الموازين التي أثبتموها، و معلوم أنّه إنّما يوضع ليوزن به الشيء، و لا شيء هناك يدخله الوزن و يتأتى فيه، فإنّ أعمال العباد و طاعاتهم و معاصيهم أعراض لا يتصور فيها الوزن. قيل له: ليس يمتنع أن يجعل اللّه تعالى النور علما للطاعة، و الظلم أمارة للمعصية. ثم يجعل النور في إحدى الكفتين، و الظلم في الكفّة الأخرى، فإن ترجحت كفّة النور حكم لصاحبه بالثواب، و إن ترجحت الأخرى حكم له بالأخرى... إلى آخر كلامه... (شرح الأصول الخمسة، ص 735) نعم، القاضي يتخيل أنّ المراد من الميزان هو المتعارف بيننا، و قد عرفت ما في ذلك.

الإنسان إلى الخير، بخلاف السبيل، فإنّه يطلق على كل سبيل يتوسل به خيرا كان أم شرّا(1)و إذا كان الصراط بمعنى الطريق، فلكل موجود من الموجودات الإمكانية طريق، لو سلكه، يصل إلى كماله الممكن من غير فرق بين الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان.

و هذا ما يسمّى بالصراط التكويني، و هو مجموعة القوانين السائدة على الموجود الإمكاني، بأمر منه سبحانه، التي لو تخلّف عنها لهلك.

و هناك صراط آخر يختص بالإنسان و هو الصراط التشريعي، أعني القوانين و الأحكام الشرعية التي فرضها سبحانه على عباده، و هداهم إليها، فهم بين شاكر و كفور، و قد نبّه القرآن إلى الصراط التشريعي في عدّة آيات، منها:

1 - قوله تعالى: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (2).

2 - قوله تعالى: وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (3).

3 - قوله تعالى: وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْحَمِيدِ (4).

و في مقابل هذا الصراط التشريعي، طريق آخر يباينه في المقصد و المآل، و قائده هو الشيطان و من تبعه، يقول سبحانه: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّٰهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلىٰ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ (5).

و في ضوء هذا يتبين أنّ للّه سبحانه في هذه النشأة الدنيوية، صراطين

ص: 268


1- مفردات الراغب، مادة سبل.
2- سورة الدهر: الآية 3.
3- سورة الأنعام: الآية 153.
4- سورة الحج: الآية 24.
5- سورة الحج: الآية 4.

أحدهما تكويني، في سلوكه كمال الموجود و بقاؤه، و الآخر تشريعي يختصّ بالإنسان، فيه فوزه و سعادته.

نعم، يستظهر من الذكر الحكيم، و يدلّ عليه صريح الروايات، وجود صراط آخر، في النشأة الأخروية يسلكه كل مؤمن و كافر.

يقول سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيٰاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا... وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّٰ وٰارِدُهٰا كٰانَ عَلىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (1).

و قد اختلف المفسّرون في معنى الورود بين قائل بأنّ المراد منه هو الوصول إليها، و الإشراف عليها لا الدخول، و قائل بأنّ المراد دخولها. و على كل تقدير، فلا مناص للمسلم من الاعتقاد بوجود صراط في النشأة الأخروية، و هو طريق المؤمن إلى الجنة، و الكافر إلى النار(2).

و قد وصف الصراط في الروايات بأنّه أدقّ من الشّعر، و أحدّ من السيف.

غير أنّ البحث يتركز على التعرّف على حقيقة هذا الصراط بالمقدار الممكن، و إن كان الوقوف على حقيقته كما هي، غير ممكنة إلاّ بعد رفع الحجب.

فنقول: لا شك أنّ هناك صلة بين الصراطين الدنيوي و الأخروي من وجوه:

1 - إنّ سالك الصراط الدنيوي بهداية. قيادة من النبي، يسلك الصراط الأخروي بنفس تلك الهداية و يجتازه بأمان إلى الجنة. و سالكه بهداية الشيطان و ولايته، يسلك الصراط الأخروي، بنفس تلك الهداية، فتزل قدمه و يهوي في عذاب السعير(3).

2 - إنّ قيام الإنسان بالوظائف الإلهية، في مجالي العقيدة و العمل، أمر

ص: 269


1- سورة مريم: الآيات 68-71.
2- تفسير القمي، ج 1، ص 29، و في أخرى بزيادة: «و أظلم من الليل».
3- قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّٰهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ، وَ يَهْدِيهِ إِلىٰ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ (الحج: الآية 4).

صعب أشبه بسلوك طريق أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف. فالفائز من الناس، من كانت له قدم راسخة في مجال الإيمان و العقيدة، و تثبّت في مقام العمل و الطاعة، و من المعلوم أنّ الفوز بهذه السعادة ليس أمرا سهلا، فكم من إنسان ضلّ في طريق العقيدة، و عبد النفس و الشيطان و الهوى، مكان عبادة اللّه سبحانه، و كم من إنسان فشل في مقام الطاعة و العمل بالوظائف الإلهية.

فإذا كان هذا حال الصراط الدنيوي من حيث الصعوبة، و الدقة، فهكذا حال الصراط الأخروي، و إلى ذلك يشير الإمام الحسن بن علي العسكري، عليهما السلام في حديثه عن علي بن أبي طالب، عليه السلام قال:

«و الصّراط المستقيم، صراطان، صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، أمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو، و ارتفع عن التقصير، و استقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، و أمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة»(1)فلو قال قائل بأنّ الصراط الأخروي تمثّل لذلك الصراط الدنيوي و تجسّد له، فلم يجازف.

3 - إنّ لصدر المتأهلين كلاما في تبيين المراد من كون الصراط أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف.

قال: «إنّ كمال الإنسان منوط باستعمال قوتيه، أمّا القوة النظرية فلإصابة الحق و نور اليقين في سلوك الأنظار الدقيقة التي هي في الدقة و اللطافة أدقّ من الشعر - إذا تمثلت - بكثير. و أمّا القوة العملية، فبتعديل القوتين الشهوية و الغضبية، لتحصل للنفس حالة اعتدالية متوسطة بين الأطراف غاية التوسط، لأنّ الأطراف كلّها مذمومة، و التوسط الحقيقي بين الأطراف المتضادة منشأ الخلاص عن الجحيم. و هو أحدّ من السيف، فإذا الصراط له وجهان:

أحدهما أدقّ من الشعر، و الآخر أحدّ من السيف»(2).

ص: 270


1- معاني الأخبار، ص 33.
2- الأسفار، ج 9، ص 285.

و على هذا البيان فالدقة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل النظري، و الحدّة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل العملي. و ما في الآخرة تجسد للصراط الدنيوي في الدقة و الحدة، و لا حقيقة له إلاّ ما كان للإنسان في هذه الدنيا.

4 - إنّ للإيمان و اليقين درجات كما أنّ للقيام بالوظائف العملية مراتب، فللناس في سلوك الصراط منازل و درجات. فهم بين مخلص للّه سبحانه في دينه، لا يرى شيئا إلاّ و يرى اللّه قبله، و بين مقصّر في إعمال القوى النظرية و العملية، كما أنّ بينهما مراتب متوسطة، فالكل يسلك الصراط في النشأة الأخرى، في السرعة و البطء، حسب شدّة سلوكه للصراط الدنيوي، و لأجل ذلك تضافرت روايات عن الفريقين باختلاف مرور الناس، حسب اختلافهم في سلوك صراط الدنيا، قال الإمام الصادق (ع): «النّاس يمرّون على الصراط طبقات، و الصراط أدقّ من الشعر و من حدّ السيف، فمنهم من يمرّ مثل البرق، و منهم مثل عدو الفرس، و منهم من يمرّ حبوا، و منهم من يمرّ مشيا، و منهم من يمرّ متعلّقا قد تأخذ النار منه شيئا و تترك شيئا»(1).

فبقدر الكمال الذي يكتسبه الإنسان في هذه النشأة، يتثبت في سلوك الصراط الأخروي، و لا تزل قدمه، يقول سبحانه: وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرٰاطِ لَنٰاكِبُونَ (2).

هذا ما يقتضيه التدبّر في الآيات و الروايات الواردة حول الصراط، و مع ذلك كلّه ليس معنى كون الصراط الأخروي تجسما للصراط الدنيوي، أو سلوكه تمثّلا لسلوكه، إنكار وجود صراط فوق الجحيم، لا محيص لكل إنسان عن سلوكه، بل مقتضي التعبد بظواهر القرآن و الحديث وجود ذلك الصراط بمعناه الحقيقي، و إن لم نفهم حقيقته، و لا بأس بإتمام الكلام بحديث جابر، و هو ينقل عن النبي أنّه قال:

ص: 271


1- أمالي الصدوق، المجلس 33، ص 107، لاحظ الدر المنثور، ج 4، ص 291.
2- سورة المؤمنون: الآيتان 73 و 74.

«لا يبقى برّ و لا فاجر إلاّ دخلها، فتكون على المؤمن بردا و سلاما، كما كانت على إبراهيم، حتى أنّ للنار ضجيجا من بردهم، ثم ينجّي اللّه الذين اتّقوا و يذر الظالمين فيها جثيّا»(1).

7 - الأعراف

يقول سبحانه: وَ بَيْنَهُمٰا حِجٰابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ وَ نٰادَوْا أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهٰا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ * وَ إِذٰا صُرِفَتْ أَبْصٰارُهُمْ تِلْقٰاءَ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ، قٰالُوا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ * وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْأَعْرٰافِ، رِجٰالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ، قٰالُوا مٰا أَغْنىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (2).

الحجاب هو الستر المتخلل بين الشيئين يستر أحدهما من الآخر، و الضمير في قوله: بَيْنَهُمٰا ، راجع إلى أصحاب الجنة و النار، المذكورين في الآية المتقدمة.

و الأعراف أعالي الحجاب و التلال من الرمل، و العرف للديك، و للفرس، هو الشعر فوق رقبته، و أعلى كل شيء، ففيه معنى العلو، و الآية تدلّ على أنّ في أعالي الحجاب الذي بين الجنة و النار، رجال يعرفون أهل الجنة و النّار بعلائمهم و هم مشرفون على الجانبين، لارتفاع موضعهم. و ظاهر السياق أنّ هؤلاء الرجال منحازون عن الطائفتين متمايزون عن جماعتهم، فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنة، و أصحاب النار، و أصحاب الأعراف.

ثم إنّه وقع الكلام في معرفة من هم هؤلاء الرجال(3)، و التدبّر في الآيات يعطي أنّهم جمع من عباد اللّه من غير الملائكة، هم أرفع مقاما و أعلى منزلة من

ص: 272


1- الدر المنثور، ج 4، ص 280.
2- سورة الأعراف: الآيات 46-48.
3- اختلف المفسرون في ذلك على اثني عشر قولا.

سائر الجمع، يعرفون عامة الفريقين، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة، و لهم أن يشهدوا، و لهم أن يشفعوا، و لهم أن يأمروا و يقضوا، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

و قد تضافرت الروايات على أنّ المراد من الرجال هم الأئمة من آل محمد صلوات اللّه عليهم.

قال الصدوق: «اعتقادنا في الأعراف أنّه سور بين الجنة و النار عليه رجال يعرفون كلاّ بسيماهم، و الرجال هم النبي و أوصياؤه»(1).

8 - لواء الحمد

إذا كان يوم القيامة، و حشر الناس على صعيد واحد، و تميّز الفريقان، يعطى النبي الأكرم لواء الحمد، و يتقدّم به و يأخذ مسيره و من خلفه إلى الجنة، و في روايات الإمامية أنّ النبي الأكرم يدفعه إلى وصيّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

و قد ورد في غير واحد من الروايات ذكر لواء الحمد، و أنّه مكتوب عليه:

«المفلحون هم الفائزون بالجنة». و أنّه يمشي عليّ و القوم (أهل الجنة) تحت لوائه حتى يدخل الجنة»(2).

و روى أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي نضرة قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة، فقال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «إنّه لم يكن نبي إلاّ له دعوة قد تنجزها في الدنيا، و إنّي قد اختبأت دعوتي، شفاعة لأمتي، و أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر، و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر، و بيدي لواء الحمد و لا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي و لا فخر...»(3).

ص: 273


1- لاحظ بحار الأنوار، ج 8، ص 329-340. و في بعض الروايات: «يوقف كل نبي و كل خليفة نبي»، و عند ذلك يكون ذكر النبي و الأئمة من باب تطبيق الكلي على المصاديق المثلى.
2- لاحظ بحار الأنوار، ج 8، باب 18، الأحاديث 1-12.
3- مسند ابن حنبل، ج 1، ص 281، و ص 295، و ج 3، ص 144.
9 - الحوض

قال الصدوق: «اعتقادنا في الحوض أنّه حق و أنّ الوالي عليه يوم القيامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يسقي منه أولياءه، و يذود عنه أعداءه. من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا»(1).

روى الفريقان روايات حول الحوض: روى أبو حازم عن سهل بن سعد، قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و آله يقول: أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب، و من شرب لم يظمأ أبدا. و ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفونني، ثم يحال بينه و بينهم»(2).

روى الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من أراد أن يتخلص من هول يوم القيامة فليتول وليّي، و ليتّبع وصيي و خليفتي من بعدي علي بن أبي طالب، فإنّه صاحب حوضي، يذود عنه أعداءه، و يسقي أولياءه. فمن لم يسق منه لم يزل عطشانا و لم يرو أبدا. و من سقي منه شربة، لم يشق و لم يظمأ»(3).

و قد تقدم قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله - المنقول متواترا - في خطبته يوم الغدير حيث قال:

«فإني فرط على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى مناد: «و ما الثّقلان يا رسول اللّه»؟ قال: «الثّقل الأكبر، كتاب اللّه، و الآخر الأصغر عترتي، و إن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، و لا تقصروا عنهما فتهلكوا»(4).

ص: 274


1- عقائد الصدوق، ص 85.
2- جامع الأصول، ص 119-121 و قد نقل روايات كثيرة حول الحوض.
3- بحار الأنوار، ج 8، ص 19، نقلا عن أمالي الصدوق، ص 168.
4- لاحظ في الوقوف على مصادره، ما دبّجه قلم المتتبع الكبير السيد مير حامد حسين الهندي، فقد جمع أسناده و بحث فيها و في دلالته في ستة مجلدات من كتابه «العبقات». و لاحظ كتاب المراجعات، للإمام شرف الدين، المراجعة الثانية.

مباحث المعاد

(10) المعاد الجسماني و الروحاني
اشارة

قد تعرفت على الدلائل التي أفادت ضرورة وقوع المعاد، كما تعرفت على الآيات التي تشير إلى تلك الدلائل، لكن يقع الكلام في كيفية المعاد، و هل هو جسماني أو روحاني، أو جسماني و روحاني معا. و قبل بيان المراد من الجسمانية و الروحانية، نشير إلى كلمات تذكر الأقوال و الآراء الموجودة في الكيفية.

1 - قال الرازي: «اختلفت أقوال أهل العالم في أمر المعاد على وجوه:

(أ) أنّ المعاد ليس إلا للنفس، و هو مذهب الجمهور من الفلاسفة.

(ب) - أن المعاد ليس إلا لهذا البدن، و هو قول نفاة النفس الناطقة، و هم أكثر أهل الإسلام.

(ج) أنّ المعاد للأمرين، و هم طائفة كبيرة من المسلمين»(1).

2 - و قال العلامة الحلّي: «اتفق المسلمون على إعادة الأجسام خلافا للفلاسفة»(2).

3 - و قال الدواني: «المعاد الجسماني هو المتبادر من إطلاق أهل الشرع، إذ

ص: 275


1- نهاية العقول. نقله المجلسي في البحار، لاحظ ج 7، ص 48.
2- شرح الياقوت، ص 191.

هو الذي يجب الاعتقاد به، و يكفر من أنكره، و هو حق، لشهادة نصوص القرآن في مواضع متعددة بحيث لا تقبل التأويل، كقوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسٰانُ... إلى قوله: بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (1). قال المفسرون نزلت هذه الآية في أبيّ بن كعب فإنه خاصم رسول اللّه و أتاه بعظم قد رمّ و بلى، ففتّه بيده و قال: يا محمد، أ ترى اللّه يحيي هذه بعد ما رمّت، قال: نعم، و يبعثك و يدخلك النار.

«و هذا مما يقلع عرق التأويل بالكلية، و لذلك قال الإمام (الرازي): إنه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي و إنكار الحشر الجسماني»(2).

4 - قال صدر المتألهين: اتفق المحققون من الفلاسفة و المليّين على أحقّية المعاد، و ثبوت النشأة الباقية، لكنهم اختلفوا في كيفيته، فذهب جمهور الإسلاميين و عامة الفقهاء و أصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط، بناء على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم، و الماء في الورد، و الزيت في الزيتونة، و ذهب جمهور الفلاسفة و أتباع المشّائين إلى أنّه روحاني أي عقلي فقط لأنّ البدن ينعدم بصوره و أعراضه لقطع تعلق النفس بها، فلا يعاد بشخصه تارة أخرى، إذ المعدوم لا يعاد، و النفس جوهر باق لا سبيل للفناء إليه، فتعود إلى عالم المفارقات لقطع التعلقات بالموت الطبيعي.

و ذهب كثير من أكابر الحكماء و مشايخ العرفاء و جماعة من المتكلمين كالغزالي و الكعبي و الحليمي و الراغب الأصفهاني و كثير من أصحابنا الإمامية كالشيخ المفيد، و أبي جعفر الطوسي، و السيد المرتضى، و المحقق الطوسي، و العلامة الحلّي، رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين إلى القول بالمعادين، ذهابا إلى أنّ النفس مجرّدة تعود إلى البدن(3).

قال العلامة المجلسي: «اعلم أنّ القول بالمعاد الجسماني مما اتفق عليه جميع المليين و هو من ضروريات الدين و منكره خارج من عداد المسلمين، و الآيات الكريمة على ذلك ناصّة لا يعقل تأويلها، و الأخبار فيه متواترة لا يمكن ردّها و لا

ص: 276


1- سورة يس: الآيات 77-79.
2- شرح العقائد العضدية، ج 2، ص 247.
3- الأسفار، ج 9، ص 165.

الطعن فيها»(1)إن القضاء البات في هذه الآراء يتوقف على معرفة ملاك توصيف المعاد بالجسماني و الروحاني، و إليك بيانه.

ملاك كون المعاد جسمانيا أو روحانيا

إن لتوصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني، أو هما معا، ملاكين، هما:

الملاك الأول: ما يرجع إلى اتخاذ موقف حاسم في حقيقة الإنسان، و أنّها ما هي، فلو قلنا بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل الجسماني، و ليس للروح حقيقة وراء التفاعلات و الانفعالات المادية الفيزيائية و الكيميائية، و هي سارية في البدن سريان النار في الفحم، و الماء في الورد - لو قلنا بهذا - فلا مناص للقائل بالمعاد من توصيفه بكونه جسمانيا فقط، إذ ليس هناك وراء الجسم، و التأثير الماديين، شيء آخر حتى يعاد.

و أما لو قلنا بأنّ وراء الجسم، و وراء التفاعلات المادية، جوهر حقيقي مدرك، له تعلق بالبدن، تعلّقا تدبيريا ما دامت العلقة باقية، فإذا زالت يكون له البقاء و لا يتطرق إليه الفناء. فلو قلنا بذلك، ثم قلنا بأنّه سبحانه يبعث الروح مع البدن، فالمعاد يكون جسمانيا من جهة، و روحانيا من جهة أخرى، لكون المبعوث ممزوجا من شيئين و مؤلّفا من أمرين، و لكل معاد.

و أما لو قلنا بأنّ الروح - بعد مفارقتها البدن - لا ترجع إليه، لعلة ما، فعندئذ تبعث الروح وحدها من دون تعلّقها بالبدن، فيكون المعاد روحانيا فقط، و هذا الملاك هو الذي يلوح من كلام صدر المتألهين، و صهره عبد الرزّاق اللاهيجي(2).

ص: 277


1- بحار الأنوار، ج 7، ص 46. و لاحظ حق اليقين، للسيد شبّر، ج 2، ص 52. و لا نطيل الكلام بنقل كلمات الآخرين.
2- الأسفار، ج 9، ص 165. و «گوهر مراد» المقالة الثالثة، الباب الرابع، ص 449. (فارسي).

الملاك الثاني: إنّ هناك ملاكا آخر لكون المعاد جسمانيا، و روحانيا، يلوح ذلك من كلمات الشيخ الرئيس، و هو تقسيم المعاد إلى الجسماني و الروحاني، حسب الثواب و العقاب الموعودين: فلو قلنا إنّ العذاب و العقاب ينحصر ان بالجسماني منهما، كنعيم الجنّة و حرّ الجحيم، فيكون المعاد جسمانيا، فقط، و أما لو قلنا بأنّ هناك - وراء ذلك - ثوابا و عقابا عقليين لا يمتّان إلى البدن بصلة، بل يلتذ و يعاقب بهما الروح فقط، فيكون المعاد، وراء كونه جسمانيا، روحانيا أيضا، و بعبارة أخرى: التذاذ النفس و تألّمها باللذات و الآلام العقلية، فهذا ملاك كون المعاد، روحانيا.

قال الشيخ الرئيس: «يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع، و لا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوة، و هو الذي للبدن عند البعث، و خيراته و شروره معلوم لا يحتاج إلى أن يعلم، و قد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيدنا و مولانا محمد صلى اللّه عليه و آله، حال السعادة و الشقاء التي بحسب البدن.

و منه ما هو معلوم مدرك بالعقل و القياس البرهاني، و قد صدقته النبوة و هو السعادة و الشقاوة الثابتتان بالقياس إلى نفس الأمر، و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصورهما الآن. و الحكماء الإلهيون، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أكثر من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يتلفتون إلى تلك و إن أعطوها، فلا يستعظمونها في جنب السعادة التي هي مقاربة الحق الأول»(1).

ص: 278


1- النجاة، ص 291. و الشفاء، قسم الإلهيات، المقالة التاسعة، الفصل 7. و الظاهر من كلام الشيخ الرئيس أنه لا سبيل إلى المعاد الجسماني إلا بالشريعة و تصديق خبر النبوة، و قد فسّر كلامه بأنه لا يمكن إثبات المعاد الجسماني و عود البدن مع الروح في النشأة الأخرى بالبرهان، و إنما الطريق إليه هو الشريعة. و لكنه تفسير خاطئ، كيف و الأقلون من هذا الشيخ الإلهي مرتبة يثبتون ذلك بالبراهين الفلسفية، و إنما مراده من المعاد الجسماني هو اللذات و الآلام الجسمانية من الجنة و نعيمها و النار و لهيبها، فإن إثبات خصوص هذه اللذات يرجع إلى السمع و عالم الوحي، و لو لا السمع لما قدرنا على الحكم بأنّ للّه سبحانه في النشأة الأخرى هذه النعم و النقم، بل أقصى ما يمكن إثباته هو أن حشر الأجساد يمتنع أن يكون بلا غاية و بلا جهة، أو بلا ثواب و لا عقاب، و أما أن الثواب هو نفس ما ورد في الكتاب من الحور العين و الفواكه و الثمار و غيرها، أو أنّ العقاب هو النار و لهيبها،

و قال الإمام الرازي: «أمّا القائلون بالمعاد الروحاني و الجسماني معا، فقد أرادوا أن يجمعوا بين الحكمة و الشريعة فقالوا: دلّ العقل على أنّ سعادة الأرواح بمعرفة اللّه تعالى و محبّته، و أنّ سعادة الأجساد في إدراك المحسوسات، و الجمع بين هاتين السعادتين في هذه الحياة غير ممكن، لأن الإنسان مع استغراقه في تجلّي أنوار عالم القدس، لا يمكنه أن يلتفت إلى شيء من اللذات الروحانية، و إنما تعذر هذا الجمع، لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم، فإذا فارقت بالموت، و استمدت من عالم القدس و الطهارة، قويت و صارت قادرة على الجمع بين الأمرين، و لا شبهة في أنّ هذه الحالة هي الحالة القصوى من مراتب السعادات»(1).

و قال الحكيم السبزواري: «القول الفحل و الرأي الجزل، هو الجمع بين المعادين: لأن الإنسان بدن و نفس، و إن شئت قلت نفس و عقل، فللبدن كمال، و مجازاة، و للنفس كمال و مجازة و كذا للنفس و قواها الجزئية كمالات و غايات تناسبها و للعقل و القوى الكلية كمال و غاية، و لأنّ أكثر الناس لا يناسبهم الغايات الروحانية العقلية، فيلزم التعطيل في حقهم في القول بالروحاني فقط، و في القول بالجسماني فقط يلزم في الأقلين من الخواص و الأخصّين»(2).

تحليل الملاكين في ضوء القرآن الكريم
اشارة

إذا كان الملاك في توصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني هو كون المحشور هو الجسم الحي وحده أو الروح وحدها، فالقرآن الكريم يصدّق الأول و ينكر الثاني، و ذلك أنّ من أمعن النظر في الآيات الواردة حول المعاد يقف على أنّ المعاد

ص: 279


1- شرح العقائد العضدية للمحقق الدواني، ج 1، ص 262-263.
2- الأسفار، ج 9، ص 165، تعليقة المحقق السبزواري.

الذي يصر عليه القرآن هو عود البدن الذي كان الإنسان يعيش به في هذه الدنيا، و لا يصدّق عود الروح وحدها فقط. و يظهر ذلك من ملاحظة أصناف الآيات الواردة حول المعاد، و نحن نأتي فيما يلي بلفيف منها:

1 - ما ورد في قصة إبراهيم و بقرة بني إسرائيل و إحياء عزير، و أمّة من بني إسرائيل و أصحاب الكهف(1).

2 - الآيات التي تصرح بأنّ الإنسان خلق من الأرض و إليها يعاد، و منها يخرج.

يقول سبحانه: مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ (2).

و يقول سبحانه: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهٰا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرٰاجاً (3).

و يقول سبحانه: ثُمَّ إِذٰا دَعٰاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذٰا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (4).

و يقول سبحانه: قٰالَ فِيهٰا تَحْيَوْنَ وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ (5).

3 - الآيات التي تدل على أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث و القبور، مثل قوله سبحانه: فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (6).

و قوله تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ (7).

و قوله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ سِرٰاعاً كَأَنَّهُمْ إِلىٰ نُصُبٍ

ص: 280


1- لاحظ البحث الخامس من مباحث المعاد، حيث ذكرنا نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة.
2- سورة طه: الآية 55.
3- سورة نوح: الآية 18.
4- سورة الروم: الآية 25.
5- سورة الأعراف: الآية 25.
6- سورة يس: الآية 51.
7- سورة القمر: الآية 7.

يُوفِضُونَ (1) .

و قوله تعالى: أَنَّ اَللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ (2).

و قوله تعالى: وَ إِذَا اَلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (3).

و قوله تعالى: أَ فَلاٰ يَعْلَمُ إِذٰا بُعْثِرَ مٰا فِي اَلْقُبُورِ (4).

4 - ما يدل على شهادة الأعضاء، قال سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (5).

و قال تعالى: وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (6).

و قال تعالى: حَتّٰى إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ (7).

5 - ما يدل على تبديل الجلود بعد نضجها و تقطّع الأمعاء.

قال سبحانه: كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا، لِيَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ (8).

و قال سبحانه: وَ سُقُوا مٰاءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعٰاءَهُمْ (9).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في مواقف القيامة، و مشاهدها، و نعيم الجنة و عذاب الجحيم، التي لا تدع لمريب ريبا في أنّ الإنسان سوف يبعث بهذا

ص: 281


1- سورة المعارج: الآية 43.
2- سورة الحج: الآية 7.
3- سورة الانفطار: الآية 4.
4- سورة العاديات: الآية 9.
5- سورة النور: الآية 24.
6- سورة يس: الآية 65.
7- سورة فصلت: الآية 41.
8- سورة النساء: الآية 56.
9- سورة محمد: الآية 15.

البدن العنصري الذي تكون له الحياة بالنحو الذي كانت له في الدنيا، و هذا مما لا نشك فيه.

هذا كله حول الملاك الأوّل، و إليك البحث في الملاك الثاني الذي حاصله أنّ اتصاف المعاد بالجسماني أو الروحاني، يرجع إلى كون الثواب و العقاب جسمانيين فقط، أو أنّ هناك لذات و آلام روحية تلتذ بها النفس أو تتألّم، و لا دخالة للجسم في حصول اللّذة و الألم.

إن القرآن الكريم يصدّق كلا المعادين بهذا الملاك حيث يثبت اللذات و الآلام الجسمانية و الروحانية، و لا يخص الثواب و العقاب بما يعرض للنفس عن طريق البدن، و بواسطته. و إليك ما يدل على ذلك:

أما ما يدل على الثواب و العقاب الجسمانيين، فحدّث عنه و لا حرج، فالجنة و النار و ما فيهما من النعم و النقم يرجعان إلى اللذات و الآلام الجسمانية. و إنما الكلام فيما يدل من الآيات على اللذات و الآلام الروحية فقط، و فيما يلي نذكر بعضا منها:

1 - لذة رضاء المعبود

يقول سبحانه: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا، وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ أَكْبَرُ، ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (1).

فترى أنه سبحانه يجعل رضوان اللّه في مقابل سائر اللّذات الجسمانية، و يصفه بكونه أكبر من الأولى، و أنّه هو الفوز العظيم.

و من المعلوم أنّ هذا النوع من اللّذة لا يرجع إلى الجسم، بل هي لذّة تدرك بالعقل، و الروح في درجتها القصوى.

و هنا كلمة مروية عن الإمام الطاهر علي بن الحسين قال: إذا صار أهل

ص: 282


1- سورة التوبة: الآية 72.

الجنة، و دخل وليّ اللّه إلى جنانه و مساكنه، و اتكأ كل مؤمن منهم على أريكته، حفته خدّامه و تهدلت عليه الثمار، و تفجرت حوله العيون، و جرت من تحته الأنهار، و بسطت له الزرابي، و صففت له النمارق و أتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك، قال: و يخرجون عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء اللّه.

ثم إنّ الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي و أهل طاعتي و سكان جنتي في جواري، هل أنبئكم بخير مما أنتم فيه، فيقولون ربنا و أي شيء خير مما نحن فيه، نحن فيما اشتهت أنفسنا، و لذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم، قال فيعود عليهم بالقول، فيقولوا: ربّنا نعم، فائتنا بخير مما نحن فيه، فيقول لهم تبارك و تعالى: رضائي عنكم و محبّتي لكم خير و أعظم مما أنتم فيه، قال: فيقولون نعم يا ربنا، رضاك عنا و محبتك لنا خير لنا و أطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين هذه الآية: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (1).

2 - ألم الابتعاد عن رحمة اللّه؟

إذا كان إدراك رضوان المعبود أعظم اللذات العقلية، فإدراك الابتعاد عن رحمة اللّه التي وسعت كلّ شيء، من أعظم الآلام العقلية. و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يوعد المنافقين و الكفار بالنّار، و يعقّبه بلعنهم. فكأنّ هناك ألمين: جسمي هو التعذيب بالنار، و عقلي، و هو إدراكهم ألم الابتعاد عن رحمته.

يقول سبحانه: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْكُفّٰارَ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ (2).

و يظهر عظم هذا الألم، بوقوع هذه الآية قبل آية الرضوان فكأنّ الآيتين

ص: 283


1- بحار الأنوار، ج 8، ص 140، كتاب العدل و المعاد، الحديث 57.
2- سورة التوبة: الآية 68.

تعربان عن اللذات و الآلام العقلية التي تدركها الروح بلا حاجة إلى الجسم و البدن.

3 - الحسرة يوم القيامة

يقول سبحانه: إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا، وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبٰابُ * وَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنٰا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمٰا تَبَرَّؤُا مِنّٰا كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ حَسَرٰاتٍ عَلَيْهِمْ، وَ مٰا هُمْ بِخٰارِجِينَ مِنَ اَلنّٰارِ (1).

إن أصحاب الجحيم عند ما يقفون على درجات الجنة و مقامات أصحابها، و ما حلّ بهم من السعادة و الكرامة و الراحة و الاستظلال برحمة اللّه تبارك و تعالى، و تفرغهم عن كل همّ و حزن، ثم ينظرون إلى ما حلّ بهم من عذاب أليم، و طعام من غسلين(2)، و ضريع(3)، و شراب من حميم(4)، يتحسرون على ما ضيّعوا من الفرض، و يندمون على ما فوّتوا في الدنيا و فرطوا في حياتهم، و لكنها الحسرة في وقت لا تنفع فيه.

و هذا النوع من العذاب - أعني الحسرة - أشد على النفس مما يحل بها من عذاب البدن، و لأجل ذلك يسمى يوم القيامة بيوم الحسرة، قال سبحانه:

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ (5) .

روى أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إذا دخل أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار، قيل يا أهل الجنة، فيشرئبون و ينظرون، و قيل يا أهل النار، فيشرئبون و ينظرون، فيجاء بالموت، كأنّه كبش أملح، فيقال لهم: تعرفون الموت، فيقولون: «هذا، هذا» و كلّ قد عرفه،

ص: 284


1- سورة البقرة: الآيتان 166 و 167.
2- سورة الحاقة: الآية 36.
3- سورة الغاشية: الآية 6.
4- سورة الأنعام: الآية 70.
5- سورة مريم: الآية 39.

قال: فيقدم فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، و يا أهل النار خلود فلا موت. قال: و ذلك قوله: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ .

و روي هذا الحديث عن الإمامين الصادقين عليهما السلام، بزيادة:

«فيفرح أهل الجنة فرحا، لو كان أحد يومئذ ميتا، لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة، لو كان أحد ميّتا، لماتوا»(1).

4 - لقاء اللّه و مشاهدته العقلية

إن هناك لفيفا من الآيات تعرب عن تمكن المؤمن من لقائه سبحانه يوم القيامة، يقول سبحانه: فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (2).

و هذه الآيات الوافرة تشير إلى لقائه سبحانه. و لكن المفسرين - تنزيها له سبحانه عن الجسم و الجسمانيات - أوّلوها إلى لقاء جزائه سبحانه و ثوابه و عقابه، و رضاه و سخطه، و هذا المعنى مع صحته في نفسه، و مع التركيز على تنزيهه سبحانه عن المشاهدة بالعيون المادية، لا يمكن أن يكون معربا عن كلّ ما تهدف إليه الآية، فإن لهذه الآيات معنى دقيقا يدركه العارفون الراسخون في معرفته سبحانه، القائلين بأنّ المعرفة، بذر المشاهدة، لكن لا مشاهدة جسمانية، بل مشاهدة قلبية و عقلية، و لمّا كان بيان هذا النوع من اللّذة العقلية، خارجا عن موضوع الكتاب نقتصر على هذا المقدار. و من أراد التفصيل فليرجع إلى محله(3).

ص: 285


1- مجمع البيان، ج 3، ص 515.
2- سورة الكهف: الآية 110، ورد هذا المضمون في الذكر الحكيم في سور كثيرة منها: الأنعام: 31، و 154، يونس: 7 و 11 و 15 و 45، العنكبوت: 5 و 23، السجدة: 10 و 23، فصلت: الآية 54.
3- ما ذكرناه نماذج من اللذات و الآلام الروحية الدالة على أن الثواب و العقاب ليسا محصورين في الجسماني منهما، و من أراد التوسع فليلاحظ كتاب «لقاء اللّه»، للعارف الكبير، الشيخ جواد الملكي، (م 1344). و هناك روايات وردت حول الموضوع، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى توحيد الصدوق، و إلى الموسوعة القرآنية: «مفاهيم القرآن».
المعاد الروحاني عند الحكماء

قد وقفت على تضافر آيات الكتاب و أحاديث السنّة على عدم حصر المعاد في الجسماني، كما تعرفت على حكم العقل في ذلك المجال، و أنّ حصره في المعاد الجسماني يخالف رحمة اللّه الواسعة و حكمته البالغة، و على ذلك فالشرع و العقل متعاضدان على أنّ هناك معادا غير المعاد الجسماني، و لكن يجب إلفات نظر الباحث في المقام إلى نكتة و هي أنّ المعاد الروحاني في الكتاب و السنّة يرجع إلى اللذات و الآلام الروحية التي تلتذ بها النفس أو تتألم من دون حاجة إلى آلة جسمانية. و قد عرفت ما هو الوارد في الكتاب في هذا المجال من رضوانه سبحانه و لقائه و الابتعاد عن رحمته و إحاطة الحسرة بالإنسان في تلك النشأة، فهذه هي حقيقة المعاد الروحاني التي تتلخص في غير اللذات و الآلام الجسمانية، و على هذا فهو يعمّ جميع أهل الجنة و النار من غير فرق بين الكاملين و المتوسطين.

و على الجملة هناك لذّات روحية و آلام كذلك تحيط أهل الجنّة و النار من غير فرق بين طبقاتهم. و أمّا المعاد الروحاني عند الحكماء، فهو يختلف عمّا وقفنا عليه في الكتاب بأمرين:

الأول: إنّهم يخصّون المعاد الروحاني باللذات العقلية أي درك العقل الأمور الملائمة و المنافرة له، فإن اللذة عندهم على وجه الإطلاق تفسّر بإدراك الملائم من حيث هو ملائم، كالحلو من المذوقات. و الملائم للنفس الناطقة، إدراك المعقولات بأن تتمكن النفس من تصوّر ما يمكن أن يدرك من الحق تعالى، و أنه واجب الوجود، بريء عن النقائص و الشرور و الآفات، منبع فيضان الخير على الوجه الأصوب، ثم إدراك ما يترتب بعده من العقول و النفوس المجرّدة و الأجرام السماوية و الكائنات العنصرية حتى تصير النفس بحيث ترتسم فيها صور جميع الموجودات على الترتيب الذي هو لها.

و على هذا فإدراك الحس، الملائم للحس، معاد جسماني. و إدراك العقل، الملائم له، من الوجودات العالية، معاد روحاني.

و هذه العلوم و إن كانت حاصلة لبعض النفوس في هذه النشأة إلا أنّها معرفة

ص: 286

ناقصة تتجلى بعد الموت في النشأة الأخرى بصورة كاملة برفع الموانع و الحجب، فكأنّ المعرفة العقلية بذر المشاهدة. فتلتذ النفوس في النشأة الأخرى بإدراك الأكمل فالأكمل.

و هذا كما ترى غير ما أشار إليه القرآن من اللذات الروحية، نعم لا مانع من ثبوت كلا النوعين من المعاد الروحاني، و ليس الوارد في القرآن رادا لهذا القسم.

الثاني: إنّ المعاد الروحاني الوارد في القرآن الكريم يعمّ جميع النفوس، كاملة كانت أو متوسطة أو ناقصة. و لكن المعاد الروحاني الذي عليه الحكماء يختص بصنف خاص، و هم الكاملون في المعرفة. و ذلك لأنّ المعاد الروحاني حسب الكتاب و السنة، يرجع إلى اللذائذ الروحية لا إلى اللذة العقلية التي تختص بالكاملين في المعرفة.

يقول صدر المتألهين: «و هذا النوع من اللذة و السعادة لا تنالها كل نفس و إنما ينالها من عرف العقليات في النشأة الأولى، لأن المعرفة بذر المشاهدة فمعرفة العقليات في النشأة الأولى منشأ الحضور في العقبى»(1).

إن النفوس مختلفة و منقسمة إلى كاملة و متوسطة و ناقصة، فلا شك أنّ حصر المعاد في الجسماني يخالف رحمته الواسعة و حكمته البالغة إذ النفوس الناقصة و المتوسطة، و إن كانت تلتذ بنعيم الجنة، و لكن النفوس الكاملة لا تلتفت إلى مثلها بل تطلب غاية أعلى منها، و لأجل ذلك يجب أن يكون هناك وراء هذه اللذات الحسية، لذة عقلية تتشوق إليها النفوس الكاملة و تصبو إليها، و ليست هي إلا نيل مقامات القرب من الحق تعالى.

يقول الحكيم السبزواري: «لو حصروا المعاد في الجسماني لكان قصورا حيث عطّلوا النفوس الكاملة عن البلوغ إلى غاياتها، لأنها المستصغرة للغايات الجزئية، الطالبة للاتصال بالأرواح المرسلة، بل لمحض القرب من اللّه تعالى».

ص: 287


1- الأسفار، ج 9، ص 123 و 129.

و قال في موضع آخر: «إنّ الخلق طبقات فالمجازات متفاوتة، فكل منها محبوب و مرغوب و جزاء يليق بحالها، و اللذائذ الحسية للكمل في العلم و العمل، كالظلّ غير الملتفت إليه بالذات، و التفاتهم بباطن ذواتهم و ما فوقهم»(1).

ثم إن للحكماء المتألهين في تبيين السعادة و الشقاء الأخرويين العقليين مباحث مهمة لا سيما في تبيين دور العقل النظري و العملي فيهما فمن أراد الوقوف عليها، فليرجع إلى مظانها(2).

ص: 288


1- لاحظ إلهيات الشفاء، و المبدأ و المعاد للشيخ الرئيس. و الأسفار الأربعة لصدر المتألهين، ج 9. و شرح المنظومة، و أسرار الحكم، كلاهما للحكيم السبزواري، و غيرها من كتب الفلاسفة.
2- شرح المنظومة للحكيم السبزواري، المقصد السادس، الفريدة الثانية.

مباحث المعاد

(11) الرجعة
اشارة

قضية الرجعة التي تحدثت عنها بعض الآيات القرآنية و الأحاديث المروية عن أهل بيت الرسالة، مما تعتقد به الشيعة من بين الأمة الإسلامية، و ليس هذا بمعنى أنّ مبدأ الرجعة يعدّ واحدا من أصول الدين، و في مرتبة الاعتقاد باللّه و توحيده، و النبوة و المعاد بل إنها تعدّ من المسلّمات القطعية، و شأنها في ذلك شأن كثير من القضايا الفقهية و التاريخية التي لا سبيل إلى إنكارها. مثلا: اتفقت كلمة الفقهاء على حرمة مسّ النساء في المحيض، بنص الكتاب العزيز يقول تعالى:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسٰاءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لاٰ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ (1) .

و دلّت الوثائق التاريخية على أنّ معركة بدر وقعت في السنة الثانية للهجرة.

فالأولى قطعية فقهية، و الثانية قطعية تاريخية، و لكن لا يعدان من أصول العقائد الإسلامية، و شأن الرجعة في هذا المجال شأنهما.

إذا عرفت ذلك نقول: الرجعة في اللّغة ترادف العودة، و تطلق اصطلاحا على عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات بعد النهضة العالمية للإمام المهدي عليه السلام و هذه العودة تتم بالطبع قبل حلول يوم القيامة. و طبقا لهذا المبدأ، فالحديث عن العودة، يعدّ من أشراط القيامة.

ص: 289


1- سورة البقرة: الآية 222.

و على ضوء ذلك، فظهور الإمام المهدي عليه السلام شيء، و عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات شيء آخر، كما أن البعث يوم القيامة أمر ثالث، فيجب تمييزها و عدم الخلط بينها.

قال الشيخ المفيد: «إن اللّه تعالى يحشر قوما من أمة محمد صلى اللّه عليه و آله، بعد موتهم، قبل يوم القيامة، و هذا مذهب يختص به آل محمد (صلوات اللّه عليه و عليهم)، و القرآن شاهد به»(1).

و قال المرتضى متحدثا عن الرجعة عند الشيعة: «اعلم أنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه، أنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان، المهدي عليه السلام، قوما ممن كان قد تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته و معونته، و مشاهدة دولته، و يعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق و علو كلمة أهله»(2).

و قال العلامة المجلسي: «و الرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملّة، و ممحضي النفاق منهم، دون من سلف من الأمم الخالية»(3).

فالاعتقاد بالرجعة من الأمور القطعية المسلّم بها، و الروايات الكثيرة الواردة عن الأئمة المعصومين لا تبقي أي مجال للشك في وقوعها.

يقول العلامة المجلسي: «كيف يشك مؤمن بحقّية الأئمة الأطهار فيما تواتر عنهم فيما يقرب من مائتي حديث صريح، رواها نيّف و ثلاثون من الثقات العظام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم كثقة الإسلام الكليني و الصدوق و...»(4).

و قد وصف الشيخ الحرّ العاملي الروايات المتعلّقة بالرجعة بأنها أكثر من أن

ص: 290


1- بحار الأنوار، ج 53، ص 136، نقلا عن المسائل السروية، للشيخ المفيد.
2- المصدر السابق نفسه، نقلا عن رسالة كتبها السيد المرتضى جوابا على أسئلة أهل الريّ.
3- المصدر السابق نفسه، و قد نقل أقوال علماء الشيعة و نصوصهم في هذا الجزء من بحاره فمن أراد زيادة الاطلاع فليرجع إليه ص 22-144.
4- المصدر السابق.

تعد و تحصى و أنّها متواترة معنى(1).

هذه بعض كلمات كبار علماء الشيعة و محدثيهم حول الرجعة، و يقع الكلام في مقامين الأول - إمكان الرجعة.

الثاني - الدليل على وقوعها في هذه الأمة.

المقام الأول: إمكان الرجعة

يكفي في إمكان الرجعة، إمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة، فإنّ الرجعة و المعاد، ظاهرتان متماثلتان و من نوع واحد مع فارق أنّ الرجعة محدودة كيفا و كمّا، و تحدث قبل يوم القيامة، بينما يبعث جميع الناس يوم القيامة ليبدءوا حياتهم الخالدة.

و على ضوء ذلك، فالاعتراف بإمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة، ملازم للاعتراف بإمكان الرجعة في حياتنا الدنيوية. و حيث إنّ حديثنا مع المسلمين الذين يعتبرون الإيمان بالمعاد من أصول شريعتهم، فلا بد لهؤلاء إذن من الاعتراف بإمكانية الرجعة.

أضف إلى ذلك أنّه قد وقعت الرجعة في الأمم السالفة كثيرا، و قد تحدثنا عنه عند ذكر شواهد من إحياء الموتى في الأمم السالفة نظير:

1 - إحياء جماعة من بني إسرائيل(2).

2 - إحياء قتيل بني إسرائيل(3).

ص: 291


1- الإيقاظ من الهجعة، الباب الثاني، الدليل الثالث.
2- سورة البقرة: الآيتان 55 و 56.
3- سورة البقرة: الآيتان 72 و 73.

3 - موت ألوف من الناس و بعثهم من جديد(1).

4 - بعث عزير بعد مائة عام من موته(2).

5 - إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام(3).

و بعد وقوع الرجعة في الأمم السالفة، هل يبقى مجال للشك في إمكانها؟ و تصوّر أنّ الرجعة من قبيل التناسخ المحال عقلا، تصوّر باطل، لأنّ التناسخ عبارة عن رجوع الفعلية إلى القوة، و رجوع الإنسان إلى الدنيا عن طريق النطفة، و المرور بمراحل التكوّن البشري من جديد، ليصير إنسانا مرة أخرى، سواء أدخلت روحه في جسم إنسان أم حيوان، و أين هذا من الرجعة و عود الروح إلى البدن المتكامل من جميع الجهات، من دون أن يكون هناك رجوع إلى القوة بعد الفعلية.

المقام الثاني - أدلة وقوع الرجعة

يدل على وقوع الرجعة في هذه الأمّة قوله تعالى: وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ * وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ يُوزَعُونَ (4).

لا يوجد بين المفسّرين من يشك بأنّ الآية الأولى تتعلق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة، و يدل عليه ما روي عن النبي الأكرم من أنّ خروج دابة الأرض من علامات يوم القيامة، إلا أنّ هناك خلافا بين المفسرين حول المقصود من دابة الأرض، و كيفيّة خروجها، و كيف تتحدث، و غير ذلك ممّا لا نرى حاجة لطرحه؟.

ص: 292


1- سورة البقرة: الآية 243.
2- سورة البقرة: الآية 259.
3- سورة آل عمران: الآية 49.
4- سورة النمل: الآيتان 82 و 83.

روى مسلم أنّه قال رسول اللّه: إنّ الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، و خسف بالمغرب، و خسف في جزيرة العرب، و الدخان، و الدجّال، و دابّة الأرض، و يأجوج و مأجوج، و طلوع الشمس من مغربها، و نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس»(1)إنما الكلام في الآية الثانية، و الحق أنّها ظاهرة في حوادث قبل يوم القيامة، و ذلك لأنّ الآية تركز على حشر فوج من كل جماعة بمعنى عدم حشر الناس جميعا، و من المعلوم أنّ الحشر ليوم القيامة يتعلق بالجميع، لا بالبعض، يقول سبحانه:

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ اَلْجِبٰالَ وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بٰارِزَةً وَ حَشَرْنٰاهُمْ، فَلَمْ نُغٰادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (2) أ فبعد هذا التصريح، يمكن تفسير ظرف الآية بيوم البعث و القيامة؟.

و هناك قرينتان أخريان، تحقّقان ظرفها لنا، إن كنّا شاكين، و هما:

أوّلا - إنّ الآية المتقدمة عليها تذكر للناس علامة من علامات القيامة، و هي خروج دابة الأرض، و من الطبيعي، بعد ذلك أنّ حشر جماعة من الناس يرتبط بهذا الشأن.

ثانيا - ورد الحديث في تلك السورة عن القيامة في الآية السابعة و الثمانين، أي بعد ثلاث آيات، قال سبحانه: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دٰاخِرِينَ (3).

و هذا يعرب عن أنّ ظرف ما تقدم عليها من الحوادث يتعلق بما قبل هذا اليوم، و يحقّق أنّ حشر فوج من الذين يكذبون بآيات اللّه يحدث حتما قبل يوم القيامة، و هو من أشراط هذا اليوم، و سيقع في الوقت الذي تخرج فيها دابة من الأرض تكلم الناس.

و من العجب قول الرازي بأنّ حشر فوج كل من أمّة سيقع بعد قيام

ص: 293


1- صحيح مسلم، ج 8، كتاب الفتن، و أشراط الساعة، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة، ص 179.
2- سورة الكهف: الآية 47.
3- سورة النمل: الآية 87.

الساعة(1). فإنّ هذا الكلام خاو لا يستند إلى أيّ أساس. و ترتيب الآيات و ارتباطها ببعضها، ينفيه، و يؤكّد ما ذهب إليه الشيعة من أنّ الآية تشير إلى حدث سيقع قبل يوم القيامة.

أضف إلى ذلك أنّ تخصيص الحشر ببعض، لا يجتمع مع حشر جميع الناس يوم القيامة.

نعم، الآية قد تحدثت عن حشر المكذبين، و أما رجعه جماعة أخرى من الصالحين فهو على عاتق الروايات الواردة في الرجعة.

و أمّا كيفية وقوع الرجعة و خصوصياتها فلم يتحدث عنها القرآن، كما هو الحال في تحدثه عن البرزخ و الحياة البرزخية.

و يؤيد وقوع الرجعة في هذه الأمّة وقوعها في الأمم السالفة كما عرفت. و قد روى أبو سعيد الخدري أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، و ذراعا بذراع. حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه. قلنا يا رسول اللّه: اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟(2).

و روى أبو هريرة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «لا تقوم الساعة حتى تؤخذ أمّتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، و ذراعا بذراع، فقيل: يا رسول اللّه: كفارس و الروم، قال: و من النّاس إلاّ أولئك؟(3).

و روى الشيخ الصدوق رحمه اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:

«كل ما كان في الأمم السابقة فإنه يكون في هذه الأمّة مثله، حذو النعل بالنعل، و القذّة بالقذّة»(4).

ص: 294


1- مفاتيح الغيب، ج 4، ص 218.
2- صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بقول النبي، ج 9، ص 112.
3- صحيح البخاري ج 9، ص 102. و كنز العمال، ج 11، ص 133.
4- كمال الدين، ص 576.

و بما أنّ الرجعة من الحوادث المهمة في الأمم السالفة، فيجب أن يقع نظيرها في هذه الأمة أخذا بالمماثلة، و التنزيل.

و قد سأل المأمون العباسي، الإمام الرضا عليه السلام عن الرجعة فأجابه، بقوله: إنّها حق، قد كانت في الأمم السالفة، و نطق بها القرآن، و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل، و القذة بالقذة(1).

هذه هي حقيقة الرجعة و دلائلها، و لا يدّعي المعتقدون بها أكثر من هذا، و حاصله عودة الحياة إلى طائفتين من الصالحين و الطالحين، بعد ظهور الإمام المهدي عليه السلام، و قبل وقوع القيامة. و لا ينكرها إلاّ من لم يمعن النظر في أدلتها(2).

أسئلة و أجوبتها

السؤال الأول - كيف يجتمع إعادة الظالمين مع قوله سبحانه: وَ حَرٰامٌ عَلىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا أَنَّهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ (3) فإن هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتا، و حشر لفيف من الظالمين يخالفها.

ص: 295


1- بحار الأنوار، ج 53، ص 59، الحديث 45.
2- بقي هنا بحثان: 1 - من هم الراجعون. 2 - ما هو الهدف من إحيائهم. و إجمال الجواب عن الأول أن الراجعين لفيف من المؤمنين و لفيف من الظالمين. و إجمال الجواب عن الثاني ما جاء في كلام السيد المرتضى المنقول آنفا، حيث قال: «إن اللّه تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان، المهدي عليه السلام، قوما ممن كان تقدم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته و معونته، و مشاهدة دولته، و يعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم... إلى آخر كلامه». لاحظ تفصيل جميع ذلك في البحار، ج 53. و الايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، للشيخ الحر العاملي.
3- سورة الأنبياء: الآية 95.

و الجواب: إن هذه الآية مختصة بالظالمين الذين أهلكوا في هذه الدنيا و رأوا جزاء عملهم فيها، فهذه الطائفة لا ترجع. و أما الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة، فيرجع لفيف منهم ليروا جزاء عملهم فيها، ثم يردّون إلى أشد العذاب في الآخرة أيضا. فالآية لا تمت إلى مسألة الرجعة بصلة.

السؤال الثاني - إن الظاهر من قوله تعالى: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قٰالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا، وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (1)، نفي الرجوع إلى الدنيا بعد مجيء الموت.

و الجواب: إنّ الآية تحكي عن قانون كلّي قابل للتخصيص في مورد دون مورد، و الدليل على ذلك ما عرفت من إحياء الموتى في الأمم السالفة، فلو كان الرجوع إلى هذه الدنيا سنة كلية لا تتبعض و لا تتخصص، لكان عودها إلى الدنيا مناقضا لعموم الآية.

و هذه الآية، كسائر السنن الإلهية الواردة في حق الإنسان، فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع، و هذا لا ينافي الرجوع في مورد أو موارد، لمصالح عليا.

السؤال الثالث - إن الاستدلال على الرجعة مبني على جعل قوله سبحانه:

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حاكيا عن حادثة تقع قبل القيامة، و لكن من الممكن جعلها حاكية عن الحادثة التي تقع عند القيامة، غير أنّها تقدمت على قوله سبحانه: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ ، و كان طبع القضية تأخيرها عنه، و المراد من الفوج من كل أمّة هو الملأ من الظالمين و رؤسائهم.

و الجواب: أولا، إنّ تقديم قوله: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ... ، على فرض كونه حاكيا عن ظاهرة تقع يوم القيامة، على قوله: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ ، ليس إلاّ إخلال في الكلام، بلا مسوغ.

ص: 296


1- سورة المؤمنون: الآيتان 99 و 100.

و ثانيا، إن ظاهر الآيات أنّ هناك يومين، يوم حشر فوج من كل أمّة، و يوم نفخ في الصور، و جعل الأول من متمّمات القيامة، يستلزم وحدة اليومين، و هو على خلاف الظاهر(1).

ص: 297


1- و إذا أحطت خبرا بما ذكرناه، يتبين لك سقوط كثير مما ذكره الألوسي في تفسيره عند البحث عن الآية. لاحظ تفسيره، ج 20، ص 26.

مباحث المعاد

(12) التّناسخ و أقسامه و براهين بطلانه
اشارة

التناسخ من النسخ بمعنى النقل(1)، أو بمعنى إزالة بشيء يتعقبه، كنسخ الشمس الظل، و الشيب الشباب(2).

فالنسخ يعرب عن خصوصيتين: النّقل و التّحوّل. و سيوافيك أنّ كلتيهما مأخوذتان في التناسخ المصطلح، الذي يعرب عن حالة نقل و تحوّل خاصة.

ثم إن للانتقال أقساما ما نشير إليها:

أ - الانتقال من النشأة الدنيوية إلى النشأة الأخروية الذي نسميه بالمعاد.

ب - الانتقال من القوة إلى الفعل، كانتقال النفس في ظل الحركة الجوهرية إلى كمالها الممكن.

ج - انتقال النفس بالموت، من البدن المادي إلى بدن مثله في هذه النشأة.

و هذا النوع من الانتقال هو التناسخ المصطلح الذي ذهب إليه بعض الفلاسفة من البراهمة و الهندوس و غيرهم.

و تبيين الحق يتوقف على بيان ما يتصور للتناسخ من الأقسام حتى يعلم أيّ

ص: 298


1- أقرب الموارد، ج 2، مادة نسخ.
2- المفردات في غريب القرآن، مادة نسخ.

قسم منها يضاد المعاد و يخالفه، فنقول: إن للتناسخ المطروح من قبل أصحابه صورا ثلاثة:

الصورة الأولى: التناسخ المطلق

و هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة، فإذا مات البدن الثاني انتقلت إلى ثالث، و هكذا بلا توقف أبدا، و البدن المنتقل إليه قد يكون بدن إنسان أو حيوان أو نبات. و طريق الانتقال غالبا، هو التعلّق بجنين الإنسان أو الحيوان، أو بالخليّة النباتية. و قد نسب هذا القول إلى القدماء من الحكماء.

قال شارح حكمة الإشراق(1): «إن شرذمة قليلة من القدماء ذهبوا إلى امتناع تجرّد شيء من النفوس بعد المفارقة لأنها جسمانية، دائمة الانتقال في الحيوانات و غيرها من الأجسام، و يعرفون بالتناسخية، و هم أقلّ الحكماء تحصيلا»(2).

الصورة الثانية: التناسخ المحدود (النزولي)

و هو أن يختص الانتقال ببعض النفوس دون بعض آخر، و هذا كما هو محدود من حيث الأفراد، محدود كذلك من حيث الزّمان. و ذلك لأن الانتقال قد ينقطع، و لا ترجع النفس إلى النشأة الدنيوية، بل تلتحق بعالم النور و العقول.

و وجه المحدودية من حيث الأفراد، أنّ النفوس المفارقة للأبدان بعد الموت، على قسمين:

1 - نفوس كاملة في مجالي العلم و العمل، فهذه لا حاجة لها للانتقال إلى أبدان أخرى، لأنها وصلت إلى كمالها الممكن، فلا تحتاج إلى الرجوع ثانية إلى هذه النشأة.

ص: 299


1- قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي، المتوفي عام 710 أو 716 للهجرة.
2- شرح حكمة الإشراق، المقالة الخامسة، الفصل الأول، ص 476.

2 - و نفوس ناقصة في كلا المجالين، فلا مناص لتكاملها من إرجاعها إلى هذه النشأة حتى تكتمل فيهما إلى أن تصير غنية عن الرجوع، فتلحق بعالم العقول.

و أما المحدودية من جانب الزمان، فوجهه أنّ الهدف من التناسخ و رجوع النفس إلى البدن في هذه النشأة مجددا، هو إكمالها في مجال العلم، و تهذيبها من الرذائل، و تجريدها من الكدورات. فإذا صارت منزهة عنها، فلا وجه لدوام هذا النقل و التحوّل، بل لا مناص من لحوقها بعد الاستكمال بعالم النور.

و يسمى التناسخ المحدود من حيث الأفراد و الأزمنة ب «التناسخ النزولي».

يقول صدر المتألهين شارحا هذه العقيدة: «إن أول منزل للنفس، الصّيصيّة الإنسانية(1)، و يسمونها «باب الأبواب لحياة جميع الأبدان الحيوانية و النباتية»، و هذا هو رأي يوذاسف التناسخي، قائلا بأن الكاملين من السعداء تتصل نفوسهم بعد المفارقة بالعالم العقلي و الملأ الأعلى، و تنال من السعادة ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر. و أما غير الكاملين من السعداء كالمتوسطين منهم و الناقصين في الغاية و الأشقياء على طبقاتهم، فتنتقل نفوسهم من هذا البدن إلى تدبير بدن آخر من النوع الإنساني لا إلى غيره.

و بعضهم جوّز ذلك و لكن اشترط أن يكون إلى بدن حيواني. و بعضهم جوّز النقل من البدن الإنساني إلى البدن النباتي أيضا، و بعضهم إلى الجامد أيضا»(2).

الصورة الثالثة: التناسخ الصعودي

و هناك قسم ثالث من التناسخ يسمى بالصعودي، يغاير التناسخ النزولي، و حاصله أنّ الحياة إنما تفاض على المستعد فالمستعد، و النبات - بزعمهم - أشدّ

ص: 300


1- أي البدن و الهيكل المادي الإنساني في اصطلاح شيخ الإشراق و من تابعه.
2- الأسفار، ج 9، الباب الثامن، الفصل 2، ص 8 و يسمي الأول نسخا و الثاني مسخا و الثالث فسخا و الرابع رسخا، يقول الحكيم السبزواري: نسخ و مسخ رسخ فسخ قسما إنسانا و حيوانا جمادا نما

استعدادا و أولى بقبول الفيض الجديد من الحيوان و الإنسان، كما أنّ الإنسان يستدعي نفسا أشرف، و هي التي جاوزت الدرجات النباتية و الحيوانية.

و في ضوء هذا، فالحياة تفاض على النبات أولا، ثم تنتقل منه إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان، و هذا النوع من التناسخ أشبه بالقول بالحركة الجوهرية، و أنّ الأشياء في ظلّها تخرج من القوة إلى الفعل، و من النقص إلى الكمال، و أنّ الموجود النباتي يتحول إلى الحيوان، ثم الإنسان، لكن الفرق بين القول بالتناسخ الصعودي و الحركة الجوهرية، هو أنّ التكامل في القول بالتناسخ على وجه الانفصال دون الاتصال، فالنفس النباتية تنتقل من النبات إلى البدن الحيواني، ثم منه إلى البدن الإنساني، و لكن التحول في الحركة الجوهرية، على وجه الاتصال، و أنّ النطفة الإنسانية تتحول و تتكامل من مرتبة ناقصة إلى مرتبة كاملة حتى يصدق عليها قوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ (1).

فظهر أنّ في التناسخ أقوالا ثلاثة:

1 - التناسخ المطلق: و هو ما لا ينتهي النقل فيه و لا يتوقف و يعم الجميع.

2 - التناسخ النزولي: و هو ما لا يعم الجميع أولا، و يتوقف النقل فيه بعد التصفية و بلوغ مراتب الكمال، ثانيا.

3 - التناسخ الصعودي: و هو ما يحصل فيه انتقال النفس في جهة الصعود، من النبات إلى الحيوان فالإنسان. إذا تعرفت على المراد من هذه الأقسام، فإليك تحليلها، و بيان بطلانها:

العناية الإلهية و التناسخ المطلق

إنّ التناسخ المطلق يعاند المعاد معاندة تامة، و القائل به ليس له التفوه بعود

ص: 301


1- سورة المؤمنون: الآية 14. و ما ذكرناه إجمال ما يرمي إليه أصحاب هذا القول، و التفصيل يطلب من محله، لاحظ في ذلك «أسرار الحكم»، للحكيم السبزواري، ص 293-294.

الأرواح إلى الأبدان في النشأة الأخرى، لأنّ المفروض أنّ الروح تنتقل إلى الأبد من بدن إلى بدن، بلا توقف، فلا مجال للنفس لكي تبعث في النشأة الاخرى.

و لعل أصحاب هذه النظرية - لقلّة تدبّرهم - حسبوا هذا النوع من الانتقال للنفس معادا لها، فالمعاد عندهم هو انتقال النفس من بدن إلى بدن في هذه النشأة دون أن تكون هناك نشأة أخرى.

و يردّها أنّ النفس عند هؤلاء لا تخلو من إحدى حالتين: إما أن تكون منطبعة في البدن، انطباع الأعراض في الجواهر، و الصور الجوهرية في المادة، فهي ممتنعة الانتقال، إذ الانطباع ينافي الانتقال، و الجمع بينهما جمع بين النقيضين، فإنه يستلزم أن تكون النفس في حال الانفصال موجودة بلا موضوع، و متحققة بلا محل.

أو تكون مجرّدة تجردا تاما، و مع ذلك تكون دائمة الانتقال في الأجسام من غير لحوق بعالم النور و هو باطل أيضا إذ العناية الإلهية، تقتضي إيصال كل ذي كمال إلى كماله، و كما النفس العلمي يتحقق بصيرورتها عقلا مستفادا(1)، فيه صور جميع الموجودات، و كمال العقل العملي يتحقق بالتخلية عن رذائل الأخلاق، و التحلية بمكارمها. فلو كانت دائمة الانتقال، كانت ممنوعة عن كمالها، أزلا و أبدا، و العناية الأزلية تأبى ذلك(2).

و بعبارة أخرى: إنّ النفس الإنسانية مستعدة لإفاضة الكمالات عليها، فحبسها في الصياصي البدنية في هذه النشأة، و إيقافها عن الصعود إلى النشأة الأخرى، يخالف الحكمة الإلهية المتعلقة بإبلاغ كل ممكن إلى غايته الممكنة.

ص: 302


1- العقل المستفاد أحد مراتب العقل الأربعة المصطلح عليها في الحكمة النظرية: و هي عبارة عن: 1 - العقل الهيولاني، 2 - العقل بالملكة، 3 - العقل بالفعل، 4 - العقل المستفاد، راجع في توضيحها شرح المنظومة للحكيم السبزواري، قسم الطبيعيات، مباحث النفس، ص 306-307.
2- شرح حكمة الإشراق المقالة الخامسة، الفصل الأول، ص 476. و الأسفار، ج 9، الباب الثامن، الفصل الثاني.
الحركة الرجعية و التناسخ النزولي

و الذي يبطل هذا النوع الثاني من التناسخ، استلزامه الحركة الرجعية للنفس من الأشد إلى الأنقص، و من الأقوى إلى الأضعف بحسب الذات، و هو أمر محال. و توضيحه:

إنّ حقيقة التناسخ النزولي تتحقق بتعلق روح الإنسان بعد مفارقة البدن بالموت، بجنين إنسان أو حيوان أو خلية نباتية، و الكل دونها في الكمال.

فأصحاب هذا القول يتصورون أن النفوس المتوسطة تنتقل بعد فناء أبدانها إلى أجنة الإنسان أو الحيوان، و تعود إلى الدنيا لمتابعة مسيرة الاستكمال، و الارتقاء إلى درجة النفوس الكاملة.

و لكنه خيال باطل، لأن تعلق تلك النفوس بأجنة الإنسان أو الحيوان لا يخلو من صورتين:

الأولى: أن تتعلق النفس بالجنين الإنساني أو الحيواني بما لها من الكمال المناسب لمقامه. و هذا غير ممكن عقلا، لأن النفس ما دامت في البدن تزداد في فعليتها شيئا فشيئا حتى تصير أقوى وجودا و أشد تحصّلا. و مثل هذا لا يمكنه أن يتعلق بالموجود الأدنى منه، الذي لا يتحمل ذلك الكمال و تلك الفعليّة، لعدم تحقق التعاضد و الانسجام بينهما.

و بعبارة أخرى: إنّ واقعية النفس التي عاشت مع البدن أربعين سنة مثلا، واقعية تفتّح القوى و بلوغها مقام الفعلية. و أما واقعية النفس التي تتعلق بالأجنة، فهي فقدان كلّ فعلية، و انتسابها إلى جميع الكمالات بالقوة، فحسب. فالقول بتعلق تلك الفعلية بالجنين، جمع بين النقيضين. لأنها - على الفرض - بما أنّها نفس إنسان مرّت عليه أربعون سنة، مستجمعة لجميع الكمالات بالفعل. و بما أنها تعلقت بالجنين، مستجمعة لها بالقوة فحسب. فتكون الكمالات في محل واحد و زمان واحد، بالفعل و بالقوة معا، و هذا محال.

الثانية: أن تتعلق تلك النفوس بالأجنّة، لكن بعد تنزّلها عن فعليّاتها، و انسلاخها عن كمالاتها. و هذا النحو من التعلّق، و إن كان يوجد بين البدن

ص: 303

و النفس تعاضدا و انسجاما، لكن ذاك الانسلاخ إما ناشئ من ذات النفس و نابع من صميمها، و إما قد حصل بقهر من اللّه سبحانه. و الأول لا يتصور، لأن الحركة الذاتية من الكمال إلى النقص غير معقولة، و الثاني ينافي الحكمة الإلهية التي تقتضي بلوغ كل ممكن إلى كماله الممكن(1).

و بما أن القائلين بهذا النوع من التناسخ يخصّونه بالمتوسطين في الكمال و الناقصين فيه، دون الكاملين في مجالي العلم و العمل، فهو على طرف النقيض من المعاد في الصنفين الأوّلين، دون الصنف الثالث الذين لهم الحشر و الانتقال إلى النشأة الأخرى دون التناسخ.

نعم، المتوسطون و الناقصون - بعد انتهاء دورة التناسخ و زمنها - ينتقلون إلى عالم النور فيكون لهم من الحشر ما للكاملين من أفراد الإنسان.

التناسخ الصعودي و انتقال النفس

ذكرنا أنّ أصحاب التناسخ الصعودي يقولون بأنّ تكامل النفس من بدء حدوثها يتوقف على ظهور الحياة في النبات لتكون نفسا نباتية إلى أن تنتقل إلى بدن الحيوان فتصير نفسا حيوانية، ثم نفسا إنسانية، و عندئذ يقع السؤال في حقيقة هذه النفس، فنقول:

إن النفس الموجودة في الحيوان مثلا، إما منطبعة انطباع النقوش في الحجر، و الأعراض في موضوعاتها، و الصور في محالّها، فيكون انتقالها مستحيلا على ما مرّ، أعني استلزامه أن تكون في آن الانتقال بلا موضوع و محل.

و إمّا مجرّدة، لها من الخصوصيات ما للنفوس الحيوانية، فمن المعلوم أنّ النفس الحيوانية بما لها من الخصوصية يمتنع أن تتحول إلى النفس الإنسانية، فإنّ كمال النفس الأولى عبارة عن القوة الشهوية و حسّ الانتقام، و هما يعدّان كمالا

ص: 304


1- ما ذكرناه تقريرا واضح لما أفاده صدر المتألهين، في أسفاره. لاحظ الأسفار، ج 9، ص 16.

لنفوس الدواب و الأنعام و أصلا عظيما للجسمانية و الإخلاد إلى الأجساد. فلو تعلقت هذه النفس - بهذه الخصوصية - بالإنسان، لوجب أن تنحط درجة إلى نوع نازل من الحيوان المناسب لهذه السجايا و الغرائز. فإذا كان مقتضى الشهوة الغالبة أو الغضب الغالب، شقاء النفس و نزولها إلى مراتب الحيوانات الصامتة، التي كمالها في كمال إحدى هاتين القوتين، فيمتنع أن يكون وجود هاتين القوتين و أفعالهما منشأ لارتفاع النفوس من درجتها البهيمية و السبعية إلى درجة الإنسان الذي كمال نفسه كسر هاتين القوتين. فتعلق النفس الحيوانية بما لها من الخصوصيات و الغرائز بالإنسان، لا يرفعه بل ينزله إلى درجة تناسب درجة الحيوانات(1).

و على الجملة فالنفس الحيوانية متشخصة بغرائز خاصة هي التمايلات الشهوية و السبعية و الإخلاد إلى الأرض و المادة، فكيف يمكن أن تكون مثل هذه أساسا لتكامل الإنسان و تعاليه، الذي لا يتحقق له التكامل إلا بتحطيم هذه الغرائز و كسر ثورتها فإن هذا أشبه بجعل وجود الضد شرطا لوجود ضد آخر.

نعم، هذا الإشكال إنما يتصور في التكامل الصعودي المنفصل المراتب و الدرجات دون متصلها كما في تكامل الإنسان في رحم أمه من الجمادية إلى النفس الإنسانية، في ظل صور متوالية متتالية دون أن يقع بينها انفصال.

و على كل تقدير فهذا القسم من التناسخ باطل في نفسه، و إن كان لا يصادم القول بالمعاد و حشر الإنسان في النشأة الأخرى، بخلاف القسمين السابقين، فإن الأول منهما على طرف النقيض من المعاد مطلقا و القسم الثاني على طرف النقيض منه في مورد غير الكاملين من النفوس الإنسانية.

تحليل جامع للقول بالتناسخ
اشارة

قد تعرفت على أقسام التناسخ و البراهين التي تهدم أساس كل واحد منها،

ص: 305


1- لاحظ الأسفار، ج 9، ص 23.

و هناك برهانان آخران على بطلان التناسخ على وجه الإطلاق، من دون أن يختصا بقسم دون قسم، و إليك بيانهما:

الأول: اجتماع نفسين في بدن واحد
اشارة

و هذا البرهان مبنى على أمرين:

أ - إنّ كل جسم نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا، إذا بلغ من الكمال إلى درجة يصير فيها صالحا لتعلّق النفس به، تتعلق به. و بعبارة أخرى: متى حصل في البدن مزاج صالح لقبول تعلق النفس المدبرة به، فبالضرورة تفاض عليه من الواهب من غير مهلة و لا تراخ، و ذلك مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت إبلاغ كل ممكن إلى كماله الممكن.

ب - إن القول بالتناسخ يستلزم تعلّق النفس المستنسخة المفارقة للبدن، ببدن نوع من الأنواع من نبات أو حيوان أو إنسان، بحيث يتقوم ذلك البدن بالنفس المستنسخة المتعلقة به.

و لازم تسليم هذين الأمرين، تعلّق نفسين ببدن واحد: إحداهما النفس المفاضة على البدن لأجل صلاحيته للإفاضة، و ثانيتهما النفس المستنسخة المتعلقة بعد المفارقة بمثل هذا البدن.

و من المعلوم بطلانه و ذلك لأن تشخص كل فرد من الأنواع بنفسه و روحه، و فرض نفسين و روحين مساوق لفرض ذاتين و وجودين لوجود واحد و ذات واحدة.

أضف إلى ذلك: أنه ما من شخص إلا و يشعر بنفس و ذات واحدة. قال التفتازاني: إنّ كلّ نفس تعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره و أن ليس لها تدبير و تصرّف في بدن آخر، فالنفس مع البدن على التساوي، ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة، و لا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد(1).

ص: 306


1- شرح المقاصد، ج 2، ص 38. و لاحظ كشف المراد، ص 113، ط صيدا. و يضيف الأخير:
سؤال و جواب:

أما السؤال فهو أنّ هذا إنما يتم إذا كان هناك فصل زمني بين صلوح البدن لإفاضة الحياة، و تعلّق النفس المستنسخة. و أما إذا كان صلوحه و قابليته، مقارنا لتعلق النفس المستنسخة، فلا يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد، لأنها تمنع عن إفاضة الحياة عليه، فلا تكون له نفسان و لا حياتان.

و الجواب: إن كون النفس المستنسخة مانعة من حدوث النفس الأخرى ليس بأولى من منع الأخرى من التعلّق بالبدن.

أضف إلى ذلك أنّ استعداد المادة البدنية لقبول النفس من الواهب للصور، يجري مجرى استعداد الجدار لقبول نور الشمس مباشرة أو انعكاسا إذا رفع الحجاب من أمامه. فإن كان عند ارتفاع الحجاب جسم ثقيل ينعكس فيه نور الشمس الواقع عليه إلى ذلك الجدار، أشرق عليه النوران الشمسيان المباشري و الانعكاسي، و لا يمنع من وقوع الانعكاسي، وقوع النور المباشري عليه. و مثل ذلك ما نحن فيه، غير أن اجتماع النفسين ممتنع، و مانعية إحداهما عن طروء الأخرى غير صحيحة. فينتج أنّ التناسخ المبتني على أحد الأمرين (اجتماع نفسين أو مانعية إحداهما من طروء الأخرى) باطل(1).

الثاني: عدم التناسخ بين النفس و البدن
اشارة

قد ثبت في محله أنّ تركيب البدن و النفس، تركيب طبيعي اتحادي، لا تركيب انضمامي، فليس تركيبهما كتركيب السرير من الأخشاب و المسامير، و لا كتركيب العناصر الكيميائية و تأثير بعضها في بعض.

و النفس في أول حدوثها متسمة بالقوة، في كل ما لها من الأحوال، و كذا البدن، و لها في كل وقت شأن آخر من الشئون الذاتية بإزاء سن الطفولة و الصبا

ص: 307


1- لاحظ الأسفار، ج 9، ص 10، و هذا البرهان يختص المشائيين و قبله صدر المتألهين أيضا.

و الشباب و الشيخوخة و الهرم. و هما معا يخرجان من القوة إلى الفعل، و درجات القوة و الفعل في كل نفس معينة بإزاء درجات القوة و الفعل في بدنها الخاص بها ما دامت متعلقة به. فإذا صارت بالفعل في نوع من الأنواع استحال صيرورتها تارة أخرى في حد القوة المحضة، كما استحال صيرورة الحيوان بعد بلوغه تمام الخلقة، نطفة و علقة.

فلو تعلقت نفس منسلخة ببدن آخر عند كونه جنينا أو غير ذلك، يلزم كون أحدهما بالقوة و الآخر بالفعل، و ذلك ممتنع. لأن التركيب بينهما طبيعي اتحادي، و التركيب الطبيعي يستحيل بين أمرين، أحدهما بالفعل و الآخر بالقوة(1).

نعم، هذا البرهان إنما يتم لو تعلقت النفس ببدن أدون من حيث الدرجات الفعلية من النفس، كما إذا تعلقت بالجنين على مراتبه و أما لو تعلقت ببدن له من الفعلية ما للنفس منها، فالبرهان غير جار فيه.

و هذا البرهان يغاير البرهان الذي ذكرناه، عند إبطال التناسخ النزولي فإن محور البرهان هنا لزوم التناسق بين البدن و النفس من حيث القوة و الفعل، و هذا الشرط مفقود في أكثر موارد التناسخ، كما إذا تعلقت بالجنين.

و أما ما ذكرناه في إبطال التناسخ النزولي فإن محوره هو لزوم الحركة الرجعية في عالم الكون، و رجوع ما بالفعل إلى ما بالقوة، فلا يختلط عليك الأمران.

سؤالان و جوابان
اشارة

قد فرغنا من أقسام التناسخ و أنواعه و ما يمكن أن يستدل به على إبطالها.

و بقى هنا سؤالان يجب طرحهما و الإجابة عنهما:

ص: 308


1- الأسفار، ج 9، ص 2-3.
السؤال الأول: التناسخ و وقوع المسخ في الأمم السالفة

لو كان تعلق النفس الإنسانية ببدن الحيوان بعد مفارقة البدن الإنساني تناسخا ممتنعا، فكيف وقع المسخ في الأمم السالفة، حيث مسخوا إلى القردة و الخنازير كما يقول سبحانه: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللّٰهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللّٰهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنٰازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطّٰاغُوتَ أُولٰئِكَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوٰاءِ اَلسَّبِيلِ (1).

و يقول سبحانه: فَلَمّٰا عَتَوْا عَنْ مٰا نُهُوا عَنْهُ قُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ (2).

فإن صريح هذه الآيات تحوّل جماعة من البشر إلى قردة و خنازير، و هو لا ينفك عن تعلق نفوسهم البشرية بأبدان الحيوانات. فما هو الفرق بينه و القول بالتناسخ؟.

الجواب: إنّ مقوم التناسخ أمران:

1 - تعدد البدن، فإن في التناسخ بدنين: أحدهما البدن الذي تنسلخ عنه الروح، و الثاني: البدن الذي تتعلق به ثانيا بعد المفارقة سواء كان نباتا أو حيوانا أو جنينا.

2 - تراجع النفس الإنسانية من كمالها إلى الحد الذي يناسب بدنها المتعلقة به من نبات أو حيوان أو جنين أو إنسان.

و كلا الشرطين مفقود في المقام، فإن الأمة الملعونة و المغضوبة مسخت إلى القردة و الخنازير بنفس أبدانها الأولية، فخرجت عن الصورة الإنسانية إلى الصورة القردية و الخنزيرية من دون أن يكون هناك بدنان. كما أن نفوسها السابقة بقيت

ص: 309


1- سورة المائدة: الآية 60.
2- سورة الأعراف: الآية 166. و الاستدلال مبني على أن المراد من النكالة هو العقوبة كما أن المراد من الموصول في «لما بين يديها و ما خلفها»، الذنوب المتقدمة على الاصطياد و المتأخرة عنه. فتكون اللام في قوله: «لما»، سببيّة. (لاحظ مجمع البيان، ج 1، ص 130).

على الحد الذي كانت عليه، و ذلك لتنظر إلى الصورة الجديدة التي عرضت عليها، فتعاقب و تنزجر. و إلا، لو انقلبت نفوسها من الحد الذي كانت عليه إلى حد النفس الحيوانية، فلا شكّ أنّها ستكون قردة بالحقيقة، و عندئذ لا يترتب عليه عقاب و لا يصدق عليه النكال، مع أنه سبحانه يصفه نكالا، و يقول:

فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (1) .

و هذان الأمران يفصلان المسخ في الأمم السالفة عن القول بالتناسخ.

و بالجملة: فقد تجلت الروحيات الخبيثة التي كانت عليها تلك الأمة، على ظواهر أبدانها، فلبست لباس الخنازير و القردة المعروفة بالحرص الشديد، و مثل هذا - مع وحدة البدن و عدم نزول النفس عن درجتها السابقة - لا يعدّ تناسخا.

قال التفتازاني: «إن المتنازع هو أن النفوس بعد مفارقتها الأبدان، تتعلق في الدنيا بأبدان أخر للتدبير و التصرف و الاكتساب، لا أن تتبدل صور الأبدان، كما في المسخ. أو أن تجتمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق، فتردّ إليها النفوس، كما في المعاد على الإطلاق، و كما في إحياء عيسى بعد الأشخاص»(2).

و قال العلامة المجلسي: «إن امتياز نوع الإنسان، إذا كان بهذا الهيكل المخصوص، فلا يكون إنسانا بل قردا. و إن كان امتيازه بالروح المجردة، كانت الإنسانية باقية غير ذاهبة، و كان إنسانا في صورة حيوان، و لم يخرج من نوع الإنسان و لم يدخل في نوع آخر»(3).

يقول العلامة الطباطبائي: لو فرضنا إنسانا تغيّرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد و الخنزير، فإنما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير، أو إنسان قرد، لا إنسان بطلت إنسانيته و حلّت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها، فالإنسان إذا اكتسب صورة من صور الملكات، تصورت نفسه

ص: 310


1- سورة البقرة: الآية 66.
2- شرح المقاصد، ج 2، ص 39.
3- البحار، ج 58، طبعة بيروت، ص 113.

بها، و لا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت.

فالممسوخ من الإنسان، إنسان ممسوخ، لا أنّه ممسوخ فاقد للإنسانية.

و بذلك يظهر الفرق بين المقام و التناسخ، فإن التناسخ هو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن، ببدن آخر، بخلاف المقام(1).

السؤال الثاني: التناسخ و الرجعة

ما هو الفرق بين التناسخ الباطل بالأدلة السابقة، و القول بالرجعة على ما عليه الإمامية، فإن رجوع بعض النفوس بعد مفارقتها أبدانها، إليها في هذه النشأة، أشبه بالتناسخ.

و الجواب: قد عرفت عند البحث عن المسخ، أن مجوز التناسخ أمران:

تعدد البدن و تراجع النفس عن الحد الذي كانت عليه، و كلاهما مفقودان في الرجعة، فإن النفس ترجع إلى البدن الذي فارقته من دون أن تمس كمال النفس، و تحطها من مقامها، بل هي على ما هي عليه من الكمال عند المفارقة، فتتعلق أخرى بالبدن الذي فارقته.

و من هنا يظهر أن القول بالحشر في النشأة الأخرى، على طرف النقيض من التناسخ.

خاتمة المطاف

إن الذكر الحكيم ينصّ على عدم رجوع نفس الإنسان إلى هذه الدنيا بعد مفارقتها البدن (خرج ما خرج بالدليل كما في إحياء الأموات بيد الأنبياء العظام و غيره) يقول سبحانه: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قٰالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ، كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا، وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ

ص: 311


1- الميزان، ج 1، ص 210 بتلخيص.

يُبْعَثُونَ (1) .

إن قوله سبحانه: كَلاّٰ ، ردع لطلب الرجوع إلى الدنيا، فيفيد أنه على خلاف السنة الإلهية، و مع ذلك فهو كسائر السنن التي ربما يخرج عنها بدليل.

و بذلك تعرف قيمة كلمة أحمد أمين المصري ذلك الكاتب المستهتر حيث يقول: «و تحت التشيّع ظهر القول بتناسخ الأرواح»(2). و المسكين لا يفرق بين المسخ و التناسخ، كما لا يفرق بين التناسخ و الرجعة، بل بين التناسخ و المعاد.

ص: 312


1- سورة المؤمنون: الآيتان 99 و 100.
2- فجر الإسلام، ص 277 و قد افترى على الشيعة في كتابه هذا ما افترى، و ندم عليه في أخريات عمره حيث لا ينفع الندم.

مباحث المعاد

(13) الإيمان و أحكامه
اشارة

الإيمان، من الأمن، و له في اللغة معنيان متقاربان، أحدهما: الأمانة، التي هي ضدّ الخيانة، و معناها سكون القلب. و الآخر: التصديق، و المعنيان متدانيان(1).

و المراد هنا هو المعنى الثاني، فيقال: آمن به، إذا أذعن به و سكنت نفسه و اطمأنّت بقوله، و هو تارة يتعدى بالباء كما في قوله تعالى: آمَنّٰا بِمٰا أَنْزَلْتَ (2)و أخرى باللام، كما في قوله تعالى: وَ مٰا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنٰا (3) و قوله تعالى:

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ (4) .

و هذه الآيات تدل على أنّ الإيمان هو التصديق القلبي، و يؤكّده قوله سبحانه: أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمٰانَ (5)، و قوله سبحانه: وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ (6)، و قوله سبحانه: وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ (7).

ص: 313


1- مقاييس اللغة، ج 1، ص 133. و لو جعل سكون القلب تفسيرا للمعنى الثاني أي التصديق لكان أحسن.
2- سورة آل عمران: الآية 53.
3- سورة يوسف: الآية 17.
4- سورة العنكبوت: الآية 26.
5- سورة المجادلة: الآية 22.
6- سورة الحجرات: الآية 14.
7- سورة النحل الآية 106.

و تؤكّده آيات الطبع و الختم، فإنه تعرب عن كون محل الإيمان هو القلب، كما يقول سبحانه: أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ، وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْغٰافِلُونَ (1) و يقول سبحانه: وَ خَتَمَ عَلىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّٰهِ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ (2). و الختم على السمع و البصر لأجل كونهما من أدوات المعرفة التي يستخدمها القلب. و المآل هو القلب.

فالإمعان في هذه الآيات يثبت أنّ الإيمان هو التصديق القلبي، و أما أنّ هذا المقدار من الإيمان يكفي في نجاة الإنسان أو لا، فهو بحث آخر، إذ من الممكن أن يكون للإيمان في مجال النجاة شروط أخر.

سؤال:
اشارة

لو كان الإذعان القلبي كافيا في صدق الإيمان، فلما ذا يندد سبحانه بجماعة من الكفار بأنّهم جحدوا الحقيقة بألسنتهم و إن استيقنوها بقلوبهم، مع أنّهم على التعريف الذي ذكرناه، مؤمنين. يقول سبحانه: وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (3). و يقول سبحانه:

فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (4) . و يقول سبحانه: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (5). فهذه الآيات تدلّ على عدم كفاية التصديق القلبي في صدق الإيمان.

جوابه:

إن الإيمان هو التصديق، و أما التنديد، فلأنّ ظاهرهم كان مخالفا لباطنهم، فكانوا يتظاهرون بالنفاق، و لو لا التظاهر بالخلاف، بأن لا يجحدوا بعد

ص: 314


1- سورة النحل: الآية 108.
2- سورة الجاثية: الآية 23.
3- سورة النمل: الآية 14.
4- سورة البقرة: الآية 89.
5- سورة البقرة: الآية 146.

الاستيقان، و لا يكفروا باللسان ما عرفوه قبلا، لكانوا مؤمنين حقا.

نعم، لا يمكن الحكم بإيمانهم في مجال الإثبات إلا إذا دلّ الدليل على إذعانهم قلبا، و هذا خارج عن موضوع البحث.

سؤال:
اشارة

ما هو الأثر المترتب على التصديق القلبي؟.

جوابه:

الإيمان بهذا المعنى، موضوع للأثر في الدنيا و الآخر. أما في الدنيا، فحرمة دمه و عرضه و ماله، إلا أن يرتكب قتلا أو يأتي بفاحشة.

و أما في الآخرة، فصحة أعماله، و استحقاق الثواب عليها، و عدم الخلود في النار، و استحقاق العفو و الشفاعة في بعض المراحل.

سؤال:
اشارة

إنّ التصديق اللساني، أيضا له أثره الدنيوي من حرمة الدم و العرض و المال.

جوابه:

إن التصديق اللساني بما أنّه كاشف عن التصديق القلبي، يترتب عليه ذلك الأثر، فالأثر للمكشوف عنه لا للكاشف، و إلا فلو تبين نفاقه، و أنّه يتظاهر بما ليس في القلب، فلا حرمة لدمه و ماله و عرضه في الواقع.

نعم، يجب علينا مجازاته حسب إقراره و اعترافه إلا إذا كشف بقوله و إقراره عن سريرته، هذا.

و إن السعادة الأخروية رهن العمل، لا يشك فيه من له إلمام بالشريعة

ص: 315

و الآيات و الروايات الواردة حول العمل، و التصديق القلبي إذا لم يقترن بالعمل، لا ينجو الإنسان من عذاب الآخرة.

هذا هو الحق في الإيمان، و هاهنا أقوال أخر، نشير إليها:

الأول: إن الإيمان هو التصديق بالقلب و اللسان معا، و لا يكفي التصديق القلبي وحده، و هذا القول للمحقق الطوسي مستدلا بما مضى من قوله سبحانه:

وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (1) .

يلاحظ عليه: إنّ التنديد بهم سببه نفاقهم، و عدم مطابقة لسانهم لما في قلوبهم. فلو كانوا مستيقنين غير منكرين بألسنتهم لكانوا مستحقين للثناء.

الثاني: إنّ الإيمان هو الإقرار باللسان. و استدل القائل به بأنّ من أعلن بلسانه شهادة الإسلام فهو مسلم محكوم له بحكم الإسلام.

أضف إليه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في السوداء: «اعتقها فإنها مؤمنة»(2).

يلاحظ عليه: إنّ الحكم لهم بالإسلام أو بالإيمان إنما هو بحسب الظاهر، و ليس هو حكما بحسب الواقع، ففي هذا المقام يجعل الاعتراف اللساني طريقا إلى التصديق الجنائي، و لو علم خلافه، لحكم بالنفاق. قال سبحانه: وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (3).

فإنّ الرسول و أصحابه كانوا مكلفين بالحكم حسب المعايير الظاهرية التي تكشف عادة عن الإيمان القلبي، قال رسول اللّه: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، و يؤمنوا بما أرسلت به، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني

ص: 316


1- كشف المراد، ص 270، ط صيدا.
2- الفصل، ج 3، ص 206.
3- سورة البقرة: الآية 8.

دماءهم و أموالهم إلاّ بحقها، و حسابهم على اللّه»(1).

و بذلك يظهر وجه حكمه صلى اللّه عليه و آله في السوداء بأنها مؤمنة. روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال: ربّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال صلى اللّه عليه و آله: «إنّي لم أبعث لأشقّ عن قلوب الناس»(2).

و كيف يكتفي القائل بالتصديق اللساني، مع أنّ صريح الكتاب على خلافه، قال سبحانه: قٰالَتِ اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ (3) و الأعراب صدّقوا بألسنتهم، و أنكروا بقلوبهم، فرد اللّه عليهم بأنّكم لستم مؤمنين لأنّكم مصدّقون بألسنتكم لا بقلوبكم.

الثالث: إنّ الإيمان هو التصديق بالقلب و اللسان مع العمل، فالعمل عنصر حقيقي مقوّم للإيمان، و الفاقد له ليس بمؤمن بتاتا و القائلون بهذا هم الخوارج و المعتزلة(4)، غير أنّ بينهما فرقا في المقام.

فالخوارج يرون العمل مقوّما للإيمان، فالمقرّ قلبا و لسانا إذا فقد العمل، ارتكب الكبيرة، فقد صار كافرا، و لأجل ذلك يكفّرون مرتكب الكبيرة، و يحكمون عليه بالخلود في النار، إذا لم يتب.

و المعتزلة، مع أنّهم يرون العمل مقوّما للإيمان، غير أنّهم لا يكفّرون تارك العمل، و مرتكب الكبيرة، بل يجعلونه في منزلة بين الإيمان و الكفر، و المكلف عندهم على ثلاثة حالات:

إيمان، إذا قام بالتصديقين، و عمل بالوظائف.

و كفر، إذا فقد التصديق القلبي، أو هو و اللساني.

و منزلة بين المنزلتين، إذا قام بالتصديقين، و لكن فقد العمل.

ص: 317


1- الفصل، ج 3، ص 206.
2- المصدر السابق نفسه.
3- سورة الحجرات: الآية 14.
4- شرح الأصول الخمسة، ص 139.

و الكلام مع هؤلاء في مقامين:

1 - نقد هذا المذهب عن طريق الكتاب و السنة.

2 - تحليل ما تمسكوا به في إثبات عقيدتهم.

أما الأول، فالآيات الدالة على أنّ العمل ليس عنصرا مقوّما للإيمان (و إن كان مؤثرا في النجاة) كثيرة نشير إلى بعضها:

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ ، فالعطف يقتضي المغايرة، و لو كان العمل داخلا في الإيمان للزم التكرار. و احتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام، يحتاج إلى نكتة و مسوغ له.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ (1) فالجملة حالية، المقصود منها: «من عمل حال كونه مؤمنا»، و هذا يقتضي المغايرة.

قوله تعالى: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى اَلْأُخْرىٰ، فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اَللّٰهِ (2).

فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية، و قال ما هذا معناه: فإن بغت إحدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة الأخرى منهم».

نعم، يحتمل أن يكون إطلاق المؤمن عليهم باعتبار حال التلبس، أي باعتبار كونهم مؤمنين قبل القتال، لا بلحاظ حال صدور الحكم.

قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ (3).

فأمر الموصوفين بالإيمان، بتقوى اللّه، و هو الإتيان بالطاعات و الاجتناب عن المحرمات، فدلّ على أنّ الإيمان يجتمع مع عدم التقوى، و إلا كان الأمر به لغوا و تحصيلا للحاصل.

ص: 318


1- سورة طه: الآية 112.
2- سورة الحجرات: الآية 9.
3- سورة التوبة: الآية 119.

و احتمال أنّ الآية أمر على الاستدامة، خلاف الظاهر.

هذا حسب الآيات، و أمّا السنة فهناك روايات تدل على أنّ الإقرار المقترن بالعرفان، إيمان. منها ما رواه الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا، قال: يشهد أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمدا عبده و رسوله، و يقرّ بالطاعة، و يعرف إمام زمانه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن»(1).

و أما الثاني: و هو تحليل ما استدلوا به على أنّ العمل عنصر مقوم للإيمان بحيث لولاه فهو إما كافر أو في منزلة بين المنزلتين. فقد استدلوا بآيات:

1 - قوله سبحانه: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ (2)، فلو كان الإيمان هو التصديق، لما قبل الزيادة و النقيصة، لأن التصديق أمره دائر بين الوجود و العدم، و هذا بخلاف ما لو كان العمل جزء من الإيمان، فإنه عندئذ يزيد و ينقص حسب زيادة العمل و نقيصته، و الزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواها، و لا عدد في الاعتقاد(3).

يلاحظ عليه، إنّ الإيمان - بمعنى الإذعان - أمر مقول بالتشكيك، و لليقين مراتب بشهادة أنّ يقين الإنسان بأنّ الاثنين نصف الأربعة، يفارق يقينه في الشدة و الظهور بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس، كما أنّ يقينه الثاني يفارق يقينه بأن كل ممكن فهو زوج تركيبي من ماهية و وجود، و هكذا يتنزل اليقين من القوة إلى الضعف إلى أن يصل إلى أضعف المراتب التي لو تجاوز عنها لزال وصف اليقين و انقلب إلى الظن أو الشك. فمن ادعى بأنّ أمر الإيمان - بمعنى التصديق و الإذعان - دائر بين الوجود و العدم، فقد غفل عن حقيقته و مراتبه، فهل يصح لنا أن ندعي أنّ إيمان الأنبياء، كإيمان سائر الناس، كلا، لأنّ الأنبياء معصومون، و عصمتهم ناشئة من يقينهم بآثار المعاصي، الذي يصدهم عن

ص: 319


1- البحار، ج 66، ص 16، نقلا عن معاني الأخبار للصدوق.
2- سورة الفتح: الآية 4.
3- الفصل، لابن حزم الظاهري، ج 3، ص 194.

اقترافها، فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس، لما امتازوا عنهم بالعصمة عن المعصية.

و ما ذكروه من أنّ الزيادة تستعمل في الكمية العددية، فهو منقوض بآيات كثيرة استعملت فيها الزيادة في غيرها، قال سبحانه: وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ يَبْكُونَ، وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (1) و قال سبحانه: وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً (2) و المراد شدة خشوعهم، و شدة نفورهم، لا كثرة عددهما. و غير ذلك من الآيات التي استعمل فيها ذلك اللفظ فيما يرجع إلى الكيفية لا الكمية.

2 - قوله سبحانه: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ (3). و المراد من الإيمان، صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالأمر باستقبال الكعبة(4).

يلاحظ عليه: إنّه لو أخذ بظاهر الآية، فيجب أن يكون الإيمان نفس العمل، و هو مجمع على خلافه.

أضف إلى ذلك أنّه استعمل الإيمان و أريد منه العمل في المقام، و الاستعمال أعم من الحقيقة، و لا شك أنّ العمل أثر الإيمان ورد فعل له، فمن الشائع إطلاق السبب و إرادة المسبب.

3 - قوله سبحانه: فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (5).

أقسم سبحانه بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلا بتحكيم النبي و التسليم بحكمه، و عدم وجدان الحرج في قضائه. و التحكيم غير التصديق، بل هو عمل خارجي(6).

ص: 320


1- سورة الإسراء: الآية 109.
2- سورة الإسراء: الآية 41.
3- سورة البقرة: الآية 143.
4- البحار، ج 66، ص 18.
5- سورة النساء: الآية 65.
6- الفصل، ج 3، ص 195.

يلاحظ عليه: إنّ الآية وردت في شأن المنافقين، فإنهم كانوا يتركون النبي و يرجعون في دعاويهم إلى الأحبار، و هم مع ذلك يدّعون الإيمان و الإذعان و التسليم للنبي. فنزلت الآية بأنه لا يقبل منهم ذلك الادعاء حتى يرى أثر الإيمان في حياتهم، و هو تحكيم النبي في المرافعات، و التسليم العملي أمام قضائه، و عدم إحساسهم بالحرج، و هذا هو الظاهر من الآية، لا أنّ التحكيم بما أنّه عمل، جزء من الإيمان. و هذا نظير ما إذا ادّعى إنسان حبّا لرجل فيقال له: إن كنت صادقا فيجب أن يرى أثر الحب في حياتك، فاعمل له كذا و كذا.

4 - قوله سبحانه: وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ (1). فسمى سبحانه تارك الحج كافرا(2).

يلاحظ عليه: إنّ المراد كفران النعمة، حيث إن ترك فريضة الحج مع الاستطاعة، كفران لنعمته سبحانه، و قد استعمل الكفر في مقابل شكر النعم، قال سبحانه: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ (3).

كما ربما يكون المراد من الكفر جحد وجوب الحج.

و غير ذلك مما استدلوا به من الآيات. و أنت إذا احطت بما ذكرنا، تقدر على الإجابة عن استدلالهم بها(4).

نعم، هناك روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تعرب عن كون العمل جزء من الإيمان، نظير قول الصادق عليه السلام: «ملعون، ملعون من

ص: 321


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- البحار، ج 66، ص 19.
3- سورة إبراهيم: الآية 7.
4- مثل قوله سبحانه: وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ (البينة: 5). مستدلين بأنّ المشار إليه بلفظة «ذلك»، جميع ما ورد بعد الأمر، من عبادة اللّه سبحانه بالإخلاص و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة، استدل به ابن حزم في الفصل، ج 3، ص 194. و قد أجاب عنه الأستاذ دام ظله في الجزء الثالث من بحوثه في الملل و النحل، فلاحظ.

قال: الإيمان قول بلا عمل»(1). و الظاهر أنّ هذه الروايات وردت لرد المرجئة التي تكتفي في الحياة الدينية بالقول و المعرفة، و تؤخر العمل، و ترجو رحمته و غفرانه، مع عدم القيام بالوظائف. و قد تضافرت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لعن المرجئة(2).

سؤال:
اشارة

لو كان الإيمان هو التصديق، فهل هو يزيد و ينقص.

الجواب:

قد علم هذا مما ذكرنا من كون الإيمان ذا مراتب، و أن نفس الإذعان، له درجات. و ليس القول بزيادة الإيمان و نقصانه مختصا بمن جعل العمل عنصرا مقوّما للإيمان، بل هو يتحقق أيضا عند من يقول بأنّ الإيمان هو التصديق القلبي، و ليس العمل جزء منه.

إلى هنا تبيّنت حقيقة الأقوال الأربعة في بيان حقيقة الإيمان، و قد عرفت أنّ الصواب هو الأوّل منها، و هو التصديق القلبي(3).

ص: 322


1- البحار، ج 66، باب أنّ الإيمان مبثوث على الجوارح، الحديث 1، ص 19، و لاحظ سائر الروايات في هذا الكتاب.
2- لاحظ الوافي، للفيض الكاشاني، ج 3، أبواب الكفر، و الشرك، باب أصناف الناس، ص 46.
3- بقي هنا قول المرجئة، و هو لا يفترق كثيرا عن القول الثالث من الاكتفاء بالتصديق اللساني، و من أراد التفصيل فليرجع إلى الجزء الثالث من أبحاث الشيخ الأستاذ حفظه اللّه في الملل و النحل.

مباحث المعاد

(14) التوبة و شرائطها
اشارة

إن التوبة من المكفّرات التي نص الكتاب و الحديث على تكفير الذنوب بها، تحت شرائط خاصة، و إشباع الكلام فيها يتم بالبحث في أمور:

الأمر الأول - فلسفة التوبة

ربما يتوهّم أنّ في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراء بالمعصية و تحريضا على ترك الطاعة، بدعوى أنّ الإنسان إذا أيقن أنّه سبحانه يقبل توبته رغم اقترافه المعاصي، تزيد جرأته على هتك الحرمات، و الانهماك في الذنوب، فيدقّ باب كل قبيح، معتمدا على التوبة.

و لكنه توهم ساقط من أصله، فإنه لو كان باب التوبة موصدا في وجه العصاة، و اعتقد المجرم بأنّ العصيان مرّة واحدة، يدخله في عذاب اللّه، فلا شكّ أنّه سيتمادى في اقتراف السيئات و ارتكاب الذنوب، معتقدا بأنه لو غيّر حاله إلى الأحسن، لما كان له تأثير في تغيير مصيره، فلأي وجه يترك لذات المحرمات في ما يأتي من أيام عمره. و هذا بخلاف ما لو اعتقد بأنّ الطريق مفتوح و النوافذ مشرعة، و أنّه لو تاب توبة نصوحا ينقذ من عذابه سبحانه، فهذا يعطيه الأمل برحمة اللّه تعالى و يترك العصيان في مستقبل أيامه. و كم و كم من الشباب عادوا إلى الصلاح بعد الفساد في ظل الاعتقاد بالتوبة، بحيث لو لا ذلك الاعتقاد لأسهروا لياليهم في المعاصي، بدل الطاعات.

ص: 323

و لأجل ذلك نرى في التشريعات الجنائية العالمية قوانين للعفو عن السجناء المؤبّدين، إذا شوهدت منهم الندامة و التوبة، و تغيير السلوك، فتشريع هذا القانون يكون موجبا لإصلاح السجناء، لا تقوية روح الطغيان فيهم. فالإنسان حيّ برجائه، و لو ساد عليه اليأس و القنوت من عفوه و رحمته سبحانه، لزاد في طغيانه في عامة أدوار عمره.

الأمر الثاني - حقيقة التوبة

إنّ التوبة كما يستفاد من الآيات و الروايات حالة نفسانية مؤثّر في النفس فتصلحها و تعدها للصلاح الذي فيه سعادة الدنيا و الآخرة. و من المعلوم أنّ هذه الغاية لا تحصل إلا بتحقق أمرين:

1 - الندم على ما مضى.

2 - العزم على عدم العودة إليه إذا قدر.

فلو انتفى الأمران أو أحدهما لما حصلت تلك الحالة المؤثرة في صلاح النفس و إعدادها لكمالات أخرى، فيلزم في التوبة وجود هذين الأمرين، سواء أقلنا: إنّ التوبة مركبة منهما و أنّ كل واحد منهما جزء لها، كما نقل عن أبي هاشم الجبائي، أو قلنا: إنّ التوبة أمر بسيط هو الندم على ما مضى، و أما العزم فهو من شروطها و لوازمها، كما عليه الشيخ المفيد(1)، فإن هذا نزاع لفظي لا ثمرة له إلا في موارد نادرة، كما إذا ندم على ما سلف من القبيح و منع من العزم، فعلى القول الأوّل لم تتحقق التوبة دون الثاني.

و هناك كلام للإمام أمير المؤمنين حول التوبة، و قد سمع من بحضرته يقول: أستغفر اللّه، فقال: أ تدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيّين، و هو اسم واقع على ستة معان:

أوّلها: الندم على ما مضى.

ص: 324


1- أوائل المقالات، ص 61.

و الثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا.

و الثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه أملس ليست عليك تبعة.

و الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقها.

و الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت(1) فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد.

و السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

فعند ذلك تقول: «أستغفر اللّه»(2).

و بالجملة: إنّ التوبة لغاية إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى و الأخرى، و تمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة. و هذه الغاية لا تحصل إلا بحصول أمرين: الندم و العزم.

و أما باقي الأمور الأربعة الواردة في كلام الإمام عليه السلام، فسيوافيك الكلام فيها.

الأمر الثالث - وجوب التوبة

اتفقت العدلية على وجوب التوبة و استدلوا على ذلك بأمرين:

أ - إنها دافعة للضرر الذي هو العقاب، و دفع الضرر الأخروي واجب عقلا.

ب - إن العزم على ارتكاب القبائح و ترك الفرائض قبيح عقلا فيجب اجتنابه، و هو لا يحصل إلا بالتوبة.

ص: 325


1- السحت: المال من كسب حرام.
2- نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 417، و سنرجع إلى هذا الحديث عند استعراض أحكام التوبة، و إنما أوردناه هنا جملة واحدة ليسهل الرجوع إليه.

و الدليل الثاني لا يفيد إلاّ وجوب العزم و هو أحد جزئي التوبة أو شرطها.

و كيف كان، فكل من قال بالحسن و القبح العقليين، لا مناص له عن القول بوجوب التوبة وجوبا عقليا، و ما جاء من طريق السمع يكون مرشدا إلى هذا الحكم العقلي.

و أما المنكرون لهما، فيذهبون إلى وجوبها شرعا، قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً (1).

الأمر الرابع - هل تجب التوبة من الصغائر؟

إنّ ارتكاب أي معصية، صغيرة كانت أو كبيرة، جرأة على اللّه و خروج عن رسم العبودية و زيّ الرّقيّة، و هي تترك أثرا سيئا في النفس بلا ريب، فيجب التوبة منها لإزالة أثرها من النفس. و إليه ذهب أبو علي الجبائي، من المعتزلة، و لكن الظاهر من ابنه أبي هاشم، عدم وجوب التوبة من الصغائر إلاّ سمعا، و اختاره القاضي عبد الجبار، قائلا بأنّ التوبة إنّما تجب لدفع الضرر عن النفس، و لا ضرر في المعصية، فلا تجب التوبة منها، غاية الأمر أنّ للصغيرة تأثير في تقليل التواب، و لا ضرر في ذلك(2).

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكر مبني على أمرين غير ثابتين:

أ - أنّ المعاصي بالذات تنقسم إلى صغائر و كبائر، و أنّ صغر المعاصي و كبرها ليس من الأمور الإضافية النسبية، بل هناك صنفان من المعاصي لا يتداخل أحدهما في الآخر.

ب - أنّ المعاصي الصغيرة لا يعاقب عليها ما لم يكن عليها إصرار.

و كل ذلك مورد تأمّل و تردد.

ص: 326


1- سورة التحريم: الآية 8.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 789.

أضف إلى ذلك: أنّ وجه تشريع التوبة ليس منحصرا بالاجتناب عن العذاب حتى يقال: إنّه لا عقاب على الصغيرة، بل قد عرفت أنّ الوجه فيها - مضافا إلى الخلاص من العذاب - حسن الندم على كل قبيح أو إخلال بالواجب، و قبح العزم على الاستدامة، و هذا مشترك بين الصغيرة و الكبيرة.

و بذلك يظهر الجواب عما ربما يقال من أنّ عقاب الصغيرة مكفّر باجتناب الكبيرة إذا لم يصر عليها، لقوله سبحانه:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ (1) .

و عندئذ، لا يحتاج إلى التوبة منها، لما عرفت من أنّ وجه التوبة لا ينحصر بالخلاص من العذاب.

الأمر الخامس - التوبة واجب فوري

يحكم العقل بوجوب التوبة فورا، لأنها اجتناب عن القبيح بقاء، و ترك للعدوان استدامة، و مثل ذلك لا يصح فيه التأخير و التراخي.

أضف إلى ذلك أنّ العقل يحرّض على التوبة فورا ففورا، لئلا يفوت أوانها و يكون ممّن لا تقبل توبته قال سبحانه:

وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ، حَتّٰى إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قٰالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّٰارٌ، أُولٰئِكَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً (2) .

و ما ذكرناه هو خيرة المعتزلة أيضا حيث قالوا بفورية الوجوب و أنّه يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر يجب التوبة منه أيضا، حتى أن من أخّر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة، فقد فعل كبيرتين، و ساعتين أربع كبائر، الأوليان، و ترك التوبة

ص: 327


1- سورة النساء: الآية 31. و قد نقله العلامة المجلسي عن الشيخ البهائي، لاحظ البحار، ج 6، ص 48.
2- سورة النساء: الآية 18.

عن كل منهما، و ثلاث ساعات، ثمان و هكذا(1).

و لكن لا دليل على هذا التفصيل.

الأمر السادس - أثر التوبة

إن أثر التوبة هو إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى و الأخرى، فيرجع التائب بعد ندمه و عزمه على الترك في المستقبل، أبيض السريرة، كيوم ولدته أمّه، و بالتالي يسقط عنه العقاب.

و أما الأحكام الشرعية المترتبة على الأعمال السابقة فتبقى على حالها، إذ ليس للتوبة تأثير إلا في إصلاح النفس و إعدادها للسعادة الأخروية، و لذلك يجب الخروج عن مظالم العباد أوّلا، و تدارك ما فات من الفرائض ثانيا، فإنّ السيئة العارضة على النفس بسبب هضم حقوق الناس لا ترتفع إلا برضاهم، لأنّه سبحانه احترم حقوقهم في أموالهم و أعراضهم و نفوسهم، و عدّ التعدي على واحد منها ظلما، و عدوانا، و حاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم و قد قال عز من قائل: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ شَيْئاً (2).

قال المفيد رحمه اللّه: «إنّ من شرط التوبة إلى اللّه سبحانه من مظالم العباد الخروج إلى المظلومين من حقوقهم بأدائها إليهم أو باستحلالهم منها على طيبة النفس بذلك، و الاختيار له، فمن عدم منهم صاحب المظلمة و فقده خرج إلى أوليائه من ظلامته أو استحلهم منها»(3).

و لأجل ذلك قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «و الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه أملس ليس عليك تبعة، و الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقها»(4).

ص: 328


1- شرح المقاصد، ج 2، ص 242.
2- سورة يونس: الآية 44.
3- أوائل المقالات، ص 62.
4- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم 417.

هذا، و إنّ المتبادر من الآيات و الروايات أنّ التوبة بنفسها مسقطة للعقاب، يقول سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ تٰابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) فإنّ الظاهر منه أنّ نفس التوبة تجرّ الغفران، و غير ذلك من الآيات، و هذا الأمر من المسائل القرآنية الواضحة.

و أما حقوق اللّه، فيتبع هناك لسان الدليل الشرعي، فربما تكون التوبة مسقطة للحدّ كما في قوله سبحانه:

إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) . فالاستثناء صريح في أنّ التوبة تسقط الحدّ الوارد في الآية.

قال المحقق الحلّي: «إنّ شارب الخمر إذا تاب قبل قيام البينة، يسقط الحد، و إن تاب بعدها لم يسقط»(3).

و قال: «إذا تاب اللائط قبل قيام البيّنة سقط الحدّ، و لو تاب بعده لم يسقط»(4).

الأمر السابع - قبول التوبة واجب على اللّه أولا؟

لا شكّ أنّ التوبة تسقط العقاب، و هو مما أجمع عليه أهل الإسلام. و إنما الخلاف في أنّه هل يجب على اللّه قبولها بحيث لو عاقب بعد التوبة كان ظالما، أو هو تفضل منه سبحانه، و كرم و رحمة منه بعباده؟

ص: 329


1- سورة الأنعام: الآية 54.
2- سورة المائدة: الآيتان 33 و 34.
3- شرائع الإسلام، كتاب الحدود، الباب الرابع في حدّ المسكر.
4- المصدر السابق، الباب الثاني، في أحكام اللواط.

فالمعتزلة على الأوّل، و الأشاعرة و الإمامية على الثاني.

استدل المعتزلة بوجهين:

1 - إنّ العاصي قد بذل وسعه في التلافي، فيسقط عقابه، كمن بالغ في الاعتذار إلى من أساء إليه، فإنه يسقط ذمه بالضرورة(1).

و بعبارة أخرى: إن من أساء إلى غيره و اعتذر إليه بأنواع الاعتذارات، و عرف منه الإقلاع عن تلك الإساءة بالكلية فالعقلاء يذمون المظلوم، إذا ذمّه بعد ذلك(2).

2 - لو لم يجب إسقاط العقاب لم يحسن تكليف العاصي، و التالي باطل إجماعا، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية: إن التكليف إنما يحسن للتعريض للنفع. و بوجوب العقاب قطعا لا يحصل الثواب، و بغير التوبة لا يسقط العقاب، فلا يبقى للعاصي طريق إلى إسقاط العقاب عنه، و يستحيل اجتماع الثواب و العقاب فيكون التكليف قبيحا(3).

يلاحظ على الأول، بأنه لا يجب في منطق العقل قبول المعذرة، بل المظلوم في خيرة بين القبول و الصفح، و ليس رفض المعذرة مخالفا للحكمة و العدل حتى يجب على اللّه سبحانه.

و أما الثاني، فيلاحظ عليه أنّه مبني على الأصل الذي اختاره المعتزلة من أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار، و هو لا يجتمع مع الثواب المترتب على التكليف، فاستدلوا بأنّه لو لم تقبل توبته لوجب أن يخلد في النار (و لو بمعصية واحدة) و هو لا يجتمع مع الثواب، فيلزم سقوط تكليف العاصي. و لكنّ الأصل مردود لما قلنا من

ص: 330


1- شرح المقاصد، ج 2 ص 242.
2- كشف المراد، ص 268. و لاحظ شرح الأصول الخمسة، ص 798.
3- كشف المراد، ص 268 ط صيدا. و لاحظ شرح المقاصد، ج 2، ص 242.

أنّ المؤمن لا يخلد في النار و إنما كتب الخلود على الكافر، فلا مانع من أن يعاقب مدّة ثم يخرج فيثاب.

و على هذا فلا دليل على وجوب قبول التوبة على اللّه سبحانه، بل قبولها تفضّل و كرم منه سبحانه.

قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه: إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ (1). قال: «و وصفه بالرحيم عقيب التوّاب يدل على أنّ إسقاط العقاب بعد التوبة تفضّل منه سبحانه و رحمة من جهته، على ما قاله أصحابنا، و إنّه غير واجب عقلا على خلاف ما ذهب إليه المعتزلة»(2).

نعم، هذا إذا لوحظ قبول التوبة من حيث هو هو، و أما إذا لوحظ بعد ما وعده سبحانه بقبول توبة التائب، فالوجوب لا محيص عنه، لأنّ خلف الوعد قبيح، من غير فرق بين الواجب و الممكن، و قد أوضحنا لك معنى كون شيء واجبا على اللّه سبحانه، و أنّه لا يراد منه تكليف اللّه سبحانه، بل أنّ العقل يكشف حكما عاما سائدا على الواجب و الممكن، و هو أنّ الحكيم لا يفعل القبيح، لما فيه من المبادي الرافضة لارتكابه فيكون وجوب قبول التوبة سمعيا لا عقليا.

الأمر الثامن - هل يجب في التوبة، الندم على القبيح؟

الظاهر من غير واحد من المحققين أنّ التوبة تتقوم بالندم على القبيح لقبحه، و إلا فلو ندم لأجل إضرارها بالبدن أو إخلالها بعرضه أو ماله أو لغرض آخر، لا يكون تائبا.

و هذا كلام متين، فإنّ التوبة عبارة عن رجوع العبد إلى اللّه سبحانه، و هذا لا يتحقق إلا بأن يكون رجوعه لاستشعاره قبح عمله، و أنّه كان عدوانا على اللّه

ص: 331


1- سورة البقرة: الآية 160.
2- مجمع البيان، ج 1، ص 242.

و جرأة على المولى، و أما من ترك شرب الخمر لا بهذا الاعتقاد بل لأجل صيانة بدنه عن مضارها، فلا تكون توبة منه إلى اللّه.

إنما الكلام إذا تاب عن عمله لأجل الخوف من عقابه سبحانه، فقد ذهب المحقق الطوسي و تبعه العلامة الحلّي، إلى أنّه لو كانت الغاية من التوبة هي الخوف من النار بحيث لو لا خوف النار لم يتب، فلا يصدق عليها أنّها توبة.

قال العلامة الحلي: «فإن كانت التوبة خوفا من النار أو من فوات الجنة، لم تصح توبته، و هذا نظير ما لو اعتذر المسيء إلى المظلوم لا لأجل إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان، فإن العقلاء لا يقبلون عذره»(1).

يلاحظ عليه: إنّ التكاليف الإلهية متوجهة إلى عموم الناس، من غير فرق بين التكليف بالصلاة و الصوم أو التكليف بالتوبة. و من المعلوم أنّ الأكثرية الساحقة لا يقومون بالفعل لحسنه بالذات، و لا يتركونه لكونه قبيحا كذلك، بل الفعل و الترك يقومان على أساس الرغب و الرهب، و الطمع بالجنّة و الخوف من النار.

و على ذلك فالآيات الواردة حول التوبة المقترنة بالثواب تارة و الخلاص من النار أخرى، تعرب عن أنّ التوبة إذا حصلت لإحدى هاتين الغايتين، كفى ذلك في سقوط العقاب، يقول سبحانه - حاكيا قول هود عليه السلام -: وَ يٰا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً (2).

و يقول تعالى: وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى، وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3).

و في الدعاء الذي علمه علي عليه السلام كميل بن زياد، إيعاز، إلى ذلك: يقول: «اللّهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللّهم اغفر لي

ص: 332


1- كشف المراد، ص 246، ط صيدا، بتصرف.
2- سورة هود: الآية 52.
3- سورة هود: الآية 3.

الذنوب التي تنزل النقم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيّر النّعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء».

و إن شئت قلت: إنّ التوبة خوفا من النار، لا تنفك عن الاعتقاد بكون ما فعل أمرا قبيحا شرعا.

و بالجملة، فالآيات و الروايات الواردة حول التوبة مطلقة، تعم كل توبة يصدق عليها أنها رجوع إلى اللّه. و في حديث يبين علي عليه السلام موقف العباد في عبادة اللّه تعالى، و يقسمهم إلى ثلاثة أقسام، يقول:

«إن قوما عبدوا اللّه رغبة، فتلك عبادة التجار، و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة، فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار»(1).

و حينئذ، فكما أنّه تقبل عبادة العباد، رغبة و رهبة، تقبل توبتهم أيضا إذا كانت كذلك.

و لا معنى للتفكيك بين قبول عبادتهم و قبول توبتهم، و لا أجد فقيها يفتى ببطلان عبادة من عبده سبحانه لإحدى الغايتين، أو كليهما. كيف و هو سبحانه يصف أنبياءه العظام بقوله: إِنَّهُمْ كٰانُوا يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ وَ يَدْعُونَنٰا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كٰانُوا لَنٰا خٰاشِعِينَ (2).

و أما الاستدلال على أنّ المسقط ليس هو نفس التوبة، بل كثرة الثواب بعدها بأنها لو أسقطت العقاب بذاتها، لأسقطته في حال المعاينة، و في الدار الآخرة(3)؛ فيلاحظ عليه أنّ التوبة إنما تقبل لأنها تؤثر في النفس الإنسانية، فتصلحها، أو تعدّها للصلاح، و هذا إنما يتصور فيما إذا كان الإنسان قادرا على الفعل و الترك، و أما في حال المعاينة أو دار الآخرة، فالقدرة مسلوبة عن الإنسان هذا.

ص: 333


1- نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 237.
2- سورة الأنبياء: الآية 90.
3- كشف المراد، ص 268.

مع أنّك قد عرفت عند البحث عن أثر التوبة أنّ التوبة بنفسها هي المسقطة للعقاب، فلاحظ.

الأمر التاسع - هل تصحّ التوبة من قبيح دون قبيح؟

اختلفت كلمتهم في أنه هل يصح الندم من قبيح دون قبيح؟ فقال أبو علي: إنّه تصح ما لم يصر على شيء من ذلك الجنس، فلو أنّه تاب من شرب الخمر و أصرّ على الزنا كانت توبته عن الأول توبة نصوحا صحيحة، و أما إذا أصرّ على شيء من ذلك الجنس لم تصح توبته. و ذلك كما أنّه لو تاب عن شرب هذا القدح من الخمر مع إصراره على شرب قدح آخر، فلا إشكال في أن لا تصح توبته هذه(1).

و قال أبو هاشم: إنّه لا تصح التوبة عن بعض القبائح مع الإصرار على بعض، و اختاره القاضي عبد الجبار، و استدل عليه بأنّ التوبة عن القبيح يجب أن يكون ندما عليه لقبحه، و عزما على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح. و إذا كان هذا كذلك، فليس تصح توبته عن بعض القبائح مع الإصرار على البعض، إذ ليس يصح أن يترك أحدنا بعض الأفعال لوجه، ثم لا يترك ما سواه في ذلك الوجه، أ لا ترى أنّه لا يصح أن يتجنّب سلوك طريق لأن فيها سبعا، ثم لا يتجنب سلوك طريق أخرى فيها سبع. و كذلك لا يصح أن لا يتناول طعاما لأنّ فيه سما، ثم يتناول طعاما آخر مع أنّ فيه سما(2).

يلاحظ عليه: إنّ الأفعال القبيحة تختلف شدة و ضعفا، و إن كانت تشترك في كونها عدوانا على اللّه و خرقا لحدوده، و لكنها مع ذلك تختلف في جهات القبح، و على ذلك فربما يوجد داع إلى الندم في بعض القبائح دون الأخرى، و ذلك بأن يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب، أو كثرة الزواجر عنه، أو الشناعة على فعله عند العقلاء، دون قبائح أخرى، فعندئذ ربما يرجح الندم

ص: 334


1- شرح الأصول الخمسة، ص 795.
2- شرح الأصول الخمسة: ص 795.

على القبائح المحتفة بما يوجد الندم في النفس دون الأخرى. و لو اشتركت جميع القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم عليها جميعا، و لم يصح الندم على البعض دون الآخر(1).

و هذا مما يلمسه الإنسان في حياة المجرمين، فربما يحضر عاص أنديه الوعظ و الإرشاد، فيستمع إلى الخطيب، يندد ببعض المعاصي كشرب الخمر، و أكل الربا، و يذكر قبحهما و شناعتهما، و ما يترتب عليهما من إشاعة البغضاء في المجتمع، فيحصل في نفسه داع قوي يدفعه إلى ترك هذين القبيحين، و في الوقت نفسه قد لا يجد داعيا لترك غير هما من المعاصي التي اعتاد عليها، كالغيبة لا لأنه لا يراها قبيحة، بل لأنها لم تحتف بما يوجد داعي الندم في نفسه، بخلاف الأولين.

فجميعها، إذن، تشترك في القبح و الشناعة، غير أنّ الأوّلين يتميزان بوجود الداعي إلى التوبة عنهما فتاب، دون الآخر.

و بذلك يظهر الجواب عما ذكره أبو هاشم من أنّه إذا كانت توبته عن بعض القبائح لأجل قبحها، فهو موجود في البعض الآخر أيضا، فلم تاب عن الأولى دون الأخرى؟.

وجه الجواب أنّ الكل يشترك في القبح، لكن ترك البعض دون الآخر، لا لأجل اعتقاده أنّ واحدا قبيح دون الآخر، بل إنه يعتقد بقبحهما، و لكن الداعي للتوبة موجود في أحدهما دون الآخر.

و لقد أحسن المحقق الطوسي، حيث قال: التحقيق أنّ ترجيح الداعي إلى الندم على البعض يبعث عليه خاصة، و إن اشترك الداعي في الندم على القبيح لقبحه، كما في الدواعي إلى الفعل. و لو اشترك الترجيح، اشترك وقوع الندم، فلا يصح الندم(2).

و مما يوضح ذلك أنّه لو أسلم يهودي و رجع عن كفره، نادما على ما مضى من عمره، و لكنه بقي مصرا على صغيرة من الصغائر، فلو قلنا بأنّ التوبة من

ص: 335


1- لاحظ كشف المراد، ص 265-266 ط صيدا.
2- كشف المراد، ص 265، ط صيدا.

القبائح لا تتبعض لزم أنّ لا تكون توبته مقبولة، و هو خرق للإجماع، و إلى هذا ينظر قول المحقق الطوسي، «و إلا لو لا التبعيض، لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة»(1).

و العجب أنّ القاضي عبد الجبار استحسن قول أبي هاشم و أراد التخلص عن هذا الإشكال فقال: إنه لا يسقط من عقوبته شيء لأنه لم يأت بما يسقط العقوبة عامة، فبقيت عقوبته كما كانت، نعم، لا يجري عليه أحكام اليهود(2).

كيف يقول لا يسقط من عقوبته شيء مع أنّه كان كافرا فصار مؤمنا، و الإيمان يكفر الشرك و عقوبته باتفاق المسلمين، فالقول ببقاء عقوبة الشرك مع أنّه صار مؤمنا بحجة أنّه لم يزل يرتكب صغيرة، مخالف لنص الآيات و اتفاق المسلمين، و معاملة النبي للمشركين الذين آمنوا، و لو كان رفع العقوبة مقيّدا بعدم الإصرار على صغيرة، من الذنوب التي كان يرتكبها المشرك، لأصحر به النبي و بيّنه.

بقي هنا أبحاث طفيفة في التوبة، يظهر حالها مما أوضحناه(3). نسأله سبحانه أن يتوب علينا، و يكتب الغفران في صحائف أعمالنا، بفضله و كرمه.

ص: 336


1- المصدر السابق نفسه.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 797.
3- مثل ما إذا اغتاب إنسان رجلا، فهل يجب عليه الاعتذار منه، خاصة إذا بلغته الغيبة - أو لا؟ و هذه مسألة فقهية. و إذا كان التائب عالما بذنوبه على التفصيل فهل يجب التوبة عن كل واحدة منها، أو تكفي التوبة عنها إجمالا؟ و هل يجب تجديد التوبة، كلما تذكر التائب، معصيته السابقة؟ و غير ذلك مما ذكره المتكلمون، لاحظ التجريد و شروحه، في التوبة، المسألة الحادية عشر.

مباحث المعاد

(15) الشفاعة
اشارة

الشفاعة في الآخرة بصيص من الرجاء، و نافذة من الأمل، فتحتها الشريعة الإسلامية في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح اللّه و رحمته، و لا يغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه فيتمادوا في العصيان. فالسبب في تشريع الشفاعة هو عينه السبب في تشريع التوبة في الحياة الدنيوية. و جلاء الحقيقة في الشفاعة، يتم بالبحث في الأمور التالية:

1 - تصنيف آيات الشفاعة و إرجاعها إلى معنى واحد.

2 - نقل نماذج مما ورد من السنة عن النبي و العترة الطاهرة.

3 - تبيين معنى الشفاعة، و أقسامها.

4 - مبررات تشريع الشفاعة.

5 - شرائط شمول الشفاعة.

6 - أثر الشفاعة و أنّه حطّ الذنوب، لا رفع الدرجة.

7 - تحليل الإشكالات المثارة حول الشفاعة، و هي خمسة.

8 - جواز طلب الشفاعة من الأولياء.

ص: 337

و فيما يلي البحث في كل واحدة منها(1).

الأمر الأول: آيات الشفاعة و تصنيفها

قد ورد ذكر الشفاعة في الكتاب الحكيم في سور مختلفة، لمناسبات شتّى.

و لا يظهر المراد من المجموع إلا بعرض بعضها على بعض، و تفسير الكل بالكل، و الآيات الواردة في الشفاعة تندرج تحت الأصناف التالية:

الصنف الأول: ما ينفي الشفاعة في بادئ الأمر.

يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاٰ خُلَّةٌ وَ لاٰ شَفٰاعَةٌ وَ اَلْكٰافِرُونَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ (2).

و هذا الصنف من الآيات هو المستمسك لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان(3)، و سيوافيك أنّ المنفي قسم خاص منها لا جميع أقسامها بقرينة أنّ المنفي قسم من أواصر الخلة لا جميعها، بشهادة قوله سبحانه: اَلْأَخِلاّٰءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ (4).

الصنف الثاني: ما يردّ الشفاعة المزعومة لليهود.

يقول سبحانه: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ، وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ (5).

و الآية خطاب لليهود، و هي تهدف إلى نفي الشفاعة المزعومة عندهم، حيث كانوا يقولون نحن أولاد الأنبياء و أولادنا يشفعون لنا، فصار ذلك ذريعة

ص: 338


1- التفصيل في هذه الأمور يحوجنا إلى تأليف مفرد، و لذا اقتصرنا في البحث على ما يناسب وضع الكتاب.
2- سورة البقرة: الآية 254.
3- لاحظ دائرة معارف القرن الرابع عشر، ص 402، مادة شفع.
4- سورة الزخرف: الآية 67.
5- سورة البقرة: الآية 48.

لارتكاب الموبقات، و ترك الفرائض، فآيسهم اللّه من ذلك.

الصنف الثالث: ما ينفي شمول الشفاعة للكفار.

يقول سبحانه - حاكيا عن الكفار -: وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ * حَتّٰى أَتٰانَا اَلْيَقِينُ * فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ اَلشّٰافِعِينَ (1).

و هذا الصنف ناظر إلى نفي وجود شفيع - يوم القيامة - للكفار الذين انقطعت علاقتهم باللّه لكفرهم به و برسله و كتبه كما انقطعت علاقتهم الروحية بالشفعاء الصالحين، فلم يبق بينهم و بين الشفاعة أية صلة و علاقة.

الصنف الرابع: ما ينفي صلاحيّة الأصنام للشّفاعة.

يقول سبحانه: وَ مٰا نَرىٰ مَعَكُمْ شُفَعٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكٰاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مٰا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (2).

و هذا الصنف يرمي إلى نفي صلاحية الأصنام للشفاعة، و ذلك لأنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون الأصنام لاعتقادهم بشفاعتهم عند اللّه.

الصنف الخامس: ما يخصّ الشفاعة باللّه سبحانه.

يقول سبحانه: وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (3).

و كون الشفاعة مختصة باللّه لا ينافي ثبوتها لغيره بإذنه كما يعرب عنه آيات الصنف السادس.

الصنف السادس: ما يثبت الشفاعة لغيره بإذنه سبحانه.

يقول سبحانه: يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (4).

ص: 339


1- سورة المدثر: الآيات 46-48.
2- سورة الأنعام: الآية 94. و لاحظ يونس: 18، الروم: 13، الزمر: 43، يس: 23.
3- سورة الأنعام: الآية 51، و لاحظ الأنعام: 7، السجدة: 4، الزمر: 44.
4- سورة طه: الآية 109.

و يقول سبحانه: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ (1).

و الجمع بين هذا الصنف و ما سبقه واضح، و قد قلنا إنّ مقتضى التوحيد في الخالقية أنّه لا مؤثّر في الكون إلا اللّه، و أنّ تأثير سائر العلل إنما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه.

الصنف السابع: ما يسمّي من تقبل شفاعته.

و يتضمن هذا الصنف أسماء بعض من تقبل شفاعتهم يوم القيامة.

يقول سبحانه وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ * لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يَشْفَعُونَ إِلاّٰ لِمَنِ اِرْتَضىٰ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (2). فصرّح بأنّ الملائكة و حملة العرش تقبل شفاعتهم.

و يتحصل من جمع الآيات أنّ الشفاعة تنقسم إلى شفاعة مرفوضة، كالشفاعة التي يعتقد بها اليهود، و شفاعة الأصنام، و الشفاعة في حقّ الكفار، و إلى مقبولة و هي شفاعة اللّه سبحانه، و شفاعة من أذن له، و شفاعة الملائكة و حملة العرش، و بالإحاطة بالأصناف السبعة، تقدر على تمييز المرفوضة عن المقبولة.

و ليست آيات الشفاعة مختصة بالأصناف التي ذكرناها، فإن هناك آيات تخرج عن إطارها مثل قوله سبحانه: وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ، عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً (3). و قد أطبق المفسرون على أنّ المراد من المقام المحمود، هو مقام الشفاعة(4).

ص: 340


1- سورة البقرة: الآية 255، و لاحظ يونس: 3، مريم: 87، سبأ: 23، الزخرف: 86.
2- سورة الأنبياء: الآيات 26-28. و لاحظ النجم: 26، غافر: 7.
3- سورة الإسراء: الآية 79.
4- لاحظ مجمع البيان، ج 3، ص 435.
الأمر الثاني: الشفاعة في السّنة.

لقد اهتم الحديث النبوي، و حديث العترة الطاهرة بأمر الشفاعة و حدودها و شرائطها و أسبابها و موانعها، اهتماما بالغا لا يوجد له مثيل إلا في موضوعات خاصة تتمتع بالأهمية القصوى. و إذا لاحظ المتتبع، الصحاح و المسانيد و الجوامع الحديثية فإنه يقف على جمهرة كبيرة من الأحاديث الواردة في الشفاعة، تدفع به إلى الإذعان بأنّها من الأصول المسلّمة في الشريعة الإسلامية، و نحن نذكر النذر اليسير منها.

1 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «لكل نبي دعوة مستجابة.

فتعجّل كلّ نبيّ دعوته، و إنّي اختبأت دعوتي، شفاعة لأمتي، و هي نائلة من مات منهم لا يشرك باللّه شيئا»(1).

2 - و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أعطيت خمسا، و أعطيت الشفاعة، فادخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك باللّه»(2).

3 - و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي»(3).

4 - و قال عليّ عليه السلام: «ثلاثة يشفعون إلى اللّه عز و جل فيشفّعون:

الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»(4).

5 - و قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في كلام له:

«اللّهمّ صلّ على محمد و آل محمد، و شرّف بنيانه، و عظّم برهانه، و ثقّل ميزانه و تقبّل شفاعته»(5).

ص: 341


1- صحيح مسلم، ج 1، ص 130. و صحيح البخاري، ج 8، ص 33، و ج 9، ص 170. و غير ذلك من المصادر.
2- صحيح البخاري، ج 1، ص 42، و ص 119. و مسند أحمد، ج 1، ص 301.
3- «من لا يحضره الفقيه» للصدوق، ج 3، ص 376
4- «الخصال»، للصدوق، ص 142.
5- الصحيفة السجادية، الدعاء الثاني و الأربعون. و من أراد التبسط فعليه الرجوع إلى المصادر التالية:
الأمر الثالث: حقيقة الشفاعة و أقسامها
اشارة

للشفاعة أصل واحد يدل على مقارنة الشيئين، من ذلك الشفع، خلاف الوتر، تقول كان فردا فشفّعته(1).

فإذا كان مقوّم الشفاعة، انضمام شيء إلى شيء في مقام التأثير، فهي تنقسم الى الأقسام التالية:

شفاعة تكوينية، شفاعة قيادية، و شفاعة مصطلحة بين الناس.

1 - الشفاعة التكوينية

قد عرفت في مباحث التوحيد أنّ المظاهر الكونية، بحكم أنّها ممكنة الوجود، غير مستقلة في ذاتها، و لكنها مع ذلك قائمة على أساس علل و معاليل سائدة فيها.

و على ضوء ذلك فتأثير كل ظاهرة كونية في أثرها، و معلولها، بإذنه سبحانه، و لا يتحقق إلاّ مقترنا به، و لأجل ذلك سمّى سبحانه السبب الكوني، شفيعا، لأنّ تأثيره مشروط بأن يكون إذنه سبحانه منضما إليه، فيؤثّران معا.

يقول سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ (2) و المراد من الشفيع هو الأسباب و العلل المادية الواقعة في طريق وجود الأشياء و تحقّقها. و إنّما سميت العلة شفيعا، لأجل أنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه، فهي مشفوعة إلى إذنه، حتى تؤثّر و تعطي ما تعطي.

ص: 342


1- المقاييس، ج 3، ص 201.
2- سورة يونس: الآية 3.

فالآية خارجة عن الشفاعة المصطلحة بين علماء الكلام، و القرائن الموجودة في نفس الآية تصدّنا عن حملها إلا على هذا القسم من الشفاعة، و قد عرفت أنّ الشفاعة خلاف الوتر، و أنّه يصح في صدقها، انضمام شيء إلى شيء.

2 - الشفاعة القيادية

و المراد من هذا الصنف هو قيام الأنبياء و الأولياء و الأئمة و العلماء، و الكتب السماوية مقام الشفيع، و الشفاعة للبشر لتخليصهم من عواقب أعمالهم و سيئات أفعالهم.

و الفرق بين هذه الشفاعة و الشفاعة المصطلحة أنّ الثانية توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له، و هذه توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة، حتى يستحق العقاب. فالأولى من قبيل الرفع، و الثانية من قبيل الدفع. و على ذلك فقيادة الأنبياء و الأئمة، تقوم مقام الشفيع و الشفاعة في تجنيب العبد من الوقوع في المعاصي و المهالك.

فالشفاعة بهذا المعنى، مثلها مثل الوقاية في الطبابة، كما أنّ الشفاعة المصطلحة مثلها مثل المداواة بعد إصابة المرض.

و ليس إطلاق الشفاعة بهذا المعنى إطلاقا مجازيا، كيف و قد شهد بذلك القرآن و الأخبار.

قال سبحانه: وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (1).

و الضمير المجرور في بِهِ يرجع إلى القرآن، و من المعلوم أنّ ظرف شفاعة القرآن، هو الحياة الدنيوية. فإن هدايته تتحقق فيها، و إن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأخروية، فمن عمل بالقرآن قاده إلى الجنة.

ص: 343


1- سورة الأنعام: الآية 51.

يقول صلى اللّه عليه و آله: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفّع»(1).

فالشفاعة هنا بنفس معناها اللغوي، و ذلك أنّ المكلّف يضم هداية القرآن و توجيهات الأنبياء و الأئمة، إلى إرادته و سعيه، فيفوز بالسعادة الأخروية.

و هذا غير الشفاعة المصطلحة فإنّ ظرفها هو الحياة الأخروية، فبين الشفاعتين بون بعيد.

3 - الشفاعة المصطلحة

حقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلا أن تصل رحمته سبحانه و مغفرته و فيضه إلى عباده عن طريق أوليائه و صفوة عباده، و ليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه، تصل إلى عباده في هذه الدنيا عن طريق أنبيائه و كتبه، فهكذا تصل مغفرته سبحانه إلى المذنبين و العصاة من عباده، يوم القيامة، عن ذلك الطريق و لا بعد في أن يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة، عن طريق عباده، فإنه سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سببا لذلك و قال:

وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً (2) .

و تتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق، و بخاصة دعاء الصالحين، من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة و المعلول، و لا تنحصر العلة في المحسوس منها، فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا و حواسنا، بل قد تكون بعيدة عن تفكيرنا، و إليه يشير قوله سبحانه: فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (3).

ص: 344


1- الكافي، ج 2 ص 238.
2- سورة النساء: الآية 64 و لاحظ يوسف: الآية 97 و 98، التوبة: الآية 103.
3- سورة النازعات: الآية 5.

و بالإمعان فيما ذكرنا من وقوع الدعاء في سلسلة العلل، تقدر على إرجاع الشفاعة المصطلحة إلى قسم من الشفاعة التكوينية بمعنى تأثير دعاء النبي في جلب المغفرة.

الأمر الرابع - مبررات الشفاعة
اشارة

ربما يقال: إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة، هو عمله الصالح، كما هو صريح قوله سبحانه: وَ أَمّٰا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُ جَزٰاءً اَلْحُسْنىٰ (1)، فلما ذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة؟.

و الجواب عن ذلك: إنّ لتشريع الشفاعة مبررات عدة، نذكر منها اثنتين:
الأول - الحاجة إلى رحمة اللّه الواسعة حتى مع العمل

إنّ الفوز بالسعادة و إن كان يعتمد على العمل أشد الاعتماد، غير أنّ صريح الآيات هو أنّ العمل ما لم تنضم إليه رحمة اللّه الواسعة، غير كاف في إنقاذ الإنسان من تبعات تقصيره.

قال سبحانه: وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِظُلْمِهِمْ مٰا تَرَكَ عَلَيْهٰا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى (2).

و قال سبحانه: وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِمٰا كَسَبُوا مٰا تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِهٰا مِنْ دَابَّةٍ (3).

ص: 345


1- سورة الكهف: الآية 88.
2- سورة النحل: الآية 61.
3- سورة فاطر: الآية 45.
الثاني - الآثار التربوية للشفاعة

بالرغم مما اعترض على الشفاعة من كونها توجب الجرأة، و تحيي روح التمرد في العصاة و المجرمين، فإنّ الشفاعة تتسبب في إصلاح سلوك المجرم و إنابته و التخلّي عن التمادي في الطغيان. و تظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة التي اتفقت الأمة على صحتها، فإنه لو كان باب التوبة موصدا في وجه العصاة و المذنبين، و اعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرة واحدة يخلّده في عذاب اللّه، فلا شكّ أنّه يتمادى في اقتراف السيئات باعتقاد أنّ تغييره للوضع الذي هو عليه لن يكون مفيدا في إنقاذه من عذاب اللّه، فلا وجه لأن يترك لذات المعاصي. و هذا بخلاف ما إذا وجد الجو مشرقا، و الطريق مفتوحا، و أيقن أنّ رجوعه يغير مصيره في الآخرة، فيترك العصيان و يرجع إلى الطاعة.

و مثل التوبة الاعتقاد بالشفاعة المحدودة (أي مع شروط خاصة في المشفوع له) فإذا اعتقد العاصي بأن أولياء اللّه قد يشفعون في حقه إذا لم يهتك الستر، و لم يبلغ إلى الحد الذي لا تكون فيه الشفاعة نافعة، فعند ذلك، ربما يعيد النظر في مسيره، و يحاول تطبيق حياته على شرائط الشفاعة، حتى لا يحرمها.

نعم، الاعتقاد بالشفاعة المطلقة المحررة من كل قيد، مرفوض في منطق العقل و القرآن. و المراد من المطلقة هو أنّ الأنبياء يشفعون للإنسان يوم القيامة، و إن فعل ما فعل، إذ عند ذلك يستمر و يتمادى في أعماله الإجرامية. و أما الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له و الشافع، فلا توجب ذلك.

و مجمل هذه الشروط أن لا يقطع الإنسان جميع علاقاته العبودية مع اللّه، و وشائجه الروحية مع الشافعيين، و لا يصل تمرده إلى حد نسف جسور الارتباط بهم.

الأمر الخامس - شرائط شمول الشفاعة
اشارة

قد تعرفت على أنّ الشفاعة المشروعة، هي الشفاعة المحدودة بحدود،

ص: 346

و ليس أمر الشفاعة فوضى بلا قيد و شرط، و نحن نذكر بعض شرائطها كما وردت في الروايات.

1 - عدم الشرك باللّه شيئا

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «شفاعتي نائلة إن شاء اللّه من مات و لا يشرك باللّه شيئا»(1).

2 - شهادة الشهادتين بإخلاص

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ اللّه، مخلصا، يصدق قلبه لسانه، و لسانه قلبه»(2).

3 - عدم الغشّ

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من غشّ العرب لم يدخل في شفاعتي و لم تنله مودتي»(3).

4 - عدم نصب العداء لأهل البيت عليهم السلام

قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ المؤمن ليشفع لحميمه، إلا أن يكون ناصبا، و لو أنّ ناصبا شفع له كل نبي مرسل و ملك مقرب ما شفعوا»(4).

ص: 347


1- مسند أحمد: ج 2، ص 426.
2- مسند أحمد، ج 2، ص 307، و 518، و لاحظ صحيح البخاري، ج 1، ص 36.
3- مسند أحمد، ج 1، ص 72، المراد من العرب المسلمون، لأن المسلمين يوم ذاك كانوا منحصرين في العرب.
4- ثواب الأعمال، للصدوق، ص 251.
5 - عدم الاستخفاف بالصلاة

قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: «لما حضر أبي (الإمام الصادق) قال لي: يا بنيّ، إنه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة»(1).

6 - عدم التكذيب بشفاعة رسول اللّه

قال علي بن موسى الرضا عليه السلام: «قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: من كذّب بشفاعة رسول اللّه لم تنله»(2).

و غير ذلك من الشرائط التي يجدها المتتبع في أحاديث الشفاعة من الفريقين.

الأمر السادس - ما هو أثر الشفاعة: إسقاط العقاب أو زيادة الثواب؟

لم تكن مسألة الشفاعة فكرة جديدة ابتكرها الإسلام و انفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل، و خاصة بين الوثنيين و اليهود.

نعم، هذّبها الإسلام من الخرافات، و قررها على أصول توافق أصول العدل و العقل، و صحّحها تحت شرائط في الشافع و المشفوع له، تجر العصاة إلى الطهارة من الذنوب، و لا توجب فيهم جرأة و جسارة. و غير خفي على من وقف على آراء اليهود و الوثنيين في أمر الشفاعة، و أنّ الشفاعة بينهم كانت رجاء في حط الذنوب و غفران الآثام، و لأجل ذلك كانوا يقترفون الكبائر، تعويلا على ذلك الرجاء. و جاء القرآن يرد تلك العقيدة الباعثة إلى الجرأة، فقال: إنه لا يشفع إنسان إلا بإذنه تعالى و في حق من ارتضاه سبحانه، فليس لكم أن تقترفوا الذنوب تعويلا على شفاعة الشفيع، لأنّ الأمر ليس في أيديهم بل في ملكه سبحانه و قدرته.

ص: 348


1- الكافي، ج 3، ص 270. و ج 6، ص 401. و التهذيب، للطوسي، ج 9، ص 107.
2- عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 66.

و على ضوء هذا، إن الشفاعة عند الأمم، مرفوضها، و مقبولها، يراد منها حط الذنوب، و رفع العقاب، و هي كذلك في الإسلام، بلا فرق، كما يوضحه قوله صلى اللّه عليه و آله: «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»(1).

و في المقابل ذهبت المعتزلة إلى تخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة، دون العصاة، و أن أثرها ينحصر في رفع الدرجة و زيادة الثواب. و ما هذا التأويل في آيات الشفاعة إلا لأجل موقف مسبق لهم في مرتكب الكبيرة، حيث حكموا بخلوده في النار إذا مات بلا توبة، فلما رأوا أن القول بالشفاعة التي أثرها هو إسقاط العقاب، ينافي ذلك المبنى، أوّلوا آيات اللّه، فقالوا إنّ أثر الشفاعة إنما هو زيادة الثواب، و رفع الدرجة. و هذا المقام أحد المقامات التي يؤخذ المعتزلة فيها بالعتاب، حيث قدّموا النهج على النقل الصريح، و خالفوا في ذلك جميع المسلمين.

قال القاضي عبد الجبار، منكرا شمول الشفاعة للعصاة: «إنّ شفاعة الفساق الذين ماتوا على الفسوق و لم يتوبوا تتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير و ترصد للآخر حتى يقتله، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا»(2).

و ما ذكره القاضي، غفلة منه عن شروط الشفاعة، فإنّ بعض الذنوب الكبيرة، تقطع العلائق الإيمانية باللّه سبحانه، كما تقطع الأواصر الروحية مع النبي الأكرم، فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشفاعة، و قد تقدم ذكر النصوص الدالة على حرمان طوائف منها.

و العجب أنّ القاضي استدل على أنّ الفاسق لا يخرج من النار بشفاعة النبي، بقوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (3). و قوله تعالى: مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاٰ شَفِيعٍ يُطٰاعُ (4).

ص: 349


1- سنن أبي داود، ج 2، ص 537، و صحيح الترمذي، ج 4، ص 45، صحيح ابن ماجة، ج 2، ص 1441. مسند أحمد، ج 3، ص 213.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 688.
3- سورة البقرة: الآية 48.
4- سورة غافر: الآية 18.

فيلاحظ عليه: أنّ الآيتين راجعتان إلى الكفار، فالآية الأولى ناظرة إلى نفي الشفاعة التي كان اليهود يتنبونها، كما هو صريح سياقها، و الآية الثانية ناظرة إلى نفي الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من معبوداتهم، يقول سبحانه:

قٰالُوا وَ هُمْ فِيهٰا يَخْتَصِمُونَ * تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * وَ مٰا أَضَلَّنٰا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ * فَمٰا لَنٰا مِنْ شٰافِعِينَ * وَ لاٰ صَدِيقٍ حَمِيمٍ (1) .

و قال سبحانه: - حاكيا قول المجرمين في سقر - وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ * حَتّٰى أَتٰانَا اَلْيَقِينُ * فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ اَلشّٰافِعِينَ (2).

الأمر السابع - الإشكالات المثارة حول الشفاعة
اشارة

هناك إشكالات مثارة حول الشفاعة، ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الإسلامية، بالشفاعة الرائجة بين الناس، و لو عرف المستشكلون الاختلاف الماهوي بين الشفاعتين، لما اجترءوا على إلقاء هذه الشبهات.

الإشكال الأول:
اشارة

إنّ جميع المعاصي تشترك في هدم الحدود و الجرأة على المولى، فأي معنى لشمول الشفاعة لبعض ألوان الجرائم و المعاصي دون البعض الآخر؟.

و الجواب:

إن للجرم مراتب، كما أنّ المجرمين، على درجات من النفسيات و الروحيات، فلا يستوي من أحرق منديل أحد عدوانا بمن أحرق مصنعا كبيرا له. و فرق بين شاب ينظر إلى المرأة الأجنبية نظرا ممزوجا بالسوء، و آخر يعتدي

ص: 350


1- سورة الشعراء: الآيات 96-101.
2- سورة المدثر: الآيات 46-48.

عليها بالعنف. فإذا اختلف الجرمان، اختلف المجرمان من حيث النفسانيات و الروحيات. و هناك مجرم قد حافظ على روابطه الإيمانية مع اللّه، و على علاقاته الروحية مع الشفيع، بحيث لا يعد المجرم غريبا عن كلا المقامين، و مجرم قد قطع كلتا العلاقتين، و صار أجنبيا عنهما، فتشريع الشفاعة في حقّ الأول دون الثاني، لا يعدّ تفريقا في القانون.

و الذي يوضح ذلك أنّ اللّه سبحانه فرّق بين الذنوب، فقال بأنّ الشرك لا يغفر، إلاّ مع التوبة، و أما غيره فيغفر و إن لم تقع التوبة.

قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ، وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِفْتَرىٰ إِثْماً عَظِيماً (1).

و أنت إذا أحطت بما ورد حول الذنوب من العقوبات المختلفة و تقسيمها إلى كبائر و صغائر، تقف على أنّ قبول الشفاعة، في حق بعض دون بعض، ليس ترجيحا بلا مرجّح.

الإشكال الثاني:
اشارة

إنّ تشريع الشفاعة يجرّ إلى التمادي في العصيان، و استمرار المجرم في عدوانه، رجاء غفران ذنوبه بالشفاعة(2).

و الجواب، أما نقضا:

فبالوعد بالمغفرة، مع التوبة، بل حتى مع عدمها، قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ ، فلو كانت الشفاعة موجبة للتمادي، فليكن الوعد بالمغفرة مع التوبة بل مع عدمها في غير الشرك موجبا للتمادي، أيضا. فالجواب هنا، هو الجواب هناك.

ص: 351


1- سورة النساء: الآية 48.
2- دائرة المعارف، لفريد وجدي، ج 5، ص 402.
و أما حلا

فالإشكال ينبع من تصوّر خاطئ و هو اعتقاد كون الشفاعة مطلقة غير مشروطة بشيء، فيكون للإنسان عند ذاك أن يفعل ما يريد تعويلا عليها. و لكنك عرفت أنّ الشفاعة محدودة، و تشمل بعض العباد، و هم الذين لم تنقطع علاقاتهم باللّه سبحانه و بأوليائه، و مثل هذه الشفاعة لا تبعث على الجرأة، بل تبعث عملا في نفس العاصي، و تدفعه إلى الاحتفاظ بعلاقته و لا ينسفها من رأس.

إن الشفاعة التي نطق لها القرآن، ليست أمرا مطلقا من كل قيد و شرط، فإنّ الشفاعة مقيّدة بإذنه سبحانه أوّلا، و كون المشفوع له مرضيا عند اللّه ثانيا، و ليس من الممكن أن يذعن المجرم بأنّه ممن يشمله أذنه سبحانه و رضاه.

قال سبحانه: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ (1).

و قال سبحانه: وَ لاٰ يَشْفَعُونَ إِلاّٰ لِمَنِ اِرْتَضىٰ (2).

فليس في وسع أحد أن يدّعي أنّه من العباد المرضيين، ثم يعتمد على ادّعائه و يتمادى في العصيان.

و هناك وجه آخر لكون الشفاعة محدودة، و هو إبهامها من حيث الجرم، فلا يعلم أي جرم تشمله الشفاعة و أيّه لا تشمله. كما أنها مبهمة من حيث وقت القيامة، فللعصاة و الطغاة مواقف مختلفة، و هي مواقف رهيبة و مخيفة تهز القلوب، و لم يعين وقت الشفاعة.

و هذا الإبهامات الثلاثة، تصد المجرم عن الاعتماد على الشفاعة ليتمادى في المعصية، و غاية ما يمكن أن يقال في الشفاعة أنّها بصيص من الرجاء، و نافذة من الأمل فتحها القرآن في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح اللّه.

ص: 352


1- سورة البقرة: الآية 255.
2- سورة الأنبياء: الآية 28.
الإشكال الثالث:
اشارة

إنّ الشفاعة لا تتحقق إلا بترك الإرادة و فسخها لطلب الشفيع رفع العقاب عن المشفوع له، من غير فرق بين الحاكم العادل و الحاكم الظالم، غاية الأمر أنّ الحاكم العادل لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغيّر علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب، و رأى العدل في خلاف ما أراده أو حكم به. و أما الحاكم الظالم، فهو يقبل الشهادة لكن مع العلم بصواب الحكم الأول و كونه عدلا، لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرّب عنده على العدالة، و كلا النوعين محال على اللّه، لأن إرادته تعالى على حسب علمه، و علمه أزلي لا يتغير(1).

و الجواب:

إن المستشكل لو أمعن في حقيقة الشفاعة التي نطق بها القرآن و الأحاديث لما جعل الشفاعة من هذا الباب. بل هي من واد آخر، و من باب تغيير الحكم لأجل تغيّر الموضوع. فالخمر ما دام خمرا حرام، فإذا تبدّل إلى الخل يكون حلالا، و لا يعدّ الحكم الثاني ناقضا للحكم الأول.

و نظير ذلك العاصي و التائب، فإن العصيان حالة نفسانية في الإنسان، فله حكمه الخاص، كما أنّ التوبة حاكية عن حالة نفسانية مغايرة للحالة الأولى، فلها حكمها الخاص، و الاختلاف في الحكمين لأجل الاختلاف في الموضوعين، و لا يعد ذلك تبدّلا في العلم، بل تبدّلا في المعلوم.

و على هذا الأساس، فالعاصي - مجردا عن انضمام الشفاعة إليه - محكوم بالعقاب، و لكنه - منضمّة إليه الشفاعة - محكوم بحكم آخر من أول الأمر، و اختلاف الحكمين، لأجل اختلاف الموضوعين في الإطلاق و التقييد.

و إن شئت قلت: إنّ العاصي مجردا عما يمر عليه في البرزخ من العذاب،

ص: 353


1- المنار، ج 1، ص 307، و قد تبنى مؤلّفه هذا الإشكال و ما يليه!!.

و ما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه، و مجردا عن دعاء الشفيع في حقه، محكوم بالعقاب. و لكنه - منضما إلى الضمائم الثلاث - محكوم بالمغفرة.

و على ضوء هذا، يتبين أنّ الشفاعة لا توجب اختلافا في علمه و تغييرا في إرادته، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقا للعدل و الآخر مطابقا للجور، بل الحكمان صدرا من الأزل، على موضوعين مختلفين، من مصدر العدل، تبارك و تعالى.

الإشكال الرابع:
اشارة

ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة و إنما ورد الحديث بإثباتها(1).

و لعل نظر المستشكل إلى أنّ الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه و ارتضائه، و لا دليل على أنه يأذن و يرتضي، فهو ممكن لا دليل على وقوعه.

و الجواب:

إن البحث عن الإمكان و الامتناع يناسب المسائل الفلسفية و الكلامية البحتة، و أما المسائل التربوية، كالشفاعة، فالوعد بها، مقيّدا بالإذن، و الارتضاء، لا يهدف إلا إلى وقوعها في ذلك الإطار، لا إمكانها فيه، و ذلك مثل قوله سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (2) و قوله: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

على أن هناك قرائن تدل على وقوع الاستثناء و تحققه، منها:

1 - أنّه سبحانه عبّر عن رضاه، بالجملة الماضية، و قال: وَ لاٰ يَشْفَعُونَ

ص: 354


1- المنار، ج 7، ص 370.
2- سورة يونس: الآية 100.
3- سورة آل عمران: الآية 145.

إِلاّٰ لِمَنِ اِرْتَضىٰ ، و هو يدل على تحقق الرضا منه سبحانه في حقّ المشفوع له، و رضاه له لا ينفك عن تحقق إذنه للشفعاء.

2 - و أنّه سبحانه أخبر بخبر قطعيّ عن شهادة من شهد بالحق، قال:

وَ لاٰ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفٰاعَةَ إِلاّٰ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1) .

و هذا يكشف عن تحقق المراتب المتقدمة عليه، من إذنه سبحانه له و ارتضائه لمن يستحقها.

و غير ذلك من القرائن التي يستكشف منها كون الشفاعة وعدا مقطوعا وقوعه.

الإشكال الخامس:
اشارة

الذي ورد في إثبات الشفاعة، من الآيات المتشابهات، و فيه يقضى بمذهب السلف، بالتفويض و التسليم، و لا نحيط بحقيقتها، مع تنزيه اللّه تعالى جل جلاله عن المعنى المعروف للشفاعة في لسان التخاطب العرفي(2).

و الجواب:

قد تعرفت على أصناف الآيات الواردة في الشفاعة، و ليس فيها آية مبهمة مستعصية على الفهم. و على فرض وجودها، يرفع إبهامها بآية أختها، أو بالأحاديث الواردة حولها.

على أنّ ما ذكره المستشكل من أنّ مذهب السلف في المتشابهات هو التفويض و التسليم، مردود من رأس فإنّ القرآن كتاب الهداية و التربية، نزل للفهم

ص: 355


1- سورة الزخرف: الآية 86.
2- المنار، ج 1، ص 307-308.

و العبرة، فلا معنى لقراءة الآيات و تفويض مفاهيمها التصديقيّة إلى اللّه، بل يجب رفع إبهام المتشابهات عن طريق المحكمات.

نعم، هناك مفاهيم تصورية مبهمة، كحقيقة ذاته تعالى، و صفاته، و حقيقة الميزان و الحساب و الجنة و النار، و لكنها مفاهيم تصورية خارجة عن موضوع البحث.

هذه جملة من الإشكالات، و بالإحاطة بها و بأجوبتها، تقدر على دفع ما لم نورده مما ذكروه(1).

و في الختام، نشير إلى أن مسألة الشفاعة مسألة إجماعية، اتفق عليها الفريقان، فلا تجد في كتاب كلامي إلاّ التصديق بها.

قال القاضي عيّاض: «مذهب أهل السنة هو جواز الشفاعة عقلا، و وجوبها سمعا بصريح الآيات، و بخبر الصادق، و قد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر، بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، و أجمع السلف الصالح و من بعدهم من أهل السنة، عليها»(2).

و قال الإمام أبو حفص النسفي: «و الشفاعة ثابتة للرسل و الأخيار في حق أهل الكبائر، بالمستفيض من الأخبار»(3).

ص: 356


1- راجع في الوقوف على سائر الإشكالات و أجوبتها، مفاهيم القرآن، ج 4، ص 246-256.
2- بحار الأنوار، ج 8، ص 62.
3- شرح العقائد النسفية، ص 148. و لاحظ أنوار التنزيل للبيضاوي، ج 1، ص 152. و مفاتيح الغيب، للرازي، ج 3، ص 56. و مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية، ج 1، ص 403. و تفسير ابن كثير، ج 1، ص 309. و غير ذلك من المصادر.
الأمر الثامن: هل يجوز طلب الشفاعة؟
اشارة

قد تعرفت على أنّ أصل الشفاعة أمر مفروغ عنه، و أنّ المخلصين من عباده يشفعون يوم القيامة بعد إذنه و ارتضائه، لكن يقع الكلام في جواز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة.

فذهب ابن تيمية و تبعه محمد بن عبد الوهاب - مخالفين الأمة الإسلامية جمعاء - إلى أنّه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة و لا يجوز للمؤمن إلاّ أن يقول: اللّهم شفّع نبيّنا محمدا فينا يوم القيامة، و لا يجوز أن يقول: يا رسول اللّه، اشفع لي يوم القيامة.

و استدلا على ذلك بوجوه، لا بأس بذكرها و الإجابة عنها على وجه الإجمال.

الوجه الأول:
اشارة

إنّه من أقسام الشرك، أي الشرك بالعبادة، و القائل بهذا الكلام، يعبد الولي(1).

و الجواب، أما نقضا

فبأنّه لو كان طلب الشفاعة في هذه النشأة من الأنبياء و الأولياء شركا، لوجب أن لا يكون هناك فرق بين حياتهم و مماتهم، مع أنّ القرآن يدعو المؤمنين إلى أن يلجئوا إلى حضرة الرسول في حال حياته و يطلبوا منه أن يستغفر لهم، يقول سبحانه: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً (2). و ليس طلب الاستغفار من النبي إلاّ طلبا للشفاعة، إذ ليس معنى قولنا: يا رسول اللّه اشفع لنا عند اللّه، إلاّ أدع لنا عند ربك بالخير و المغفرة.

ص: 357


1- الهدية السنية، ص 42.
2- سورة النساء: الآية 64.
و أمّا حلاّ:

فقد عرفت أنّ طلب شيء من أي شخص كان، إنما يعد عبادة، إذا اعتقد أنّه إله أو ربّ، أو أنّه مفوّض إليه فعل الخالق و تدبيره و شئونه. و أمّا طلب من الشخص بما أنّه عبد صالح محبوب عند اللّه، فلا يعدّ عبادة للمدعو سواء أ كان نافعا أو لا. و قد أوضحنا معنى العبادة عند البحث عن التوحيد في العبادة(1).

الوجه الثاني:
اشارة

إنّ طلب الشفاعة من النبي يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة، و قد حكى القرآن ذاك العمل منهم، و قال.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (2) .

و على ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه، عبادة لهذا الغير(3).

و الجواب:

إنّ المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري، بل المعيار هو البواطن و العزائم و لو صحّ ما ذكره لوجب أن يكون السعي بين الصفا و المروة، و الطواف حول البيت، شركا، لقيام المشركين به في الجاهلية، و قد عرفت أنّهم كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنّها آلهة أو أشياء فوّض إليها أفعال اللّه سبحانه من المغفرة و الشفاعة.

و أين هذا من طلب الشفاعة من الأنبياء و الأولياء بما أنّهم عباد اللّه

ص: 358


1- لاحظ الجزء الأول من الكتاب، ص 429-447.
2- سورة يونس: الآية 18.
3- كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب، ص 6.

الصالحون. فعطف هذا على ذلك، جور في القضاء، و عناد في الاستدلال.

و أما الاستدلال بالآية الثانية، فهو ضعيف من وجهين:

الأول: إنّ الآية على خلاف ما يدّعيه أدلّ، لأنّ عطف وَ يَقُولُونَ ، على قوله: وَ يَعْبُدُونَ ، دليل على أنّ العمل الثاني ليس عبادة، أخذا بحكم العطف الدال على المغايرة. و بعبارة أخرى: إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين، العبادة أوّلا، و قولهم هم شفعاؤنا، و طلب الشفاعة منهم ثانيا، و علة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني.

الثاني: لو فرضنا أنّ الجملة الثانية، جملة تفسيرية للأولى، فنقول: إنّ توصيف طلب الشفاعة من الأوثان بالعبادة لا يستلزم توصيف طلب الشفاعة من الأولياء بها أيضا، لما عرفت من الاختلاف في العقيدة، و أنّ الشافعين كانوا عند عبدة الأصنام آلهة، و عند المؤمنين عبادا صالحين، و أين هذا من ذاك؟!.

الوجه الثالث:
اشارة

إن طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام، فإن ذلك دعاء لغير اللّه، و هو حرام.

قال سبحانه: فَلاٰ تَدْعُوا مَعَ اَللّٰهِ أَحَداً (1).

و يدل على أنّ الدعاء في الآية عبادة، قوله سبحانه: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ (2). فقد عبّر عن العبادة في الآية بلفظ «الدعوة» في صدرها، و بلفظ العبادة في ذيلها، و هذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى. و قد ورد عنه صلى اللّه عليه و آله:

«الدعاء مخ العبادة».

ص: 359


1- سورة الجن: الآية 18.
2- سورة غافر: الآية 60.
و الجواب

إنّ القول بأنّ دعاء الغير في جميع الظروف مساوق للعبادة، شيء لا أساس له، و إلا يلزم أن لا يسجّل اسم أحد في سجل الموحدين، فإنّ الناس لا ينفكّون عن التعاون، و استعانة بعضهم ببعض، و دعوة الواحد منهم الآخر. و على ذلك فيجب أن يقال إنّ قسما - فحسب - من الدعاء مساوق للعبادة، و هو دعاء الشخص بما أنّه إله، و بما أنّه رب، أو بما أنّه مفوّض إليه أفعاله سبحانه. فدعاؤه بهذه الخصوصيات، مساوق لعبادته.

و الآية ناظرة إلى هذا القسم من الدعاء بقرينة قوله مَعَ اَللّٰهِ ، معربا عن أنّ الداعي يرى المدعو مشاركا للّه سبحانه في مقام أو مقامات، و من المعلوم أنّ الدعاء بهذه الخصوصية شرك بلا إشكال، و المشركون في الجاهلية، كانوا يسوون بين الأوثان و رب العالمين، و يدل عليه قوله سبحانه - حاكيا قولهم يوم القيامة -:

تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (1) .

فأي كلمة أظهر من التعبير عن عقيدة المشركين في حق الأوثان بأنها كانت عندهم و رب العالمين، سواسية.

فقياس دعوة الصالحين من الأنبياء و الأولياء، بدعوة الأصنام و الأوثان، قياس مع الفارق البالغ، لا يعتمد عليه إلا من سبق له الرأي في هذا المجال، و يريد التمسك بالطحلب و الحشيش.

الوجه الرابع:
اشارة

إنّ الشفاعة حق مختص باللّه لا يملكه غيره، و على ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح، قال سبحانه: أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ شُفَعٰاءَ، قُلْ أَ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً... (2).

ص: 360


1- سورة الشعراء: الآيتان 97 و 98.
2- سورة الزمر: الآيتان 43 و 44.
و الجواب:

إنّ المراد من قوله سبحانه: قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً ، ليس أنّه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع لأحد عند الغير، بل المراد أنّه المالك لمقام الشفاعة دون غيره، فليس في الوجود من يملك المغفرة و الشفاعة و غيرهما مما هو من شئونه سبحانه، غيره.

و لكن هذا لا ينافي أن يملكها الغير بتمليك منه سبحانه، و في طول ملكه، كما هو صريح قوله سبحانه: وَ لاٰ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفٰاعَةَ إِلاّٰ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1)، فإن الاستثناء في قوله: إِلاّٰ يرجع إلى قوله: لاٰ يَمْلِكُ . فتكون النتيجة أنّه يملك من شهد بالحق، الشفاعة، لكن بتمليك منه سبحانه: فهو المالك بالأصالة، و غيره مالك بالتمليك و العرض.

و ليس هذا مختصا بالشفاعة المصطلحة بل الشفاعة التكوينية أيضا كذلك، لأن الأثر الطبيعي لجميع الأسباب التكوينية، يرجع إليها لكن بتسبيب منه سبحانه، فلو لا أنّه جعل النار حارة، و الشمس مضيئة، و القمر نورا، لا تجد فيها تلك الآثار.

الوجه الخامس:
اشارة

إنّ طلب الشفاعة من الميت أمر باطل.

و الجواب:

إنّ هذا آخر سهم في كنانة القائلين بحرمة طلب الشفاعة من أولياء اللّه الصالحين، و الإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب اللّه الحكيم. و قد عرفت أنّ القرآن يصرّح بحياة جموع كثيرة من الشهداء و غيرهم، كما عرفت أنّ يصرح بكون النبي شهيدا على الأمة في قوله سبحانه:

فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً (2) . فهل تعقل الشهادة بدون الحياة، و الاطلاع على ما يجري بينهم من الأمور، من كفر و إيمان و طاعة و عصيان؟. فلو كان النبي ميّتا كسائر الأموات، فما معنى التسليم

ص: 361


1- سورة الزخرف: الآية 86.
2- سورة النساء: الآية 41.

عليه في كل صباح و مساء، و في تشهد كل صلاة: «السلام عليك أيها النبي و رحمة اللّه و بركاته»؟ و ما معنى خطابه ب «عليك»؟. و حمل ذلك على الشعار الخالي و التحية الجوفاء، تأويل بلا دليل.

و أما قوله سبحانه في حقّ الموتى: إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (1) فهو لا يدلّ إلا على أنّ الأموات المدفونين في القبور، لا يسمعوه و لا يفهموه، و أنّهم كالجماد، و لذلك شبّه المشركين بهم في عدم التعقل، و هو أمر غير منازع فيه، فإنّ الأبدان بعد الموت، جمادات محضة، من غير فرق بين جسد النبي و غيره.

غير أنّ المؤمنين لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين و أبدانهم، بل يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند اللّه سبحانه، بأبدان برزخية.

فالزائر القائل: «يا محمّد اشفع لي عند اللّه»، لا يشير إلى جسده، بل إلى روحه الزكية، غير أنّ الوقوف عند قبره الشريف يدفع له استعدادا لأن يتصل بروحه و يخاطبها.

إلى هنا تم عرض الإشكالات الضئيلة التي أستدل بها على تحريم طلب الشفاعة من الأولياء، و الإجابة عليها بما لا يدع مجالا بعدها للشك في الجواز.

ص: 362


1- سورة النمل: الآية 80.

مباحث المعاد

(16) الإحباط و التكفير
اشارة

الإحباط في اللغة، بمعنى الإبطال، يقال: أحبط عمل الكافر، أي أبطله(1).

و الكفر بمعنى الستر و التغطية، يقال لمن غطّى درعه بثوب: قد كفّر درعه، و المكفّر، الرجل المتغطّي بسلاحه، و يقال للزارع كافر، لأنه يغطي الحب بتراب الأرض. قال اللّه تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ (2). و الكفر ضد الإيمان، سمي بذلك لأنه تغطية الحق(3).

و المراد من الحبط هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخرة، كما أنّ المراد من التكفير هو سقوط الذنوب المتقدمة، بالطاعة المتأخرة.

و بعبارة أخرى: إنّ الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتب ما يتوقع منها عليها، و يقال التكفير و هو إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها، فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة. و لنقدّم الكلام في الإحباط أوّلا.

ص: 363


1- المقاييس، ج 2، مادة حبط، ص 129.
2- سورة الحديد: الآية 20.
3- المقاييس، ج 5، مادة كفر، ص 191.
أولا: الإحباط
اشارة

المعروف عن الإمامية، و الأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي و الطاعات و الثواب و العقاب، و المعروف عن جماعة من المعتزلة، كالجبائيّين و غيرهما هو التحابط(1).

قال التفتازاني: «لا خلاف في أنّ من آمن بعد الكفر و المعاصي فهو من أهل الجنة بمنزلة من لا معصية له، و من كفر بعد الإيمان و العمل الصالح، فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له، و إنما الكلام فيمن آمن و عمل صالحا و آخر سيئا، و استمرّ على الطاعات و الكبائر، كما يشاهد من الناس، فعندنا مآله إلى الجنة و لو بعد النار، و استحقاقه للثواب و العقاب، بمقتضى الوعد و الوعيد، من غير حبوط. و المشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه و طاعته و ما يثبت من استحقاقاته، أين طارت؟ و كيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطاعات، و مالوا إلى أنّ السيئات يذهبن الحسنات»(2).

أقول: اشتهر بين المتكلمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط و التكفير، و أما الأشاعرة و الإمامية فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة، و هي أن نفيهما على الإطلاق يخالف ما هو مسلّم عند المسلمين، من أنّ الإيمان يكفّر الكفر، و يدخل المؤمن الجنّة خالدا فيها، و أنّ الكفر يحبط الإيمان و يخلد الكافر في النار.

و هذا النوع من الإحباط و التكفير مما أصفقت عليه الأمّة، و مع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة و الإمامية؟ و لأجل ذلك، يجب الدقة في فهم مرادهما من نفيهما على الإطلاق، و سوف يتبين الحال في هذين المجالين، و أنّ ما ينفونه منهما لا ينافي ظواهر الآيات و الأخبار.

ص: 364


1- أوائل المقالات، ص 57.
2- شرح المقاصد، ج 2، ص 232، و يظهر من القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة، ص 624، أن القول بالإحباط و التكفير خيرة مشايخ المعتزلة، و إنما خالف منهم القليل مثل عبّاد بن سليمان الصيمري.

هذا، و إنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيته، فمنهم من قال بأن الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة، و تمحوها بالكليّة، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة، و هو المحكي عن أبي علي الجبائي.

و منهم من قال بأن الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة و لكنه يؤثر في تقليل الإساءة، فينقص الإحسان من الإساءة، فيجزى العبد بالمقدار الباقي بعد التنقيص، و هو المنسوب إلى أبي هاشم.

و هناك قول آخر في الإحباط، و هو عجيب جدا حكاه التفتازاني في شرح المقاصد، و هو أنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات و إن كانت الإساءة أقل منها، قال: حتى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات(1).

و على هذا ففي الإحباط أقوال ثلاثة:

1 - الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.

2 - الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.

3 - أنّ الإساءة المتأخرة عن الطاعات، تبطل جميع الطاعات من دون ملاحظة القلّة و الكثرة.

إذا عرفت موضع النزاع في كلام القوم، فلننقل أدلة الطرفين:

أدلة نفاة الإحباط

استدل النافون بوجهين: عقلي و نقلي.

أما الوجه العقلي، فهو أنّ القول بالإحباط يستلزم الظلم، لأن من أساء و أطاع و كانت إساءته أكثر، يكون بمنزلة من لم يحسن. و إن كان إحسانه أكثر،

ص: 365


1- شرح المقاصد، ج 2، ص 232.

يكون بمنزلة من لم يسئ. و إن تساويا يكون مساويا لمن يصدر عنه أحدهما، و هو نفس الظلم(1).

يلاحظ عليه: إنّ الإحباط إنما يعدّ ظلما، و يشمله هذا الدليل، إذا كان الأكثر من الإساءة مؤثرا في سقوط الأقل من الطاعة بالكلية، من دون أن تؤثر الطاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة، كما عليه أبو علي الجبائي. و أما على القول بالموازنة، كما هو المحكي عن ابنه أبي هاشم، فلا يلزم الظلم، و صورته أن يأتي المكلّف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب، و بمعصية استحق عليها عشرين جزء من العقاب، فلو قلنا بأنّه يحسن من اللّه سبحانه أن يفعل به عشرين جزء من العقاب، و لا يكون لما استحقه من الطاعة أيّ تأثير، للزم منه الظلم. و أما إذا قلنا بأنه يقبح من اللّه تعالى ذلك، و لا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء، و أما العشرة الأخرى فإنها تسقط بالثواب الذي استحقه على ما أتي به من الطاعة، فلا يلزم ذلك.

يقول القاضي عبد الجبار، بعد نقل مذهب أبي هاشم: «و لعمري إنه القول اللائق باللّه تعالى، دون ما يقوله أبو علي، و الذي يدل على صحته هو أنّ المكلّف أتى بالطاعات على الحد الذي أمر به، و على الحد الذي لو أتى به منفردا عن المعصية لكان يستحق عليها الثواب، فيجب أن يستحق عليها الثواب، و إن دنّسها بالمعصية، إلا أنّه لا يمكن و الحالة هذه أن يوفر عليه، على الحد الذي يستحقه، لاستحالته، فلا مانع من أن يزول من العقاب بمقداره، لأنّ دفع الضرر كالنفع في أنّه مما يعد في المنافع».

ثم قال: «فأمّا على مذهب أبي علي فيلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة، شيئا مما أتى به من الطاعات، و قد نصّ اللّه تعالى على خلافه»(2).

و الأولى أن يستدلّ على بطلان الإحباط بأنه يستلزم خلف الوعد إذا كان الوعد منجزا، كما هو في محل النزاع، و أما إذا كان مشروطا بعدم لحوق العصيان

ص: 366


1- كشف المراد، ص 260.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 629.

به، فهو خارج عن محل البحث. هذا، من غير فرق بين قول الوالد و الولد، و القول الثالث الذي هو في غاية الإفراط.

و أما الوجه النقلي، فقوله سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً، يَرَهُ (1).

يلاحظ عليه: إنّ الاستدلال بالآية إنما يتم على القولين الأول و الثالث حيث لا يكون للإحسان القليل دور، و أما على القول الثاني، فالآية قابلة للانطباق عليه، لأنه إذا كان للإحسان القليل تأثير في تقليل الإساءة الكثيرة، فهو نحو رؤية له، لأن دفع المضرة كالنّفع في أنّه مما يعدّ منفعة. و هذا كما إذا ربح إنسان في تجارة، قليلا، و خسر في تجارة أخرى أكثر، فأدّى بعض ديونه من الربح القليل.

نعم، الظاهر من الآية، رؤية جزاء الخير، و هو بالقول بعدم الإحباط، ألصق و أطبق.

سؤال و جوابه

السؤال: لو كان القول بالإحباط مستلزما للظلم، أو كان مستلزما لخلف الوعد، فما هو المخلص فيما يدل على حبط العمل، في غير مورد من الآيات التي ورد فيها أنّ الكفر و الارتداد، و الشرك و الإساءة إلى النبي و غيرها مما يحبط الحسنات(2). ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ و ما هو تفسيرها؟.

الجواب: إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسرون الآيات بأن الاستحقاق في مواردها كان مشروطا بعدم لحوق العصيان بالطاعات، فإذا عصى الإنسان و لم يحقق الشرط، انكشف عدم الاستحقاق.

و يمكن أن يقال بأن الاستحقاق في بدء صدور الطاعات لم يكن مشروطا

ص: 367


1- سورة الزلزلة: الآية 7.
2- سنذكرها في آخر البحث.

بعدم لحوق العصيان، بل كان استقرار الاستحقاق في مستقبل الأيام، هو المشروط بعدم لحوق المعصية، فإذا فقد الشرط، فقد استقرار الاستحقاق و استمراره.

يقول الشيخ الطوسي في تفسير قوله سبحانه: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ، فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (1): «معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم يكن، لإيقاعهم إياها على خلاف الوجه المأمور به، و ليس المراد أنّهم استحقوا عليها الثواب ثم انحبطت، لأن الإحباط - عندنا - باطل على هذا الوجه»(2).

و يقول الطّبرسي في تفسير قوله سبحانه: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (3): «و في قوله: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ، هنا دلالة على أن حبوط الأعمال لا يترتب على ثبوت الثواب، فإن الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب، و إنما يكون له عمل في الظاهر لو لا كفره لكان يستحق الثواب عليه، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط، فهو حقيقة معناه»(4).

و يقول في تفسير قوله سبحانه: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ، حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خٰاسِرِينَ (5).

«أي ضاعت أعمالهم التي عملوها لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، و بطل ما أظهروه من الإيمان، لأنّه لم يوافق باطنهم ظاهرهم، فلم يستحقوا به الثواب»(6).

و بما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر، و هو أنه إذا كان الاستحقاق

ص: 368


1- سورة البقرة: الآية 217.
2- التبيان، ج 2، ص 208، و لاحظ مجمع البيان، ج 1، ص 313.
3- سورة المائدة: الآية 5.
4- مجمع البيان، ج 2، ص 163.
5- سورة المائدة: الآية 53.
6- مجمع البيان، ج 2، ص 207.

مشروطا بعدم صدور العصيان، فإذا صدر يكشف عن عدم الاستحقاق أبدا، فكيف يطلق عليه الإحباط، و ما الإحباط إلا الإبطال و الإسقاط، و لم يكن هناك شيء حتى يبطل أو يسقط؟ و ذلك لأن نفس العمل في الظاهر سبب و مقتض، فالإبطال و الإسقاط كما يصدقان مع وجود العلة التامة، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلة و سببها و مقتضيها، و هذا كمن ملك أرضا صالحة للزراعة فأحدث فيها ما أفقدها هذه الصلاحية.

و بعبارة أخرى: إنّ الموت على الكفر، و إن كان يبطل ثواب جميع الأعمال، لكن ليس هذا بالإحباط، بل باشتراط الموافاة على الإيمان في استحقاق الثواب على القول بالاستحقاق، و في الوعد بالثواب على القول بعدم الاستحقاق. و هكذا القول في المعاصي التي ورد أنها حابطة لبعض الحسنات من غير قول بالحبط، بل يكون الاستحقاق أو الوعد مشروطا بعدم صدور تلك المعصية.

نعم، هذا التفسير إنما نحتاج إليه في جانب الإحباط، و أما في جانب التكفير فلا حاجة إليه، بل لنا أن نقول إنّ التوبة و الأعمال المكفّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الاستحقاق مشروطا بالموافاة على الكفر، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.

هذا، و لا يصح القول بالإحباط و التكفير في كل المعاصي، بل يجب علينا تتبّع النصوص، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصحيحة أنها ذاهبة أو منقصة لثواب جميع الحسنات أو بعضها، نقول بالإحباط فيها على التفسير الذي ذكرناه. و هكذا في جانب التكفير فلا يمكن لنا أن نقول إنّ كل حسنة تذهب السيئة إلاّ بالنص.

إلى هنا تم بيان دليل النافين للإحباط على الوجه اللائق بكلامهم، و الإجابة عليه.

ص: 369

أدلة مثبتي الإحباط

استدل القاضي على ثبوت الإحباط بوجه عقلي فقال: «قد ثبت أنّ الثواب و العقاب يستحقان على طريق الدوام، فلا يخلو المكلّف إما أن يستحق الثواب فيثاب، أو يستحق العقاب فيعاقب، أو لا يستحق الثواب و لا العقاب، فلا يثاب و لا يعاقب، أو يستحق الثواب و العقاب، فيثاب و يعاقب دفعة واحدة، أو يؤثر الأكثر في الأقل على ما نقوله.

و لا يجوز أن لا يستحق الثواب و لا العقاب، فإن ذلك خلاف ما اتفقت عليه الأمّة. و لا أن يستحق الثواب و العقاب معا فيكون مثابا و معاقبا دفعة واحدة، لأن ذلك مستحيل، و المستحيل مما لا يستحق...

فلا يصح إلا ما ذكرناه من أن الأقل يسقط بالأكثر. و هذا هو الذي يقوله الشيخان أبو علي و أبو هاشم و لا يختلفان فيه، و إنّما الخلاف بينهما في كيفية ذلك(1).

يلاحظ عليه: إنّه مبني على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدوام، و هو مبني على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار، و بما أنّ الأساس باطل، فيبطل ما بني عليه، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب. و على ذلك فالحصر غير حاصر، و إنّ هنا شقا سادسا ترك في كلامه، و هو أنّه يستحق الثواب و العقاب معا لكن لا دفعة واحدة، بل يعاقب مدة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنة على ما عليه جمهور المسلمين.

و قد نقل القاضي عبد الجبار، وجها عقليا آخر للإحباط عن الشيخ أبي علي و أجاب عنه، فلاحظ(2).

ص: 370


1- شرح الأصول الخمسة، ص 625. و ترك تعليل الوجه الأول (و هو أن يستحق الثواب فقط و الثاني (و هو أن يستحق العقاب فقط)، لوضوحه.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 630-631، و حاصل هذا الدليل أنّ المكلّف، بارتكاب الكبيرة تخرج نفسه من صلاحية استحقاق الثواب. و هو كما ترى دعوى بلا دليل، إذ لا دليل على أنّ كل معصية لها هذا الشأن، و ليست كل معصية كالكفر و الارتداد و النفاق.
تحليل لمسألة الإحباط

و هاهنا تحليل آخر للمسألة و هو أنّ في الثواب و العقاب أقوال:

1 - الثواب و العقاب في الآخرة من قبيل الأمور الوضعية الجعلية كجعل الأجرة للعامل، و العقاب للمتخلّف في هذه النشأة.

2 - الثواب و العقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات التي اكتسبها في هذه الدنيا، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة، السكون و الهدوء إلا بفعل ما يناسبها.

3 - الثواب و العقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة و تجلّيه فيها بوجوده الأخروي من دون أن يكون للنفس دور في تلك الحياة، في تحلى هذه الأعمال بتلك الصور، بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور.

فلو قلنا بالوجه الأول، كان لما نقلناه من نفاة الحبط (من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية) وجه حسن، لأن الأمور الوضعية، رفعها و وضعها، و تبسيطها، و تضييقها، بيد المقنّن و المشرّع. و عندئذ يجمع بين حكم العقل، بلزوم الوفاء بالوعد، و ما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة، كما سيوافيك.

و قد عرفت حاصل الجمع، و هو أن إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الإنسان الثواب، بل لم يكن مستحقا من رأس، لعدم تحقق شرط الثواب. و أما مصحح تسميته بالإحباط فقد عرفته أيضا، و هو أن ظاهر العمل كان يحكي عن الثواب و كان جزء علة له.

و لو قلنا بالوجه الثاني، و حاصله أن الملكات الحسنة و السيّئة التي تعدّ فعليات للنفس، تحصل بسبب الحسنات و السيّئات التي كانت تصدر من النفس.

فإذا قامت بفعل الحسنات، تحصل فيها صورة معنوية، مقتضية لخلق الثواب.

كما أنّه إذا صدر منها سيئة، تقوم بها صورة معنوية تصلح لأن تكون مبدأ لخلق العقاب. و بما أنّ الإنسان في معرض التحول و التغيير من حيث الملكات النفسانية، حسب ما يفعل من الحسنات و السيئات، فإنّ من الممكن بطلان

ص: 371

صورة موجودة في النفس و تبدّلها إلى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدنيوية.

نعم، تقف الحركة و يبطل التحول عند موافاة الموت، فعند ذلك تثبت لها الصور بلا تغيير أصلا.

فلو قلنا بهذا الوجه، كان الإحباط على وفق القاعدة، لأنّ الجزاء في الآخرة، إذا كان فعل النفس و إيجادها، فهو يتبع الصورة الأخيرة للنفس، التي اكتسبتها قبل الموت. فإن كانت صورة معنوية مناسبة للثواب فالنفس منعّمة في الثواب من دون مقابلة بالعقاب، لأن الصورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أخرى. و إذا انعكست الصورة، انعكس الحكم.

و أما لو قلنا بالوجه الثالث، و هو تجسّم الأعمال و تمثلها في الآخرة بالوجود المماثل لها، فالقول بعدم الإحباط هو الموافق للقاعدة، إذ لا معنى للإبطال، في النشأة الأخرى.

غير أن الكلام كلّه في انحصار الثواب و العقاب بهذين الوجهين الأخيرين، و قد عرفت في الجزء الأول أنّ المتشرع لا يتجرأ على القول بذلك(1).

عوامل الإحباط و أسبابه
اشارة

البحث عن عوامل الإحباط و أسبابه، بحث نقلي يتوقف على السبر و الفحص في الكتاب و السنة، و نكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.

1 - الارتداد بعد الإسلام

قال سبحانه: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ، فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ، وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (2).

ص: 372


1- لاحظ «الإلهيات» ج 1، ص 299.
2- سورة البقرة: الآية 217.
2 - الشرك المقارن بالعمل

يقول سبحانه: مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ وَ فِي اَلنّٰارِ هُمْ خٰالِدُونَ (1).

و قد كان المشركون يزعمون أنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثواب، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة، و صرّح بأن الثواب يترتب على العمل الصالح، إذا صدر من فاعل مؤمن.

و لأجل ذلك أتبع الآية السابقة بقوله: إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ (2).

3 - كراهة ما أنزل اللّه

قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ * ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأَحْبَطَ أَعْمٰالَهُمْ (3).

4 - الكفر
5 - الصّدّ عن سبيل اللّه
6 - مجادلة الرسول و مشاقّته

و قد جاءت هذه العوامل الثلاثة في قوله سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدىٰ لَنْ يَضُرُّوا اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمٰالَهُمْ (4).

ص: 373


1- سورة التوبة: الآية 17.
2- سورة التوبة: الآية 18.
3- سورة محمد: الآيتان 8 و 9.
4- سورة محمد: الآية 32. و لاحظ في عامل الكفر، سورة التوبة: الآية 69.

و هل كل منها عامل مستقل، أو أنّ هنا عاملا واحدا هو الكفر، و يكون حينئذ الصّدّ عن سبيل اللّه و مشاقّة الرسول من آثار الكفر، فهم كفروا، فصدوا و شاقوا؟.

تظهر الثمرة فيما لو صدّ إنسان عن سبيل اللّه لأغراض دنيوية، أو شاقّ الرسول لحالة نفسانية مع اعتقاده التام بنبوة ذاك الرسول و قبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منهما في الحبط، يحبط عمله، و إلا فلا. و بما أن الآية ليست في مقام البيان، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشئون فلا يمكن استظهار استقلال كل منها في الحبط. نعم، يمكن القول بالاستقلال من باب الأولوية، و ذلك أنّه إذا كان رفع الصوت فوق صوت النبي من عوامل الإحباط كما سيأتي، فكيف لا يكون الصّدّ و القتل من عوامله؟.

7 - قتل الأنبياء
8 - قتل الآمرين بالقسط من الناس

قال سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ، وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّٰاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ * أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ (1).

9 - إساءة الأدب مع النبي

قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اَلنَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ (2).

و ربما يتصور أنّ رفع الصوت ليس عاملا مستقلا في الإحباط، بل هو

ص: 374


1- آل عمران: الآيتان 21 و 22.
2- سورة الحجرات: الآية 2.

كاشف عن كفر الرافع. و لكنه احتمال ضعيف، لأن الآية تخاطب المؤمنين به بقولها: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

نعم، لا يمكن الالتزام بأنّ كل إساءة بالنسبة إلى النبي تحبط الأعمال الصالحة(1)، إلا إذا كانت هتكا في نظر العامة، و تحقيرا له في أوساط المسلمين، كما هو الظاهر من أسباب نزول الآية.

10 - الإقبال على الدنيا و الإعراض عن الآخرة

قال سبحانه: مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمٰالَهُمْ فِيهٰا وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يُبْخَسُونَ * أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّٰارُ وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا فِيهٰا وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2).

و يمكن أن يقال إنّ الإقبال على الدنيا بهذا النحو الذي جاء في الآية، يساوق الكفر، أو يساوق ترك الفرائض، و التوغل في الموبقات، فتكون إرادة الحياة الدنيا و زينتها إشارة إلى العامل الواقعي.

11 - إنكار الآخرة

قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ، حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ (3).

و هو فرع من فروع الكفر و ليس عاملا مستقلا.

12 - النفاق

قال سبحانه: قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً *.... أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ وَ كٰانَ ذٰلِكَ

ص: 375


1- كالغضب في محضره صلوات اللّه عليه و آله.
2- سورة هود: الآيتان 15 و 16.
3- سورة الأعراف: الآية 147. و لاحظ سورة الكهف: الآية 105.

عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً (1) .

و قوله: لِإِخْوٰانِهِمْ ، يدل على أنّهم لم يكونوا مؤمنين بل كانوا منافقين. و يصرّح به قوله: أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا . و على ذلك فيرجع النفاق إلى عامل الكفر و عدم الإيمان، و ليس سببا مستقلا.

هذه هي أبرز أسباب الإحباط في الذكر الحكيم، و قد عرفت إمكان إدغام البعض في البعض. و على كل تقدير فالإحباط هنا هو بطلان أثر المقتضى، لا إبطال أثر ثابت بالفعل، كما تقدم.

ثانيا: التكفير

التكفير هو إسقاط ذنوب المعاصي المتقدمة بثواب الطاعات المتأخرة، و هو لا يعدّ ظلما، لأن العقاب حق للمولى، و إسقاط الحق ليس ظلما بل إحسان، و قد عرفت أنّ خلف الوعيد ليس بقبيح و إنما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه، بعدم تعقّب الطاعات.

بل الاستحقاق و استمراره ثابتان، غير أنّ المولى سبحانه، تفضّلا منه، عفى عن عبده لفعله الطاعات.

قال سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (2).

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ، وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (3).

و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ آمَنُوا بِمٰا نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ

ص: 376


1- سورة الأحزاب: الآيتان 18 و 19.
2- سورة النساء: الآية 31.
3- سورة الأنفال: الآية 29.

وَ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بٰالَهُمْ (1) .

و لا يمكن استفادة الإطلاق من هذه الآيات، و أنّ كل معصية تكفّر، لأنها بصدد بيان تشريع التكفير، و أما شروطه و بيان المعاصي التي تكفّر دون غيرها، فلا يستفاد منها. و إنما الظاهر من الآية الأولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها، و من الآية الثانية، اشتراط تكفير السيئات بالتقوى، و من الثالثة، تكفير السيئات للذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزّل على الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

روى الكراجكي، بسنده عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «و إن كان عليه فضل، و هو من أهل التقوى، و لم يشرك باللّه تعالى، و اتقى الشرك به، فهو من أهل المغفرة، يغفر اللّه له برحمته إن شاء و يتفضل عليه بعفوه»(2).

ص: 377


1- سورة محمد (ص): الآية 2.
2- البحار، ج 5، ص 334، ح 2.

مباحث المعاد

(17) الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
اشارة

(17) الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر(1)

لا خلاف بين الأمة في وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، غير أنّ القاضي عبد الجبار، نسب إلى شرذمة من الإمامية عدم وجوبهما(2). و النسبة في غير محلها، فإنهم عن بكرة أبيهم، مقتفون للكتاب و السنة. و صريح الآيات و أحاديث العترة الطاهرة على الوجوب.

روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري، عن أبي جعفر الباقر، أنه قال:

«إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمر الأرض و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر»(3).

و أما كلمة المحققين، فيكفي في ذلك مراجعة كتبهم الكلامية و الفقهية(4).

ص: 378


1- وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من الأحكام الفرعية الفقهية، غير أنّ القوم بحثوا عنه في الكتب الكلامية لأنه من الأحكام الاجتماعية التي لها دور أساسي في تطوير المجتمع و سوقه إلى الصلاح، و نحن اقتفينا أثرهم في هذا المقام.
2- شرح الأصول الخمسة: ص 741.
3- وسائل الشيعة، ج 11، الباب الأول، من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 7، ص 393.
4- لاحظ أوائل المقالات، ص 98 و كشف المراد، ص 271، ط صيدا.
1 - وجوبهما عقلي أو شرعي

هل يجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، عقلا، أو لا يجبان إلا شرعا؟ القائلون بوجوب اللطف المقرّب يلزمهما القول بوجوبهما عقلا، لأنّ اللطف ليس إلا تقريب العباد إلى الطاعة و إبعادهم عن المعصية. و من أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامة مراتبه.

و أورد عليه المحقق الطوسي ما هذا توضيحه:

لو وجبا عقلا على اللّه تعالى، فإنّ كل واجب عقلي، يجب على كل من حصل في حقه وجه الوجوب، و لو وجب عليه تعالى لكان إما فاعلا لهما، فكان يلزم وقوع المعروف قطعا، لأنه تعالى يحمل المكلفين عليه، و انتفاء المنكر لأنه تعالى يمنع المكلفين عنه، و هذا خلاف ما هو الواقع في الخارج، و إما غير فاعل لهما، فيكون مخلا بالواجب، و ذلك محال، لما ثبت من حكمته تعالى.

و إلى هذا المعنى أشار هذا المحقق بقوله: «لو كانا واجبين عقلا لزم ما هو خلاف الواقع، أو الإخلال بحكمته سبحانه»(1).

يلاحظ عليه: إنّ وجوبهما عقلا لا يلازم وجوبهما على اللّه سبحانه بعامة مراتبهما، لأنه لو وجب عليه كذلك يلزم الإخلال بالغرض و إبطال التكليف، و هذا يصد العقل عن إيجابهما على اللّه سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء، فيكتفى فيهما ببعض المراتب، كالتبليغ و الإنذار مما لا ينافي حرية التكليف، و هما متحققان.

و إلى ما ذكرنا يشير شيخنا الشهيد الثاني بقوله: «لاستلزام القيام به على هذا الوجه (من وجوبه قولا و فعلا) الإلجاء الممتنع في التكليف، و يجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه، خصوصا مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقه تعالى الإنذار و التخويف بالمخالفة لئلا يبطل التكليف. و المفروض أنّه قد فعل»(2).

ص: 379


1- كشف المراد، ص 271، ط صيدا.
2- الروضة البهية، ج 1، كتاب الجهاد، الفصل الخامس، ص 262، الطبعة الحجرية.

و هذا صحيح لو كان اللطف المقرب واجبا، و لكنك عرفت أنّ وجوبه غير ثابت، و إنما الثابت هو اللطف المحصّل للغرض(1).

2 - شرائط وجوبهما

قد فصّل الفقهاء و المتكلمون الكلام في شرائط وجوبهما، و إليك بيانها.

أ - علم فاعلهما بالمعروف و المنكر.

ب - تجويز التأثير، فلو علم أنهما لا يؤثران لم يجبا.

ج - انتفاء المضرّة، فلو علم أو غلب على ظنه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره و نهيه، سقط وجوبهما دفعا للضرر.

د - تنجّز التكليف في حق المأمور و المنهي، فلو كان مضطرا إلى أكل الميتة، لا تكون الحرمة في حقه منجّزة، فلا يكون فعله حراما و لا منكرا، و إن كان الحكم في حق الآمر و الناهي منجزا.

نعم، إنّ الشرط الثالث، أي عدم المضرة، شرط في موارد خاصة لا مطلقا، فربما يجب على الآمر و الناهي تحمل الضرر و عدم ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ذلك فيما إذا كانت المصلحة مهمة، كما لو استلزم سكوته خروج الناس عن الدين، و تزلزلهم في العقيدة، فيحرم عليه السكوت، بل يجب عليه الإصحار بالحقيقة و إن بلغ ما بلغ من ضرب أو شتم أو حبس، حتى القتل.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «إذا ظهرت البدع في أمتي، فليظهر العالم علمه و إلا فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين»(2).

و قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم»(3).

ص: 380


1- راجع الدليل الخامس من أدلة وجوب بعثة الأنبياء.
2- سفينة البحار، ج 1، ص 63.
3- نهج البلاغة، الخطبة الثالثة.

و بذلك يعلم أنّ التقية مشروعة، و لكن لها حدود و لها أحكام، فكما أنّها تجب، فربما تحرم، و التفصيل موكول إلى محله(1).

3 - وجوبهما عيني أو كفائي؟

الظاهر، كما هو المعروف، كون وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كفائيا، لأنّ الغرض شرعا هو وقوع المعروف و ارتفاع المنكر، من غير اعتبار مباشر معين، و هذا آية كون الوجوب كفائيا، فإذا حصلا، ارتفع الوجوب.

و الاستدلال على وجوبهما عينا بالعمومات، مثل قوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (2)، غير كاف، لأنّ الواجب الكفائي، يشترك مع الواجب العيني في كون الشيء واجبا على العموم، إلا أنه يسقط بفعل واحد من المكلفين، بخلاف العيني. فتوجه الخطاب إلى العموم، مشترك بين العيني و الكفائي.

4 - مراتبهما

إنّ للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مراتب تبتدئ بالقلب فاللسان فاليد، و تنتهي بإجراء الحدود و التعزيرات و الجهاد.

قال الإمام الباقر عليه السلام: «فأنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم، و صكوا بها جباههم، و لا تخافوا في اللّه لومة لائم»(3).

و بهذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين: قسم لا يحتاج إلى جهاز و قدرة، و هذا ما يرجع إلى عامة الناس، و هو كالإنكار بالقلب، و التذكير أو النهي باللفظ. و قسم يحتاج إلى الجهاز و القوة، و يتوقف على صدور الحكم من المحاكم

ص: 381


1- لاحظ رسالة الأستاذ الفقهية في التقية، فقد أثبت أنّ التقية ربما تحرم إذا كان الفساد في تركها أوسع و سيوافيك بحث التقية في الخاتمة.
2- سورة آل عمران: الآية 110.
3- الوسائل، ج 11، كتاب الجهاد، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 2.

القضائية و هذا يرجع إجراؤه إلى السلطة التنفيذية القائمة في الدولة الإسلامية بأركانها الثلاثة(1).

هذا، و قد كان على القاضي أن يؤاخذ الحنابلة و الأشاعرة، حيث إنهم لا يرون الخروج على أئمة الجور، و يرون إطاعتهم واجبة، ما لم يأمروا بمعصية، و قد تقدّم نقل نبذ من نصوصهم في ذلك.

ص: 382


1- لاحظ جواهر الكلام، ج 21، ص 13.

* أسئلة حول المعاد 1 - نشور الإنسان دفعي أو تدريجي؟.

2 - ما هو المحشور من الأبدان المتعددة؟.

3 - هل المعاد إعادة للمعدوم؟.

4 - شبهة عدم كفاية المواد الأرضية.

5 - شبهة الآكل و المأكول.

6 - مكان بعث النفوس و حشرها.

7 - كيف يخلد الإنسان مع أنّ المادة تفنى؟.

8 - ما هو الغرض من عقاب المجرم و تنعيم المسيء؟.

9 - من هم المخلّدون في النار؟.

10 - هل يجوز العفو عن المسيء؟.

11 - هل الجنّة و النار مخلوقتان؟.

ص: 383

ص: 384

أسئلة المعاد
(1) نشور الإنسان دفعي أو تدريجي؟
اشارة

إن تكامل الإنسان من خلية إلى أن يصير بدنا متكاملا، رهن تفاعلات تدريجية، معلومة لكلّ منّا، فهل عود الإنسان إلى الحياة من جديد رهن هذا الناموس التدريجي أولا؟

الجواب

كل من أراد تفسير المعاد من هذا الطريق، يريد إخضاع المسائل الغيبية، للقوانين الطبيعية المحسوسة، و لكن السمع يرد هذا الفرض، و يعرّف المعاد بأنّه يحصل دفعة، و الآيات في هذا المجال متعددة، منها قوله سبحانه:

ثُمَّ إِذٰا دَعٰاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذٰا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (1) .

و الآية ظاهرة في أنّ الدعوة تكوينية متعلقة بإعادة خلق الإنسان من جديد، و أن تلك الدعوة التكوينية الملازمة لخلق الإنسان، مقارنة لخروجه، فالدعوة و الخروج يتحققان في زمن واحد.

و يؤيد ذلك الآيات الكثيرة التي تصرح بأن القيامة، تحدث بغتة و فجأة و هم لا يشعرون، كقوله سبحانه:

ص: 385


1- سورة الروم: الآية 25.

حَتّٰى إِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً قٰالُوا يٰا حَسْرَتَنٰا عَلىٰ مٰا فَرَّطْنٰا فِيهٰا (1) .

و هذه الآية و إن كانت واردة في الموجودين زمن حدوث القيامة، و لكن لو كان تكوّن الأموات تحت التراب أمرا تدريجيا، لعلم به الأحياء قبيل حصول القيامة، لفحصهم الدائم في الأرض.

ص: 386


1- سورة الأنعام: الآية 31، و لاحظ في ذلك الأعراف: الآية 187، الأنبياء: 40، الحج: 55، الشعراء: 202، العنكبوت: 53، الزمر: 55، الزخرف: 66، محمد: 18، و الكلّ يدل على أنّ تكوّن الإنسان عند بعثه، يحصل دفعة واحدة.

أسئلة المعاد

(2) ما هو المحشور من الأبدان المتعددة؟
اشارة

أثبت العلم أنّ بدن الإنسان و خلاياه في مهب التغيّر و التبدل، و أنّه يأخذ لنفسه في كل عشرة أعوام بدنا، فلو عاش إنسان ثمانين سنة، فإنّه سيكون له ثمانية أبدان، و من المعلوم أنّ الإطاعة و العصيان يقعان في جميع فترات عمر الإنسان، و الجزاء و الثواب على مجموع الأعمال.

و عندئذ يتساءل، هل المحشور جميع أطوار بدن الإنسان الواحد، فهو غير معقول، أو واحد من هذه الأبدان، و هو يستلزم نقض قانون الجزاء و الثواب، و أن يكون بدن واحد حاملا لأوزار الأبدان الأخر.

و الجواب:

إنّ هذا السؤال نابع من إنكار الروح و الاعتقاد بأصالة المادة و أمّا على ما ذكرنا من أنّ البدن ليس إلاّ أداة لتنعيم الإنسان و تعذيبه، و أن الأمور الروحية من الفرح و الحزن و اللذة و الألم، كلها أمور مربوطة بالروح، و يتوصل إليها الروح بالبدن و الأجهزة الظاهرية، فالنعمة الملذة، إنما يصل إليها الإنسان من طريق الجهاز السمعي، فإنه آلة، و الملتذ هو الروح، و المناظر الخلابة إنما تصل إليها النفس عن طريق العين، و هكذا سائر اللذات، و الآلام الروحية، و على ذلك فالحافظ للعدالة هو أن ترد اللذة و الألم على روح واحدة، من غير فرق بين الأبدان.

ص: 387

و هذا نظير تعذيب بعض المجرمين بإكسائهم ثوبا ليمسهم العذاب من طريقه، فالمضروب ظاهرا هو اللباس، و لكن المتألم هو الإنسان.

و بعبارة أخرى، إن الروح هي الرابط الوثيق بين جميع الأبدان، فهي تضفي عليها جميعها وصف الوحدة، و تعرّفها جميعها بأنها فلان بن فلان، من دون أن يضر اختلافها في الهيئة و الشكل و الحجم بوحدة الإنسان، هذا.

و ربما يتخيّل أنّ المعاد هو البدن الأخير، الذي هو عصارة جميع الأبدان الماضية، و الجامع لعامة خصوصياتها.

و لكن، غير خفيّ أنّ هذا الأصل المزعوم (و هو كون البدن الأخير، عصارة الأبدان المتقدمة)، مما لا أصل له، لأنّ الأبدان في الفترات المتوسطة من العمر، لها من القوة و النشاط ما تفقده الأبدان الواقعة في العقود الأخيرة من العمر.

أضف إلى ذلك أن الجواب مبني على إعطاء الأصالة للمادة، و زعم أنّ الإنسان هو نفس الجلود و اللحوم و العظام و أن البدن الأخير عصارة كلّ ما تقدّم.

نعم، ربما يستظهر من قوله سبحانه: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (1)، أنّ المعاد هو البدن الأخير، و لكنّ الاستظهار في غير محله فإنّ الآية كناية عن خروج الناس من التراب للحساب و الجزاء نظير قوله تعالى: مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ (2).

و أما كون الخارج هو البدن الأخير فليست الآية بصدد بيانه.

و الشاهد على ذلك أنّ من الناس من يخطفه الطير، أو تفترسه السباع، أو يحيط به الموج فتأكله حيتان البحر، أو تصيبه نار فتحرقه، و الآية تعم هذه الأصناف أيضا، مع أنهم لم يقبروا في الأجداث.

ص: 388


1- سورة يس: الآية 51.
2- سورة طه: الآية 55.

أسئلة المعاد

(3) هل المعاد إعادة للمعدوم؟
اشارة

إذا كان الموت إفناء للإنسان أو لبعضه، فكيف يمكن إعادة ما بطل و انعدم؟ فإنه لا يكون إلا خلقا جديدا لا إعادة له خصوصا إذا لم يكن بين المبتدأ و المعاد رابطة و صلة.

و الجواب:

إنّ هذا السؤال نابع ممّا يزعمه السذج من الناس من أنّ الموت إعدام لجثة الإنسان و بدنه نظير إحراق الحطب، فإنّ قسما منه يتبدل إلى الدخان و ينعدم، و لا يبقى منه إلا شيء ضئيل نسميه بالرماد، فلو كان الموت بهذا المعنى فيكون المعاد إعادة للإنسان المعدوم.

و لكن قانون بقاء المادة، يبطل هذا الزعم، فإنّه ينص على أنّ المادة لا تنعدم، بل تتحول من صورة إلى صورة أخرى(1).

و على ضوء هذا، فالتفاعلات الحاصلة في المادة الحيّة، أو غير الحية، لا تنقص من وزن المادة شيئا، فالعالم من حيث الوزن ثابت، و إنّما الاختلاف في الصور و الأنواع، و هذا القانون دعم دعوة الأنبياء بأنّ البشر خلقوا للبقاء لا

ص: 389


1- و هو قانون لاوازييه، (1743-1794).

للفناء، كما دفع توهم كون الموت إعدام لقسم من مادة البشر، و أثبت أنّ هناك مادة واحدة ثابتة في مهب التفاعلات الفيزيائية و الكيميائية و الحيوية، و إنما التغير في الصور الطارئة عليها.

نعم، سبقه علماء الإسلام، في تأسيس هذا الأصل لكن بصورة أوسع، و هو أنّ الوجود لا يتطرق إليه العدم.

ص: 390

أسئلة المعاد

(4) شبهة عدم كفاية الموادّ الأرضية لإحياء الناس
اشارة

قد كشفت التنقيبات الجيولوجية و الأتربة على أن الإنسان يعيش في هذا الكوكب منذ قرابة مليوني سنة، و على هذا فلو كان المعاد عاما لجميع الناس، الذين عاشوا على هذه الكرة، فكيف يكون ترابها كافيا لإحيائهم، فإن المعاد حسب ما مرّ معاد عنصري، يعود كل إنسان إلى بدنه العنصري، فالمعادون كثر، مع أن ما يعادون به، و هو المواد العنصرية الأرضية قليل لا يكفيهم.

قال صدر المتألهين في بيان هذه الشبهة: «إن جرم الأرض مقدور محصور ممسوح بالفراسخ و الأميال و الأذرعة، و عدد النفوس غير متناه فلا يفي مقدار الأرض، و لا يسع لأن تحصل منه الأبدان غير المتناهية»(1).

و الجواب عن هذا السؤال من جهات ثلاث، عقلية و علمية و سمعية:
الجهة الأولى: الجواب العقلي، و هو أمور:

أولا: إن ما تنقله لنا هذه التنقيبات و الحفريات التاريخية و الطبيعية ليس على درجة يفيد القطع و اليقين، حتى نرفع باقوالهم اليد عن الوحي الإلهي أو نتردد في صحة المعاد.

ص: 391


1- الأسفار، ج 9، ص 200.

و ثانيا: لم يدل دليل على أن بدن الإنسان كنفس البدن الدنيوي في الحجم و الوزن و سائر الجهات المادية، بل يكفي أن يصدق على المعاد أنه نفس المبتدأ و أما المطابقة في سائر الجهات فلم يدل عليها دليل.

و ثالثا: لو فرض عدم كفاية المواد الترابية لإحياء جميع من قطنوا هذا الكوكب، فلا مانع من تكميلها بتراب الكرات الأخرى، و ليس ذلك على خلاف العدل، لما عرفت من أنّ الثواب و العقاب بملاك الروح و النفس، فالنفس الإنسانية إذا أدخلت في أي بدن كان، و حشرت مع أي جسم إنساني، فهو هو، و ليس غيره، و إنما يكون البدن أداة و وسيلة لتعذيبه، و تنعيمه، و لو لا دلالة القرآن على أنّ المعاد في الآخرة عنصري، لكان العقل مكتفيا بإعادة الروح و النفس غير أنّ إصرار الذكر الحكيم، على كون المعاد عنصريا، يصده عن الاكتفاء بالمعاد الروحاني.

و على ضوء ذلك، فلو كانت المواد الأرضية غير كافية لإحياء كل من سكن هذا الكوكب، فلا مانع من تكميل بدن كل إنسان بمواد من كواكب أخرى.

هذه الأجوبة، أجوبة عقلية، و هناك أجوبة أخرى تعتمد على التجربة و الدليل العلمي.

الجهة الثانية: الجواب العلمي، و هو أمور:

إن ما ذكروه من عدم كفاية تراب الأرض لإحياء الناس باطل بالنظر إلى حجم المواد الأرضية و ذلك لأن حجم الكرة الأرضية يبلغ ألفا و ثلاثة و ثمانين مليارا، و ثلاثمائة و عشرين مليون كيلومتر مكعب(1)، هذا من جهة.

و من جهة أخرى إنّ صندوقا بحجم كيلومتر مكعب، بمعنى أنّ كلا من طوله و عرضه و ارتفاعه يبلغ كيلومترا واحدا، إنّ مثل هذا الصندوق يسع داخله لأضعاف عدد سكان الأرض الحاليين(2).

ص: 392


1- 1,083,320,000,000.
2- دلّت الإحصاءات الأخيرة أنّ عدد سكان الأرض حاليا يبلغ قرابة خمسة مليارات إنسان.

و ذلك أنّ كل كيلومتر في الطول يسع خمسة آلاف إنسان، يقف كل منهم إلى جانب الآخر، و كل كيلومتر في الارتفاع يسع سبعمائة و خمسين إنسانا متوسط طول الواحد منهم مترا و نصف المتر، يقف كل منهم على رأس الآخر، فإذا أردنا حساب من يمكن أن يحويه ذاك الصندوق، فما علينا إلا أن نضرب الطول بالعرض بالارتفاع(1)، فتكون النتيجة اتساع هذا الصندوق لثمانية عشر مليار، و سبعمائة و خمسين مليون إنسان.

هذه سعة الكيلومتر المكعب الواحد، فما ظنك بسعة ألف و ثلاثة و ثمانين مليار، و ثلاثمائة و عشرين مليون كيلومتر مكعب؟ إنها بالتأكيد تكفي لأضعاف - لا تحصى - ممن قطن هذه الكرة الأرضية.

فمسألة قلة المواد الأرضية لإحياء الناس، مسألة ذهنية طرحت من غير تدبر في حجم العالم.

2 - إنّ بدن الإنسان لا يتشكل من التراب فحسب، بل الماء و الغازات من العناصر الرئيسية التي يتكون منها بدن الإنسان. و يحيط بالأرض طبقة من الغازات تسمى بالغلاف الجوي، تبلغ في الارتفاع و السماكة ألف كيلومتر، و تبلغ في الوزن خمسة ملايين مليار طن(2) هذا في جانب الغازات.

و أما في جانب المياه المتواجدة على سطح الكرة الأرضية فيكفينا أن نعرف أنّ إلقاء حجر في إناء مملوء من الماء، يوجب ارتفاع سطح الماء بما يساوي حجم هذا الحجر، هذا من جهة.

و من جهة أخرى، أثبت العلم الحديث أننا لو جمعنا كل البشر الذي يقطنون الكرة الأرضية(3) و ألقيناهم في بحيرة قزوين، فسوف لن يصل ارتفاع الماء في البحيرة إلى سنتيمتر واحد بل يكون أقلّ منه، بمعنى أنّ ارتفاع المياه لن يكون محسوسا لنا.

ص: 393


1- 5000 * 5000 * 750 18,750,000,000 إنسان.
2- 5000,000,000,000,000.
3- و هم عند إجراء هذا الحساب، ملياري إنسان.

هذا و ليست هي إلا بحيرة(1) فما ظنّك ببحار الدنيا و محيطاتها.

3 - إن النيازك المشاهدة في الليالي هي نتيجة وصول أحجار و أتربة و أجسام ثقيلة من الفضاء الخارجي. إلى الغلاف الجوي، فيوجب احتكاكها الشديد به احتراقها و تناثرها، و هبوطها على الأرض ذرات خفيفة لا تزعج الحياة عليها و هذه الأحجار توجب ازدياد المواد الأرضية زيادة مطّردة بشكل يومي، و قال العلماء إنّ عشرين مليون حجرا فضائيا يصطدم يوميا بالغلاف الجوي و هي تسير بسرعة خمسين كيلومترا في الثانية، فتتلاشى و تتناثر و تهبط بلا إزعاج على القشرة الأرضية(2).

و على هذا، فالمواد الأرضية لم تزل في حال التوفر و الازدياد، و اللّه يعلم إلى أي حد يصل حجمها إلى يوم البعث.

4 - وصل العلم إلى أنّه لو كانت هناك قدرة على إزالة الفراغات المتخللة بين ذرّات المواد الأرضية لبلغت هذه الكرة العظيمة الهائلة في الحجم، مقدار جوزة صغيرة. و لو فرض إفراغ فواصل ذرّات المنظومة الشمسية، بشمسها و سيّاراتها الكبيرة و الصغيرة، لبلغ حجمها مقدار فاكهة كبيرة كالبطيخ هذا من جانب.

و من جانب آخر، لو ازدادت الفراغات بين الذرات، لازداد حجم العالم ازديادا كبيرا، فليس الحجم تابعا لكثرة الذرات و قلتها ففي وسع المولى سبحانه - و هو على كل شيء قدير - أن يبسط فراغ المواد الأرضية فيزداد حجمها، و تكفي لإحياء الموتى مهما بلغوا.

و ليس هذا الأمر بعيدا عن الحس، فإنا نرى أنّ حجم الماء يتفاوت في حالاته الثلاث التجمد و السيلان و التبخر، و عليه فلا مانع من امتداد المادة الأرضية يوم القيامة امتدادا هائلا بحيث يصبح ما كان لا يكفي لإحياء أكثر من إنسان واحد كافيا لإحياء الكثير من الناس، هذا ما كشف عنه العلم.

ص: 394


1- تبلغ مساحة بحيرة قزوين 420,000 كلم مربع.
2- اللّه يتجلى في عصر العلم، ص 20.
الجهة الثالثة: الجواب السمعي

قد أعرب الوحي عن كفاية مواد الأرض لإحياء الموتى بوجه خاص، يفهمه المتدبّر في القرآن الكريم.

يقول سبحانه: وَ إِذَا اَلْأَرْضُ مُدَّتْ (1).

و يقول سبحانه: وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبٰالُ، فَدُكَّتٰا دَكَّةً وٰاحِدَةً (2).

و من المحتمل جدا أن يكون مد الأرض في ظل الاندكاك، بكسر الذرّات الموجودة فيها، فيبلغ حجم حجر يقدر بمتر مكعب إلى ملايين الكيلومترات المكعبة.

فخرجنا بهذه النتيجة، و هي أنّ تصور عدم كفاية المادة الأرضية لإحياء الناس، باطل في العقل، و العلم و الوحي.

ص: 395


1- سورة الانشقاق: الآية 3.
2- سورة الحاقة: الآية 14.

أسئلة المعاد

(5) شبهة الآكل و المأكول
اشارة

إنّ هذه الشبهة من أقدم الشبهات التي وردت في الكتب الكلامية حول المعاد الجسماني، و قد اعتنى بدفعها المتكلمون و الفلاسفة عناية بالغة، و الإشكال يقرر بصورتين:

الصورة الأولى: إذا أكل إنسان إنسانا بحيث عاد بدن الثاني جزء من بدن الإنسان الأول، فالأجزاء التي كانت للمأكول ثم صارت للآكل، إمّا أن تعاد في كل واحد منهما، أو تعاد في أحدهما، أو لا تعاد أصلا. و الأول محال، لاستحالة أن يكون جزء واحد بعينه، في آن واحد، في شخصين متباينين. و الثاني خلاف المفروض، لأنّ لازمه أن لا يعاد الآخر بعينه.

و الثالث أسوأ حالا من الثاني، إذ يلزم أن لا يكون أي من الإنسانين معادا بعينه. فينتج أنّه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها.

الصورة الثانية: لو أكل إنسان كافر، إنسانا مؤمنا، و قلنا بأنّ المراد من المعاد هو حشر الأبدان الدنيوية في الآخرة، فيلزم تعذيب المؤمن، لأنّ المفروض أنّ بدنه أو جزء منه، صار جزء من بدن الكافر، و الكافر يعذّب، فيلزم تعذيب المؤمن(1).

ص: 396


1- لاحظ شرح المواقف للسيد شريف، ج 8، ص 245، شرح المقاصد، للتفتازاني، ج 2 ص 216. و الإشكال الثاني وارد فيه دون الأول. و كشف المراد، ص 255، ط صيدا. و الأسفار، ج 9، ص 199. و الفرق بين الصورتين هو أنّ الإشكال بالتقرير الأول يركز على نقص الإنسان المعاد من حيث البدن، و لكنه في التقرير الثاني يركز على أنّ المعاد الجسماني في المقام يستلزم خلاف العدل الإلهي، فالأساس في الإشكال في الصورتين واحد، و هو كون بدن إنسان جزء من بدن إنسان آخر، و لكن المترتب على الصورة الأولى هو عدم صدق كون المعاد هو المنشأ في الدنيا، و على الصورة الثانية هو تعذيب البريء مكان المجرم.

و قبل الورود في الجواب نعلّق على هذا السؤال بأنه لا يختص بما ورد فيه من أكل إنسان إنسانا، الذي لا يتفق حصوله إلاّ في أعماق الأدغال، و المجتمعات الوحشية، بل السؤال يرجع إلى أمر يومي ملموس في المجتمعات المتحضرة، و ذلك أنّ النباتات و الثمار و الحبوب التي يتغذّى عليها الإنسان تنبت من تراب الأرض، الذي هو مزيح رفات الأموات الذين قضوا عبر الدهور، و الذي هو عصارة الأبدان و خلاصتها.

و نحن نرى أنّ المقابر الواقعة في أكناف البلاد تتبدل إلى حدائق للتفرج و التنزه أو إلى مزارع للاستثمار، فيتغذى منها الحيوان و الإنسان، فيؤول بدن الإنسان الميت، جزء من الإنسان الحي، فعندئذ يطرح السؤال المتقدم.

الجواب:

إن هذه أقوى شبهة تعترض القول بالمعاد الجسماني، و نحن نذكر أولا ما هو الحق عندنا في الإجابة، ثم نشير إلى ما ذكره المتكلمون في ذلك:

أما الصورة الأولى من الإشكال، فبعض احتمالاتها ساقط جدا، و هو عود المأكول جزء لكلا الإنسانين، فيبقى الاحتمالان الآخران، و بأي واحد منهما أخذنا يندفع الإشكال، و ذلك بالبيان التالي:

إنّ الإنسان من لدن تكوّنه و تولده إلى يوم وفاته واقع في مهب التغير و خضم التبدل، فليس وجوده جامدا خاليا عن التبدل. فبدن الإنسان ليس إلا خلايا لا يحصيها إلا اللّه سبحانه، و كل منها يحمل مسئوليته في دعم حياة البدن، و الخلايا

ص: 397

في حال تغير و تبدل مستمر، تموت و يخلفها خلايا أخرى، و بهذا يتهيّأ للبدن استمرار حياته، من غير فرق بين الخلايا الدماغية و غيرها، غاية الأمر أنّ الخلايا الدماغية، ثابتة من حيث العدد دون غيرها.

و قد قال الأخصائيون بأن مجموع خلايا البدن تتبدل إلى خلايا أخرى كل عشر سنوات، فبدن الإنسان بعد عشر سنين من عمره يغاير بدنه الموجود قبل عشر سنين و على هذا فالإنسان الذي يبلغ عمره ثمانين سنة قد عاش في ثمانية أبدان مختلفة، و هو يحسبها بدنا واحدا.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إن هناك فروضا:

1 - فلو فرض أنّ بدن إنسان صار جزء من بدن إنسان آخر، فبما أنّ للمأكول أبدانا متعددة على مدى حياته، فواحد منها مقرون بالمانع، و الأبدان الأخر خالية منه فيحشر مع الخالي.

2 - و لو فرض أنّ جميع أبدانه اقترنت بالمانع، فإنه أيضا لا يصد عن القول بالمعاد الجسماني، لأنّ الناموس السائد في التغذية، هو أنّ ما يستفيده الإنسان من الغذاء لا يتعدى ثلاثة بالمائة من المأكول و الباقي يدفعه.

فإذا لا مانع من أن تتعلق الروح بأحد هذه الأبدان التي تتفاوت عن البدن الدنيوي من حيث الوزن و الحجم، و لم يدل على أنّ المحشور في النشأة الأخروية يتحد مع الموجود في النشأة الدنيوية في جميع الجهات و عامة الخصوصيات.

3 - و لو فرض أنّ قانون التحول ساد على أبدان المأكول، فلم يبق من كل بدن إلا النذر اليسير الذي لا يتشكل منه بدن إنسان كامل، فلا مانع في هذا الفرض النادر من تكميل خلقته بالمواد الأرضية الأخرى حتى يكون إنسانا قابلا لتعلق الروح به، و ليس لنا دليل على أنّ المعاد في الآخرة يتحد مع الموجود في الدنيا في جميع الجهات حتى المادة التي يتكون منها البدن.

نعم، إن كانت المادة الترابية التي تكوّن منها البدن الدنيوي موجودة، فلا وجه للعدول عنها إلى تراب آخر، و أما إذا كانت مقرونة بالمانع، فلم يبق إلا جزء

ص: 398

يسير لا يكفي لتكوّن البدن، فلا غرو في أن يتسبّب في تكميل خلقته بالأخذ من المواد الترابية غير المقرونة بالمانع.

و الذي يدل على ذلك أنه سبحانه في مقام التنديد بالمنكرين، يعبر بلفظ المثل، و يقول: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ (1). الضمير في مِثْلَهُمْ يعود إلى المشركين المنكرين للمعاد، و هذا يعرب عن كفاية المثل من غير حاجة إلى صدق العينية، بالوحدة في المادة الترابية.

و يؤيد ذلك قول الإمام الصادق عليه السلام: «فإذا قبضه اللّه إليه، صيّر تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته، فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا»(2).

فترى أنّ الإمام عليه السلام يذكر كلمة الصورة، و لعلّ فيه تذكير بأنّه يكفي في المعاد الجسماني كون المعاد متحدا مع المبتدأ في الصورة من غير حاجة إلى أن يكون هناك وحدة في المادة الترابية بحيث إذ طرأ مانع من خلق الإنسان منه، فشل المعاد الجسماني و لم يتحقق.

و التركيز على وحدة المادة، يبتني على تحليل وجود الإنسان تحليلا ماديا و أنّه ليس وراء المادة شيء آخر، و أما على القول بأنّ واقعية الإنسان بروحه و نفسه، و أنّ جميع خصوصياته و ملكاته موجودة في نفسه، فالمعاد الجسماني لا يتوقف على كون البدن المحشور نفس البدن الدنيوي حتى في المادة الترابية، بل لو تكوّن بدن الإنسان المعاد من أيّة مادة ترابية كانت، و تعلقت به الروح، و كان من حيث الصورة متحدا مع البدن الدنيوي، يصدق على المعاد أنّه هو المنشأ في الدنيا.

قال صدر المتألهين: «إن تشخّص كلّ إنسان إنما يكون بنفسه لا ببدنه، و إنّ البدن المعتبر فيه، أمر مبهم، لا تحصّل له إلا بنفسه، و ليس له من هذه

ص: 399


1- سورة يس: الآية 81.
2- البحار، ج 6، باب أحوال البرزخ، الحديث 32، ص 229.

الحيثية تعيّن، و لا يلزم من كون بدن زيد مثلا محشورا أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولا لسبع أو إنسان آخر، محشورا، بل كلّ ما يتعلّق به نفسه هو بعينه بدنه الذي كان. فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أن تبعث أبدان من القبور إذا رأى أحد كلّ واحد منها يقول هذا فلان بعينه، أو هذا بدن فلان، و لا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدّل الوجود و الهوية. كما لا يلزم أن يكون مشوّه الخلق و أن يكون الأقطع و الأعمى و الهرم محشورا على ما كانوا عليه من نقصان الخلقة و تشويه البنية»(1).

ثم إن للمتكلمين جوابا آخر في الذب عن هذه الصورة من الإشكال حاصله أنّ المعاد، إنما هو الأجزاء الأصلية، و هي الباقية من أول العمر إلى آخره، لا جميع الأجزاء على الإطلاق، و هذه الأجزاء الأصلية، التي كانت للإنسان المأكول، هي في الآكل فضلات، فإنا نعلم أنّ الإنسان يبقى مدة عمره و أجزاء الغذاء تتوارد عليه و تزول عنه، فإذا كانت فضلات فيه، لم يجب إعادتها في الآكل بل في المأكول(2).

و يظهر من المحقق الطوسي ارتضاؤه حيث يقول: «و لا يجب إعادة فواضل المكلف». و أوضحه العلامة الحلي بقوله: «إن لكلّ مكلف أجزاء أصلية لا يمكن أن تصير جزء من غيره، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها»(3).

و ما ذكروه خال عن الدليل، إذ لم يدلّ دليل على أنّ لكل مكلف أجزاء أصلية لا تكون جزء لبدن غيره.

نعم، ورد في بعض الروايات، و لكنها روايات آحاد، لا توجب علما، فلو ثبت صدورها، فليقبل تعبدا(4).

إلى هنا تم الجواب عن الصورة الأولى من الإشكال.

ص: 400


1- الأسفار، ج 9، ص 200.
2- شرح المواقف، ج 8، ص 296.
3- كشف المراد، ص 256، ط صيدا.
4- لاحظ بحار الأنوار، ج 7، باب إثبات الحشر، الحديث 21، ص 43.

و أما الصورة الثانية من الإشكال: فقد عرفت أنها تركز على العدل الإلهي، و أن كون بدن المؤمن جزء من بدن الكافر يستلزم تعذيب المجرم، و لكنه مبنى على إعطاء الأصالة في الحياة للبدن و هي نظرية خاطئة، فإن اللذائذ و الآلام ترجع إلى الروح، و البدن وسيلة لتعذيبه و تنعيمه.

فصيرورة بدن المسلم جزء من بدن الكافر، لا يلازم تعذيب المؤمن، لأنّ المعذّب بتعذيب البدن، هو روح الكافر و نفسه، لا روح المؤمن. و هذا نظير أخذ كلية من إنسان حيّ و وصلها بإنسان يعاني من ضعفها و علّتها، فإذا نجحت عملية الوصل و صارت الكلية الموصولة، جزء من بدن المريض، ثم عذّب هذا المريض، فالمعذب هو هو، و لو نعّم، فالمنعّم هو هو، و لا صلة بينه و بين من وهب كليته و أهداها إليه.

و قد عرفت في كلام صدر المتألهين ما يفيدك في المقام.

ص: 401

أسئلة المعاد

(6) مكان بعث النفوس و حشرها
اشارة

أثبتت البحوث الجيولوجية و التنقيبات الأثرية أنّ الإنسان يعيش في هذا الكوكب منذ أكثر من مليوني سنة، و يستدل على ذلك بالمستندات الحفرية التي تؤلف سجلات الخليقة. فعندئذ يطرح هذا السؤال: هل يكفي سطح الأرض لاستقرار جميع الخلائق التي لا يحصي عددها إلا خالقها، في يوم واحد، كما هو صريح قوله سبحانه: هٰذٰا يَوْمُ اَلْفَصْلِ جَمَعْنٰاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ (1)، مع أنّ مساحة الأرض لا تتجاوز (715، 950، 509) كيلومتر مربع؟

و الجواب:

إنّ السؤال مبني على حفظ النظام يوم القيامة، مع أنّ صريح الآيات على تبدّل النظام، و حدوث نظام أوسع و أكبر، و قد عرفت أنّ الدنيا ميكا الحرارية تثبت اتجاه المواد الكونية إلى الفناء بمرور الزمن، فلا تقوم القيامة على صعيد هذا النظام. و الآيات في هذا المجال كثيرة.

يقول سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ (2).

ص: 402


1- سورة المرسلات: الآية 38.
2- سورة إبراهيم: الآية 48.

و الذكر الحكيم يصرح بأنّ الشمس و القمر يجريان إلى أجل مسمى. يقول سبحانه: وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (1)، بل جميع العوالم المحسوسة من الأرض و السموات، كلّها تجري إلى أجل مسمى، يقول سبحانه: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ لَكٰافِرُونَ (2).

و الآيات التي ننقلها في كيفيّة حدوث القيامة، تكشف عن تدمير النظام بأسره، و انقلابه إلى نظام آخر، يقول سبحانه: إِذٰا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا * وَ بُسَّتِ اَلْجِبٰالُ بَسًّا (3). و يقول سبحانه: يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمٰاءُ مَوْراً * وَ تَسِيرُ اَلْجِبٰالُ سَيْراً (4). و غير ذلك مما سيوافيك بيانه.

فالنّاس يحشرون على صعيد واحد، في يوم واحد، لكن في نظام آخر، عظيم هائل يسع لجمع جميع العباد، و محاسبتهم فيه.

ص: 403


1- سورة الرعد: الآية 2.
2- سورة الروم: الآية 8. و نظيره الأحقاف: 3.
3- سورة الواقعة: الآيتان 4 و 5.
4- سورة الطور: الآيتان 9 و 10.

أسئلة المعاد

(7) كيف يخلد الإنسان، مع أنّ المادة تفنى؟
اشارة

دلّت الآيات و الروايات على خلود الإنسان في الآخرة، إما في جنتها و نعيمها، أو في جحيمها و عذابها، هذا من جانب.

و من جانب آخر، دلت القوانين العلمية على أنّ المادة، حسب تفجر طاقاتها، على مدى أزمنة طويلة، تبلغ إلى حد تنفذ طاقتها فلا يمكن أن يكون للجنة و النار بقاء، كما لا يكون للإنسان خلود كذلك، لأنّ مكونات الكون تفقد حرارتها تدريجيا، و تصير الأجسام على درجة بالغة الانخفاض(1)، و بالتالي تنعدم الطاقة و تستحيل الحياة.

الجواب

إنّ السؤال ناش من مقايسة الآخرة بالدنيا، و هو خطأ فادح، لأنّ التجارب العلمية لا تتجاوز نتائجها المادة الدنيوية. و إسراء حكم هذا العالم إلى العالم الآخر، و إن كان ماديا و عنصريا مثلها، قياس لا دليل عليه. كيف، و قد تعلقت قدرتها سبحانه على إخلاد الجنة و النار، و له إفاضة الطاقة، إفاضة بعد إفاضة، على العالم الأخروي بجحيمه و جنته، و مؤمنه و كافره. و يعرب عن ذلك

ص: 404


1- هي درجة الصفر المطلق البالغة (269) درجة مئوية تحت الصفر، و هي درجة سيلان غاز الهيليوم.

قوله سبحانه: كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا لِيَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَزِيزاً حَكِيماً (1)و يعزز ذلك ما جاء في آخر الآية من الاتكاء على كونه عزيزا، فإنّ معناه:

مقتدرا على إمداد المادة. فلأجل ذلك لو كانت الحركة و العمل مفنيين لطاقات المادة الدنيوية، فليسا كذلك في المادة الأخروية، لدعمها بطاقات جديدة، فلو نضج جلد يأتي مكانه جلد آخر، و هكذا.

و هذا السؤال من أوضح موارد قياس الغيب على الحس أوّلا، و عدم التعرف على قدرته سبحانه ثانيا، يقول تعالى:

مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (2) .

ص: 405


1- سورة النساء: الآية 56.
2- سورة الحج: الآية 74.

أسئلة المعاد

(8) ما هو الغرض من عقاب المجرم أو تنعيم المحسن؟
اشارة

إنّ الحكيم لا يعاقب إلا لغاية و غاية العقوبة إما التشفي كما في قصاص المجرم، و هو محال على اللّه، أو إيجاد الاعتبار في غير المعاقب، أو تأديب المجرم، و كلاهما يتحققان في النشأة الدنيوية لا الأخروية، فيكون تعذيب المجرم في الآخرة عبثا لا غاية فيه.

بل ربما يقال إنّ تنعيم المؤمن أيضا بلا وجه، لأن اللذة الجسمانية لا حقيقة لها و إنما هي دفع الألم، فلو ترك الميت على حاله و لم يعد، لم يكن متألما. فالغرض حاصل بدون الإعادة، فلا فائدة فيها(1).

الجواب

إنّ السائل قد فرض أنّ المعاد أمر ممكن في ذاته و لم يدل دليل على ضرورة وقوعه، فسأل عن الغاية الموجبة له، و لكنه لو وقف على ما ذكرنا من الأدلة التي تحتم المعاد، و تجعل وجوده ضروريا، لترك السؤال. فقد عرفت أنّ هناك وجوها ستة تعرّف المعاد أمرا ضروريا لا مناص عنه، منها كون المعاد مجلّى للعدل الإلهي، فإذا كان وجود المعاد، أمرا ضروريا، فالسؤال عن غاية و هدف

ص: 406


1- لاحظ شرح المواقف، ج 8، ص 296، و الجزء الأول من كتابنا هذا، و قد جاء السؤال فيه أبسط مما ذكر هنا.

أمر ضروري الوقوع، ساقط. و ذلك لأن بين تلك الأدلة التي توجب ضرورة المعاد، عللا غائية، كتجلّي عدله سبحانه في المعاد، أو كمال الإنسان، و معها لا معنى للسؤال عن غاية المعاد.

و من العجب أنّ السائل يجعل اللذة الجسمانية شيئا لا حقيقة له، و أنها ما هي إلا دفع الألم. و لا أظن أنّه نفسه يقدر على تطبيقه على جميع موارد اللذة، فهل في اللذة الجسمانية الحاصلة من التأمل في روضة غنّاء، دفعا للألم، بحيث لولاه لكان غارقا في الآلام و الأوجاع، أو أنها لذة واقعية مناسبة للنفس في مقامها المادي، و قس على ذلك غيره.

و هناك جوابان آخران تقدّما في الجزء الأول عند البحث عن ثمرات التحسين و التقبيح العقليين، فلا نعيدهما(1).

ص: 407


1- لاحظ الإلهيات، ج 1 ص 293-300.

أسئلة المعاد

(9) من هم المخلدون في النار؟

اختلفت كلمة المتكلمين في المخلّدين في النار، فذهب جمهور المسلمين إلى أن الخلود يختص بالكافر، دون المسلم و إن كان فاسقا. و ذهبت الخوارج و المعتزلة إلى خلود مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة.

قال الشيخ المفيد: «اتفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصّة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللّه تعالى و الإقرار بفرائضه من أهل الصلاة»(1).

و قال في شرح عقائد الصدوق: «أما النار فهي دار من جهل اللّه سبحانه، و قد يدخلها بعض من عرفه، بمعصية اللّه، غير أنه لا يخلد فيها بل يخرج منها إلى النعيم المقيم، و ليس يخلد فيها إلا الكافرون».... إلى أن قال: «و كل آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل المعرفة باللّه تعالى، بدلائل العقول و الكتاب المسطور، و الخبر الظاهر المشهور(2)، و الإجماع، و الرأي السابق لأهل البدع من أصحاب الوعيد»(3).

ص: 408


1- أوائل المقالات، ص 14.
2- يريد من الخبر، ما تضافر عن النبي من أنه قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي. راجع البحار، ج 8، ص 351.
3- شرح عقائد الصدوق، ص 55.

و قال العلامة الحلّي: «أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع، و أما أصحاب الكبائر من المسلمين، فالوعيدية على أنه كذلك. و ذهبت الإمامية و طائفة كثيرة من المعتزلة و الأشاعرة إلى أن عذابه منقطع»(1).

و استدل القائلون بالانقطاع بآيات، منها قوله سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (2)، و الإيمان أعظم أفعال الخير. فإذا استحق العقاب بالمعصية، فإما أن يقدّم الثواب على العقاب، فهو باطل بالإجماع، لأن الإثابة لا تكون إلا بدخول الجنة، و الداخل فيها مخلّد لا يخرج منها أبدا، فلا يبقى مجال لعقوبته، أو بالعكس و هو المراد.

أضف إلى ذلك أنّه يلزم أن يكون من عبد اللّه تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه، ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة، مع حفظ إيمانه، مخلدا في النار، و يكون نظير من أشرك باللّه تعالى مدة عمره، و هذا عند العقل قبيح و محال(3).

و استدلت المعتزلة على خلود الفاسق في النار، بالسمع و هو عدة آيات، استظهرت من إطلاقها أن الخلود يعم الكافر و المنافق و الفاسق. و إليك هذه الآيات واحدة بعد الأخرى.

الآية الأولى - قوله سبحانه: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ (4). و لا شكّ أن الفاسق ممن عصى اللّه و رسوله بترك الفرائض و ارتكاب المعاصي.

يلاحظ عليه: أولا - إن دلالة الآية على خلود الفاسق في النار لا يتجاوز حد الإطلاق، و المطلق قابل للتقييد. و قد خرج عن هذه الآية باتفاق المسلمين

ص: 409


1- كشف المراد، ص 261، ط صيدا.
2- سورة الزلزلة: الآية 7.
3- لاحظ كشف المراد، ص 161، ط صيدا.
4- سورة النساء: الآية 14. و أما قوله سبحانه: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا (الجن: الآية 23) فهو راجع إلى الكفار، كما هو واضح لمن لاحظ آيات السورة.

الفاسق التائب، فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربما تشمله عناية اللّه و رحمته، و يخرج عن العذاب، لكان المطلق مقيدا بقيد آخر وراء التائب، فيبقى تحت الآية المشرك و المنافق.

و ثانيا: إن الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان، بل العصيان المنضم إليه تعدّي حدود اللّه و من المحتمل جدا أن يكون المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه، و طردها، و عدم قبولها. كيف، و قد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.

يقول سبحانه: يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ... (1).

و يقول سبحانه: وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ.. (2).

ثم يقول سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ.... (3).

و يقول: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ... (4).

و قوله: وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ ، و إن لم يكن ظاهرا في رفض التشريع، لكنه يحتمله. بل ليس الحمل عليه بعيدا بشهادة الآيات الأخر الدالة على شمول غفرانه لكل ذنب دون الشرك، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم و غير ذلك من الآيات الواردة في حق الإنسان غير التائب كما سيوافيك.

يقول الطبرسي: «إنّ قوله: وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ ، ظاهر في تعدّي جميع حدود اللّه، و هذه صفة الكفار، و لأنّ صاحب الصغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية و إن كان فاعلا للمعصية، و متعديا حدّا من حدود اللّه، و إذا جاز إخراجه بدليل، جاز لغيره أن يخرج من عمومها، كمن يشفع له النبي أو يتفضّل

ص: 410


1- سورة النساء: الآية 11.
2- سورة النساء: الآية 12.
3- سورة النساء: الآية 13.
4- سورة النساء: الآية 14.

اللّه عليه بالعفو، بدليل آخر، و أيضا فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية، لقيام الدليل على وجوب قبول التوبة، و كذلك يجب إخراج من يتفضّل اللّه بإسقاط عقابه، منها، لقيام الدلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو»(1).

الآية الثانية: قوله سبحانه: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا، وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ، وَ لَعَنَهُ، وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً (2).

قال القاضي: وجه الاستدلال هو أنه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمنا عمدا جازاه، و عاقبه و غضب عليه، و لعنه (و أخلده في جهنم)(3).

يلاحظ عليه: أولا - إن دلالة الآية دلالة إطلاقية، فكما خرج منها القاتل المشرك إذا أسلم، و المسلم القاتل إذا تاب، فليكن كذلك من مات بلا توبة و لكن اقتضت الحكمة الإلهية، أن يتفضّل عليه بالعفو، فليس التخصيص أمرا مشكلا.

و ثانيا: إنّ من المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحل لقتل المؤمن، أو قتله لإيمانه، و هذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.

لاحظ قوله سبحانه: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، كُلَّمٰا رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهٰا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولٰئِكُمْ جَعَلْنٰا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً (4).

ثم ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأ و تعمدا. و في ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمدي، الذي يقوم به القاتل لعداء ديني لا غير، فيكون ناظرا إلى غير المسلم.

الآية الثالثة: قوله سبحانه: بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ

ص: 411


1- مجمع البيان، ج 2، ص 20، طبعة صيدا.
2- سورة النساء: الآية 93.
3- شرح الأصول الخمسة، ص 659.
4- سورة النساء: الآية 91.

فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (1) .

و الاستدلال بهذه الآية إنما يصح مع غضّ النظر عن سياقها، و أما معه فإنها واردة في حق اليهود.

أضف إليه أنّ قوله سبحانه: وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، لا يهدف إلا إلى الكافر، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصيا لا تحيط به خطيئته، فإنّ في قلبه نقاط بيضاء يشع عليها إيمانه و اعتقاده باللّه سبحانه و أنبيائه و كتبه. على أن دلالة الآية بالإطلاق، فلو ثبت ما يقوله جمهرة المسلمين، يخرج الفاسق من الآية بالدليل.

الآية الرابعة: قوله سبحانه: إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذٰابِ جَهَنَّمَ خٰالِدُونَ * لاٰ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا هُمُ اَلظّٰالِمِينَ (2)إن دلالة الآية إطلاقية، قابلة للتقييد، أوّلا. و سياق الآية في حق الكفار، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية: اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا مُسْلِمِينَ * اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (3)، ثم يقول: إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذٰابِ جَهَنَّمَ خٰالِدُونَ . ف اَلْمُجْرِمِينَ ، في مقابل اَلَّذِينَ آمَنُوا ، فلا يعم المسلم، ثانيا.

هذه هي الآيات التي استدلت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النار، و قد عرفت أن دلالتها بالإطلاق لا بالصراحة. و تقييد المطلق أمر سهل مثل تخصيص العام. مضافا إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر و المنافق.

و هناك آيات أظهر مما سبق(4) تدل على شمول الرحمة الإلهية للفساق غير التائبين نكتفي باثنتين منها:

ص: 412


1- سورة البقرة: الآية 81.
2- سورة الزخرف: الآيات 74-76.
3- سورة الزخرف: الآيتان 69 و 70.
4- كما تدل هذه الآيات على عدم الخلود في النار، تدل على جواز العفو عن الفاسق من بدء الأمر، و أنه يعفى عنه و لا يعذب من رأس، فهذا الصنف من الآيات كما يحتج به في هذه مسألة، يحتج به في المسألة السالفة أيضا فلاحظ.

1 - قوله سبحانه: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاٰتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّٰاسِ عَلىٰ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقٰابِ (1).

قال الشريف المرتضى: «في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لأنه سبحانه دلّنا على أنه يغفر لهم مع كونهم ظالمين، لأن قوله عَلىٰ ظُلْمِهِمْ (جملة حالية)، إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين، و يجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلانا على غدره، و أصله على هجره»(2).

و قد قرر القاضي دلالة الآية و أجاب عنها بأن الأخذ بظاهر الآية مما لا يجوز بالاتفاق، لأنّه يقتضي الإغراء على الظلم، و ذلك ممّا لا يجوز على اللّه تعالى، فلا بد من أن يؤوّل، و تأويله هو أنه يغفر للظالم على ظلمه إذا تاب(3).

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكره من الإشكال، جار في صورة التوبة أيضا، فإن الوعد بالمغفرة مع التوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية، برجاء أنه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجبا للإغراء، فليكن الوعد بالغفران مع التوبة كذلك.

و الذي يدل على أن الحكم عام للتائب و غيره هو التعبير بلفظ «الناس» مكان «المؤمنين» فلو كان المراد هو التائب، لكان المناسب أن يقول سبحانه:

«و إنّ ربّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم»، مكان قوله: «للناس». و هذا يدل على أن الحكم عام يعم التائب و غيره.

إن هذه الآية تعد الناس بالمغفرة، و لا تذكر حدودها و شرائطها فلا يصح عند العقل الاعتماد على هذا الوعد و ارتكاب الكبائر، فإنه وعد إجمالي غير مبين من حيث الشروط و القيود.

2 - قوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ

ص: 413


1- سورة الرعد: الآية 6.
2- مجمع البيان، ج 3، ص 278.
3- شرح الأصول الخمسة، ص 684.

يَشٰاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِفْتَرىٰ إِثْماً عَظِيماً (1) .

وجه الاستدلال بهذه الآية على أن رحمته تشمل غير التائب من الذنوب، أنه سبحانه نفى غفران الشرك دون غيره من الذنوب. و بما أن الشرك يغفر مع التوبة، فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب. فمعنى قوله: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، أنّه لا يغفر إذا مات من أشرك بلا توبة. كما أن معنى قوله:

وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ ، أنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين، و لو كانت سائر الذنوب، مثل الشرك، غير مغفورة إلا بالتوبة، لما حسن التفصيل بينهما، مع وضوح الآية في التفصيل(2).

و قد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبناه الجمهور بوجه رائع، و لكنه - تأثرا بعقيدته الخاصة في الفاسق - قال: «إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان، لأنّه قال: «و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»، و لم يبين من الذي يغفر له. فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر، و احتمل أن يكون المراد أصحاب الكبائر، فسقط احتجاجهم بالآية»(3).

أقول: عزب عن القاضي أن الآية مطلقة، تعم كلا القسمين، فأيّ إجمال في الآية حتى نتوقف. و العجب أنه يتمسك بإطلاق الطائفة الأولى من الآيات، و لكنه يتوقف في إطلاق هذا الصنف.

نعم، دفعا للإغراء، و قطعا لعذر الجاهل، قيّد سبحانه غفرانه بقوله:

لِمَنْ يَشٰاءُ ، حتى يصد العبد عن الارتماء في أحضان المعصية بحجة أنه سبحانه وعده بالمغفرة.

ثم إنّ القاسم بن محمد بن علي الزيدي العلوي المعتزلي، تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات و قال: «آيات الوعيد لا إجمال فيها، و هذه الآيات و نحوها مجملة، فيجب حملها على قوله تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ

ص: 414


1- سورة النساء: الآية 48.
2- مجمع البيان، ج 2، ص 57 بتلخيص.
3- شرح الأصول الخمسة، ص 678.

صٰالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىٰ (1) .» ثم ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التوبة(2).

و يظهر النظر في كلامه مما قدمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.

هذا، و البحث أشبه بالبحث التفسيري منه بالكلامي، و من أراد الاستقصاء في هذا المجال فعليه بجمع الآيات الواردة حول الذنوب و الغفران حتى يتضح الحال فيها، و يتخذ موضعا حاسما بإزاء اختلافاتها الأوليّة.

ص: 415


1- سورة طه: الآية 82.
2- الأساس لعقائد الأكياس، ص 198.

أسئلة المعاد

(10) هل يجوز العفو عن المسيء؟
اشارة

هل يجوز العفو عن العصاة في الآخرة أولا؟ و هل في الحكم بجواز العفو، إغراء للعصاة على إدامة العصيان، أولا؟ أ و ليس العفو عن العاصي، خلفا للوعيد، و هو قبيح؟

الجواب

إنّ التعذيب حق للمولى سبحانه و له إسقاط حقّه، و هو إحسان منه سبحانه على العبد: مٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (1)، فلا مانع، إذا اقتضت الحكمة، من العفو عن العاصي في ظروف خاصة، إما بالشفاعة، أو بدونها.

و قد خالف معتزلة بغداد في ذلك، فلم يجوزوا العفو عن العصاة عقلا، و استدلوا على ذلك بوجهين:

الوجه الأوّل - إنّ العقاب لطف من اللّه تعالى، و اللطف يجب أن يكون مفعولا بالمكلف على أبلغ الوجوه، و لن يكون كذلك إلا و العقاب واجب على اللّه تعالى. و من المعلوم أنّ المكلف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقه من العقوبة على كل وجه، كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر(2).

ص: 416


1- سورة المائدة: الآية 91.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 646.

يلاحظ عليه: إنّ اللطف عبارة عما يقرب الإنسان من الطاعة، و يبعده عن المعصية، و هذا لا يتصور إلا في دار التكليف لا دار الجزاء، فالدار الأولى، دار العمل و السعي، و الآخرة دار الحساب و الاجتناء.

و أما ما ذكروه أخيرا من أنه لو علم أنّه يفعل ما يستحقه من العقوبة على كل وجه، كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر، فهو لم تم، لوجب سد باب التوبة، لإمكان أن يقال إن المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته كان أقرب إلى الطاعة و أبعد من المعصية.

أضف إلى ذلك أنّ للرجاء آثارا بنّاءة في حياة الإنسان، و لليأس آثارا سلبية في الإدامة على الموبقات، و لأجل ذلك جاء الذكر الحكيم، بالترغيب و الترهيب معا.

ثم إنّ الكلام في جواز العفو لا في حتميته، و الأثر السلبي - لو سلّمناه - يترتب على الثاني دون الأول.

الوجه الثاني - أنّ اللّه أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب، فلو لم يعاقب، للزم الخلف في وعيده، و الكذب في خبره(1)، و هما محالان(2).

الجواب: إنّ الخلف في الوعد قبيح، و ليس كذلك في الوعيد، و الدليل على ذلك أنّ كل عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصة، فلو كان العفو من اللّه تعالى مع الوعيد قبيحا، لوجب أن يكون كذلك عند كل عاقل.

و لعل الوجه في عدم كونه قبيحا هو أنّ الوعيد حق، و العفو إسقاط، و مثل ذلك يعد مستحسنا لا قبيحا، إذا وقع العفو في موقعه، و لأجل ذلك يقول الشيخ الصدوق: اعتقادنا في الوعد و الوعيد هو أنّ من وعده اللّه على عمل ثوابا، فهو منجزه، و من وعده على عمل عقابا فهو بالخيار إن عذّبه فبعدله و إن عفا عنه

ص: 417


1- أخطأ المستدل في هذا، فإن الوعد إنشاء و ليس بإخبار حتى يلزم فيه الكذب.
2- شرح العقائد العضدية، لجلال الدين الدواني (م 908)، ج 2، ص 194.

فبفضله، وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (1)، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ (2).(3)

هذا كله حول العفو عن الوعيد عقلا. و أما سمعا، أي حسب الأدلة النقلية فسيوافيك الكلام فيه عند البحث عن عدم خلود غير الكافر في النار.

ص: 418


1- سورة فصلت: الآية 46.
2- سورة النساء: الآية 48.
3- عقائد الصدوق، ص 86 من النسخة الحجرية الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.

أسئلة المعاد

(11) هل الجنة و النار مخلوقتان؟
اشارة

إنّ اللّه سبحانه وعد المتقين بالجنة و أوعد العاصين بالنار، فهل هما مخلوقتان الآن، أم لا؟.

الجواب: ذهبت المعتزلة - غير أبي على الجبّائي - و الخوارج و طائفة من الزيدية، إلى الثاني و ذهبت الإمامية و الأشاعرة إلى أنّهما مخلوقتان.

قال الشيخ المفيد: «إنّ الجنة و النّار في هذا الوقت مخلوقتان و بذلك جاءت الأخبار، و عليه إجماع أهل الشرع و الآثار»(1).

و قال التفتازاني: «جمهور المسلمين على أنّ الجنة و النار مخلوقتان الآن خلافا لأبي هاشم و القاضي عبد الجبار، و من يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا أنّهما إنّما يخلقان يوم الجزاء»(2).

و الظاهر من السيد الرضي، أنّهما غير مخلوقتين الآن، قال: و الصحيح أنّهما تخلقان بعد»(3).

ص: 419


1- أوائل المقالات، ص 102.
2- شرح المقاصد، ج 2، ص 218، و لاحظ شرح التجريد للقوشجي، ص 507، و العبارتان متحدتان.
3- حقائق التأويل، ص 245.
أدلة القائلين بخلقهما

أستدل على كون الجنة و النار مخلوقتان، بوجوه:

الوجه الأول: قصة آدم و حواء، و إسكانهما الجنة، و أكلهما من الشجرة، و خصفهما عليهما من ورق الجنة، ثم إخراجهما منها، على ما نطق به الكتاب و السنة، و انعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين. و حملهما على بستان من بساتين الدنيا، ليس عليه دليل(1).

يلاحظ عليه: إنّ حمله على غير جنة الخلد التي هي قرار المآب و جنة الثواب، ليس أمرا بعيدا، و الجنة في أصل اللغة يعبر بها عن الرياض، و المنابت، و الأشجار، و الحدائق، و الكروم المعروشة، و النخيل.

و على هذا قوله سبحانه: وَ لَوْ لاٰ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ (2).

و قوله سبحانه: لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ، جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (3).

و يمكن أن يؤيّد ذلك بأنه لو كانت جنّة الخلد، لما خرج منها، قال سبحانه: أُولٰئِكَ هُمُ اَلْوٰارِثُونَ * اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (4).

و هذا، و إن كان يمكن حمله على من دخلها بعد دار الدنيا، و هو غير متحقق في آدم، و لكنه احتمال في مقابل احتمال. و كما لا يمكن الاحتجاج على كونهما مخلوقين بما ورد في جنة آدم، كذلك لا يمكن الاحتجاج عليه بما ورد من كون الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون(5)، أو بما ورد من أنّ آل فرعون يعرضون على

ص: 420


1- شرح المقاصد، ج 2، ص 218.
2- سورة الكهف: الآية 39.
3- سورة سبأ: الآية 15.
4- سورة المؤمنين: الآيتان 10 و 11.
5- سورة آل عمران: الآية 169.

النار غدوّا و عشيا(1)، لأنهما راجعان إلى الحياة البرزخية. و التنعيم او التعذيب فيهما، غيرهما في الآخرة.

الوجه الثاني: الآيات الصريحة في كونهما مخلوقين، كقوله سبحانه:

وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ * عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ (2) و كقوله في حقّ الجنّة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (3)، و أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ (4)، و وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (5) و في حق النار: أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ (6) و بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغٰاوِينَ (7). و حملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، مثل: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ (8)و وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحٰابَ اَلنّٰارِ (9)، يحتاج إلى دليل(10).

و هذا الاستدلال أمتن من سابقه، و مع ذلك فالاعتقاد بكونهما مخلوقتين الآن يتوقف على كون دلالتهما على المقصود قطعية، و هو غير حاصل، لما عرفت من الاحتمال الآخر(11).

نعم، بعض هذه الآيات لا يحتمل إلا المعنى الأول، مثل قوله: عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ ، إذ لم ير التعبير عن الشيء الذي سيتحقق غدا، بالجملة الاسمية.

ص: 421


1- سورة غافر: الآية 46.
2- سورة النجم: الآيات 13-15.
3- سورة آل عمران: الآية 133.
4- سورة الحديد: الآية 21.
5- سورة الشعراء: الآية 90.
6- سورة آل عمران: الآية 131.
7- سورة الشعراء: الآية 91.
8- سورة الكهف: الآية 99.
9- سورة الأعراف: الآية 44.
10- شرح المقاصد، ج 2، ص 218 و 219.
11- و قد اعتمد على هذا الاحتمال السيد الرضى في حقائق التأويل ص 247، و قال: إنّ التعبير بالفعل الماضي، لصحته و تحقق وقوعه، و كأنه قد كان، فعبّر عنه بعبارة الكائن الواقع.

الوجه الثالث: إنّ اللّه تعالى رغّب المكلّفين بالجنّة، و رهّبهم بالنار، فكيف يصح الترغيب بجنة لم يخلقها، و الترهيب بنار لم يخلقها(1).

و هذا الوجه ضعيف جدا، لأنّ الجنّة الموصوفة، لمّا كانت مقدورة له تعالى، و مثلها النار، صحّ الترغيب و الترهيب، كما رغب المكلفين في ثواب لم يوجد بعد، لأنّ وعده صادق و أمره واقع(2).

نعم، هناك روايات لا يمكن العدول عنها، لتضافرها روى الصدوق في الأمالي و التوحيد عن الهروي، قال: قلت: للرضا عليه السلام: يا بن رسول اللّه، أخبرني عن الجنّة و النار أ هما اليوم مخلوقتان؟ فقال: نعم، و إنّ رسول اللّه قد دخل الجنة و رأى النار، لما عرج به إلى السماء. قال: فقلت له:

فإنّ قوما يقولون إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين. فقال عليه السلام: ما أولئك منّا و لا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة و النار، فقد كذّب النبي صلى اللّه عليه و آله و كذّبنا(3).

أدلة النافين لخلقهما

استدل النافون لخلقهما بوجوه:

1 - إنّ خلق الجنة و النار قبل يوم الجزاء، عبث، لا يليق بالحكيم تعالى.

2 - إنّهما لو خلقتا لهلكتا، لقوله تعالى: كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ (4)و اللازم باطل، للإجماع على دوامهما، و للنصوص الشاهدة بدوام أكل الجنة و ظلّها.

3 - إنّهما لو وجدتا الآن فإما في هذا العالم، أو في عالم آخر، و كلاهما باطل، أمّا الأوّل فلأنه لا يتصور في أفلاكه، لامتناع الخرق و الالتئام عليها،

ص: 422


1- حقائق التأويل، ص 248.
2- المصدر السابق نفسه.
3- حق اليقين، للسيد شبر، ج 2، ص 204.
4- سورة القصص: الآية 88.

و لامتناع حصول العنصريات فيها، و لأنّها لا تسع جنّة عرضها كعرض السماء و الأرض.

و أما الثاني، بأن يكونا فوق محدد الجهات(1)، فلأنّه يلزم أن يكون في اللامكان مكان، و في اللاجهة جهة(2).

يلاحظ على الأول أنّ الحكم بالعبثية يتوقف على العلم القطعي بعدم ترتب غرض عليه، و من أين لنا بهذا العلم؟.

و يلاحظ على الثاني أنّه ليس المراد من هٰالِكٌ هو تحقق انعدامه و بطلان وجوده، بل المراد أنّ كل شيء هالك في نفسه، باطل في ذاته، لا حقيقة له إلا ما كان عنده مما أفاضه اللّه عليه. و الحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة، و آياته الدالة عليها فيهما جميعها ثابتة بثبوت الذات المقدسة، هذا بناء على كون المراد بالهالك في الآية، الهالك بالفعل.

و أما إذا أريد من الهالك ما يستقبله الهلاك و الفناء، بناء على ما قيل من أنّ اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال، فهلاك الأشياء ليس بمعنى البطلان المطلق بعد الوجود، بأن لا يبقى منها أثر، فإنّ صريح كتاب اللّه ينفيه، فإن آياته تدل على أنّ كل شيء مرجعه إلى اللّه و أنّه المنتهى و إليه الرجعى، و هو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده.

و إنّما المراد بالهلاك على هذا الوجه، تبدّل نشأة الوجود، و الرجوع إلى اللّه، المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة، و التلبس بالعود بعد البدء، و هذا إنما يشمل ما كان موجودا بوجود بدني دنيوي، و أما نفس الدار الآخرة، و ما هو موجود بوجود أخروي كالجنة و النار، فلا يتصف بالهلاك بهذا المعنى. قال سبحانه: مٰا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ بٰاقٍ (3).

ص: 423


1- محدّد الجهات عبارة عن الفلك التاسع، و هو الفلك الأطلس الذي كان يعتقد به بطلميوس و يقول ليس فوقه خلاء و لا ملاء.
2- لاحظ هذه الوجوه الثلاثة في شرح المقاصد، ج 2، ص 219.
3- سورة النحل: الآية 96.

و قال سبحانه: وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ (1). و قال سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ (2). و كذا اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه:

وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ (3) . فهذه الآيات تعرب عن عدم شمول الآية إلا لما له وجود دنيوي، فيتبدل إلى وجود أخروي، لا ما كان موجودا بوجود أخروي من بدء الأمر.

و يلاحظ على الثالث أنّه مبني على التصوير البطلميوسي للعالم، و قد أبطل العلم أصله، فيبطل ما فرع عليه، فإن الكون وسيع إلى حد لا تحيط به الأرقام و الأعداد النجومية.

و على ذلك يمكن أن تكون الجنة و النار في ذلك الفضاء الواسع الذي لا يحيط بسعته إلا اللّه سبحانه، و ليس علينا تعيين مكانهما بالدقة، كيف و اللّه سبحانه يقول: عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ * عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ (4)، فلمّا كان المراد من جنة المأوى، الجنة الموعودة، فهي عند سدرة المنتهى، و قد سئل ابن عباس عن سدرة المنتهى، فقال: «إليها ينتهي علم كل عالم، و ما وراءها لا يعلمه إلاّ اللّه»(5).

فإذا كانت سدرة المنتهى هي منتهى علم البشر، فلن يصل علمهم إلى الجنة الموعودة التي هي عندها، و لا يمكن لأحد تعيين مكانها، بل غاية ما يمكن قوله هو أنّهما مخلوقتان موجودتان في هذا الكون غير المتناهي طولا و عرضا.

و أما قوله سبحانه: سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ (6)، فليس المراد من العرض فيه ما يضاد الطول، بل هو بمعنى السعة، و الآية بصدد بيان سعة الجنة كما لا يخفى.

ص: 424


1- سورة آل عمران: الآية 198.
2- سورة الحجر: الآية 21.
3- سورة ق: الآية 4.
4- سورة النجم: الآيتان 14-15.
5- الدر المنثور، ج 6، ص 125.
6- سورة الحديد: الآية 21.

نعم، يستفاد من ظاهرها أنّها ليست في السماء التي يراد منها السيارات و الكواكب و المجرّات الظاهرة. و ممّا يؤيد ذلك أنّ النظام السمائي السائد على الكون المشاهد، يتلاشى عند قيام القيامة لقوله سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمٰاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ (1)فلو كانت الجنة و النار فيها، للزم تلاشيهما و اندثارهما عند قيام القيامة.

و يمكن أن يقال إنّ الجنة و النار كسائر الموجودات الإمكانية، تتكاملان و تتسعان، و يؤيّده ما روي عن النبي أنّه قال: «ليلة أسري بي، مرّ بي إبراهيم، فقال: مر أمّتك أن يكثروا من غرس الجنة، فإن أرضها واسعة و تربتها طيبة، قلت: و ما غرس الجنة قال: لا حول و لا قوة إلا باللّه»(2).

هذا كله على القول بأنّ الجنة و النار حسب ظواهر الكتاب، موجودتان في الخارج، مع قطع النظر عن أعمال المكلف، و أنّهما معدّتان للمطيع و العاصي، و أما على القول بأنّه ليس لهما وراء عمل الإنسان حقيقة، و أن الجنة و النار عبارة عن تجسم عمل الإنسان بصورة حسنة و بهيّة، أو قبيحة و مرعبة، فالجنة و النار موجودتان واقعا بوجودهما المناسب في الدار الآخرة، و إن كان الإنسان، لأجل كونه محاطا بهذه الظروف الدنيوية، غير قادر على رؤيتهما، و إلا فالعمل، سواء كان صالحا أو طالحا، قد تحقق و له وجودان و تمثّلان، و كلّ موجود في ظرفه.

ص: 425


1- سورة الأنبياء: الآية 104.
2- سفينة البحار، مادة غرس، ج 2، ص 312.

ص: 426

الخاتمة * التّقيّة في الكتاب و السّنّة * عدالة الصحابة في الكتاب و السّنّة * الشيعة و اتهامهم بالقول بتحريف القرآن * المتعة في الكتاب و السّنّة

ص: 427

مباحث الخاتمة

اشارة

قد تعرفت فيما تقدم على المسائل الرئيسية المطروحة في علم الكلام الإسلامي، و وقفت على الحق القراح الذي يدعمه العقل و يثبته الكتاب و السنة المطهرة، و هناك بعض المسائل التي لم تزل الشيعة الإمامية، تزدرى بها، و تهاجم أو تتّهم بالاعتقاد بها، و هي:

1 - البداء.

2 - الرجعة.

3 - التقية.

4 - عدم الاعتراف بعدالة جميع الصحابة.

5 - الاتهام بالقول بتحريف القرآن.

6 - المتعة.

و قد قدّمنا البحث عن البداء في الجزء الأول من الكتاب(1)، و عن الرجعة في مباحث المعاد(2)، و فيما يلي نتعرض إلى بقية هذه المسائل، و إن كان بعضها (المتعة) من المسائل الفقهية التي لا تمت إلى المسائل الكلامية بصلة، و لكن نذكرها رجاء الستر عن وجه الحق، و تقريب الخطى بين المسلمين.

ص: 428


1- الإلهيات، ج 1، الفصل الخامس، ص 563-593.
2- لاحظ ص 289 من هذا الجزء.

مباحث الخاتمة

(1) التقيّة في الكتاب و السّنة
اشارة

إنّ مما يشنع به على الشيعة و يزدرى به عليهم، قولهم بالتقية و عملهم بها في أحايين و ظروف خاصة. و لكن المشنعين لم يقفوا على مغزاها. و لو تثبّتوا في الأمر، و تريثوا في الحكم، و رجعوا إلى كتاب اللّه و سنّة رسوله، و سألوا أهل الذكر، لوقفوا على أنها مما تحكم به ضرورة العقل و نص الكتاب و السنة.

إنّ هاهنا أمرين مختلفين ربما يخلط الجاهل أحدهما بالآخر، و هما:

1 - النفاق.

2 - التقية.

و قد ضربوهما بسهم واحد، و أعطوهما حكما واحدا فقالوا إن التقية فرع من النفاق تجلّى في الشيعة باسم التقية. و لو رجعوا إلى الكتاب العزيز لعرفوا أنّه بينما يندد بالنفاق و المنافقين و يقول: اَلْأَعْرٰابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفٰاقاً (1)، و يقول:

إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّٰارِ (2) ، يحرّض على التقية في ظروف خاصة و يقول: لاٰ يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ

ص: 429


1- سورة التوبة: الآية 97.
2- سورة النساء: الآية 145.

ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ، إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً، وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ (1) .

فقوله: إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا ، استثناء من أهم الأحوال، أي إنّ ترك موالات الكافرين حتم على المؤمنين في كل حال، إلا في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم، فللمؤمنين حينئذ أن يوالوهم بقدر ما يتّقى به ذلك الشيء، لأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

و الاستثناء منقطع، فإنّ التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولّي ظاهرا، من غير عقد القلب على الحب و الولاية، ليس من التولّي في شيء. لأنّ الخوف و الحبّ أمران قلبيّان، و متنافيان أثرا في القلب، فكيف يمكن اجتماعهما. فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.

فلو كانت التقية من فروع النفاق، فلما ذا دعا إليها الكتاب الحكيم؟.

روى السيوطي في الدرّ المنثور قال: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: كان الحجّاج بن عمرو، حليف كعب الأشرف، ابن أبي الحقيق، و قيس بن زيد، و قد بطنوا بنفر من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر و عبد اللّه بن جبير، و سعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من اليهود، و احذروا مباطنتهم لا يفتنونكم عن دينكم. فأبى أولئك النفر، فأنزل اللّه فيهم: لاٰ يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكٰافِرِينَ إلى قوله وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2).

و قال سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ، إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ، وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ (3). فترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرها، و مجاراة الكافرين خوفا

ص: 430


1- سورة آل عمران: الآية 28.
2- الدرّ المنثور، ج 2، ص 16.
3- سورة النحل: الآية 106.

منهم بشرط أن يكون القلب مطمئنا بالإيمان. فلو كانت مداراة الكافرين في بعض الظروف نفاقا، فلم رخّصه الإسلام و أباحه، و قد اتفق المفسرون على أنّ الآية نزلت في جماعة أكرهوا على الكفر، و هم عمّار و أبوه ياسر و أمّه سميّة، و قتل أبو عمار و أمّة، و أعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول اللّه، فقال قوم كفر عمار، فقال صلوات اللّه عليه و آله: «كلاّ، إنّ عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه». و جاء عمار إلى رسول اللّه و هو يبكي، فقال: «ما وراءك»؟ فقال: «شرّ يا رسول اللّه، ما تركت حتى نلت منك، و ذكرت آلهتهم بخير». فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» فنزلت الآية(1).

نعم، شذت عن المسلمين جماعة الخوارج فمنعوا التقية في الدين مطلقا، و إن أكره المؤمن و خاف القتل، زاعمين أنّ الدين لا يقدّم عليه شيء(2).

و ما ذكروه اجتهاد في مقابل النص، فإنّ الآية تصرح بأنّ من نطق بكلمة الكفر مكرها، وقاية لنفسه من الهلاك، لا شارحا بالكفر صدرا، و لا مستحسنا للحياة الدنيا على الآخرة، لا يكون كافر بل يعذّر، كما عذّر الصحابي الذي قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أنّي رسول اللّه، قال: نعم، فتركه، و قتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال و رفضه(3).

كيف، و ربما يترتب على التقية و مجاراة أعداء الدين و مخالفي الحق، حفظ مصالح الإسلام و المسلمين. و بذلك يظهر الفرق بين النفاق و التقية، فإن بين الأمرين فرقا جوهريا لا يخلط أحدهما بالآخر.

إنّ التقية و النفاق يختلفان من وجهين، و ربما يكون الفرق أكثر من ذلك، و لكن نكتفي بهما:

ص: 431


1- مجمع البيان، ج 3، ص 388، و نقله غير واحد من المفسرين.
2- المنار، ج 3، ص 280.
3- المصدر السابق، ص 281.
1 - اختلافهما من حيث المبادي النفسية

إنّ المتقي مؤمن باللّه سبحانه و كتبه و رسله، غير أنّه يرى صلاح دينه و دنياه في عدم التظاهر بما آمن به، و التظاهر بخلافه في بعض الأحايين. و لكن المنافق هو من يبطن الكفر، و عدم الإيمان باللّه سبحانه، و كتبه، و رسله، أو ما دونها من المبادي الدينية، و لكنه يتظاهر بالإيمان حتى يتخيّل المؤمنون أنّه منهم.

و هذا مؤمن آل فرعون، يكتم إيمانه، تقية من قومه، و ربما يتظاهر بأنّه على دين قومه، و لكنه بهذا الغطاء يخدم دينه و نبيّه، فيرشد قومه إلى رصانة دينه، ببيان بليغ صادر عن رجل محايد، كما يخدم نبي زمانه بإبلاغه مؤامرة قومه للفتك به، و تظهر تلك الحقيقة في الآيتين التاليتين:

قال تعالى: وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ، وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ (1).

و يقول أيضا: وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىٰ، قٰالَ يٰا مُوسىٰ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّٰاصِحِينَ (2).

2 - اختلافهما من حيث الغايات و الأغراض

إنّ مستعمل التقية لا يهدف من استعمالها، إلا صيانة نفسه عن الأذى و القتل، و عرضه عن الهتك، و ماله عن النّهب، أو ما يؤول إليها بالنتيجة. فلو كان هناك طمأنينة بالنسبة إلى ما يرجع إليه من هذه الأمور، لما استعمل التقية، و لا لجأ إليها. حتى أنّ التقية لأجل التحابب و التوادد، ترجع غايتها إلى درء الشر عن النفس و النفيس.

ص: 432


1- سورة غافر: الآية 28.
2- سورة القصص: الآية 20. و هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون على ما في التفاسير.

و أما المنافق فإنما يلجأ إلى النفاق، لا لتلك الغايات المقدّسة، و إنما يريد أن يتدخل في شئون المسلمين، و يقلب ظهر المجن عليهم في الظروف القاسية أو يشترك معهم في المناصب، و المقامات و الغنائم و الأموال و غير ذلك مما تلتذ به النفوس الحريصة، و لأجل ذلك يعدّ سبحانه عبد اللّه بن أبيّ و أنصار حزبه من المنافقين و إن تظاهروا بالإيمان. يقول سبحانه: إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ، وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ، إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ (1).

و يقول سبحانه: وَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مَنْ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوٰائِرَ عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (2).

سؤال و جواب

أما السؤال، فهو: إنّ الآيتين راجعتان إلى تقيّة المسلم من الكافر، و لكن الشيعة تتقي إخوانهم المسلمين، فكيف يستدل بهما على صحة عملهم؟.

و أما الجواب، فهو: إنّ الآيتين و إن كانتا لا تشملان تقية المسلم من أخيه المسلم بالدلالة اللفظية، و لكنهما تشملان غير مورد هما بنفس الملاك الذي سوّغ تقية المسلم من الكافر فإن وجه تشريع التقية هو صيانة النفس و العرض و المال من الهلاك و الدمار، فإن كان هذا الملاك موجودا في غير مورد الآية فيجوز، أخذا بوحدة المناط. و قد كان عمل الشيعة على التقية منذ تغلّب معاوية على الأمة، و ابتزازه الإمرة عليها بغير رضا منها، و صار يتلاعب بالشريعة الإسلامية حسب أهوائه، و جعل يتتبع شيعة علي و يقتلهم تحت كل حجر و مدر، و يأخذ على الظنة و التهمة. و سارت على طريقته العوجاء الدولة المروانية، ثم العباسية، فزادتا في الطين بلة، و في الطنبور نغمة. هذا و ذاك، اضطر الشيعة إلى كتمان أمرها تارة، و التظاهر به أخرى، زنة ما تقتضيه مناصرة الحق، و مكافحة الضلال، و ما يحصل به إتمام الحجة.

ص: 433


1- سورة المنافقون: الآية 1.
2- سورة التوبة: الآية 98.
التقية المحرّمة

إن التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس و الأعراض و الأموال، ربما تحرم إذا ترتب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين و خفاء الحقيقة عن الأجبال الآتية، و تسلط الأعداء على شئون المسلمين و حرماتهم و معابدهم. و لأجل ذلك نرى أنّ كثيرا من عظماء الشيعة و أكابرهم رفضوا التقية في بعض الأحايين و تهيئوا للشّنق على حبال الجور، و الصلب على أخشاب الظلم. و كلّ ممن استعمل التقية و رفضها، له الحسنى، و كلّ عمل بوظيفته التي عينتها ظروفه.

إنّ التاريخ يحكي لنا عن الكثير من رجالات الشيعة الذين سحقوا التقية تحت أقدامهم، و قدّموا هياكلهم المقدسة قرابين للحق، منهم شهداء مرج عذراء، و قائدهم الصحابي العظيم الذي أنهكته العبادة و الورع، حجر بن عدي الكندي، الذي كان من قادة الجيوش الإسلامية الفاتحة للشام.

و منهم ميثم التمار، و رشيد الهجري، و عبد اللّه بن يقطر، الذين شنقهم ابن زياد في كناسة الكوفة، هؤلاء و المئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحق، و نطحوا صخرة الباطل، و ما عرفوا أين زرعت التقية و أين واديها، بل وجدوا العمل بها حراما، و لو سكتوا و عملوا بالتقية، لضاعت التقية من الدين، و أصبح دين الإسلام دين معاوية و يزيد، و زياد و ابن زياد، دين المكر، و دين الغدر، و دين النفاق، و دين الخداع، دين كل رذيلة، و أين هو من دين الإسلام الحق، الذي هو دين كل فضيلة، أولئك هم أضاحي الإسلام و قرابين الحق.

و فوق أولئك، إمام الشيعة، أبو الشهداء الحسين و أصحابه الذي هم سادة الشهداء، و قادة أهل الإباء.

خزاية التاريخ

كيف لا يتّقي شيعة عليّ في أيام حكومة الأمويين، و هذا معاوية كتب إلى

ص: 434

عماله في جميع الآفاق: «انظروا إلى من أقيمت عليه البيّنة أنّه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان و أسقطوا عطاءه و رزقه». و شفع ذلك بنسخة أخرى فيها:

«من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به و اهدموا داره». فلم يكن البلاء أشدّ و لا أكثر منه بالعراق و لا سيما بالكوفة.

روى أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال: قامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر، يلعنون عليا و يبرءون منه، و يقعون فيه و في أهل بيته، و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة عليّ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، و ضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي عليه السلام، فقتلهم تحت كل حجر و مدر، و أخافهم، و قطع الأيدي و الأرجل، و سمل العيون، و صلبهم على جذوع النخل، و طردهم و شرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم»(1).

و هناك رسالة قيّمة لأبي الشهداء، الحسين بن علي عليه السلام حول الدماء الجارية و النفوس المقتولة بيد ابن أبي سفيان، بذنب أنّهم شيعة علي و محبوه، رسالة تعدّ من أوثق المصادر التاريخية و مما جاء فيها:

«أ لست قاتل حجر و أصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلما و عدوانا من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة و العهود المؤكّدة، جرأة على اللّه و استخفافا بعهده»؟ «أ و لست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت و أبلت وجهه العبادة، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال»؟ «أ و لست قاتل الحضرمي(2) الذي كتب إليك فيه زياد: إنّه على دين عليّ كرم اللّه وجهه، و دين علي هو دين ابن عمه صلى اللّه عليه و آله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، و لو لا ذلك كان أفضل شرفك و شرف آبائك تجشّم الرحلتين:

ص: 435


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 3، ص 15.
2- يعني شريك بن شداد الحضرمي، كان من أصحاب حجر الذين بعث بهم زياد إلى معاوية و قتل مع حجر.

رحلة الشتاء و رحلة الصيف، فوضعها اللّه عنكم بنا، منّة عليكم»(1).

نعم، الرزية كل الرزية تقية المسلم من المسلم، و خوف الأخ من أخيه، و لو لا الظلم الذي أوردته طائفة منهم على الأخرى، لما احتاجت إلى التقية، فلا ذنب للشيعة حينئذ. و لو سادت الحرية في العالم الإسلامي على الطوائف الإسلامية كلها، لما كان هناك وجه لتقية الأخ من الأخ، و لكن للأسف إنّ السلطة رأت أنّ مصالحها لا تقوم إلا بالضغط على الشيعة ليتركوا عقيدتهم و عملهم و يذوبوا في الطوائف الإسلامية الأخرى، فما ذنب الشيعة عندئذ من أنّ تتّقي السلطة و جلاوزتها و تتظاهر على خلاف ما تعتقد لئلا يقتلوا أو يصلبوا، أو تهتك أعراضهم أو تنهب أموالهم.

و كم شهدت أوساط الشيعة من مجازر عامة بيد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم بلا ذنب إلا اتّباعهم لأئمة أهل بيت نبي الإسلام، و اقتفائهم آثارهم. و نكتفي من ذلك بكلمة موجزة - لكي لا نخرج عن موضوع البحث - تصوّر جانبا من تلك الجرائم الفظيعة.

لم يفتأ شيخ الشيعة، أبو جعفر الطوسي، إمام عصره و عزيز مصره بغداد، حتى ثارت القلاقل و حدثت الفتن بين الشيعة و السنة، و لم تزل تنجم و تخبو بين الفينة و الفينة، حتى اتسع نطاقها بأمر طغرل بك أول القادة السلجوقيين، فورد بغداد، عام 447، و شنّ على الشيعة حملة شعواء و أمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر، وزير بهاء الدولة البويهي، و كانت من دور العلم المهمة في بغداد، بناها هذا الوزير في محلة بين السورين، في الكرخ، عام 381، على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد. و كانت مهمة للغاية فقد جمع فيها هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس و العراق و استكتب تآليف أهل الهند و الصين و الروم، و نافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار، و مهام الأسفار، و أكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين قال ابن الجوزي في حوادث سنة 448:

«و هرب أبو جعفر الطوسي و نهبت داره»، ثم قال في حوادث سنة 449: «و في

ص: 436


1- الغدير، ج 10، ص 160-161 لاحظ المصدر هناك.

صفر هذه السنة كبست دارة أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ، و أخذ ما وجد من دفاتره و كرسي يجلس عليه للكلام، و أخرج إلى الكرخ، و أضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة، و أحرق الجميع»(1).

هذا غيض من فيض، و نزر من كثير، حول اضطهاد الشيعة و قتلهم، و هتك أعراضهم، جئنا به ليقف القارئ على أنّ لجوء الشيعة إلى هذا الأصل لم يكن إلا لظروف قاسية مرت عليهم، و هي بعد سائدة، فما ذنب الشيعة إذا أرادوا صيانة أنفسهم و أعراضهم و أموالهم؟.

باللّه عليكم أيّها الاخوان، لو كنتم انتم مكان الشيعة، و كنتم تواجهون هذه الأحداث المؤلمة، هل كنتم تسلكون غير هذا المسلك، و هل كنتم تضنون بالنفس و النفيس، أو كنتم تهدون دماءكم و تهتكون أعراضكم و تبيدون أموالكم؟ أظن أنّ من يملك شيئا من العقل و الإنصاف يحكم بالثاني، إلا إذا كان هناك مصلحة أهم منها، و توقف إعلاء الحق و إبطال الباطل على التضحية، و هو أمر آخر خارج عن الموضوع. و بعد هذا كله، أ فيصح أن يقال إنّ التقية نفاق؟(2).

ص: 437


1- الحادثة مذكورة في أكثر الكتب التاريخية التي تعرضت لحوادث عامي 447 و 448 للهجرة. و قد ذكرها شيخنا الطهراني في مقدمة «التبيان»، ص 5.
2- نعم، هنا بحث آخر و هو أنّه إذا عمل الشيعي على مقتضى التقية، كما إذا غسل رجليه مكان مسحهما أو سجد على غير ما يصح عليه السجود، كالسجاجيد، فكيف يحكم بصحة عمله مع أنّه لم يمتثل ما على ذمته. و هذه مسألة فقهية، لها بحثها، و إجمال الجواب أنّ أدلة التقية حاكمة على الأدلة الواقعية، موسعة لها في ظروفها كالتيمم في مواقع فقد الماء، فإجزاؤهما من باب واحد، و التفصيل يطلب من محله.

مباحث الخاتمة

(2) عدالة الصحابة في الكتاب و السنة
اشارة

المشهور بين أهل السنة عدالة الصحابة جميعا، قال ابن عبد البر: «تثبت عدالة جميعهم»(1).

و قال ابن الأثير: «و الصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح و التعديل، فإنّهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح»(2).

و قال الحافظ ابن حجر: «اتفق أهل السنة على أنّ الجميع عدول و لم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة»(3).

هذه بعض كلمات القوم، و قد زعموا أنّ من يتتبع أحوال الصحابة لجرحهم، أو تعديلهم، فإنما يريدوا أن يجرحوا شهود المسلمين ليبطلوا الكتاب و السنة.

غير أنّ الشيعة الإمامية، عن بكرة أبيهم، على أنّ الصحابة كسائر الرواة، فيهم العدول و غير العدول، و أنّ كون الرجل صحابيا لا يكفي في الحكم بالعدالة، بل يجب تتبع أحواله حتى يوقف على وثاقته.

ص: 438


1- الاستيعاب، ج 1، ص 2، في هامش الإصابة.
2- أسد الغابة، ج 1، ص 3.
3- الإصابة، ج 1، ص 17.

و الدليل الوحيد للقوم هو ما رووه عن النبي الأكرم أنّه قال: «مثل أصحابي كالنجوم بأيّهم اهتديتم اقتديتم»(1).

و لكن الاستدلال بالحديث باطل من وجوه:

1 - إنّ نصوص الكتاب تردّ صحة الاهتداء بكل صحابي أدرك النبي، فإنّه يقسمهم إلى طائفتين، طائفة صالحة عادلة، مرفوعة المقام و المكانة، و هؤلاء و صفوا بالسابقين الأوّلين، المبايعين تحت الشجرة، و غير ذلك(2).

و طائفة غير صالحة و لا عادلة، بل جامحة على النبي و المسلمين، و هم بين منافق عرف المسلمون نفاقه(3)؛ و من أخفى نفاقه و تمرّن عليه إلى حد لا يعرفه المسلمون حتى النبي الأكرم(4)؛ و مشرف على الارتداد يوم دارت على المسلمين الدوائر، و اشتدت الحرب بينهم و بين قريش(5)؛ و فاسق يكذب في إخباره على النبي، يعرّفه الكتاب بأنّه فاسق لا يقبل قوله(6)؛ و مريض القلب قد فقد الثقة باللّه و رسوله فهو يؤيّد المنافقين من غير شعور(7)؛ و سمّاع للمنافقين يقبل كل ما سمع منهم(8)؛ و مولّ في ميدان الحرب أمام الكفار، لا يصغي لنداء النبي و لا يهمه إلا نفسه(9)؛ و مسلم بلسانه دون قلبه فخوطب بأنّ الإيمان لم يدخل في قلبه(10)؛ و جماعة ألّفت قلوبهم بإعطاء الزكاة حتى يتّقى شرهم(11)؛ و خالط عملا صالحا بعمل سيّئ(12).

ص: 439


1- المصدر السابق.
2- جامع الأصول، ج 9، كتاب الفضائل، ص 410، الحديث 6359.
3- لاحظ سورة المنافقون.
4- لاحظ سورة التوبة: الآية 102، و سورة الفتح: الآية 16 و الآية 29.
5- سورة التوبة: الآيتان 45 و 46.
6- سورة الحجرات: الآية 6.
7- سورة الأحزاب: الآية 12.
8- سورة التوبة: الآية 47.
9- سورة آل عمران: الآية 154.
10- سورة الحجرات: الآية 14.
11- سورة التوبة: الآية 60.
12- سورة التوبة: الآية 102.

فهذه طوائف عشر من الصحابة الذين يمجدهم أهل السنة بوصف العدالة، و أنّ في الاقتداء بكل واحد منهم، الهداية إلى الصراط المستقيم. و لا أظن أنّ من سبر هذه الآيات و أمعن فيها يجرؤ على ذلك الادعاء، بل سوف يرجع و يقول إنّ كثيرا ممن تشرّفوا بصحبة النبي، ما عرفوا قدرها، و كفروا بنعمة اللّه تبارك و تعالى، فبدلا من أن يستثمروا هذه النعمة، فيكونوا في الجبهة و السنام من العدالة، و خسروا أنفسهم و خسروا غيرهم ممن تبعهم.

إنّ التشرف بصحبة النبي لم يكن بأشدّ و لا أقوى من صحبة امرأة نوح و امرأة لوط لزوجيهما، فما أغنتاهما عن اللّه شيئا، قال سبحانه: ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ اُدْخُلاَ اَلنّٰارَ مَعَ اَلدّٰاخِلِينَ (1).

و إن التشرف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازا و تأثيرا من التشرف بالزواج من النبي و قد قال سبحانه في أزواج النبي: يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا اَلْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ، وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً (2).

و ليس الخطاب من قبيل إياك أعني و اسمعي يا جارة، بل الخطاب خاص بهنّ بشهادة قوله: يُضٰاعَفْ لَهَا اَلْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ ، فإن غيرهن لا يضاعف لهن العذاب.

إنّ تأثير الصحبة لم يكن تأثيرا كيميائيا، كتأثير بعض المواد في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب، بل كان تأثيرها تأثيرا شبيها بتأثير المعلم في التلميذ، و المرشد في المسترشد، و من المعلوم أن مثل هذا يؤثّر في جمع من الأمّة لا في كلهم. فمن البعيد جدا أن يكون للصحبة ثورة عارمة في قلب شخصيات الصحابة التي نشأت و ترعرعت في العصر الجاهلي، و تربت على السنن السيئة، إلى شخصيات تعدّ مثلا للفضل و الفضيلة، من دون أن يشذّ منهم شاذ، فتصبح الألوف المؤلّفة التي تربو على مائة ألف مع اختلافهم في الأعمار و القابليات، رجالا

ص: 440


1- سورة التحريم: الآية 10.
2- سورة الأحزاب: الآية 30.

عدولا يستدر بهم الغمام و يؤتمر بهم في العقائد و الشرائع، و غير ذلك من مجالات الاقتداء.

2 - إن السنة المتضافرة عن النبي الأكرم، على ارتداد الصحابة بعده، تردّ كون كل واحد منهم نجما لا معا يقتدى به. و مؤلفوا الصحاح، و إن أفردوا أبوابا في فضائل الصحابة، إلاّ أنّهم لم يفردوا بابا بل و لا عنوانا في مثالبهم، و إنما لجئوا إلى إقحام ما ورد من النبي في هذا المجال، في أبواب أخر سترا لمثالبهم، فذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحيحه في باب الفتن، و أدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض. كل ذلك سترا لأفعالهم و أوصافهم غير المرضية.

و لكن الصبح لا يخفى على ذي عيني، ففيما أوردوا من الأحاديث في هاتيك الأبواب شاهد على أنّ صحابة النبي لم يكونوا مرضيين بل أنّ كثيرا منهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.

روى البخاري و مسلم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي - أو قال: من أمتي - فيحلئون عن الحوض، فأقول:

«يا ربّ، أصحابي». فيقول: «إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، أنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».

و في بعض النصوص أنّ الناجي منهم ليس إلا همل النعم، و هو كناية عن العدد القليل.

هذا قليل من كثير، ذكرناه، و كفى في تنديد النبي بهم قوله: «سحقا سحقا لمن بدّل بعدي»(1).

3 - إنّ التاريخ المتواتر يشهد على ظهور الفسق من الصحابة في حياة النبي و بعده، و هذا الوليد بن عقبة نزل في حقه قوله سبحانه: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (2) و يشهد التاريخ على أنّه شرب الخمر، و قام ليصلي بالناس صلاة

ص: 441


1- لاحظ في الوقوف على هذه الأحاديث، جامع الأصول، لابن الأثير، ج 11، كتاب الحوض، في ورود الناس عليه، ص 120-121.
2- سورة الحجرات: الآية 6.

الفجر، فصلى أربع ركعات، و كان يقول في ركوعه و سجوده: اشربي و اسقيني.

ثم قاء في المحراب، ثم سلّم، و قال: هل أزيدكم إلى آخر ما ذكروه(1).

و هذا البخاري يروي مشاجرة سعد بن معاد، سيد الأوس و سعد بن عبادة سيد الخزرج، في قضية الإفك، فقد قال سعد بن عبادة لابن عمه: كذبت لعمرو اللّه. و أجابه ابن العم بقوله: كذبت لعمرو اللّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين(2).

أوّلا تعجب أنّ هؤلاء يصف بعضهم بعضا بالكذب و النفاق، و نحن نقول إنهم عدول صلحاء. و الإنسان على نفسه بصيرة.

إنّ الحروب الدائرة بين الصحابة أنفسهم لأقوى دليل على أنهم ليسوا جميعا على الحق، فقد ثاروا على عثمان بن عفان و أجهزوا عليه. فكيف يمكن أن يكون القاتل و المقتول كلاهما على الحق و العدالة.

و هذا هو طلحة و ذاك الزبير، جهّزا جيشا جرارا لمحاربة الإمام، و أعانتهما عائشة، التي أمرت مع سائر نساء النبي بالقرار في بيوتهن و عدم الظهور و البروز.

و هذا خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، الباغي على الإمام المفترض الطاعة بالنص أوّلا، و بيعة المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان ثانيا، فاهدر دماء كثيرة لا يحصيها إلاّ اللّه سبحانه.

و من العذر التافه تبرير أعمالهم الإجرامية بأنهم كانوا مجتهدين في أعمالهم و أفعالهم، مع أنه لا قيمة للاجتهاد أمام النص و إجماع الأمة، و لو كان لهذا الاجتهاد قيمة، لما وجدت على أديم الأرض مجرما غير معذور، و لا جانيا غير مجتهد؛ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّٰ كَذِباً (3).

هذا قدامه بن مظعون، صحابي بدري شرب الخمر، و أقام عليه عمر

ص: 442


1- الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 42، و أسد الغابة، ج 5، ص 190.
2- صحيح البخاري، ج 5، ص 118 في تفسير سورة النور.
3- سورة الكهف: الآية 5.

الحد(1).

و هؤلاء الصحابة الذين خضبوا وجه الأرض بالدماء، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطاة، فإنه قتل مئات من المسلمين، و ما نقم منهم إلا أنّهم كانوا يحبون علي بن أبي طالب، و لم يكتف بذلك حتى قتل طفلين لعبيد اللّه بن عباس(2).

4 - أن تشبيه الصحابة بالنجوم، و أن الاقتداء بكل واحد منهم سبب للاهتداء، يعرب عن أنّ القائل يعتمد في ذلك على الذكر الحكيم، فإنّه سبحانه قال: وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (3). و لكن شتان ما بين المشبه و المشبه به، إذ ليس كل نجم هاديا للضالّ، و إلا لقال تعالى: «و بالنجوم هم يهتدون». فأيّ معنى - عندئذ - لهذا التشبيه.

5 - إنّ هذا الحديث موضوع على لسان النبي الأكرم، و صرّح بذلك جماعة من أعلام أهل السّنة.

قال أبو حيان الأندلسي - في معرض ردّه على الزمخشري الذي أورد هذا الحديث - و قوله: «و قد رضي رسول اللّه لأمّته إتباع أصحابه و الاقتداء بآثارهم في قوله: أصحابي كالنجوم الخ»، لم يقل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و هو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول اللّه».

ثم نقل قول الحافظ ابن حزم في رسالته في إبطال الرأي و القياس و الاستحسان و التعليل و التقليد، ما نصه: «و هذا خبر مكذوب باطل لم يصح قطّ».

ثم نقل عن البزاز صاحب المسند قوله: و هذا كلام لم يصح عن النبي صلى اللّه عليه و آله، و شرع بالطعن في سنده(4).

ورد ابن قيم هذا الحديث و ضعف أسانيده و قال ردا على من استدل في

ص: 443


1- أسد الغابة، ج 4، ص 199.
2- الغارات، للثقفي، ج 2، ص 591-628، تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص 186-189، الكامل، ج 3، ص 192-193.
3- سورة النحل: الآية 16.
4- لاحظ جميع ذلك في تفسير البحر المحيط، ج 5، ص 528.

صحة التقليد، بهذا الحديث: كيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يهتدى بها و قلّدتم من هم دونهم بمراتب كثيرة، فكان تقليد مالك و الشافعي و أبي حنيفة و أحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر، و عمر، و عثمان، و على»(1)؟.

و قال الذهبي في جعفر بن عبد الواحد، و من بلاياه، عن وهب بن جرير، عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: «أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منه اهتدى»(2).

كلمة الإمام زين العابدين في الصحابة

إنّ الشيعة، تبعا للدلائل المتقدمة، و اقتداء بأئمتهم، يقدّسون الصحابة الذين عملوا بكتاب اللّه سبحانه و سنة نبيه، و لم يتجاوز و هما، كما أنّهم يتبرءون ممن خالف كتاب اللّه و سنة رسوله، و في هذا المقام كلمة مباركة للإمام زين العابدين قال في دعاء له:

«اللهم و أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة و الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، و كاتفوه و أسرعوا إلى وفادته، و سابقوا إلى دعوته، و استجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته، و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوته، و انتصروا به، و من كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودّته، و الذين هجرتهم العشائر. إذا تعلّقوا بعروته، و انتفت منهم القربات، إذا سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس اللهم ما تركوا لك و فيك، و أرضهم من رضوانك، و بما حاشوا الخلق عليك، و كانوا مع رسولك، دعاة لك إليك. و اشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، و خروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، و من كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم. اللّهم و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا»(3).

ص: 444


1- لاحظ أعلام الموقعين، ج 2، ص 223.
2- ميزان الاعتدال، للذهبي، ج 1، ص 413.
3- الصحيفة السجادية الدعاء الرابع مع شرح «في ظلال الصحيفة السجادية»، ص 55-56.
تحليل الاستدلال بآيتين على عدالة الصحابة

و ربما يستدل على عدالة الصحابة بآيتين:

الأولى: قوله سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (1) فإنّ ظاهره أنّه سبحانه رضى عنهم، و الرضا آية كونهم مطيعين غير خارجين عن الطاعة، و ليس للعدالة معنى إلا ذلك.

و يلاحظ عليه: أولا: إنّ الآية نزلت في حق من بايع النبي تحت الشجرة في غزوة الحديبية، لا في حق جميع الصحابة، و قد كانوا في ذاك اليوم ألفا و أربعمائة.

أخرج مسلم و ابن جرير و ابن مردويه عن جابر رضي اللّه عنه، قال: «كنّا يوم الحديبية، ألفا و أربعمائة، فبايعناه، و عمر آخذ بيده تحت الشجرة، و هي سمرة، و قال بايعناه على أن لا نفر و لم نبايعه على الموت»(2). فاقصى ما يثبته الحديث هو رضاه سبحانه عن العدد المحدود. و أين هو من رضاه سبحانه عن الآلاف المؤلفة من الصحابة.

و ثانيا: إنّ ظرف الرضا مذكور في الآية، و هو وقت البيعة حيث يقول:

لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ ، و من المعلوم أنّ الرضا في ظرف خاص لا يدل على الرضا بعده إلا إذا ثبت أنّهم بقوا على الحالات التي كانوا عليها، و هو غير ثابت. و إثباته بالاستصحاب، أوهن من بيت العنكبوت.

و ليس هذا مختصا بهؤلاء، فإن الإيمان و الأعمال الصالحة، إنما تفيد إذا لم يرتكب الإنسان ما يبطل أثرهما، سواء أقلنا بالإحباط أو لا.

و ثالثا: إنه سبحانه يقول في نفس السورة: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ، يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا

ص: 445


1- سورة الفتح: الآية 18.
2- الدر المنثور، ج 6، ص 74.

عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (1) .

و هذا يعرب عن أنّ بعض المبايعين كانوا على مظنة النكث بما عاهدوا و بايعوا عليه، و أن البعض الآخر كانوا على مظنة الوفاء به و إلا فلو كان الوفاء معلوما منهم، فما معنى هذا الترديد. و ليست الآية خطابا قانونيا حتى يقال إنها من قبيل إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، بل قضية خارجية مختصة بأناس معينين.

و رابعا: إنّ السّنّة تدل على أنّ نزول السكينة كان مختصا بمن علم منه الوفاء، و بالتالي يكون الرضا أيضا مخصوصا بهم.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ، قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء»(2).

و خامسا: إنّ الرضا تعلق بالمؤمنين. و من المعلوم أنّه بايع النبي في غزوة الحديبية جماعة من المنافقين أيضا، بلا خلاف. و بما أنهم كانوا مختلطين غير متميزين فلا يحكم على كل واحد بالرضا و العدالة، إلاّ إذا ثبت أنه مؤمن غير منافق.

و كيف يمكن أن يكون للآية عموم أفرادي و أزماني يعمّ جميع المبايعين إلى آخر أعمالهم، مع أنّ طلحة و الزبير ممن بايعا بيعة الرضوان، و قد وقع منهما من قتال عليّ ما خرجا به عن الإيمان و فسقا عند جمع من المسلمين، كالمعتزلة و من جرى مجراهم، و لم يمنع وقوع الرضا في تلك الحال من وقوع المعصية فيما بعد، فما ذا الذي يمنع من مثل ذلك في غيرهم(3).

الآية الثانية: قوله سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ، رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ، ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي

ص: 446


1- سورة الفتح: الآية 10.
2- الدر المنثور، ج 6، ص 73.
3- لاحظ التبيان، ج 9، ص 329.

اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّٰارَ، وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (1) .

و الاستدلال مركّز على قوله: وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ ، و هم موصوفون بأوصاف سبعة: 1 - أشداء على الكفار، 2 - رحماء بينهم، 3 - تراهم ركعا، 4 - سجدا، 5 - يبتغون فضلا من اللّه، 6 - و رضوانا، 7 - سيماهم في وجوههم من أثر السجود.

و كأنّ المستدل يستظهر من الآية أنّها بصدد بيان أنّ كل من كان مع النبي كان على هذه الصفات السبع التي لا تنفك عن العدالة، و أنّ مضمونها قضية خارجية راجعة إلى الجماعة التي كان الزمان و المكان يجمعانهم و النبي الأكرم.

يلاحظ عليه: أولا: إنّ الآية على خلاف المقصود أدلّ، فإنها، و إن كانت قضية خبرية بظاهرها، و لكنها بمعنى الإنشاء، فهي بصدد أمر من كان معه على أن يكونوا بهذه الصفات، و هذا نحو قولك: «ولدي يصلي»، فهو بمعنى: «صلّ يا ولد» فالآية تزيّف منطق من يدّعون أن الصحابة مصونون عن كل قبيح، فهم لصحبتهم الرسول، نبراس منير، لأنّ الآية تحمل صورة رائعة عن سيرة الذين كانوا مع الرسول و أنّهم يجب أن يكونوا على هذه الصفات السبع، فيكونون في سلبيّتهم (أشداء على الكفار) مثل سلبيّته، و إيجابيتهم بينهم أنفسهم (رحماء بينهم) كإيجابيّته، و هكذا سائر صفاتهم من الركوع و السجود و ابتغاء الفضل و الرضوان. و الآية و إن كانت نازلة في حق جماعة خاصة كانوا مع الرسول، و لكنها ليست قضية خبرية، بل تحمل قضية إنشائية، و طلبا و إيجابا منهم لأن يكونوا على هذه الصفات السبع.

و لأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يخصص وعد المغفرة و إعطاء الأجر العظيم.

بعدة منهم، و يقول في آخر الآية: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً . و هذا التبعيض و التخصيص إيعاز إلى أنّ هذه

ص: 447


1- سورة الفتح: الآية 29.

الصفات السبع، ربما تتحقق في صورها و ظواهرها دون حقيقتها و واقعيتها التي هي الإيمان باللّه و العمل الصالح.

و ثانيا: إنّه يمكن أن يراد من قوله: وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ ، غير المعية الزمانية و المكانية، حتى يقال بأنّها مختصة بصحابته المعاصرين، منحسرة عمن بعده من التابعين، و أتباعهم إلى يوم الدين، و إنّما يراد الذين معه في رسالته الإلهية تصديقا و إيمانا و تطبيقا، و معه في حملها كما حملها، و معه في جهاده و صبره كما جاهد و صبر.

و عند ذلك تعم الآية الأمة الإسلامية جميعا، إلى يوم الدين، و تكون أجنبية عن مسألة عدالة الصحابة، و تعرب عن أنّ من كان مع الرسول يجب أن يكون بهذه الصفات و السمات، و مع الإيمان و العمل الصالح.

و ثالثا: إنّ الاستدلال لا يكتمل إلا بجمع الآيات الواردة في شأن الصحابة حتى يستظهر من الجميع ما هو مقصوده سبحانه و قد عرفت أنّ آيات كثيرة تندد بأقسام عشرة من صحابة النبي و الذين كانوا معه، و أنّهم كانوا بين معلوم النفاق و مخفيّه، و مشرفين على شفير هاوية الارتداد، إلى غير ذلك من الأقسام، و مع ذلك كيف يمكن الاستدلال بآية و تناسي الآيات الأخر. كل ذلك يعرب عن أنّ المفسر لا يصح له اتخاذ موقف حاسم في موضوع واحد إلا بملاحظة جميع الآيات التي لها صلة به.

ص: 448

مباحث الخاتمة

(3) الشيعة و اتهامهم بتحريف القرآن
اشارة

إنّ القرآن الكريم أحد الثقلين الذين تركهما النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم بين الأمة الإسلامية و حث على التمسك بهما، و أنّهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض، و قد كتب سبحانه على نفسه حفظه و صيانته و قال: إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ (1).

و قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفع، و ما حل مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار»(2).

و قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «إنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، و الهادي الذي لا يضلّ»(3).

و قال عليه السلام: «ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقده، و منهاجا لا يضل نهجه... و فرقانا لا يخمد برهانه»(4).

بل إنّ أئمة الشيعة جعلوا موافقة القرآن و مخالفته ميزانا لتمييز الحديث

ص: 449


1- سورة الحجر: الآية 9.
2- الكافي، ج 2، ص 238.
3- نهج البلاغة، الخطبة 176.
4- نهج البلاغة، الخطبة 198.

الصحيح من الباطل، قال الصادق عليه السلام: «ما لم يوافق من الحديث القرآن، فهو زخرف»(1).

و مع ذلك كله اتّهمت الشيعة - اغترارا ببعض الروايات الواردة في جوامعهم الحديثية - بالقول بتحريف القرآن و نقصانه، غير أنّ أقطاب الشيعة و أكابرهم رفضوا تلك الأحاديث كما رفضوا الأحاديث التي رواها أهل السنة في مجال تحريف القرآن، و صرّحوا بصيانة القرآن عن كل نقصان و زيادة و تحريف. و نحن نكتفي فيما يلي بذكر بعض النصوص لأعلام الإمامية، الواردة في هذا المجال:

1 - قال الصدوق (م 381): «اعتقادنا في القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه، هو ما بين الدفتين، و هو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، و من نسب إلينا أنّا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب»(2).

2 - و قال الشيخ المفيد (م 413): «قد قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم ينقص من كلمة و لا من آية و لا من سورة، و لكن حذف ما كان ثبتا في مصحف أمير المؤمنين من تأويله و تفسير معانيه على حقيقة تنزيله و ذلك ثابتا منزلا و إن لم يكن من جملة كلام اللّه الذي هو المعجز، و قد يسمى تأويل القرآن قرآنا.

قال تعالى: وَ لاٰ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (3)، فسمّى تأويل القرآن قرآنا. و عندي أنّ هذا القول أشبه بمقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، و إليه أميل، و اللّه أسأل توفيقه للصواب و أما الزيادة فمقطوع على فسادها»(4).

3 - و قال الشيخ الطوسي (م 460): أمّا الكلام في زيادته و نقصانه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها و أما النقصان منه، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضى، و هو الظاهر في الروايات.. إلى أن قال: و رواياتنا متناصرة بالحث على

ص: 450


1- الكافي، ج 1، كتاب فضل العلم، باب الأخذ بالسنة، الحديث 4.
2- عقائد الصدوق، ص 93 من النسخة الحجرية الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.
3- سورة طه: الآية 114.
4- أوائل المقالات، ص 55.

قراءته و التمسك بما فيه و ردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه، و عرضها عليه، فما وافقه عمل به، و ما خالفه تجنّب و لم يلتفت إليه»(1).

4 - قال الطبرسي مؤلف مجمع البيان (م 548): «فأما الزيادة فمجمع على بطلانها، و أما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشويه أهل السنة أنّ في القرآن نقصانا و الصحيح من مذهبنا خلافه و هو الذي نصره المرتضى قدس اللّه روحه، و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، و ذكر في مواضع أنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث العظام و الكتب المشهورة و أشعار العرب، فإن العناية اشتدت و الدواعي توفرت على نقله و حراسته و بلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوّة و مأخذ العلوم الشرعية و الأحكام الدينية، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا و منقوصا مع العناية الصادقة و الضبط الشديد(2).

هؤلاء هم أعلام الشيعة في القرون السابقة من ثالثها إلى سادسها، و يكفي ذلك في إثبات أنّ نسبة التحريف إلى الشيعة ظلم و عدوان.

و أما المتأخرون فحدّث عنه و لا حرج فهم بين مصرّح بصيانة القرآن عن التحريف، إلى باسط القول في هذا المجال، إلى مؤلّف أفرده بالتأليف.

و نختم المقالة بكلمة قيمة للأستاذ الأكبر الإمام الخميني قال: «إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب و حفظه و ضبطه، قراءة و كتابة، يقف على بطلان تلك المزعمة (التحريف)، و أنّه لا ينبغي أن يركن إليها ذو مسكة، و ما ورد فيه من الأخبار، بين ضعيف لا يستدل به، إلى مجعول تلوح منه أمارات الجعل إلى غريب يقضي منه العجب، إلى صحيح، يدل على أن مضمونه تأويل الكتاب و تفسيره، إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف

ص: 451


1- التبيان، ج 1، ص 3.
2- مجمع البيان، المقدمة، الفن الخامس، و لاحظ بقية كلامه.

كتاب حافل، و لو لا خوف الخروج عن طور البحث لأوضحنا لك أنّ الكتاب هو عين ما بين الدفتين و أنّ الاختلاف في القراءة ليس إلاّ أمرا حديثا لا صلة له لما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين»(1).

تحريف القرآن في روايات الفريقين

روى الفريقان روايات في تحريف القرآن، و قد قام أخيرا أحد المصريين بتأليف كتابا اسماه «الفرقان»، ملأه بكثير من هذه الروايات. كما أنّ المحدث النوري ألف كتابا باسم «فصل الخطاب» أودع فيه روايات التحريف، و ليس هذا و ذاك أوّل من نقل روايات التحريف، بل هي مبثوثة في كتب التفسير و الحديث. و هذا هو القرطبي يقول في تفسير سورة الأحزاب: أخرج أبو عبيد في الفضائل، و ابن مردويه، و ابن الأنباري عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن»(2)و هذا هو البخاري، يروى عن عمر قوله: «لو لا أن يقول الناس إنّ عمر زاد في كتاب اللّه، لكتبت آية الرجم بيدي»(3).

و غير ذلك من الروايات التي نقل قسما منها السيوطي في الإتقان(4).

و مع ذلك فنحن نجلّ علماء السنّة و محققيهم عن نسبة التحريف إليهم، و لا يصح الاستدلال بالرواية على العقيدة، و نقول مثل هذا في حق الشيعة، و قد تعرفت على كلمات الأعاظم منهم في العصور المتقدمة، و عرفت أنّ الشيخ المفيد يحمل هذه الروايات على أنّها تفسير للقرآن، و أنّ ما يدلّ على التحريف بالدلالة المطابقية يضرب به عرض الجدار.

ص: 452


1- تهذيب الأصول، تقريرا لأبحاث الإمام الخميني في أصول الفقه، ج 2، ص 96.
2- تفسير القرطبي، ج 14، ص 113، و لاحظ الدر المنثور، ج 5، ص 180.
3- صحيح البخاري، ج 9، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء، ص 69، ط مصر.
4- الإتقان، ج 2، ص 30.

إنّ المحقق الأستاذ الشيخ جواد البلاغي تدارس الروايات، فخرج بهذه النتيجة و هي أنّ القسم الوافر منها يرجع أسانيده إلى بضعة أشخاص وصفوا في علم الرجال بالصفات التالية:

1 - ضعيف القول، فاسد المذهب، مجفو الرواية.

2 - مضطرب الحديث و المذهب، يعرف حديثه و ينكر، و يروي عن الضعفاء.

3 - كذاب متّهم، لا تستحل رواية حديث واحد من أحاديثه.

4 - غال كذّاب.

5 - ضعيف لا يلتفت إليه و لا يعوّل عليه و من الكذابين.

6 - فاسد الرواية يرمى بالغلو.

و من المعلوم أنّ رواية هؤلاء لا تجدي شيئا، و إن كثرت و عالت، و أمّا المراسيل فهي مأخوذة من تلك المسانيد.

هذا بعض القول في تنزيه الشيعة بل المسلمين عامة عن وصمة التحريف، و من أراد التفصيل فليرجع إلى الرسائل المؤلفة في هذا الموضوع(1).

ص: 453


1- لاحظ مقدمة تفسير آلاء الرحمن للعلامة البلاغي، ج 1، ص 26. و تفسير الميزان، ج 12، ص 106، 137، و تفسير البيان للمحقق الخوئي، ص 215-254. و إظهار الحق للعلامة الهندي، ج 2، ص 128، فإن فيها كفاية و غنى لطالب الحق.

مباحث الخاتمة

(4) المتعة في الكتاب و السنة
اشارة

حقيقة نكاح المتعة، تزويج المرأة الحرة الكاملة، إذا لم يكن بينها و بين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية، بمهر مسمى، إلى أجل مسمى، بالرضا و الاتفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. و يجب عليها مع الدخول بها - إذا لم تكن يائسة - أن تعتد عدة الطلاق إذا كانت ممن تحيض، و إلاّ فبخمسة و أربعين يوما. و ولد المتعة، ذكرا كان أو أنثى يلحق بالأب، و لا يدعى إلاّ له، و له من الإرث، ما أوصانا اللّه به سبحانه في آية المواريث من أنّ للذكر مثل حظّ الأنثيين، كما يرث من الأم، و تشمله جميع العمومات الواردة في الأبناء و الآباء و الأمهات، و كذا العمومات الواردة في الأخوة و الأخوات، و الأعمام و العمّات.

و بالجملة المتمتع بها زوجة حقيقة، و ولدها ولد حقيقة، و لا فرق بين هذا الزواج و الزواج الدائم، إلاّ أنّه لا توارث بين الزوجين و لا قسم و لا نفقة لها، كما أنّ له العزل عنها، و هذه الفوارق الجزئية، فوارق في الأحكام لا في الماهية، و الماهية واحدة، غير أنّ أحدهما مؤقّت و الآخر غير مؤقت، و أنّ الأول ينتهي بانتهاء الوقت، و الثاني ينفصم بالطلاق أو بالفسخ.

و قد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرع هذا النكاح في دين الإسلام في صدره، و لا يشك أحد و لا يتردد في أصل مشروعيته، و إنّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

ص: 454

و أوضح دليل على مشروعيته في صدر الإسلام، نهى عمر عنها حيث قال:

متعتان كانتا على عهد رسول اللّه حلالا، و أنا أحرّمهما، و أعاقب عليهما: إحداهما متعة النساء... و الأخرى متعة الحج(1). فإنّ النهي إمّا كان اجتهادا من عمر كما هو ظاهر كلامه، أو كان مستندا إلى نصّ من رسول اللّه كما وجّه به كلامه. و على كلا التقديرين، يدلّ على جوازه في فترة خاصة، و هذا واضح لمن ألّم بفقه المذاهب الإسلامية.

و الأصل في ذلك قوله سبحانه: وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ، إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ، وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ (2) غَيْرَ مُسٰافِحِينَ، فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً (3).

دلالة الآية على المتعة

و قد ذكرت أمّة كبيرة من أهل الحديث و التفسير نزول الآية في مورد المتعة، أو جعلوا نزولها فيها أقوى الاحتمالين نشير إلى بعضهم:

1 - إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (م 241) في مسنده(4).

2 - أبو جعفر الطبري (م 310) في تفسيره(5).

3 - أبو بكر الجصّاص الحنفي (م 370) في أحكام القرآن(6).

ص: 455


1- سنن البيهقي، ج 7، ص 206.
2- المراد من الإحصان هو إحصان التعفف لا إحصان التزوّج. أي متعففين لا متزوجين و من فسّره بإحصان التزوّج فقد أخطأ. و يشهد لما ذكرنا من التفسير قوله: غَيْرَ مُسٰافِحِينَ أي غير زانين.
3- سورة النساء: الآيتان 23 و 24.
4- مسند أحمد، ج 4، ص 436.
5- تفسير الطبري، ج 5، ص 9.
6- أحكام القرآن، ج 2، ص 178.

4 - أبو بكر البيهقي (م 458) في السنن الكبرى(1).

5 - محمود بن عمر الزمخشري (م 538) في الكشّاف(2).

6 - أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي (م 567) في تفسيره(3).

7 - أبو عبد اللّه فخر الدين الرازي الشافعي (م 606) في تفسيره(4).

8 - أبو الخير القاضي البيضاوي (م 685) في تفسيره(5).

9 - علاء الدين البغدادي (م 741) في تفسيره(6).

10 - الحافظ عماد الدين ابن كثير الدمشقي (م 745) في تفسيره(7).

11 - جلال الدين السيوطي (م 911) في الدر المنثور(8).

12 - أبو السعود العمادي الحنفي (م 982) في تفسيره(9).

13 - القاضي الشوكاني (م 1250) في تفسيره(10).

14 - شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي (م 1270) في تفسيره(11).

و ينتهي نقل هؤلاء إلى أناس أمثال ابن عباس و أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود، و عمران بن حصين، و حبيب بن أبي ثابت و سعيد بن جبير، و قتادة و مجاهد، كما أنّ ناقل هذه الروايات رجال الحديث و التفسير كما عرفت، فلا يمكن اتهامهم بالوضع و الجعل، هذا حسب أسباب النزول.

ص: 456


1- السنن الكبرى، ج 7، ص 205.
2- الكشاف، ج 1، ص 360.
3- تفسير القرطبي، ج 5، ص 130.
4- مفاتيح الغيب، ج 3، ص 200.
5- تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267.
6- تفسير الخازن، ج 1، ص 357.
7- تفسير ابن كثير، ج 1، ص 774.
8- الدر المنثور، ج 2، ص 140.
9- هامش تفسير الرازي، ج 3، ص 251.
10- تفسير الشوكاني، ج 1، ص 414.
11- روح المعاني، ج 5، ص 5.

ثم إنّ هناك قرائن تؤيّد كون المراد من قوله: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، نكاح المتعة، و هي:

1 - أنّ جماعة من عظماء الصحابة كعبد اللّه بن عباس و جابر بن عبد اللّه الأنصاري و عمران بن حصين، و ابن مسعود و أبي بن كعب، كانوا يفتون بإباحتها، و يقرءون الآية هكذا: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ (إلى أجل مسمّى)، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ . و هذا صريح في نكاح المتعة، و من المعلوم - و لا يحتمل غيره - أن ليس مرادهم سقوط هذه الجملة من الذكر الحكيم، بل المراد بيان معنى الآية على نحو التفسير الذي أخذوه من الصادع بالوحي، و من أنزل عليه ذلك الكتاب صلى اللّه عليه و آله. و من زعم أنّ هذه الجملة عند هؤلاء، جزء القرآن فقد أخطأ.

2 - إنّ الاستمتاع في الآية ظاهر في هذا النوع من الزواج، و قد كان معروفا في صدر الإسلام بالمتعة و التمتع، فلا بد أن يحمل على هذا النوع من النكاح، لا على المعنى اللغوي الموجود في الزواج الدائم و المنقطع.

3 - إنّ النكاح الدائم قد مرّ تشريعه في صدر السورة حيث قال تعالى:

فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ (1) و لا وجه لتكراره.

و توهم أنّ وجه التكرار هو تبيين حكم صداقهن الوارد في قوله: أُجُورَهُنَّ ، مدفوع بأنّه مرّ بيانه أيضا، في صدر السورة، عند قوله: وَ آتُوا اَلنِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً (2)، بل جاء بيانه أيضا قبل هذه الآية بقليل، في قوله تعالى:

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلاٰ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (3) .

و لا يصحّ جعل هذه الفقرة تأكيدا لقوله: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ ، لأنّ الآية السابقة آكد بيانا من هذه الآية.

ص: 457


1- سورة النساء: الآية 3.
2- سورة النساء: الآية 4.
3- سورة النساء: الآية 20.

4 - إنّ الآية تفرّع وجوب دفع الأجور على الاستمتاع و هو يناسب الزواج المنقطع، الذي هو المطلوب فيها، و أمّا المهر في النكاح الدائم فهو يملك بنفس العقد، غير أنّه لو طلق قبل المسّ يسقط النصف.

5 - ما تضافر نقله عن بعض الصحابة و التابعين من دعوى كون الآية منسوخة ببعض الآيات، فلو لم تكن الآية واردة في مورد المتعة فما معنى ادعاء النسخ.

و هذه القرائن لا تدع للآية ظهورا إلاّ في العقد المنقطع.

ثم إنّ صاحب المنار أصرّ على أنّ المراد من الآية هو النكاح الدائم، و استدلّ بأنّ المتمتع بالنكاح المؤقت لا يقصد الإحصان دون السافحة، بل يكون قصده المسافحة، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه، و منعها من التنقل في دمن الزنا، فإن لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجّر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل، فتكون كما قيل:

كرة حذفت بصوالجة *** فتلقفها رجل رجل(1).

يلاحظ عليه أنّه جعل السفاح في قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ ، بالمعنى اللغوي، و هو صبّ الماء و سفحه على الأرض، و من ثمّ جعل العقد المنقطع مصداقا له، فصارت الآية ناهية عنه، و ظاهرة في العقد الدائم.

لكن عزب عنه أنّ المراد من السفح هنا، هو الزنا لا المعنى اللغوي، و الآية تؤكّد على أنّ الطريق المشروع في نيل النساء و مباشرتهن، هو النكاح لا الزنا، و الزواج لا السفاح، و تدعو المؤمنين إلى التزوج لا الفجور. فتفسير غَيْرَ مُسٰافِحِينَ بالمعنى اللّغوي، لا يناسب مفاد الآية.

و العجب أنّه غفل عن أنّ السفح، بمعنى صبّ الماء، مشترك بين الدائم و المنقطع و الزنا، فلو أخذ به لم يبق مورد لمقابله، أعني قوله تعالى:

مُحْصِنِينَ .

ص: 458


1- المنار، ج 5، ص 13.

توضيح ذلك أنّ الآية تحرض على أمر مشروع و هو قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ ، و تنهى عن مقابله، الذي يعدّ مفهوما للآية، فلو قلنا بأنّ المراد من السفح في الآية، هو صبّ الماء، و هو مشترك بين الدائم و المنقطع و الزنا، لم يبق لقوله محصنين مصداق و مورد.

و إن خصّ بالزنا، كما هو الحق، يدخل الدائم و المنقطع تحت قوله:

مُحْصِنِينَ ، و يبقى الزنا تحت قوله: مُسٰافِحِينَ .

ثم إنّ الإحصان الذي يراد منه التعفف و الاجتناب عن الزنا، يحصل بالدائم و المنقطع معا، فتخصيصه بالأول غفلة عن حقيقة العقد المنقطع.

و ما في آخر كلامه من تشبيه المرأة المتمتع بها، بكرة تحذف بصوالجة مختلفة، يتلقاها رجل عن رجل، جسارة على التشريع الإلهي، إذ لا شك أنّ النبي الأكرم سوّغ المتعة مدة، و لو في أمد قصير، و إنّما اختلفت الأمّة في نسخه و عدمه. و على فرض النسخ، اختلفوا في زمانه، فهل يصحّ لنا التعبير عن سنّة النبي، الذي لا يصدر إلاّ عن الوحي الإلهي، بهذا الشعر المبتذل، و ما هو إلاّ لضعف البصيرة و قلة المعرفة.

و ربما يقال في تخصيص الآية بالنكاح الدائم أنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين البيت و إيجاد النسل و الولد، و هو يختص بالنكاح الدائم، دون المتقطع الذي لا يترتب عليه إلاّ إرضاء القوة الشهوية، و صبّ الماء و سفحه.

و لا يخفى أنّه خلط بين الموضوع و الفائدة المترتبة عليه، و ما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة، و ليس الحكم دائرا مدارها، ضرورة أنّ النكاح صحيح و إن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم و اليائسة و الصغيرة، بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر و استيفاء الشهوة من طريقها المشروع، و لا يخطر على بالهم طلب النسل أصلا و إن حصل لهم قهرا، و لا يقدح ذلك في صحة زواجهم.

و من العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل و الخدمة و تدبير المنزل و تربية الأولاد و الإرضاع و الحضانة.

ص: 459

و نسأل المانعين الذين يتلقون نكاح المتعة، مخالفا للحكمة التي لأجلها شرع النكاح، نسألهم عن الزوجين الذين يتزوجان نكاح دوام، و لكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا النكاح صحيح أو لا؟، لا أظن أنّ فقيها من فقهاء الإسلام، يمنع ذلك، و إلاّ فقد أفتى بغير دليل و لا برهان. فيتعين الأول، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة و هذا النكاح الدائم سوى أنّ المدة مذكورة في الأول، دون الثاني.

يقول صاحب المنار: «إنّ تشديد علماء السلف و الخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، و إن كان الفقهاء يقولون: إنّ عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت، و لم يشترطه في صيغة العقد، و لكن كتمانه إيّاه يعد خداعا و غشّا و هو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت»(1).

أقول: نحن نفرض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّا، حتى لا يكون هناك خداع و غشّ، فهو صحيح بلا إشكال.

الآية غير منسوخة
اشارة

ثم إنّ جماعة من المفسّرين و المحدّثين بعد ما سلّموا نزول الآية في المتعة و دلالتها على مشروعيتها، تخلّصوا عن القول بمشروعيتها الناسخة إلى أقوال:

فبين قائل بأنّها منسوخة ببعض الآيات، و قائل بأنّها منسوخة بالسنة.

و القائلون بكونها منسوخة بالقرآن اختلفوا بدورهم في الآيات الناسخة، كما أنّ القائلين بأنّها نسخت بالسنّة اختلفوا كذلك في زمن النسخ اختلافا كثيرا. و هذه الاختلافات، مع قرائن من التاريخ و السنّة، تدلّ على عدم وقوع النسخ:

أ - الخلاف في الآيات الناسخة

ممّا يدلّ على عدم نسخ آية المتعة، خلافهم في الآيات التي نسختها، إلى أقوال، لا يفي أيّ منها بالمدّعى:

ص: 460


1- المنار، ج 3، ص 17.

القول الأول: إنّ الناسخ قوله سبحانه: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ * إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ (1).

و قد عزب عن القائل أنّ هذه الآية مكيّة، و آية المتعة مدنية، و لا معنى لناسخية آية لحكم لم يشرّع بعد.

أضف إليه أنّ نكاح المتعة داخل في الشقّ الأول، أعني قوله: إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ .

القول الثاني: إنّها منسوخة بآية العدة، و هي قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ، فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (2) حيث تدلّ على أنّ انفصال الزوجين إنّما يحصل بطلاق و عدّة، و المتعة ليس فيها عدّة و لا طلاق.

و هذا من غرائب الأقوال، و ذلك أنّ القول بعدم العدّة في المتعة ناش من الجهل بأحكامها، فإنّ فيها العدة كالدائم غير أنّ عدتها حيضتان لمن تحيض و خمس و أربعين يوما لمن لا ترى الحمرة و هي في سنّ من تحيض.

و أمّا الطلاق، فلم يدلّ دليل على أنّه وسيلة الفراق الوحيدة لكل زواج، و إنّما ينحصر دليل الطلاق بالنكاح الدائم.

القول الثالث: إنّها منسوخة بآية الميراث حيث لا ميراث في المتعة.

يلاحظ عليه إنّ الميراث من أحكام الزواج، و نفي حكم في مورد، لا يدلّ على انتفاء الموضوع، فالمتمتع، بها زوجة يترتب عليها آثار الزوجية إلاّ ما خرج بالدليل، و انتفاء أثر ما لا يدل على فقدان الموضوع. مثلا النفقة من أحكام الزوجية و الناشزة لا نفقة لها و مع ذلك فهي زوجة. و الكافرة، و القاتلة و المعقود عليها في المرض إذا مات زوجها فيه قبل الدخول، زوجات، و لكن لا يرثن. بل

ص: 461


1- سورة المؤمنون: الآيات 5-7.
2- سورة الطلاق، الآية الأولى، و نظيره قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ (سورة البقرة: الآية 228).

قد تتحقق الوارثة من دون أن تكون هناك زوجية، كما إذا طلّق الرجل زوجته في مرض موته، و خرجت عن العدة، فمات الزوج إلى سنة من الطلاق، فترثه، و ليست بزوجة. فبين الزوجية و الوارثة عموم و خصوص من وجه.

ب - الخلاف في زمن النسخ

و ممّا يدلّ على عدم النسخ اختلافهم في زمن نسخه إلى أقوال شتّى:

1 - أنّها أبيحت ثم نهي عنها عام خيبر.

2 - ما حلّت إلاّ في عمرة القضاء.

3 - كانت مباحة و نهي عنها في عام الفتح.

4 - أبيحت عام أوطاس ثم نهي عنها(1).

و هذه الأقوال تنفي الثقة في وقوع النسخ.

على أنّ القول بنسخ الكتاب بأخبار الآحاد ممنوع جدا، و قد صحّ عن عمران بن الحصين أنّه قال: إنّ اللّه أنزل المتعة و ما نسخها بآية أخرى، و أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بالمتعة و ما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه، يريد به عمر بن الخطاب(2).

ج - قرائن أخرى على عدم النسخ

لكن هناك قرائن قطعية تدلّ على عدم النسخ و كفى في ذلك ما رواه جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق، لأيام، على عهد رسول اللّه و أبي بكر، و حتى (ثم) نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث(3).

ص: 462


1- راجع في الوقوف على مصادر هذه الأقوال: كتاب الغدير، ج 6، و أصل الشيعة و أصولها، ص 171. و الأقوال في الثاني أكثر ممّا ذكرنا.
2- التفسير الكبير للرازي، ج 10، ص 53. الإرشاد، ج 4، ص 169 فتح الباري، ج 4، ص 339، و جاء في بعض نسخ البخاري، كما نص عليه العسقلاني.
3- صحيح مسلم، ج 1، ص 395.

و قد تضافر عن عليّ أنّه سئل عن آية المتعة، أ منسوخة؟ قال: لا. و قال:

لو لا نهي عن المتعة ما زنى إلاّ شقي(1).

أضف إلى ذلك ما تضافر من الروايات الدالّة على أنّ عمر هو الذي نهى عن المتعة بعد تسنمه الخلافة، و قد أسند النهي إلى نفسه بقوله: إنّ رسول اللّه هذا الرسول، و إنّ القرآن، هذا القرآن، و إنّهما متعتان على عهد رسول اللّه و أنا أنهى عنهما، و أعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، و لا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلاّ غيبته بالحجارة، و الأخرى متعة الحج(2).

و أقصى ما يمكن أن يقال إنّ الخليفة رأى مصلحة في زمانه و أيامه، اقتضت أن يمنع من المتعة منعا سياسيا لا دينيا و لذا قال: «و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما»، و لم يقل: «إنّ رسول اللّه حرّمهما أو نسخهما»، بل نسب التحريم إلى نفسه، و جعل العقاب عليها منه لا من اللّه. و من المعلوم أنّ المنع السياسي يكون منعا مؤقّتا تابعا لمصلحة الزمان، فإذا انقلبت المصلحة إلى غيرها، يرتفع النهي.

فالحق أنّ المتعة سنّة إسلامية أمر بها الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلّم بوحي من اللّه سبحانه ليسدّ بذلك طريق الزنا و أنّ الحكمة الإلهية في إكمال الشريعة تقتضي تسويغ هذا النوع من الزواج، فالمسافرون مثلا و لا سيما من تطول أسفارهم في طلب علم أو تجارة أو جهاد، أو مرابطة في ثغر، و هم في ميعة الشباب و ريعان العمر، و تأجج سعير الشهوة، لا يخلو حالهم من أمرين: امّا الصبر و مجاهدة النفس الموجب للمشقة، التي تنجر إلى الوقوع في أمراض مزمنة، و علل مهلكة، و فيه إلقاء في العسر و الحرج و عظيم المشقة، ممّا تأباه شريعة الإسلام السمحة السهلة، يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ، وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (3)، مٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (4).

و إمّا الوقوع في الزنا و العهر و التوغل في المفاسد.

ص: 463


1- تفسير الطبري، ج 5، ص 9.
2- سنن البيهقي، ج 7، ص 206.
3- سورة البقرة: الآية 185.
4- سورة المائدة: الآية 6.

فما هو تكليف الشاب المغترب الذي لا يقدر على الزواج الدائم، و أيّهما يختار، يا قادة المسلمين و يا رجال الإصلاح؟.

غير أنّ الشيعة الإمامية، اقتفاء لأثر رسول اللّه، و أئمتهم الأطهار، ينادون بملء أفواههم بأنّ هناك طريقا ثالثا، جامعا بين اليسر و الشرف، و هو الزواج المؤقّت، على شروط و أحكام. و لعمري إنّ المتعة كانت رحمة رحم اللّه بها أمة محمد صلى اللّه عليه و آله، كما قال حبر الأمّة ابن عباس(1).

هذا، و فيما كتبه الأعلام حول المتعة غنى و كفاية، و ما ذكرناه قبس من أنوار علومهم، و ضياء من مشاعلهم، رحم اللّه الماضين من علمائنا و حفظ اللّه الباقين منهم، و جمع بهم كلمة المسلمين، و أوردهم المنهل الصافي المعين، أعني توحيد الكلمة، كما هم عليه من كلمة التوحيد، و قد بني الإسلام على كلمتين:

كلمة التوحيد، و توحيد الكلمة

بلغ القلم هذه السطور صبيحة يوم الاثنين السادس عشر من شهر شوال المكرم من شهور عام 1409 للهجرة النبوية المباركة، بيد العبد الفقير بذاته إلى اللّه سبحانه، أبي جعفر حسن بن محمد مكي العاملي، غفر اللّه لي و لوالديّ، و جعل ما كتبته و أقدّمه إلى المجتمع الإنساني، و محافل الفكر و المعرفة، و مدارس الحق و الهداية، مذخورا في خزائنه بأفضل ما يثيب تعالى عباده عليه، و يؤجرهم به، إنّه خير مؤمّل و مدعوّ و مجيب.

وَ آخِرُ دَعْوٰاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ

ص: 464


1- احكام القرآن، ج 2، ص 179. بداية المجتهد، ج 2، ص 58 الدر المنثور، ج 2، ص 141.
ملحق

ملحق(1)

تعليق للمؤلف

من المفيد الإشارة إلى شبهة يطرحها بعض المتشدقين بالتجدد و العصرنة، يقولون: إنّ بنيان الحكم في الإسلام مبني على أسس الديمقراطية، و حرية الرأي و التعبير، و من هذا المنطق، كان الطريق الذي شرعه الإسلام لانتخاب الإمام و القائد، هو الشورى و الاختيار الحر.

و هو غير صحيح من جهات عدّة:

الأولى: إنّهم أرادوا بدعوى الديموقراطية، تصحيح خلافة الأوائل، التي يعرف القاصي و الداني أية ديموقراطية كانت سائدة فيها، فأين الضرب بالأيدي و العصي، و التهديد و الوعيد، و حرق الدور، و غصب الأموال، و... و بالجملة قمع المخالفين بالقهر و العنف و الإذلال؟. و مع ذلك كلّه، كم إنسان شارك في عملية الانتخاب؟ و ما نسبتهم إلى المجتمع الإسلامي؟ أم ما هي سمتهم التمثيلية لأبنائه؟.

الثانية: كيف يسوغ التفوه بمقولة الديموقراطية في مجتمع عشائري قبلي، الرءوس فيه عديدة، و الآراء فيه فريدة، و إنّ هو إلاّ رأي صاحب العشيرة، ما بعده من رأي، هذا. و الديموقراطية تفترض الحرية في الرأي، و الانفتاح في التعبير، فلكلّ فرد من أبناء المجتمع رأيه المستقل، و نظره الخاص، يدلي بصوته

ص: 465


1- راجع إلى ص 61.

لمن شاء و أحب. و فرض مثل هذا في مجتمع قبلي و عشائري، هرطقة فاضحة.

الثالثة: يقول علماء الاجتماع إنّ الديموقراطية إنّما تفترض في المجتمع المترقي فكريا و ثقافيا، و ذلك لأنّ العمليات الانتخابية التي يفترض إجراؤها تحت مظلّة الديموقراطية، تستلزم وعيا و نظرا و إدراكا للمصالح و المفاسد، و تقويما للطرق السليمة التي تفيد المجتمع في ارتقائه و تكامله، و تجربة في الحياة السياسية. و هذا كله يستدعي أرضية ثقافية و فكرية نشيطة، لدى أبناء الشعب، و في غير تلك الصورة، يكون فرض الديموقراطية، لا ديموقراطية.

فإذا قست هذا الأصل الذي ذكرناه، إلى وضع أفراد المجتمع الإسلامي حال وفاة الرسول الأعظم صلوات اللّه عليه و آله، تدرك ما قيمة فرض مبدأ «الديموقراطية» في الانتخاب، آنذاك.

ص: 466

الفهارس العامة

اشارة

* فهرس الآيات * فهرس الأحاديث * فهرس الأشعار * فهرس مصادر الكتاب * فهرس الأعلام و الكنى و الألقاب * فهرس الفرق و الديانات و المذاهب * فهرس الشعوب و القبائل و الأمم * فهرس الأماكن و الوقائع * فهرس المحتويات

ص: 467

ص: 468

فهرس الآيات

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 469

فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ 314/89 قُلْ إِنْ كٰانَتْ لَكُمُ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّٰهِ خٰالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّٰاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 224/94 وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ 224/95 وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِكُمْ كُفّٰاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 44/109 وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ 17,71/124 مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ 163/126 وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً... وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ 320,258,257/143 اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ 314/146 أَيْنَ مٰا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّٰهُ جَمِيعاً إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 188/148 وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتٌ بَلْ أَحْيٰاءٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَشْعُرُونَ 228,200/154 إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ 331/160 وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ 216/179 كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ 230/180 يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ 463/185 وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 372,368/217 وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسٰاءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لاٰ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ 289/222 وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ 257/225 أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقٰالَ لَهُمُ اَللّٰهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيٰاهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ 212/243 وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمٰالِ قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ 121/247 وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ 120/251 يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاٰ خُلَّةٌ وَ لاٰ شَفٰاعَةٌ وَ اَلْكٰافِرُونَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ 338/254 مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ 352,339/255 أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلىٰ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا قٰالَ أَنّٰى يُحْيِي هٰذِهِ اَللّٰهُ بَعْدَ مَوْتِهٰا فَأَمٰاتَهُ اَللّٰهُ مِائَةَ عٰامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قٰالَ كَمْ لَبِثْتَ قٰالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قٰالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عٰامٍ... 211/259 وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ قٰالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قٰالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 207/260 سورة آل عمران رَبَّنٰا إِنَّكَ جٰامِعُ اَلنّٰاسِ لِيَوْمٍ لاٰ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ 174/9 إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّٰاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ 374/21

ص: 470

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 471

أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ 374/22 لاٰ يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ 429/28 أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ 421/131 إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ 129/42 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ 354/45 أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ 218/49 مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اَللّٰهِ... نَحْنُ أَنْصٰارُ اَللّٰهِ 90/52 آمَنّٰا بِمٰا أَنْزَلْتَ 313/53 إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رٰافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جٰاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 165/55 فَأَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ 165/56 وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ 165/57 إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اَللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 28/59 فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ 106,80/64 وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ 321/97 ... لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ شَهِيدٌ عَلىٰ مٰا تَعْمَلُونَ 255/98

ص: 472

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ 381/110 سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ 421/133 وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ 53/144 وَ طٰائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّٰهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنٰا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ 53/154 وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ 57/159 وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 200/169 فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ 200/170 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ 200/171 كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ 223/185 وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ 424/198 سورة النساء فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ 457/3 وَ آتُوا اَلنِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً 457/4 يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ 410/11 وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ... وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاٰلَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ 410/12 تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ 410/13

ص: 473

وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ 410,409/14 وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ حَتّٰى إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قٰالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّٰارٌ 327,230/18 أُولٰئِكَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلاٰ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً 457/20 وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً 455/23 وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً 376/24 إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً 376/31 فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً 361,256/41 إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِفْتَرىٰ إِثْماً عَظِيماً 414,351/48 أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّٰاسَ عَلىٰ مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنٰا آلَ إِبْرٰاهِيمَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْنٰاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً 119/54 كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا لِيَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَزِيزاً حَكِيماً 405,281/56 يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ 19/59

ص: 474

وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ... 357,344/64 فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً 320/65 أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ 223/78 سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمٰا... 411/91 وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً 411/93 وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهٰاجِراً إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ 228/100 إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثٰانِ مِمّٰا تَرَكَ 30/176 سورة المائدة فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي 97,84,45/3 وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ 368/5 .. مٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 463,29/6 وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً 257/20 وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا اَلنّٰاسَ جَمِيعاً 216/32 إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ 329/33 إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 329/34 اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا 30/38 وَ مَنْ يُرِدِ اَللّٰهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّٰهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ 128/41 وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خٰاسِرِينَ 368/53 قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللّٰهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللّٰهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنٰازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطّٰاغُوتَ أُولٰئِكَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوٰاءِ اَلسَّبِيلِ 309/60 يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ 83/67 يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ 231/106 إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ... وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِي 218/110 وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ 54/117 سورة الأنعام هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ 229/2 قُلْ لِمَنْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلّٰهِ كَتَبَ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ 175/12

ص: 475

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 476

حَتّٰى إِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً قٰالُوا يٰا حَسْرَتَنٰا عَلىٰ مٰا فَرَّطْنٰا فِيهٰا 386/31 وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 343,339/51 كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ تٰابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 329/54 وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ 149/91 وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ فِي غَمَرٰاتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ بٰاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ اَلْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيٰاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 201/93 وَ مٰا نَرىٰ مَعَكُمْ شُفَعٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكٰاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مٰا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 339/94 أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّٰاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا 226/122 اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ 66/124 كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اَللّٰهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ 129/125 إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ 128/145 وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ 268/153 هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ لاٰ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمٰانُهٰا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمٰانِهٰا خَيْراً 250/158 سورة الأعراف وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحٰابَ اَلنّٰارِ 421/4 فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ 263/8

ص: 477

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَظْلِمُونَ 263/9 قٰالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ 162/24 قٰالَ فِيهٰا تَحْيَوْنَ وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ 280/25 لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ 227/34 يٰا بَنِي آدَمَ إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي فَمَنِ اِتَّقىٰ وَ أَصْلَحَ فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ 162/35 وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 162/36 وَ بَيْنَهُمٰا حِجٰابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ وَ نٰادَوْا أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهٰا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ 272/46 وَ إِذٰا صُرِفَتْ أَبْصٰارُهُمْ تِلْقٰاءَ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ قٰالُوا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ 272/47 وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ قٰالُوا مٰا أَغْنىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ 272/48 أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ 232/54 وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّٰى إِذٰا أَقَلَّتْ سَحٰاباً ثِقٰالاً سُقْنٰاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنٰا بِهِ اَلْمٰاءَ فَأَخْرَجْنٰا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 190/57 فَعَقَرُوا اَلنّٰاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قٰالُوا يٰا صٰالِحُ اِئْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ 204/77 فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ 204/78 فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لٰكِنْ لاٰ تُحِبُّونَ اَلنّٰاصِحِينَ 204/79 اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كٰانُوا هُمُ اَلْخٰاسِرِينَ 204/92 فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسىٰ عَلىٰ قَوْمٍ كٰافِرِينَ 204/93 وَ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ ثَلاٰثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنٰاهٰا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقٰاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قٰالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هٰارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ 143/142 سَأَصْرِفُ عَنْ آيٰاتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ... ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا عَنْهٰا غٰافِلِينَ 164/146 وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ 375,164/147 وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ 217/155 فَلَمّٰا عَتَوْا عَنْ مٰا نُهُوا عَنْهُ قُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ 309/166 سورة الأنفال وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ 130/7 يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ 376/29 وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 245/33

ص: 478

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 479

سورة التوبة مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ وَ فِي اَلنّٰارِ هُمْ خٰالِدُونَ 373/17 إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ 373/18 وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ 262/34 يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ 262/35 لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ حَتّٰى جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ هُمْ كٰارِهُونَ 48/48 وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْكُفّٰارَ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا هِيَ حَسْبُهُمْ 283/68 وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ 283,282/72 اَلْأَعْرٰابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفٰاقاً 429/97 وَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مَنْ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوٰائِرَ عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 433/98 يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ 318/119 سورة يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ 342/3 إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ بِالْقِسْطِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرٰابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ 172/4 وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ... 358/18 قُلِ اَللّٰهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنٰا يَكْتُبُونَ مٰا تَمْكُرُونَ 260/21 إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ 213/24 إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ شَيْئاً 328/44 رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ 164/88 آمَنْتُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ 230/90 آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ 230/91 فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً 203/92 فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جٰاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ 205/94 وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ 354/100 سورة هود وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ 332/3 إِلَى اَللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 188/4 وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا 248/6 وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ 184/7 مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمٰالَهُمْ فِيهٰا وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يُبْخَسُونَ 375/15

ص: 480

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 481

أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّٰارُ وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا فِيهٰا وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ 375/16 وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ 174/17 رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّٰ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ 163/47 وَ يٰا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً 332/52 وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا 123/113 وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرىٰ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهٰا مُصْلِحُونَ 227/117 سورة يوسف وَ مٰا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنٰا 313/17 رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ 119/101 سورة الرعد وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى 403/2 وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ 183,178/5 وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاٰتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّٰاسِ عَلىٰ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقٰابِ 413/7 وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ 40/43 سورة إبراهيم وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ 321/7 وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ 113/15 مِنْ وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ 113/16 وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ مٰا هُوَ بِمَيِّتٍ 221/17 اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ 71/39 رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسٰابُ 163/41 يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ 402,172/48 وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفٰادِ 172/49 سَرٰابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرٰانٍ وَ تَغْشىٰ وُجُوهَهُمُ اَلنّٰارُ 172/50 لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ كُلَّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ 172/51 سورة الحجر مٰا نُنَزِّلُ اَلْمَلاٰئِكَةَ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ مٰا كٰانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ 251/8 وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ 424/21 وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ 174/43 إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ 119/53 سورة النحل وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ 443/16 أَمْوٰاتٌ غَيْرُ أَحْيٰاءٍ 221/21 اَلَّذِينَ تَتَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ 232/28 اَلَّذِينَ تَتَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 225/32 وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ 205/36 وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ 27/44

ص: 482

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 483

وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِظُلْمِهِمْ مٰا تَرَكَ عَلَيْهٰا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى 345/61 وَ مٰا أَمْرُ اَلسّٰاعَةِ إِلاّٰ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ 185/77 وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ 256/89 مٰا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ بٰاقٍ 423/96 مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ 430,313/106 أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْغٰافِلُونَ 314/108 وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ 59/125 سورة الأسراء اِقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً 261/14 وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا فَفَسَقُوا فِيهٰا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً 227/16 وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ 227/17 وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً 63/34 وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً 320/41 وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً 189/49 فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنٰا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ 189/51 وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً 340/79 وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ 210/101 وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً 320/109

ص: 484

سورة الكهف إِذْ أَوَى اَلْفِتْيَةُ إِلَى اَلْكَهْفِ فَقٰالُوا رَبَّنٰا آتِنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنٰا مِنْ أَمْرِنٰا رَشَداً 218/10 فَضَرَبْنٰا عَلَى آذٰانِهِمْ فِي اَلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً 218,212/11 ثُمَّ بَعَثْنٰاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصىٰ لِمٰا لَبِثُوا أَمَداً 218/12 وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقٰاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ 218,212/18 وَ لَوْ لاٰ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ 420/39 وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ اَلْجِبٰالَ وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بٰارِزَةً وَ حَشَرْنٰاهُمْ فَلَمْ نُغٰادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً 293/47 وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ فَتَرَى اَلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا اَلْكِتٰابِ لاٰ يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً إِلاّٰ أَحْصٰاهٰا 261/49 فَوَجَدٰا عَبْداً مِنْ عِبٰادِنٰا آتَيْنٰاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً 142,39/65 قٰالَ لَهُ مُوسىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّٰا عُلِّمْتَ رُشْداً 142,39/66 وَ كٰانَ وَرٰاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً 233/79 وَ أَمّٰا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُ جَزٰاءً اَلْحُسْنىٰ 345/88 حَتّٰى إِذٰا سٰاوىٰ بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ قٰالَ اُنْفُخُوا حَتّٰى إِذٰا جَعَلَهُ نٰاراً قٰالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً 243/96 قٰالَ هٰذٰا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّٰاءَ وَ كٰانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا 243/98 وَ تَرَكْنٰا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنٰاهُمْ جَمْعاً 421,243,235/99 فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً 285/110 سورة مريم وَ سَلاٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا 225/15

ص: 485

يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا 221/23 وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ 284/39 فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيٰاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا 269/68 وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّٰ وٰارِدُهٰا كٰانَ عَلىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا 269/71 سورة طه إِنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ أَكٰادُ أُخْفِيهٰا لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا تَسْعىٰ 173/15 وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي 81,72/29 هٰارُونَ أَخِي 81,72/30 اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي 81/31 وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي 81/32 قٰالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسىٰ 81/36 مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ 388,280,190/55 يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً 339/109 وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ 318/112 وَ لاٰ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 450/114 سورة الأنبياء وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ 340/26 لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ 340/27 يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يَشْفَعُونَ إِلاّٰ لِمَنِ اِرْتَضىٰ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ 342,340/28 وَ مٰا جَعَلْنٰا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخٰالِدُونَ 223/34

ص: 486

وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ 264,263/47 وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغٰاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنٰادىٰ فِي اَلظُّلُمٰاتِ أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ 143/87 فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ 143/88 إِنَّهُمْ كٰانُوا يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ وَ يَدْعُونَنٰا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كٰانُوا لَنٰا خٰاشِعِينَ 343/90 وَ حَرٰامٌ عَلىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا أَنَّهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ 295/95 حَتّٰى إِذٰا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ 243/96 وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذٰا هِيَ شٰاخِصَةٌ أَبْصٰارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا بَلْ كُنّٰا ظٰالِمِينَ 243/97 إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ 246/98 يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمٰاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ 425/104 وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ 132/105 سورة الحج كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّٰهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلىٰ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ 268/4 يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ... وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 190/5 ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 190,169/6 وَ أَنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا وَ أَنَّ اَللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ 231,190,169/7 إِنَّ اَللّٰهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ 255/17

ص: 487

... وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّٰاسِ 248/18 وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْحَمِيدِ 268/24 فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ 128/30 ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ 169/62 وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ 169/66 مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ 405/74 ... وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هٰذٰا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ... وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلاٰكُمْ 258,97/78 سورة المؤمنون وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ 461/5 إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ 461/6 فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ 461/7 وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ 202/12 ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ 202/13 ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ 301,202,177/14 ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ 177/15 ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ تُبْعَثُونَ 177/16 وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنٰاهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّٰا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمّٰا تَشْرَبُونَ 182/33 هَيْهٰاتَ هَيْهٰاتَ لِمٰا تُوعَدُونَ 182/36

ص: 488

إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 182/37 وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ 271/73 وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرٰاطِ لَنٰاكِبُونَ 271/74 قٰالُوا أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ 184/82 لَقَدْ وُعِدْنٰا نَحْنُ وَ آبٰاؤُنٰا هٰذٰا مِنْ قَبْلُ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ 184/83 حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قٰالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ 311,296/99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ 311,296,233/100 فَإِذٰا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاٰ أَنْسٰابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ 235,103 أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ 168/115 سورة النور يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ 281,259/24 وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ 132/55 سورة الفرقان أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً 181/43 سورة الشعراء اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ 209/63 وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ 421/90

ص: 489

وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغٰاوِينَ 421/91 قٰالُوا وَ هُمْ فِيهٰا يَخْتَصِمُونَ 350/96 تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ 360,350/97 إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ 360,350/98 وَ مٰا أَضَلَّنٰا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ 350/99 فَمٰا لَنٰا مِنْ شٰافِعِينَ 350/100 وَ لاٰ صَدِيقٍ حَمِيمٍ 350/101 وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ 76/214 سورة النمل وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ 314/14 قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي 39/40 إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَشْكُرُونَ 214/73 إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 249/76 إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ 226,221/80 وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ 292,247/82 وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ يُوزَعُونَ 296,292/83 وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمٰا ظَلَمُوا فَهُمْ لاٰ يَنْطِقُونَ 248/85 وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ 293,250/87

ص: 490

سورة القصص وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ 132,128/5 وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىٰ قٰالَ يٰا مُوسىٰ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّٰاصِحِينَ 432/20 فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ 118/30 رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جٰاءَ بِالْهُدىٰ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ 164/37 وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 256/74 وَ نَزَعْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً... 256/75 كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ 422/88 سورة العنكبوت فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً 148/14 وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 163/17 فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ 313/26 وَ لاٰ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ 163/87 سورة الروم أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ لَكٰافِرُونَ 403/8 ثُمَّ إِذٰا دَعٰاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذٰا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ 385,280/25 وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ 186/27 فَانْظُرْ إِلىٰ آثٰارِ رَحْمَتِ اَللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا إِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 221,175/50 سورة لقمان مٰا خَلْقُكُمْ وَ لاٰ بَعْثُكُمْ إِلاّٰ كَنَفْسٍ وٰاحِدَةٍ إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 191/28 ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبٰاطِلُ 169/30 يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لاٰ يَجْزِي وٰالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ... 169/33 وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ 231/34 سورة السجدة وَ قٰالُوا أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ كٰافِرُونَ 191,187/10 قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ 232,201,192/11 سورة الأحزاب قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً 375/18 ... أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً 375/19 يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا اَلْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً 440/30 وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ اَلْأُولىٰ وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتِينَ اَلزَّكٰاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 125,107/33

ص: 491

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 492

سورة سبأ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ 187/3 وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذٰا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ 184/7 أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ 184/8 لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ 420/15 سورة فاطر وَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ اَلدَّوَابِّ 248/28 فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ 103/32 وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِمٰا كَسَبُوا مٰا تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِهٰا مِنْ دَابَّةٍ 345/45 سورة يس إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ نَكْتُبُ مٰا قَدَّمُوا وَ آثٰارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ 261/12 قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ قٰالَ يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ 202,201/26 بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ 202,201/27 وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ 221/33 وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ 254,239,235/51 قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا 254/52 اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ 281,259/65 وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ 186/78

ص: 493

قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ 194/79 أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ 399/81 إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 128/82 سورة الصافّات فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ 121/101 فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ 150/143 لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ 150/144 سورة ص وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ 120/20 أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ 172/28 وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّٰابُ 120/35 سورة الزمر أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذٰابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنّٰارِ 248/19 اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا... 232,199,192/42 أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ شُفَعٰاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَعْقِلُونَ 360/43 قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً... 360/44 وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ 188/67 وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ 239,235/68

ص: 494

سورة غافر قٰالُوا رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا 234/11 مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاٰ شَفِيعٍ يُطٰاعُ 349/18 إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاٰ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ 164/27 قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ 432/28 وَ يٰا قَوْمِ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنٰادِ 165/32 إِنَّمٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا مَتٰاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دٰارُ اَلْقَرٰارِ 178,165/39 وَ أَنَّ مَرَدَّنٰا إِلَى اَللّٰهِ 165/43 وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ 200/45 اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ 235,200/46 اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ 359/60 فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ 230/84 فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا 230/85 سورة فصّلت اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ 209/11 حَتّٰى إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ 281,259/20 وَ قٰالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنٰا قٰالُوا أَنْطَقَنَا اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ 259/21

ص: 495

سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ 249/53 سورة الشورى اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ وَ اَلْمِيزٰانَ وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ قَرِيبٌ 112/17 قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ 112/23 وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ 58/38 سورة الزخرف وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنٰا أَ جَعَلْنٰا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ 204/45 وَ لَمّٰا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذٰا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ 246/57 وَ قٰالُوا أَ آلِهَتُنٰا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مٰا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّٰ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ 246/58 إِنْ هُوَ إِلاّٰ عَبْدٌ أَنْعَمْنٰا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنٰاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ 246/59 وَ لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰا مِنْكُمْ مَلاٰئِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ 246/60 وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّٰاعَةِ فَلاٰ تَمْتَرُنَّ بِهٰا وَ اِتَّبِعُونِ... 246/61 اَلْأَخِلاّٰءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ 338/67 اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا مُسْلِمِينَ 412/69 اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ تُحْبَرُونَ 412/70 إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذٰابِ جَهَنَّمَ خٰالِدُونَ 412/74 لاٰ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ 412/75 وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا هُمُ اَلظّٰالِمِينَ 412/76 فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ 174/83

ص: 496

وَ لاٰ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفٰاعَةَ إِلاّٰ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ 361,355/86 سورة الدخان فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ 244/10 يَغْشَى اَلنّٰاسَ هٰذٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ 244/11 رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذٰابَ إِنّٰا مُؤْمِنُونَ 244/12 أَنّٰى لَهُمُ اَلذِّكْرىٰ وَ قَدْ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ 244/13 ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قٰالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ 244/14 إِنّٰا كٰاشِفُوا اَلْعَذٰابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عٰائِدُونَ 244/15 يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرىٰ إِنّٰا مُنْتَقِمُونَ 244/16 وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ 168/38 مٰا خَلَقْنٰاهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ 168/39 إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقٰاتُهُمْ أَجْمَعِينَ 168/40 لاٰ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولىٰ 214/56 سورة الجاثية أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ 172/21 وَ خَتَمَ عَلىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّٰهِ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ 314/23 وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ مٰا كٰانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا اِئْتُوا بِآبٰائِنٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ 185/25 قُلِ اَللّٰهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ 185/26 وَ إِذٰا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ اَلسّٰاعَةُ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا قُلْتُمْ مٰا نَدْرِي مَا اَلسّٰاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّٰ ظَنًّا وَ مٰا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ 183/32 سورة الأحقاف أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىٰ 189/33 سورة محمّد وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ آمَنُوا بِمٰا نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بٰالَهُمْ 376/2 وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ 373/8 ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأَحْبَطَ أَعْمٰالَهُمْ 373/9 وَ سُقُوا مٰاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعٰاءَهُمْ 281/15 فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّٰاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا فَأَنّٰى لَهُمْ إِذٰا جٰاءَتْهُمْ ذِكْرٰاهُمْ 242/18 فَكَيْفَ إِذٰا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبٰارَهُمْ 226/27 إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدىٰ... 373/32 سورة الفتح هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ 319/4 إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً 445,97/10 لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً 446,445,63/18

ص: 497

رقم الآية/الصفحة سورة البقرة وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 316/8 كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً 213/7 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 234,213/28 وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ 349,338/48 وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 216/55 ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 317/56 فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 310/66 وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ 214/67 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 214/72 فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 214/73 بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ 412/81

ص: 498

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ.. 447/29 سورة الحجرات إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا 441/6 وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى اَلْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اَللّٰهِ 318/9 قٰالَتِ اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ 318,313/14 سورة ق أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ 182/3 قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ 208,194,191,182/4 بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ 182/5 مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 260/18 وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ 225/19 وَ جٰاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ 260/21 وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ 174/31 هٰذٰا مٰا تُوعَدُونَ 174/32 ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ 185/44 سورة الطور يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمٰاءُ مَوْراً 403/9

ص: 499

وَ تَسِيرُ اَلْجِبٰالُ سَيْراً 403/10 سورة النجم وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ 96/3 إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ 96/4 وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ 421/13 عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ 424,421/14 عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ 424,421/15 وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ 177/45 مِنْ نُطْفَةٍ إِذٰا تُمْنىٰ 177/46 وَ أَنَّ عَلَيْهِ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرىٰ 177/47 سورة القمر يَوْمَ يَدْعُ اَلدّٰاعِ إِلىٰ شَيْ ءٍ نُكُرٍ 254/6 خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ 280,254/7 مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّٰاعِ يَقُولُ اَلْكٰافِرُونَ هٰذٰا يَوْمٌ عَسِرٌ 254/8 وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ 260/52 وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ 260/53 سورة الرحمن وَ اَلسَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ اَلْمِيزٰانَ 263/7 بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ 234/20 سورة الواقعة إِذٰا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا 403/4

ص: 500

وَ بُسَّتِ اَلْجِبٰالُ بَسًّا 403/5 نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ 223/60 سورة الحديد فَالْيَوْمَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاٰ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ 88/15 أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ 424,421/21 سورة المجادلة أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمٰانَ 313/22 سورة الممتحنة إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ يُبٰايِعْنَكَ عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً وَ لاٰ يَسْرِقْنَ وَ لاٰ يَزْنِينَ.. 63/12 سورة الجمعة مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرٰاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا كَمَثَلِ اَلْحِمٰارِ يَحْمِلُ أَسْفٰاراً 214/5 سورة المنافقون إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ 433/1 سورة الطلاق يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ 461/1 سورة التحريم يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً 326/8 ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ اُدْخُلاَ اَلنّٰارَ مَعَ اَلدّٰاخِلِينَ 440/10 سورة الملك اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيٰاةَ 223/2

ص: 501

سورة القلم أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ 172/35 مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 172/36 سورة الحاقّة وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبٰالُ فَدُكَّتٰا دَكَّةً وٰاحِدَةً 395/14 سورة المعراج يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ سِرٰاعاً كَأَنَّهُمْ إِلىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ 280/43 سورة نوح وَ اَللّٰهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبٰاتاً 163/17 ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهٰا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرٰاجاً 280,163/18 مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نٰاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْصٰاراً 235,200/25 سورة الجن فَلاٰ تَدْعُوا مَعَ اَللّٰهِ أَحَداً 359/18 سورة المدثر وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ 350,339/46 حَتّٰى أَتٰانَا اَلْيَقِينُ 350,339/47 فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ اَلشّٰافِعِينَ 350,339/48 سورة القيامة أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ 181/3 بَلىٰ قٰادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنٰانَهُ 181/4 بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسٰانُ لِيَفْجُرَ أَمٰامَهُ 181/5 يَسْئَلُ أَيّٰانَ يَوْمُ اَلْقِيٰامَةِ 181/6 لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 27/16 إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ 27/17 فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 27/18

ص: 502

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ 27/19 إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسٰاقُ 178/30 أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسٰانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً 189/36 أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنىٰ 189/37 ثُمَّ كٰانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّٰى 189/38 فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ 189/39 أَ لَيْسَ ذٰلِكَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىٰ 189/40 سورة الدهر إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً 368/3 سورة المرسلات هٰذٰا يَوْمُ اَلْفَصْلِ جَمَعْنٰاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ 402/38 سورة النبأ عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ 170/1 عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ 170/2 اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ 170/3 أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهٰاداً 170/6 وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً 170/7 إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كٰانَ مِيقٰاتاً 170/17 سورة النازعات فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً 344/5 سورة عبس لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ 254/37 سورة الانفطار وَ إِذَا اَلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ 281/4

ص: 503

سورة الانشقاق وَ إِذَا اَلْأَرْضُ مُدَّتْ 395/3 يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ 178/6 فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ 254/7 فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ حِسٰاباً يَسِيراً 254/8 وَ يَنْقَلِبُ إِلىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً 255/9 وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ وَرٰاءَ ظَهْرِهِ 255/10 فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً 255/11 سورة الأعلى وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ 90/17 سورة الفجر يٰا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ 223/27 اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً 223/28 سورة العلق إِنَّ إِلىٰ رَبِّكَ اَلرُّجْعىٰ 178/8 سورة الزلزلة يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا 261/4 بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا 261/5 فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ 409,361,262/7 وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 262/8 سورة العاديات أَ فَلاٰ يَعْلَمُ إِذٰا بُعْثِرَ مٰا فِي اَلْقُبُورِ 281/9

ص: 504

فهرس الأحاديث

الرسول الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) الصفحة «يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي، و لا يستنّون بسنّتي و سيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال الراوي: قلت: كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع و تطيع للأمير، و إن ضرب ظهرك، و أخذ مالك، فاسمع و أطع». 26 «من كنت مولاه فهذا علي مولاه». 42 تنازع مهاجريّ مع أنصاريّ، فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار، و صرخ الآخر: يا معشر المهاجرين، و لمّا سمع النبيّ هذه الكلمات قال: «دعوها فإنّها دعوى ميّتة». 49 أثار أحد اليهود الفتنة بين الأوس و الخزرج حتى غضب الفريقان و انتضوا أسلحتهم للقتال، فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، و قال: «يا معشر المسلمين، اللّه اللّه أ بدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام و أكرمكم به، و قطع به عنكم أمر الجاهلية و استنقذكم به من الكفر» 50

ص: 505

في قصة الإفك قال النبيّ و هو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، و اللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيرا، و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلاّ خيرا، و ما يدخل على أهليّ إلاّ معي» 50 عند ما انهزم الناس في وادي حنين، انحاز رسول اللّه ذات اليمين و هو يقول: «أين أيّها الناس؟ هلمّوا إليّ، أنا رسول اللّه» 53 «ألا و إنّه يجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ . 54 لما دعا الرسول الأكرم بنو عامرة إلى الإسلام و قد جاءوا في موسم الحج إلى مكة، قال رئيسهم: «أ رأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك اللّه على ما خلفك، أ يكون لنا الأمر من بعدك؟»، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء» 66 بعث صلى اللّه عليه و آله و سلّم سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة «هوزة بن حنفي» يدعوه إلى الإسلام و كان نصرانيا فكتب إلى النبي يقول: «ما أحسن ما تدعو إليه و أجمله... فاجعل لي بعض الأمر اتبعك» فلمّا قرئ كتابه على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لو سألني سيابة من الأرض ما فعلته، باد و باد ما في يده». 67 أرسل هوزة إلى النبيّ وفدا يقول له: إن جعل له الأمر من بعده أسلم... و إلاّ قصد حربه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا، و لا كرامة، اللّهمّ اكفنيه». 67 «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، و إنّه لا نبيّ بعدي، و سيكون بعدي خلفاء كثيرون». 72 عن علي (عليه السلام) قال: دعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لي: يا علي إنّ اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين فضقت

ص: 506

بذلك ذرعا، و عرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر، أرى منهم ما أكره، فصمدت عليه حتى جاءني جبرئيل، فقال: يا محمّد إنّك إنّ لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعا من طعام و اجعل عليه رجل شاة، و املأ لنا عسّا من لبن، ثمّ دعوتهم له، و هم يومئذ أربعون رجلا فيهم أعمامه... إلى أن قال: فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ثم قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم اسقهم، فجئتهم بذلك العس فشربوا، ثم تكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا بني عبد المطلب إنّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب، جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا، و قلت أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثم قال: إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوه» 77 خلّف رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في غزوة تبوك عليّا (عليه السلام) على أهله في المدينة. فقال المنافقون ما خلّفه إلاّ استثقالا له، فلحق عليّ (عليه السلام) برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و نقل له ما قاله المنافقون، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم كذبوا، و لكنّي خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك، أ فلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟ 79 قال معاوية بن أبي سفيان لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ذكرت ثلاثا قالهن له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فلن أسبّه... سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول له و قد خلّفه في بعض مغازيه: أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي.

و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه

ص: 507

و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا عليّا، فاتي به أرمد، فبصق في عينه، و دفع الراية إليه، ففتح اللّه عليه.

و لمّا نزلت هذه الآية: فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي» 106,80 إنّ النبيّ سمّى أبناء عليّ كأسماء أبناء هارون و قال: «إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون شبّر و شبير و مشبر» 81 يوم آخى بين أصحابه جاءه علي (عليه السلام) و قال:

آخيت بين أصحابك، و لم تؤاخي بيني و بين أحد؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنت أخي في الدنيا و الآخرة» 81 أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم الخروج إلى الحجّ في السنة العاشرة من الهجرة، و أذّن في الناس بذلك، تلك الحجة التي سمّيت بحجّة الوداع، و اشترك معه جموع لا يعلم عددها إلاّ اللّه، و أقل ما قيل إنّه خرج معه تسعون ألفا، فلمّا قضى مناسكه و انصرف ، راجعا إلى المدينة، و معه تلك الجموع الغفيرة، و وصل إلى غدير «خم» من الجحفة، التي تتشعّب فيها طرق المدنيين و المصريين و العراقيين، و ذلك يوم الخميس، الثامن عشر من ذي الحجة نزل جبرائيل الأمين عن اللّه تعالى بقوله: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و كان أوائل القوم قريبين من الجحفة، فأمر رسول اللّه أن يرد من تقدّم منهم، و يحبس من تأخّر عنهم، حتّى إذا أخذ القوم منازلهم، نودي بالصلاة، صلاة الظهر، فصلّى بالناس، و كان يوما حارّا، فلمّا انصرف من صلاته، قام خطيبا وسط القوم، رافعا صوته و أسمع الجميع، فقال:

الحمد للّه، و نستعينه، و نؤمن به، و نتوكّل عليه،

ص: 508

و نعوذ باللّه من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ و لا مضلّ لمن هدى، و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، أمّا بعد:

أيّها الناس، إنّي اوشك أن ادعى فأجبت، و إنّي مسئول و أنتم مسئولون، فما ذا أنتم قائلون؟».

قالوا: «نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت، و جهدت، فجزاك اللّه خيرا» قال: «أ لستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا عبده و رسوله، و أنّ جنّته حقّ و ناره حقّ، و أنّ الموت حقّ، و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور»؟.

قالوا: «بلى، نشهد بذلك».

قال: «اللّهمّ أشهد». ثم قال: «أيّها الناس، ألا تسمعون؟» قالوا: نعم.

قال: «فإنّي فرط على الحوض، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى مناد: «و ما الثقلان يا رسول اللّه؟».

قال: «الثقل الأكبر، كتاب اللّه، و الآخر الأصغر، عترتي، و إنّ اللطيف الخبير نبّأني انّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، و لا تقصروا عنهما فتهلكوا».

ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، و عرفه القوم أجمعون، فقال:

«أيّها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: «اللّه و رسوله أعلم» قال: «إنّ اللّه مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم. فمن كنت مولاه، فعليّ مولاه - يقولها ثلاث

ص: 509

مرّات - ثم قال: اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و أحبّ من أحبّه، و أبغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب».

ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزّل أمين وحي اللّه بقوله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي الآية، فقال رسول اللّه: «اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي، و الولاية لعلي من بعدي».

ثمّ أخذ الناس يهنّئون عليّا، و ممّن هنّأه الشيخان أبو بكر و عمر، كلّ يقول: بخ بخ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي، و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة.

و قال حسّان: ائذن لي يا رسول اللّه أن أقول في عليّ أبياتا، فقال: «قل على بركة اللّه» فقام حسّان، فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ و اسمع بالرسول مناديا الى آخر الأبيات، فلمّا سمع النبيّ أبياته قال: «لا تزال يا حسّان مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» 82-85 لما حضر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبيّ: «هلمّ اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا » فقال عمر: «إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع، و عندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه» فاختلف أهل البيت، فاختصموا، فلمّا أكثروا اللغو و الاختلاف عند النبيّ، قال لهم صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قوموا. 100 قد اهتمّ النبيّ ببعث سرية اسامة بن زيد اهتماما عظيما، فأمر الصحابة بالتهيّؤ لها، و حثّهم عليها، ثمّ عبّأهم بنفسه الزكية، فلم يبق أحدا من وجوه المهاجرين و الأنصار كأبي بكر و عمر، و أبي عبيدة، و سعد، و أمثالهم، إلاّ و قد عبّأه بالجيش، فلمّا كان يوم الثامن و العشرين من صفر، بدأ به صلى اللّه عليه و آله و سلّم مرض الموت، و وجدهم مثّاقلين، خرج إليهم فحضّهم على السير،

ص: 510

و عقد اللواء لاسامة بيده الشريفة، إرهافا لعزيمتهم ثم قال: «اغز باسم اللّه و في سبيل اللّه».

فخرج بلوائه معقودا، فدفعه إلى بريدة، و عسكر بالجرف، ثم تثاقلوا هناك، فلم يبرحوا، و قد أغضب النبي تثاقلهم، حتى قال: «جهّزوا جيش اسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه؟» 100 إنّ عمر قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «أو لسنا على الحق، و هم على الباطل؟» قال رسول اللّه: «بلى»، قال: «أو لسنا قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النّار؟» قال: «بلى»، قال: «ففيم نعطي الدنية في ديننا، و نرجع و لمّا يحكم اللّه بيننا و بينهم؟»، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا ابن الخطاب، إنّي رسول اللّه، و لن يضيّعني اللّه أبدا». 102 «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي» 105 «إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» 105 عن أمّ سلمة قالت: إنّ آية التطهير نزلت في بيتي و أنا جالسة عند الباب فقلت: يا رسول اللّه، أ لست من أهل البيت؟ فقال: لا إنّك على خير، أنت من أزواج رسول اللّه. قالت: و في البيت رسول اللّه و عليّ و فاطمة و حسن و حسين، فجلّلهم بكسائه، و قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» 107 عن أنس أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يمرّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريبا من ستّة أشهر، يقول:

«الصلاة أهل البيت: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 107 عن زيد بن الأرقم، قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا، بين مكّة و المدينة، فحمد اللّه و أثنى عليه، و وعظ و ذكّر ثم قال: «أمّا بعد ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه، و استمسكوا به». فحثّ على كتاب اللّه و رغّب فيه، ثم قال:

ص: 511

«الصلاة أهل البيت: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 107 عن زيد بن الأرقم، قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا، بين مكّة و المدينة، فحمد اللّه و أثنى عليه، و وعظ و ذكّر ثم قال: «أمّا بعد ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه، و استمسكوا به». فحثّ على كتاب اللّه و رغّب فيه، ثم قال:

«و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي، اذكّركم اللّه في أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي» 107 «إنّما مثل أهل بيتي في أمّتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق» 108 «يكون اثنا عشر أميرا... كلّهم من قريش» 111,109 عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

«لا يزال الإسلام عزيزا إلى أثنى عشر خليفة» فقال كلمة صمّنيها الناس فقلت لأبيّ: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش» 110 عن جابر أيضا قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول «لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» 110 عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «إنّ هذا الدين لن يزال ظاهرا على من ناواه، لا يضرّه مخالف و لا مفارق حتّى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة» ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه، فقلت لأبيّ: ما قال؟ قال: قال: «كلّهم من قريش» 110 عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «لا يزال هذا الأمر صالحا، حتّى يكون اثنا عشر أميرا... كلّهم من قريش» 111 «لا يزال الناس بخير إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش» 111

ص: 512

«لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل اللّه ذلك اليوم، حتى يخرج رجل من ولدي، فيملؤها عدلا و قسطا، كما ملئت جورا و ظلما» 133 «لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد، لبعث اللّه رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا» 134 «لا تذهب الدنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» 134 «المهديّ من عترتي من ولد فاطمة» 135 «يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» 135 «إنّه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ اللّه ذرية آدم اعظم من فتنة الدجّال... - إلى أن قال - و إمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدّم ليصلّي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم، فرجع الإمام ينكص يمشي القهقرى، ليقدّم عيسى يصلّي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له : تقدم فصلّ فإنّها لك أقيمت، فيصلّي بهم إمامهم...» 135 «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم و إمامكم منكم» 137 «بعثت أنا و الساعة كهاتين» 138 عن حذيفة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «أوّل الآيات الدجّال ، و نزول عيسى، و نار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس الى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا، و الدخان» قال حذيفة: يا رسول اللّه، و ما الدخان؟ فتلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم الآية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ... يملأ ما بين المشرق و المغرب يمكث أربعين يوما و ليلة، أمّا المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، و أمّا الكافر بمنزلة السكران يخرج من منخريه و اذنيه و دبره» 245 عن حذيفة بن أسيد قال: اطّلع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم علينا و نحن

ص: 513

نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قلنا: نذكر الساعة، قال: «إنّها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان، و الدجّال، و الدابّة، و طلوع الشمس من مغربها، و نزول عيسى ابن مريم، و يأجوج و مأجوج، و ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق و خسف بالمغرب، و خسف بجزيرة العرب، و آخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم» 293,252 عن ابن عباس قال: حججنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم حجّة الوداع، فأخذ باب الكعبة، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: «ألا اخبركم بأشراط الساعة» و كان أدنى الناس منه يومئذ سلمان فقال: بلى يا رسول اللّه، فقال: «إنّ من أشراط القيامة: إضاعة الصلاة، و اتّباع الشهوات، و الميل مع الأهواء، و تعظيم أصحاب المال، و بيع الدين بالدنيا، فعندها يذاب قلب المؤمن و جوفه كما يذوب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره» 252 ورد عن النبيّ أنّه لم يرتحل من منزل إلاّ صلّى فيه ركعتين و قال: «حتّى يشهد عليّ بالصلاة» 261 «يا أبا ذر، ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض، إلاّ شهدت له بها يوم القيامة» 262 «لا يبقى برّ و لا فاجر إلاّ دخلها فتكون على المؤمن بردا و سلاما، كما كانت على إبراهيم، حتّى أنّ للنار ضجيجا من بردهم، ثم ينجّي اللّه الذين اتّقوا و يذر الظالمين فيها جثيا» 262 «إنّه لم يكن نبيّ إلاّ له دعوة قد تنجّزها في الدنيا، و إنّي قد اختبأت دعوتي، شفاعة لامتي و أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر، و أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض و لا فخر و بيدي لواء الحمد و لا فخر، آدم فمن دونه تحت لواء و لا فخر...» 273 «من أراد أن يتخلّص من هول القيامة فليتولّ وليي، و ليتّبع

ص: 514

وصيي و خليفتي من بعدي علي بن أبي طالب، فإنّه صاحب حوضي، يذود عنه أعداءه و يسقي أولياءه فمن لم يسق منه لم يزل عطشانا و لم يرو أبدا. و من سقي منه شربة، لم يشق و لم يظمأ» 274 «أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب، و من شرب لم يظمأ أبدا، و ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفونني، ثم يحال بينه و بينهم» 274 «إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار، قيل يا أهل الجنة، فيشرئبّون و ينظرون، و قيل يا أهل النار، فيشرئبّون و ينظرون، فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح، فيقال لهم: تعرفون الموت، فيقولون: «هذا، هذا» و كلّ قد عرفه، قال: فيقدّم فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، و يا أهل النار خلود فلا موت» 285 «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، و ذراع بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه» قلنا: يا رسول اللّه اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟ 294 «لا تقوم الساعة حتى تؤخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، و ذراعا بذراع» فقيل: يا رسول اللّه كفارس و الروم، قال:

و من الناس إلاّ اولئك؟ 294 «كلّ ما كان في الامم السابقة فإنّه يكون في هذه الامّة مثله، حذو النعل بالنعل، و القذّة بالقذّة» 294 «امرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، و يؤمنوا بما ارسلت به، فاذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها، و حسابهم على اللّه» 317 «إنّي ابعث لأشقّ عن قلوب الناس» 317 «لكل نبيّ دعوة مستجابة، فتعجّل كلّ نبيّ دعوته، و إنّي

ص: 515

اختبأت دعوتي، شفاعة لامّتي، و هي نائلة من مات منهم لا يشرك باللّه شيئا» 341 «اعطيت خمسا، و اعطيت الشفاعة، فادّخرتها لامّتي فهي لمن لا يشرك باللّه» 341 «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» 349,341 «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع» 344 «شفاعتي نائلة إن شاء اللّه من مات و لا يشرك باللّه شيئا» 347 «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا اللّه مخلصا، يصدّق قلبه لسانه، و لسانه قلبه» 347 «من غشّ العرب لم يدخل في شفاعتي و لم تنله مودتي» 347 «إذا ظهرت البدع في أمّتي، فليظهر العالم علمه، و إلاّ فعليه لعنة اللّه، و الملائكة و الناس أجمعين» 380 «ليلة اسري بيّ، مرّ بيّ إبراهيم فقال: مر أمّتك أن يكثروا من غرس الجنة، فإنّ أرضها واسعة و تربتها طيّبة، قلت: و ما غرس الجنة؟ قال: لا حول و لا قوة إلاّ باللّه» 425 «إنّ عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه» و جاء عمار إلى رسول اللّه و هو يبكي، فقال: «ما وراءك»؟ فقال: شر يا رسول اللّه، ما تركت حتّى نلت منك، و ذكرت آلهتهم بخير» فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» 431 «مثل أصحابيّ كالنجوم بأيّهم اهتديتم اقتديتم» 439 «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابيّ فيحلئون عن الحوض، فأقول: «يا رب أصحابي» فيقول: «إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى» 441

ص: 516

«سحقا سحقا لمن بدل بعدي» 441 «أصحابيّ كالنجوم من اقتدى بشيء منه اهتدى» 444 «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، و ما حل مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار» 449 الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) «و خلّف النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيكم ما خلفت الأنبياء في اممها:

كتاب ربّكم فيكم، مبيّنا حلاله و حرامه، و فرائضه و فضائله، و ناسخه و منسوخه، و رخصه و عزائمه، و خاصّه و عامّة، و عبره و أمثاله، و مرسله و محدوده، و محكمه و متشابهه، مفسّرا مجمله، و مبيّنا غوامضه» 27 «اللّهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة: إمّا ظاهرا مشهورا، و إمّا خائفا مغمورا، لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته» 41,38 «من استبد برأيه هلك، و من شاور الرجال في أمورها شاركها في عقولها» 58 «قال مخاطبا معاوية: إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، و لا للغائب أن يرد، و إنّما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فإنّ اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما، كان ذلك للّه رضى» 59 «أمّا بعد فانّ بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام لأنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر و عمر...» ثم ختمها بقوله: «و إنّ طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، و كان نقضهما كردّهما، فجاهدتهما على ذلكم حتى جاء الحق، و ظهر أمر اللّه و هم

ص: 517

كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون» 59 «و إنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مرفلين في مضمارها إلى الغاية القصوى» 170 «قد شخصوا من مستقر الأجداث و صاروا إلى مصائر الغايات» 170 «يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين و الآخرين لنقاش الحساب، و جزاء الأعمال» 173 «فجدّدهم بعد إخلاقهم، و جمعهم بعد تفرّقهم، ثم ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال و خبايا الأفعال» 173 «أيّها الناس إنّا خلقنا و إيّاكم للبقاء لا للفناء، لكنّكم من دار إلى دار تنتقلون» 222 «و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود (عليه السلام)، الّذي سخّر له ملك الجن و الأنس» 223 «فالموت في حياتكم مقهورين، و الحياة في موتكم قاهرين» 226 «و منهم تارك لإنكار المنكر بلسانه، و قلبه و يده، فذلك ميّت الأحياء» 226 «فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره» 230 «و الصراط المستقيم صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، أمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو، و ارتفع عن التقصير، و استقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، و أمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة» 270 «الاستغفار درجة العلّيين و هو اسم واقع على ستة معان:

ص: 518

أوّلها: الندم على ما مضى، و الثاني: العزم على الترك العود إليه أبدا، و الثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه أملس ليست عليك تبعة، و الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقّها، و الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد، و السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية» 328,325 «إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة، فتلك عبادة التجّار، و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار» 333 «ثلاثة يشفعون إلى اللّه عز و جلّ فيشفّعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء». 341 «من كذّب بشفاعة رسول اللّه لم تنله» 348 «و إن كان عليه فضل، و هو من أهل التقوى، و لم يشرك باللّه تعالى و اتقى الشرك به فهو من أهل المغفرة، يغفر اللّه له برحمته إن شاء و يتفضّل عليه بعفوه» 377 «و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم» 380 «إنّ هذا القرآن، هو الناصح الذي لا يغش، و الهادي الذي لا يضلّ» 449 «ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه و سراجا لا يخبو توقّده، و منهاجا لا يضل نهجه... و فرقانا لا يخمد برهانه» 449 «عن عليّ أنّه سئل عن آية المتعة، أ منسوخة؟ قال: لا، و قال: لو لا نهي عن المتعة ما زنى إلاّ شقي» 463

ص: 519

الإمام الحسين (عليه السلام) «صبرا بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضراء إلى الجنان الواسعة، و النعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر» 222 «مخاطبا معاوية بن أبي سفيان: أ لست قاتل حجر و أصحابه العابدين المخبتين الّذين كانوا يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلما و عدوانا من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة و العهود المؤكّدة، جرأة على اللّه و استخفافا بعهده»؟ «أو لست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت و أبلت وجهه العبادة، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال»؟ «أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد: إنّه على دين علي كرّم اللّه وجهه، و دين علي هو دين ابن عمه صلى اللّه عليه و آله و سلّم الّذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، و لو لا ذلك كان أفضل شرفك و شرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء و رحلت الصيف، فوضعها اللّه عنكم بنا، منّة عليكم» 436 الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) «إذا صار أهل الجنة، و دخل ولي اللّه إلى جنانه و مساكنه ، و اتكأ كل مؤمن منهم على أريكته، حفّته خدّامه و تهدّلت عليه الثمار، و تفجّرت حوله العيون، و جرت من تحته الأنهار، و بسطت له الزرابيّ، و صفّفت له النمارق، و أتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك، قال: و يخرجون عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء اللّه.

ثم إنّ الجبّار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي و أهل طاعتي و سكّان جنّتي في جواري، هل أنبّئكم بخير ممّا أنتم فيه

ص: 520

فيقولون: ربّنا و أيّ شيء خير ممّا نحن فيه، نحن فيما اشتهت أنفسنا، و لذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم، قال: فيعود عليهم القول، فيقولون: ربّنا نعم، فائتنا بخير ممّا نحن فيه، فيقول لهم تبارك و تعالى: رضائي عنكم و محبّتي لكم خير و أعظم ممّا أنتم فيه، فيقولون: نعم يا ربّنا، رضاك عنّا و محبّتك لنا خير لنا و أطيب لأنفسنا» 283 «اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد، و شرّف بنيانه، و عظّم برهانه، و ثقّل ميزانه، و تقبّل شفاعته» 341 «اللّهمّ و أصحاب محمّد خاصّة الذين أحسنوا الصحبة و الّذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، و كاتفوه و أسرعوا إلى وفادته، و سابقوا إلى دعوته، و استجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته، و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته، و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوّته، و انتصروا به، و من كانوا منطوين على محبّته، يرجون تجارة لن تبور في مودته، و الذين هجرتهم العشائر، إذا تعلّقوا بعروته، و انتفت منهم القربات، إذا سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس اللّهمّ ما تركوا لك و فيك، و أرضهم من رضوانك و بما حاشوا الخلق عليك، و كانوا مع رسولك، دعاة لك إليك، و اشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، و خروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، و من كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم. اللّهمّ و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا» 444 الإمام الباقر (عليه السلام) «إنّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم، و لو لا ذلك لما يعرف الحق من الباطل» 38 روى زرارة قال سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام)

ص: 521

يقول: «إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم» قلت: و لم؟ قال:

«يخاف»، قال زرارة يعني القتل. 147 «إذا قام قائمنا وضع يده على رءوس العباد، فيجمع عقولهم، تكتمل به أحلامهم» 152 قال الإمام لأحد أصحابه: «اعرض نفسك على ما في كتاب اللّه، فإن كنت سالكا سبيله، زاهدا في تزهيده، راغبا في ترغيبه، خائفا من تخويفه، فاثبت و ابشر، فإنّه لا يضرّك ما قيل فيك، و إن كان مبائنا للقرآن، فما ذا الذي يغرّك من نفسك» 266 «إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمّن المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الأعداء و يستقيم الأمر» 378 «فأنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم، و صكّوا بها جباههم، و لا تخافوا في اللّه لومة لائم» 381 الإمام الصادق (عليه السلام) «إنّ الأرض لا تخلوا إلاّ و فيها إمام، كيما زاد المؤمنون شيئا ردّهم، و إذا نقصوا شيئا أئمّة لهم» 38 «إنّ المؤمن في زمان القائم، و هو بالمشرق، يرى أخاه الذي في المغرب، و كذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق» 153 عند ما سئل عن أرواح المؤمنين، فقال: «في حجرات في الجنّة، يأكلون من طعامها، و يشربون من شرابها، و يقولون ربّنا اتمم لنا الساعة و أنجز ما وعدتنا» و سئل عن أرواح المشركين فقال: «في النار يعذّبون،

ص: 522

يقولون لا تقم لنا الساعة، و لا تنجز لنا ما وعدتنا» 236 «قال اللّه تعالى: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فان ظننت بأنّ اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أ فترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من التمر، يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية، كلاّ، لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه» 259 «الناس يمرّون على الصراط طبقات، و الصراط أدق من الشعرة و من حد السيف، فمنهم من يمرّ مثل البرق، و منهم مثل عدو الفرس، و منهم من يمرّ حبوا، و منهم من يمرّ مشيا، و منهم من يمرّ متعلّقا قد تأخذ النار منه شيئا و تترك شيئا» 271 عن جعفر الكناسي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا، قال: يشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمدا عبده و رسوله، و يقرّ بالطاعة، و يعرف إمام زمانه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن» 319 «ملعون، ملعون من قال: الإيمان قول بلا عمل» 322 «إنّ المؤمن ليشفع لحميمه، إلاّ أن يكون ناصبا، و لو أنّ ناصبا شفع له كل نبي مرسل و ملك مقرّب ما شفعوا» 347 «فإذا قبضه اللّه إليه، صيّر تلك الروح إلى الجنّة في صورة كصورته، فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا» 399 «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» 450 الإمام الكاظم (عليه السلام) «لمّا حضر أبي الإمام الصادق (عليه السلام) قال لي: يا بني إنّه لا ينال شفاعتنا من استخفّ بصلاته» 348

ص: 523

الإمام الرضا (عليه السلام سأل المأمون العباسي، الإمام الرضا (عليه السلام) عن الرجعة، فأجابه «إنّها حقّ قد كانت في الأمم السالفة و نطق بها القرآن، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يكون في هذه الأمّة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل، و القذّة بالقذّة» 295 عن الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول اللّه، أخبرني عن الجنة و النار أ هما اليوم مخلوقتان؟ فقال:

«نعم، و إنّ رسول اللّه قد دخل الجنّة و رأى النار، لما عرج به إلى السماء» قال: فقلت له: فإنّ قوما يقولون إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال (عليه السلام): «و أولئك منّا و لا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة و النار، فقد كذّب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذّبنا» 422 الإمام المنتظر (عجل اللّه فرجه الشريف) «و أمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب» 145

ص: 524

فهرس الأشعار

الصفحة

نسخ و مسخ رسخ قسما *** إنسانا و حيوانا جمادا نما

300

تلعّب بالخلافة هاشمي *** بلا وحي أتاه و لا كتاب

114

تهدّدني بجبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد

113

إذا ما جئت ربّك يوم حشر *** فقل يا ربّ مزّقني الوليد

113

إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد *** و لا توفّاهم قريش في العدد

192

يا ليت جور بني مروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار

19

إذا ما فصّلت عليّا قريش *** فلا في العير أنت و لا في النفير

79

ص: 525

هم المولى و إن جنفوا علينا *** و إنّا من لقائهم لزور

92

صرت نظرة لو صادف جوز دارع *** غدا و العواصي من دم الجوف تنعر

209

و علي إمامنا و إمام *** لسوانا أتى به التنزيل

98

يوم قال النبيّ من كنت مولاه *** فهذا مولاه خطب جليل

98

و في يوم خم رقى منبرا *** و بلّغ و الصحب لم ترحل

98

فامنحه إمرة المؤمنين *** من اللّه مستخلف المنحل

98

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** وقع الخزرج من وقع الأسل

113

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء و لا وحي نزل

113

كرة حذفت بصوالجة *** فتلقّفها رجل رجل

458

و أوجب لي ولايته عليكم *** رسول اللّه يوم غدير خمّ

98

ص: 526

يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ و اسمع بالرسول مناديا

84

فقال فمن مولاكم و نبيّكم *** فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا

84

إلهك مولانا و أنت نبيّنا *** و لم تلق منافي الولاية عاصيا

84

فقال له قم يا علي فإنّني *** رضيتك من بعدي إماما و هاديا

84

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أتباع صدق مواليا

85

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه *** و كن للذي عادى عليا معاديا

85

الاختصاص كنداء دون يا *** كأيها الفتى بإثر ارجونيا

127

و كم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصّصة في علي

98

فقل للّه يمنعني طعامي *** و قل للّه يمنعني شرابي

114

ص: 527

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.