معالم الدين وملاذ المجتهدين

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

المحقق: السيد منذر الحكيم

الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر

المطبعة: باقري

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1418 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-91559-5-3

المكتبة الإسلامية

معالم الدين وملاذ المجتهدين

قسم الفقه / الجزء الأول

المحرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد

المجلد 1

اشارة

ص: 1

ص: 2

مؤسسة الفقه للطباعة والنشر

معالم الدين وملاذ المجتهدين

قسم الفقه

للشيخ حسن بن زين الدين العاملي قدس سره

(959 - 1011 ه.ق)

الجزء الأول

تحقيق: السيد منذر الحكيم

ص: 3

ابن شهيد الثاني، حسن بن زين الدين، 959 - 1011 ق

معالم الدين وملاذ المجتهدين / حسن بن زين الدين العاملي؛ حققه منذر الحكيم - قم مؤسسة الفقه.

2 ج نمونه

فهرست نويسی بر اساس اطلاعات فیپا (فهرستنویسی پیش از انتشار)

این كتاب بخش فقه (طهارت) از كتاب معالم الدین و ملاذ المجتهدین است.

عربی

كتابنامه

1. فقه جعفری - قرن 10 ق 2. طهارت - الف - حكیم ، منذر . ب . عنوان 6 م 2 الف /6 / 96182

297/322

77-782 م

مؤسسة الفقه للطباعة والنشر

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤسسة

الكتاب: معالم الدين وملاذ المجتهدين/ الجزء الأول

المؤلف: الشيخ حسن بن زين الدين العاملي قدس سره

المحقق: السيد منذر الحكيم

الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر

المطبعة: باقری - قم

الطبعة: الأولی - رجب المرجب 1418 ه

ععد النسخ: 2000 نسخة

سعر الدورة: 30000 ریال

قم - ص.ب 2663 - 27185 ، رقم الهاتف 734873 - 251 - 98+ ، فكس 738028 - 251 - 98+

شابك 3-5-91559-964 (جلد 1)

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

ص: 6

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي قدس سره

( صاحب المعالم )

( 959 - 1011 ه ق )

عصره - حياته - مدرسته

تصاغ الشخصية العلمية والنفسية والاجتماعية لكلّ فرد خلال عمود الزمان متأثّرة بمجموعة من العوامل البيئية والوراثية بما فيها الظروف السياسية والاجتماعية العامة ، بالاضافة إلى مجموعة المؤهّلات الفكرية ( العقلية ) والنفسية التي تحظى بها تلك الشخصية وما تستطيع أن تستفيده من التراث الفكري والعلمي الذي ولّدته الأجيال السابقة حتّى العصر الذي تعيشه تلك الشخصية.

لقد ولد الشيخ المحقّق جمال الدين أبو منصور حسن بن زين الدين ( صاحب المعالم ) في منطقة جزّين من جبل عامل في بلاد الشام عام 959 هجرية قمرية ونشأ فيها وتكوّنت شخصيّته العلمية في مراحلها الاولى على يد مجموعة من تلامذة والده الشهيد الثاني قدس سره ، ثمّ هاجر إلى النجف الأشرف واختصّ بالمولى المقدّس الأردبيلي ، ثمّ رجع مع ابن اخته السيد محمد ( صاحب المدارك ) إلى جبل عامل واستقلّ بالتدريس والتأليف حتّى ظهرت شخصيّته العلمية المرموقة في فترة وجيزة من خلال ما ألّفه في حقل الحديث

ص: 7

وحقل الرجال وحقل الاصول وحقل الفقه وغيرها من حقول المعرفة الإسلامية فكان صاحب مدرسة متميّزة لها خصائصها وآثارها في تأريخ التطوّر العلمي الإمامي.

ولأجل أن نتعرّف بوضوح على ما أنجزه هذا المحقّق في حقل الفقه ومقدّماته ( من حديث ورجال واصول ) وما أضافه إلى المدرسة الفقهية الإمامية يجدر بنا أن نلمّ بما يلي :

1 - ما بلغه الفقه الإمامي من التطوّر حتّى عصر صاحب المعالم.

2 - الظروف السياسية والاجتماعية والوضع الثقافي للبيئة التي نشأ فيها صاحب المعالم.

3 - ما تميّزت به الحركة العلمية في عصر صاحب المعالم ( في القرن العاشر الهجري ) وخصائص البيئة التي نشأ فيها.

4 - حياته الشخصية والعلمية ومجموعة العوامل الوراثية والبيئة العائلية التي لها أكبر الأثر في صقل الشخصية الانسانية وإيجاد مؤهّلاتها العقلية والنفسية.

5 - إنجازات صاحب المعالم ومعالم مدرسته الفقهية.

ص: 8

1

تطوّر الفقه الإمامي حتّى عصر صاحب المعالم

في اخريات حياة الإمام الصادق عليه السلام انتقلت مدرسة الفقه الشيعي من المدينة إلى الكوفة حيث كانت حينذاك مركزا علميا وتجاريا وسياسيا معروفا في العالم الإسلامي يقصده طلّاب العلم والمال والسياسة.

إنّ وفود جملة من الصحابة والتابعين إلى الكوفة من جهة ووفود مختلف العناصر الطالبة للعلم أو التجارة من أطراف العالم الإسلامي من جهة أخرى كان له الأثر البالغ في التلاقح العقلي والذهني الذي أدّى بدوره إلى صيرورة الكوفة منطلقا للحركة العقلية ومصدرا للإشعاع الفكري والفقهي الشيعيّين بالرغم من أنّ الكوفة لم تبق مقاما ومستقرّا للأئمة عليهم السلام إلى حين الغيبة الكبرى ، وبالرغم من أنّ كلّ فقهاء الشيعة لم يتمركزوا في الكوفة إلى ذلك الحين (1).

وانتقلت حركة التدريس والتأليف إلى مدينتي قم والريّ في بداية عصر الغيبة الكبرى بسبب المعاملة القاسية التي كان يلاقيها فقهاء الشيعة وعلماؤهم من العباسيين ، وقد وجدوا في هاتين البلدتين ركنا آمنا يطمئنّون إليه لنشر فقه أهل البيت عليهم السلام وحديثهم.

وعرف آل بويه في التأريخ بنزعتهم الشيعية وولائهم لأهل البيت عليهم السلام

ص: 9


1- تأريخ فقه أهل البيت عليهم السلام ، محمد مهدي الآصفي ، مدرسة الكوفة : 16 - 19 ، من مقدمة رياض المسائل.

فكانت حكومتهم هي السبب الآخر من أسباب ازدهار قم والريّ في هذا العصر.

ونشطت حركة التأليف والبحث الفقهي في هذا العصر نشاطا كبيرا إذ دوّنت اولى المجاميع الحديثية الموسّعة وهي ( الكافي ) و ( من لا يحضره الفقيه ) للشيخين العظيمين الكليني ( م 329 ) والصدوق ( م 381 ).

ثمّ أصبحت بغداد في القرن الخامس الهجري مركز الثقل الأوّل علميا وثقافيا في العالم الإسلامي وانتقلت الحركة العلمية الشيعية من قم والريّ إليها بعد أن ضعف جهاز الحكم العباسي وظهرت شخصيات علمية كبيرة في بغداد كالمفيد والمرتضى وتوسّعت المدرسة الفقهية الشيعية توسّعا أدّى بها إلى الانتقال إلى حاضرة العالم الإسلامي في ذلك الوقت.

وقد قدّر للشيخ المفيد أن يكون رائدا فكريا لهذا العصر وأن يطوّر من مناهج الفقه وقواعده. وحاول السيد المرتضى أن يتابع خطوات استاذه المفيد في تطوير مناهج الفقه والاصول. وعاصر الشيخ الطوسي حركة التطوير التي بدأها المفيد وتابعه فيها المرتضى واستمرّ بعدهما في محاولات التجديد والتطوير فقها واصولا : مادّة ومنهجا واسلوبا.

وتعتبر مدرسة المفيد هذه - فتحا جديدا في عالم البحث الفقهي .. إذ استطاع المفيد أن يقوم بدور الجمع بين اتّجاهين متطرّفين : اتّجاه أهل الحديث واتّجاه أهل الرأي ، فكان اتّجاها وسطا بينهما ، فلا جمود ولا انطلاق بل أمر بين أمرين (1). وأهمّ ملامح هذه المدرسة هي :

1 - خروج الفقه عن دور الاقتصار على استعراض نصوص الكتاب والسنّة إلى معالجة النصوص باستخدام قواعد علم الاصول ، فقد انقلبت عملية

ص: 10


1- تأريخ التشريع الإسلامي ، الدكتور عبد الهادي الفضلي : 262 - 264.

استنباط الأحكام الشرعية في هذه المرحلة من مراحل تطوّر الفقه الإمامي إلى صناعة علمية لها قواعدها وبذلك انفصل البحث الاصولي والكتب الاصولية عن البحث الفقهي وكتب الفقه. وقام البحث الفقهي على نتائج الدراسات الاصولية. وكانت الصناعة الفقهية في هذه الفترة تطوي مراحلها البدائية ولكنّها كانت بداية لعهد جديد.

2 - استحداث فروع جديدة لم تتعرّض لها نصوص الروايات. كما يبدو ذلك جليّا في كتاب ( المبسوط ) للشيخ الطوسي.

3 - ظهور الفقه المقارن بين مختلف مدارس الفقه الإسلامي. وأهمّ أثر فيه هو كتاب الخلاف للطوسي أيضا.

4 - بروز ظاهرة الاجماعات واستخدامها في موارد عدم وجود النصّ الشرعي أو عدم سلامته ، ولم تخل مؤلّفات الفقهاء المتقدّمين على هذا العصر من التمسّك بالإجماع ، إلّا أنّ هذه الظاهرة تبدو في كتب الشيخ بصورة خاصة وفي آثار هذه المدرسة بصورة عامّة أكثر من أيّ وقت سابق.

وبهذا يكون البحث الفقهي قد خطا خطوة كبيرة في هذه المرحلة من حياته وأشرف على أعتاب مرحلة جديدة داخلا دور المراهقة ، وحاملا تجارب ثلاثة قرون حافلة بالجهود المثمرة والتجارب الخصبة (1).

وبالرغم من الفتح الفقهي الكبير الذي قدّر لمدرسة بغداد ( مدرسة المفيد ) على يد الشيخ الطوسي قدس سرهما إلّا أنّ ذلك لم يكن سوى بداية لفتوحات جديدة في تأريخ الفقه حصل عليها الفقه الإمامي عبر مدارس الحلّة وجبل عامل واصفهان والنجف وكربلاء فيما بعد.

ص: 11


1- تأريخ فقه أهل البيت عليهم السلام ، محمد مهدي الآصفي : مدرسة بغداد.

إنّ سقوط بغداد على يد هولاكو التتري وبقاء الحلّة مأمونة من شرّه - بعد أن أوفد أهل الحلّة وفدا يلتمس لهم الأمان ولبلدهم - أثمر ازدهار الحلّة علميا ؛ إذ أخذت هذه البلدة المأمونة تستقطب الشاردين من بغداد من الطلّاب والأساتذة والفقهاء .. وانتقل معهم التراث والنشاط العلميين إلى الحلّة ، وبذلك استقرّت الحوزة العلمية الكبرى للشيعة الإمامية في الحلّة وظهر فيها مجموعة كبيرة من الفقهاء المبدعين الذين طوّروا مناهج البحث الفقهي والاصولي ونظّموا أبواب الفقه ووسّعوا من آفاقه كما طوّروا علمي الحديث واصول الفقه ، كالمحقّق والعلّامة الحلّيين وفخر المحقّقين ابن العلّامة وابن أبي الفوارس وابن طاوس والشهيد الأوّل.

وأهمّ ملامح مدرسة الحلّة الفقهية التي تميّزت بها عن مدرسة بغداد هي :

1 - تنظيم أبواب الفقه :

قدّر للشيخ الطوسي الذي مثّل قمّة التطوّر للبحث الفقهي في عصره أن يجمع شتات الأشباه والنظائر في الفقه ويبوّت كلّ ذلك في أبواب خاصة بعد ما أكثر الفروع المستحدثة ، إلّا أنّنا نلاحظ شيئا من التشويش في تبويبه لأبواب الفقه.

ولأوّل مرّة نلتقي بالتنظيم الرائع لأبواب الفقه في كتاب ( شرائع الإسلام ) للمحقق الحلّي ( م 676 ه ) وقد استمرّ فقهاء الشيعة على هذا التنظيم الرباعي لأبواب الفقه إلى العصر الحاضر.

وأساس هذا التقسيم الرباعي عند المحقّق هو :

إنّ الحكم الشرعي إمّا أن يتقوّم بقصد القربة أو لا. والأوّل : ( العبادات ). والثاني : إمّا أن يحتاج إلى لفظ من الجانبين أو من جانب واحد أو لا يحتاج إلى اللفظ. فالأوّل : ( العقود ) ، والثاني : ( الإيقاعات ) ، والثالث : ( الأحكام ). وبهذا تندرج جميع أبواب الفقه ومسائله في أقسام أربعة

ص: 12

العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام.

2 - الاهتمام الخاص بفقه المعاملات ومحاولة التوسّع فيها ، كما يبدو من مؤلّفات العلّامة الحلّي قدس سره.

3 - التأليف الفقهي الموسوعي المقارن :

ألّف العلّامة ( م 726 ه ) موسوعته الفقهية القيّمة ( تذكرة الفقهاء ) في الفقه المقارن ، كما ألّف موسوعته الفقهية الاخرى التي سمّاها ب- ( منتهى المطلب ) وهي لا تقلّ عن التذكرة بل تزيد عليها بالسعة والشمول والتفصيل في الفروع والاحتجاج. ومن يراجع هذين المؤلّفين يلمس بوضوح ضخامة العمل الفقهي الذي قدّمه العلّامة للعالم الإسلامي عامة والمذهب الإمامي خاصة لما اتّسم به من موضوعية وشمول وتفصيل يعزّ مثله في الدراسات المقارنة الاخرى.

4 - تحقيق وتنقيح القواعد الاصولية ، والذي تمثّل في كتب المحقّق والعلّامة وفخر المحقّقين الاصولية وتلامذتهم.

5 - جمع وتحقيق المسائل الخلافية بين فقهاء الشيعة :

ونتيجة للابتعاد عن عصر حضور الإمام المعصوم وصعوبة الاستنباط بعد ضياع جملة من النصوص أو عدم سهولة التأكّد من سلامتها سندا ودلالة من الطبيعي أن يكثر الاختلاف بين الفقهاء وتتشعّب مذاهبهم في استنباط الأحكام من المصادر الشرعية الموجودة بأيديهم ، وعلى الفقيه أن يلمّ بوجوده الاختلاف في الرأي بعد اطّلاعه على تشتّت الآراء للفقهاء الإمامية أنفسهم للحصول على ما اتّفق عليه فقهاء المذهب والعلم بأسباب الاختلاف فيما اختلفوا فيه. ومن هنا كتب العلّامة ( مختلف الشيعة ) الذي لا زال موضع اهتمام الدارسين إلى يومنا هذا.

6 - إدخال القواعد الرياضية إلى ميدان الفقه والاستفادة منها فيما يرتبط

ص: 13

بعلم الرياضيات من أبواب الفقه وكذلك علم الفلك ( الهيئة ) فيما يرتبط به من مسائل الفقه.

7 - ظاهرة تربيع الحديث :

إنّ الفتن الطائفية التي كان يثيرها العباسيون بين حين وآخر في العراق قضت على جملة من تراث الإمامية كما نجد ذلك في إحراق مكتبة الشيخ الطوسي ببغداد ، وكذلك الهجوم المغولي على بغداد هو العامل الآخر الذي ذهب بالكثير من التراث الإمامي .. ممّا أدّى إلى ضياع جملة كبيرة من القرائن التي تهمّ الفقيه للتمييز بين صحاح الأحاديث وضعافها ، وبينما كان الحديث الصحيح عند الفقهاء - قبل عصر العلّامة الحلّي - يطلق على كلّ حديث يوثق بصدوره عن المعصوم بالقرائن التي كانت متوفّرة للفقيه حينذاك ، أصبح تمييز هذا الحديث الصحيح بمكان من الصعوبة ، فكان من الضروري التفكير في اسس موضوعية محدّدة لتشخيص الحديث الصحيح من غيره. وتمخّض عن هذه الأسباب الاهتمام الخاص باسس التقييم لسند الحديث وتمّ الأمر بتصنيف الحديث إلى أربع درجات : الصحيح والموثّق والحسن والضعيف.

ونهض بهذا الأمر فقهاء مدرسة الحلّة ، أوّلهم السيد أحمد بن طاوس ( م 673 ه ) وتبعه في هذا التصنيف العلّامة الحلّي الذي طبّق هذه النظرية على جملة كتب الحديث فكتب ( الدرّ والمرجان في الأحاديث الصحاح والحسان ) في عشرة أجزاء كما ألّف ( النهج الوضّاح في الأحاديث الصحاح ).

وقد استقرّ تصنيف الحديث إلى هذه الأقسام الأربعة بعد هذا التأريخ وأصبح أساسا للاستنباط بشكل عامّ.

وعلى أيّ حال فقد كانت مدرسة الحلّة امتداد لمدرسة بغداد وتطويرا لمناهجها وأساليبها ومنجزاتها كما أنّها حلقة الوصل لنقل تراث مدرسة بغداد

ص: 14

- مادّة ومنهجا - إلى مدرسة جبل عامل التي ازدهرت بعد عودة الشهيد الأوّل من الحلّة إليها.

وحاول الشهيد الأوّل ( م 786 ه ) أن يجعل من مدرسة جبل عامل مدرسة فقهية متطوّرة بعد عودته إلى جزّين التي كانت فيها مدرسة علمية معروفة قبل الشهيد .. فإنّه لم يقتصر على ما حصّله في الحلّة من علوم ومعارف بل طاف البلاد الإسلامية وقرأ على عدد من مشايخ السنّة بمكّة والمدينة وبغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام ، وكان لهذا الانفتاح الثقافي والفقهي أثر واضح في شخصية الشهيد وتآليفه ودروسه وفي مدرسة جزّين التي طوّرها بجهوده.

وقد عمل الشهيد في هذه الفترة على تنظيم علاقة الامّة بالفقهاء من خلال شبكة الوكلاء الذين ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شئون الناس في دينهم ودنياهم كما يقومون بجمع الحقوق المالية الشرعية لتوزيعها على مستحقّيها بنظر الفقيه الجامع لشرائط الفتوى والمرجعية.

ويبدو أنّ الشهيد الأوّل هو أوّل من أسّس هذا التنظيم الذي يريط الفقيه المتصدّي لشئون الامّة بقاعدته بواسطة شبكة الوكلاء. وقد استمرّ هذا التنظيم ونما وتطوّر فيما بعد إلى يومنا هذا.

وكان الشهيد يتردّد خلال فترة عمله في جزّين على دمشق كثيرا ، وكان له في دمشق بيت عامر بالعلماء وطلبة العلم من مختلف المذاهب الإسلامية.

كما ألّف الشهيد كتاب ( اللمعة الدمشقية ) إجابة لدعوة الأمير الشيعي علي ابن مؤيّد حاكم خراسان الذي أرسل إليه وزيره يستقدمه إلى خراسان ليكون مرجعا للمسلمين هناك فاعتذر الشهيد بعذر جميل وأرسل إليه هذا المختصر الخالد في الفقه ليكون منهاجا لتنظيم شئون الدولة عليه. وقد ضمّن الشهيد

ص: 15

نظريته السياسية حول ولاية الفقيه كتابه هذا وبذلك يكون قد أدخل الفقه إلى عالم السياسة الدولية بشكل علمي وعملي وزرع بذور النظام السياسي الإمامي في وقت مبكّر. وقد طبّق المحقّق الكركي ( م 940 ه ) نظرية الشهيد هذه خلال فترة تسلّمه منصب شيخ الإسلام في الدولة الصفوية كما سنرى.

واهتمّ الشهيد بتدوين القواعد الفقهية وهي أوّل محاولة يقوم بها فقيه إمامي بالإضافة إلى اهتمامه باصول الفقه الذي تجلّى في كتاب ( جامع البين في فوائد الشرحين ) حيث جمع فيه فوائد الشرحين الضيائي والعميدي على تهذيب العلّامة في علم الاصول. وقد سار الشهيد الثاني على خطى الشهيد الأوّل فشرح أكثر كتبه وعلّق عليها وقد استخدم القواعد الفقهية وبشكل واسع في أبواب المعاملات بنحو لا نجد له نظيرا في كتب من تقدّمه كما نجده في كتابه ( الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ).

وبهذا نخلص إلى أهمّ ما أنجزته مدرسة جبل عامل حتّى النصف الأوّل من القرن العاشر الهجري بعد أن ورثت مدرستي بغداد والحلّة الفقهيّتين وذلك كما يلي :

1 - تدوين القواعد الفقهية.

2 - التوسّع في تدوين فقه المعاملات بالاستعانة بالقواعد الفقهية.

3 - تنظيم علاقة الامّة بالفقهاء من خلال شبكة الوكلاء.

4 - دخول الفقه إلى ميدان السياسة الدولية نظرية وتطبيقا من خلال تأصيل النظرية السياسية الإمامية في عصر الغيبة في الكتب الفقهية والتصدّي المباشر لمنصب ولاية الفقيه خلال الحكم الصفوي.

وإلى هنا نقف على ما آل إليه الفقه الإمامي حتّى عصر صاحب المعالم لنرى طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية في عصره ومجمل التطوّرات

ص: 16

الفقهية التي حقّقتها البيئة العلمية التي نشأ فيها كي نتوفّر على دراسة ما أثمرته الجهود العلمية لصاحب المعالم نفسه وما حقّقته شخصيته الفذّة من منجزات وما أضافته إلى التراث الإمامي من مؤلّفات.

ص: 17

2

الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر صاحب المعالم

اشارة

لقد نشأ صاحب المعالم في عصر تحكّمت فيه دولتان قويّتان : الدولة العثمانية والدولة الصفوية ، كما عاش في منطقتين متميّزتين : جبل عامل ( من بلاد الشام ) والنجف من العراق ( الذي كانت تتناوب الدولتان العثمانية والصفوية في التحكّم به وتسيير شئونه ).

ومن هنا يلزم أن نتعرّف على طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمرّ بها بلاد الشام وبلاد فارس وطبيعة الحكم العثماني والحكم الصفوي من جهة اخرى.

أ - نبذة عن التأريخ السياسي للتشيّع في بلاد الشام :

« لبلاد الشام علاقة عريقة وقديمة بالتشيّع منذ عهد الأمويّين والعبّاسيّين ، إلّا أنّ الشيعة في هذين العهدين كانوا يعيشون مرحلة التقية والسرّية من الناحية السياسية والدينية بسبب الاضطهاد الطائفي الذي كان يمارسه حكّام بني امية والعباسيين وولاتهم في هذه المنطقة وغيرها من مناطق العالم الإسلامي.

حتّى إذا انقضى عصر عهد العباسيين وظهرت للشيعة دول في التأريخ بعد سقوط الدولة العباسية - مثل دولة البويهيين في العراق وفارس ، ودولة الحمدانيين في الموصل وحلب ، ودولة العلويين في مصر والحجاز والشام وإفريقيا - بدأ الشيعة يتحرّكون في بلاد الشام وينشطون ثقافيا وسياسيا.

ولقد عاش شيعة الشام أيام الفاطميين في القرن الرابع فترة حرية واستقرار ،

ص: 18

نشطت فيها حركة التشيّع في بلاد الشام.

وعن هذه الفترة يقول السيوطي : غلا الرفض وفار بمصر والمشرق والمغرب (1).

في هذه الفترة انتعش التشيّع وامتدّ وانتشر في بلاد الشام ، ثمّ تلا هذه الفترة حكم الأيوبيّين الذين استلموا الحكم من الفاطميين وحكموا مصر والشام وجدّدوا اضطهاد الشيعة في بلاد مصر والشام معا ، ممّا أدّى إلى ضمور كبير للحالة الشيعية في مصر والشام ، ثمّ جاء من بعدهم المماليك عام 648 ليواصلوا نفس السياسة التي مارسها سلفهم الأيوبيون في اضطهاد الشيعة والتضييق عليهم في بلاد الشام ، وكانت أيامهم من أشقّ الفترات على شيعة الشام.

وكان المماليك يتّخذون من فتاوى ابن تيمية ذريعة للفتك بالشيعة وإباحة دمائهم ، وأدّى ذلك إلى أن يحتمي طائفة منهم بالجبال والمناطق الجبلية ليحموا أنفسهم من فتك النظام وبطشه ، ويتظاهر طائفة منهم بالانتماء إلى المذاهب السنّية ليحمي نفسه وذويه من بطش الحكام.

ونتج عن ذلك ضمور للتشيّع في بلاد الشام واختفاء معالمه الفكرية والثقافية. فقد فقدت الطائفة الاولى بالتدريج انتماءها الفكري والعملي للتشيّع ، ولذلك أسموهم بالشيعة المتخاذلة أو المتستّرين. وأمّا الطائفة الثانية فقد شاع فيها الجهل نتيجة البعد والانقطاع عن مراكز العلم.

في مثل هذه الظروف الصعبة في عصر المماليك حاول الشهيد الأوّل أن يوصل جبل عامل بمدرسة الحلّة وينقل إليها العلم والفقاهة والفكر ، ويجعل من جبل عامل مدرسة للفقاهة والثقافة الإمامية مستفيدا من موقعها الجغرافي

ص: 19


1- تأريخ الخلفاء : 406.

الذي يمنحها حصانة طبيعية في مقابل تعدّي المماليك.

وكانت مدرسة ( جزّين ) التي أنشأها الشهيد الأوّل في جبل عامل بذرة لشجرة طيّبة نمت فيما بعد وأثمرت واتّسعت واستتبعت مدارس فقهية اخرى في مناطق كثيرة من جبل عامل.

ورغم أن الشهيد الأوّل نفسه الذي أنشأ هذه المدرسة ذهب ضحية فتنة طائفية أوجدها المماليك في الشام واستشهد على يد ( بيدمر ) أحد ولاة المماليك على الشام إلّا أنّ العلم انتشر في جبل عامل ، وتعدّدت مراكز العلم والفقاهة وأصبحت هذه المنطقة مدرسة عامرة بالفقهاء والعلماء ، واستعاد التشيّع وجهه الفقهي والثقافي وأصالته في بلاد الشام.

ولمّا امتدّ بعد ذلك سلطان العثمانيين إلى بلاد الشام وواصل العثمانيون سياسة الاضطهاد والتضييق على شيعة الشام لم يكن هناك ما يهدّد كيان الشيعة العقائدي والفقهي في الشام كما حدث ذلك في فتنة المماليك من قبل ، فقد استطاع فقهاء الشيعة خلال هذه الفترة أن يعمّقوا في بلاد الشام وفي جبل عامل بالخصوص الاسس الفكرية والفقهية للتشيّع.

وقد استحدث الشهيد الأوّل نظاما خاصا لجباية الخمس وتوزيع العلماء في المناطق ، وكان لهذا العمل الفكري والثقافي والتنظيمي الذي نهض به الشهيد ومن خلفه من فقهاء الشيعة دور كبير في حفظ التشيّع في بلاد الشام » (1).

ب - الدولة الصوفية وهجرة الفقهاء إليها :

« الصفويون اسرة شيعية علوية عريقة تنتسب إلى صفيّ الدين الأردبيلي

ص: 20


1- محمد مهدي الآصفي ، مقدمة رياض المسائل : 64 - 66.

العارف والصوفي المعروف المدفون بأردبيل في آذربايجان ، وكان رجال هذه الاسرة يتوارثون زعامة الطريقة الصوفية. فلمّا تولّى ( إسماعيل ) أحد أحفاد صفي الدين زعامة الطريقة بعد مقتل والده جمع جيشا من أتباعه وقاده إلى قتال اسرة آق قوينلو الحاكمة في آذربايجان والعراق ، وقضى على نفوذ هذه الاسرة التركمانية في آذربايجان واتّخذ من تبريز مقرّا لحكمه وسلطانه عام 905 ه ، ثمّ توجّه بجيشه إلى العراق وفتحه وقضى على نفوذ اسرة آق قوينلو في العراق بشكل كامل ، وأصبح الشاه إسماعيل حاكما على إيران والعراق بشكل كامل.

وامتدّت فتوحات الشاه إسماعيل إلى خراسان ، وتمّ له فتحها ، كما تمّ له فتح ( هرات ) وإسقاط حكومة ( أزبك ) بعد حرب طويلة أخذت فيها الصبغة المذهبية ، وحاول كلّ من الطرفين المتقاتلين أن يستفيد من انتمائه المذهبي في كسب المعركة لصالحه.

وهكذا تكوّنت دولة شيعية قويّة وواسعة في إيران والعراق وخراسان وهرات إلى جنب دولة سنّية قوية وواسعة كذلك ، وهي الدولة العثمانية التي كانت تتّخذ من الخلافة الإسلامية غطاء شرعيا لوجودها السياسي في العالم الإسلامي ، واستمرّ القتال - سجالا بين هاتين القوّتين على مناطق النفوذ ، فبادرت الدولة الصفوية إلى فتح العراق وإسقاط حكومة أزبك السنية عام 914 ه.

ثمّ تقابلت الدولتان في معركة كبيرة في حياة الشاه إسماعيل وانتهت المعركة بانتصار آل عثمان على الصفويين في موقعة ( چالدران ) الشهيرة وانفصل العراق عن محور النفوذ الصفوي ، وأعلن والي العراق عن انضمام العراق إلى الدولة العثمانية.

ص: 21

ثمّ استعاد الصفويون سيطرتهم على العراق من جديد عام 937 ه بعد وفاة الشاه إسماعيل مؤسّس الدولة الصفوية. ثمّ استرجع آل عثمان سيطرتهم على العراق من جديد عام 941 ه.

وخلال هذا الصراع كان كلّ من الطرفين المتنافسين والمتقاتلين يحاول أن يكسب لموقفه في هذه المعركة الضارية غطاء شرعيا يمكنه من تحشيد المقاتلين إلى جانبه.

أمّا آل عثمان فكان عنوان الخلافة الإسلامية يدعمهم في هذه المعركة إلى حدّ بعيد ، بالإضافة إلى الارتباط التأريخي للمؤسسة الفقهية السنّية بالمؤسسة السياسية.

أمّا الدولة الصفوية فكانت تواجه مشاكل حقيقية في هذا الجانب وكان عليها أن تعمل لكسب موقف فقهاء الشيعة إلى جانبها وتأييدهم لها.

على أنّ هذه الدولة الفتيّة كانت بحاجة إلى حضور فاعل لفقهاء الشيعة معها لتستطيع أن تؤدّي رسالتها في تكريس مذهب أهل البيت عليهم السلام وفقههم وإدارة شئون الدولة على منهاج أهل البيت الفقهي ، وقد كان بعض ملوك الصفويين كالشاه إسماعيل وابنه طهماسب صادقين في محاولة تكريس المذهب الفقهي لأهل البيت في الدولة الصفوية وتمشية نظام الحكم الصفوي على منهاج فقه أهل البيت ، وكانوا يحاولون الإفادة من فقهاء الشيعة في هذا المجال وتمكينهم من الدولة بالمقدار الذي لا يزاحمهم في حقّ اتّخاذ القرار السياسي بشؤون الدولة.

وكان هذا هو أحد العاملين الرئيسين لقدوم فقهاء الشيعة من جبل عامل من بلاد الشام إلى إيران ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل ، فقد كانت الدولة الشيعية الفتية بحاجة حقيقية وماسّة إلى استقدام الفقهاء من جبل عامل لما تتمتّع به هذه المنطقة الجبلية من الشام من مدارس علمية وتراث فقهي وثروة علمية كبيرة.

ص: 22

والعامل الثاني لهجرة فقهاء جبل عامل إلى إيران هو الاضطهاد الطائفي الذي كان يمارسه حكّام آل عثمان ضدّ الشيعية عموما وضدّ فقهاء الشيعة على الخصوص. فقد سقطت الشام بيد آل عثمان عام 923 ه ، وقضى العثمانيون على نفوذ المماليك قضاء تاما ، واستمرّت بلاد الشام تحت النفوذ العثماني حتّى سقوط الدولة العثمانية.

ورغم الاضطهاد الطائفي الذي كان يمارسه المماليك ضدّ فقهاء الشيعة في الشام ، فقد كان فقهاء الشيعة يتمتّعون بحرّية نسبية في منطقة جبل عامل في ممارسة نشاطهم الثقافي والديني عند ما كان هذا النشاط لا يضرّ بمصالح الدولة.

فلمّا حلّ آل عثمان محلّ المماليك سلبوا من فقهاء الشيعة حتّى هذه المساحة المحدودة من حقّ النشاط العلمي ، وضيّقوا عليهم سبل العمل والحركة من كلّ جانب.

فقد قام السلطان سليم الأوّل بأوسع مذبحة للشيعة في بلاد الأناضول والشرائط الساحلي للبحر الأبيض المتوسّط ، ويقدّر المؤرّخون قتلى الشيعة في هذه المذبحة سبعين ألفا.

وقتل عمّال آل عثمان الفقيه زين الدين العاملي ( الشهيد الثاني ) رحمه اللّه رغم المرونة المذهبية التي كان يمارسها هذا الفقيه الجليل ، فقد كان على صلة وثيقة بالمراكز العلمية السنّية ، وكسب تأييد الاستانة في أن يتولّى المدرسة العلمية النورية في بعلبك ، ولم يستجب لدعوة الصفويين في الهجرة إلى إيران ، رغم ذلك كلّه لم يسلم هذا الفقيه الجليل من سيف الاضطهاد الطائفي ، وقتل على ساحل البحر بطريقة مشجية.

وبسبب هذين العاملين استجاب فقهاء جبل عامل إلى دعوة الصفويين للقدوم إلى إيران ، فقدم من جبل عامل إلى أصفهان جمع كبير من خيار وكبار

ص: 23

فقهاء جبل عامل.

وكان المحقّق الكركي الشيخ نور الدين علي بن الحسين بن عبد العالي الشهير ب- ( المحقّق الثاني ) هو أوّل فقيه من جبل عامل يستجيب لدعوة الصفويين.

التقى المحقّق الكركي بالشاه إسماعيل الصفوي في ( هرات ) عند ما فتح الملك الصفوي هرات في قمة مجده العسكري وانتصاراته وبارك له هذا النصر ، واستقبل الملك المنتصر المحقّق الثاني في نشوة فتوحاته العسكرية باحترام وتقدير كبيرين ، وطلب منه أن ينتقل معه إلى إيران ويتولّى شئون الدولة الشرعية والفقهية بموجب مذهب أهل البيت.

وفي بداية هذا اللقاء لم يخف المحقّق الكركي استياءه من بطش الصفويين بالسنّة في مدينة هرات بعد فتحها والقضاء على دولة الأزبك ، وقد بلغه أنّ الجيش الصفوي قد قتل شيخ الإسلام في هرات سعد الدين التفتازاني صاحب كتاب ( المطوّل في البلاغة ) فقال للملك : - وهو يريد أن ينبّهه إلى خطئه في الاضطهاد الطائفي والفتك بمن يخالفهم في المذهب - لو لم يقتل لأمكن أن يتمّ عليه بالحجج والبراهين حقيقة مذهب الإمامية ويذعن بإلزامه جميع بلاد ما وراء النهر وخراسان (1).

انتقل المحقق الكركي إلى إيران بصحبة الشاه واستغلّ هذه الفرصة أفضل استغلال ، ونشط في تكريس ونشر فقه أهل البيت عليهم السلام في إيران ، وتولّى تعيين العلماء وأئمة الجماعة والقضاة في أطراف البلاد بصورة منظّمة.

وإذا صحّ أنّ الشهيد الأوّل محمد بن مكي رحمه اللّه كان أوّل من مارس تنظيم ارتباط العلماء بالمرجعية وجباية الحقوق الشرعية بصورة منظّمة ، فقد كان

ص: 24


1- مستدرك وسائل الشيعة 3 : 432.

المحقق الكركي أوّل من مارس هذه النظرية في النظم بصورة ميدانية وواسعة في الدولة الصفوية ، مستفيدا من إمكانات النظام والدعم السياسي والمالي الذي كان يتلقّاه من قبل الدولة.

وقد استطاع المحقق الكركي أن يقنع جمعا من زملائه وأصدقائه وتلاميذه في جبل عامل للهجرة إلى إيران والإفادة من هذه الفرصة السانحة لنشر وتكريس فقه أهل البيت عليهم السلام وبسط نفوذ الفقهاء في هذه الدولة الفتية.

ويبدو أنّ المحقق الكركي استطاع أن يحقّق خلال هذه الفترة أهدافه بصورة جيده ، ونجح في بسط نفوذ المؤسسة الفقهية إلى حدّ بعيد ، ممّا جعل البلاط الملكي يتضايق منه بصورة أو باخرى ، وقد أدّى ذلك فعلا إلى برود ملحوظ في علاقة المحقق الكركي ببعض أجنحة البلاط ، فآثر المحقق أن يغادر إيران إلى العراق ، ويعود إلى النجف مرّة اخرى ليعاود نشاطه الفقهي في هذه المدينة المقدّسة بجوار مرقد أمير المؤمنين عليهم السلام.

وقد مكث المحقّق قرابة ستّ سنوات في النجف توفّي خلالها الشاه إسماعيل وخلّف على الملك ابنه طهماسب.

ويبدو أنّ الفراغ الذي خلّفه المحقّق الكركي من بعده أضرّ بالدولة ، وأنّ الجمهور كان يطالب بإلحاح بعودة المحقق الكركي إلى إيران ، ولم يجد الشاه بديلا عن المحقق ممّا جعل طهماسب ابن الشاه إسماعيل يطلب من المحقق العودة إلى إيران لتسلّم منصب شيخ الإسلام في عاصمة ملكه ( اصفهان ). فاستجاب المحقق الكركي لدعوة الملك ورجع إلى أصفهان عاصمة الصفويين بصفة ( نائب الإمام ). وهذه الصفة تمنحه بطبيعة الحال الولاية المطلقة في شئون النظام والامّة وتجعل مشروعية النظام تابعة لإذن الفقيه. وأقرّ النظام الصفوي للمحقق بهذه الولاية المطلقة النائبة عن ولاية الإمام ، وصرّح له الملك

ص: 25

( بأنّ معزول الشيخ لا يستخدم ومنصوبه لا يعزل ) (1).

وكان طهماسب يقول للمحقق الكركي : أنت أولى بهذا الأمر منّي. أنت نائب الإمام وأنا أحد عمّالك الذين يمثّلون أوامرك ونواهيك (2).

ومارس المحقق 1عمله من هذا الموقع الشرعي في فترة من حكومة الشاه طهماسب وكان ينصب الولاة ويعزلهم ويأمرهم بالعدل والإحسان.

يقول السيد نعمة اللّه الجزائري : رأيت مجموعة من أحكام المحقق إلى الحكّام والولاة ، وكانت جميعا تتضمّن الأمر بالعدل إلى الرعايا والإحسان إليهم ، وكان للمحقق الكركي دور كبير في مكافحة الفحشاء والمنكرات وإقامة الفرائض في مواقيتها والأمر بإعلان الأذان في مواقيت الصلاة ، وملاحقة المجرمين والمفسدين في إيران (3).

ولا شكّ أنّ هذا حديث جديد في تأريخ فقه أهل البيت ، ولأوّل مرّة في التأريخ يتصدّى فقيه إمامي لشئون الولاية العامة من موقع السيادة والولاية الشرعية نيابة عن الإمام. وهذا الأمر إن كان معروفا من الناحية النظرية في الفقه الشيعي فهو على الصعيد التنفيذي والتطبيقي حدث جديد بالمعنى الدقيق للكلمة » (4).

ص: 26


1- لؤلؤة البحرين : 272.
2- مفاخر الإسلام ، للشيخ علي دواني 4 : 441.
3- أحسن التواريخ : حوادث سنة 931 ، نقلا عن السيد الجزائري رحمه اللّه.
4- مقدّمة رياض المسائل 1 : 85 - 91.

3

الحركة العلمية في عصر صاحب المعالم

إنّ المحقّق الكركي هو خرّيج مدرسة جبل عامل وقد حذا حذو الشهيد الأوّل في الهجرة إلى دمشق والقدس ومصر لينفتح على فقه المذاهب الأربعة. وقد أتحف المكتبة الفقهية الإمامية بموسوعته القيّمة ( جامع المقاصد ) وهي شرح استدلالي لقواعد العلّامة يمتاز بالتركيز والإيجاز ومتانة الاستدلال والاقتصار على قدر الضرورة من النقض والاستدلال. ويعدّ أحد المصادر التي لا يستغني عن مراجعتها الفقيه حين الاستنباط. وقد اشتهرت دقّة نظر هذا الفقيه حتّى وسم ب- ( المحقّق الثاني ).

والمحقّق الثاني - كما قلنا - هو أوّل فقيه عاملي استجاب لدعوة الصفويين فقدّم إلى أصفهان ومارس تطبيق نظرية ولاية الفقيه بشكل مى دانى واسع في الدولة الصفوية ثمّ غادر إيران إلى العراق ليعاود نشاطه الفقهي قرابة ستّ سنوات ثمّ طلب منه النظام الصفوي الرجوع إلى أصفهان فاستجاب ثانية ومارس عمله بصفة ( نائب الإمام عليه السلام ). وهو أوّل فقيه إمامي تصدّى لشئون الولاية العامة من موقع السيادة الشرعية نيابة عن الإمام عليه السلام.

وبهذا دخل الفقه والفقهاء - الذين استجابوا لدعوة المحقق الثاني - دور التطبيق الاجتماعي والسياسي بمستوى استلام زمام الحكم بصورة ملحوظة وأصبح من مسئولية الفقهاء الإجابة على كثير من الأسئلة التي كان يطرحها الولاة والقضاة وتناولها الفقهاء بالدرس والتأليف ويعدّ ذلك ثروة علمية فقهية مباركة.

ص: 27

وأمّا الشهيد الثاني فقد درس في معاهد جبل عامل ( جبع وميس وكرك نوح ) كما درس في دمشق ومصر وروى عن جماعة من علماء العامة كالعلّامة والشهيد اللذين انفتحا على فقه سائر المذاهب الإسلامية وأقام الشهيد الثاني بالقسطنطينية عام 966 ه ودرّس في المذاهب الخمسة مدّة طويلة وهو أوّل من صنّف من الإمامية في دراية الحديث أكثر من كتاب كما أنّه بلغ غاية الكمال في الأدب والفقه والتفسير والحديث والمعقول والهيئة والحساب والهندسة ، وقد اعتنى بمؤلّفات الشهيد الأوّل بالغ الاعتناء وتبلورت آراؤه الفقهية ومنهجه العلمي بوضوح في كتبه الفقهية الشهيرة : روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الأوّل ومسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام وغيرها كشروح الألفية والنفلية للشهيد. وقد كتب ثلاث رسائل عن صلاة الجمعة وآدابها والحثّ عليها.

والمتأمّل في آثار الشهيد لا يستطيع إنكار تأثّره بالفتوحات الفقهية التي حصلت للفقه الإمامي منذ دخوله دور التطبيق الاجتماعي والسياسي على مستوى إدارة شئون الدولة على يد فقهاء الإمامية كالمحقق الكركي ومن حذا حذوه بعد أن كان قابعا بين سطور الكتب ولم يستطع النمو إلّا على مستوى النظرية.

وقد انتقل تراث الشهيد الثاني - الذي اجتمعت فيه خصائص مدرسة الشهيد الأوّل وما حازته مدرسة أصفهان بعد هجرة علماء جبل عامل إليها - عن طريق تلامذته إلى ولده صاحب المعالم الذي تلقّى العلم من جملة من تلامذة والده كوالد الشيخ البهائي ووالد صاحب المدارك والسيد علي الصائغ الذي هو من أبرز تلامذة الشهيد الثاني وممّن أجاز المولى المقدّس الأردبيلي أيضا.

وأمّا المقدّس الأردبيلي ( م 993 ه ) الذي تتلمذ عنده صاحب المعالم في

ص: 28

مدرسة النجف الأشرف فلم يذكر أصحاب التراجم عن أسماء أساتذته شيئا سوى قولهم أنّه درس عند بعض تلامذة الشهيد الثاني وعند فضلاء العراقين والمشاهد المعظّمة وله الرواية عن السيد علي الصائغ الذي هو من كبار تلامذة الشهيد الثاني. ومع هذا كلّه فقد تميّزت مدرسة المحقق الأردبيلي هذا عن المدارس المعاصرة لها بميزتين معروفتين :

الاولى : هي التحرّر من حصار التبعية للمشهور من الفقهاء والسابقين منهم بالرغم من اشتهاره ب- ( المقدّس ).

والثانية : هي الاعتماد على مبدأ السماح والسهولة في أحكام الشريعة على أساس قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة » ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « يسّروا ولا تعسّروا ».

وقد نشأ صاحب المعالم في هذه المدرسة الفقهية وارتوى من نميرها فيكون قد تأثّر بمدرستين منفتحتين مدرسة جبل عامل ومدرسة المقدّس الأردبيلي ، وفي عصر العهد الصفوي الذي أنزل الفقه الإمامي إلى الساحة الاجتماعية والسياسية على مستوى إدارة دولة وتسيير نظام للحكم في وسط اجتماعي مسلم.

ص: 29

4

حياة صاحب المعالم الشخصية وشخصيته العلمية

اشارة

الشيخ جمال الدين أبو منصور : حسن بن زين الدين بن علي بن أحمد بن محمد بن جمال الدين بن تقي الدين بن صالح ( تلميذ العلّامة الحلّي ) بن أشرف ( أو مشرف ) العاملي النحاريري الجبعي المولود بجبع عشية الجمعة 27 رمضان المبارك عام 959 ه ق المتوفّى في جبع في مفتتح محرّم الحرام سنة 1011 ه ق. وقد استشهد والده وعمره سبع سنوات.

أثنى عليه كلّ من عاصره من أساتذته وطلّابه ومن قارب عصره ممّن تأخّر عنه من أصحاب التراجم والرجال ، وإليك جملة من جمل الثناء عليه :

1 - « وجه من وجوه أصحابنا ثقة عين صحيح الحديث ثبت واضح الطريقة نقيّ الكلام جيّد التصانيف » (1).

2 - « كان عالما فاضلا متبحّرا محقّقا ثقة ثقة فقيها وجيها نبيها محدّثا جامعا للفنون ، أديبا شاعرا زاهدا عابدا ورعا جليل القدر عظيم الشأن كثير المحاسن وحيد دهره ، أعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال .. وكان ينكر كثرة التصنيف مع عدم تحريره ، وكان حسن الخطّ جيّد الضبط عجيب الاستحضار حافظا للرجال والأخبار والأشعار » (2).

3 - « بلغ من التقوى والورع أقصاهما ، ومن الزهد والعبادة منتهاهما ومن

ص: 30


1- نقد الرجال للتفرشي ( م 1015 ه ) كما في أعيان الشيعة 5 : 93.
2- أمل الآمل ، للحرّ العاملي ( م 1104 ه ) 1 : 57.

الفضل والكمال ذروتهما وأسناهما ، وكان لا يجوّز أكثر من قوت اسبوع ( أو شهر ) (1) لأجل القرب إلى مساواة الفقراء والبعد عن التشبّه بالأغنياء » (2).

4 - « شيخ المشايخ الجلّة ورئيس المذهب والملّة ، الواضح الطريق والسنن والموضح الفروض والسنن ، يمّ العلم الذي يفيد ويفيض وخضمّ الفضل الذي لا ينضب ولا يغيض ، المحقّق الذي لا يراع له يراع ، والمدقّق الذي راق فضله وراع ، المتفنّن في جميع الفنون » (3).

5 - « الفقيه الجليل والمحدّث الاصولي ، الكامل النبيل المعروف بصاحب المعالم ، ذو النفس الطاهرة والفضل الجامع والمكارم الباهرة ، هو مصداق قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( الولد سرّ أبيه ) ، بل هو أعلم ، ومظهر المثل السائر : ( ومن يشابه أباه فما ظلم ) ، كان رضى عنه اللّه علّامة عصره وفهّامة دهره ، وهو وأبوه وجدّه الأعلى وجدّه الأدنى وابنه وسبطه قدّس اللّه أرواحهم كلّهم من أعاظم العلماء » (4).

6 - « أمره في العلم والفقه والتبحّر والتحقيق وحسن السليقة وجودة الفهم وجلالة القدر وكثرة المحاسن والكمالات أشهر من أن يذكر » (5).

7 - « ويكفي في علوّ شأنه وجلالته عند شيخه واستاذه المحقّق الأردبيلي ما كتبه له في آخر وصية كتبها لتلميذه ( صاحب المعالم ) بطلب منه ليكون

ص: 31


1- الترديد من صاحب الكلمة وهو حفيد صاحب المعالم الشيخ علي بن محمد بن الحسن بن زين الدين.
2- أعيان الشيعة عن الدرّ المنثور 5 : 92 - 93.
3- سلافة العصر ، للسيد علي خان المدني ( م 1120 ه ).
4- رياض العلماء ، للمولى عبد اللّه أفندي 1 : 225.
5- روضات الجنّات ، للخوانساري 2 : 296.

تذكرة له ونصيحة ، حيث كتب له بعض الأحاديث وكتب في آخرها : كتبه العبد أحمد لمولاه لأمره ورضاه » (1).

نشأته العلمية وأساتذته :

نشأ الشيخ حسن ( صاحب المعالم ) مع ابن اخته وزميله السيد محمد ( صاحب المدارك ) وتلقّيا العلم من تلامذة والده الشهيد الثاني وهم : السيد نور الدين الكبير والد صاحب المدارك ، والسيد علي الصائغ الذي اعتنى بهما عناية كبيرة تحقيقا لدعاء والده الشهيد الذي طلب من اللّه سبحانه أن يرزقه ولدا ويتولّى هذا السيد الفاضل تربيته وتولّى السيد علي الصائغ تربيتهما وقرءا عليه أكثر العلوم التي استفادها من الشهيد الثاني من معقول ومنقول وفروع واصول وعربية ورياضيات.

ومن تلامذة الشهيد الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي حيث أجاز الشيخ حسن بتأريخ 983 ه.

وقد ذكر أصحاب التراجم أنّ المولى عبد اللّه اليزدي صاحب الحاشية المعروفة في المنطق قد درّس الشيخ حسن والسيد محمد المنطق والرياضيات - في جبل عامل أو النجف - وقرأ هو عليهما الفقه والحديث.

وهاجرا إلى العراق ولم يبقيا في النجف إلّا مدّة قليلة لعلّها سنتان أو أكثر حيث قرءا على المولى المقدّس الأردبيلي بعض المتون الاصولية والفقهية التي لها دخل في الاجتهاد بمقدار ما يهمّ الفقيه معرفته من منطق واصول وفقه في

ص: 32


1- أعيان الشيعة ، للسيد محسن الأمين العاملي 5 : 93 ، ومقدّمة منتقى الجمان عن حدائق المقرّبين.

حلقة خاصة بهما وباسلوب يختلف عن الأساليب الموروثة في التحصيل.

وكان طلبة الأردبيلي يسخرون منهما اسلوبهما في التحصيل وكان الأردبيلي يشير إلى أنّهما سوف يعود ان إلى بلدهما مجتهدين ويؤلّفان الكتب التي سوف تصبح مدارا ومحورا للتدريس ، وبالفعل كان الأمر كذلك إذ رجعا إلى جبل عامل وألّف الشيخ حسن ( معالم الدين وملاذ المجتهدين ) قبل وفاة استاذه الأردبيلي ( 993 ه ) ومقدّمته هي من خيرة الكتب الدراسية الاصولية ، والمعالم هو الكتاب الاصولي الأوّل الذي لا زال يدرّس إلى عصرنا الحاضر في الحوزات العلمية الإمامية. كما ألّف السيد محمد ( مدارك الأحكام ) وهو كتاب فقهي يشار إليه بالبنان.

ص: 33

5

مدرسة صاحب المعالم

1 - نشاطه العلمي :

اشارة

يمكن تصنيف النشاط العلمي للشيخ حسن بن زين الدين العاملي إلى نشاط تدريسي وآخر تأليفي.

أ - تلامذته والراوون عنه :

وقد أثمر النشاط التدريسي مجموعة من الفقهاء والطلّاب الذين جاء ذكرهم أو ذكر بعض منهم في كتب التراجم ، منهم :

1 - نجيب الدين علي بن محمد بن مكي بن عيسى بن حسن العاملي الجبيلي ثم الجبعي.

2 - الشيخ عبد اللطيف بن محيي الدين العاملي.

3 - الشيخ عبد السلام بن محمد الحرّ العاملي عمّ صاحب الوسائل.

4 - الشيخ حسين بن الحسن الظهيري العاملي.

5 - السيد نجم الدين بن محمد الموسوي السكيكي ( يروي عنه إجازة ولا يعلم أقرأ عليه أم لا ).

6 - الشيخ موسى بن علي الجبعي ( ويظنّ أنّه من تلاميذه إذ توجد بخطّه نسخة التحرير الطاوسي في الخزانة الرضوية ، كتبه سنة 1011 ه وهي سنة وفاة المؤلّف صاحب المعالم ).

7 - الشيخ أبو جعفر محمد ابن صاحب المعالم وله منه إجازة بتأريخ 990 ه.

8 - الشيخ أبو الحسن علي وهو الآخر ابن صاحب المعالم وله منه إجازة

ص: 34

بتأريخ 990 ه أيضا.

ب - مؤلّفاته :
اشارة

1 - التحرير الطاوسي ( في علم الرجال ) فرغ منه سنة 991 ه.

2 - حواشي الخلاصة ( في علم الرجال ).

3 - ترتيب مشيخة من لا يحضره الفقيه ، ابتدأ به في النجف وفرغ منه في رمضان سنة 982.

4 - منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان ( في الحديث ).

5 - الحواشي على الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار ( في الحديث ).

6 - شرح ألفية الشهيد.

7 - مناسك الحجّ.

8 - الاثنا عشرية في الطهارة والصلاة.

9 - رسالة في عدم جواز تقليد الميّت.

10 - مشكاة القول السديد في تحقيق معنى الاجتهاد والتقليد.

11 - حاشية مبسوطة على المختلف للعلّامة.

12 - شرح مبسوط للّمعة الدمشقية ( وهو غير حواشي شرح اللمعة ).

13 - جواب المسائل المدنيات الاولى والثانية والثالثة.

14 - شرح اعتقادات الصدوق.

15 - كتاب الإجازات.

16 - إجازة كبيرة معروفة.

17 - ديوان شعر كبير.

18 - معالم الدين وملاذ المجتهدين ( في الاصول والفقه ) فرغ منه سنة 994 ه.

ص: 35

التعريف بمؤلّفاته وشروحها :

قال المحدّث البحراني في ( لؤلؤة البحرين ) : « إنّ تصانيف الشيخ حسن على غاية من التحقيق والتدقيق ».

1 - التحرير الطاوسي : ألّف السيد جمال الدين أحمد بن موسى بن طاوس الحسني كتابا في الرجال جمع فيه ما في الاصول الرجالية الخمسة ( رجال النجاشي وفهرست ورجال الطوسي واختيار معرفة رجال الكشي للطوسي أيضا وكتاب الضعفاء لابن الغضائري ). وكان ابن طاوس قد حرّر كتاب الاختيار وهذّب أخباره متنا وسندا ووزّعها في كتاب ( حلّ الإشكال ) على التراجم ، فلمّا ظفر صاحب المعالم بكتاب ( حلّ الإشكال ) ورآه مشرفا على التلف انتزع منه ما حرّره ابن طاوس ووزّعه في أبوابه من كتاب الاختيار خاصّة وسمّاه التحرير الطاوسي.

فالتحرير الطاوسي عبارة عن جمع ما حرّره ابن طاوس وهذّبه من كتاب الكشي خاصة دون ما عداه وإيداعه في كتاب واحد مسمّى بهذا الاسم. وقد أضاف إليه صاحب المعالم في المتن والحواشي فوائد كثيرة (1).

2 - منتقى الجمان : لم يخرج منه غير العبادات ، أبان فيه عن فوائد جليلة وجعل له مقدمة مفيدة واقتصر فيه على إيراد الصحاح والحسان من الأخبار على طريقة كتاب ( الدرّ والمرجان ) للعلّامة الحلّي ، فإنّه كان لا يعمل بغيرهما ، وكان يعرب أحاديثه بالشكل عملا بالحديث الذي رواه الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أعربوا حديثنا فإنّا قوم فصحاء (2).

ص: 36


1- أعيان الشيعة 5 : 96.
2- أعيان الشيعة 5 : 92 و 96.

3 - شرح ألفية الشهيد محمد بن مكّي العاملي المشتملة على ألف واجب في الصلاة.

4 - مناسك الحجّ : صنّفها في طريق مكّة وافتتحها بآداب السفر وثنّى بأعمال المدينة المنوّرة عكس المتعارف معتذرا بأنّه زارها قبل مكّة المكرّمة ، وطريقته فيها أن يذكر الحكم ودليله من الأخبار الصحيحة أو الحسنة.

5 - الاثنا عشرية في الطهارة والصلاة : فرغ منها في 26 جمادى الاولى سنة 989 ه ، وشرحها جماعة منهم : الشيخ البهائي ، والشيخ نجيب الدين علي ابن محمد بن مكّي ، والسيد نجم الدين بن محمد الموسوي السكيكي ، والشيخ محمد ابن صاحب المعالم ، والأمير فضل اللّه التفريشي ، والشيخ فخر الدين الطريحي ، والسيد شرف الدين علي بن حجّة اللّه الشولستاني (1).

6 - معالم الدين وملاذ المجتهدين : له مقدمة تتضمّن تحرير مباحث اصول الفقه وتعرف بمعالم الاصول أو معالم الدين وطبعت مستقلّة ، إذ عليها المعوّل في التدريس إلى يومنا هذا بعد ما كان التدريس في الشرح العميدي على تهذيب العلّامة والحاجبي والعضدي ، وعلى هذه المقدمة حواش وشروح كثيرة منها : حاشية لولده الشيخ محمد ، وحاشية سلطان العلماء ، وحاشية الملّا صالح المازندراني ، وحاشية للمدقّق الشيرواني ، ومجموعة حواش وتعليقات للوحيد البهبهاني ، وحاشية مفصّلة للشيخ محمد تقي الأصفهاني كبيرة مطبوعة ، وحاشية للشيخ محمد طه نجف وغيرهم.

وأمّا أصل الكتاب فهو كتاب فقهي استدلالي استقضى فيه الآراء والأدلّة ورتّبه بشكل بديع : القسم الأوّل في العبادات وفيه كتب ، والكتاب الأوّل في

ص: 37


1- أعيان الشيعة 5 : 97.

الصلاة وفيه أبواب ، والباب الأوّل في المقدّمات وفيه مقاصد ، والمقصد الأوّل في الطهارة وفيه مطالب ، والمطلب الأوّل في المياه وفيه مقامان : المقام الأوّل في المطلق والثاني في المضاف. والمطلب الثاني في الطهارة من النجاسات ، والمطلب الثالث في الطهارة من الأحداث.

ولم يتمّ منه سوى مباحث المياه والطهارة من الخبث ، وهو الكتاب الذي بين يديك.

ولم نعثر على شرح أو تعليقة على هذا المتن خلافا لما نراه من شروح وتعليقات على المقدمة في ( علم الاصول ).

2 - منهجه وملامح مدرسته :

ذهب صاحب المعالم إلى أنّ خبر الواحد العاري عن القرائن المفيدة للعلم حجّة إذا كان جامعا للشرائط التي منها إيمان الراوي وعدالته وضبطه وأنّ العدالة إنّما تعرف بالاختبار بالصحبة المؤكّدة والملازمة بحيث تظهر أحواله ويحصل الاطّلاع على سريرته حيث يكون ذلك ممكنا ومع عدمه باشتهارها بين العلماء وأهل الحديث وبشهادة القرائن المتكثّرة المتعاضدة ، وبالتزكية من العالم بها ، ولا يقبل في التزكية إلّا شهادة العدلين (1).

والمعروف عنه أنّه يلتزم بحجية الأخبار الصحاح والحسان فقط ، والصحيح عنده هو ما قامت عليه الشهادة الشرعية التي تتمّ بواسطة عدلين. ومن هنا يختلف الصحيح عنده عن الصحيح عند المشهور.

ولهذا صنّف كتابه منتقى الجمان حيث جمع فيه الأخبار الصحاح والحسان

ص: 38


1- راجع الأصل 5 من المطلب السادس من المقدمة ( معالم الاصول ).

وصنّفهما إلى ثلاث درجات :

1 - الصحيح عنده ( الصحيح الأعلائي ).

2 - والصحيح عند المشهور.

3 - والحسن.

وقد أدّى هذا المسلك الذي سلكه ووافقه فيه صاحب المدارك إلى ردود فعل قوية تجلّت في حركة الأخباريين فيما بعد حيث ذهبوا إلى حجية كلّ الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة على عكس ما قام به المحقق صاحب المعالم من تهذيب أحاديث الكتب الأربعة وتضييق دائرة الحجية في هذه الموسوعات الحديثية الإمامية المهمّة حتّى انتقدهما صاحب الحدائق ( المحدّث البحراني ) بعنف قائلا : « وأنت خبير بأنّا في عويل من أصل هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح حيث إنّ اللازم منه لو وقف عليه أصحابه فساد الشريعة .. » (1).

هذا وقد ناقشه السيد محسن الأمين العاملي بتفصيل بعد نقل كلامه وبيان ما يذهب إليه ، فراجع (2).

وقد اهتمّ صاحب المعالم بعلم الاصول حتّى اعتبره أهمّ العلوم للمجتهد وقد سعى لتنقيح المباحث الاصولية والاهتمام بما له دخل في الاجتهاد منها. ومن هنا صار كتابه ( مقدمة المعالم ) محورا للتدريس إلى يومنا هذا لسلاسته ودقّته ونظمه وحذفه للبحوث الزائدة بحسب حاجة ذلك العصر.

وأمّا في الفقه فقد تأثّر صاحب المعالم بمدرسة الشهيدين ومدرسة المقدّس

ص: 39


1- لؤلؤة البحرين 46 - 47.
2- أعيان الشيعة 5 : 92 - 93.

الأردبيلي وجمع بين كمالاتهما بالإضافة إلى حسن سليقته واعتدالها ويشهد لذلك ما ذكره في مبحث النية من مناسك الحجّ ، وما ذكره في مبحث الطواف وغيره ممّا يشير إلى سلامة ذوقه وتفهّمه إلى مداليل الأخبار معتمدا مبدأ السهولة التي جاء التصريح بها في الآيات البيّنات والأحاديث المأثورة من أنّ أحكام الإسلام بنيت على عدم الحرج.

هذا بالإضافة إلى اعتماده الدليل في كلّ مسألة وعدم الالتزام بمجرّد ما يلتزم به المشهور إن لم يكن لرأيهم دليل يعتمد عليه.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نضيف إلى منجزات مدرسة جبل عامل أهمّ ما أنجزه المحقّق الشيخ حسن بن زين الدين العاملي نفسه من منجزات تعدّ نتاجا طبيعيا لمدرسة الحلّة التي تجسّدت في تراث جبل عامل عبر مدرسة النجف الأشرف وهي :

1 - تنقيح أحاديث الكتب الأربعة.

2 - تنقيح وتنظيم المباحث الاصولية.

3 - تطبيق مبدأ السهولة والتحرّر من سلطة المشهور.

ص: 40

قيمة الكتاب العلمية

إنّ مقدّمة كتاب المعالم التي مثلث دورة اصولية استدلالية كاملة في عصر المؤلّف هي التي أدّت إلى اشتهار المؤلّف وخلود ذكره ؛ لما اتّسم القسم الاصوليّ من كتابه بالمنهجية ، ووضوح التعبير ، وإحكام البيان ، والإحاطة بالآراء وأدلّتها حتّى عصر المؤلّف ، وقوّة النقد ، والاهتمام بالمناقشات ، التي تستحقّ الاهتمام ؛ لغرض الكشف عن الحقيقة وتربية الذهنية الاصولية عند الفقيه.

إنّ هذه السمات بالرغم من انسحابها على القسم الفقهي من الكتاب ولكنّه لم يشتهر كاشتهار القسم الاصولي منه ، ولعلّ ذلك يعود إلى وجود كتب فقهية ممتازة بكونها تمثّل دورة فقهية كاملة بينما لم يوفّق المؤلّف حتّى إلى إتمام مباحث كتاب الطهارة ، بالاضافة إلى أنّ الحوزات العلمية كانت تميل إلى اختيار الكتب التي تتمتّع بنوع من التعقيد في العبارة والإيجاز في البحث كتبا دراسية ليضطرّ الطالب إلى التأمّل والتدقيق لحلّ الألغاز والعبائر المشكلة ترويضا للذهن وإعدادا للطالب لممارسة عملية الاجتهاد الفكري في حقلي الفقه والاصول ، بينما نجد المعالم سلس البيان واضح العبارة خاليا من التعقيد ، ينال المطالع منه بغيته بسرعة فائقة ولا يحتاج إلى التأمّل الكثير لفهم مقاصد المؤلّف ومناقشاته للآراء المخالفة لرأيه.

ومع هذا كلّه فإنّا نجد عند من تأخّر عن صاحب المعالم الاهتمام بآرائه التي جاءت في فقه المعالم كالعلّامة المجلسي في كتاب الطهارة من حقل الفقه لبحار الأنوار ، وكالشيخ مرتضى الأنصاري (1281) في كتاب الطهارة من موسوعته الفقهية .. وهذا ممّا يشير إلى أهمية المؤلّف وأهمية آرائه التي سجّلها في معالمه.

ص: 41

منهجية كتاب المعالم

يتّضح لمن يطالع فقه المعالم أنّ المؤلّف قد اتّبع منهجا فريدا في بحوثه حيث اهتمّ بموارد الخلاف عند الإمامية ولم يتوقّف عند المسائل الواضحة والمتّفق عليها بين الفقهاء الإمامية.

كما إنّه يستشهد بآيات القرآن الكريم ويستدلّ بها في كلّ مورد تدلّ عليه محكمات الكتاب متجنّبا المناقشات التي لا طائل تحتها.

وإن كان هناك إجماع يعتمد عليه أشار إليه ، وإلّا عطف عنان القلم إلى النصوص الروائية التي يصحّ الاحتجاج بها عنده. ويلتفت في كلّ نصّ يستدلّ هو به أو يكون الآخرون قد استدلّوا به إلى السند والدلالة معا فيقوّمهما معا ثمّ يلاحظ تعارض النصوص ويحاول تقديم رأيه في الجمع بينها أو تقديم بعضها على بعض.

كما إنّه يبدأ الموضوع في كلّ مسألة ويردفه ببيان الحكم إن كان متّفقا عليه ، وإلّا فيذكر المشهور أو الأشهر ثمّ يذكر الآراء الاخرى وقد يبدأ بأدلّة الخصم ثمّ يناقشها ثمّ ينتهي إلى الرأي المختار ، وقد يعكس الأمر في موارد اخرى فيبدأ بذكر رأيه وأدلّته ثمّ يذكر الآراء الاخرى وأدلّتها ثمّ يناقشها. ويختلف المنهج من مسألة إلى اخرى من هذه الجهة باعتبار أنّه قد يكون الأصل هو ما ذهب إليه من الرأي ويكون خلافه بحاجة إلى الدليل فيركّز جهده على ذكر أدلّة الخصم ومناقشتها ليسير بالقارئ ممّا عليه الآخرون إلى ما ينبغي الاعتقاد به.

ولا ننسى اهتمام المؤلّف بآرائه ومبانيه في علم الاصول في بحثه الفقهي

ص: 42

هذا وإليها يرجع القارئ عند الحاجة. ومن هنا فقد رأينا أن نذكر آراءه الاصولية في مقدّمة الكتاب مجرّدة عن الاستدلال ليستغني الباحث عن الرجوع إلى معالم الاصول المطبوع مستقلا عن فقه المعالم حتّى يومنا هذا.

ص: 43

النسخ المعتمدة لكتاب « معالم الدين »

اعتمدنا على ثلاث نسخ لكتاب « معالم الدين وملاذ المجتهدين » في الفقه ، وهي كما يلي :

أ - النسخة الخطية المرقّمة ب- 4585 في المكتبة العامة لآية اللّه العظمى النجفي المرعشي قدس سره بقم. وقد أعطيناها رمز « أ » وهي أقل النسخ الثلاثة أخطاء.

وعليها تأريخ الفراغ من تأليف هذا الجزء من الكتاب بقلم المؤلف ( حسن ابن زين الدين بن علي الشامي العاملي : سحر ليلة الأحد الثانية من ربيع الثاني سنة أربع وتسعين وتسعمائة ) وتأريخ الفراغ من استنساخها بيد حسن ابن أحمد بن محمد بن علي بن سنبغ العاملي : ضحى يوم الإثنين الثامن والعشرون من شهر رمضان المبارك سنة ألف وواحد من الهجرة النبوية.

وفي هامش الصفحة الأخيرة تأريخ انتهاء المعارضة ( المقابلة ) لهذه النسخة بأصل خطّ المصنّف ( أدام اللّه أيّامه ) : أوّل نهار الخميس تاسع شوّال عام واحد وألف من الهجرة النبوية ، بتوقيع ( علي المشتهر بنجيب الدين بن محمد ابن مكي بن عيسى بن حسن بن عيسى العاملي الجبيلي ).

وعليها تملّك محمود بن حسام الدين المشرقي الجزائري بتأريخ ذي الحجة 1030 ومحمد شريف بن فلاح الكاظميني.

وتقع في 199 صفحة 23 سطرا.

ب - النسخة الخطية المرقمة ب- 7179 في المكتبة العامة لآية اللّه العظمى النجفي المرعشي قدس سره أيضا ، ورمزنا لها ب- « ب ». وتأريخ نسخها سنة 1245 بيد موسى بن قاسم الأصفر الكاظمي ، وعليها تملّك حسين بن محمد

ص: 44

الطباطبائي سنة الاستكتاب 1244 ه ، وتقع في 185 25 سطرا.

ج - النسخة المطبوعة بالطبعة الحجرية والموجودة نسخة منها في مكتبة آية - اللّه المرعشي النجفي أيضا.

ص: 45

الصورة

ص: 46

الصورة

ص: 47

الصورة

ص: 48

الصورة

ص: 49

الصورة

ص: 50

الصورة

ص: 51

أسلوبنا في التحقيق

بعد الاستنساخ وإتمام المقابلة بين النسخ الثلاث حذفنا ما قطعنا بخطئه فلم نشر إلى أخطاء النسخ بل اقتصرنا على ذكر ما يحتمل صحّته ممّا جاء في النسخ الثلاث ورجّحنا الأنسب إلى اسلوب المؤلف وأدبه وبلاغته فجعلناه في المتن وأشرنا إلى غيره في الهامش.

كما صحّحنا ما جاء منقولا عن القرآن الكريم وكتب الحديث أو كتب الفقه أو غيرها على أساس المصدر المنقول منه إن كانت له نسخة محقّقة ، وإن لم تكن له نسخة محقّقة وكان المنقول خطأ بيّنا اتّبعنا الصحيح الذي جاء في المصدر. وإن احتملنا صحّة ما جاء في متن الكتاب باعتبار عدم صحّة ما جاء في المصدر أو احتملنا وجود نسخة اخرى عند المؤلف من المصدر أثبتنا ما جاء في المصدر والكتاب في المتن والهامش لاحتمال وجود فائدة للمراجع إذا اطّلع على مثل هذا الاختلاف.

وحاولنا تخريج الأقوال والأحاديث على أساس النسخ المحقّقة إن كانت صادرة حين التحقيق ، وإلّا فقد اكتفينا بالإشارة إلى النسخ الحجرية الموجودة ، وعلى المراجع أن يلاحظ الفهرس الألفبائي لمصادر التحقيق ليقف على الطبعة التي رجعنا إليها.

وختاما نقدّم شكرنا الجزيل لكلّ الإخوة الأفاضل الذين شاركونا في الاستنساخ والمقابلة والاستخراج والإخراج الفنيّ للكتاب بعد انتهائنا من تحقيقه ( عبر تقطيع النصّ وضبطه وترجيح الصحيح أو الأصحّ والأنسب عند اختلاف النسخ أو إجمالها ).

ص: 52

وكلّ ما أضفناه على نسخة المؤلف قد جعلناه بين معقوفتين [ ] ليكون مرشدا للمراجع إلى أنّ ما قد أضفناه - توضيحا أو حفظا للتناسق - إنّما هو تسهيل للقارئ وإعانة له كي يصل إلى الغرض بأيسر طريق إن شاء اللّه تعالى ، واللّه من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

السيّد منذر الحكيم

12 ذو الحجّة الحرام 1416 ه ق

ص: 53

ص: 54

الفهرس الإجمالي

مقدّمة المؤلف... 57

سبب ومنهج التأليف... 59

علم الفقه ومرتبته وموضوعه ومسائله... 84

مهمّات المباحث الاُصولية... 95

القسم الأوّل : العبادات... 115

الكتاب الأوّل : الصلاة... 115

الباب الأوّل : مقدّمات الصلاة... 115

المقصد الأوّل : الطهارة وفيه ثلاث مطالب:... 115

المطلب الأوّل : في المياه ، وفيه مقامان :... 117

المقام الأوّل : الماء المطلق... 119

المقام الثاني : المضاف... 411

المطلب الثاني : الطهارة من النجاسات... 435

الفصل الأوّل : أصناف النجاسات... 437

الفصل الثاني : أحكام النجاسات... 569

الفصل الثلاث : أحكام الخلوة وآداب الحمّام والاستطابة... 819

مصادر الكتاب ومراجع التحقيق... 931

الفهرس التفصيلي... 435 / 939

ص: 55

ص: 56

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله المتعالي في عزّ جلاله عن مطارح الأفهام فلا يحيط بكنهه العارفون ، المتقدّس بكمال ذاته عن مشابهة الأنام فلا يبلغ صفته الواصفون ، المتفضّل بسوابغ الإنعام فلا يحصي نعمه العادّون ، المتطوّل بالمنن الجسام فلا يقوم بواجب شكره الحامدون ، القديم الأبدي فلا أزلي سواه ، الدائم السرمدي فكل شي ء مضمحلّ عداه.

أحمده سبحانه حمدا يقرّبني إلى رضاه ، وأشكره شكرا أستوجب به المزيد من مواهبه وعطاياه ، وأستقيله من خطاياي استقالة عبد معترف بما جناه ، نادم على ما فرّط في جنب مولاه وأسأله العصمة من الخطأ والخطل ، والسداد في القول والعمل.

وأشهد أن لا إله إلّا اللّه ، وحده لا شريك له ، الكريم الذي لا تخيب لديه الآمال ، القدير فهو لما يشاء فعّال.

وأشهد أن محمّدا عبده ، ورسوله ، المبعوث لتمهيد قواعد الدين ، وتهذيب مسالك اليقين ، الناسخ بشريعته المطهّرة شرايع الأولين. والمرسل بالإرشاد والهداية رحمة للعالمين ، صلى اللّه عليه وآله الهداة المهديّين ، وعترته الكرام الطيّبين ، صلاة ترضيهم وتزيد على منتهى رضاهم ، وتبلغهم غاية مرادهم

ص: 57

ونهاية مناهم وتكون لنا عدّة وذخيرة يوم نلقى اللّه سبحانه ونلقاهم ، وسلّم تسليما.

وبعد :

فإنّ أولى ما أنفقت في تحصيله كنوز الأعمار ، وأطالت التردّد بين العين والأثر في معالمه الأفكار ، هو العلم بالأحكام الشرعية والمسائل الفقهية.

ولعمري ، إنّه المطلب الذي يظفر بالنجاح طالبه ، والمغنم الذي يبشّر بالأرباح كاسبه ، والعلم الذي يعرج بحامله إلى الذروة العليا ، وتنال به السعادة في الدار الاخرى.

ولقد بذل علماؤنا السابقون ، وسلفنا الصالحون ، رضوان اللّه عليهم أجمعين ، في تحقيق مباحثه جهدهم ، وأكثروا في تنقيح مسائله كدّهم.

فكم فتحوا فيه مقفلا ببنان أفكارهم!! وكم شرحوا منه مجملا ببيان آثارهم!! وكم صنفوا فيه من كتاب يهدي في ظلم الجهالة إلى سنن الصواب!!

فمن مختصر كاف في تبليغ الغاية ، ومبسوط شاف يتجاوزه النهاية ، وإيضاح يحمل من قواعده المشكل ، وبيان يكشف من سرائره المعضل ، وتهذيب يوصل من لا يحضره الفقيه بمصباح الاستبصار إلى مدينة العلم ، ويجلو بإثارة مسالكه عن الشرائع ظلمات الشكّ والوهم ، وذكرى دروس مقنعة في تلخيص الخلاف والوفاق ، وتحرير تذكرة هي منتهى المطلب في الآفاق ، ومهذّب جمل يسعف في مختلف الأحكام بكامل الانتصار ، ومعتبر مدارك تحسم مواد النزاع من صحيح الآثار ، ولمعة روض يرتاح لتمهيد اصوله الجنان ، وروضة بحث تدهش بإرشاد فروعها الأذهان!!! فشكر اللّه تعالى سعيهم ، وأجزل من جوده مثوبتهم وبرّهم.

وحيث كان من فضل اللّه علينا ، أن أهّلنا لاقتفاء آثارهم أحببنا الاسوة

ص: 58

بهم في أفعالهم. فشرعنا بتوفيق اللّه تعالى في تأليف هذا الكتاب ، الموسوم ب- « معالم الدين وملاذ المجتهدين ». وجدّدنا به معاهد المسائل الشرعية ، وأحيينا به مدارس المباحث الفقهية ، وشفعنا فيه تحرير الفروع بتهذيب الاصول ، وجمعنا بين تحقيق الدليل والمدلول ، بعبارات قريبة إلى الطباع ، وتقريرات مقبولة عند الاسماع ، من غير إيجاز موجب للإخلال ، ولا إطناب معقّب للملال.

وأنا أبتهل إلى اللّه سبحانه ، أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأتضرّع إليه أن يهديني حين تضلّ الأفهام إلى المنهج القويم ، ويثبتني حيث تزلّ الأقدام على صراطه المستقيم.

وقد رتّبنا كتابنا هذا ، على مقدمه وأقسام أربعة.

والغرض من المقدمة منحصر في مقصدين :

ص: 59

ص: 60

المقصد الأوّل : في بيان فضيلة العلم

اشارة

وذكر نبذ مما يجب على العلماء مراعاته

وبيان : زيادة شرف علم الفقه على غيره

ووجه الحاجة إليه - وذكر حده - ومرتبته.

وبيان : موضوعه - ومباديه - ومسائله.

ص: 61

ص: 62

اعلم أنّ فضيلة العلم ، وارتفاع درجته ، وعلوّ رتبته أمر كفى انتظامه في سلك الضرورة مئونة الاهتمام ببيانه.

غير أنّا نذكر على سبيل التنبيه ، شيئا في هذا المعنى ، من جهة العقل والنقل ، كتابا وسنّة ، مقتصرين على ما يتأدّى به الغرض ؛ فإنّ الاستيفاء في ذلك يقتضي تجاوز الحدّ ، ويفضي إلى الخروج عمّا هو المقصد.

فأمّا الجهة العقلية : فهي أنّ المعقولات تنقسم إلى موجودة ومعدومة ، وظاهر أنّ الشرف للموجود ، ثم الموجود ينقسم إلى جماد ونام ، ولا ريب أنّ النامي أشرف ، ثم النامي ينقسم إلى حسّاس وغيره ، ولا شكّ أنّ الحسّاس أشرف ، ثمّ الحسّاس ينقسم إلى عاقل وغير عاقل ، ولا ريب أنّ العاقل أشرف ، ثمّ العاقل ينقسم إلى عالم وجاهل ، ولا شكّ أنّ العالم أشرف ، فالعالم حينئذ أشرف المعقولات.

ص: 63

فصل : [ فضل العلم في الكتاب ]

وأمّا الكتاب الكريم فقد اشير إلى ذلك في مواضع منه :

« الأوّل » : قوله تعالى في سورة العلق - وهي أوّل ما نزل على نبيّنا صلوات اللّه عليه وآله في قول أكثر المفسّرين ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (1).

حيث افتتح كلامه المجيد ، بذكر نعمة الإيجاد ، وأتبعه بذكر نعمة العلم ، فلو كان بعد نعمة الإيجاد نعمة أعلى من العلم لكانت أجدر بالذكر.

وقد قيل في وجه التناسب بين الآي - المذكورة في صدر هذه السورة ، المشتمل بعضها على خلق الإنسان من علق ، وبعضها على تعليمه ما لم يعلم - : إنّه تعالى ذكر أوّل حال الإنسان أعني كونه علقة ، وهي بمكان من الخساسة ، وآخر حاله وهو صيرورته عالما ، وذلك كمال الرفعة والجلالة.

فكأنّه سبحانه قال : كنت في أوّل أمرك ، في تلك المنزلة الدنيّة الخسيسة ، ثم صرت في آخره إلى هذه الدرجة الشريفة النفيسة.

ص: 64


1- العلق (96) : 1 - 5.

« الثاني » : قوله تعالى ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا .. ) (1).

فإنّه سبحانه ، جعل العلم علّة لخلق العالم العلوي والسفلي طرّا ، وكفى بذلك جلالة وفخرا.

« الثالث » : قوله سبحانه ( .. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً .. ) (2).

فسّرت الحكمة بما يرجع إلى العلم.

« الرابع » : قوله تعالى ( .. هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (3).

« الخامس » : قوله تعالى ( .. إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ .. ) (4).

« السادس » : قوله سبحانه ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ .. ) (5).

« السابع » : قوله تعالى ( .. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ .. ) (6).

« الثامن » : قوله تعالى ( .. قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ

ص: 65


1- الطارق (65) : 12.
2- البقرة (2) : 269.
3- الزمر (39) : 9.
4- فاطر (35) : 28 ).
5- آل عمران (3) : 18.
6- آل عمران (3) : 7.

الْكِتابِ ) (1)

« التاسع » : قوله تعالى ( .. يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ .. ) (2).

« العاشر » : قوله تعالى - مخاطبا لنبيّه عليه وآله الصلاة والسلام ، آمرا له مع ما آتاه من العلم والحكمة - ( .. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) (3).

« الحادي عشر » : قوله تعالى ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ .. ) (4).

« الثاني عشر » : قوله تعالى ( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) (5).

ص: 66


1- الرعد (13) : 43.
2- المجادلة (58) : 11.
3- طه (20) : 114.
4- العنكبوت (29) : 49.
5- العنكبوت (29) : 43.

فصل : [ فضل العلم في السنّة ]

وأمّا السنّة : فهي في ذلك كثيرة لا تكاد تحصى.

فمنها : ما أخبرني به - إجازة - عدة من أصحابنا ، منهم : السيد الجليل ، شيخنا نور الدين ، علي بن الحسين ، بن أبي الحسن الحسيني الموسوي أدام اللّه تأييده ، والشيخ الفاضل عز الدين الحسين بن عبد الصمد الحارثي قدّس روحه ، [ والسيد العابد نور الدين ، علي بن السيد فخر الدين الهاشمي ] (1).

يحق روايتهم إجازة : عن والدي السعيد الشهيد ، زين الملّة والدين ، رفع اللّه درجته كما شرّف خاتمته.

عن شيخه الأجلّ ، نور الدين ، عليّ بن عبد العالي الميسي.

عن الشيخ شمس الدين ، محمد بن المؤذن ، الجزيني.

عن الشيخ ضياء الدين ، علي بن شيخنا الشهيد.

عن والده قدّس اللّه سرّه.

عن الشيخ فخر الدين ، أبي طالب محمد ، بن الشيخ الإمام العلّامة ، جمال الملّة والدين ، الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي.

ص: 67


1- هذه الزيادة نقلها الاستاذ البقال عن نسخة أحمد شاهمير.

عن والده رضى عنه اللّه.

عن شيخه المحقق السعيد ، نجم الملّة والدين ، أبي القاسم جعفر ، بن الحسن ، ابن يحيى ، بن سعيد قدّس اللّه نفسه.

عن السيد الجليل ، شمس الدين فخار بن معد الموسوي.

عن الشيخ الفقيه الإمام ، أبي الفضل [ بن ] شاذان بن جبرائيل القمي.

عن الشيخ الفقيه ، العماد أبي جعفر ، محمد بن أبي القاسم الطبري.

عن الشيخ أبي علي ، الحسن بن الشيخ السعيد الفقيه ، أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي.

عن والده رضى اللّه عنه.

عن الشيخ الإمام المفيد ، محمد بن النعمان.

عن الشيخ أبي القاسم ، جعفر بن محمد ، بن قولويه.

عن الشيخ الجليل الكبير ، أبي جعفر ، محمد بن يعقوب الكليني.

عن علي بن إبراهيم.

عن أبيه.

عن حمّاد بن عيسى.

عن عبد اللّه بن ميمون القداح.

[ ح ] : وعن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن الحسن ، وعلي بن محمد.

عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن عبد اللّه بن ميمون القداح.

ح : وعن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن جعفر ابن محمد الأشعري ، عن عبد اللّه بن ميمون القداح ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال :

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « من سلك طريقا يطلب فيه علما ، سلك اللّه به طريقا إلى

ص: 68

الجنّة ، وأنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به ، وأنّه ليستغفر لطالب العلم من في السماوات ومن في الأرض ، حتى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على ساير النجوم ليلة البدر ، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء. إنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورّثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر » (1).

وبالإسناد ، عن الشيخ المفيد ، محمد بن النعمان ، عن الشيخ الصدوق ، أبي جعفر ، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي رحمه اللّه ، عن أبيه.

عن سعد بن عبد اللّه ، عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، عن يونس ابن عبد الرحمن ، عن الحسن بن زياد العطار ، عن سعد بن ظريف ، عن الأصبغ ابن نباتة ، قال :

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « تعلّموا العلم ، فإنّ تعلّمه حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة.

وهو عند اللّه لأهله قربة ؛ لأنّه معالم الحلال والحرام ، وسالك بطالبه سبل الجنّة ، وهو أنيس في الوحشة ، وصاحب في الوحدة ، وسلاح على الأعداء ، وزين الأخلّاء ، يرفع اللّه به أقواما ، يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم ، ترمق أعمالهم ، وتقتبس آثارهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم ؛ لأنّ العلم حياة القلوب [ من الجهل ] ونور الأبصار من العمى ، وقوّة الأبدان من الضعف ، ينزل اللّه حامله منازل الأبرار ، ويمنحه مجالسة الأخيار ، في الدنيا والآخرة ، بالعلم يطاع اللّه ويعبد ، وبالعلم يعرف اللّه ويوحّد ، وبالعلم توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، والعلم إمام العقل ، والعقل تابعه ، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء » (2).

ص: 69


1- الكافي 1 : 34 ، باب ثواب العالم والمتعلّم ، الحديث 1.
2- أمالي الصدوق 1 : 296 ، المجلس التسعون.

فصل : [ وجوب طلب العلم ]

وروينا بالإسناد : عن محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم [ ومسلمة ] ، ألا أنّ اللّه يحبّ بغاة العلم » (1).

وعن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم.

عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عمن حدّثه ، قال :

سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : « أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به ، ألا وإنّ طلب العلم ، أوجب عليكم من طلب المال ، إنّ المال مقسوم مضمون لكم ، قد قسمه عادل بينكم وضمنه ، وسيفي لكم ، والعلم مخزون عند أهله ، وقد أمرتم بطلبه من أهله ، فاطلبوه » (2).

ص: 70


1- الكافي 1 : 30 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث 1.
2- الكافي 1 : 30 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث 4.

وعنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد.

عن أبي الحسن البختري ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشي ء منها ، فقد أخذ حظا وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه ، فإن فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين » (1).

وعنه ، عن الحسين بن محمد ، عن علي [ بن محمد ] بن سعد ، رفعه ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال :

« لو يعلم الناس ما في طلب العلم ، لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج إنّ اللّه تبارك وتعالى ، أوحى إلى دانيال : إنّ أمقت عبيدي إليّ ، الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم. وإنّ أحبّ عبيدي إلي ، التقيّ الطالب للثواب الجزيل ، اللازم للعلماء ، التابع للحلماء ، القابل عن الحكماء » (2).

وعنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه.

وعن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد.

جميعا : عن ابن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :

« عالم ينتفع بعلمه ، أفضل من سبعين ألف عابد » (3) :

وعنه ، عن الحسين بن محمد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سعدان بن مسلم ،

ص: 71


1- الكافي 1 : 32 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث 2.
2- الكافي 1 : 35 ، باب ثواب العالم والمتعلّم ، الحديث 5.
3- الكافي 1 : 33 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث 8.

عن معاوية بن عمّار ، قال :

قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « رجل راوية لحديثكم ، يبثّ ذلك في الناس ، ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ، ولعلّ عابدا من شيعتكم ، ليست له هذه الرواية ، أيّهما أفضل؟

قال : « الرواية لحديثنا ، يشدّ به قلوب شيعتنا ، أفضل من ألف عابد » (1).

ص: 72


1- الكافي 1 : 33 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث 9.

فصل : [ ما يجب على العلماء مراعاته ]

ومن أهمّ ما يجب على العلماء مراعاته : تصحيح القصد وإخلاص النيّة ، وتطهير القلب من دنس الأغراض الدنيوية ، وتكميل النفس في قوتها العملية ، وتزكيتها باجتناب الرذائل ، واقتناء الفضائل الخلقية ، وقهر القوّتين الشهويّة والغضبيّة.

وقد روينا بالطريق السابق وغيره ، عن محمد بن يعقوب رحمه اللّه ، عن عليّ بن إبراهيم ، رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السلام.

وعن محمد بن يعقوب ، قال : حدّثني محمد بن محمود ، أبو عبد اللّه القزويني ، عن عدة من أصحابنا ، منهم جعفر بن أحمد الصيقل - بقزوين - ، عن أحمد بن عيسى العلوي ، عن عباد بن صهيب البصري ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« طلبة العلم ثلاثة ، فاعرفهم بأعيانه وصفاتهم : صنف يطلبه للجهل والمراء. وصنف يطلبه للاستطالة والختل. وصنف يطلبه للفقه والعقل.

فصاحب الجهل والمراء موذ ممار ، متعرّض للمقال في أندية الرجال ، بتذاكر العلم وصفة الحلم ، قد تسربل بالخشوع ، وتخلّى من الورع ، فدقّ اللّه من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.

ص: 73

وصاحب الاستطالة والختل ، ذو خب وملق ، يستطيل على مثله من أشباهه ، ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحلوانهم هاضم ، ولدينه حاطم ، فأعمى اللّه على هذا خبره ، وقطع من آثار العلماء أثره.

وصاحب الفقه والعقل ، ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنّك في برنسه ، وقام الليل في حندسه ، يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا ، مقبلا على شأنه ، عارفا بأهل زمانه ، مستوحشا من أوثق إخوانه ، فشدّ اللّه من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه » (1).

عنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى.

وعن علي بن إبراهيم ، عن أبيه.

جميعا عن حماد بن عيسى ، عن عمر بن أذينة ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس ، قال :

سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « منهومان لا يشبعان ، طالب دنيا وطالب علم ، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحلّ اللّه له سلم ، ومن تناولها من غير حلّها هلك ، إلّا أن يتوب أو يراجع ، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا ، ومن أراد به الدنيا ، فهي حظّه » (2).

عنه ، عن الحسين بن محمد بن عامر ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« من أراد الحديث لمنفعة الدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب ومن أراد به خير الآخرة ، أعطاه اللّه تعالى خير الدنيا والآخرة » (3).

ص: 74


1- الكافي 1 : 49 ، باب النوادر ، الحديث 5.
2- الكافي 1 : 46 ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، الحديث الأوّل.
3- الكافي 1 : 46 ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، الحديث 2.

[ ح ] عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد الاصبهاني ، عن المنقري ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه ، فاتّهموه على دينكم ، فإنّ كلّ محبّ لشي ء ، يحوط ما أحبّ ».

وقال : « أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام : لا تجعل بيني وبينك ، عالما مفتونا بالدنيا ، فيصدّك عن طريق محبّتي ، فإنّ اولئك قطّاع طريق عبادي المريدين [ إليّ ] ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم » (1).

عنه ، عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد اللّه عمّن حدّثه ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

« من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليبوّأ مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها » (2).

ص: 75


1- الكافي 1 : 46 ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، الحديث 4.
2- الكافي 1 : 47 ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، الحديث 6.

فصل : [ من حقوق المعلّم على المتعلّم ]

وروينا بالإسناد السابق ، عن الشيخ المفيد محمد [ بن محمد ] بن النعمان عن الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه رحمه اللّه ، عن علي بن أحمد بن موسى الدقاق رضى اللّه عنه قال :

حدّثنا محمد بن جعفر الكوفي الأسدي ، قال : حدّثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد ، قال : حدّثنا إسماعيل بن الفضل ، عن ثابت بن دينار الثمالي ، عن سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال :

« حق سائسك بالعلم : التعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال إليه ، وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجب أحدا يسأله عن شي ء حتّى يكون هو الذي يجيب ، ولا تحدّث في مجلسه أحدا ، ولا تغتاب عنده أحدا ، وأن تدافع عنه إذا ذكر عندك بسوء ، وأن تستر عيوبه ، وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدوا ، ولا تعادي له وليا ، فإذا فعلت ذلك ، شهد لك ملائكة اللّه بأنّك قصدته ، وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للناس.

وحقّ رعيّتك بالعلم ، أن تعلم أنّ اللّه عزوجل ، إنّما جعلك قيّما لهم فيما آتاك من العلم ، وفتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر

ص: 76

عليهم زادك اللّه عزوجل من فضله ، وإن أنت منعت الناس علمك ، أو خرقت بهم عند طلبهم منك ، كان حقا على اللّه عزوجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلّك » (1).

وبالإسناد عن المفيد ، عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري ، قال : حدّثنا مؤدبي علي بن الحسين السعدآبادي أبو الحسن القمي ، قال : حدّثني أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي ، عن أبيه ، عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن رجل ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

كان علي عليه السلام يقول : « إنّ من حقّ العالم ، أن لا تكثر عليه السؤال ، ولا تأخذ بثوبه ، وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلّم عليهم جميعا ، وخصّه بالتحية دونهم ، واجلس بين يديه ، ولا تجلس خلفه ، ولا تغمز بعينك ، ولا تشر بيدك ولا تكثر من القول : قال فلان وقال فلان ، خلافا لقوله. ولا تضجر بطول صحبته ، فإنّما مثل العالم مثل النخلة ، تنتظرها متى يسقط عليك منها شي ء ، والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم ، الغازي في سبيل اللّه ، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شي ء إلى يوم القيامة » (2).

ص: 77


1- روضة الواعظين 1 : 8 ، وبحار الأنوار 2 : 42.
2- المحاسن 1 : 233 ، باب حق العالم ، الحديث 18.

فصل : [ وجوب العمل على العالم ]

ويجب على العالم العمل ، كما يجب على غيره ، لكنه في حق العالم آكد ، ومن ثمّ جعل اللّه تعالى ثواب المطيعات من نساء النبي صلى اللّه عليه وآله ، وعقاب العاصيات منهنّ ضعف ما لغيرهن.

وليجعل له حظّا وافرا من الطاعات والقربات ؛ فإنّها تفيد النفس ملكة صالحة ، واستعدادا تاما لقبول الكمالات.

وقد روينا بالإسناد السالف وغيره ، عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن عيسى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن حماد بن عيسى ، عن عمر بن اذينة ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام ، يحدّث عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال - في كلام له - :

« العلماء رجلان. رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك ، وإنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه. وإنّ أشدّ أهل النار ندامة وحسرة ، رجل دعا عبدا إلى اللّه سبحانه فاستجاب له وقبل منه فأطاع اللّه فأدخله الجنّة ، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل ، أمّا اتباع الهوى فيصدّ

ص: 78

عن الحقّ ، وطول الأمل ينسي الآخرة » (1).

وعن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد ابن سنان ، عن اسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« العلم مقرون إلى العمل ، فمن علم عمل ، ومن عمل علم ، والعلم يهتف بالعمل. فإن أجابه [ يثبت في مقامه ] وإلّا ارتحل عنه » (2).

وعنه ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن محمد القاساني ، عمّن ذكره ، عن عبد اللّه بن القاسم الجعفري ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته من القلوب ، كما يزلّ المطر عن الصفا » (3).

وعنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن علي بن هشام بن بريد ، عن أبيه ، قال : جاء رجل إلى علي بن الحسين عليه السلام ، فسأله عن مسائل فأجاب ، ثم عاد ليسأل عن مثلها ، فقال علي ابن الحسين عليهما السلام :

« مكتوب في الإنجيل : لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم ؛ فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا كفرا ، ولم يزدد من اللّه إلّا بعدا » (4).

وعنه ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، [ رفعه ]

ص: 79


1- الكافي 1 : 44 ، باب استعمال العلم ، الحديث الأوّل.
2- الكافي 1 : 44 ، باب استعمال العلم ، الحديث 2.
3- الكافي 1 : 44 ، باب استعمال العلم ، الحديث 3.
4- الكافي 1 : 44 - 45 ، باب استعمال العلم ، الحديث 4.

قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام - في كلام خطب به على المنبر - :

« أيّها الناس إذا علمتم ، فاعملوا بما علمتم ، لعلّكم تهتدون ؛ إنّ العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله ، بل قد رأيت أنّ الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير في جهله ، وكلاهما حائر بائر. لا ترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكّوا فتكفروا ، ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا ولا تدهنوا في الحقّ فتخسروا.

وإن من الحق أن تفقهوا ، ومن الفقه أن لا تغترّوا ، وإنّ أنصحكم لنفسه أطوعكم لربّه ، وأغشّكم لنفسه أعصاكم لربّه ، ومن يطع اللّه يأمن ويستبشر ، ومن يعص اللّه يخب ويندم » (1).

وعنه ، عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن عبد اللّه بن ميمون القداح ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام قال :

جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فقال : يا رسول اللّه!! ما العلم؟ قال : « الإنصات ، قال : ثم مه يا رسول اللّه؟ قال : الاستماع ، قال : ثم مه؟ قال : الحفظ ، قال : ثم مه؟ قال : العمل به ، قال : ثم مه يا رسول اللّه؟ قال : نشره » (2).

ص: 80


1- الكافي 1 : 45 ، باب استعمال العلم ، الحديث 6.
2- الكافي 1 : 48 ، باب النوادر ، الحديث 4

فصل : [ ما ينبغي مع طلب العلم ]

وروينا بالإسناد عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :

« اطلبوا العلم ، وتزيّنوا معه بالحلم والوقار ، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم ، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ، ولا تكونوا علماء جبّارين ، فيذهب باطلكم بحقّكم » (1).

وعنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن حماد ابن عثمان ، عن الحارث بن المغيرة النصري ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، في قول اللّه عزوجل ( إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (2) ، قال : « يعني بالعلماء : من صدّق قوله فعله ، ومن لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم » (3).

عنه ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي عن اسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القماط ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

ص: 81


1- الكافي 1 : 36 ، باب صفة العلماء ، الحديث الأوّل.
2- القرآن الكريم ، سورة فاطر ، الآية 29.
3- الكافي 1 : 36 ، باب صفة العلماء ، الحديث 2.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : « ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة اللّه. ولم يؤمنهم من عذاب اللّه ، ولم يرخص لهم في معاصي اللّه ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره ، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم ، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر ، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها ، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه » (1).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عمن ذكره عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : « يا طالب العلم : إنّ للعالم ثلاث علامات ، العلم والحلم والصمت ، وللمتكلّف ثلاث علامات : ينازع من فوقه بالمعصية ، ويظلم من دونه بالغلبة ، ويظاهر الظلمة » (2).

عنه ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن نوح بن شعيب النيشابوري ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه الدهقان ، عن درست بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العقرقوفي ، عن شعيب ، عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول :

كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : « يا طالب العلم : إنّ العلم ذو فضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النية ، وعقله معرفة الأشياء والامور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء ، وهمّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقرّه النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ، وسيفه الرضاء ، وقوسه المداراة ، وجيشه محاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، وماؤه

ص: 82


1- الكافي 1 : 36 ، باب صفة العلماء ، الحديث 3.
2- الكافي 1 : 37 ، باب صفة العلماء ، الحديث 7.

المواعدة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبّة الأخيار » (1).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث ، قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام :

« من تعلّم العلم ، وعمل به وعلم لله ، دعي في ملكوت السماوات عظيما ، فقيل : تعلم لله ، وعمل لله ، وعلم لله » (2).

ص: 83


1- الكافي 1 : 48 ، باب النوادر ، الحديث 2.
2- الكافي 1 : 35 ، باب ثواب العالم والمتعلم ، الحديث 6.

فصل : [ شرف علم الفقه ]

ولما ثبت أنّ كمال العلم إنّما هو بالعمل ، تبيّن أنّه ليس في العلوم - بعد المعرفة - أشرف من علم الفقه ؛ لأنّ مدخليّته في العمل أقوى مما سواه ؛ إذ به يعرف أوامر اللّه تعالى فتمتثل ، ونواهيه فتجتنب.

ولأنّ معلومه - أعني أحكام اللّه تعالى - أشرف المعلومات بعد ما ذكر.

ومع ذلك ، فهو الناظم لأمور المعاش ، وبه يتمّ كمال نوع الإنسان.

وقد روينا بطرقنا عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه الدهقان ، عن درست الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال :

« دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المسجد ، فإذا جماعة قد أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟! فقيل : علّامة. فقال : وما العلّامة؟ فقالوا له : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية ، والأشعار العربية. قال عليه السلام : فقال النبي صلى اللّه عليه وآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ، ولا ينفع من علمه. ثم قال النبي صلى اللّه عليه وآله : إنّما العلم ثلاثة ، آية محكمة ، أو

ص: 84

فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة ، وما خلا هنّ فهو فضل (1).

عنه ، عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« إذا أراد اللّه بعيد خيرا ، فقّهه في الدين » (2).

عنه ، عن محمد بن اسماعيل ، عن الفضل بن شاذان عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد اللّه ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

« قال : الكمال كل الكمال : التفقّه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة » (3).

عنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيوب الخزار ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس ، من موت فقيه » (4).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« إذا مات المؤمن الفقيه ، ثلم في الإسلام ثلمة ، لا يسدّها شي ء » (5).

عنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن علي ابن أبي حمزة ، قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول :

ص: 85


1- الكافي 1 : 32 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث الأوّل.
2- الكافي 1 : 32 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث 3.
3- الكافي 1 : 32 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث 4.
4- الكافي 1 : 38 ، باب فقه العلماء الحديث 4.
5- الكافي 1 : 28 ، باب فقه العلماء الحديث 2.

« إذا مات المؤمن الفقيه ، بكت عليه الملائكة ، وبقاع الأرض التي كان يعبد اللّه عليها ، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله ، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شي ء ؛ لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام ، كحصن سور المدينة لها » (1).

وبالإسناد السالف ، عن الشيخ المفيد محمد بن النعمان ، عن أحمد بن محمد ابن سليمان الزراري ، عن علي بن الحسين السعدآبادي ، عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي ، عن محمد بن عبد الحميد العطار ، عن عمّه عبد السلام بن سالم ، عن رجل ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« حديث في حلال وحرام ، تأخذه من صادق ، خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة » (2).

وبالإسناد عن أحمد بن أبي عبد اللّه ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن يونس ابن يعقوب ، عن أبيه ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام :

إنّ لي ابنا ، قد أحبّ أن يسألك عن حلال وحرام ، ولا يسألك عمّا لا يعنيه ، قال :

فقال لي : « وهل يسأل الناس عن شي ء أفضل من الحلال والحرام؟! » (3).

ص: 86


1- الكافي 1 : 38 ، باب فقه العلماء ، الحديث 3.
2- المحاسن 1 : 229 ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث 166 ،
3- المحاسن 1 : 229 ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث 168.

فصل : [ وجه الحاجة إلى الفقه ]

الحق عندنا : أنّ اللّه تعالى ، إنّما فعل الأشياء المحكمة المتقنة لغرض وغاية ، ولا ريب أن نوع الإنسان أشرف ما في العالم السفلي من الأجسام ، فيلزم تعلق الغرض بخلقه.

ولا يمكن أن يكون ذلك الغرض حصول ضرر له ؛ إذ هذا إنّما يقع من الجاهل ، أو المحتاج ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ، فتعيّن أن يكون هو النفع.

ولا يجوز أن يعود إليه سبحانه ، لاستغنائه وكماله ، فلا بدّ أن يكون عائدا إلى العبد.

وحيث كانت المنافع الدنيوية في الحقيقة ليست بمنافع - وإنّما هي دفع آلام ، فلا يكاد يطلق اسم النفع إلّا على ما ندر منها - لم يعقل أن يكون هو الغرض من إيجاد هذا المخلوق الشريف ، سيما مع كونه منقطعا بالآلام المتضاعفة ، فلا بدّ وأن يكون الغرض شيئا آخر ، ممّا يتعلّق بالمنافع الاخروية.

ولمّا كان ذلك النفع ، من أعظم المطالب وأنفس المواهب ، لم يكن مبذولا لكلّ طالب ، بل إنّما يحصل بالاستحقاق ، وهو لا يكون إلّا بالعمل في هذه الدار ، المسبوق بمعرفة كيفية العمل ، المشتمل عليها هذا العلم ، فكانت الحاجة إليه ماسّة جدا ، لتحصيل هذا النفع العظيم.

ص: 87

وقد روينا بالإسناد السابق وغيره ، عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لوددت أنّ أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا » (1).

عنه ، عن علي بن محمد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن علي بن أبي حمزة قال :

سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين ، فهو أعرابيّ إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (2) » (3).

عنه ، عن الحسين بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن القاسم بن الربيع ، عن المفضل بن عمر ، قال :

سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « عليكم بالتفقّه في دين اللّه تعالى ، ولا تكونوا أعرابا ، فإنّه من لم يتفقّه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة ، ولم يزكّ له عملا » (4).

وبالإسناد السالف ، عن المفيد ، عن الحسن بن حمزة العلوي الطبري ، قال :

حدّثنا : أحمد بن عبد اللّه بن بنت البرقي ، قال : حدّثنا جدّي أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن العلاء [ القلاء ] ، عن

ص: 88


1- الكافي 1 : 31 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث 8.
2- التوبة (9) : 122.
3- الكافي 1 : 31 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث 6.
4- الكافي 1 : 31 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث 7.

محمد بن مسلم ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « لو اتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقّه لأدّبته » (1).

قال : « وكان أبو جعفر عليه السلام يقول : « تفقّهوا وإلّا فأنتم أعراب » (2).

وبالإسناد عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابنا ، عن علي بن أسباط ، عن إسحاق بن عمار ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « ليت السياط على رءوس أصحابي حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام » (3).

ص: 89


1- المحاسن 1 : 228 ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث 161.
2- المحاسن 1 : 228 ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث 161.
3- المحاسن 1 : 229 ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث 165.

فصل : [ حدّ الفقه ]

الفقه في اللغة : الفهم.

وفي الاصطلاح : هو العلم بالأحكام ، الشرعية ، الفرعية ، عن أدلّتها التفصيلية.

فخرج بالتقييد « بالأحكام » : العلم بالذوات كزيد مثلا ، وبالصفات ككرمه وشجاعته ، وبالأفعال ككتابته وخياطته.

وخرج ب- « الشرعية » : غيرها ، كالعقلية المحضة ، واللغوية.

وخرج ب- « الفرعية » : الاصولية.

وبقولنا « عن أدلّتها » : علم اللّه سبحانه ، وعلم الملائكة والأنبياء.

وخرج ب- « التفصيلية » : علم المقلّد في المسائل الفقهية ، فإنّه مأخوذ من دليل إجمالي ، مطّرد في جميع المسائل ؛ وذلك لأنّه إذا علم أنّ هذا الحكم المعيّن قد أفتى به المفتي ، وعلم أنّ كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه تعالى في حقّه ، يعلم بالضرورة : أنّ ذلك الحكم المعيّن هو حكم اللّه سبحانه في حقّه ، وهكذا يفعل في كلّ حكم يرد عليه.

وقد أورد على هذا الحدّ أنّه : إن كان المراد بالأحكام « البعض » لم يطّرد ؛ لدخول المقلّد ، إذا عرف بعض الأحكام كذلك ، لإنّا لا نريد به العامي ، بل من

ص: 90

لم يبلغ مرتبة الاجتهاد ، وقد يكون عالما متمكّنا من تحصيل ذلك ؛ لعلوّ رتبته في العلم ، مع أنّه ليس بفقيه في الاصطلاح. وإن كان المراد بها « الكلّ » : لم ينعكس ؛ لخروج أكثر الفقهاء عنه - وإن لم يكن كلّهم - ؛ لأنّهم لا يعلمون جميع الأحكام ، بل بعضها أو أكثرها.

ثم إنّ الفقه أكثره من باب الظنّ ، لابتنائه غالبا على ما هو ظنّي الدلالة ، أو السند ، فكيف أطلق عليه العلم؟! والجواب :

أمّا عن سؤال الأحكام : فبأنّا نختار أوّلا : أنّ المراد [ بها ] « البعض ».

قولكم : « لا يطّرد ، لدخول المقلّد فيه » ، قلنا : ممنوع.

أمّا على القول بعدم تجزّي الاجتهاد فظاهر ؛ إذ لا يتصوّر على هذا التقدير انفكاك العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد ، فلا يحصل للمقلّد وإن بلغ من العلم ما بلغ.

وأمّا على القول بالتجزّي ، فالعلم المذكور داخل في الفقه ، فلا ضير فيه ؛ لصدقه عليه حقيقة ، وكون العالم بذلك فقيها بالنسبة إلى ذلك المعلوم اصطلاحا وإن صدق عليه عنوان التقليد بالإضافة إلى ما عداه.

ثمّ نختار ثانيا : أنّ المراد بها « الكلّ » - كما هو الظاهر لكونها جمعا محلّى باللام ، ولا ريب أنّه حقيقة في العموم.

قولكم : « لا ينعكس ، لخروج أكثر الفقهاء عنه » ، قلنا : ممنوع.

إذا ، المراد بالعلم بالجميع : التهيّؤ له ، وهو أن يكون عنده ما يكفيه ، في استعلامه من المآخذ والشرائط بأن يرجع إليه فيحكم.

وإطلاق العلم على مثل هذا التهيّؤ ، شايع في العرف ؛ فإنّه يقال في العرف : فلان يعلم النحو مثلا ، ولا يراد أنّ مسائله حاضرة عنده على التفصيل ، وحينئذ

ص: 91

فعدم العلم بالحكم في الحال الحاضر لا ينافيه.

وأمّا عن سؤال الظنّ : فيحمل العلم على معناه الأعمّ ، أعني ترجيح أحد الطرفين وإن لم يمنع من النقيض ، وحينئذ فيتناول الظن ، وهذا المعنى شايع في الاستعمال ، سيما في الأحكام الشرعية.

وما يقال في الجواب أيضا : من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا فيه نفسه ، و « ظنّية الطريق لا تنافي علميّة الحكم » ، فضعفه ظاهر عندنا. وأمّا عند المصوّبة القائلين : بأنّ كلّ مجتهد مصيب - كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى في بحث الاجتهاد - فله وجه ، وكأنّه لهم ، وتبعهم فيه من لا يوافقهم على هذا الأصل ، غفلة عن حقيقة الحال.

ص: 92

فصل : [ مرتبة علم الفقه ]

واعلم أنّ لبعض العلوم تقدّما على بعض : إمّا لتقدّم موضوعه ، أو لتقدّم غايته ، أو لاشتماله على مبادئ العلوم المتأخّرة ، أو لغير ذلك من الامور التي ليس هذا موضع ذكرها.

ومرتبة هذا العلم متأخّرة عن غيره بالاعتبار الثالث ، لافتقاره إلى ساير العلوم ، واستغنائها عنه.

أمّا تأخّره عن علم الكلام ، فلأنّه يبحث في هذا العلم عن كيفية التكليف ، وذلك مسبوق بالبحث عن معرفة نفس التكليف والمكلّف.

وأمّا تأخّره عن علم اصول الفقه فظاهر ؛ لأنّ هذا العلم ليس ضروريا ، بل هو محتاج إلى الاستدلال ، وعلم اصول الفقه متضمّن لبيان كيفية الاستدلال.

ومن هذا يظهر وجه تأخّره عن علم المنطق أيضا لكونه متكفّلا لبيان صحّة الطرق وفسادها.

وأمّا تأخّره عن علم اللغة والنحو والتصريف ؛ فلأنّ من مبادي هذا العلم ، الكتاب والسنّة ، واحتياج العلم بهما إلى العلوم الثلاثة ظاهر.

فهذه هي العلوم التي يجب تقدّم معرفتها عليه في الجملة ولبيان مقدار الحاجة منها محلّ آخر.

ص: 93

فصل : [ موضوع علم الفقه ومسائله ]

ولا بدّ لكلّ علم : أن يكون باحثا عن امور لاحقه لغيرها وتسمّى تلك الامور مسائله ، وذلك الغير موضوعه.

ولا بد [ له ] من مقدّمات يتوقّف الاستدلال عليها ومن تصوّرات الموضوع وأجزائه وجزئيّاته ، ويسمّى مجموع ذلك بالمبادي.

ولمّا كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة ، أعني : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة ، والحرمة ، وعن : الصحّة والبطلان ، من حيث كونها عوارض لأفعال المكلّفين.

فلا جرم كان موضوعه هو أفعال المكلّفين ، من حيث الاقتضاء والتخيير.

ومباديه : ما يتوقّف عليه من المقدّمات ، كالكتاب والسنّة والإجماع ، ومن التصوّرات كمعرفة الموضوع وأجزائه وجزئياته.

ومسائله : هي المطالب الجزئية ، المستدلّ عليها فيه.

ص: 94

المقصد الثاني : في تحقيق مهمات المباحث الاصولية

اشارة

التي هي الأساس لبناء الأحكام الشرعية

وفيه مطالب

ص: 95

ونظرا لتحقيق هذا المقصد واشتهاره منذ عصر المؤلف إلى يومنا هذا آثرنا اختزاله ، لا سيما وقد طبع محققا في مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ، ورأينا أن نقتصر على آراء المؤلف فقط بالترتيب الذي قصده.

ص: 96

المطلب الأوّل : في نبذة من مباحث الألفاظ.

وقد تعرّض فيه إلى الحقيقة والمجاز والمنقول اللغوي والعرفي والشرعي ضمن اصول ثلاثة.

(1) : في الحقيقة الشرعية ، وقد انتهى فيه إلى عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

(2) : ذهب فيه إلى وقوع الاشتراك في لغة العرب وإلى جواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى مطلقا ، أي سواء في النفي والإثبات أوفي الإفراد والتثنية والجمع. لكنّه في المفرد مجاز وفي غير المفرد حقيقة.

(3) : جوّز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي والمجازي معا بعد التجريد عن قيد الوحدة.

المطلب الثاني : في الأوامر والنواهي ، وجعله في بحثين.

البحث الأوّل : في الأوامر ، وجعله في (12) أصلا.

(1) : صيغة « افعل » وما في معناها حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللغة على الأقوى وفاقا لجمهور الاصوليين.

فائدة مهمّة : إنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعا في

ص: 97

عرف الأئمة عليهم السلام بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي ، فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم السلام.

(2) : إنّ صيغة الأمر بمجرّدها لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار وإنّما تدلّ على طلب الماهية.

(3) : لا يدلّ الأمر على الفور ولا على التراخي بل على مطلق الفعل وأيّهما حصل كان مجزيا.

فائدة : وإذا قلنا بأنّ الأمر للفور ولم يأت المكلّف بالمأمور به في أوّل أوقات الإمكان فلا يجب عليه الإتيان به.

(4) : الأكثرون على أنّ الأمر بالشي ء مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلّا به ، شرطا كان أو سببا أو غيرهما مع كونه مقدورا. وفصّل بعضهم فوافق في السبب وخالف في غيره فقال بعدم وجوبه.

والذي أراه أنّ البحث في السبب قليل الجدوى ؛ لأنّ تعليق الأمر بالمسبّب نادر وأثر الشكّ في وجوبه هيّن. وأمّا غير السبب فالأقرب فيه عندي قول المفصّل.

(5) : الحقّ أنّ الأمر بالشي ء على وجه الإيجاب لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لا لفظا ولا معنى ، وأمّا العام فقد يطلق ويراد به أحد الأضداد الوجودية لا بعضه ، وهو راجع إلى الخاصّ بل هو عينه في الحقيقة ، فلا يقتضي النهي عنه أيضا ، وقد يطلق ويراد به الترك ، وعلى هذا يدلّ الأمر على النهي عنه بالتضمّن.

(6) : المشهور بين أصحابنا أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء على وجه التخيير يقتضي إيجاب الجميع لكن تخييرا. ثمّ نقل عن العلّامة : أنّ المراد

ص: 98

بوجوب الكلّ على البدل أنّه لا يجوز للمكلّف الإخلال بها أجمع ولا يلزمه الجمع بينها وله الخيار في تعيين أيّها شاء.

(7) : الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه جائز عقلا ، واقع على الأصحّ.

والحقّ تساوي جميع أجزاء الوقت في الوجوب بمعنى أنّ للمكلّف الإتيان به في أوّل الوقت ووسطه وآخره وفي أيّ جزء اتّفق إيقاعه وكان واجبا بالأصالة من غير فرق بين بقائه على صفة التكليف وعدمه ، ففي الحقيقة يكون راجعا إلى الواجب المخيّر. ولا يجب البدل - وهو العزم على أداء الفعل في ثاني الحال - إذا أخّره عن أوّل الوقت ووسطه.

(8) : الحقّ أنّ تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط يدلّ على انتفائه عند انتفاء الشرط وهو مختار أكثر المحققين.

(9) : التعليق على الصفة لا يقتضي نفي الحكم عند انتفائها.

(10) : أنّ التقييد بالغاية يدلّ على مخالفة ما بعده لما قبلها وفاقا لأكثر المحققين.

(11) : لا يجوز الأمر بالفعل المشروط مع علم الآمر بانتفاء شرطه.

(12) : الأقرب أن نسخ مدلول الأمر - وهو الوجوب - لا يبقى معه الدلالة على الجواز بل يرجع إلى الحكم الذي كان قبل الأمر.

البحث الثاني : في النواهي ، وجعله في (5) اصول.

(1) : الحقّ أنّ صيغة النهي حقيقة في التحريم مجاز في غيره. واستعمال النهي في الكراهة شايع في أخبارنا المرويّة عن الأئمة عليهم السلام على نحو ما قلناه في الأمر.

(2) : الأقوى أنّ المطلوب بالنهي هو نفس أن لا تفعل.

ص: 99

(3) : أنّ النهي يفيد الدوام والتكرار. والدوام يستلزم الفور.

(4) : الحق امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شي ء واحد.

(5) : النهي يدلّ على فساد المنهي عنه في العبادات بحسب اللغة والشرع دون غيرها مطلقا.

المطلب الثالث : في العموم والخصوص ، وفيه (3) فصول.

الفصل الأوّل : في الكلام على ألفاظ العموم ، وفيه (4) اصول.

(1) : أنّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه.

(2) : الجمع المعرّف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. والمفرد المعرّف لا يفيد العموم ، إلّا أنّ القرينة الحالية قائمة في الأحكام الشرعية غالبا على إرادة العموم منه حيث لا عهد خارجي.

(3) : الجمع المنكّر لا يفيد العموم بل يحمل على أقلّ مراتبه ، وأقلّ مراتب صيغ الجمع الثلاثة ، على الأصحّ.

(4) : ما وضع لخطاب المشافهة لا يعمّ بصيغته من تأخّر عن زمن الخطاب وإنّما يثبت حكمه لهم بدليل آخر.

الفصل الثاني : في جملة من مباحث التخصيص ، وفيه (4) اصول.

(1) : أنّ منتهى التخصيص هو ما يبقى معه جمع يقرب من مدلول العام إلّا أن يستعمل في حقّ الواحد على سبيل التعظيم.

(2) : إذا خصّ العامّ واريد به الباقي فهو مجاز مطلقا على الأقوى.

(3) : إنّ تخصيص العامّ لا يخرجه عن الحجّية في غير محلّ التخصيص إن لم يكن المخصّص مجملا مطلقا.

ص: 100

(4) : الأقوى عندي أنّه لا تجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن المخصّص بل يجب التفحّص عنه حتّى يحصل الظنّ الغالب بانتفائه ، كما يجب ذلك في كلّ دليل يحتمل أن يكون له معارض احتمالا راجحا فإنّه جزئي من جزئيّاته.

الفصل الثالث : في ما يتعلّق بالمخصص ، وفيه (4) اصول وخاتمة.

(1) : إذا تعقّب المخصّص متعدّدا - سواء كان جملا أو غيرها - وصحّ عوده إلى كلّ واحد كان الأخير مخصوصا قطعا. وهل يخصّ معه الباقي أو يختصّ هو به؟

والذي يقوى في نفسي أنّ اللفظ محتمل لكل من الأمرين لا يتعيّن لأحدهما إلّا بالقرينة.

(2) : إذا تعقّب العام ضمير يرجع إلى بعض ما يتناوله فهل يكون تخصيصا له أو لا؟ أو يتوقّف؟ وهذا هو الأقرب عندي.

(3) : لا ريب في جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة. وفي جوازه بما هو حجّة من مفهوم المخالفة خلاف والأكثرون على جوازه وهو الأقوى.

(4) : لا خلاف في جواز تخصيص الكتاب بالخبر المتواتر. وأمّا تخصيصه بالخبر الواحد على تقدير العمل به فالأقرب جوازه مطلقا.

خاتمة : إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر.

1 - فإن علم الاقتران وجب بناء العام على الخاصّ.

2 - وإن تقدّم العام : فإن كان ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام كان نسخا له. وإن كان قبله يبنى على جواز تأخير بيان العام. فمن جوّزه جعله تخصيصا وبيانا له كالأوّل وهو الحقّ.

3 - وإن تقدّم الخاص فالأقوى أن العام يبنى عليه أيضا.

ص: 101

4 - وإن جهل التأريخ فيعمل بالخاصّ أيضا.

المطلب الرابع : في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن ، وفيه (3) اصول.

(1) : إذا ورد مطلق ومقيّد :

فإن اختلف حكمهما فلا يحمل أحدهما على الآخر - اتفاقا - سواء كان الخطابان من جنس واحد أو لا وسواء اتّحد موجبهما أو اختلف.

وإن لم يختلف حكمهما :

فإن اتّحد موجبهما مثبتين فيحمل المطلق على المقيّد إجماعا.

وإن اتّحد موجبهما منفيين فيعمل بهما معا اتّفاقا.

وإن اختلف موجبهما فلا يحمل على المقيّد عندنا حينئذ.

(2) : في بيان المجمل وأنواعه وجملة من المصاديق التي ادّعي فيها الإجمال.

وقال في الفائدة الثانية من الفوائد الثلاث : إنّ مثل « لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب » مما ينفى فيه الفعل ظاهرا مطلقا فإن ثبت كونه حقيقة شرعية في الصحيح من هذه الأفعال كان نفي المسمّى ممكنا باعتبار فوات الشرط أو الجزء ، وإن لم يثبت له حقيقة شرعية كما هو الظاهر فإن ثبت له حقيقة عرفية فمثله يقصد منه نفي الفائدة ، ولو فرض انتفاؤها فالظاهر أنّه يحمل على نفي الصحة دون الكمال ، ونفي الصحة أقرب من نفي الذات.

(3) : لا خلاف بين أهل العدل في عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فلا مانع منه.

المطلب الخامس : في الإجماع ، وفيه (5) اصول.

(1) : الاجماع هو اتّفاق من يعتبر قوله من الامّة في الفتاوى الشرعية على

ص: 102

أمر من الامور الدينية. وهو ممكن وواقع وحجّة باعتبار كشفه عن الحجّة التي هي قول المعصوم. ويمتنع الاطلاع على حصول الاجماع عادة في زمانه من غير جهة النقل. وكلّ إجماع يدّعى في كلام الأصحاب ممّا يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا وليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم فلا بدّ من أن يراد به الشهرة.

(2) : إذا اختلف أهل العصر على قولين لا يتجاوزونهما فلا يجوز إحداث قول ثالث.

(3) : إذا لم تفصل الامّة بين مسألتين ، فإن نصّت على المنع من الفصل فلا إشكال. وإن عدم النصّ : فإن كان بين المسألتين علاقة بحيث يلزم من العمل بإحداهما العمل بالاخرى لم يجز الفصل وإن لم تكن بينهما علاقة فلا يجوز الفصل أيضا.

(4) : إذا اختلف الإمامية على قولين ، فإن كانت إحدى الطائفتين معلومة النسب ولم يكن الإمام أحدهم كان الحقّ مع الطائفة الاخرى وإن لم تكن معلومة النسب فإن كان مع إحدى الطائفتين دلالة قطعية توجب العلم وجب العمل على قولها. وإن لم يكن مع إحداهما دليل قاطع فقد حكي التخيير ونسب طرح القولين إلى بعض الأصحاب. والذي يسهّل الخطب علمنا بعدم وقوع مثله.

وإذا اختلف الإمامية على قولين فيجوز بعد ذلك اتّفاقهما على قول واحد.

(5) : يثبت الإجماع بخبر الواحد.

ولا بدّ لحاكي الإجماع من أن يكون علمه بإحدى الطرق المفيدة للعلم وإلّا وجب البيان.

وحكم الإجماع حيث يدخل في حيّز النقل حكم الخبر الواحد فيشترط في

ص: 103

قبوله ما يشترط هناك وحينئذ فقد يقع التعارض بين إجماعين منقولين وبين إجماع وخبر.

وقد استعمل بعض الأصحاب لفظ الإجماع في المشهور من غير قرينة على تعيين المراد ، فمن هذا شأنه لا يعتدّ بما يدّعيه من الإجماع ، إلّا أن يذهب ذاهب إلى مساواة الشهرة للإجماع في الحجّية.

المطلب السادس : في الأخبار ، وفيه (10) اصول.

(1) : الخبر متواتر وآحاد ، ولا ريب في إمكان المتواتر ووقوعه. وحصول العلم بالتواتر يتوقّف على اجتماع شرائط بعضها في المخبرين وبعضها في السامعين.

(2) : خبر الواحد هو ما لم يبلغ حدّ التواتر وليس من شأنه إفادة العلم بنفسه نعم يفيده بانضمام القرائن إليه.

(3) : وما عرى من خبر الواحد عن القرائن المفيدة للعلم يجوز التعبّد به عقلا والأقرب وقوع التعبّد به شرعا.

(4) : شرائط العمل بخبر الواحد كلّها يتعلّق بالراوي : هي التكليف والإسلام والإيمان والعدالة والضبط.

والعدالة هي ملكة في النفس تمنعها من فعل الكبائر والإصرار على الصغائر ومنافيات المروّة.

(5) : تعرف عدالة الراوي بالاختبار بالصحبة المؤكّدة والملازمة بحيث تظهر أحواله ويحصل الاطّلاع على سريرته حيث يكون ذلك ممكنا. ومع عدمه باشتهارها بين العلماء وأهل الحديث ، وبشهادة القرائن المتكثّرة المتعاضدة ، وبالتزكية من العالم بها. ولا يقبل في التزكية إلّا شهادة العدلين.

(6) : يقبل الجرح والتعديل مجردين عن ذكر السبب حيث يعلم عدم المخالفة

ص: 104

فيما به تتحقق العدالة والجرح ومع انتفائه يكون القبول موقوفا على ذكر السبب.

(7) : إذا تعارض الجرح والتعديل فإن كان مع أحدهما رجحان يحكم التدبر الصحيح باعتباره فالعمل على الراجح وإلّا وجب التوقّف.

فائدة : إذا قال العدل : حدّثني عدل ، لم يكتف في العمل بروايته على تقدير الاكتفاء بتزكية الواحد ، وكذا لو قال العدلان ذلك.

واعلم أنّ وصف جماعة من الأصحاب كثيرا من الروايات بالصحة من هذا القبيل لأنّه في الحقيقة شهادة بتعديل رواتها وهو بمجرده غير كاف في جواز العمل بالحديث بل لا بدّ من مراجعة السند والنظر في حال الرواة ليؤمن من معارضة الجرح.

(8) : لا بدّ للراوي من مستند يصحّ له من أجله رواية الحديث ويقبل منه بسببه ، وهو في الرواية عن المعصوم نفسه ظاهر معروف.

وأمّا في الرواية عن الراوي فله وجوه أعلاها السماع من لفظه .. ودون ذلك القراءة عليه مع إقراره به وتصريحه بالاعتراف بمضمونه ، ودون ذلك إجازته رواية كتاب ونحوه ..

إنّ أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنّما يظهر حيث لا يكون متعلّقها معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا الأربعة فإنّها متواترة إجمالا ، والعلم بصحّة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ، ولا مدخل للإجازة فيه غالبا ، وإنّما فائدتها حينئذ بقاء اتّصال سلسلة الاسناد بالنبي والأئمة عليهم السلام وذلك أمر مطلوب مرغوب إليه للتيمّن كما لا يخفى .. غير أنّ رعاية التصحيح والأمن من حدوث التصحيف وشبهه من أنواع الخلل يزيد في وجه الحاجة إلى السماع ونحوه.

(9) : يجوز نقل الحديث بالمعنى بشرط أن يكون الناقل عارفا بمواقع

ص: 105

الألفاظ وعدم قصور الترجمة عن الأصل في إفادة المعنى ومساواتها له في الجلاء والخفاء.

(10) : إذا أرسل العدل الحديث بأن رواه عن المعصوم ولم يلقه - سواء ترك ذكر الواسطة رأسا أو ذكرها مبهمة لنسيان أو غيره - كقوله عن رجل أو بعض أصحابنا .. ففي قبوله خلاف بين الخاصة والعامة. والأقوى عندي عدم القبول مطلقا.

تتمّة : ينقسم خبر الواحد باعتبار اختلاف أحوال رواته في الاتّصاف بالإيمان والعدالة والضبط وعدمها إلى أربعة أقسام :

1 - الصحيح.

2 - الحسن.

3 - الموثّق.

4 - الضعيف.

المطلب السابع : في النسخ ،وفيه أصلان.

(1) : لا ريب في جواز النسخ ووقوعه ، وجمهور أصحابنا على اشتراطه بحضور وقت الفعل المنسوخ سواء فعل أم لم يفعل ، وهو الحقّ.

(2) : يجوز نسخ كلّ من الكتاب والسنّة المتواترة والآحاد بمثله ولا ريب فيه ، ونسخ الكتاب بالسنّة المتواترة ، وهي به.

ولا ينسخ الكتاب والسنّة المتواترة بالآحاد ؛ لأنّ خبر الواحد مظنون وهما معلومان ولا يجوز ترك المعلوم بالمظنون.

أمّا الاجماع ففي جواز نسخه والنسخ به خلاف.

قال المحقق : والذي يجي ء على مذهبنا أنّه يصحّ دخول النسخ فيه بناء

ص: 106

على أنّ الاجماع انضمام أقوال إلى قول لو انفرد لكانت الحجّة فيه ، فجائز حصول مثل هذا في زمان النبي صلى اللّه عليه وآله. وهذا الكلام جيّد غير أنّه لا يترتّب عليه

فائدة مهمّة : معنى النسخ شرعا : هو الإعلام بزوال مثل الحكم الثابت بالدليل الشرعي بدليل آخر شرعي متراخ عنه على وجه لولاه لكان الحكم الأوّل ثابتا.

المطلب الثامن : في القياس والاستصحاب ، وفيه (3) اصول.

(1) : القياس : هو الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم آخر لاشتراكهما في علّة الحكم .. فموضع الحكم الثابت يسمّى أصلا وموضع الآخر يسمّى فرعا والمشترك جامعا وعلّة وهي إمّا مستنبطة أو منصوصة.

وقد أطبق أصحابنا على منع العمل بالمستنبطة إلّا من شذّ .. وبالجملة فمنعه يعدّ من ضروريات المذهب.

وأمّا المنصوصة ففي العمل بها خلاف بينهم .. وقال المحقق : إذا نصّ الشرع على العلّة وكان هناك شاهد حال يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة في ثبوت الحكم جاز تعدية الحكم وكان ذلك برهانا .. والأظهر عندي ما قاله المحقق.

(2) : إنّ تعدية الحكم في تحريم التأفيف إلى أنواع الأذى الزائد عنه من باب القياس وسمّوه بالقياس الجلي وأنكر ذلك المحقق وجمع من الناس ..

والحقّ ما ذكره بعض المحققين من أنّ النزاع هنا لفظي.

(3) : اختلف الناس في استصحاب الحال. ومحلّه أن يثبت حكم في وقت ثم يجي ء وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم فهل يحكم ببقائه

ص: 107

على ما كان وهو الاستصحاب؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دليل؟

فالمرتضى وجماعة من العامّة على الثاني ويحكى عن المفيد المصير إلى الأوّل وهو اختيار الأكثر واختار ( المحقق ) في المعتبر قول المرتضى وهو الأقرب.

المطلب التاسع : في الاجتهاد والتقليد ، وفيه (8) اصول.

(1) : الاجتهاد هو استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بحكم شرعي.

وقد اختلف الناس في قبوله للتجزئة بمعنى جريانه في بعض المسائل دون بعض وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل فقط فله حينئذ أن يجتهد فيها أو لا؟

والتحقيق عندي في هذا المقام : أنّ فرض الاقتدار على استنباط بعض المسائل دون بعض على وجه يساوي استنباط المجتهد المطلق لها غير ممتنع ، ولكن التمسّك في جواز الاعتماد على هذا الاستنباط بالمساواة فيه للمجتهد المطلق قياس لا نقول به.

(2) : وللاجتهاد المطلق شرائط يتوقّف عليها ، وهي بالإجمال : أن يعرف جميع ما يتوقّف عليه إقامة الأدلّة على المسائل الشرعية الفرعية.

وبالتفصيل :

أن يعلم من اللغة ومعاني الألفاظ العرفية ما يتوقّف عليه استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة ولو بالرجوع إلى الكتب المعتبرة ، ويدخل في ذلك معرفة النحو والصرف.

ومن الكتاب قدر ما يتعلّق بالأحكام بأن يكون عالما بمواقعها ويتمكّن عند الحاجة من الرجوع إليها ولو في كتب الاستدلال.

ومن السنة الأحاديث المتعلّقة بالأحكام بأن يكون عنده من الاصول

ص: 108

المصحّحة ما يجمعها ويعرف مواقع كل باب بحيث يتمكّن من الرجوع إليها.

وأن يعلم أحوال الرواة في الجرح والتعديل ولو بالمراجعة.

وأن يعرف مواقع الاجماع ليتحرز عند مخالفته.

وأن يكون عالما بالمطالب الاصولية من أحكام الأوامر والنواهي والعموم والخصوص إلى غير ذلك من مقاصده التي يتوقّف الاستنباط عليها. وهو أهمّ العلوم للمجتهد .. ولا بدّ أن يكون ذلك كلّه بطريق الاستدلال على كلّ أصل منها.

وأن يعرف شرائط البرهان لامتناع الاستدلال بدونه إلّا من فاز بقوّة قدسيّة تغنيه عن ذلك.

وأن يكون له ملكة مستقيمة وقوّة إدراك يقتدر بها على اقتناص الفروع من الاصول وردّ الجزئيات إلى قواعدها والترجيح في موضع التعارض.

وأمّا معرفة فروع الفقه فلا يتوقّف عليها أصل الاجتهاد ولكنها قد صارت في هذا الزمان طريقا يحصل به الدربة فيه ويعين على التوصّل إليه.

(3) : اتّفق الجمهور من المسلمين على أنّ المصيب من المجتهدين المختلفين في العقليات التي وقع التكليف بها واحد وأنّ الآخر مخطئ آثم ؛ لأنّ اللّه تعالى كلّف فيها بالعلم ونصب عليه دليلا فالمخطئ له مقصّر فيبقى في العهدة.

وأمّا الأحكام الشرعية فإن كان عليها دليل قاطع فالمصيب فيها أيضا واحد والمخطئ غير معذور. وإن كانت مما يفتقر إلى النظر والاجتهاد فالواجب على المجتهد استفراغ الواسع فيها ولا إثم عليه قطعا بغير خلاف يعبأ به.

نعم اختلف الناس في التصويب فقيل : كلّ مجتهد مصيب .. وقيل إنّ المصيب فيها واحد .. وهو الأقرب إلى الصواب.

(4) : لا ريب في تسمية أخذ المقلّد العامي بقول المفتي تقليدا في العرف ،

ص: 109

وهو ظاهر.

وأكثر العلماء على جواز التقليد لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد سواء كان عاميا أو كان عالما بطرف من العلوم.

(5) : الحق منع التقليد في اصول العقائد.

(6) : ويعتبر في المفتي الذي يرجع إليه المقلّد مع الاجتهاد : أن يكون مؤمنا عدلا. وفي صحة رجوع المقلّد إليه علمه بحصول الشرائط فيه : إمّا بالمخالطة المطّلعة ، أو بالأخبار المتواترة ، أو بالقرائن الكثيرة المتعاضدة أو بشهادة العدلين العارفين ، لأنّهما حجّة شرعية.

إنّ حكم التقليد مع اتّحاد المفتي ظاهر ، وكذا مع التعدّد والاتّفاق في الفتوى.

وأمّا مع الاختلاف فإن علم استواؤهم في المعرفة والعدالة تخيّر المستفتي ، وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض تعيّن عليه تقليده.

ولو ترجّح بعضهم بالعلم والبعض بالورع ، قال المحقق : يقدّم الأعلم ؛ لأنّ الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع والقدر الذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم فلا اعتبار برجحان ورع الآخر ، وهو حسن.

(7) : يجوز بناء المجتهد في الفتوى بالحكم على الاجتهاد السابق ، وإن كان الأولى استيناف النظر إن لم يكن ذاكرا لدليلها.

(8) : لا يشترط مشافهة المفتي في العمل بقوله ، بل يجوز بالرواية عنه ما دام حيا. وهل يجوز العمل بالرواية عن الميت؟ ظاهر الأصحاب الإطباق على عدمه.

ص: 110

الخاتمة : في التعادل والتراجيح

تعادل الأمارتين يقتضي التخيير في العمل بأحدهما.

وإنّما يحصل التعادل مع اليأس من الترجيح بكلّ وجه.

ولمّا كان تعارض الأدلّة الظنّية عندنا منحصرا في الأخبار لا جرم كانت وجوه الترجيح كلّها راجعة إليها وهي كثيرة :

منها الترجيح بالسند ويحصل بامور :

1 - كثرة الرواة.

2 - رجحان راوي أحدهما في وصف يغلب معه ظنّ الصدق ، كالوثاقة والفطنة ، والورع والعلم والضبط.

3 - قلّة الوسائط.

ومنها الترجيح باعتبار الرواية ، فيرجح المروي بلفظ المعصوم على المروي بمعناه.

ومنها الترجيح بالنظر إلى المتن وهو من وجوه :

1 - أن يكون لفظ أحد الخبرين فصيحا والآخر ركيكا بعيدا عن الاستعمال.

2 - أن تتأكّد الدلالة في أحدهما.

3 - أن يكون مدلول اللفظ في أحدهما حقيقيا وفي الآخر مجازيا.

ص: 111

4 - أن تكون دلالة أحدهما على المراد منه غير محتاجة إلى توسيط أمر آخر.

ومنها الترجيح بالامور الخارجية ، وهي :

1 - اعتضاد أحدهما بدليل آخر.

2 - عمل أكثر السلف بأحدهما.

3 - مخالفة أحدهما للأصل وموافقة الآخر له.

4 - أن يكون أحدهما مخالفا لأهل الخلاف والآخر موافقا.

ص: 112

بداية قسم الفقه من معالم الدين وملاذ المجتهدين

اشارة

الحسن بن زين الدين الجبعي العاملي

( 959 - 1011 ه ق )

ص: 113

ص: 114

القسم الأوّل في العبادات ،

وفيه كتب

الكتاب الأوّل في الصلاة ،

وفيه ابواب

الباب الأوّل في مقدّماتها ،

وفيه مقاصد

المقصد الأوّل في الطهارة ،

وفيه ثلاثة مطالب

ص: 115

ص: 116

المطلب الأوّل : في المياه

اشارة

وهي نوعان : مطلق ومضاف

ففيها مقامان

ص: 117

ص: 118

[ المقام ] الأوّل : في المطلق
اشارة

ص: 119

ص: 120

والمراد به : ما يتبادر إلى الفهم عند إطلاق لفظ الماء في العرف. وهو في الأصل طاهر مطهّر.

قال اللّه تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (1). وقال ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (2). وقال اللّه تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) (3). وقال ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) (4). فأصل الماء النابع أيضا من السماء على ما دلّ عليه ظاهر الآيتين الأخيرتين.

على أنّ التسوية بين الكلّ في هذا الحكم المبحوث عنه ثابتة بالإجماع.

وقد دلّت الآية الاولى على طهارة الماء قطعا. وفي دلالتها على أنّه مطهّر احتمالان : مبنيّان على الاختلاف في معنى الطهور.

ص: 121


1- الفرقان : 48.
2- الأنفال : 11.
3- المؤمنون : 18.
4- الزمر : 21.

فكثير من العلماء فسّروه ب- : « الطاهر في نفسه المطهّر لغيره ». حتّى أنّ الشيخ في التهذيب أسنده إلى لغة العرب.

ثمّ احتجّ له بأنّه لا خلاف بين أهل النحو أنّ اسم فعول موضوع للمبالغة وتكرار (1) الصفة. ألا ترى أنّهم يقولون : فلان

ضارب ، ثمّ يقولون : ضروب إذا تكرّر منه ذلك وكثر.

قال : « وإذا كان كون الماء طاهرا ليس ممّا يتكرّر ويتزايد فينبغي أن يعتبر في إطلاق الطهور عليه غير ذلك ، وليس بعد ذلك إلّا أنّه مطهّر. ولو حملناه على ما حملنا عليه لفظة الفاعل لم يكن فيه زيادة فائدة وهذا فاسد » (2).

وفي هذه الحجّة نظر ؛ لتوقّفها على ثبوت الحقيقة الشرعيّة لطهارة الماء ونحوه شرعا - أعني ما يقابل النجاسة - ليكون إطلاق الطهارة في الآية محمولا عليها ، ويتمّ ما ذكره من عدم التكرّر والتزايد فيها ؛ لأنّ المعنى الشرعي هو الذي لا تزايد فيه ، وقد قدّمنا بيان ضعف القول بثبوت الحقائق الشرعية (3).

والمعنى اللغوي للطهارة قابل للزيادة فيجوز أن يكون استعمال فعول في الآية باعتبار زيادة نظافة الماء ونزاهته. ولا ينافيه الاحتجاج بها على الحكم بالطهارة شرعا ؛ لدخولها في المعنى اللغوي ولو بالقرينة.

سلّمنا أنّ الحقائق الشرعيّة ثابتة وأنّ للطهارة حقيقة ، لكنّ امتناع إجراء

ص: 122


1- في نسخة « أ » : تكرّر. وهو الموجود في نسخة التهذيب ، طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران. وفي نسخة « ب » : تكرير.
2- تهذيب الأحكام 1 : 214 ، الباب : 10.
3- راجع مقدّمة معالم الدين : مبحث الحقيقة الشرعيّة.

فعول على حقيقته في الطهارة الشرعيّة يوجب المصير إلى المجاز ، ومن المعلوم أنّ الحقيقة اللّغويّة من [ المجازات ] (1) الشرعيّة فلم رجّحتم التجوّز بإرادة كونه مطهّرا على التجوّز بإرادة المعنى اللّغوي؟

سلّمنا. لكن المدّعى كون ذلك المعنى مدلول لفظ الطهور لغة. وأين هذا منه؟! ويحكى عن بعض العامّة : إنكار دلالته على غير الطهارة ؛ محتجّا بأنّ فعولا يفيد المبالغة في فائدة فاعل ، كما يقال : « ضروب وأكول » لزيادة الأكل والضرب. ولا يفيد شيئا مغايرا له. وكون الماء مطهّرا مغاير لمعنى الطاهر فلا تتناوله المبالغة.

وهذا الكلام له في الجملة وجه. غير أنّ التحقيق ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الطهور في العربيّة على وجهين : صفة ، كقولك : ماء طهور أي طاهر ، واسم غير صفة : وهو ما يتطهّر به كالوضوء والوقود - بفتح الواو فيهما - لما يتوضّأ به وما توقد به النار.

وعلى هذا تكون لطهور دلالة على معنى مطهّر ؛ لأنّ كون الماء ممّا يتطهّر به يقتضي كونه مطهّرا. ولا مجال لإنكار ورود طهور بهذا المعنى ، فقد نصّ عليه جميع أهل اللغة على ما وصل إلينا.

قال في الجمهرة : الطهور الماء الذي يتطهّر به - بفتح الطاء (2).

وقال الجوهري : الطهور ما يتطهّر به كالفطور والسحور والوقود (3).

وفي نهاية ابن الأثير : « الطهور - بالضمّ - التطهّر ، و - بالفتح - الماء الذي

ص: 123


1- « أ » و « ب » و « ج » : مجازات.
2- جمهرة اللغة 2 : 376.
3- الصحاح 2 : 727 ، مادّة : طهر.

يتطهّر به كالوضوء والوضوء » (1).

وفي القاموس : « والطهور : المصدر ، واسم ما يتطهّر به .. » (2).

وحينئذ : فإن كان المراد بإنكار دلالة طهور على غير الطهارة أنّه لا يدلّ عليه بوجه فليس بصحيح ، وإن كان المراد عدم دلالته عليه في حال كونه صفة وباعتبار المبالغة - على ما اقتضاه كلام الشيخ - فهو في موضعه.

وبقي الكلام في توجيه حمل الطهور في الآية (3) على المعنى الثاني ليدلّ على المطهريّة ؛ فإنّ المعنى الأوّل أقرب على ظاهرها.

وبتقدير استوائهما في القرب والبعد لا بدّ في ترجيح أحدهما من دليل.

وقد وجّهه بعضهم بأنّه تعالى ذكره في معرض الإنعام فالواجب حمله على الوصف الأكمل. ولا يخفى أنّ المطهّر أكمل من الطاهر.

وهو كما ترى. مع أنّ الآية الثانية (4) واضحة الدلالة على هذا الحكم مع الإجماع والأخبار.

وبالجملة : فكون المطلق في الأصل على الطهارة والصلاحيّة للتطهير ممّا لا ريب فيه.

وأمّا حكمه بعد عروض العارض كملاقاة النجاسة أو المباشرة بالاستعمال أو غيره فمختلف. وله بهذا الاعتبار أقسام.

فها هنا أبحاث :

ص: 124


1- النهاية 3 : 147 ، باب الطاء مع الهاء.
2- القاموس المحيط 2 : 82 ، باب الراء ، فصل الطاء.
3- الفرقان : 48.
4- وهي قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) . الأنفال : 11.
البحث الأوّل : في الواقف
مسألة [1] :

أكثر علمائنا على أنّ الماء الواقف - وهو ما ليس بنابع - إن بلغ مقدار الكرّ لم ينجس إلّا بتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ، أعني : اللون والريح والطعم. وإن لم يبلغه نجس بمجرّد الملاقاة عدا ما يستثنى.

وخالف في ذلك الحسن بن أبي عقيل فأوقف النجاسة في الكلّ على التغيّر (1).

والحقّ الأوّل.

لنا : ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : وسئل عن الماء تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء » (2).

فدلّ بمفهوم الشرط على أنّ دون الكرّ يثبت له التنجيس في الجملة.

وما رواه في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألته

ص: 125


1- مختلف الشيعة 1 : 176 ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي.
2- الاستبصار 1 : 20 ، الباب 9 ، الحديث 45.

عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثمّ تدخل في الماء ، يتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا. إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ من ماء » (1).

والنهي في هذا الخبر وإن تعلّق بالوضوء - وهو أخصّ من الدعوى - إلّا أنّ الظاهر استناد النهي إلى انتفاء الطهارة ؛ للاتّفاق بيننا وبين الخصم على عدم سلب الطهوريّة فقط. ومن المعلوم أنّ النهي عن استعمال الماء لا يكون إلّا لإحدى هاتين العلّتين.

وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة؟ قال : « يكفى الإناء » (2).

وفي معنى هذه الأخبار روايات اخر كادت في الكثرة أن تبلغ حدّ التواتر المعنويّ وإن كان الغالب عليها ضعف الأسناد.

ولا يقدح في صحّة التمسّك (3) بها عدم دلالة شي ء منها على عموم التنجيس وحصوله بكل نجاسة وعلى أيّ حال وقعت الملاقاة ؛ لأنّ الغرض منها إثبات أصل الانفعال ، على خلاف ما ذهب إليه منكره.

وإذا ثبت ذلك أضفنا إليه الإجماع على عدم الفصل بين أنواع النجاسات في غير المسائل التي ظهر فيها الخلاف ، على ما سنوضحه.

واحتجاج ابن أبي عقيل بالعمومات الدالّة على طهارة الماء - على ما حكاه

ص: 126


1- الاستبصار 1 : 21 ، الباب 10 ، الحديث 49.
2- وسائل الشيعة 1 : 114 ، أبواب الماء المطلق : 8 / 7.
3- في نسختي « ب » و « ج » : في التمسّك بها.

عنه جمع من الأصحاب - وببعض (1) الأخبار الضعيفة مردود بأنّ المخصّص موجود ، والضعيف لا يصلح للمعارضة.

مسألة [2] :

جمهور الذاهبين إلى انفعال القليل بملاقاة النجاسة له لم يفرّقوا بين قليلها وكثيرها.

وخالف في ذلك الشيخ رحمه اللّه فذهب في الاستبصار إلى أنّ الدم القليل الذي لا يدركه الطرف كرءوس الإبر إذا أصاب الماء يعفى عنه (2).

واحتجّ له بما رواه (3) عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه أبي الحسن عليه السلام قال : سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناء ، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال : « إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا يتوضّأ منه » (4).

وردّه بأنّه ليس بصريح في إصابة الماء.

قال في المعتبر : ولعلّ معناه إذا أصاب الإناء وشكّ في وصوله إلى الماء اعتبر بالإدراك (5).

وله في الجملة وجه إلّا أنّ العدول في مثله عن الظاهر إنّما يحسن مع وجود

ص: 127


1- في نسختي « ب » و « ج » : بعض.
2- الاستبصار 1 : 23 ، الباب 10 ، ذيل الحديث 12.
3- في « ب » و « ج » : وحجّته ما رواه.
4- الاستبصار 1 : 23 ، الباب 10 ، الحديث 12.
5- المعتبر 1 : 50 ، ( الطبعة المحققة الاولى ).

المعارض. ولا معارض هنا ؛ لما عرفت من عدم العموم في الأخبار السالفة.

ومن العجيب معارضة بعض الأصحاب له بما رواه علي (1) بن جعفر في الصحيح أيضا عن أخيه عليه السلام قال : وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا (2).

وكيف يصلح للمعارضة مع كون مورد السؤال فيه وقوع القطرة بنفسها ، ومورد السؤال في الخبر الآخر القطع الصغار الخارجة عن الامتخاط المشتبهة برؤوس الإبر في كلام من عمل به؟!

مسألة [3] :

لا نعرف من الأصحاب مخالفا في اختصاص الانفعال بالملاقاة في الماء الواقف بما دون الكرّ ، وإنّ ما بلغه لا ينجس إلّا بالتغيّر بالنجاسة - سواء كان في غدير أو قليب (3) أو حوض أو آنية - إلّا الشيخ المفيد رحمه اللّه (4) وسلّار (5) ، فذهبا إلى : نجاسة ماء الحياض والأواني بملاقاة النجاسة وإن بلغت مقدار الكرّ أو زادت عليه.

ص: 128


1- في نسخة « أ » : عن علي بن جعفر.
2- وسائل الشيعة 1 : 112 - 113 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 8 ، الحديث 1.
3- القليب : البئر قبل أن تطوى .. وقال أبو عبيد : هي البئر العاديّة القديمة. راجع الصحاح 1 : 206.
4- المقنعة : 64 ، طبعة جماعة المدرسين.
5- المراسم : 36 ، الطبعة المحققة الاولى.

والأصحّ الأوّل.

لنا : عموم ما دلّ على نفي النجاسة عمّا بلغ مقدار الكرّ. فالتخصيص يحتاج إلى الدليل (1).

والحجّة المحكيّة عنهما في كلام الأصحاب - أعني التمسّك بعموم النهي عن استعمال ماء الأواني مع ملاقاة النجاسة - بيّنة الضعف ؛ لأنّ دليل اعتبار الكرّيّة يخصّص عموم النهي حيث يثبت (2) ؛ لاحتمال البناء فيه على ما هو الغالب من عدم بلوغ الإناء مقدار الكرّ فيكون تخصيصه أقرب وإن كان كلّ منهما صالحا لتخصيص الآخر إذا نظر إلى مجرّد اللّفظ.

ويبقى الكلام في الحياض ؛ إذ لم يتعرّض لها في الحجة ، فلا يعلم وجه التسوية بينها (3) وبين الأواني.

مسألة [4] :

للأصحاب في كميّة الكرّ اعتباران : الوزن والمساحة.

أمّا الوزن فظاهرهم الاتفاق على أنّه ألف ومأتا رطل ، لكنّهم اختلفوا في المراد من الرطل أهو العراقيّ أو المدنيّ.

والأصل في هذا الحكم ما رواه الشيخ رحمه اللّه في الصحيح عن محمّد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الكرّ من الماء الذي لا ينجّسه

ص: 129


1- في نسخة « ب » : دليل.
2- في نسخة « ب » : ثبت.
3- في نسختي « أ » و « ج » : بينهما.

شي ء ألف ومأتا رطل » (1).

فمن الأصحاب من حمله على العراقيّ ، ومنهم من حمله على المدنيّ.

والرطل العراقيّ مأئة وثلاثون درهما ، والمدنيّ مأئة وخمسة وتسعون ، فيكون العراقيّ ثلثي المدنيّ (2).

احتج الأوّلون بأنّ الحمل على العراقيّ (3) يقتضي مقاربة التقدير بالوزن للتقدير بالمساحة فيكون أولى.

وبأنّ محمّد بن مسلم روى في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّ الكرّ ستمائة رطل » (4).

والمراد به رطل مكّة. لا يجوز أن يراد به رطل العراق ولا رطل المدينة ؛ فإنّ ذلك متروك بالإجماع ، فتعيّن الرطل المكّي ، وهو رطلان بالعراقي فيتطابق (5) مضمون الروايتين.

وبأنّ الأصل طهارة الماء. خرج ما نقص عن الأرطال العراقيّة بالإجماع ، فيبقى ما عداه.

واحتجّ الآخرون بأنّ الحمل على المدنيّة مقتضى الاحتياط ؛ لأنّا إذا حملناه على الأكثر دخل الأقلّ فيه.

ص: 130


1- الاستبصار 1 : 10 ، الباب 2 ، الحديث 4.
2- في « ج » : قال الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتاب تهذيب المشرقين : الكرّ قدره ألف ومأتا رطل بالعراقيّ هو اثنان وسبعون رطلا بالشاميّ. منه.
3- في « ج » : العراقيّة.
4- وسائل الشيعة 1 : 124 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 11 ، الحديث 3.
5- في « ج » : فتطابق.

وبأنّه عليه السلام كان من أهل المدينة فالظاهر أنّه يجيب بما هو المعهود عنده.

وأجاب الأوّلون عن الوجه الأوّل بالمعارضة بمثله ؛ فإنّ المكلّف مع تمكّنه من الطهارة المائيّة لا يشرع له العدول إلى الترابيّة. ولا يحكم بنجاسة الماء إلّا بدليل شرعيّ. فإذا لم يقم على النجاسة فيما نحن فيه دليل كان الاحتياط في استعمال الماء ، لا في تركه.

وعن الثاني بأنّ المهمّ في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل ، وذلك إنّما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاح بلده ، ولم يعلم أنّ السائل كان مدنيّا ، فلا ترجيح من هذه الحيثيّة. وكلامهم في هذا متّجه.

وأمّا جوابهم عن الوجه الأوّل فموضع نظر ؛ لأنّ الأخبار الدالّة على اعتبار الكرّية اقتضت كونها شرطا لعدم انفعال الماء بالملاقاة فما لم يدلّ دليل شرعيّ على حصول الشرط يجب الحكم بالانفعال.

وبهذا يظهر ضعف احتجاجهم بالأصل على الوجه الذي قرّروه ؛ لأنّ اعتبار الشرط مخرج عن حكم الأصل. هذا.

والإشكال متوجّه إلى أصل الحكم أيضا ؛ إذ (1) لم يتحقّق الإجماع عليه.

والخبر - كما ترى - مرسل. وقبول الأصحاب له باعتبار كونه من مراسيل ابن أبي عمير قد بيّنا ما فيه.

ولعلّ انضمام خبر محمّد بن مسلم (2) إليه مع ملاحظة التقريب الذي ذكر فيه ، مضافا إلى عمل الأصحاب يدفع هذا الإشكال ، فيقرب القول الأوّل حينئذ.

ص: 131


1- في « ب » : إن.
2- وسائل الشيعة 1 : 124 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 11 ، الحديث 3.

وأمّا المساحة فقد اختلفوا فيها : فذهب الأكثر إلى اعتبار بلوغ مكسّره (1) اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر.

واكتفى الصدوق وجماعة القميّين فيما (2) حكي عنهم ببلوغه سبعة وعشرين (3).

واختاره من المتأخّرين الفاضل (4) الشيخ علي في بعض كتبه ووالدي (5) رحمه اللّه.

وقال ابن الجنيد (6) : تكسيره بالذراع نحو مأئة شبر.

وعزّي إلى (7) القطب الراونديّ نفي اعتبار التكسير ، وأنّه اكتفى ببلوغ الأبعاد الثلاثة عشرة أشبار ونصفا.

حجّة القول الأوّل : رواية أبي بصير.

قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الكرّ من الماء ، كم يكون قدره؟ قال : « إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك الكرّ من الماء » (8).

واستفيد اعتبار التكسير من كلمة « في ». وإهمال تقدير البعد الثالث فيها

ص: 132


1- في « ج » : تكسيره.
2- في « ب » : عمّا.
3- مختلف الشيعة 1 : 183.
4- في « أ » : المحقّق.
5- روض الجنان : 140.
6- مختلف الشيعة 1 : 183.
7- راجع روض الجنان : 140.
8- الاستبصار 1 : 10 ، الباب 2 ، الحديث 3. وسائل الشيعة 1 : 8. أبواب الماء المطلق ، الباب 10 ، الحديث 6.

غير ضائر (1) ؛ لأنّ الظاهر الاعتماد فيه على ما علم في البعدين الآخرين.

والحاصل من ضرب هذه المقادير بعضها في بعض هو ما ذكروه.

وفي طريق هذه الرواية ضعف بعثمان بن عيسى ؛ فإنّه واقفيّ ، وباشتراك أبي بصير بين الثقة وغيره.

قال المحقّق في المعتبر - بعد أن ذكر أنّ الشيخ وغيره عملوا بها - : « لكن عثمان بن عيسى واقفيّ ، فروايته (2) ساقطة ، ولا تصغ إلى من يدّعي الإجماع هنا ؛ فإنّه يدّعي الإجماع في محلّ الخلاف » (3).

وحجّة القول الثاني : رواية اسماعيل بن جابر.

قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الماء الذي لا ينجّسه شي ء؟ قال : « كرّ ».

قلت : وما الكرّ؟ قال : « ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » (4).

فحملوا إهمال البعد الثالث فيها على نحو ما ذكر في إهمال تقديره في الرواية السابقة من أنّه إحالة لحكمه على ما ذكر في البعدين الآخرين ، وهو تكلّف ظاهر.

قال في المعتبر : إن كان معوّل الصدوق على هذه - يعني رواية اسماعيل - فهي ناقصة عن اعتباره (5).

وقد وصفها جمع من الأصحاب بالصحة ، وفي طريقها البرقيّ. والمراد به محمّد بن خالد ، وفيه كلام ، مع أنّ توثيقه لم يعلم إلّا من شهادة الشيخ.

ص: 133


1- في « ب » : ضارّ.
2- في « أ » : وروايته.
3- المعتبر 1 : 46.
4- وسائل الشيعة 1 : 122 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 10 ، الحديث 4.
5- المعتبر 1 : 46.

واسماعيل بن جابر لم يوثّقه غير الشيخ أيضا ، وتبعه العلّامة في الخلاصة.

وفي الطريق مع ذلك إشكال آخر لا يخفى على الممارس وإن شملت الغفلة عنه الجمّ الغفير.

وأمّا قول ابن الجنيد فلم يذكر له حجّة. وكذا قول القطب ، وما أكثر ما بينهما من البون.

وهما على كلّ حال ساقطان ؛ لتطابق هذه الأخبار وغيرها على نفي ما تضمّناه كصحيحة اسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الماء الذي لا ينجّسه شي ء؟ قال : « ذراعان عمقه. في ذراع وشبر سعته » (1).

وحسنة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجّسه شي ء ، تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ فيه إلّا أن يجي ء له ريح يغلب على ريح الماء » (2).

وحسنة (3) عبد اللّه بن المغيرة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« الكرّ من الماء نحو حبّي هذا ». وأشار إلى حبّ من تلك الحباب التي تكون في المدينة (4).

وقد حمل الشيخ الجميع على ما بلغ المقدار المعلوم للكرّ (5).

ص: 134


1- وسائل الشيعة 1 : 121 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 10 ، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 1 : 104 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 3 ، الحديث 9. تهذيب الأحكام 1 : 2. الحديث 117.
3- في « ب » : رواية عبد اللّه بن المغيرة.
4- وسائل الشيعة 1 : 123 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 10 ، الحديث 7.
5- تهذيب الأحكام 1 : 42 ، ذيل الحديثين 117 و 118.

وكيف كان فهي عاضدة لما دلّ على نفي مضمون ذينك القولين.

مع أنّ ابن الجنيد مصرّح بالموافقة على تقدير الوزن ، لكنّه أطلق الرطل (1).

ومن البيّن أنّ مساحة الألف ومأتي رطل وإن كانت بالمدنيّ لا تبلغ المائة شبرا ، فينحصر الخلاف المعتدّ به في القولين الأوّلين.

والظاهر رجحان الأوّل (2) منهما ؛ لما أشرنا إليه من أنّ عدم انفعال الماء بملاقاة النجاسة مشروط بكونه قدر الكرّ ، ولا بدّ (3) للعلم بحصول الشرط من دليل ، وقد علمت انتفاءه بالنسبة إلى القدر الأوّل - أعني مضمون القول الثاني - والأكثر منفيّ بما ذكرناه من توافق الأخبار كلّها وتعاضدها على نفيه ، فيتعيّن (4) الأوّل ؛ إذ لم يبق ثمّ سواه.

مسألة [5] :

لا فرق في اشتراط كرّية الواقف لعدم انفعاله بالملاقاة بين أن يكون في مصنع أو غدير أو حمّام أو غيرها على الأقوى.

وبه قال أكثر الأصحاب ؛ لعموم الدليل.

وقال المحقّق رحمه اللّه : « حوض الحمّام ، إذا كان له مادّة لا ينجس (5) بملاقاة النجاسة ويكون كالجاري .. ولا اعتبار بكثرة المادّة وقلّتها. لكن لو تحقّق

ص: 135


1- مختلف الشيعة 1 : 183.
2- في « ب » : رجحان الظاهر منهما.
3- في « أ » و « ج » : فلا بدّ.
4- في « ج » : فتعيّن.
5- في المعتبر : لا ينجس ماؤه.

نجاستها لم تطهر بالجريان » (1).

واحتجّ لذلك بما رواه داود بن سرحان ، قال : قلت : لأبي عبد اللّه عليه السلام ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : « هو بمنزلة الماء الجاري » (2).

وبما رواه بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه السلام قال : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة » (3).

وبأنّ الضرورة تمسّ إليه ، والاحتراز عنه (4) عسير فلزم الترخيص دفعا للحرج.

وجوابه منع الدلالة في الروايتين :

أمّا الاولى فظاهر ؛ لعدم التعرّض فيها للقلّة ، ولا لتأثير المادّة ، فجاز إرادة الكثير منه. ولئن سلّمنا بالعموم في لفظه فلا ريب أنّ عموم اشتراط الكريّة أقوى دلالة منه فيجب تخصيصه به.

وأمّا الثانية فلأنّها وإن كانت ظاهرة في إرادة القليل والمادّة فيها مطلقة إلّا أنّ احتمال البناء على الغالب من أكثريّة المادّة أو إرادة الكثير من لفظ المادّة نظرا إلى أنّه المتعارف منه يقتضي ضعفه عن مقاومة عموم اعتبار الكريّة ، فيكون تقييده بذاك أولى.

هذا مع قطع النظر عن حال السند. وإلّا فالرواية الاولى غير واضحة الصحّة ؛

ص: 136


1- المعتبر 1 : 42 ، الفرع الرابع.
2- وسائل الشيعة 1 : 110 ، أبواب الماء المطلق ، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 1 : 111 ، أبواب الماء المطلق ، الحديث 4.
4- قال في المعتبر ( 1 : 42 ) : ولأنّ الضرورة تمسّ إليه ، والاختصاص عسر فيلزم الترخيص دفعا للحرج.

لأنّ داود بن سرحان لم يعلم حاله إلّا من توثيق النجاشي (1) ، وقد عرفت عدم الاكتفاء بمثله (2). والأخيرة ضعيفة ؛ لجهالة بكر.

وأمّا ادّعاء لزوم العسر والحرج فغير مقبول.

مسألة [6] :
اشارة

ذهب والدي عليه الرحمة إلى أنّ استواء سطح الماء غير معتبر في الكرّ

فلو بلغ الماء المتواصل المختلف السطوح كرّا لم ينفعل شي ء منه بالملاقاة (3) ، سواء في ذلك الأعلى والأسفل (4).

واحتجّ له بعموم ما دلّ على عدم انفعال مقدار الكرّ بملاقاة النجاسة ، وذكر أنّ كلام أكثر الأصحاب خال من تقييد الكرّ المجتمع بكون سطوحه مستوية ، وعدّ منهم العلّامة (5) رحمه اللّه فإنّه أطلق في كتبه الحكم في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية ، ومسألة القليل الواقف إذا اتّصل بالجاري ، حيث حكم باتّحاد الغديرين مع الساقية ، فمتى كان المجموع كرّا لم ينفعل بالملاقاة. وكذا في القليل المتّصل بالجاري.

ثمّ عزى إلى جماعة من متأخّري الأصحاب اضطراب الفتوى في ذلك ، ولم أره إلّا في كلام الشهيد رحمه اللّه فإنّه قال في الدروس :

ص: 137


1- رجال النجاشي : 159.
2- ذهب في المقدّمة - في مبحث الأخبار - إلى عدم الاكتفاء بتزكية الواحد العالم بها.
3- في « ب » : لم ينقل نجاسة بالملاقاة.
4- روض الجنان : 136.
5- تحرير الأحكام 1 : 4 ، الطبعة الحجرية.

« لو كان الجاري لا عن مادّة ، ولاقته النجاسة ، لم ينجس ما فوقها مطلقا ولا ما تحتها إن كان جميعه كرّا فصاعدا إلّا مع التغيّر » (1).

فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع ملاقاة النجاسة إذا كان مجموع الماء بلغ مقدار الكرّ ولم يشترط استواء السطوح. ثمّ قال بعد ذلك بقليل :

« لو اتّصل الواقف بالجاري اتّحدا مع مساواة سطحهما ، أو كون الجاري أعلى لا العكس ».

فاعتبر في صدق الاتّحاد مساواة السطحين أو علوّ الكثير. وبمثل هذا صرّح في الذكرى (2) والبيان (3).

قال في الذكرى بعد أن حكم (4) بأنّ اتّصال القليل النجس بالكثير مماسّة لا يطهره :

« ولو كانت الملاقاة - يعني ملاقاة النجاسة للقليل - بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علوّ الكثير » (5).

وفي البيان : « لو اتّصل الواقف القليل بالجاري واتّحد سطحهما ، أو كان الجاري أعلى اتّحدا ، ولو كان الواقف أعلى فلا » (6).

وأما ما ذكره من اطلاق العلّامة الحكم فهو كذلك في أكثر كتبه ، ولكنّه

ص: 138


1- الدروس الشرعيّة 1 : 119 ، الطبعة المحقّقة لمؤسّسة النشر الإسلامي.
2- ذكرى الشيعة : 29 ، الطبعة الحجرية.
3- البيان : 44.
4- في « أ » : بعد حكمه.
5- ذكرى الشيعة : 29.
6- البيان : 44.

في التذكرة قيّده حيث قال في مسألة الغديرين :

« لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا إن اعتدل الماء ، إلّا في حقّ السافل ، فلو نقص الأعلى عن كرّ انفعل بالملاقاة » (1).

والمحقّق رحمه اللّه أطلق الحكم في هذه المسألة ؛ فإنّه قال في المعتبر :

« الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كلّ واحد منهما عن الكرّ إذا كان مجموعهما مع الساقية كرّا فصاعدا » (2).

إلّا أنه قال بعد ذلك : « لو نقص الغدير عن كرّ فنجس فوصل بغدير فيه كرّ ففي طهارته تردّد ، الأشبه بقاؤه على النجاسة ؛ لأنّه ممتاز عن الطاهر » (3).

وهذا الكلام كما ترى يؤذن بفرضه الحكم في غديرين سطحهما مستو ، فيخرج الكلام عن الإطلاق (4). هذا.

وليس اعتبار المساواة في الجملة بالبعيد ؛ لأنّ ظاهر أكثر الأخبار المتضمّنة لحكم الكرّ اشتراطا وكمّية اعتبار الاجتماع في الماء وصدق الوحدة والكثرة عليه ، وفي تحقّق ذلك مع عدم المساواة - في كثير من الصور - نظر.

والتمسّك في عدم اعتبارها بعموم ما دلّ على عدم انفعال مقدار الكرّ بملاقاة النجاسة مدخول ؛ لأنّه من باب المفرد المحلّى ، وقد بيّنا في المباحث الاصوليّة :

ص: 139


1- تذكرة الفقهاء 1 : 23 ، طبعة مؤسسة آل البيت.
2- المعتبر 1 : 50.
3- المعتبر 1 : 50.
4- اطلاق كلام التذكرة يقتضي الاكتفاء في عدم انفعال السافل ببلوغ المجموع كرّا. وسيأتي نقل كلامه في مادّة الحمّام. وهو يقتضي اشتراط كون المادّة وحدها كرّا. « منه رحمه اللّه ».

أنّ عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حدّ صيغ العموم ، وإنّما هو باعتبار منافاة عدم ارادته للحكم الحكمة فيصان كلام الحكيم عنه.

وظاهر أنّ منافاة الحكمة إنّما يتصوّر حيث ينتفي احتمال العهد. ولا ريب أنّ تقدّم السؤال عن بعض أنواع الماهيّة عهد ظاهر ، وهو في محلّ النزاع واقع ؛ إذ النصّ متضمّن للسؤال عن الماء المجتمع ، وحينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه.

نعم يتوجّه ثبوت العموم في ذلك المعهود بأقلّ ما يندفع به محذور منافاة الحكمة.

وربّما يتوهّم أنّ هذا من قبيل تخصيص العام ببنائه (1) على سبب خاصّ ، وهو مرغوب عنه (2) في الاصول.

وبما حقّقناه يعلم أنّه لا عموم في أمثال موضع النزاع على وجه يتطرّق إليه التخصيص.

فإن قلت : هذا الاعتبار يقتضي انفعال غير المستوي مطلقا ، مع أنّ الذاهبين إلى اعتبار المساواة مصرّحون بعدم انفعال القليل المتّصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى. وقد سبق نقله عن البيان والذكرى (3) فما الوجه في ذلك؟ وكيف حكموا بالاتحاد مع علوّ الكثير ، ونفوه في عكسه ، والمقتضي للنفي على ما ذكرت موجود فيهما؟

قلت : لعلّ الوجه فيه أنّ المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو وجود المادّة له - على ما يأتي تحقيقه - ولا ريب أنّ تأثير المادّة إنّما هو باعتبار إفادتها

ص: 140


1- في « أ » : لبنائه. وفي « ب » : ببيانه.
2- في « ب » : وهو مبحوث عنه.
3- راجع الصفحة 138.

الاتصال (1) بالكثرة ، وليس الزائد منها (2) على الكرّ بمعتبر في نظر الشارع ، فيرجع (3) حاصل المقتضي إلى كونه متّصلا بالكرّ على جهة جريانه إليه واستيلائه عليه. وهذا المعنى بعينه موجود فيما نحن فيه ، فيجب أن يحصل (4) مقتضاه.

ويؤيّد ذلك حكم ماء الحمام ؛ فإنّا لا نعلم من الأصحاب مخالفا في عدم انفعاله بالملاقاة مع بلوغ المادّة كرّا. والأخبار الواردة فيه شاهدة بذلك أيضا. وليس بخصوصيّة الحمّام عند التحقيق مدخل في ذلك.

وتوقّف العلّامة في المنتهى (5) والتذكرة (6) - بعد اشتراط (7) كرّية مادّته - في إلحاق الحوض الصغير ذي المادّة في غيره به لا معنى له (8).

ص: 141


1- في « ب » : الانفعال.
2- في « ب » : الزائد فيها.
3- في « ب » : فرجع.
4- في « ب » : أن يجعل.
5- منتهى المطلب 1 : 32.
6- تذكرة الفقهاء 1 : 18 ، طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
7- في « ب » : بعد اشتراطه.
8- لا يقال : كيف يتوقّف العلّامة في إلحاق ما ليس في الحمّام به مع حكمه بعدم انفعال الغدير ، إن قال : إذا كان المجموع كرّا فالحكمان الموجودان في التذكرة على غاية من التفاوت. لأنّا نقول : الظاهر أنّه بدى الفرق بين الاتصال الحاصل في الأرض المنحدرة وبين ما يكون بميزاب ونحوه. وكأنّ فرض الاتّصال في الحمّام بالاعتبار الأخير في كلام المنتهى نوع إشعار بذلك فلهذا توقّف في الإلحاق مع جزمه بالاكتفاء في الغديرين إذ قد فرض الاتصال فيه بالساقية. وقد نبّه على الفرق بين الاعتبارين بعض المتأخّرين. والتحقيق أنّه لا فرق لصدق الاتصال فيهما. منه رحمه اللّه.

نعم يتوجّه ذلك على القول بعدم اعتبار الكرّية في المادّة ؛ فإنّه يمكن حينئذ قصر الرخصة على موضع النصّ.

وقد بنى الشهيد في الذكرى هذا الإلحاق على الخلاف في المادّة فقال :

« وعلى اشتراط الكرّية في المادّة يتساوى الحمّام وغيره لحصول الكرّية الدافعة (1) للنجاسة ، وعلى العدم فالأقرب اختصاص الحمّام بالحكم لعموم البلوى وانفراده بالنص » (2).

وقد تحرّر من هذا : أنّ عدم انفعال الواقف بالملاقاة مشروط ببلوغ مقدار الكرّ مع تساوي سطح الماء بحيث يصدق عليه الوحدة والاجتماع والكثرة عرفا ، أو باتّصاله بمادّة هي كرّ فصاعدا.

ولا يعتبر استواء السطوح في المادّة بالنظر إلى عدم انفعال ما تحتها ؛ لصدق المادّة الكثيرة مع الاختلاف. ولأنّ المادّة المعتبرة في النابع ليست بمستوية كما هو ظاهر.

نعم يعتبر الاستواء في عدم انفعال المادّة نفسها ، فلو لاقتها نجاسة وهي غير مستوية نجس موضع الملاقاة ، ويلزم منه نجاسة ما تحتها أيضا ما لم يكن فيه كرّ مجتمع.

وربّما استبعد ذلك حيث يكون الماء كثيرا جدّا لا سيّما انفعال آخر جزء منه بملاقاة أوّل جزء على ما هو شأن ما ينفعل بالملاقاة.

ويمكن دفعه : بالتزام عدم انفعال ما بعد عن موضع الملاقاة بمجرّدها ؛ لعدم الدليل ؛ إذ الأدلّة الدالّة على انفعال ما نقص عن الكرّ بالملاقاة مختصة بالمجتمع

ص: 142


1- في « ب » : الكرّية الرافعة للنجاسة.
2- ذكرى الشيعة : 8.

والمتقارب.

وليس مجرد الاتصال بالنجس موجبا للانفعال في نظر الشارع وإلّا لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل ؛ لصدق الاتصال حينئذ ، وهو منفيّ قطعا.

وإذا لم يكن الاتصال بمجرّده موجبا لسريان الانفعال فلا بدّ في الحكم بنجاسة البعيد من دليل.

نعم جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل إليه ، فإذا استوعب الأجزاء المنحدرة نجّسها وإن كثرت. ولا بعد في ذلك ؛ فإنّها بعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل (1) ، فكما أنّه ينجس بملاقاة النجاسة له وإن قلّت وكان مجموعه في نهاية الكثيرة فكذا هذه.

فرع :

أطلق العلّامة رحمه اللّه وكثير من الأصحاب اشتراط كرّيّة مادّة الحمّام (2) ، وكأنّه بناء على الغالب من عدم مساواة سطحها بسطح الحوض ، وإلّا فالمتّجه حينئذ الاكتفاء ببلوغ المجموع ، كما حكموا به في الغديرين.

وقد صرّح بالتفصيل بعض الأصحاب وهو الأجود.

ثمّ إنّ ظاهر إطلاق العلّامة رحمه اللّه اشتراط كرّية المادّة يدلّ على اعتبار المساواة في الكرّ كما صرّح به في التذكرة (3) ، إلّا أنّ كلام التذكرة يدلّ على انفعال الأعلى فقط مع عدم التساوي ، وما هنا يقتضي انفعال السافل أيضا ، وكأنّه يرى الفرق بين الاتصال الحاصل بالميزاب ونحوه وبين ما يكون بالساقية في الأرض المنحدرة

ص: 143


1- في « ب » : ولا بعد في ذلك فإنّه بعد استواء سطحها بمنزلة المتّصل.
2- نهاية الإحكام 1 : 230.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 23.

حيث إنّ اتصال الحمام في الأغلب يكون على الوجه الأوّل وقد فرض اتصال الغديرين بالوجه الثاني.

واعتبر هذا الفرق بعض المتأخّرين ، وليس بذاك ، سيّما بعد الحكم بانفعال الأعلى في مسألة الغديرين ؛ فإنّ المقتضي لعدم انفعال السافل منهما عندهم هو صدق الوحدة ، وذلك يقتضي عدم انفعال الأعلى أيضا ؛ إذ لا معنى (1) لصدقها بالنظر إلى بعض الأجزاء دون بعض ، فليتأمّل هذا (2).

وقد اكتفى والدي رحمه اللّه - بناء على أصله السابق - ببلوغ المجموع من المادّة والحوض مقدار الكرّ مع التواصل مطلقا (3). وتبعه عليه بعض مشايخنا المعاصرين (4) ، وقد عرفت ما فيه.

ومن المجازفات العجيبة ما يوجد في كلام بعض المتأخّرين من أنّ بلوغ المجموع قدر الكرّ كاف مطلقا إجماعا ، وأنّ إطلاق الأصحاب اشتراط كرّية المادّة مبنيّ على الغالب من كثرة الأخذ من ماء الحوض.

وما أبعد ما بين هذا الكلام وبين عدّ بعض آخر إطلاق اشتراط الكرّية في المادّة قولا مغايرا للتفصيل باستواء السطوح وعدمه ، كما قرّرناه ؛ إذ مقتضى ذلك وجود القائل باشتراط كرّية المادّة وحدها وإن استوت السطوح.

والتحقيق : أنّ هذا بعيد أيضا. بل الظاهر أنّ المطلقين للاشتراط بنوه على الغالب من عدم الاستواء ، وإلّا فلا معنى لاكتفائهم ببلوغ المجموع في الغديرين

ص: 144


1- في « ب » : إذ لا مقتضى.
2- في « ب » : فليتأمّل هنا.
3- روض الجنان : 137 ، الطبعة الحجريّة.
4- في « ب » : مشايخنا المتأخّرين

وعدمه هنا.

وممّا ينبّه على ذلك أنّ الشهيد رحمه اللّه في الذكرى حيث شبّه الماء القليل المتّصل بالكثير العالي عليه بماء الحمّام (1) عند ذكره الحكم المنقول عنه سابقا أعني قوله :

« ولو كانت الملاقاة بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علوّ الكثير » ، فوصل قوله بقوله : « كالحمّام » وهو ممن أطلق اشتراط كرّية المادّة ، فعلم أنّه بناه (2) على ما فرضه من علوّها على الحوض (3).

مسألة [7] :
اشارة

لا ريب في تنجيس الواقف بل مطلق الماء وإن كثير بتغيّره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة ، وهو مذهب أهل العلم كافّة. ذكره جماعة من الأصحاب.

ويؤيّده ما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

« كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (4).

وفي الصحيح عن حمّاد بن عيسى عن ابراهيم بن عمير اليماني عن أبي خالد القمّاط ، أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو يقع فيه الميتة الجيفة فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إن كان قد تغيّر ريحه وطعمه فلا تشرب

ص: 145


1- ذكرى الشيعة : 9 ، الطبعة الحجريّة.
2- في « أ » : بناء.
3- في « ب » : على الحوضين.
4- الاستبصار 1 : 12 ، الباب 3 ، الحديث 2.

ولا تتوضّأ منه وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ » (1).

إذا تقرّر هذا فأكثر الأصحاب على أنّ المعتبر من التغيّر ما يظهر للحس ، فلو كانت النجاسة مسلوبة الصفات لم تؤثّر في الماء وإن كثرت.

وذهب العلّامة رحمه اللّه إلى وجوب تقدير النجاسة على أوصاف مخالفة. فإن كان الماء يتغيّر بها على ذلك التقدير حكم بنجاسته وإلّا فهو باق على الطهارة (2).

وحجّته على ما حكاه بعض الأصحاب : « أنّ التغيّر الذي هو مناط النجاسة دائر مع وجود الأوصاف ؛ فإذا فقدت وجب تقديرها ».

وليس بشي ء ؛ إذ لا تزيد على إعادة المدّعى (3).

وفخر المحققين وافق والده على ذلك ، واحتجّ له بوجود المقتضي ، وهو صيرورة الماء مقهورا ؛ لأنّه كلّما لم يكن الماء مقهورا لم يتغيّر بها على تقدير المخالفة ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّما تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا (4).

وهو ضعيف أيضا ؛ لتوجّه المنع إلى كلّية الاولى.

وما يقال : من أنّ عدم وجوب التقدير يفضي إلى جواز الاستعمال وإن زادت النجاسة على الماء أضعافا وهو كالمعلوم البطلان ، فوجب تقدير الأوصاف ؛ لأنها مناط التنجيس وعدمه ، فهو استبعاد قريب ، لكنّه لا ينهض (5) دليلا

ص: 146


1- الاستبصار 1 : 9 ، الباب 1 ، الحديث 10.
2- نهاية الإحكام 1 : 233.
3- في « ب » : لا تزيد على ما ادّعاه المدّعي.
4- إيضاح الفوائد 1 : 16.
5- في « ب » : لا ينهض به.

على المدّعى ؛ إذ معلوميّة المنع من الاستعمال حيث تستهلك النجاسة الماء لكونها أضعافه لا يقتضي وجوب التقدير والمنع من الاستعمال مع أكثرية الماء أو مساواته المانعة من استهلاك النجاسة له ، وذلك ظاهر.

وقد بان بما ذكرناه أنّ الأظهر مختار الأكثر ، وإن كان في القول الآخر احتياط في الجملة.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

لو اشتمل الماء على صفة تمنع من ظهور التغيّر فيه كما لو كان متغيّرا بطاهر أحمر (1) ووقع فيه دم ، فالذي ينبغي : القطع بوجوب تقدير خلوّ الماء عن ذلك الوصف ؛ لأنّ التغيير حينئذ على تقدير حصوله حقيقيّ (2) ، غاية ما هناك أنّه مستور على الحسّ وقد نبّه على ذلك الشهيد رحمه اللّه في البيان (3).

[ الفرع ] الثاني :

هل المعتبر على القول بتقدير المخالفة هو الوصف الأشدّ ، كحدّة الخلّ وذكا المسك وسواد الحبر ؛ لمناسبة النجاسة تغليظ الحكم؟ أو الوسط ؛ لأنّه الأغلب؟

ظاهر العلّامة في النهاية الأوّل ، حيث قال : « ويعتبر ما هو الأحوط » (4).

ص: 147


1- في « ب » و « ج » : بطاهر آخر.
2- في « أ » و « ج » : تحقيقيّ.
3- البيان : 44 ، الطبعه الحجريّة.
4- نهاية الإحكام 1 : 229 ، طبعة إسماعيليان المحقّقة.

وفي الذكرى : « ينبغي فرض مخالف أشدّ أخذا بالاحتياط » (1).

واختار الثاني بعض المتأخّرين وهو الأجود.

واستقرب بعض الأصحاب اعتبار أوصاف الماء وسطا (2) ؛ نظرا إلى شدّة اختلافها في قبول التغيّر وعدمه ، كالعذوبة والملوحة والرقّة والغلظة والصفاء والكدرة ، وهو محتمل حيث (3) لا يكون الماء على الوصف القويّ ؛ إذ لا معنى لتقديره حينئذ بما هو دونه.

[ الفرع ] الثالث :

لو تغيّرت رائحة الماء بمرور رائحة النجاسة القريبة لم ينجس ؛ لأنّ الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثّر تنجيسا.

[ الفرع ] الرابع :

لو حصل التغيّر في أحد الأوصاف بالمتنجّس لا النجاسة وبقي معه الإطلاق لم ينجس ، كما لو تغيّر طعمه بالدبس النجس من غير أن تؤثّر نجاسته فيه أو تخرجه عن إطلاق الاسم.

وللشيخ في ذلك خلاف ضعيف يأتي الكلام عليه (4) في بحث المضاف.

[ الفرع ] الخامس :

لو شكّ في استناد التغيّر إلى النجاسة لم ينجس ؛ لأنّ أصالة الطهارة لا تدفع بالشكّ.

ص: 148


1- ذكرى الشيعة : 8 ، الطبعة الحجريّة.
2- في « ب » : اعتبار أوصاف المتوسّط.
3- في « أ » : وهو محتمل لا حيث لا يكون الماء على الوصف القويّ.
4- في « ب » : فيه.
مسألة [8] :
اشارة

إذا نجس القليل الواقف فلتطهيره طرق يتوقّف بيانها على تمهيد مقدمة ، وهي أنّه :

هل يكفي في تطهير الماء مجرّد اتّصال المطهّر به؟ أو لا بدّ من الممازجة؟

فقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب ، وظهر من فتوى جماعة منهم فيه الاضطراب.

فممّن صرّح (1) باشتراط الامتزاج المحقّق في المعتبر ؛ فإنّه ذهب في مسألة الغديرين إلى أنّ اتّصال القليل النجس منهما بالكثير الطاهر غير كاف في تطهيره (2) ، وقد سبق نقل عبارته في ذلك.

وممّن صرّح بعدم اعتباره وجعل المناط مجرد الاتصال ، الفاضل الشيخ علي (3) ووالدي (4) رحمهما اللّه.

وقال العلّامة في المنتهى في مسألة الغديرين : « لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا ، واعتبر الكرّية فيهما مع الساقية جميعا. أمّا لو كان أحدهما أقلّ من الآخر ولاقته نجاسة فوصل بغدير بالغ كرّا ، قال بعض الأصحاب : الأولى بقاؤه على النجاسة ؛ لأنّه ممتاز عن الطاهر ، مع أنّه لو مازجه وقهره لنجّسه. وعندي فيه نظر ؛ فإنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه.

ص: 149


1- في « ب » : فممّن خرّج اشتراط الامتزاج.
2- المعتبر 1 : 50.
3- جامع المقاصد 1 : 133 ، طبعة مؤسسة آل البيت.
4- الروضة البهيّة 1 : 258 ، طبعة كلانتر.

ولا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة ، فالمعتبر إذن الاتصال الموجود هنا (1).

وفي التحرير : « لو كان أحدهما ( يعني الغديرين ) أقلّ من كرّ فوقعت فيه نجاسة ، ثمّ وصل بغدير بالغ كرّا فالأولى زوال النجاسة » (2).

وفي النهاية ما يقرب من هذا (3).

وقال في التذكرة : « لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا » إلى أن قال : « ولو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال ، وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة ؛ لأنّ النجس لو غلب الطاهر نجّسه مع الممازجة ، فمع التميّز يبقى على حاله » (4).

وقال في المنتهى في بحث ماء الحمّام : « والحوض الصغير من الحمّام إذا نجس لم يطهر بإجراء المادّة إليه ما لم تغلب عليه بحيث تستولي عليه ؛ لأنّ الصادق عليه السلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري. ولو ينجّس الجاري لم يطهر إلّا باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله » (5).

وفي النهاية مثله (6).

وقريب منه في التحرير (7).

ص: 150


1- منتهى المطلب 1 : 53 - 54.
2- تحرير الأحكام 1 : 28.
3- نهاية الإحكام 1 : 232.
4- تذكرة الفقهاء 1 : 23.
5- منتهى المطلب 1 : 32.
6- نهاية الإحكام 1 : 230.
7- تحرير الأحكام 1 : 6.

وفي التذكرة : « لو تنجس الحوض الصغير في الحمّام لم يطهر باجراء المادّة إليه بل بتكاثرها على مائه » (1).

فانظر ما في هذه الفتاوى من الاختلاف مع اتّحاد الموضوع أو تماثله.

وقد اتّفق للشهيد رحمه اللّه ما يقرب من ذلك فإنّه قال في الذكرى : « طهر القليل بمطهّر الكثير ممازجا. فلو وصل بكرّ مماسّة لم يطهر ؛ للتميّز المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه » (2).

وصرّح في اللمعة بالاكتفاء بمجرّد الملاقاة (3).

وقد لاح لك من الكلام الذي حكيناه مظهر الاحتجاج من الجانبين ، وما رأيت من بسط القول فيه سوى الشيخ علي (4) ووالدي (5) رحمهما اللّه : فإنّهما احتجّا لما ذهبا إليه من الاكتفاء بالاتصال : بالأصل ، وعدم تحقّق الامتزاج ؛ لأنّه إن اريد به امتزاج مجموع الأجزاء بالمجموع لم يتحقّق الحكم بالطهارة ؛ لعدم العلم بذلك ، بل ربّما علم عدمه. وإن اريد به البعض لم يكن المطهّر للبعض الآخر الامتزاج بل مجرّد الاتّصال ، فيلزم (6) : إمّا القول بعدم طهارته أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال. وبأنّ الأجزاء الملاقية للطاهر تطهر بمجرد الاتّصال قطعا ، فتطهر الأجزاء التي تليها لاتّصالها بالكثير الطاهر ، وكذا القول في بقية الأجزاء.

ص: 151


1- تذكرة الفقهاء 1 : 18.
2- ذكرى الشيعة : 9.
3- الروضة البهيّة 1 : 253.
4- جامع المقاصد 1 : 133.
5- روض الجنان : 138.
6- في « ب » : ويلزمه.

وأقول : هذا غاية ما يمكن أن يحتجّ به لهذا القول ، وقد اشتمل على وجوه ثلاثة لا أرى واحدا منها سليما من جرح المناقشة.

أمّا الأوّل : أعني التمسّك بالأصل ، فلأنّه لا معنى له في مثل هذا المقام ؛ لمعارضة أصالة بقاء النجاسة له ، ولو فرض وجود دليل يصلح مخرجا عنها لكان هو الحجّة.

وأمّا الثاني : وهو عدم تحقّق الامتزاج ، فلأنّ محصّله انحصار ما يحتمل إرادته منه في أمرين :

أحدهما : امتزاج مجموع أجزاء المطهّر بمجموع أجزاء المطهّر. ولا سبيل إلى العلم به على تقدير امكان حصوله ، فلا يجوز جعله مناطا للحكم الشرعي.

والثاني : امتزاج البعض بالبعض ، وحينئذ فالبعض الغير الممتزج : إما أن يقال بعدم طهارته وهو باطل قطعا ؛ إذ الاتفاق واقع على أنّه ليس وراء الامتزاج المذكور شرط آخر لطهر الجميع ، أو يقال بطهارته بمجرّد الاتصال ، فيلزم القول به مطلقا ؛ إذا الفرق بين الأبعاض غير معقول ، فيكون اعتبار الامتزاج على هذا التقدير مستلزما لعدم اعتباره وهو ظاهر الفساد.

ويرد عليه : أنّا نختار إرادة امتزاج البعض ، وأنّ الباقي يطهر حينئذ ، ويمنع اقتضاء ذلك ؛ للاكتفاء بالاتّصال مطلقا.

وتحقيق الحال : أنّ الحكم بالطّهارة وعدمها تابع للدلالة الشرعيّة ، وليس للعقل فيه مدخل. ونحن إنّما حكمنا بطهر الأجزاء الباقية بغير امتزاج من الماء (1) الممتزج ظاهرا لقيام الدليل عليه - وهو الاتفاق على حصول الطهارة للمجموع حينئذ كما ذكرتموه - فإنّه يستلزم الحكم بطهارة الأجزاء وإن لم يحصل فيها

ص: 152


1- في « ب » : في الماء.

غير الاتّصال ، فمن أين يلزمنا الحكم بطهارة ما لم يحصل فيه امتزاج أصلا بمجرّد الاتصال؟ وهو خلاف مورد الدليل ، وليس هناك نصّ على علّة مشتركة توجب اشتراكهما في الحكم. وبالجملة فهذا واضح غنيّ عن البيان.

وأمّا الثالث : فهو أمتن الوجوه وأقربها ، إلّا أنّه موقوف على وجود دليل نقليّ يدلّ - ولو بالعموم - على أنّ الماء مطهّر لنفسه بقول مطلق ، ولا أراه موجودا (1).

وما مرّ من الاحتجاج لكون الماء مطهّرا بالآيتين إنّما يقتضي ثبوت ذلك في الجملة ؛ إذ لا عموم فيهما ؛ فلا بدّ في اثباته من ضميمة الاجماع على عدم الفصل ، وذلك لا يتأتّى في موضع النزاع ؛ لظهور الخلاف فيه ، ولما دلّ النصّ والاجماع على أنّ وقوع النجاسة في الكثير أو وقوعه عليها لا يمنع من استعماله ، ولا يثمر (2) فيه تنجيسا وإن كثرت ما لم يغيّره (3). وكذا جميع أجزائه ، إذا لم يتميّز النجاسة فيها ، وهو يقتضي إلغاء حكمها ، حيث يشيع في أجزاء الماء ، وتصير مستهلكة به (4).

فلا جرم كان ذلك دالّا بمفهوم الموافقة على أنّ الماء النجس بهذه المثابة. فإذا وقع في الماء ، أو وقع الماء عليه وصار مستهلكا فيه بحيث شاعت الأجزاء ولم يتميّز ، وجب الحكم بطهارته ؛ لما ذكر.

وهذا معنى الامتزاج الذي نعتبره في حصول التطهير.

ص: 153


1- جاء في هامش « ج » : لم أر موافقا من الأصحاب على الاحتجاج بهذا الطريق حال كتابته. ثمّ إني وجدت الشيخ رحمه اللّه احتجّ بمثله في الخلاف ، وقد حكيت عبارته في ذلك لغرض اقتضاء الحال في بحث الجاري فإن شئت فقف عليها هناك. منه رحمه اللّه.
2- في « ب » : ولا يتميّز فيه تنجيسات.
3- في « ب » : ما لم تغيّره.
4- في « ب » : مستهلكة له.

وقد ظهر بذلك قوّة القول باعتباره ، واتّضح فساد قول بعض المتأخّرين : « إنّه ليس للامتزاج معنى محصّل ».

إذا تمهّد هذا فنقول :

من طرق تطهير الواقف القليل :

[1] - إلقاء الكرّ عليه.

واعتبر كثير من الأصحاب فيه الدفعة ، وأطلق آخرون ، واضطربت فتاوى البعض فيه ، كاعتبار الممازجة.

والتحقيق في ذلك : أنّه لا يخلو إمّا أن يعتبر في عدم انفعال مقدار الكرّ استواء سطحه أو لا.

وعلى الثاني : إمّا أن يشترط في التطهير حصول الامتزاج أو لا.

وعلى تقدير عدم الاشتراط : إمّا أن يكون حصول النجاسة (1) عن مجرّد الملاقاة ، أو مع التغيّر (2). فها هنا صور أربع.

[ الصورة ] الاولى (3) : أن يعتبر (4) في عدم انفعال الكرّ استواء السطح.

ص: 154


1- في « ب » : حصول النجاسة به.
2- في « ب » : أو مع التغيير.
3- جاء في هامش « ج » : قسّم سلّار في رسالته الماء النجس إلى ثلاثة أقسام : أحدها : يزول حكم نجاسته بإخراج بعضه وهو مياه الآبار. والثاني : يزول حكم النجاسة عنه بزيادته وهو الماء القليل الراكد في أرض أو غدير أو قليب فإنّه إذا زاد بتبليغه الكرّ أو أكثر طهر ، وكذلك الجاري القليل إذا استولت عليه النجاسة ثمّ كثر حتّى زال الاستيلاء.
4- في « ب » : أن نعتبر.

والمتّجه حينئذ اشتراط الدفعة في الإلقاء ؛ لأنّ وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة ، فتنفعل (1) الأجزاء التي يصيبها الماء النجس وينقص الطاهر عن الكرّ ، فلا يصلح لإفادة الطهارة.

ولا فرق في ذلك بين المتغيّر وغيره ؛ لاشتراك الكلّ في التأثير في القليل ، والمفروض صيرورة الأجزاء بعدم المساواة في معنى القليل.

[ الصورة ] الثانية : أن يهمل (2) اعتبار المساواة ولكن يشترط (3) الامتزاج.

والوجه عدم اعتبار الدفعة حينئذ ، بل ما يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس واستهلاكه له (4) حتى لو فرض حصول ذلك قبل إتمام إلقاء الكرّ لم يحتج إلى الباقي.

ولا يفرّق (5) هنا أيضا بين المتغيّر وغيره ، لكن يعتبر في المتغيّر مع الممازجة زوال تغيّره ، فيجب أن يلقى عليه من مقدار الكرّ ما يحصل به الأمران.

ولو قدّر قوّة المتغيّر بحيث يلزم منه تغيّر شي ء من أجزاء الكرّ حال وقوعها عليه ، وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك ؛ إمّا بتكثير (6) الأجزاء أو بإلقاء الجميع دفعة.

[ الصورة ] الثالثة : أن لا يشترط الممازجة ولا يعتبر المساواة وتكون

ص: 155


1- في « أ » : فتنفعل الأجزاء التي يصيبها النجس والوحدة حينئذ غير صادقة.
2- في « ج » : أن نهمل.
3- في « ب » و « ج » : ولكن فشرط الامتزاج.
4- « له » ليس في « أ » و « ب ».
5- في « ب » : ولا فرق. وفي « ج » : لا نفرّق.
6- في « ب » و « ج » : بتكثّر.

نجاسة الماء بمجرد الملاقاة (1). والمتّجه حينئذ الاكتفاء بمجرّد الاتّصال ، فإذا حصل بأقلّ مسمّاه كفى ، ولم يحتج إلى الزيادة عنه (2).

[ الصورة ] الرابعة : الصورة بحالها ولكن كان الماء متغيّرا. والمعتبر حينئذ اندفاع التغيّر ، كما في صورة اشتراط الامتزاج ، ومع فرض تأثير التغيّر في بعض الأجزاء تتعيّن الدفعة أو ما جرى مجراها كما ذكر.

وحيث قد تقدّم منّا الميل إلى اعتبار المساواة فاشتراط الدفعة متعيّن.

ووالدي رحمه اللّه لمّا لم ير اعتبار المساواة ، وفهم ذلك أيضا من ظاهر كلام أكثر الأصحاب على ما سلف ذكره ، استوجه عدم اشتراط الدفعة ، وحاول حمل كلام من ذكرها منهم - كالعلّامة رحمه اللّه - على إرادة الاتصال منها ؛ نظرا إلى أنّ إلقاءه مفرّقا بحيث يقطع بين أجزائه ، يوجب تعدّد دفعات الإلقاء ، ومع اتّصال بعضه ببعض يصدق الدفعة.

وأنت إذا أحطت خبرا بما حقّقناه علمت عدم استقامة هذا الحمل ؛ لأنّ كلام العلّامة رحمه اللّه في مادّة الحمّام يدلّ على انفعال السافل من الماء غير المستوي وإن كان مجموعه بالغا مقدار الكرّ كما علمت. واشتراط الدفعة بمعناها الظاهر المشهور متعيّن على ذلك التقدير كما ذكرناه ، فلا وجه للعدول بكلامه عن الظاهر وارتكاب التكلّف الذي ذكره.

ص: 156


1- في « ج » : في هذه العبارة دقيقة وهي أنّ أدلّة انفعال الماء بالملاقاة إنّما تدلّ على انفعاله بملاقاة النجاسة له بمعنى ورودها عليه [ أمّا ] إذا ورد عليها فليس في الأدلّة ما يقتضي نجاسته ، فلذلك أسندت الإصابة إلى الماء النجس. تأمّل. منه رحمه اللّه.
2- في « أ » : الزيادة فيه.

إذا عرفت هذا ، فاعلم : أنّ المعتبر من الدفعة (1) ما لا يخرج به الماء عن كونه متساوي السطح ، ومآله إلى ما يبقى به صدق الاجتماع والوحدة عرفا ؛ لما عرفت من أنّ الموجب لاعتبارها هو التحرّز من انفعال بعض أجزاء الماء ، وهو إنّما يكون بخروجه عن الوحدة المعتبرة ، فلا يرد حينئذ ما أورده بعض الأصحاب من أنّ الدفعة لا يتحقّق لها معنى لتعذّر الحقيقة وعدم الدليل على العرفيّة.

وأمّا ما يوجد في كلام بعض المتأخّرين من تعليل اعتبارها بالنصّ فغريب ؛ إذ لم ينقل أحد من الأصحاب في الاحتجاج على ذلك خبرا ، ولا هو موجود في كتب الأخبار المعروفة ، وما رأينا في كتب الاستدلال مثل المنتهى في كثرة التتبّع للأخبار والاحتجاج بها ، ومع ذلك فلم يستدلّ فيه على اعتبارها بشي ء.

نعم استدلّ على طهارة الكثير المتغيّر بالقاء الكرّ دفعة بأنّ الطاري غير قابل للنجاسة لكثرته ، والمتغيّر مستهلك فيه فيطهر. وكأنّه أحال الاحتجاج لحكم القليل ، على ما ذكره في الكثير حيث إنّه في كلامه متقدّم.

وقد سبقه إلى هذا الاستدلال شيخه المحقّق فاحتجّ في المعتبر لطهارة القليل غير المتغيّر بالقاء الكرّ : بأنّ الطاري لا يقبل النجاسة ، والنجس مستهلك به فيطهر (2).

وفي ذلك دلالة واضحة على ما قلناه من عدم وجود دليل يدلّ على خصوص

ص: 157


1- في « ج » : حكى والدي رحمه اللّه في بعض فوائده عن بعض الأصحاب أنّه فسّر الدفعة بالمتواصل المتواتر من غير فتور : أن يتّحد الماء ان بسرعة ، وناظر إلى ما ذكرناه من أنّ الاكتفاء تدريجيّا يخرج عن الوحدة ولو في بعض الأجزاء ، وهو يقتضي انفعالهما فينقص الطاهر عن الكرّ فلا يصلح لإفادة التطهير. منه رحمه اللّه.
2- المعتبر 1 : 51.

طريق تطهير الماء ، وإلّا لكان أحقّ بالذكر.

ومن الطرق لتطهير القليل أيضا :

[2] - إلقاؤه في الكرّ.

وحينئذ إن كان متغيّرا اعتبر في طهره الامتزاج ؛ لأنّ طهارته موقوفة على زوال تغيّره ، وهو لا يحصل بدون الممازجة. وإن لم يكن متغيّرا بني اعتبار الامتزاج على الخلاف.

وعلى كلّ حال لا بدّ من صيرورته بحيث يساوي سطحه سطح الكرّ ، أو يكون ماء الكرّ أعلى.

[3] - ومنها : اتصاله بالنابع المساوي له أو الأعلى منه.

وفي معناه الجاري عن (1) مادّة كثيرة.

وحكمه في اعتبار الامتزاج أو (2) الاكتفاء بمجرّة الاتصال كالسابق. ويبنى (3) اشتراط بلوغ النابع مقدار الكرّ وعدمه على الخلاف الآتي.

[4] - ومنها : نزول ماء الغيث عليه.

[4] - ومنها : نزول ماء الغيث(4) عليه.

وفي القدر الذي لا ينفعل منه (5) بالملاقاة خلاف يأتي.

والأظهر اشتراط ممازجته له وغلبته (6) عليه كغيره.

ص: 158


1- في « أ » : الجاري على مادّة كثيرة.
2- في « أ » : والاكتفاء.
3- في « ب » : ومبنى اشتراط.
4- في « ج » : قال في البيان : يطهر الماء النجس بالجاري وماء المطر الغالب. منه رحمه اللّه.
5- في « ب » : لا ينفعل فيه.
6- في « ب » : أو غلبته.

وعلى القول الآخر يمكن أن يكتفى بمجرّد وقوعه عليه. وسيأتي لذلك مزيد تحقيق.

ولا بدّ من زوال التغيّر به على تقدير وجوده.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

وحيث يعتبر في تطهير المتغيّر إلقاء الكرّ دفعة : فإن أزال(1) تغيّره فذاك ، وإن بقي فيه تغيّر : فإمّا أن يبلغ غير المتغيّر منه قدر الكرّ مجتمعا ، أو لا.

فعلى الأوّل : يكفي في طهارته تمويجه (2) بحيث يمتزج المتغيّر بغيره ويزول تغيّره.

وعلى الثاني : يكون لكلّ من المتغيّر وغير المتغيّر حكمه لو انفرد. وهكذا. وليس التقريب حينئذ بمشكل.

[ الفرع ] الثاني :

لو كان القليل النجس في كوز أو نحوه توقّف طهره على دخول المطهّر إليه ليستولي عليه ويمازجه ، ويلزم من ذلك عدم طهارته إذا كان مملوّا ؛ لعدم إمكان التداخل ، فيبقى الامتياز.

اللّهمّ إلّا أن يكون للمطهّر قوة وانصباب بحيث يدافع (3) ما في الكوز فيمكن طهارته حينئذ.

ص: 159


1- في « ب » : فإن زال تغيّره.
2- في « ج » : تمزيجه.
3- في « ب » : يتدافع ما في الكوز.

وممّا يعلم معه عدم الامتزاج : بقاء ماء الكوز على وصفه المباين للمطهّر كالعذوبة والمطهّر مالح ، أو الحرارة وهو بارد.

وفي الذكرى : « لو غمس الكوز بمائه النجس في الكثير الطاهر طهر مع الامتزاج ولا تكفي المماسّة .. ولا يشترط (1) أكثريّة الطاهر ، نعم يشترط المكث ليتحقّق الامتزاج » (2).

وهو حسن. غير أنّه لا وجه لترك اعتبار دخول المطهّر كما ذكرناه مع تعرّضه لاشتراط المكث ؛ فإنّه يأبى الاعتذار عنه بدلالة (3) اشتراط الممازجة عليه.

وفي نهاية العلّامة : « لو غمس كوز فيه ماء نجس في ماء طاهر كثير طهر إذا دخل الماء فيه ، سواء كان الإناء ضيّق الرأس - إن قلنا يكفي الاتصال - أو واسعه من غير مضيّ زمان ما لم يكن (4) متغيّرا ، فيشترط مضيّ ما يظنّ فيه زواله » (5).

وأنت تعلم أنّه بعد البناء على الاكتفاء بالاتصال لا وجه لاشتراط دخول الماء فيه ، كما لا يشترط مضيّ الزمان ، بل المعتبر اتّصال الكثير به عاليا (6) عليه ، أو مساويا له كما مرّ.

ص: 160


1- في « أ » : ولا تشترط.
2- ذكرى الشيعة : 9.
3- في « ب » : بدلا لاشتراط الممازجة عليه.
4- في « ب » : ما لم يكن هناك متغيّرا.
5- نهاية الإحكام 1 : 258.
6- في « ب » : غالبا عليه.
[ الفرع ] الثالث :

حوض الحمّام إذا عرض له نجاسة ، فحكمه كغيره في توقّف طهارته على حصول أحد الوجوه المذكورة. وحينئذ فلا بدّ في تطهيره - باجراء مادّته (1) عليه - من زيادتها على الكرّ بمقدار ما يتوقّف عليه صدق الامتزاج تقريبا (2).

والسرّ في ذلك أنّ إجراء المادّة عليه إنّما يكون مع علوّها ، فالأجزاء التي تتّصل بالحوض منها (3) تنفصل في الحكم عنها لخروجها عن المساواة كما عرفت ، فيتوقف عدم انفعالها بملاقاة ماء الحوض على كرّية ما قبلها ليتحقّق لها مادّة تمنع من انفعالها. وهكذا يقال في كلّ جزء يقع في الحوض قبل استهلاك ما به النجس ؛ فإنّ بقاءه على الطهارة مع إصابة النجس له يتوقّف على اتصاله بمادّة كثيرة.

وينبغي أن يعلم أنّ إطلاق العلّامة - طهارة الحوض بتكاثر المادّة على مائه وغلبتها عليه ، كما حكيناه سابقا - مقيّد عند التحقيق بما قلناه ؛ لأنّ كرّية المادّة وحدها معتبرة عنده ، فيجب أن يبقى على الكرّية ما بقي الحوض على النجاسة. وهو الّذي ذكرناه.

ولو فرض إجراء المادّة إليه متساوية (4) - كما يتّفق في بعض البلاد من جعل موضع الاتصال في أسفل الحوض ، ويكون في الماء كثرة وعلوّ بحيث يجري بقوّة إلى الحوض - فالظاهر عدم الحاجة إلى الزائد عن مقدار الكرّ ، بل يكفي مجرّد

ص: 161


1- في « ج » : باجراء مادّة عليه.
2- في « ج » : إنّما قال تقريبا لأنّ بعض الأجزاء التي لا يعلوها النجس في تنجيسها إشكال كما سبق إليه إشارة. وعلى ذلك فربّما يستغنى عن بعض ما ذكر في قدر المادة. تأمّل. منه رحمه اللّه.
3- في « أ » : ممّا تنفصل في الحكم عنها. في « ب » : منها منفصل في الحكم عنها.
4- في « ب » : مساوية.

حصول الامتزاج بين المائين.

وعليك بامعان (1) النظر في هذه المباحث ؛ فإنّ كلام الأصحاب فيها غير منقّح ، والنصوص معدومة. وما ذكرناه فيها هو الذي أدّى إليه النظر ووصل إليه الفكر وما التوفيق إلّا باللّه.

مسألة [9] :

وفي طهر القليل باتمامه كرّا خلاف بين الأصحاب.

فذهب الشيخ في الخلاف ، وابن الجنيد من المتقدّمين ، والفاضلان ، والشهيدان وكثير من المتأخّرين إلى عدم حصول الطهارة به (2).

وقال المرتضى في بعض مسائله : إنّه يطهر. وتبعه على ذلك جماعة من الأصحاب منهم سلّار وابن ادريس (3). وهم بين : مصرّح بعدم الفرق بين إتمامه بطاهر ونجس ، وفارق بينهما فقصر الحكم بالطهارة على الإتمام بالطاهر ، ومطلق للحكم بحيث يتناول بظاهره الأمرين.

وممّن تبع المرتضى في هذا القول الشيخ علي من المتأخرين (4).

ويحكى عن الشيخ - في المبسوط (5) - التردّد.

ص: 162


1- في « أ » : بإنعام النظر.
2- راجع الخلاف 1 : 194. وكلام ابن الجنيد في مختلف الشيعة 1 : 2. وشرايع الإسلام 1 : 12. وتحرير الأحكام 1 : 2. وذكرى الشيعة 9. وروض الجنان : 142.
3- راجع المراسم : 36. والسرائر 1 : 63.
4- رسائل المحقّق الكركي 1 : 83.
5- المبسوط 1 : 7.

والأصح الأوّل. لنا : إنّه ماء محكوم بنجاسته شرعا فيتوقّف الحكم بارتفاعها على الدليل ولم يثبت.

لا يقال : هذا تمسّك بالاستصحاب وقد نفيتم حجيّته.

لأنّا نقول : الاستصحاب المردود - على ما سبق بيانه - : هو ما يكون دليل الحكم المستصحب فيه مقيّدا بوقت ولا يعلم له رافع ، كاستصحاب مشروعيّة الصلاة للمتيمّم قبل وجود الماء إذا وجده في أثناء الصلاة ، لا ما يكون دليله متناولا لجميع الأوقات. وأنت تعلم أنّ ما دلّ على نجاسة القليل بالملاقاة من الأخبار ليس فيه تقييد بوقت.

لا يقال : إنّ العمدة في الأخبار على ما دلّ بمفهومه ، وقد مرّ أنه محتاج (1) إلى ضميمة الإجماع - على عدم الفصل بين أنواع النجاسات - إليه. ومن البيّن أنّ ما يستند في حكمه إلى الإجماع يكون من قبيل المقيّد ، لانتفاء الإجماع في الحالة التي هي محلّ الاختلاف.

لأنّا نقول : إنّ اعتبار الاجماع على عدم القول بالفصل يدفع هذا السؤال ؛ ضرورة أنّ الأخبار تفيد نجاسة الماء بقول مطلق من ملاقاة بعض النجاسات ، فيثبت (2) مدّعانا فيه. وليس بالفصل بينه وبين غيره (3) قائل (4) ، فيكون الحكم في الباقي كذلك.

احتجّ المرتضى رضي اللّه عنه بوجهين : أحدهما : أنّ بلوغ الماء قدر الكرّ يوجب

ص: 163


1- في « ب » : أنّه غير محتاج.
2- في « ب » : فثبت مدّعانا.
3- في « ب » : وليس بالفصل منه ومن غيره قائل.
4- في « ج » : وليس بالفصل بينه وبين غيره قابل.

استهلاكه للنجاسة فيستوي وقوعها قبل البلوغ وبعده. والثاني : أنّ الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة ، ولم يعلم هل كان وقوعها قبل بلوغ الكرّية أو بعده. وما ذاك إلّا لتساوي الحالين ؛ إذ لو اختصّ الحكم ببعديّة الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه ؛ لأنّه كما يحتمل تأخّره عن البلوغ يحتمل تقدّمه عليه.

واحتجّ ابن ادريس بالإجماع. وبقوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » ، وهو عامّ. وزعم أنّ هذه الرواية مجمع عليها عند المخالف والمؤالف. وبالعمومات الدالّة على طهارة الماء وجواز استعماله كقوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) وقوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) وقوله عليه السلام لأبي ذر : « إذا وجدت الماء فأمسه جسدك » ، وقوله عليه السلام : « أمّا أنا فلا اريد (1) أن احثوا على رأسي ثلاثة حثيات (2) فإذا إنّي قد طهرت » (3).

والجواب : أمّا عن احتجاج المرتضى رحمه اللّه فبأنّ الأوّل منه قياس ؛ لأنّ الذي دلّ عليه النصّ إنّما هو استهلاك النجاسة الواقعة بعد البلوغ ، فإلحاق المتقدّمة عليه بها محض القياس. على أنّ الفارق بينهما موجود ؛ فإنّ الماء في صورة التأخّر طاهر ، فإذا وقعت النجاسة فيه قوي على دفعها بطهوريّته ، وفي صورة التقدّم نجس. فعند اجتماعه يكون منقهرا (4) بالنجاسة ، فلا قوّة له على دفعها.

والوجه الثاني ضعيف جدّا ؛ لأنّ الوجه في الحكم بالطهارة - في الفرض

ص: 164


1- في « أ » : فلا ازيد.
2- في « ج » : حيثات.
3- السرائر : 1 : 63 - 66.
4- في « ب » : متغيرا بالنجاسة.

الذي ذكره - هو أصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة ؛ إذ عدم العلم بتقدّم الوقوع وتأخّره يقتضي الشك في التقدّم الذي هو السبب في النجاسة ، فلا جرم تكون النجاسة مشكوكا فيها فلا تعارض يقين الطهارة.

وأمّا عن احتجاج ابن ادريس رحمه اللّه فبالمطالبة بإثبات الإجماع على وجه يصلح حجة ؛ إذ لا يكفي نقل مثله ممّن ظهر منهم في الإجماع ما أحوج إلى حمله على خلاف ظاهره الذي جرى عليه الاصطلاح ، كما سبق التنبيه عليه.

قال المحقق رحمه اللّه - بعد نقله الاحتجاج بالإجماع - : لم نقف على هذا في شي ء من كتب الأصحاب ، ولو وجد كان نادرا. بل ذكره المرتضى في مسائل متفرّدة. وبعده اثنان أو ثلاثة ممّن تابعه. ودعوى مثل هذا إجماعا غلط ؛ لأنّا (1) لسنا بدعوى المائة نعلم دخول الإمام فيهم ، فكيف بفتوى (2) الثلاثة والأربعة (3)؟! ».

والخبر الأوّل غير مرويّ في كتب الأخبار ، بل هو من الأحاديث المرسلة التي لا تعويل عليها ، ودعواه (4) الإجماع على العمل بمضمونه من المخالف والمؤالف عجيبة.

قال المحقق رحمه اللّه في جوابه عنه : إنّا لم نروه مسندا ، والذي رواه مرسلا المرتضى رحمه اللّه والشيخ أبو جعفر ، وآحاد ممّن جاء بعده. والخبر المرسل لا يعمل به ، وكتب الحديث عن الأئمة عليهم السلام خالية عنه أصلا. وأمّا المخالفون فلم أعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حيّ ، وهو زيديّ منقطع المذهب ، وما رأيت

ص: 165


1- في المعتبر : إذ لسنا.
2- في « ب » : فكيف نقوّي الثلاثة والأربعة.
3- المعتبر 1 : 53.
4- في « ج » : ودعوى الإجماع.

أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف والمؤالف فيما لا يوجد إلّا نادرا ، فإذن الرواية ساقطة.

وأمّا أصحابنا فرووا عن الأئمة عليهم السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء » ، وهذا صريح في أنّ بلوغه كرّا هو المانع لتأثّره بالنجاسة ، ولا يلزم - من كونه لا ينجّسه شي ء بعد البلوغ - رفع ما كان ثابتا فيه ، ومنجّسا قبله. والشيخ رحمه اللّه قال لقولهم عليهم السلام.

ونحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ ، وإنّما رأينا ما ذكرناه (1) .. ولعلّ غلط من غلط في هذه المسألة لتوهّمه أنّ معنى اللفظين واحد (2). انتهى كلامه رحمه اللّه. وهو واضح جيّد ليس عليه في تحقيق المقام مزيد.

وبقي الاحتجاج بالعمومات. وجوابه ظاهر ؛ لأنّها مخصوصة بالماء الطاهر قطعا. فإن ثبت طهارة المتنازع تناولته ، وإلّا فلا.

وممّا يستطرف هاهنا قول المحقّق في جوابه (3) عن هذا الاحتجاج بمثل ما ذكرناه.

وهل يستجيز محصّل أن يقول النبيّ عليه السلام : احثوا على رأسي ثلاث حثيات ممّا يجتمع من غسالة البول والدم وميلغة الكلب؟!

واعلم أنّ اعتماد الشيخ علي في ترجيح هذا القول إنّما هو على الاستدلال

ص: 166


1- في المعتبر : وإنّما رأينا ما ذكرناه وهو قول الصادق عليه السلام : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء.
2- المعتبر 1 : 52.
3- في « ب » : قوله المحقّق حيث أجاب عن هذا الاحتجاج.

بالحديث الأوّل ، حيث استضعف الطعن فيه ، وهو ضعف على ضعف (1).

مسألة [10] :
اشارة

قد بيّنا أنّ المقتضي لتنجيس الكثير(2) هو التغيّر لا غير. فإذا تغيّر أحد أوصافه بالنجاسة فلا يخلو : إمّا أن يستوعبه التغيّر أو لا. وبتقدير عدم الاستيعاب : إما أن يبلغ غير المتغيّر قدر الكرّ مجتمعا أو لا.

فعلى الأوّل والأخير ينجس الجميع ، ويطهّر بما مرّ في طريق تطهير القليل المتغيّر.

وعلى الوسط يختصّ التنجيس بالمتغيّر ويطهر بالتموّج والتمازج إن زال التغيّر معه ، وإلّا فبمطهّر غيره. ويجي ء على القول بطهارة القليل بالإتمام - وإن كان ينجس - طهارة المتغيّر بمجرّد زوال التغيّر ولو من نفسه ، أو من تصفيق الرياح ، أو من إلقاء أجسام طاهرة غير الماء ، أو لطول المكث. وقد صرّح بحصول الطهارة بذلك بعض من قال بطهر المتمّم.

واحتمل العلّامة رحمه اللّه في النهاية الاكتفاء بزوال التغيّر مع تصريحه بعدم الطهارة بالمتمّم. وعلّله بأنّ المقتضي للنجاسة هو التغيّر وقد زال. وضعفه بيّن (3).

والحقّ أنّه لا بدّ من المطهّر إمّا مقارنا للزوال ، أو متأخّرا عنه حيث يحصل بغير (4) المطهّر. وهذا كلّه ظاهر ممّا سلف تحقيقه فلا يحتاج إلى إعادة تفصيله.

ص: 167


1- في « ب » : وهو ضعيف على ضعف. وفي « أ » : وهو ضعف.
2- في « ب » : لتنجيس الكرّ.
3- نهاية الإحكام 1 : 259.
4- في « ب » : حيث يحصل تغيّر المطهّر.
فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

قال العلّامة في التذكرة : « لو زال التغيّر عن القليل أو الكثير بغير الماء طهر بإلقاء الكرّ عليه وإن لم يزل به التغيّر لو كان. وفي طهارة الكثير لو وقع في أحد جوانبه كرّ علم عدم شياعه. فيه نظر » (1).

والحكم الأوّل جيّد. وفي النظر نظر ؛ لأنّه مصرّح في هذا الكتاب باشتراط الممازجة في حصول الطهارة. وقد حكينا ذلك عنه آنفا. والعجيب (2) أنّه ليس بين هذا الفرع وبين ما ذكره في حوض الحمّام من عدم الاكتفاء بمجرد الاتصال إلّا أسطر قليلة ، وحكم الغديرين غير بعيد عنه أيضا ، وقد اعتبر فيه الممازجة ، فلا ندري ما وجه التوقّف هنا؟!

وعلى كلّ حال فالأظهر عدم حصول الطهارة بدونها.

[ الفرع ] الثاني :

إذا جمد الكثير لحق بالجامدات على الأصحّ ، فينجس بملاقاة النجاسة المحلّ الملاقي منه ، ويطهر باتّصال الكثير به بعد زوال العين إن كانت.

ولو القيت النجاسة وما يكتنفها أو موضع ملاقاتها - حيث لا عين لها - بقي ما عداه على الطهارة.

وقال العلّامة في المنتهى : « لو لاقت النجاسة ما زاد على الكرّ من الماء الجامد فالأقرب عدم التنجيس ما لم تغيّره. واحتجّ لذلك بأنّ الجمود لم يخرجه

ص: 168


1- تذكرة الفقهاء 1 : 16.
2- في « ب » و « أ » : والعجب.

عن حقيقته بل هو مؤكّد لثبوتها ؛ فإنّ الآثار الصادرة عن الحقيقة كلما قربت (1) كانت آكد في ثبوتها ، والبرودة من معلولات طبيعة الماء ، وهي تقتضي الجمود. وإذا لم يكن ذلك مخرجا له عن الحقيقة كان داخلا في عموم قوله عليه السلام : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء » (2).

وهذا الكلام ضعيف جدّا ؛ لأنّ الجمود يخرجه عن الاسم لغة وعرفا. ولا ريب أنّ الحكم بعدم انفعال مقدار الكرّ معلّق به ، فيزول بزواله وذلك ظاهر.

وقد استشكل الحكم في التحرير (3) ورجع في النهاية (4) عن هذا القول فاستقرب ما اخترناه.

[ الفرع ] الثالث :

إذا جمد القليل وقلنا بعدم خروج الجامد عن الحقيقة - كما حكيناه عن المنتهى - فهل يحكم بنجاسة جميعه نظرا إلى أنّه ماء قليل ، ومن حكمه انفعال جميع أجزائه بملاقاة النجاسة؟ أو يكون في حكم الجامدات فيختصّ التنجيس بموضع الملاقاة كما قلناه نحن في الكثير؟

استقرب في المنتهى الثاني ووجّهه بأنّ جموده يمنع من شياع النجاسة فيه

ص: 169


1- في « أ » و « ج » : كلما قويت كانت آكد. وفي المنتهى : كلما قربت كان آكد.
2- منتهى المطلب 1 : 172.
3- قال في تحرير الأحكام : 1 : 6 « ولو اتّصل بالثلج الكثير ماء قليل ووقع فيه نجاسة ففي نجاسته إشكال من حيث إنّه متّصل بالكرّ ، وإنّه متّصل بالجامد اتّصال مماسة لا ممازجة واتحاد ».
4- نهاية الإحكام 1 : 234.

فلا يتعدّى موضع الملاقاة ، بخلاف الماء القليل الذي يسري إلى جميع أجزائه (1). وهو حسن.

وتردّد في التحرير (2). ولا وجه له.

وحينئذ فطريق تطهيره ما ذكرناه في الكثير.

[ الفرع ] الرابع :

قال في المنتهى : « لو وقع في الماء القليل المائع الملاصق لما زاد عن الكرّ من الثلج نجاسة ففي نجاسته نظر ؛ فإنّه يمكن أن يقال ماء متّصل بالكرّ فلا يقبل التنجيس ، ويمكن أن يقال ماء قليل متّصل بالجامد اتّصال مماسّة لا ممازجة واتّحاد ، فأشبه المتّصل بغير الماء في انفعاله عن النجاسة لقلّته (3).

وتردّده هذا مبنيّ على ما ذهب إليه من عدم انفعال الجامد الكثير بالملاقاة كما عرفته ، وقد ظهر لك ضعفه.

فإذن الحقّ نجاسة ما هذا شأنه ، وينجس معه المحلّ الذي يتّصل به من الثلج.

وطريق تطهيره مركّب من طريقي تطهير القليل والجامد.

[ الفرع ] الخامس :

لو عرض الجمود للماء بعد النجاسة توقّف طهره على عوده مائعا ؛ لأنّ الظاهر امتناع مداخلة أجزاء المطهّر له بحيث يستوعب جميع أجزائه وفيها ما هو باق على الجمود ، وطهارته موقوفة على ذلك البحث.

ص: 170


1- منتهى المطلب 1 : 172.
2- تحرير الأحكام 1 : 6 ، الطبعة الحجرية.
3- منتهى المطلب 1 : 174.
[ البحث ] الثاني : في ماء البئر
مسألة [1] :

اختلف علماؤنا في نجاسة البئر بالملاقاة ، فقال أكثرهم بها.

وذهب ابن أبي عقيل من المتقدّمين (1) ، والعلّامة (2) رحمه اللّه وأكثر المتأخّرين إلى أنّه لا ينفعل بدون التغيّر. وعليه اعتمد والدي أخيرا بعد ذهابه في بعض كتبه إلى الأوّل.

والقولان للشيخ. وربما حكى عنه بعضهم القول بالنجاسة ، لكن لا يجب إعادة الوضوء الواقع منه ولا الصلاة ولا غسل ما لاقاه إذا حصلت هذه الامور قبل العلم بالنجاسة.

ونسب هذه الحكاية حاكيها إلى كتابي الحديث ، ثمّ حكم بسقوط هذا القول لمخالفته لأصول المذهب. والأمر كما قال. لكنّ الذي ظهر لي أنّ الحكاية وهم ؛ لأنّ كلام الشيخ لا يخلو عن ركاكة في التأدية توهم (3) غير المتأمّل.

ص: 171


1- مختلف الشيعة 1 : 187.
2- منتهى المطلب 1 : 68 ، وتحرير الأحكام 1 : 4 ، ونهاية الإحكام 1 : 235.
3- في « أ » : يوهم غير المتأمّل.

والذي فهمته من كلامه في الكتابين : أنّه يقول بعدم الانفعال بمجرّد الملاقاة ، لكنّه يوجب النزح ، فالمستعمل لمائها بعد ملاقاة النجاسة له وقبل العلم بها لا يجب عليه الإعادة أصلا ، سواء في ذلك الوضوء والصلاة وغسل النجاسات وغيرها. والمستعمل له بعد العلم بالملاقاة يلزمه إعادة الوضوء والصلاة ؛ لأنّه منهي عن استعماله قبل النزح. والنهي يفسد العبادة ، فيقع الوضوء فاسدا ، ويتبعه فساد الصلاة. وكذا غيرهما من العبادات المترتّبة على استعماله.

وهو وإن لم يذكر في كلامه غير الوضوء والصلاة إلّا أنّ تعليله يقتضيه.

وإنّما خصّ الوضوء والصلاة بالذّكر ؛ لأنّه ذكر الأخبار الدالّة على عدم وجوب إعادتهما حيث يكون الاستعمال قبل العلم بالنجاسة ، وأراد بيان عدم منافاتهما لما صار إليه من وجوب النزح. فراجع كلامه وتدبّره.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ جمهور الذاهبين إلى انفعاله بالملاقاة لم يفرّقوا بين قليل الماء وكثيره.

وحكي عن الشيخ أبي الحسن محمد بن محمد البصروي القول باختصاص الانفعال بما نقص منه عن الكرّ ، فما يبلغه لا ينجس إلّا بالتغيّر.

والأقرب عندي أنّه لا ينجس بدون التغيّر مطلقا.

لنا الأصل. وما رواه الشيخ في الاستبصار عن محمّد بن اسماعيل في الصحيح عن الرضا عليه السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ؛ لأنّ له مادة » (1).

ورواه في التهذيب عن محمّد بن اسماعيل بن بزيع في الصحيح أيضا قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام فقال : « ماء البئر واسع » ،

ص: 172


1- الاستبصار 1 : 33 ، الحديث 8.

الحديث (1).

وروى في زياداته عن (2) محمد بن اسماعيل في الصحيح أيضا عن الرضا عليه السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر » (3).

وما رواه في الصحيح عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال : سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة يابسة أو رطبة أو زنبيل من سرقين ، أيصلح الوضوء منها؟ فقال : « لا بأس » (4).

وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في الفأرة تقع في البئر فيتوضّأ الرجل منها ويصلّي وهو لا يعلم. أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ فقال : « لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه » (5).

وفي الصحيح عنه أيضا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام (6) قال سمعته يقول :

« ولا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر » (7).

[ وهذا الحديث وصفه العلّامة في المنتهى بالصحّة وهو قريب وإن كان في طريقه حمّاد وهو اسم مشترك بين جماعة فيهم الثقة وغيره ؛ لأنّ الظاهر

ص: 173


1- تهذيب الأحكام 1 : 234.
2- « عن » ، في « أ » ساقطة.
3- وسائل الشيعة 1 : 125 ، الباب 14 ، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 1 : 127 ، الباب 14 ، الحديث 8.
5- وسائل الشيعة 1 : 127 ، الباب 14 ، الحديث 9.
6- في « أ » : وما رواه عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :
7- وسائل الشيعة 1 : 127 ، الباب 14 ، الحديث 10.

إرادة أحد الثقتين منه أعني حمّاد بن عيسى وحمّاد بن عثمان وربما رجح الأوّل ] (1).

احتجّ القائلون بالنجاسة مطلقا بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد ابن اسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء ، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي ء من عذرة ، كالبعرة أو نحوها ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه السلام في كتابي بخطّه : « ينزح منها دلاء » (2). ولو كانت طاهرة لما حسن تقريره (3) على السؤال.

وفي الصحيح عن علي بن يقطين ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال : سألته عن البئر يقع فيها (4) الحمامة والدجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرّة؟ فقال : « يجزيك أن تنزح منها دلاء فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء اللّه » (5).

ولو لم تكن نجسة لما كان لإسناد التطهير إلى النزح معنى.

وفي الصحيح عن عبد اللّه بن يعفور ، وعنبسة بن مصعب ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا يغترف به فتيمّم بالصعيد الطيّب فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد ، ولا تقع في البئر

ص: 174


1- ما بين المعقوفتين مأخوذ من نسخة « أ » فقط.
2- وسائل الشيعة 1 : 130 ، الباب 14 ، الحديث 21.
3- في « ب » : من تقريره.
4- في « أ » و « ب » : فيه الحمامة.
5- الاستبصار 1 : 37 ، الباب 20 ، الحديث 5.

ولا تفسد على القوم ماءهم » (1). فلو لا أنّ الملاقاة توجب الانفعال لم يكن النزول في (2) البئر مقتضيا لحصول الإفساد.

والجواب : أمّا عن الخبر الأوّل : فبأنّه وإن كان ظاهرا في حصول النجاسة باعتبار تقرير السائل ، إلّا أنّ معارضته بروايته السابقة في حجّتنا توجب المصير إلى الجمع أو الترجيح ، ولا ريب أنّ دلالة تلك أقوى من حيث الصراحة وتعدّد الجهة والتعليل ؛ فإنّه نفى فيها الإفساد عن ماء البئر من كلّ شي ء بدون التغيّر ، وهو شامل بعمومه لإفساد النجاسة إن لم يكن مرادا لخصوصه منه ؛ نظرا إلى قرينة الحال.

ثمّ علّق الطهارة مع التغيّر بالنزح إلى زواله ، وهو يدلّ على عدم تأثير الملاقاة ، وإلّا لكان الواجب فيما له مقدّر نزح أكثر الأمرين ممّا يزول به التغيّر ويستوفى به المقدّر ؛ لأنّ توقف الطهارة على نزح القدر مع عدم التغيّر يقتضي توقّفها عليه مع حصوله بطريق أولى ، فحيث يزول التغيّر قبل استيفائه يكون الإكمال متعيّنا.

فاكتفاؤه في الخبر بزوال التغيّر دليل واضح على أنّ التأثير للتغيّر لا غير ، وقد علم بذلك تعدّد جهة الدلالة.

وأمّا التعليل فظاهر.

وليس لرواية النجاسة هذه المزيّة كما لا يخفى. فتعيّن تأويلها إن أمكن وإلّا فاطراحها.

وليس بالبعيد أن يحمل (3) الطهارة فيها على المعنى اللّغوي أعني النظافة ،

ص: 175


1- وسائل الشيعة 1 : 130 ، الباب 14 ، الحديث 22.
2- في « ب » : إلى البئر.
3- في « ب » : تحمل.

ويراد بحلّ الوضوء منها زوال المرجوحية على استعمالها ؛ إذ لا ريب في رجحان النزح في الجملة فيكون الاستعمال فيه مرجوحا.

وأمّا عن الخبر الثاني : فباحتمال إرادة المعنى اللغوي من الطهارة فلا يدلّ على حصول النجاسة.

وقول بعض الأصحاب أنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة يمنع من الحمل على اللّغوية بتقدير تسليمه غير مجد ؛ لأنّ المعروف بينهم أنّ المعنى الشرعي للطهارة لا يتناول إزالة النجاسة.

على أنّ هذا الحديث لم يثبت عندي صحة سنده.

وأمّا عن الثالث : فبأنّ الإفساد أعمّ من النجاسة ، فلا دلالة للنهي عنه على حصولها. ومن الجائز أن يكون المراد به ما يترتّب على الوقوع من إثارة الطين ، والحمأة ، وتغيّر الماء ، مع حاجة النّاس إليه في الشرب.

وما قيل : من أنّ الإفساد وقع في حديثي الطهارة والنجاسة - فكلّما يقال على أحدهما يمكن إيراده على الآخر - فظاهر السقوط ؛ لأنّ الإفساد في خبر الطهارة عام ؛ لوقوعه في سياق النّفي فيتناول إفساد النجاسة بعمومه ، إذ هو خاصّ به كما ذكرناه ، بخلافه في حديث النجاسة ؛ فإنّ النهي عنه لا يدلّ على حصول جميع أنواعه ليشمل ما يكون منها بواسطة النجاسة ، بل إنّما يدلّ على حصوله في الجملة فيجوز أن يراد به ما يكون بغير النجاسة ، لا سيّما بقرينة الوقوع ، فلا يكون له دلالة على المدّعى ، وذلك ظاهر.

حجّة البصروي - على ما ذكره بعض الأصحاب - رواية الحسن بن صالح الثّوري ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا كان الماء في الرّكى (1) كرّا لم ينجّسه

ص: 176


1- في « ب » : في الركوة.

شي ء » (1). والمراد بالرّكى الآبار.

واستدلّ له مع ذلك بعموم ما دلّ على اشتراط بلوغ الماء مقدار الكرّ في عدم انفعاله بالملاقاة.

والجواب عن الرواية : أنّها ضعيفة السند ، وعن الاحتجاج بالعموم :

أنّه مخصوص بخبر محمّد بن اسماعيل ؛ فإنّ تعليل عدم النجاسة بالملاقاة فيه بالمادّة يقتضي عدم الفرق بين القليل والكثير.

مسألة [2] :

أكثر القائلين بعدم انفعال البئر بالملاقاة ذهبوا إلى استحباب النّزح.

وقال الشيخ بوجوبه ، بناء على القول بالطهارة ، وقد علمت أنّه (2) الظاهر من مذهبه في كتابي الحديث. وتبعه على هذا القول العلّامة رحمه اللّه في المنتهى (3). وحجتهم عليه الأخبار الكثيرة الواردة بالأمر به ، وهو للوجوب عندهم.

ويضعّف بأنّ تلك الأخبار وإن كانت كثيرة إلّا أنّ الغالب عليها الاختلاف ، والإجمال ، وضعف الأسناد ، وذلك أمارة الاستحباب ، إذ التساهل في الواجب بمثل هذا القدر غير معهود. وبأنّ الاكتفاء بمزيل التغيّر في خبر محمّد (4) بن اسماعيل ابن بزيع - كما دلّ على عدم تأثير الملاقاة - دلّ على عدم وجوب النّزح. وإلّا فلا معنى لوجوب نزح القدر مع عدم التغيّر وعدمه معه.

ص: 177


1- وسائل الشيعة 1 : 118 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 8.
2- في « أ » و « ب » : أنّ الظاهر.
3- في « ب » : في القواعد.
4- في « أ » و « ب » : في خبر ابن اسماعيل بن بزيع.

وأمّا القائلون بالانفعال بالملاقاة فجعلوا النّزح طريقا للتطهير مع الطرق المذكورة سابقا في تطهير الواقف ، على خلاف يأتي.

مسألة [3] :

ينزح جميع الماء وجوبا أو استحبابا - على الخلاف - لموت البعير ولا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا.

ويدلّ عليه ما رواه الشيخان : ( الكليني والطوسي ) عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا سقط في البئر شي ء صغير فمات فيها فانزح منها دلاء ». إلى أن قال : « وإن مات فيها بعير أو صبّ فيها خمر فلينزح » (1).

وسند هذا الحديث معتبر إلّا أنّ في بلوغه حدّ الصحة نظر ؛ لأنّ فيه محمّد ابن عبد الجبّار ، ولم يوثّقه غير الشيخ وتبعه العلّامة رضوان اللّه عليه ، وليس ذلك بكاف على ما مرّ بيانه في مسألة كمّية الكرّ.

واستدلّ له الشيخ في الاستبصار مع هذا الخبر بما رواه في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إن سقط في البئر دابّة صغيرة أو نزل فيها جنب نزح منها سبع دلاء ، وإن مات فيها ثور أو صبّ فيها خمر نزح (2) الماء كلّه » (3).

ووجه الدلالة فيه غير ظاهر. نعم رواه في التهذيب بزيادة يمكن الاحتجاج

ص: 178


1- وسائل الشيعة 1 : 132 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 15 ، الحديث 6. الكافي 3 : 1. الحديث 7 ، وتهذيب الأحكام 1 : 240 ، الحديث 694 ، والاستبصار 1 : 34 ، الحديث 92.
2- في « ب » : نزح منها الماء كله.
3- الاستبصار 1 : 34 - 35.

بها ، ولعلّها سقطت من سهو القلم ؛ فإنّه قال فيه : وإن مات فيها ثور أو نحوه .. (1). وقد اختلفت حكاية الأصحاب له ، فنقله المحقّق (2) في المعتبر بدون الزيادة ، والعلّامة حكاه بها في المنتهى والمختلف (3).

ويمكن أن يقال : إنّ إيجاب نزح الجميع للثّور يقتضي إيجابه للبعير بطريق أولى ؛ لاشتراكهما في الطهارة والحل حال الحياة ، وثبوت النّجاسة بالموت ، وزيادة البعير بكبر الحجم ، وليس وراء نزح الجميع أمر آخر يمكن اعتباره للزيادة ، فيحتمل أن يكون نظر الشيخ إلى هذا في الاحتجاج بالخبر لا إلى الزيادة. هذا.

وروى الشيخ بسند لا يخلو من اعتبار عن عمر بن يزيد ، قال : حدّثني عمرو ابن سعيد بن هلال قال : سألت أبا جعفر عليهم السلام عمّا يقع في البئر .. إلى أن قال : حتّى بلغت الحمار والجمل ، فقال : « كرّ من ماء » (4).

وحمله الشيخ على أنّه جواب عن حكم الحمار ، وأنّه عوّل في حكم الجمل على ما عرف من وجوب نزح الماء كلّه. وهذا حمل رديّ لا ينبغي التعويل عليه.

وردّه المحقّق في المعتبر : بأنّ الراوي وهو عمرو بن سعيد فطحيّ ، وتبعه على ذلك العلّامة في المنتهى ، والشهيد في الذكرى (5). وهو وهم ؛ لأنّ الذي ذكر في بعض كتب الرجال من طريق ضعيف أنّه فطحيّ هو عمرو بن سعيد المدائني

ص: 179


1- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الباب 11 ، الحديث 26.
2- المعتبر 1 : 57.
3- منتهى المطلب 1 : 69 ، مختلف الشيعة 1 : 209.
4- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، الباب 11 ، الحديث 10.
5- المعتبر 1 : 58 ، منتهى المطلب 1 : 69 ، ذكرى الشيعة : 10.

من أصحاب الرضا عليه السلام ، وهذه الرواية عن الباقر عليه السلام ، والرّاوي لها عن عمرو ابن سعيد عمر بن يزيد ، وهو من أصحاب الصادق عليه السلام والكاظم عليه السلام ، فليس ذلك محلّ شكّ.

وعلى كلّ حال فالرّد باعتباره متوجّه ؛ لأنّه وإن لم يكن فطحيّا لكنّه مجهول (1) إذ لم يذكره غير الشيخ في كتاب الرجال ، مقتصرا على وصفه بالثّقفيّ الكوفيّ ، وعدّه في أصحاب الصادق عليه السلام وذلك يحقّق ما ذكرناه من المغايرة أيضا لو احتيج إليه.

مسألة [4] :

وينزح الجميع لموت الثور ، وهو قول أكثر الأصحاب. ويعزى إلى البعض : الاقتصار على الكرّ.

وقال العلّامة رضوان اللّه عليه في المختلف : إنّ الشيخين وأتباعهما لم يذكروا حكمه ، لكنّهم أوجبوا نزح كرّ للبقرة (2).

ونقل صاحب الصّحاح اطلاق البقرة على الذكر (3). فيجب الكرّ حينئذ.

وأنت تعلم أنّ العرف الآن لا يوافق ما نقله صاحب الصّحاح (4) ، وهو مقدّم على اللّغة ، ولكن لا نعلم تقدّمه بحيث يكون موجودا في عصرهم ، فلا يبعد ما ذكره رحمه اللّه ، مع أنّ عبارة المفيد في المقنعة ظاهرة في ذلك - إن لم يكن لفظ البقرة

ص: 180


1- في « ب » : مجهول الحال.
2- مختلف الشيعة 1 : 208.
3- الصحاح 2 : 594 ، طبعة دار العلم للملايين.
4- في « ب » : ما نقل عن صاحب الصحاح.

متناولا للذكر - ؛ فإنّه قال : « فإن مات فيها حمار أو بقرة أو فرس وأشباهها من الدّوابّ ، ولم يتغيّر بموته الماء نزح منها كرّ » (1). ولا ريب في دخول الثور في الأشباه.

ولمّا حكى الشيخ رحمه اللّه هذه العبارة في التهذيب ذكر على سبيل الاستدلال لمضمونها رواية عمرو بن سعيد بن هلال السابقة ، وفيه إيذان بالموافقة عليه ، وقد عرفت أنّه في الاستبصار احتجّ بخبر عبد اللّه بن سنان المتضمّن لنزح الجميع للثور على حكم البعير ، وهو يقتضي القول بمضمونه في الثور.

وكيف كان فالقول بنزح الجميع له هو الأصحّ ؛ لدلالة النصّ الصحيح عليه.

مسألة [5] :
اشارة

وينزح لوقوع الخمر أيضا الماء أجمع. وقد سبق إقرانه (2) مع البعير والثور في حديثي الحلبي وابن سنان.

وروى الشيخ أيضا في الصحيح عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في البئر : يبول فيها الصبيّ ، أو يصبّ فيها بول أو خمر ، فقال : « ينزح الماء كله » (3).

ولا يقدح في التمسّك بهذه الرواية ما أورده بعض الأصحاب من تضمّنها نزح الجميع للبول ، ولا قائل به. فقد حملها الشيخ على حصول التغيّر به (4). وتبعه

ص: 181


1- المقنعة : 66.
2- في « أ » و « ب » : اقترانه مع البعير.
3- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الباب 11 ، الحديث 27.
4- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، ذيل الحديث 27.

العلّامة في المختلف (1). وحملها المحقّق في المعتبر على الاستحباب بالنسبة إلى البول (2) ، بناء على القول بوجوب النزح. وهو أنسب من حمل الشيخ ، فيراد منه الأكمليّة على القول بالاستحباب (3).

وعلى التقديرين لا بدّ من التجوّز في قوله : « ينزح » بإرادة القدر المشترك بين المعنيين المعتبرين في البول والخمر ، ويكون اللفظ مجملا فيهما (4) موكول البيان إلى الأخبار الاخر.

وإنّما كان حمل المحقّق أنسب ، لأنّ كلام الشيخ إنّما يتم على القول بوجوب النزح ؛ إذ الواجب مع التغيّر على القول باستحقاقه (5) هو النزح إلى أن يزول.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ أكثر علمائنا لم يفرّقوا بين القليل من الخمر والكثير ، فحكموا بنزح الجميع لكلّ ما يقع منه.

وقال الصدوق رحمه اللّه في المقنع : ينزح للقطرة من الخمر عشرون دلوا (6). وهو مرويّ عن زرارة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : بئر قطرت فيها قطرة دم أو خمر. قال : « الدّم والخمر والميّت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ، ينزح منه عشرون دلوا ، فإن غلب الرّيح نزحت حتى تطيب » (7).

ص: 182


1- مختلف الشيعة 1 : 207.
2- المعتبر 1 : 68.
3- في « أ » و « ب » : باستحبابه.
4- في « ج » : مجملا فيها.
5- في « أ » و « ج » : على القول باستحبابه.
6- المقنع : 34 ، الطبعة المحقّقة الاولى.
7- وسائل الشيعة 1 : 132 ، ابواب الماء المطلق ، الباب 15 ، الحديث 3.

وفي رواية اخرى عن كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم أو نبيذ مسكر أو بول أو خمر؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا » (1).

وللشيخ في تأويلهما كلام ضعيف (2).

ويظهر من المحقّق في المعتبر نوع ميل إلى العمل بهما في القطرة ، والفرق بينهما وبين صبّه. ووجّهه بأنّه ليس أثر القطرة في التنجيس كأثر ما يصبّ صبّا ؛ فإنّه يشيع في الماء (3).

وناقشه العلّامة رضوان اللّه عليه في المنتهى بوجهين :

أحدهما : أنّ رواية زرارة اشتملت على حكم التغيّر ومن المستبعد بل المحال حصول التغيّر عن القطرة.

والثاني : إنّه لم يفرّق واحد من أصحابنا بين قليل الخمر وكثيره إلّا من شذّ (4). وهذه المناقشة واهية بكلا وجهيها.

أمّا الأوّل : فلأنّا نعرف أنّ الرواية مشتملة على حكم التغيّر ، ولكن ما الّذي يقتضي صرفه إلى الخمر ليلزم المستبعد أو المحال مع عدم الاقتصار في الرواية عليه ، بل قد جمع فيها بينه وبين الميّت ولحم الخنزير ، فأيّ مانع من إرادة التغيّر الحاصل من الميّت وقرينه مع كونه الظاهر بقرينة الحال؟

ومع التنزّل فلا أقلّ من الاحتمال.

وأمّا الثاني : فهو من الضّعف بحيث لا يحتاج إلى التبيين.

ص: 183


1- وسائل الشيعة 1 : 132 ، أبواب الماء المطلق ، الباب 15 ، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 1 : 242 ، الباب 11 ، الحديث 29.
3- المعتبر 1 : 58 و 68.
4- منتهى المطلب 1 : 70 ، الطبعة المحققة الاولى ، مجمع البحوث الاسلامية - مشهد.

والتحقيق : أنّ الأخبار الاول لا تتناول القطرة لعدم صدق الانصباب عليها. ومنع بعض الأصحاب عدم التناول مكابرة ، فالأخبار (1) الواردة في حكم القطرة لا ينافيها بحيث تحتاج إلى تأويلها أو ردّها بل العمل بها ممكن إلّا أنّ ما تضمّن حكم القطرة ضعيف السّند فلا يصلح لإثبات الحكم.

واللازم من هذا أن يكون ممّا لا نصّ فيه. ويشكل الحكم على القول بنزح الجميع له فتأمّل.

فرع :

قال الشهيد في الذكرى : الأولى دخول العصير بعد الاشتداد في حكم الخمر لشبهه به إن قلنا بنجاسته (2).

وهو ضعيف ؛ لأنّه قياس.

مسألة [6] :

ألحق الشيخان وجمع من الأصحاب جميع المسكرات بالخمر في وجوب نزح الجميع(3) ، والشيخ وجماعة الفقّاع أيضا (4) ، ولم نقف في ذلك على نصّ.

وقد احتجّ له المحقّق رحمه اللّه - بعد أن ذكر عدم الاطلاع على حديث يدلّ عليه مطلقا - بأنّ كلّ مسكر خمر كما وردت به الأخبار ، وبأنّ الفقّاع خمر لدلالة

ص: 184


1- في « ب » : والأخبار.
2- ذكرى الشيعة : 11.
3- المبسوط 1 : 11 ، والمقنعة : 67 ، والنهاية ونكتها 1 : 207.
4- المبسوط 1 : 11 ، الكافي لأبي الصلاح الحلبي : 130 ، السرائر : 9.

الروايات الكثيرة عليه ، فثبت للجميع حكمه (1). وتبعه على ذلك كثير ممّن تأخّر عنه من الأصحاب.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ الأخبار التي أشار إليها ليست صريحة في صدق اسم الخمر حقيقة على ما ذكر ، بل هي محتملة للتجوّز باعتبار الاشتراك في التحريم ، لأنها مسوقة لبيانه ، والإنكار على من يزعم (2) اختصاص التحريم الخمر.

ولا يذهب عليك أنّ أصالة كون الاستعمال حقيقة لا ينفع بعد ثبوت كون اللّفظ حقيقة في معنى آخر لرجحان المجاز على الاشتراك والنقل وما نحن فيه من هذا القبيل.

مسألة [7] :

وأوجب الشيخ نزح الجميع للمنيّ أيضا(3) ، وتبعه في ذلك جماعة. والأخبار خالية عنه ، وقد ذكر كثير من الأصحاب عدم النصّ فيه. وحكى ذلك في الذكرى عن الشيخ أبي عليّ بن الشيخ في شرح نهاية والده (4). وقال المحقّق في المعتبر : « لم أقف على ما يدلّ بمنطوقه على وجوب نزح الماء بالمنيّ بل يمكن أن يقال : ماء محكوم بنجاسته ولم يثبت طهارته بإخراج بعضه فيجب نزحه. لكن هذا

ص: 185


1- المعتبر 1 : 58.
2- في « ب » : على من زعم.
3- المبسوط 1 : 11.
4- ذكرى الشيعة : 10.

يعود في قسم ما لم يتناوله نصّ على التعيين » (1).

وهذا الكلام إنّما يتمشّى على القول بالنجاسة ، وتوقّف الطهارة - فيما لم يرد فيه نصّ - على نزح الجميع ، وسيأتي ذكر الخلاف فيه. ولذلك استدرك رحمه اللّه بقوله : « لكن ».

فأمّا على القول بالطهارة ووجوب النزح ، أو استحبابه فلا يتمّ هذا الاستدلال. وذلك ظاهر.

مسألة [8] :

وذهب الشيخ رحمه اللّه وجماعة من المتأخّرين عنه إلى وجوب نزح الجميع أيضا للدّماء الثلاثة (2).

ولم يظفر في ذلك بخبر ولا ادّعاه أحد من الأصحاب بل اعترفوا بعدمه.

واحتجّ له العلّامة رضوان اللّه عليه في المختلف بنحو احتجاج المحقّق لحكم المنيّ (3) ، وقد عرفت حاله.

واقتصر في المنتهى على الاعتراف بعدم الظفر فيه بحديث مرويّ (4).

وقال المحقّق في المعتبر : « لعلّ الشيخ نظر إلى اختصاص دم الحيض بوجوب إزالة قليله وكثيره عن الثوب فغلّظ حكمه في البئر وألحق به الدّمين الأخيرين.

لكنّ هذا التعلّق ضعيف ، فالأصل أنّ حكمه حكم بقيّة الدّماء عملا

ص: 186


1- المعتبر 1 : 59.
2- المبسوط : 1 : 11 ، ومختلف الشيعة 1 : 197.
3- مختلف الشيعة 1 : 197.
4- منتهى المطلب 1 : 72 ، الطبعة المحقّقة الاولى لمجمع البحوث الإسلاميّة - مشهد.

بالأحاديث المطلقة » (1).

وما ذكره رحمه اللّه من ضعف التعلّق بمثل هذا التوجيه حسن. وأمّا تسويته بينه وبين غيره من الدماء عملا بإطلاق الأخبار ففيه نظر يأتيك بيان وجهه في البحث عمّا ينزح لغيرها من الدّماء.

مسألة [9] :

وحكى العلّامة في المختلف والشهيد في الذكرى عن أبي الصلاح إيجاب نزح الجميع لبول ما لا يؤكل لحمه ولروثه (2).

وزاد الشهيد في الحكاية استثناء بول الرجل والصبيّ (3). وهو الصواب ؛ لأنّهم حكوا عنه هناك ما يقتضي هذا الاستثناء.

وعزي إلى القاضي سعد الدين ابن البرّاج ايجابه لعرق الإبل الجلّالة ، وعرق الجنب من حرام (4).

وحكى في الذكرى عن البصروي إيجابه لخروج الكلب والخنزير حيّين. وعن بعضهم إيجابه للفيل (5). وعزاه في الدروس إلى القاضي أيضا (6).

ص: 187


1- المعتبر 1 : 59.
2- مختلف الشيعة 1 : 192.
3- ذكرى الشيعة : 10. قال الشهيد رحمه اللّه : « وألحق أبو الصلاح رحمه اللّه بول وروث غير المأكول إلّا بول الرجل والصبي ».
4- مختلف الشيعة 1 : 193.
5- ذكرى الشيعة : 10.
6- الدروس الشرعيّة 1 : 119.

والكلّ ضعيف ؛ لانتفاء الدليل عليه ، وخلوّ الأخبار منه ، ولعلّهم بنوا ذلك على إيجاب نزح الجميع لما لا نصّ فيه.

مسألة [10] :

وينزح لموت الحمار كرّ على المعروف بين الأصحاب ، لا نعلم فيه خلافا لأحد منهم.

وذكر العلّامة رضوان اللّه عليه في المنتهى أنّه مذهب أكثر أصحابنا (1) ، ونسبه المحقّق في المعتبر إلى الشيخين والمرتضى وابني بابويه وأتباعهم (2). ثمّ قال :

« والمستند رواية عمرو بن سعيد ، عن أبي جعفر عليه السلام ، وإن ضعف سندها فالشهرة تؤيّدها ؛ فإنّي لم أعرف من الأصحاب رادّا لها في هذا الحكم. والطعن فيها بطريق التسوية بين الجمل والحمار .. غير لازم ؛ لأنّ حصول التعارض في بعض مدلوها لا يسقط استعمالها في الباقي » (3).

قال : « وقد أجاب بعض الأصحاب بأنّه من الجائز أن يكون الجواب وقع عن الحمار دون الجمل ، إلّا أنّ هذا ضعيف ؛ لأنّه يلزم منه التعمية في الجواب ، وهو ينافي حكمة المجيب » (4).

وعندي في هذا الكلام نظر ؛ لأنّ حصول التعارض في بعض المدلول

ص: 188


1- منتهى المطلب 1 : 74 ، كتاب الطهارة ، المقصد الأوّل ، البحث الثاني : أحكام البئر.
2- المعتبر 1 : 61 ، كتاب الطهارة ، أحكام البئر.
3- المعتبر 1 : 61 ، وقال : « لأنّ حصول التعارض في أحد الثلاثة لا يسقط استعمالها في الباقي ».
4- المعتبر 1 : 61.

مع رجحان المعارض يوجب الحمل على إرادة خلاف الظاهر مع إمكانه ، وإلّا فالاطراح وما تضمّنته هذه الرواية من نزح الكرّ وقع جوابا للسؤال عن مجموع الأمرين ، وعبارة الجواب متّحدة ، فكيف يمكن التأويل أو الردّ في بعضها وإبقاء البعض الآخر؟! مع أنّ اللازم من التأويل أن يكون المجيب أراد من اللفظ الواحد ظاهره ، بالنظر إلى بعض ما تضمّنه السؤال وخلاف ظاهره في البعض الآخر. وأيّ تعمية أقوى من هذه؟! فقد لزمه ما أنكره. ومقتضى الإطراح أن يكون السائل توهّم ما ليس بمراد ، ومعه كيف يبقى الوثوق في البعض الآخر؟

على أنّك قد علمت آنفا أنّه ردّ هذه الرواية بضعف السند. وما ذكره من الانجبار بالشهرة مشكل.

ولكنّ الأمر على ما اخترناه سهل إذ يكفي في إثبات الندبيّة هذا القدر.

مسألة [11] :

وذهب كثير من الأصحاب كالمحقّق والعلّامة والشهيد إلى أنّ حكم البغل حكم الحمار في نزح الكرّ لموته(1).

واحتجّ له المحقّق برواية عمرو بن سعيد السابقة ، فإنّه حكاها في المعتبر هكذا : « سألته عمّا يقع في البئر حتى بلغت الحمار والجمل والبغل ، قال : « كرّ من ماء ».

ولم أقف على إدراج البغل في الرواية إلّا في هذا الكتاب ، وبعض تصانيف المتأخّرين ، وعندي أنّه اتّباع له. وقد رواها الشيخ في التهذيب (2)

ص: 189


1- راجع المعتبر 1 : 60 ، ومنتهى المطلب 1 : 74 ، والدروس الشرعية 1 : 119.
2- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، الحديث رقم 679 ، باب تطهير المياه من النجاسات.

والاستبصار (1) خالية عنه. وحكاها في التهذيب مرّة ثانية كذلك (2).

وذكرها العلّامة رضوان اللّه عليه في المنتهى والمختلف خالية عنه أيضا (3).

وأمّا الشهيد فقال في الذكرى : « ينزح كرّ للحمار والبغل في الأظهر عن الباقر عليه السلام ، وليس في بعض الروايات البغل » (4).

وكلامه هذا يحتمل أن يريد به اختلاف متن الرواية (5) في كلام الأصحاب على ما هو الواقع. ويحتمل إرادة اختلافها في كتب الحديث ، أو اختلاف الروايات بأن تكون متعدّدة في ذلك. ولكن التصفّح والاعتبار يشهدان بنفي هذا الاحتمال ، ومن كان له أدنى ممارسة لا يخالجه في ذلك شك خصوصا بعد العلم بطريقة الشهيد رحمه اللّه في الاستدلال ، وقناعته بالشهرة المجرّدة ، فضلا عن أن تكون منضمّة إلى خبر ضعيف (6).

فالذي يظهر : أنّه اكتفى في الاحتجاج للبغل بالخبر ومصيره إلى الحكم بمساواته للحمار بنقل المحقّق الحديث.

وقوله : « أنّه لا يعرف من الأصحاب رادّا له » (7) ، وإن نازع في ذلك

ص: 190


1- الاستبصار 1 : 34 ، الباب 19 من أبواب المياه وأحكامها ، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 1 : 242 ، ذيل الحديث رقم 698 ، وفي السند : عمرو بن سعيد بن ابن هلال.
3- منتهى المطلب 1 : 74 ، مختلف الشيعة 1 : 194.
4- ذكرى الشيعة : 10.
5- في « ب » : متن الروايتين.
6- في « ب » : خبر آخر ضعيف.
7- قال المحقّق في المعتبر 1 : 61 « والمستند رواية عمرو بن سعيد عن أبي جعفر عليه السلام ، وإن ضعف سندها فالشهرة تؤيّدها ، فإني لم أعرف من الأصحاب رادّا لها في هذا الحكم ».

بعض من يعرف الحقّ بالرّجال ، فنحن من وراء الطلب لبيان هذه الروايات (1) التي يدّعى (2) ورودها في هذا المقام.

وربما يوجد في كلام بعض المتأخّرين أنّ البغل مذكور بدل الحمار (3) في موضع من التهذيب ، ونحن قد أكثرنا تصفّحه فيما عندنا من النسخ له فلم نره.

مع أنّ تكلّف المحقّق للجواب عن الاعتراض على الحديث بذكر الجمل كما عرفته ينافيه.

وينبغي أن يعلم أنّ العلّامة رضوان اللّه عليه لم يستدلّ على هذا المدّعى بما استدلّ به المحقّق ؛ لما ذكرناه من عدم التعرّض للبغل في الرواية التي حكاها ، ولكنّه استدلّ له بوجه ضعيف أيضا وسنذكره في بيان ما ينزح للبقرة ، والفرس ، حيث سوّى بين الجميع في الحكم ، وجعله دليلا على الكلّ.

مسألة [12] :

ومن الأصحاب من ذهب إلى أنّ البقرة والفرس ينزح لموت كلّ منهما الكر كالحمار ، واختاره العلّامة والشهيد من المتأخرين (4).

وأنكره المحقّق في المعتبر ، فقال - بعد حكايته له عن المفيد والمرتضى والشيخ - : « ونحن نطالبهم بدليل ذلك ، فإن احتجّوا برواية عمرو بن سعيد قلنا : هي مقصورة على الجمل والحمار والبغل ، فمن أين يلزم في البقرة والفرس؟

ص: 191


1- في « ب » : الرواية.
2- في « أ » : التي يدّعي ورودها.
3- في « أ » : بدل الجمل.
4- منتهى المطلب 1 : 74 - 76 ، واللمعة الدمشقية 1 : 260 ، طبعة كلانتر.

فإن قالوا : هي مثلها في العظم ، طالبناهم بدليل التخطّي إلى المماثل. من أين عرفوه؟ لا بدّ له من دليل. ولو ساغ البناء على المماثلة في العظم لكانت البقرة كالثّور ، ولكان الجاموس كالجمل ، وربما كانت فرس في عظم الجمل فلا تعلّق إذا بهذا وشبهه .. فالأوجه أن يجعل الفرس والبقرة في قسم ما لم يتناوله نصّ على الخصوص » (1).

هذا كلامه وهو جيّد.

غير أنّ علمك قد أحاط باشتمال صحيحة عبد اللّه بن سنان السابقة (2). في حكم الثور على ذكر نحوه معه ، ولا ريب أنّ البقرة أظهر مماثلة له من غيرها ، فتكون تلك الرواية دالّة على نزح الجميع لها أيضا. وربما يلحق بها الفرس ؛ لنحو التقريب الذي ذكرناه في الاحتجاج بالرواية لحكم الجمل ، بل هو هنا أظهر باعتبار كراهة اللّحم فتأمّل.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن الاحتجاج برواية عمرو بن سعيد على هذا الحكم ربما يظهر من كلام الشيخ في التهذيب ، فإنّه لمّا حكى عبارة المقنعة المتضمّنة لنزح الكرّ لموت الحمار أو البقرة ، أو الفرس وأشباهها من الدوابّ أردفها بهذه الرواية (3).

واقتصر الشهيد في الذكرى على الاحتجاج له بالشهرة (4).

وأمّا العلّامة رضوان اللّه عليه فاستدلّ له في المنتهى بما رواه الشيخ في الصحيح

ص: 192


1- المعتبر 1 : 62 - 63.
2- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الحديث 695.
3- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، الحديث 679.
4- ذكرى الشيعة : 10.

عن زرارة ، ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي ، عن أبي عبد اللّه وأبي جعفر عليهما السلام : في البئر يقع فيها الدّابة ، والفأرة ، والكلب ، والطير ، فيموت؟ قال : « يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ اشرب وتوضّأ » (1).

وبين ذلك على مقدّمات :

الاولى : « إنّ المراد بالدّابة في الحديث كلّ ما يركب ؛ لأنّ الجوهري ذكر أنها اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض ، واسم لكلّ ما يركب ، ولا يمكن الحمل على الأوّل وإلّا لعمّ وهو باطل ، فيجب الحمل على الثاني ».

الثانية : « إنّ أداة التعريف في الدّابة ليست للعهد لعدم سبق معهود ، فإمّا أن يكون للعموم كما ذهب إليه بعض ، أو لتعريف الماهيّة ، على ما هو الحق عنده.

وعلى التقديرين يلزم العموم في كلّ مركوب : أمّا على الأوّل فظاهر ، وأمّا على الثاني فلأنّ تعليق الحكم على الماهيّة يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها ، وإلّا لم يكن علّة. هذا خلف ».

قال : « وإذا ثبت العموم دخل فيه الحمار ، والفرس ، والبغل ، والإبل ، والبقر نادرا ، غير أنّ الإبل والثور خرجا بما دلّ بمنطوقه على نزح الجميع فيكون الحكم ثابتا في الباقي ».

الثالثة : « إنّ التسوية بين المعدودات في الرواية لا يقدح في العمل بها ؛ لأنّ ما يستثنى منها بدليل منفصل يخرج ، فيبقى ما سواه.

أو نقول : إنّ التسوية حاصلة من حيث وجوب نزع الدّلاء ، وإن افترقت بالقلّة والكثرة ، وذلك شي ء لم يتعرّض له في الحديث ».

الرابعة : « أنّ المراد بالدّلاء ما يبلغ الكرّ وإن كان ذلك ليس بظاهر من اللفظ ،

ص: 193


1- منتهى المطلب 1 : 74 - 75 ، وتهذيب الاحكام 1 : 236 ، الحديث رقم 682.

إلّا أنّ ضرورة الجمع بين المطلق والمقيّد يقتضيه ، والإتيان بصيغة جمع الكثرة يساعد على ذلك أيضا ».

الخامسة : « إنّه يجوز إرادة الكثرة والقلّة معا من لفظ الدّلاء ، باعتبار عدم مناسبة الكثرة لبعض ما تضمّنه السؤال على ما يأتي بيانه من الاكتفاء للفأرة والطير بما دون جمع الكثرة. ولا يقدح في جواز إرادة المعنيين كونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر إن قلنا به ؛ فإنّ الجمع بين إرادتي الحقيقة والمجاز ممكن.

ومع التنزّل يمكن أن يراد منه معنى مجازي مشترك بينهما ، وهو مطلق الجمع ».

هذا حاصل ما قرّب به الاستدلال بالحديث.

وأنت إذا لاحظته بأدنى نظر تعلم ما فيه من التعسّف والانحراف عن سنن التحقيق ؛ فإنّا إذا سلّمنا إرادة المركوب من لفظ الدّابة ، وأنّ التعريف فيها يفيد العموم ، فلا ريب أنّ ظاهر الحديث استواء جميع ما تضمّنه السؤال في مقدار النزح لا في أصله. وحينئذ فالعدول عنه في بعض ذلك إلى القول بخلاف ما دلّ عليه يقتضي قصر الجواب على بعض ما تضمّنه السؤال من غير قرينة ولا بيان. وحاله لا يخفى.

سلّمنا. ولكن من أين يعلم أنّ المراد بالدّلاء ما يبلغ الكرّ؟ ولو دلّ على ذلك دليل لم يكن لارتكاب هذا الشطط وجه ؛ إذ من البيّن أنّ الدّاعي إلى تجشّم هذه الحجة عدم الدليل على الحكم.

مسألة [13] :

وينزح لموت الإنسان سبعون دلوا في المشهور ، بحيث لا يعرف فيه مخالف ،

ص: 194

ونسبه في المعتبر إلى علمائنا القائلين بالتنجيس (1) ، وذكر نحوه في المنتهى (2).

واحتجّوا له برواية عمار السّاباطي قال : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر ، فقال : « ينزح منها دلاء. هذا إذا كان ذكيّا فهو هكذا. وما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه ، فأكبره الانسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد ، وما سوى ذلك فيما بين هذين » (3).

وفي الاستدلال بهذه الرواية إشكال من حيث عدم صحة سندها ؛ فإنّ فيه جماعة من الفطحيّة.

ونسب العلّامة في المنتهى إلى الشيخ الاحتجاج بها ، واستضعفه لذلك (4).

وقد وجّهها المحقّق في المعتبر بأنّ الرواة وإن كانوا من الفطحيّة إلّا أنّهم ثقاة ، مع سلامتها عن المعارض ، وكونها معمولا عليها بين الأصحاب عملا ظاهرا.

قال : « وقبول الخبر بين الأصحاب مع عدم الرّاد له يخرجه إلى كونه حجّة فلا يعتدّ إذا بمخالف فيه ، ولو عدل إلى غيره لكان عدولا عن المجمع على الطهارة به إلى الشاذّ الذي ليس بمشهور ، وهو باطل بخبر عمر بن حنظلة المتضمّن لقوله عليه السلام : خذ ما اجتمع عليه أصحابك واترك الشاذّ الذي ليس بمشهور » (5).

وفي هذا التوجيه نظر واضح ؛ لأنّه إن كان الإجماع واقعا على مضمون الخبر

ص: 195


1- المعتبر 1 : 62.
2- منتهى المطلب 1 : 76 - 77.
3- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 678. وفيه : فأكثره الإنسان.
4- منتهى المطلب 1 : 76 - 77.
5- المعتبر 1 : 62.

- كما يدلّ عليه قوله : « ولو عدل عنه إلى غيره لكان عدولا عن المجمع على الطهارة به » - فهو الحجة ولا حاجة إلى التكلّف الذي ذكره. وإن لم يتحقّق الإجماع الذي ينهض بانفراده حجة لم تكف الاعتبارات التي قرّبها في إثبات الحكم. وقد أنكر حجّيّة مثلها في مواضع ، فقناعته بها هاهنا لا يخلو عن غرابة. هذا.

وقد ذهب الأكثر إلى عدم الفرق في ذلك بين المسلم والكافر ؛ نظرا إلى عموم اللّفظ.

وفرّق ابن إدريس رضوان اللّه عليه بينهما فأوجب للكافر نزح الجميع ، بناء على وجوبه لما لا نصّ فيه (1) ، ونسبه في الذكرى إلى الشيخ أبي علي أيضا (2).

وحكى المحقّق في المعتبر عن ابن إدريس الاحتجاج على ما صار إليه ، بأنّ الكافر نجس ، فعند ملاقاته حيّا يجب نزح البئر أجمع ، والموت لا يطهّر ، فلا يزول وجوب نزح الماء.

وأنّه قال : ولو تمسّك بالعموم هنا لكان معارضا بقولهم : « ينزح لارتماس الجنب سبع » ، فإنّه يشترط الإسلام ، إذ لا يقدم أحد من الأصحاب على القول في الجنب بنزح سبع ولو كان كافرا ، وكما اشترط هنا الإسلام فكذا ثمّ.

وناقشه بالمنع من وجوب نزح الجميع لملاقاة الكافر ، فإن تمسّك فيه بعدم الدليل على مقدّر قلنا : الدليل موجود ؛ لأنّ لفظ الإنسان إذا كان متناولا للمسلم والكافر جرى مجرى النطق بهما ، فإذا وجب في موته سبعون لم يجب في مباشرته أكثر ؛ لأن الموت يتضمّن المباشرة ، فيعلم نفي ما زاد من مفهوم النصّ.

ص: 196


1- السرائر 1 : 72.
2- ذكرى الشيعة : 10.

وبأنّ معارضته بالجنب غير واردة.

أمّا أوّلا : فلأنّ الارتماس من الجنابة إنّما يراد للطهارة ، فيكون ذلك قرينة دالّة على من له عناية بالطهارة وهو المسلم.

وأمّا ثانيا : فلأنّه إمّا أن يكون هنا دليل يمنع من تنزيل خبر الجنب على الكافر والمسلم أو لا. فإن كان فالامتناع إنّما هو لذلك الدليل. وإن لم يكن قلنا بموجبه سواء كان كافرا أو مسلما ، فإنّا لم نره زاد على الاستبعاد شيئا ، والاستبعاد ليس حجة في بطلان المستبعد.

وأمّا ثالثا : فلأنّ مقتضى الدليل العمل بالعموم في الموضعين ، وامتناعنا من استعمال أحد العمومين في العموم لا يلزم منه اطراح العموم الآخر ؛ لأنّا نتوهّم لأحد العمومين مخصّصا ، فالتوقّف عنه إنّما هو لهذا الوهم ، فإن صحّ ، وإلّا قلنا به مطلقا ، فالإلزام غير وارد. ثمّ هذا ليس بنقض على مسألتنا بل نقض على استعمال اللام في الاستغراق أين كان. فيلزم أن لا ينزّل قوله تعالى ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي ) على العموم ، ولا قوله ( السّارِقُ وَالسّارِقَةُ ) ، لأنّا لم ننزّل الجنب على العموم (1).

والذي أراه : أنّ هذه المناقشة بأسرها ضعيفة ؛ لأنّ الحيثيّة معتبرة في جميع موجبات النزح ، فمعنى وجوب نزح السبعين لموت الإنسان أنّ نجاسة موته يقتضي ذلك ، فالعموم الواقع فيه إنّما يدلّ على تساوي المسلم والكافر في الاكتفاء لنجاسة موتهما بنزح السبعين ، فإذا انضمّ إلى ذلك جهة اخرى للنجاسة كالكفر ونحوه لم يكن للّفظ دلالة على الاكتفاء به. ألا ترى انه لو كان بدن المسلم متنجّسا بشي ء من النجاسات وكانت العين غير موجودة لم يكف نزح المقدّر

ص: 197


1- المعتبر 1 : 63 - 64.

عن الأمرين؟ ولو تمّ ما ذكروه لاقتضى الاكتفاء وهم لا يقولون به.

وبالجملة ، فالكفر أمر عرضي للإنسان كملاقاة النجاسة ، ولكلّ منهما تأثير في بدنه بالتنجيس ، لكنّ الأوّل يشمل ، والثاني يختص بما يلاقيه ، فكما أنّ العموم غير متناول لنجاسة الملاقاة ، لا يتناول نجاسة الكفر.

وبهذا يظهر أنّ المعارضة في محلّها ؛ إذ حاصلها : أن الحيثيّة متبادرة من اللفظ ولذلك فرّقوا بين المسلم والكافر في مسألة الجنب ، فينبغي مثل ذلك هنا.

وقول المحقّق : أنّ الارتماس من الجنابة إنّما يراد للطهارة .. » ضعيف ؛ لخلوّ أكثر الأخبار الواردة في الجنب عن ذكر الاغتسال ، وإنّما ذكر فيها النزول والوقوع.

وقوله : « فإمّا أن يكون هنا دليل .. » قد ظهر جوابه ممّا ذكرناه.

وكذا قوله : « إنّ مقتضى الدليل العمل بالعموم في الموضعين ».

وقوله : « هذا ليس بنقض على مسألتنا بل نقض على استعمال اللام في الاستغراق .. » واه جدا ؛ لأنّ اللازم من عدم عموم لفظ الجنب لنجاسة الكفر عدم تناول الزاني والسارق ونحوهما لغير حيثيّة الزنا والسرقة بحيث يكون الحدّ المذكور لكلّ واحد منهما كافيا عنه وعن غيره ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، ونحن لا ندّعي خلافه.

والحاصل : إنّ ملاحظة الحيثيّة ترشدك إلى ردّ كلام المحقّق في هذا المقام من أصله ؛ لابتنائه على إغفالها.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ظاهر كلام المحقّق (1) وابن إدريس (2) أنّ محلّ الخلاف

ص: 198


1- المعتبر 1 : 63.
2- السرائر 1 : 73.

هو الوقوع حيّا ، والموت في البئر. والرواية صريحة في ذلك أيضا. وقد ظنّ جمع من الأصحاب أنّ موضع النزاع هو الوقوع ميّتا فرجّحوا فيه التسوية ، ثمّ ذكروا وقوعه حيّا وموته ، وحكموا فيه بالفرق ، واستندوا في الحكم الأوّل إلى العموم ، واحتجّوا للثاني بأن مباشرة الكافر حيّا سبب في نجاسة الماء ، وملاقاته ميّتا سبب آخر فثبت لكلّ حكمه.

وأنت تعلم أنّ العموم الذي تمسّكوا به في المسألة الاولى لو تمّ فإنّما يدلّ على الثانية ، فلا وجه للاحتجاج به أوّلا والمصير إلى خلافه ثانيا.

ثمّ إنّهم توهّموا أنّ حاصل احتجاج ابن إدريس يرجع إلى أنّ وجوب نزح الجميع لوقوعه حيّا - باعتبار عدم النصّ - يقتضي وجوبه مع الوقوع ميّتا بطريق أولى لزيادة نجاسته بالموت.

فأجابوا عنه بمنع بقاء النجاسة بعد الموت ؛ لأنّها مسبّبة عن الاعتقاد ، وقد زال.

وردّ هذا الجواب بعضهم بأنّ أحكام الكفر باقية بعد الموت ، ومن ثمّ لا يغسّل ، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وجعل التحقيق في الجواب أنّه استدلال في مقابلة النّص. وقد عرفت أنّه لا نصّ في صورة الوقوع ميّتا ، فهذا الجواب مردود أيضا.

وأمّا ما ذكروه في ردّ الجواب الأوّل فمقبول. ومنه يعلم عدم الفرق بين المسألتين ؛ لاجتماع الحيثيّتين في كلّ منهما ، أعني نجاسة الموت ونجاسة الكفر. فإن كان عموم النّص يتناولهما - كما زعموا - فالمتّجه الاكتفاء في المسألتين بنزح السبعين. وإن كان مخصوصا بحيثيّة الموت - على ما هو التحقيق - فكذلك بالنظر إليها ، ويكون حكم نجاسة الكفر فيهما مسكوتا عنه فيلحق بما لا نصّ فيه.

ولقد أغرب العلّامة في المختلف هاهنا حيث منع بقاء نجاسة الكافر بعد الموت ، وحكم بوجوب نزح السبعين بناء على القول بالتنجيس لوقوعه ميّتا

ص: 199

نظرا إلى العموم. ثمّ قال : وإن وقع حيّا ومات فكذلك (1).

ومن أحاط خبرا بما حقّقناه لم يخالجه شك في فساد التسوية التي ذكرها بعد منعه لبقاء نجاسة الكفر بعد الموت وجعله مورد الحديث الوقوع ميّتا - كما أفصح به تمسّكه في حكم الوقوع ميّتا بالعموم - فإنّ اللازم من ذلك كون نزح السبعين واجبا لنجاسة الموت فقط ، إذ ليس هناك غيرها بزعمه. وحينئذ فإذا وقع حيّا ومات ، اقترن بها أمر آخر غير منصوص عنده وهو المباشرة حيّا ، فيجب لها ما يجب لغير المنصوص ، فكيف يقول بعد هذا : « إنّه إن وقع حيّا ومات فكذلك »؟!

ثمّ اعلم أنّ مراد ابن إدريس من قوله في احتجاجه : « الكافر نجس فعند ملاقاته حيّا يجب نزح البئر أجمع ، والموت لا يطهّر فلا يزول وجوب نزح الماء » - على ما سبق نقل المحقّق له عنه - أنّ مباشرة الكافر حيّا مما لا نصّ فيه ، فيثبت لها حكمه وهو نزح الجميع عنده ، فإذا وقع الكافر حيا ومات في البئر وجب نزح الجميع لصدق المباشرة حيّا ، والموت بعده لا يصلح مزيلا له ؛ لأنّه غير مطهّر.

وهذا المعنى هو الذي فهمه المحقّق منه أيضا ، حيث ناقشه : بأنّ الدليل لمّا كان عامّا دلّ على الاكتفاء بالسبعين لمباشرة الكافر حيّا وميّتا ؛ إذ الموت في البئر يتضمّن المباشرة في حال الحياة ، فيعلم الاكتفاء بها المباشرة وحدها حيث يخرج حيّا بطريق أولى.

وبالجملة فمن تأمّل كلامهما لم يرتب في أنّ المراد ما قلناه. وبذلك يظهر : أنّ ما فهمه بعض الأصحاب من كلام ابن ادريس - كما حكيناه ، وجوابهم عنه

ص: 200


1- مختلف الشيعة 1 : 195.

بمنع بقاء النجاسة .. إلى آخر ما سبق نقله - توهّم ظاهر. وعليك بالتدبّر في هذه المسألة ؛ فإنّ كلام الأصحاب فيها كثير الاضطراب.

مسألة [14] :

وينزح للدم الكثير - غير الثلاثة - خمسون دلوا عند الشيخ وجماعة (1).

وقال المفيد : ينزح للكثير عشر (2).

ويحكى عن المرتضى في المصباح أنّه قال : في الدم ما بين الدّلو الواحدة إلى العشرين.

ولم نقف لقول الشيخ على حجّة ، ولا لقول المرتضى.

وأمّا ما ذهب إليه المفيد فقد احتجّ له الشيخ في التهذيب بما رواه في الصحيح عن محمّد بن اسماعيل بن بزيع قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن البئر يكون في المنزل للوضوء ، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة أو نحوها ، ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه السلام في كتابي بخطّه : « ينزح منها دلاء » (3).

قال الشيخ : وجه الاستدلال من هذا الخبر هو أنّه قال : ينزح منها دلاء. وأكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة ، فيجب أن نأخذ به ونصير إليه ؛ إذ لا دليل على ما دونه (4).

وهذا الاحتجاج فاسد من وجوه.

ص: 201


1- النهاية 1 : 7.
2- المقنعة : 67.
3- تهذيب الأحكام 1 : 244 - 245 ، الباب 10 من أبواب المياه ، الحديث 705.
4- تهذيب الأحكام 1 : 244 - 245 ، الباب 10 من أبواب المياه ، الحديث 705.

أحدها : أنّه ليس في الحديث إشعار بالكثرة التي هي موضع البحث ، بل ظاهره إرادة القلّة ، وقد قال هو في الاستبصار أنّ هذا الحديث يدلّ على حكم القليل ؛ لأنّ قوله : « قطرات » يستفاد منه القلّة (1).

الثاني : أنّه مبنيّ على كون الدّلاء جمع قلّة ، كما يدلّ عليه قوله : « وأكثر عدد » ، وليس الأمر كذلك الانحصار جموع القلّة في أوزان أربعة مشهورة أو خمسة ، عند بعضهم ، وليس هو منها ، فيكون من جموع الكثرة. وقد ذكر في الاستبصار أنّه جمع كثرة يدلّ على ما فوق العشرة - في البحث عمّا يجب لموت الكلب ونحوه - وسيأتي (2).

والثالث : أنّ حمل الدّلاء على جمع القلّة يقتضي الاجتزاء بأقلّ مدلولاته وهو الثلاثة ؛ لأنّ اطلاق اللفظ يدلّ على أنّ المطلوب تحصيل الماهيّة بأيّ فرد اتّفق ، مما يتحقّق معه ، فإذا حصلت بالأقلّ كان الزائد منفيّا بالأصل ، فمن أين يجب الحمل على الأكثر؟! وبما ذكرناه يعلم فساد التعليل بأنّه لا دليل على ما دونه.

واعلم أنّ المحقّق اعترض في المعتبر - على ما ذكره الشيخ - بأنّا نسلّم أنّ أكثر عدد يضاف إلى الجمع عشرة ، لكن لا نسلّم أنّه إذا جرّد عن الإضافة يكون حاله كذلك ، فإنّه لا يعلم من قوله : « عندي دراهم » أنّه لم يخبر عن زيادة عن عشرة ، ولا إذا قال : « أعطه دراهم » أنّه لم يرد أكثر من عشرة ؛ فإنّ دعوى ذلك باطلة (3).

ص: 202


1- الاستبصار 1 : 44.
2- الاستبصار 1 : 37.
3- المعتبر 1 : 66.

وردّه العلّامة في المنتهى : بأنّ الإضافة هاهنا وإن جرّدت لفظا لكنّها مقدّرة ، وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، وحينئذ فلا بدّ من إضمار عدد يضاف إليه تقديرا ، فيحمل على العشرة التي هي أقلّ ما يصلح إضافته إلى هذا الجمع ؛ أخذا بالمتيقّن ، وحوالة على الأصل من براءة الذمّة (1).

وهذا الكلام ليس بشي ء.

أمّا أوّلا : فلأنّه إنّما يلزم من عدم تقدير الإضافة تأخير البيان عن وقت الحاجة لو لم يدلّ اللفظ بدونها على شي ء ، والأمر ليس كذلك ؛ فإنّ له ولأمثاله من صيغ المجموع الواقعة في هذه المقامات معنى يتبادر منها عند الاطلاق ، وهو أيّ مقدار كان ممّا يصدق عليه ولو أقلّها.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير وجوب التقدير ليس على تعيّن العشرة دليل. وما ذكره من التوجيه فاسد ؛ إذ هي الأكثر لا الأقلّ. وقد صرّح بذلك الشيخ أيضا وهو بصدد الانتصار لكلامه ، فكيف يوجّهه بما لا يلائمه؟.

ثمّ إنّ له في المختلف كلاما أعجب من هذا حيث قال - بعد حكايته لكلام الشيخ ، ومناقشته له بنحو ما ذكره المحقّق - : ويمكن أن يحتجّ من وجه آخر وهو أن يقال : إنّ هذا جمع كثرة ، وأقلّه ما زاد على العشرة بواحد فيحمل عليه ؛ عملا بالبراءة الأصليّة (2).

وأنت خبير بأنّ مقتضى هذا الاحتجاج كون الواجب إحدى عشرة ، والمدّعى هو العشرة ، فأين هو منه؟!

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المشايخ الثلاثة رووا في الصحيح عن عليّ بن جعفر ،

ص: 203


1- منتهى المطلب 1 : 80 و 81.
2- مختلف الشيعة 1 : 199.

عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألته عن رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في بئر ماء وأوداجها تشخب دما هل يتوضّأ من تلك البئر؟ قال : « ينزح منها ما بين الثلاثين إلى الأربعين دلوا ، ثم يتوضّأ منها ولا بأس به » (1).

وعمل بهذه الرواية جماعة من الأصحاب ، وهو جيّد. غير أنّ ظاهر البعض كون العمل بمضمونها في مطلق الدم الكثير.

وعندي فيه نظر ؛ إذ ليس فيها ما يقتضي العموم ، فينبغي أن يكون العمل بها في موردها. ويلحق ما عداه بغير المنصوص.

مسألة [15] :

وأوجب الشيخ نزح الخمسين للعذرة الرطبة (2) ، وقال المفيد في المقنعة : وإن كانت العذرة رطبة ، أو ذابت وتقطّعت فيها نزح منها خمسون دلوا (3). وحكي عن المرتضى أنّه قال في المصباح : « فإن ذابت وتقطّعت فخمسون دلوا ».

قال المحقّق في المعتبر بعد حكايته لهذه الأقوال عن الجماعة : « وما فصّله الثلاثة لم أقف به على شاهد ». واختار التخيير بين الأربعين والخمسين في الذائبة (4). وهو قول الصدوق رضوان اللّه عليه فإنّه قال في من لا يحضره الفقيه : فإن ذابت فيها

ص: 204


1- راجع من لا يحضره الفقيه 1 : 20 ، والكافي 3 : 6 ، الحديث 8 ، وتهذيب الأحكام 1 : 409 ، الحديث 1288 ، ولا حظ الاختلاف في النقل.
2- النهاية ونكتها 1 : 208.
3- المقنعة : 67.
4- المعتبر 1 : 65.

استقي منها أربعون دلوا إلى خمسين دلوا (1). ومثله في المقنع (2). واحتجّ المحقّق لذلك برواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن العذرة تقع في البئر؟ فقال : ينزح منها عشر دلاء ، فإن ذابت فأربعون ، أو خمسون دلوا » (3).

وهو حسن لو صحّ طريق الرواية ، لكنّه ضعيف.

والمراد بالذوبان - على تقدير اعتباره - تحلّل الأجزاء وشيوعها في الماء بحيث يستهلكها.

واحتمل بعض الأصحاب الاكتفاء بذوبان بعض الأجزاء ؛ نظرا إلى أنّ القلّة والكثرة غير معتبرة ، فلو سقط مقدار البعض الذائب منفردا وذاب لأثّر ، فانضمام غيره إليه لا يمنعه التأثير. وفيه نظر.

وقال العلّامة في المنتهى - بعد أن ذكر هذه الرواية ، وأنّها تتضمن ما قاله الصدوق - : « ويمكن التعدية إلى الرطبة ؛ للاشتراك في شياع الأجزاء ، ولأنّها تصير حينئذ رطبة » (4).

وضعف هذا الكلام ظاهر ؛ فإنّا نمنع من اقتضاء الرطوبة (5) شيوع الأجزاء مطلقا ، نعم هي أقرب إلى ذلك من اليابسة ، ولو سلّم لم يكن للتعدية معنى ؛ لصدق الذّوبان حينئذ ، فيستغنى عن اعتبار الرطوبة.

وأمّا قوله : « ولأنها تصير حينئذ رطبة » فممّا لا محصّل له.

ص: 205


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 18.
2- المقنع : 30.
3- تهذيب الأحكام 1 : 244 ، الحديث 702.
4- منتهى المطلب 1 : 82.
5- في « ب » : اقتضاء الرطبة شيوع الأجزاء.
مسألة [16] :
اشارة

وينزح لبول الرجل أربعون دلوا على المشهور بين الأصحاب.

واستندوا في ذلك إلى رواية عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال : دلو واحد. قلت : بول الرجل؟ قال : ينزح منها أربعون دلوا. (1)

وطريقها ليس بصحيح.

وقد تقدّم في حكم الخمر تضمّن صحيحة معاوية بن عمّار نزح الجميع إذا بال فيها صبيّ أو صبّ فيها بول (2).

وفي رواية كردويه هناك أيضا : نزح ثلاثين للقطرة من البول (3). وقد تقدّم في صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع : نزح دلاء للقطرات من البول (4).

واستقرب العلّامة في المنتهى العمل برواية محمّد بن اسماعيل هذه ؛ لسلامة سندها. قال : وتحمل الدلاء في البول على رواية كردويه ؛ فإنّها لا بأس بها ، ورواية معاوية بن عمّار تحمل على التغيّر في البول ، أو على الاستحباب (5).

وما استقربه بعيد ؛ لأنّ رواية كردويه ضعيفة السند ، كما مرّت الإشارة إليه ، فكيف يحمل إطلاق الدّلاء في صحيحة محمّد بن اسماعيل عليها مع ما فيه

ص: 206


1- تهذيب الأحكام 1 : 243 ، الحديث 700.
2- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الحديث 696.
3- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الحديث 698.
4- تهذيب الأحكام 1 : 244 ، الحديث 705.
5- منتهى المطلب 1 : 86.

من الإشكال باعتبار اشتمالها على قطرات الدم وغيرها؟ وظاهر الجواب التسوية بين الكلّ ، وهو لا يقول بها.

وقال المحقّق في المعتبر بعد أن ذكر رواية ابن أبي حمزة وروايتي معاوية ابن عمّار وكردويه : « والترجيح لجانب الاولى ؛ لاشتهارها في العمل ، وشذوذ غيرها بين المفتين.

لا يقال : علي بن أبي حمزة واقفي ؛ لأنّا نقول : تغيّره إنّما هو في زمن موسى عليه السلام فلا يقدح في ما قبله.

على أنّ هذا الوهن لو كان حاصلا وقت الأخذ عنه لانجبرت بعمل الأصحاب وقبولهم لها » (1).

وفي ما قال نظر واضح ؛ لأنّ حال الشهرة معلوم. وظاهره في كثير من المواضع عدم اعتبارها ، كما قد سبق التنبيه عليه.

وقوله : « إنّ ابن أبي حمزة إنّما تغيّر في زمن موسى عليه السلام .. » عجيب ؛ إذ ليس الاعتبار في عدالة الراوي بحال التحمّل ، بل بزمان الرواية. وكيف يعلم بمجرّد إسنادها إلى الصادق عليه السلام أنّ روايته لها وقعت قبل تغيّره؟ ما هذا إلّا محض التوهّم.

مع أنّ الجزم بإرادة ابن أبي حمزة البطائني الذي هو واقفي لا وجه له ؛ لاشتراك الاسم بينه وبين ابن أبي حمزة الثمالي ، ولا قرينة واضحة على التمييز. والثمالي حكى الكشّي عند حمدويه ابن أبي نصير (2) توثيقه (3).

ص: 207


1- المعتبر 1 : 68.
2- في « أ » : عن حمدويه بن نصير. وفي « ب » : عن حمدويه بن نصر.
3- اختيار معرفة الرجال : 213.

إذا تقرّر هذا : فالمتّجه العمل بصحيحة معاوية بن عمّار في الكثير ؛ لدلالة الانصباب عليه كما سبق في الخمر ، وبصحيحة محمّد بن اسماعيل في القليل ؛ لما علمت من ظهور القطرات فيه ، إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه ، لا مجرّد عدم ظهور القائل به كما يقال.

وعلى كلّ حال فكون النزح على سبيل الاستحباب مسهّل الخطب.

فرعان :
[ الفرع ] الأوّل :

أكثر الأصحاب فرّقوا بين الرجل والمرأة في هذا الحكم ، لاعتمادهم على رواية عليّ بن أبي حمزة وموردها بول الرجل.

وذهب ابن إدريس إلى التسوية بينهما فحكم بنزح الأربعين لبولها أيضا ؛ محتجّا بتناول لفظ الإنسان لها (1).

قال المحقّق رحمه اللّه عند حكايته لذلك عنه : ونحن نسلّم أنّها إنسان ونطالبه أين وجد الأربعين معلّقة على بول الإنسان ، ولا ريب أنّه وهم منه (2).

والعجب من العلّامة رحمه اللّه أنّه مع إنكاره في المنتهى والمختلف على ابن إدريس في التسوية المذكورة (3) ، قال بها في التحرير ، حيث نفي الفرق بين بول المسلم والكافر ثمّ قال : « والأقرب عدم الفرق بين الذكر والانثى » (4).

ص: 208


1- السرائر 1 : 78.
2- المعتبر 1 : 68.
3- منتهى المطلب 1 : 86. ومختلف الشيعة 1 : 208.
4- تحرير الأحكام 1 : 5.

ثمّ إنّ الفارقين بينهما اختلفوا :

فأوجب المحقّق في المعتبر لبولها نزح ثلاثين ، واحتجّ له برواية كردويه السابقة (1). وقد عرفت حالها.

وألحقه جماعة بما لا نصّ فيه.

وعلى ما ذكرناه - من العمل بروايتي معاوية بن عمار ، ومحمّد بن اسماعيل - لا فرق بينهما ؛ لإطلاق البول في الروايتين. وهو آت على ما استقربه العلّامة في المنتهى أيضا. وقد نبّه عليه فيه فقال : « لا فرق بين بول المرأة والرجل إن عملنا برواية محمّد بن بزيع ، أو برواية كردويه ، وإن عملنا برواية عليّ بن حمزة حصل الفرق » (2).

[ الفرع ] الثاني :

ظاهر الأصحاب أنّه لا خلاف في عدم الفرق بين بول المسلم والكافر حتّى من ابن إدريس ، مع ذهابه إلى الفرق في الميّت.

واحتمل بعض المتأخّرين الفرق ؛ فإنّ لنجاسة الكفر تأثيرا ، ولهذا لو وقع في البئر ماء متنجّس بملاقاة بدن الكافر لوجب له النزح ، فكيف يكتفى للبول مع ملاقاته لبدنه بأربعين؟ والحكم إنّما هو منوط بنجاسة البول لا بنجاسة الكفر.

قال : وهذا وارد في سائر فضلاته كعذرته ، وبوله ، ومثله دم نجس العين.

قلت : العجب ممّن يتنبّه لهذا الاعتبار كيف يقول بالتسوية في مسألة الميّت وقد قال بها من هذا كلامه.

وأعجب منه أنّ بعضا آخر احتمل الفرق في العذرة ؛ نظرا إلى زيادة نجاسة

ص: 209


1- المعتبر 1 : 68.
2- منتهى المطلب 1 : 86.

عذرة الكافر بمجاورته (1) ، وجزم في البول بعدم الفرق ؛ لعموم لفظ الرجل.

والتحقيق : إنّ الحيثيّة معتبرة في الجميع كما أشرنا إليه في مسألة موت الإنسان. واللازم من ذلك عدم الاكتفاء بالمقدّر لحيثيّته عند مصاحبة اخرى لها ؛ لما سيأتي من عدم تداخل المنزوحات عند تعدّد أسبابها.

ولا ريب أنّ ملاقاة النجاسة لنجاسة اخرى على وجه مؤثّر توجب لها قوّة واعتبارا زائدا على حقيقتها. والدّليل الدّال على نزح مقدار مخصوص لها غير متناول لما سواها فكيف يكون كافيا عن الجميع بتقدير الاجتماع؟!.

مسألة [17] :

وأوجب الشيخان وجماعة نزح الأربعين لموت الكلب والسنّور (2).

وقال الصدوق رضوان اللّه عليه في المقنع : « وإن وقع فيها كلب أو سنّور فانزح منها ثلاثين دلوا إلى أربعين دلوا. وقد روي سبع دلاء (3).

وقال في من لا يحضره الفقيه : فإن وقع فيها كلب نزح منها ثلاثون دلوا إلى أربعين دلوا ، وإن وقع فيها سنّور نزح منها سبع دلاء (4).

احتجّ الشيخ على ما ذهب إليه بما رواه الحسين بن سعيد ، عن القاسم ، عن عليّ (5) ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة تقع في البئر .. إلى أن قال :

ص: 210


1- في « أ » و « ب » : زيادة نجاسة عذرة الكافر بمجاورته.
2- المقنعة : 66. والنهاية ونكتها 1 : 2. تهذيب الأحكام 1 : 236 ، ذيل الحديث 681.
3- المقنع ، كتاب الطهارة : 30.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 17.
5- في « ب » : عن القاسم بن علي ، قال : ..

والسّنور عشرون أو ثلاثون أو أربعون دلوا ، والكلب وشبهه » (1).

وبما رواه سماعة قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة تقع في البئر والطّير .. إلى أن قال : وإن كانت سنّورا أو أكبر منه نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا » (2).

قال الشيخ في التهذيب : وليس لأحد أن يقول كيف عملتم على أربعين دلوا ، وليس في هذين الخبرين القطع عليها ، بل إنّما تضمّناها على جهة التخيير. وهلّا عملتم بغيرهما ممّا يتضمّن الأقلّ من هذا المقدار؟

لأنّا إذا عملنا على ما ذكرناه من نزح الأربعين فلا خلاف بين أصحابنا في جواز استعمال ما بقي من الماء ، وتكون أيضا الأخبار التي تتضمّن أقلّ من ذلك داخلة في جملة ، وإذا عملنا غير ذلك نكون دافعين لهذين الخبرين جملة ، وصائرين إلى المختلف فيه ، فلأجل هذا عملنا على نهاية ما وردت به الأخبار (3).

هذا حاصل كلامه ، وهو ظاهر الضعف ، بيّن الوهن ، مع أنّ في طريق الروايتين ضعفا ؛ فإنّ القاسم وعليّا وسماعة من الواقفيّة (4) على ما ذكره الأصحاب. وفي طريق الثانية عثمان بن عيسى وهو منهم أيضا.

وكأنّ الصدوق استند في الحكم الذي ذكره في المقنع إلى رواية سماعة. ودلالتها ظاهرة بالنسبة إلى السنّور ، وأمّا الكلب ففي استفادة حكمه منها توقّف ؛ لأنّ قوله فيها : « أو أكبر منه » مجمل جدّا ، فيشكل التمسّك به.

ص: 211


1- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، الحديث 680.
2- تهذيب الأحكام 1 : 236 ، الحديث 681. وفيه : أو الطير.
3- تهذيب الأحكام 1 : 236 ، ذيل الحديث 681.
4- في « أ » و « ب » : من الوقفة.

وأمّا ما ذكره في من لا يحضره الفقيه في الكلب فلم يقف (1) على رواية تدلّ عليه ، والروايتان السابقتان تضمّنتا السنّور ، وفي الاولى التخيير بين العشرين وبين ما ذكره ، فلا يصلحان مستندا له. وقد قال العلّامة في المختلف : إنّهما يدلّان على ما ذهب إليه (2). وما قاله ليس على إطلاقه.

ثمّ إنّ الرواية بالسبع التي أشار إليها في المقنع ، وأفتى بها في من لا يحضره الفقيه لعلّها رواية عمرو بن سعيد بن هلال قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسّنور إلى الشاة. فقال : كلّ ذلك يقول : سبع دلاء » (3). وراويها مجهول على ما سبق بيانه.

وبقي في هذا الباب روايات :

منها : صحيحة أبي اسامة زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في الفأرة والسّنور والدجاجة والكلب والطير؟ قال : فإذا لم يتفسّخ (4) أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء ، وإن تغيّر الماء فخذ منه حتى يذهب الرّيح » (5).

ومنها : رواية الفضل البقباق قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام في البئر يقع فيها الفأرة أو الدّابّة أو الكلب أو الطير فيموت؟ قال : يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ يشرب منه ويتوضّأ » (6).

ص: 212


1- الظاهر ان الصحيح هو : فلم نقف.
2- مختلف الشيعة 1 : 201.
3- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، الحديث 679.
4- في « ب » : لم تنفسخ.
5- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 684.
6- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 685.

ومنها : صحيحة زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وبريد بن معاوية العجلي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام وأبي جعفر عليه السلام (1) وهي مثل رواية الفضل. وقد تقدّمت أيضا في احتجاج العلّامة على [ ما ] ينزح للفرس والبقرة (2).

ومنها : رواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : « سألته عن البئر يقع فيها الحمامة والدجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرّة؟ فقال : يجزيك أن تنزح منها دلاء فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء اللّه » (3). وهذه الرواية تقدّمت أيضا في أوّل البحث.

ومنها : رواية أبي مريم قال : حدّثنا جعفر قال : « كان أبو جعفر يقول : إذا مات الكلب في البئر نزحت. وقال جعفر : « وإذا وقع فيها ثمّ اخرج منها حيّا ينزح منها سبع دلاء » (4).

ومنها : رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير؟ قال : ينزح كلّها » (5).

وقد حاول الشيخ في الاستبصار الجمع بين هذه الروايات وبين ما احتجّ به على وجوب الأربعين ، فحمل الرواية الاولى على خروج الكلب حيّا ، وحمل الروايات الثلاث التي بعدها على إرادة الأربعين من لفظ الدلاء. وقرّبه بأنّه جمع كثرة وهو لما زاد على العشرة ، فلا يمنع أن يكون المراد به الأربعين.

ص: 213


1- تهذيب الأحكام 1 : 236 ، الحديث 682.
2- منتهى المطلب 1 : 74 - 75.
3- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 686.
4- تهذيب الأحكام 1 : 237 - 238 ، الحديث 687.
5- تهذيب الأحكام 1 : 242 ، الحديث 699. والاستبصار 1 : 5. الحديث 10.

واحتمل في الأخبار الأربعة وجها آخر ، وهو أن يكون الإمام عليه السلام أجاب عن حكم بعض ما تضمّنه السؤال من الفأرة والطير ، وعوّل في حكم الباقي على المعروف من مذهبه أو غيره من الأخبار التي شاعت عنهم عليهم السلام.

ولا يخفى عليك ما في هذه المحامل من الضعف والتكلّف ، لا سيّما مع عدم صحّة إسناد الروايتين اللّتين احتجّ بهما على ما صار إليه ، وكون أكثر هذه الروايات معتبرة الطريق ؛ فإنّ رواية زيد الشحام صحيحة السند ، وكذا رواية زرارة ومن معه ، ورواية عليّ بن يقطين موصوفة بالصحّة في كلام جماعة من الأصحاب ، وقد تقدّم ذكر ذلك أيضا عند ذكرها في أوّل الباب. لكنّا متوقّفون فيه من حيث اشتمال طريقها على محمّد بن أبي حمزة ، ولم يوثّقه الشيخ ولا النجاشي ، وإنّما حكى الكشّي توثيقه عن حمدويه بن نصير (1). ووثّقه العلّامة (2). ونحن لا نكتفي بهذا القدر كما مرّ.

وأمّا الروايتان الأخيرتان فحملهما الشيخ على حصول التغيّر ، ولا بأس به ، لكن يجب تقييده عندنا بالتغيّر الذي يتوقّف زواله على نزح الجميع كما سيأتي تحقيقه.

وأمّا على القول بالتنجيس أو وجوب النزح فيمكن إجراء الكلام على إطلاقه.

وقد تعرّض المحقّق أيضا للكلام على أكثر هذه الأخبار في المعتبر فقال : إنّ رواية أبي اسامة قويّة السّند لكنّها متروكة بين المفتين. ورواية زرارة غير مقدّرة ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى ما ذكر في رواية أبي اسامة الحسين

ص: 214


1- اختيار معرفة الرجال : 203.
2- خلاصة الاقوال : 152.

ابن سعيد عن القاسم عن عليّ ، ورواية أبي مريم محتملة ؛ إذ قوله عليه السلام : « نزحت » يمكن أن يراد به الأربعون. ورواية عمّار وإن كان ثقة لكنّه فطحيّ ، فلا يعمل بها مع وجود المعارض السليم (1).

هذا وأنت تعلم أنّ الأمر عندنا سهل ؛ لأنّ المندوب يتسامح فيه. وحيث إنّ الآبار مختلفة في الكثرة والقلّة والقوّة والضعف ، والغرض من النزح تنظيفها ، فلا جرم يحصل الاختلاف في المقدار الذي يتحقّق معه التنظيف. ولعلّه السرّ في اختلاف الأخبار. وبالجملة فهو عند التحقيق أدلّ دليل على عدم الانفعال ، وأنّ النزح على جهة الاستحباب.

مسألة [18] :

وألحق الشيخان بالكلب ما أشبهه في قدر جسمه. وعدّا من الشبيه الخنزير والثعلب والشاة والغزال (2).

واستدل لذلك الشيخ في التهذيب بالرواية السابقة في موت الكلب حيث قال فيها : « والكلب وشبهه » (3).

ونحن إذا سلّمنا لهم الأصل نطالبهم بالدليل على إرادة المشابهة في قدر الجسم. ثمّ لو تنزّلنا إلى الموافقة لمنعنا حصول هذه المشابهة في أكثر المعدودات. والعيان شاهدنا العدل.

قال المحقّق رحمه اللّه بعد حكاية كلام الشيخ في ذلك : « لا ريب أنّ الثعلب يشبه

ص: 215


1- المعتبر 1 : 68.
2- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، ذيل الحديث 680. والمقنعة : 66.
3- وهي الرواية المرقّمة برقم : 680.

السّنّور. أمّا الكلب فهو بعيد عن شبهه. والرواية إنّما أحالت في الشبه على الكلب ، فالاستدلال إذا ضعيف (1).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الصّدوق رحمه اللّه قال في من لا يحضره الفقيه : « وإن وقعت شاة وما أشبهها في بئر نزح منها تسعة دلاء إلى عشرة دلاء » (2).

وقال في المقنع : « وإن وقعت في البئر شاة فانزح سبعة أدل » (3).

وكأنّه استند في الحكم الأوّل إلى رواية اسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه : « أنّ عليّا عليه السلام كان يقول : الدجاجة ومثلها تموت في البئر ينزح منها دلوان وثلاثة ، فإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة وعشرة » (4).

وفي الثاني إلى رواية عمرو بن سعيد بن هلال عن أبي جعفر عليه السلام وقد تقدّمت في حكم السّنور (5) حيث دلّت على السبع فيه أيضا.

ورجّح المحقّق في المعتبر العمل بالرواية الاولى ؛ معلّلا له بسلامة سندها وضعف رواية عمرو (6).

وهذا منه عجيب ؛ فإنّ ضعف رواية عمرو بن سعيد بواسطته حيث إنّه مجهول كما عرفت. وفي طريق رواية إسحاق : غياث بن كلوب وهو مجهول الحال أيضا ،

ص: 216


1- المعتبر 1 : 68.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 21 ، الحديث 32.
3- في « ب » : سبعة أدلاء. راجع المقنع : 32.
4- راجع تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 683. وفيه : « دلوان أو ثلاثة .. فتسعة أو عشرة ». والاستبصار 1 : 4. الحديث 122.
5- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، الحديث 679.
6- المعتبر 1 : 69.

وإسحاق فطحيّ - على ما ذكره الشيخ (1) - وإن كان ثقة.

ثمّ إنّ المحقّق حكى عن الشيخين والمرتضى إيجاب نزح الأربعين للشاة ، وأنّ الشيخ احتجّ لذلك بمشابهتها للكلب. وردّه بأنّ احتجاجه بالمشابهة ليس بصريح. فالصريح أولى ؛ لأنّه استدلال بالمنطوق.

والتحقيق عندي أنّ المشابهة غير ثابتة ، والأخبار كلّها ضعيفة. فالأولى التوقّف عن العمل بها حيث يقال بالوجوب.

مسألة [19] :

وينزح ثلاثون دلوا لوقوع ماء المطر وفيه البول والعذرة وأبوال الدّواب وأرواثها وخرء الكلاب. قاله كثير من الأصحاب.

واستندوا فيه إلى رواية كردويه الهمداني. قال : « سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول والعذرة وأبوال الدوابّ وأرواثها وخرء الكلاب؟ قال : ينزح منها ثلاثون دلوا وإن كانت مبخّرة » (2).

وقد أورد بعض الأصحاب على هذا الحكم إشكالا حاصله : إنّ ترك الاستفصال عن النجاسات المذكورة يقتضي تساوي جميع محتملاتها في الحكم ، فيستوي حال العذرة رطبة ويابسة ، وحال البول إذا كان بول رجل أو غيره ، وقد حكموا بنزح خمسين للعذرة الرطبة وأربعين لبول الرجل مع انفراد كلّ منهما فكيف يجتزي بالثلاثين مع انضمام أحدهما إلى الآخر ، وانضمام غيرهما إليهما

ص: 217


1- الفهرست : 54 ، الرقم 96.
2- الاستبصار 1 : 43 ، الحديث 120 ، وجاء في هامشه : البئر المبخّرة التي يشمّ منها الرائحة الكريهة كالجيفة ونحوها.

وهو مقتض لزيادة النجاسة؟!

واجيب عنه بالحمل على استهلاك ماء المطر لأعيان النجاسات ، ولا بعد في أن يكون ماء النجاسة أخفّ منها.

وردّ بأنّه على تقدير الاستهلاك لا يبقى بين ماء المطر وغيره فرق ، وقد فرّقوا مع أنّ لفظ الرواية ظاهر في كون الأعيان باقية موجودة.

فالأولى إبقاء الرواية على إطلاقها ، وعدم الالتفات إلى مثل هذا الإشكال ؛ فإنّه استبعاد غير مسموع بعد قيام الدليل ، خصوصا في أحكام البئر ؛ فإنّ التفريق بين المتماثل والجمع بين المتباين فيها كثير.

وهذا الكلام إنّما يتوجّه إذا كان دليل الحكم ناهضا بإثباته ، وليس الأمر كذلك هاهنا ؛ فإنّ راوي هذا الحديث - أعني كردويه - مجهول الحال ؛ إذ لم يتعرّض له الأصحاب في كتب الرجال.

مسألة [20] :

وينزح للدم القليل عشر دلاء ، قاله الشيخ رحمه اللّه (1). وتبعه عليه جماعة منهم العلّامة في أكثر كتبه (2) ، وهو اختيار الصدوق في المقنع (3).

وقال في من لا يحضره الفقيه : وإن قطر فيها قطرات من دم استقي منها دلاء (4).

ص: 218


1- الاستبصار 1 : 44.
2- منتهى المطلب 1 : 87.
3- المقنع : 31.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 17.

وقال المفيد في المقنعة : وإن كان الدم قليلا نزح منها خمس دلاء (1).

وكأنّ استناد الشيخ فيما قاله إلى صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع السابقة في حكم الدم الكثير ، حيث قال في الاستبصار : إنّها ظاهرة في القليل كما حكيناه هناك عنه (2) ، خلافا لما قرّره في التهذيب (3). ولا بدّ من ضميمة التقريب الذي ذكره فيه لدلالة لفظ الدلاء فيها على العشر حتّى يتمّ الاستدلال. وقد عرفت أنّه غير تامّ ، وأنّ ما قرّب به الدلالة بعيد ضعيف.

والحقّ ما ذكره الصدوق في من لا يحضره الفقيه ؛ فإنّه مفاد الرواية ومآله إلى الاكتفاء بأقلّ ما يصدق معه مفهوم الجمع ، وهو الثلاثة وإن كان لفظ الدلاء على وزان جموع الكثرة ؛ فإنّ التفرقة بين الأمرين غير معتبرة في العرف المستمرّ لو ثبت كون الصّيغ حقايق فيها لغة.

ويؤيّد ذلك ما رواه علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السلام قال : « سألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر ، هل يصلح أن يتوضّأ منها؟ قال : « ينزح منها دلاء يسيرة ، ثمّ يتوضّأ منها » ، وسألته عن رجل يستقي من بئر فرعف فيها هل يتوضّأ منها؟ قال : ينزح منها دلاء يسيرة » (4).

وظاهر المحقّق في المعتبر المصير إلى هذا القول (5). واختاره العلّامة في

ص: 219


1- المقنعة : 67.
2- الاستبصار 1 : 44 ، الحديث 124.
3- تهذيب الأحكام 1 : 244 - 245.
4- تهذيب الأحكام 1 : 409 ، الحديث 1288.
5- المعتبر 1 : 65.

المنتهى (1).

ولم نقف لقول المفيد على حجّة.

مسألة [21] :

وينزح العشرة للعذرة اليابسة في المشهور بين الأصحاب ، لا نعرف فيه خلافا لأحد منهم.

وحجّتهم في ذلك - على ما ذكره بعضهم - رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن العذرة تقع في البئر؟ قال : ينزح منها عشر دلاء ، فإن ذابت فأربعون أو خمسون » (2).

وقد تقدّمت في بيان ما ينزح للذايبة ، ولم نقف على حديث يدلّ على ذلك سواها ، وطريقها ضعيف ؛ لأنّ فيه عبد اللّه بن بحر ، وهو من جملة الضعفاء المذمومين.

وعلى كلّ حال فانضمام عدم ظهور المخالف في ذلك من الأصحاب إلى هذه الرواية كاف في إثبات الندبيّة.

ولو قلنا بالانفعال أو الوجوب لكان للتوقّف مجال.

مسألة [22] :

وينزح لموت الطير سبع دلاء ذكره الأصحاب.

ويدلّ عليه : رواية أبي اسامة وأبي يوسف يعقوب بن عيثم عن أبي

ص: 220


1- منتهى المطلب 1 : 79 و 87.
2- تهذيب الأحكام 1 : 244 ، الحديث 702.

عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء » (1).

ورواية الحسين بن سعيد عن القاسم عن علي قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : سبع دلاء ». قال : « وسألته عن الطير والدجاجة يقع في البئر؟ قال : سبع دلاء » (2).

ورواية سماعة قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال : إن أدركته قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء » (3).

وصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إن سقط في البئر دابّة صغيرة ، أو نزل فيها جنب نزح منها سبع دلاء » (4).

وقد وردت روايات اخرى بخلاف ما تضمّنته هذه ، كرواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه أنّ عليّا كان يقول : « الدجاجة ومثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان وثلاثة » (5). وقد سبقت.

وصحيحة زيد الشحّام السابقة فيما ينزح لموت الكلب ؛ فقد عدّ فيها الدجاجة والطير ، واكتفي بنزح خمس دلاء (6).

ص: 221


1- تهذيب الأحكام 1 : 233 ، الحديث 674.
2- تهذيب الأحكام 1 : 235 ، الحديث 680.
3- تهذيب الأحكام 1 : 236 ، الحديث 681.
4- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الحديث 695.
5- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 683.
6- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 284.

وصحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد (1). ورواية الفضل البقباق (2) ، ورواية عليّ بن يقطين (3). ومضمون الثلاث نزح دلاء. وقد تقدّمت كلّها مع صحيحة زيد.

وطريق الجمع بالنظر إلى ما تضمّن لفظ الدلاء سهل ؛ لأنّه مطلق فيحمل على المقيّد.

وقد جمع الشيخ في الاستبصار بين ما دلّ على السبع وبين رواية إسحاق ابن عمّار بحمل روايات السبع على الفضل والاستحباب ، أو على حصول التفسّخ (4). وهو حسن.

لكن ينبغي أن يكون الوجه في تأويل أخبار السبع هو مراعاة الجمع بينها وبين صحيحة زيد ، حيث دلّت على الاكتفاء بالخمس.

وأمّا رواية إسحاق فضعيفة السند ، كما نبّهنا عليه في حكم الشاة ؛ وحينئذ يمكن ترجيح الحمل على الثاني للتصريح باشتراط عدم التفسّخ في صحيحة زيد.

مسألة [23] :

وأوجب الشيخ نزح السبع للفأرة إذا تفسّخت (5). وقال المفيد عليه الرحمة : « وإن تفسّخت - يعني الفأرة - وانتفخت ، ولم يتغيّر بذلك الماء نزح منها سبع

ص: 222


1- تهذيب الأحكام 1 : 236 - 237 ، الحديث 682.
2- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 685.
3- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 686.
4- راجع الاستبصار 1 : 31 ، الحديث 84 والصفحة 38 ، الحديث 105.
5- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، ذيل الحديث 690.

دلاء (1). ويحكى عن المرتضى في المصباح أنّه قال : في الفأرة سبع دلاء وقد روي ثلاث. وقال الصدوق في المقنع وأكثر ما روي في الفأرة إذا تفسّخت سبع دلاء (2). وفي من لا يحضره الفقيه : « وإذا تفسّخت فسبع دلاء » (3).

والروايات في ذلك مختلفة ، ففي أكثرها نزح السبع للفأرة بقول مطلق. وقد ذكرنا جملة منها في حكم الطير. وفي بعضها يقيّد نزح هذا المقدار بالتفسّخ أو التسلّخ ، وهو رواية أبي عيينة قال : « سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ فقال : إذا خرجت فلا بأس ، وإن تفسّخت فسبع دلاء » (4).

ورواية أبي سعيد المكاري عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إذا وقعت الفأرة في البئر فتسلّخت فانزح منها سبع دلاء » (5).

وقد حمل الشيخ في الاستبصار إطلاق تلك الأخبار على هذا التقييد ، فاشترط في نزح السبع التفسّخ (6).

وكأنّه ظنّ اتّحاد المعنى في الحديثين ، فاقتصر على التقييد بالتفسّخ. وليس بجيّد ؛ لظهور المغايرة بين التسلّخ والتفسّخ. فاللازم من تقييد تلك الأخبار بهذين الخبرين أن يجعل مناط الحكم حصول أحد الوصفين.

والعجب أنّه رحمه اللّه احتجّ في كتابي الأخبار للحمل على حصول التفسّخ

ص: 223


1- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، ذيل الحديث 687.
2- المقنع : 32.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 17 ، الحديث 22.
4- تهذيب الأحكام 1 : 233 ، الحديث 673.
5- تهذيب الأحكام 1 : 239 ، الحديث 691.
6- الاستبصار 1 : 39.

بالرواية المتضمّنة للتسلّخ ، ولم يتعرّض عند ذلك للأخرى ، لكنّه ذكرها في محلّ آخر. هذا.

وطريق الخبرين المقيّدين ضعيف ، فربّما أشكل تقييد مطلق تلك الأخبار بهما ، إلّا أنّ الشيخ روى في الصحيح عن معاوية بن عمّار قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة والوزغة يقع في البئر؟ قال : ينزح منها ثلاثة دلاء » (1).

وفي الصحيح عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله (2).

فيمكن أن يحصل تقييد ما دلّ على السبع بالتفسّخ طريقا للجمع بين الأخبار ، ويستشهد له بالروايتين أو بالاولى منهما. وذلك لا يتوقّف على صحّة طريقهما.

وكلام الشيخ في التهذيب صريح في أن معوّله في التقييد على هذا الاعتبار (3) ، وكذا المحقّق في المعتبر ؛ فإنّه ذكر فيه الروايات الواردة بالثلاث والسبع ، وحمل ما تضمّن السبع على التفسّخ والاخرى على عدمه. وقال : « إنّ رواية أبي سعيد المكاري تشهد لذلك ». وحكاها بلفظ التفسّخ ، على خلاف ما رأيناه في التهذيب والاستبصار. ثمّ قال : وضعف أبي سعيد لا يمنع من العمل بروايته على هذا الوجه ؛ لأنّها تجري هنا مجرى الأمارة الدالّة على الفرق وإن لم تكن حجّة في نفسها (4).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ صحيحة زيد الشحّام الدالّة على نزح الخمس

ص: 224


1- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، الحديث 688.
2- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، الحديث 689.
3- تهذيب الأحكام 1 : 239 ، ذيل الحديث 690.
4- المعتبر 1 : 72.

للكلب والطير - كما عرفت - تضمّنت الفأرة أيضا ، واعتبر فيها للاكتفاء بالخمس في الجميع عدم التفسّخ (1). فهي عاضدة لما دلّ على اعتبار التفسّخ في نزح السبع هنا.

وقد جمع المحقّق بينها وبين رواية أبي سعيد في استشهاده للجمع بين الأخبار كما حكيناه عنه ، وهو أجود من فعل الشيخ.

ثمّ إنّ الظاهر استناد المرتضى في الحكم بالسبع مطلقا إلى الأخبار الكثيرة الواردة كذلك ظنّا منه لتواترها ؛ فإنّه لا يقنع بدونه في العمل بالخبر المجرّد عن القرائن كما مرّ.

ويحتمل أيضا أن يكون نظره في ذلك إلى عدم القول بما زاد عليها ، فرآه إجماعا على نفيه. والأخبار الدالّة على اعتبار التفسّخ أو على الاجتزاء بما دون السبع أخبار آحاد لا تثبت حكما عنده ، فيتعيّن السبع مطلقا. وجوابه ظاهر.

وأمّا ما ذكره المفيد رحمه اللّه من مساواة الانتفاخ للتفسّخ فقد تبعه فيه جماعة ، ولم نقف له على دليل. وحكى المحقّق والعلّامة عن ابن إدريس أنّه قال : حدّ التفسّخ الانتفاخ. ولا ندري من أين أخذه والعرف واللغة على خلافه ، وقد قال المحقّق بعد حكايته أنّه غلط (2).

مسألة [24] :

وأوجب الشيخان وجماعة نزح السبع لبول الصبيّ إذا كان قد أكل الطعام (3).

ص: 225


1- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 684.
2- المعتبر 1 : 71 ، ومنتهى المطلب 1 : 91.
3- النهاية ونكتها 1 : 208 ، والمقنعة : 67.

وقال الصدوق في المقنع ومن لا يحضره الفقيه : وإن بال فيها صبيّ قد أكل الطعام فاستق منها ثلاثة دلاء (1). وهو اختيار المرتضى ولم نقف لهذا القول على حجّة.

وأمّا القول الأوّل فقد احتجّ له الشيخ بما رواه منصور بن حازم قال : حدّثني عدّة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ينزح منه سبع دلاء إذا بال فيها الصبيّ أو وقعت فيها فأرة أو نحوها » (2). وهذه الرواية مرسلة كما ترى.

وقد سبق في رواية عليّ بن أبي حمزة - الدالّة على نزح أربعين لبول الرجل - : أنّه ينزح لوقوع بول الصبيّ الفطيم دلوا واحدة (3).

وفي صحيحة معاوية بن عمّار نزح الجميع إذا بال فيها صبيّ (4).

وحمل الشيخ الرواية الاولى على إرادة صبيّ لم يأكل الطعام ، وهو في غاية البعد ؛ لأنّ وصفه بالفطيم يضادّه. ولكنّ الرواية ضعيفة فأمرها سهل.

وأمّا الثانية فقد مرّ حمل الأصحاب لها على الاستحباب ، أو حصول التغيّر. وهو ممكن لو كان على الاكتفاء بما دون مضمونها دليل واضح أو ثبت إجماع على عدم تعيّن ما دلّت عليه.

مسألة [25] :

وينزح السبع لوقوع الكلب وخروجه حيّا. ذهب إليه أكثر الأصحاب.

ص: 226


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 17.
2- تهذيب الأحكام 1 : 243 ، الحديث 701.
3- تهذيب الأحكام 1 : 243 ، الحديث 700.
4- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الحديث 696.

وقال ابن إدريس : « ينزح له أربعون » (1).

حجّة الأوّل رواية أبي مريم السابقة فيما ينزح لموت الكلب حيث قال فيها : « وقال جعفر : إذا وقع فيها ثمّ اخرج منها حيّا ينزح منها سبع دلاء » (2).

وطريق هذه الرواية صحيح إلى أبي مريم ؛ وأمّا هو فلم أر توثيقه إلّا في كتاب النجاشي (3) ، وتبعه العلّامة في الخلاصة (4). وهو ممّن يرى الاكتفاء بتعديل الواحد ، فلا يعتبر تزكيته عند من يشترط التعدّد. وحينئذ ينحصر طريق تعديل هذا الرجل في شهادة النجاشي ، وذلك غير كاف بمجرّده ، كما مرّ.

وحجّة ابن إدريس أنّ هذه الرواية خبر واحد ، فلا تصلح دليلا. واللازم من ذلك خلوّه عن الدليل ، فيلحق بغير المنصوص ، ويجب له نزح الجميع عنده على ما يأتي. لكن لما دلّ الدليل على الاكتفاء لموته بالأربعين وعدم وجوب الزيادة عليها حينئذ كان حال الخروج حيّا أولى بنفي الزائد ؛ إذ نجاسته في حال الموت أقوى منها في حال الحياة ، فنفي الزيادة مع النجاسة القويّة يقتضي انتفائها مع الضعيفة بطريق أولى.

وهذه الحجّة جيّدة على أصل ابن إدريس في ترك العمل بخبر الواحد.

وقد تعرّض لها بالمناقشة العلّامة في المختلف ، فمنع عدم أولويّة الحيّ ( يعني بالنجاسة ). ووجّهه بأنّ الأحكام الشرعيّة تتبع الاسم ، ولهذا أوجب في

ص: 227


1- السرائر 1 : 77.
2- تهذيب الأحكام 1 : 237 - 238 ، الحديث 687.
3- رجال النجاشي : 246 ، الرقم 649.
4- خلاصة الأقوال 1 : 117 ، وهو عبد الغفّار بن القاسم بن قيس بن قيس بن فهد أبو مريم الأنصاري روى عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام.

الفأرة مع تفسّخها وتقطّع أجزائها وانفصالها بالكلّيّة نزح سبع دلاء ، وأوجب نزح الجميع في البعرة منها ؛ لعدم ثبوت النصّ هنا وثبوته هناك. مع أنّ الأولوية هنا ثابتة ، ولم يعتدّ بها هو فلم يوجب نزح الجميع (1).

وليست هذه المناقشة بشي ء ؛ فإنّ منع عدم قوّة نجاسته حيا بالنسبة إلى نجاسته ميّتا - على ما هو حاصل مراده من منع عدم أولوية الحيّ - ممّا لا سبيل إليه بعد القول بأنّ الموت منجّس لكلّ ذي نفس سواء كان طاهرا أم لا ، وهو ممّا لا خلاف فيه.

وقوله : « إنّ الأحكام الشرعيّة تتبع الاسم » مسلّم. لكن ليس المدّعى أنّ الدليل الدالّ على تعيّن نزح الأربعين لموته يدلّ على تعيّن نزحها لوقوعه وخروجه حيّا ، وإنّما الغرض أنّ صورة الوقوع حيّا والخروج ليس عليها دليل معتمد ، فيكون من قبيل غير المنصوص. إلّا أنّ إيجاب نزح الجميع لغير المنصوص - على ما هو مختاره - لا يتأتّى هنا ؛ لدلالة الاكتفاء بالأربعين في صورة الموت على نفي الزائد عنها في هذه الصورة أيضا بطريق أولى ، كما قرّر. وليس على ما دون ذلك من دليل يصار به إليه. فتعيّن الأربعون لتوقّف يقين البراءة عليها.

فظهر أنّ إيجابها حينئذ ليس لمجرّد إيجابها في الصورة الاخرى ، بل بالتقريب الذي بيّناه.

وأمّا ما ذكره في توجيه المنع من أنّه يجب نزح السبع للفأرة مع تفسّخها ، والجميع للبعرة منها ، مع أنّ الأولوية متحقّقة هناك ، ولم يلتفت ابن إدريس إليها فعجيب ؛ لأنّ المقتضي للاكتفاء بالسبع في صورة التفسّخ وجود النصّ وقيام الدليل عليه ، والموجب لنزح الجميع في البعرة فقد النصّ وعدم الدليل على

ص: 228


1- مختلف الشيعة 1 : 219.

مقدار معيّن.

وفرض ثبوت الأولوية يقتضي إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لا العكس ، كما يدلّ عليه قوله : « فلم يوجب نزح الجميع » ؛ فإنّه تفريع على قوله : « لم يعتد بها » ، وكلمة « لم » مفتوحة اللام. وربّما يتوهّم كونها مكسورة - على أنّ الكلام استفهام. وليس كذلك ؛ لأن سوق الكلام يأباه.

ولو عكس الحكم فجعل الأولويّة مقتضية للاكتفاء ، بالسبع للبعرة لكان له وجه ما.

وقد ناقش في هذا أيضا بعض الأصحاب : بأنّه لا معنى للأولوية هنا. كيف! ونجاسة الفأرة مغايرة بالذات لنجاسة البعرة قطعا ، وليس بينهما اشتراك في معنى يتصوّر تحقّق الأولوية بواسطته ، بخلاف نجاسة الكلب ميّتا وحيّا ؛ فإنّ متعلّقها متّحد بالذات ، وإنّما نشأت المغايرة بأمر عرضيّ. وقد ثبت أنّ عروض هذا العارض يوجب قوّة النجاسة لا غير. فيرجع حاصل وجه المغايرة إلى قوّة النجاسة وضعفها. ومن البيّن أنّ مدار الأولوية على مثله.

وهذا الكلام صحيح في نفسه متّجه ، ولكن يحتمل أن يكون نظر العلّامة في إثبات الأولوية ، إلى أنّ تفسّخ الفأرة موجب لملاقاة ما في جوفها من البعرة للماء ، فيكون حكم التفسّخ مشتملا على ملاقاة البعرة مع زيادة اخرى ، فيتحقّق الأولوية بينه وبين وقوع البعرة ابتداء ؛ لأنّه أضعف حكما منه كما لا يخفى.

فإمّا أن يقال بوجوب نزح الجميع للتفسّخ لكونه أقوى من ملاقاة البعرة المقتضي له على ما أفهمه ظاهر كلام العلّامة ، أو يقال بالاكتفاء بالسبع للبعرة إذا وقعت ابتداء لكونها أضعف من صورة التفسّخ على ما هو الوجه في اعتبار الأولوية.

إلّا أنّه يرد على هذا الاحتمال عدم ظهور استلزام التفسّخ لملاقاة البعرة ،

ص: 229

ولو سلّم لاتّجه اعتبار الأولوية حينئذ والاكتفاء للبعرة بالسبع.

وما ذكره من أنّ ابن إدريس رضوان اللّه عليه لا يعتبر الأولوية هنا بل يوجب للبعرة نزح الجميع (1) يحتمل أن يكون نظره فيه إلى ما أشرنا إليه من عدم ظهور الاستلزام. وعلى تقدير ثبوته فالمناقشة إنّما تتوجّه عليه هناك لا هنا.

مسألة [26] :

وينزح السبع أيضا لاغتسال الجنب. ذكره جماعة من الأصحاب منهم الفاضلان والشهيد رحمهم اللّه (2).

واشترط ابن إدريس فيه الارتماس. وعبارة الشيخين تؤذن به (3).

وجملة ما ورد من الأخبار في هذا الباب أربع روايات :

الاولى : صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إن سقط في البئر دابّة صغيرة أو نزل فيها جنب ، نزح منها سبع دلاء » (4).

والثانية : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء » (5).

والثالثة : رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « فإن وقع فيها جنب ،

ص: 230


1- السرائر 1 : 72.
2- نهاية الإحكام 1 : 259 ، والمعتبر 1 : 70 ، وذكرى الشيعة : 11.
3- السرائر 1 : 79 ، والمقنعة : 67 ، والنهاية ونكتها 1 : 208.
4- تهذيب الأحكام 1 : 241 ، الحديث 695.
5- تهذيب الأحكام 1 : 244 ، الحديث 704.

فانزح منها سبع دلاء » (1).

والرابعة : رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الجنب يدخل البئر فيغتسل منها؟ قال : « ينزح منها سبع دلاء » (2).

وليس بخفيّ عدم دلالة شي ء منها على اعتبار الارتماس ، بل ولا على اعتبار الاغتسال ؛ فإنّ الثلاث الاول خالية من التعرّض له ومفروضة فيما هو أعمّ منه. والأخيرة لا تنافيها ؛ لأنّ الغسل من أفراد ذلك المعنى العامّ الذي جعل مناطا للحكم في تلك الأخبار ، فتعلّق السؤال به في الرواية الأخيرة لا يدلّ على اختصاصه بالحكم.

وقول بعض الأصحاب : إنّ المطلق من هذه الروايات محمول على إرادة الاغتسال جمعا بين الأخبار ، وهم رديّ. وأيّ منافاة بينها تدعو إلى هذا الجمع؟! مع أنّ الرواية المتضمّنة للاغتسال ضعيفة السند ، فكيف يعدل من أجلها عن ظاهر الصحيح؟!

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ المشهور في عبارات القوم اشتراط هذا الحكم بخلوّ بدن الجنب من نجاسة عينيّة ، وقد استشكله لذلك جماعة فقالوا : إذا كان الجنب طاهر الجسد فأيّ سبب أوجب نزح السبع؟ وبأيّ اعتبار يفسد ماء البئر؟

فمن الأصحاب من دفعه بأنّه استبعاد غير مسموع بعد ورود النصّ ، لا سيّما مع ملاحظة ما اشتمل عليه البئر من الأحكام المختلفة ، ولأنّ المرجع في تأثير النجاسة إلى حكم الشارع ، وقد وجد.

ومنهم من أجاب عنه بأن المقتضي للنزح هو كونه مستعملا في الطهارة

ص: 231


1- تهذيب الأحكام 1 : 240 ، الحديث 694.
2- تهذيب الأحكام 1 : 244 ، الحديث 702.

الكبرى ؛ فإنّ طهوريّته تزول بذلك وبالنزح يعود.

وهذا الجواب مرغوب عنه :

أمّا أوّلا : فلأنّه مبنيّ على اعتبار الاغتسال وجعله متعلّق الحكم ، وقد علمت فساده ، وأنّ المعتبر من الروايات ورد بما هو أعمّ منه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ انتفاء الطهوريّة عن المستعمل موضع خلاف وقد قال بوجوب النزح هنا من لا يرى زوال الطهوريّة عن المستعمل فلا ينحسم مادّة الإشكال.

وأمّا ما طعن به بعض المتأخّرين في هذا الجواب من أنّ صيرورة الماء بالاغتسال مستعملا يتوقّف على وقوعه على الوجه المعتبر وارتفاع حدثه ، وحديث عبد اللّه بن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام المتضمّن للنهي عن نزوله إلى البئر (1) يقتضي فساد غسله ، فلا يرتفع حدثه ، فليس بشي ء :

لأنّه إنّما نهي في الحديث عن الوقوع في البئر. ولعلّ وجهه الخوف على النفس معه ، أو كونه مقتضيا لإثارة الطين والحماء ، فيغيّر الماء مع الحاجة إليه في الشرب. وربّما لا يحصل ذلك مع النزول.

ولأنّ الحكم في الحديث مفروض في بئر غير مملوكة للمغتسل ، كما يدلّ عليه قوله فيه : « ولا يفسد على القوم ماءهم » ، فلا دلالة له على النهي حيث يكون البئر ملكا له ، فيمكن وقوع الغسل على الوجه المعتبر حينئذ. هذا.

وما ذكر في دفع الإشكال أوّلا من أنّه استبعاد غير مسموع ، بعد ورود النصّ مسموع ، حيث يكون النصّ نصّا لا مع قيام الاحتمال القريب ؛ فإنّ الخروج عن القواعد المقطوع بها والحال هذه غير معقول.

ص: 232


1- تهذيب الأحكام 1 : 185 ، الحديث 535.

وإذا كانت طهارة بدن الجنب من حيث هو ليست موضع خلاف ولا إشكال ، فلا بدّ في الحكم بتأثير ملاقاته بمجرّدها من نصّ صريح الدلالة بعيد عن احتمال خلافه. وظاهر أنّ الأمر هنا ليس كذلك ؛ فإنّ الأخبار المذكورة ليس فيها تعرّض لاشتراط الخلوّ عن النجاسة ، وإنّما هو من تقييدات الأصحاب.

وقد توقّف فيه العلّامة رضوان اللّه عليه في المنتهى فقال : هذا الحكم - يعني نزح السبع للجنب - إنّما يتعلّق مع الخلوّ عن النجاسة. كذا ذكره ابن إدريس بناء منه على أنّ المني يوجب نزح الجميع. ونحن لمّا لم يقم عندنا دلالة على وجوب النزح للمنيّ ، لا جرم توقّفنا في هذا الاشتراط (1). هذه عبارته.

ولا يخفى أنّ الغالب من حال المجنبين عدم الانفكاك من آثار المنيّ فجاز أن يكون الأمر بالنزح لأجله.

لا يقال : اعتبار الحيثيّة في موجبات النزح - كما قرّرتموه سابقا - ينافي كون المقتضي له في موضع النزاع هو ملاقاة المنيّ.

لأنّا نقول : لمّا غلب التلازم بين الأمرين ولم يكن تأثير النزول بمجرّده معهودا ولا مأنوسا ، والقواعد مستقرّة على خلافه صار الظاهر هو اعتبار الجهة الاخرى. وليس شي ء ممّا ذكرناه بمتحقّق في المواضع التي اعتبرنا فيها الحيثيّة.

وكأنّ بناظر في هذا الكلام يستبعده من حيث إنّ الشيخ وجماعة ممّن تأخّر عنه ذهبوا إلى وجوب نزح الجميع للمنيّ فكيف يكتفى له بالسبع؟

ولكنّا نقرّبه له - باعتراف كثير من الأصحاب - بانتفاء النصّ فيه ، حتّى الشيخ أبي علي بن الشيخ فقد حكى ذلك عنه الشهيد رحمه اللّه (2) وذكرناه عنه فيما سبق

ص: 233


1- منتهى المطلب 1 : 89 ، الطبعة المحقّقة لمجمع البحوث الإسلاميّة - مشهد.
2- ذكرى الشيعة : 10.

أيضا (1).

وعلى كلّ حال فأثر هذا الإشكال من أصله إنّما يظهر قويّا على القول بالانفعال ، وأمّا على ما اخترناه فالأمر سهل. وكذا على القول بالوجوب تعبّدا.

قال العلّامة رضوان اللّه عليه في المنتهى بعد أن ذكر حاصل الإشكال على القول بالتنجيس : « أمّا نحن فلمّا أوجبنا النزح للتعبّد قلنا بالوجوب عملا بهذه الروايات » (2).

واعلم أنّ للأصحاب في صحّة الغسل من الجنب حينئذ بحيث يرتفع عنه الحدث خلافا ؛ مبنيّا على أنّ الحكم بالنزح معلّق على الاغتسال.

فحكى العلّامة رضوان اللّه عليه في المختلف عن الشيخ القول بعدم ارتفاع الحدث به. وناقشه بأنّ المقتضي لسلب الطهوريّة عن الماء تحمّله للنجاسة الحكميّة عن الجنب ، وهو إنّما يحصل بارتفاع حدث الجنابة (3). وكلام العلّامة حسن.

وقد وافق الشيخ في القول بعدم ارتفاع الحدث حينئذ الشهيد في البيان (4).

وقال في الذكرى : نصّ الشيخ على عدم طهارته للنهي في العبادة ، وتخيّل التناقض إن جعلنا النزح للاستعمال (5).

ص: 234


1- راجع الصفحة 185 ، والمصدر الحاكي لذلك هو الذكرى : 10.
2- منتهى المطلب 1 : 90.
3- مختلف الشيعة 1 : 221.
4- البيان : 100.
5- ذكرى الشيعة : 11.

وصرّح العلّامة في المنتهى والنهاية بارتفاع حدثه (1). ولم يرجّح في التذكرة شيئا. وإنّما حكى قول الشيخ ساكتا عليه (2). وكذا في التحرير (3).

ويعزى إلى بعض المتأخّرين الحكم بصحّة الغسل وارتفاع الحدث إن أوقعه بطريق الارتماس ، وأنّه مع الترتيب يصحّ منه ما قبل وصول مائه إلى البئر إن كان خارجا عن الماء ، وإلّا فما قارن به النيّة خاصّة.

واستشكله والدي رحمه اللّه بالنظر إلى صورة الترتيب ؛ لتعليق الحكم على الاغتسال فلا يتحقّق إلّا بالإكمال (4). وله وجه. غير أنّ التمسّك بما حقّقناه يريح من حمل أعباء هذه التكلّفات.

مسألة [27] :

وأوجب الشيخ والصدوق رضوان اللّه عليهما نزح السبع لسامّ أبرص إذا تفسّخ في البئر.

يظهر ذلك من كلامهما في التهذيب ، ومن لا يحضره الفقيه (5).

أمّا الشيخ فلأنّه أورد رواية يعقوب بن عيثم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : سام أبرص وجدناه قد تفسّخ في البئر؟ قال : « إنّما عليك أن تنزح منها سبع

ص: 235


1- منتهى المطلب 1 : 109 ، ونهاية الإحكام 1 : 261.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 27 ، طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم السلام.
3- تحرير الأحكام 1 : 5 ، الطبعة الحجريّة.
4- روض الجنان : 154.
5- تهذيب الأحكام 1 : 245 ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 21 ، الحديثان 31 و 32.

دلاء ». قلت : فثيابنا التي قد صلّينا فيها نغسلها ونعيد الصلاة؟ قال : « لا » (1).

ثمّ قال الشيخ : وسأل جابر بن يزيد الجعفي أبا جعفر عليه السلام عن السامّ أبرص في البئر. فقال : « ليس بشي ء. حرّك الماء بالدلو ».

قال محمّد بن الحسن : المعنى فيه إذا لم يكن تفسّخ ؛ لأنّه إذا تفسّخ نزح منها سبع دلاء على ما بيّناه في الخبر الأوّل (2).

وأمّا الصدوق فإنّه أورد الحديثين في الكتاب (3). والعهد قريب بعد بالقاعدة التي قرّرها في أوّله من أنّه : « لا يورد فيه إلّا ما يفتي به ويحكم بصحّته » (4).

واستوجه المحقّق في المعتبر الاستحباب ؛ استضعافا للرواية ، ولأنّ ما لا نفس له سائلة ليس ينجس ولا ينجس شي ء بموته فيه (5).

وقال العلّامة رحمه اللّه في المنتهى بعد أن ذكر الروايتين وحمل رواية يعقوب على الاستحباب : أمّا أوّلا فلرواية جابر ، وأمّا ثانيا فلأنّها لو كانت نجسة بوقوعه لما اسقط عنه غسل الثوب (6).

وفي كلامه نظر ؛ لأنّ إسقاط غسل الثوب إنّما يدلّ على عدم وجوب النزح لرفع النجاسة ، لا على عدم الوجوب للتعبّد - كما هو رأيه في الكتاب - فلا يصلح ذلك وجها للحمل على الاستحباب. نعم ضعف الرواية - كما ذكره المحقّق -

ص: 236


1- تهذيب الأحكام 1 : 245 ، الحديث 707.
2- تهذيب الأحكام 1 : 245 ، الحديث 707.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 21.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : المقدّمة.
5- المعتبر 1 : 75.
6- منتهى المطلب 1 : 96.

يصلح وجها له حيث يتسامحون في أدلّة السنن.

مسألة [28] :

وينزح لذرق الدجاج خمس دلاء. قاله الشيخان وجماعة (1).

وقيّده المفيد رحمه اللّه والجماعة بالجلّال.

وأطلق الشيخ. ولعلّه بناء على القول بنجاسته مطلقا ، كما هو أحد القولين له.

ولم نقف لهذا الحكم على دليل. وقد ذكر كثير من الأصحاب عدم النصّ فيه.

قال المحقّق في المعتبر - بعد أن حكى الحكم بالإطلاق عن الشيخ وبالقيد عن غيره - : « وفي القولين إشكال :

أمّا الإطلاق فضعيف ؛ لأنّ ما ليس بجلّال ذرقه طاهر ، وكلّ رجيع طاهر لا يؤثّر في البئر تنجيسا.

أمّا الجلّال فذرقه نجس. ولكن تقدير نزحه بالخمسة في موضع المنع ، ونطالب قائله بالدليل ».

ثمّ قال : « ويقرب عندي أن يكون داخلا في قسم العذرة ينزح له عشرون ، وإن ذاب فأربعون أو خمسون ويحتمل أن ينزح ثلاثون لخبر المبخّرة » (2).

وقال العلّامة في المختلف - بعد حكاية الحكم مطلقا ومقيّدا - : « وعلى القولين لم يصل إلينا حديث متعلّق بالنزح لهما.

ويمكن الاحتجاج بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، فلا يطهر بدون النزح.

والتقدير مستفاد من رواية محمّد بن إسماعيل الصحيحة عن الرضا عليه السلام

ص: 237


1- النهاية ونكتها 1 : 209 ، والمقنعة : 68.
2- المعتبر 1 : 76.

وقد سأله عن البئر يكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي ء من العذرة كالبعرة أو نحوها. ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه السلام في كتابي بخطّه : « ينزح منها دلاء » (1).

وقال : « والاحتجاج به بعيد لعدم دلالته على التقدير ، وإنّما يستدلّ به على أنّه لا يجزي أقلّ من خمسة من حيث أنّه جمع كثرة » (2). هذا.

وكلا الكلامين لا يخلو من نظر :

أمّا كلام المحقّق فلأنّ لفظ العذرة مخصوص بفضلة الإنسان ، كما نصّ عليه أهل اللغة ، ومع ذلك فقد بيّنّا ضعف الرواية الواردة في حكم العذرة.

وخبر المبخرة الذي احتمل نزح الثلاثين له هو خبر كردويه السابق فيما ينزح لماء المطر المصاحب للنجاسات المخصوصة (3) ، وقد علمت عدم نهوضه بإثبات الحكم لعدم صحّة إسناده.

وأمّا كلام العلّامة رحمه اللّه فلابتناء احتجاجه على عموم لفظ العذرة أيضا ، وهو خاصّ كما ذكرنا ، ولأنّه موقوف على ثبوت كون جموع الكثرة حقايق فيها وليس بمعلوم كما أشرنا إليه آنفا. وقد توقّف في ذلك هو في المنتهى (4). وعلى تقدير ثبوت كونها حقايق بالنظر إلى اللغة فالاستعمال العرفي مستمرّ على خلافه.

ثمّ إنّ اللازم من احتجاجه هذا تقدير ما ينزح لذلك بما زاد على العشر.

ص: 238


1- تهذيب الأحكام 1 : 244 ، الحديث 705 ، مع اختلاف غير يسير.
2- مختلف الشيعة 1 : 215.
3- تهذيب الأحكام 1 : 413 ، الحديث 1300.
4- منتهى المطلب 1 : 94.

وربّما تشبّث به بعض للتقدير بالخمس بعد ضميمة الإجماع على نفي الزيادة عنها إليه.

وهو غريب ؛ فإنّ ملاحظة هذا الإجماع يقتضي أن لا يكون لفظ الدلاء في الحديث مستعملا في الكثرة. وتلفيق الاحتجاج كان موقوفا عليه ، إذ هو بعض مقدّماته.

وبالجملة فأمثال هذه الاحتجاجات تدلّ على قلّة التأمّل.

مسألة [29] :

وينزح لموت الفأرة مع عدم التفسّخ ثلاث دلاء ، وهو اختيار الشيخ رحمه اللّه (1).

واعتبر المفيد وجماعة في ذلك عدم الانتفاخ أيضا (2).

وقال الصدوقان : ينزح لها مع عدم التفسّخ دلو واحد (3).

لنا ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمّار قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : ينزح منها ثلاثة دلاء » (4).

وفي الصحيح عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله (5).

وإنّما اشترطنا عدم التفسّخ ؛ لورود الأخبار الكثيرة بنزح السبع أيضا لها. فجعل ذلك وجها للجمع بين الأخبار. وقد وقع التنبيه عليه في بعضها أيضا

ص: 239


1- النهاية ونكتها 1 : 208.
2- المقنعة : 66.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 17.
4- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، الحديث 688.
5- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، الحديث 689.

كما مرّ تحقيقه في حكم التفسّخ.

وأمّا اعتبار عدم الانتفاخ فقد بيّنا أنّه لا دليل عليه. وقول الصدوقين لم نقف له على حجّة.

وفي صحيحة زيد الشحّام المتقدّمة « فيما ينزح لموت الكلب : نزح خمس دلاء للفأرة مع عدم التفسّخ » (1). وهو محمول على الاستحباب عند من يوجب النزح. وعلى الأكمليّة على القول بالندبيّة.

مسألة [30] :

وينزح الثلاث لموت الحيّة. ذكره كثير من الأصحاب كالشيخين والفاضلين (2). ولم يرد بخصوصها نصّ.

وإنّما احتجّ له المحقّق في المعتبر بما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانزح منها دلاء » (3). ووجّهه بأنّ أقلّ محتملات لفظ الدلاء هو الثلاث فينزّل عليها.

ثمّ قال : « والذي أراه وجوب النزح في الحيّة لأنّ لها نفسا سائلة وميتتها نجسة » (4).

وتبعه في هذا الاحتجاج العلّامة في المنتهى فقال - بعد ذكر الرواية - : إنّها تحمل على الثلاث أخذا بالمتيقّن في أقلّ الجمع. ثمّ ذكر القليل بوجود النفس

ص: 240


1- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 684.
2- النهاية ونكتها : 208 ، والمقنعة : 67 ، والمعتبر 1 : 75 ، ومختلف الشيعة 1 : 214.
3- الكافي 3 : 6 ، الحديث 7.
4- المعتبر 1 : 75.

لها (1).

واستبعد بعض المحقّقين من المتأخّرين هذا التعليل.

ولا يذهب عليك ما في قول العلّامة رحمه اللّه : « إنّ المتيقّن في لفظ الدلاء هو الثلاث » ، من المنافاة لما حكيناه عنه آنفا في الاحتجاج بمثله على عدم إجزاء ما دون الخمس.

ولم يذكر في المختلف هذه الحجّة عند تقريره لدليل هذا الحكم بل قال : « إنّ حجّته رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في ما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقلّها العصفور ينزح منها دلو واحد » (2) ، فالحيّة يجب فيها أكثر من العصفور وإلّا لم يختصّ القلّة بالعصفور. وإنّما وجب نزح ثلاث لمساواتها الفأرة في قدر الجسم.

ورواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما السلام : أنّ عليّا عليه السلام كان يقول :

« الدجاجة ومثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان وثلاثة » (3). ولا ريب أنّ الحيّة لا تزيد عن قدر الدجاجة في الجسم (4).

ولا يخفى ما في التوجيهين الواقعين في هذه الحجّة من التكلّف والتعسّف ، مضافا إلى ضعف الروايتين.

وقد حكى حاصل هذا الكلام الشهيد في الذكرى ثمّ قال : وهو مأخذ

ص: 241


1- منتهى المطلب 1 : 95 و 96.
2- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 678.
3- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 683.
4- مختلف الشيعة 1 : 214.

ضعيف (1). والأمر كذلك.

وأمّا الاحتجاج الأوّل فليس ببعيد عن الصواب ، إلّا أنّ في نهوضه بإثبات الحكم على القول بالانفعال أو وجوب النزح نظرا من حيث عدم بلوغ سند الخبر حدّ الصحّة عندنا ، كما بيّناه في البحث عمّا ينزح لموت البعير ؛ إذ قد مرّ ذكره هناك فيشكل حينئذ إثبات الوجوب به.

ثمّ - على تقدير ثبوت النفس للحيّة ، والقول بالانفعال - يشكل الاكتفاء به في الحكم بالطهارة.

وأمّا على القول بالاستحباب فهو كاف فيه. ويؤيّده ما في صحيح معاوية ابن عمّار السابق في حكم الفأرة من نزح الثلاث للوزغة أيضا (2) فإنّه يدلّ على نزحها للحيّة بطريق أولى ؛ حيث إنّ الوزغة ليست ذات نفس قطعا ، وقد استحبّ لها النزح ، فالحيّة أولى.

إذا تقرّر هذا فاعلم : أنّ المحقّق حكى في المعتبر عن الشيخ علي بن بابويه أنّه قال في رسالته : إذا وقع فيها حيّة أو عقرب أو خنافس أو بنات وردان فاستق للحيّة دلوا وليس عليك فيما سواها شي ء (3).

وحكى هذه العبارة بعينها عنه العلّامة رحمه اللّه في المنتهى إلّا أنّه لم يسندها إلى رسالته (4).

وقال في المختلف : قال علي بن بابويه رحمه اللّه في رسالته : إذا وقعت فيها حيّة

ص: 242


1- ذكرى الشيعة : 11.
2- تهذيب الأحكام 1 : 238 و 245 ، الحديثان 688 و 706.
3- المعتبر 1 : 74.
4- منتهى المطلب 1 : 95.

أو عقرب أو خنافس أو بنات وردان فاستق منها للحيّة سبع دلاء وليس عليك فيما سواها شي ء. ثمّ ذكر أنّ حجّته في ذلك كونها في قدر الفأرة أو أكبر.

وقد بيّنا أنّ في الفأرة سبع دلاء فلا تزيد الحيّة عنها للبراءة ولا ينقص عنها للأولويّة (1).

ولم يذكرا له على الحكاية الاخرى حجّة. ولا ريب في فساد الحجّة المذكورة.

ثمّ إنّ هذا الاختلاف الذي وقع في النقل عجيب. وأعجب منه أنّ النسخة التي عندنا للرسالة خالية من كلا النقلين ، والذي فيها : « وإن وقعت فيها حيّة - إلى أن قال - فاستق منها للحيّة دلاء » أو هذه النسخة قديمة وعليها آثار التصحيح والمعارضة. وعلى ما فيها ربّما لا يبقى في المسألة خلاف ؛ لأنّ لفظ الدلاء لا يبعد حمله عند الإطلاق على الثلاث ؛ لما مرّ تقريره.

مسألة [31] :

وأوجب الصدوق والشيخان وجمع من الأصحاب نزح الثلاث لموت الوزغة (2).

وقال أبو الصلاح للوزغة دلو واحدة (3). ونفى ابن إدريس رحمه اللّه ذلك كلّه فلم يوجب لها شيئا (4).

ص: 243


1- مختلف الشيعة 1 : 212 و 214.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 20 ، ذيل الحديث 28 ، والمقنعة : 67 ، والنهاية ونكتها 1 : 208.
3- الكافي في الفقه : 130.
4- السرائر 1 : 83.

واستوجه المحقّق في المعتبر استحباب النزح لها (1) ، واختاره العلّامة رحمه اللّه في كثير من كتبه تفريعا على القول بالانفعال (2).

احتجّ الشيخ بما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها ثلاث دلاء » (3). وروى مثله ابن سنان في الصحيح عنه عليه السلام.

قال في المعتبر : وربّما صار أبو الصلاح إلى رواية يعقوب بن عيثم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في بئر في مائها ريح يخرج منها قطع جلود؟ قال : ليس بشي ء ؛ إنّ الوزغ ربّما طرح جلده ، إنّما يكفيك من ذلك دلو واحدة » (4).

ثمّ قال المحقّق : وليس في هذا دلالة صريحة (5). والأمر كما قال ، بل لا دلالة عند التحقيق.

واحتجّ ابن إدريس بأنّه لا نفس له سائلة فلا ينجس الماء بموته فيه (6). وحيث إنّه لا يعمل بالأخبار فلا حجّيّة فيها عنده.

قال في المختلف - بعد حكايته عنه الاحتجاج بما ذكرناه - : وجعل ما أفتى به الجماعة من النزح اعتمادا على رواية شاذّة مخالفة لأصول المذهب (7).

ص: 244


1- المعتبر 1 : 75.
2- منتهى المطلب 1 : 97.
3- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، الحديث 688.
4- تهذيب الأحكام 1 : 419 ، الحديث 1325.
5- المعتبر 1 : 74.
6- السرائر 1 : 83.
7- مختلف الشيعة 1 : 212.

واحتجّ المحقّق رحمه اللّه بأنّ ما لا نفس له سائلة ليس بنجس ولا ينجس شي ء بموته فيه. نعم روي أنّ له سمّا فيكره لذلك (1).

بمثل هذا علّل العلّامة عليه الرحمة الحكم في بعض كتبه. ويلوح منه في المختلف التوقّف حيث حكى الأقوال في المسألة والحجج من غير تعرّض لها بترجيح أو ردّ إلّا احتجاج ابن إدريس فإنّه - بعد نقله عنه التمسّك في عدم الوجوب بأنّه لا نفس له - قال : وهو جيّد ، ويجوز أن يكون الأمر بالنزح من حيث الطبّ (2) لحصول الضرر في الماء بالسمّ لا من حيث النجاسة ، ولا شكّ أنّ السلامة من الضرر أمر مطلوب للشارع فلا استبعاد في إيجاب النزح لهذا الغرض (3). وعندي في هذا الكلام نظر.

والتحقيق : أنّ كلام الصدوق والشيخين مبنيّ على ما سيأتي نقله عنهم في باب النجاسات - من حكمهم بنجاسة الوزغ ميّتا - فهو على ذلك التقدير حسن ، لكنّ القول بنجاسته ضعيف ، كما سيجي ء. وحينئذ يشكل الحكم بوجوب النزح له. ولا يزول بالتكلّفات التي ذكرها العلّامة إلّا أن يجعل الوجوب للتعبّد. ومعه لا يحتاج إليها.

وأمّا على ما اخترناه فالأمر هيّن ؛ لأنّ التنظيف (4) مطلوب ، ولا شكّ في تأثير الميّتة في بعض أجزاء الماء ولو قليلا فيستخبث في الجملة ، لا سيّما فيما هو معدّ للشرب ونحوه ، فيحسن تنظيفه بإخراج ماء يزول معه الاستخباث ، وهذا

ص: 245


1- المعتبر 1 : 75.
2- في « ب » : من حيث الطيب.
3- مختلف الشيعة 1 : 212.
4- في « ب » : لأنّ التطيّب مطلوب.

القدر من الاعتبار كاف مع الحديثين الصحيحين (1) في إثبات الاستحباب.

مسألة [32] :

وأوجب الشيخ نزح الثلاث لموت العقرب (2). وتبعه جماعة منهم أبو الصلاح وابن زهرة (3). ونفى الصدوقان في الرسالة والمقنع وجوب شي ء (4). وقد تقدّم نقل ما تضمّن (5) ذلك من عبارة الرسالة في حكم الحيّة.

وقال الفاضلان بالاستحباب كما في الوزغة (6).

حجّة الشيخ على ما في المختلف رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّا ، هل يشرب من ذلك الماء أو يتوضّأ؟ قال : يسكب ثلاث مرّات وقليله وكثيره بمنزلة واحدة. ثمّ تشرب (7) منه وتتوضّأ. غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما وقع فيه » (8).

وقال في المختلف : « وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر ، وتخريجه أنّ العقرب

ص: 246


1- في « ب » : كاف مع الحديث الصحيح.
2- النهاية ونكتها 1 : 208.
3- الكافي في الفقه : 130 ، وغنية النزوع : 490 ، من مجموعة « الجوامع الفقهيّة » ، الطبعة الحجريّة.
4- المقنع : 34.
5- في « ب » : نقل ما يتضمّن ذلك.
6- مختلف الشيعة 1 : 213 ، والمعتبر 1 : 75.
7- في « ب » : ثمّ يشرب منه.
8- تهذيب الأحكام 1 : 238.

ينزح لها مع خروجها حيّا ثلاث دلاء ، فمع الموت أولى ، ولأنّ المقتضي للنزح في الوزغة - وهو السمّ - موجود في العقرب » (1).

وحجّة النافين لوجوب النزح أنّه حيوان لا نفس له سائلة فلا يجب بموته شي ء كالذباب والخنافس.

وما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال : « سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة (2) وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه. قال : كلّ ما ليس له دم فلا بأس به » (3).

وما رواه ابن مسكان عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمّا يقع في الآبار؟ فقال : أمّا الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء. إلى أن قال : وكلّ شي ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس به » (4).

واحتجّ الفاضلان على الاستحباب بنحو ما احتجّا به في حكم الوزغة (5).

وقال في المختلف : إنّ الاعتماد في نفي الوجوب على حديث ابن مسكان المحكيّ في حجّة النافين. وجعله من الصحيح (6).

ص: 247


1- مختلف الشيعة 1 : 213.
2- في « ب » : والنمل وما أشبه.
3- تهذيب الأحكام 1 : 230 ، الحديث 665.
4- الكافي 3 : 6 ، الحديث 6.
5- مختلف الشيعة 1 : 213 ، والمعتبر 1 : 75.
6- مختلف الشيعة 1 : 213.

وذكر ما يقرب من ذلك في المنتهى ووصف الحديث فيه أيضا بالصحّة (1). وليس بصحيح.

أمّا أوّلا : فلأنّ في طريقه ابن سنان ، والمراد به محمّد وهو مضعّف.

وأمّا ثانيا : فلأنّه أسند الحديث عن ابن مسكان عن الصادق عليه السلام تبعا للتهذيب والإستبصار (2). وفي الكافي رواه عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام (3) ، كما حكيناه وهو الصحيح ، فإنّ النجاشي ذكر في كتابه أنّ عبد اللّه بن مسكان روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام ثمّ قال : وقيل إنّه روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام وليس يثبت (4).

وفي كتاب الكشّي بطريق الرواية أنّه لم يسمع من أبي عبد اللّه عليه السلام إلّا حديث « من أدرك المشعر فقد أدرك الحجّ » ، وحكى فيه عن أبي النصر محمّد ابن مسعود العيّاشي أنّه قال : كان ابن مسكان لا يدخل على أبي عبد اللّه عليه السلام شفقة إلّا يوفيه حقّ إجلاله (5) ، وكان يسمع من أصحابه ويأبى أن يدخل عليه إجلالا له وإعظاما (6). وعلى هذا فالحديث في الكتابين منقطع الإسناد (7). وفي الكافي وإن كان متّصلا إلّا أنّ أبا بصير مشترك بين الثقة وغيره.

ص: 248


1- منتهى المطلب 1 : 97.
2- تهذيب الأحكام 1 : 230 ، الحديث 666. والإستبصار 1 : 2. الحديث 3.
3- الكافي 3 : 6 ، الحديث 6.
4- رجال النجاشي : 214 ، الرقم 559.
5- في « ب » : يوفيه حقّ أخذه له.
6- اختيار معرفة الرجال : 383.
7- في « ب » : مقطوع الإسناد.

وكيف كان فليس في تصحيح هذا الخبر كثير فائدة ؛ إذ ما تضمّنه من نفي التأثير عمّا عدّد فيه هو مقتضى الأصل ، فلا بدّ لمدّعي خلافه من دليل. وما ذكره من الحجّة للشيخ لا يخلو من ضعف وقصور.

مسألة [33] :
اشارة

وينزح لموت العصفور دلو واحدة ، على المشهور بين الأصحاب ، لا يعرف فيه خلاف إلّا من ظاهر كلام الصدوقين حيث قال الشيخ أبو جعفر في من لا يحضره الفقيه : « وأكبر ما يقع في البئر الإنسان فيموت فيها فينزح منها سبعون دلوا ، وأصغر ما يقع فيها الصعوة فنزح منها دلو واحدة ، وفيما بين الإنسان والصعوة على قدر ما يقع فيها (1). وكذا قال أبوه في الرسالة (2).

والصعوة عصفور صغير ذكره في القاموس (3).

حجّة المشهور رواية عمّار الساباطي - المتقدّمة في البحث عمّا ينزح لموت الإنسان - فإنّه قال في آخرها : وأقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد (4). وقد بيّنا ضعف الرواية. فالاحتجاج بها ضعيف.

وما قاله الصدوقان لم نقف له على دليل.

ولا يبعد العمل هنا برواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا سقط

ص: 249


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 17.
2- المعتبر 1 : 73.
3- تاج العروس في شرح القاموس 10 : 209.
4- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 678.

في البئر شي ء صغير فمات فيها فانزح منها دلاء » (1).

وقد سبق احتجاج المحقّق بها في حكم الحيّة ، إلّا أنّه حكاها بلفظ حيوان صغير. وهي في الكافي والتهذيب والاستبصار كما ذكرنا (2).

وأثر الاختلاف يظهر هنا ؛ لعدم دخول العصفور في لفظ الحيوان بالنظر إلى العرف.

وأمّا على ما ذكرناه فتناول اللفظ له ظاهر ، فيقال بنزح ثلاث ؛ لأنّه أقلّ محتملات لفظ الدلاء على ما مرّ.

ويحتمل القول بمساواته لمطلق الطير لدخوله في عموم لفظه.

إذا تقرّر هذا فاعلم : أنّ بعض الأصحاب فسّر العصفور بما دون الحمامة ، وهو الظاهر من تفسيرهم الطير بالحمامة ونحوها فما فوقها ، مضافا إلى عدم القول بالواسطة بين نزح الدلو والسبع في مطلق الطير إلّا أنّ الاقتصار على لفظ العصفور في عباراتهم قليل ، وأكثرهم عبّروا هنا بالعصفور وشبهه.

وربّما أبدل « الشبه » في بعض العبارات بما ماثله من الطير في مقدار الجسم أو بما في قدره.

وظاهر هذا التعبير ينافي التفسير المذكور ، ويقتضي اختصاص لفظ العصفور بنوع من صغار الطيور.

وذكر جماعة أنّه الأهليّ الذي يسكن الدور. ويشكل عليهم الحكم حينئذ ؛

ص: 250


1- تهذيب الأحكام 1 : 240 ، الحديث 694. والاستبصار 1 : 1. الحديث 92.
2- تهذيب الأحكام 1 : 240 ، الحديث 694. والاستبصار 1 : 2. الحديث 92.

لأنّ دليلهم خال من التعرّض للشبه ، وحيث إنّ اللفظ مخصوص عندهم بنوع معيّن ، فمن أين يثبتون الحكم للشبه؟ وهل هو إلّا قياس؟! على أنّا لو قدّرنا صحّة التعدية إلى الشبه نظرا إلى الاشتراك في المعنى لكان اللازم إلحاق مطلق الطير في حال صغره به ، كما ذهب إليه الشيخ نظام الدين الصهرشتي شارح النهاية على ما حكوه عنه (1) ، مع أنّ ظاهرهم خلافه ؛ إذ لا يعرف بينهم (2) القول بذلك إلّا له. وقد ناقشه فيه المحقّق في المعتبر (3) ، مع أنّه ذكر « الشبه » في الشرائع والمختصر (4) فقال - بعد حكايته عنه - :

ونحن نطالبه بدليل التخطّي إلى المشابهة ، ولو وجده في كتب الشيخ أو كتب المفيد لم يكن حجّة ما لم يوجد الدليل (5).

فرع :

استثنى الشيخ قطب الراوندي من هذا الحكم الخفّاش معلّلا بأنّه نجس. حكى ذلك عنه المحقّق وغيره من الأصحاب (6).

قال المحقّق : ونحن نطالبه من أين علم نجاسته؟ فإن التفت إلى كونه مسخا طالبناه بتحقيق كونه مسخا ، ثمّ بالدلالة على نجاسة المسخ (7). والأمر كما قال.

ص: 251


1- المعتبر 1 : 74.
2- في « ب » : لا يعرف منهم القول بذلك.
3- المعتبر 1 : 74.
4- المختصر النافع : 3 ، وشرائع الإسلام 1 : 14 ، الطبعة المحققة الاولى.
5- المعتبر 1 : 74.
6- المعتبر 1 : 74.
7- المعتبر 1 : 74.
مسألة [34] :
اشارة

وينزح لبول الرضيع أيضا دلو واحدة. قاله الصدوقان (1) والشيخان (2) وكثير من الأصحاب.

وقال أبو الصلاح وابن زهرة : ينزح له ثلاث دلاء (3).

احتجّ الشيخ لما صار إليه برواية علي بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال : دلو واحد » (4).

وهذه الرواية مع ضعف سندها لا دلالة لها على المدّعى ؛ إذ موردها الفطيم ، والكلام في الرضيع.

ولو رام متمحّل - أن يقول : إذا دلّت هذه الرواية على الاكتفاء بالدلو للفطيم مع كون نجاسة بوله أغلظ فقد دلّت على الاكتفاء به للرضيع بطريق أولى ، ولا دليل على الاكتفاء بما دون الدلو ، مع أنّه غير معهود ، بل منفيّ بما تقدّم في رواية عمّار الساباطي حيث قال فيها : « وأقلّه العصفور ينزح منها دلو » - لقابله بالردّ : أنّهم لا يكتفون بالدلو لغير الرضيع ، فالمنطوق عندهم مطرح فكيف يجعل وسيلة للعمل بالمفهوم؟

وأمّا القول بالثلاث فلا نعرف مأخذه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ أكثرهم فسّروا الرضيع بمن لم يأكل الطعام. وقيّده

ص: 252


1- مختلف الشيعة 1 : والمقنع : 4.
2- المقنعة : 67. والنهاية ونكتها 1 : 208.
3- الكافي في الفقه : 130. وغنية النزوع : 3. من الجوامع الفقهيّة ، الطبعة الحجريّة.
4- تهذيب الأحكام 1 : 243 ، الحديث 700.

بعض المتأخّرين بكونه غالبا على اللبن أو مساويا له ، فلا يضرّ القليل.

وقال ابن إدريس رحمه اللّه : حدّ الرضيع من كان له من العمر دون الحولين سواء أكل في الحولين أو لا ، وسواء فطم فيهما أو لم يفطم (1).

وأنت خبير بأنّ البحث في ذلك فرع وجود لفظ الرضيع في مستند الحكم وهو منتف. قال المحقّق في المعتبر - بعد نقل كلامهم في ذلك - : ولست أعرف التفسير من أين نشأ؟ والرواية تتناول الفطيم ، فنحن نطالبهم بلفظ « الرضيع » أين نقل؟ وكيف قدّر لبوله الدلو الواحدة (2)؟

فرع :

قيّد الشهيد رحمه اللّه في البيان الرضيع بابن المسلم (3). وهو التفات إلى ما مرّ تحقيقه من اعتبار الحيثيّة في جميع موجبات النزح ، فإذا انضاف إلى الحيثيّة التي هي مورد النصّ حيثيّة اخرى لم يكن النصّ دالا على الاكتفاء بالمقدّر لهما ، والأمر هاهنا كذلك فإنّ النصّ - على تقدير ثبوته - إنّما يدلّ على أنّ بول الرضيع من حيث هو بوله يكتفى له بالدلو ، فإذا انضمّ إليه ملاقاة بدن الكافر تعدّدت الحيثيّة ، والدليل لا يتناولهما.

وقد اتّفق للشهيد وغيره اعتبار هذا المعنى في مواضع دون اخرى وليس بجيّد ؛ لأنّ المقتضي في الجميع واحد ، فإمّا أن [ يعتبر ] في الكلّ أو يلغى. وقد صرّح في البيان بالتسوية بين المسلم والكافر في موت الإنسان (4). وأطلق

ص: 253


1- السرائر 1 : 78.
2- المعتبر 1 : 72.
3- البيان : 100.
4- البيان : 100.

الحكم في البول والعذرة وقيّد هاهنا كما حكيناه وهو عجيب.

وفي الذكرى احتمل في العذرة الفرق بين فضلة المسلم والكافر ، وعلّله بزيادة النجاسة بمجاورته (1) ، ولم يتعرّض لهذا الاحتمال في غيرها.

تتمّة تشتمل على مسائل :
[ المسألة ] الاولى :

صرّح جماعة من الأصحاب بعدم انحصار طريق تطهير البئر في النزح حيث يحكم بنجاسته ، بل هو طريق اختصّ به وشارك غيره من المياه في الطهارة بوصول الجاري إليه ووقوع ماء الغيث عليه وإلقاء الكرّ ، على ما مرّ تفصيله.

وظاهر كلام المحقّق أنّ الأمر منحصر في النزح حيث قال في المعتبر : « إذا اجري إليها - يعني البئر - الماء المتّصل بالجاري (2) لم يطهر ؛ لأنّ الحكم متعلّق بالنزح ولم يحصل » (3). والحكم بالانحصار يفهم من التعليل الذي ذكره ، وإلّا فالكلام الأوّل محتمل لأن يكون ناظرا إلى اشتراط الامتزاج في طهارة مثله - على ما سبق نقله عنه في حكم الغديرين - ولكنّ التعليل ينادي بنفيه ويؤذن بنفي كلّ طريق سوى النزح.

وقد ذكر العلّامة في أكثر كتبه هذا الطريق الذي ذكره في المعتبر وحكم بالطهارة به ، ففي المنتهى : « لو سيق إليها نهر من الماء الجاري وصارت متّصلة

ص: 254


1- ذكرى الشيعة : 11.
2- في « ب » : الماء الجاري.
3- المعتبر 1 : 79.

به فالأولى - على التخريج - الحكم بالطهارة لأنّ المتّصل بالجاري كأحد أجزائه فخرج عنه حكم البئر (1). وفي القواعد : لو اتّصلت بالنهر الجاري طهرت (2).

واختلفت فتوى الشهيد رحمه اللّه في هذه المسألة ، فقال في البيان : « ينجس ماء البئر بالتغيّر ويطهر بمطهّر غيره وبالنزح ». ثمّ قال : « والأصحّ نجاسته بالملاقاة أيضا ويطهر بما مرّ وبنزح كذا ». وذكر المقادير (3).

وقال في الدروس : « لو اتّصلت بالجاري طهرت وكذا بالكثير مع الامتزاج ، أمّا لو تسنّما عليها من عل فالأولى عدم التطهير لعدم الاتّحاد في المسمّى » (4).

وفي الذكرى : « وامتزاجها بالجاري مطهّر لأنّه أقوى من جريان النزح باعتبار دخول ماءها في اسمه » (5).

ومنعه في المعتبر ؛ لأنّ الحكم متعلّق بالنزح ولم يحصل ، وكذا لو اتّصل بالكثير. أمّا لو وردا من فوق عليها فالأقوى أنّه لا يكفي لعدم الاتّحاد في المسمّى (6).

ولا يخفى أنّ اشتراطه لعدم علوّ المطهّر في العبارتين الأخيرتين يخالف ما ذكره في الاولى من طهارته بمطهّر غيره.

والتحقيق عندي مساواته لغيره من المياه في الطهارة بما يمكن تحقّقه فيه

ص: 255


1- منتهى المطلب 1 : 109.
2- قواعد الأحكام 1 : 189.
3- البيان : 99.
4- الدروس الشرعيّة 1 : 120.
5- ذكرى الشيعة : 10 ، الطبعة الحجريّة.
6- المعتبر 1 : 79.

من الطرق التي ذكرناها سابقا.

ووجهه على ما اخترناه - من اشتراط الامتزاج بالمعنى الذي حقّقناه - واضح ؛ فإنّ ماء البئر - والحال هذه - يصير مستهلكا مع المطهّر فلو كان عين نجاسة لم يبق له حكم ، فكيف وهو منجّس؟ ولا ريب أنّه أخفّ.

وأمّا على القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال فلأنّ دليلهم على تقدير تماميّته لا يختصّ بشي ء دون شي ء ، إذ مرجعه إلى عموم مطهّريّة الماء ، فيدخل ماء البئر تحت ذلك العموم. والأمر بالنزح لا ينافيه لكونه مبنيّا على الغالب من عدم التمكّن من التطهّر بغيره. ولو أمكن في بعض الموارد فلا ريب أنّ النزح أسهل منه في الأغلب أيضا ، فلذلك اقتصروا عليه.

ثمّ إنّ إيجاب النزح على القول بالانفعال أو مع حصول التغيّر ليس إلّا لإفادة الطهارة ، فإذا صار الماء طاهرا بمقتضى ذلك العموم - والفرض عدم الدليل على التخصيص - لا يبقى للنزح وجه.

نعم لو قلنا بوجوب النزح تعبّدا لم يتمّ القول بسقوطه بمجرّد الاتّصال وإن قلنا بالطهارة به.

وأمّا مع الامتزاج فالظاهر السقوط ؛ لأنّ الاستهلاك يصيّره بمنزلة المعدوم ، ووجوب النزح إنّما تعلّق به في حال البقاء على حقيقته.

وبما ذكرناه ظهر ضعف تفصيل الشهيد رحمه اللّه لا سيّما بعد اشتراط الامتزاج - كما صرّح به - فإنّ اعتبار الاتّحاد مع ذلك ممّا لا وجه له.

وأمّا ما تمسّك به المحقّق فدفعه ظاهر بعد ما قرّرناه.

[ المسألة ] الثانية :

إذا وقع في البئر ما يوجب نزح الجميع وتعذّر نزحه لكثرة الماء فالمشهور

ص: 256

بين الأصحاب : أنّه يتراوح عليه أربعة رجال يوما ، كلّ اثنين دفعة. وذكر العلّامة في المنتهى أنّه لا يعرف فيه مخالفا من القائلين بالتنجيس (1).

واحتجّوا له برواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال : « وسئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير؟ قال : تنزف كلّها. ثمّ قال عليه السلام : فإن غلب عليها الماء فلينزف يوما إلى الليل ، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت » (2).

وهذه الحجّة في نهاية الضعف ؛ لأنّ في طريق الرواية جماعة من الفطحيّة وقد تضمّنت ما لا يقولون به : وهو إيجاب نزح الماء كلّه للكلب أو الفأرة.

وربّما تمحّل بعضهم لترويجها فأجاب عن الطعن من جهة الإسناد : بأنّ الجماعة الذين في طريقها من الفطحيّة ، مشهود لهم [ بالوثاقة ] ، فتقبل روايتهم إذا لم يكن لها معارض من الحديث السليم ، وجعل إيجاب نزح الجميع لما عدّد فيها على حصول التغيّر وهو كما ترى. مع أنّ ظاهر قوله فيها : « ثمّ يقام عليها » يخالف ما ذكروه ؛ لاقتضائه التراوح يومين ، ولم أر من تنبّه له ، وكلمة « ثمّ » موجودة في التهذيب (3) ومحكيّة في متن الرواية في الكتب الفقهيّة إلّا المعتبر فإنّه خال منها على ما رأينا (4).

وعلى كلّ حال فالتمسّك في هذا الحكم بمثل هذه الرواية في غاية الإشكال.

وقد اتّفق للشيخ في التهذيب الاحتجاج له بطريق آخر في نهاية الغرابة ،

ص: 257


1- منتهى المطلب 1 : 73.
2- تهذيب الأحكام 1 : 242 ، الحديث 699.
3- تهذيب الأحكام 1 : 242 ، الحديث 699.
4- المعتبر 1 : 59.

وحكاه عنه المحقّق في المعتبر (1) والعلّامة في المنتهى (2) وبيّنا ضعفه وهو غنيّ عن البيان ، فلا جرم كان الإضراب عن ذكره أولى. هذا.

وقد قال المحقّق في المعتبر : « إنّ رواية عمّار وإن ضعف سندها فإنّ الاعتبار يؤيّدها من وجهين :

أحدهما : عمل الأصحاب على رواية عمّار [ لوثاقته ] حتّى أنّ الشيخ ادّعى في العدّة إجماع الإماميّة على العمل بروايته ورواية أمثاله ممّن عدّدهم (3).

الثاني : أنّه إذا وجب نزح الماء كلّه وتعذّر فالتعطيل غير جائز ، والاقتصار على نزح البعض تحكّم ، والنزح يوما يتحقّق معه زوال ما كان في البئر ، فيكون العمل به لازما » (4).

واستقرب العلّامة في المنتهى الاعتبار الثاني (5).

وأرى أنّ جميع ما يذكر هنا تكلّف. ومن أغربه كلام المحقّق في الاعتبار المتعلّق بالسند فقد حكينا عنه في المباحث الاصوليّة ، عند بيان شرائط العمل بخبر الواحد ، أنّه نقل عن الشيخ القول بجواز العمل بخبر الفطحيّة ومن ضارعهم محتجّا بعمل الطائفة ، وردّه بأنّا لم نعلم إلى الآن أنّ الطائفة عملت بأخبار هؤلاء (6) ، فكيف يتشبّث هنا بعين ما ردّه هناك ويعترف بنفس ما أنكره؟

ص: 258


1- المعتبر 1 : 60.
2- منتهى المطلب 1 : 73.
3- المعتبر 1 : 59.
4- المعتبر 1 : 60.
5- منتهى المطلب 1 : 74.
6- معارج الاصول : 149 ، المعتبر 1 : 60.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ عباراتهم في تحديد زمن التراوح مختلفة.

ففي عبارة المفيد : من أوّل النهار إلى آخره (1) ، وتبعه جماعة منهم ابن زهرة (2). وفي عبارة الصدوقين : من غدوة إلى الليل (3). وفي نهاية الشيخ : من الغدوة إلى العشيّة (4).

قال المحقّق بعد حكايته هذه العبارات : « ومعاني هذه الألفاظ متقاربة فيكون النزح من أوّل طلوع الفجر إلى غروب الشمس أحوط ؛ لأنّه يأتي على الأقوال » (5).

وقال الشهيد في الذكرى بعد أن ذكر اختلاف العبارات في ذلك : « والظاهر أنّهم أرادوا به يوم الصوم فليكن من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ؛ لأنّه المفهوم من اليوم مع تحديده بالليل » (6).

وما ذكره المحقّق من الأحوطيّة حسن.

وأمّا كلام الشهيد ففي موضع النظر ؛ لأنّ الحمل على يوم الصوم يقتضي عدم الاجتزاء باليوم الذي يفوت من أوّله جزء وإن قلّ. وعباراتهم لا تدلّ عليه ، بل ظاهرها ما هو أوسع من ذلك. ولفظ الرواية محتمل أيضا لصدق اسم اليوم وإن فات منه بعض الأجزاء إذا كانت قليلة.

ص: 259


1- المقنعة : 67.
2- غنية النزوع : 49 ، الطبعة الحجرية للجوامع الفقهية.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 19.
4- النهاية ونكتها 1 : 207.
5- المعتبر 1 : 60.
6- ذكرى الشيعة : 10 ، الفرع السادس من العارض الثالث من باب الطهارة.

وبالجملة فهذا التدقيق اللازم من جملة « يوم صوم » مستبعد.

وقد تبعه على ذلك المتأخّرون فأوجبوا تفريعا على القول بالوجوب إدخال جزء من الليل أوّلا وآخر من باب مقدّمة الواجب.

وجعله في الذكرى أولى ؛ ليتحقّق حفظ النّهار (1). وربّما أوجب بعضهم تقديم التأهّب بتهيئة الآلات قبل الجزء المجعول مقدّمة. وهذه الفروع كلّها غير واضحة كالأصل.

وقد بقي في المسألة امور نبّهوا عليها ، والنصّ - بتقدير نهوضه بإثبات الحكم - يدلّ على أكثرها.

منها : اعتبار الانشغال بالنزح طول اليوم ، فينزح اثنان من الأربعة وقتا بأن يكون أحدهما فوق البئر يمتح بالدلو والآخر فيها يميح (2) ، ثمّ يستريحان فيقوم الآخران مقامهما ، وهكذا.

واستثنى الشهيد زمان الصلاة جماعة ، والاجتماع في الأكل ؛ وعلّله باقتضاء العرف له (3).

واقتصر بعض الأصحاب على الأوّل فارقا بينهما : بأنّ الثاني يمكن حصوله حال الراحة ؛ لأنّه من تتمّتها ، بخلاف الأوّل فإنّ الفضيلة الخاصّة للجماعة لا تحصل إلّا به. وربّما نفى بعضهم الاستثناء من أصله.

والأظهر استثناء الأمرين ، وإن كان التفصيل أحوط.

ومنها : اشتراط كون الأربعة رجالا ؛ لدلالة لفظ القوم عليه. وهو اختيار

ص: 260


1- ذكرى الشيعة : 10 ، الفرع العاشر من العارض الثالث.
2- في « ب » : أحدهما فوق البئر يمنح بالدلو والآخر فيها يمنح.
3- ذكرى الشيعة : 10 ، الفرع الثالث من العارض الثالث.

الأكثر.

وقال في المعتبر : « إن عملنا بالخبر المتضمّن لتراوح القوم أجزأ النساء والصبيان » (1). وهو بعيد ؛ إذ لا يتبادر منه في العرف إلّا الرجال ، ولنصّ جماعة من أهل اللغة على ذلك.

قال الجوهري : القوم الرجال دون النساء (2).

وقال ابن الأثير في النهاية : « القوم في الأصل مصدر قام فوصف به ثمّ غلب على الرجال دون النساء ، ولذلك قابلهنّ به يعني في قوله تعالى : ( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ) (3).

ومنها : عدم إجزاء ما دون الأربعة وإن أمكن حصول الغرض بالاثنين الدائبين ؛ لأنّه مخالف لقوله في الحديث : « يتراوحون اثنين اثنين ».

واستقرب في التذكرة الاجتزاء بالاثنين القويّين اللذين ينهضان بعمل الأربعة (4) ، وأمّا الزيادة عليها فأجازوها من باب مفهوم الموافقة ، إلّا أن يقتضي التكثير إلى الإبطاء وتضييع الوقت.

ومنها : تعيّن كونه في النهار فلا يجزي الليل ، ولا الملفّق منه ومن النهار ، وإن زاد عن مقدار يوم طويل ؛ اقتصارا على موضع النصّ. ولا فرق في اليوم بين الطويل والقصير ؛ للإطلاق المتناول لهما.

قال في الذكرى : والأولى استحباب تحرّي الأطول حيث لا ضرر ؛ لما فيه

ص: 261


1- المعتبر 1 : 77.
2- الصحاح 5 : 2016.
3- النهاية لابن الأثير 4 : 124.
4- تذكرة الفقهاء 1 : 28.

من المبالغة في التطهير (1).

[ المسألة ] الثالثة :
اشارة

إذا تغيّر ماء البئر بالنجاسة نجس إجماعا. وفي القدر الذي يطهر به من النزح خلاف :

فالقائلون بعدم انفعاله بالملاقاة اكتفوا فيه بما يزول معه التغيّر.

وأمّا الذاهبون إلى الانفعال فلهم في المسألة أقوال :

الأوّل : نزح الجميع فإن تعذّر فالتراوح. ذهب إليه الصدوقان ويحكى عن المرتضى قدس سره ووافقهم سلّار (2).

الثاني : النزح حتّى يزول التغيّر وهو قول المفيد وجماعة منهم الشهيد في البيان (3).

الثالث : نزح الجميع فإن تعذّر فإلى أن يزول التغيّر. ذهب إليه الشيخ رحمه اللّه (4).

الرابع : نزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر واستيفاء المقدّر. وهو قول ابن زهرة ، واختاره الشهيد في الذكرى (5).

الخامس : نزح أكثر الأمرين من المقدّر ومزيل التغيّر إن كان للنجاسة المغيّرة مقدّر ، وإلّا فالجميع ، فإن تعذّر فالتراوح. ذهب إليه ابن إدريس ووافقه

ص: 262


1- ذكرى الشيعة : 10.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 19. ومختلف الشيعة 1 :. والانتصار : 2. والمراسم : 35.
3- المقنعة : 66. والبيان : 99.
4- النهاية ونكتها 1 : 209.
5- غنية النزوع : 490 من الجوامع الفقهيّة ، الطبعة الحجريّة. وذكرى الشيعة : 9.

من المتأخّرين الشيخ علي تفريعا على القول بالانفعال (1) ؛ فإنّه لا يقول به. وهو اختيار والدي في شرح الإرشاد حيث قال فيه بالانفعال (2).

السادس : نزح الجميع فإن غلب الماء اعتبر أكثر الأمرين من زوال التغيّر والمقدّر. ذهب إليه الشهيد في الدروس (3). وكلام المحقّق في المعتبر محتمل لهذا القول (4) ، ولإيجاب نزح الجميع فإن تعذّر نزح حتّى يزول التغيّر ثمّ يستوفى المقدّر. وأرى الاحتمال الأوّل إلى عبارته أقرب.

وربما نسب إليه القول بنزح ما يزيل التغيّر أوّلا ثمّ المقدّر بعده إن كان لتلك النجاسة مقدّر وإلّا فالجميع ، وإن تعذّر فالتراوح. ولا نعرف لهذه النسبة وجها. وقد اختار مضمونها بعض مشايخنا الذين عاصرناهم فيصير قولا سابعا.

والثامن : نزح أكثر الأمرين ممّا يزول معه التغيّر ويستوفى به المقدّر إن كان هناك تقدير ، وإلّا اكتفي بزوال التغيّر. ذهب إليه بعض فضلاء المتأخّرين.

وهذا القول هو الأقوى عندي بناء على القول بالانفعال.

لنا : إنّ زوال التغيّر كاف في رفع الأثر الثابت باعتباره ، كما دلّ عليه صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع السابق في الاحتجاج للقول بعدم انفعال البئر بالملاقاة حيث قال فيه : « إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه ؛ لأنّ له مادّة » (5).

ص: 263


1- السرائر 1 : 71. جامع المقاصد 1 : 137.
2- روض الجنان : 143 ، الطبعة الحجريّة.
3- الدروس الشرعيّة 1 : 120.
4- المعتبر 1 : 76.
5- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 676.

وفي معناه صحيح أبي اسامة (1) الشحّام ، وقد مرّ في البحث عمّا ينزح لموت الكلب ، فإنّه قال فيه : « وإن تغيّر الماء فخذ منه حتّى تذهب الريح » (2).

لكن لمّا كان الدليل الدالّ على وجوب نزح المقدّر مع عدم التغيّر دالّا على وجوب نزحه مع التغيّر بطريق أولى لتحقّق المعنى المقتضي أعني ملاقاة النجاسة مع زيادة وصف التغيّر الذي هو علّة اخرى ، لا جرم توقّف الحكم بالطهارة على استيفائه ، فإن حصل معه زوال التغيّر فذاك ، وإلّا فلا بدّ من إزالته إذ لا تعقل الطهارة بدونه.

والحاصل أنّ عود الطهارة حينئذ موقوف على زوال التغيّر وبلوغ المقدّر كما هو مقتضى الدليلين ، فإن اتّفق تقارنهما فلا إشكال ، وإن سبق أحدهما فلا بدّ من بلوغ الآخر. هذا إذا كان هناك تقدير يجب العمل به ، فأمّا مع انتفاء التقدير فلا مخصّص لعموم الخبر الصحيح الدالّ على الاكتفاء بزوال التغيّر مطلقا. ولا يلزم من تخصيصه في صور معيّنة بالدليل الخاصّ - أعني دليل المقدّر حيث اقتضى وجوب نزح الزائد إذا كان زوال التغيّر هو السابق - أن يخصّ في غير تلك الصور ، ولا دليل.

لا يقال : هذا يقتضي اختصاص الخبر بما لا مقدّر له إذ لم يعمل بظاهره إلّا فيه ، ولا ريب أنّ أكثر النجاسات لها مقدّر ، ومن المستبعد أن يكون الحديث واردا في حكم الأقلّ مع ما في ألفاظه من العموم والشمول.

لأنّا نقول : لمّا كان الغالب تأخّر زوال التغيّر عن استيفاء المقدّر ، وعكسه إنّما ذكر بطريق الاحتمال - فإن اتّفق وقوعه فبقلّة - لم يكن التخصيص بإخراج

ص: 264


1- في « ج » : ابن اسامة الشحّام.
2- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 684.

كلّ ما له مقدّر ليلزم قصر العموم على غير المنصوص فيحصل الاستبعاد ، بل إنّما يقع التخصيص بإخراج ما يتأخّر مقدّره عن زوال التغيّر. ولا ريب أنّه أقلّ قليل - بالنسبة إلى المجموع من غير المنصوص ، وما يتوقّف زوال تغيّره على الزيادة عن المقدّر أو يساويه - والتخصيص بمثل ذلك ممّا لا إشكال فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم :

أنّ حجّتنا - معشر الذاهبين إلى عدم انفعال البئر بالملاقاة على الاكتفاء بمزيل التغيّر مطلقا - هذا الحديث أعني صحيح ابن بزيع (1) ، مضافا إلى ما سيأتي بيانه في حكم الجاري ؛ لأنّه عندنا من جملة أفراده.

حجّة الموجبين لنزح الجميع مطلقا :

صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سمعته يقول : « لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن نتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر » (2).

ورواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « وسئل عن بئر وقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير؟ قال : تنزف كلّها » (3). يعني إذا تغيّر ؛ إذ مع عدم التغيّر يكفي ما دون ذلك ، كما دلّت عليه الأخبار الكثيرة.

وأنّه ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه أجمع.

حجّة القول الأوّل ( في اعتبار التراوح عند تعذّر نزح الجميع ) : أنّه قائم مقامه في كلّ محلّ يجب فيه نزح الجميع.

ص: 265


1- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 676.
2- تهذيب الأحكام 1 : 232 ، الحديث 670. وفيه : فإن أنتن ..
3- تهذيب الأحكام 1 : 242 ، الحديث 699 ، مع اختلاف يسير.

وحجّة القول الثاني : صحيح ابن بزيع (1) الدالّ على الاكتفاء بزوال التغيّر مطلقا وكذا صحيح أبي اسامة الشحّام (2).

وحجّة الثالث : في اعتبار زوال التغيّر مع تعذّر الجميع : أنّ فيه جمعا بين ما دلّ على نزح الجميع كصحيحة معاوية بن عمّار وما دلّ على اعتبار زوال التغيّر كصحيح ابن بزيع.

وحجّة الرابع : نحو ما قلناه في الاحتجاج لحكم ما له مقدّر.

وكذا الخامس بالنسبة إلى هذا النوع.

وأمّا نزح الجميع لما ليس له مقدّر ، فبنوه على مذهبهم في حكم ما لا نصّ فيه حيث حكموا بنزح الجميع له مع عدم التغيّر ، فمعه أولى. واعتبار التراوح مع تعذّره لقيامه مقامه كما ذكر في حجّة الأوّل.

وحجّة السادس : مركّبة من حجّتي الثالث والرابع.

وحجّة السابع ( بالنظر إلى ما له مقدّر ) : إنّ وقوع « النجاسة ذات المقدّر » موجب لنزحه بمجرّده ، فإذا انضمّ إليه التغيّر الموجب لنزح ما يزول به صارا سببين ، ولا منافاة بينهما ، فيعمل كلّ منهما عمله. وتقديم مزيل التغيّر لكون الجمع بين الأمرين لا يتمّ إلّا به. وأمّا بالنسبة إلى ما لا مقدّر له فكما قيل في حجّة الخامس.

والجواب :

أمّا عن حجّة إيجاب الجميع فيحمل (3) نزح البئر (4) في صحيحة معاوية

ص: 266


1- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 676.
2- تهذيب الأحكام 1 : 237 ، الحديث 684.
3- في « أ » و « ب » : فيحمل.
4- في « ب » : نزح الجميع في صحيحة معاوية.

على ما إذا توقّف زوال التغيّر عليه ، جمعا بينها وبين الصحيحتين الدالّتين على الاكتفاء بزواله مطلقا ، أو بحمله (1) على نزح الأكثر ؛ لتوقّف (2) زوال التغيّر عليه ، كما يشعر به قوله : « إلّا أن ينتن ».

وإطلاق نزح البئر على نزح أكثره جائز ولو بطريق المجاز ؛ لضرورة الجمع.

فأمّا رواية عمّار : ففيها مع ضعف السند عدم الدلالة على اعتبار التغيّر. وإنّما جعلوه تأويلا لها من حيث مخالفة مضمونها للأخبار الكثيرة المعتبرة. وإذا جاز ذلك للجمع فليجز لأجله حملها على توقّف زوال التغيّر عليه.

وقولهم : « إنّه ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه أجمع » مدفوع بأنّ المحكوم بنجاسته هو المتغيّر ، ونحن نقول بوجوب إخراجه (3). سلّمنا ولكن قد دلّ الدليل على طهارته بإخراج ما يزول معه التغيّر. فمن أين يجب الزائد؟

ومن هنا يعلم الجواب عن حجّة الأوّل بكمالها ؛ فإنّ قيام التراوح مقام نزح الجميع فرع وجوبه ، وقد علم انتفاء الأصل ، فالفرع أولى.

وأمّا عن حجّة الثاني فيعلم ممّا قرّرناه في دليل ما اخترناه.

وأمّا عن حجّة الثالث فلأنّ الجمع بين الأخبار بما ذكرناه من حمل دليل الجميع على ما إذا توقّف زوال التغيّر عليه أوضح وأولى بعد ما قدّمناه من وجوب تخصيص اعتبار زوال التغيّر في ما له مقدّر بما إذا حصل معه استيفاء المقدّر ؛ فإنّ الجمع حينئذ بالوجه الذي قلناه موجب لقلّة التخصيص ، وذلك بالنسبة إلى ما دلّ على اعتبار زوال التغيّر فإنّه لا يقع فيه من هذه الجهة

ص: 267


1- في « أ » و « ب » : ونحمله على نزح الأكثر.
2- في « ب » : ليتوقّف زوال التغيّر عليه.
3- في « ج » : ونحن نقول بإخراجه.

تخصيص حينئذ ، وإنّما يخصّص هو دليل الجمع (1) بحالة توقّف زوال التغيّر عليه.

وأمّا على ما جعلوه طريق الجمع فيلزم تخصيصه بما إذا تعذّر نزح الجميع ، وقد قلنا إنّه مخصوص بدليل المقدّر فيقع فيه التخصيص من وجهين. هذا.

ودليل الجميع لا بدّ من تخصيصه على التقديرين ؛ لأنّهم إنّما يعتبرونه في حالة إمكانه. ولا ريب أنّ تعليل التخصيص مهما أمكن أولى. فكيف مع الظهور والوضوح؟

وأمّا عن حجّة الرابع ؛ فلأنّها إنّما تتمّ في ما له مقدّر ، وأمّا غيره فإن اكتفوا فيه بمزيل التغيّر فأهلا بالوفاق ، وإلّا رددناهم بالحجّة.

وأمّا عن حجّة الخامس ؛ فلأنّهم لم يوجبوا نزح الجميع في غير المنصوص لوجود الدليل ، بل لانتفائه فلا يحصل يقين الطهارة إلّا به ، وقد علمت أنّ ما دلّ على حصول الطهارة بزوال التغيّر عام يتناول كلّ نجاسة ، فكيف يخصّ بعدم الدليل؟ بل التحقيق قلب المسألة كما سنبيّنه.

وأمّا عن حجّة السادس فيعلم من الجواب عن حجّتي الثالث والرابع.

وعن حجّة السابع : إنّ صحيحة ابن بزيع [ ظاهرة ] في الاكتفاء في حصول الطهارة بزوال التغيّر ونفي الزائد عنه ، وكذا صحيح أبي اسامة.

وإنّما صرنا إلى التخصيص بما يحصل معه استيفاء المقدّر لضرورة الجمع ، من حيث إنّ إيجاب نزح المقدّر مع عدم التغيّر يقتضي إيجابه معه على ما مرّ تحقيقه. وإذا اندفعت المنافاة بهذا المقدّر من التخصيص لم يجز تجاوزه.

وقد ظهر بذلك أنّ قوله : « ولا منافاة بينهما » خلاف الواقع. هذا بالنظر إلى ما ذكر في حكم ما له مقدّر.

ص: 268


1- الصحيح أن يقال : وإنّما يخصّص هو دليل الجميع بحالة توقّف زوال التغيّر عليه.

وأمّا جواب ما ذكر في حكم ما لا مقدّر له فيعلم ممّا قلناه في الجواب عن حجّة الخامس.

فرع :

إذا زال التغيّر قبل النزح على وجه لم يحصل (1) معه الطهارة وقلنا (2) بالانفعال بالملاقاة ، ففي وجوب نزح الجميع حينئذ أو الاكتفاء بما يزول به التغيّر لو كان قولان :

اختار أوّلهما العلّامة في التذكرة (3) ، واستشكله في النهاية والقواعد (4) ، وصحّحه ولده فخر المحقّقين في شرحه (5) ، وقوّاه الشهيد في الذكرى (6) ، ووافقهم عليه بعض المتأخّرين.

والأقرب الثاني ، وهو الظاهر من كلام الشهيد عليه الرحمة في البيان (7) ، واختيار والدي رحمه اللّه.

لنا : إنّه مع بقاء التغيّر يكفي نزح القدر الذي يزول معه ، فلأن يكتفى بنزحه مع الزوال أولى.

احتجّوا : بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، وقد تعذّر ضابط تطهيره فيتوقّف الحكم

ص: 269


1- في « ج » : على وجه لو كان لم يحصل معه الطهارة.
2- في « ب » : وإن قلنا بالانفعال.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 30.
4- نهاية الإحكام 1 : 295 و 261. وقواعد الأحكام 1 : 189.
5- إيضاح الفوائد 1 : 21 و 22.
6- ذكرى الشيعة : 10.
7- البيان : 101 ، الطبعة الحجريّة.

بطهارته على نزح الجميع.

وجوابه : منع تعذّر الضابط مطلقا ؛ فإنّه يمكن في كثير من الصور أن يعلم المقدار الذي يزول معه التغيّر تقريبا. ولو فرض عدم العلم به في البعض توقّف الحكم بالطهارة حينئذ على نزح الجميع ؛ إذ لا سبيل إلى العلم بنزح القدر المطهّر إلّا به. وقد أشار إلى هذا أيضا والدي رحمه اللّه فحكم بنزح الجميع مع عدم علم القدر واكتفى به حيث يعلم.

[ المسألة ] الرابعة :

اختلف أصحابنا في حكم غير المنصوص ، وهو كلّ نجاسة لم يرد بتقدير ما ينزح لها دليل ولو بالعموم ، فقال الشيخ في المبسوط : الاحتياط يقتضي نزح جميع الماء وإن قلنا بجواز أربعين دلوا منها ؛ لقولهم عليهم السلام : « ينزح منها أربعون دلوا » ، وإن صارت مبخّرة كان سائغا ، غير أنّ الأحوط الأوّل (1).

ويحكى عن بعض الأصحاب المصير إلى القول بالأربعين أيضا ، كما ذهب إليه الشيخ ، وهو اختيار العلّامة في بعض كتبه (2) ، واستوجهه بعض مشايخنا المعاصرين.

وحكى الشهيد رحمه اللّه في شرح الإرشاد عن السيّد جمال الدين أحمد بن طاوس ، أنّه اختار في كتاب البشرى نزح ثلاثين. ونفى عنه الشهيد البأس (3).

ص: 270


1- المبسوط 1 : 12.
2- مختلف الشيعة 1 : 216.
3- شرح الإرشاد : 13 ، الطبعة الحجريّة.

وذهب ابن إدريس وابن زهرة إلى وجوب نزح الجميع (1) ، واختاره أكثر المتأخّرين تفريعا على القول بالانفعال.

أمّا إيجاب الأربعين فلم نقف له على حجّة وأكثر الأصحاب اعترفوا بذلك أيضا. والحديث الذي ذكره الشيخ في المبسوط غير موجود في كتب الحديث ، فلا نعرف حال سنده ، مع أنّ في متنه قصورا أيضا ؛ لأنّ متعلّق نزح الأربعين غير مذكور ، والدلالة موقوفة عليه.

وقد اتّفق لبعض الأصحاب التشبّث في دفع الإشكالين بأنّ الشيخ رحمه اللّه ثقة ثبت فلا يضرّ إرساله ؛ لأنّه لا يرسل إلّا عن الثقات ، وأنّ الظاهر من احتجاجه به دلالة صدره المحذوف على محلّ النزاع.

وهذا الكلام من الضعف بمكان ؛ أمّا حديث الإرسال فظاهر وقد مضى البحث فيه في موضعه. وأمّا توجيه الدلالة ؛ فلأنّ احتجاج الشيخ به إنّما يدلّ على ظنّه لها ، وذلك غير كاف بالنسبة إلينا ، كيف! واحتمال الخطأ قائم في الظنون كما هو واضح.

وأمّا القول بالثلاثين فظاهرهم الاستناد فيه إلى رواية كردويه السابقة في حكم وقوع ماء المطر المصاحب للنجاسات المخصوصة حيث قال فيها : « ينزح منها ثلاثون دلوا وإن كانت مبخرة » (2).

قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف - بعد أن حكى عن الشيخ كلامه في المبسوط واحتجاجه للأربعين بالحديث الذي ذكره - : « والنقل الذي ادّعاه الشيخ لم يصل إلينا ، وإنّما الذي بلغنا في هذا الباب حديث واحد ، وهو ما رواه

ص: 271


1- : السرائر 1 : 82. وغنية النزوع : 1. من الجوامع الفقهية.
2- تهذيب الأحكام 1 : 613 ، الحديث 1300.

الحسين بن سعيد عن محمّد بن أبي عمير عن كردويه وذكر الحديث ، ثمّ قال : وهو يدلّ على وجوب الثلاثين ، أمّا الأربعون كما ادّعاه الشيخ فلا. ومع ذلك فكردويه لا أعرف حاله فإن كان ثقة فالحديث صحيح. وأرى الاستدلال للحكم بهذه الرواية عجيبا ؛ فإنّ نزح الثلاثين فيها معلّق بأشياء مخصوصة لو زال إشكال السند عنها لصارت تلك الأشياء من قبيل المنصوص ولم يكن من محلّ النزاع في شي ء ، وحيث إنّ الغرض منها إثبات نزح هذا المقدار لكلّ نجاسة لم يرد لها بخصوصها مقدّر ، فلا بدّ من جهة عموم يكون التناول باعتبارها ، وانتفاؤه ظاهر (1).

وربّما يوجد في كلام بعض الأصحاب مناقشة العلّامة في هذا الكلام بأنّ الرواية المذكورة لو دلّت على المتنازع كان ما لا نصّ فيه منصوصا.

وهي مناقشة باردة ؛ إذ لا مانع من تخصيص لفظ « المنصوص » اصطلاحا بما ورد النصّ بمقدّره معلّقا على نوع نجاسته أو ما في معناه ، وأن يراد من « غير المنصوص » ما علّق التقدير فيه على الجنس أو على أزيد من نوع ؛ فإنّه لا مشاحة في الاصطلاح. هذا.

والرواية ضعيفة السند بكردويه ، فإنّه مجهول.

ومن الغريب أنّ العلّامة في النهاية جعلها حجّة القول بالأربعين (2). وفي المنتهى نسب الاحتجاج بها عليه إلى البعض. ثمّ قال : « وهي إنّما تدلّ على نزح ثلاثين. ومع ذلك فالاستدلال بها لا يخلو من تعسّف » (3). ونعم ما قال.

ص: 272


1- مختلف الشيعة 1 : 216.
2- نهاية الإحكام 1 : 260.
3- منتهى المطلب 1 : 104.

وأمّا إيجاب نزح الجميع فوجهه : أنّه ماء محكوم بنجاسته فيتوقّف الحكم بالطهارة على الدليل. وليس على ما دون الجميع دليل واضح ، فلا سبيل إلى العلم بالطهارة إلّا بنزح الجميع ؛ إذ معه يحصل يقين البراءة.

ولهذا التوجيه وجه ، غير أنّك قد علمت في مسألة التغيّر بالنجاسة أنّ صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع يدلّ على طهر البئر مع التغيّر بالنزح إلى أن يزول من غير فرق بين نجاسة ونجاسة ؛ لما فيه من العموم ، وأنّ ضرورة الجمع بينه وبين ما دلّ على المقدّر في بعض الصور أوجبت تخصيصه بغيرها.

وأمّا دلالته في غير المنصوص فباقية بحالها ، كما هو التحقيق في العام المخصوص ، وحينئذ يكون نزح الجميع له مطلقا مع التغيّر منتفيا وهو يقتضي نفيه مع عدم التغيّر بطريق أولى فيضعف القول به.

وربّما يرجّح بهذا الاعتبار القول بالأربعين لانحصار أقوال الأصحاب ظاهرا في الثلاثة ، وقد انتفى الجميع بهذا الحديث ، ولا دليل على الاجتزاء بالثلاثين ، فيتعيّن المصير إلى الأربعين.

وقد استوجه بعض مشايخنا القول بالأربعين - كما حكيناه سابقا - مع استضعافه للحجّة المذكورة له في كلام الأصحاب ولم يذكر له حجّة ، واعتذر عن ذلك بالطول ، وأحسبه نظر إلى ما قلناه. وفي الاكتفاء بمثله في إثبات الحكم نظر ؛ لتوقّفه على العلم بانحصار الأقوال في العدد المخصوص ، وحصوله عزيز ، والغالب في مثله عدم العلم بخلافها لا العلم بعدم الخلاف ، وبينهما فرق جليّ.

والمتّجه عندي الاكتفاء بنزح ما يزيل التغيّر لو كان إن وجد إلى العلم به سبيل ، وإلّا فالجميع. وليس ذلك بطريق التعيين على التقديرين ، بل لأنّ المقدار المطهّر غير معلوم ، ومع بلوغ أحدهما يعلم حصوله لاشتمال كلّ منهما عليه.

ص: 273

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق قال في المعتبر : يمكن أن يقال إنّ كلّ ما لم يقدّر له منزوح لا يجب فيه نزح (1) ؛ عملا برواية معاوية المتضمّنة قول أبي عبد اللّه عليه السلام : « لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن » (2).

ورواية ابن بزيع : « إنّ ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه » (3). وهذا يدلّ بالعموم فيخرج منه ما دلّت عليه النصوص بمنطوقها أو فحواها ويبقى الباقي داخلا تحت هذا العموم ، وهذا يتمّ لو قلنا أنّ النزح للتعبّد لا للتطهير. وما قاله حسن.

[ المسألة ] الخامسة :
اشارة

إذا تكثّرت النجاسة قال العلّامة : « يتداخل النزح سواء كانت النجاسة متماثلة أو متغايرة. أمّا مع التماثل ؛ فلأنّ الحكم معلّق على الاسم المتناول للقليل والكثير لغة ، وأمّا مع التغاير ؛ فلأنّه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين ، فيحصل الإجزاء » (4).

وقال المحقّق في المعتبر : « إن كانت الأجناس مختلفة لم يتداخل النزح كالطير والإنسان ولو تساوى المنزوح كالكلب والسنّور. وإن كان الجنس

ص: 274


1- المعتبر 1 : 78.
2- تهذيب الأحكام 1 : 232 و 238 ، الحديثان 670 و 688.
3- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 676.
4- منتهى المطلب 1 : 107.

واحدا ففي التداخل تردّد » (1).

وجه التداخل : أنّ النجاسة من الجنس الواحد لا تتزايد إذ النجاسة الكلبيّة أو البوليّة موجودة في كلّ جزء ، فلا يتحقّق زيادة توجب زيادة النزح.

ووجه عدم التداخل : أنّ كثرة الواقع تؤثّر كثرة في مقدار النجاسة فتؤثّر شياعا في الماء زائدا ؛ ولهذا اختلف النزح بتعاظم الواقع وموته وإن كان ظاهرا في الحياة.

واستقرب الشهيد رحمه اللّه - وجماعة من المتأخّرين منهم والدي رحمه اللّه - عدم التداخل مطلقا (2) ؛ نظرا إلى أنّ الأصل في الأسباب أن تعمل عملها ولا تتداخل مسبّباتها ، وأنّ ظاهر الأدلّة في الأكثر تعليق الحكم بالفرد من الجنس ، فادّعاء تناول الاسم فيها للتعدّد مطلقا في حيّز المنع. وكذا دعوى حصول الامتثال في صورة التغاير بفعل الأكثر ، بل توجّه المنع إليها أظهر.

واستثنوا من ذلك ما إذا حصل بالتكثّر في المتماثل (3) انتقال إلى حال اخرى لها مقدّر ، كما إذا وقع دم قليل ثمّ وقع بعده ما يخرجه من القلّة إلى حدّ الكثرة فاكتفوا فيه بمنزوح الكثير وهذا هو الأقوى.

وزاد الشهيد رحمه اللّه في الاستثناء ما إذا كان التكثّر داخلا تحت الاسم كزيادة كثرة الدم فلا زيادة في القدر حينئذ ؛ لشمول الاسم وهو حسن.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الحكم على تقدير سعة ماء البئر لنزح المقادير المتعدّدة واضح.

ص: 275


1- المعتبر 1 : 78.
2- البيان : 100.
3- في « ب » : التكثّر في المماثل.

وأمّا مع قصوره عنها فالظاهر الاكتفاء بنزح الجميع لأنّ به يتحقّق إخراج الماء المنفعل ، والحكم بالنزح إنّما تعلّق به.

وهذا آت فيما لو زاد المقدّر الواحد عن الجميع أيضا.

وحينئذ فلو كان كلّ واحد من المتعدّد موجبا لنزح الجميع حصل التداخل واكتفي بنزحه مرّة.

ولو كان الماء - والحال هذه - غالبا وقلنا بقيام التراوح مقام نزح الجميع حينئذ ، ففي الاكتفاء بتراوح اليوم للكلّ نظر :

من حيث إنّه قائم مقام نزح الجميع و[ بدل ] عنه ، وقد فرض الاكتفاء في المبدل بالمرّة ، فكذا في البدل.

ومن أنّ الاكتفاء بالمرّة في المبدل إنّما هو لزوال متعلّق الحكم بالنزح أعني الماء المنفعل كما ذكرناه ، وذلك مفقود في البدل. ولا يلزم من ثبوت البدليّة المساواة من كلّ وجه.

ويمكن ترجيح الوجه الأوّل بأنّ ظاهر أدلّة المنزوحات كون نزح الجميع أبعد غايات النزح عند ملاقاة النجاسات ، وقيام التراوح مقامه حينئذ يقتضي نفي الزيادة عليه. ولم أقف في هذا على كلام لأحد من الأصحاب.

فرع :

قال الشهيد رحمه اللّه في الذكرى : « الحيوان الحامل إذا مات ، وذو الرجيع النجس كغيرهما ؛ إمّا لانضمام المخرج المانع من الدخول أو لإطلاق قدر النزح. نعم لو انفتح المخرج أو غيره تضاعف » (1).

وكلامه متّجه ، غير أنّ اعتبار التعليل الثاني في الحيوان الحامل مشكل ؛

ص: 276


1- ذكرى الشيعة : 10 ، الطبعة الحجريّة.

من حيث إنّ الإطلاق إنّما يجدي (1) فيما يغلب لزومه لذي المقدّر كالرجيع الكائن في الجوف ، وليس الحمل منه ، كما لا يخفى. فالاعتماد على التعليل الأوّل. وعليه اعتمد المحقّق رحمه اللّه في حكم ما إذا وقع في البئر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان وخرج حيّا فإنّه حكم بعدم التنجيس به ، وعلّله بأنّ المخرج ينضمّ انضماما شديدا لشدّة حذره ، فلا يلقى الماء موضع النجاسة (2).

وتبعه في الحكم والتعليل العلّامة في المنتهى (3).

وما تضمّنه التعليل من النظر إلى شدّة الحذر وإن كان لا يتأتّى في ما نحن فيه إلّا أنّ أصل الانضمام لا ريب في حصوله ، والوصول إلى الباطن غير معلوم.

[ المسألة ] السادسة :

ألحق جماعة من الأصحاب جزء الحيوان بكلّه في نزح مقدّره (4).

واستشكله بعض ؛ نظرا إلى حصول المغايرة بين الجزء والكلّ ، فالحكم المتعلّق (5) بأحدهما لا يتناول الآخر. وحينئذ ينبغي أن يكون حكمه حكم غير المنصوص. وهذا الكلام جيّد.

لكنّ التحقيق أنّ مقدّر الكلّ إن كان أقلّ من منزوح غير المنصوص اكتفي به للجزء ؛ لأنّ الاجتزاء به في الكلّ يقتضي الاجتزاء في الجزء بطريق أولى

ص: 277


1- في « ب » : إنّ الإطلاق إنّما يجري.
2- المعتبر 1 : 79.
3- منتهى المطلب 1 : 113.
4- في « ج » : في نزح مقدّر له.
5- في « أ » و « ج » : فالحكم المعلّق أحدهما.

كما هو ظاهر.

وإن كان المقدّر زائدا على القدر الذي ينزح لما لا نصّ فيه فالمتّجه عدم وجوب نزح الزائد ؛ لما ذكرنا من المغايرة المقتضية لعدم تناول الحكم المعلّق بأحدهما للآخر.

ولو اتّفق وقوع الأجزاء كلّها في أكثر من دفعة كفى لها نزح مقدّر الجملة ، وإن أوجبناه للجزء فإنّها لا تخرج بذلك عن الاسم وقد علم في المسألة السابقة استثناء مثله في الحكم بعدم (1) التداخل.

أمّا لو وجد جزءان فما زاد ولم يعلم كونهما من واحد قال الشهيد رحمه اللّه :

« الأجود التضاعف (2) ، وهو مبني على القول بالإلحاق ».

والوجه عندي نزح أقلّ الأمرين من المقدّر للكلّ من كلّ منهما ومن منزوح غير المنصوص كما قلنا في الفرض الأوّل.

[ المسألة ] السابعة :

قال العلّامة في المنتهى : « لو وجب نزح قدر معيّن فنزح الدلو الأوّل ثمّ صبّ فيها فالذي أقوله - تفريعا على القول بالتنجيس - أنّه لا يجب نزح ما زاد على العدد ؛ عملا بالأصل ، ولأنّه لم تزد (3) النجاسة بالنزح والإلقاء. وكذا إذا القي الدلو الأوسط.

ص: 278


1- في « أ » : استثناء مثله من الحكم بعدم التداخل. في « ب » : استثناء مثله في الحكم لعدم التداخل.
2- ذكرى الشيعة : 10.
3- في « أ » : ولأنّه لم يرد النجاسة.

أمّا لو القي الدلو الأخير بعد انفصاله عنها فالوجه دخوله تحت النجاسة التي لم يرد فيها نصّ » (1).

وفي ما ذكره من الفرق بين انصباب الأخير وغيره إشكال ؛ لأنّ المقتضي لإلحاق الأخير بما لا نصّ فيه كونه ماء نجسا لاقى البئر فانفعل عنه كغيره من أنواع المنجّسات ولم يرد له مقدّر ، فيكون من أفراد غير المنصوص. وهذا بعينه جار في الأوّل والأوسط.

وكون البئر نجسا فيهما طاهرا في الأخير لا يصلح فارقا ؛ لأنّهم لا يرتابون في أنّ ثبوت الانفعال بنوع من أسبابه لا يمنع من تأثير سبب آخر فيه ، حتّى القائلين بالتداخل عند التعدّد فإنّهم أوجبوا نزح الأكثر.

ولو كان سبق الانفعال مانعا من تأثير السبب الثاني لاقتصروا على منزوح الأوّل.

وبهذا يظهر ضعف التمسّك في نفي وجوب الزائد على العدد بالأصل ، وأنّ ادّعاء عدم زيادة النجاسة بالنزح والإلقاء - بعد القول بحدوثها إذا وقع الأخير - في حيّز المنع.

وقد سوّى الشهيد رحمه اللّه بين الجميع في عدم وجوب شي ء سوى إعادة مثل الواقع ، فقال في الذكرى : لو انصبّ الدلو بأسره اعيد مثله في الأصحّ وإن كان الأخير للأصل. وفي البيان نحوه (2).

وقد تبيّن بما قرّرناه ضعفه.

وينبغي أن يعلم أنّ مدار الحكم هنا على انصباب ما يزيد عن القدر المعتاد

ص: 279


1- منتهى المطلب 1 : 108.
2- ذكرى الشيعة : 10. البيان : 101.

تساقطه حال النزح وإن لم يستوعب مجموع الدلو ؛ لتحقّق المقتضي.

والعلّامة وإن لم يتعرّض لذلك فقد أشار إليه الشهيد في الذكرى. والاعتبار يرشد إليه.

وأمّا ما لا يزيد عن العادة من المتساقط وقت النزح من الدلو فلا ريب في العفو عنه.

[ المسألة ] الثامنة :
اشارة

لو القي دلو من المنزوح في بئر طاهر.

قال الشهيد رحمه اللّه : « الأقرب وجوب منزوحه يعني ما يجب للنجاسة التي هو بعض منزوحها » (1). ووافقه على هذا بعض المتأخّرين.

وقال العلّامة في النهاية : « الأقوى عدم التجاوز عن قدر الواجب في تلك النجاسة سواء الأوّل والأخير وما بينهما » (2).

واستوجه في المنتهى إلحاقه بغير المنصوص (3).

واستقرب في التحرير الإلحاق به إن زاد منزوح تلك النجاسة على الأربعين. وكأنّه بناه على القول بنزحها لغير المنصوص حيث لم يظهر منه المصير إليه.

وهذا الخلاف جار فيما لو انصبّ في البئر المنزوحة وقلنا بوجوب النزح

ص: 280


1- البيان : 101.
2- نهاية الإحكام 1 : 261.
3- منتهى المطلب 1 : 108.

له ، وفي انصباب الأخير فيها (1) عند العلّامة. وقد شرّك بينهما في الحكم في الكتب الفقهيّة الثلاثة.

والتحقيق في ذلك - بناء على القول بالانفعال - إيجاب نزح أقلّ الأمرين من مقدّر (2) النجاسة المقتضية للنزح ومنزوح غير المنصوص على حسب ما يترجّح فيه ؛ لنحو ما مرّ في حكم الجزء ؛ فإنّ الاكتفاء بالمقدّر لتلك النجاسة إذا كان هو الأقلّ يقتضي الاكتفاء به للمتنجّس بها بطريق أولى ؛ لأنّه أضعف حكما منها كالجزء.

وأمّا إذا كان الأقلّ منزوح غير المنصوص فلأنّ النجاسة مغايرة للمتنجّس بها قطعا فالدليل الدالّ على وجوب المقدّر لها لا يتناوله فيتوقّف إيجاب الزيادة له على الدليل.

فرعان :
[ الفرع ] الأوّل :

لو كان الواقع جميع الماء المنزوح فهو كما لو وقع الدلو الواحد.

وقد نصّ على التسوية بينهما الشهيد في البيان (3).

وربّما يستبعد من حيث إنّ ملاقاته لماء البئر تؤثّر فيه انفعالا. والاكتفاء بنزح مقدّر النجاسة حينئذ يقتضي الاقتصار على نزح المقدار الواقع فيلزم طهر المنفعل من دون نزح شي ء منه.

ص: 281


1- في « ب » : الأخير منها.
2- في « ج » : من مقدار النجاسة.
3- البيان : 101.

ويندفع : بأنّ الواقع إذا شاع في أجزاء البئر صار من جملتها ، ويتناوله حكمها وإن كان (1) عين نجاسة ؛ فإنّها بالاستهلاك تدخل في مسمّى البئر. ألا ترى أنّ كثيرا من المقادير التي ينزح لوقوع أعيان النجاسات حيث يستهلك لا ينفكّ عن أجزاء منها مستهلكة في الماء ، وقد اكتفي بها في طهر الباقي ، ولم يتوقّف على كون المنزوح زائدا على القدر المعتبر بمثل (2) مقدار النجاسة. وذلك واضح.

[ الفرع ] الثاني :

ذكر العلّامة في التحرير والشهيد في البيان : أنّه لو وقع المنزوح له ومادّة المنزوح في الطاهرة تداخل النزح (3).

وهذا من العلّامة جيّد ؛ لأنّه يرى التداخل مع التكثّر مطلقا. وأمّا من الشهيد فمشكل ؛ لأنّه نفي التداخل مطلقا كما عرفت.

وقد وافقهما على التداخل هنا الشيخ علي في بعض فوائده (4) مع أنّه ممّن يرى عدم التداخل عند التكثّر مطلقا. ووجّه الحكم هنا بأنّ الواقع نجاسة واحدة في الحقيقة فلا يتعدّد منزوحها.

وتوجّه المنع إليه ظاهر ؛ فإنّ أحدهما منجّس والآخر نجاسة ، وكلّ منهما يؤثّر الانفعال لو انفرد وهو معترف به أيضا فحكمه بالتداخل مصير إلى القول بالتداخل من حيث لا يعلم.

ص: 282


1- في « ب » و « أ » : وتناوله حكمها حتّى وإن كان عين نجاسة.
2- في « ب » : لمثل مقدار النجاسة.
3- تحرير الأحكام 1 : 5. البيان : 101.
4- جامع المقاصد 1 : 47.
[ المسألة ] التاسعة :

تطهير البئر بغور مائها فإذا عاد بعد ذلك فهو طاهر لا يجب له نزح. قاله كثير من الأصحاب.

وعلّلوه بأنّ المقتضي للطهارة ذهاب الماء وهو يحصل بالغور ، كما يحصل بالنزح. ولا يعلم (1) كون العائد هو الغائر ، فالأصل فيه الطهارة.

وبأنّ النزح لم يتعلّق بالبئر بل بمائها المحكوم بنجاسته ولا نعلم وجوده والحال هذه فلا يجب النزح. وما قالوه متّجه.

واعلم أنّ بعض من حكم بالطهارة هنا وسقوط النزح - لما ذكر من التعليل - نفاها إذا اجريت (2). وأوجب النزح حينئذ مع أنّ التوجيه المذكور هنا جار بعينه هناك. ويزيد عنه بحصول الجزم بأنّ الآتي غير الذاهب ، فإنّ الجريان يذهب الموجود قطعا وما يأتي بعده ماء جديد.

مضافا إلى أنّ الحكم بالنزح معلّق بالبئر (3) ، والإجراء يخرجها عن الاسم.

فالذي ينبغي : إسقاط النزح في الصورتين ، والحكم بطهارة الماء الجديد في الحالين.

ولعلّ نافي الحكم في صورة الإجراء يريد به إجراء لا يعلم معه ذهاب الماء المحكوم بنجاسته ومع ذلك فلا أراه يسلم من المناقشة.

ص: 283


1- في « ب » : ولا نعلم كون العائد.
2- في « ب » : إذا جريت.
3- في « ب » : معلّق بماء البئر.
[ المسألة ] العاشرة :
اشارة

يجب إخراج النجاسة قبل الشروع في النزح إذا كان لها مقدّر وكانت عينها باقية وقلنا بالانفعال بالملاقاة.

ووجهه ظاهر ؛ فإنّ الملاقاة الموجبة للنزح المقدّر تبقى ما بقيت العين ، فلا يظهر للنزح فائدة. ولا يعتبر ذلك في غير المقدّر لفقد العلّة.

فرع :

قال الشهيد رحمه اللّه في الذكرى : « لو سقط(1) الشعر في الماء نزح حتّى يظنّ خروجه إن كان شعر نجس العين. فإن استمرّ الخروج استوعب ، فإن تعذّر لم يكف التراوح ما دام الشعر ؛ لقيام النجاسة والنزح بعد خروجها أو استحالتها. وكذا لو تفتّت اللحم.

ولو كان شعر طاهر العين أمكن اللحاق ؛ لمجاورته النجس مع الرطوبة ، وعدمه ؛ لطهارته في أصله. ولم أقف في هذه المسألة على فتيا لمن سبق منّا » (2). وما ذكره جيّد.

والظاهر رجحان اللحاق في شعر طاهر العين ، فيتوقّف التطهير على خروجه. وبه قطع في الدروس (3).

ص: 284


1- في « أ » : ولو تمعّط الشعر.
2- ذكرى الشيعة : 11.
3- الدروس الشرعيّة 1 : 121.
[ المسألة ] الحادية عشرة :

لا يعتبر في النزح النيّة ؛ لأنّه بمنزلة إزالة النجاسة ، ولأنّ اعتبارها على خلاف الأصل ، فيحتاج إلى دليل ، ولا دليل. وظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه أيضا. وبالجملة فهو ممّا لا ريب فيه.

ولا يعتبر في النازح البلوغ ، ولا الإسلام ، فيجوز أن يتولّاه الصبيّ والكافر إذا لم تصل مباشرته إلى الماء ، ولا الذكوريّة ، بل ولا الإنسانيّة ، فيجزي نحو الدالية والسائية (1) ؛ لصدق الاسم. وهذا في غير التراوح كما مرّ.

وهل ينجس النازح ما يلاقيه من الماء المنزوح على القول بنجاسته؟ احتمالان. أقربهما نعم.

وصرّح الشهيد في أكثر كتبه بالعدم (2). وعلّله في الذكرى بعدم أمر الشارع بالغسل. وفيه نظر لا يخفى.

أمّا الدلو والرشا (3) فلا يجب غسلهما بعد الانتهاء ، وهو ممّا لا يعرف فيه خلاف بين الأصحاب.

ووجّه المحقّق في المعتبر الحكم في الدلو - حيث لم يتعرّض لغيره - بأنّه لو كان نجسا لم يسكت عنه الشرع ، وبأنّ استحباب الزيادة في النزح ثابت

ص: 285


1- الدالية : شي ء يتّخذ من خوص وخشب يستقى به بحبال يشدّ في جذع طويل ، والسائية : من ساة القوس أي طرفها المعطوف المعقرب. راجع تاج العروس 10 : 129 و 168.
2- ذكرى الشيعة : 10.
3- الرشا : حبل الدلو.

في بعض الموارد وهو يدلّ على عدم النجاسة وإلّا لتنجّس ماء البئر عند الزيادة قبل غسلها ، والمعلوم من عادة الشرع خلافه (1).

وتبعه في هذا التوجيه العلّامة في المنتهى (2) ، والشهيد في الذكرى (3) وهو حسن.

وأمّا جوانب البئر فأولى بعدم النجاسة بما يصيبها من ماء النزح.

واحتجّ له في المعتبر بلزوم المشقّة (4). وتبعه في المنتهى (5).

وقال في الذكرى : « أجمعوا على طهارة الحماة (6) والجدران.

[ المسألة ] الثانية عشرة :

المرجع في الدلو إلى العادة ؛ إذ لم يثبت للشرع فيها حقيقة لو قلنا بالحقايق الشرعيّة ، ولا عرف لزمانه فيها عرف ليحمل عليه. والقاعدة في مثله عند انتفاء الأمرين الرجوع إلى العرف الموجود إن لم يخالف وضع اللغة الثابت ، وإلّا كان هو المقدّم. وكلّ ذلك منتف في ما نحن فيه ، فيرجع فيه إلى ما يصدق عليه الاسم في العرف الآن صغيرا كان أو كبيرا.

ص: 286


1- المعتبر 1 : 79.
2- منتهى المطلب 1 : 105.
3- ذكرى الشيعة : 10.
4- المعتبر 1 : 79.
5- منتهى المطلب 1 : 105.
6- الحمأة : الطين الأسود المنتن. وحمئت البئر فهي حمئة إذا صارت فيها الحمأة وكثرت.

ولو اعتيد في تلك البئر نوع فالأجود الاقتصار عليه بعد تحقّق صدق الاسم لا مطلقا - كما ذهب إليه بعض المتأخّرين - حيث اكتفى بالمعتاد عليها ، وإن كان نحو آنية الفخار إذا كان ممّا يستقي به الإنسان في البلد غالبا.

وهو ضعيف جدّا ؛ لأنّ تعليق الحكم على الدلو يقتضي الوقوف مع مسمّاه - كما هو واضح - ولا ريب في عدم صدقه على نحو الآنية المذكورة.

ولو اختلف المعتاد ولم يغلب البعض فالأصغر مجز والأكبر أفضل.

وإن غلب فهو أولى (1) على الأولى.

ويعزى إلى بعض القول : بأنّ المراد بالدلو الهجرية (2) وأنّ وزنها ثلاثون رطلا. وإلى آخر القول : بأنّ وزنها أربعون. ولا نعرف المأخذ.

[ المسألة ] الثالثة عشرة :

لا يعتبر الدلو في النزح لإزالة التغيّر ، ولا في نزح الجميع ؛ إذ الغرض في الموضعين إخراج الماء ، وهو يصدق بأيّ وجه اتّفق. وكذا في نزح الكرّ حيث يعتبر.

والوجه في الكلّ واضح. وقد نبّه على ذلك جماعة من الأصحاب في النزح للتغيّر.

وأنت خبير بأنّ العلّة في الجميع واحدة.

أمّا ما يجب له مقدّر معدود ففي تعيّن نزحه بالدلو أو جواز إخراجه بآلة كبيرة تسع العدد خلاف بين الأصحاب.

ص: 287


1- في « ج » : فهو الأولى.
2- في « ب » : المراد بالدلو النجرية.

فذهب المحقّق في المعتبر (1) ، والعلّامة في المنتهى والتحرير (2) ، والشهيد في الدروس والبيان إلى الأوّل (3). ووافقهم جماعة من المتأخّرين ، منهم والدي رحمه اللّه (4).

وقال العلّامة في أكثر كتبه (5) ، والشهيد في الذكرى بالثاني (6). واختاره بعض مشايخنا المعاصرين.

والأقرب الأوّل.

لنا : إنّ الأدلّة وردت بالعدد ، ولعلّ الحكمة متعلّقة به ، فيتوقّف الحكم بقيام غيره مقامه على الدليل.

احتجّوا بأنّ الأمر بالنزح وارد على الماء ، والدلاء مقدار ، فيكون القدر هو المراد وتقييده بالعدد لانضباطه وظهوره ، بخلاف غيره.

وبأنّ الغرض من النزح إخراج الماء من حدّ الواقف إلى كونه جاريا جريانا يزيل (7) التأثير الحاصل عن النجاسة ، ويفيده التطهير ، ولذلك اختلف فيه التقدير لاختلاف النجاسات بقوّة التأثير وضعفه ، وتفاوت الآبار بسعة المجاري وضيقها. ولا يخفى أنّ هذا الغرض يحصل بإخراج المقدار المعيّن بأيّ وجه اتّفق.

ص: 288


1- المعتبر 1 : 77.
2- منتهى المطلب 1 : 104 ، وتحرير الأحكام 1 : 5.
3- الدروس الشرعيّة 1 : 121. والبيان : 3. الطبعة المحققة الاولى.
4- مسالك الأفهام 1 : 19 ، الطبعة المحققة ( مؤسسة المعارف الإسلامية ).
5- منتهى المطلب 1 : 104.
6- ذكرى الشيعة : 10 ، الفرع الرابع من العارض الثالث.
7- في « ج » : مزيل التأثير.

والجواب :

عن الأوّل : أنّا نسلّم كون النزح واردا على الماء وأنّ الدلاء مقدار ، ولكن نمنع كون المراد إخراج القدر مطلقا ؛ لأنّ الأوامر وردت بطريق خاص واتّباعها لازم.

وعن الثاني : أنّه وإن كان الغرض من النزح الإجراء إلّا أنّ طرقه مختلفة. والأدلّة إنّما وردت ببعض معيّن منها ، فإلحاق غيره به قياس.

مع أنّ الفارق ربّما كان موجودا من حيث إنّ تكرار النزح موجب لكثرة اضطراب الماء وتموّجه وهو مقتض لاستهلاك أجزاء النجاسة الشائعة فيه فيكون سببا لطيبه. ولعله الحكمة في الأمر به. ومن البيّن أنّ ذلك لا يحصل مع الإخراج دفعة أو ما في معناها.

[ المسألة ] الرابعة عشرة :
اشارة

لا ينجس البئر بالبالوعة وإن تقاربتا ، إلّا أن يعلم وصول نجاستها إلى الماء بناء على القول بالانفعال أو بتغيّرها بها على ما اخترناه.

ولا نعرف في ذلك خلاف.

ويدلّ عليه مع الأصل رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه السلام : « في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة وأقلّ وأكثر يتوضّأ منها؟ قال : ليس يكره من قرب ولا بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء (1) ».

ورواية أبي بصير قال : « نزلنا في دار فيها بئر إلى جنبها بالوعة ليس بينهما إلّا نحو من ذراعين ، فامتنعوا من الوضوء منها فشقّ ذلك عليهم ، فدخلنا على

ص: 289


1- تهذيب الأحكام 1 : 411 ، الحديث 1294.

أبي عبد اللّه عليه السلام فأخبرناه ، فقال : توضّئوا منها ، فإنّ لتلك البالوعة مجاري تصبّ في وادي ينصبّ في البحر » (1).

وقد ورد بخلاف هذا روايات رواها زرارة ومحمّد بن مسلم وأبو بصير في الحسن قالوا : « قلنا له : بئر يتوضّأ منها يجري البول قريبا منها ، أينجّسها؟ قال : فقال : إن كان البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها وكان بينهما قدر ثلاث أذرع أو أربع أذرع لم ينجس ذلك شي ء وإن كان أقلّ من ذلك نجّسها. وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمرّ (2) الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسع أذرع لم ينجّسها. وما كان أقلّ من ذلك فلا يتوضّأ منه. قال زرارة : فقلت له : فإن كان مجرى البول يلصقها وكان لا يثبت على الأرض؟ فقال : ما لم يكن له قرار فليس به بأس ، وإن استقرّ فيه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ولا قعر له حتّى يبلغ البئر وليس على البئر منه بأس ، فتوضّأ منه إنّما ذلك إذا استنقع كلّه » (3).

وهذه الرواية تدلّ بظاهرها من جهات متعدّدة على حصول التنجيس بالتقارب.

ويشكل بأنّه إنّما يتمّ على القول بالانفعال بالملاقاة وقد بيّنا أنّ التحقيق خلافه.

سلّمنا ولكنّ الاتّفاق واقع من القائلين بالانفعال على عدم التنجيس بالتقارب الكثير. حكاه العلّامة في المنتهى (4).

ص: 290


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 13 ، الحديث 24.
2- في « ب » : وينزّ الماء عليها.
3- تهذيب الأحكام 1 : 410 ، الحديث 1293.
4- منتهى المطلب 1 : 112.

وقد طعن فيها بعض الأصحاب بأنّ رواتها لم يسندوها إلى إمام فيجوز أن يكون قولهم : « قلنا له » إشارة إلى بعض العلماء. قال : وهذا الاحتمال وإن كان مرجوحا إلّا أنّه غير ممتنع.

والأولى عندي أنّ نفتح للدخل فيها غير هذا الباب فنقول : إنّ الظاهر من سوقها كونها مفروضة في محلّ يكثر ورود النجاسة عليه ونظنّ فيه النفوذ ، وما هذا شأنه لا يبعد إفضاؤه مع القرب إلى تغيير الماء لا سيّما إذا طال الزمان. فلعلّ الحكم بالتنجيس حينئذ ناظر إلى شهادة القرائن بأن يكون جريان البول في مثله يفضي إلى حصول التغيّر في أوصاف الماء.

أو نقول : إنّ كثرة ورود النجاسة على المحلّ مع القرب يثمر ظنّ الوصول إلى الماء في الجملة ، بل ربّما حصل معه العلم بقرينة الحال وهو موجب للاستقذار ، ولا ريب في مرجوحيّة الاستعمال معه قبل النزح فيكون الحكم بالتنجيس والنهي عن الاستعمال محمولين على غير الحقيقة ، وهو جائز لضرورة الجمع ؛ فإنّ الأدلّة السابقة الدالّة على نفي النجاسة عن البئر بدون التغيّر معارضة له وهي أوضح دلالة وأقوى أسنادا ، فارتكاب التأويل هنا أولى.

فرع :

قال المحقّق في المعتبر : « إذا تغيّر ماء البئر تغيّرا يصلح أن يكون من البالوعة ففي نجاسته تردّد ؛ لاحتمال أن يكون منها وإن بعد ، والأحوط التطهير ؛ لأنّ سبب النجاسة قد وجد فلا يحال على غيره. لكن هذا ظاهر لا قاطع والطهارة في الأصل متيقّنة فلا تزال بالظنّ » (1).

ص: 291


1- المعتبر 1 : 80 ، وفيه : « والأحوط التنجيس » بدل « التطهير ».

وجزم العلّامة في المنتهى ببقائه على الطهارة (1) ، وقوّاه الشهيد في الذكرى (2). قال : وهذا من باب عدم النجاسة بالظنّ.

والأمر والحكم كما قال.

[ المسألة ] الخامسة عشرة :

المشهور بين الأصحاب استحباب التباعد بين البئر والبالوعة بمقدار خمس أذرع إن كانت البئر فوق البالوعة ، أو كانت الأرض صلبة ، وإلّا فسبع.

وصرّح جماعة منهم باعتبار الفوقيّة بالجهة حيث يستوي القراران بناء على أنّ جهة الشمال أعلى فحكموا بفوقيّة ما يكون فيها منهما (3).

وخالف ابن الجنيد في التقدير فقال في المختصر : « لا استحبّ الطهارة من بئر يكون بئر النجاسة (4) التي يستقرّ فيها من أعلاها في مجرى الوادي إلّا إذا كان بينهما في الأرض الرخوة اثنتا عشرة ذراعا وفي الأرض الصلبة سبعة أذرع. فإن كانت تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ، وإن كانت محاذيتها في سمت القبلة. فإذا كان بينهما سبعة أذرع ؛ تسليما لما رواه ابن يحيى عن سليمان الديلمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام » (5).

والذي يستفاد من هذه العبارة أنّه يرى التقدير بالاثنتي عشرة شبر طين

ص: 292


1- منتهى المطلب 1 : 113.
2- ذكرى الشيعة : 11.
3- في « ب » : ما يكون فيها منها.
4- في « أ » و « ب » : بئر يكون بين النجاسة.
5- تهذيب الأحكام 1 : 410 ، الحديث 1292.

رخاوة الأرض وتحتيّة البئر ، ومع انتفاء الشرط الأوّل بسبع. وكذا مع استواء القرار إذا كانت المحاذاة في سمت القبلة يعني أنّ إحداهما كانت في جهة المشرق والاخرى في محاذاتها من جهة المغرب.

وهذا الاعتبار يلتفت إلى اعتبار الفوقيّة في الجهة - كما حكيناه عن البعض - فحيث تكون المحاذاة من غير جهة القبلة يكون إحداهما في جهة الشمال فيصير أعلى.

وقوله : « فإن كانت تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس » ظاهر في نفي التقدير حينئذ. وقد كثر في كلام المتأخّرين من الأصحاب حكاية خلافه في المسألة على غير الوجه الذي تدلّ عليه عبارته هذه فحكوا عنه التقدير بالاثنتي عشرة إن كانت الأرض رخوة والبئر تحت البالوعة ، وبالسبع إن كانت صلبة أو كانت البئر فوق.

وأوّل من حكى خلافه هكذا العلّامة في المختلف (1) ، وتبعه الباقون حتّى قال بعضهم : إنّه أغفل الحكم حال المساواة والرخاوة بناء على ما وجده في النقل. وقد عرفت أنّ كلامه يقتضي التقدير بالسبع حينئذ إذا كانت المساواة حاصلة باعتبار الجهة أيضا ، وأنّه لا يعتبر في صورة علوّ البئر شيئا.

وقد احتجّوا للمشهور برواية الحسن بن رباط عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن البالوعة تكون فوق البئر؟ قال : إذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع ، وإذا كانت فوق البئر فسبعة أذرع من كلّ ناحية وذلك كثير » (2).

ورواية قدامة ابن أبي زيد الجمّاز عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام

ص: 293


1- مختلف الشيعة 1 : 247.
2- الكافي 3 : 7 ، الحديث 1.

قال : « سألته كم أدنى ما يكون بين البئر - بئر الماء - والبالوعة؟ فقال : إن كان سهلا فسبعة أذرع ، وإن كان جبلا فخمسة أذرع ثمّ قال : الماء يجري إلى القبلة وإلى يمين ، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، ويجري عن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة » (1).

وجه الاحتجاج : أنّ في كلّ من الروايتين إطلاقا وتقييدا فيجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد ، وذلك أنّ التقدير بالسبع فيهما مطلق فتقيّد في الاولى بالرخاوة لدلالة الثانية على الاكتفاء بالخمس مع الجبليّة التي هي الصلابة. ويقيّد في الثانية بعدم فوقيّة البئر لدلالة الاولى على إجزاء الخمس مع أسفليّة البالوعة.

والظاهر أنّ المراد من قوله في الرواية الاولى : « فسبعة أذرع من كلّ ناحية » أنّه لا يكفي البعد بهذا المقدار من جانب واحد من جوانب البئر إذا كان البعد بالنظر إليها متفاوتا وذلك مع استدارة رأس البئر فربّما يبلغ المسافة السبع إذا قيس إلى جانب ولا يبلغه بالقياس إلى جانب آخر.

فالمعتبر حينئذ البعد بذلك المقدار فما زاده بالقياس إلى الجميع. ذكره بعض الأصحاب وهو حسن.

وحجّة ابن الجنيد الرواية التي أشار إليها وهي رواية محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف فقال لي : إنّ مجرى العيون كلّها مع مهبّ الشمال ، فإذا كانت البئر النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل منها لم يضرّها إذا كان بينهما أذرع. وإن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقلّ من اثنتي [ عشرة ] ذراعا. وإن كان [ تجاهها ]

ص: 294


1- الكافي 3 : 8 ، الحديث 3.

بحذاء القبلة وهما مستويان في مهبّ الشمال فسبعة أذرع (1).

وقد تنظّر بعض الأصحاب في دلالة هذه الرواية على مدّعى ابن الجنيد بالنسبة إلى ما حكوه عنه - كما نبّهنا عليه - والأمر كذلك ؛ فإنّ اعتبار السبع في صورة علوّ البئر ليس للرواية دلالة عليه ، وقد نقلوه عنه.

ولا يخفى عليك ما بين الرواية وبين عبارته - التي حكيناها - من المناسبة إلّا في الصورة المذكورة حيث نفى البأس فيها مطلقا ، وهو في الرواية مقيّد بأن يكون بينهما أذرع.

ولعلّ السرّ في عدم تعرّضه لهذا الشرط عدم الانفكاك عنه في العادة حيث يحمل لفظ الأذرع على أقلّ الجمع ؛ إذ من المستبعد جدّا أن توضع بالوعة في جنب بئر بأقلّ من ثلاث أذرع. هذا.

وقد جمع بعض الأصحاب بين هذه الرواية وبين روايتي المشهور بحمل إطلاق الأذرع في صورة فوقيّة البئر على الخمس ، وتقييد التقدير بالسبع في صورة المحاذاة برخاوة الأرض وتحتيّة البئر ، وحمل الزائد على السبع - في صورة فوقيّة الكنيف - على المبالغة في القدر المستحبّ.

وفي الحمل الأوّل تكلّف.

وأمّا التقييد ففاسد ؛ لأنّ فرض المحاذاة - كما هو صريح لفظ الحديث ومقتضى المقابلة لصورتي علوّ كلّ منهما - كيف يجامع الحمل على تحتيّة البئر؟ نعم حمل الزيادة في الاثنتي عشرة على المبالغة ممكن.

وربّما حمل التقدير بالاثنتي عشرة على ما إذا كان علوّ الكنيف بالقرار والجهة ، وحمل السبع في الرواية السابقة على ما يكون بالقرار فقط أو بأحدهما ،

ص: 295


1- تهذيب الأحكام 1 : 410 ، الحديث 1292.

وهو محتمل.

غير أنّ طرق الروايات الثلاثة ضعيفة. وكأنّ الأصحاب بنوا في العمل بها والبحث عن وجه الجمع بينها على قاعدة التساهل في أدلّة السنن.

وقد سبق في حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير الدالّة على انفعال ماء البئر بالبالوعة : التقدير بالتسع في صورة علوّ البالوعة وبالثلاث أو الأربع في عكسه (1) ، وهي أقوى ما روي في هذا الباب أسنادا. وقد ذكرها المحقّق في ذيل الاحتجاج لاستحباب التباعد بالخمس والسبع كما هو المشهور بعد أن ذكر رواية الحسن بن رباط (2) ، ومرسلة قدامة بن أبي زيد (3).

ثمّ قال : « فهذه الروايات لا تنفكّ من ضعف. وأجودها الأخيرة ، مع أنّهم لم يبيّنوا القائل لكن في ذلك احتياط فلا بأس به » (4).

وأشار بعدم بيان القائل إلى ما حكيناه عن البعض من الطعن فيها بعدم إسنادها إلى إمام ، والظاهر أنّها مسندة ، فربّما كان العمل بها أقرب.

على أنّ العمل بالمشهور في مثله لا بأس به ، كما قاله المحقّق رحمه اللّه.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ حجّتهم على اعتبار الجهة الرواية التي احتجّ بها ابن الجنيد رحمه اللّه (5) وفي الرواية الثانية من حجّة المشهور (6) إشعار به أيضا. وقد عرفت الحال.

ص: 296


1- تهذيب الأحكام 1 : 410 ، الحديث 1293.
2- تهذيب الأحكام 1 : 410 ، الحديث 1290.
3- تهذيب الأحكام 1 : 410 ، الحديث 1291.
4- المعتبر 1 : 80.
5- تهذيب الأحكام 1 : 410 ، الحديث 1292.
6- الكافي 3 : 8 ، الحديث 3.
البحث الثالث : في الجاري والغيث
مسألة [1] :
اشارة

ذهب أكثر الأصحاب إلى أنّ الماء الجاري - وهو النابع غير البئر - لا ينجس بملاقاة النجاسة وإن نقص عن الكرّ.

وخالف في ذلك العلّامة فاعتبر فيه الكرّيّة كالواقف (1). ولم يعرف له موافق ممّن تقدّمه من الأصحاب.

بل ظاهر المحقّق انعقاد إجماعهم على خلافه ؛ فإنّه قال في المعتبر : لا ينجس الجاري بالملاقاة وهو مذهب فقهائنا أجمع (2).

والعجب أنّ العلّامة في المنتهى وافق المحقّق على نقل اتّفاق فقهائنا على عدم نجاسته بالملاقاة. وذكر قبل ذلك أنّ تغيّر الجاري بالنجاسة لا يوجب نجاسة جميعه بل القدر المتغيّر فقط. ووجّهه بأنّ غير المتغيّر لم يتحقّق فيه إلّا الملاقاة وهي لا توجب التنجيس له. ووعد بمجي ء دليله وعنى به

ص: 297


1- منتهى المطلب 1 : 28 - 29 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 17.
2- المعتبر 1 : 41.

ما حكيناه عنه من نقل الاتّفاق عليه على حذو ما قاله المحقّق. مضافا إلى أخبار اخرى سبقه إلى الاحتجاج بها المحقّق (1). وبالجملة فهو كثير الاقتفاء لأثره في هذا الكتاب فاستدلّ لهذا الحكم بمثل استدلاله.

ثمّ إنّه قال في تتميم مسألة التغيّر : وكذلك البحث في الواقف الزائد على الكرّ فإنّ ما عدا المتغيّر إن بلغ كرّا فهو على الأصل.

وهذا الكلام كما ترى صريح في أنّ نفيه لانفعال الجاري بالملاقاة - ناقلا لاتّفاق فقهائنا عليه - غير مختصّ بالكثير منه وإلّا لما صحّ إطلاق الحكم بعدم انفعال غير المتغيّر بمجرّد الملاقاة من دون اشتراط بلوغه الكرّ كما اشترطه في كثير الواقف هذا.

ونسخ المنتهى مختلفة في هذه المباحث كثيرا فربّما زيد في بعضها ما نقص في الآخر. وربّما عكس.

وها هنا يوجد في البعض زيادة بعد الحكمين الذين حكيناهما وهي أنّه قال في جملة فروع ذكرها : لا فرق بين الأنهار الكبار والصغار. نعم الأقرب اشتراط الكرّيّة لانفعال الناقص عنها مطلقا (2).

وهذا عجيب بعد ما أسلفه من الفرق بينه وبين الراكد المقتضي لعدم اعتبار الكرّيّة فيه واحتجاجه في ذلك باتّفاق علمائنا عليه.

ويعزى إلى جماعة من المتأخّرين عنه الموافقة له على اشتراط الكرّيّة.

والأظهر عندي مختار الأكثر ، وعليه استقرّ رأي والدي عليه الرحمة بعد ذهابه

ص: 298


1- المعتبر 1 : 42.
2- منتهى المطلب 1 : 28 و 29.

في المسالك وغيره من مصنّفاته إلى ما اختاره العلّامة رحمه اللّه (1).

لنا : الأصل ، وما تقدّم في صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع الدالّ على عدم انفعال البئر بدون التغيّر ؛ حيث علّل فيه نفي الانفعال بوجود المادّة (2) ، وقد تقدّم أنّ العلّة المنصوصة يتعدّى بها الحكم إلى كلّ موضع يوجد فيه إذا شهدت الحال بأنّ خصوص متعلّقها الأوّل لا مدخل له فيها.

والأمر هاهنا من ذلك القبيل ، فإنّ خصوصيّة البئر لا تصلح للتعليل ، وشهادة الحال بذلك ظاهرة لمن أحاط خبرا بأحكام البئر. وحينئذ ينحصر المقتضي لنفي الانفعال في وجود المادّة وهي موجودة في مطلق النابع فيثبت له الحكم ، وهو المطلوب.

حجّة القول الآخر : عموم ما دلّ على اشتراط الكرّيّة في عدم انفعال الماء بالملاقاة فإنّه متناول لمحلّ النزاع ، وقد تقدّم.

والجواب : - على تقدير تسليم العموم بحيث يتناول موضع النزاع - أنّه مخصوص بصحيح ابن بزيع لدلالته على أنّ وجود المادّة سبب في نفي انفعال الماء بالملاقاة ، فلو كانت الكرّيّة معتبرة في ذي المادّة لكانت هي السبب في عدم الانفعال فلا يبقى للتعليل بالمادّة معنى.

فرع :

الظاهر من كلام العلّامة أعلى اللّه مقامه أنّه يكتفى هنا ببلوغ مجموع الماء مقدار الكرّ وإن اختلفت سطوحه (3). وقد مرّ في بحث الواقف أنّه يشترط في بعض

ص: 299


1- مسالك الأفهام 1 : 1.
2- تهذيب الأحكام 1 : 234 ، الحديث 676.
3- منتهى المطلب 1 : 31.

كتبه المساواة فيه على بعض الوجوه ، ولم يتعرّض لذلك هنا فكأنّه يرى للجاري خصوصيّة عن (1) الواقف في الجملة وإن شاركه في انفعال قليله بالملاقاة. ولعلّ الخصوصيّة كون الغالب فيه عدم الاستواء فلو اعتبرت المساواة على حدّ ما ذكره في الواقف للزم الحكم بتنجيس الأنهار العظيمة بملاقاة النجاسة أوائلها التي لم تبلغ مقدار الكرّ ولو بضميمة ما فوقها. وذلك معلوم الانتفاء.

[ فرع ] آخر :

إذا اتّصل الواقف القليل بالجاري لحقه حكمه فلا ينفعل بملاقاة النجاسة ويعتبر في ذلك تساوي السطحين أو علوّ الجاري.

وبهذا الاشتراط صرّح جمع من الأصحاب : منهم الشهيد رحمه اللّه في أكثر كتبه (2). وقد سبق نقل كلامه في ذلك.

وخالف فيه والدي رحمه اللّه فاكتفى بمجرّد الاتّصال إذا صدقت معه الوحدة عرفا (3). وصدقها حينئذ مستبعد جدّا وأطلق العلّامة الحكم في كتبه (4). وقد مرّ تحقيق ذلك مستوفىّ.

ويعتبر أيضا كون الواقف طاهرا قبل الاتّصال ، فلو كان نجسا توقّف لحوق الحكم له على الممازجة بينهما ؛ لأنّه مع عدمها يبقى على نجاسته ، كما مرّ.

ومن اكتفى في تطهيره بمجرّد الاتّصال اكتفى به في ثبوت حكم الجاري له هنا.

ص: 300


1- في « أ » و « ج » : على الواقف.
2- البيان : 99.
3- الروضة البهيّة 1 : 254.
4- نهاية الإحكام 1 : 228.
مسألة [2] :

اشترط الشهيد في الدروس دوام النبع في عدم انفعال قليل الجاري بالملاقاة (1) ، وتبعه بعض المتأخّرين. ولا يخلو هذا الشرط من إجمال.

وقد اختلف كلام من تأخّر عنه من الأصحاب في بيان المراد منه ، فذكروا فيه وجهين :

أحدهما : أنّ المراد بالدوام عدم الانقطاع في أثناء الزمان ، ككثير من المياه التي تخرج زمن الشتاء وتنقطع في الصيف.

وهذا المعنى وإن كان له قرب بالنظر إلى ظاهر اللفظ لكونه المتبادر منه في العرف لكنّه مستبعد في نفسه جدّا.

أمّا أوّلا : فلأنّه لا شاهد له من الأخبار ، ولا يساعد عليه الاعتبار. فهو تخصيص لعموم الدليل بمجرّد التشهّي.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الدوام بالمعنى المذكور إن اريد به ما يعمّ الزمان كلّه فلا ريب في بطلانه ؛ إذ لا سبيل إلى العلم به. وإن خصّ ببعضها فهو مجرّد التحكّم.

وبالجملة فهذا المعنى من الفساد بحيث لا يحتاج إلى البيان. وقد قال الفاضل الشيخ علي في بعض فوائده :

« إنّ أكثر المتأخّرين عن الشهيد رحمه اللّه ممّن لا تحصيل لهم فهموا هذا المعنى من كلامه وهو منزّه عن أن يذهب إلى مثله فإنّه تقييد لإطلاق النصّ بمجرّد الاستحسان ، وهو أفحش أغلاط الفقهاء ».

وبالغ في توجيه فساده حتّى قال : « إنّه ليس محطّ نظر فقيه فيحتاج إلى

ص: 301


1- الدروس الشرعيّة 1 : 119.

الكلام عليه والاعتناء بردّه ، وإنّما قصد بذلك الإشارة إلى خطأه ليتجنّبه ذوو البصائر » (1). ونعم ما قال.

الثاني : ما فهمه الفاضل الشيخ علي وجعله الظاهر وهو أنّ المراد بدوام النبع استمراره حال الملاقاة بالنجاسة وهو حسن.

وتقريبه : إنّ عدم الانفعال بالملاقاة في قليل الجاري معلّق بوجود المادّة - كما علمت - فلا بدّ في الحكم بعدم الانفعال فيه من العلم بوجودها حال ملاقاة النجاسة.

وربّما يتخلّف ذلك في بعض أفراد النابع ، كالقليل الذي يخرج بطريق الترشّح ؛ فإنّ العلم بوجود المادّة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل ؛ لأنّه يترشّح آنا فآنا فليس له في ما بين الزمانين مادّة. وهذا يقتضي الشكّ في وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط. واللازم من ذلك الحكم بالانفعال بها ؛ عملا بعموم ما دلّ على انفعال القليل لسلامته حينئذ عن معارضة وجود المادّة.

ولا يخفى أنّ اشتراط استمرار النبع يخرج مثل هذا. ولولاه لكان داخلا في عموم النابع لصدق اسمه.

وهذا التقريب وإن اقتضى تصحيح الاشتراط المذكور في الجملة ، إلّا أنّه ليس بحاسم لمادّة الإشكال من حيث إنّ ما هذا شأنه في عدم العلم بوجود المادّة له عند الملاقاة ربّما حصل له في بعض الأوقات قوّة بحيث يظهر فيه أثر وجود المادّة واللازم حينئذ عدم انفعاله. مع أنّ ظاهر الشرط يقتضي نجاسته.

ويمكن أن يقال : إنّ الشرط منزّل على الغالب من عدم العلم بوجود المادّة في مثله وقت الملاقاة ويكون حكم ذلك الفرض النادر محالا على الاعتبار

ص: 302


1- لم نعثر عليه.

وهو شاهد بمساواته للمستمرّ.

مسألة [3] :

لا ريب في نجاسة الجاري إذا تغيّر في أحد أوصافه بالنجاسة ، وقد تقدّم في بحث الواقف ما يدلّ عليه.

ثمّ إن كان التغيّر مستوعبا له نجس أجمع. وإن اختصّ بالبعض نجس المتغيّر قطعا. وأمّا الباقي فيختلف حكمه باختلاف حال الماء في الكثرة والقلّة واستواء السطوح حينئذ ، واختلافها ، وقطع التغيّر لعمود الماء وعدمه.

وتفصيل المسألة أن نقول : إذا تغيّر بعض الجاري فإمّا أن يكون متساوي السطوح أو لا.

وعلى التقديرين إمّا ينقطع بالتغيّر عمود الماء وهو ما بين حافّتي المجري عرضا وعمقا أو لا.

وعلى الأوّل : إمّا أن يبلغ ما يلي المتغيّر إلى غير جهة المادّة مقدار الكرّ أو لا.

فهذه صور ستّ :

الاولى : أن [ يكون ] السطوح مستوية ولا ينقطع عمود الماء. ولا إشكال في اختصاص المتغيّر بالتنجيس. لا سيّما إذا كان المجموع ممّا ليس بمتغيّر بالغا مقدار الكرّ.

الثانية : الصورة بحالها ولكن قطع التغيّر عمود الماء وكان ما يلي المتغيّر في غير جهة المادّة كرّا. وحكمها كالأولى ، إلّا أنّه على القول باعتبار الكرّيّة في الجاري لا بدّ من بلوغ ما يلي المتغيّر إلى جهة المادّة مقدار الكرّ.

وربّما يوجد في كلام بعض الأصحاب الحكم بعدم انفعاله وإن اعتبرنا الكرّيّة وكان قليلا ؛ معلّلا بأنّ جهة المادّة في الجاري أعلى سطحا من النجس ،

ص: 303

فلا ينفعل به. وليس بشي ء ؛ فإنّ الجريان يتحقّق مع المساواة كما يشهد به العيان. ولا ندري من أين فهم توقّفه على علوّ جهة المادّة.

الثالثة : أن [ تستوي ] السطوح ويقطع التغيّر العمود ويكون ما يليه إلى غير الجهة دون الكرّ ، ولا ريب في نجاسته مع المتغيّر لملاقاته له وقبوله التأثير به من حيث القلّة. وحكم ما قبل المتغيّر كالتي قبلها.

الرابعة : أن تختلف السطوح ولا ينقطع العمود والحكم كما في الصورة الاولى.

الخامسة : الصورة بحالها ولكن انقطع العمود وكان ما بعده بالغا قدر الكرّ. والكلام فيها مبنيّ على الخلاف المتقدّم في اشتراط استواء سطوح مقدار الكرّ من الواقف وعدمه. فعلى الاشتراط ينجس ما تحت المتغيّر ، وعلى عدمه يختصّ الحكم بالمتغيّر. وأمّا ما فوقه فهو طاهر قطعا وإن اعتبرنا الكرّيّة في الجاري وكان أقلّ من الكرّ ؛ لأنّه أعلى من النجس ، فلا يؤثّر فيه.

السادسة : أن يختلف وينقطع وينقص ما تحته عن الكرّ. ولا إشكال في نجاسة ما تحت المتغيّر كما لا إشكال في طهارة ما فوقه.

مسألة [4] :
اشارة

قد عرفت - بما حقّقناه - إنّ قليل الجاري وكثيره سواء في عدم التنجيس بدون التغيّر ، فحيث يحكم بنجاسته يتوقّف طهره على زوال تغيّره ، وتدافع المادّة ، وتكاثرها عليه حتّى يستهلكه بناء على اشتراط الامتزاج في تطهير الماء ، كما اخترناه سابقا.

وأمّا على القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال فظاهر البعض توقّفه على ذلك أيضا - بناء على ذلك أيضا - نظرا إلى أنّ الاتّصال الذي يكتفى به في التطهير هو الحاصل بطريق العلوّ على النجس أو المساواة له وليس ذلك بمتحقّق

ص: 304

في المادّة لأنّها باعتبار خروجها من الأرض [ لا تكون ] إلّا أسفل منه. وصرّح جمع من المتأخّرين بحصول الطهارة بمجرّد زوال التغيّر ، وعلّلوه بوجود المادّة.

والتحقيق : أنّه إن كان للمادّة نوع علوّ على الماء النجس أو مساواة فالمتّجه الحكم بالطهارة عند زوال التغيّر بناء على الاكتفاء بالاتّصال. وإلّا فاشتراط التكاثر والتدافع متعيّن. هذا حكمه باعتبار تطهيره بنفسه.

فأمّا تطهيره بغيره فالحكم فيه كما في الواقف. وقد مرّ تحقيق طرقه فليلحظ من هناك.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

حكم ماء البئر على القول [ بعدم ] انفعاله بالملاقاة - كما هو المختار - حكم الجاري ؛ فإنّه بعض أفراده ، فيطهر مع التغيّر ، بتكاثر مادّته وتدافعها حتّى يستهلك التغيّر ، كما في غيره من أقسام الجاري.

وظاهر بعض الأصحاب توقّف طهارته على النزح مع القول بعدم الانفعال بالملاقاة.

ولعلّ وجهه : إنّ التدافع والتكاثر لا يحصلان إلّا مع النزح ولهذا قالوا : إنّ السرّ في النزح كونه بمنزلة إجراء الماء ليزول عنه الأثر الحاصل بالنجاسة.

[ الفرع ] الثاني :

قال في التذكرة : لو نبع الماء من تحت الواقف النجس لم يطهّره وإن أزال التغيّر (1).

ص: 305


1- تذكرة الفقهاء 1 : 21.

وهذا الحكم على ظاهره مشكل ؛ لأنّ المقتضي لعدم تطهيره له إمّا كون النجس على حال الاتّصال أو نقصان النابع عن مقدار الكرّ. وكلاهما منظور فيه.

أمّا الأوّل : فلوجود مثله في الجاري ، وقد حكم بطهارته مع التكاثر وإزالة التغيّر. والفرق بين الموضعين ليس بواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا وجه لتخصيص الحكم بالنابع من تحت ؛ لأنّه جار في مطلق النابع الناقص عن الكرّ ، فإنّ الأجزاء الواقعة منه على النجس المختلطة به [ تنفعل ] بذلك عنده. فأيّ نكتة في التخصيص بما ذكره؟

والحقّ : أنّ النابع في هذه الصورة لا ينفعل.

وأمّا الواقف فإن استهلكه النابع بأن كثر تدافعه عليه واستعلاؤه له طهر أيضا ، وإلّا فلا.

وقد حكى المحقّق في المعتبر عن الشيخ أنّه لم يفرّق في المبسوط في تطهير الواقف القليل بين كون المطهّر نابعا من تحته أو يجري إليه أو يقلب فيه (1). وأنّه قال في الخلاف : لا يطهر إلّا أن يرد عليه كرّ من ماء (2).

ثمّ قال المحقّق : وهذا أشبه بالمذهب لأنّ النابع ينجس بملاقاة النجاسة. وإن أراد بالنابع ما يوصل به من تحته - لا أن يكون نبعا من الأرض - فهو صواب (3).

وتبعه على هذا في المنتهى فحكى كلام الشيخ في الكتابين ثمّ قال : وإن أراد بالنابع ما يكون نبعا من الأرض ففيه إشكال من حيث إنّه ينجس بالملاقاة

ص: 306


1- المعتبر 1 : 51.
2- الخلاف 1 : 194.
3- المعتبر 1 : 51.

فلا يكون مطهّرا. وإن أراد به ما يوصل به من تحته فهو حقّ (1).

وهذا الكلام يؤذن بأن النظر في كلام التذكرة (2) إلى الوجه الثاني لا الأوّل.

وربّما يستغرب هاهنا كلام المحقّق لمخالفته بحسب الظاهر لما هو المعهود منه في حكم الجاري ؛ فإنّه لا يقول بانفعاله بالملاقاة ، ويرى أنّ كلام العلّامة جار على رأيه في الجاري ، مشيا على ظاهر الحال من عدم بلوغ النابع في الفرض المذكور مقدار الكرّ ، وإلّا لكان من قبيل التطهير بالكرّ على جهة القلب فيه.

أقول : والتحقيق عندي أنّ الأمر بالعكس ، فإنّ في كلام الشيخ رحمه اللّه إشعارا بأنّ المراد بالنابع في الفرض الذي ذكره هو البئر ؛ لأنّه قال في الخلاف : إذا نقص الماء عن الكرّ وحصل فيه نجاسة فإنّه ينجس وإن لم يتغيّر أحد أوصافه ، ولا يحكم بطهارته إلّا إذا ورد عليه كرّ من ماء فصاعدا.

وقال الشافعي : « يطهر بشيئين : أحدهما أن يرد عليه ماء طاهر يتمّ به قلّتين ، أو ينبع فيه ما يتمّ به قلّتين ».

ثمّ قال الشيخ : دليلنا ما ذكرناه في المسألة الاولى. وأشار بذلك إلى ما ذكره في مسألة تطهير الكثير المتغيّر حيث قال : إنّ الطريق إلى تطهيره أن يورد عليه من الماء الطاهر كرّ فصاعدا ، ويزول عند ذلك تغيّره وأنّه لا يطهر بشي ء سواه.

وحكى أنّ للشافعي في طريق تطهيره وجوها : منها أن ينبع من الأرض ما يزول معه تغيّره.

ثمّ قال : دليلنا إنّ الماء معلوم نجاسته وليس لنا أن نحكم بطهارته إلّا بدليل ، وليس على الأشياء التي اعتبرها دليل على أنّها تطهر الماء.

ص: 307


1- منتهى المطلب 1 : 65.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 21.

قال : ولا يلزمنا مثل ذلك إذا ورد عليه كرّ من ماء ؛ لأنّ ذلك معلوم أنّه يطهر به ، لأنّه إذا بلغ كرّا فلو وقع فيه عين النجاسة لم ينجس إلّا أن يتغيّر أحد أوصاف الماء ، والماء النجس ليس بأكثر من عين النجاسة. فأمّا نبعه من الأرض فإنّ ذلك يعتبر في الآبار ولها حكم يخصّها. هذا كلامه (1).

ولا يخفى أنّه بعد إرادة البئر من النابع يتّجه كلام المحقّق حيث إنّه يقول بانفعاله بالملاقاة (2) ، ويشكل كلام العلّامة ؛ لأنّه لا يقول به (3).

والتشبّث بجهة اشتراط الكرّيّة إنّما يتوجّه مع ظهور كون المفروض ناقصا عنها وليس بظاهر. وما ذكر من القرينة عليه ضعيف الدلالة.

وقد كان الأولى مع البناء على هذا تفصيل المسألة وترك الإجمال الواقع فيها.

على أنّ له في النهاية كلاما يؤذن بعدم البناء في هذا الحكم على الجهة المذكورة حيث قال : « لو نبع من تحته - يعني القليل النجس - فإن كان على التدريج لم يطهر ، وإلّا طهر (4). وأطلق الحكم بعدم الطهارة بذلك في القواعد والتحرير (5).

وبالجملة : ففرضه في هذا المقام بعيد عن التحرير.

وفي الذكرى : لو نبع الكثير من تحته كالفوّارة فامتزج طهّره لصيرورتهما

ص: 308


1- الخلاف 1 : 194.
2- المعتبر 1 : 54.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 25.
4- نهاية الإحكام 1 : 257.
5- قواعد الأحكام 1 : 186. وتحرير الأحكام 1 : 4.

واحدا. أمّا لو كان ترشّحا لم يطهر لعدم الكثرة الفعليّة (1). وهو ناظر إلى ما ذكرناه من اعتبار الاستهلاك بالتدافع والاستيلاء. وقد أجاد.

[ الفرع ] الثالث :

أطلق العلّامة رحمه اللّه في كتبه طهارة الجاري المتغيّر بتكاثر الماء وتدافعه عليه حتّى يزول تغيّره ، وعلّله في المنتهى والتذكرة بأنّ الجاري لا يقبل النجاسة لجريانه ، والمتغيّر مستهلك فيه فيطهر (2).

وأنت خبير بأنّ هذا لا يتمّ على ما ذهب إليه من انفعال ما دون الكرّ من الجاري بالملاقاة ؛ إذ من البيّن أنّ ما يتجدّد من المادّة بعد استيعاب التغيّر لجميع الماء لا يبلغ مقدار الكرّ ، واللازم من ذلك انفعاله بملاقاة المتغيّر. وهكذا يقال في ما بعده. وهلمّ جرّا.

فلا يتصوّر حصول الطهارة به وإن استهلك المتغيّر ؛ لأنّ الاستهلاك إنّما يحصل بالماء المحكوم بنجاسته لملاقاة المنجّس الأوّل له فلا يثمر تطهيرا فيمتنع حينئذ حصول الطهارة له من نفسه ويتوقّف طهره على مطهّر من خارج.

وكلامه صريح في خلاف ذلك فيمكن أن يجعل هذا من جملة الأدلّة على بطلان تلك الدعوى.

ويظهر من كلامه في حكم تغيّر البئر أنّه يرى تعيّن النزح وإن أمكن إزالة التغيّر بغيره.

وحمله بعض المتأخّرين على أنّه ناظر إلى اشتراط الكرّيّة في عدم انفعاله لكونه من جملة أنواع الجاري الذي يعتبر فيه الكرّيّة فلا تصلح المادّة بمجرّدها

ص: 309


1- ذكرى الشيعة 1 : 9.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 16.

للتطهير حيث يزول التغيّر.

ولا يذهب عليك أنّ حكمه بحصول الطهارة في مثل ذلك في مطلق الجاري الذي هو العنوان في الاشتراط [ يباين ] هذا الحمل وينافيه. ولو نظر إلى ذلك في تطهير حكم البئر لكان مورد الشرط أعني مطلق الجاري أحقّ بهذا النظر.

فإن قلت : يمكن أن ينظر إلى ذلك في تطهير البئر فيقف مع مورد النصّ وهو النزح ويكون ذلك منشأ لعدم النظر إليه في حكم غيره من أقسام الجاري بتقريب حاصله :

إنّ الحكمة في النزح - كما سبق إليه إشارة - هي إخراج ماء البئر من حدّ الواقف إلى كونه جاريا جريانا يزيل عنه التأثّر الحاصل بالنجاسة ، وإذا اقتضى ذلك حصول الطهارة له مع التغيّر فينبغي أن يكون الجريان في غيره مقتضيا لحصولها ، إذ المرجع في هذا إلى أنّ العلّة في الطهارة هي جريان الماء ، فيلزم وجود المعلول حيثما وجدت العلّة ، لا سيّما إذا كان وجودها في غير محلّ الدليل أقوى.

والحال هنا كذلك ؛ فإنّ الجريان الحاصل عن النزح ضعيف بالنظر إلى ما يحصل في مطلق الجاري وحينئذ يكون حكم التغيّر مستندا إلى الدليل النقلي فيختصّ عموم ما دلّ على حصول الانفعال بملاقاة النابع للنجاسة بغير صورة التغيّر.

قلت : ملاحظة التعليل الذي ذكرته وفرض صلاحيّته للتعدية إلى غير محلّه يقتضي في الحقيقة إبطال القول بانفعال الجاري بالملاقاة رأسا لا أنّه يخصّصه بغير صورة التغيّر.

وتحقيق ذلك : إنّ حال التغيّر مشتمل على ملاقاة النجاسة قطعا. وزيادة وصف التغيّر إن لم [ تكن ] مقويّة للنجاسة فليست بمقتضية لضعفها.

ص: 310

وإذا ثبت كون المادّة في هذا الحال صالحة لقهر النجاسة وإزالتها وغير منفعلة بملاقاتها ولا متأثّرة بها فهل هذا إلّا عين الإبطال للقول بالانفعال.

مسألة [5] :
اشارة

ماء الغيث ملحق بالجاري في عدم الانفعال بالملاقاة ما دام نازلا سواء أجرى أم لم يجر.

ذهب إليه أكثر الأصحاب كالفاضلين (1) والشهيدين (2) وغيرهم.

وقال الشيخ في التهذيب : الوجه إنّ ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري لا ينجّسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رايحته (3). وتبعه في ذلك صاحب الجامع (4).

احتجّ الأوّلون بما رواه الصدوق في الصحيح عن هشام بن سالم : « أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن السطح يبال عليه فيصيبه السماء فيكف (5) فيصيب الثوب؟ فقال : لا بأس به. ما أصاب من الماء أكثر منه » (6).

وفي الصحيح عن عليّ بن جعفر : « أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهم السلام عن الرجل يمرّ في ماء المطر وقد صبّ فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلّي فيه

ص: 311


1- منتهى المطلب 1 : 29. والمعتبر 1 : 42.
2- الدروس الشرعيّة 1 : 119. والروضة البهيّة 1 : 258.
3- تهذيب الأحكام 1 : 411.
4- الجامع للشرائع : 20 ، مطبعة سيّد الشهداء.
5- يكفّ أي يقطر.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 7 ، الحديث 4 ، طبعة جماعة المدرّسين.

قبل أن يغسله؟ فقال : لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلّي فيه ولا بأس » (1).

وبما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث : « قلت فيسيل عليّ من ماء المطر أرى فيه التغيّر وأرى فيه آثار القدر فتقطر القطرات عليّ وينتضح علي منه ، والبيت يتوضّأ على سطحه فيكفّ على ثيابنا؟ قال : ما بذا بأس. لا يغسله. كلّ ما يراه ماء المطر فقد طهر » (2).

واحتجّ الشيخ بما رواه في الحسن عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في ميزابين سالا ، أحدهما بول الآخر ماء المطر فاختلطا ، فأصاب ثوب رجل لم يضرّ ذلك » (3).

وفي الصحيح عن عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام : « عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثمّ يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس » (4).

وروى محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لو أنّ ميزابين سالا ، ميزاب ببول وميزاب بماء فاختلطا ثمّ أصابك ، ما كان به بأس » (5).

وعندي في كلتا الحجّتين نظر.

أمّا الاولى : فلأنّ صحيح هشام بن سالم إنّما يدلّ على عدم انفعاله بالملاقاة مع وروده على النجاسة لا مطلقا ، وستعلم أنّ جمعا من الأصحاب ذهبوا

ص: 312


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 8 ، الحديث 7.
2- الكافي 3 : 13 ، الحديث 3.
3- تهذيب الأحكام 1 : 411 ، الحديث 1295.
4- تهذيب الأحكام 1 : 411 ، الحديث 1297.
5- الكافي 3 : 12 ، الحديث 2.

إلى عدم انفعال القليل من الواقف بملاقاة النجاسة إذا ورد عليها مع حكمهم بالانفعال في عكسه.

فليس في الحكم بعدم الانفعال في الصورة المعيّنة التي هي مورد النصّ دلالة على عدم الانفعال مطلقا كما هو المدّعى.

والحاصل أنّ الخبر إنّما دلّ على عدم نجاسة ما يكفّ - أي يقطر - من السطح المنجّس إذا ورد الماء عليه ، وكان أكثر منه وعلى طهارة السطح حينئذ.

وهذا في التحقيق حكم من أحكام الجاري عند بعض الأصحاب وليس بمختصّ به عند آخرين ، والمدّعى مساواته للجاري مطلقا فهو إذن أخصّ من الدعوى.

وصحيح عليّ بن جعفر فيه إشعار بحصول الجريان وإن لم يكن من الميزاب.

والظاهر أنّ ذكر الميزاب في كلام الشيخ ليس على جهة التعيّن بل للمثال.

ورواية الكافي مرسلة ، مع أنّها في الدلالة قريبة من صحيح هشام بن سالم.

وأمّا الحجّة الثانية فلأنّ مقتضاها توقّف لحوق أحكام الجاري مطلقا على الجريان وهو لا ينافي ثبوت بعض أحكامه له وإن لم يجر.

فالحقّ : إنّ إثبات أحكام الجاري له على وجه العموم موقوف على الجريان ، وبدونه يقتصر منها على ما دلّ عليه النصّ الصحيح ، ويرجع فيما سوى ذلك إلى ما يقتضيه القواعد. وتنقيح المسألة حينئذ يتوقّف على ذكر فروع :

[ الفرع ] الأوّل :

إذا انقطع التقاطر صار واقفا وإن كان جاريا ، وذلك ممّا لا خلاف فيه ، وحكمه مع اختلاف السطوح كالواقف فيبنى عدم انفعاله بالملاقاة مع بلوغ مجموعه الكر أو اتّصاله بالكثير على الخلاف في اشتراط المساواة في مقدار الكرّ وعدمه. وقد سبق تحقيق ذلك.

ص: 313

[ الفرع ] الثاني :

إذا أصاب في حال تقاطره منجّسا - كالأرض ونحوها - واستوعب موضع النجاسة وزالت العين إن كانت موجودة طهر وإن لم يبلغ حدّ الجريان ، كما دلّ عليه صحيح هشام بن سالم (1). ولا بدّ من كون الماء الواقع أكثر من النجاسة لجعله في الحديث علّة لحصول الطهارة.

وكون مورد السؤال فيه السطح لا يقتضي اختصاص الحكم به ؛ لأنّ التعليل يدلّ على التعدية إلى كلّ ما يوجد فيه العلّة إذ الحال شاهدة لعدم مدخليّة الخصوصيّة فيها ، وقد بيّنا وجوب التعدية حينئذ.

ولا يحكم بنجاسة ما ينفصل منه عن المحلّ من دون أن تغيّره النجاسة وإن قلنا بنجاسة المنفصل من القليل الواقف عملا بهذا الحديث.

[ الفرع ] الثالث :

إذا وقع على ماء نجس غير متغيّر بدون جريان لم يطهّره على الأصحّ وإن قلنا بالاكتفاء في تطهير الماء بمجرّد الاتّصال ؛ لأنّ ذلك موقوف على تحقّق الكثرة في المطهّر المتّصل.

وقد بيّنا أنّ الدليل هنا لا ينهض بإثبات مطلق أحكام الجاري له بل بعض معيّن منها لا يجدي فيما نحن فيه.

ويعزى إلى بعض المتأخّرين ممّن يرى الاكتفاء بالاتّصال القول بحصول الطهارة حينئذ بوقوع القطرة الواحدة منه.

وهو غلط ؛ لأنّ المقتضي لذلك إمّا كونه في حكم الجاري أو النظر إلى ظاهر الآية حيث دلّت على كونه مطهّرا بقول مطلق ، وكلاهما فاسد.

ص: 314


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 7.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّا وإن تنزّلنا إلى القول بثبوت أحكام الجاري له مطلقا ، إلّا أنّك قد علمت أنّ المقتضي لطهارة الماء بمجرّد الاتّصال على القول به وهو كون الجزء الملاقي للكثير يطهر بملاقاته له ؛ عملا بعموم ما دلّ على كون الماء مطهّرا ، وبعد الحكم بطهارته يتّصل بالجزء الثاني وهو متّفق بالكثير الذي منه طهره فيطهر الجزء الثاني ، وهكذا.

ولا يذهب عليك أنّ هذا التوجيه لا يتوجّه هنا ؛ إذ أقصى ما يقال في القطرة الواقعة أنّها تطهّر ما تلاقيه. ولا ريب أنّ الانقطاع لا ينفكّ عن ملاقاتها وهي بعده في حكم القليل كما علمت فليس للجزء الذي طهر بها مقوّ حينئذ ليستعين به على تطهير ما يليه بل هو معها حين الانقطاع ماء قليل فيعود بها إلى الانفعال بملاقاة النجس.

وأمّا الثاني ؛ فقد مرّ الكلام فيه وبيّنا أنّه ليس له عموم. سلّمنا ولكن صدق التطهير يتوقّف على إصابة المطهّر للمحلّ النجس أو لأكثره. ومن المعلوم أنّ القطرة لا يتحقّق فيها ذلك. والتقريب الذي ذكر للكثير لا يتأتّى فيها ، كما قرّرناه.

نعم لو تكاثر تقاطره بحيث استوعب وجه الماء أو أكثره احتمل طهارته به عند من لم يشترط الجريان ، ولا الامتزاج.

[ الفرع ] الرابع :

إذا جرى في حال التقاطر فلا ريب في ثبوت أحكام الجاري له وتبنى طهارة الماء النجس غير المتغيّر مع اتّصاله به على الخلاف السابق في الاكتفاء بمجرّد الاتّصال أو التوقّف على الامتزاج.

فعلى الأوّل يطهر بوصوله إليه.

وعلى الثاني يتوقّف على التكاثر والتمازج كما مرّ تفصيله.

ص: 315

[ الفرع ] الخامس :

إذا وقع على ماء قليل طاهر فإن كان بطريق الجريان تقوّى به كالجاري فلا ينفعل بالملاقاة حينئذ. وإن كان بمجرّد التقاطر لم يفده تقوّيا ؛ لما بيّناه من عدم دلالة الروايات على ثبوت جميع أحكام الجاري له فيبقى داخلا في عموم قاعدة القليل.

وكذا لو اجتمع منه ما لا يتحقّق معه الجريان فإنّه لا يخرج به عن حكم القليل بالنظر إلى الانفعال بما يرد عليه من النجاسات.

ص: 316

البحث الرابع : في المستعمل
مسألة [1] :
اشارة

اختلف أصحابنا رحمهم اللّه في نجاسة غير المتغيّر من الماء القليل المستعمل في إزالة النجاسة عدا الاستنجاء بعد اتّفاقهم على نجاسته مع التغيّر بها كغيره ممّا قد سلف بيانه.

فذهب الفاضلان (1) وجماعة من المتأخّرين منهم الشهيدان (2) في بعض كتبهما إلى نجاسته وانتصر لهذا القول بعض مشايخنا المعاصرين.

وذهب المرتضى وابن إدريس - فيما حكي عنهما - إلى طهارته إذا ورد على المحلّ النجس (3) ، ونقل عن الشيخ في المبسوط أنّه حكى القول بعدم نجاسته عن بعض الناس ، وقوّاه (4). وظاهر الشهيد في الذكرى ووالدي في

ص: 317


1- منتهى المطلب 1 : 141. والمعتبر 1 : 90.
2- ذكرى الشيعة : 9. وروض الجنان : 159.
3- ذكرى الشيعة : 9.
4- روض الجنان : 159.

شرح الإرشاد الميل إليه (1). وصرّح باختياره الشيخ علي رحمه اللّه في بعض فوائده. ويعزى إلى جماعة من متقدّمي الأصحاب المصير إليه أيضا.

وفصّل الشيخ رحمه اللّه في الخلاف فحكم بنجاسة الاولى من غسالة الثوب دون الثانية ، وبطهارة غسالة الإناء من ولوغ الكلب مطلقا (2).

احتجّ القائلون بالتنجيس مطلقا : بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينجس.

وبما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به عن الجنابة لا يتوضّأ به وأشباهه » (3).

وبما رواه العيص بن القاسم قال : « سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء فقال : إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه » (4).

واحتجّ القائلون بالطهارة مطلقا بأنّه لو نجس مع وروده على النجاسة لامتنع حصول الطهارة به وهو باطل قطعا. ووجه الملازمة ظاهر ؛ فإنّ النجس لا يصلح للتطهير.

واعترض بالمنع من الملازمة ؛ فإنّا لا نحكم بنجاسة الماء إلّا بعد الانفصال عن المحلّ.

وأجيب بأنّ هذا يقتضي انفكاك المعلول عن علّته التامّة ووجوده بدونها ، وهو ظاهر البطلان. وحاصله : أنّه إذا لم ينجس بملاقاة النجاسة التي هي العلّة في الحكم بالتنجيس عندكم فكيف ينجس بعد انفصاله عنها ومفارقته لها؟ هذا.

ص: 318


1- راجع المصدرين السابقين.
2- الخلاف 1 : 179 ، المسألة 135.
3- تهذيب الأحكام 1 : 221 ، الحديث 630 ، مع اختلاف يسير.
4- رواه في وسائل الشيعة 1 : 215 ، نقلا عن ذكرى الشيعة : 9.

وقد اعترض على الوجه الأوّل من حجّة الأوّلين بمنع كلّية المقدمة المطويّة فيه التي هي كبراه أعني قولهم : « كلّ ماء قليل لاقى نجاسة ينجس » فإنّ ادّعاءها مصادرة ؛ إذ هو عين المتنازع.

وأجاب شيخنا المعاصر بأنّ الدليل على كلّيتها هو مفهوم الشرط في خبر « إذا كان الماء قدر كرّ » الحديث. وتعجّب ممّن يحتجّ بهذا المفهوم على انفعال القليل بالملاقاة كيف يمنع الكلّيّة هنا؟!

ثمّ إنّه اعترض على نفسه بأنّ العموم ليس بظاهر في المفهوم.

وأجاب بأنّه لو لا العموم لم يكن على نجاسة القليل بالملاقاة دليل ، ولكان استدلالهم به في غير هذه المسألة منتقضا.

وهذا الكلام ضعيف جدّا ؛ لأنّ المفهوم ليس بعامّ قطعا ؛ إذ الحكم المعلّق على الشرط في المنطوق هو نفي الانفعال بشي ء من النجاسات بطريق العموم - على ما هو شأن النكرة الواقعة في سياق النفي.

والشرط إنّما يقتضي نفي ما حكم به في المنطوق عن غير محلّ النطق. وذلك يصدق في موضع النزاع بإثبات الانفعال للناقص عن الكرّ في الجملة فلا عموم.

وما ذكره من انتفاء دلالته حينئذ على انفعال القليل مطلقا مسلّم وقد أشرنا إليه في أوّل الباب ، وبيّنا أنّ تتميم الاحتجاج به يحتاج إلى ضميمة الإجماع على عدم الفصل إليه ؛ لأنّه يدلّ على ثبوت الانفعال في الجملة.

وقد اتّضح بما ذكرناه فساد الاحتجاج على النجاسة هنا بكونه ماء قليلا لاقى نجاسة ؛ فإنّ عموم انفعال القليل بملاقاة النجاسة إنّما حصل بضميمة الإجماع على عدم الفصل ، وهو لا يتأتّى في محلّ النزاع ونحوه كما هو واضح.

واعترض على الوجه الثاني من حجّة الأوّلين أيضا - أعني رواية عبد اللّه

ص: 319

ابن سنان - بأنّها أعمّ من المدّعى حيث تضمّنت النهي عن الوضوء وهو أعمّ من النجاسة ، ثمّ إنّ عطف الجنابة عليه يؤذن بأنّ المرتفع هو الطهوريّة لا الطهارة.

هذا كلّه على تقدير سلامة سند الرواية وإلّا فهو ضعيف لا يصلح لإثبات حكم شرعيّ.

وبقي الوجه الثالث من حجّتهم وهو التمسّك برواية العيص بن القاسم وسيأتي الكلام عليه.

احتجّ الشيخ في الخلاف على نجاسة الغسلة الاولى في غسل الثوب بأنّه ماء قليل ومعلوم حصول النجاسة فيه فوجب أن يحكم بنجاسته (1). وبما رواه العيص بن القاسم ، وذكر الرواية التي احتجّوا بها للنجاسة مطلقا.

وعلى طهارة الثانية بأنّ الماء على أصل الطهارة ونجاسته يحتاج إلى دليل.

واحتجّ على طهارة غسالة إناء الولوغ مطلقا بأنّ الحكم بنجاسة ذلك يحتاج إلى دليل وليس في الشرع ما يدلّ عليه.

قال : « وأيضا فلو حكمنا بنجاسته لما طهر الإناء أبدا ؛ لأنّه كلّما غسل فما يبقى فيه من النداوة يكون نجسا فإذا طرح فيه ماء آخر نجس أيضا ، وذلك يؤدّي إلى أن لا يطهر أبدا ».

ويرد عليه : أنّ التوجيه الذي ذكره لنجاسة الغسلة الاولى في غسل الثوب على تقدير تمامه يقتضي نجاسة الثانية أيضا ؛ لأنّ المحلّ لم يطهر بعد وإلّا لم يحتجّ إليها. وإذا كان الحكم بنجاسته باقيا فالماء الملاقي له والحال هذه ينجس أيضا لعين ما ذكره في الاولى.

والرواية التي تمسّك بها ليس فيها تقييد بالاولى فإن كانت صالحة

ص: 320


1- الخلاف 1 : 179.

للاحتجاج فهي متناولة للصورتين. وما ذكره من التعليل لطهارة غسالة الإناء جار بعينه في غسالة الثوب كما لا يخفى.

والحقّ أنّه إن كان على النجاسة دليل تعيّن المصير إليها ، ولا ينافيه الحكم بطهارة المحلّ إذ لا معنى للنجس إلّا ما أمر الشارع باجتنابه وإزالة أثره.

وأيّ بعد في أن يوجب الشارع اجتناب ما ينفصل من الغسالة عن الثوب والبدن والإناء ، ولا يوجبه في المتخلّف والباقي منها؟ وإن لم يكن هناك دليل فالأصل يقتضي براءة الذمّة من التكليف بالاجتناب ووجوب الإزالة في الجميع.

فالفروق التي تذكر كلّها ضعيفة لا تنفكّ عن علّة التحكّم (1).

ولو فرض اختصاص الدليل ببعضها لكان هو المقتضي للحكم فيجب التمسّك به فيه وإبقاء ما سواه على حكم الأصل.

إذا عرفت هذا فالتحقيق عندي في هذه المسألة أنّه ليس في النقل ما يمكن استفادة الحكم بالنجاسة فيها منه إلّا رواية العيص بن القاسم ، وقد احتجّ بها الشيخ في الخلاف - كما رأيت - لنجاسة الغسلة الاولى مع أنّه لا تقييد فيها ، ولذلك احتجّ غيره بها على النجاسة في الكلّ ، ولكنّي لم أقف عليها مسندة ؛ إذ لم أرها في كتب الحديث الموجودة الآن بعد التتبّع والاستقراء بقدر المجال ، وإنّما أوردها الشيخ في الخلاف وبعده المحقّق في المعتبر ، ثمّ العلّامة في المنتهى مرسلة عن العيص (2). ولعلّ الشيخ أخذها من كتاب العيص حيث ذكر في الفهرست أنّ له كتابا (3).

ص: 321


1- في « ج » : كلّها ضعيفة لا تنفه عن علّة الحكم.
2- المعتبر 1 : 90. ومنتهى المطلب 1 : 142.
3- الفهرست : 121 ، الرقم 536 ، منشورات الشريف الرضي.

وقال في التهذيب والاستبصار أنّه إذا ترك فيها بعض إسناد حديث يبدأ في المذكور منه باسم الرجل الذي أخذ الحديث من كتابه ، فعسى أن يكون نقله لها في الخلاف جاريا على تلك القاعدة. وطريقه في الفهرست إلى الكتاب المذكور حسن فيقرب أمر سندها. ويبقى الكلام في دلالتها.

والذي أراه أنّها محتملة في النجاسة لا ظاهرة ؛ لأنّ فيها إجمالا.

وذكر المحقّق في المعتبر بعد احتجاجه بها أنّ فيها ضعفا (1) ، وحينئذ فالخروج عن الأصل والتزام الفرق بين المتّصل والمنفصل - مع ما فيه من المخالفة للاعتبار المقرّر في حجّة الطهارة - من دون دليل واضح لا [ يخرج ] عن ربقة المجازفة ، غير أنّ في القول بالتنجيس احتياطا للدين غالبا.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

إنّما يحكم بالتنجيس - على القول به - إذا كان ورود الماء في حال نجاسة المحلّ شرعا. فما يرد بعد الحكم بطهارته طاهر وإن بقي في المحلّ نداوة من أثر الغسل. وهذا هو الظاهر من عبارات الأصحاب القائلين بالتنجيس.

وربّما نسب إلى بعضهم القول بالنجاسة إذا ورد على المحلّ الطاهر وكان باقيا على رطوبته الحاصلة من غسله نجسا وإن تكرّر ذلك لا إلى نهاية ؛ محتجّا بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة.

وقرّب بأنّ طهارة المنجّس بالقليل على خلاف الأصل المقرّر من نجاسة القليل بالملاقاة فيقتصر فيه على موضع الحاجة وهو المحلّ دون الماء.

وفساد هذا الكلام أظهر من أن يبيّن.

ص: 322


1- المعتبر 1 : 90.

ويحكى عن بعض المتأخّرين أنّه نسب هذا القول إلى الفاضلين ، وهو عجيب ؛ إذ ليس في كلامهما ما يحتمل ذلك منه ، وكيف يظنّ مثله لفاضل. وبالجملة فهذا القول بالإعراض عنه حقيق.

[ الفرع ] الثاني :

إذا قلنا بالتنجيس فالأظهر عدم إلحاق نجاسة الماء بنجاسة المحلّ في الحكم بل يكفي في التطهير من أثره الغسل مرّة واحدة مطلقا. وبه صرّح بعض مشايخنا المعاصرين.

ويذكر للأصحاب في ذلك خلاف وإنّ منهم من جعل حكمه حكم المغسول به ، فإن كان ممّا يجب له أيضا كمال التعدّد وجب فيه أيضا كمال العدد.

ومنهم من جعله كالمحلّ قبل الغسلة التي هو من مائها ، فإن كان من الاولى فتمام العدد ، وإن كان من الثانية فيما له ثنتان فواحدة ، وهكذا.

وهذا القول ذهب إليه الشهيد في بعض كتبه (1) وتبعه عليه جماعة من المتأخّرين.

وكلا القولين عندي ضعيف ؛ لعدم الدليل على شي ء منهما.

[ الفرع ] الثالث :

ادّعى المحقّق في المعتبر(2) والعلّامة في المنتهى(3) الإجماع على أنّ هذا الماء - وإن قيل بطهارته - لا يرتفع به الحدث ، وكذا غيره ممّا تزال به النجاسة.

واحتجّا لذلك مع الإجماع برواية عبد اللّه بن سنان السابقة في حجّة

ص: 323


1- ذكرى الشيعة : 9.
2- المعتبر 1 : 86.
3- منتهى المطلب 1 : 142.

القائلين بالتنجيس.

وظاهر كلام الشهيد في الدروس أنّ بجواز رفع الحدث به قائلا (1) حيث عدّ في الأقوال - عند حكاية الخلاف فيه - القول بأنّه كرافع الأكبر ، والقول بطهارته إذا ورد على النجاسة وجعلهما قولين. ولا معدل عن الإجماع بعد نقل المحقّق له.

[ الفرع ] الرابع :

قال العلّامة في المنتهى إذا غسل الثوب من البول في إجّانة - بأن يصبّ عليه الماء - فسد الماء وخرج من الثانية طاهرا اتّحدت الآنية أو تعدّدت (2).

واحتجّ لطهارة الثوب حينئذ بوجهين :

أحدهما : أنّه قد حصل الامتثال بغسله مرّتين فيكون طاهرا ، وإلّا لم يدلّ الأمر على الإجزاء.

الثاني : ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المركن (3) مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (4).

وقد يستشكل حكمه بطهارة الثوب مع الحكم بفساد الماء المجتمع تحته في الإجّانة لا سيّما بعد ملاحظة ما تقدّم في الاعتراض على حجّة القائلين بالطهارة من أنّ الماء إنّما ينجس بانفصاله عن المحلّ المغسول ، فإنّ هذا الكلام

ص: 324


1- الدروس الشرعيّة 1 : 122.
2- منتهى المطلب 1 : 146 ، الإجّانة : إناء تغسل فيه الثياب. المنجد.
3- المركن : الإجّانة ونحوها لغسل الثياب وسوى ذلك. المنجد.
4- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 717.

أوّل من ذكره فيما رأينا ونقله الأصحاب العلّامة في المختلف (1) ، ومن المعلوم أنّ الماء هنا - بعد انفصاله من الثوب المغسول - يلاقيه في الإناء. واللازم ممّا ذكر تنجيسه له.

ويحلّ هذا الإشكال بأنّ المراد بالانفصال خروجه عن الثوب أو الإناء المغسول فيه ويتمسّك في تنزيل الاتّصال (2) الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول بالحديث الذي ذكره.

ولا يخفى عليك أنّ هذا التكلّف إنّما يحسن ارتكابه مع قيام الدليل الواضح على نجاسة الغسالة وإلّا فظاهر الرواية يدلّ على عدم النجاسة ، ويؤيّد القول به.

وينبغي أن يعلم أنّ في طريق هذه الرواية السندي ابن محمّد ولم أر توثيقه إلّا للنجاشي (3) ، وبعده العلّامة في الخلاصة (4). وقد بيّنا الحال في مثله مرارا.

[ الفرع ] الخامس :

قد عرفت أنّ محلّ الخلاف بين الأصحاب هنا إنّما هو الماء الذي لم يتغيّر بالنجاسة عند الاستعمال ، فلو تغيّر بها نجس اتّفاقا. والمعتبر من التغيّر هو الحاصل في أحد أوصافه الثلاثة كغيره.

واستقرب العلّامة في النهاية إجراء زيادة الوزن فيه مجرى التغيّر (5) ، فلو غسلت به النجاسة فازداد وزنه فكالمتغيّر وهو بعيد ، ولا نعلم له فيه موافقا.

ص: 325


1- مختلف الشيعة 1 : 237.
2- في « أ » : ويتمسّك في تنزيل الايصال الحاصل.
3- رجال النجاشي : 187 ، الرقم 497 ، طبعة جماعة المدرسين.
4- خلاصة الأقوال : 82.
5- نهاية الإحكام 1 : 244.

وعلى كلّ حال فنحن نطالبه بالدليل عليه.

مسألة [2] :
اشارة

لا نعرف خلافا بين الأصحاب في العفو عن ماء الاستنجاء إذا لم تغيّره النجاسة فلا يجب غسل ما يصيبه من ثوب أو غيره.

نعم ذكر المحقّق في المعتبر أنّ مذهب الشيخين طهارته ، وأنّ كلام علم الهدى ليس بصريح في الطهارة حيث قال في المصباح : لا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن (1). ولكنّه صريح في العفو.

وأجمل المحقّق كلامه في ذلك فهو محتمل للقولين. وربّما كان احتمال القول بالطهارة فيه أظهر. وقد كثر في كلام المتأخّرين نسبة القول بالعفو إليه ولا وجه له.

والعجب أنّ الشهيد في الذكرى حكى عنه أنّه قال : ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وإنّما هو بالعفو. ثمّ قال الشهيد : ولعلّه أقرب لتيقّن البراءة بغيره (2).

وهذه الحكاية وهم ظاهر ؛ فإنّ المحقّق حكى عن الشيخين صريحا القول بالطهارة. وإنّما ذكر هذا الكلام عند نقله لعبارة علم الهدى كما ذكرناه عنه.

ولا يخفى أنّ ثمرة هذا الخلاف إنّما تظهر في استعماله ثانيا في إزالة الخبث أو في (3) التناول ؛ فإنّ رفع الحدث به وبأمثاله ، وقد سبق نقل الإجماع على

ص: 326


1- المعتبر 1 : 91.
2- ذكرى الشيعة : 9.
3- في « ب » : في إزالة الخبث لا في التناول.

منعه. والكلّ متّفقون على أنّه لا ينجس ما يلاقيه ولا يجب غسل ما يصيب الثوب والبدن وغيرهما منه وذلك في الحقيقة ثمرة هيّنة فالمهمّ إنّما هو إثبات أصل الحكم.

والدليل عليه الأصل ؛ فإنّ وجوب التحرّز عنه تكليف والأصل يقتضي براءة الذمّة منه.

وما رواه المشايخ : الكليني والصدوق والطوسي في الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب عن محمّد بن النعمان الأحول في الحسن قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام أخرج من الخلا فأستنجي بالماء فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به؟ فقال : لا بأس به » (1).

وزاد في متن من لا يحضره الفقيه : « ليس عليك شي ء » (2).

وما رواه الشيخ عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به (3) أينجّس ذلك ثوبه؟

فقال : لا » (4).

وعن محمّد بن النعمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قلت له أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه وأنا جنب فقال عليه السلام : لا بأس به » (5).

وطريق هاتين الروايتين جيّد لكنّه لا يبلغ عندي حدّ الصحيح.

ص: 327


1- تهذيب الأحكام 1 : 85 ، الحديث 223. الكافي 3 : 1. الحديث 5.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 162.
3- في « أ » و « ب » : الذي يستنجي به.
4- تهذيب الأحكام 1 : 86 ، الحديث 228.
5- تهذيب الأحكام 1 : 86 ، الحديث 227.

وكيف كان فانضمام هذه الأخبار إلى الأصل مع ملاحظة عدم العموم في المفهوم الدالّ على نجاسة القليل مضافا إلى عدم ظهور مخالف في ذلك من الأصحاب زيادة عن قدر الحاجة في هذا المقام.

وممّا قرّرناه يظهر ضعف القول بالعفو ، وأنّ المتّجه كونه طاهرا. وسيأتي في البحث عن المستعمل في رفع الحدث ما إذا عطف إلى هنا يصلح دليلا على مساواة هذا الماء لغيره في جواز الاستعمال ثانيا إلّا في رفع الحدث ، لما علم من نقل الإجماع على المنع منه.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

لا فرق في هذا الحكم بين المخرجين ؛ لصدق الاستنجاء في كلّ منهما ، ولا بين تعدّي النجاسة المخرج وعدمه ، إلّا أن يتفاحش بحيث يخرج به عن مسمّى الاستنجاء ، ولا بين سبق الماء اليد (1) وسبقها إيّاه.

ويعزى إلى بعض الأصحاب اشتراط سبقه وهو ضعيف ؛ لأنّ وصول النجاسة إليها لازم على كلّ حال. هذا إذا كان اتّصال النجاسة بها من حيث جعلها آلة للغسل ، فلو اتّفق غرض آخر (2) كان في معنى النجاسة الخارجيّة.

[ الفرع ] الثاني :

لو لاقى الماء نجاسة خارجة عن المخرج كالملقى على الأرض أو عن حقيقة أحد الحدثين كالدم المستصحب لأحدهما زالت الخصوصيّة وصار كغيره.

ص: 328


1- في « ب » : ولا بين سبق الماء إليه وسبقها إيّاه.
2- في « أ » و « ب » : فلو اتّفق لغرض آخر.

وكذا لو كان الخارج من أحد المخرجين غير الحدثين من النجاسات لعدم صدق الاستنجاء معه.

ولو انفصل مع الماء أجزاء من النجاسة المتميّزة فكالخارجيّة (1) إن لاقته بعد مفارقتها المحلّ.

صرّح بذلك كلّه جمع من الأصحاب. وربّما كان للنظر في بعضه مجال.

[ الفرع ] الثالث :

قال الشهيد في الذكرى : إذا زاد وزنه - يعني ماء الاستنجاء - اجتنب (2).

وهذا الكلام يضاهي قول العلّامة الذي حكيناه عن نهايته في مطلق الغسالة (3).

وظاهر هذه العبارة : أنّ زيادة الوزن سبب لوجوب الاجتناب عنده. وقد حكى عنه جماعة من المتأخّرين : أنّه جعل عدم زيادة الوزن شرطا للعفو عنه.

والظاهر أنّ بين الحكمين فرقا ؛ فإنّ ظاهر الأوّل توقّف الحكم بالاجتناب على العلم بزيادة الوزن وبدونه يكون معفوّا عنه. ولعلّه لا يرى وجوب التفحّص عن حصول السبب فيحكم بالعفو عنه إلى أن يعلم وجوده.

ومقتضى الثاني توقّف الحكم بالعفو على انتفاء الزيادة. ولازم ذلك : الحكم بالاجتناب حتّى يعلم وجود الشرط أعني عدم الزيادة. وهذا المعنى لا يليق أن ينسب القول به إلى مثله ؛ إذ من البيّن أنّ الحكمة في العفو عن هذا الماء

ص: 329


1- في « أ » و « ب » : أجزاء من النجاسة متميّزة فكالخارجة.
2- ذكرى الشيعة : 9.
3- نهاية الإحكام 1 : 244.

هي دفع العسر (1) والمشقّة الحاصلين من التكليف بالتحرّز عنه ، ولا شكّ أنّ التكليف بملاحظة الوزن أشدّ مشقّة وأكثر كلفة ، وذلك مع التزام وزنه قبل الاستعمال وبعده. ومع عدمه لا سبيل إلى العلم بحصول الشرط غالبا فينتفي العفو في الأغلب ، وذلك مناف لمقتضى الحكمة. وبالجملة فبطلان هذا الاحتمال في غاية الظهور.

وحيث إنّ عبارته ليست بظاهرة فيه فينبغي أن تحمل على إرادة المعنى الأوّل ؛ فإنّ له في الجملة وجه صحّة لكنّه ضعيف أيضا لعدم الدليل عليه كما أشرنا إليه في نظيره من كلام العلّامة.

مسألة [3] :

الماء القليل المستعمل في رفع الحدث الأصغر طاهر مطهّر.

لا نعلم في ذلك خلافا لأحد من الأصحاب. وحكى العلّامة في المنتهى إجماعهم عليه (2). وقال المحقّق في المعتبر : أنّه مذهب فقهائنا وأنّه لم يعلم فيه خلافا (3).

والدليل على طهارته الأصل ؛ فإنّ الحكم بالتنجيس يتضمّن التكليف المخالف لأصالة البراءة كما هو ظاهر.

وعلى كونه مطهّرا أنّ الاستعمال لا يخرجه عن الإطلاق قطعا فيدخل في عموم الأدلّة الدالّة على استعمال الماء المطلق في إزالة الخبث ورفع الحدث.

ص: 330


1- في « ب » : أنّ الحكمة في العفو عن هذا الماء في رفع العسر.
2- منتهى المطلب 1 : 128.
3- المعتبر 1 : 85.

ويؤيّد ذلك ما رواه الشيخ عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل ، إلى أن قال : وأمّا الذي يتوضّأ الرجل فيغسل به وجهه ويده في شي ء نظيف فلا بأس أن يأخذه غيره ويتوضّأ به » (1).

وعن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال : « كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا توضّأ أخذ ما يسقط من وضوئه فيتوضون به » (2).

مسألة [4] :
اشارة

والمستعمل في رفع الأكبر طاهر أيضا ، وعليه إجماع الأصحاب حكاه المحقّق والعلّامة (3).

واحتجّوا له مع ذلك بأنّ التنجيس مستفاد من دلالة الشرع ، وحيث لا دلالة فلا تنجيس ، وهو واضح.

وفي جواز رفع الحدث به ثانيا خلاف بينهم.

فذهب إليه المرتضى وأبو المكارم ابن زهرة وكثير من المتأخّرين كالفاضلين والشهيدين (4).

ونفاه الصدوقان والشيخان (5). ونسبه في الخلاف إلى أكثر أصحابنا (6) ،

ص: 331


1- تهذيب الأحكام 1 : 221 ، الحديث 630.
2- تهذيب الأحكام 1 : 221 ، الحديث 631.
3- المعتبر 1 : 86. ومنتهى المطلب 1 : 133 و 134.
4- البيان : 102 ، وروض الجنان :.
5- منتهى المطلب 1 : 133. والخلاف 1 : 5. والمقنعة : 9.
6- في « ب » : أكثر الأصحاب.

واستوجهه المحقّق في المعتبر للتّفصي عن الاختلاف والأخذ بالاحتياط (1). وصرّح في بعض تصانيفه (2) باختيار الأوّل وهو الأقرب.

لنا نظير ما ذكر في رافع الأصغر ؛ فإنّ الاستعمال إذا لم يخرجه عن الإطلاق تناولته العمومات كقوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) ، وذلك لأنّه علّق تسويغ التيمّم على عدم وجدان الماء فينتفي مع وجوده وهو صادق على المتنازع فيه ، فيدخل تحت العموم. وهكذا يقال في غير هذه الآية من أدلّة استعمال الماء.

ويؤيّد ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنفع أيغتسل منه للجنابة أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدّا للوضوء وهو متفرّق كيف يصنع وهو يتخوّف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال : « إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء إلى أن قال : فإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه فإنّ ذلك يجزيه ».

حجّة القول الآخر وجهان :

الأوّل : الأخبار الكثيرة كرواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضّأ به

ص: 332


1- في « أ » و « ب » : من الاختلاف. راجع المعتبر 1 :1. 88.
2- الاستبصار 1 : 28 ، الحديث 73.

وأشباهه » (1).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام قال : « سألته عن ماء الحمّام فقال : ادخله بإزار ولا تغتسل من ماء آخر إلّا أن يكون فيه جنب أو يكثر أهله فلا تدري فيهم جنب أم لا » (2).

ورواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل ، قال : « سألته أو سأله غيري عن الحمّام؟ قال : ادخله بمئزر وغضّ بصرك ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (3).

الثاني : أنّه ماء لا يقطع بجواز استعماله في الطهارة فلا يتيقّن معه رفع الحدث والأصل يقتضي بقاءه حيث يقع الشكّ في الرفع فيبقى في العهدة.

والجواب عن الأوّل : أنّ الروايات كلّها لا تخلو من ضعف في السند أو قصور في الدلالة.

فالرواية الاولى والأخيرة ضعيفتا السند. والوسطى وإن صحّ سندها لكنّها ليست بواضحة الدلالة ؛ لتضمّنها عدم استعمال ماء الحمّام إذا كثر الناس فيه ولم يعلم هل فيهم جنب أو لا.

والاتّفاق واقع على أنّ الشكّ في حصول المقتضي غير موجب للمنع فتكون الرواية مصروفة عن الظاهر مرادا بها مرجوحيّة الاستعمال حينئذ. ولا ريب فيه ؛ فإنّ استعمال غير المستعمل أولى وأرجح.

ص: 333


1- تهذيب الأحكام 1 : 221 ، الحديث 630.
2- تهذيب الأحكام 1 : 379 ، الحديث 1175.
3- تهذيب الأحكام 1 : 373 ، الحديث 1144.

ولئن قيل : إذا دعت الضرورة إلى الخروج عن الظاهر في صورة الشكّ فلم خرجتم عنه في صورة العلم بوجود الجنب وقد تضمّنت الرواية الأمرين فيراد منها الحقيقة والمجاز بالاعتبارين.

لقلنا : إنّ التعلّق بمثل هذا التكلّف إنّما يتوجّه لو كانت الرواية ظاهرة في المدّعى من غير هذا الوجه ، والأمر على خلاف ذلك.

أمّا أوّلا فلأنّ عدم الاغتسال من ماء الحمّام مع مباشرة الجنب له إنّما أفاده فيها استثناؤه عن النهي عن الاغتسال بماء آخر وهو أعم من الأمر به ؛ إذ يكفي في رفع النهي الإباحة.

وأمّا ثانيا فلأنّ الاغتسال فيها مطلق بحيث يصلح لإرادة رفع الحدث وإزالة الخبث. وستعلم أنّ المانعين من رفع الحدث به قائلون بجواز استعماله في إزالة الخبث فلا بدّ من التأويل بالنظر إليه فيضعف الدلالة ويشكل الخروج عن ظواهر العمومات بمجرّد ذلك.

هذا كلّه على تقدير كون المراد من ماء الحمّام فيها ما لا مادّة له وليس ببالغ حدّ الكثير ، على ما فهمه الشيخ وجعله وجها للجمع بينهما وبين ما دلّ على عدم انفعال ماء الحمّام بقول مطلق (1) ، ومن جملته :

صحيحة محمّد بن مسلم : قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره ، أغتسل من مائه؟ قال : نعم لا بأس أن يغتسل منه الجنب ».

الحديث (2).

ولا يخفى عليك أنّ الماء وقع في هذه الرواية مطلقا واريد منه مع ذلك

ص: 334


1- النهاية ونكتها 1 : 203.
2- تهذيب الأحكام 1 : 378 ، الحديث 1172.

ما يكون له مادّة فلا يبعد إرادة مثله من الرواية الاخرى أيضا ؛ لأنّ صورة اللفظ فيهما واحدة.

ووجه الجمع حينئذ يعلم ممّا قرّرناه.

وعلى هذا ينتفي وجه الاستدلال بها في محلّ النزاع رأسا.

وعن الثاني أنّ الأدلّة الدالّة على جواز استعمال الماء المطلق متناولة لموضع النزاع - كما قلناه - فلا معنى للشكّ في حصول الرفع به. كيف! وهو مدلول الظواهر التي يجب العمل بها. فإن كان المراد بالقطع بجواز الاستعمال ما يحصل عن مثلها فانتفاؤه ممنوع. وإن اريد غيره فاعتباره مردود.

وبالجملة فلا بأس بالاحتياط بالمنع غالبا. وإن كان الجواز أقرب إلى التحقيق.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

موضع الخلاف هنا هو الماء الذي يغتسل به المحدث الخالي بدنه عن نجاسة خبثيّة.

فلو كان البدن متنجّسا كان حكم الماء المتساقط عن المحلّ النجس منه حكم المستعمل في إزالة الخبث.

ولعلّ الأخبار الواردة بالنهي عن استعمال ما يغتسل به الجنب ناظرة إلى ما هو الغالب من عدم انفكاكه من بقايا آثار المنيّ. وقد سبق في البحث عن اغتساله في البئر ما يرشد إلى ذلك أيضا.

[ الفرع ] الثاني :

حكى العلّامة رحمه اللّه في المنتهى ، وولده فخر المحقّقين في شرحه إجماع الأصحاب على جواز إزالة النجاسة بالمستعمل في رفع الحدث الأكبر ، إلّا أنّه في المنتهى اقتصر على المستعمل في غسل الجنابة. وكأنّه على سبيل التمثيل

ص: 335

لا الحصر (1).

واحتجّ له مع ذلك في المنتهى بأنّ الإطلاق موجود فيه والمنع من رفع الحدث به عند بعض الأصحاب لا يوجب المنع من إزالة النجاسة ، لأنّهم إنّما قالوا به هناك لعلّة لم توجد في إزالة الخبث. فإن صحّة تلك العلّة ظهر الفرق وبطل الإلحاق ، وإلّا حكموا بالتساوي في البابين ، كما قلناه ، وهو حسن.

وقد أنكر بعض المتأخّرين على دعوى فخر المحقّقين الإجماع هنا ، مستندا إلى أنّ الشهيد في الذكرى حكى في ذلك خلافا (2). وليس بشي ء.

أمّا أوّلا : فلأنّ الشهيد لم يذكر أنّ المخالف منّا ، وإنّما حكى عن الشيخ والمحقّق تجويز إزالة النجاسة به لطهارته ، وبقاء قوّة إزالة الخبث وإن ذهبت قوّة رفعه للحدث. ثمّ قال : وقيل : لا ؛ لأنّ قوّته استوفيت فالحق بالمضاف ».

وكلامه هذا ليس فيه تصريح بأنّ القائل من الأصحاب.

وقد حكى العلّامة في التذكرة عن الشافعي في أحد قوليه عدم جواز إزالة النجاسة به (3). فيحتمل أن يكون هو المقصود بصيغة التمريض. ومع قيام الاحتمال ، كيف يتوجّه الإنكار على دعوى إجماع الأصحاب؟

وأمّا ثانيا فلأنّا وإن سلّمنا كون القائل من الأصحاب ؛ نظرا إلى أنّ المعروف في حكاية أقوال العامّة التصريح لا الإبهام ، لكن يحتمل أن يكون هذا القائل متأخّرا عن مدّعي الإجماع ؛ إذ حكاية الخلاف متأخّرة وليس فيها إشعار بتقدّمه ، فلا مساغ للإنكار بمجرّدها.

ص: 336


1- منتهى المطلب 1 : 138.
2- ذكرى الشيعة : 12.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 34.
[ الفرع ] الثالث :

المستعمل في الأغسال المندوبة باق على تطهيره كالمستعمل في رفع الحدث الأصغر لأنّ الاستعمال لم يسلبه الإطلاق ، فيجب بقاؤه على التطهير ؛ لتناول العموم له ، ولا نعرف في ذلك خلافا لأحد من الأصحاب.

ونفى الشيخ الخلاف فيه بينهم في الخلاف (1).

واحتمل الشهيد في الذكرى إلحاق مستعمل الصبيّ بها بناء على عدم ارتفاع حدثه ، ولهذا يجب عليه الغسل عند بلوغه (2).

[ الفرع ] الرابع :

إذا وجب الغسل من حدث مشكوك فيه كواجد المنيّ في ثوبه المختصّ به ، والمتيقّن للجنابة والغسل ، الشاكّ في السابق ، وكالناسية للوقت أو العدد في الحيض ، فهل يصير الماء به مستعملا أو لا؟

استشكل العلّامة ذلك في النهاية والمنتهى من حيث إنّه في الأصل مطهّر ، ولم يعلم وجود ما يزيل ذلك عنه ؛ إذ الحدث غير معلوم. ومن النظر إلى أنّه قد اغتسل به من الحدث وذلك أمر معلوم وإن لم يكن الحدث نفسه معلوما وأنّه أزال مانعا من الصلاة فانتقل المنع إليه كالمتيقّن (3).

والظاهر رجحان الاحتمال الأوّل بعد فرض وجوب الغسل.

[ الفرع ] الخامس :

قال الشهيد في الذكرى : يصير الماء مستعملا بانفصاله عن البدن. فلو نوى

ص: 337


1- الخلاف 1 : 172.
2- ذكرى الشيعة : 12.
3- منتهى المطلب 1 : 140. ونهاية الإحكام 1 : 243.

المرتمس في القليل بعد تمام الارتماس ارتفع حدثه وصار مستعملا بالنسبة إلى غيره وإن لم يخرج (1).

وقد يستشكل حكمه بصيرورته مستعملا بالنسبة إلى غيره قبل الخروج بعد قوله : إنّ الاستعمال متحقّق (2) بانفصاله عن البدن ، إذ مقتضاه توقّف صيرورته مستعملا حينئذ على خروجه أو انتقاله تحت الماء إلى محلّ آخر غير ما ارتمس فيه.

وكأنّه : إنّما اعتبر الانفصال عن البدن بالنظر إلى نفس المغتسل ، وإن كان ظاهر عبارته العموم.

وقد عكس العلّامة في النهاية هذا الحكم ، فجزم بصيرورته مستعملا بالنسبة إلى المغتسل وإن لم يخرج. وتردّد في الحكم بالنظر إلى غيره فقال : لو انغمس الجنب في ماء قليل ونوى ، فإن نوى بعد تمام انغماسه فيه واتّصال الماء بجميع البدن ارتفع حدثه وصار مستعملا للماء.

وهل يحكم باستعماله في حقّ غيره قبل انفصاله؟ يحتمل ذلك لأنّه مستعمل في حقّه ، فكذا في حقّ غيره. وعدمه ، لأنّ الماء ما دام متردّدا على أعضاء المتطهّر لا يحكم باستعمال. فعلى الأوّل لا يجوز لغيره رفع الحدث به عند الشيخ ويجوز على الثاني (3) وفي ما ذكره نظر.

والتحقيق : أنّ الانفصال إنّما يعتبر في صدق الاستعمال بالنظر إلى المغتسل فما دام الماء متردّدا على العضو لا يحكم باستعماله بالنسبة إليه وإلّا يوجب

ص: 338


1- ذكرى الشيعة : 12.
2- في « ب » : يتحقّق بانفصاله.
3- نهاية الإحكام 1 : 242.

عليه إفراد كلّ موضع من البدن بماء جديد ، ولا ريب في بطلانه ، إذ الأخبار ناطقة بخلافه. والبدن كلّه في الارتماس كالعضو الواحد.

وأمّا بالنظر إلى غير المغتسل فيصدق الاستعمال بمجرّد إصابة الماء للمحلّ المغسول بقصد الغسل.

وحينئذ فالمتّجه هنا صيرورة الماء مستعملا بالنسبة إلى غير المغتسل بمجرّد النيّة والارتماس ، وتوقّفه بالنظر إليه على الخروج أو الانتقال.

وقد حكم في المنتهى بصيرورته مستعملا بالنسبة إليهما قبل الانفصال (1). والوجه ما ذكرناه.

وتظهر الفائدة بالنظر إلى المغتسل في ما لو تبيّن له بقاء لمعة من بدنه كان يحسّ بساتر لها قبل خروجه من الماء أو انتقاله فيه ولم نقل بفساد الغسل حينئذ بل اكتفينا بغسلها إمّا مطلقا أو مع بقاء صدق الوحدة على ما يأتي تحقيقه إن شاء اللّه.

فإن قلنا بتوقّف صيرورته مستعملا على الانفصال أجزأه (2) غسلها من ذلك الماء حينئذ ، وإلّا لم يجزئه بل يتعيّن غسلها بماء آخر إن منعنا من المستعمل.

ولو خاض جنبان في الماء ونويا دفعة بعد الانغماس ارتفع حدثهما على جميع التقادير.

ولو اتّفق بقاء لمعة من أحدهما فالظاهر عدم إجزاء غسلهما (3) من ذلك الماء تفريعا على القول بالمنع.

ص: 339


1- منتهى المطلب 1 : 137.
2- في « ب » : أجزأ غسلها.
3- في « أ » : عدم إجزاء غسلها من ذلك الماء.
[ الفرع ] السادس :

قال العلّامة في النهاية : لو نوى - يعني الجنب - قبل تمام الانغماس ، إمّا في أوّل الملاقاة أو بعد غمس بعض البدن احتمل أن لا يصير مستعملا ، كما لو ورد الماء على البدن فإنّه لا يحكم بكونه مستعملا بأوّل الملاقاة لاختصاصه بقوّة الورود وللحاجة إلى رفع الحدث ، وعسر إفراد كلّ موضع بماء جديد وهذا المعنى موجود سواء كان الماء واردا أو هو (1).

وما احتمله هو الأظهر. وقد جعله في المنتهى الأقرب (2). ووجهه يتّضح بملاقاة ما ذكرناه في الفرغ الذي قبله.

[ الفرع ] السابع :

قال في المنتهى : لو اغتسل من الجنابة وبقيت في العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على العضو إلى تلك اللمعة جاز على ما اخترناه - يعني من عدم المنع من المستعمل - وليس للشيخ فيه نصّ (3). والذي ينبغي أن يقال على مذهبه عدم الجواز فإنّه لم يشترط في المستعمل الانفصال ، وذكر نحو ذلك في النهاية (4).

وما حكاه عن الشيخ مشكل ؛ لأنّه يقتضي عدم الاجتزاء بإجراء الماء في الغسل من محلّ إلى آخر بعد تحقّق مسمّاه ، وحاله لا يخفى.

ص: 340


1- نهاية الإحكام 1 : 242.
2- منتهى المطلب 1 : 140.
3- منتهى المطلب 1 : 139.
4- نهاية الإحكام 1 : 243.
[ الفرع ] الثامن :

لو اغتسل المحدث مرتّبا فغسل رأسه ثم أدخل يده في ماء قليل فإن قصد غسلها حينئذ صار الماء بعد إخراجها مستعملا.

وإن كان إدخالها ليأخذ بها من الماء ما يغسل به جانبه لم يتحقّق الاستعمال.

وظاهر العلّامة في النهاية التوقّف فيه (1). ولا وجه له.

ولو تقاطر الماء من رأسه أو جانبه الأيمن فأصاب المأخوذ منه لم يجزئه استعماله في الباقي عند المانعين من المستعمل لأنّه يصير بذلك مستعملا. قاله العلّامة (2).

وفيه نظر ؛ فإنّ الصدوق رحمه اللّه من جملة المانعين وقد قال في من لا يحضره الفقيه : وإن اغتسل الجنب فنزّ الماء من الأرض فوقع في الإناء أو سال من بدنه في الإناء فلا بأس به (3). وما ذكره منصوص في عدّة أخبار أيضا :

منها صحيحة الفضيل ، قال : « سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء؟ فقال : لا بأس به ، هذا ممّا قال اللّه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (4).

ورواية شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء وينتضح الماء من الأرض فيصير

ص: 341


1- نهاية الإحكام 1 : 242.
2- نهاية الإحكام 1 : 243.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 16.
4- تهذيب الأحكام 1 : 86 ، الحديثان 224 و 225.

في الإناء ، أنّه لا بأس بهذا كلّه » (1).

ورواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفّيه فليغسلهما دون المرفق ، ثمّ يدخل يده في إنائه ثمّ يغسل فرجه ثمّ ليصبّ على رأسه - إلى أن قال - فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس » (2).

وقد ذكر الشيخ في التهذيب جملة منها ولم يتعرّض لها بتأويل أو ردّ أو بيان معارض مع تصريحه فيه بالمنع من المستعمل (3). وفي ذلك إيذان بعدم صدق الاستعمال به عنده أيضا.

[ الفرع ] التاسع :

إذا جمع الماء المستعمل فبلغ كرّا فصاعدا : قال الشيخ في المبسوط يزول عنه حكم المنع (4) ، واختاره العلّامة في المنتهى تفريعا على القول بالمنع (5).

وقال المحقّق : لا يزول (6). وتردّد الشيخ في الخلاف (7).

احتجّ العلّامة في المنتهى : بأنّ بلوغ الكرّيّة موجب لعدم انفعال الماء عن الملاقي وما ذلك إلّا لقوّته ، فكيف يبقى انفعاله عن ارتفاع الحدث الذي لو كان

ص: 342


1- الكافي 3 : 13 ، الحديث 6.
2- تهذيب الأحكام 1 : 132 ، الحديث 364.
3- المصدر نفسه.
4- المبسوط 1 : 11.
5- منتهى المطلب 1 : 138.
6- المعتبر 1 : 89.
7- الخلاف 1 : 173 - 174.

نجاسة لكانت تقديريّة. وبأنّه لو اغتسل في كرّ لما بقي انفعاله لعدمه فكذا المجتمع.

لا يقال : يرد ذلك في النجاسة العينيّة.

لأنّا نقول : إنّما حكمنا بعدم الزوال هناك لارتفاع قوّة الطهارة بخلاف المتنازع (1).

واحتجّ المحقّق في المعتبر : بأنّ ثبوت المنع معلوم شرعا ، فيقف ارتفاعه على وجود الدلالة.

قال : وما يدّعى من قول الأئمّة عليهم السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » لم نعرفه ولا نقلناه عنهم. ونحن نطالب المدّعي نقل هذا اللفظ بالإسناد إليهم.

وأمّا قولهم عليهم السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء » فإنّه لا يتناول موضع النزاع ، ولأنّ هذا الماء عندنا ليس بنجس ، فلو بلغ كرّا ثمّ وقعت فيه نجاسة لم تنجّسه.

نعم لا يرتفع ما كان فيه من المنع. وجعل الشيخ في الخلاف منشأ التردّد من أنّه يثبت فيه المنع قبل أن يبلغ كرّا فيحتاج في جواز استعماله بعد بلوغه إلى دليل. ومن دلالة ظاهر الآيات والأخبار على طهارة الماء ، خرج منه الناقص عن الكرّ بدليل ، فيبقى ما عداه. وقولهم عليهم السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » (2).

وأنت إذا تأمّلت كلام الجماعة رأيت التحقيق في كلام المحقّق واستبان لك ضعف ما سواه.

والعجب أنّ الشيخ احتجّ في الخلاف على عدم زوال النجاسة في المجتمع

ص: 343


1- منتهى المطلب 1 : 138.
2- المعتبر 1 : 89.

من الطاهر والنجس : بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، فمن ادّعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع فعليه الدليل ، وليس هناك دليل ، فيبقى على الأصل (1).

ولو صحّ الحديث الذي جعله في موضع النزاع منشأ لاحتمال زوال المنع لكان دليلا على زوال النجاسة هناك. وليس بين الحكمين في الخلاف إلّا أوراق يسيرة.

والحقّ : بناء الحكم هنا على الخلاف الواقع في زوال النجاسة بالإتمام فمن حكم بالزوال هناك تأتّى له الحكم هنا بطريق أولى ، ومن لا فلا.

وأمّا التفرقة التي صار إليها الشيخ والعلّامة فلا وجه لها.

[ الفرع ] العاشر :

قال الصدوق عليه الرحمة في من لا يحضره الفقيه : فإن اغتسل الرجل في وهدة وخشي أن يرجع ما ينصبّ عنه إلى الماء الذي يغتسل منه أخذ كفّا وصبّه أمامه وكفّا عن يمينه وكفّا عن يساره وكفّا من خلفه ، واغتسل منه (2). وذكر نحو ذلك في المقنع (3).

وقال أبوه في رسالته : وإن اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت أن يرجع ما ينصبّ عنك إلى المكان الذي يغتسل فيه أخذت له كفّا وصببته عن يمينك وكفّا عن يسارك وكفّا خلفك وكفّا أمامك. واغتسلت منه (4).

وقال الشيخ في النهاية : متى حصل الإنسان عند غدير أو قليب ولم يكن

ص: 344


1- الخلاف 1 : 194.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 11.
3- المقنع : 46.
4- منتهى المطلب 1 : 138.

معه ما يغترف به الماء لوضوئه فليدخل يده فيه ويأخذ منه ما يحتاج إليه وليس عليه شي ء. وإن أراد الغسل للجنابة وخاف إن نزل إليها فساد الماء فليرشّ عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ثمّ ليأخذ كفّا كفّا من الماء فليغتسل به (1).

والأصل في ما ذكروه روايات وردت بذلك.

منها : صحيحة عليّ بن جعفر عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أو يغتسل منه للجنابة أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدّا للوضوء وهو متفرّق فكيف يصنع وهو يتخوّف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال :

إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه وكفّا أمامه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله. فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرّات ثمّ مسح جلده بيده فإنّ ذلك يجزيه » (2). الحديث.

ومنها : رواية ابن مسكان ، قال : حدّثني صاحب لي ثقة أنّه : سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال : ينضح بكفّ بين يديه وكفّا من خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شمال ثمّ يغتسل (3).

ونقل الفاضلان في المعتبر والمنتهى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي أنّه روى في جامعه عن عبد الكريم عن محمّد بن ميسر عن أبي عبد اللّه عليه السلام

ص: 345


1- النهاية ونكتها 1 : 211.
2- تهذيب الأحكام 1 : 416 ، الحديث 1315.
3- تهذيب الأحكام 1 : 417 ، الحديث 1318.

قال : « سئل عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال : ينضح بكفّ بين يديه وكفّا خلفه وكفّا عن يمينه وكفّ عن شماله ويغتسل » (1).

ولا يخفى أنّ متعلّق النضح المذكور في الأخبار وكلام الأصحاب هنا لا يخلو عن خفاء. وكذا الحكمة فيه. وقد حكى المحقّق رحمه اللّه في ذلك قولين :

أحدهما : أنّ المتعلّق الأرض والحكمة اجتماع أجزائها فتمنع سرعة انحدار ما ينفصل عن البدن إلى الماء.

والثاني : أنّ متعلّقه بدن المغتسل والغرض منه بلّه ليتعجّل الاغتسال قبل انحدار المنفصل عنه وعوده إلى الماء. وعزى هذا القول إلى الصهرشتي (2) ، واختاره الشهيد في الذكرى إلّا أنّه جعل الحكمة فيه الاكتفاء بترديده عن إكثار معاودة الماء (3).

ورجّح في البيان القول الأوّل (4). والعبارة المحكيّة عن رسالة ابن بابويه ظاهرة فيه أيضا حيث قال فيها : أخذت له كفّا .. إلى آخره.

والضمير في قوله : « له » عائدا إلى المكان الذي يغتسل فيه لأنّه المذكور قبله في العبارة وليس المراد به محلّ الماء كما وقع في عبارة ابنه حيث صرّح بالعود إلى الماء الذي يغتسل منه.

وكأنّ تركه للتصريح بذلك اتّكال على دلالة لفظ الرجوع عليه. فالجارّ

ص: 346


1- المعتبر 1 : 88. ومنتهى المطلب 1 : 136.
2- المعتبر 1 : 88.
3- ذكرى الشيعة : 12.
4- البيان : 104.

- في قوله « إلى المكان » - متعلّق ب- « ينصبّ » وصلة [ يرجع ] غير مذكورة لدلالة المقام عليها.

ويحكى عن ابن إدريس إنكار القول الأوّل مبالغا فيه ومحتجّا بأنّ اشتداد الأرض برشّ الجهات المذكورة موجب لسرعة نزول ماء الغسل (1). وله وجه غير أنّه ليس يمتنع في بعض الأرضين أن يكون قبولها لابتلاع الماء مع الابتلال أكثر.

ثمّ إنّه يرد على القول الثاني أنّ خشية العود إلى الماء مع تعجّل الاغتسال ربّما كانت أكثر ؛ لأنّ الإعجال موجب لتلاحق الأجزاء المنفصلة عن البدن من الماء ، وذلك أقرب إلى الجريان والعود ، ومع الإبطاء يكون تساقطهما على سبيل التدريج فربّما بعدت بذلك عن الجريان كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره الشهيد من أنّ الفائدة هي الاكتفاء بترديده عن إكثار معاودة الماء (2) ففيه إشعار بأنّه جعل الغرض من ذلك التحرّز من تقاطر ماء الغسل عن بعض الأعضاء المغسولة في الماء الذي يغتسل منه عند المعاودة ، وقد عرفت تصريح بعض المانعين من المستعمل بعدم تأثير مثله ، ودلالة الأخبار أيضا عليه.

فالظاهر أنّ محلّ البحث هنا هو رجوع المنفصل عن بدن المغتسل بأجمعه إلى الماء أو عن أكثره.

وعلى كلّ حال فالخطب في هذا عند من لا يرى المنع من المستعمل سهل ؛ لأنّ الأخبار الواردة بذلك محمولة على الاستحباب عنده ، كما ذكره العلّامة

ص: 347


1- السرائر 1 : 94.
2- البيان : 104.

في المنتهى (1) مقرّبا له بما رواه الشيخ في الحسن عن عبد اللّه بن يحيى الكاهلي قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « إذا أتيت ماء وفيه قلّة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ » (2).

ووجه التقريب على ما يؤذن به سوق كلامه : أنّ الاتّفاق واقع على عدم المنع من المستعمل في الوضوء فالأمر بالنضح له في هذا الحديث محمول على الاستحباب عند الكلّ ، فلا بعد (3) في كون الأوامر الواردة في تلك الأخبار كذلك.

ويمكن المناقشة فيه من حيث شيوع إطلاق الوضوء في الأخبار على الاستنجاء فلا يبعد إرادته هنا من الرواية ، ومعه يفوت التقريب.

ولكن الحاجة ليست داعية إليه ؛ فإنّ حمل أخبار الباب على الاستحباب بعد القول بعدم المنع من المستعمل متعيّن.

ويؤيّده : أنّ أصحّ ما في الأخبار رواية علي بن جعفر (4). وآخرها صريح في عدم (5) تأثير عود ما ينفصل من ماء الغسل وأنّه مع قلّة الماء بحيث لا يكفي للغسل يجري ما يرجع منه إليه. وقد تقدّم نقل موضع هذه الدلالة منها في احتجاجنا لما صرنا إليه في صدر المسألة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كلام الشيخ هنا على ما حكيناه عن النهاية لا يخلو

ص: 348


1- منتهى المطلب 1 : 137.
2- تهذيب الأحكام 1 : 408 ، الحديث 1283.
3- في « ب » : فلا بدّ في كون الأوامر الواردة.
4- تهذيب الأحكام 1 : 416 ، الحديث 1315.
5- في « ب » : صريح في تأثير عود ما ينفصل.

عن إشكال ؛ فإنّ ظاهره كون المحذور في الفرض المذكور هنا هو فساد الماء بنزول الجنب إليه واغتساله فيه ، ولا ريب أنّ هذا يزول بالأخذ من الماء والاغتسال خارجه ، وفرض إمكان الرشّ يقتضي إمكان الأخذ فلا يظهر لحكمه بالرشّ حينئذ وجه.

وقد أوّله المحقّق في المعتبر فقال : اعلم أنّ عبارة الشيخ لا تنطبق على الرشّ إلّا أن يجعل في « نزل » ضمير ماء الغسل ، ويكون التقدير : « وخشي - إن نزل ماء الغسل - فساد الماء ».

وإلّا بتقدير أن يكون في نزل ضمير المريد لا ينتظم المعنى لأنّه إن أمكنه الرشّ لا مع النزول أمكنه الاغتسال من غير نزول (1).

وهذا الكلام حسن وإن اقتضى كون المرجع غير مذكور صريحا ، فإنّ محذوره هيّن (2) بالنظر إلى ما يلزم على التقدير الآخر خصوصا بعد ملاحظة كون الغرض بيان الحكم الذي وردت به النصوص فإنّه لا ربط للعبارة به على ذلك التقدير. هذا.

وفي بعض نسخ النهاية : « وخاف أن ينزل إليها فساد الماء » (3) على صيغة المضارع فالإشكال حينئذ مرتفع ؛ لأنّه مبنيّ على كون العبارة عن النزول بصيغة الماضي ، وجعل « إن » مكسورة الهمزة شرطيّة ، و « فساد الماء » مفعول خشي ، وفاعل نزل الضمير العائد إلى المريد.

وعلى النسخة التي ذكرناها تجعل « أن » مفتوحة الهمزة ومصدريّة ، وفساد

ص: 349


1- المعتبر 1 : 88.
2- في « ب » : فإنّ محذوره بيّن.
3- النهاية ونكتها 1 : 211.

الماء فاعل بنزل ، والمصدر المأوّل من « أن ينزل » مفعول خشي ، وفاعله ضمير المريد ، وحاصل المعنى : « أنّه مع خشية نزول فساد الماء المنفصل عن بدن المغتسل إلى المياه التي يريد الاغتسال منها - وذلك بعود الماء الذي اغتسل به إليها - فإنّ المنع المتعلّق به يتعدّى إليها بعوده فيها وهو معنى نزول الفساد إليها فيجب الرشّ حينئذ حذرا من ذلك الفساد.

وهذا عين (1) كلام باقي الجماعة ومدلول الأخبار فلعلّ الوهم في هذه النسخة التي وقع فيها لفظ الماضي ؛ فإنّ حصول الاشتباه في مثله وقت الكتابة ليس بمستبعد.

مسألة [5] :

واختلف الأصحاب في غسالة الحمّام فقال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : لا يجوز التطهير بغسالة الحمّام لأنّه مجتمع فيها غسالة اليهوديّ والمجوسيّ والنصراني والمبغض لآل محمّد عليهم السلام وهو أشرّهم (2).

وقال أبوه في رسالته : إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام. وذكر التعليل الذي ذكره ابنه.

وقال الشيخ في النهاية : « غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال » (3).

وقال المحقّق : لا يغتسل بغسالة الحمّام إلّا أن يعلم خلوّها من

ص: 350


1- في « ب » : وهذا غير كلام باقي الجماعة.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 10.
3- النهاية ونكتها 1 : 203.

النجاسة (1).

وقال العلّامة في المنتهى : الأقرب عندي أنّها على أصل الطهارة (2). ويعزى هذا القول إلى غيره من الأصحاب أيضا.

وصرّح في الإرشاد بنجاستها (3). وربّما تبعه فيه بعض من تأخّر.

وجملة الأخبار التي وقفنا عليها في هذا الباب ونقلها الأصحاب في الاحتجاج ثلاث روايات :

الاولى : رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال : سألته أو سأله غيري عن الحمّام ، قال : ادخله بمئزر وغضّ بصرك ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (4).

الثانية : رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام فإنّ فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى ستّة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما » (5). الحديث.

وهاتان الروايتان تدلّان على ما قاله الصدوقان. وظاهر التعليل فيهما أنّه مع العمل بخلوّها من الامور المذكورة لا مانع من استعمالها. وقد ذكر الصدوقان التعليل أيضا وهو مشعر بأنّهما لا يقولان بالمنع مطلقا.

ص: 351


1- المعتبر 1 : 87.
2- منتهى المطلب 1 : 147.
3- إرشاد الأذهان 1 : 238.
4- الكافي 3 : 14 ، الحديث 1.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 10 ، الحديث 6.

وبالرواية الاولى احتجّ المحقّق رحمه اللّه في المعتبر على ما حكيناه عنه ، ثمّ قال : إنّ المنع فيها معلّل باجتماعه من النجاسة فينتفي التنجيس عند انتفاء السبب.

فالظاهر أنّ رأيه هنا ورأي الصدوقين واحد وإن لم يصرّحا بالتفصيل.

ولو صحّ طريق هاتين الروايتين أو واحدة منهما لكان هذا القول متّجها لكنّهما ضعيفتان.

الثالثة : رواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال : « سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (1).

وهذه الرواية تدلّ على الطهارة إلّا أنّ في طريقها ضعفا بالإرسال ، وجهالة أبي يحيى حيث ذكره الشيخ من غير تعرّض لثناء أو غيره (2) ، وقد قال المحقّق في المعتبر - عند ذكره لها بقصد جعلها مؤيّدة لما حكم به من عدم المنع إذا علم خلوّها من النجاسة - : « أنّها وإن كانت مرسلة إلّا أنّ الأصل يؤيّدها » (3). والأمر كما قال.

وفي المنتهى جعلها شاهدا على ما ذهب إليه من الحكم بالطهارة مطلقا مع الأصل وبيان ضعف ما دلّ على خلافه (4).

وأمّا ما ذكره الشيخ في النهاية من تعميم المنع فلم نقف له على حجّة.

ص: 352


1- تهذيب الأحكام 1 : 379 ، الحديث 1176.
2- راجع رجال النجاشي : 192 ، 348 ، ورجال الطوسي : 476 ، 519 ، 521 ، والفهرست للطوسي : 80 ، 186.
3- المعتبر 1 : 92.
4- منتهى المطلب 1 : 147.

ولعلّه بناه على ما تقضي به العادة من عدم انفكاكها من ملاقاة النجاسة ، كما اعتذر له به المحقّق في نكت النهاية (1).

وحكى في المعتبر عن بعض المتأخّرين - وعنى به ابن إدريس - أنّه عبّر بما ذكره الشيخ فقال : « وغسالة الحمّام - وهو المستنقع - لا يجوز استعمالها على حال. ثمّ قال : وهذا إجماع وقد وردت به أخبار معتمدة (2) قد أجمع عليها ودليل الاحتياط يقتضيها ». ونقل لفظ النهاية (3).

قال المحقّق رحمه اللّه : « وهو خلاف الرواية وخلاف ما ذكره ابن بابويه ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية - يعني رواية حمزة بن أحمد السابقة - ورواية مرسلة ذكرها الكليني - وهي رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة - وفي طريقها مع الإرسال ابن جمهور وهو ضعيف جدّا. ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال. فأين الإجماع وأين الأخبار المعتمدة؟ نحن نطالبه بما ادّعاه وأفرط في دعواه (4). هذا حاصل كلام المحقّق عليه الرحمة وهو واضح حسن.

وبقي الكلام على القول بنجاستها ولم يذكر له حجّة.

وربّما قيل : إنّ حجّته النهي عن استعمالها ، وسقوطها ظاهر.

وقد تحرّز من هذا أنّه ليس على حكمها بالخصوص دليل فيجب الرجوع فيها إلى ما يقتضيه القواعد. ولا ريب أنّ الأصل يقتضي طهارتها.

والتقريب السابق لعدم المنع من المستعمل يدلّ على جواز استعمالها إلّا أن

ص: 353


1- النهاية ونكتها 1 : 203.
2- في « ب » : أخبار معتدّة.
3- المعتبر 1 : 92.
4- المعتبر 1 : 92.

يعلم ما يخرج عن ذلك ولو بقرائن الأحوال. ومع هذا فاجتنابها أحوط على كلّ حال.

ص: 354

البحث الخامس : في الأسآر
مسألة [1] :

السؤر في اللغة ما يبقى بعد الشرب. قاله الجوهري (1).

والمبحوث عنه هنا ما يكون من الماء القليل مع مباشرة فم الحيوان له.

وهو تابع للحيوان في النجاسة عند القائلين بانفعال القليل بغير خلاف نعرفه ؛ لأنّ الأدلّة على انفعال القليل بالملاقاة تتناوله.

وما يذكر هاهنا من الاختلاف لم يقع موقعه إذ مرجعه إلى الخلاف في نفس الحيوان هل هو طاهر أو نجس. وحقّه أن يذكر في بحث النجاسات إذ لا خصوصيّة للسؤر فيه.

وجملة ما حكوا هنا الخلاف في نجاسته باعتبار الاختلاف فيما هو سؤره ، خمسة أسئار :

الأوّل : سؤر اليهود والنصارى. فحكى المحقّق في المعتبر عن المفيد أنّ

ص: 355


1- الصحاح 2 : 675.

له فيه قولين : أحدهما النجاسة - ذكره في أكثر كتبه (1) - والآخر الكراهيّة : ذكره في الرسالة العزيّة (2). وظاهر ابن الجنيد القول بالكراهية أيضا فإنّه قال في المختصر : « والتنزّه عن سؤر جميع من يستحلّ المحرّمات من ملّي وذمّي وما ماسّوه بأبدانهم أحبّ إليّ إذا كان الماء قليلا ».

وأكثر الأصحاب على الأوّل إذ لا نعرف بينهم (3) الخلاف من غير ما ذكرناه.

الثاني : سؤر المجسّمة والمجبّرة ، فذهب الشيخ في بعض كتبه إلى نجاسته (4) ، ووافقه في المجسّمة بعض الأصحاب ، وخالفه بعض. والأكثرون على خلافه في المجبّرة.

الثالث : سؤر كلّ من لم يعتقد الحقّ غير المستضعف ، فقال ابن إدريس بنجاسته (5) وسيأتي الكلام في باب النجاسات. نقل (6) بعض الأصحاب عن المرتضى القول بنجاسة غير المؤمن وهو يقتضي نجاسة سؤره. ونفى ذلك الباقون ممّن وصل إلينا كلامه.

الرابع : سؤر ولد الزنا فيحكى عن المرتضى القول بنجاسته ؛ لأنّه كافر. ويعزى القول بكفره إلى ابن إدريس أيضا. وربّما نسب إلى الصدوق القول بنجاسة سؤره ، وكلامه ليس بصريح فيه فإنّه قال في من لا يحضره الفقيه :

ص: 356


1- المعتبر 1 : 96.
2- الرسالة العزيّة.
3- في « ب » : إذ لا نعرف منهم الخلاف.
4- المبسوط 1 : 14.
5- السرائر 1 : 84.
6- في « ب » : نقل عن بعض الأصحاب.

« ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وكلّ من خالف الإسلام (1).

وعدم جواز الوضوء به أعمّ من الحكم بنجاسته إلّا أنّ ذكره مع المشرك ونحوه قرينة على إرادة النجاسة ولا نعرف بذلك [ قائلا ] سواهم.

الخامس : سؤر ما عدا الخنزير من أنواع المسوخ فذهب الشيخ إلى نجاستها فينجس سؤرها (2) ، واستثناها ابن الجنيد ممّا حكم بطهارة سؤره مع حكمه بطهارة سؤر السباع ، وقرنها في الاستثناء بالكلب والخنزير. وظاهر ذلك القول بنجاستها أو نجاسة لعابها كما حكاه الفاضلان عن بعض الأصحاب (3). وبه صرّح سلّار في رسالته (4). وربّما ظهر من سوق كلامه كونها في معنى الكلب فيوافق قول الشيخ أيضا. وجزم في المختلف بنسبة القول بنجاستها إليه (5). وحكي ذلك عن ابن حمزة أيضا.

والباقون على طهارتها بحيث لا نعرف في ذلك [ خلافا ] من سوى من ذكر. وحيث إنّ الخلاف هنا تابع للاختلاف في النجاسة فتأخير البحث في ذلك وبيان ما هو الحقّ فيه إلى محلّه من باب النجاسات هو المناسب.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق اختار طهارة ما عدا الأوّل من الأسئار

ص: 357


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 8.
2- الخلاف 1 : 587 ، المسألة 306.
3- المعتبر 1 : 99 ، ومنتهى المطلب 1 : 162.
4- المراسم : 37.
5- مختلف الشيعة 1 : 229.

المذكورة ، واستوجه في بعضها الكراهة خروجا من خلاف من قال بالنجاسة (1). وهذا آت من الكلّ ، فلا وجه للتخصيص بالبعض.

وأمّا كراهة سؤر اليهود والنصارى على القول بطهارته فلا ريب فيه. والقائل بالطهارة مصرّح به ، كما قد علم ، والأخبار ناطقة بذلك أيضا.

كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام أنّه : « سأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا ، إلّا أن يضطرّ إليه » (2).

وحسنة سعيد الأعرج ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن سؤر اليهوديّ والنصرانيّ ، فقال : لا » (3).

ورواية الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهوديّ والنصرانيّ والمشرك ، وكلّ من خالف الإسلام. وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب (4).

وهذه الأخيرة تدلّ على كراهة سؤر ولد الزنا أيضا ، إن قيل بطهارته.

وبالجملة فكراهة المذكورات لا ينبغي التوقّف فيها حيث يقال بالطهارة ؛ فإنّ رعاية الخروج من الخلاف كافية في مثله.

ص: 358


1- المعتبر 1 : 99.
2- تهذيب الأحكام 1 : 223 ، الحديث 638.
3- تهذيب الأحكام 1 : 223 ، الحديث 640.
4- تهذيب الأحكام 1 : 223 ، الحديث 639.
مسألة [2] :
اشارة

وفي تبعيّة السؤر للحيوان في الطهارة خلاف :

فذهب أكثر الأصحاب ، كالفاضلين والشهيدين (1) وجمهور المتأخّرين إلى طهارة سؤر كلّ حيوان طاهر ، وحكاه المحقّق في المعتبر عن المرتضى في المصباح (2) ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف والنهاية (3) ، إلّا أنّه استثنى منه في النهاية سؤر ما أكل الجيف من الطير.

وذكر المحقّق رحمه اللّه أنّ المرتضى قدس سره استثنى الجلّال في المصباح (4).

وقال ابن الجنيد : « لا ينجس الماء بشرب ما أكل لحمه من الدوابّ والطيور ، وكذلك السباع وإن ماسّته بأبدانها ما لم يعلم بما ماسّه نجاسة ولم يكن جلّالا وهو الآكل العذرة ولم يكن أيضا كلبا ولا خنزيرا ولا مسخا ».

وظاهر الشيخ في التهذيب المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه (5). وكذا في الاستبصار إلّا أنّه استثنى منه الفأرة ، ونحو البازي والصقر من الطيور (6).

وذهب في المبسوط إلى نجاسة سؤر ما لا يؤكل من الحيوان الإنسيّ ما عدا ما لا يمكن التحرّز منه كالفأرة والحيّة والهرّة ، وطهارة سؤر الطاهر من الحيوان

ص: 359


1- المعتبر 1 : 97. ونهاية الإحكام 1 : 1. والروضة البهيّة 1 : 281.
2- المعتبر 1 : 93.
3- الخلاف 1 : 187 ، والنهاية ونكتها 1 : 203.
4- المعتبر 1 : 97.
5- تهذيب الأحكام 1 : 224.
6- الاستبصار 1 : 25.

الوحشي ، طيرا كان أو غيره. حكاه عن المحقّق (1).

وحكى العلّامة عن ابن إدريس أنّه حكم بنجاسته ما يمكن التحرّز عنه ممّا لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الطير (2).

والأظهر عندي مختار الأكثر.

لنا : الأصل ، بالتقريب السابق في المستعمل ، والأخبار الكثيرة الواردة بطهارة كثير ممّا وقع النزاع فيه ، كرواية الفضل أبي العبّاس ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع ، فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه ، فقال : لا بأس به. حتّى انتهيت إلى الكلب فقال : رجس نجس لا تتوضّأ بفضله واصبب ذلك الماء » (3).

وسند هذه الرواية جيّد ، لكن في بلوغه حدّ الصحّة نظر.

ورواية معاوية بن شريح ، قال : « سأل عذافر أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده عن سؤر السنّور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع ، يشرب منه ، أو يتوضّأ منه؟ قال : نعم اشرب منه وتوضّأ. قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس هو سبع؟ قال : لا واللّه إنّه نجس. لا واللّه إنّه نجس » (4).

وطريق هذه الرواية صحيح إلى معاوية ، لكن هو مجهول.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الكلب

ص: 360


1- المعتبر 1 : 93 ، والمبسوط 1 : 10.
2- نهاية الإحكام 1 : 239.
3- الاستبصار 1 : 19 ، الحديث 40.
4- الإستبصار 1 : 19 ، الحديث 41.

يشرب من الإناء؟ قال : اغسل الإناء. وعن السنّور؟ قال : لا بأس أن تتوضّأ من فضلها ، إنّما هي من السباع » (1).

ورواية أبي الصباح عنه عليه السلام قال : « كان علي عليه السلام يقول : لا تدع فضل السنّور أن تتوضّأ منه ، إنّما هي سبع » (2).

ولا يخفى أنّ قوله في هاتين الروايتين « إنّما هي من السباع ، وإنّما هي سبع » يشعر بنوع من التعميم.

وقد جعل في المنتهى الرواية الثانية دليلا على طهارة سؤر السباع. ووصف طريقها بالصحّة (3).

وفيه نظر ؛ لأنّ فيه محمّد بن الفضيل. وقد ذكر في الخلاصة جماعة من الضعفاء بهذا الاسم ، ولا قرينة على التميّز (4).

وصحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كان في كتاب عليّ : أنّ الهرّة سبع ولا بأس بسؤره ، وإنّي لأستحيي من اللّه أن أدع طعاما لأنّ الهرّ قد أكل منه » (5).

وصحيحة جميل بن درّاج قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن سؤر الدوابّ والغنم والبقر ، أيتوضّأ منه ويشرب؟ فقال : لا بأس » (6).

ص: 361


1- الاستبصار 1 : 18 ، الحديث 39.
2- تهذيب الأحكام 1 : 227 ، الحديث 653.
3- منتهى المطلب 1 : 150.
4- خلاصة الأقوال : 251.
5- تهذيب الأحكام 1 : 227 ، الحديث 655.
6- تهذيب الأحكام 1 : 227 ، الحديث 657.

وروى الشيخ عن عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سئل عمّا يشرب منه باز أو صقر أو عقاب فقال : « كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا توضّأ منه ولا تشرب » (1).

وفي الصحيح عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ أبا جعفر كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضّأ منه » (2).

وبهاتين الروايتين احتجّ الشيخ في الاستبصار للاستثناء الذي حكيناه عنه.

واحتجّ للمنع من سؤر غير المأكول بما رواه عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : أسأل عن ما يشرب منه الحمام؟ فقال : كلّ ما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب » (3).

قال الشيخ رحمه اللّه : هذا يدلّ على أنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به والشرب منه ؛ لأنّه إذا شرط في استباحة سؤره أن يؤكل لحمه دلّ على أنّ ما عداه بخلافه. ويجري هذا مجرى قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله في سائمة الغنم الزكاة ، فإنّه يدلّ على أن المعلوفة ليس فيها الزكاة (4).

وهذه الحجّة ضعيفة.

أمّا أوّلا : فلابتنائها على أنّ مفهوم الوصف حجّة ، وقد قدّمنا البحث فيه ،

ص: 362


1- الاستبصار 1 : 25 ، الحديث 64.
2- الاستبصار 1 : 25 ، الحديث 65.
3- تهذيب الأحكام 1 : 228 ، الحديث 660.
4- تهذيب الأحكام 1 : 224 ، ذيل الحديث 642.

وبيّنا أنّ الحقّ عدم حجيّته.

وأمّا ثانيا : فلأنّ سند الرواية مشتمل على جماعة من الفطحيّة وقد مرّ بيان ضعف القول بقبول رواية أمثالهم.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق رحمه اللّه بعد ردّه لاحتجاج الشيخ بهذه الرواية هنا وطعنه فيها بضعف السند احتجّ لطهارة سؤر الطيور برواية عمّار السابقة المتضمّنة للسؤال عمّا يشرب منه الباز أو الصقر والعقاب. ثمّ اعترض بأنّ عمّار فطحيّ ، فلا يعمل بروايته. وأجاب بأنّ الوجه الذي لأجله عمل برواية الثقة قبول الأصحاب أو انضمام القرينة لأنّه لو لا ذلك لمنع العقل من العمل بخبر الثقة ، إذ لا قطع بقوله. وهذا المعنى موجود هنا ؛ فإنّ الأصحاب عملوا بمثل هذه الرواية ، كما عملوا هناك. قال : ولو قيل : فقد ردّوا رواية مثله في بعض المواضع؟ قلنا : كما ردّوا رواية الثقة في بعض المواضع متعلّلين بأنّه خبر واحد ، ثمّ قال : على أنّا لم نر من فقهائنا من ردّ هذه الرواية ، بل عمل المعتبر منهم بمضمونها (1).

وهذا الكلام مخالف بظاهره ما حكيناه عنه في بحث الأخبار من مقدّمة الكتاب حيث قال : « إنّ الشيخ ادّعى عمل الطائفة بخبر الفطحيّة ومن ضارعهم ، وأنّه لم يعلم إلى الآن أنّ الطائفة عملت بأخبار هؤلاء » (2).

ولعلّه يريد هنا بقبول الأصحاب للرواية وعملهم بها مجرّد موافقة فتواهم لها ، لا كونها مستندة إليها. لكنّا قد حكينا عنه في تتمّة مسائل البئر كلاما

ص: 363


1- المعتبر 1 : 94.
2- المعتبر 1 : 30.

في معنى ما ذكره هنا (1) ، وهو صريح في المخالفة لما قرّره في الاصول غير قابل للتأويل. وظاهر الحال أنّ مراده في الموضعين واحد.

والعلّامة في المختلف ردّ حجّة الشيخ بضعف السند ، وكونها مبنيّة على المفهوم الضعيف. ثمّ حاول الجواب عنها بوجه آخر دقّق فيه ، وذكر أنّه ملخّص ممّا أفاده في كتاب استقصاء الاعتبار في تحقيق معاني الأخبار ، فقال :

« إذا سلّمنا كون المفهوم المذكور حجّة يكفي في دلالته مخالفة المسكوت عنه للمنطوق في الحكم الثابت للمنطوق. وهنا الحكم الثابت للمنطوق الوضوء بسؤر ما يؤكل لحمه والشرب منه وهو لا يدلّ على أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يتوضّأ منه ولا يشرب ، بل جاز اقتسامه إلى قسمين أحدهما يجوز الوضوء به والشرب منه والآخر لا يجوز. فإنّ الاقتسام حكم مخالف لأحد القسمين. ونحن نقول بموجبه ؛ فإنّ ما لا يؤكل لحمه منه الكلب والخنزير ولا يجوز الوضوء بسؤرهما ولا شربه ، والباقي يجوز.

لا يقال : لو ساوى أحد قسمي المسكوت عنه المنطوق في الحكم لانتفت دلالة المفهوم ونحن إنّما استدللنا بالحديث على تقديره.

لأنّا نقول : لا نسلّم انتفاء الدلالة لحصول التنافي بين المنطوق والكلّ المسكوت عنه (2). هذا كلامه.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ فرض حجّيّة المفهوم يقتضي كون الحكم الثابت للمنطوق منفيّا عن غير محلّ النطق ، والمعنيّ بالمنطوق في مفهومي الوصف والشرط ما يتحقّق فيه القيد المعتبر شرطا أو وصفا ممّا جعل متعلّقا له ، وبغير

ص: 364


1- المعتبر 1 : 73.
2- مختلف الشيعة : 1 : 230.

محلّ النطق ما ينتفي فيه القيد من ذلك المتعلّق.

ولا يخفى أنّ متعلّق القيد هنا قوله : « كلّ ما » أي كلّ حيوان ، والقيد المعتبر وصفا هو كونه « مأكول اللحم » ، فالمنطوق هو مأكول اللحم من كلّ حيوان ، والحكم الثابت له هو جواز الوضوء من سؤره والشرب ، وغير محلّ النطق ما انتفى عنه الوصف وهو عبارة عن غير مأكول اللحم من كلّ حيوان ، وانتفاء الحكم الثابت للمنطوق عنه يقتضي ثبوت المنع ؛ لأنّه اللازم لرفع الجواز ، وذلك واضح ، وإن قدّر عروض اشتباه فيه فليوضح بالنظر في مثاله المشهور الذي أشار إليه الشيخ أعني قوله صلى اللّه عليه وآله : « في سائمة الغنم الزكاة » ، فإنّه على تقدير اعتبار المفهوم فيه يدلّ على نفي الوجوب في مطلق الغنم المعلوفة بلا إشكال.

ووجهه بتقريب ما ذكرناه : أنّ التعريف في الغنم للعموم وهو متعلّق القيد أعني وصف السوم فالمنطوق هو السائم من جميع الغنم ، والحكم الثابت له هو وجوب الزكاة فإذا فرضنا دلالة الوصف على النفي عن غير محلّه كان مقتضاه هنا نفي الوجوب عمّا انتفى عنه الوصف من جميع الغنم ، وذلك بثبوت نقيضه الذي هو العلف ، فيدلّ على النفي عن كلّ معلوف من الغنم. فتأمّل هذا. وباقي الأقوال التي حكيت في هذا الباب لم ينقل لها حجج فكلفة البحث فيها عنّا ساقطة.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

ذهب الفاضلان وجماعة من الأصحاب إلى كراهة سؤر الجلّال (1) : وهو ما يأكل العذرة محضا.

ص: 365


1- المعتبر 1 : 97 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 42.

وحكاه في المعتبر عن المرتضى في جمل العلم والعمل (1). وقد سبق في حكاية كلامه في المصباح أنّه استثناء من المباح ، وابن الجنيد اشترط في طهارة السؤر - كما نقلناه عنه آنفا - عدم كون الحيوان جلّالا (2). ويعزّ إلى الشيخ في المبسوط استثناؤه من المباح (3) كما فعله المرتضى ، ولم نقف لما قالوه على حجّة.

والأصل - بتقريبه السابق - مضافا إلى عموم الأخبار المتقدّمة يقتضي الطهارة.

وقد يقال : إنّ رطوبة أفواهها ينشأ عن غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.

وردّه المحقّق بمنع الملازمة ، وبالنقض ببصاق من شرب الخمر إذا لم يتغيّر ، وبما لو أكلت غير العذرة ممّا هو بخس وما ذكره متّجه (4).

وعلى كلّ حال فلا بأس بالقول بالكراهة. والاحتياط لخلاف الجماعة.

[ الفرع ] الثاني :

قال المحقّق في المعتبر : « يكره سؤر ما أكل الجيف من الطير إذا خلا موضع الملاقاة من النجاسة. ولا يحرم. وبه قال علم الهدى قدس سره في المصباح » (5). وحكي عن الشيخ استثناؤه من المباح. وقد سبق نقل ذلك عنه.

ثمّ احتجّ المحقّق لما صار إليه من نفي التحريم بأنّ الإذن في استعمال سؤر

ص: 366


1- المعتبر 1 : 97.
2- راجع الصفحة : 248.
3- المبسوط 1 : 10.
4- المعتبر 1 : 97.
5- المعتبر 1 : 98.

الطيور والسباع يدلّ على ذلك ؛ لأنّها لا تنفكّ عنه عادة (1). وتبعه على المدّعى والدليل العلّامة في المنتهى (2). ووافقهما على القول بالكراهة جماعة أيضا ، وله وجه.

وما ذهب إليه الشيخ لا نعرف له حجّة.

[ الفرع ] الثالث :

قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في النهاية : لو تنجّس فم الهرّة بسبب كأكل فأرة وشبهه ، ثمّ ولغت في ماء قليل ونحن نتيقّن نجاسة فمها ، فالأقوى النجاسة ؛ لأنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، والاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ لا عن الولوغ بعد تيقّن نجاسة الفم.

ولو غابت عن العين ، واحتمل ولوغها في ماء كثير أو جار لم ينجس ؛ لأنّ الإناء معلوم الطهارة ، فلا يحكم بنجاسته بالشكّ (3).

وهذا الكلام مشكل ؛ لأنّا إمّا أن نكتفي في طهر فمها بمجرّد زوال عين النجاسة ، أو نعتبر فيه ما يعتبر في تطهير المنجّسات من الطرق المعهودة شرعا.

فعلى الأوّل لا حاجة إلى اشتراط غيبتها ، وعلى الثاني - وهو الذي يظهر من كلامه الميل إليه - ينبغي أن لا يكتفى بمجرّد الاحتمال لا سيّما مع بعده ، بل يتوقّف الحكم بالطهارة على العلم بوجود سببها كغيره.

والظاهر أنّ الضرورة قاضية بعدم اعتبار ذلك شرعا ، وعموم الأخبار السابقة يدلّ على خلافه ؛ فإنّ إطلاق الحكم بطهارة سؤر الهرّ فيها من دون

ص: 367


1- المعتبر 1 : 98.
2- منتهى المطلب 1 : 161.
3- نهاية الإحكام 1 : 239.

الاشتراط بشي ء مع كون الغالب فيه عدم الانفكاك من أمثال هذه الملاقاة دليل على عدم اعتبار أمر آخر غير ذهاب العين.

ولو فرضنا عدم دلالة الأخبار على العموم فلا ريب أنّ الحكم بتوقّف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفيّ قطعا. والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقّف على الدليل ، ولا دليل.

وقد اكتفى في المنتهى بزوال العين عن فمها ، فقال - بعد أن ذكر كراهة سؤر آكل الجيف وبيّن وجهه - : « وهكذا سؤر الهرّة وإن أكلت الميتة وشربت ، قلّ الماء أو كثر غابت عن العين أو لم تغب ؛ لعموم الأحاديث المبيحة » (1). وحكى ما ذكره في النهاية عن بعض أهل الخلاف (2).

وقال الشيخ في الخلاف : « إذا أكلت الهرّة فأرة ثمّ شربت من الإناء فلا بأس بالوضوء من سؤرها. وحكى عن بعض العامّة أنّه قال : إن شربت قبل أن تغيب عن العين لا يجوز الوضوء به. ثمّ قال الشيخ : والذي يدلّ على ما قلناه إجماع الفرقة على أنّ سؤر الهرّ طاهر ولم يفصّلوا » (3).

وقال المحقّق : « إذا أكلت الهرّة ميتة ثمّ شربت لم ينجس الماء وإن قلّ ، سواء غابت أو لم تغب ، ذكره في المبسوط لعموم الأحاديث المبيحة سؤر الهرّ. منها : رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام من كتاب علي عليه السلام : « إنّ الهرّ سبع » (4). وذكر الرواية وقد تقدّمت.

ص: 368


1- منتهى المطلب 1 : 161.
2- نهاية الإحكام 1 : 235.
3- الخلاف 1 : 203 - 204.
4- المعتبر 1 : 99 ، والرواية في الكافي 3 : 9 ، الحديث 4.
[ الفرع ] الرابع :

المشهور كراهة سؤر البغال والحمير ، وعمّم جماعة الحكم في كلّ مكروه اللحم. وعلّل على التقديرين بأنّ فضلات الفم التي لا ينفكّ (1) عنها تابعة للّحم. ولم ينقل في ذلك حديث ، بل الأخبار السابقة مصرّحة بنفي البأس عنه كرواية الفضل (2) وصحيحة جميل بن درّاج (3).

وقيل بكراهة كلّ حيوان غير مأكول. وفيه خروج من خلاف الشيخ.

ويدلّ عليه ما رواه الكليني في الحسن عن الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّه كان يكره سؤر كلّ شي ء لا يؤكل لحمه » (4).

[ الفرع ] الخامس :

أطلق العلّامة وغيره كراهة سؤر الدجاج ، وعلّل بعدم انفكاك منقارها غالبا من النجاسة.

وحكى في المعتبر عن الشيخ في المبسوط أنّه قال : يكره سؤر الدّجاج على كلّ حال.

قال المحقّق : « وهو حسن إن قصد المهملة ؛ لأنّها لا تنفكّ من الاغتذاء بالنجاسة » (5). وما شرطه في الحسن هو الحسن.

ص: 369


1- في « ب » و « ج » : التي لا تنفكّ عنها.
2- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 646.
3- تهذيب الأحكام 1 : 227 - 228 ، الحديث 657.
4- الكافي 3 : 10 ، الحديث 7.
5- المعتبر 1 : 99 - 100.
[ الفرع ] السادس :

قال في المعتبر : « لا بأس بسؤر الفأرة والحيّة. وكذا لو وقعتا في الماء وخرجتا ».

وحكى عن الشيخ أنّه قال في النهاية : « الأفضل ترك استعماله ».

ثمّ احتجّ المحقّق لما ذكره برواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضّأ منه » (1). وقد تقدّمت.

وهذه الرواية إنّما تدلّ على نفي البأس. والشيخ صرّح به قبل العبارة التي حكاها عنه المحقّق حيث قال : « إذا وقعت الفأرة والحيّة في الآنية أو شربتا منها ثمّ خرجتا لم يكن به بأس. والأفضل ترك استعماله على كلّ حال » (2).

نعم يتوجّه عليه المطالبة بدليل ما ذكره من أفضليّة ترك الاستعمال. ولعلّه نظر في الفأرة إلى ما سيأتي في باب النجاسات - إن شاء اللّه - من دلالة بعض الأخبار على رجحان الغسل ممّا لاقته برطوبة ، وفي الحيّة إلى ما نخشى من تأثير سمّها في الماء ؛ فإنّ ذلك ونحوه كاف في أفضليّة العدول عن الماء إلى غيره.

مسألة [3] :
اشارة

قال الشيخ في النهاية : « يكره استعمال سؤر الحائض إذا كانت متّهمة

ص: 370


1- المعتبر 1 : 100 ، وتهذيب الأحكام 1 : 419 ، الحديث 1323.
2- النهاية ونكتها 1 : 206.

فإن كانت مأمونة فلا بأس » (1).

ويحكى عن المبسوط أنّه أطلق فيه كراهة سؤرها (2). وكذا المرتضى في المصباح (3) ، وكلام ابن الجنيد في ذلك مطلق أيضا. واختار الفاضلان والشهيدان مختار النهاية (4). واستوجه بعض من عاصرناه من مشايخنا قول المبسوط.

احتجّوا للأوّل : بما رواه الشيخ عن علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السلام : « في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض قال : إذا كانت مأمونة فلا بأس » (5).

وعن عيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن سؤر الحائض قال : « توضّأ منه وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء وقد كان رسوله اللّه صلى اللّه عليه وآله يغتسل هو وعائشة في إناء واحد ولا (6) يغتسلان جميعا » (7).

وبأنّ المراد بالمأمونة المتحفّظة من الدم وبالمتّهمة ضدّها أي التي لا تتحفّظ من نجاسة ولا تبالي بها. ولا ريب أنّ تطرّق ظنّ النجاسة الذي هو المقتضي للكراهة هنا - استظهارا للعبادة واحتياطا لها - إنّما يتأتّى مع عدم التحفّظ.

واحتجّوا للثاني : بإطلاق كثير من الأخبار الواردة بالنهي عن سؤرها ،

ص: 371


1- النهاية ونكتها 1 : 205 و 206.
2- المبسوط 1 : 10.
3- المعتبر 1 : 99.
4- المعتبر 1 : 99 ، ومختلف الشيعة 1 : 232 ، واللمعة الدمشقية.
5- تهذيب الأحكام 1 : 221 ، الحديث 632.
6- في « أ » و « ج » : ويغتسلان جميعا.
7- الكافي 3 : 10 ، الحديث 2.

كرواية عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سؤر الحائض يشرب منه ولا يتوضّأ به » (1).

ورواية الحسين بن أبي العلاء عنه عليه السلام في الحائض : « يشرب من سؤرها ولا يتوضّأ منه » (2).

ورواية أبي بصير عنه عليه السلام قال : « سألته ، هل يتوضّأ من فضل الحائض؟ قال : لا » (3).

وأجاب الأوّلون بأنّ هذا المطلق محمول على ذلك المقيّد جمعا بين الأخبار ، ولا بأس به.

غير أنّ الروايات بأجمعها غير نقيّة الأسناد.

والخبر الثاني من الحجّة الاولى مرويّ في الكافي بطريق جيّد ربّما عدّ في الصحيح. وفيه زيادة تخرج بسببها عن التقييد إلى الإطلاق ؛ فإنّه رواه هكذا : « وسألته عن سؤر الحائض فقال : لا تتوضّأ منه وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مؤمنة وتغسل يديها » (4). الحديث.

ومع ذلك فالتقييد أولى ؛ لتوقّف الإطلاق على سلامة الطريق ولو في بعض أخباره وهو محلّ نظر. وليس التقييد بمتوقّف على ذلك لاتّفاق الكلّ عليه ومساعدة الوجه الاعتباري الذي ذكر في حجّته على المصير إليه.

ص: 372


1- تهذيب الأحكام 1 : 222 ، الحديث 634.
2- الكافي 3 : 10 ، الحديث 3.
3- تهذيب الأحكام 1 : 222 ، الحديث 636.
4- الكافي 3 : 10 ، الحديث 3.
فرع :

ألحق الشهيد في البيان بالحايض - بناء على ما اختاره من التقييد بالتهمة - كلّ متّهم (1). واستحسنه والدي قدس سره في الروضة وبعض مشايخنا المعاصرين (2). وتنظّر فيه الشيخ علي في بعض فوائده. وللنظر مجال ، وإن كان للإلحاق في الجملة وجه.

مسألة [4] :

قال المحقّق في المعتبر : « لا بأس أن يستعمل الرجل فضل وضوء المرأة إذا لم يلاق نجاسة عينيّة. وكذا الرجل ، لما ثبت من بقائه على التطهير » (3). وهو حسن.

وليس يعرف فيه بين الأصحاب خلاف. بل ادّعى عليه الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة (4). وإنّما خالف فيه بعض العامّة فقال بكراهة فضل المرأة إذا خلت به استنادا إلى حجّة ضعيفة لا تغني عندنا من جوع. ذكر ذلك الفاضلان (5).

قال الشيخ في الخلاف بعد أن احتجّ للحكم بالإجماع كما حكيناه : وروى ابن مسكان عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « قلت له : أيتوضّأ الرجل بفضل المرأة؟ قال : نعم إذا كانت تعرف الوضوء وتغسل يدها قبل أن تدخلها

ص: 373


1- البيان : 101.
2- مجمع الفائدة والبرهان 1 : 295.
3- المعتبر 1 : 100.
4- الخلاف 1 : 128 ، المسألة 72.
5- المعتبر 1 : 100 ، ومنتهى المطلب 1 : 164.

في الإناء » (1).

وكأنّ الشيخ أخذ هذه الرواية من كتاب ابن مسكان إذ لم أرها في كتب الحديث المشهورة ، ولا ذكرها المحقّق ولا العلّامة في المنتهى مع محافظته فيه على استقصاء الأخبار في أكثر المسائل كما مرّت الإشارة إليه.

نعم روى الكليني في الكافي عن ابن أبي يعفور قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : أيتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال : إذا كانت تعرف الوضوء » (2).

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ العلّامة سوّى في هذا الحكم بين فضل الوضوء والغسل. ولم يتعرّض الشيخ ولا المحقّق لفضل الغسل على ما وجدت.

وقال الصدوق في المقنع ومن لا يحضره الفقيه : « ولا بأس أن تغتسل المرأة وزوجها من إناء واحد ولكن تغتسل بفضله ولا يغتسل بفضلها » (3).

وجملة ما وقفت عليه في هذا الباب من الأخبار ثلاثة أحاديث :

أحدها : رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن وقت غسل الجنابة كم يجزي من الماء؟ فقال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يغتسل بخمسة أمداد بينه وبين صاحبته ويغتسلان جميعا من إناء واحد » (4).

والثاني : رواه في الكافي بالطريق الذي أشرنا إلى جودته في المسألة

ص: 374


1- الخلاف 1 : 129.
2- الكافي 3 : 11 ، الحديث 4.
3- المقنع : 40 ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 17.
4- الكافي 3 : 22 ، الحديث 5 ، وتهذيب الأحكام 1 : 137 ، الحديث 382.

السابقة ، عن العيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : هل يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد؟ فقال : نعم يفرغان على أيديهما قبل أن يضعا أيديهما في الإناء ».

وقال في آخر الحديث : « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يغتسل هو وعائشة في إناء واحد يغتسلان جميعا » (1).

والثالث : رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام أنّهما قالا : « توضّأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله واغتسل بصاع. ثمّ قال : اغتسل هو وزوجته بخمسة أمداد من إناء واحد ».

قال زرارة فقلت : كيف صنع هو؟ قال : بدأ هو فضرب بيده في الماء قبلها وأنقى فرجه ثمّ ضربت فأنقت فرجها ، ثمّ أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتّى فرغا » (2). الحديث.

وظاهر هذه الأخبار يشهد لما ذكره العلّامة.

ص: 375


1- الكافي 3 : 10 ، الحديث 2.
2- تهذيب الأحكام 1 : 370 ، الحديث 1130.

ص: 376

البحث السادس : في المشتبه
مسألة [1] :
اشارة

لا نعلم خلافا بين علمائنا في أنّ الماء إذا كان طاهرا وهو في إناء واشتبه بماء نجس في إناء آخر وجب اجتنابهما.

واحتجّ له المحقّق بعد دعوى الاتّفاق عليه بأنّ يقين الطهارة في كلّ منهما معارض بيقين النجاسة ، ولا رجحان فيتحقّق المنع (1).

واستدلّ له الشيخ في التهذيب بما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال : « سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر. لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : يهريقهما جميعا ويتيمّم » (2).

وما رواه سماعة قال : « سألت أبا عبد اللّه عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على غيره. قال : يهريقهما

ص: 377


1- المعتبر 1 : 103.
2- تهذيب الأحكام 1 : 248 ، الحديث 712.

ويتيمّم » (1).

وفي طريق هاتين الروايتين ضعف بجماعة من الفطحيّة والواقفيّة.

واحتجاج المحقّق بمعارضة كلّ من اليقينين بالآخر يلوح عليه علم المنع ؛ فإن يقين الطهارة في كلّ واحد بانفراده إنّما يعارضه الشكّ في النجاسة لا اليقين.

وقد ذكر العلّامة في المنتهى وجهين آخرين في الاستدلال من جهة الاعتبار وهما من الركاكة بمكان (2). فلذلك لم نذكرهما.

وعلى كلّ حال : فهذا الحكم ليس فيه للتوقّف مجال بعد حكاية المحقّق الاتّفاق.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الاشتباه الذي له تأثير في الماء ولو على بعض الوجوه قد يعرض بغير النجس كالمستعمل على القول بالمنع منه ، والمضاف والمغصوب. ولكن ليس البحث في ذلك هاهنا بمناسب وإن تكرّر في كلام الأصحاب ؛ إذ محلّه اللائق به باب التيمّم. فالأولى تأخير البحث في ذاك إلى هناك.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

أوجب جماعة من الأصحاب ، منهم الصدوقان والشيخان في ظاهر كلامهم إهراق الماء عند اشتباهه بالنجس (3). إلّا أنّ كلام الصدوقين ربّما أشعر باختصاص الحكم بحال إرادة التيمّم ، حيث قالا في الرسالة ومن لا يحضره الفقيه : « فإن كان معك إناءان فوقع في أحدهما ما ينجّس الماء ولم تعلم

ص: 378


1- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 713.
2- منتهى المطلب 1 : 176.
3- المقنع : 28 ، باب التيمّم ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 7.

في أيّهما وقع فاهرقهما جميعا وتيمّم » (1).

وكلام المفيد في المقنعة صريح في عدم التقييد ؛ فإنّه قال : « ولو أنّ إنسانا كان معه إناءان فوقع في أحدهما ما ينجّسه ولم يعلم في أيّهما هو ، يحرم عليه الطهور منهما جميعا ووجب عليه إهراقهما والوضوء بماء من سواهما » (2).

وعبارة الشيخ في النهاية محتملة للأمرين ؛ لأنّه قال : « وإذا كان مع الإنسان إناءان .. إلى أن قال : وجب عليه إهراق جميعه والتيمّم للصلاة إذا لم تقدر على غيره من المياه الطاهرة » (3).

فقوله : « إذا لم تقدر » يحتمل أن يكون شرطا لوجوب الإهراق والتيمّم معا.

ويحتمل أن يكون شرطا للتيمّم وحده. وربّما كان الاحتمال الثاني إليها أقرب.

وكأنّ الجماعة استندوا في هذا الحكم إلى الروايتين السابقتين حيث تضمّنتا الأمر بالإهراق.

قال المحقّق : « الأمر بالإراقة محتمل لأن يكون كناية عن الحكم بالنجاسة لأنّ استبقاءه قد يتعلّق به غرض كالاستعمال في غير الطهارة » (4). ولهذا الكلام وجه لورود الأمر بالإراقة في إدخال اليد القذرة في الماء القليل وهو في عدّة أخبار ولا قائل ثمّ بالوجوب فيما نعلم. والظاهر أنّ ذلك لفهمهم منا إرادة الحكم بالنجاسة على طريق الكناية.

والنكتة في هذه الكناية هي التفخيم للمنع ، على ما ذكره المحقّق.

ص: 379


1- الرسالة غير موجودة ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 7 ، الحديث 4.
2- المقنعة : 69.
3- النهاية ونكتها 1 : 207.
4- المعتبر 1 : 104.

ويحتمل أن تكون هي النظر إلى عسر تطهيره - بناء على توقّفه على الامتزاج - فتكون مؤيّدة للقول باعتباره في حصول التطهير.

وقد أجاب في المختلف عن الاحتجاج بالروايتين في هذا الحكم بالطعن في سندهما (1) ، مع أنّه في المنتهى استدلّ بهما على أصل المسألة وذكر أنّ الضعف يندفع بتلقّي الأصحاب لهما بالقبول (2).

وقد سبقه إلى نحو هذا الكلام المحقّق ، وحكى في المعتبر عن بعض الأصحاب تعليل وجوب الإراقة بتوقّف صحّة التيمّم عليها لأنّه مشروط بعدم الماء.

وردّه بأنّ وجود الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمّم ، كالمغصوب وما يمنع من استعماله مرض أو عدوّ. ومنع الشارع أقوى الموانع (3). وهو جيّد.

[ الفرع ] الثاني :

نصّ كثير من الأصحاب كالشيخين والفاضلين على عدم الفرق في وجوب الاجتناب مع الاشتباه بالنجس بين وقوعه في إناءين أو أكثر (4) مع أنّ الحديثين اللذين احتجّوا بهما للحكم إنّما وردا في الإنائين ، فكأنّهم استندوا في التعميم إلى الاتّفاق.

ونبّه بعضهم على عدم الفرق بين كون المائين في إناءين أو غديرين والحال

ص: 380


1- مختلف الشيعة 1 : 251.
2- منتهى المطلب 1 : 176.
3- المعتبر 1 : 104.
4- المقنعة : 69. والنهاية ونكتها 1 : 4. والمعتبر 1 : 104. ومنتهى المطلب 1 :4. 178.

فيه كالأوّل ، ولو تمّ الاحتجاج بالاعتبارات التي ذكروها لكانت دليلا في الجمع (1) وأمّا النصّ فخاصّ ، كما قد علم ، فتتوقّف التسوية التي ذكروها على الدليل. ولعلّه الاتّفاق مضافا إلى الاعتبار.

[ الفرع ] الثالث :

قال في المنتهى : « لو كان أحد الإنائين متيقّن الطهارة والآخر مشكوك النجاسة ، كما لو انقلب أحد المشتبهين ، ثمّ اشتبه الباقي بمتيقّن الطهارة ..

وجب الاجتناب » (2).

وهذا الكلام لا يخلو عن إشكال فإنّ الفرض المذكور خارج عن مورد النصّ ومحلّ الوفاق المدّعى ، فلا بدّ لما ذكره فيه من دليل. وليس بذلك الواضح ولم أر من تعرّض له من الأصحاب سواه.

مسألة [2] :
اشارة

وإذا وقع الاشتباه في إصابة النجاسة للماء على وجه ينفعل بها فلا ريب في عدم تأثيره مع توهّم الإصابة أو الشكّ فيها.

وأمّا مع الظنّ فقيل : يحكم بالتنجيس مطلقا ، وقيل يبقى على حكم الأصل وهو الطهارة مطلقا. والأوّل محكيّ عن أبي الصلاح ، والثاني عن ابن البرّاج (3).

وقال العلّامة في التذكرة : « إن استند الظنّ إلى سبب كقول العدل فهو

ص: 381


1- في « أ » : لكانت دليلا في الجميع.
2- منتهى المطلب 1 : 178.
3- جامع المقاصد 1 : 153.

كالمتيقّن ، وإلّا فلا » (1).

وقال في المنتهى : « لو أخبره عدل بنجاسة الماء لم يجب القبول ، أمّا لو شهد عدلان فالأولى القبول » (2).

وقال في موضع آخر : « لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول. ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول أيضا » (3).

واحتجّ لقبول العدلين : « بأنّ شهادتهما معتبرة في نظر الشرع قطعا » (4). ولهذا لو كان الماء مبيعا فادّعى المشتري فيه العيب لكونه نجسا وشهد له عدلان ، ثبت جواز الردّ.

وما فصّله في المنتهى هو المشهور بين المتأخّرين. وقد ذكر نحوه في موضع آخر من التذكرة (5).

وجزم المحقّق في المعتبر بعدم القبول مع إخبار العدل الواحد.

وحكى عن ابن البرّاج القول بعدم القبول في العدلين أيضا.

ثمّ قال : « والأظهر القبول لثبوت الأحكام بشهادتهما عند التنازع ، كما لو اشتراه وادّعى المشتري نجاسته قبل العقد ، فلو شهد شاهدان لساغ الرد. وهو مبنيّ على ثبوت العيب » (6) ، ولا بأس به.

ص: 382


1- تذكرة الفقهاء 1 : 90.
2- منتهى المطلب 1 : 55.
3- منتهى المطلب 1 : 56.
4- منتهى المطلب 1 : 55.
5- تذكرة الفقهاء 1 : 24.
6- المعتبر 1 : 54.

ونصّ بعض الأصحاب على اشتراط القبول في العدلين بتبيين السبب المقتضي للنجاسة لوقوع الخلاف فيه إلّا أن يعلم الوفاق فيكتفى بالإطلاق. وهذا الاشتراط حسن ووجهه ظاهر.

وقيّد جماعة الحكم بقبول إخبار الواحد بنجاسة مائه بما إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال ، فلو كان بعده لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له ؛ فإنّ ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة العين (1) فلا يكفي فيه الواحد وإن كان عدلا. ولأنّ الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه. وبهذا التقييد صرّح في التذكرة أيضا (2).

ويحكى عن أبي الصلاح الاحتجاج لما ذهب إليه بأنّ الشرعيّات كلّها ظنّيّة وأنّ العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل (3). وعن ابن البرّاج أنّه احتجّ على عدم القبول حيث يشهد العدلان : بأنّ الطهارة معلومة بالأصل ، وشهادة الشاهدين لا تفيد إلّا الظنّ فلا يترك لأجله المعلوم (4).

واجيب عن احتجاج أبي الصلاح بالمنع من العمل بمطلق الظنّ شرعا. وثبوته في مواضع مخصوصة لدليل خاصّ لا يقتضي التعدية إلّا بالقياس.

وعن حجّة ابن البرّاج بأنّ شهادة العدلين في معنى العلم شرعا للتقريب المذكور آنفا (5). وبأنّ معلوميّة الطهارة بالأصل إن أراد بها تيقّن عدم عروض

ص: 383


1- في « أ » و « ج » : إخبار بنجاسة الغير.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 44.
3- جامع المقاصد 1 : 153.
4- المهذب 1 : 30.
5- في « أ » و « ب » : المذكور أيضا.

منجّس فهو ممنوع ، وإن أراد حكم الشارع بالطهارة قطعا استنادا إلى الأصل فكذلك شهادة الشاهدين.

وأمّا ما ذهب إليه العلّامة في التذكرة فلم يتعرّض للاحتجاج عليه فيها ، ولكنّه في النهاية احتمل قبول إخبار العدل الواحد بنجاسة إناء معيّن إن وجد غيره ، ووجهه بأنّ الشهادة في الامور المتعلّقة بالعبادة كالرواية ، والواحد فيها مقبول فيقبل فيما يشبهها من الشهادة (1).

وربّما كان التفاته في كلام التذكرة إلى نحو هذا التوجيه. وحاله لا يخفى.

إذا تقرّر هذا ، فاعلم : أنّ تعارض البيّنتين في الماء بالطهارة والنجاسة موجب للإلحاق بما لو اشتبه الإناء الطاهر بالنجس عند جمع من الأصحاب. وله صورتان :

[ الصورة ] الاولى :

أن يقع التعارض في إناء واحد بأن تشهد إحدى البيّنتين بعروض النجاسة له في وقت معيّن وتشهد الاخرى بعدمه لادّعائها ملاحظته في ذلك الوقت.

والقطع بعدم حصول النجاسة له فيه وإلحاقه حينئذ بالمشتبه بالنجس أحد الأقوال للأصحاب. وممّن صرّح به العلّامة في التذكرة والقواعد (2) ، وجعله فخر المحقّقين في الشرح أولى (3) ، وقوّاه والدي في بعض فوائده (4).

والقول الثاني : العمل ببيّنة الطهارة لاعتضادها بالأصل. حكاه فخر المحقّقين

ص: 384


1- نهاية الإحكام 1 : 252.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 24. وقواعد الأحكام 1 : 189 و 190.
3- إيضاح الفوائد 1 : 24.
4- القواعد للشهيد الثاني ، مطبوع مع الذكرى : 39.

عن بعض الأصحاب (1).

والثالث : الحكم بتساقط البيّنتين والرجوع إلى أصالة طهارة الماء. ذكره الشهيد في البيان (2). وقال : إنّه قويّ بعد أن استقرب الإلحاق بالمشتبه بالنجس. ةوعزاه فخر المحقّقين للشيخ مع القول الذي قبله.

والرابع : العمل ببيّنه النجاسة لأنّها ناقلة عن حكم الأصل. وبيّنة الطهارة مقرّرة ، والناقل أولى من المقرّر عند التعارض ، كما مرّ توجيهه في البحث عن تعارض الأدلّة ، ولموافقتها الاحتياط ، ولأنّها في معنى الإثبات ، والطهارة في معنى النفي. وهذا القول يعزى إلى ابن إدريس (3) ، ومال إليه بعض المتأخّرين. وهو أحوط غير أنّ القول بالطهارة للتساقط أقرب.

[ الصورة ] الثانية :
اشارة

أن تتعارضا في إناءين بأن تشهد إحداهما بأنّ النجس هو هذا بعينه وتشهد الاخرى بأنّه الآخر.

وقد ذهب جمع من الأصحاب منهم المحقّق في المعتبر (4) ، والعلّامة في التحرير (5) ، والشهيد في الذكرى (6) ، والشيخ علي في شرح القواعد (7) وغيره ،

ص: 385


1- إيضاح الفوائد 1 : 24.
2- البيان 1 : 103 ، طبع مجمع الذخائر الإسلاميّة.
3- السرائر 1 : 88.
4- المعتبر 1 : 54 ، الفرع الثامن.
5- تحرير الأحكام 1 : 6 ، الطبعة الحجريّة.
6- ذكرى الشيعة : 12 ، الطبعة الحجريّة.
7- جامع المقاصد 1 : 155.

ووالدي في بعض فوائده (1) : إلى أنّه يصير بذلك كالمشتبه بالنجس.

وقال الشيخ في الخلاف : تسقط الشهادتان ويبقى الماء على أصل الطهارة (2).

وقال العلّامة في المختلف : « لو شهد عدلان بأنّ النجس أحد الإنائين وشهد عدلان بأنّ النجس هو الآخر ، فإن أمكن العمل بشهادتهما وجب ، وإن تنافيا اطرح الجميع وحكم بأصل الطهارة » (3). وله في آخر البحث كلام يدلّ على الميل إلى إلحاقه بالمشتبه بالنجس.

وقد نوقش في العبارة التي حكيناها عنه بأنّها تقتضي الحصر في عدم إمكان الجمع فلا يصحّ التقسيم إليه وإلى إمكانه. والأمر كذلك ، لكنّه سهل.

وحكى في المختلف عن الشيخ في المبسوط أنّه قال : « لا يجب القبول سواء أمكن الجمع أو لم يمكن والماء على أصل الطهارة أو النجاسة فأيّهما كان معلوما عمل عليه ». وأنّه قال : « وإن قلنا إذا أمكن الجمع بينهما قبل شهادتهما وحكم بنجاسة الإنائين كان قويّا لأنّ وجوب قبول شهادة الشاهدين معلوم في الشرع وليسا متنافيين » (4).

قال العلّامة : « وأهمل الطرف الآخر » (5) يعنى : أنّ الشيخ احتمل مع إمكان الجمع الحكم بنجاسة الإنائين. ولم يذكر الحكم على تقدير عدم إمكان الجمع الذي هو الطرف الآخر للترديد.

ص: 386


1- القواعد للشهيد الثاني : 39.
2- الخلاف 1 : 201.
3- مختلف الشيعة 1 : 251 و 252.
4- المبسوط 1 : 8.
5- مختلف الشيعة 1 : 251.

وقد ذكر العلّامة عن الشيخ نحو هذا الكلام في المنتهى والتحرير (1).

وفيه نظر بيّن ، لأنّ كلام الشيخ ظاهر في أنّ صورة عدم إمكان الجمع باقية على الحكم الذي ذكره أوّلا أعني عدم وجوب القبول وبقاء الماء على مقتضى الأصل حيث عمّم الحكم في الصورتين أوّلا ثمّ أخرج إحداهما وهي صورة إمكان الجمع. واحتمل فيها ما ذكره ، فتبقى الصورة الاخرى بحالها وذلك واضح. والعجب من غفلة العلّامة عنه.

ثمّ إنّه حكى عن ابن إدريس التفصيل بإمكان الجمع بينهما وعدمه وأنّه حكم بنجاسة الإنائين في الأوّل واضطرب في الثاني ، فتارة : أدخله تحت عموم وجوب القرعة في كلّ مشكل. وتارة : أخرجه عنه. واستبعد استعمال القرعة في الأواني والثياب ، ولا أولويّة للعمل بإحدى الشهادتين دون الاخرى فيطرح الجميع ؛ لأنّه ماء طاهر في الأصل ، وحصل الشكّ في النجاسة فيبقى على اليقين. قال :

ثمّ أفتى بعد ذلك كلّه بنجاسة الإنائين وقبول الشهود الأربعة ؛ لأنّ ظاهر الشرع يقتضي صحّة شهادتهم ؛ لأنّ كلّ شاهدين قد شهدا بإثبات ما نفاه الشاهدان الآخران. قال : « وعليه انقطع نظره » (2).

احتجّ الذاهبون إلى إلحاقه بما لو اشتبه الطاهر بالنجس بأنّ الاتّفاق حاصل من البيّنتين على نجاسة أحد الإنائين ، والتعارض إنّما هو في التعيين فيحكم بما لا تعارض فيه ، ويتوقّف في موضع التعارض.

واحتجّ الشيخ في الخلاف : بأنّ الماء على أصل الطهارة ، وليس على

ص: 387


1- منتهى المطلب 1 : 55. وتحرير الأحكام 1 : 1. الطبعة الحجريّة.
2- مختلف الشيعة 1 : 251 ، وراجع السرائر 1 : 86 - 88.

وجوب القبول من الفريقين ولا من واحد منهما دليل ، فوجب طرحهما وبقي الماء على حكم الأصل (1).

واحتجّ العلّامة في المختلف : بأنّه مع إمكان الجمع يحصل المقتضي لنجاسة الإنائين فيثبت الحكم. ومع امتناع الجمع يكون كلّ واحدة من الشهادتين منافية للأخرى. ويعلم قطعا كذب إحداهما. وليس تكذيب واحدة منهما بعينها أولى من تكذيب الاخرى فيجب طرح الجميع والرجوع إلى الأصل وهو الطهارة (2).

وأنت إذا تأمّلت هذه الحجج الثلاث وجدت التحقيق في الاولى. ولا يذهب عليك أن سوقها صريح في الاختصاص بصورة عدم إمكان الجمع كما هو الحقّ ؛ فإنّ وجوب العمل بالبيّنتين في صورة الإمكان واضح جليّ ، وسنبيّنه أيضا ، ولذلك لم يتعرّض في هذه الحجّة له.

وقد ذكرنا أنّ المحقّق رحمه اللّه ممّن يذهب هنا إلى القول بالإلحاق بالمشتبه بالنجس ، وهو مصرّح بالحكم بنجاسة الإنائين إذا أمكن الجمع ، لكنّه لم يحتجّ على ما ذهب إليه بشي ء والحجّة التي حكيناها إنّما احتجّ بها غيره.

فأمّا حجّة الشيخ فيرد عليها أنّه لا مقتضي للإطراح إلّا التعارض وهو منفيّ بالنظر إلى أحد الإنائين من غير تعيين وإنّما وقع التعارض في التعيين ، والإطراح فيه لا يقتضي الإطراح مطلقا فيبقى معنى الاشتباه موجودا. هذا بالنظر إلى صورة عدم إمكان الجمع.

وأمّا بالنظر إلى الإمكان فسيعلم من الكلام على حجّة العلّامة. وينبغي

ص: 388


1- الخلاف 1 : 201 ، طبعة جماعة المدرّسين.
2- مختلف الشيعة 1 : 251.

أن يعلم أنّ كلام الشيخ في هذه الحجّة وإن لم يكن ظاهرا في التسوية بين حالتي إمكان الجمع وعدمه إلّا أنّ سوق عبارته في هذه المسألة يشعر بذلك حيث قال : « إذا شهد شاهدان أنّه ولغ الكلب في واحد من الإنائين وشهد آخران أنّه ولغ في الآخر سقطت شهادتهما وبقي الماء على أصل الطهارة » ثمّ حكى عن بعض العامّة ما يقتضي الفرق بين صورتي التنافي وعدمه. وأنّه حكم بنجاستهما في الثاني.

واحتجّ الشيخ بعد ذلك على ما اختاره بالحجّة التي حكيناها (1) ، ودلالة ذلك على تسويته بين الصورتين ظاهر. على أنّ كلامه في الحجّة ربّما أفهم كونه ناظرا في إسقاط الشهادتين والحكم بالطهارة إلى عدم قبول البيّنة بالنجاسة كقول ابن البرّاج ولم أقف له على ما يخالف ذلك في هذا الكتاب. والعبارة المحكيّة عن المبسوط سابقا لا تخلو عن إيذان بالتردّد في هذا الحكم أيضا ، وهو يقرّب احتمال البناء عليه هنا. غير أنّ القول بذلك لا يعرف لغير ابن البرّاج فليتأمّل.

وأمّا حجّة العلّامة فالذي يتعلّق منها بصورة إمكان الجمع حسن ؛ لأنّ فرض قبول البيّنة في كلّ من الإنائين مع الانفراد يقتضي القبول مع الاجتماع ؛ للقطع بعدم تأثيره حيث لا تنافي (2) كما هو المقدّر. وأمّا ما ذكره في صورة عدم الإمكان فيرجع إلى كلام الشيخ في الخلاف وقد علم حاله.

والعلّامة تنبّه لورود المناقشة على ما ذكره في الصورة الثانية بما أشرنا إليه وحاول الجواب عنها فقال :

ص: 389


1- الخلاف 1 : 201 ، والمجموع 1 : 178.
2- في « أ » و « ب » : حيث لا ينافي.

« لا يقال : يحكم بنجاسه أحد الإنائين وصحّة إحدى الشهادتين فيكون بمنزلة الإنائين المشتبهين.

لأنّا نقول : نمنع (1) حصول العلم بنجاسة أحد الإنائين وصحّة إحدى الشهادتين لأنّ صحّة الشهادة إنّما يثبت مع انتفاء المكذّب أمّا مع وجوده فلا » (2).

وهذا الكلام ظاهر الضعف ؛ فإنّ التكذيب إنّما وقع في التعيين لا مطلقا كما عرفت. ولمّا كان مجال المناقشة باقيا بحاله مع هذا الجواب استدرك العلّامة في آخر كلامه فقال :

« على أنّه لو قيل بذلك - يعني جعله كالمشتبه - كان وجها ، ولهذا يردّهما المشتري سواء تعدّد أو اتّحد » (3).

وأراد بقوله : « ولهذا يردّهما » أنّه لو اشترى هذين الإنائين مشتر أو اثنان ثمّ شهد الشهود كما ذكر ثبت له أو لهما الخيار ، ولو لا قبول الشهادة بالنجاسة لما ثبت الخيار. وقد اعترض بأنّا لا نعلم ثبوت الخيار إلّا على تقدير قبول شهادة النجاسة فلو جعل دليلا على قبولها لزم الدور.

واجيب بأنّ الخيار ثبت جزما ؛ لأنّ شهادة الشهود بالعيب لا سبيل إلى ردّها لا سيّما مع اتّفاقهم على وجود العيب في أحد الإنائين في الجملة. مضافا إلى أنّ حقوق الآدميّين مبنيّة على الاحتياط التامّ فكيف يقال : يبقى الخيار استنادا إلى الأصل؟

نعم يمكن أن يقال : إنّ ثبوت الخيار لا يصلح دليلا على الاشتباه ، وإنّما

ص: 390


1- في « ب » : يمنع.
2- مختلف الشيعة 1 : 252.
3- مختلف الشيعة 1 : 251.

يدلّ على عدم التمسّك بالأصل. هذا. وقد عرفت أنّ حاصل كلام الشيخ في المبسوط يرجع إلى ما ذهب إليه العلّامة في المختلف فيعلم حاله توجيها وردّا ممّا قد بيّناه.

ويبقى الكلام على احتجاج ابن إدريس وما حكي عنه من الاضطراب ، وقد اشتمل كلامه على عدّة وجوده ، بعضها يوافق كلام الجماعة وبعضها يخالفه ، وحكم الموافق يعلم ممّا ذكرناه في نظيره.

أمّا المخالف فوجهان :

أحدهما : إيجاب القرعة وهو مستبعد ، كما اعترف به ؛ لعدم ظهور تناول دليل اعتبارها لمثله خصوصا بعد ملاحظة عدم التعرّض لاحتماله في مسألة اشتباه الإناء الطاهر بالنجس فضلا عن القول به.

والثاني : الحكم بنجاسة الإنائين معلّلا بأنّ ظاهر الشرع يقتضي صحّة شهادتهم ؛ لأنّ كلّ شاهدين قد شهدا بإثبات ما نفاه الآخران.

وتوضيح هذا الكلام : أنّ كلّ واحدة من البيّنتين تضمّنت إثباتا ونفيا. والإثبات هو الشهادة بالنجاسة ، والنفي الشهادة بالطهارة.

ومن القواعد المقرّرة تقديم شهادة الإثبات على شهادة النفي ، فتقبل هاهنا الشهادة بالنجاسة فيهما.

ويرد عليه أنّ اللازم من قبول البيّنتين الحكم بطهارة أحد الإنائين لاتّفاقهما عليه. والاختلاف في التعيين لا ينافيه.

وحديث تقديم شهادة الإثبات ليس على إطلاقه لو سلّمنا كون الشهادة بالطهارة في صورة عدم إمكان الجمع - التي هي محلّ البحث - شهادة بالنفي.

فرع :

قال الشيخ في الخلاف : « إذا كان معه إناءانة فولغ الكلب في أحدهما

ص: 391

واشتبها عليه وأخبره عدل بعين ما ولغ الكلب فيه لا يقبل منه ».

وحكى عن بعض العامّة القبول ، ثمّ قال : « دليلنا ما قدّمناه من خبر عمّار وسماعة ، وأنّه أمره بإراقة الإنائين والتيمّم ولم يقل إلّا أن يشهد عدل ». وأيضا قد علمنا أنّه لا يجوز له استعمالها بإجماع الفرقة. وإيجاب القبول من العدل يحتاج إليه دليل (1).

وما ذكره الشيخ جيّد. وروايتا عمّار وسماعة اللتان أشار إليهما هما السابقتان في الاحتجاج لوجوب اجتناب الإناء المشتبه.

وقد احتمل الشهيد في الذكرى القبول في مثله معلّلا له بأصالة صحّة إخباره (2) ، وضعفه ظاهر.

[ فرع ] آخر :

حكى في الذكرى الخلاف في اعتبار ظنّ إصابة النجاسة للماء ورجّح في غير المستند إلى إخبار العدلين الطهارة ثمّ حكم باستحباب الاجتناب عند عروض هذا الاشتباه بشرط أن يكون الظنّ ناشيا عن سبب ظاهر ، كشهادة العدل وإدمان الخمر (3).

وله وجه ، وأقلّه الخروج من خلاف من حكم بالنجاسة في مثله.

مسألة [3] :

وإذا وقع الاشتباه في نجاسة الواقع في الماء القليل وطهارته بني على أصل

ص: 392


1- الخلاف 1 : 200.
2- ذكرى الشيعة : 12.
3- ذكرى الشيعة : 12.

الطهارة بغير إشكال ولا خلاف يعرف في ذلك.

والأظهر أنّ من هذا الباب ما لو وقع فيه صيد مجروح حلال اللحم نجس الميتة وكان المحلّ الملاقي للماء منه خاليا من النجاسة فمات فيه واشتبه استناد موته إلى الجرح أو الماء فيحكم بطهارة الماء حينئذ.

وهو أحد القولين للعلّامة. اختاره في بعض كتبه (1) ، وقوّاه الفاضل الشيخ علي في شرح القواعد (2) وحكم جمع من الأصحاب بنجاسة الماء بذلك وهو القول الثاني للعلّامة ذهب إليه في أكثر كتبه (3) ، ووافقه ولده فخر المحقّقين في الشرح ، والشهيدان رحمهم اللّه (4).

وتوقّف المحقّق في المعتبر (5).

لنا : أصالة طهارة الماء السالمة عن معارضة يقين حصول الرافع لها شرعا فإنّ الشكّ في استناد الموت إلى الجرح أو الماء يقتضي الشكّ في عروض النجاسة فلا يعلم حصول الرافع.

احتجّوا بأنّ تحريم الصيد حينئذ ثابت بالإجماع ، وجملة من الأخبار.

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّه سئل عن رجل رمى صيدا وهو على جبل أو حائط فيخرق فيه السهم فيموت؟ فقال : « كلّ منه. وإن وقع

ص: 393


1- تحرير الأحكام 1 : 6.
2- جامع المقاصد 1 : 156.
3- قواعد الأحكام 1 : 190 ، ونهاية الإحكام 1 : 256 ، ومنتهى المطلب 1 : 172.
4- إيضاح الفوائد 1 : 25 ، والبيان 1 : 103.
5- المعتبر 1 : 103 ، الفرع السابع.

في الماء من رميتك فمات فلا تأكل منه » (1).

والحكم بتحريم اللحم يدلّ على عدم تحقّق الذكاة ، وذلك يقتضي الحكم بموته حتف أنفه ، والنجاسة لازمة له.

والجواب : المنع من دلالة حرمة اللحم على عدم تحقّق الذكاة وإنّما يدلّ على ذلك لو كان الحكم بالتحريم موقوفا عليه ، وهو في حيّز المنع أيضا ؛ لجواز استناده إلى جهالة الحال وحصول الاشتباه ؛ فإنّ التحريم حينئذ هو مقتضى الأصل لاشتراط الحلّ بأمر وجوديّ. ولا ريب أنّ الأصل في مثله العدم فيعمل بكلّ من أصلي طهارة الماء وحرمة اللحم.

وما يقال : من أنّ العمل بالأصلين إنّما يصحّ مع إمكانه وهو منتف ؛ لأنّه كما يستحيل اجتماع الشي ء مع نقيضه كذلك يستحيل اجتماعه مع نقيض لازمه. وموت الحيوان يستلزم نجاسة الماء فلا يجامع الحكم بطهارته كما لا يجامع تذكيته.

فجوابه : أنّ عدم الإمكان إنّما يتحقّق إذا جعل التحريم مستندا إلى العلم بعدم التذكية الذي هو عبارة عن موته حتف أنفه لا إذا جعل مسبّبا عن عدم العلم بالتذكية. والحكم بطهارة الماء إنّما يتوقّف على عدم العلم بوجود النجاسة لا على العلم بعدمها ؛ إذ الشكّ في نجاسة الواقع لا يقتضي نجاسة الماء قطعا كما بيّناه.

ص: 394


1- تهذيب الأحكام 9 : 52 ، الحديث 216 ، باب الصيد.
البحث السابع : في بقايا مسائل متفرّقة من أحكام المطلق
مسألة [1] :
اشارة

المشهور بين الأصحاب أنّ الماء إذا أسخنته الشمس في الآنية كره استعماله في الطهارة. وقد ادّعى فيه الشيخ الإجماع في الخلاف إلّا أنّه اشترط في الحكم القصد إلى ذلك حيث قال : « المسخّن بالشمس إذا قصد به ذلك مكروه إجماعا » (1).

وأطلق في النهاية (2) وكذا أكثر الأصحاب بل صرّح جمع منهم بعدم الفرق.

واحتجّوا : لأصل الحكم بما رواه إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السلام قال : « دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس فقال : يا حميرا ما هذا؟ قالت : أغسل رأسي وجسدي. قال : لا تعودي فإنّه يورث البرص » (3).

وما رواه إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول

ص: 395


1- الخلاف 1 : 55 ، المسألة 4.
2- النهاية ونكتها 1 : 211.
3- الاستبصار 1 : 30 ، الحديث 79 ، الباب 16.

اللّه صلى اللّه عليه وآله : الماء الذي تسخّنه الشمس لا توضّئوا به ، ولا تغتسلوا به ، ولا تعجنوا به ؛ فإنّه يورث البرص » (1).

وإنّما حمل النهي في الروايتين على الكراهة مع أنّه حقيقة في التحريم لوجهين.

أحدهما : مراعاة الجمع بينهما وبين ما رواه الشيخ عن محمّد بن سنان قال : حدّثني بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا بأس بأن يتوضّأ بالماء الذي يوضع في الشمس » (2).

والثاني : إنّ العلّة المذكورة للنهي راجعة إلى المصلحة الدنيويّة وذلك قرينة كون النهي للإرشاد على حدّ قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (3).

واعترض : بأنّ العود إلى المصلحة الدنيويّة لا يدلّ على عدم كون النهي للتحريم ، كيف! ووجوب دفع الضرر ممّا لا ريب فيه.

واجيب : بأنّ دفع الضرر إنّما يجب مع العلم أو الظنّ وهما منتفيان ، والقدر الثابت هنا إنّما هو الإمكان.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ظاهر الخبر الأوّل يوافق ما ذكره الشيخ في الخلاف من اشتراط الحكم بالقصد (4) ، ولكنّ الخبر الثاني عامّ وليس بينهما منافاة تدعو إلى الجمع بحمل العام على الخاص ، فيتّجه عدم الفرق لو كانت الروايات ناهضة بإثبات الحكم ؛ فإنّها بأجمعها ضعيفة السند وضميمة الإجماع المحكي إليها إنّما يفيد بالنظر إلى الخاص إذ لم ينقل الإجماع إلّا عليه ، كما

ص: 396


1- الكافي 3 : 15 ، الحديث 5.
2- الاستبصار 1 : 30 ، الحديث 78.
3- سورة البقرة ، الآية : 281.
4- الخلاف 1 : 54.

قد علم ، فيقع الشكّ في التعميم. غير أنّ اعتبار العلّة يقتضي عدم الفرق.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

نصّ كثير من الأصحاب على أنّه لا فرق في ثبوت الكراهة هنا بين كون الآنية منطبعة (1) وغيرها ، ولا بين كون ذلك في قطر حارّ وعدمه ، محتجّين بعموم النصّ (2).

وقال العلّامة في النهاية : « إن علّلنا كراهة الشمس بأنّه يورث البرص احتمل اشتراط أمرين : كونه في الأواني المنطبعة كالحديد والرصاص والنحاس ؛ لأنّ الشمس إذا أثّرت فيها استخرجت منها زهومة تعلو الماء ومنها يتولّد المحذور عدا الذهب والفضّة لصفاء جوهرهما. واتّفاقه في البلاد المفرطة الحرارة دون الباردة والمعتدلة لضعف تأثير الشمس فيها. ولا فرق بين أن يقع ذلك قصدا أو اتّفاقا ؛ لعدم اختلاف المحذور ، ويحتمل عموم الكراهة في الأواني المنطبعة وغيرها كالخزفيّة وفي البلاد الحارّة وغيرها لعدم توقّف الكراهة على خوف المحذور عملا بإطلاق النهي. والتعرّض للمحذور إشارة إلى حكمته فلا يشترط حصولها في كلّ صورة » (3). هذا كلامه ، وهو جيّد.

غير أنّ ظاهر الأصحاب الإطباق على التعميم إذ لم ينقلوا القول بالاختصاص في الآنية والبلاد إلّا عن بعض العامّة.

ص: 397


1- في « ب » : الآنية منطبقة.
2- انظر روايتي ابن عبد الحميد وابن أبي زياد المتقدّمتين في أوّل المسألة.
3- نهاية الإحكام 1 : 226.
[ الفرع ] الثاني :

قال في التذكرة : « لو زال التشميس احتمل بقاء الكراهة لعدم خروجه عن كونه مشمسا » (1).

وقطع الشهيد رحمه اللّه في الذكرى ببقائها (2). وتبعه جماعة من المتأخّرين محتجّين بالاستصحاب ، وبظاهر التعليل بخوف البرص ، وبصدق الاسم بعد الزوال إذ المشتقّ لا يشترط فيه بقاء أصله كما حقّق في محلّه.

والتمسّك بمثل هذا الاستصحاب منظور فيه. وقد مرّ الكلام عليه.

وفي الاستناد إلى التعليل إشكال ، ووجهه يعلم ممّا ذكر في الفرع السابق.

وأمّا ملاحظة صدق الاسم فلا يخلو عن قرب. ومن ثمّ اقتصر عليه في تعليل احتمال البقاء في التذكرة. واستقرب في المنتهى البقاء محتجّا به (3) ، وله وجه.

وما يقال : من أنّ عدم اشتراط بقاء المعنى في المشتقّ إنّما هو إذا لم يكن زواله بطريان وصف وجوديّ يضادّه ، كما حقّق في موضعه. ومن البيّن أنّ زوال السخونة إنّما هو بطريان البرودة وهي وصف وجوديّ يضادّها.

فجوابه : أنّ الاشتقاق من التسخين لا من السخونة فليتأمّل.

[ الفرع ] الثالث :

ذهب بعض من عاصرناه من مشايخنا إلى اشتراط الكراهة هنا بقلّة الماء.

وظاهر جماعة من متأخّري الأصحاب القول بعدم الفرق بين القليل والكثير تمسّكا بإطلاق النصّ والفتوى ، والتعليل. وللنظر في ذلك مجال.

ص: 398


1- تذكرة الفقهاء 1 : 13.
2- ذكرى الشيعة : 8 ، العارض الثاني.
3- منتهى المطلب 1 : 25.

وربّما كان اعتبار القلّة أقرب.

[ الفرع ] الرابع :

قال بعض الأصحاب : إنّما يحكم بالكراهة هنا إذا وجد ماء آخر للطهارة إذ مع عدم وجدان غيره تجب الطهارة به فلا يتصوّر ثبوت الكراهة.

واعترض : بأنّه لا منافاة بين الوجوب عينا والكراهة ، كما في الصلاة وغيرها من العبادات على بعض الوجوه. واللازم من ذلك عدم زوال الكراهة هنا بفقدان غيره ؛ لبقاء العلّة ، وعدم منافاة وجوب الاستعمال لها. وفيه نظر.

[ الفرع ] الخامس :

لا كراهة فيما تسخّنه الشمس في غير الآنية من حوض أو نهر أو ساقية. وقد حكى فيه العلّامة الإجماع في النهاية والتذكرة (1). وبالجملة فهو ممّا ليس فيه إشكال ولا شبهة.

[ الفرع ] السادس :

ألحق جماعة من الأصحاب باستعمال المسخّن بالشمس في الطهارة ساير وجوه الاستعمال له من تناول ، وإزالة نجاسة ، ونحوهما ، فحكموا بكراهة الجميع ؛ نظرا إلى دلالة التعليل عليها.

واقتصر الشهيد رحمه اللّه في الذكرى على استعماله في الطهارة والعجين محتجّا لذلك بالخبر (2). وقد سبق في رواية إسماعيل بن أبي زياد (3) الجمع بين الطهارة والعجين في النهي عن استعماله ، وهو ما عناه الشهيد بالخبر. والصدوق أفتى

ص: 399


1- نهاية الإحكام 1 : 226 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 13.
2- ذكرى الشيعة 1 : 8 ، العارض الثاني.
3- تهذيب الأحكام 1 : 379 ، الحديث 1177.

بمضمونه أيضا في من لا يحضره الفقيه ، فاقتصر على الطهارة والعجين (1).

مسألة [2] :
اشارة

والماء المسخّن بالنار لا بأس باستعماله. وهو قول أكثر الأصحاب (2) ، لا يعرف بينهم فيه خلاف.

واستثنوا من ذلك غسل الأموات ، فحكموا بكراهة استعماله فيه ، وقد روي استعماله في غير الأموات من فعل الصادق عليه السلام.

فروى الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل تصيبه الجنابة ، وهو في أرض باردة ولا يجد الماء وعسى أن يكون الماء جامدا؟ قال : يغتسل على ما كان. إلى أن قال : وذكر أبو عبد اللّه عليه السلام أنّه اضطرّ إليه وهو مريض فأتوه به مسخّنا فاغتسل به » (3). الحديث.

ووردت روايات بالنهي عن استعماله في غسل الميّت ، منها :

ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة قال : « قال أبو جعفر : لا تسخّن الماء للميّت » (4).

ومنها : ما رواه في الحسن عن عبد اللّه بن المغيرة عن رجل عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام قال : « لا تقرب الميت ماء جميعا » (5).

ص: 400


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 7.
2- في « أ » و « ج » : وهو قول الأصحاب.
3- الاستبصار 1 : 163 ، الحديث 564. وتهذيب الأحكام 1 : 3. الحديث 576.
4- تهذيب الأحكام 1 : 322 ، الحديث 938.
5- تهذيب الأحكام 1 : 322 ، الحديث 939.

وروى الكليني في الكافي عن يعقوب بن يزيد عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا يسخّن للميت الماء ، لا يعجّل له النار » (1). الحديث.

فرعان :
[ الفرع ] الأوّل :

استثنى الشهيد في الذكرى من نفي البأس عن استعمال المسخّن بالنار في غير الأموات : ما لو اشتدّت السخونة بحيث يقضي إلى عسر الإسباغ فقال : « إنّ الأولى الكراهيّة حينئذ لفوات الأفضليّة » (2). وله وجه.

[ الفرع ] الثاني :

استثنى الشيخان من كراهة المسخّن بالنار للأموات (3) ما إذا خاف الغاسل على نفسه من استعمال الماء لشدّة البرد ، فحكما بعدم كراهيّة المسخّن حينئذ (4).

لكن الشيخ أطلق في النهاية (5).

وقيّده المفيد في المقنعة بالقلّة حيث قال : « فإن كان الشتاء شديد البرد فليسخن له قليلا ليتمكّن غاسله من غسله » (6).

وتبعهما في أصل الاستثناء جمع من الأصحاب محتجّين له بأنّ فيه دفعا

ص: 401


1- الكافي 3 : 147 ، الحديث 2. وفي « ب » : لا تسخّن للميّت الماء ، لا تعجّل له بالنار.
2- ذكرى الشيعة : 8.
3- في « ب » : المسخّن بالنار في غسل الأموات.
4- في « أ » و « ب » : عدم كراهيّة التسخين.
5- النهاية ونكتها 1 : 246.
6- المقنعة : 82.

للضرر. والصدوقان استثنيا أيضا من الكراهة هنا حالة شدّة البرد (1). إلّا أنّ الظاهر من كلامهما كون المقتضي لذلك رعاية حال الميّت لا خوف الغاسل حيث قال الشيخ علي في الرسالة : « ولا تسخّن الماء إلّا أن يكون شتاء باردا فتوقي الميّت ممّا توقي منه نفسك ولا يكون الماء حارّا شديد الحرارة ، وليكن فاترا ». وقال ولده في من لا يحضره الفقيه : « قال أبو جعفر عليه السلام : لا يسخّن الماء للميّت ». وروي في حديث آخر : « إلّا أن يكون شتاء باردا فتوقي الميّت ممّا توقي منه نفسك » (2).

وهذا الكلام كما دلّ على ذهابهما إلى كون المقتضي لنفي الكراهة حينئذ هو ملاحظة الميّت على خلاف ما ذكره غيرهما من الأصحاب ، فقد دلّ أيضا على أنّ الحجّة في ذلك هي النصّ لا دفع الضرر ، كما احتجّ به جماعة.

وعبارة من لا يحضره الفقيه وإن لم يصرّح فيها بالحكم حيث أورده بلفظ روي ، إلّا أنّ البناء على قاعدته التي قرّرها في أوّله من أنّه لا يورد فيه من الروايات إلّا ما يفتي به يدلّ على ذلك لا سيّما مع قرب العهد بها كما لا يخفى.

مسألة [3] :

ولا بأس بالطهارة بماء الحمّات وهي العيون الحارّة التي يشمّ منها رائحة الكبريت. ولا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا إلّا ابن الجنيد فإنّه قال في المختصر : « ماء الحمّات التي لا يوجد إلّا والرائحة المكروهة مقارنة لها كالكبريت وغيره ممّا أكره الطهارة به ». وابن البرّاج حيث قال بكراهة استعمالها ،

ص: 402


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 142.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 142.

فيما يحكى عنه (1). ولم نقف لما قالاه على حجّة.

نعم ذكر الصدوق رحمه اللّه في من لا يحضره الفقيه أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله نهى أن يستشفى بها ، وقال : « إنّها من فوج جهنّم » (2).

وروى في الكافي عدّة أخبار تدلّ على ذلك (3). ومن ثمّ حكم كثير من الأصحاب بكراهة التداوي بها.

مسألة [4] :

إذا تغيّر المطلق في أحد الأوصاف بممازجة طاهر أو مجاورته لم يخرج بالتغيير عن إفادة التطهير ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء سواء كان المقتضي للتغيير (4) ممّا لا ينفكّ الماء عنه كالتراب والطحلب والكبريت وورق الشجر ، أو ممّا ينفكّ كالدقيق والزعفران ، أو من المائعات كاللبن وماء الورد ، أو ممّا يجاوره ولا يشبع فيه كالعود. بغير خلاف في ذلك كلّه لأحد من الأصحاب فيما نعلم.

وإنّما حكوا فيه خلافا لبعض العامّة حقيقا بالإعراض عنه.

وحجّة الأصحاب في ذلك إنّ إفادة التطهير منوطة بالمائيّة وهي موجودة فيه ، وأنّ الصحابة كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم وهي لا تنفكّ عن الدباغ المغيّر للماء غالبا ولم يمنع منها ، وأنّ الماء لرطوبته ولطافته منفعل

ص: 403


1- المهذّب 1 : 27.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 19 ، الحديث 25.
3- الكافي 6 : 389 ، باب المياه المنهيّ عنها ، الأحاديث 1 و 2 و 3 و 4.
4- في « أ » و « ب » : المقتضي للتغيّر.

بالكيفيّات الملاقية ، فلو خرج بتغيّر أحد الأوصاف عن التطهير لعسرت الطهارة ؛ لأنّه لا يكاد ينفكّ عن التكيّف برائحة الإناء. وكلّ هذا واضح.

فرع :

قال المحقّق في المعتبر : « لو كان معه ما لا يكفيه لطهارته فأكمله بمائع فإن لم يسلبه الإطلاق صحّ الوضوء به ؛ لاستهلاك المائع فيه وبقاء الصفة المقتضية للتطهير » (1). وما قاله جيّد.

وظاهر بعض الأصحاب أنّ هذا الحكم موضع وفاق بينهم. ووجهه يعلم من الحكم بعدم تأثير تغيّر أحد الأوصاف بمثله حيث لا يوجب الخروج عن الاسم كما قرّر. هذا.

وقد اختلفوا في وجوب الإكمال حينئذ إذا لم يجد ماء آخر للطهارة. ومحلّ البحث في ذلك باب التيمّم.

مسألة [5] :

وإذا حصل التغيّر للمطلق من قبل نفسه لطول المكث فإن بقي صدق الاسم فهو على حكمه ، وإلّا فلا.

والوجه في الأمرين ظاهر ممّا سلف.

وقد ذكر كثير من الأصحاب كراهة الطهارة به على تقدير بقاء الاسم مع وجدان غيره ؛ استنادا إلى ما رواه الشيخ في الحسن عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « في الماء الآجن يتوضّأ. منه إلّا أن يجد ماء غيره فيتنزّه

ص: 404


1- المعتبر 1 : 38.

منه » (1). ولأنّه مستخبث طبعا فكان اجتنابه أنسب بحال المستظهر (2) لطهارته. وهو حسن.

ولا يقدح في الاحتجاج بالحديث كونه أخصّ من المدّعى حيث لا تعرّض فيه لغير الوضوء ، فقد قرّبه الشهيد في الذكرى بأنّ الغسل أولى لقوّته وإزالة الخبث أحرى ؛ لأنّ العينيّة أشدّ من الحكميّة (3).

مسألة [6] :
اشارة

قد بيّنا أنّ جمود الماء يخرجه عن الاسم ويلحقه بالجامدات في الحكم.

وإنّ ادّعاء العلّامة في المنتهى عدم خروجه بذلك عنه (4) ضعيف. وفي معناه الثلج.

لكن لو استعمل أحدهما في الطهارة بحيث يصدق معه مسمّى الغسل في الوضوء أو الغسل بأن ينحلّ منه بعض الأجزاء وتجري على الأعضاء بقدر ما يتوقّف عليه صدق اسم الغسل صحّ. وقد ادّعى فيه الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة (5). وقال المحقّق لم أعرف فيه من الأصحاب مخالفا (6).

والظاهر من كلام الشيخ في الخلاف الاكتفاء في صحّة الوضوء به بمجرّد

ص: 405


1- تهذيب الأحكام 1 : 408.
2- في « ب » : أنسب بحال التطهير.
3- ذكرى الشيعة : 8.
4- منتهى المطلب 1 : 172.
5- الخلاف 1 : 53.
6- المعتبر 1 : 39.

الدهن وأنّ ذلك ثابت بالإجماع ولولاه لم يكتف به.

وتحقيق الحال في هذا المعنى ببحث الوضوء أليق ؛ إذ الغرض هنا إثبات أصل الحكم.

والدليل عليه : أنّه بالانحلال يعود إليه اسم الماء فيثبت له أحكامه.

ويؤيّده ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يجنب في السفر لا يجد إلّا الثلج قال : يغتسل بالثلج » (1). الحديث.

وعن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا أيّهما أفضل أيتيمّم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال : الثلج إذا بلّ رأسه وجسده أفضل ، فإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمّم » (2).

وعن معاوية بن شريح قال : « سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده فقال : يصيبنا الدمق والثلج ونريد أن نتوضّأ ولا نجد إلّا ماء جامدا ، فكيف أتوضّأ؟ أدلّك به جلدي؟ قال : نعم » (3).

فأمّا ما رواه الكليني في الكافي عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن رجل أجنب في سفر ولم يجد إلّا الثلج أو ماء جامدا؟ فقال : هو بمنزلة الضرورة يتيمّم ، ولا نرى أن يعود إلى هذه الأرض التي توثق دينه » (4). فمحمول على ما إذا لم يتمكّن من استعماله على وجه

ص: 406


1- تهذيب الأحكام 1 : 191.
2- تهذيب الأحكام 1 : 192.
3- الاستبصار 1 : 157.
4- الكافي 3 : 67.

يصدق معه مسمّى الغسل.

قال العلّامة رحمه اللّه : « الغالب في تلك الأراضي التي لا يوجد فيها إلّا الثلج أو الجمد شدّة البرودة المانعة من الملامسة فيحمل عليه لظهوره » (1).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ صحّة استعمال الثلج والجمد لا يختصّ بحال الضرورة - بناء على ما اخترناه من اشتراطه بتحقّق الغسل - إذ لا يبقى بينه وبين غيره من المياه فرق وأمّا على ما يظهر من كلام الشيخ من الاكتفاء فيه بالدهن وجعل ذلك من خصوصيّاته (2) ، فالذي ينبغي تقييده بحال الضرورة.

فرع :

قال العلّامة في المنتهى : الذائب من الثلج والبرد يجوز التطهّر به أمّا الملح الذائب إذا كان أصله من السبخ فلا (3).

وهذا الكلام يلوح منه أنّه يرى الفرق في الملح بين ما أصله من السبخ وهو المسمّى بالجبلي وبين ما أصله الماء ويعبّر عنه بالمائي وأنّ المنع من الاستعمال في الطهارة مخصوص بالجبلي.

وله في النهاية كلام يخالف هذا حيث قال : إنّ الملح المائي أصله الأرض أيضا ؛ لأنّ المياه تنزل من السماء عذبة ثمّ يختلط بها أجزاء السبخة فينعقد ملحا. ولهذا لا تذوب بالشمس. ولو كان منعقدا من الماء لذاب كالمجمّد (4). وهذا هو الأظهر.

ص: 407


1- منتهى المطلب 1 : 174.
2- الخلاف 1 : 52 ، ذيل المسألة 3.
3- منتهى المطلب 1 : 23.
4- نهاية الإحكام 1 : 227.
مسألة [7] :

ماء البحر كغيره من أصناف الماء المطلق فيجوز استعماله في الطهارة وإن وجد خلافه.

وهو موضع وفاق بيننا ؛ إذ حكى فيه إجماعنا جمع من الأصحاب ، منهم الشيخ في الخلاف (1) والمحقّق في المعتبر (2) والعلّامة في المنتهى والتذكرة (3). وأكثر الجمهور على ذلك أيضا.

ويعزى إلى شذوذ منهم الخلاف فيه وهو ممّا لا يلتفت إليه.

ويدلّ على هذا الحكم مع الإجماع المذكور أنّه يصدق عليه اسم الماء فيساوي غيره في تناول عموم الأدلّة له.

ويؤيّده ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن ماء البحر أطهور هو؟ قال : نعم » (4).

وما رواه أبو بكر الحضرمي قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ماء البحر أطهور هو؟ قال : نعم » (5).

ص: 408


1- الخلاف 1 : 41 ، المسألة الثانية.
2- المعتبر 1 : 37.
3- منتهى المطلب 1 : 18. وتذكرة الفقهاء 1 : 11.
4- تهذيب الأحكام 1 : 216 ، الحديث 5.
5- تهذيب الأحكام 1 : 216 ، الحديث 6.
مسألة [8] :

ذهب الشيخ في النهاية إلى المنع من استعمال الماء الذي وقع فيه الوزغ وخرج منه حيّا ، فقال : « والوزغ إذا وقع في الماء ثمّ خرج منه لم يجز استعماله على حال » (1). وظاهر كلام الصدوقين يعطي ذلك أيضا حيث قال في من لا يحضره الفقيه : « فإن وقع وزغ في إناء فيه ماء اهريق ذلك الماء » (2). وقريب من هذه العبارة عبارة والده في الرسالة.

وكأنّ الشيخ بنى ذلك على ما حكم به في باب تطهير الثياب من مساواة الوزغ للكلب والخنزير في وجوب غسل ما يصيبه من الثوب أو البدن برطوبة (3). وسيأتي البحث فيه وبيان ضعفه.

والظاهر أنّ كلام الصدوقين ناظر إلى ذلك أيضا.

وقد قال المحقّق في المعتبر بعد حكايته لهذا الحكم عن الجماعة : « والوجه الكراهيّة تمسّكا بالأصل ؛ ولأنّه ليس بنجس العين (4). ولما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال : « سألته عن العظاية والحيّة والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا بأس » (5). وما قاله المحقّق جيّد. والحديث الذي ذكره صحيح.

ويكفي في الكراهيّة رعاية الخروج من خلاف الجماعة.

ص: 409


1- النهاية ونكتها 1 : 208.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 8.
3- النهاية ونكتها 1 : 267.
4- المعتبر 1 : 100.
5- الاستبصار 1 : 23 ، الباب 11.

ص: 410

المقام الثاني : في المضاف
اشارة

ص: 411

ص: 412

المقام الثاني

في المضاف

مسألة [1] :

الماء المضاف هو ما لا ينصرف إليه لفظ الماء عند الإطلاق في العرف ، ويصدق عليه مع القيد : كالمصعّد من الأنوار ، والمعتصر من الثمار ، والممتزج بما يسلبه صدق الاسم عند الإطلاق.

وهو على أصل الطهارة بإجماع الناس فيما حكاه المحقّق وغيره (1) ، ولأنّ النجاسة حكم يستفاد من الأدلّة الشرعيّة ، ولا دليل هنا.

وينجس بملاقاة النجاسة له وإن كان كثيرا ، وذلك مذهب الأصحاب لا يعرف فيه خلاف بينهم. قاله في المعتبر (2). وفي التذكرة هو قول علمائنا أجمع (3). وفي المنتهى نفى الخلاف بيننا فيه (4). وصرّح الشهيدان في الذكرى والروضة

ص: 413


1- المعتبر 1 : 81.
2- المعتبر 1 : 84.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 33.
4- منتهى المطلب 1 : 127.

والروض بدعوى الإجماع عليه (1). وهو الحجّة.

وقد احتجّوا له مع ذلك بما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت ، فإن كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وإن كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به. والزيت مثل ذلك » (2). وبأنّ المائع قابل للنجاسة ، والنجاسة موجبة لنجاسة ما لاقته فيظهر حكمها عند الملاقاة ثمّ تسري النجاسة بممازجة المائع بعضه بعضا.

والكلفة على الوجهين ظاهرة ؛ فإنّ مورد الرواية ليس ممّا نحن فيه.

والنظر إلى الاشتراك في المائعيّة وأنّها هي المقتضية للنجاسة حينئذ بقرينة المقابلة الحكم الجمود وأنّ الماء المطلق خرج بالدليل ممكن لكنّه عين التكلّف.

وقولهم : إنّ المائع قابل للنجاسة ، والنجاسة موجبة لنجاسة ما لاقته .. إلى آخره ، منظور فيه ؛ فإنّ قبول المائع للنجاسة إن كان باعتبار الرطوبة المقتضية للتأثّر عند ملاقاة النجس فمن البيّن أنّها موجودة في كثير من أفراد الجامد الذي من شأنه الميعان كالسمن ، ولا ريب في عدم تأثّره بنجاسة ما يتّصل به من أجزائه المحكوم بنجاستها مع تحقّق الملاقاة بينهما. وقد صرّح بهذا في الحديث الذي احتجّوا به.

وإن كان باعتبار الدليل الدالّ عليه فكان الأولى الاحتجاج به على تقدير وجوده.

والظاهر أنّ الملحوظ في الاحتجاج هو الاحتمال الأوّل ؛ إذ لم نجد في الروايات ما يقتضي تعلّق الحكم بعنوان المائع على جهة العموم ، وإنّما ورد

ص: 414


1- ذكرى الشيعة : 7 ، والروضة البهيّة 1 : 279 ، وروض الجنان : 133.
2- تهذيب الأحكام 9 : 85 ، الحديث 95.

معلّقا بمائع خاصّ فيحتاج التعدية إلى ارتكاب التكلّف الذي أشرنا إليه.

وعلى كلّ حال فكون الحكم إجماعيّا يسهّل الخطب.

مسألة [2] :

جمهور الأصحاب على أنّ الماء المضاف لا يرفع الحدث بل ادّعى عليه الإجماع جماعة منهم المحقّق في الشرائع (1) والعلّامة في النهاية والمنتهى (2) ، والشهيد في الذكرى (3).

وخالف في ذلك الصدوق رحمه اللّه فقال في من لا يحضره الفقيه : « ولا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستياك بماء الورد » (4).

وحكى الشيخ في الخلاف عن قوم من أصحاب الحديث منّا أنّهم أجازوا الوضوء بماء الورد (5). والمعتمد عندي ما عليه الأكثر.

لنا : قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (6) أوجب عند عدم الماء المطلق التيمّم ، فعلم انتفاء الواسطة.

ويؤيّده ما رواه الشيخ عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « عن الرجل

ص: 415


1- شرائع الإسلام 1 : 15.
2- نهاية الإحكام 1 : 236 ، ومنتهى المطلب 1 : 114.
3- ذكرى الشيعة : 7.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 6.
5- الخلاف 1 : 55 ، المسألة الخامسة.
6- المائدة : 6.

يكون معه اللبن أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا ، إنّما هو الماء والصعيد » (1).

وكلمة إنّما للحصر بنصّ أهل اللغة وقضاء العرف.

فأمّا ما ذهب إليه الصدوق رحمه اللّه فلا نعلم تمسّكه فيه بأي دليل.

نعم قال المحقّق في المعتبر : ربّما كان مستنده ما رواه سهل بن زياد عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس عن أبي الحسن عليه السلام : « في الرجل يتوضّأ بماء الورد ويغتسل به؟ قال : لا بأس » (2).

ثمّ إنّ المحقّق أجاب عنه بالطعن في السند أوّلا ؛ فإنّ سهلا ومحمّد بن عيسى ضعيفان.

وبمنع دلالته على موضع النزاع ثانيا ؛ لأنّه يحتمل السؤال عن الوضوء والغسل به للتطيّب والتحسّن لا لرفع الحدث ، ولأنّ تسميته بماء الورد قد تكون لإضافة قليلة لا تسلبه إطلاق اسم الماء فيحتمل أن تكون الإشارة إلى مثله (3).

وقد سبق الشيخ المحقّق إلى الكلام على هذا الحديث بنحو ما حكيناه عن المحقّق مبالغا في تقريبه فقال :

أوّلا : « إنّه خبر شاذّ شديد الشذوذ. وإن تكرّر في الكتب والاصول فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن ولم يروه غيره وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره. وما يكون هذا حكمه لا يعمل به ». ثمّ قال :

« ولو سلّم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الذي هو التحسين وقد بيّنا فيما تقدّم أنّ ذلك يسمّى وضوء ».

ص: 416


1- الاستبصار 1 : 14.
2- الاستبصار 1 : 14 ، الحديث 2 ، تهذيب الأحكام 1 : 218 ، الحديث 627.
3- المعتبر 1 : 81.

وليس لأحد أن يقول إنّ في الخبر أنّه سأله « عن ماء الورد يتوضّأ به للصلاة » ؛ لأنّ ذلك لا ينافي ما قلناه ؛ لأنّه يجوز أن يستعمل للتحسين ومع هذا يقصد (1) الدخول به في الصلاة من حيث إنّه متى استعمل الرائحة الطيّبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربّه كان أفضل من أن يقصد التلذّذ به حسب. ثمّ قال :

« ويحتمل أيضا أن يكون أراد عليه السلام بقوله : « ماء الورد » الماء الذي وقع فيه الورد لأنّ ذلك قد يسمّى ماء ورد وإن لم يكن معتصرا منه » (2) هذا كلامه.

وكأنّه أشار - بقوله : وقد بيّنا فيما تقدّم .. إلى آخره - إلى ما ذكره في شرح حديث رواه في الصحيح عن ابن بكير عن عبيد بن زرارة قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الدقيق يتوضّأ به؟ قال : لا بأس بأن يتوضّأ به وينتفع به » (3).

قال الشيخ : معناه أنّه يجوز التمسّح به والتوضّؤ الذي هو التحسين دون الوضوء للصلاة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الشيخ روى في الصحيح عن عبد اللّه بن المغيرة عن بعض الصادقين ، قال : « إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضّأ باللبن إنّما هو الماء أو التيمّم. فإن لم يقدر على الماء وكان نبيذا فإنّي سمعت حريزا يذكر في حديث أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قد توضّأ بنبيذ ولم يقدر على الماء » (4).

وقد تكلّم الشيخ وغيره من الأصحاب على هذا الحديث حيث ادّعي

ص: 417


1- في « ب » : ومع هذا فيفيد الدخول به.
2- تهذيب الأحكام 1 : 219.
3- الاستبصار 1 : 155 ، الحديث 2.
4- الاستبصار 1 : 15 ، تهذيب الأحكام 1 : 219 ، الحديث 628.

الإجماع على ترك العمل بظاهره فطعنوا فيه بالإرسال أوّلا.

ووجّهه الشيخ والعلّامة بأنّ عبد اللّه بن المغيرة لم يسند إلى إمام وإنّما قال « عن بعض الصادقين » قال العلّامة في المختلف : قوله : « عن بعض الصادقين » لا ينصرف قطعا إلى الإمام بل ولا ظاهرا (1).

وفيه نظر ؛ فإنّ الظاهر من هذه الكناية كونها عن الصادق عليه السلام لكن المتعلّق بهذه العبارة من الحديث لا إشكال فيه ، وموضع البحث هو قوله : « سمعت حريزا يذكر في حديث .. إلى آخره » ، وهذا مرسل قطعا ؛ إذ لم يذكر الواسطة في النقل عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وليس هذا الكلام من تتمّة الكلام الأوّل كما لا يخفى ، بل هو كلام مستأنف ابتداؤه قوله : « فإن لم يقدر » قاله عبد اللّه بن المغيرة بطريق الضميمة إلى الحديث الأوّل.

وقد أطلق الشهيد رحمه اللّه في الذكرى الطعن فيه بالإرسال (2) ، فسلم كلامه من الإشكال.

ثمّ إنّهم تأوّلوا متنه ثانيا فحملوه على ماء مالح طيّب بتمرات يسيرة طرحت فيه حتّى عذب ولم يخرجه عن الإطلاق.

وقرّبوه بأنّ النبيذ في اللغة هو ما ينبذ فيه الشي ء فيجوز أن يسمّى مثل هذا نبيذا (3).

واحتجّ له الشيخ مع ذلك بما رواه سماعة بن مهران عن الكليني النسّابة : أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن النبيذ؟ فقال : حلال. فقال : إنّا ننبذه فنطرح فيه

ص: 418


1- مختلف الشيعة 1 : 228.
2- ذكرى الشيعة : 7.
3- راجع مجمع البحرين 3 : 189 ، وتاج العروس 2 : 58 ، منشورات مكتبة دار الحياة.

العكر وما سوى ذلك. فقال : شه شه تلك الخمرة المنتنة. قال : قلت : جعلت فداك فأيّ نبيذ تعني؟ قال : إنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمد إلى كفّ من تمر فيقذف به في الشنّ فمنه شربه ومنه طهوره. فقلت : وكم كان عدد التمر الذي في الكفّ؟ فقال : ما حمل الكفّ. قلت : واحدة أو ثنتين؟ فقال : ربّما كانت واحدة وربّما كانت ثنتين. فقلت : وكم كان يسع الشنّ؟ فقال : ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى فوق ذلك. فقلت : بالأرطال؟ فقال : أرطال مكيال العراق » (1).

مسألة [3] :
اشارة

وللأصحاب في إزالة النجاسة بالمضاف قولان :

أحدهما : المنع وهو قول المعظم.

والثاني : الجواز وهو اختيار الشيخ المفيد (2) والسيّد المرتضى (3). ويحكى عن ابن أبي عقيل ما يشعر بالمصير إليه أيضا (4) إلّا أنّه خصّ جواز الاستعمال بحال الضرورة وعدم وجدان غيره ، وظاهر العبارة المحكيّة عنه أنّه يرى جواز الاستعمال حينئذ في رفع الحدث أيضا حيث أطلق تجويز الاستعمال مع الضرورة ، ولم يذكر الأكثر خلافه في المسألة السابقة.

ص: 419


1- الإستبصار 1 : 16.
2- المقنعة : 64.
3- الناصريّات ( المطبوع ضمن الجوامع الفقهيّة ) : 219.
4- مختلف الشيعة 1 : 222.

وقد نبّه عليه الشهيد في الذكرى فقال : ظاهر الحسن بن أبي عقيل طرد الحكم في المضاف والاستعمال (1).

احتجّوا للأوّل بوجوه :

أحدها : ورود الأوامر بالغسل من النجاسة بالماء ، وإنّما يفهم منه عند الإطلاق المطلق.

فروى الحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين » (2).

ومثله روى أبو إسحاق النحوي عنه عليه السلام (3). وروى الحلبي في الحسن قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن بول الصبي؟ قال : يصبّ عليه الماء (4). وروى الصدوق في الصحيح عن محمّد الحلبي أنّه : « سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال : يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله » (5).

وتوجيه دلالة إيجاب الغسل بالمطلق على عدم جواز غيره أنّه لو كان الغسل بغير المطلق جائزا لكان تعيين المطلق تضييقا وهو غير جائز ؛ لما فيه من الحرج.

أو نقول : لو كان غير المطلق صالحا لإزالة النجاسة لكان المكلّف مخيّرا

ص: 420


1- ذكرى الشيعة : 7.
2- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 714.
3- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 716.
4- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 715.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 68 ، الحديث 155.

في الغسل بالمطلق ، والتعيين المستفاد من الأوامر الدالّة على الوجوب العيني ينافيه.

وقد اعترض بأنّ الأوامر المذكورة مخصوصة بنجاسات معيّنة والبحث مطلق والمدّعى عام.

وأجاب المحقّق في بعض مسائله : بأنّه لا قائل منّا بالفرق (1).

الوجه الثاني : أنّ ملاقاة المائع للنجاسة تقتضي نجاسته ، والنجس لا تزال (2) به النجاسة.

واعترض بأنّ مثله وارد في المطلق القليل ؛ فإنّ النجاسة تزول به مع تنجّسه بالملاقاة.

وأجاب عنه المحقّق أيضا بالمنع من نجاسة المطلق عند وروده على النجاسة كما هو مذهب المرتضى في بعض مصنّفاته.

وبأنّ مقتضى الدليل التسوية بينهما لكن ترك العمل به في المطلق للإجماع ، ولضرورة الحاجة إلى الإزالة ، والضرورة تندفع بالمطلق فلا يسوّى به غيره ؛ لما في ذلك من تكثير المخالفة للدليل (3).

الثالث : إنّ منع الشرع من استصحاب الثوب النجس مثلا في الصلاة ثابت قبل غسله بالماء ، فيثبت بعد غسله بغير الماء عملا بالاستصحاب.

ويرد عليه : أنّ الاستصحاب - المقبول على ما مرّ تحقيقه في مقدّمة الكتاب - : هو ما يكون دليل الحكم فيه غير مقيّد بوقت. وفي تحقّق ذلك

ص: 421


1- في « ب » : لا قائل هنا.
2- في « أ » و « ج » : لا يزال.
3- المعتبر 1 : 83.

هاهنا نظر ؛ إذ العمدة في إثبات المنع المذكور بطريق العموم على الإجماع ومن البيّن أنّ الاتّفاق إنّما وقع على منع استصحاب النجس قبل الغسل في الجملة لا مطلقا فتأمّل.

الرابع : إنّها طهارة تراد لأجل الصلاة فلا يجوز إلّا بالماء كطهارة الحدث ، بل اشتراط الماء هنا أولى لأنّ اشتراطه في النجاسة الحكميّة يعطي أولويّة اشتراطه في النجاسة الحقيقيّة.

واعترض : بأنّه قياس.

وأجاب العلّامة : بمنع كونه قياسا ، وإنّما هو استدلال بالاقتضاء ، فإنّ التنصيص على الأضعف يقتضي أولويّة ثبوت الحكم في الأقوى ، كما في دلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب (1).

وليس هذا الجواب بشي ء ؛ فإنّ دعوى كونه من باب الاقتضاء يعني : مفهوم الموافقة موقوفة على تحقّق الأولويّة بين المنطوق والمفهوم كالمثال الذي ذكره ، ولا ريب في انتفاء ذلك هنا ؛ فإنّ كون النجاسة الحكميّة أضعف من العينيّة في حيّز المنع. كيف! والحكميّة لا ترتفع عندهم إلّا بالنيّة. ويعتبر في صدورها وتعلّقها ما لا يعتبر في العينيّة.

وبالجملة فلا خفاء في اشتراط مفهوم الموافقة بالعلم بالعلّة وظهور كونها في المسكوت عنه أقوى ، كما في مثال التأفيف. وادّعاء مثله في موضع النزاع مجازفة ظاهرة.

الخامس : قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (2).

ص: 422


1- مختلف الشيعة 1 : 224.
2- الأنفال : 11.

وجه الاحتجاج بها في المختلف : بأنّه تعالى خصّص التطهير بالماء ، فلا يقع بغيره.

أمّا المقدّمة الاولى : فلأنّه تعالى ذكرها في معرض الامتنان فلو حصلت الطهارة بغيره كان الامتنان بالأعمّ أولى ، ولم يكن للتخصيص فائدة.

وأمّا الثانية : فظاهرة (1).

واعترضه بعض المتأخّرين بأنّه يجوز التخصيص بالذكر والامتنان بأحد الشيئين الممتنّ بهما إذا كان أحدهما أبلغ أو أكثر وجودا أو أعمّ نفعا فجاز كون التخصيص بالماء لذلك لا لكونه مختصّا بالحكم.

ثمّ إنّ هذا المعترض أخذ في توجيه الاحتجاج بالآية طريقا آخر فقال : ويمكن الاحتجاج بالآية من جهة اخرى وهي أنّ النجاسة والطهارة حكمان شرعيّان يطريان على المحل ، فإذا ثبت أحدهما لم يرتفع إلّا بدليل من الشرع استصحابا لما ثبت. فمع الحكم بالنجاسة ، إذا غسل بالماء يطهر بظاهر الآية ، وبغيره لا يطهر ، تمسّكا بالاستصحاب ، وعدم وجود دليل.

ولا يخفى أنّ الاعتراض في محلّه. وأمّا التوجيه فشديد البرودة ؛ لأنّ مرجعه إلى الاحتجاج على كون الماء المطلق مطهّرا بالآية وعلى نفي طهوريّة المضاف بالاستصحاب. والأوّل ليس محلّا للبحث. والثاني خروج عن الوجه المستدلّ به إلى وجه آخر مذكور في احتجاجهم لهذا المطلب وقد ذكرناه مع ما فيه.

والحاصل أنّ كون الماء المطلق مطهّرا أمر معلوم من الآية وغيرها. وأمّا الكلام في دلالة الآية على نفي كون غيره مطهّرا ، وحديث الاستصحاب أجنبيّ

ص: 423


1- مختلف الشيعة 1 : 222.

منه ؛ إذ يمكن تقريبه من دون ملاحظة الآية أو التفات إليها بوجه فيقال على نمط تقريره :

النجاسة والطهارة حكمان شرعيّان وقد ثبت بالضرورة كون الماء المطلق في الجملة مطهّرا فإذا غسل به النجس طهر ومع غسله بغيره لا يطهر عملا بالاستصحاب.

حجّة القول الثاني : وجوه :

الأوّل : الإجماع. حكاه في المختلف عن المرتضى (1). وذكر المحقّق في بعض تصانيفه أنّ المفيد والمرتضى أضافا القول بالجواز هنا إلى مذهبنا (2).

الثاني : قوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (3). أمر بتطهير الثوب ، ولم يفصّل بين الماء وغيره. وهذا الوجه حكي في المختلف عن المرتضى الاحتجاج به ، وأنّه اعترض على نفسه فيه بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء.

ثمّ أجاب بأنّ تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة النجاسة عنه ، وقد زالت بغير الماء مشاهدة ؛ لأنّ الثوب لا يلحقه عبادة (4).

الثالث : إطلاق الأمر بالغسل من النجاسة من غير تقييد بالماء.

فمن ذلك ما رواه الجمهور عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال لخولة بنت يسار : « حتيه ثمّ اقرصيه ثمّ اغسليه » (5).

ص: 424


1- مختلف الشيعة 1 : 224.
2- المعتبر 1 : 82.
3- المدّثّر : 4.
4- مختلف الشيعة 1 : 224.
5- الخلاف 1 : 59 ، شرح فتح القدير 1 : 132 نقلا عن الخلاف 1 : 59.

ومنه ما رواه الأصحاب عن الصادق عليه السلام أنّه قال لابن أبي يعفور وقد سأله عن المنيّ يصيب الثوب : « إن عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك مكانه فاغسله كلّه » (1).

ورووا في الحسن عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه منيّ فليغسل الذي أصابه » (2). الحديث.

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما قال : « سألته عن البول يصيب الثوب؟ فقال : اغسله مرّتين » (3).

وفي الصحيح عن ابن أبي يعفور مثله (4). والأخبار مملوّة بهذا الإطلاق وليس في الإكثار من نقله كثير طائل.

وقد حكى في المختلف عن المرتضى الاحتجاج بهذا الوجه أيضا وذكر عنه التعرّض لجملة من الأخبار المتضمّنة لذلك ، وأنّه اعترض على نفسه فيه أيضا بأنّ إطلاق الأمر بالغسل يصرف إلى ما يغسل به في العادة ولم تقض العادة بالغسل بغير الماء.

ثمّ أجاب بالمنع من اختصاص الغسل بما يسمّى الغاسل به غاسلا عادة ؛ إذ لو كان الغسل كذلك لوجب المنع من غسل الثوب بماء الكبريت والنفط وغيرهما ممّا لم تجر العادة بالغسل به ، ولما جاز ذلك ، وإن لم يكن إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة ، وأنّ المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة من

ص: 425


1- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 725.
2- تهذيب الأحكام 1 : 252 ، الحديث 728.
3- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 721.
4- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 722.

غير اعتبار العادة (1).

الرابع : إنّ الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة كما تشهد به حسنة حكم ابن حكيم الصير في. قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أبول فلا اصيب الماء وقد أصاب يدي شي ء من البول فأمسحه بالحايط والتراب ثمّ تعرق يدي فأمسّ وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال : لا بأس به » (2).

ورواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عن علي عليه السلام قال : « لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق » (3).

وأجاب الأوّلون عن جميع هذه الوجوه :

أمّا الأوّل : فقال في المختلف بعد أن حكاه عن المرتضى كما أشرنا إليه : « لو قيل إنّ الإجماع على خلاف دعواه أمكن ، إن اريد به إجماع أكثر الفقهاء ؛ إذ لم يوافقه على ما ذهب إليه من وصل إلينا خلافه » (4).

وفي هذا نظر ؛ لأنّ وفاق المفيد له محكيّ في غير موضع من كتب الأصحاب ، وقد حكاه هو أيضا في بعض كتبه.

وقال المحقّق بعد أن ذكر ما نقلناه عنه من إضافة المفيد والمرتضى القول بالجواز إلى مذهبنا : « أمّا علم الهدى فإنّه ذكر في الخلاف أنّه إنّما أضاف ذلك إلى المذهب لأنّ من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الأدلّة ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ، ولا ما يوجبها ونحن نعلم

ص: 426


1- مختلف الشيعة 1 : 224.
2- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 720.
3- تهذيب الأحكام 1 : 425 ، الحديث 1350.
4- مختلف الشيعة 1 : 226.

أنّه لا فرق بين الماء والخلّ في الإزالة. بل ربّما كان غير الماء أبلغ فحكمنا حينئذ بدليل العقل. وأمّا المفيد فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف أنّ ذلك مرويّ عن الأئمّة عليهم السلام ».

ثمّ قال المحقّق : « أمّا نحن فقد فرّقنا بين الماء والخلّ ، فلم يرد علينا ما ذكره علم الهدى. وأمّا المفيد فنمنع دعواه ونطالبه بنقل ما ادّعاه. والإشارة بقوله : ( أمّا نحن فقد فرّقنا بين الماء والخلّ ) إلى كلام ذكره في الجواب عن الاحتجاج بالآية وسنحكيه ».

وأمّا الوجه الثاني : فأجاب عنه العلّامة في المختلف بأنّ المراد - على ما ورد في التفسير - لا تلبسها على معصية ولا على غدر فإنّ الغادر الفاجر يسمّى دنس الثياب.

سلّمنا أنّ المراد بالطهارة المتعارف شرعا ، لكن لا دلالة فيه على أنّ الطهارة بأيّ شي ء تحصل ، بل دلالتها على أنّ الطهارة إنّما تحصل بالماء أولى ؛ إذ مع الغسل بالماء يحصل الامتثال قطعا وليس كذلك لو غسلت بغيره.

وقوله : « النجاسة قد زالت حسّا » ، قلنا : لا يلزم من زوالها في الحسّ زوالها شرعا ، فإنّ الثوب له يبس بلله بالماء النجس أو بالبول لم يطهر وإن زالت النجاسة عنه ، مع أنّه - يعني المرتضى رحمه اللّه - أجاب حين سئل عن معنى « نجس العين » و « نجس الحكم » بأنّ الأعيان ليست نجسة لأنّها عبارة عن جواهر مركّبة وهي متماثلة فلو نجس بعضها لنجس سائرها ، وانتفى الفرق بين الخنزير وغيره ، وقد علم خلافه. وإنّما التنجيس (1) حكم شرعي. ولا يقال نجس العين إلّا على وجه المجاز دون الحقيقة. وإذا كانت النجاسة حكما شرعيّا

ص: 427


1- في « ب » : وإنّما النجس حكم شرعي.

لم يزل عن المحل إلّا بحكم شرعيّ. فحكمه رحمه اللّه بزوالها عن المحلّ لزوالها حسّا ممنوع (1).

والمحقّق أجاب عن الاحتجاج بالآية أيضا فمنع دلالتها على موضع النزاع ؛ لأنّها دالّة على وجوب التطهير والبحث ليس فيه بل في كيفيّة الإزالة.

ثمّ اعترض : بأنّ الطهارة إزالة النجاسة كيف كان.

وأجاب : بأنّ هذا أوّل المسألة.

وأورد ثانيا : أنّ الغسل بغير الماء يزيل عين الدنس فيكون طهارة.

وأجاب : أوّلا بالمنع ؛ فإنّ النجاسة إذا مازجت المائع شاعت فيه فالباقي في الثوب منه تعلّق به حصّة من النجاسة. ولأنّ النجاسة ربّما سرت في الثوب فسدّت مسامّه فيمنع غير الماء من الولوج حيث هي ، وتبقى مرتبكة (2) في محلّها.

ثمّ سلّم زوال عين النجاسة ثانيا وقال : لكن لا نسلّم زوال نجاسة يخلفها ؛ فإنّ المائع بملاقاة النجاسة يصير عين نجاسة فالبلّة المتخلّفة منه في الثوب بعض المنفصل النجس فيكون نجسا.

أو نقول : للنجاسة الرطبة أثر في تعدّي حكمها إلى المحلّ. كما أنّ النجاسة عند ملاقاة المائع تتعدّى نجاستها إليه فعند وقوع النجاسة الرطبة تعود أجزاء الثوب الملاقية لها نجسة شرعا ، وتلك العين المنفعلة لا تزول بالغسل.

وأمّا الوجه الثالث فجوابهم عنه : أوّلا أنّ الغسل حقيقة في استعمال الماء. وهم بين مطلق للفظ الحقيقة ، ومقيّد لها بالشرعيّة.

والمطلقون احتجّوا لما قالوه بسبقه إلى الذهن عند الإطلاق كما يسبق عند

ص: 428


1- مختلف الشيعة 1 : 225 و 226.
2- في « ج » : ويبقى مرتكبه في محلّها.

إطلاق الأمر بالسقي.

وثانيا : أنّ الإطلاق الوارد في الأوامر التي ذكروها محمول على المقيّد في الأوامر المذكورة في حجّة المنع.

وأمّا الوجه الرابع : فأجاب عنه المحقّق بأنّ خبر حكم بن حكيم مطرح ؛ لأنّ البول لا يزول عن الجسد بالتراب باتّفاق منّا ومن الخصم.

وخبر غياث متروك ؛ لأنّ غياثا بتريّ ضعيف الرواية فلا يعمل على ما ينفرد به.

قال : ولو صحّت نزّلت على جواز الاستعانة في غسله بالبصاق ، لا ليطهر المحلّ به منفردا ؛ فإنّ جواز غسله به لا يقتضي طهارة المحلّ ، ولم يتضمّن الخبر ذلك ، والبحث ليس إلّا فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ للبحث في كثير من كلامهم في الجانبين (1) مجالا غير أنّ الراجح في حجّة المنع أكثر. والشهرة والاحتياط يؤيّدان العمل به. وحيث كان ذيل الكلام آخذا من التطويل لحظّ غير قليل فلا جرم كان الإجمال بالإشارة إلى ما فيه والاتّكال على التدبّر في مطاويه أولى من التفصيل.

مسألة [4] :

إذا مازج المطلق مضاف عار من الوصف ، كمنقطع الرائحة من ماء الورد ، قال الشيخ : « يحكم للأكثر ، فإن تساويا ينبغي القول بجواز استعماله ؛ لأنّ الأصل الإباحة ، وإن قلنا يستعمل ذلك ويتيمّم كان أحوط ». حكى ذلك عنه

ص: 429


1- في « ب » : كلامهم في الحالين مجالا.

العلّامة في المختلف (1).

ثمّ حكى عن ابن البرّاج أنّه قال : « الأقوى عندي أنّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ولا إزالة النجاسة ويجوز في غير ذلك ». وأنّه نقل مباحثة جرت بينه وبين الشيخ رحمه اللّه وخلاصتها تمسّك الشيخ بالأصل الدالّ على الإباحة ، وتمسّكه هو بالاحتياط (2).

ثمّ قال العلّامة : والحقّ عندي خلاف القولين معا ، وأنّ جواز التطهير به تابع لإطلاق الاسم ، فإن كانت الممازجة أخرجته عن الإطلاق لم تجز الطهارة به ، وإلّا جاز ، ولا أعتبر في ذلك المساواة والتفاضل ، فلو كان ماء الورد أكثر وبقي إطلاق اسم الماء أجزأت الطهارة به لأنّه امتثل المأمور به وهو الطهارة بالماء المطلق. وطريق معرفة ذلك أن يقدّر ماء الورد باقيا على أوصافه ثمّ يعتبر ممازجته حينئذ فيحمل عليه منقطع الرائحة (3).

هذا كلامه. وما اختاره من اعتبار بقاء الاسم حسن وتوجيهه متّجه.

وأمّا تقدير الوصف ففيه نظر ولم يتعرّض لتوجيهه هنا.

وقد وجّهه في النهاية : بأنّ الإخراج عن الاسم سالب للطهوريّة وهذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف فيعتبره (4) بغيره كما يفعل ذلك في حكومات الجراح (5).

ص: 430


1- مختلف الشيعة 1 : 239.
2- المهذّب 1 : 24.
3- مختلف الشيعة 1 : 239.
4- في النسخة « ب » : فتغيّره بغيره.
5- نهاية الإحكام 1 : 227.

وضعف هذا التوجيه ظاهر. وقد وافقه على هذا القول الشهيد في الدروس (1) وقوّاه الشيخ علي في بعض فوائده.

ووجّهه بأنّ الحكم لمّا كان دايرا مع بقاء اسم الماء مطلقا ، وهو إنّما يعلم بالأوصاف وجب تقدير بقائها قطعا كما يقدّر الحرّ عبدا في الحكومة. وهو قريب من كلام العلّامة.

وتوجّه المنع إليه بيّن ؛ فإنّ المرجع في بقاء الاسم وعدمه إلى العرف ، واستعلامه ممكن بدون الوصف إذا علم مقدار المائين في الجملة قبل المزج. والتقدير الذي ذكره الشيخ غير بعيد من مقتضى العرف لكنّ انضباطه بما حدّده (2) مشكل فالإحالة عليه أولى.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ العلّامة ذكر اعتبار تقدير الوصف في كثير من كتبه (3) ولم يتعرّض فيها لبيان الوصف المقدّر. وقد حكى عنه الفاضل الشيخ علي أنّه قال في بعض كتبه : يجب التقدير على وجه يكون المخالفة وسطا ولا يقدّر الأوصاف التي كانت قبل ذلك (4).

واستوجه الشيخ علي هذا الكلام وقرّبه بأنّه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي وغيرها على حدّ سواء فيجب رعاية الوسط لأنّه الأغلب والمتبادر عند الإطلاق.

قال : وإنّما قلنا أنّ الزائل هنا لا ينظر إليه بعد الزوال ؛ لأنّه لو كان المضاف

ص: 431


1- الدروس الشرعيّة 1 : 122.
2- في « أ » : بما حدّوه مشكل.
3- نهاية الأحكام 1 : 237. ومنتهى المطلب 1 : 23.
4- جامع المقاصد 1 : 114 و 115.

في غاية المخالفة في أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك القدر الناقص ، فكذا لو زالت أصلا ورأسا (1).

وأنت خبير بأنّ النظر إلى كلامه الأخير يقتضي كون المقدّر هو أقلّ ما يتحقّق معه الوصف لا الوسط.

وتحقيقه : أنّ نقصان المخالفة كما فرضه لو انتهى إلى حدّ لم يبق معه إلّا أقلّ ما يصدق به المسمّى لم يؤثّر ذلك النقصان ، ولا اعتبر مع الوصف الباقي أمر آخر ، فكذا مع زوال الوصف من أصله واعتبار الأغلبيّة. والتبادر هاهنا ممّا لا وجه له كما لا يخفى.

فظهر أنّ المتّجه على القول بتقدير الوصف هو اعتبار الأقلّ. وقد جزم الشهيد في الذكرى باعتبار الوسط وليس بجيّد.

مسألة [5] :

للأصحاب في طريق تطهير المضاف إذا عرض له التنجيس أقوال :

أحدها : ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط فقال : ولا يطهر - يعني المضاف - إلّا بأن يختلط بما زاد على الكرّ من المطلق. ثمّ ننظر فإن سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز استعماله بحال ، وإن لم يسلبه إطلاق اسم الماء وغيّر أحد أوصافه : إمّا لونه أو طعمه أو رايحته ، لم يجز استعماله أيضا بحال (2).

وإلى هذا القول ذهب العلّامة أيضا في التحرير (3) إلّا أنّه لم يعتبر الزيادة

ص: 432


1- جامع المقاصد 1 : 115.
2- المبسوط 1 : 5.
3- تحرير الأحكام 1 : 5.

على الكرّ كما اتّفق في عبارة الشيخ.

والثاني : الاكتفاء بممازجة الكرّ له من غير اشتراط للزيادة عليه ، ولا لعدم تغيّره في أحد أوصافه بالمضاف ، بل ولا لعدم سلبه الإطلاق وإن خرج المطلق بذلك عن كونه مطهّرا ، فأمّا الطهارة فتثبت للجميع. وهذا القول مختار العلّامة في القواعد والمنتهى (1).

والثالث : الاكتفاء بممازجته للكرّ لكن بشرط بقاء الإطلاق بعد الامتزاج ، ولا أثر لتغيّر أحد الأوصاف. اختاره العلّامة في النهاية والتذكرة (2) ، وجمع من المتأخّرين منهم الشهيدان (3) ، وهو الأصحّ.

لنا على « الاكتفاء » : أنّ الغرض من الكثرة عدم قبول المطلق للنجاسة وبلوغ الكرّيّة كاف فيه ، فلا وجه لاعتبار الزائد. ولعلّه وقع في كلام الشيخ على جهة التساهل في التعبير.

وعلى « اشتراط بقاء الإطلاق » : أنّ المضاف متوقّف طهره على شيوعه في المطلق بحيث يستهلك ، وهذا لا يتمّ بدون بقاء المطلق على إطلاقه ، وإذا لم يحصل الطهارة للمضاف وصار المطلق بخروجه عن الاسم قابلا للانفعال فلا جرم ينجس الجميع.

وعلى « عدم تأثير تغيّر أحد الأوصاف به » : أنّ الأصل في الماء الطهارة ، والدليل إنّما دلّ على نجاسته مع التغيّر بالنجاسة ولم يحصل ؛ إذ التغيّر إنّما هو بالمنجّس ، وبينهما فرق واضح.

ص: 433


1- قواعد الأحكام 1 : 179. ومنتهى المطلب 1 : 128.
2- نهاية الإحكام 1 : 237. وتذكرة الفقهاء 1 : 33.
3- الروضة البهيّة 1 : 279.

وممّا ذكرناه يظهر ضعف القولين الآخرين.

وقد قيل في الاحتجاج للأوّل : أنّ المضاف بعد تنجيسه صار في حكم النجاسة فكما ينجس الملاقي له ينجس المتغيّر به.

وللثاني : أنّ بلوغ الكرّيّة سبب لعدم الانفعال من دون التغيّر بالنجاسة فلا يؤثّر المضاف في تنجيسه باستهلاكه إيّاه لقيام السبب المانع. وليس ثمّ عين نجسة يشار إليها يقتضي (1) التنجيس.

وجوابهما ظاهر.

امّا الأوّل : فلأنّ صيرورة المضاف بعد التنجيس في حكم النجاسة إن اخذ على وجه العموم - فهو في حيّز المنع - وإلّا لم يفد.

وأمّا الثاني : فلأنّ بلوغ الكرّيّة وصف للماء المطلق فإنّما يكون سببا لعدم الانفعال مع وجود موصوفه. ومع استهلاك المضاف للمطلق وقهره إيّاه يخرج عن الاسم فيزول الوصف الذي هو السبب لعدم الانفعال فينفعل حينئذ ولو بالمنجّس كسائر أقسام المضاف.

وينبغي أن يعلم : أنّ محلّ البحث بالنظر إلى القول الثاني ما إذا القي المضاف في الكثير. فلو انعكس الفرض وجب الحكم بعدم الطهارة جزما ؛ لأنّ مكان المضاف متنجّس به. وما لم يصر مطلقا لا يطهر ، وملاقاته له مستمرّة فيردّه إلى النجاسة لو فرضنا طهارته.

ص: 434


1- في « ب » : يشار إليها بمقتضى التنجيس.

الفهرس التفصيلي

التقديم... 5

كلمة المحقق : صاحب المعالم ( عصره - حياته - مدرسته )... 7

1 - تطوّر الفقه الإمامي حتّى عصر صاحب المعالم... 9

2 - الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر صاحب المعالم... 18

3 - الحركة العلمية في عصر صاحب المعالم... 27

4 - حياة صاحب المعالم الشخصية وشخصيته العلمية... 30

5 - مدرسة صاحب المعالم... 34

نشاطه العلمي... 34

منهجه وملامح مدرسته... 38

فقه المعالم وقيمته العلمية... 41

منهج الكتاب... 42

نسخ الكتاب... 44

أُسلوبنا في التحقيق... 52

الفهرس الإجمالي لمباحث الكتاب... 55

مقدّمة المؤلف ، وتضمّنت خطبة ومقصدين... 57

سبب ومنهج التأليف... 59

المقصد الأوّل : في علم الفقه وما يلزم معرفته عنه... 61

الفصل الأوّل : شرف العلم عقلاً... 63

ص: 435

فضيلة العلم في الكتاب... 64

الفصل الثاني : فضيلة العلم في السنّة... 67

الفصل الثالث : وجوب طلب العلم... 70

الفصل الرابع : ما يجب على العلماء مراعاته... 73

الفصل الخامس : حقوق المعلم على المتعلم... 76

الفصل السادس : وجوب العمل على العالم... 78

الفصل السابع : ما ينبغي مع طلب العلم... 81

الفصل الثامن : شرف علم الفقه... 84

الفصل التاسع : وجه الحاجة إلى علم الفقه... 88

الفصل العاشر : حدّ الفقه... 90

الفصل الحادي عشر : مرتبة علم الفقه... 93

الفصل الثاني عشر : موضوع علم الفقه ومسائله... 94

مبادئ علم الفقه... 94

مسائل علم الفقه... 94

المقصد الثاني : في تحقيق مهمات المباحث الأصولية... 95

المطلب الأوّل : في نبذة من مباحث الألفاظ... 97

تقسيم اللفظ والمعنى... 97

الأصل الأوّل : الحقيقة الشرعية... 97

الأصل الثاني : المشترك... 97

الأصل الثالث : استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى... 97

المطلب الثاني : في الأوامر والنواهي... 97

البحث الأوّل : في الأوامر... 97

الأصل الأوّل : دلالة صيغة الأمر... 97

الأصل الثاني : المرّة والتكرار... 98

الأصل الثالث : الفور والتراخي... 98

ص: 436

الأصل الرابع : مقدّمة الواجب... 98

الأصل الخامس : الأمر والنهي عن الضدّ... 98

الأصل السادس : الواجب التخييري... 98

الأصل السابع : الواجب الموسّع... 99

الأصل الثامن : مفهوم الشرط... 99

الأصل التاسع : مفهوم الوصف... 99

الأصل العاشر : مفهوم الغاية... 99

الأصل الحادي عشر : الأمر مع انتفاء الشرط... 99

الأصل الثاني عشر : نسخ الوجوب... 99

البحث الثاني : في النواهي... 99

الأصل الأوّل : مدلول صيغة النهي ، التحريم أو الكراهة؟... 99

الأصل الثاني : مدلول صيغة النهي ، الكفّ أو الترك؟... 99

الأصل الثالث : النهي والدوام... 100

الأصل الرابع : اجتماع الأمر والنهي... 100

الأصل الخامس : النهي وفساد المنهي عنه... 100

المطلب الثالث : في العموم والخصوص... 100

الفصل الأوّل : في ألفاظ العموم... 100

الأصل الأوّل : صيغ العموم في لغة العرب... 100

الأصل الثاني : الجمع المحلّى باللام... 100

الأصل الثالث : الجمع المنكّر... 100

الأصل الرابع : شمول الخطاب للمعدومين... 100

الفصل الثاني : في جملة من مباحث التخصيص... 100

الأصل الأوّل : منتهى التخصيص... 100

الأصل الثاني : العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟... 100

الأصل الثالث : حجية العام بعد التخصيص... 100

ص: 437

الأصل الرابع : العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص... 101

الفصل الثالث : في ما يتعلّق بالمخصّص... 101

الأصل الأوّل : إذا تعقّب المخصص متعدّداً... 101

الأصل الثاني : تخصيص العام بالضمير العائد إلى بعضه... 101

الأصل الثالث : تخصيص العام بمفهوم المخالفة... 101

الأصل الرابع : تخصيص الكتاب بخبر الواحد... 101

خاتمة : إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر... 101

المطلب الرابع : المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن... 102

الأصل الأوّل : المطلق والمقيّد... 102

الأصل الثاني : المجمل وأنواعه... 102

الأصل الثالث : تأخير البيان عن وقت الخطاب... 102

المطلب الخامس : الإجماع... 102

الأصل الأوّل : تعريف الاجماع... 102

الأصل الثاني : إحداث قول ثالث... 102

الأصل الثالث : عدم الفصل... 103

الأصل الرابع : الاختلاف على قولين ( الاجماع المركّب )... 103

الأصل الخامس : ثبوت الاجماع بخبر الواحد... 103

المطلب السادس : الأخبار... 104

الأصل الأوّل : أقسام الخبر... 104

الأصل الثاني : أقسام خبر الواحد... 104

الأصل الثالث : حجية خبر الواحد... 104

الأصل الرابع : شرائط العمل بخبر الواحد... 104

الأصل الخامس : كيفية معرفة عدالة الراوي... 104

الأصل السادس : شروط قبول الجرح والتعديل... 104

الأصل السابع : إذا تعارض الجرح والتعديل... 105

ص: 438

المجلد 2

المطلب الثاني : في الطهارة من النجاسات وما يتعلّق بها

الفصل الأوّل : في أصناف النجاسات

اشارة

الفصل الأوّل : في أصناف النجاسات

مسألة [1] :

بول الآدميّ وغائطه نجسان ، وعلى ذلك إجماع علماء الإسلام.

حكاه المحقّق والفاضل (1) ، لكنّهما استثنيا منه بعض العامّة فحكيا عنه القول بطهارة بول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وأمر هذا الاستثناء سهل.

والنصوص الواردة عن الأئمّة عليهم السلام بغسل البول عن الثوب والبدن كثيرة :

فمنها : صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن البول يصيب الثوب؟ فقال : اغسله مرّتين » (2).

وصحيح ابن أبي يعفور ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن البول يصيب الثوب؟ قال : اغسله مرّتين » (3).

ومنها رواية الحسين أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين ، فإنّما هو ماء. وسألته عن الثوب

ص: 439


1- المعتبر 1 : 410 ، ونهاية الإحكام 1 : 265.
2- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 721.
3- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 722.

يصيبه البول؟ قال : اغسله مرّتين » (1). الحديث.

وحسنة الحلبي ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن بول الصبيّ قال : تصبّ عليه الماء ، فإن كان قد أكل فاغسله غسلا » (2). الحديث.

ورواية أبي إسحاق النحوي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين » (3).

ورواية الحسن بن زياد قال : « سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يبول فيصيب بعض فخذه نكتة من بوله فيصلّي ثمّ يذكر بعد أنّه لم يغسله؟ قال : يغسله ويعيد صلاته » (4).

ورواية محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (5).

وهذه الرواية تعدّ في الصحيح ، لكن في طريقها السنديّ بن محمّد ، ولم استثبت عدالته إذ لم يوثّقه غير النجاشي (6) ، وتبعه العلّامة في الخلاصة (7). وقد تكرّر القول في مثله بل سبق الكلام على هذا السند بخصوصه.

ص: 440


1- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 714.
2- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 715.
3- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 716.
4- تهذيب الأحكام 1 : 269 ، الحديث 789.
5- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 717.
6- رجال النجاشي : 187 ، الرقم 397 ، راجع الصفحة 213 ، البحث الرابع في المستعمل ، الفرع الرابع من المسألة الأولى.
7- خلاصة الأقوال : 82.

وأمّا الغائط فيدلّ على حكمه من جهة النصّ أخبار الاستنجاء وسيأتي في بابها.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال : إن كان لم يعلم فلا يعد » (1).

ومفهوم الشرط وجوب الإعادة مع العلم وهو دليل النجاسة.

وفي الصحيح عن موسى بن القاسم عن عليّ بن محمّد قال : « سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباههما تطأ العذرة ثمّ تطأ الثوب أيغسل؟ قال : إن كان استبان من أثره شي ء فاغسله. وإلّا فلا بأس » (2).

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ جمهور الأصحاب لم يفرّقوا في حكم البول بالنظر إلى أصل التنجيس بين الصغير والكبير.

وخالف في ذلك ابن الجنيد فحكم بطهارة بول غير البالغ ما لم يأكل اللحم بشرط أن يكون ذكرا (3). واحتجّ له برواية السكوني (4) عن جعفر عن أبيه ، أنّ عليّا عليه السلام قال : « لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم ؛ لأنّ لبنها يخرج من مثانة امّها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ، ولا بوله قبل أن يطعم لأنّ لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين » (5).

ص: 441


1- الاستبصار 1 : 180 ، الحديث 630.
2- تهذيب الأحكام 1 : 424 ، الحديث 1347.
3- راجع مختلف الشيعة 1 : 459.
4- في « ج » : برواية الكوفي عن جعفر.
5- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 718.

وهذه الرواية مع ضعف سندها غير دالّة على مدّعاه كما لا يخفى.

والأصحاب معترفون بما دلّت عليه من عدم وجوب الغسل من بول الرضيع ويوجبون التطهير منه بصبّ الماء ، كما ورد في حسنة الحلبي (1) ، فعلم أنّ نفي وجوب الغسل لا يصلح دليلا على عدم التنجيس.

مسألة [2] :
اشارة

وفي حكم بول الآدميّ وغائطه بول ما لا يؤكل لحمه ممّا له نفس سائلة وروثه. وقد حكى فيه الفاضلان إجماع علماء الإسلام أيضا (2). إلّا أنّ الفاضل استثنى شذوذا من أهل الخلاف فحكى عنه القول بطهارة أبوال البهائم كلّها ، وذكر أنّه لا يعرف له دليلا.

ويدلّ على النجاسة هنا بالنظر إلى البول - مضافا إلى الإجماع المحكيّ - عموم الأخبار السابقة ، وخصوص ما رواه الشيخ في الحسن عن عبد اللّه بن سنان قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (3).

ويؤيّده رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إن أصاب الثوب شي ء من بول السنّور فلا تصلح الصلاة فيه حتّى تغسله » (4).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ للأصحاب في فضلة الطير خلافا ، فأكثرهم على أنّها كفضلة غيره ، فهي من غير المأكول نجسة.

ص: 442


1- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 716.
2- المعتبر 1 : 410 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 49.
3- تهذيب الأحكام 1 : 264 ، الحديث 770.
4- الكافي 3 : 56.

وظاهر الصدوق طهارتها مطلقا ؛ فإنّه قال في من لا يحضره الفقيه : ولا بأس بخرء ما طار وبوله (1). ويحكى عن ابن أبي عقيل نحوه (2) ، وعن الشيخ أنّه قال في المبسوط : بول الطيور كلّها طاهر - سواء أكل لحمها أو لم يؤكل - وذرقها إلّا الخشّاف. وحينئذ فكان على الفاضلين أن يستثنيا الطير من عموم غير المأكول في حكاية الإجماع ، ولعلّهما اعتمدا في ترك التصريح بذلك على نقلهما الخلاف فيه على أثر الإجماع أو على عدم تأثير مثل هذا الخلاف في دعوى الإجماع لمعلوميّة المخالف.

قال المحقّق في المعتبر - بعد الإشارة إلى قول الشيخ في المبسوط - : ولعلّ الشيخ استند إلى رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كلّ شي ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله » (3).

ثمّ احتجّ المحقّق لما ذهب إليه من مساواة الطير لغيره بأنّ ما دلّ على نجاسة العذرة ممّا لا يؤكل لحمه يتناول موضع النزاع ؛ لأنّ الخرء والعذرة مترادفان وردّ الاستناد إلى رواية أبي بصير بأنّها وإن كانت حسنة لكنّ العامل بها من الأصحاب قليل (4).

ولي في كلامه هاهنا تأمّل ؛ لأنّ الإجماع الذي ادّعاه على نجاسة البول والغائط من مطلق الحيوان غير المأكول إن كان على عمومه فهو الحجّة في عدم التفرقة بين الطير وغيره ، وإن كان مخصوصا بما عدا الطير فأين الأدلّة

ص: 443


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 71.
2- مختلف الشيعة 1 : 456.
3- المبسوط 1 : 39.
4- المعتبر 1 : 411.

العامّة على نجاسة العذرة ممّا لا يؤكل؟ والحال أنّا لم نقف في هذا الباب إلّا على حسنة عبد اللّه بن سنان ، ولا ذكر أحد من الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم في احتجاجهم لهذا الحكم سواها. وهي كما ترى واردة في البول ، ولم يذكرها هو في بحثه للمسألة بل اقتصر على نقل الإجماع كما حكيناه عنه ، فلا يدرى لفظ « العذرة » أين وقع معلّقا عليه الحكم ليضطرّ إلى بيان مرادفة الخرء له ويجعلها دليلا على التسوية التي صار إليها. ما هذا إلّا عجيب من مثل المحقّق رحمه اللّه.

وللعلّامة أيضا في هذا المبحث كلمات ركيكة جدّا ؛ فإنّه اختار مذهب المحقّق ، واحتجّ له في المختلف بحسنة ابن سنان ، وادّعى عمومها في صورة النزاع ، وبأنّ الذمّة مشغولة بالصلاة قطعا ولا تبرأ بأدائها قطعا مع ملاقاة الثوب أو البدن لهذه الأبوال فيبقى في عهدة التكليف. ثمّ ذكر أنّ حجّة الشيخ رواية أبي بصير ، وأصالة الطهارة.

وأجاب عن الرواية بأنّها مخصوصة بالخشّاف إجماعا فيخصّ بما شاركه في العلّة وهو عدم كونه مأكولا. وعن الوجه الآخر بالمعارضة بالاحتياط (1).

وأنت إذا لاحظت كلامه هذا بأدنى النظر تعلم ما فيه من التعسّف والقصور فلا حاجة إلى الإطالة ببيانه.

والحقّ أنّ أصالة الطهارة لا تدفع بمثل هذه التمحّلات. وحسنة عبد اللّه بن سنان على تقدير العمل بها إنّما تدلّ على حكم البول. والمعروف في الطيور إنّما هو الرجيع فلا دلالة لها بالنظر إلى الطيور وإن كانت عامّة.

وأمّا رواية أبي بصير فهي وإن تطرّق إليها الإشكال من حيث عدم صحّة

ص: 444


1- مختلف الشيعة 1 : 456.

سندها واقتضائها تحقّق البول للطيور على خلاف ما هو الظاهر المعروف ، إلّا أنّ ضعف سندها منجبر بموافقتها لمقتضى الأصل.

ومخالفتها للظاهر قابلة للتأويل فيتّجه حينئذ القول بطهارة ذرق الطيور إن لم يكن الإجماع المدّعى مأخوذا على جهة العموم وإلّا لكان هو الحجّة والمخرج عن مقتضى الأصل.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

لا فرق في حكم غير المأكول بين ما يكون تحريمه بالأصالة كالسباع ، وبين ما يكون بالعارض كالجلّال وموطوء الإنسان ؛ فإنّ الدليل يتناول القسمين. وقد ذكر العلّامة في التذكرة أنّه لا خلاف في ذلك (1).

[ الفرع ] الثاني :

إذا قلنا بطهارة رجيع الطير فالظاهر عدم الفرق بين الخفّاش وغيره ، كما هو الظاهر من كلام الصدوق وابن أبي عقيل (2) ؛ فإنّ مستند الشيخ في استثنائه له من بينها في المبسوط (3) على ما يظهر هو التمسّك برواية داود الرقي قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فأطلبه ولا أجده؟ قال : اغسل ثوبك » (4).

وهذه الرواية ضعيفة السند بداود وغيره.

ص: 445


1- تذكرة الفقهاء 1 : 51.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 71.
3- المبسوط 1 : 39.
4- تهذيب الأحكام 1 : 265 ، الحديث 777.

وروى الشيخ عن غياث عن جعفر عن أبيه قال : « لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف » (1).

وفي طريق هذه الرواية ضعف أيضا.

فإن تحقّق للخفّاش بول وعملنا بالحديث الحسن تعيّن اطراح هذه لدلالة حسنة عبد اللّه بن سنان على نجاسة البول من كلّ حيوان غير مأكول. فتتناول بعمومها الخفّاش وتقصر هذه عن تخصيصها. وكذا (2) إن ثبت عموم محلّ الإجماع. وإلّا فالأصل يساعد على العمل بهذه وإن ضعفت ، ويكون ذكر البول فيها محمولا على التجوّز ، وقد قال الشيخ في التهذيب : إنّها رواية شاذّة. ويجوز أن تكون وردت للتقيّة (3).

[ الفرع ] الثالث :

لا نعرف بين الأصحاب خلافا في أنّ رجيع ما لا نفس له من الحيوان غير المأكول ليس بنجس وهو مقتضى الأصل.

وقال المحقّق في المعتبر : أمّا رجيع ما لا نفس له كالذباب والخنافس ففيه تردّد. أشبهه أنّه طاهر لأنّ ميتته (4) ودمه ولعابه طاهر فصارت فضلاته كعصارة النبات (5).

وهذا الكلام يؤذن بظنّ تناول الأدلّة الدالّة على نجاسة فضلة الحيوان

ص: 446


1- تهذيب الأحكام 1 : 266 ، الحديث 778.
2- في « ب » : تقصر عن تخصيصها وهذا إن ثبت ..
3- تهذيب الأحكام 1 : 266.
4- في « ب » : لأنّ ميّته.
5- في « ب » : كعصارة الثياب.

غير المأكول له ، وإلّا فقد كان التمسّك في طهارته بالأصل أولى من التوجيه الذي ذكره.

والحقّ أنّ تلك الأدلّة لا تصلح لتناوله فلا مخرج (1) في حكمه عن الأصل.

مسألة [3] :

أكثر (2) الأصحاب على أنّ البول والروث من كلّ حيوان مأكول اللحم طاهران.

وخالف بالنجاسة في ذلك جماعة فاستثنى بعضهم منه الخيل والبغال والحمير فحكم بنجاسة أبوالها وأرواثها. واستثنى البعض ذرق الدجاج. فالبحث هنا يقع في موضعين :

[ الموضع ] الأوّل : في حكم أبوال الدوابّ الثلاث وأرواثها. والمشهور بين الأصحاب طهارتها على كراهيّة بحيث لا نعرف الخلاف في ذلك إلّا من ابن الجنيد والشيخ في النهاية (3).

ويدلّ على الطهارة وجوه :

أحدها : الأصل فإنّ إيجاب إزالتها تكليف ، والأصل يقتضي براءة الذمّة منه.

الثاني : اتّفاق من عدا ابن الجنيد من الأصحاب الذين نعرف فتاويهم فإنّهم لم ينقلوا الموافقة له عن أحد سوى الشيخ وهو قد وافق على المشهور

ص: 447


1- في « ج » : فلا يخرج في حكمه عن الأصل.
2- في « أ » و « ب » : ذكر الأصحاب.
3- النهاية ونكتها 1 : 265.

في غير النهاية (1). وظاهر كلامه في الاستبصار أنّ تضعيفه متأخّر عن النهاية ، ومختاره فيه الكراهة (2) ، فيكون رجوعه إنّما هو إلى وفاق المشهور.

وذكر المحقّق في المعتبر بعد حكايته القول بالنجاسة عن ابن الجنيد ونهاية الشيخ أنّ على القول بالكراهية عامّة الأصحاب (3).

الثالث : عموم ما دلّ على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه ، فإنّه متناول لموضع النزاع ؛ إذ المفروض كون الأنواع المذكورة مأكولة اللحم. وسيأتي بيانه في محلّه إن شاء اللّه.

فروى الكليني في الحسن عن زرارة أنّهما قالا : « لا تغسل ثوبك من بول شي ء يؤكل لحمه » (4).

وروى الشيخ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كلّ ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه » (5).

الرابع : خصوص ما رواه الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه عن أبيه عن محمّد بن يحيى العطّار عن إبراهيم بن هاشم عن صفوان بن يحيى ومحمّد ابن أبي عمير عن أبي الأعزّ النخّاس أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام فقال : « إنّي اعالج الدوابّ فربّما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فتضرب إحداها بيدها

ص: 448


1- الاستبصار 1 : 108.
2- الاستبصار 1 : 5 ، مقدّمة الكتاب.
3- المعتبر 3 : 413.
4- الكافي 3 : 57.
5- تهذيب الأحكام 1 : 266 ، الحديث 781.

أو برجلها فينضح على ثوبي فقال : لا بأس به » (1).

ورواه الكليني في الكافي عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن عليّ بن الحكم عن أبي الأعزّ النخّاس إلّا أنّ فيه قليل تغيّر حيث قال بعد قوله وراثت : « فيضرب أحدها بيده أو رجله فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه. فقال : ليس عليك شي ء » (2).

وما رواه الشيخ بإسناده الصحيح عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد ابن الحسين عن الحكم بن مسكين عن إسحاق بن عمّار عن معلّى بن خنيس وعبد اللّه بن أبي يعفور قالا : كنّا في جنازة وقدّامنا حمار (3). قال : « فجاءت الريح ببوله حتّى صكّت وجوهنا وثيابنا فدخلنا على أبي عبد اللّه عليه السلام فأخبرناه فقال : ليس عليكم بأس » (4).

وما رواه الشيخ أيضا بإسناده الصحيح عن أحمد بن محمّد عن البرقي عن أبان عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا بأس بروث الحمير واغسل أبوالها » (5).

وجه الدلالة في هذا الحديث نفي البأس عن الروث فيكون الأمر بغسل البول للاستحباب إذ لا قائل بالفصل في ما يظهر.

وقريب من هذا الحديث رواية أبي مريم قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام :

ص: 449


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 70.
2- الكافي 3 : 58.
3- في التهذيب : وفرّ بنا حمار.
4- تهذيب الأحكام 1 : 425 ، الحديث 1351 ، وفيه : وقربنا حمار.
5- تهذيب الأحكام 1 : 265 ، الحديث 773.

ما تقول في أبوال الدوابّ وأرواثها؟ قال : أمّا أبوالها فاغسل ما أصابك وأمّا أرواثها فهي أكثر من ذلك » (1).

ورواية عبد الأعلى بن أعين قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أبوال الحمير والبغال؟ قال : اغسل ثوبك. قال : قلت : فأرواثها؟ قال : هو أكثر من ذلك » (2).

قال المحقّق رحمه اللّه يعني : أنّ كثرتها يمنع التكليف بإزالتها وهو حسن.

وحجّة القول بالنجاسة عدّة روايات منها :

حسنة محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ألبان الإبل والغنم والبقر وأبوالها؟ فقال : لا تتوضّأ منه إلى أن قال : وسألته عن أبوال الدوابّ والبغال والحمير؟ فقال : اغسله فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كلّه ، فإن شككت فانضحه » (3).

ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن حسين بن عثمان عن ابن مسكان عن الحلبي قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أبوال الخيل والبغال؟ فقال : اغسل ما أصابك منه » (4).

وعن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل تمسّه بعض أبوال البهائم أيغسل أم لا؟ قال : يغسل بول الحمار والفرس والبغل. فأمّا الشاة وكلّ ما يؤكل

ص: 450


1- الكافي 3 : 57 ، الحديث 5.
2- الاستبصار 1 : 179 ، الحديث 625.
3- تهذيب الأحكام 1 : 264 ، الحديث 771.
4- تهذيب الأحكام 1 : 265 ، الحديث 775.

لحمه فلا بأس ببوله » (1).

ومنها رواية سماعة قال : « سألته عن بول السنّور والكلب والحمار والفرس؟ فقال : كأبوال الإنسان » (2).

قال الشيخ رحمه اللّه بعد أن روى هذه الأحاديث في التهذيب والإستبصار : هذه الأخبار كلّها محمولة على ضرب من الكراهيّة. والذي يدلّ على ذلك ما أوردناه من أنّ ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله وروثه. وإذا كانت هذه الأشياء غير محرّمة اللحوم لم يكن أبوالها وأرواثها محرّما (3).

قال : ويدلّ على ذلك أيضا ما رواه أحمد بن محمّد عن محمّد بن خالد عن القاسم بن عروة عن ابن بكير عن زرارة عن أحدهما عليه السلام في أبوال الدواب تصيب الثوب ، فكرهه. فقلت : أليس لحومها حلالا؟ قال : بلى ولكن ليس ممّا جعله اللّه للأكل ».

فجاء هذا الخبر مفسّرا لهذه الأخبار كلّها ومصرّحا بكراهيّة ما تضمّنته.

ويجوز أن يكون الوجه في هذه الأحاديث أيضا ضربا من التقيّة ؛ لأنّها موافقة لمذهب بعض العامّة (4). هذا كلام الشيخ.

وحاصله : أنّ الأخبار متعارضة في هذا الباب. وحمل روايات النجاسة على استحباب الإزالة طريق الجمع لا سيّما بقرينة الرواية التي رواها أخيرا. وأمره - في حسنة محمّد بن مسلم - بالنضح مع الشكّ وهو للاستحباب باعتراف

ص: 451


1- تهذيب الأحكام 1 : 266 ، الحديث 780.
2- الاستبصار 1 : 179 ، الحديث 627.
3- الاستبصار 1 : 179 ، الحديث 627.
4- تهذيب الأحكام 1 : 264 ، الحديث 772.

الخصم مع أنّه وقع في الحديث مجرّدا عن القرينة الدالّة على ذلك فلا بعد في كون الأوامر الواقعة في صحّته مثله بل المستبعد من الحكيم سوق الكلام على نمط يعطي الاتّفاق في الحكم والحال على الاختلاف.

ويجوز أن يجمع بينها بحمل أخبار النجاسة على التقيّة. ولا يخفى ما في قوله : « يدلّ على ذلك ما أوردناه من أنّ ما يؤكل لحمه .. إلى آخره » ؛ فإنّ هذا المضمون عامّ والأخبار التي يحاول تأويلها خاصّة ، فطريق الجمع بينها حمل العامّ على الخاصّ لا ما ذكره. وقد كان الصواب التمسّك في ذلك بالأخبار التي ذكرناها في الاحتجاج للطهارة فإنّها خاصّة كأخبار النجاسة فيقع التعارض.

والظاهر أنّه أراد هذا المعنى ولكن جاءت العبارة قاصرة عن تأديته ، وقد اتّفق له في محل آخر الإشارة إلى هذا البحث بعبارة جارية على نهج الصواب. والأمر في ذلك سهل لوضوح المقصود. وإنّما الشأن في استقامة هذا الجمع ، وقد اقتفى أثره فيه جماعة من الأصحاب مقتصرين على محصول كلامه.

وربّما يدلّ عليه : إنّ تكلّف الجمع فرع حصول التعارض. والمصير إلى التأويل إنّما يصحّ عند قيام المعارض ، وذلك مفقود هنا ؛ فإنّ في أخبار التنجيس ما هو صحيح السند ، وليس في جانب الطهارة حديث صحيح ؛ فإنّ رواية أبي الأعز ضعيفة لجهالة حاله ؛ إذ لم يذكره الأصحاب في كتب الرجال. ورواية المعلّى وابن أبي يعفور في طريقها الحكم بن مسكين وهو مجهول الحال أيضا وإسحاق بن عمّار ويقال : إنّه فطحيّ. وفي طريق رواية الحلبي البرقي وقد ضعّفه النجاشي (1) ، وأبان وفيه إشكال. ورواية أبي مريم

ص: 452


1- رجال النجاشي : 335.

ضعيفة وكذا رواية عبد الأعلى.

أقول : التحقيق عندي أنّ الأسانيد من الطرفين ليست بواضحة الصحّة.

فإنّ الاولى من روايات التنجيس حسنة كما ذكرنا ، والثانية في طريقها الحسين ابن عثمان. وهذا الاسم مشترك بين رجلين وثّقهما النجاشي (1). وحكى الكشّي توثيق أحدهما عن حمدويه عن أشياخه (2) مع أنّ عبارة الاختيار توهم مغايرة المحكيّ توثيقه لهما ، وهذه الحكاية لا تخرجه عند التحقيق عن عداد من عرفت عدالته بتزكية الواحد.

وبنحو هذا يؤخذ على الرواية الثالثة ؛ فإنّ راويها - وهو عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه - لا يعرف لتعديله مأخذ إلّا شهادة الواحد. والرواية الأخيرة في طريقها عثمان بن عيسى وسماعة وحالهما مشهور. هذا.

والرواية الاولى من أخبار الطهارة وإن كان حال راويها مجهولا من حيث عدم ذكره في كتب الرجال إلّا أنّ الراوي عنه فيها - كما رأيت - الثقتان الجليلان صفوان بن يحيى ومحمّد بن أبي عمير اللذين قد أكثر الأصحاب من مدحهما والثناء عليهما ، حتّى قال الشيخ في حقّ صفوان : إنّه أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث وأعبدهم (3). وقال في حقّ ابن أبي عمير : إنّه أوثق الناس عند الخاصّة والعامّة وأنسكهم نسكا وأورعهم وأعبدهم (4).

وحكى الكشّي إجماع الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنهما في جملة

ص: 453


1- رجال النجاشي : 53 و 54.
2- اختيار معرفة الرجال : 599.
3- الفهرست للطوسي : 83 ، الرقم 346.
4- الفهرست للطوسي : 142 ، الرقم 1103.

آخرين وتصديقهم والإقرار لهم بالفقه والعلم (1).

ولا ريب أنّ روايتهما لها بل ولغيرها من رواياته - التي أوردها الصدوق في كتابه ؛ إذ الإسناد الذي ذكرناه للرواية هو طريقه إلى كلّ ما رواه فيه عن أبي الأعزّ - تدلّ على حسن حاله ، ثمّ ينضاف إلى ذلك إيداع الرواية كتاب من لا يحضره الفقيه وقد قال مصنّفه الصدوق رحمه اللّه إنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة ، عليها المعوّل وإليها المرجع (2).

والخبر المتضمّن لنفي البأس عن روث الحمير لا يقصر عن الأخبار التي تظنّ صحّتها في روايات التنجيس.

والتشبّث في تضعيفه باشتمال طريقه على « البرقي » و « أبان » لا يتّجه عند من يحكم بصحّة شي ء من أخبار النجاسة.

أمّا من جهة البرقي فلأنّ الشيخ وثّقه. وكلام النجاشي في تضعيفه (3) غير صريح ؛ لأنّه محتمل لإرادة كثرة روايته عن الضعفاء كما ذكره ابن الغضائري في حقّه وذلك غير قادح في نفسه فلا منافي لتوثيق الشيخ له.

وأمّا من جهة أبان فلأنّ القرائن قائمة على أنّه ابن عثمان وهو أحد (4) الجماعة الذين حكى الكشّي الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم (5).

وما جرح به لم يثبت ؛ لأنّ الأصل فيه علي بن الحسن بن فضّال ، والمتقرّر

ص: 454


1- اختيار معرفة الرجال : 854 ، الرقم 1103.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : المقدّمة.
3- رجال النجاشي : 261 ، الرقم 683.
4- في « ب » : وهو أجلّ الجماعة.
5- اختيار معرفة الرجال : 57.

في كلام الأصحاب أنّه من جملة الفطحيّة ، فلو قبل طعنه في أبان لم يتّجه المنع من قبول رواية أبان ؛ إذ ليس القدح إلّا بفساد المذهب وهو مشترك بين الجارح والمجروح.

وقد اتّضح بهذا وجه ثبوت التعارض بين الأخبار لكن بعد رعاية مقدّمة اخرى وهي انتفاء القول بالفصل. وانحصار الأقوال في طهارة البول والروث من الكلّ ونجاستهما ليكون إثبات الطهارة في البعض مقتضيا لإثباته في الجميع ؛ فإنّ الخبر المبحوث عنه لم يتعرّض فيه لغير روث الحمير كما علم.

وقد أخذ العلّامة في المختلف هذه المقدّمة مع الحديث عند الاحتجاج به (1).

ولا يخفى عليك أنّ حجّة القول بالتنجيس لا يتمّ بدون هذه المقدّمة أيضا ؛ لخلوّ أخباره عن حكم الروث واختصاص الأمر بغسل الأبوال بما إذا أصابت الثوب أو البدن ، والمدّعى عموم الحكم بنجاستها ، فلا بدّ لهم من الموافقة عليها. وقد علمت أنّ المشي على طريقهم في تصحيح الأخبار مقتض لصحّة الخبر المذكور. واللازم من الأمرين ثبوت الطهارة وتبقى الأخبار الاخر عاضدة للحجّة ومؤيّدة لها.

وقد اشار المحقّق رحمه اللّه في المعتبر إلى خلوّ الأخبار عن الدلالة على نجاسة الروث فقال : بعد نقل جملة من الروايات الواردة في الباب : « فخلص من هذا تطابق أخبارنا على طهارة الروث وتصادمها على البول فيقضى بالكراهيّة عملا بالروايتين ؛ ولأنّ تعارض النقل يثمر الطهارة لوجهين :

أحدهما : أنّ الأصل الطهارة فيكون طرفها أرجح.

الثاني : ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه

ص: 455


1- مختلف الشيعة 1 : 459.

قذر » (1). هذا كلامه.

وظاهره عدم خلوص ما قرّره في جهة الأبوال من ثبوت الإشكال.

والأولى في مقام الخصام والإلزام التمسّك بما حرّرناه.

وأمّا عند التحقيق فترى أنّ الأخبار كلّها غير بالغة حدّ الصحّة على الوجه الذي رجّحناه في المقدّمات الاصوليّة فلا يبقى لمقتضى الأصل المعتضد بعمل جمهور الأصحاب ومخالفة ما عليه أهل الخلاف معارض.

وبالجملة فلا ريب أنّ أصالة براءة الذمّة سبب متين لا يقطعه إلّا الدليل القويّ. غير أنّ في القول بالتنجيس احتياطا للدين غالبا واتّباعا لما عليه إجماع الكلّ من أرجحيّة النزاهة عنها. ويتأكّد ذلك في مورد النصوص وهو إصابة الأبوال للثوب أو للبدن.

الموضع الثاني : في حكم ذرق الدجاج. وقد ذهب الشيخان إلى نجاسته (2).

والمشهور بين الأصحاب أنّه كغيره من الحيوان المأكول اللحم بحيث لا يعرف القول بالنجاسة لغيرهما ، بل الشيخ رحمه اللّه وافق على الطهارة في التهذيب والإستبصار (3). فربّما ينحصر الخلاف في المقيّد بتقريب ما قلناه في الموضع الأوّل.

وعلى كلّ حال فالقول بالطهارة عندي هو الأقرب.

لنا : الأصل ، مؤيّدا بعموم رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه

ص: 456


1- المعتبر 1 : 414.
2- الخلاف 1 : 485 ، والمقنعة : 71.
3- تهذيب الأحكام 1 : 266 ، الحديث 781.

قال : « كلّ ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه » (1).

وخصوص رواية وهب بن وهب عن جعفر عن ابيه عليهما السلام أنّه قال : « لا بأس بذرق الدجاج (2) والحمام يصيب الثوب » (3).

احتجّ الشيخ في التهذيب للقول بالتنجيس عند نقله لكلام المفيد برواية فارس قال : « كتب إليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب : لا » (4).

وجواب هذا الاحتجاج الطعن في الرواية ؛ فإنّ راويها مذموم جدّا.

قال الشيخ في كتاب الرجال : فارس بن حاتم غال ملعون (5).

وقال الكشّي : ذكر الفضل بن شاذان في بعض كتبه : إنّ من الكذّابين المشهورين ، الفاجر فارس بن حاتم وحكى فيه امورا اخر (6) ، لا حاجة إلى نقلها ، ومن هذا شأنه كيف يلتفت إلى روايته؟

والرواية التي وردت بالطهارة وحكيناها ضعيفة أيضا. ولذلك لم يجعلها حجّة بل مؤيّدة (7) للأصل.

قال المحقّق رحمه اللّه - بعد ذكره للروايتين وتنبيهه على ضعفهما وأنّ المرجع

ص: 457


1- تهذيب الأحكام 1 : 266 ، الحديث 781.
2- في « أ » و « ب » : لا بأس بخرء الدجاج.
3- تهذيب الأحكام 1 : 283 ، الحديث 831.
4- تهذيب الأحكام 1 : 266 ، الحديث 782.
5- رجال الطوسي : 320.
6- اختيار معرفة الرجال : 807.
7- في « ب » : ولذلك لم نجعلها حجّة بل نجعلها مؤيّدة للأصل.

إلى الأصل وهو الطهارة - : « ولو قيل : الدجاج يتوقّى النجاسة فرجيعه مستحيل عنها فيكون نجسا ، قلنا : بتقدير أن يكون ذلك محضا يكون التنجيس ثابتا. امّا إذا كان يمزج علفه فإنّه يستحيل إمّا عنهما أو عن أحدهما ، فلا يتحقّق الاستحالة عن النجاسة ، إذ لو حكم بغلبة النجاسة لسرى التحريم إلى لحمها ، ولمّا حصل الإجماع على حلّها مع الإرسال بطل الحكم بغلبة النجاسة على رجيعها » (1).

مسألة [4] :

والمني من الآدمي نجس بإجماع علمائنا ، حكاه في التذكرة (2). وأخبارنا بذلك مستفيضة.

فمنها ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام : « في المني يصيب الثوب؟ قال : إن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك فاغسله كلّه » (3).

وعن محمّد بن مسلم أيضا في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ذكر المنيّ فشدّده وجعله أشدّ من البول » (4). الحديث.

وما رواه الصدوق عن محمّد الحلبي في الصحيح : أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام

ص: 458


1- المعتبر 1 : 413.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 53.
3- تهذيب الأحكام 1 : 297 ، الحديث 784.
4- تهذيب الأحكام 1 : 252 ، الحديث 730.

« عن رجل أجنب في ثوبه (1) وليس معه ثوب غيره؟ قال : يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله » (2).

ومنها : ما رواه الحلبي في الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إذا احتلم الرجل فاصاب ثوبه منيّ فليغسل الذي أصابه. فإن ظنّ أنّه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وإن استيقن أنّه قد أصابه ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه ؛ فإنّه أحسن » (3).

وروى عن ابن أبي يعفور عنه عليه السلام قال : « سألته عن المنيّ يصيب الثوب؟ قال : إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفي عليك مكانه فاغسله كلّه » (4).

وعن سماعة قال : « سألته عن المنيّ يصيب الثوب؟ قال : اغسل الثوب كلّه إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا » (5).

والأخبار بهذا المضمون [ كثيرة ] لا حاجة إلى الإطالة باستيفائها.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ حكم منيّ غير الآدمي ممّا له نفس كحكم منيّ الآدميّ عند الأصحاب لا نعرف فيه خلافا بينهم.

وحكى العلّامة فيه الإجماع مع منيّ الآدميّ في التذكرة (6) ، وجعل الحجّة

ص: 459


1- في « أ » : أجنب في نومه.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 68 ، الحديث 155.
3- تهذيب الأحكام 1 : 252 ، الحديث 728.
4- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 725.
5- تهذيب الأحكام 1 : 252 ، الحديث 727.
6- تذكرة الفقهاء 1 : 53.

لنجاسته في المنتهى عموم ما دلّ على نجاسة المنيّ ولم يذكر الإجماع (1). وهكذا صنع المحقّق في المعتبر فإنّه عمّم الحكم في أصل المسألة واحتجّ له بالأخبار ولم يتعرّض للإجماع (2).

وعندي في تحقّق العموم - بحيث يتناول غير الآدميّ - نظر.

ويمكن أن يحتجّ له بجعله أشدّ من البول في صحيح محمّد بن مسلم فإنّه وإن شهدت القرينة الحاليّة في مثله بإرادة منيّ الإنسان ، إلّا أنّ فيه إشعارا بكونه أولى بالتنجيس من البول ، فكلّما حكم بنجاسة بوله ينبغي أن يكون لمنيّه هذه الحالة وربّما كان هذا القدر كافيا مع الإجماع المنقول وعدم ظهور مخالف فيه.

ويبقى الكلام في منيّ ما لا نفس له. فظاهر جماعة من الأصحاب القطع بطهارته.

وفي كلام المحقّق في المعتبر والعلّامة في المنتهى إشعار بنوع إشكال فيه. فعبارة المحقّق هذه : « وفي منيّ ما لا نفس له تردّد أشبهه الطهارة » (3). وعبارة المنتهى : « منيّ ما لا نفس له سائلة الأقرب طهارته » (4).

وكأنّ وجه الإشكال ظاهر بعد ملاحظة التمسّك في نجاسة منيّ ذي النفس من غير الآدميّ بالعموم فإنّ اعتبار النفس غير موجود في الأخبار ، فعرض عمومها على وجه يتناول غير الآدميّ يقتضي عدم الفرق بين ذي النفس وغيره.

وأمّا مع الاستناد إلى الإجماع أو التقريب الذي ذكرناه في حديث محمّد

ص: 460


1- منتهى المطلب 3 : 183 - 184 ، الطبعة المحققة الاولى.
2- المعتبر 1 : 415.
3- المعتبر 1 : 415.
4- منتهى المطلب 3 : 184.

ابن مسلم فلا إشكال في الاختصاص بذي النفس فيبقى غيره على أصل الطهارة.

مسألة [5] :
اشارة

المذي - وهو الماء الذي يخرج عقيب الملاعبة والملامسة - والودي : بالدال المهملة - وهو الذي يخرج عقيب البول - طاهران عند جمهور علمائنا لا يعرف في (1) ذلك بينهم خلاف (2) إلّا من ابن الجنيد ؛ فإنّه قال : ما كان من المذي ناقضا طهارة الإنسان غسل منه الثوب والجسد ، ولو غسل من جميعه كان أحوط وفسّر الناقض للطهارة بما كان حادثا عقيب شهوة.

والقول بالطهارة هو الأصحّ.

لنا ما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز قال : حدّثني زيد الشحّام وزرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « إن سال من ذكرك شي ء من مذي أو ودي فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء إنّما ذلك بمنزلة النخامة » (3) ، الحديث.

وفي الصحيح عن ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ليس في المذي من الشهوة ولا من الإنعاظ ولا من القبلة ولا من مسّ الفرج ولا من المضاجعة وضوء. ولا تغسل (4) منه الثوب

ص: 461


1- في « أ » و « ب » : لا نعرف في ذلك.
2- في « ب » : منهم خلاف.
3- تهذيب الأحكام 1 : 21 ، الحديث 52.
4- في « ب » : ولا يغسل منه.

والجسد » (1).

وفي الصحيح عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن المذي؟ فقال : « إنّ عليّا عليه السلام كان رجلا مذاء ، واستحيى أن يسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمكان فاطمة فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس ، فسأله فقال له : ليس بشي ء » (2).

وفي الحسن عن زيد الشحّام قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : المذي ينقض الوضوء؟ قال : لا ولا تغسل منه الثوب ولا الجسد ، إنّما هو بمنزلة البزاق والمخاط » (3).

والأخبار في ذلك كثيرة. والأصل يعضدها ، وإطباق من عدا ابن الجنيد من الأصحاب على العمل بمضمونها يؤيّدها.

وقد ورد حديثان يخالفان بظاهرهما هذه الأخبار ويقتضيان التنجيس.

أحدهما : رواية الحسين بن أبي العلاء ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المذي الذي يصيب الثوب؟ قال : إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفي مكانه عليك فاغسل الثوب كلّه (4).

والثاني : روايته أيضا قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المذي يصيب الثوب فيلتزق به؟ قال : يغسله ولا يتوضّأ » (5).

ص: 462


1- تهذيب الأحكام 1 : 253 ، الحديث 734.
2- تهذيب الأحكام 1 : 17.
3- تهذيب الأحكام
4- تهذيب الأحكام 1 : 253 ، الحديث 731.
5- في « ب » : تغسله ولا تتوضّأ. تهذيب الأحكام 1 : 5. الحديث 732.

قال الشيخ رحمه اللّه : هذان الخبران محمولان على ضرب من الاستحباب بدلالة ما قدّمناه من الأخبار. يعني الأخبار التي ذكرنا جملة منها دليلا على الطهارة.

ثمّ قال : ويزيد ذلك بيانا ما رواه هذا الراوي بعينه وهو عليّ بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد اللّه عن المذي يصيب الثوب؟ قال : لا بأس به. فلمّا رددنا عليه قال : ينضحه بالماء » (1).

وما ذكره الشيخ حسن واضح لا سيّما مع عدم مقاومة هذين الخبرين تلك الأخبار من جهة الإسناد. ولا ريب أنّ رواية الراوي بعينه نفي البأس عنه أوضح دليل على كون الأمر في ذينك الخبرين للاستحباب.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العلّامة في المختلف جعل حجّة ابن الجنيد هذين الخبرين وأنّه خارج من أحد السبيلين فيكون نجسا كالبول.

وأجاب عن الحديثين بالمنع من صحّة السند أوّلا. وبالحمل على الاستحباب ثانيا. وعن القياس بالفرق بما افترق به الأصل والفرع وإلّا اتّحدا وهو ينافي القياس. ثمّ قال : إنّ القياس عندنا باطل (2).

ولا يخفى عليك أنّ كلا وجهي الحجّة لا يناسب قول ابن الجنيد.

أمّا الخبران فلتضمّنهما الأمر بالغسل من المذي مطلقا وقد فصّل هو - كما حكيناه عنه - فأوجب الغسل من الناقض وجعل الغسل من الجميع أحوط. وهذا وإن كان في موضع النظر من حيث إنّ المعروف من المذي ما كان عقيب الشهوة وقد فسّر به الناقض الذي جعله مناطا لوجوب الغسل إلّا أنّه بعد فرضه صدق الاسم عليه وعلى غيره لا يناسبه التمسّك في ذلك بالحديثين.

ص: 463


1- تهذيب الأحكام 1 : 253 ، الحديث 733.
2- مختلف الشيعة 1 : 464.

وأمّا القياس على البول فلأنّه يقتضي نجاسة الجميع. والتفصيل ينافيه.

وأمّا جواب العلّامة عن الحجّة فما يتعلّق منه بالحديثين جيّد.

وأمّا ما يتعلّق بالقياس فضعيف ؛ لأنّ محاولته إبداء الفارق يشعر بكونه جوابا على طريق التنزّل ، وتسليم جواز القياس في الأحكام لا سيّما بقرينة قوله : « على أنّ القياس .. » فإنّه ارتقاء من المقام الأدنى - أعني تجويز العمل بالقياس إلى منع العمل به. واعتبار الفرق الذي ذكره يقتضي نفي القياس رأسا ؛ إذ ما من قياس إلّا ويتأتّى فيه هذا الفرق.

ولو حملناه على جعله وجها لإبطال أصل القياس لم يبق لقوله : « على أنّ .. » معنى. هذا.

وما ذهب إليه ابن الجنيد لا يعرف له غير ما ذكره العلّامة حجّة.

تذنيب :

رطوبة فرج المرأة ورطوبة الدبر طاهرتان إذا خلتا من استصحاب نجاسة ؛ عملا بمقتضى الأصل. ولا نعلم في ذلك خلافا لأحد من الأصحاب. وإنّما يحكى عن بعض العامّة القول بنجاستهما وهو باطل لعدم الدليل عليه.

وذكر المحقّق في المعتبر أنّ القائل بذلك يتشبّث بكون الرطوبة جارية من مجرى النجاسة. وردّه بأنّ النجاسة لا يظهر حكمها إلّا بعد خروجها عن المجرى (1). وهذا واضح لا ريب فيه.

وروى الشيخ عن إبراهيم بن أبي محمود (2) في الصحيح قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المرأة ولبسها قميصها أو إزارها يصيبه من بلل الفرج

ص: 464


1- المعتبر 1 : 419.
2- في « ب » : عن إبراهيم بن أبي محبوب.

وهي جنب أتصلّي فيه؟ قال : إذا اغتسلت صلّت فيهما (1).

مسألة [6] :
اشارة

والدّم من كلّ حيوان ذي نفس سائلة نجس بغير خلاف. قاله العلّامة في التذكرة.

والمراد بالنفس السائلة : الدم الذي يخرج بدفع من العرق إذا قطع (2).

وقال المحقّق في المعتبر : « الدم كلّه نجس عدا دم ما لا نفس له سائلة ، قليله وكثيره. وهو مذهب علمائنا عدا ابن الجنيد فإنّه قال : إذا كانت سعته دون سعة الدرهم الذي سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب » (3).

وما عزاه إلى ابن الجنيد موجود في مختصره لكن بعبارة عامّة في الدم وغيره. وهذه عبارته : « كلّ نجاسة وقعت على ثوب فكانت عينها فيه مجتمعة أو [ منتشية ] دون سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلّا أن تكون النجاسة دم حيض أو منيّا فإنّ قليلهما وكثيرهما سواء » (4).

وقد حكى العلّامة في المختلف هذه العبارة ، وفهم منها إرادة العفو عن الناقص عن سعة الدرهم من النجاسات التي ذكرها ، وجعل الخلاف بينه وبين الأصحاب في قصر اعتبار الدرهم على الدم وتعديته لغيره من النجاسات

ص: 465


1- في « ب » : إزارها يصيبه .. أيصلّى فيه؟ تهذيب الأحكام 1 : 1. الحديث 1122.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 56.
3- المعتبر 1 : 420.
4- مختلف الشيعة 1 : 475.

التي أشار إليها ، وربّما كان في عدم نقل خلافه في غير الدم قرينة على إرادة ما فهمه العلّامة.

وكيف كان فخلافه ضعيف ؛ لأنّ الأخبار التي وقع فيها اعتبار الدرهم مقصورة على الدم ، وظاهرة في إرادة العفو عنه في الصلاة لا أنّه طاهر.

وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه.

والروايات مستفيضة بنجاسة الدم في الجملة فمنها :

ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ، قال : « قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من منيّ فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا ، وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه وطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : تغسله وتعيد. قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » (1) ، الحديث. وهو طويل.

ومنها ما رواه في الحسن عن عبد اللّه بن سنان قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : إن علم أنّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى » (2).

الحديث.

ص: 466


1- الاستبصار 1 : 183 ، الحديث 641.
2- الاستبصار 1 : 182 ، الحديث 636.

وما رواه عن سماعة قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتّى يصلّي؟ قال : يعيد صلاته كي يهتمّ بالشي ء إذا كان في ثوبه ، عقوبة لنسيانه » (1).

ومنها ما رواه الصدوق والشيخ عن عليّ بن جعفر في الصحيح « أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كلّه دم يصلّي فيه أو يصلّي عريانا؟ قال : إن وجد ماء غسله وإن لم يجد ماء صلّى فيه ولم يصلّ عريانا » (2).

وروى الصدوق عن عمر بن اذينة في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام « أنّه سأله عن الرجل يرعف وهو في الصلاة وقد صلّى بعض صلاته؟ فقال : إن كان الماء عن يمينه أو عن شماله أو عن خلفه فليغسله » (3). الحديث.

وروى الشيخ عن محمّد بن مسلم بإسنادين يعدّان في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يأخذه الرعاف أو القي ء في الصلاة كيف يصنع؟ قال : ينفتل فيغسل أنفه » (4). الحديث.

وعن عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثؤلول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح؟ قال : إن لم يتخوّف أن يسيل الدم

ص: 467


1- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 738.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 248 ، الحديث 755.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 366 ، الحديث 1056.
4- الاستبصار 1 : 403 ، باب الرعاف.

فلا بأس ، وإن تخوّف أن يسيل الدم فلا يفعله » (1).

والأحاديث بهذا المعنى كثيرة لكنّها غير وافية ببيان الحكم على الوجه الذي يذهب إليه الأصحاب ، فإنّهم يشترطون في الحكم بالتنجيس وجود النفس ، ويستثنون منه المتخلّف في لحم المذبوح. والأخبار خالية من اعتبار الشرط وبيان التفرقة بين أنواع الدم. وكلام الأصحاب هاهنا غير محرز أيضا. ونحن نبيّن أقسام الدم التي يحتمل اختلاف الحكم باختلافها ونذكر ما يقتضيه التحقيق في كلّ واحد منها. فنقول :

الدم إمّا مسفوح أو غيره. وغير المسفوح إمّا دم حيوان لا نفس له أو غيره.

والأوّل إمّا من السمك أو من غيره.

والثاني إمّا متخلّف في اللحم بعد الذبح المعتدّ به شرعا أو غيره.

والأوّل : إمّا من مأكول اللحم أو ممّا ليس بمأكول.

فهذه أقسام ستّة.

الأوّل - الدم المسفوح : وهو نجس مطلقا عند جميع علماء الإسلام على ما ذكره العلّامة في المنتهى (2) ، وللأخبار دلالة ما عليه (3) وإن كانت بالنظر إلى ظاهر ألفاظها مطلقة ؛ فإنّ ترك الاستفصال في مثلها قرينة على العموم في الجملة. وأقلّ مراتبه يتناول أفراد هذا النوع كما يرشد إليه الفكر الصحيح.

الثاني - دم السمك ولا ريب في طهارته للأصل ، وفقد شرط التنجيس عند الأصحاب أعني وجود النفس ، وعدم ظهور تناول الأخبار لمثله حيث

ص: 468


1- تهذيب الأحكام 2 : 378 ، الحديث 1576.
2- منتهى المطلب 3 : 188.
3- في « ب » : وللأخبار دلالة عليه.

لا عموم فيها من جهة اللفظ كما ذكرنا.

وما يستفاد من ترك الاستفصال ليس بمعلوم تناوله لمثله كما لا يخفى.

وقد حكى الإجماع على طهارته كثير من الأصحاب وأوّلهم الشيخ في الخلاف (1) ثمّ المحقّق في المعتبر فقال : « إنّها مذهب علمائنا أجمع » (2).

وذكر العلّامة في المختلف أنّ ظاهر تقسيم الشيخ للدم في المبسوط والجمل يعطي حكمه بنجاسة دم السمك والبقّ والبراغيث. وكذا (3) تقسيم سلّار له ، بل هو أقوى في الدلالة على الحكم بالتنجيس ، لكنّه اقتصر على السمك والبراغيث (4).

واقتفى المتأخّرون أثر العلّامة في فهم ذلك من كلام الشيخ ، فعزوا إليه القول بنجاسة دم المذكورات في الجمل والمبسوط. وتجاوزوا خطى العلّامة فجزموا بالنسبة ، ولم يقطع هو بها بل جعل ذلك ظاهرا.

والحقّ : أنّ هذه النسبة خطأ نشأ من قصور عبارة الشيخ ، كما اتّفق لهم في غير موضع ، وذلك أنّه قال في الجمل :

النجاسات على ضربين دم وغير دم. فالدم على ثلاثة أضرب ، ضرب يجب إزالة قليله وكثيره ، - وهي : « كذا .. فعدّ أنواعه » - وضرب لا يجب إزالة قليله ولا كثيره ، وهي خمسة أجناس دم البقّ والبراغيث والسمك والجراح اللازمة

ص: 469


1- الخلاف 1 : 476.
2- المعتبر 1 : 421.
3- في « ب » : وهذا تقسيم سلّار له.
4- مختلف الشيعة 1 : 473 ، وراجع المبسوط 1 : 35 ، والمراسم العلويّة : 54 ، الطبعة المحقّقة الاولى.

والقروح الدامية » (1). ويقال : إنّ عبارة المبسوط هكذا (2).

وهذا الكلام وإن أفاد بظاهره الحكم بالنجاسة في المذكورات إلّا أنّ الرجوع إلى كلامه في الخلاف يرشد إلى معرفة مراده منه ، وهم استظهروا عليه في ردّ هذا الحكم بنقله الإجماع على خلافه في الخلاف. والأمر كما ذكروه (3) ؛ فإنّه بعد أن حكى فيه خلاف الشافعي فيها قال : « دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا فإنّ النجاسة حكم شرعيّ ولا دلالة في الشرع على نجاسة هذه الدماء ».

لكنّه بعد هذه العبارة بسطر واحد قال : « مسألة : جميع النجاسات يجب إزالتها عن الثياب والبدن قليلا كان أو كثيرا إلّا الدم فإنّ له ثلاثة أحوال. دم البقّ والبراغيث ، ودم السمك وما لا نفس له سائلة ودم الجراح اللازمة لا بأس بقليله وكثيره » (4).

وهذا الكلام كما ترى يشبه في المعنى تقسيم الجمل والمبسوط. وحيث إنّه جمع بينه وبين الإجماع المذكور في عبارة واحدة فضلا عن أن يكون في كتاب واحد فمن المعلوم أنّ عبارته في التقسيم متجوّزة وأنّه أراد من النجاسات التي جعلها مورد القسمة معنى خلاف الظاهر منها اعتمادا على القرينة الحاليّة وهي معلوميّة طهارة المذكورات في المذهب. وحيث إنّهم استعانوا في ردّ كلامه في الكتابين بما ذكره في الخلاف من دعوى الإجماع على الطهارة ، فهلّا أنعموا النظر وجعلوا كلام الخلاف عونا على فهم الغرض؟

ص: 470


1- الجمل والعقود : 107.
2- المبسوط 1 : 35.
3- في « ب » : والأمر كما ذكره.
4- الخلاف 1 : 476.

على أنّهم لو نازعوا في صحّة هذا التجوّز أو حسنه نظرا إلى عدم صلاحيّة القرينة أو خفائها لم يخف أنّ الحكم باختلال العبارة هيّن عند حكمهم باختلال الحكم.

وقد اتّضح بهذا انتفاء الخلاف من جهة الشيخ ، وبقي الكلام في تقسيم سلّار فإنّ عبارته اتّفقت على نهج عبارة الشيخ ولم نقف له على ما يقتضي الخروج عن ظاهرها ، كما وقع للشيخ. ولكنّ الظاهر أنّ غرضهما واحد ، وأنّ التقسيم مبنيّ على نوع من التوسّع.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ العلّامة احتجّ لطهارة دم السمك في المنتهى بقوله تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) (1). وقوله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (2).

ووجه الدلالة في الاولى : بأنّ التحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه ، وذلك يستلزم الطهارة.

وفي الثانية : بأنّ دم السمك ليس بمسفوح فلا يكون محرّما فلا يكون نجسا (3).

والاستدلال بالآية الاولى محلّ تأمّل.

وأمّا الثانية : ففي الاحتجاج بها قوّة ؛ لظهور دلالتها على حلّ مثله واقتضاء الطهارة ، إلّا أنّ التمسّك بذلك يستدعي القول بحلّ دم السمك. وظاهر كلام كثير من الأصحاب خلافه ، بل لا أعلم تصريحا بتحليله (4) إلّا في هذه العبارة.

ص: 471


1- سورة المائدة ، الآية 94.
2- سورة الأنعام ، الآية 143.
3- منتهى المطلب 3 : 192.
4- في « ب » : لا أعلم تصريحا عليه.

وفي نهايته ما يقرب منها (1).

وفي كلام السيّد أبي المكارم بن زهرة نحوها ، فإنّه احتجّ لطهارته بالإجماع وبأنّ النجاسة حكم شرعيّ فيقف على الدليل ، وليس هنا دليل ، وبالآيتين. وبيّن وجه الدلالة في الاولى : بأنّها تقتضي إباحة السّمك بجميع أجزائه ، وفي الثانية : بأنّها ظاهرة في انحصار المحرّم من الدم في المسفوح ، ودم السمك ليس بمسفوح ، فيجب أن لا يكون محرّما. وذلك يقتضي طهارته (2).

ولوالدي في الروضة عبارة يظهر منها أيضا الحكم بالحلّ (3).

وفي قواعد العلّامة في باب الأطعمة كلام يشعر بذلك أيضا ؛ فإنّه ذكر أوّلا أنّ الدم المسفوح حرام نجس. ثمّ قال : وكذا ما ليس بمسفوح من الحيوان المحرّم كدم الضفادع والقراد وإن لم يكن نجسا لاستخباثه (4).

ووجه الإشعار في هذه العبارة تقييد غير المسفوح بكونه من الحيوان المحرّم ولا يخفى أنّ ظاهره يقتضي قصر الحكم بالتحريم في غير المسفوح على دم الحيوان المحرّم ، فيبقى دم المحلّل على أصل الحلّ ومن جملته السمك.

ولكن له في أثر هذه العبارة بغير فصل كلام آخر ، ربّما نافى بحسب الظاهر حمل التقييد المذكور على ما قرّرناه فإنّه قال : أمّا ما لا يدفعه الحيوان المأكول إذا ذبح فإنّه طاهر حلال.

ولو كان مراده من العبارة الاولى تعميم الحكم في كلّ دم غير مسفوح

ص: 472


1- نهاية الإحكام 1 : 268.
2- غنية النزوع ، كتاب الصلاة ، فصل الطهارة ، أحكام الدماء.
3- الروضة البهيّة 7 : 310 ، الطبعة المحقّقة الاولى.
4- قواعد الأحكام 2 : 158.

من حيوان محلّل لم يكن للاقتصار في الثانية على المتخلّف في الذبيحة وجه.

وبالجملة فعباراتهم ظاهرة في تخصيص التحليل بدم الذبيحة وتعميم التحريم في غيره من الدماء ووقع التصريح بذلك أيضا في كلام بعضهم ، والتنصيص على تحريم دم السمك بالخصوص ، وليس لهم عليه حجّة غير الاستخباث وهو موضع نظر.

وإذا لم يثبت تحريمه تكون الآية دليلا قويّا على طهارته. مضافا إلى ما سبق.

وقد روى الشيخ في الحسن عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه : « أنّ عليّا عليه السلام كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ يكون في الثوب فيصلّي فيه الرجل يعني دم السمك » (1).

الثالث - دم غير السمك ممّا لا نفس له : وهو طاهر أيضا عند الأصحاب لا نعرف فيه بينهم خلافا إلّا ما أوهمه ظاهر التقسيم الواقع في الجمل والمبسوط من القول بنجاسة دم البقّ والبراغيث (2). وقد بيّنا الحال فيه.

ويظهر من تقسيم سلّار أيضا : الحكم بنجاسة دم البراغيث (3). ولعلّه على حذو تقسيم الشيخ. وقد ادّعى جماعة من الأصحاب الإجماع على طهارة الدم من كلّ حيوان لا نفس له ، ومنهم الشيخ في الخلاف ؛ فإنّه احتجّ لذلك بإجماع الفرقة وعدم الدلالة في الشرع على النجاسة وهي حكم شرعي لا يثبت بدون الدليل (4).

ص: 473


1- تهذيب الأحكام 1 : 260 ، الحديث 755.
2- الجمل والعقود : 170 ، والمبسوط 1 : 35.
3- المراسم العلوية : 54 ، الطبعة المحققة الاولى.
4- الخلاف 1 : 476.

وممّن حكى الإجماع على ذلك الشهيد في الذكرى (1). وذكر العلّامة في المنتهى والتذكرة : أنّ القول بطهارة دم ما لا نفس له مذهب علمائنا (2). وكلام المحقّق في المعتبر يظهر ذلك منه أيضا حيث ذكر أنّ طهارة دم السمك مذهب علمائنا أجمع. وقال بعده : « وكذا كلّ دم ليس لحيوانه نفس سائلة كالبقّ والبراغيث » (3).

وعلى كلّ حال فالحكم بالطهارة هنا ليس بموضع ريب ؛ إذ الأصل يقتضيه كما أشار إليه الشيخ في الخلاف. والاتّفاق المحكيّ في كلام الأصحاب يعضده. وقد بيّنا أنّ العموم الذي يمكن إثباته في الأخبار الدالّة على نجاسة الدم لا يظهر تناوله لمثل هذا ، فينتفي احتمال القول بالتنجيس رأسا.

ويزيد ما قلناه تأييدا رواية عبد اللّه بن أبي يعفور الصحيحة على ما ذكره المحقّق ، والفاضل. قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما تقول في دم البقّ والبراغيث؟ قال : ليس به بأس. قال : قلت : إنّه يكثر ويتفاحش؟ قال : وإن كثر » (4).

ورواية محمّد بن الريّان ، قال : « كتبت هذا إلى الرجل عليه السلام : هل يجري دم البقّ مجرى دم البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البقّ على البراغيث فيصلّي فيه؟ وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقّع عليه السلام : يجوز الصلاة

ص: 474


1- ذكرى الشيعة : 13.
2- منتهى المطلب 3 : 190 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 56.
3- المعتبر 1 : 421.
4- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 740.

والطهر منه أفضل » (1).

الرابع - الدم المتخلّف بعد الذبح في حيوان مأكول اللحم : وهو طاهر قطعا بغير خلاف يعرف.

ويدلّ عليه قوله تعالى ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (2) بالتقريب المذكور في دم السمك ؛ فإنّ حلّ هذا ليس موضع خلاف أيضا ، فتمسّك بالآية في كلا الأمرين من غير ورود إشكال على التمسّك بها في الطهارة بالتشكيك في الحلّ ، كما وقع في دم السمك. وينضاف إلى ذلك الأصل وما يظهر من كونه موضع وفاق بين الأصحاب.

الخامس - ما يتخلّف في غير المأكول ممّا يقع عليه الذكاة ، وظاهر الأصحاب نجاسته ؛ لحصرهم الدم الطاهر من ذي النفس فيما يبقى بعد الذبح في الذبيحة. والمتبادر منها المأكول.

وتردّد في حكمه بعض [ من ] عاصرناه من مشايخنا ؛ ومنشأ التردّد من إطلاق الأصحاب الحكم بنجاسة الدم ممّا لا نفس له مدّعين الاتّفاق عليه ، وهذا بعض أفراده ، ومن ظاهر قوله تعالى ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) حيث دلّ على حلّ غير المسفوح وهو يقتضي طهارته.

ويضعّف الثاني بأنّ ظاهرهم الإطباق على تحريم ما سوى الدم المتخلّف في الذبيحة ودم السمك على ما فيه. وقد قلنا إنّ المتبادر من الذبيحة ما يكون من المأكول ، فدم ما لا يؤكل حرام عندهم مطلقا وعموم ما دلّ على تحريم الحيوان الذي هو دمه يتناوله أيضا ؛ إذ أكثر الأدلّة غير مقيّدة باللحم ، وإنّما علّق

ص: 475


1- تهذيب الأحكام 1 : 260 ، الحديث 754. وفي « ب » : يجوز الصلاة والطهر أفضل.
2- سورة الأنعام ، الآية 143.

التحريم فيها بالحيوان فيتناول جميع أجزائه ، ولا يرد مثله في المحلّل ؛ لقيام الدليل هناك على تخصيص التحليل باللحم وأجزاء اخر معيّنة.

وبالجملة فحلّ الدم مع حرمة اللحم أمر مستبعد جدّا لا سيّما بعد ما قرّرناه من ظهور الاتّفاق بينهم فيه وتناول الأدلّة بظاهرها له. وإذا ثبت التحريم هنا لم يبق للآية دلالة على طهارته كما لا يخفى.

السادس - ما عدا الأقسام المذكورة من الدماء التي لا تخرج بقوّة من عرق ولا لها (1) كثرة وانصباب لتناولها اسم المسفوح. والذي يظهر من الأصحاب الاتّفاق على نجاسته. والكلام الذي حكيناه في صدر المسألة عن الفاضلين في المعتبر والتذكرة يرشد إلى ذلك أيضا.

وربّما يتوهّم من ظاهر كلام العلّامة في جملة من كتبه طهارته ، بل وطهارة القسم الذي قبله ، حيث قيّد الدم المحكوم بنجاسته في كثير من عباراته بالمسفوح. وأقربها إلى هذا التوهّم عبارة المنتهى فإنّه قال فيه : قال علماؤنا الدم المسفوح من كلّ حيوان ذي نفس سائلة - أي يكون خارجا بدفع من عرق - نجس. وهو مذهب علماء الإسلام لقوله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) (2).

ثمّ ذكر جملة من الروايات المتضمّنة للأمر بالغسل من الدّم بقول مطلق.

ويلوح من كلامه أنّه بنى الحجّة على مقدّمتين مطويّتين إحداهما : أنّ المراد من الرجس في الآية النجس. والثانية : أنّ الإطلاق الواقع في الأخبار محمول

ص: 476


1- في « ب » : ولا فيها كثرة وانصباب.
2- سورة الأنعام ، الآية 145.

على التقييد بالمسفوح في الآية. ولهذا البناء في كلامه شاهد وهو أنّه ذكر في أثر هذا الحكم دم ما لا نفس له وأنّه طاهر.

وأشار إلى الخلاف الواقع فيه من أهل الخلاف.

ثمّ قال : لنا قوله تعالى ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) . وهذا ليس بمسفوح فلا يكون نجسا (1).

ولا يخفى وجه دلالة هذا الكلام على ما قلناه ؛ فإنّه لو لا تخيّل كون الأخبار المطلقة في الأمر بإزالة الدم محمولة على المقيّد في الآية لم يتمّ هذا الاحتجاج لجواز التمسّك بإطلاقها في عدم التفرقة بين المسفوح وغيره ، لا سيّما وفي الروايات التي نقلها ما هو من طريق الجمهور. فللخصم أن يتشبّث به فيما ذهب إليه ، فإقامة الحجّة عليه لا يتمّ إلّا بملاحظة ما ذكرناه من حمل المطلق في الأخبار على المقيّد في الآية.

وقد اتّضح بهذا وجه إبهام العبارة القول بطهارة الدماء المذكورة ؛ فإن حصر النجس في المسفوح يقتضي طهارة ما سواه.

ولكنّ الكلام منظور فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقدّمتين اللتين بني الاحتجاج عليهما ضعيفتان.

أمّا الاولى : فلأنّ إرادة النجس من الرجس غير ثابتة إذ لم يعدّه أهل اللغة في معانيه فضلا عن أن يقولوا إنّه معناه. وقد ذكروا له معاني كثيرة ، منها : القذر. ولا يخفى أنّه أعمّ من النجس ، وباقي المعاني لا دلالة لها عليه.

وأمّا الثانية : فلأنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو مع تحقّق التنافي بينهما ولا تنافي هنا إذ الحكم على المسفوح بالنجاسة لا ينافي نجاسة غيره معه.

ص: 477


1- منتهى المطلب 3 : 188 - 189.

وأمّا ثانيا : فلأنّه احتجّ بعد هذا بقليل لطهارة دم السمك بقوله تعالى ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) . وقرّبه بأنّ دم السمك ليس بمسفوح فلا يكون محرّما فلا يكون نجسا. وقد حكينا هذا عنه آنفا.

وأنت تعلم أنّه بعد ثبوت انحصار النجس في المسفوح ليس بمحتاج إلى إثبات الحلّ هنا ، وجعله وسيلة إلى إثبات الطهارة ، فربّما كان في ذلك إشعار بعدم ثبوت التقييد كما هو التحقيق.

إذا تقرّر هذا فاعلم : أنّ الباعث للعلّامة فيما يظهر على اعتبار (1) التقييد بالمسفوح في العبارات التي اتّفق له إدراج القيد فيها إنّما هو الاحتراز من الدم المتخلّف في الذبيحة حيث إنّه طاهر باتّفاق الكلّ فلا يستقيم الحكم بنجاسة دم ذي النفس على الإطلاق وليس في قصده إخراج شي ء من أصناف دم ذي النفس غير ما ذكر. يشهد بذلك تتبّع كلامه.

وقد أخذ هذا القيد في عبارة النهاية (2). ثمّ فصّل بعده أنواع الدم ، وذكر حكمها في النجاسة والطهارة ولم يزد في عداد الطاهر على ما عليه الأصحاب. وقال عند ذكر الدم المتخلّف في الذبيحة أنّه طاهر لعدم وصف كونه مسفوحا.

وفي هذا الكلام قرينة واضحة على ما قلناه حيث تعرّض للتفصيل واقتصر - في بيان محلّ انتفاء الحكم لعدم الوصف - على المتخلّف في الذبيحة.

وبالجملة فعدم التزام العلّامة بما يقتضيه ظاهر التقييد الذي تفرّد به أظهر من أن يخفى.

وقد بان لك أنّ ترك القيد - كما فعل الأكثر - هو الأنسب ؛ فإنّ الإشكال

ص: 478


1- في « ج » : على إثبات اعتبار التقييد.
2- نهاية الإحكام 1 : 268.

الحاصل فيه باعتبار عدم استقامة الحكم بنجاسة الدم من ذي النفس على العموم نظرا إلى دم الذبيحة يندفع بتصريحهم باستثنائه فيما بعد وإن اتّفق في بعضها بعد العهد.

وأمّا الإشكال الوارد على التقييد بإبهام (1) ما قد ذكر فيحتاج في دفعه إلى فضل تدبّر. والأصوب تفصيل المقام وترك التعبير بما يتطرّق إليه الإشكال والإبهام (2).

فرعان :
[ الفرع ] الأوّل :

حكى المحقّق في المعتبر عن الشيخ أنّه حكم بطهارة الصديد والقيح. ثمّ قال المحقّق :

« وعندي في الصديد تردّد أشبهه النجاسة ؛ لأنّه ماء الجرح يخالطه يسير دم ، ولو خلا من ذلك لم يكن نجسا. قال : وخلافنا مع الشيخ يؤول إلى العبارة لأنّه يوافق على هذا التفصيل ». ثمّ قال :

« أمّا القيح فإنّ مازجه دم نجس بالممازج ، وإن خلا من الدم كان طاهرا. لا يقال : هو مستحيل عن الدم ؛ لأنّا نقول : إنّ كلّ مستحيل من الدم لا يكون طاهرا كاللحم واللبن. انتهى » (3).

وما فصّله جيّد. والوجه فيه ظاهر ؛ فإنّ الأصل يقتضي طهارة كلّ منهما

ص: 479


1- في « ج » : بإيهام.
2- في « أ » : الإيهام.
3- المعتبر 1 : 419.

مع صرافته ، فإذا صاحبه الدم النجس ينجس به (1).

وما أشار إليه من التشبّث في نجاسة القيح بكونه مستحيلا عن الدم هو حجّة من قال من الجمهور بنجاسته. ولا يخفى فسادها.

[ الفرع ] الثاني :

قال الشيخ في الخلاف : العلقة نجسة يعني التي يستحيل إليها النطفة. واحتجّ لذلك بإجماع الفرقة ، وبأنّ ما دلّ على نجاسة الدم دلّ على نجاسة العلقة. وفي هذا نظر لا يخفى وجهه بعد الإحاطة بما حقّقناه في دليل نجاسة الدم.

وقال المحقّق في المعتبر : العلقة التي يستحيل إليها نطفة الآدميّ نجسة ؛ لأنّها دم حيوان له نفس ، وكذا العلقة التي توجد في بيضة الدجاج وشبهه (2).

وناقشه الشهيد في الذكرى بالمنع ؛ فإنّ تكوّنها في الحيوان لا يدلّ على أنّها منه (3). وهو متّجه لا سيّما بالنظر إلى ما يوجد في البيضة ، مع أنّ كونه علقة ليس بمعلوم أيضا ، فالإجماع الذي ادّعاه الشيخ لو ثبت على وجه يكون حجّة لكان في تناوله له نظر. ومقتضى الأصل طهارته. ويعضده ظاهر قوله تعالى : ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (4) حيث إنّه دالّ على حلّ غير المسفوح مطلقا ، خرج عن ذلك ما وقع الاتّفاق على تحريمه فيبقى الباقي. وإثبات الحلّ مقتض لثبوت الطهارة كما مرّ غير مرّة.

ص: 480


1- الخلاف 1 : 490.
2- المعتبر 1 : 422.
3- ذكرى الشيعة : 13.
4- الأنعام ، الآية 143.
مسألة [7] :
اشارة

والميتة ممّا له نفس سائلة نجس بإجماع الناس. قاله المحقّق في المعتبر. ثمّ قال : والخلاف في الآدمي. وعلماؤنا مطبقون على أنّ نجاسته عينيّة كغيره من ذوات الأنفس السائلة (1).

وقال العلّامة في المنتهى : الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة نجسة سواء كان آدميّا أو غير آدميّ وهو مذهب علمائنا أجمع (2).

وقد تكرّر في كلام الأصحاب ادّعاء الإجماع على هذا الحكم وهو الحجّة فيه إذ النصوص لا تنهض بإثباته.

وجملة ما وقفنا عليه من الروايات في هذا الباب حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميّت؟ فقال : يغسل ما أصاب الثوب » (3).

ورواية إبراهيم بن ميمون قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميّت؟ قال : إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، وإن كان لم يغسل الميّت فاغسل ما أصاب ثوبك منه » (4).

وقصور هذين الحديثين عن إفادة الحكم بكماله ظاهر مع أنّ الصحّة منتفية عن سنديهما.

ص: 481


1- المعتبر 1 : 420.
2- منتهى المطلب 3 : 195.
3- تهذيب الأحكام 1 : 276 ، الحديث 812.
4- تهذيب الأحكام 1 : 276 ، الحديث 811.

وورد في عدّة روايات معتبرة الإسناد المنع من أكل نحو السمن الذائب والزيت إذا ماتت فيه الفأرة. وظاهره الحكم بنجاسته وقد تقدّم منها في بحث المضاف حديث صحيح عن زرارة. وهذا الحكم خاصّ أيضا كما لا يخفى ، فلا يمكن جعله دليلا على العموم. وحينئذ فالعمدة في إثبات التعميم هي الإجماع المدّعى في كلام الجماعة.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :
اشارة

حكم أبعاض الميتة في النجاسة - إذا كانت ممّا تحلّه الحياة - حكم جملتها عند الأصحاب ، لا يعرف فيه خلاف. وكذا ما ابين من أجزاء الحيّ التي فيه الحياة كالأليات.

وكأنّ الحجّة في هذا أيضا الإجماع فإنّهم لم يحتجّوا له بحديث ، بل ذكره جماعة منهم مجرّدا عن الحجّة.

واقتصر آخرون على توجيهه بمساواة الجزء للكلّ أو بوجود معنى الموت فيها ، وكلاهما منظور فيه.

وقد روى الكليني في كتابه عن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد عن الحسن بن عليّ قال : « سألت أبا الحسن عليه السلام قلت : جعلت فداك ، إنّ أهل الجبل يثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال : حرام هي. قلت : جعلت فداك [ فيستصبح ] بها؟ فقال : أما تعلم أنّه يصيب اليد والثوب وهو حرام؟ » (1) وفي هذه الرواية إشعار بالنجاسة لكن في طريقها ضعف.

وروي بطريق ضعيف أيضا عن الكاهلي قال : « سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام

ص: 482


1- الكافي 6 : 255 ، الحديث 3.

وأنا عنده عن قطع أليات الغنم؟ فقال : لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك. ثمّ قال : إنّ في كتاب عليّ عليه السلام أنّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به » (1).

وبطريق آخر مثله عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال في أليات الضأن تقطع وهي أحياء : « أنّها ميّتة » (2).

وهذان الخبران لو تمّ سنداهما لاحتاجا في الدلالة على النجاسة إلى وجود دليل عامّ في نجاسة الميتة ليكون إثبات كون المنقطع ميتة مقتضيا لدخوله في عموم الدليل على نجاسة الميتة. وقد علم أنّ العمدة في التعميم الإجماع المدّعى بين الأصحاب (3).

وحينئذ فالتمسّك به موقوف على كونه متناولا لهذا المنقطع ، ومعه لا حاجة إلى توسّط الاحتجاج بما دلّ على أنّه ميتة. وعلى كلّ حال فالحكم هاهنا ليس موضع خلاف.

تذنيب :

قال العلّامة في المنتهى : الأقرب طهارة ما ينفصل من بدن الإنسان من الأجزاء الصغيرة مثل البثور والثالول وغيرهما لعدم إمكان التحرّز عنها فكان عفوا دفعا للمشقّة (4).

ويظهر من تمسّكه بعدم إمكان التحرّز أنّه يرى تناول دليل نجاسة المبان من الحيّ لها وأنّ المقتضي لاستثنائها من الحكم بالتنجيس والقول بطهارتها

ص: 483


1- الكافي 6 : 254 ، الحديث 1.
2- الكافي 6 : 255 ، الحديث 2.
3- في « أ » و « ب » : على الإجماع المدّعى.
4- منتهى المطلب 3 : 210.

هو لزوم الحرج والمشقّة من التكليف بالتحرّز عنها.

وهذا عجيب ؛ فإنّ الدليل على نجاسة المبان من الحيّ كما علمت : إمّا الإجماع أو الأخبار التي ذكرناها (1) أو الاعتباران (2) اللّذان حكيناهما عن بعض الأصحاب أعني مساواة الجزء للكلّ ، ووجود معنى الموت فيه.

والإجماع لو كان متناولا لما نحن فيه لم يعقل الاستثناء منه.

والأخبار على تقدير صحّتها ودلالتها وعمومها إنّما [ تقتضي ] نجاسة ما انفصل في حال وجود الحياة فيه ، لا ما زالت عنه الحياة قبل الانفصال ، كما في موضع البحث. والنظر إلى ذينك الاعتبارين يقتضي ثبوت التنجيس وإن لم [ تنفصل ] تلك الأجزاء ؛ لتحقّق معنى الموت فيها قبله ولا ريب في بطلانه.

والتحقيق أنّه ليس لما يعتمد عليه من أدلّة نجاسة الميتة وأبعاضها وما في معناها من الأجزاء المبانة من الحيّ دلالة على نجاسة نحو هذه الأجزاء التي يزول عنها أثر الحياة في حال اتّصالها بالبدن ، فهي على أصل الطهارة. وإذا كان للتمسّك بالأصل مجال فلا حاجة إلى تكلّف دعوى لزوم الحرج وتحمّل عب ء في إثباته في جميع الأحوال ليتمّ الحكم بالطهارة مطلقا.

وقد ذكر العلّامة في النهاية أيضا حكم هذه الأجزاء. واستقرب الطهارة كما قال في المنتهى ؛ وعلّلها بعدم إمكان التحرّز وبالرواية ولم يبيّنها (3). ولعلّه أراد بها صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثؤلول وهو في صلاته

ص: 484


1- في « ب » : الأخبار التي ذكروها.
2- في « ج » : والاعتباران.
3- نهاية الإحكام 1 : 269.

أو أن ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال : إن لم يتخوّف أن يسيل الدم فلا بأس ، وإن تخوّف أن يسيل الدم فلا يفعله » (1).

وهذه الرواية ظاهرة في الطهارة عاضدة لما يقتضيه الأصل من حيث إطلاق نفي البأس عن مسّ هذه الأجزاء في حال الصلاة ؛ فإنّه يدلّ على عدم الفرق بين كون المسّ برطوبة ويبوسة ، إذ المقام مقام تفصيل ، كما يدلّ عليه اشتراط نفي البأس بانتفاء تخوّف سيلان الدم. فلو كان مسّ تلك الأجزاء مقتضيا للتنجيس ولو على بعض الوجوه لم يحسن الإطلاق ، بل كان اللائق البيان كما وقع في خوف السيلان. هذا إن اشترطنا في تعدّي النجاسة من القطع المبانة من الحيّ الرطوبة.

وأمّا على القول بالتعدّي مطلقا فدلالة الرواية على انتفاء التنجيس فيما نحن فيه واضحة جليّة. ولبيان المختار من القولين محلّ آخر يأتي إن شاء اللّه تعالى.

وبالجملة فانضمام هذه الرواية إلى الأصل يذهب عن القول بالطهارة هنا درن شكّ.

[ تذنيب ] آخر :

قال في المنتهى : فأرة المسك إذا انفصلت عن الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة ، وإن انفصلت بعد موتها فالأقرب النجاسة (2).

وقال الشهيد في الذكرى : المسك طاهر إجماعا وفأرته وإن اخذت من

ص: 485


1- تهذيب الأحكام 1 : 378 ، الحديث 1576.
2- منتهى المطلب 3 : 209.

غير المذكّى (1).

وفي نهاية العلّامة ما يوافق كلام الذكرى ويخالف ما ذكره في المنتهى حيث قال : فأرة المسك إذا انفصلت من الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة. وإن انفصلت بعد موتها فالأقرب ذلك أيضا للأصل (2). ولم يتعرّض في المنتهى للاحتجاج على التفصيل الذي ذكره فيه.

ويمكن أن يحتجّ له بما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد اللّه بن جعفر قال : « كتبت إليه - يعنى أبا محمّد عليه السلام - : يجوز للرجل أن يصلّي ومعه فأرة مسك؟ فكتب : لا بأس به إذا كان ذكيّا » (3).

ووجه الاحتجاج دلالة الحديث بظاهره على أنّ من أفراد فأرة المسك ما ليس يذكّى وأقلّه أن يكون هو المأخوذ من الميتة.

ويضعّف بأنّ انتفاء كونه ذكيّا لا يقتضي كونه نجسا. وثبوت البأس في الصلاة وهو معه لا يصلح دليلا على ذلك أيضا إذ هو أعمّ منه. فلعلّ مختار النهاية والذكرى هو الأوجه.

[ الفرع ] الثاني :
اشارة

لا نعلم خلافا بين الأصحاب في أنّ ما لا تحلّه الحياة من الميتة طاهر وهو الصوف والشعر والريش والوبر والعظم والقرن والظلف والحافر والبيض المكتسي بالقشر الأعلى والإنفحة.

ويدلّ على الطهارة في جميع ذلك الأصل بملاحظة عدم الدليل العامّ

ص: 486


1- ذكرى الشيعة : 14.
2- نهاية الإحكام 1 : 270.
3- تهذيب الأحكام 2 : 362 ، الحديث 1500.

على نجاسة الميتة بحيث يتناول بظاهره هذه المذكورات والأخبار الكثيرة الواردة بذلك.

فمنها : ما رواه الشيخ في الحسن عن حريز قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام لزرارة ومحمّد بن مسلم : اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكلّ شي ء يفضل من الشاة والدابة فهو ذكيّ. وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصلّ فيه » (1).

وعن إسماعيل بن مراد عن يونس عنهم عليهم السلام : « قالوا خمسة أشياء ذكيّة ممّا فيها منافع الخلق : الإنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر » (2).

وفي الموثّق عن الحسين بن زرارة قال : « كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام وأبي يسأله عن السنّ من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة؟ فقال : كلّ هذا ذكيّ ».

قال في الكافي : وزاد فيه عليّ بن عقبة وعلي بن الحسن بن رباط قال : « والشعر والصوف كلّه ذكيّ » (3).

وروى عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الشعر والصوف والريش وكلّ نابت لا يكون ميّتا. قال : وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال : تأكلها » (4).

وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل يذكر فيه : « أنّ رجلا سأله عليه السلام عن الجبن وأنّه ربّما جعلت فيه إنفحة الميّت؟ فقال :

ص: 487


1- تهذيب الأحكام 9 : 75 ، الحديث 321.
2- تهذيب الأحكام 9 : 75 ، الحديث 319.
3- الكافي 6 : 258 ، الحديث 3.
4- الكافي 6 : 258 ، في ذيل الحديث 3 عن الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام ..

ليس به بأس إنّ الإنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم إنّما تخرج من بين فرث ودم. وإنّما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميّتة اخرجت منها بيضة » (1).

وفي الصحيح عن عليّ بن رئاب عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الإنفحة يخرج من الجدي الميّت؟ قال : لا بأس به » (2).

وعن صفوان بن يحيى عن الحسين بن زرارة عنه عليه السلام قال : « سأله أبي عن الإنفحة تكون في بطن العناق أو الجدي وهو ميّت؟ فقال : لا بأس به » (3).

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ تنقيح المقام يتوقّف على بيان امور.

أحدها :

أنّ المشهور بين الأصحاب عدم الفرق في الحكم بطهارة الصوف والشعر والريش والوبر بين كونها مأخوذة من الميتة بطريق القلع أو الجزّ إلّا أنّه يحتاج في صورة القلع إلى غسل موضع الاتّصال.

وخالف في ذلك الشيخ في النهاية فخصّ الحكم بما إذا اخذت بالجزّ (4).

وعلّل بأنّ اصولها المتّصلة باللحم من جملة أجزائه وإنّما يستكمل استحالتها إلى أحد المذكورات بعد تجاوزها عنه.

وردّ بالمنع ؛ فإنّ المفروض صدق اسم أحدها على المجموع من المتّصل باللحم والمتجاوز عنه فكيف يجامع كون شي ء منها جزء من اللحم؟ وباب الأخبار مطلقة في الأخذ. فالتقييد يحتاج إلى الدليل.

ص: 488


1- الكافي 6 : 257 ، الحديث 1.
2- الاستبصار 4 : 89 ، الحديث 2.
3- تهذيب الأحكام 9 : 78 ، الحديث 67.
4- النهاية ونكتها 3 : 96.

مع أنّ الأمر بالغسل في بعض الروايات قرينة على إرادة القلع بخصوصه ؛ إذ لا يجب الغسل مع الجزّ.

ثانيها :

أنّ ما يوجد من هذه المعدودات سوى الإنفحة في الحيوان المحلّل وغيره لا يفرق في الحكم بطهارته بين النوعين إذا كان غير المحلّل طاهرا في حال الحياة وهو ممّا لا يعرف فيه خلاف إلّا من العلّامة رحمه اللّه فإنّه فرّق في البيض بين كونه من مأكول اللحم وغيره ، فحكم بطهارة الأوّل ونجاسة الثاني.

قال في النهاية : أمّا بيض الجلّال وما لا يؤكل لحمه ممّا له نفس سائلة فالأقوى فيه النجاسة (1).

وذكر نحوه في المنتهى (2).

ولا نرى لكلامه وجها ، ولا عرفنا له عليه موافقا. وقد نصّ الشهيد في الذكرى على عدم الفرق (3).

وأمّا الإنفحة من غير المحلّل كالموطوء ففي طهارتها احتمالان ، منشأهما :

من كون أكثر الأخبار الدالّة على طهارتها واردة بالحلّ أو مسوقة لبيانه. ومنه استفيدت الطهارة وذلك مفقود في غير المحلّل.

ومن عدم الدليل العام على نجاسة الميتة بحيث يتناول أمثال هذه الأجزاء كما أشرنا إليه. ومقتضى الأصل هو الطهارة إلى أن يقوم الدليل على خلافها ولا دليل ، ولم أقف لأحد من الأصحاب في ذلك على كلام.

ص: 489


1- نهاية الإحكام 1 : 270.
2- منتهى المطلب 3 : 209.
3- ذكرى الشيعة : 14.

وربّما يكون إطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم التفرقة.

ولا يخفى أنّ فرق العلّامة في حكم البيض يقتضي الفرق هنا أيضا.

وثالثها :

أنّ أكثر الأصحاب أطلقوا الحكم بطهارة البيضة ولم يتعرّضوا بحال ظاهرها من حيث ملاقاته بالرطوبة للميتة النجسة ؛ فإنّ الظاهر فيه على قياس ما ذكروه في اصول نحو الصوف المقلوع احتياجه إلى الغسل.

ولكنّ الأخبار وردت مطلقة كما رأيت. وما تضمّن منها الأمر بالغسل مخصوص بالصوف والشعر ونحوهما بقرينة قوله بعده : « وصلّ فيه ».

وفي كلام العلّامة ما يدلّ على أنّه يرى نجاسة ظاهرها حيث قال في النهاية : « البيضة من الدجاجة الميّتة طاهرة إن اكتست الجلد الفوقاني الصلب لأنّها صلبة القشر لاقت نجاسة فلم تكن نجسة في نفسها (1).

وذكر في المنتهى ما هذا محصّله (2).

ورابعها :

أنّ ما دلّ على حكم البيض من الأخبار التي ذكرناها ليس فيه تعرّض لاشتراط اكتساء القشر الأعلى ، ولكن ظاهر الأصحاب الإطباق على اشتراطه.

وبه رواية رواها غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السلام في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة؟ قال : إن اكتست الجلد الغليظ فلا بأس بها (3).

فكأنّهم حملوا الإطلاق الواقع في تلك الأخبار على التقييد المستفاد

ص: 490


1- نهاية الإحكام 1 : 270.
2- منتهى المطلب 3 : 208.
3- تهذيب الأحكام 9 : 76 ، الحديث 322.

من هذه الرواية مع أنّ طريقها غير سليم ، وتلك الأخبار وإن كانت كذلك أيضا إلّا أنّها موافقة لمقتضى الأصل كما بيّناه ، ومتعاضدة بكثرتها.

ولم يتعرّض الصدوق في المقنع لهذا الشرط بل أطلق القول كما في أكثر الأخبار (1).

وخامسها :

إنّ كلام الأصحاب مختلف في التعبير عن الشرط الذي ذكر لطهارة البيض :

فبعض المتقدّمين اقتصر على لفظ الحديث فعبّر بالجلد الغليظ ، ووافقه الشيخ في النهاية ، وبعض الأصحاب على التعبير بالجلد لكنّهم أبدلوا لفظ الغليظ بالفوقاني (2).

وعبّر جماعة منهم المحقّق والشهيد بالقشر الأعلى (3).

وفي كلام العلّامة في جملة من كتبه الجلد الصلب (4). وقد مرّ في العبارة التي حكيناها عنه آنفا. وتبعه على التقييد بالصلابة بعض المتأخّرين.

والاختلاف في مؤدّى هذه العبارات معنويّ كما لا يخفى. وحيث إنّ المرجع في الاشتراط إلى رواية غياث فينبغي أن يكون العمل على ما دلّت عليه.

والظاهر أنّ وصف الصلابة زائد عن القيد المعتبر في الرواية.

وقد حكى العلّامة في بعض كتبه عن بعض الجمهور أنّه ذهب إلى طهارة البيض وإن لم يكتس القشر الأعلى ؛ محتجّا بأنّ عليه غاشية رقيقة تحول بينه

ص: 491


1- المقنع : 423.
2- النهاية : 585.
3- المختصر النافع 2 : 253 ، والروضة البهيّة 7 : 303.
4- نهاية الإحكام 1 : 270.

وبين النجاسة. ثمّ قال : والأقرب عندي أنّها إن كانت قد اكتست الجلد الأعلى وإن لم يكن صلبا فهي طاهرة لعدم الملاقاة وإلّا فلا (1). وما استقربه هو المتّجه.

وسادسها :

إنّ معنى الإنفحة ليس بظاهر في العرف ، وكلام أهل اللغة فيه مختلف.

فقال الجوهري : الإنفحة - بكسر الهمزة وفتح الفاء مخفّفة - كرش الحمل والجدي ما لم يأكل (2).

وقال في القاموس : « الإنفحة - بكسر الهمزة وتشديد الحاء وقد تكسر الفاء - والمنفحة والبنفحة شي ء يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر فيعصر في صوفه فيغلظ كالجبن ».

ثمّ قال : « وتفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو » (3).

وكأنّه باعتبار هذا الخلاف وقع في كلام علمائنا الاختلاف في تفسيرها أيضا.

ففسّرها ابن إدريس في السرائر بنحو ما ذكره الجوهري (4).

وفسّرها العلّامة في غير موضع من كتبه بما يوافق كلام القاموس فقال : إنّها لبن مستحيل في جوف السخلة (5).

وليس لهذا الاختلاف أثر في اللبن ؛ لأنّ احتمال غسل موضع الملاقاة للميتة - على قياس ما ذكر في نحو صوف المقلوع واحتمل في البيض - إنّما يتأتّى

ص: 492


1- تذكرة الفقهاء 1 : 63 ، ومنتهى المطلب 3 : 208 - 209.
2- الصحاح للجوهري 1 : 413 ، قال فيه : كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل.
3- القاموس المحيط 1 : 502 ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
4- السرائر 3 : 112.
5- قواعد الأحكام 1 : 192.

في ما له ظاهر يقبل التطهير. واللبن باعتبار مائعيّته لا يتصوّر ذلك فيه فيتعيّن كونه بأجمعه طاهرا.

نعم يظهر أثر الخلاف في الجلد الذي يحويه فيمنع من الانتفاع به ويحكم بنجاسة ما يلاقيه برطوبة على التفسير الثاني. وينتفي الأمران على الأوّل. هذا.

وفي احتياج ظاهر الجلد إلى الغسل بتقدير طهارة ذاته احتمالان : اختار أوّلهما والدي في بعض فوائده (1). وتوقّف في الروضة (2) ولا نعلم من الأصحاب مصرّحا بالثاني. وربّما كان في إطلاقهم الحكم بالطهارة إشعار به.

وقال الشهيد في الذكرى : الأولى تطهير ظاهرها من الميتة للملاقاة (3).

تذنيب :

ذهب الصدوق في المقنع والشيخ في الخلاف والنهاية وكتابي الحديث وكثير من الأصحاب إلى أنّ اللبن من الميتة طاهر أيضا (4).

وقال ابن إدريس في السرائر : اللبن نجس بغير خلاف عند المحصّلين من أصحابنا ؛ لأنّه مائع في ميتة ملامس لها (5).

قال : وما أورده شيخنا في نهايته رواية شاذّة مخالفة لأصول المذهب لا يعضدها كتاب اللّه ولا سنّة مقطوع بها ولا إجماع.

ص: 493


1- لم نعثر عليه.
2- الروضة البهيّة 7 : 205.
3- ذكرى الشيعة : 14.
4- الخلاف 1 : 519 ، وتهذيب الأحكام 9 : 77 ، ذيل الحديث 325.
5- السرائر 3 : 112.

ووافقه على الحكم بالتنجيس جماعة من الأصحاب ، منهم الفاضلان (1).

احتجّوا للأوّل بما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن رئاب عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قلت : اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال : لا بأس به » (2).

وما رواه في الموثّق عن الحسين بن زرارة قال : « كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام وأبي يسأله عن السنّ من الميتة والإنفحة من الميتة واللبن من الميتة والبيضة من الميتة؟ فقال كلّ هذا ذكيّ » (3).

واحتجّوا للثاني بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه ابن إدريس من أنّه مائع لاقى نجسا وهو الميتة فنجس.

والثاني : رواية وهب بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّ عليّا عليه السلام سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن؟ فقال عليّ عليه السلام : ذاك الحرام محضا » (4).

وأنت إذا أحطت خبرا بما قرّرناه في صدر المسألة من العمدة في الحكم بنجاسة الميتة على الإجماع المدّعى في كلام الأصحاب ، تحقّقت ضعف المتعلّق في حجّة القول الثاني بأنّه مائع لاقى نجسا ؛ فإنّ كون الميتة مؤثّرة في مثله التنجيس موقوف على انعقاد الإجماع عليه ؛ إذ الدليل منحصر فيه كما قد علم.

وأنّى لنا بثبوت الإجماع هنا مع ما للقول بالطهارة من الشهرة ومصير الأجلّاء من قدماء الأصحاب إليه ، حتّى أنّ الشيخ في الخلاف احتجّ للطهارة

ص: 494


1- شرائع الإسلام 3 : 222 - 223 ، ونهاية الإحكام 1 : 270.
2- تهذيب الأحكام 9 : 76 ، الحديث 324.
3- تهذيب الأحكام 9 : 75 ، الحديث 320.
4- تهذيب الأحكام 9 : 76 - 77 ، الحديث 325.

بإجماع الفرقة وأخبارهم (1).

على أنّه لو ثبت الإجماع على التأثير لكان هو الحجّة. فأيّ حاجة إلى توسيط هذا الاعتبار؟

وأمّا الاحتجاج برواية وهب فليس بشي ء وقد قال الشيخ في كتابي الحديث : إنّها رواية شاذّة لم يروها عن غير وهب بن وهب وهو ضعيف جدّا عند أصحاب الحديث. قال : ولو كان صحيحا لجاز أن يكون الوجه فيه ضربا من التقيّة هذا (2).

وقد أجاب العلّامة في المختلف عن الاحتجاج للطهارة بالخبرين بأنّهما محمولان على ما إذا قاربت الشاة الموت ؛ جمعا بين الأدلّة (3).

ولا يخلو عن غرابة ؛ فإنّ ارتكاب نحو هذه الكلفة في الجمع إنّما يسوغ مع حصول التعارض ، وكيف يصلح الخبر الضعيف بمثل وهب بمعارضة الصحيح.

واعتبار الملاقاة للميتة لا يستقيم جعله معارضا للحديث ؛ لأنّه على تقدير ثبوت كون الميتة مؤثّرة للتنجيس بطريق العموم يجب أن يخصّص ذلك العموم بما دلّ على عدم تأثيرها في اللبن.

والعجب من العلّامة بعد تفسيره للأنفحة باللبن المستحيل وحكمه بطهارتها للأخبار الدالّة على ذلك مع تحقّق وصف المائعيّة فيها كيف يجعل اعتبار الملاقاة مع المائعيّة هنا معارضا للخبر؟.

ص: 495


1- الخلاف 1 : 66 - 67.
2- تهذيب الأحكام 9 : 77 ، ذيل الحديث 325.
3- مختلف الشيعة ، كتاب الصيد ، الفصل الرابع ، المسألة الثانية.
[ الفرع ] الثالث :

جمهور الأصحاب على عموم الحكم بنجاسة الميتة من ذي النفس لمطلق الحيوان وإن كان مائيّا.

وقال الشيخ في الخلاف : « إذا مات في الماء القليل ضفدع أو ما لا يؤكل لحمه ممّا يعيش في الماء لا ينجس الماء به. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي :

إذا قلنا أنّه لا يؤكل فإنّه ينجسه.

دليلنا : إنّ الماء على أصل الطهارة والحكم بنجاسته يحتاج إلى دليل. وروي عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا : « إذا مات فيما فيه حياته لا ينجّسه » وهو يتناول هذا الموضع (1). وقد حكى المحقّق في المعتبر صدر هذه العبارة عن الخلاف ولم يتعرّض لما فيه الاحتجاج منها. واختار التنجيس بما له نفس من الحيوان المائيّ كالتمساح.

واحتجّ له بأنّه حيوان له نفس سائلة فكان موته منجّسا.

ثمّ قال : ولا حجّة لهم في قوله عليه السلام في البحر : « هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته » ؛ لأنّ التحليل مختصّ بالسموك (2).

وكأنّه أشار بقوله : « ولا حجّة لهم » إلى القائلين بالطهارة هنا من العامّة وفاقا للشيخ وهم الحنفيّة. وقد احتجّ على ذلك الشيخ في الكلام الذي حكيناه ، وعزاه إليهم العلّامة في المنتهى وحكى عنهم الاحتجاج له بقوله عليه السلام : « هو الطهور ماؤه ». الحديث (3).

ص: 496


1- الخلاف 1 : 189.
2- المعتبر 1 : 103.
3- منتهى المطلب 1 : 20.

وفساد هذه الحجّة عندنا أوضح من أن يبيّن.

والعجب من المحقّق في عدوله عن حكاية الحجّة التي تمسّك بها الشيخ إلى ذكر حجّة المخالف الواهية مع كونه في مقام البحث مع الشيخ ، إذ لم يذكر خلاف غيره. ولو لا جمع الضمير في نسبة الاحتجاج لم يختلج في خاطر غير الواقف على كلام الشيخ شكّ في أنّ الحجّة له. ولا يخفى ما فيه.

على أنّ احتمال مشاركة الشيخ لغيره في الاحتجاج بها ليس بمندفع عن غير العارف بالحال. ولعلّ العذر عدم الوقوف على عين كلام (1) الشيخ في نفس الكتاب. هذا.

وفي تمسّك الشيخ هنا بالأصل قوّة إلّا أن يثبت تناول (2) ما يدّعيه الأصحاب من الإجماع في أصل المسألة لموضع النزاع.

[ الفرع ] الرابع :

قال في المنتهى : اتّفق علماؤنا على أنّ ما لا نفس له سائلة من الحيوانات لا ينجس بالموت ، ولا يؤثّر في نجاسة ما يلاقيه (3).

وذكر في المعتبر : أنّ عدم نجاسة ما هذا شأنه ، وانتفاء التنجيس به مذهب علمائنا أجمع (4).

وقال الشيخ في النهاية : كلّ ما ليس له نفس سائلة من الأموات فإنّه

ص: 497


1- في « ب » : في عدم الوقوف على غير كلام الشيخ.
2- في « ب » : إلّا أن يثبت قوّة ما يدّعيه الأصحاب.
3- منتهى المطلب 1 : 165.
4- المعتبر 1 : 101.

لا ينجّس الثوب ولا البدن ولا الشراب إذا وقع فيه سوى الوزغ والعقرب (1).

وما ذكره الشيخ من استثناء الوزغ مبنيّ على ما سيأتي من حكمه بنجاسة الوزغ عينا كالكلب. وأمّا العقرب فلا نعلم لاستثنائه له وجها.

وقد اقتصر العلّامة لاستثنائه في المختلف - عند حكايته لخلاف الشيخ - هنا على حكم العقرب مع أنّه لم يقع في كلام الشيخ إلّا مقرونا بالوزغ وتكرّر ذلك فذكره في بابي المياه والنجاسات (2) ، وإنّما أعرض العلّامة عن التعرّض للوزغ لما أشرنا إليه من بناء الحكم فيه على القول بأنّه نجس العين. وللبحث في ذلك محلّ آخر.

ثمّ إنّ العلّامة نسب إلى الشيخ الاحتجاج فيما حكاه عنه برواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال : « سألته عن الخنفساء يقع في الماء أيتوضّأ منه؟ قال : نعم ، لا بأس به. قلت : فالعقرب؟ قال : أرقه » (3).

وأجاب عنه : بأنّه غير دالّ على التنجيس ؛ لجواز استناد الإراقة إلى وجود السمّ في الماء لا إلى نجاسة العقرب (4). وهو حسن.

ويدلّ على عموم الحكم بالطهارة هنا - كما هو رأي الأكثرين - الأصل.

ويعضده ما رواه الشيخ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال : « سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك

ص: 498


1- النهاية ونكتها 1 : 269.
2- مختلف الشيعة 1 : 212 ، النهاية ونكتها : 204.
3- تهذيب الأحكام 1 : 230 ، الحديث 664.
4- مختلف الشيعة 1 : 212.

يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه؟ قال : كلّ ما ليس له دم فلا بأس به » (1).

وما رواه عن محمّد بن يحيى رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة » (2).

وعن حفص بن غياث عن جعفر بن محمّد عليهما السلام قال : « لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة » (3).

مسألة [8] :
اشارة

والخمر نجس عند أكثر علمائنا بل أكثر أهل العلم حتّى حكي عن المرتضى رضي اللّه عنه أنّه قال : لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلّا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم. وعن الشيخ رحمه اللّه أنّه قال : الخمر نجسة بلا خلاف (4).

وقال الصدوق في المقنع ومن لا يحضره الفقيه : « لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر لأنّ اللّه تعالى حرّم شربها ولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته » (5). وظاهر هذا الكلام القول بالطهارة.

ويحكى عن ابن أبي عقيل ما هو أصرح منه في ذلك. وهذه عبارته المحكيّة : « من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما ؛

ص: 499


1- تهذيب الأحكام 1 : 230 ، الحديث 665.
2- تهذيب الأحكام 1 : 231 ، الحديث 668.
3- تهذيب الأحكام 1 : 231 ، الحديث 669.
4- مختلف الشيعة 1 : 470 ، والمعتبر 1 : 422.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 74 ، وقال في المقنع : 81 « وإيّاك أن تصلّي في ثوب أصابه خمر ».

لأنّ اللّه تعالى إنّما حرّمهما تعبّدا لا لأنّهما نجسان » (1).

وعزى في الذكرى إلى الجعفي وفاق الصدوق وابن أبي عقيل ، ولا يعرف هذا القول لسواهم من الأصحاب (2).

احتجّوا للمشهور بوجوه :

الأوّل : الإجماع وقد احتجّ به جماعة منهم العلّامة في المختلف تعويلا على نقل السيّد والشيخ له ، وكون الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة (3). ولم يتعرّض له المحقّق في الإحتجاج بوجه.

الثاني : قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (4). والمحتجّ بها من الأصحاب كثير ، منهم المحقّق والعلّامة.

قال في المعتبر : الآية دالّة من وجهين :

أحدهما : أنّ الوصف بالرجاسة وصف بالنجاسة لترادفهما في الدلالة.

والثاني : أنّه أمر بالاجتناب وهو موجب للتباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بجميع الأنواع ؛ لأنّ معنى اجتنابها كونه في جانب غير جانبها (5). وبنحو هذا التوجيه وجّه العلّامة أيضا الدلالة في الآية (6).

الثالث : الأخبار الكثيرة كرواية عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ولا تصلّ

ص: 500


1- مختلف الشيعة 1 : 469.
2- ذكرى الشيعة 1 : 13.
3- مختلف الشيعة 1 : 470.
4- سورة المائدة : 90.
5- المعتبر 1 : 422 - 423.
6- مختلف الشيعة 1 : 470.

في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتّى يغسل » (1).

ورواية يونس عن بعض من رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، فإن صلّيت فيه فأعد صلاتك » (2).

ورواية حيران الخادم قال : « كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم : صلّ فيه فإنّ اللّه إنّما حرّم شربها. وقال بعضهم : لا تصلّ فيه. فكتب عليه السلام : لا تصلّ فيه فإنّه رجس » (3).

ورواية زكريّا بن آدم قال : « سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير؟ قال : يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب. واللحم اغسله وكله » (4).

ورواية عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه الخلّ وماء كامخ (5) أو زيتون؟ قال : إذا غسل فلا بأس. إلى أن قال : وفي قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال : يغسله ثلاث مرّات.

ص: 501


1- تهذيب الأحكام 1 : 278 ، الحديث 817.
2- تهذيب الأحكام 1 : 278 - 279 ، الحديث 818.
3- تهذيب الأحكام 1 : 279 ، الحديث 819 ، وفيه : « خيران الخادم ».
4- تهذيب الأحكام 1 : 279 ، الحديث 820.
5- الكامخ : الذي يؤتدم به ، كما في الصحاح. وخصّه بعضهم بالمخلّلات التي تستعمل لتشتهي الطعام. راجع المنجد.

وقال : لا يجزيه حتّى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرّات » (1).

حجّة القول الآخر ، الأصل (2).

ورواية الحسن بن أبي شاده قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إن أصاب ثوبي شي ء من الخمر اصلّي فيه قبل أن أغسله؟ قال : لا بأس. إنّ الثوب لا يسكر » (3).

وموثّقة عبد اللّه بن بكير قال : « سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ قال : لا بأس » (4).

ورواية الحسن بن أبي شاده أيضا ، قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّا نخالط اليهود والنصارى والمجوس ، وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون ، فيمرّ ساقيهم فيصبّ على ثيابي الخمر؟ قال : لا بأس إلّا أن تشتهي أن تغسله » (5).

ورواية الحسين بن موسى الخيّاط (6) قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يشرب الخمر ثمّ يمجّه فيه فيصيب ثوبي؟ فقال : لا بأس » (7).

وفي كلتا الحجّتين نظر.

ص: 502


1- تهذيب الأحكام 1 : 283 ، الحديث 830.
2- تهذيب الأحكام 1 : 280 ، الحديث 822.
3- تهذيب الأحكام 1 : 280 ، الحديث 822 ، وفيه : الحسن بن أبي سارة.
4- تهذيب الأحكام 1 : 280 ، الحديث 823.
5- تهذيب الأحكام 1 : 280 ، الحديث 824 ، وفيه : الحسن بن أبي سارة.
6- في « ب » : الحنّاط.
7- تهذيب الأحكام 1 : 280 ، الحديث 825.

أمّا الاولى فلعدم ثبوت الإجماع على وجه يكون حجّة ، ولهذا لم يحتجّ به المحقّق كما نبّهنا عليه.

والتمسّك بالآية ضعيف بكلا وجهيه ، فإنّ ادّعاء كون الوصف بالرجاسة وصف بالنجاسة في حيّز المنع ؛ لما مرّ من عدم إفادة كلام أهل اللغة له ، وانتفاء الدليل عليه من غيره. مع أنّه وقع في الآية وصفا للخمر والميسر والأنصاب والأزلام بناء على أنّه خبر عن الجميع بتقدير مضاف محذوف ، فكأنّه قيل : إنّما تعاطي الخمر والميسر ، الآية. وهذا أظهر الوجهين فيه ، وحينئذ كيف تستقيم إرادة النجس (1) منه؟

على أنّه لو جعل وصفا للخمر فقط بناء على الوجه الآخر وهو كونه خبرا عنه ، وأنّ خبر المعطوفات محذوف لم يسلم الحمل على إرادة النجس من الإشكال ؛ لاقتضاء كون المعنى في الخبرين مختلفا. مع أنّ الظاهر في مثله الاتّفاق وأنّ المسوّغ للحذف هو دلالة المذكور عليه لكونهما أمرا واحدا.

وعلى كلّ حال فالوجه في الآية هو الأوّل. واحتمال إرادة النجس معه (2) منتف.

فإمّا أن يراد بالرجس المأثم ؛ لأنّ بعض أهل اللغة عدّه من معانيه ، أو العمل المستقذر ، أو القذر الذي تعاف عنه العقول ، كما يوجد في كلام جماعة من المفسّرين ، والكلّ مناسب للمقام.

وأمّا الاستناد إلى الأمر بالاجتناب فموقوف على تحقيق مرجع الضمير فيه أوّلا.

ص: 503


1- في « ب » : إرادة التنجيس منه.
2- في « ب » : إرادة التنجيس معه.

وقد ذكر المفسّرون له وجوها مبنيّة على الوجهين المذكورين في الوصف بالرجس :

أحدها : أن يكون راجعا إلى المضاف المحذوف في صدر الآية المقدّر بالتعاطي أو ما أشبهه وهو خيرة الكشّاف (1).

وثانيها : أن يكون عائدا إلى عمل الشيطان. ذكره العلّامة الطبرسي رحمه اللّه واحتمل خلافه (2).

وثالثها : أنّه راجع إلى الرجس. قاله بعض. واحتمله الطبرسي بعد ذكر ما حكيناه عنه (3).

ورابعها : أن يكون عائدا إلى ما ذكر يعني المذكورات من الخمر وما عطف عليه ، لكن بعد تأويله بما ذكر ليطابق الضمير المذكّر (4). وهذه الوجوه كلّها محتملة.

ولا يخفى أنّ تعميم الاجتناب المنهيّ عنه بحيث يمكن جعله دليلا في موضع النزاع إنّما يتمّ على بعض هذه الوجوه. وذلك البعض إن لم يكن مرجوحا بالإضافة إلى الباقي فلا أقلّ من مساواته له. وعلى التقديرين لا يتّجه الاحتجاج به.

وبقي من وجوه هذه الحجّة التمسّك بالأخبار التي ذكروها.

ويرد عليه : أنّها بأسرها ضعيفة الأسناد فلا تنهض وحدها بإثبات الحكم ،

ص: 504


1- الكشّاف 1 : 675 ، طبعة قم ، منشورات البلاغة ، الطبعة الاولى.
2- مجمع البيان 2 : 239 ، طبعة قم ، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي.
3- مجمع البيان 2 : 239.
4- في « ب » : ليطابق الضمير المذكور.

لا سيّما مع معارضة الأخبار المذكورة في الحجّة الاخرى لها.

وأمّا الحجّة الثانية فالتعلّق فيها بالأصل قويّ لو لا ما سنقرّره بعد.

وأمّا الأخبار فليست بنقيّة الأسناد.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق بعد موافقته للقائلين بالنجاسة هنا واحتجاجه لذلك في المعتبر بالآية - كما سبق نقله عنه - وبجملة من الأخبار التي ذكرناها ، وحكاية الاحتجاج للطهارة بالروايات الدالّة على ذلك ، وجوابه عنها بأنّه مع التعارض يكون الترجيح لما طابق القرآن إمّا لأنّ شرط العمل بالحديث مطابقة القرآن ، وإمّا لأنّ اطراح ما طابقه يلزم منه مخالفة دليلين.

قال : ثمّ الوجه ، أنّ الأخبار المشار إليها من الطرفين ضعيفة ، وبيّن وجه ضعفها ثمّ قال وما عدا هذه الأخبار مثلها في الضعف. وما صحّ منها غير دالّ على موضع النزاع ، لأنّ الخبر الدالّ على المنع ممّا يقع فيه الخمر من طبيخ أو عجين يحتمل أن يكون المنع منه لا لنجاسته بل لتحريمه فإذا مازج المحلّل حرمة - كما لو وقع في القدر دهن من حيوان محرّم - فإنّا نمنع منه لتحريمه لا لنجاسته.

ثمّ قال : والاستدلال بالآية عليه فيه إشكالان لكن مع اختلاف الأصحاب والأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدين (1). هذا كلامه وهو جيّد.

ولكن بقي من الأخبار الدالّة على النجاسة حديث صحيح لم يتعرّض له هو ولا غيره من الأصحاب فيما نعلم سوى العلّامة في المنتهى لكنّه جعله من الحسن (2). وليس بالحسن. والشيخ في كتابي الحديث فاستشهد به للجمع

ص: 505


1- المعتبر 1 : 422 - 424.
2- منتهى المطلب 3 : 215.

بين الأخبار بحمل الروايات الواردة بالطهارة على التقيّة (1). وهذا الجمع منظور فيه لما عرفته من موافقة أكثر أهل الخلاف لنا على القول بالنجاسة.

والحديث الذي أشرنا إليه هو صحيح عليّ بن مهزيار. قال : « قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام : جعلت فداك ، روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل أنّهما قالا : لا بأس أن تصلّي فيه ؛ إنّما حرّم شربها. وروى غير زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ - يعني المسكر - فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه. وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك. فأعلمني ما آخذ به؟ فوقّع بخطّه عليه السلام وقرأته : خذ بقول أبي عبد اللّه عليه السلام » (2).

قال الشيخ رحمه اللّه : « وجه الاستدلال من هذا الخبر على أنّ تلك الأخبار - يعني أخبار الطهارة - وردت على جهة التقيّة ؛ أنّه عليه السلام أمر بالأخذ بقول أبي عبد اللّه عليه السلام على الانفراد والعدول عن قوله مع قول أبي جعفر عليه السلام ، فلو لا أنّ قوله مع قول أبي جعفر خرج مخرج التقيّة لكان الأخذ بقولهما معا أولى وأحرى » (3).

وهذا الكلام حسن لو لا ما أشرنا إليه من نقل الأصحاب عن أكثر أهل الخلاف الموافقة على القول بالنجاسة.

وكيف كان فلا ريب أنّ في ما تضمّنه هذا الخبر - من الأمر بالأخذ بقول أبي عبد اللّه عليه السلام بعد ما تقرّر في السؤال - دلالة على أنّ الحكم في ذلك هو

ص: 506


1- تهذيب الأحكام 1 : 281 ، الحديث 826 ، راجع الاستبصار 1 : 190.
2- تهذيب الأحكام 1 : 281 ، الحديث 826.
3- المصدر : ذيل الحديث 826.

النجاسة وأنّ الطهارة لا تعويل عليها.

وهذا القدر من الدلالة في الحديث الصحيح كاف في الاستدلال لاعتضاده بما تقدّم من الأخبار وباتّفاق أكثر علماء الإسلام مع ما في التنزّه عنه من الاحتياط للدين كما ذكره المحقّق رحمه اللّه.

فإذن القول بالتنجيس هو المعتمد.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

جميع الأنبذة المسكرة حكمها في التنجيس حكم الخمر. ولا نعرف في ذلك خلافا بين الأصحاب.

وقد احتجّ له المحقّق في المعتبر بأنّ المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر. أمّا أنّه خمر ؛ فلأنّ الخمر إنّما سمّي بذلك لكونه يخمّر العقل ويستره ، فما ساواه في المسمّى يساويه في الاسم (1).

ولما رواه عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال : « إنّ اللّه سبحانه لم يحرّم الخمر لاسمها ، ولكن حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » (2).

وروى عطا بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كلّ مسكر حرام وكلّ مسكر خمر » (3).

وعندي في هذا الاحتجاج نظر ؛ لأنّ الظاهر من كلام جماعة من أئمّة اللغة

ص: 507


1- المعتبر 1 : 424.
2- الكافي 6 : 412.
3- تهذيب الأحكام 9 : 111 ، الحديث 482.

أنّ الخمر حقيقة في المسكر من عصير العنب. والعرف يساعده. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في معنى لم يدلّ استعماله بعد ذلك في غيره على كونه حقيقة في ذلك الغير أيضا.

وكون الأصل في الاستعمال الحقيقة إنّما هو مع عدم استلزام الاشتراك أو النقل لكونهما على خلاف الأصل ، فتعارض أصالة عدمهما أصالة الحقيقة.

وأحدهما لازم بعد ثبوت الحقيقة للفظ. وحينئذ فمجرّد إطلاق لفظ الخمر على مطلق المسكر لا يدلّ على كونه حقيقة فيه.

والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية ليس بشي ء.

وإذا (1) لم يثبت كون اللفظ حقيقة في الجميع لم يتّجه الاستدلال على تعميم الحكم في الكلّ بما دلّ على نجاسة الخمر.

والاشتراك في التحريم لا دلالة فيه وإنّما هو وجه علاقة صحّ من أجله استعمال لفظ الخمر في غير ما هو موضوع له على جهة المجاز.

والتحقيق هنا : التمسّك في التسوية المذكورة بقوله في صحيح عليّ بن مهزيار : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر إلى آخره » (2).

مضافا إلى ما في رواية عمّار من قوله : « لا تصلّ في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسل » (3) ، وقوله في رواية يونس : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله » (4).

ص: 508


1- في « ب » : فإذا.
2- الكافي 3 : 407.
3- تهذيب الأحكام 1 : 278 ، الحديث 817.
4- تهذيب الأحكام 1 : 278 ، الحديث 818.

فأمّا ما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن عليّ ابن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أصاب ثوبي نبيذ أاصلّي فيه؟ قال : نعم. قلت : قطرة من نبيذ قطر في حبّ أشرب منه؟ قال : نعم إنّ أصل النبيذ حلال وإنّ أصل الخمر حرام » (1) ، فقد حمله في التهذيب على إرادة النبيذ الذي ليس بمسكر وهو ما نبذ فيه تميرات لتكسر طعم الماء على ما مرّت الإشارة إليه في بحث المضاف (2).

وهذا الحمل متّجه لا سيّما بقرينة الحكم بالحلّ مع أنّ السند ليس بصحيح (3).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحكم بنجاسة المسكر مخصوص عند الأصحاب بما هو مائع بالأصالة كما نبّه عليه كثير منهم فالجامد بالأصالة طاهر وإن عرض له الميعان ، والمائع بالأصالة نجس وإن طرأ (4) عليه الجمود.

وهو جيّد ؛ لأنّ الدليل على إلحاق ما سوى الخمر من المسكرات به لا يصلح دليلا في غير المائع فيبقى على حكم الأصل. وما ثبتت نجاسته من المائع يتوقّف الحكم بطهارته مع الجمود على الدليل وهو مفقود.

[ الفرع ] الثاني

حكى العلّامة في النهاية والمنتهى إجماع علمائنا على أنّ حكم الفقّاع

ص: 509


1- تهذيب الأحكام 1 : 279 ، الحديث 821.
2- راجع بحث المضاف : 418.
3- لعلّه أراد عدم الصحة هنا على مبناه في الصحة. راجع منتقى الجمان 1 : 3. الفائدة الثانية.
4- في « ب » : وإن عرض عليه الجمود.

حكم الخمر (1).

وذكر المحقّق عن الشيخ أنّه قال : وألحق أصحابنا الفقّاع بالخمر يعني في التنجيس. وهذا انفراد الطائفة.

ثمّ قال المحقّق : ويمكن أن يقال الفقّاع خمر فيلحقه أحكامه. أمّا أنّه خمر فلما ذكره علم الهدى قال : قال أحمد : حدّثنا عبد الجبّار بن محمّد الخطّابي عن حمزة قال : العنبر التي نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنها هي الفقّاع (2).

قال : وعن أبي هاشم الواسطي : الفقّاع نبيذ الشعير فإذا نشّ فهو خمر (3).

وعن زيد بن أسلم العنبير التي نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنها هي الاسكركه (4).

وعن أبي موسى أنّه قال : الاسكركه خمر الحبشة.

ثمّ قال المحقّق : ومن طريق الأصحاب ما رواه سليمان بن جعفر : « قلت للرضا عليه السلام : « ما تقول في شرب الفقّاع؟ فقال : هو خمر مجهول » (5).

وعن الوشّاء قال : « كتبت إليه - يعني الرضا عليه السلام - أسأله عن الفقّاع؟ فكتب : حرام وهو خمر » (6).

وعنه عليه السلام قال : « هي خمرة استصغرها الناس ».

ثمّ إنّ المحقّق أشار إلى اعتراض يمكن وروده هنا وأجاب عنه ، فقال :

ص: 510


1- نهاية الإحكام 1 : 272 ، ومنتهى المطلب 1 : 167 ، ( الطبعة الحجرية ).
2- راجع المبسوط 1 : 36 ، والانتصار : 199.
3- المعتبر 1 : 424 - 425 ، وفيه : « ضمرة » بدل « حمزة » و « الغبيراء » بدل « العنبر ».
4- في المعتبر 1 : 425 ، « الغبيراء » بدل « العنبر ».
5- في المصدر : سليم بن جعفر بدل « سليمان ». راجع الكافي 6 : 422 و 426.
6- راجع تهذيب الأحكام 9 : 125.

لا يقال : الخمر من الستر وهو خمر العقل ولا ستر في الفقاع.

لأنّا نقول : التسمية ثابتة شرعا والتجوّز على خلاف الأصل فيكون حقيقة في المشترك. وهو مائع حرم لنشيشه وغليانه (1).

ثمّ قال : وإذا ثبت أنّ الفقّاع خمر وقد بيّنا حكم الخمر فاطلب حكم الفقّاع هناك. هذا كلامه (2).

ويرد على احتجاجه بأخبارنا - لإدخاله في حقيقة الخمر - نحو ما ذكرناه في احتجاجه السابق لإدخال المسكرات.

وأمّا ما حكاه عن المرتضى فغير كاف في إثبات مثله.

فالعمدة إذن على الإجماع المدّعى.

ويؤيّده ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى عن بعض أصحابنا عن أبي جميل البصري قال : « كنت مع يونس ببغداد وأنا أمشي معه في السوق هيّج (3) صاحب الفقّاع فقّاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتمّ لذلك حتّى زالت الشمس ، فقلت له : يا أبا محمّد ألا تصلّي؟ قال : فقال لي : ليس أريد أن اصلّي حتّى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي ، فقلت له : هذا رأي رأيته أو شي ء ترويه؟ فقال : أخبرني هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفقّاع فقال : لا تشربه فإنّه خمر مجهول فإذا أصاب ثوبك فاغسله » (4).

ص: 511


1- في « ب » : أو غليانه.
2- المعتبر 1 : 425.
3- في « أ » و « ب » : ففتح صاحب الفقّاع.
4- الكافي 6 : 423 ، الحديث 7.
[ الفرع ] الثالث :

ألحق جماعة من أصحابنا بالخمر في التنجيس العصير إذا غلا واشتدّ ولم يذهب ثلثاه.

وحكى في المعتبر عن بعض الأصحاب أنّه اكتفى في الحكم بالتنجيس بمجرّد الغليان.

ثمّ قال : والوجه الحكم بالتحريم مع الغليان حتّى يذهب الثلثان ووقوف النجاسة على الاشتداد (1).

وقال العلّامة في التذكرة : العصير إذا غلا حرم حتّى يذهب ثلثاه. وهل ينجس بالغليان أو يقف على الشدّة؟ إشكال (2).

والعجب بعد هذا من تفسير بعض المتأخّرين للاشتداد الواقع في كلام الأصحاب هنا بالثخانة المسبّبة عن مجرّد الغليان.

كيف؟ وهو مخالف للّغة والعرف ، ومناف لما وقع التصريح به في كلام الفاضلين حيث أثبتا الواسطة بينه وبين الغليان. فكيف يفسّر بما يقتضي نفيها؟

ولو تنزّلنا إلى تسليم التلازم بينهما في الواقع نظرا إلى ما يقال من أنّ الغليان الحاصل بالنار مقتض لتصاعد الأجزاء المائيّة بالبخار وهو موجب لتحقّق قوام ما له وإن قلّ ما يحصل بغير النار مستندا إلى سبب مجفّف للرطوبة فلا يخفى أنّ ذلك إنّما يقتضي المصير إلى الاكتفاء بالغليان ، لا حمل كلام الجماعة عليه مع انتفاء القرينة على إرادته بل مع التصريح بخلافه. هذا.

مع ما في التقريب المذكور لإثبات التلازم من التعسّف ؛ فإنّ اقتضاء مطلق

ص: 512


1- المعتبر 1 : 424.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 65.

التصاعد والتجفيف حصول القوام الذي يصدق عليه اسم الاشتداد في اللغة والعرف (1) المقدّم عليها ممّا يشهد البديهة بفساده.

على أنّه لو تمّ هذا التقريب لاقتضى حصول الاشتداد قبل الغليان في كثير من الصور. ألا ترى أنّ تصاعد البخار المقتضي لذهاب الأجزاء المائيّة يحصل بالنار قبل الغليان؟ فلو كان بمجرّده موجبا لحصول الاشتداد لتقدّم حينئذ على الغليان وما أظنّ القائل يرضاه.

لا يقال : إنّما لوحظ اعتبار التصاعد فيما بعد الغليان ؛ لاقتضائه حصول القوام ، بخلاف ما قبله.

لأنّا نقول : إن كان مناط الحكم هو (2) نقصان المائيّة فهو حاصل في الموضعين فلا يعقل التفرقة. وإن كان المناط هو حصول القوام فادّعاء تحقّقه بمجرّد الغليان ممّا يكذّبه العيان.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الأصحاب لم ينقلوا على هذا الحكم من أصله دليلا وإنّما ذكره القائلون به على طريق الدعوى المجرّدة وهو غريب. ومن ثمّ توقّف فيه جمع من المتأخّرين حتّى الشهيد رحمه اللّه مع ما علم من حاله (3) في وفاق المشهور.

قال في الذكرى - بعد أن حكى الحكم بالتنجيس عن جماعة - : ولم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة ولا نصّ على نجاسة غير المسكر وهو منتف هنا (4).

ص: 513


1- في « ج » : أو العرف.
2- في « ج » : مناط الحكم هنا نقصان المائيّة.
3- في « ب » : الشهيد رحمه اللّه ممّا علم حاله.
4- ذكرى الشيعة 1 : 13. وفي « ب » : نجاسة المسكر.

وقال في البيان : لم أقف على نصّ يقتضي تنجيسه - يعني العصير - إلّا ما دلّ على نجاسة المسكر لكنّه لا يسكر بمجرّد غليانه واشتداده (1).

وذكر والدي رحمه اللّه في المسالك أنّ نجاسته من المشاهير بغير أصل (2).

مسألة [9] :
اشارة

والكلب والخنزير نجسان عينا عند علمائنا أجمع. قاله في المنتهى والتذكرة.

وذكر الشيخ في الخلاف : إنّ الكلب نجس العين ، نجس اللعاب ، نجس السؤر ، بإجماع الفرقة. وإنّ الخنزير نجس بلا خلاف (3).

وقال في المعتبر : إذا لاقى الكلب أو الخنزير ثوبا أو جسدا وهو رطب غسل موضع الملاقاة وجوبا. وهو مذهب علمائنا أجمع (4).

والأخبار الدالّة على نجاستهما في الجملة كثيرة.

فروى الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل؟ قال : يغسل المكان الذي أصابه » (5).

وعن عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله ، فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال :

إن كان دخل في صلاته فليمض ، وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح

ص: 514


1- البيان : 39 ، الطبعة الحجرية.
2- مسالك الأفهام 1 : 91 ، الطبعة المحققة.
3- منتهى المطلب 3 : 210 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 66 ، والخلاف 1 : 176 ، المسألة 131.
4- المعتبر 1 : 439.
5- تهذيب الأحكام 1 : 260 - 261 ، الحديث 758.

ما أصاب من ثوبه إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله ». قال : وسألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : يغسل سبع مرّات (1).

وقوله في هذا الحديث : « إن كان دخل في صلاته » إلى قوله : « فلينضح » أراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة قوله : إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله.

وروى في الصحيح عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا مسّ ثوبك كلب فإن كان يابسا فانضحه وإن كان رطبا فاغسله » (2).

وفي الصحيح عن الفضل أبي العبّاس قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله وإن مسّه جافّا فاصبب عليه الماء » (3).

الحديث.

وعن الحسين بن سعيد عن القاسم عن علي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الكلب يصيب الثوب؟ قال : انضحه ، وإن كان رطبا فاغسله » (4).

وعن صفوان بن يحيى عن معاوية بن شريح قال : « سأل عذافر أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده عن سؤر السنّور إلى أن قال : قلت له الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس هو بسبع؟ قال : لا واللّه إنّه نجس ، لا واللّه إنّه نجس » (5).

وقد مرّ هذا الحديث في بحث السنّور مع حديث الفضل أبي العبّاس.

ص: 515


1- تهذيب الأحكام 1 : 261 ، الحديث 760.
2- تهذيب الأحكام 1 : 260 ، الحديث 756.
3- تهذيب الأحكام 1 : 261 ، الحديث 759.
4- تهذيب الأحكام 1 : 260 ، الحديث 757.
5- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 647.

قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن فضل الهرّة والشاة. إلى أن قال : حتّى انتهيت إلى الكلب ، فقال : رجس نجس » (1). الحديث.

وروى في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن حريز عن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال : اغسل الإناء » (2).

وقد ورد بخلاف هذه الأخبار روايات منها :

ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن ابن سنان عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّه قال : « سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه والسنّور أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال : نعم إلّا أن يجد غيره فينزّه عنه » (3).

وحملها الشيخ على ما إذا كان الماء بالغا مقدار الكرّ (4).

واستشهد له برواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ليس بفضل السنّور بأس أن يتوضّأ منه ويشرب. ولا تشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه » (5).

ومنها ما رواه في الصحيح عن ابن أبي عمير عن أبي زياد النهدي عن زرارة قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا يسقى به

ص: 516


1- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 646.
2- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 644.
3- في « أ » و « ب » : إلّا أن تجد غيره فتنزّه عنه.
4- تهذيب الأحكام 1 : 226 ، الحديث 649.
5- تهذيب الأحكام 1 : 226 ، الحديث 650.

الماء؟ قال : لا بأس » (1).

وحملها الشيخ على قصد استعمال الماء في سقي الدوابّ وشبهه لا في نحو الوضوء والشرب (2).

ولما ذكره الشيخ في الموضعين وجه. مع أنّ في طريق الرواية الاولى ابن سنان كما رأيت. والمراد به محمّد وهو مضعّف. وفي الثانية أبو زياد النهدي وحاله مجهول.

وبالجملة فمثل هاتين الروايتين لا يصلح لمعارضة تلك الأخبار الكثيرة المعتضدة باتّفاق الأصحاب كما علم.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

لا نعلم خلافا بين علمائنا من سوى المرتضى في عموم الحكم بالتنجيس هنا لجميع أجزاء الحيوانين (3) سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أم لا؟

وأمّا السيّد فيعزى إليه القول بطهارة ما لا تحلّه الحياة منهما بل من مطلق نجس العين كالعظم والشعر (4).

احتجّوا للأوّل بأنّ الحكم معلّق بالمسمّى ، والأجزاء التي لا تحلّها الحياة داخلة فيه ، مع أنّ إطلاق الأمر بالغسل عند الإصابة برطوبة من غير استفصال عن الأجزاء التي حصلت الإصابة بها قرينة على عموم الحكم للجميع ، خصوصا مع كون الغالب في الإصابة أن تقع بالشعر.

ص: 517


1- تهذيب الأحكام 1 : 413 ، الحديث 1301.
2- تهذيب الأحكام 1 : 413 ، الحديث 1301.
3- في « ب » : أجزاء الحيوان.
4- الجوامع الفقهية ، كتاب الناصريات : 218.

وحجّة المرتضى - على ما ذكره جماعة - : أنّ الاسم غير صادق على ما ليس محلّا للحياة فلا يتناوله دليل التنجيس كعظم الميتة من الطاهر وشعرها.

وضعف هذه الحجّة ظاهر ؛ فإنّ المرجع في صدق الاسم إلى اللغة والعرف ، وهما متّفقان على عدم اعتبار التفرقة المذكورة. والتشبيه بعظم الميتة وشعرها لا وجه له كما لا يخفى.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الشيخ روى عن زرارة بإسناد يعدّ في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يسقى به الماء من البئر أيتوضّأ من ذلك الماء؟ قال : لا بأس » (1).

وفي الموثّق عن الحسين بن زرارة عنه عليه السلام قال : « قلت : فشعر الخنزير يعمل به حبلا يستقى به من البئر الذي يشرب منها ويتوضّأ منها؟ فقال : لا بأس به » (2).

وربّما كان في هذين الخبرين إشعار بطهارة الشعر من الخنزير من حيث إطلاق نفي البأس عن استعماله في استقاء الماء مع بعد الانفكاك من الملاقاة بالرطوبة لليد أو للماء أو الإناء.

وقد تعرّض الشيخ لتأويل الخبر الأوّل باعتبار دلالته على عدم تأثير ملاقاة الشعر للبئر ، فقال : هذا الخبر محمول على أنّه لم إذا لم يصل الشعر إلى الماء ؛ لأنّه لو وصل إليه لكان مفسدا له (3).

والعلّامة ذكر الحديث الثاني في المنتهى وتكلّم عليه بأنّ في طريقه ابن

ص: 518


1- تهذيب الأحكام 1 : 409 ، الحديث 1289.
2- تهذيب الأحكام 9 : 75 ، الحديث 320.
3- تهذيب الأحكام 1 : 409 ، ذيل الحديث 1289.

فضّال ، وفيه ضعف. وبأنّه لا يلزم من استعماله في ما ذكر ملامسته بالرطوبة وإن كان الأغلب ذلك فيحمل على النادر ؛ جمعا بين الأدلّة (1).

وما ذكره من عدم صحّة السند صحيح إلّا أنّ في تعليله نظرا ، من حيث اشتمال الطريق على جماعة ليست بصفة رجال الصحيح ، وابن فضّال أحدها فلا وجه لذكره وحده.

ثمّ إنّ الطعن في هذا السند غير مجد بعد كون المتن مرويّا بالطريق الآخر الصحيح على رأيه.

وأمّا الحمل على عدم الملاقاة برطوبة فمحتمل لكن فيه بعد.

وملاحظة الجمع بين الأدلّة إن كانت باعتبار الخبر السابق الدالّ على وجوب غسل الثوب (2) إذا أصابه خنزير وحصل فيه تأثيره (3) فيرد عليها : إنّ دلالة ذلك الخبر على نجاسة الشعر ليست بأظهر من دلالة هاتين الروايتين على طهارته فيشكل جعل التأويل في هذا الجانب.

وإن كانت باعتبار ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن سليمان الإسكيف قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شعر الخنزير نحرز به؟ قال : لا بأس به ولكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي » (4).

وفي الصحيح عن الحسين بن سعيد عن أيّوب بن نوح عن عبد اللّه بن

ص: 519


1- منتهى المطلب 3 : 204.
2- في « ب » : الدالّ على عدم وجوب غسل الثوب.
3- في « أ » و « ب » : وحصل فيه تأثير.
4- تهذيب الأحكام 9 : 85 ، الحديث 357.

المغيرة عن برد الإسكاف قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : جعلت فداك إنّا نعمل بشعر الخنزير فربّما نسي الرجل فصلّى وفي يده شي ء منه؟ قال : لا ينبغي له أن يصلّي وفي يده شي ء منه. وقال : خذوه فاغسلوه فما له رسم فلا تعملوا به وما لم يكن له رسم فاعملوا به واغسلوا أيديكم منه » (1).

وما رواه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : قلت له : « إنّ رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير؟ قال : إذا فرغ فليغسل يده » (2).

ورواية برد الإسكاف قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شعر الخنزير يعمل به؟

قال : خذ منه فاغسله بالماء حتّى يذهب ثلث الماء ويبقى ثلثاه ، ثمّ اجعله في فخارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل به وإن لم يجمد ليس عليه دسم فاعمل به واغسل يدك إذا مسسته عند كلّ صلاة. قلت : ووضوء؟ قال : لا ، اغسل اليد كما تمسّ الكلب » (3).

فيرد عليها : إنّ في طريق الروايات ضعفا ، ولعلّ انضمام عمل أكثر الأصحاب بمضمونها مضافا إلى الخبر السابق يقرّب حمل تينك الروايتين (4) على ما ذكره العلّامة.

[ الفرع ] الثاني :

قال في الذكرى : المتولّد من الكلب والخنزير نجس في الأقوى لنجاسة

ص: 520


1- تهذيب الأحكام 9 : 85 ، الحديث 356.
2- تهذيب الأحكام 6 : 382 ، الحديث 1129.
3- تهذيب الأحكام 6 : 382 ، الحديث 1130.
4- في « ب » : حمل الروايتين.

أصليه (1). وكذا ذكر والدي رحمه اللّه في غير موضع من كتبه حتّى أنّه صرّح بعدم الفرق بين موافقته لأحدهما في الاسم ومباينته لهما (2).

واستشكل العلّامة الحكم في صورة المباينة في النهاية والمنتهى (3).

قال في النهاية : المتولّد منهما - يعني الكلب والخنزير - نجس لأنّه بعضهما وإن لم يقع عليه اسم أحدهما ، على إشكال ؛ منشأه الأصالة السالمة عن معارضة النصّ (4).

وتوقّف في التذكرة فقال : الحيوان المتولّد منهما يحتمل نجاسته مطلقا واعتبار اسم أحدهما (5).

ولا يخفى قوّة وجه الإشكال ، فالتوقّف في محلّه ، غير أنّ الخطب في مثله سهل ؛ إذ البحث فيه لمجرّد الفرض (6).

[ الفرع ] الثالث :

ما يتولّد بين أحدهما وبين الحيوان الطاهر يتبع الاسم. قاله كثير من الأصحاب ولم ينقلوا فيه خلافا.

وربّما لاح من عبارتي النهاية والمنتهى عدم وجود الخلاف (7) حيث قال

ص: 521


1- ذكرى الشيعة : 14.
2- روض الجنان : 163.
3- نهاية الإحكام 1 : 271 ، ومنتهى المطلب 13 : 213.
4- نهاية الإحكام 1 : 271 - 272.
5- تذكرة الفقهاء 1 : 66.
6- في « ب » : مجرّد الفرض.
7- في « أ » : وجود الخلاف.

في إحداهما : الأقرب عندي فيه اعتبار الاسم ، وفي الاخرى : الوجه عندي اعتبار الاسم (1).

ونصّ بعض الأصحاب على عدم الفرق في الحكم بتبعيّته للاسم (2) بين كونه لأحد الطرفين ولغيرهما. ثمّ قال : ولو لم يصدق عليه اسم حيوان معلوم الحكم فالأقوى فيه الطهارة وهو حسن.

[ الفرع ] الرابع :

كلب الماء. قال أكثر الأصحاب بطهارته.

وعزى في التذكرة إلى ابن إدريس المخالفة في ذلك ، ثمّ قال : ولا يجوز حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز بغير قرينة (3).

وكأنّه إشارة إلى ردّ حجّة ابن إدريس ؛ إذ الظاهر أنّ تمسّكه في ذلك بصدق الاسم.

فجوابه : منع كونه حقيقة في النوعين. وإرادة الحقيقة والمجاز يتوقّف على وجود القرينة.

وقد وقع في كلام العلّامة هاهنا اختلاف ، فقال في النهاية والتحرير : إنّ لفظ الكلب حقيقة في المعهود ، مجاز في غيره (4). وكلام التذكرة موافق لهما كما رأيت.

ص: 522


1- نهاية الإحكام 1 : 272 ، ومنتهى المطلب 3 : 213.
2- في « ب » : وتبعيّته الاسم.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 67 ، وراجع السرائر 2 : 220.
4- نهاية الإحكام 1 : 272 ، وتحرير الأحكام 1 : 24 ، الطبعة الحجرية.

وذكر في المنتهى أنّه مشترك بين النوعين بالاشتراك اللفظي (1).

وأنت خبير بأنّ ردّ كلام ابن إدريس على التقدير الأوّل واضح ، وأمّا على الثاني فيحتاج إلى ضميمة دعوى وجود القرينة على إرادة المعهود. والواقع كذلك ؛ فإنّ قيام القرينة الحاليّة عليه ظاهر. هذا.

وكلام جماعة من الأصحاب منهم الشهيد في الذكرى يوافق ما ذكره العلّامة في غير المنتهى (2). وربّما يظهر من بعض المتأخّرين الوفاق لما ذكره في المنتهى.

مسألة [10] :
اشارة

والكافر نجس في المشهور بين الأصحاب ، سواء كان أصليّا أم مرتدّا ، وسواء كان كتابيّا أو غير كتابيّ ، منتحلا للإسلام مع جحده لبعض ضروريّاته كالغلاة والخوارج وفي معناهم النواصب ، أو غير منتحل.

وقد حكي عن جماعة من الأصحاب دعوى الإجماع على ذلك ، مع أنّ المحقّق وغيره أشاروا إلى نوع خلاف فيه.

قال في المعتبر : الكفّار قسمان ، يهود ونصارى ومن عداهما. أمّا القسم الثاني فالأصحاب متّفقون على نجاستهم. وأمّا الأوّل فالشيخ قطع في كتبه بنجاستهم ، وكذا علم الهدى والأتباع وابنا بابويه. وللمفيد قولان : أحدهما النجاسة ، ذكره في أكثر كتبه ، والآخر الكراهيّة ، ذكره في الرسالة العزيّة (3).

وعزى غير المحقّق إلى الشيخ في النهاية وابن الجنيد الخلاف في هذا المقام

ص: 523


1- منتهى المطلب 3 : 213.
2- ذكرى الشيعة : 14.
3- المعتبر 1 : 95 ، مبحث الأسآر.

أيضا (1).

أمّا الشيخ فلأنّه قال في النهاية : يكره أن يدعو الإنسان أحدا من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه ، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه ثمّ يأكل معه إن شاء (2).

وأمّا ابن الجنيد فإنّه قال في مختصره : ولو تجنّب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم وكذلك ما صنع في أواني مستحلّي الميتة ومواكيلهم وما لم يتيقّن طهارة أوانيهم وأيديهم كان أحوط.

وعندي في نسبة الخلاف إلى الشيخ باعتبار العبارة المحكيّة نظر ؛ لأنّه قال قبلها بأسطر : ولا يجوز مواكلة الكفّار على اختلاف مللهم ، ولا استعمال أوانيهم إلّا بعد غسلها بالماء. ثمّ قال : وكلّ طعام تولّاه بعض الكفّار بأيديهم وباشروه بنفوسهم لم يجز أكله ؛ لأنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه (3).

وهذا الكلام صريح في الحكم بنجاستهم فلا بدّ من حمل الكلام الآخر على خلاف ظاهره ؛ إذ من المستبعد جدّا الرجوع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة وإبقائه مثبتا في الكتاب.

ولعلّ مراده المواكلة التي لا [ تتعدّى ] معها النجاسة ، كأن يكون الطعام جامدا ، أو في أواني متعدّدة ، ويكون وجه الأمر بغسل يديه إرادة تنظيفهما من آثار القاذورات التي لا ينفكّ عنها الكافر في الغالب فمواكلته على هذه الحال بدون غسل يديه مظنّة حصول النفرة.

وقد تعرّض المحقّق في نكت النهاية للكلام على هذه العبارة ، فذكر على

ص: 524


1- مسالك الأفهام 2 : 196 ، الطبعة الحجريّة.
2- النهاية ونكتها 3 : 107 ، كتاب الأطعمة ، الأطعمة المحظورة والمباحة.
3- النهاية ونكتها 3 : 105 - 106 ، كتاب الأطعمة ، الأطعمة المحظورة والمباحة.

جهة السؤال أنّه ما الفائدة في الغسل ، واليد لا تطهر به؟

وأجاب : بأنّ الكفّار لا يتورّعون عن كثير من النجاسات فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة.

ثمّ قال : وهذا يحمل على حال الضرورة أو على مؤاكلة اليابس وغسل اليد ليزول الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينيّة وإن لم يفد طهارة اليد (1).

ثمّ قال : وروى العيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي والنصراني؟ فقال : لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسيّ فقال : إذا توضّأ فلا بأس » (2).

قال المحقّق : والمعني بتوضّؤه هنا غسل اليد (3). انتهى كلامه.

وهو كما ترى صريح في أنّ كلام الشيخ محمول على خلاف ظاهره وأنّه ليس بمخالف لما حكم به أوّلا ، وأنّ الحامل له على ذكر هذه المسألة ورود مضمونها في الرواية. وحينئذ لا ينبغي أن يذكر الشيخ في عداد من عدل عن المشهور هنا.

وأمّا عبارة ابن الجنيد فظاهرها القول بطهارة أهل الكتاب. وله في بحث الأسآر عبارة اخرى [ تقرب ] من هذه ، حكيناها هناك.

وقد تحرّر من هذا : أنّ نجاسة من عدا أهل الكتاب ليست موضع خلاف بين الأصحاب معروف ، بل كلام المحقّق مصرّح بالوفاق كما رأيت.

ص: 525


1- النهاية ونكتها 3 : 107 ، وفيها « ومؤاكلته اليابس ».
2- وسائل الشيعة 16 : 384 ، الباب 53 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث 14.
3- النهاية ونكتها 3 : 107 ، الأطعمة المحظورة والمباحة.

وأمّا أهل الكتاب فابن الجنيد يرى طهارتهم على كراهيّة.

والمفيد في أحد قوليه يوافقه على ذلك في اليهود والنصارى منهم على ما حكاه عنه المحقّق (1).

والباقون - ممّن وصل إلينا كلامه - على نجاستهم.

احتجّوا لنجاسة من عدا أهل الكتاب بقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (2) ، وبقوله سبحانه ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (3).

واورد على الاحتجاج بالآية الاولى : أنّ النجس مصدر ، فلا يصحّ وصف الجثّة به إلّا مع تقدير كلمة ذو ، ولا دلالة في الآية معه ؛ لجواز أن يكون الوجه في نسبتهم إلى النجس عدم انفكاكهم من النجاسات العرضيّة ؛ لأنّهم لا يتطهّرون ولا يغتسلون ، والمدّعى نجاسة ذواتهم.

ثمّ إنّه يرد عليه أيضا : عدم إفادة كلام أهل اللغة كون معنى النجس لغة هو المعهود شرعا ، وإنّما ذكر بعضهم أنّه المستقذر. وقال بعض : إنّه ضدّ الطاهر. ومن المعلوم أنّ المراد بالطهارة في إطلاقهم معناها اللغوي.

فعلى التفسيرين لا دلالة له على النصّ المعهود في الشرع ، فيتوقّف إرادته منه على ثبوت الحقيقة الشرعيّة أو العرفيّة المعلوم وجودها في زمن الخطاب. وفي الثبوت نظر. وعلى تقدير التسليم ، فالآية مختصّة بمن صدق عليه عنوان المشرك ، والمدّعى أعمّ منه.

وقد أجاب في المنتهى عن الوجه الأوّل من الإيراد بأنّ المصادر يصحّ

ص: 526


1- المعتبر 1 : 96 ، مبحث الأسآر.
2- سورة التوبة ، الآية 28.
3- سورة الأنعام ، الآية 125.

الوصف بها إذا كثرت معانيها في الذات ، كما يقال : رجل عدل (1).

وتحقيق هذا الجواب : أنّ الوصف بالمصدر لا ريب في صحّته لكنّه مبنيّ على التأويل. فمن الناس من قدّره بكلمة ذو وجعل الوصف بها مضافة إلى المصدر فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه. ومنهم من جعله واردا على جهة المبالغة باعتبار تكثّر الفعل من الموصوف حتّى كأنّه تجسّم منه.

والوجه الأخير أرجح من حيث كونه أبلغ ، وعليه تعويل المحقّقين هذا.

والإيراد الثاني والثالث لا يظهر لهما جواب.

وأمّا الاحتجاج بالآية الثانية فيرد عليه نحو ما تقدّم في بحث الدم والخمر من عدم ثبوت كون الرجس حقيقة في النجس.

وقد اعترض في المعتبر بما يقرب ممّا قلناه على التعلّق بهذه الآية فذكر أنّ الرجس (2) هو العذاب رجوعا إلى أهل التفسير.

ثمّ ردّه بأنّ حقيقة اللفظ تعطي معنى النجس فلا يستند إلى مفسّر برأيه. وبأنّ الرجس اسم لما يكره فهو يقع على موارده [ بالتواطي ] فيحمل على الجميع ؛ عملا بالإطلاق (3).

وضعف هذا الجواب ظاهر ؛ فإنّ كون حقيقة اللفظ معطية لذلك في حيّز المنع.

وقوله : « إنّ الرجس اسم لما يكره .. » ، ممنوع أيضا ؛ فإنّ كلام من وقفنا على كلامه من أهل اللغة خال منه والعرف لا يدلّ عليه فلا نعرف مأخذه.

قال في القاموس : الرجس القذر ، والمأثم ، وكلّ ما استقذر من عمل ،

ص: 527


1- منتهى المطلب 3 : 222 ، وفي « ب » : إذا كثرت معانيها في الذوات.
2- في « ج » : أنّ النجس هو العذاب.
3- المعتبر 1 : 96.

والعمل المؤدّي إلى العذاب والشكّ والعقاب والغضب (1).

وقال ابن الأثير في النهاية : الرجس القذر ، وقد يعبّر به عن الحرام ، والفعل القبيح ، والعذاب ، واللعنة ، والكفر (2).

وقال الجوهري : الرجس القذر. وقال الفرّاء في قوله تعالى ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) إنّه العقاب والغضب (3).

والذي يستفاد من هذه العبارات أنّه مشترك لفظيّ في المعاني المذكورة أو حقيقة في بعضها مجاز في البعض ، لا أنّه حقيقة في أمر مشترك بينها ليكون متواطيا.

سلّمنا ، ولكنّهم لم يعدّوا النجس في جملة المعاني ، فاللفظ لا يفيده بأيّ وجه فرض.

واحتجّوا لنجاسة أهل الكتاب أيضا بعموم الآيتين. أمّا الثانية فظاهر بعد فرض دلالتها على التنجيس.

وأمّا الاولى فلأنّ الشرك متحقّق في المجوس منهم ؛ لما قيل من أنّهم يقولون بإلهين اثنين « النور والظلمة » ، وفي اليهود والنصارى بدليل قوله سبحانه ( تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ) (4). عقيب حكايته عن اليهود قولهم : « إنّ [ عزير ] ابن اللّه » وعن النصارى : « إنّ المسيح ابن اللّه ».

وبخصوص كثير من الأخبار. فمنها ما رواه الشيخ عن عليّ بن جعفر

ص: 528


1- القاموس المحيط 2 : 219 ، فصل الراء.
2- النهاية في غريب الحديث 2 : 200 ، باب الراء مع الجيم.
3- الصحاح 3 : 933 ، باب السين ، فصل الراء.
4- سورة التوبة : 30.

في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال : لا بأس ولا يصلّي في ثيابهما. وقال : لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه.

قال : وسألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس لا يدري لمن كان؟ هل تصلح الصلاة فيه؟ قال : إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه وإن اشتراه من نصرانيّ فلا يصلّ فيه حتّى يغسله » (1).

وروى الكليني عن عليّ بن جعفر في الصحيح أيضا عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : « سألته عن مواكلة المجوسيّ في قصعة واحدة ، وأرقد معه على فراش واحد واصافحه؟ فقال : لا » (2).

ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن عليّ بن جعفر أيضا عن أخيه موسى عليه السلام : أنّه سأله عن النصرانيّ يغتسل مع المسلم في الحمّام؟ قال : إذا علم أنّه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمّام. إلّا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل.

وسأله عن اليهوديّ والنصرانيّ يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟

قال : لا إلّا أن يضطرّ إليه » (3).

والمعنى في صدر هذه الرواية لا يخلو عن خفاء ، وكأنّ المراد به أنّ اجتماع

ص: 529


1- تهذيب الأحكام 1 : 263 ، باب تطهير الثياب ، الحديث 53.
2- الكافي 6 : 264 ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمّة ، الحديث 7.
3- وسائل الشيعة 2 : 1020 ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 9 ، عن تهذيب الأحكام.

المسلم والنصراني في حال (1) الاغتسال موجب لإصابة ما يتقاطر عن بدن النصراني لبدن المسلم فينجّسه ، ولازم ذلك عدم صحّة الغسل بماء الحمام حينئذ ، وتعيّن الاغتسال بغيره ، وأمّا إذا اغتسلا منفردين فليس بذلك بأس ، ولكن مع تقدّم مباشرة النصراني للحوض بغسل المسلم الحوض من أثر تلك المباشرة ، ثمّ يغتسل منه.

وبهذا يظهر أنّ الحكم مفروض في حوض لا يبلغ حدّ الكثير ويكون المادّة فيه منقطعة حال مباشرة النصراني له وتكون للمسلم سبيل إلى إجرائها ليتصوّر إمكان غسل الحوض كما لا يخفى.

ولأنّه مع كثرة الماء واتّصال المادّة به لا وجه للحكم بالتنجيس. اللّهم إلّا أن يراد نجاسة ظاهر الحوض بما يتقاطر عن بدن النصرانيّ.

وعلى كلّ حال لا بدّ أن يراد من الاغتسال ما يكون بالأخذ من الحوض. وإلّا فمع كونه بالنزول إلى الماء لا سبيل إلى النجاسة مع الكثرة أو اتّصال المادّة ، ولا معنى لغسل الحوض مع القلّة.

وقوله في الرواية : « يغتسل على الحوض » مشعر بذلك أيضا ، وإلّا لأتى ب- « في » بدل « على ».

وأمّا استثناؤه لحال الاضطرار في الحكم بالمنع من الوضوء ممّا يدخل اليهودي أو النصراني يده فيه كما وقع في عجز الرواية فربّما كان فيه دلالة على الطهارة وأنّ المنع محمول على الاستحباب ، فلا يتمّ الاحتجاج به للنجاسة. وقد أشار إلى ذلك في المعتبر على طريق السؤال عن وجه الاحتجاج به.

ص: 530


1- في « ب » : وإن كان المراد به أنّ اجتماع المسلم.

وأجاب بأنّه لعلّ المراد بالوضوء التحسين لا رفع الحدث. قال : ويلزم من المنع منه للتحسين المنع من رفع الحدث بل أولى (1). ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسّف.

ويمكن أن يقال : إنّ استثناء (2) حال الضرورة إشارة إلى تسويغ استعماله في غير الطهارة عند الاضطرار.

ومنها ما رواه الصدوق في الموثّق عن سعيد الأعرج أنّه « سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن سؤر اليهوديّ والنصرانيّ أيؤكل أو يشرب؟ قال : لا » (3).

ورواه الكليني والشيخ في الحسن عن سعيد عنه عليه السلام لكن بإسقاط قوله : « أيؤكل أو يشرب » (4).

وما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن رجل صافح مجوسيّا؟ قال : يغسل يده ولا يتوضّأ » (5).

وما رواه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : « في مصافحة المسلم لليهودي والنصراني؟ قال : من وراء الثياب فإن صافحك بيده فاغسل يدك » (6).

وحجّة القول بطهارة أهل الكتاب الأصل ، وظاهر قوله تعالى ( وَطَعامُ

ص: 531


1- المعتبر 1 : 97.
2- في « ب » و « أ » : إنّ الاستثناء.
3- وسائل الشيعة 1 : 165 ، كتاب الطهارة ، باب نجاسة أسآر أصناف الكفار ، الحديث 1 ، عن الكليني والشيخ.
4- وسائل الشيعة 1 : 165 ، كتاب الطهارة ، باب نجاسة أسآر أصناف الكفار ، الحديث 1 ، عن الكليني والشيخ.
5- تهذيب الأحكام 1 : 263 ، الحديث 765 ، باب تطهير الثياب من النجاسات.
6- تهذيب الأحكام 1 : 262 - 263 ، الحديث 764 ، باب تطهير الثياب من النجاسات.

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (1) ؛ فإنّ العرف قاض في مثله بالعموم ، والاعتبار يرشد إليه بنحو التقريب الذي ذكرناه في بحث المفرد المعرّف باللام من مقدّمة الكتاب.

وإذا ثبت عمومه فمن البيّن أنّ الغالب في الطعام المصنوع المباشرة بالأيدي مع قبوله الانفعال من حيث الرطوبة ، وإثبات التحليل حينئذ لا يجامع الحكم بالتنجيس.

ثمّ الأخبار الكثيرة كصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال : « قلت للرضا عليه السلام : الخيّاط أو القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا - وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ - ما تقول في عمله؟ قال : لا بأس » (2).

وصحيحته أيضا قال : « قلت للرضا : الجارية النصرانيّة تخدمك وأنت تعلم أنّها نصرانيّة ولا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة؟

قال : لا بأس بغسل يديها » (3).

ورواية إسماعيل بن جابر الصحيحة - على ما هو المعروف بين متأخّري الأصحاب - قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ما تقول في طعام أهل الكتاب؟

فقال : لا تأكله ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال :

لا تأكله ولا تتركه ». تقول : إنّه حرام؟ ولكن تتركه تتنزّه عنه إنّ في آنيتهم

ص: 532


1- سورة المائدة : 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 2 : 113 ، باب نجاسة الكفّار ، الحديث 4 ، نقلا عن التهذيب.
3- وسائل الشيعة 1 : 1020 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، باب نجاسة الكافر ، الحديث 11 ، وفيه : « تغسل يديها ».

الخمر ولحم الخنزير » (1).

قال والدي رحمه اللّه : تعليل النهي في هذه الرواية بمباشرتهم للنجاسات يدلّ على عدم نجاسة ذواتهم ؛ إذ لو كانت نجسة لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضيّة التي قد يتّفق وقد لا يتّفق (2).

ورواية العيص بن القاسم وطريقها يعدّ في الصحيح. قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مؤاكلة اليهوديّ والنصرانيّ؟ فقال : لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسي : فقال : إذا توضّأ فلا بأس » (3).

وهذه هي الرواية التي سبق نقلها في كلام المحقّق مستشهدا بها لما ذكره الشيخ في النهاية (4).

وحسنة الكاهلي ، قال : « سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسيّ أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال : أمّا أنا فلا أدعوه ولا اواكله فإنّي لأكره أن احرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم » (5).

ورواية زكريّا بن إبراهيم قال : « دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقلت : إنّي رجل من أهل الكتاب وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانيّة

ص: 533


1- الكافي 6 : 264 ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمّة ، الحديث 9.
2- مسالك الأفهام 2 : 246 ، الطبعة الحجرية ، كتاب الصيد والذباحة.
3- الكافي 6 : 263 ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمة ، الحديث 3 ، والحديث هكذا : [ سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي؟ قال : إن كان من طعامك فتوضّأ فلا بأس به ].
4- النهاية ونكتها 3 : 107 ، باب الأطعمة المحظورة.
5- الكافي 6 : 263 ، كتاب الأطعمة ، باب أحكام أهل الذمة ، الحديث 4.

وأنا معهم في بيت واحد لم افارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال لي : يأكلون لحم الخنزير؟ قلت : لا ولكنّهم يشربون الخمر. فقال لي : كل معهم واشرب » (1).

وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام وقد سأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا إلّا أن يضطرّ إليه (2).

وقد ذكرت في حجّة القول بالتنجيس. وهي إلى القول بالطهارة أقرب لما في التأويل المذكور هناك لموضع الدلالة فيها على الطهارة من التكلّف.

ورواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب غيره على أنّه يهوديّ؟ فقال : نعم. قلت : فمن ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال : نعم » (3).

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ للنظر مجالا في كلتا حجّتي نجاسة أهل الكتاب وطهارتهم :

أمّا حجّة النجاسة فلأنّه يرد على الاحتجاج فيها بالآيتين ما قلناه في حجّة نجاسة من عداهم.

ويرد على التمسّك بالروايات التي ذكرت أنّ أكثرها أو كلّها لا تصريح فيها بنجاسة ذاتهم كما هو المدّعى ، بل محتملة لإرادة النجاسة العرضيّة باعتبار انهماكهم فيها فربّما حصل العلم العادي بعدم انفكاكهم من آثارها.

وبتقدير كونها ظاهرة في نجاسة الذات في الجملة فهي معارضة بروايات

ص: 534


1- المصدر نفسه ، الحديث 10.
2- جامع أحاديث الشيعة 2 : 14 ، الباب 5 من أبواب المياه ، الحديث 10 نقلا عن التهذيب.
3- في « أ » و « ج » : قلت فمن ذاك الماء. راجع جامع أحاديث الشيعة 2 : 52، أبواب الأسآر ، باب نجاسة سؤر الكفّار ، الحديث 3.

الطهارة.

والتأويل ممكن من الجانبين فيحتاج ترجيح جعله في خصوص أحدهما إلى مرجّح.

وقد ذكر والدي رحمه اللّه في المسالك : « أنّ روايات الطهارة أوضح دلالة » (1) ؛ إذ أكثر أخبار النجاسة يلوح منها إرادة الكراهة فإنّ النهي عن المصافحة والاجتماع على الفراش الواحد لا بدّ من حمله على الكراهة إذ لا خلاف في جوازه. والأمر بغسل اليد من المصافحة مع كون الغالب انتفاء الرطوبة محتاج إلى الحمل على خلاف الظاهر أيضا. وهذا كلّه يوجب ضعف دلالتها فيقرب فيها ارتكاب التأويل وذلك بحمل نواهيها على الكراهة وأوامرها على الاستحباب.

وأمّا حجّة الطهارة فيرد على التعلّق فيها بالآية : أنّ الطعام إن كان بحسب الظاهر عامّا - كما ذكر - : إنّ الأخبار ناطقة بتخصيصه.

فمن ذلك ما رواه الصدوق عن هشام بن سالم في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام « في قول اللّه عزوجل ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (2).

قال : العدس والحمّص وغير ذلك » (3).

ص: 535


1- مسالك الأفهام 2 : 225 ، السطر 20 من الطبعة الحجرية ، قال الشهيد الثاني رحمه اللّه : إنّ أخبار الحلّ أصحّ سندا وأوضح دلالة على ما عرفت ». ولم نجد في باب الطهارة ما يدلّ على ذلك. فالظاهر أنّ باقي الكلام هو من صاحب المعالم رحمه اللّه لا من الشهيد الثاني رحمه اللّه.
2- سورة المائدة : 5.
3- من لا يحضره الفقيه 3 : 347 ، الحديث 4219 ، باب طعام أهل الذمّة من كتاب الصيد والذبائح ، الحديث 2.

وروى الكليني في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن طعام أهل الذمّة ما يحلّ منه؟ قال : الحبوب (1).

وروى عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزوجل :

( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) .

فقال : الحبوب والبقول » (2).

وروى بإسناد يعدّ في الصحيح عن قتيبة الأعشى عن أبي عبد اللّه عليه السلام وقد ذكر له قول اللّه تعالى ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) . فقال : كان أبي يقول : إنّما [ هو ] الحبوب وأشباهها » (3).

وروى هذا الحديث الشيخ في الاستبصار أيضا بطريق صحيح عن قتيبة (4). وروى الكليني بطريق آخر عن قتيبة عنه عليه السلام وقد ذكرت له الآية ، فقال : إنّ أبي كان يقول ذلك : الحبوب وما أشبهها (5).

وذكر بعض المتأخّرين أنّ في تخصيص الآية بالحبوب وشبهها إشكالا حاصله :

أنّ الحبوب ونحوها داخلة في عموم الطيّبات من قوله سبحانه ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) . وعطف الخاص على العام إنّما يجوز مع وجود نكتة كما قرّر في محلّه. وأيّ نكتة هنا بعد التخصيص يصحّ من أجلها الإخراج والعطف؟

ص: 536


1- الكافي 6 : 263 ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمّة ، الحديث 1.
2- الكافي 6 : 264 ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمّة ، الحديث 6.
3- الكافي 6 : 240 ، كتاب الذبائح ، باب ذبائح أهل الكتاب ، الحديث 10. والآية في سورة المائدة : 5.
4- الاستبصار 4 : 81 ، كتاب الصيد والذبائح ، باب ذبائح الكفّار ، الحديث 5.
5- الكافي 6 : 241 ، كتاب الذبائح ، باب ذبائح أهل الكتاب ، الحديث 17.

وأمّا إذا أبقي الطعام على عمومه فإنّ النكتة تكون حينئذ ظاهرة من حيث إنّ تعليق التحليل بالطيّبات يؤذن بأنّ طعام أهل الكتاب ليس محلّلا على الإطلاق ؛ إذ المانع منه لا ينفكّ من ملاقاة النجاسات غالبا أو من مخالطة بعض المحرّمات فيحسن لذلك إفراده بالذكر وبيان الرخصة في تحليله مطلقا.

وقد اعترف مورد هذا الإشكال بالعجز عن جوابه وترجّى من اللّه سبحانه أن يفتح عليه به.

وأرى الجواب عنه سهلا بعد ثبوت كون المراد من الآية هو الخصوص بدلالة النصوص ؛ فإنّ وجود النكتة على تقدير إبقاء الآية على عمومها من جهة احتمال عدم صدق وصف الطيّب على المائع للاعتبار الذي ذكره ينقدح بملاحظته وجود نحوه على تقدير التخصيص ؛ فإنّ الاحتمال قائم في الحبوب وشبهها ، وذلك لأنّ المباشرة بأيديهم والمزاولة في وقت التصفية وغيرها لا يؤمن معها ملاقاة ما يوجب التنجيس أو يقتضي الاستخباث ، فبيّن سبحانه أنّ قيام مثل هذا الاحتمال لا يخرج عن وصف الطيّب الذي علّق التحليل به.

ويحتمل الكلام وجها آخر وهو أن يكون الحكم بحلّ طعام أهل الكتاب للمسلمين وحلّ طعام المسلمين لأهل الكتاب كناية عن عدم إرادة قطع الوصلة بين الفريقين رأسا ، كما قد يشعر به المباينة الدينية ، وكون مساق جملة من الآيات السابقة على هذه الآية لبيان ما حرّم على المسلمين والكفّار يستحلّونه.

وقوله سبحانه في جملة تلك الآيات ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (1)

ص: 537


1- سورة المائدة : 3.

ثمّ قوله ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) (1) فغير مستبعد بعد هذا كلّه أن يقع في الوهم انقطاع الوصلة بين المسلمين والكفّار بكلّ وجه فذكر سبحانه ما يزيل الوهم وسوّغ للمسلمين إعطاء أهل الكتاب طعامهم بالبيع ونحوه وأباح لهم أخذ طعام أهل الكتاب كذلك وجعله دليلا على عدم التكليف بالتقاطع في مثل ذلك.

وفي الحقيقة لا بدّ من ارتكاب نحو هذا التقريب في ذكر حلّ طعام المسلمين لأهل الكتاب فيقرب اعتباره في الطرف الآخر هذا.

ويرد على التمسّك بالروايات في أصل الحجّة أنّه وإن كان أكثرها واضح الدلالة والأصل معها عضد قويّ إلّا أنّ موافقتها لأهل الخلاف يتطرّق به احتمال التقيّة.

وربّما كان في بعضها إشعار بذلك كقوله في رواية الكاهلي : أمّا أنا فلا أدعوه ولا اواكله وإنّي لأكره أن احرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم (2).

ثمّ إنّ مصير جمهور الأصحاب إلى القول بالتنجيس مقتض للاستيحاش في الذهاب إلى خلافه. بل قد ذكرنا أنّ جماعة ادّعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف. وكلام العلّامة في المنتهى ظاهر فيه أيضا (3).

وكأنّهم لم يعتبروا الخلاف المحكيّ في ذلك. أمّا من جهة المفيد فلأنّه موافق في أحد قوليه (4) ، ولعلّهم اطّلعوا على أنّه المتأخر. وأمّا ابن الجنيد فلأنّ

ص: 538


1- سورة المائدة : 4.
2- الكافي 6 : 263 ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمة ، الحديث 4.
3- منتهى المطلب 3 : 222.
4- المعتبر 1 : 95.

المشهور عنه العمل بالقياس فلا التفات إلى خلافه. وبالجملة فالمسألة قويّة الإشكال.

وقد اتّضح طريق الرأيين فيها للرائين وسلوك سبيل الاحتياط هو الراجح في نظر الورعين.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

ظاهر كلام جماعة من الأصحاب أنّ ولد الكافرين يتبعهما في النجاسة الذاتية ، بغير خلاف ؛ لأنّهم ذكروا الحكم جازمين به غير متعرّضين لبيان دليله كما هو الشأن في المسائل التي لا مجال للاحتمال فيها. وممّن ذكر الحكم كذلك العلّامة في التذكرة (1).

ولكنّه في النهاية أشار إلى نوع خلاف أو احتمال فيه ، فقال : الأقرب في أولاد الكفّار التبعيّة لهم (2).

وأنت إذا أحطت خبرا بما قرّرناه في نجاسة الكافر وجدت للتوقّف في الحكم بالنجاسة هنا على الإطلاق مجالا إن لم يثبت انعقاد الإجماع عليه.

وربّما استدلّ له بأنّه حيوان متفرّع من حيوانين نجسين فيثبت له حكمهما ، كالكلب والخنزير.

ويشكل بأنّ الظاهر كون المقتضي لثبوت الحكم في المتولّد من الحيوانين النجسين هو صدق اسم الحيوان النجس عليه لا مجرّد التولّد. وبهذا صرّح العلّامة في أثناء كلام له في المنتهى فقال : إنّ ولد الكلب ليس نجسا باعتبار

ص: 539


1- تذكرة الفقهاء 1 : 68.
2- نهاية الإحكام 1 : 274.

تولّده عن النجس بل باعتبار صدق اسم الكلب عليه (1).

وقد عرفت استشكاله في جملة من كتبه للحكم بنجاسة المتولّد بين الكلب والخنزير إذا كان مباينا لهما وحينئذ يكون الحكم في ولد الكافر موقوفا على صدق عنوان الكفر عليه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ بعض الأصحاب استثنى من الحكم بنجاسة ولد الكافر هنا ما إذا سباه المسلم.

واستشكل ذلك في بحث الجهاد بعدم الدليل عليه واقتضاء الاستصحاب بقاءه على النجاسة إلى أن يثبت المزيل.

ثمّ ذكر أنّ ظاهر الأصحاب عدم الخلاف بينهم في طهارته والحال هذه ، وإنّما اختلفوا في تبعيّته للمسلم في الإسلام بمعنى ثبوت أحكام المسلم له وهذا أمر آخر زائد على الحكم بالطهارة كما لا يخفى.

وصرّح الشهيد في الذكرى ب- [ بناء ] الحكم بطهارته أو نجاسته على الخلاف في تبعيّته للمسلم وعدمها حيث قال : ولد الكافرين نجس ولو سباه مسلم وقلنا بالتبعيّة طهر وإلّا فلا (2).

والتحقيق : أنّ احتمال بقاء النجاسة بعد سبي المسلم له ضعيف ؛ لما قد ظهر من انحصار المقتضي للحكم بالتنجيس قبله في الإجماع إن ثبت ، ولا ريب في انتفائه بالنظر إلى ما بعده.

والتمسّك باستصحاب النجاسة مردود بمنع العمل بالاستصحاب في مثله كما بيّناه في محلّه من مقدّمة الكتاب.

ص: 540


1- راجع تذكرة الفقهاء 1 : 66.
2- ذكرى الشيعة : 14 ، مبحث النجاسات ، الأعيان النجسة ، المسألة 14 ، الطبعة الحجرية.

وبهذا يظهر جودة احتجاج العلّامة وجماعة للحكم بطهارته حينئذ بأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة ، وضعف مناقشة بعض الأصحاب فيه بأنّ الأمر بالعكس ؛ لأنّ النجاسة تحقّقت بمجرّد الولادة فيجب استصحابها وهو أصل سالم عن معارضة يقين الطهارة.

وتوضيح وجه الجودة والضعف : أنّه لا ريب في أنّ الأصل في الأشياء كلّها الطهارة إلى أن يقوم على خلافها دليل وحيث إنّ الدليل المخرج عن حكم الأصل في موضع النزاع مخصوص بالحالة السابقة على الشي ء ، فالقدر المحقّق من المخالفة لأصالة الطهارة هو ذاك وما عداه باق على حكم الأصل لعدم قبول الاستصحاب إذا كان دليل الحكم المستصحب مقيّدا بحال كما مرّ.

[ الفرع ] الثاني :

نصّ جمع من الأصحاب على عدم الفرق في نجاسة الكافر بين ما تحلّه الحياة منه وما لا تحلّه.

وظاهر كلام العلّامة في المختلف عدم العلم بمخالف في ذلك سوى المرتضى (1) فإنّه حكم بطهارة ما لا تحلّه الحياة من نجس العين. وقد مرّت حكاية خلافه آنفا. وبيّنا أنّ الحجّة المحكيّة عنه في ذلك ضعيفة.

ولكنّ الدليل المذكور هناك للحكم بالتسوية بين جميع الأجزاء لا يتأتّى هنا لخلوّ الأخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك.

وقد نبّهنا على ما في التمسّك بالآيتين من الإشكال فلا يتمّ التعليق بهما في هذا الحكم حيث وقع التعليق فيهما بالاسم. وحينئذ يكون حكم ما لا تحلّه الحياة من الكافر خاليا من الدليل فيتّجه التمسّك فيه بالأصل إلى أن يثبت

ص: 541


1- مختلف الشيعة 1 : 472 ، كتاب الطهارة ، أصناف النجاسات.

المخرج عنه.

[ الفرع ] الثالث :

حكى في المعتبر عن الشيخ أنّه حكم في المبسوط بنجاسة المجبّرة والمجسّمة من فرق المسلمين. ولم يرتض ذلك المحقّق (1).

واحتجّ للطهارة : بأنّ النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة.

وبظواهر بعض الأخبار وافق الشيخ في المجسّمة جماعة من الأصحاب.

واختلف في ذلك كلام العلّامة ، فقال في المنتهى - بعد أن ذكر أنّ حكم الناصب والغالي حكم الكافر لإنكارهما ما علم ثبوته من الدين ضرورة - : وهل المجسّمة والمشبّهة كذلك؟ الأقرب المساواة ، لاعتقادهم أنّه تعالى جسم وقد ثبت أنّ كلّ جسم محدث (2) واختار هذا القول في التحرير والقواعد أيضا (3).

واستقرب في التذكرة والنهاية القول بالطهارة (4).

واتّفق للشهيد مثله فإنّه استضعف في الذكرى كلام الشيخ (5).

وعدّ في البيان المجسّمة بالحقيقة والمشبّهة كذلك في أقسام الكافر المنتحل للإسلام وهو جاحد لبعض ضروريّاته ، بعد حكمه بنجاسة الكافر بجميع

ص: 542


1- المعتبر 1 : 97 ، باب الأسآر ، الفرع الثاني.
2- منتهى المطلب 3 : 224.
3- تحرير الأحكام 1 : 5 ، الطبعة الحجرية ، وقواعد الأحكام 1 : 185 ، الطبعة المحققة الاولى.
4- تذكرة الفقهاء 1 : 68 ، ونهاية الإحكام 1 : 239 ، الفصل الخامس ، الأسآر.
5- ذكرى الشيعة : 13 ، الطبعة الحجرية.

أنواعه (1). وأطلق في الدروس نجاسة المجسّم (2).

وجزم بعض الأصحاب بنجاسة المجسّمة بالحقيقة وهم الذين يقولون : إنّ اللّه سبحانه جسم كالأجسام ، وتردّد في حكم المجسّمة بمجرّد التسمية وهم القائلون بأنّه تعالى جسم لا كالأجسام.

وناقشه بعضهم بأنّ الدليل الدالّ على التنجيس في الأوّل دالّ على الثاني ؛ فإنّ مطلق الجسمية توجب الحدوث.

وعندي في الدليل نظر ؛ لأنّ ظاهره كون المقتضي للنجاسة هو القول بالحدوث لا مجرّد التجسيم ، ومن البيّن أنّ المجسّم ينفي الحدوث قطعا فكأنّه يتخيّل برأيه الفاسد عدم المنافاة بين الجسميّة والقدم.

وأمّا حكم الشيخ بنجاسة المجبّرة فقد تكرّر نقله عنه في كلام المتأخّرين من دون تعرّض لحجّته بل اقتصر أكثرهم على تضعيفه (3).

وذكر في المنتهى في بحث الأسآر أنّه يمكن أن يكون مأخذ الشيخ في حكمه بنجاسة سؤر المجبّرة والمجسّمة قوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (4) ؛ والرجس النجس. ثمّ قال : وتنجيس سؤر المجبّرة ضعيف وفي المجسّمة قوّة (5).

ولا يخفى ما في الإحتجاج لقول الشيخ بمجرّد الآية من القصور.

ص: 543


1- البيان : 91 ، الطبعة المحققة الاولى.
2- الدروس الشرعيّة 1 : 124 ، الطبعة المحققة الاولى.
3- في « ب » : بل اقتصر بعضهم على تضعيفه.
4- سورة الأنعام : 125.
5- منتهى المطلب 1 : 161.

ولعلّ نظر الشيخ إلى ما ذكره بعض المفسّرين من دلالة قوله تعالى ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (1) الآية ، على كفر المجبّرة. وإذا ثبت كفرهم تناولهم دليل نجاسة الكافر.

وذكر في توجيه دلالة الآية على ذلك : أنّها إخبار بما سوف يقوله المشركون ، ثمّ لمّا قالوه قال سبحانه ( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (2) ، يعنون بكفرهم وتمرّدهم أنّ شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحلّ اللّه بمشيّة اللّه وإرادته ، ولو لا مشيّة اللّه لم يكن شي ء من ذلك كمذهب المجبّرة بعينه.

قال : ومعنى قوله سبحانه ( كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) جاءوا بالتكذيب المطلق لأنّ اللّه عزّ وعلا ركّب في العقول وأنزل في الكتب ما دلّ على غناه وبراءته من مشيّة القبائح وإرادتها والرسل خبّروا بذلك (3) ، فمن علّق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيّته وإرادته فقد كذّب التكذيب كلّه وهو تكذيب اللّه وكتبه ورسله ونبذ أدلّة العقل والسمع وراء ظهره.

وهذا التوجيه قريب. إلّا أنّ الكلام يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون المراد بالتكذيب تكذيب الرسل اللازم من قولهم هذا.

وبالجملة فدلالة الآية على بطلان قولهم ممّا لا ريب فيه. وأمّا إطلاق التكذيب عليه نفسه حتّى يكون كفرا فمحتمل كاحتمال إطلاقه على لازمه الذي هو عدم اتّباع الرسل.

ص: 544


1- سورة الأنعام : 148.
2- سورة الزخرف : 20.
3- في « ب » : والرسل أخبروا بذلك.
[ الفرع ] الرابع :

ذهب ابن إدريس إلى نجاسة من لم يعتقد الحقّ عدا المستضعف (1). حكى ذلك عنه جماعة من الأصحاب مجرّدا عن التعرّض لحجّته. وذكره عنه العلّامة في المنتهى عند حكايته قول الشيخ بنجاسة المجبّرة والمجسّمة كما سبق نقله (2).

وقال : إنّه يمكن أن يكون مأخذه ما احتمل كونه مأخذ الشيخ أعني قوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ ) (3) ، الآية.

وحكى فخر المحقّقين في شرحه عن المرتضى القول بنجاسة غير المؤمن لقوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ ) الآية. ولقوله تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ ) (4) و ( مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (5) والإيمان يستحيل مغايرته للإسلام فمن ليس بمؤمن ليس بمسلم.

ثمّ قال : ليس بجيّد لقوله تعالى ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) (6) ، ولقوله عليه السلام : « إنّما امرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه » ؛ والمراد هنا الإسلام استعمالا للّفظ الخاص في العام (7). هذا كلامه.

ص: 545


1- السرائر 1 : 84 ، في الأسآر.
2- منتهى المطلب 1 : 161.
3- سورة الأنعام : 125.
4- سورة آل عمران : 19.
5- سورة آل عمران : 85.
6- سورة الحجرات : 14.
7- الفوائد 1 : 27 ، مبحث النجاسات.

وينبغي أن يعلم أنّ الحجّة التي عزاها إلى المرتضى ليست وجها واحدا بل هي وجهان. والمناقشة التي أوردها عليها مختصّة بالوجه الثاني منها ، وضعفه بيّن ولم يتعرّض للأوّل ، وهو ضعيف أيضا لابتنائه على إرادة المعنى العرفي للإيمان من الآية. وليس ذلك بواضح ، وعلى كون المراد من الرجس النجس بالمعنى المعهود عند أهل الشرع وقد عرفت ما فيه.

[ الفرع ] الخامس :

حكى في التذكرة عن ابن إدريس أنّه حكم بنجاسة ولد الزنا وعلّله بأنّه كافر (1) ، وذكر في المختلف أنّ القول بكفره منقول عن السيّد المرتضى وابن إدريس (2). وقد مرّ في بحث الأسآر أنّ كلام الصدوق يشعر بذلك أيضا.

ثمّ إنّه في المختلف - بعد أن نسب القول بكفره إلى الجماعة - قال : وباقي علمائنا حكموا بإسلامه وهو الحقّ.

وقال في المعتبر : ربّما تعلّل المانع يعني من سؤر ولد الزنا بأنّه كافر ونحن نمنع ذلك ونطالبه بدليل دعواه. ولو ادّعى الإجماع كما ادّعاه بعض الأصحاب كانت المطالبة باقية فإنّا لا نعلم ما ادّعاه (3).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعتمد عندي هو القول بطهارته لكونها مقتضى الأصل والمخرج عنه غير معلوم.

وقد حاول العلّامة في المنتهى الاحتجاج للقول بكفره فقال : يمكن أن يستدلّ عليه بما رواه محمّد بن يعقوب بإسناده عن الوشّاء عمّن ذكره عن أبي

ص: 546


1- تذكرة الفقهاء 1 : 69 ، الطبعة المحققة.
2- مختلف الشيعة 1 : 231 ، الطبعة المحققة.
3- المعتبر 1 : 98 ، الأسآر ، نهاية الفرع الثاني.

عبد اللّه عليه السلام أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّما خالف الإسلام. وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب (1).

قال : ووجهه أنّه لا يريد بلفظة « كره » المعنى الظاهر له وهو النهي عن الشي ء نهي تنزيه لقوله « واليهوديّ » ؛ فإنّ الكراهة فيه تدلّ على التحريم فلم يبق المراد إلّا كراهة التحريم ، ولا يجوز أن يرادا معا وإلّا لزم استعمال المشترك في كلا معنييه أو استعمال اللفظ في معنيي الحقيقة والمجاز وذلك باطل.

ثمّ إنّه أجاب عن الاحتجاج : بالمنع من الحديث ؛ فإنّه مرسل. سلّمنا لكن قول الراوي « كره » ليس إشارة إلى النهي بل الكراهة التي في مقابلة الإرادة.

وقد يطلق على ما هو أعمّ من المحرّم والمكروه. سلّمنا. لكن الكراهة قد تطلق على النهي المطلق فليحمل عليه (2).

وهذا الجواب واضح. وفي الاحتجاج تعسّف ظاهر.

ويوجد في كلام بعض المتأخّرين نسبته إلى القائل بكفره. والجواب عنه بنحو ما ذكره العلّامة. والحال على ما حكيناه.

مسألة [11] :

ذهب الشيخ رحمه اللّه في بعض كتبه إلى أنّ المسوخ نجسة (3).

حكى ذلك عنه جماعة وعزى في المختلف إلى سلّار وابن حمزة موافقته (4).

ص: 547


1- الكافي 3 : 11 ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء من سؤر الحائض والجنب ، الحديث 6.
2- منتهى المطلب 1 : 160.
3- المبسوط 2 : 166 ، والخلاف 2 : 184.
4- مختلف الشيعة 1 : 466.

ويحكى عن بعض الأصحاب أنّه حكم بنجاسة لعابها ، وقد ذكرنا في بحث الأسآر أنّ كلام سلّار في الرسالة صريح في نجاسة اللعاب ، ومحتمل لنجاسة العين (1) ، وأنّ ظاهر كلام ابن الجنيد يعطي القول بنجاستها أو نجاسة لعابها.

وقال أكثر الأصحاب بطهارة غير الخنزير منها عينا ولعابا. وهو الأظهر.

لنا الأصل ، وما رواه الشيخ عن الفضل أبي العبّاس قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه. فقال : لا بأس به. حتّى انتهيت إلى الكلب ، فقال : رجس نجس » (2). الحديث.

وقد مرّ في بحث الأسآر ، وأشرنا إلى جودة سنده ، وإن لم يتّضح لنا بلوغه حدّ الصحّة فمثله كاف مع الأصل.

ولا يخفى أنّ الحديث كما يدلّ على طهارة العين لكون نجاستها منافية لطهارة السؤر ، كذلك يدلّ على طهارة اللعاب ؛ لعدم انفكاك السؤر عن ملاقاته.

حجّة القائلين بالتنجيس - على ما ذكره العلّامة في المختلف وجماعة - : أنّ بيعها محرّم ولا وجه لذلك إلّا النجاسة (3).

وذكروا أنّ الحجّة في تحريم بيعها رواية مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله نهى عن القرد أن يشترى أو يباع » (4).

والجواب المنع من تحريم البيع أوّلا فإنّ الرواية التي ذكرت دليلا عليه

ص: 548


1- راجع مبحث الأسآر : 357.
2- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 646.
3- مختلف الشيعة 1 : 467.
4- في « أ » : أن تشترى أو تباع. راجع تهذيب الأحكام 7 : 4. الحديث 594.

ضعيفة السند جدّا ، مع كونها مختصّة بالقرد.

ثمّ يمنع ثانيا كون المقتضي لحرمة البيع هو النجاسة ويطالب بالدليل على انحصار المقتضي بينها.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ بيان أنواع المسوخ مرويّ في عدّة أخبار أقواها إسنادا ما رواه الشيخ عن الحلبي في الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إنّ الضبّ والفأرة والقرد والخنازير مسوخ » (1).

وما رواه في الصحيح عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن الحسن الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : « الفيل مسخ كان ملكا زانيا (2) ، والذيب كان أعرابيّا ديّوثا ، والأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها ، والوطواط مسخ كان يسرق من تمور الناس ، والقردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت ، والجرّيث والضبّ فرقة من بني إسرائيل (3) حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم لم يؤمنوا فتاهوا فوقعت فرقة في البحر ، وفرقة في البرّ ، والفأرة هي الفويسقة (4) ، والعقرب كان نمّاما ، والدبّ والوزغ والزنبور كان لحّاما يسرق في الميزان » (5).

ص: 549


1- تهذيب الأحكام 9 : 39 ، الحديث 163.
2- في « أ » و « ب » : ملكا زنا.
3- في « أ » و « ب » : فرقة من بني إسرائيل.
4- في « ب » : الوسيقة ، وفي « ج » : العويسقة.
5- تهذيب الأحكام 9 : 39 ، الحديث 166.
مسألة [12] :

وأوجب الشيخ في النهاية غسل ما يصيبه الثعلب أو الأرنب أو الفأرة أو الوزغة من الثوب أو البدن مع الرطوبة (1).

وقرنها في هذا الحكم مع الكلب والخنزير مع أنّه في باب المياه من هذا الكتاب نفى البأس عمّا وقعت فيه الفأرة من الماء الذي في الآنية إذا خرجت منه. وكذا إذا شربت. وقال : إنّ الأفضل ترك استعماله على كلّ حال ، وقد مرّ نقل ذلك عنه (2).

واقتصر المفيد في المقنعة على الفأرة والوزغة فجعلهما كالكلب والخنزير في غسل الثوب إذا مسّاه برطوبة وأثّرا فيه (3).

وحكى في المختلف عن أبي الصلاح أنّه أفتى بنجاسة الثعلب والأرنب وهو قول السيّد أبي المكارم بن زهرة أيضا (4).

وقد سبق في آخر مباحث الماء المطلق حكاية كلام للصدوقين يؤذن بالقول بنجاسة الوزغ (5).

وفي رسالة الصدوق الأوّل ما يظهر منه القول بنجاسة الفأرة أيضا.

ص: 550


1- النهاية ونكتها 1 : 267.
2- في « ب » : وقد نقل ذلك عنه.
3- المقنعة : 70.
4- مختلف الشيعة 1 : 464 ، وراجع الكافي في الفقه : 131.
5- في « أ » : للصدوق يؤذن بالقول بنجاسة الوزغ. راجع الصفحة : 245.

ويعزى إلى ابن إدريس القول بطهارة الجميع (1). وذكر المحقّق أنّه الظاهر من كلام المرتضى في بعض كتبه (2). وهو اختيار الفاضلين (3). وحكاه في المختلف عن والده ، وعليه جمهور المتأخّرين. وهو الأقرب.

لنا أصالة الطهارة معتضدة في الجميع بعموم رواية أبي العبّاس وقد مرّت عن قرب وبعد (4).

وفي خصوص الثعلب والأرنب بظاهر صحيحة محمّد بن مسلم ، ورواية أبي الصباح عن أبي عبد اللّه عليه السلام في نفي البأس عن الوضوء بفضل السنّور حيث قال في الاولى بعد نفيه للبأس : « إنّما هي من السباع » (5). وفي الثانية : « إنّما هي سبع » (6). وكلاهما ظاهر في تعدية الحكم لغيره من السباع إلّا ما أخرجه الدليل.

وفي خصوص الفأرة والوزغة بما رواه الشيخ عن عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن العظاية (7) والحيّة والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا بأس. وسألته عن فأرة وقعت في حبّ

ص: 551


1- مختلف الشيعة 1 : 464 ، وراجع السرائر 1 : 187.
2- راجع الجوامع الفقهية : 216.
3- المعتبر 1 : 426 ، ومختلف الشيعة 1 : 465.
4- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 646.
5- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 644.
6- تهذيب الأحكام 1 : 227 ، الحديث 653.
7- في « ب » : العضاية.

دهن فاخرجت منه قبل أن تموت أبتيعه من مسلم؟ قال : نعم وتدهن منه » (1).

وفي الصحيح عن سعيد الأعرج قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة تقع في السمن والزيت ثمّ تخرج منه حيّا؟ فقال : لا بأس بأكله » (2).

وفي الصحيح عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ أبا جعفر كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن يشرب منه ويتوضّأ منه » (3).

حجّة المخالف على ما في المختلف ما رواه الشيخ عن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي على الثياب أتصلي فيها؟ قال : اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء » (4).

وما رواه في الصحيح عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته هل يجوز أن يمسّ الثعلب (5) والأرنب أو شيئا من السباع حيّا أو ميّتا؟ قال : لا يضرّه ولكن يغسل يده » (6).

وما رواه عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال :

ص: 552


1- تهذيب الأحكام 1 : 419 ، الحديث 1326.
2- تهذيب الأحكام 9 : 86 ، الحديث 326.
3- تهذيب الأحكام 1 : 419 ، الحديث 1323.
4- تهذيب الأحكام 1 : 261 ، الحديث 761.
5- في « ب » : أن يمسّ الثعلب الأشياء.
6- تهذيب الأحكام 1 : 263 ، الحديث 763.

« سئل عن الكلب والفأرة إذا أكلا من الخبز وشبهه؟ قال : تطرح منه ويؤكل الباقي. وعن العظاية يقع في اللبن؟ قال : يحرم اللبن. وقال : إنّ فيها السمّ » (1).

وما رواه عن معاوية بن عمّار في الصحيح قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : ينزح منها ثلاث دلاء » (2).

ولو لا نجاسة الوزغة لما وجب لها النزح بالموت ؛ فإنّ الموت إنّما يقتضي التنجيس في ذي النفس السائلة لا مطلقا.

وروى الشيخ عن عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز أو شمّاه أيؤكل؟ قال : يطرح ما شمّاه ويؤكل ما بقي » (3).

والجواب : أنّ ما يدلّ من هذه الأخبار على نجاسة الفأرة والوزغة معارض بما دلّ على طهارتهما في حجّتنا.

وطريق الجمع حمل أخبار التنجيس على استحباب التنزّه عنهما.

قال المحقّق رحمه اللّه - بعد أن ذكر أنّ حديث سعيد الأعرج (4) معارض للرواية المتضمّنة للأمر بالغسل من أثر الفأرة - : ومن البيّن استحالة أن ينجس الجامد ولا ينجس المائع. ولو ارتكب هذا مرتكب لم يكن له في الفهم نصيب (5). وما قاله جيّد.

ص: 553


1- تهذيب الأحكام 1 : 284 ، الحديث 832.
2- تهذيب الأحكام 1 : 238 ، الحديث 688.
3- تهذيب الأحكام 1 : 229 ، الحديث 663.
4- راجع الصفحة 552 ( من هذا الكتاب ).
5- المعتبر 1 : 426 - 427.

ثمّ إنّ الحديث المتضمّن لحكم الثعلب والأرنب ضعيف السنة ؛ لإرسال يونس له ، وكون الراوي عنه فيه محمّد بن عيسى ، وقد حكى النجاشي عن أبي جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنّه قال : ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه (1).

وقال الشيخ : إنّه ضعيف استثناه أبو جعفر بن بابويه من رجال نوادر الحكمة. وقال : لا أروي ما يختصّ بروايته (2).

واحتجّ ابن زهرة لنجاسة الثعلب والأرنب بالإجماع ، وذلك ديدنه في أكثر المسائل الفقهيّة (3). وكأنّه يعني به كونه مشهورا.

مسألة [13] :

قال المفيد في المقنعة : يغسل الثوب من عرق الإبل الجلّالة إذا أصابه كما يغسل من ساير النجاسات (4).

وذكر الشيخ في النهاية نحوه فقال : إذا أصاب الثوب عرق الإبل الجلّالة وجب عليه إزالته (5). وحكى في المختلف عن ابن البرّاج أنّه وافقهما (6).

ص: 554


1- رجال النجاشي : 333.
2- الفهرست : 140.
3- غنية النزوع ( من الجوامع الفقهية ) : 489.
4- المقنعة : 71.
5- النهاية ونكتها 1 : 268.
6- مختلف الشيعة 1 : 461.

وقال ابن زهرة : ألحق أصحابنا بالنجاسات عرق الإبل الجلّالة (1).

وقال سلّار : عرق جلّال الإبل يوجب أصحابنا إزالته وهو عندي ندب (2).

وحكم العلّامة بطهارته ، وذكر أنّه المشهور ، وحكاه بالخصوص عن سلّار وابن إدريس (3). وهو المعروف بين المتأخّرين.

احتجّ الشيخ بما رواه في الحسن عن حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تشرب من ألبان الإبل الجلّالة. وإن أصابك شي ء من عرقها فاغسله » (4).

وما رواه في الصحيح عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن هشام ابن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تأكلوا اللحوم الجلّالة. وإن أصابك من عرقها فاغسله » (5).

واحتجّ العلّامة في المختلف بأنّ الأصل الطهارة وأنّ الإبل الجلّالة ليست نجسة فلا ينجس عرقها كغيرها من الحيوانات الطاهرة وكالجلّال من غيرها (6).

وذكر المحقّق في المعتبر - بعد أن حكى قول سلّار - أنّ استناده إلى الأصل وأنّه يجري مجرى عرق الحيوانات الطاهرة وإن لم يؤكل لحمها كعرق السنّور والنمر والفهد.

ص: 555


1- غنية النزوع ( من الجوامع الفقهية ) : 489.
2- المراسم العلوية : 56.
3- مختلف الشيعة 1 : 461 ، وراجع السرائر 1 : 181.
4- تهذيب الأحكام 1 : 263 ، الحديث 766.
5- تهذيب الأحكام 1 : 263 ، الحديث 768.
6- مختلف الشيعة 1 : 461 و 462.

قال : وتحمل الرواية على الاستحباب (1). يعني رواية هشام ؛ لأنّه أشار قبل ذلك إلى دلالتها على ما ذكره الشيخان. وبنحو هذا أجاب العلّامة في المختلف عن احتجاج الشيخ ؛ فإنّه قال : إنّ الحديثين محمولان على الاستحباب (2).

وللنظر في كلامهما مجال إن ثبتت صحّة الحديث الثاني ؛ فإنّ حمله على الاستحباب من دون معارض غير متّجه على رأيهما في الأمر.

والتمسّك بالأصل إنّما يجدي (3) حيث لا يوجد المخرج عنه وقد فرض وجوده.

وتشبيهه بغيره من عرق الحيوانات الطاهرة لا معنى له بعد ورود النصّ المقتضي للفرق. ومن هنا قال العلّامة في المنتهى بعد حكمه بالطهارة في أوّل المسألة واحتجاجه بالأصل وجوابه عن حجّة الشيخ بما يقرب من كلام المختلف : إنّ الحديثين قويّان ولأجل ذلك جزم الشيخ بوجوب إزالته. قال :

وعليه أعمل ولا ريب أنّه أحوط (4).

مسألة [14] :
اشارة

قال الشيخ علي بن بابويه في رسالته : إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه ، إن كانت من حرام فحرام الصلاة

ص: 556


1- المعتبر 1 : 414 - 415.
2- مختلف الشيعة 1 : 463.
3- في « ب » : إنّما يجري
4- منتهى المطلب 3 : 232 - 235.

فيه. وذكر نحو هذا ولده في كتاب من لا يحضره الفقيه (1).

وقال المفيد في المقنعة : لا يجب غسل الثوب من عرق الجنب إلّا أن تكون الجنابة من حرام فيغسل ما أصابه عرق صاحبها من جسد وثوب (2).

وقال ابن الجنيد في المختصر : عرق الحائض لا ينجّس الثوب وكذلك عرق الجنب من حلال فإن كان أجنب من حرام غسل الثوب منه.

وقال الشيخ في الخلاف : عرق الجنب إذا كانت الجنابة من حرام حرام الصلاة فيه (3).

وفي النهاية : لا بأس بعرق الحائض والجنب في الثوب واجتنابه أفضل إلّا أن تكون الجنابة من حرام فإنّه يجب غسل الثوب إذا عرق فيه (4).

وعزى في المختلف إلى ابن البرّاج وفاق الجماعة كما في المسألة السابقة (5). وذكر ابن زهرة هنا نحو ما ذكره هناك فقال : إنّ أصحابنا ألحقوا بالنجاسات عرق الجنب إذا أجنب من الحرام (6).

وسلّار أيضا سوّى بين المسألتين في الحكم فنسب إيجاب إزالة هذا العرق إلى أصحابنا واختار كونه على جهة الندب (7).

ص: 557


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 67 ، طبعة جماعة المدرسين.
2- المقنعة : 71.
3- الخلاف 1 : 483.
4- النهاية ونكتها 1 : 268.
5- مختلف الشيعة 1 : 361 ، وراجع المهذّب 1 : 51.
6- غنية النزوع ( من الجوامع الفقهية ) : 489.
7- المراسم العلوية : 52.

ويحكى عن ابن إدريس القول بالطهارة وهو اختيار الفاضلين وجمهور المتأخّرين وإليه أذهب (1).

لنا أصل الطهارة معتضدا بعموم ما رواه الشيخ في الحسن عن أبي اسامة قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الجنب يعرق في ثوبه أو يغتسل فيعانق امرأة ويضاجعها وهي حائض أو جنب فيصيب جسده من عرقها؟ قال : هذا كلّه ليس بشي ء » (2).

وعدم الاستفصال في مثله يشعر بالعموم ولو لم يكن في اللفظ ما يدلّ عليه.

وما رواه عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا يجنب الثوب الرجل ولا يجنب الرجل الثوب » (3).

وعن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتّى يبتلّ القميص؟ فقال : لا بأس وإن أحبّ أن يرشّه بالماء فليفعل » (4). وغير ذلك من الروايات.

احتجّ الشيخ في الخلاف بإجماع الفرقة ، وطريقة الاحتياط ، والأخبار. ولم يتعرّض لنقلها بل أحالها على كتابي الحديث (5).

وجملة ما وقفنا عليه في الكتابين من الروايات التي تخيّل فيها الدلالة على هذا المعنى حديثان :

ص: 558


1- السرائر 1 : 181 ، والمعتبر 1 : 415 ، ومختلف الشيعة 1 : 461.
2- تهذيب الأحكام 1 : 268 ، الحديث 786.
3- تهذيب الأحكام 1 : 268 ، الحديث 788.
4- تهذيب الأحكام 1 : 269 ، الحديث 791.
5- الخلاف 1 : 483.

أحدهما : رواه عن محمّد الحلبي في الصحيح قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال : يصلّي وإذا وجد الماء غسله » (1).

قال في التهذيب : لا يجوز أن يكون المراد بهذا الخبر إلّا من عرق في الثوب من جنابة إذا كانت من حرام ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ نفس الجنابة [ لا تتعدّى ] إلى الثوب. وذكرنا أيضا أنّ عرق الجنب لا ينجّس الثوب ، فلم يبق معنى يحمل عليه الخبر إلّا عرق الجنب من حرام ، فحملناه عليه. ثمّ قال :

على أنّه يحتمل أن يكون المعنى فيه أن يكون أصاب الثوب نجاسة فحينئذ يصلّي فيه ويعيد (2). وجعل هذا الاحتمال في الاستبصار أشبه (3).

والحديث الثاني : ما رواه في الصحيح عن عاصم بن حميد عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الثوب يجنب فيه الرجل ويعرق فيه؟ فقال : أمّا أنا فلا احبّ أن أنام فيه. وإن كان الشتاء فلا بأس ما لم يعرق فيه » (4).

قال الشيخ : الوجه في هذا الخبر ضرب من الكراهيّة وهو صريح فيه. ويمكن أن يكون محمولا على أنّه إذا كانت الجنابة من حرام.

ولا يخفى عليك ما في الاستناد إلى هذين الخبرين في إثبات الحكم من التعسّف ؛ فإنّ الأوّل ظاهر في كون المقتضي لغسل الثوب هو إصابة المنيّ له. وقد رأيت اعتراف الشيخ في الاستبصار بأنّه أشبه. وظاهر الخبر الثاني

ص: 559


1- تهذيب الأحكام 1 : 271 ، الحديث 799 ، والاستبصار 1 : 185.
2- تهذيب الأحكام 1 : 271.
3- الاستبصار 1 : 187.
4- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، الحديث 1331 ، والاستبصار 1 : 188 ، الحديث 656.

أنّ المقتضي لثبوت البأس مع العرق في الثوب هو احتمال سريان النجاسة الحاصلة بالمنيّ.

والعجب من الشيخ رحمه اللّه كيف احتمل في هذا الحديث إرادة الجنابة من الحرام مع قول الإمام فيه : « أمّا أنا فلا احبّ أن أنام فيه ».

وبقي الكلام في احتجاجه بالإجماع ، وقد أشار في المعتبر إلى القدح فيه فذكر أنّ الشيخ في المبسوط تردّد في الحكم (1). وقال الشهيد في الذكرى : أنّ الشيخ نسب الحكم بنجاسة عرق الجنب من الحرام في المبسوط إلى رواية الأصحاب وأنّه قوّى الكراهية (2).

وبالجملة فالإجماع الذي يوجد في كلام الشيخ وكثير من الأصحاب محمول في الغالب على خلاف معناه المصطلح عليه ، كما مرّت الإشارة إليه في بحث الإجماع من مقدّمة الكتاب ، فلا يتمّ التمسّك به هنا.

وطريقة الاحتياط لا تصلح لتأسيس الأحكام بمجرّدها ، وإنّما لتفيد الأولويّة في الجملة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الشهيد في الذكرى بعد أن حكى عن المبسوط نسبة الحكم إلى رواية الأصحاب قال : ولعلّ ما رواه محمّد بن همّام بإسناده إلى إدريس بن يزداد الكفرثوثي أنّه كان يقول بالوقف فدخل سرّ من رأى في عهد أبي الحسن عليه السلام وأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيصلّي فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب لانتظاره عليه السلام حرّكه أبو الحسن عليه السلام بمقرعة وقال مبتديا : « إن كان من حلال فصلّ فيه وإن كان من حرام فلا تصلّ

ص: 560


1- المعتبر 1 : 415 ، وراجع المبسوط 1 : 91.
2- ذكرى الشيعة : 14.

فيه » (1). ثمّ قال :

وروى الكليني بإسناده إلى الرضا عليه السلام : « في الحمّام يغتسل فيه الجنب من الحرام » (2) ، وعن أبي الحسن عليه السلام : « لا يغتسل من غسالته فإنّه يغتسل فيه من الزنا ».

وهذه الروايات الثلاث لم أر من تعرّض لها في هذا الحكم قبله وهي أقرب إليه من حيث الدلالة سيّما الاولى فإنّها ظاهرة في ذلك إلّا أنّ طريقي الروايتين الأخيرتين ضعيفان على ما في الكافي. والاولى لم أقف عليها في كتب الحديث الموجودة الآن عندنا بعد التتبّع بقدر الوسع فحال إسنادها غير واضح ولا يبعد ضعفه وإلّا لذكره بكماله أو نبّه على صحّته.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

قال العلّامة في المنتهى : لا فرق - يعني في الحكم بنجاسة العرق المذكور على القول بها - بين أن يكون الجنب رجلا أو امرأة ، ولا بين أن يكون الجنابة من زنا أو لواط أو وطي بهيمة أو وطي ميتة وإن كانت زوجة ، وسواء كان مع الجماع إنزال أو لا. والاستمناء باليد كالزنا.

أمّا لو وطئ في الحيض أو الصوم فالأقرب طهارة العرق فيه. وفي المظاهرة إشكال. قال : ولو وطئ الصغير أجنبيّة وألحقنا به حكم الجنابة بالوطي ففي نجاسة عرقه إشكال ينشأ من عدم التحريم في حقّه (3).

ص: 561


1- ورواه في وسائل الشيعة عن الذكرى أيضا ، راجع أبواب النجاسات : الباب 27.
2- الكافي 6 : 503 ، الحديث 38.
3- منتهى المطلب 1 : 235.

والتحقيق : أنّ الكلام في هذه الفروض موقوف على ملاحظة دليل أصل الحكم ، ولم يتّضح على ما ينبغي.

[ الفرع ] الثاني :

قال ابن الجنيد في المختصر - بعد أن حكم بوجوب غسل الثوب من عرق الجنب من حرام - : وكذلك عندي الاحتياط إن كان جنبا من حلم ثمّ عرق في ثوبه.

ولا نعرف لهذا الكلام وجها ولا رأينا له فيه رفيقا.

[ الفرع ] الثالث :

قال المحقّق في المعتبر : الحائض والنفساء والمستحاضة والجنب من الحلال إذا خلا الثوب من عين النجاسة فلا بأس بعرقهم إجماعا (1).

ويدلّ على ما ذكره بالنظر إلى الجنب مع الإجماع : الروايات التي ذكرناها في صدر المسألة ، وفي الرواية الاولى دلالة على حكم الحائض أيضا. وفي حكمها أخبار اخر كثيرة. منها :

ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمّار قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحائض تعرق في ثيابها أتصلّي فيها قبل أن تغسلها؟ قال : نعم لا بأس » (2).

وورد في بعض الأخبار أمرها بغسل الثوب الذي عرقت فيه. وهو - مع عدم صلاحيّته من حيث السند لمقاومة ما دلّ على نفي البأس - محمول على ما هو الغالب من عدم انفكاك الثوب من إصابة الدم أو آثاره أو على استحباب الغسل لقيام الاحتمال بالاعتبار الذي قلناه.

ص: 562


1- المعتبر 1 : 415.
2- تهذيب الأحكام 1 : 423 ، الحديث 1340.
مسألة [15] :

ذكر جماعة من الأصحاب منهم الفاضلان : أنّ الشيخ عزى في المبسوط إلى بعض أصحابنا القول بنجاسة القى ء. والمشهور بين علمائنا طهارته بحيث لا يعرف المخالف ، ولا نقل الخلاف غالبا إلّا بهذه الصورة (1). والأصحّ الطهارة.

لنا : أنّ مقتضى الأصل ذلك فيجب التمسّك به إلى أن يقوم على خلافه دليل. ويؤيّده ما رواه الشيخ عن عمّار الساباطي قال : « سألته عن القي ء يصيب الثوب فلا يغسل؟ قال : لا بأس » (2).

وعن عمّار قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يتقيّأ في ثوبه أيجوز أن يصلّي فيه ولا يغسله؟ قال : لا بأس » (3).

وأمّا القول بالتنجيس فلم يتعرّض لذكر حجّته من الأصحاب سوى العلّامة في المختلف فذكر له حجّة ركيكة واهية حاصلها : القياس على الغائط والدم. أمّا الأوّل فيجامع كون كلّ منهما قذرا متغيّرا خرج من آدميّ ، وكون كلّ منهما ناقضا للوضوء. وأمّا الثاني فيجامع كونهما خارجين من الإنسان من غير السبيلين (4). وأمثال هذا الاحتجاج لا يستحقّ.

وقد روى الشيخ عن عثمان بن عيسى عن أبي هلال قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام أينقض الرعاف والقيّ ونتف الإبط الوضوء؟ فقال : وما تصنع

ص: 563


1- المعتبر 1 : 419 ، ومختلف الشيعة 1 : 460 ، والمبسوط 1 : 38.
2- تهذيب الأحكام 1 : 423 ، الحديث 1340.
3- الكافي 3 : 406 ، الحديث 13.
4- مختلف الشيعة 1 : 460 - 461.

بهذا. هذا قول المغيرة بن سعيد. لعن اللّه المغيرة. يجزيك من الرعاف والقي أن تغسله ، ولا تعيد الوضوء » (1).

فيمكن أن يحتجّ للقول بالنجاسة هنا بالأمر بالغسل منه في هذا الحديث. وجوابه المطالبة بصحّة السند أوّلا ، والحمل على الاستحباب ثانيا ؛ جمعا بينه وبين رواية عمّار.

مسألة [16] :

الظاهر من كلام ابن الجنيد الحكم بنجاسة لبن الصبيّة ؛ لما رواه محمّد بن أحمد ابن يحيى عن إبراهيم بن هاشم عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه : أنّ عليّا عليه السلام قال : « لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن يطعم لأنّ لبنها يخرج من مثانة امّها » (2). الحديث.

وطريق هذه الرواية ضعيف ، فلا تصلح مخرجا عمّا يقتضيه الأصل ، ومن ثمّ قال جمهور الأصحاب بالطهارة إذ لم ينقلوا الخلاف في ذلك إلّا عنه.

وربّما ظهر من كلام الصدوق في من لا يحضره الفقيه القول بذلك أيضا حيث ذكر الرواية فيه (3) ، وقد تكرّرت حكاية قوله في أوّله : أنّه لا يورد فيه إلّا ما يفتي به ويحكم بصحّته. ومحلّ ذكره لهذه الرواية غير بعيد عن إعطاء القاعدة.

وذكرها والده أيضا في رسالته. لكنّه لم يظهر منه التزام ما التزمه ولده

ص: 564


1- تهذيب الأحكام 1 : 349 ، الحديث 1026.
2- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 718.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 40.

من التقيّد في ذكر الأخبار بما يفتي به مع التصريح بكونه خبرا.

وكيف كان ، المشهور بين الأصحاب القول بالطهارة ؛ استضعافا للرواية وهو الأظهر. وذكر جماعة منهم حمل الرواية على الاستحباب ولا بأس به.

مسألة [17] :

قال المحقّق في المعتبر : ما يتولّد في النجاسات كدود الحش وصراصره ، في نجاسته تردّد.

وجه النجاسة : أنّها كائنة عن النجاسة فيبقى عليها.

ووجه الطهارة : الأحاديث الدالّة على طهارة ما مات فيه حيوان لا نفس له من غير تفصيل. وترك التفصيل دليل إرادة الإطلاق ، ولأنّ تولّده في النجاسة معلوم ، أمّا منها فغير معلوم فلا يحكم بنجاسته وإن لاقى النجاسة إذا خلا من عينها (1).

ولا يخفى عليك قوّة توجيه الطهارة. وبها جزم العلّامة في المنتهى وغيره محتجّا بما نبّه عليه المحقّق (2).

وحكى في المنتهى عن بعض العامّة القول بنجاسة ما هذا شأنه ؛ لأنّه كائن عن النجاسة فيكون نجسا كولد الكلب والخنزير.

وأجاب عنه بمنع المقدّمتين ، فإنّ المعلوم إنّما هو تولّده في النجاسة لا منها. ولو سلّم ، منع من نجاسة المتولّد من النجس ، وولد الكلب ليس نجسا باعتبار

ص: 565


1- المعتبر 1 : 102.
2- منتهى المطلب 1 : 170.

تولّده عن النجس ، بل باعتبار صدق اسم الكلب عليه ، بخلاف موضع النزاع (1).

وهذا كلام جيّد وقد أشرنا إليه في بحث نجاسة ولد الكافر (2). والاعتماد عندي هنا على الطهارة.

ص: 566


1- المصدر 1 : 170.
2- راجع ذيل مبحث نجاسة الكافر ، الفرع الأوّل : 539.

الفصل الثاني : في أحكام النجاسات

اشارة

وفيه أبحاث

ص: 567

ص: 568

البحث الأوّل : في بيان ما يتحقّق معه التنجيس بها شرعا وما يجب إزالته منها عن الثياب والبدن للصلاة وما يعفى عنه
مسألة [1] :
اشارة

كلّ نجاسة عينيّة فهي مؤثّرة مع الملاقاة بالرطوبة نجاسة ما يلاقيه في الجملة ، عدا الماء فإنّ فيه تفصيلا قد سبق. وأمّا مع انتفاء الرطوبة فلا نعلم خلافا في عدم التأثير إلّا في الميتة فإنّ للأصحاب فيها أقوالا :

أحدها : أنّها مؤثّرة حينئذ مطلقا وهو صريح كلام العلّامة في النهاية (1). وظاهره في موضع آخر من كتبه وفي بعض عبارات المحقّق إشعار به (2).

وثانيها : عدم تأثيرها بدون الرطوبة مطلقا كغيرها من النجاسات. صرّح به بعض المتأخّرين.

وثالثها : التفصيل بموافقة الأوّل في ميتة الآدمي ، والثاني في ميتة غيره. اختاره جماعة من الأصحاب منهم العلّامة في التذكرة (3) والشهيد في الذكرى (4).

ص: 569


1- نهاية الإحكام 1 : 292.
2- المعتبر 1 : 454.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 60.
4- ذكرى الشيعة : 16.

وربّما ظهر من كلام العلّامة في المنتهى قول رابع وهو موافقة القول الأوّل في الآدميّ مطلقا ، والثاني في إيجاب غسل ما يلاقيه ميتة غير الآدميّ لا في نجاسته (1). وكأنّه بناه على عدم دلالة الأمر بالغسل على حصول التنجيس.

ويرد عليه : أنّ أكثر أنواع النجاسات استدلّ على نجاستها بإيجاب غسلها.

وكلامه بالنظر إلى الحكم الأوّل واضح. وأمّا بالنظر إلى الثاني فهذه عبارته :

« لا فرق بين أن يمسّ الميتة برطوبة أو لا في إيجاب غسل اليد خاصّة ».

ثمّ قال بعد ذلك « تعليل : هل ينجس اليد لو كانت الميتة يابسة؟ فيه نظر.

ينشأ من كون النجاسات العينيّة يابسة غير مؤثّرة في الملاقي ، ومن عموم وجوب الغسل وإنّما تكون مع التنجيس ، وحينئذ يكون نجاستها عينيّة أو حكميّة. الأقرب الثاني ، فلو لامس رطبا قبل غسل يده لم يحكم بنجاسة على إشكال » (2). هذا كلامه.

ولو لا ما ذكره أخيرا من الترديد بين كونها عينيّة أو حكميّة على تقدير اختيار النجاسة لأمكن حمل أوّل الكلام على التردّد في كونها عينيّة.

ثمّ إنّ البحث هنا في أصل التنجيس. وأمّا كونه عينا أو حكما فسيأتي الكلام فيه.

حجّة القول الأوّل بالنظر إلى ميتة الآدميّ : إطلاق الأمر بغسل الثوب إذا أصاب جسد الميّت في حسنة الحلبي ورواية إبراهيم بن ميمون وقد تقدّمتا في نجاسة الميتة (3).

ص: 570


1- منتهى المطلب 3 : 195 - 196.
2- منتهى المطلب 2 : 458 - 459.
3- تهذيب الأحكام 1 : 276 ، الحديث 812 و 811.

وبالنظر إلى ميتة غير الآدمي مرسلة يونس بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته : هل يجوز أن يمسّ الثعلب والأرنب أو شيئا من السباع حيّا أو ميّتا؟ قال : لا يضرّه ولكن يغسل يده » (1).

وتقريب الدلالة في الأمرين واحد وهو ترك الاستفصال عن كون الماء والمسّ برطوبة أو غيرها وهو دليل على تعميم الحكم وانتفاء الفرق.

وحجّة الثاني : أنّ عموم هذه الروايات معارض بقوله عليه السلام : « كلّ يابس زكيّ » (2). فكأنّه رأى تخصيصها به مع أنّه من جهة السند لا يصلح لمقاومة الحديث الحسن فيشكل جعله مخصّصا له.

وحجّة الثالث - فيما وافق به الأوّل - : هو حجّته فيه بعينها بحسب كون الإصابة. وفيما وافق به الثاني : أنّ رواية يونس [ لا تصلح ] لإثبات الحكم فيمكن الاستناد في نفي التنجيس حينئذ إلى الأصل أو إلى حجّة الثاني.

وقد جعل في الذكرى وجه عدم صلاحيّة الرواية لذلك : أنّ التسوية فيما بين الحيّ والميّت من الأشياء المعدودة فيها يشعر بالاستحباب لطهارتها حال الحياة. قال : فيحمل على اليبوسة ؛ للفرق مع الموت والرطوبة قطعا (3).

وأنت تعلم أنّ القطع بالفرق مع الموت والرطوبة إنّما يتمّ في بعض ما عدّد في الرواية ، وهو ما وقع الاتّفاق على طهارته من السباع ، وإلّا فما اختلف فيه منه كالثعلب والأرنب لا يتّجه ذلك فيه. وقد مرّ الاحتجاج بها للقول بنجاستهما.

وكيف كان فضعف سندها - كما سبق التنبيه عليه - [ يريح ] من حمل عب ء

ص: 571


1- الكافي 3 : 60 ، الحديث 4.
2- تهذيب الأحكام 1 : 49 ، الحديث 141.
3- ذكرى الشيعة : 16.

هذه الكلفة.

والتحقيق : أنّا إن عملنا بالحديث الحسن قرب التفصيل ؛ لأنّه ظاهر في التأثير مطلقا بالنسبة إلى الآدميّ. ولا دليل على مساواة غيره له سوى المرسلة ، وهي لا تصلح حجّة ، فلا مقتضي للخروج في حكمه عن الأصل. وإلّا اتّجه توقّف النجاسة في الجميع على الرطوبة. والاحتياط في الآدميّ أولى.

ويبقى الكلام في القطع المبانة من الحيّ ، فقد سبق أن الأصحاب يلحقونها في التنجيس بالميتة فتكون على القول الأوّل مؤثّرة مطلقا.

ويشكل حكمها على القول الثالث لعدم تناول الدليل لها ، وكون الظاهر من إطلاقهم الإلحاق مساواتها للميّت فثبت لها حكمه.

ولا يخفى أنّ الرجحان للتوجيه الأوّل ، فيقرب القول بتوقّف تأثيرها على الرطوبة.

تذنيب :

ذكر جماعة من الأصحاب أنّ المعتبر من الرطوبة - التي يتوقّف تأثير النجاسات عليها - ما يتعدّى منها شي ء إلى الملاقي. وأمّا القليلة التي بلغت في القلّة حدّا لا يتصوّر معه تعدّي شي ء منها ففي حكم اليبوسة ، وهو حسن.

مسألة [2] :

وكلّ ما حكم بنجاسته شرعا فهو مؤثّر للتنجيس في غيره أيضا مع الرطوبة عند جمهور الأصحاب. ولا نعرف فيه الخلاف ، إلّا من العلّامة وابن إدريس.

أمّا العلّامة فذهب في بعض كتبه إلى أنّ النجاسة الحاصلة عن مسّ الميّت بغير رطوبة حكميّة لا يتعدّى إلى غير الماسّ وإن كانت الملاقاة حينئذ

ص: 572

برطوبة (1).

وأمّا ابن إدريس فيعزى إليه القول بأنّه إذا لاقى شي ء من جسد الميّت مائعا حكم بنجاسته. ولو لاقى ذلك المائع مائعا آخر لم ينجس الثاني (2).

فالبحث هاهنا في مقامين :

[ المقام ] الأوّل : في خلاف العلّامة وقد ذكره في المنتهى والقواعد ، واحتمله في النهاية (3).

قال في المنتهى : لو مسّه - يعني ميّت الآدميّ - رطبا ينجس نجاسة عينيّة.

ولو مسّه يابسا فالوجه أنّ النجاسة حكميّة ، فلو لاقى ببدنه بعد ملاقاته للميّت رطبا لم يؤثّر في تنجيسه ؛ لعدم دليل التنجيس ، وثبوت الأصل الدالّ على الطهارة (4).

وناقشه فيه بعض الأصحاب بأنّ النصوص دلّت على وجوب غسل الملاقي لبدن الميّت ، وما ذاك إلّا لنجاسته. ومن حكم النجس تنجيسه لغيره مع ملاقاته له برطوبة. وهو كما ترى.

والعجب من جزم العلّامة في هذا الكتاب بكون النجاسة - في صورة الملاقاة لميّت الآدميّ باليبوسة - حكميّة واستشكاله لذلك في ميتة غيره ، كما حكيناه عنه آنفا ، مع أنّه في ميتة الآدميّ لم يتوقّف في عدم الفرق بين كون الملاقاة برطوبة ويبوسة في حصول التنجيس بها كما رأيت. وقد علمت توقّفه في

ص: 573


1- قواعد الأحكام 1 : 234 - 235.
2- السرائر 1 : 163.
3- قواعد الأحكام 1 : 234 و 235 ، ونهاية الإحكام 1 : 173.
4- منتهى المطلب 2 : 456.

النجاسة مع اليبوسة في ميتة غير الآدمي.

[ المقام ] الثاني : في خلاف ابن إدريس وقد حكاه عنه جماعة منهم الفاضلان ، واستوفى الكلام فيه احتجاجا وردّا في المعتبر ، فقال أوّلا :

« إذا وقعت يد الميّت بعد برده وقبل تطهيره في مائع فإنّ ذلك المائع ينجس. ولو وقع ذلك المائع في آخر وجب الحكم بنجاسة الثاني ». ثمّ قال :

« وخبط بعض المتأخّرين فقال : إذا لاقى جسد الميّت إناء وجب غسله. ولو لاقى ذلك الإناء مائعا لم ينجس المائع لأنّه لم يلاق جسد الميّت. وحمله على ذلك قياس. والأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل ؛ لأنّ هذه نجاسات حكميّات وليست عينيّات. ولا خلاف بين الامّة كافّة أنّ المساجد يجب أن تجنّب النجاسات العينيّة وقد أجمعنا بغير خلاف بيننا : أنّ من غسّل ميّتا له أن يدخل المسجد ويجلس فيه ، فلو كان نجس العين لما جاز ذلك ، ولأنّ الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر بلا خلاف. ومن جملة الأغسال غسل من مسّ ميّتا. ولو كان ما لاقى الميّت نجسا لما كان الماء الذي يغتسل به طاهرا » (1).

ثمّ إنّ المحقّق أخذ في الجواب عن هذه الوجوه التي تمسّك بها ابن إدريس.

فأجاب عن الوجه الأوّل : بأنّه لا يصلح دليلا على دعواه ، بل يصلح جوابا لمن يستدلّ على نجاسة المائع الملاقي للإناء بالقياس على نجاسة الإناء الملاقي للميّت ، لكن لم يستدلّ بذلك أحد. بل نقول لما اجتمع الأصحاب على نجاسة الملاقي للميّت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع ، لا بالقياس على نجاسة الملاقي

ص: 574


1- المعتبر 1 : 349 ، وراجع السرائر 1 : 163.

للميّت ، قال : فإذا ما ذكره لا يصلح دليلا ولا جوابا.

وأجاب عن الوجه الثاني : بأنّه دعوى عريّة من برهان. قال : ونحن نطالبك بتحقيق الإجماع على هذه الدعوى ، ونطالبك أين وجدتها؟ فإنّا لا نوافقك على ذلك بل نمنع الاستيطان كما يمنع من على جسده نجاسة. ويقبح إثبات الدعوى بالمجازفات.

وأجاب عن الوجه الثالث : بأنّا لا نسلّم كون الماء المستعمل في الكبرى طاهرا ولا نسلّم طهارة ماء المغتسل من ملامسة الميّت.

قال وتحقيق هذا : إنّ ملامس الميّت تنجس يده نجاسة عينيّة ويجب عليه الغسل وهو طهارة حكميّة فإن اغتسل قبل غسل يده نجس ذلك الماء بملاقاة يده التي لامس بها الميّت. أمّا لو غسل يده ثمّ اغتسل لم يحكم بنجاسة ذلك الماء. وكذا نقول في جميع الأغسال الحكميّة ؛ فإنّ ماء الغسل من الجنابة طاهر وإن كان الغسل يجب بخروج المنيّ وينجس موضع خروجه. ولو اغتسل قبل غسل موضع الجنابة كان ماء الغسل نجسا لملاقاة مخرج النجاسة إجماعا. وكذلك غسل الحيض يجب عند انقطاع الدم ، ويكون المخرج نجسا. فلو اغتسلت ولم تغسله كان ماء الغسل نجسا. وكذا جميع الأغسال. ثمّ قال :

فقد بان ضعف ما ذكره المتأخّر. اللّهم إلّا أن يقول : إنّ الميّت ليس بنجس ، وإنّما يجب الغسل تعبّدا ، كما هو مذهب الشافعي.

لكنّ هذا مخالف لما ذكره الشيخ أبو جعفر ؛ فإنّه ذكر أنّه نجس بإجماع الفرقة. وقد سلّم هذا المتأخّر نجاسته ونجاسة ما يلاقي بدنه.

ولو قال : أنا اوجب غسل ما يلاقي بدنه ولا أحكم بنجاسة ذلك الملاقي.

قلنا : فحينئذ يجوز استصحابه في الصلاة والطهارة به لو كان ماء. ثمّ يلزم أن يكون الماء الذي يغسل به الميّت طاهرا مطهّرا ، ويلزمك حينئذ أن يكون

ص: 575

ملاقاته مؤثّرة في الثوب مسّا وغسلا وغير مؤثّرة في الماء القليل وهو باطل (1).

هذا كلام المحقّق رحمه اللّه وكأنّه أراد من النجاسة التي ادّعي الإجماع على تنجيس المائع بوقوعها فيه ما يشمل المنجّس لينتظم الدليل مع الدعوى ، وإلّا فالإجماع على تأثير عين النجاسة لا يدلّ على تأثير المنجّس كما هو واضح.

وإذا ثبت انعقاد الإجماع على تأثير المنجّس مع الرطوبة كالنجاسة واندفع به قول ابن إدريس ، فكذا يندفع به قول العلّامة. وربّما نازعا في تحقّق هذا الإجماع.

مسألة [3] :
اشارة

إذا علم أنّ النجاسة لاقت شيئا طاهرا على الوجه الذي بيّنا كونه مؤثّرا حكم بنجاسته وهو طاهر. وإذا حصل الظنّ بالملاقاة ففي الحكم بالتنجيس أقوال :

ثالثها : أنّه إن استند إلى شهادة العدلين أو إخبار ذي اليد وإن لم يكن عدلا حكم به ، وإلّا فلا.

ورابعها : أنّه إن استند إلى سبب كقول العدل فهو كما لو علم ، وإن لم يستند إلى سبب كما في ثياب مدمني الخمر والقصّابين والصبيان وطين الشوارع والمقابر المنبوشة لم يحكم بالتنجيس.

والقولان الأوّلان لأبي الصلاح وابن البرّاج ، فإنّه يحكى عن أبي الصلاح القول بقيام الظنّ هنا مقام العلم مطلقا (2) ويعزى إلى ابن البرّاج نفي تأثير الظنّ

ص: 576


1- المعتبر 1 : 350 - 351.
2- راجع مفتاح الكرامة 1 : 130.

مطلقا (1).

والثالث : قول جماعة من الأصحاب منهم العلّامة في المنتهى (2).

والرابع : مختاره في موضع من التذكرة (3). وقد مرّت حكاية هذا الخلاف في بحث الماء المشتبه مع ذكر حجج الأقوال الأربعة وبيان الراجح منها.

فرع :

قال العلّامة في المنتهى : ثوب الكافر طاهر ما لم تعلم مباشرته له برطوبة ؛ لأنّ الأصل طهارة الثوب ولم يحصل علم المباشرة برطوبة. قال : والأفضل اجتنابه (4).

وقال في التذكرة : يجوز أن يصلّي في ثوب عمله المشرك إذا لم تعلم مباشرته له برطوبة. واحتجّ لذلك بالأصل وبعض الأخبار ثمّ قال : والشيخ منع في المبسوط من ذلك وهو حسن ؛ لغلبة الظنّ بالمباشرة بالرطوبة (5). انتهى كلامه.

ولا يخفى عليك أنّ الحكم في هذا الفرع مبنيّ على الخلاف في المسألة ، فإن أجرينا الظنّ مجرى العلم - كما هو رأي أبي الصلاح - حكمنا بالنجاسة هنا للظنّ القويّ غالبا ، وإلّا فالحكم هو الطهارة إلى أن يحصل القطع بخلافها.

وقد روى الشيخ في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان قال : « سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا حاضر : إني اعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر

ص: 577


1- المهذّب 1 : 30.
2- منتهى المطلب 1 : 55.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 90.
4- منتهى المطلب 3 : 225.
5- تذكرة الفقهاء 2 : 487.

ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنّك إذا أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن يصلّى فيه حتّى يستيقن أنّه نجس » (1).

وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال. ألبسها ولا أغسلها واصلّي فيها؟ قال : نعم. قال معاوية : فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابريّ ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار فكأنّه عرف ما اريد فخرج فيها إلى الجمعة (2).

وروى عدّة أحاديث تخالف بظاهرها هذين الخبرين.

منها ما رواه في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان قال : « سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السلام عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجرّي ويشرب الخمر فيردّه ، أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال : لا يصلّي فيه حتى يغسله » (3).

ومنها ما رواه في الصحيح أيضا عن عبد اللّه بن علي الحلبي قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال : « يرشّ بالماء » (4).

وحمل الشيخ في التهذيب الخبر الأوّل على الاستحباب وهو حسن. ومثله يقال في الثاني. ولم يتعرّض في الاستبصار لغير حديثي ابن سنان.

ص: 578


1- تهذيب الأحكام 2 : 361 ، الحديث 1495.
2- تهذيب الأحكام 2 : 362 ، الحديث 1497.
3- تهذيب الأحكام 2 : 361 ، الحديث 1494.
4- تهذيب الأحكام 2 : 362 ، الحديث 1498 ، وفيه : عبيد اللّه بن علي الحلبي.

وقال بعدهما : هذان الخبران راويهما عبد اللّه بن سنان ، والحكاية فيهما جميعا عن مسألة أبيه أبا عبد اللّه ولا يجوز أن يتناقض بأن يقول تارة صلّ فيه وتارة لا تصلّ فيه إلّا أن يكون قوله لا تصلّ فيه على وجه الكراهيّة دون الحظر (1).

[ فرع ] آخر :

قال بعض الأصحاب : لو وجد عدلان في ثوب الغير أو مائه نجاسة أمكن وجوب الإخبار ؛ لوجوب تجنّب النجاسة وهو متوقّف على الإخبار المذكور فيجب.

والعدم ؛ لأنّ وجوب التجنّب مع العلم ، لا بدونه ؛ لاستحالة تكليف الغافل.

قال : وأبعد منه ما لو كان عدلا. وأبعد منهما ما لو كان فاسقا.

ثمّ قال : ولا ريب أنّ الإخبار أولى.

وما ذكره في توجيه احتمال الوجوب ظاهر الضعف. ولا ريب أنّ العدم هو مقتضى الأصل ، فيجب التمسّك به إلى أن يدلّ دليل واضح على الوجوب. وقد روى الشيخان في الكافي والتهذيب بسند يعدّ من الصحيح عن محمّد ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلّي؟ قال : لا يؤذنه حتّى ينصرف (2).

وهذا الحديث ربّما أشعر بعدم الوجوب.

مسألة [4] :

وإذا علمت الملاقاة على الوجه المؤثّر واشتبه محلّها :

ص: 579


1- الاستبصار 1 : 393.
2- تهذيب الأحكام 2 : 361 ، الحديث 1493.

فإن كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كلّ واحد من الأجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة لا نعرف في ذلك خلافا.

وإن كان محصورا فظاهر جماعة من الأصحاب أنّه لا خلاف حينئذ في وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه - كما مرّ في اشتباه الإناء من الماء الطاهر بالنجس - ولم يذكروا على الحكم هنا حجّة.

وقد بيّنا في مسألة الإنائين (1) أنّ العمدة في الحكم بوجوب اجتنابهما على الإجماع المدّعى هناك ، وأنّ ما عداه من الوجوه التي احتجّوا بها معه ضعيفة مدخولة. ولعلّ اعتمادهم في الحكم هنا أيضا على الإجماع لا على تلك الوجوه.

ثمّ إنّه على تقدير وجوب الاجتناب هل يكون بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة فقط؟ بمعنى أنّه إذا كان ماء مثلا لم يجز استعماله في الطهارة وإن كان ترابا لم يسغ استعماله في التيمّم ولا السجود عليه ، ولو كان ثوبا لم يجز لبسه في حال الصلاة ، وهكذا إلى آخر ما يعتبر فيه الطهارة.

أو يكون وجوب الاجتناب عبارة عن صيرورته بمنزلة النجس في جميع الأحكام حتّى لو لاقى بجزء منه جسما طاهرا برطوبة تعدّى حكمه إليه كمعلوم النجاسة. بكلّ من الاحتمالين قائل.

فالأخير يظهر من كلام العلّامة في المنتهى حيث قال في مسألة اشتباه الإناء الطاهر بالنجس : لو استعمل أحد الإنائين وصلّى به لم تصحّ صلاته ووجب عليه غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقّن الطهارة كالنجس.

ثمّ حكى عن بعض العامّة أنّه نفى وجوب الغسل منه ؛ معلّلا بأنّ المحلّ طاهر بيقين فلا يزول بالشكّ في النجاسة.

ص: 580


1- راجع الصفحة : 377.

وأجاب عنه : بأنّه لا فرق في المنع بين تيقّن (1) الطهارة وشكّها هنا ، وإن فرّق بينهما في غيره (2).

وكلامه هذا وإن كان مفروضا في حكم الإنائين إلّا أنّ ظاهرهم عدم التفرقة في أصل الحكم بين وقوع الاشتباه في الماء وغيره.

وبالاحتمال الأوّل قطع الفاضل الشيخ علي. وجنح إليه والدي رحمه اللّه وهو الأظهر ؛ فإنّ يقين الطهارة في الجسم الملاقي لا يدفع بالاحتمال. وقصارى ما يلزم من ملاقاة المشتبه إذا لم تكن مستوعبة لجميعه هو احتمال عروض التنجيس. واندفاع الأصل بمثله يتوقّف على الدليل. وقيامه في نفس المشتبه على تقدير تسليمه لا يقتضي التعدية إلى المتنازع إلّا بالقياس.

وربّما قيل في الاحتجاج لمختار العلّامة هنا : أنّ المفروض كون الاشتباه موجبا للإلحاق بالنجس في الأحكام فملاقيه إمّا نجس أو مشتبه بالنجس وكلاهما موجب للاجتناب.

وفساده ظاهر فإنّ إيجاب الاشتباه للإلحاق بالنجس إن كان في جميع الأحكام فهو عين المتنازع وإن كان في الجملة فهو غير مجد.

وكون مطلق الاشتباه موجبا للاجتناب في حيّز المنع وإنّما الموجب لذلك على ما هو المفروض اشتباه خاص كما لا يخفى.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ جمعا من الأصحاب جعلوا المرجع في الحصر إلى ما يصدق عليه معناه في العرف إذا لم يثبت له حقيقة في غيره. ومثّلوا له في الأرض بالبيت والبيتين. ولغير المحصور فيها بالصحراء.

ص: 581


1- في « أ » و « ب » : من يقين الطهارة.
2- منتهى المطلب 1 : 178.

وذكر بعض المتأخّرين أنّه يمكن جعل المرجع في صدق الحصر وعدمه إلى حصول الحرج والضرر بالاجتناب وعدمه.

وهذا الكلام ناظر إلى ما يوجد في عبارات كثير من تعليل عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور بلزوم المشقّة والعسر. وليس بشي ء ؛ فإنّ الغرض من هذا التعليل على ما يظهر تقريب الحكم ، لا الاستدلال له ، إذ لا يعقل الاعتماد في مثل هذه التفرقة والبناء في تأسيس هذا الحكم على نحو هذه القاعدة كما هو واضح.

ولو قدّر بناء الحكم على ذلك لانهار من أصله ؛ إذ المشقّة قد تنتفي في كثير ممّا ليس بمحصور. وربّما وجدت في بعض أفراد المحصور. فأيّ معنى حينئذ لجعل الحصر مناطا للحكم؟ وقد كان الواجب على هذا أن يناط بعدم المشقّة ووجودها.

وبالجملة فالإشكال في التفرقة هنا بين ما يجب فيه الاجتناب وما لا يجب قويّ جدّا ، إذ ليس لها شاهد من جهة النص يقول في حكمها عليه وإنّما هي من عبارات الفقهاء ، والرجوع إلى القاعدة المقرّرة في الألفاظ التي لم يثبت لها حقيقة من جهة الشرع يتوقّف على وجدان غيرها ، ولا يكاد يظهر من اللغة ولا من العرف معنى مشخّص لهذا اللفظ يطابق ما هو غرضهم منه.

مع أنّ في كلامهم اختلافا في التمثيل للمحصور.

فالمحقّق والفاضل مثّلا له بالبيت وقد حكينا عن جماعة التمثيل بالبيت والبيتين. ومثّل بعض بالبيتين والثلاثة.

وربّما فسّر غير المحصور بما يعسر حصره وعدّه لكثرة آحاده. والظلام يلوح على الكلّ.

ص: 582

مسألة [5] :

لا نعلم بين الأصحاب خلافا من سوى ابن الجنيد في وجوب إزالة النجاسات كلّها عن البدن للصلاة وإن لم يكن ما أصابه منها بالغا قدر الدرهم ، عدا الدم ؛ فإنّ فيه تفصيلا نذكره ، وكذلك الثوب الذي تتمّ فيه الصلاة إذا لم يمكن إبداله بطاهر.

ويدلّ على هذا الحكم عموم الأخبار المتضمّنة للأمر بالغسل من النجاسات من غير تفصيل فيها سوى الدم.

وقد تقدّم منها جملة في بيان أصناف النجاسات وسيأتي طرف منها في بحث الخلل الواقع في الصلاة إن شاء اللّه تعالى.

ولابن الجنيد هنا خلاف ضعيف لا يعرف له فيه من الأصحاب موافق ؛ وذلك أنّه قصر الحكم بوجوب إزالة النجاسات كلّها - عدا دم الحيض والمنيّ - على ما بلغ منها مقدار سعة الدرهم فصاعدا وسوّى في دم الحيض والمنيّ بين القليل والكثير.

قال في مختصره : كل نجاسة وقعت على ثوب فكانت عينها فيه مجتمعة أو متفشّية دون سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلّا أن تكون النجاسة دم حيض أو منيّا فإنّ قليلهما وكثيرهما سواء. وقد سبق نقل هذه العبارة في بيان نجاسة الدم.

وظاهرها طهارة الناقص عن الدرهم من النجاسات التي ذكرها. ولكنّ المعروف بين الأصحاب أنّ خلافه إنّما هو في العفو. فلعلّ في عبارته توسّعا.

ص: 583

وفي المعتبر عزى إليه القول بالعفو هنا وفاقا لما هو المعروف (1) ، وفي حكم الدم نسب إليه القول بطهارة القليل منه (2). ولا يخلو من غرابة ؛ فإنّ عبارته التي حكيناها بمعنى واحد بالنظر إلى الجميع ، اللّهم إلّا أن يكون ذلك في كتاب غير هذا.

ثمّ إنّ ابن الجنيد لم يتعرّض للاحتجاج على ما صار إليه بل اقتصر على العبارة المحكيّة.

وقد احتجّ له الفاضل في المختلف بالقياس على الدم.

وأجاب عنه : بأنّ نجاسة المذكورات أغلظ من نجاسة الدم فقياس حكمها على المنيّ أولى (3).

مسألة [6] :
اشارة

والدم النجس على أقسام ثلاثة :

[ القسم ] الأوّل : ما يجب إزالة قليله وكثيره كسائر النجاسات وهو دم الحيض على المعروف بين الأصحاب بحيث لا يعلم فيه خلاف.

وربّما كان في عبارة المعتبر إشعار باتّفاق علمائنا عليه حيث أضاف القول به إلى الأصحاب (4).

ثمّ قال : وروي ذلك عن أبي بصير. قال : « لا تعاد الصلاة من دم لم تبصره

ص: 584


1- المعتبر 1 : 427.
2- المعتبر 1 : 421.
3- مختلف الشيعة 1 : 476.
4- المعتبر 1 : 428.

إلّا دم الحيض فإنّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه وإن لم يره سواء » (1).

وأورد على الخبر أنّ الراوي له عن أبي بصير أبو سعيد وهو ضعيف. والفتوى موقوفة على أبي بصير. وليس قوله حجّة.

وأجاب بأنّ الحجّة عمل الأصحاب بمضمونه وقبولهم له. قال : فإنّ أبا جعفر ابن بابويه قاله ، والمرتضى والشيخان وأتباعهما.

ثمّ قال : ويؤيّد ذلك أنّ مقتضى الدليل وجوب إزالة قليل الدم وكثيره ؛ عملا بالأحاديث الدالّة على إزالة الدم ، كقوله عليه السلام لأسماء : « حتيه ثمّ اقرصيه (2) ثمّ اغسليه بالماء » (3).

وما رواه سورة بن كليب عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن الحائض : قال : « تغسل ما أصاب ثيابها من الدم » (4).

وترك العمل بها في بعض الدماء لوجود المعارض لا يقتضي تركه فيما لا معارض فيه.

وفي ما ذكره أوّلا نظر لا يكاد يخفى وجهه على المتذكّر للقواعد التي أسلفناها في بحثي الإجماع والأخبار من مقدّمة الكتاب.

وأمّا قوله : « إنّ مقتضى الدليل وجوب إزالة قليل الدم وكثيره .. » ، فموضع تأمّل ، إذ ليس فيما وصل إلينا ونقله الأصحاب في كتبهم من الأخبار المعتمدة

ص: 585


1- الكافي 3 : 405 ، الحديث 3.
2- في « ب » : ثمّ اقرضيه. والحت : الفرك والحكّ والقشر ، والقرص : الغسل بأطراف الأصابع وقيل هو القلع بالظفر ونحوه. راجع المصباح المنير.
3- عن صحيح البخاري 1 : 84 ، وسنن البيهقي 2 : 406 « كتاب الصلاة ».
4- الكافي 3 : 109 ، الحديث 1.

بحديث مطلق في إيجاب إزالة الدم بحيث يصلح لتناول القليل من دم الحيض. بل هي إمّا ظاهرة في الكثير أو مفروضة في غير دم الحيض. والرواية التي أشار إليها - أوّلا - لا نعرف لها إسنادا عندنا. وفي سند الثانية ضعف ؛ لعدم ثبوت عدالة راويها.

ويمكن التمسّك في هذا الحكم بالأخبار الدالّة على منافاة نجاسة ثوب المصلّي لصحّة صلاته ؛ فإنّ ذلك وارد في عدّة أحاديث معتبرة. ومن البيّن أنّ ملاقاة دم الحيض - وإن قلّ - مقتضية للتنجيس.

ويعضد هذا الاعتبار ظاهر قوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (1) بملاحظة وجوب التأسّي ، على ما هو محقّق في الاصول.

ثمّ إنّ دليل العفو عن قليل الدم غير صالح لتناول دم الحيض كما سيأتي بيانه ، فلا مقتضي لخروجه عن عموم الحكم المستفاد من تلك الأخبار.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ المحقّق عزى إلى الشيخ إلحاق دم الاستحاضة والنفاس بدم الحيض في إيجاب إزالة القليل منه والكثير. ثمّ قال :

ولعلّه نظر إلى تغليظ نجاسته ؛ لأنّه يوجب الغسل. واختصاصه بهذه المزيّة يدلّ على قوّة نجاسته على باقي الدماء فغلظ حكمه في الإزالة » (2). هذا كلامه ولا يخفى ما فيه.

وربّما زاد بعضهم في توجيه إلحاق النفاس أنّه دم حيض محتبس.

ويشكل بأنّ الحكم معلّق بعنوان دم الحيض وهو غير صادق على دم النفاس.

ويمكن الاحتجاج هنا بنحو ما قلناه في دم الحيض.

ص: 586


1- سورة المدّثّر : 4.
2- المعتبر 1 : 429.

قال المحقّق : « وألحق بعض فقهاء قم منّا دم الكلب والخنزير ولم يعطنا العلّة ولعلّه نظر إلى ملاقاته جسدهما ونجاسة جسدهما غير معفوّ عنها » (1).

وهذه العلّة التي لحظها المحقّق متوجّهة.

وقد حكى العلّامة في المختلف عن القطب الراوندي وابن حمزة إلحاق دم الكلب والخنزير والكافر بالدماء الثلاثة. وعن ابن إدريس منعه ؛ مدّعيا أنّه خلاف إجماع الإماميّة.

ثمّ اختار العلّامة الإلحاق ووجّهه بأنّ المعفوّ عنه إنّما هو نجاسة الدم. والدم الخارج من الكلب والخنزير والكافر يلاقي أجسامها ، فتتضاعف نجاسته ، ويكتسب بملاقاته الأجسام النجسة نجاسة اخرى غير نجاسة الدم ، وتلك لم يعف عنها ، كما لو أصاب الدم المعفوّ عنه نجاسة غير الدم فإنّه يجب إزالته مطلقا.

قال : وابن إدريس لم يتفطّن لذلك فشنع على قطب الدين بغير الحق (2).

قلت : العجب من غفلة ابن إدريس عن ملاحظة هذا الاعتبار الذي حرّره العلّامة ونبّه عليه المحقّق مع تنبّهه لمثله في ظاهر كلامه السابق في البحث عمّا نزح لموت الإنسان في البئر حيث فرّق في ذلك بين المسلم والكافر ، وأنكر عليه الجماعة فيه أشدّ الإنكار ونحن صوّبنا رأيه هناك وأوضحنا المقام بما لا مزيد عليه فكيف انعكست القضيّة هنا فصار هو إلى الإنكار ورجعوا هم إلى الاعتراف ، والمدرك في المقامين واحد؟

وربّما كان مراد ابن إدريس هناك خلاف ما أفهمه ظاهر كلامه الذي حكوه عنه.

ص: 587


1- المعتبر 1 : 429.
2- مختلف الشيعة 1 : 476.

وعلى كلّ حال فالحقّ أنّ الحيثيّة مرعيّة في جميع هذه المواضع والحكم منوط بها فالعفو الثابت في مسألتنا هذه على ما سيأتي بيانه متعلّق بنجاسة الدم من حيث هي ، فإذا انضمّ إليها حيثيّة اخرى كملاقاة جسم نجس كان لتلك الحيثيّة المنضمّة إليها حكم نفسها لو انفردت.

القسم الثاني : ما يعفى عن قليله وكثيره في الجملة وهو دم القروح والجروح. ولا يعرف في أصل العفو عن هذا الدم خلاف لأحد من الأصحاب.

والأخبار به كثيرة.

فمنها : ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمى كيف يصلّي؟ فقال : يصلّي وإن كانت الدماء تسيل » (1).

وعن ليث المرادي في الصحيح قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الرجل يكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوءة دما وقيحا ، وثيابه بمنزلة جلده؟ قال : يصلّي في ثيابه ولا شي ء عليه ولا يغسلها » (2).

وفي الحسن عن ليث المرادي أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وذكر نحو ما في الصحيح (3).

ومنها ما رواه في الصحيح عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن طريف بن ناصح عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن

ص: 588


1- تهذيب الأحكام 1 : 256 ، الحديث 744.
2- تهذيب الأحكام 1 : 258 ، الحديث 750.
3- تهذيب الأحكام 1 : 349 ، الحديث 1029.

ابن أبي عبد اللّه قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي؟ فقال : دعه فلا يضرّك أن لا تغسله » (1).

وعن أحمد بن محمّد عن موسى بن عمران عن محمّد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتّى يبرأ و (2) ينقطع الدم (3).

ومنها : ما رواه عن أبي بصير قال : « دخلت على أبي جعفر عليه السلام وهو يصلّي فقال لي قائدي ، إنّ في ثوبه دما ، فلمّا انصرف قلت له : إنّ قائدي أخبرني أنّ بثوبك دما؟ قال : إنّ بي دما يسيل فلست أغسل ثوبي حتّى تبرأ (4).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كلام الأصحاب في حدّ العفو الذي حكموا به هنا مختلف. فمنهم من جعل الحدّ في ذلك البرء. ومنهم من جعله الانقطاع.

وهم بين مطلق له ومقيّد بكونه في زمان يتّسع لأداء الفريضة. فالإطلاق للعلّامة في بعض كتبه والشهيد فيما سوى الذكرى (5). والتقييد للمحقّق في المعتبر والشهيد في الذكرى (6). وناط العلّامة العفو في القواعد بحصول المشقّة

ص: 589


1- تهذيب الأحكام 1 : 259 ، الحديث 751.
2- في « ب » : حتّى يبرأ أو ينقطع الدم.
3- تهذيب الأحكام 1 : 259 ، الحديث 752.
4- الكافي 3 : 58 ، الحديث 1.
5- إرشاد الأذهان 1 : 239.
6- المعتبر 1 : 429 ، وذكرى الشيعة : 16 ، ذيل البحث الثامن عشر.

بالإزالة (1).

وجمع في المنتهى والتحرير بينه وبين عدم وقوف جريانها فجعلهما المناط في العفو (2).

وظاهره في النهاية اعتبار المشقّة وحدها كالقواعد (3).

واستشكل وجوب إزالة البعض إذا لم يشقّ. وأوجب فيها وفي المنتهى إبدال الثوب مع الإمكان ؛ معلّلا بانتفاء المشقّة فينتفي الترخّص لانتفاء المعلول عند انتفاء علّته (4).

وأنت خبير بأنّه مع وجوب إزالة البعض حيث لا يشقّ ووجوب إبدال الثوب إذا أمكن لا يبقى لهذا الدم خصوصيّة ؛ فإنّ إيجاب إزالة البعض مع عدم المشقّة يقتضي وجوب التحفّظ من كثرة التعدّي أيضا مع الإمكان كما لا يخفى.

واغتفار ما دون ذلك ثابت في مطلق الدم بل في مطلق النجاسات.

وظاهر جماعة من الأصحاب أنّ الخصوصيّة هنا ثابتة عند الكلّ وإن اختلفوا في مقدارها.

وذكر الفاضل الشيخ علي في بعض مصنّفاته : أنّ الشيخ نقل الإجماع على عدم وجوب عصب الجرح وتقليل الدم ، بل تصلّي كيف كان وإن سال وتفاحش إلى أن تبرأ. قال : وهذا بخلاف المستحاضة والسلس والمبطون ؛

ص: 590


1- قواعد الأحكام 1 : 193.
2- منتهى المطلب 3 : 246 ، وتحرير الأحكام 1 : 24.
3- نهاية الإحكام 1 : 286.
4- منتهى المطلب 3 : 248.

إذ يجب عليهم الاحتياط في منع النجاسة أو تقليلها بحسب الإمكان (1).

وأطلق الشيخ في النهاية وغيرها من كتبه - التي رأيناها - الحكم بعدم وجوب إزالة دم القروح الدامية والجراح اللازمة قلّ أو كثر (2).

وظاهره وفاق القول الأوّل أعني : تحديد العفو بالبرء.

وقد اتّفقت عبارة العلّامة في الإرشاد على نهج كلام الشيخ فقال فيه : وعفي في الثوب والبدن عن دم القروح والجروح اللازمة (3).

ولمّا لم يعهد من العلّامة إطلاق العفو في ساير كتبه - بل اشترطه تارة بعدم انقطاع سيلان الدم واخرى بحصول المشقّة وثالثة بهما.

فسّر بعض الأصحاب الوصف ب- ( اللازمة ) في هذه العبارة ب- ( استمرار الخروج ) ، وحكي عن بعض آخر أنّه فسّرها ب- ( التي لم تبرأ ) ، وأنكر عليه من حيث إنّ ذلك ليس مذهبا للعلّامة حتّى يفسّر كلامه به.

والحقّ مع الثاني ؛ فإنّ الظاهر من هذا الوصف إرادة كون الجرح باقيا غير مندمل.

ومجرّد كون العلّامة لم يصرّح بهذا القول في غير ذلك الكتاب لا يسوّغ حمل اللفظ على خلاف ظاهره والمصير إلى المعنى المأوّل سيّما مع ما هو معلوم من حال العلّامة رحمه اللّه في عدم الالتزام بالقول الواحد في الكتاب الواحد فضلا عن الكتب المختلفة ، وبعد ظهور انتشار رأيه في خصوص هذه المسألة.

وحينئذ تكون أقواله المعلومة فيها أربعة. وأظهر الأقوال كلّها عندي

ص: 591


1- لم أعثر عليه.
2- النهاية ونكتها 1 : 266.
3- إرشاد الأذهان 1 : 239.

استمرار العفو إلى أن يحصل البرء عرفا.

ولا أعوّل في ذلك على رواية أبي بصير التي هي نصّ في هذا المعنى كما صنع بعض الأصحاب ليرد الاعتراض بأنّ ضعف سندها يمنع من العمل بها ، بل التعويل على ظواهر الأخبار الصحيحة والحسنة كقوله في صحيحة محمّد ابن مسلم : « يصلّي وإن كانت الدماء تسيل » ؛ فإنّ المفهوم من مثل هذا التركيب كون المفهوم أولى بالحكم من المنطوق فتكون حالة عدم السيلان أولى بالعفو.

وربّما يتوهّم من قوله في جملة هذا الحديث : « فلا تزال تدمى » أنّ الحكم مفروض في ما هو مستمر الجريان. وليس بشي ء.

أمّا أوّلا : فلأنّ هذا الكلام وقع في السؤال ومقتضى الجواب ما قلناه. والعبرة به.

وأمّا ثانيا : فلأنّه ليس معنى كونها لا تزال تدمى أنّ جريانها متّصل في كلّ حين ، بل معناه أنّ الدم يتكرّر خروجه منها ولو حينا بعد حين. والعرف قاض بدلالة نحو هذه العبارة على ما قلناه. فإنّك تقول : فلان لا يزال يتردّد إلى محلّ كذا ، أو لا يزال يتكلّم بكذا مريدا أنّه يصدر منه الفعل وقتا بعد وقت ، لا أنّه مستمرّ دائما. وهذا واضح لمن عرف العرف.

وصحيح ليث المرادي وحسنته (1) ظاهرا الدلالة على ما قلناه أيضا حيث أطلق فيهما تسويغ الصلاة بهذا الدم ونفي وجوب شي ء عليه ونهيه عن غسله. ولو وجب الغسل أو الإبدال على حال من الأحوال لوجب التفصيل ولم يجز الإجمال.

وفي معنى هذين الحديثين خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، وسنده جيّد

ص: 592


1- تهذيب الأحكام 1 : 256 و 258 ، الحديثان 744 و 750.

إلّا أنّ فيه من لم يعلم توثيقه ، إلّا بشهادة الواحد (1).

ورواية سماعة (2) كرواية أبي بصير (3) في صراحة الدلالة على اعتبار البرء إلّا أنّ في سنديهما ضعفا.

فروع :
[ الفرع الأوّل ] :

ذكر جماعة من الأصحاب منهم العلّامة في النهاية والمنتهى والتحرير أنّه يستحبّ لصاحب القروح والجروح غسل ثوبه في كل يوم مرّة (4).

واحتجّ له في المنتهى والنهاية بأنّ فيه تطهيرا غير مشقّ فكان مطلوبا.

وبرواية سماعة قال : « سألته عن الرجل به القرح أو الجرح ، فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه؟ قال : يصلّي ولا يغسل ثوبه كلّ يوم إلّا مرّة ؛ فإنّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة » (5).

والوجه الأوّل من الحجّة غير صالح لتأسيس حكم شرعيّ. والرواية في طريقها ضعف. وكأنّ البناء في العمل بها على قاعدة التساهل في أدلّة السنن.

[ الفرع ] الثاني :

قال في المنتهى : لو تعدّى الدم عن محلّ الضرورة في الثوب أو البدن

ص: 593


1- تهذيب الأحكام 1 : 259 ، الحديث 751.
2- تهذيب الأحكام 1 : 259 ، الحديث 752.
3- الكافي 3 : 58 ، الحديث 1.
4- نهاية الإحكام 1 : 286 ، ومنتهى المطلب 3 : 248 ، وتحرير الأحكام 1 : 24.
5- تهذيب الأحكام 1 : 258 ، الحديث 748.

بأن لمس بالسليم من بدنه دم الجرح أو بالظاهر من ثوبه فالأقرب عدم الترخيص فيه (1). وما استقربه حسن.

[ الفرع ] الثالث :
اشارة

إذا لاقى هذا الدم جسم برطوبة ثمّ لاقى الجسم بدن صاحب الدم أو ثوبه فهل يثبت فيه العفو كأصله أو لا؟ احتمالان :

استقرب ثانيهما العلّامة في النهاية والمنتهى (2). ولم أقف على كلام في هذا الفرع لغيره. ولكنّهم ذكروا نظيره في الملاقي للدم القليل المعفوّ عنه من غير دم القروح والجروح على ما سيأتي بيانه.

واختار جماعة ثبوت العفو في الملاقي أيضا ووجّهوه بأنّ المنجّس بالشي ء أضعف حكما من ذلك الشي ء النجس. وإذا ثبت العفو عن عين النجس فما هو أضعف منه حكما أولى بالعفو.

وهذا التوجيه آت هنا وله وجه. فالظاهر رجحان الاحتمال الأوّل.

القسم الثالث : ما عدا الأنواع السابقة من ساير الدماء التي تثبت كونها نجسة على ما مرّ تحقيقه. وهي : إمّا مجتمعة أو متفرّقة.

فأمّا المجتمعة فلا نعلم خلافا بين علمائنا في وجوب إزالة ما زاد عنها عن مقدار الدرهم وعدم وجوب إزالة الناقص عنه.

واختلفوا فيما هو بمقدار الدرهم. فذهب الأكثرون كالصدوقين (3)

ص: 594


1- منتهى المطلب 3 : 248.
2- نهاية الإحكام 1 : 287 ، ومنتهى المطلب 3 : 248.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 71.

والشيخين (1) والفاضلين (2) والشهيدين (3) إلى إيجاب إزالته. وعزى في المختلف إلى ظاهر كلام السيد المرتضى القول بعدم الوجوب (4) وبه صرّح سلّار (5).

فالبحث هنا يقع في مقامات ثلاثة :

[ المقام ] الأوّل : ايجاب إزالة الزائد عن الدرهم.

ويدلّ عليه : ما سبق من الأدلّة على نجاسة الدم ، مضافا إلى الاعتبار الذي أشرنا إليه في الاحتجاج بوجوب إزالة قليل دم الحيض وكثيره. ثمّ الإجماع الذي حكاه العلّامة في غير موضع من كتبه. والأخبار الآتية في الاستدلال للعفو عن الناقص عن الدرهم. وبالجملة فهذا الحكم ليس موضع شكّ ولا محلّ تردّد بين الأصحاب.

[ المقام ] الثاني : عدم وجوب إزالة الناقص.

ودليله : أوّلا ، الإجماع أيضا على ما حكاه جماعة. قال المحقّق في المعتبر : لا يجب إزالة ما نقص منه عن سعة الدرهم اتّفاقا منّا (6). وذكر العلّامة في المنتهى والنهاية والمختلف والتذكرة والتحرير أنّه معفوّ عنه إجماعا (7).

ص: 595


1- المقنعة : 69 ، النهاية ونكتها 1 : 266 ، والمبسوط 1 : 35.
2- منتهى المطلب 3 : 251 ، والمعتبر 1 : 430.
3- البيان : 41 ، والروضة البهية 1 : 303.
4- مختلف الشيعة 1 : 477 ، والانتصار : 13.
5- المراسم : 55 ، تحقيق الدكتور محمود البستاني.
6- المعتبر 1 : 429.
7- منتهى المطلب 3 : 250 ، ونهاية الإحكام 1 : 285 ، ومختلف الشيعة 1 : 477 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 73 ، وتحرير الأحكام 1 : 24.

وثانيا ، الأخبار المتعدّدة : كرواية عبد اللّه بن أبي يعفور الصحيحة - على ما قاله جمع من الأصحاب منهم المحقّق في المعتبر - قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلّى أيعيد صلاته؟ قال : يغسله ولا يعيد صلاته ، إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة » (1).

وأورد في الذكرى على ظاهرها إشكالا من حيث الأمر فيها بغسل ما دون الدرهم وذلك بالجملة الخبريّة المراد بها الأمر أعني قوله : « يغسله » ، وحقيقة الأمر هي الوجوب وإرادته منه هنا تنافي العفو (2).

وجوابه : أنّ الأمر بالغسل في ذلك ليس للوجوب بقرينة النهي عن إعادة الصلاة ؛ لما سيأتي من أنّ ناسي النجاسة يجب عليه الإعادة في الوقت ، ولهذا قال في صورة بلوغه مقدار الدرهم : « يغسله ويعيد الصلاة ».

ورواية إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام : « في الدم يكون في الثوب ، إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة » (3) ، الحديث.

وحسنة محمّد بن مسلم قال : « قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة؟ قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ » ، إلى أن قال : « وإن لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي ء ، رأيته أو لم تره » (4). الحديث.

ص: 596


1- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 740.
2- ذكرى الشيعة : 16.
3- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 739.
4- تهذيب الأحكام 1 : 254 ، الحديث 737.

وهذه الرواية كما تدلّ على العفو عن الناقص (1) تدلّ على العفو عمّا بلغ مقدار الدرهم أيضا ، فربّما يقال : إنّ الاحتجاج بها لا يتمّ إلّا عند القائل بمساواة الدرهم الناقص.

ويردّه : أنّ قبولها للتأويل حيث يقال بمساواته للزائد أجاز جعلها دليلا على حكم الناقص من غير ملاحظة للبناء على القول الموافق لظاهرها وسيأتي الكلام عليها.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الروايات المذكورة مقصورة على حكم الثوب فينحصر الدليل بالنظر إلى البدن في الإجماع.

ويلوح من العلّامة في المنتهى التمسّك في البدن بالروايات أيضا مقرّبا له بوجود المشقّة فيه كالثوب ، بل هي في البدن أبلغ ؛ إذ لا يتعدّى إلى الثوب غالبا إلّا منه ، ولا بأس به.

[ المقام ] الثالث : في حكم ما هو بمقدار الدرهم. وقد ذكروا الحجّة على كلّ من القولين الّذين حكيناهما فيه.

فأمّا حجّة الأوّل فوجوه :

أحدها : أنّ مقتضى الدليل وجوب إزالة قليل النجاسة وكثيرها لقوله عليه السلام :

« إنّما يغسل الثوب من البول والمنيّ والدم » (2). وهذا اللفظ بإطلاقه يقتضي وجوب إزالة الدم كيف كان ، فيترك منه ما وقع الاتّفاق على العفو عنه وهو ما دون الدرهم.

ص: 597


1- في « ج » : العفو عن الدرهم الناقص.
2- لم نعثر على نصّ يتضمّن « الدم » في كتب الحديث ، وقد نقل المحقّق هذا النصّ في المعتبر.

وهذا الوجه ذكره المحقّق في المعتبر واقتصر عليه في الاحتجاج لما صار إليه (1).

وثانيها : قوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (2) قال العلّامة في المختلف : هو عامّ تركناه فيما نقص عن الدرهم للمشقّة وعدم الانفكاك منه فيبقى ما زاد على عموم الأمر بإزالته (3).

وثالثها : حديث عبد اللّه بن أبي يعفور السابق عن الصادق عليه السلام حيث قال فيه : « إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة » (4).

وأمّا حجّة الثاني فوجهان :

الأوّل : ما حكاه في المختلف عن المرتضى فقال : قال السيّد المرتضى إنّ اللّه تعالى أباح الصلاة في قوله ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (5) عند تطهير الأعضاء الأربعة. فلو تعلّقت الإباحة بغسل نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدلّ عليها الظاهر لأنّه بخلافها. ولا يلزم على ذلك ما زاد على الدرهم ، وما عدا الدم من ساير النجاسات ؛ لأنّ الظاهر وإن لم يوجب ذلك فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم (6).

الثاني : ما رواه محمّد بن مسلم في الحسن قال : « قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة؟ قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه

ص: 598


1- المعتبر 1 : 430.
2- سورة المدّثّر : 4.
3- مختلف الشيعة 1 : 477.
4- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، ذيل الحديث 740.
5- المائدة : 6.
6- مختلف الشيعة 1 : 478 ، والانتصار : 14.

وصلّ وإن لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك. وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي ء رأيته أو لم تره. فإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصلّيت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صلّيت فيه » (1).

وما رواه إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال : « في الدم يكون في الثوب إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة. وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتّى صلّى فليعد صلاته وإن لم يكن رآه حتّى صلّى فلا يعيد الصلاة » (2).

وأجاب العلّامة عن الوجه الأوّل من هذه الحجّة : بأنّ الآية لا تدلّ على الإباحة عند تطهير الأعضاء الأربعة بل هي على اشتراط تطهيرها في الصلاة.

وعن الثاني : بأنّ محمّد بن مسلم لم يسنده إلى الإمام. قال : وعدالته وإن كانت تقتضي الإخبار عن الإمام إلّا أنّ ما ذكرناه لا لبس فيه (3). يعني حديث ابن أبي يعفور.

ولما أجاب به عن الوجه الأوّل وجه.

وأمّا جوابه عن الثاني فمنظور فيه ؛ وذلك لأنّ الممارسة تنبّه على أنّ المقتضي لنحو هذا الإضمار في الأخبار ارتباط بعضها ببعض في كتب رواتها عن الأئمة عليهم السلام ، فكان يتّفق وقوع أخبار متعدّدة في أحكام مختلفة مرويّة

ص: 599


1- تهذيب الأحكام 1 : 254 ، الحديث 736.
2- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 739.
3- مختلف الشيعة 1 : 479.

عن إمام واحد. ولا فصل بينها يوجب إعادة ذكر الإمام عليه السلام بالاسم الظاهر فيقتصرون على الإشارة إليه بالمضمر.

ثمّ إنّه لمّا عرض لتلك الأخبار الاقتطاع والتحويل إلى كتاب آخر تطرّق هذا اللبس ومنشأه غفلة المقتطع لها ، وإلّا فقد كان المناسب رعاية حال المتأخّرين لأنّهم لا عهد لهم بما في الاصول.

واستعمال ذلك الإجمال إنّما ساغ لقرب البيان وقد صار بعد الاقتطاع في أقصى غايات البعد.

ولكن عند الممارسة والتأمّل يظهر أنّه لا يليق بمن له أدنى مسكة أن يحدّث بحديث في حكم شرعي ويسنده إلى شخص مجهول بضمير ظاهر في الإشارة إلى معلوم ، فكيف بأجلّاء أصحاب الأئمّة عليهم السلام كمحمّد بن مسلم وزرارة وغيرهما.

ولقد تكثّر في كلام المتأخّرين ردّ الأخبار بمثل هذه الوجوه التي لا يقبلها ذو سليقة مستقيمة وطويّة بمقتضيات الأحوال عليمة (1). هذا.

وقد كان الأولى للعلّامة في الجواب عن الاحتجاج بهذا الحديث - بعد حكمه بصحّة حديث ابن أبي يعفور ورجوع كلامه في جوابه إلى أنّ حديث ابن أبي يعفور أرجح في الاعتبار من خبر ابن مسلم - أن يجعل وجه الرجحان كون ذلك من الصحيح وهذا من الحسن.

ولكنّي من صحّة حديث ابن أبي يعفور في ريب ؛ لاشتمال طريقه على علي ابن الحكم وزياد بن أبي الحلال. والأصل في توثيقهما شهادة الواحد لا غير.

ص: 600


1- في نسخة « ب » : عليّة.

فالشيخ وثّق الأوّل (1) والنجاشي الثاني (2). وتبعهما العلّامة (3). وقد ذكرنا ما لنا من التوقّف في الاكتفاء بمثله مرارا.

ولعلّ في حكم المحقّق بصحّتها كما حكيناه دليلا على وجدان ما يدلّ على توثيقهما زيادة على شهادة الواحد ؛ إذ مختار المحقّق في كتابه الاصولي عدم الاكتفاء بتعديل الواحد (4) ، فبناؤه على مجرّد قول الشيخ والنجاشي كما يقع للعلّامة مستبعد في الجملة ، وإن كنّا قد وجدنا له في المباحث الفقهيّة ما لا يوافق كلامه في الاصول وقد مرّ من ذلك أشياء.

وبالجملة فحديث ابن أبي يعفور أقرب إلى القبول من خبر ابن مسلم فمع التعارض يكون الترجيح للأوّل.

وبتقدير المساواة ، فخبر ابن مسلم أقرب إلى التأويل إذ يمكن حمل ذكر الزيادة عن مقدار الدرهم فيه على كونها إشارة إلى أنّ اتّفاق كون الدم بمقدار الدرهم فحسب بعيد جدّا ، وأنّ الغالب فيه الزيادة أو النقصان.

وممّا يرشد إلى هذا قوله في رواية إسماعيل الجعفي : « إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وإن كان أكثر فليعد صلاته » (5). ولم يتعرّض لحال مساواته للدرهم ، فالظاهر أنّه لا وجه لتركه إلّا بعد وقوعه.

وحينئذ فيكون مفهوم الشرط الأوّل في هذه الرواية مخصّصا لعموم مفهوم

ص: 601


1- الفهرست ( للشيخ الطوسي ) : 87.
2- رجال النجاشي : 171.
3- خلاصة الأقوال 1 : 74 ، 93 ، 98.
4- معارج الاصول : 150.
5- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 739.

الشرط الثاني بمعونة ملاحظة الجمع بينه وبين حديث ابن أبي يعفور.

وقد اتّفق للعلّامة الاحتجاج برواية إسماعيل في المختلف للقول بمساواة الدرهم للزائد عنه ، واقتصر منها على الشرط الأوّل (1).

وفي المنتهى ذكرها في حجّة القائل بمساواته للناقص وليس بجيّد (2) ؛ فإنّ ظاهرها مشكل ؛ لما بين مفهومي الشرطين فيها من التدافع. فالاحتجاج بها لواحد من القولين موقوف على تحقيق وجه الجمع بين المفهومين.

ولعلّ الصواب فيه ما قلناه ، فتصير مؤيّدة للأدلّة التي تمسّكوا بها في القول بمساواته للزائد. ولا ريب أنّ هذا القول هو الأحوط والأولى ، وإن كان في الرواية التي احتجّوا له بها ما قد ظهر من الشكّ.

وفي الوجهين الآخرين المذكورين في حجّته نوع نظر لا يكاد يخفى عند إنعام النظر وملاحظة مقدّمات كرّرنا ذكرها.

ثمّ إنّ مصير أجلّاء الأصحاب إليه ، بل عدم ظهور المخالفة فيه إلّا من المرتضى وسلّار يساعد على المصير إليه.

وإذ قد انتهى الكلام على حكم المجتمع فليذكر حكم المتفرّق فنقول :

وإذا كان الدم في البدن أو الثوب متفرّقا بحيث لا يبلغ كلّ موضع منه قدر الدرهم ففي إناطته حكم مجموعه بالدرهم كالمجتمع خلاف بين الأصحاب :

فذهب سلّار من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين إلى أنّ حكمه حكم المجتمع فيجب إزالته إن بلغ المجموع على تقدير الاجتماع مقدار الدرهم ، وإلّا فلا (3).

ص: 602


1- مختلف الشيعة 1 : 478.
2- منتهى المطلب 3 : 252.
3- المراسم : 55.

وظاهر الشيخ في النهاية : أنّه لا يجب إزالته مطلقا إلّا أن يتفاحش ، ويحكى عنه أنّه قال في المبسوط :

ما نقص عن الدرهم لا يجب إزالته سواء كان في موضع واحد من الثوب أو في مواضع كثيرة بعد أن يكون كلّ موضع أقلّ من مقدار الدرهم. وإن قلنا إذا كان جميعه لو جمع لكان مقدار الدرهم وجب إزالته كان أحوط للعبادة (1).

ويعزى إلى ابن إدريس إطلاق القول بعدم وجوب الإزالة (2). وبذلك صرّح المحقّق في النافع (3). وظاهره في المعتبر وفاق الشيخ على مختار النهاية (4).

احتجّوا لوجوب الإزالة إذا كان على تقدير الاجتماع يبلغ قدر الدرهم بوجوه :

أحدها : إطلاق التقدير ، وتعليق الحكم به في جملة من الأخبار كقوله في حسنة محمّد بن مسلم : « فإذا قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه » (5) ؛ فإنّه لا تعرّض في هذا للاجتماع ولا للافتراق. ومقتضى الإطلاق تساوي الحالين.

الثاني : رواية عبد اللّه بن أبي يعفور السابقة فإنّها مفروضة في المتفرّق كما يدلّ عليه قوله فيها : « الرجل يكون في ثوبه نقط الدم » (6).

ص: 603


1- النهاية ونكتها 1 : 266 ، والمبسوط 1 : 36.
2- السرائر 1 : 178.
3- المختصر النافع : 18.
4- المعتبر 1 : 430.
5- تهذيب الأحكام 1 : 254 ، الحديث 736.
6- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 740.

الثالث : إنّ الأصل وجوب إزالة الدم بقوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (1) خرج عنه ما دلّ الدليل على العفو عنه فيبقى الباقي.

واحتجّ المحقّق في المعتبر لعدم وجوب الإزالة وإن بلغ الدرهم لو جمع بقوله عليه السلام في حديث عبد اللّه بن أبي يعفور السابق : « إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة » (2) ، وبأنّ الوجه المقتضي للعفو عن يسير الدم مقتض للعفو في محلّ النزاع.

وأجاب العلّامة في المختلف عن الاحتجاج بالحديث : بأنّه كما يحتمل أن يكون قوله فيه مجتمعا خبرا بعد خبر ل- « يكون » فيدلّ على أنّ الاجتماع شرط في وجوب الإزالة ، يحتمل كونه حالا مقدّرة فيصير المعنى : إلّا أن يكون مقدار الدرهم لو كان مجتمعا (3).

ونوقش في ذلك بأنّ الحال المقدّرة هي التي زمانها غير زمان عاملها ، ولها مثال مشهور ، وهو قول القائل : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدّرا فيه الصيد ، والزمان في ما نحن فيه متّحد. فبتقدير كونه حالا يكون من قبيل المحقّقة لا المقدّرة.

هذا والذي يظهر : أنّ احتمال الخبرية فيه أظهر.

ويؤيّده رواية جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام أنّهما قالا : « لا بأس بأن يصلّي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرّقا شبه النضح وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن

ص: 604


1- سورة المدّثّر : 4.
2- المعتبر 1 : 430 - 431.
3- مختلف الشيعة 1 : 480 - 481.

مجتمعا قدر الدرهم » (1).

فإنّ متن هذه الرواية أوضح دلالة على اعتبار الاجتماع كما لا يخفى ، وإن كانت إرادة المعنى الآخر منها غير ممتنعة.

والتحقيق : أنّه ليس في أدلّة القول بوجوب الإزالة دليل خالص من شوب الريب.

وحديث ابن أبي يعفور إمّا متساوي الاحتمالين ، أو أقرب إلى الدلالة على العدم ، فإثبات التكليف بالإزالة مشكل ، غير أنّ الاحتياط يقتضي كون العمل على وجوبها.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ التفاحش الذي علّق الشيخ وجوب الإزالة به لم يبيّن مقداره.

وقد ذكر المحقّق في المعتبر : أنّه ليس له تقدير شرعي ، وأنّ قول الفقهاء فيه مختلف :

فبعض قدّره بالشبر ، وبعض بما تفحّش في القلب. قال : وقدّره أبو حنيفة بربع الثوب.

ثمّ قال : والمرجع فيه إلى العادة لأنّها كالأمارة الدالّة على المراد باللفظ إذا لم يكن له تقدير شرعا ولا وضعا (2).

تذنيب :

الدرهم الذي جعل مقداره مناطا لحكم الدم لم يرد ببيان المراد منه شي ء من جهة النقل على ما وصل إلينا. والقاعدة في مثله الرجوع إلى العرف

ص: 605


1- تهذيب الأحكام 1 : 256 ، الحديث 742.
2- المعتبر 1 : 431.

الموجود في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله أو الأئمّة عليهم السلام بناء على انتفاء الحقيقة الشرعيّة وإلّا كانت مقدّمة.

وقد ذكر الأصحاب أنّ المراد به هنا البغليّ. فكأنّهم عرفوا أنّه هو المتعارف حينئذ ، أو وقفوا على دليل دلّ على إرادته.

ثمّ إنّه وقع في تفسيره وتقديره اختلاف :

فأمّا التفسير : فحكى الشهيد في الذكرى عن ابن ادريس أنّه - بإسكان الغين - منسوب إلى رأس البغل ، ضربه للثاني في ولايته بسكّة كسرويّة ، وزنته ثمانية دوانيق.

قال : والبغليّة كانت تسمّى قبل الإسلام ( الكسرويّة ) ، فحدث لها هذا الاسم في الإسلام ، والوزن بحاله ، وجرت في المعاملة مع ( الطبريّة ) وهي أربعة دوانيق فلمّا كان زمان عبد الملك جمع بينهما واتّخذ الدرهم منهما واستقرّ من الإسلام على ستّة دوانيق (1).

وقال المحقّق في المعتبر : الدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث ، ويسمّى البغلي نسبة إلى قرية بالجامعين (2) ، وذكر العلّامة في التذكرة نحو هذا (3).

وفي كلام جماعة من الأصحاب أنّه على هذا التفسير مفتوح الغين مشدّد اللام. وقد حكى في الذكرى هذا التفسير بعد نقله لكلام ابن دريد فقال : « وقيل منسوب إلى بغل قرية بالجامعين كان يوجد بها دراهم تقرب سعتها

ص: 606


1- ذكرى الشيعة : 16.
2- المعتبر 1 : 429.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 74.

من أخمص الراحة لتقدّم الدراهم على الإسلام » (1).

ثم إنّه ناقش في هذا التعليل بأنّه لا ريب في تقدّم الدراهم وإنّما التسمية حادثة. قال : فالرجوع إلى المنقول أولى ، يعني ما نقله عن ابن دريد.

وأمّا تقديره ففي كلام ابن الجنيد أنّ سعته كعقد الإبهام الأعلى (2).

ويعزى إلى ابن ادريس أنّه بعد أنّ ذكر أنّ النسبة إلى قرية بالجامعين كان يوجد بها دراهم قال : إنّه شاهدها تقرب سعتها من أخمص الراحة (3).

وذكر في المعتبر بعد تفسيره له بالوافي الذي وزنه درهم وثلث - كما حكيناه عنه - أنّ ابن أبي عقيل قال : إنّ المراد منه ما كان بسعة الدينار. ثمّ حكى المحقّق كلام ابن الجنيد وقال بعد ذلك : والكلّ متقارب. والتفسير الأوّل أشهر (4). هذه عبارته.

وفي كلام بعض الأصحاب : أنّه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز اختلاف أفراد الدرهم من الضارب الواحد كما هو الواقع ، وإخبار كلّ واحد عن فرد رآه.

وهذا الكلام إنّما يتمّ لو لم يكن في التفسير خلاف وإلّا فمن الجائز استناد الاختلاف في التقدير إلى الخلاف في التفسير ولم يعلم من حال الّذين حكي كلامهم في التقدير أنّهم متّفقون على أحد التفسيرين. قال : فإنّ ابن الجنيد لم يتعرّض في كلامه الذي رأيناه لذكر البغلي فضلا عن تفسيره ، ولم ينقل عنه

ص: 607


1- ذكرى الشيعة : 16.
2- في « ب » : الإبهام العليا.
3- السرائر 1 : 177.
4- المعتبر 1 : 430.

أحد من الأصحاب في ذلك شيئا ، والكلام الذي حكاه المحقّق عن ابن أبي عقيل خال من التعرّض للفظ البغلي أيضا.

وأمّا ابن إدريس فقد عزي إليه المصير إلى التفسير الثاني وبناء التقدير عليه.

والعجب من جماعة من الأصحاب أنّهم بعد اعترافهم بوقوع الاختلاف هنا قالوا : إنّ شهادة ابن إدريس في قدره مسموعة. مريدين بذلك الاعتماد على التقدير الذي ذكره. وكيف يستقيم ذلك؟

وفرض كون كلامه شهادة مقتض لتوقّف الحكم بمضمونها على التعدّد كما هو شأن الشهادة.

ومع التنزّل فهو مبنيّ على تفسيره كما قلناه. فلا بدّ من ثبوت التفسير أوّلا. ولم يظهر من حال الجماعة الذين ذكروا هذا الكلام أنّهم معتمدون على هذا التفسير.

وبالجملة فالمصير إلى شي ء من التفسيرين والبناء على واحد من التقديرين - مع عدم ظهور الحجّة وإنّما هي دعاوي مجرّدة عن الدليل - دخول في ربقة التقليد. والوقوف مع القدر القليل (1) هو الأولى. ولعلّ القرائن الحاليّة تشهد بنفي ما دونه.

والمراد بأخمص الراحة في تقدير ابن إدريس ما انخفض منها.

قال الجوهري : الأخمص ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض (2).

ص: 608


1- في « أ » : مع القدر الأقلّ هو الأولى.
2- الصحاح 3 : 1038 ، طبعة دار العلم للملايين.
فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

قال العلّامة في المنتهى : لو تنجس الرطب الطاهر بالدم ثمّ أصاب الثوب لم يعتبر فيه الدرهم بل وجب إزالة قليله لأنّه نجس ليس بدم ، فوجب إزالته بالأصل السالم عن المعارض.

ثمّ أورد على نفسه : أنّ النجاسة مستفادة من الدم فكان الحكم له.

وأجاب : بأنّه قد لا يثبت في الفرع ما ثبت في الأصل ، وبأنّ الاعتبار بالمشقّة المستندة إلى كثرة الوقوع ، وذلك غير موجود في صورة النزاع لندورته.

قال : أمّا لو زالت عين الدم بما لا يطهّرها ففي جواز الصلاة نظر ، أقربه الجواز لأنّه مع العينيّة يجوز ، وبزوال العين تخفّ النجاسة فكان الدخول سائغا (1).

وهذا الكلام من أصله منظور فيه. وقد اختار جمع من الأصحاب مساواة هذا المتنجّس لما تنجّس به ، فيعفى عنه إذا نقص عن مقدار الدرهم. وعلّلوه بأنّ المنجّس بشي ء أضعف حكما منه. وإذا ثبت العفو في القويّ فالضعيف أولى بأن يثبت فيه.

وإلى هذا القول ذهب الشهيد في الذكرى (2). وفي البيان صار إلى الأوّل (3). وكأنّ الثاني هو الأظهر.

ص: 609


1- منتهى المطلب 3 : 256.
2- ذكرى الشيعة : 16.
3- البيان : 95 ، الطبعة المحقّقة.
[ الفرع ] الثاني :

إذا أصاب الدم وجهي الثوب فإن تفشّى من جانب إلى آخر فهو دم واحد ، وإلّا فدمان. قاله جماعة من الأصحاب.

وفصّل الشهيد رحمه اللّه فقال في البيان : لو تفشّى الدم في الرقيق فواحد وفي الصفيق اثنان (1). وذكر نحو ذلك في الذكرى (2). ونصّ العلّامة رحمه اللّه في المنتهى والتحرير على أنّ التفشّي موجب للاتّحاد في الصفيق.

والتحقيق : تحكيم العرف في ذلك ؛ إذ ليس له ضابط شرعي ولا سبيل إلى استفادة حكم اللّغة في مثله ، فالمرجع حينئذ إلى ما يقتضيه العرف.

[ الفرع ] الثالث :

قال العلّامة في النهاية : لو كان الدم اليسير في ثوب غير ملبوس أو في متاع أو آنية أو آلة فأخذ ذلك بيده وصلّى وهو حامل له احتمل الجواز ؛ لعموم الترخّص ، والمنع لانتفاء المشقّة. وذكر نحو هذا الكلام في المنتهى (3).

وفي كلا توجيهيه نظر :

أمّا الأوّل : فلأنّ أدلّة الترخيص ليس فيها عموم يتناول مثل هذا. وأمّا الثاني : فلأنّ اعتبار المشقّة لو اخذ دليلا على الحكم لا نتفت الرخصة في كثير من الصور لعدم المشقّة فيها.

والحقّ : أنّ الحكم بالعفو في موضع النزاع غير محتاج إلى تكلّف يتناول دليل العفو في أصل المسألة له ، بل يكفي فيه كونه مقتضى الأصل ؛ فإنّ إيجاب

ص: 610


1- البيان : 95 ( الطبعة المحقّقة ).
2- ذكرى الشيعة : 16.
3- نهاية الإحكام 1 : 287 ، ومنتهى المطلب 3 : 255 - 256.

الإزالة والاجتناب تكليف ، والأصل براءة الذمّة منه.

وإنّما احتاجوا في حكم الثوب الملبوس والبدن إلى التمسّك بغير هذا الوجه لقيام الدليل على منافاة النجاسة فيهما لصحّة الصلاة كما مرّت الإشارة إليه فيتوقّف استثناء بعض النجاسات على الحجّة. ولو لا ذلك لكان الأصل دليلا قويّا في الجميع.

[ الفرع ] الرابع :

قال الشهيد في الدروس : لو اشتبه الدم المعفوّ عنه بغيره ، كدم الفصد بدم الحيض ، فالأقرب العفو.

ولو اشتبه الدم الطاهر بغيره فالأصل الطهارة (1). ولم يتعرّض لبيان الوجه في الحكمين.

وقد وجّهه بعض الأصحاب بأنّه مبنيّ على القاعدة المقرّرة في اشتباه الشي ء بين المحصور وغير المحصور وهي الإلحاق بغير المحصور من حيث إنّ الحصر على خلاف الأصل. وفي موضع البحث لا حصر في الدم المعفوّ عمّا نقص عن الدرهم منه ولا في الدم الطاهر.

وهذا الكلام متّجه بالنظر إلى الحكم الأوّل حيث إنّ ما لا يعفى عن قليله من الدماء منحصر وما لا يعفى عنه غير منحصر كما ذكره.

وأمّا في الحكم الثاني فواضح الفساد ؛ لأنّ كلّا من الدم الطاهر والنجس غير منحصر.

وقد وجّهه بعض من عاصرناه من مشايخنا بأنّ أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم بل في ما لاقاه على معنى أنّ طهارته إذا علمت قبل ملاقاة

ص: 611


1- الدروس الشرعيّة 1 : 124.

هذا الدم المشتبه فالأصل بقاؤها إلى أن يعلم المقتضي لنجاسته. ومع الاشتباه لا علم. وله وجه.

غير أنّ لنا في المقام توجيها أحسن منه وهو أنّه لا معنى للنجس إلّا ما أمر الشارع بإزالته أو اجتنابه ، ولا للطاهر إلّا ما لا تكليف فيه بأحد الأمرين ، فإذا حصل الاشتباه كان مقتضى الأصل هو الطهارة بمعنى براءة الذمّة من التكليف بواحد من الأمرين.

ولا يذهب عليك أنّ اعتبار هذا التوجيه في الحكم الأوّل أيضا أولى ممّا حكيناه فيه.

فإن قلت : قد استفيد ممّا ذكرته - في الاحتجاج لعدم العفو عن بعض أنواع الدم - : أنّ في الأدلّة العامّة ما يقتضي وجوب إزالة الدم مطلقا. خرج من ذلك ما دلّ الدليل على استثنائه والعفو عنه فيبقى الباقي. وحينئذ فحيث يقع الاشتباه لا نعلم كونه من أفراد ما استثني فيتّجه إيجاب إزالته بمقتضى ذلك العموم.

قلت : ليس في دليل الاستثناء تقيّد ، ليكون العفو موقوفا على العلم بخصوصيّة النوع الذي علّق به ، ولكنّه مع ذلك ليس بظاهر في تناول ما حكم الأصحاب بانتفاء العفو فيه. فلا معارض في حكمه للدليل الدالّ بعمومه على وجوب الإزالة فيعمل به فيه.

وأمّا المشتبه الذي لا نعلم من أيّ نوع هو فدليل العفو صالح لتناوله.

والحاصل : أنّ غير المعفوّ عنه محصور معيّن ولا تعيين في العفو فمع الاشتباه يكون الحكم لغير المعيّن.

مسألة [7] :
اشارة

وكلّ ما لا يتمّ الصلاة فيه وحده - كالتكّة والقلنسوة والخفّ والنعل - يعفى

ص: 612

عن نجاسته سواء كانت دما أو غيره ولو مغلّظة كدم الحيض. ولا نعرف في أصل هذا الحكم خلافا بين الأصحاب.

والحجّة فيه أصالة براءة الذمّة من التكليف بالإزالة.

ويعضدها ما رواه في الصحيح الشيخ عن حمّاد بن عثمان عمّن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في الرجل يصلّي في الخفّ الذي قد أصابه قذر؟ فقال : إذا كان ممّا لا يتمّ فيه الصلاة فلا بأس » (1).

وما رواه في الموثّق عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال : « كلّما كان لا يجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي ء مثل القلنسوة والتكّة والجورب » (2).

وعن إبراهيم بن أبي البلاد عمّن حدّثهم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا بأس بالصلاة في الشي ء الذي لا يجوز الصلاة فيه وحده يصيبه القذر مثل القلنسوة والتكّة والجورب » (3).

وما رواه عن عبد اللّه بن سنان عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « كلّما كان على الانسان أو معه ممّا لا يجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلّي فيه وإن كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكّة والكمرة والنعل والخفّين وما أشبه ذلك » (4).

وعن زرارة قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ قلنسوتي وقعت في بول

ص: 613


1- تهذيب الأحكام 2 : 357 ، الحديث 1479.
2- تهذيب الأحكام 2 : 358 ، الحديث 1482.
3- تهذيب الأحكام 2 : 358 ، الحديث 1481.
4- تهذيب الأحكام 1 : 275 ، الحديث 810.

فأخذتها فوضعتها على رأسي ثمّ صلّيت. فقال : لا بأس » (1).

وهذه الروايات وإن اشتركت كلّها في ضعف الإسناد إلّا أنّ انضمامها إلى الأصل يساعد على إثبات الحكم.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الأصحاب وإن لم يظهر بينهم خلاف في أصل العفو هنا فقد اختلفوا فيه من جهة المتعلّق ، وذلك أنّ المحقّق (2) والشهيد في أكثر كتبه (3) ووالدي (4) وجماعة من المتأخّرين عمّموا الحكم في كلّ ما لا يتمّ الصلاة فيه من ملبوس ومحمول.

وخصّه العلّامة بالملابس فقال في النهاية والمنتهى : لو كان معه دراهم نجسة أو غيرها لم تصحّ صلاته (5). ووافقه الشهيد في البيان (6).

وزاد في أكثر كتبه قيدا آخر وهو كونها في محالّها. ففي المنتهى : لو وضع التكّة على رأسه والخفّ في يده وكانا نجسين لم تصحّ صلاته (7). وتبعه على هذا القيد أيضا الشهيد في البيان (8).

ويعزى إلى القطب الراوندي قصر الحكم على خمسة أشياء : القلنسوة

ص: 614


1- تهذيب الأحكام 2 : 357 ، الحديث 1480.
2- المعتبر 1 : 434.
3- ذكرى الشيعة : 16 ، والبيان : 42 ، الطبعة الحجرية.
4- روض الجنان.
5- نهاية الإحكام 1 : 283 ، ومنتهى المطلب 3 : 257 ، 260.
6- البيان : 96.
7- منتهى المطلب 3 : 260.
8- البيان : 96.

والتكّة والجوراب والخفّ والنعل (1).

وعدّ الصدوقان في الرسالة والمقنع : العمامة في جملة ما يعفى عنه لكون الصلاة لا تتمّ فيه وحده (2).

وحكى في المعتبر عن الراوندي أنّه قال : يحمل على عمامة صغيرة كالعصابة لأنّها لا يمكن ستر العورة بها (3).

وأظهر هذه الأقوال عندي عموم العفوّ لكلّ ملبوس ومحمول لا يتمّ الصلاة فيه ؛ لأنّ الدليل عامّ وليس لهم على شي ء من دعاوي التخصيص شاهد.

والعجب من العلّامة أنّه احتجّ للحكم في بعض كتبه بالأصل. واستقرب التخصيص بالملابس التي في محالّها من غير أن يذكر على ذلك حجّة. وكيف يقرن الدليل المقتضي للعموم بالدعوى المأخوذة على جهة الخصوص؟ هذا ، والأخبار بتقدير نهوضها دليلا ظاهرة في العموم أيضا ، فلا ندري من أين يدرك التخصيص؟

وقد عزى في المختلف إلى الراوندي الاحتجاج على ما صار إليه من الاقتصار على الأشياء الخمسة بوقوع الإجماع عليها ، وما عداها لم يثبت النصّ فيه فيبقى على المنع (4).

وأجاب عنه بأنّا قد بيّنا الثبوت والمشاركة في الجواز. وعنى بذلك ما احتجّ به للحكم من الأخبار ، مضافا إلى وجه من الاعتبار هيّن.

ص: 615


1- مختلف الشيعة 1 : 484.
2- المقنع ( من الجوامع الفقهية ) : 14.
3- المعتبر 1 : 435.
4- مختلف الشيعة 1 : 484.

وإذ قد علمت أنّه لا شي ء من الأخبار ينفي الإسناد فالاعتماد إذن في الاستدلال على الأصل. وبه تمسّك المحقّق في المعتبر (1) ، وجعل الروايات مؤيّدة ، ونعم ما فعل.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

قال في المعتبر : لو حمل حيوانا طاهرا غير مأكول أو صبيّا لم تبطل صلاته ؛ لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله حمل أمامة وهو يصلّي ، وركب الحسين عليه السلام على ظهره وهو ساجد (2). وذكر العلّامة في المنتهى نحو هذا الكلام وزاد في حكاية ركوب الحسين عليه السلام على ظهر النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّ الجمهور كافّة نقلوه (3). وأضاف إلى هذا الدليل وجها آخر وهو : أنّ النجاسة في المحمول في معدته كالحامل.

واحتجّ له بعض الأصحاب بالأصل السالم عن معارضة ما يقتضي المنافاة وهو الأوضح.

[ الفرع ] الثاني :

قال الشيخ في الخلاف : إذا حمل قارورة مسدودة الرأس بالرصاص وفيها بول أو نجاسة ليس لأصحابنا فيه نصّ.

والذي يقتضيه المذهب أنّه لا ينقض الصلاة. وبه قال ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي. غير أنّه قاسه على حيوان طاهر في جوفه نجاسة. ثمّ عزى إلى غيره من العامّة القول بالبطلان.

ص: 616


1- المعتبر 1 : 434.
2- المعتبر 1 : 443.
3- منتهى المطلب 3 : 314.

وقال بعد ذلك : ودليلنا أنّ قواطع الصلاة طريقها الشرع ولا دليل في الشرع على أنّ ذلك يبطل الصلاة. ثمّ قال : ولو قلنا أنّه يبطل الصلاة لدليل الاحتياط كان قويّا ، ولأنّ على المسألة إجماعا ؛ فإنّ خلاف ابن أبي هريرة لا يعتدّ به (1).

هذه عبارته.

وقد حكى محصولها المحقّق في المعتبر. وذكر أنّ الشيخ جزم في المبسوط بالبطلان ثمّ استوجه هو الجواز (2).

احتجّ له بأنّه محمول لا تتمّ الصلاة به منفردا فيجوز استصحابه في الصلاة. ثمّ قال : والجمهور عوّلوا على أنّه حامل نجاسة فيبطل صلاته كما لو كانت على ثوبه.

ونحن نقول : النجاسة على الثوب منجّسة له فتبطل لنجاسة الثوب لا لكونه حاملا نجاسة ونطالبهم بالدلالة على أنّ حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتّصل بالثوب والبدن.

وناقش الشيخ في الكلام الذي قاله في الخلاف فقال : وما استدلّ به الشيخ ضعيف ؛ لأنّه سلّم أنّه ليس على المسألة نصّ لأصحابه. وعلى هذا التقدير يكون ما استدلّ به من الإجماع هو قول جماعة من فقهاء الجمهور وليس في ذلك حجّة عندنا ولا عندهم أيضا (3).

وهذه المناقشة متوجّهة ، وما اختاره المحقّق هو الحقّ ، واحتجاجه له مع جوابه عمّا عوّل الجمهور عليه في غاية الجودة.

ص: 617


1- الخلاف 1 : 503.
2- المعتبر 1 : 443 ، وراجع المبسوط 1 : 94.
3- المعتبر 1 : 443.

وقد ذكر الشهيد في الذكرى بعد حكايته لكلام المحقّق هنا أنّه لا حاجة على قوله : « إلى شدّ رأس القارورة إذا أمن تعدّي النجاسة منها ».

قال : ومن اشترطه من العامّة لم يقل بالعفو عما لا يتمّ الصلاة فيه وحده ، بل مأخذه القياس على حمل الحيوان (1). وهذا الكلام حسن.

وأرى أنّ المحقّق لا ينكره وإنّما لم يصرّح به لأنّه مشى في كلامه على أثر كلام الشيخ ، وأنّ الشيخ اقتفى أثر العامّة في فرض المسألة كما يعلن به قوله : « ليس لأصحابنا فيه نصّ ».

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العلّامة رجّح في أكثر كتبه مختار المبسوط (2). وعزاه في المختلف إلى ابن إدريس أيضا (3). ثمّ احتجّ له : بأنّه حامل نجاسة فيبطل صلاته ، كما لو كانت النجاسة على بدنه أو ثوبه. وبأنّ إيجاب تطهير الثوب والبدن لأجل الصلاة ووجوب تحرّز المساجد - التي هي مواطن الصلاة - عن النجاسة يناسب البطلان هنا. وبأنّ الاحتياط يقتضي ذلك (4).

وأنت إذا فهمت كلام المحقّق استغنيت به عن طلب الجواب عن هذه الحجّة.

وأمّا استشهاده فيها ب- « وجوب التحرّز من إدخال النجاسة إلى المساجد » فناظر إلى رأيه في منع إدخال النجاسة إلى المساجد مع عدم تعدّيها إليها أو إلى شي ء من آلاتها وسيأتي البحث عن ذلك في أحكام المساجد إن شاء اللّه تعالى.

ص: 618


1- ذكرى الشيعة : 17.
2- المبسوط 1 : 94 ، ومختلف الشيعة 1 : 491.
3- السرائر 1 : 189.
4- مختلف الشيعة 1 : 491.
[ الفرع ] الثالث :

ذكر الشيخ في النهاية وغيرها - بعد أن نفى البأس عن الصلاة فيما أصابه نجاسة ممّا لا يتمّ الصلاة فيه - : أنّ إزالة النجاسة عنه أفضل (1).

وقال السيد أبو المكارم بن زهرة : وقد عفي عن النجاسة التي يكون فيما لا يتمّ الصلاة فيه. إلى أن قال : والتنزّه عن ذلك أفضل (2).

ولم أر من تعرّض لهذا الحكم سواهم ولا وقفت على خبر يقتضيه بصريحه ولكن ورد في بعض الروايات اشتراط رجحان الصلاة في النعل بطهارته. وإذا ثبت ذلك في النعل فلا يبعد أن يكون غيره من الملابس أولى بالحكم.

وجملة ما وقفت عليه من الأخبار الواردة بذلك المعنى حديثان :

أحدهما : ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا صلّيت فصلّ في نعليك إذا كانت طاهرة فإنّه يقال ذلك من السنّة » (3).

والثاني : ما رواه في الحسن عن عبد اللّه بن المغيرة قال : « إذا صلّيت فصلّ في نعليك إذا كانت طاهرة فإنّ ذلك من السنّة » (4).

وروى الصدوق رحمه اللّه الخبر الأوّل في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق عليه السلام (5). وفي المتن نوع مخالفة ؛ فإنّه أورده بصورة متن

ص: 619


1- النهاية ونكتها 1 : 269.
2- غنية النزوع ( المطبوع ضمن الجوامع الفقهية ) : 493.
3- تهذيب الأحكام 2 : 233 ، الحديث 919.
4- تهذيب الأحكام 2 : 233 ، الحديث 917.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 358.

الخبر الثاني.

مسألة [8] :
اشارة

والمشهور بين الأصحاب العفو عن نجاسة ثوب المربّية للصبيّ ذات الثوب الواحد إذا غسلته في اليوم مرّة.

والحجّة في ذلك على ما ذكره الفاضلان في المعتبر والمنتهى ما رواه الشيخ عن أبي حفص عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سئل عن امرأة ليس لها إلّا قميص ولها مولود فيبول عليها كيف تصنع؟ قال : تغسل القميص في اليوم مرّة » (1).

وإنّ تكرار بول الصبيّ يمنع التمكّن من إزالته فجرى مجرى دم القرح الذي لا يمنع من استصحاب الثوب في الصلاة (2).

قال المحقّق : فكما يجب اتّباع الرواية هناك دفعا للحرج فكذا هنا لتحقّق الحرج في الإزالة (3).

وهذه الحجّة بيّنة الوهن ؛ فإنّ الرواية ضعيفة السند ، فلا تصلح لتأسيس حكم شرعيّ.

واعتبار الحرج يقتضي إناطة الحكم بما يندفع معه ، لا بالزمان المعيّن.

والإلحاق بدم القرح قياس.

ووجوب اتّباع الرواية هناك ليس باعتبار الحرج ، وإنّما هو لصلاحيّتها لإثبات الحكم. وجهة الجرح مؤيّدة لها. وحيث إنّ الصلاحيّة هنا منتفية فلا

ص: 620


1- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 719.
2- منتهى المطلب 3 : 271.
3- المعتبر 1 : 444.

معنى لكون وجوب الاتّباع هناك موجبا لوجوبه هنا.

اذا عرفت هذا فاعلم أنّه على تقدير العمل بالرواية يمكن أن يسوّى في الحكم بين المربّية للصبيّ والصبيّة ؛ نظرا إلى أنّ المذكور فيها المولود ، وهو أعمّ منه. وإلى ذلك ذهب الشهيدان (1) وأكثر المتأخّرين اعتمادا على شمول لفظ المولود لهما.

وقال بعض الأصحاب : أنّ المتبادر من المولود هو الصبيّ. ولا يخلو عن قرب.

وكلام العلّامة في النهاية مشعر بذلك أيضا حيث قال بعد أن ذكر الرواية : إنّ الحكم مخصوص بالذكر اقتصارا في الرخصة على المنصوص ، وللفرق ؛ فإنّ بول الصبيّ كالماء وبول الصبيّة أصفر ثخين ، وطبعها أحرّ فبولها ألصق بالمحلّ (2).

وينبغي قصر الرخصة على البول ؛ لأنّه مورد النصّ ، وبه جزم والدي (3) وبعض المتأخّرين فلا يعفى عن نجاسته بغائطه. واستشكل ذلك العلّامة في النهاية والتذكرة (4).

والظاهر من كلام الشهيد عدم الفرق.

وقرّبه بعض الأصحاب بأنّه ربّما كني عن الغائط بالبول كما هو قاعدة لسان العرب في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به. وليس بشي ء ؛ فإنّ العيان شاهد بعسر التحرّز عن إصابة البول دون غيره. فلا بعد في كون الحكم

ص: 621


1- الروضة البهية 1 : 525.
2- نهاية الإحكام 1 : 288.
3- الروضة البهية 1 : 526.
4- تذكرة الفقهاء 2 : 494.

مقصورا عليه. ومجرّد الاحتمال لا يصلح لإثبات التسوية. هذا.

وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ المراد باليوم هنا ما يشمل الليلة (1) ، وليس بالبعيد لدلالة فحوى الكلام عليه وإن كان لفظ اليوم لا يتناوله حقيقة.

وتوقّف في ذلك بعض من عاصرناه من مشايخنا ؛ نظرا إلى خلوّ اللفظ عنه.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

ألحق العلّامة في التذكرة والنهاية المربّي بالمربّية. وعلّله بوجود المشقّة فيهما (2). واختاره الشهيد في كتبه الثلاثة (3) ، وتبعهما بعض المتأخّرين.

وأنكر ذلك جماعة من حيث إنّ التعليل ليس منصوصا وإنّما هو مستنبط فيكون الإلحاق قياسا. وهذا هو الأظهر.

[ الفرع ] الثاني :

إذا كان الولد متعدّدا ففي ثبوت العفو وعدمه احتمالان ، منشأهما :

وجود المعنى المقتضي ، والزيادة مؤكّدة له ، فلا معنى لزواله.

وكون التعدّد مقتضيا لكثرة النجاسة وقوّتها. ومن الجائز اختصاص العفو بالقليل الضعيف منها دون الكثير القويّ.

وبالأوّل جزم الشهيد ووالدي في بعض كتبه (4). وله وجه.

ص: 622


1- تذكرة الفقهاء 2 : 494.
2- نهاية الإحكام 1 : 288 ، وتذكرة الفقهاء 2 : 494.
3- الدروس الشرعية 1 : 127 ، البيان :
4- ذكرى الشيعة : 17 ، الروضة البهية 1 : 526.
[ الفرع ] الثالث :

قال بعض الأصحاب إذا كان لها أكثر من ثوب ولكنّها تحتاج إلى لبس الجميع دفعة لبرد أو غيره فهو في حكم الواحد. وليس بالبعيد.

ولو اتّحد الثوب ولكن أمكنها تحصيل غيره بالاستعارة أو الاستيجار ففي ثبوت العفو وعدمه حينئذ وجهان :

من صدق الوحدة المنوط بها الحكم.

ومن انتفاء المشقّة بتكرير الغسل.

واستقرب جماعة من المتأخّرين الثاني ، وتوقّف والدي رحمه اللّه وكأنّ الأوّل أقرب.

[ الفرع ] الرابع :

لا عفو عن نجاسة البدن هنا ؛ لفقد النصّ ، وانتفاء المشقّة الحاصلة في الثوب من حيث توقّف لبسه على يبسه.

وربّما صار بعض من تأخّر إلى تعدية الرخصة إليه ؛ نظرا إلى عسر الاحتراز عن الثوب النجس ، ومشقّة غسل البدن كلّ وقت. وليس بشي ء.

[ الفرع ] الخامس :

قال العلّامة في النهاية : الأقرب وجوب عين الغسل فلا يكفي الصبّ مرّة واحدة وإن كفى في بوله قبل أن يطعم الطعام عند كلّ نجاسة (1). وهو جيّد.

وحاصله : أنّ الاكتفاء بالصبّ في بول الرضيع - على ما سيأتي بيانه - إنّما هو مع تكرير الإزالة بحسب الحاجة إلى الدخول في العبادة. وأمّا مع الاقتصار على المرّة في اليوم فلا بدّ من الغسل ؛ عملا بالحديث ، ونظرا إلى

ص: 623


1- نهاية الإحكام 1 : 288.

مساعدة الاعتبار.

فإن تكرّر حصول النجاسة من دون توسّط الإزالة بينها ربّما اقتضى قوّتها بحيث يختلف حكمها مع تحقّق هذا المعنى وبدونه. وعلى كلّ حال فبعد فرض صلاحيّة الخبر لإثبات الحكم ودلالته على وجوب الغسل لا مجال للشكّ.

[ الفرع ] السادس :

ذكر كثير من الأصحاب استحباب جعل غسل الثوب آخر النهار لتوقع الصلوات الأربع في حال الطهارة وهو حسن. والوجه فيه واضح.

والعلّامة في التذكرة - بعد أن ذكر أفضليّة التأخير لذلك - قال : وفي وجوبه إشكال ينشأ من الإطلاق ، ومن أولويّة طهارة أربع على طهارة واحدة (1).

ولا يخفى عليك قوّة توجيهه لعدم الوجوب فالاستحباب أوجه.

مسألة [9] :

ذهب جماعة من الأصحاب منهم الشهيد في الذكرى والدروس إلى العفو عن نجاسة ثوب الخصيّ الذي يتواتر بوله إذا غسله مرّة في النهار (2).

واحتجّوا لذلك بالحرج والمشقّة ، مع ما رواه الشيخ في الصحيح عن سعدان ابن مسلم عن عبد الرحيم القصير ، قال : « كتبت إلى أبي الحسن الأوّل أسأله عن خصيّ يبول فيلقى من ذلك شدّة ويرى البلل بعد البلل فقال : يتوضّأ وينضح ثوبه في النهار مرّة واحدة » (3).

ص: 624


1- تذكرة الفقهاء 2 : 494.
2- ذكرى الشيعة : 17 ، والدروس الشرعيّة 1 : 127.
3- تهذيب الأحكام 1 : 353 ، الحديث 1051.

وفي طريق هذه الرواية ضعف بجهالة سعدان وعبد الرحيم. وقد أشار إلى ذلك ذاكرو المسألة وجعلوه منجبرا باعتبار الحرج والمشقّة.

وربّما ظهر من كلام المحقّق في المعتبر الميل إلى ذلك أيضا ؛ لأنّه ذكر الرواية عن عبد الرحيم ، ثمّ قال : والراوي المذكور ضعيف فلا عمل على روايته. وربّما صير إليها دفعا للحرج ، فبناؤه للمفعول يحتمل كونه إشارة إلى وجود قابل بمضمون الرواية من الأصحاب. ويحتمل أن يكون كناية عن الميل إلى ذلك (1). وهذا أقرب.

ويرد على الاستناد في هذا الحكم إلى الحرج نحو ما أوردناه على التمسّك به في حكم المربّية من أنّه يقتضي جعل المناط في العفو ما يندفع معه المشقّة والحرج ككثير من الأحكام التي يستندون فيها إلى نفي الحرج.

وأمّا الخصوصيّة المذكورة فموقوفة على نهوض الرواية بذلك ، مع أنّ ما ذكروه من الغسل يحتاج فهمه من الرواية إلى نوع من التكلّف.

وقد اقتصر العلّامة في المنتهى على توجيه العمل بمضمون الرواية من غير تعرّض للغسل فقال بعد ذكرها : وفي الطريق كلام ، لكنّ العمل بمضمونها أولى لما فيه من الرخصة عند المشقّة (2). وكلام المحقّق مثله كما رأيت.

واستوجه في التذكرة بعد بيان ضعف الرواية وجوب تكرار الغسل ، فإن تعسّر عمل بمضمون الرواية دفعا للمشقّة (3). وفيه ما لا يخفى.

ص: 625


1- المعتبر 1 : 444.
2- منتهى المطلب 3 : 272.
3- تذكرة الفقهاء 2 : 494.
مسألة [10] :
اشارة

ويعفى عمّا يتعذّر إزالته من النجاسة ، أيّ أنواعها كان. ولا نعرف في ذلك خلافا بالنظر إلى ما يكون منها في البدن.

وأمّا ما يكون في الثوب : فالأصحاب فيه مختلفون. فذهب الشيخ وجماعة - منهم ابن البرّاج في الكامل وابن إدريس على ما حكاه عنهما العلّامة - إلى عدم العفو حينئذ ووجوب نزع الثوب والصلاة عاريا إلّا أن يضطرّ إلى لبسه فيعفى عنه للضرورة (1). ووافقهم على ذلك العلّامة في أكثر كتبه.

وانفرد الشيخ بإيجاب إعادة الصلاة الواقعة في الثوب حال الاضطرار إلى لبسه إذا تمكّن من غسله (2). ولم يعلم له في ذلك رفيق.

وقال الفاضلان في المعتبر والمنتهى ، والشهيدان وجماعة من المتأخّرين : إنّ العفو ثابت سواء كان إلى لبسه ضرورة أم لم يكن. وإنّ المصلّي مخيّر بين الصلاة فيه وعاريا (3).

وزاد الشهيدان والجماعة أنّ الصلاة فيه أفضل (4). وإلى هذا القول ذهب ابن الجنيد من المتقدّمين فقال في مختصره : ولو كان مع الرجل ثوب فيه نجاسة لا يقدر على غسلها كانت صلاته فيه أحبّ إليّ من صلاته عريانا.

وأوجب مع ذلك إعادة الصلاة إذا وجد ثوبا طاهرا ، فقال في موضع آخر من الكتاب : والذي ليس معه إلّا ثوب واحد نجس يصلّي فيه ويعيد في الوقت

ص: 626


1- منتهى المطلب 3 : 301 ، وراجع الخلاف 1 : 179 ، والسرائر 1 : 186.
2- النهاية ونكتها 1 : 270.
3- المعتبر 1 : 445 ، ومنتهى المطلب 3 : 303 ، والروضة البهية 1 : 527.
4- المعتبر 1 : 445 ، ومنتهى المطلب 3 : 303 ، والروضة البهية 1 : 527.

إذا وجد غيره. ولو أعاد إذا خرج الوقت كان أحبّ إليّ.

احتجّ الشيخ لنفي العفو مع عدم الضرورة بإجماع الفرقة. ذكره في الخلاف (1).

وبأنّ النجاسة ممنوع من الصلاة فيها فمن أجاز الصلاة فيها فعليه الدلالة (2).

وبما رواه سماعة قال : « سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه إلّا ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال : يتيمّم ويصلّي عريانا قاعدا ويومئ » (3).

وما رواه محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في رجل أصابته جنابة وهو بالفلات وليس عنده إلّا ثوب واحد وأصاب ثوبه منيّ؟ قال : يتيمّم ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعا ويصلّي فيومئ إيماء » (4).

واحتجّ لثبوته مع الضرورة ووجوب الإعادة حينئذ بما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه : « سئل عن رجل ليس عليه إلّا ثوب واحد ولا تحلّ له الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال : يتيمّم ويصلّي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة » (5).

ودلالة هذه الرواية على إيجاب الإعادة واضحة ، وأمّا دلالتها على اعتبار الضرورة فبملاحظة قصد الجمع بينها وبين الروايتين الاوليين ، وعدّة أحاديث دالّة على عموم العفو وسنذكرها. فجعل الإناطة بالضرورة وعدمها طريقا

ص: 627


1- الخلاف 1 : 475.
2- الخلاف 1 : 476.
3- الاستبصار 1 : 168 ، الحديث 582.
4- الاستبصار 1 : 168 ، الحديث 583.
5- الاستبصار 1 : 169 ، الحديث 587.

للجمع. ذكره في الخلاف والاستبصار (1).

وظاهره في التهذيب أنّ وجه الجمع ما يدلّ عليه رواية عمّار بصريحها أعني إيجاب الإعادة مع الصلاة في الثوب وانتفائها مع عدم الصلاة فيه من غير أن ينظر إلى كون ذلك واقعا عن ضرورة أو لا عنها (2).

وهذا هو الوجه لو نهضت الروايات المذكورة حجّة ، لكنّها غير ناهضة كما سنوضحه ، لا سيّما الأخيرة التي هي الباعث على الجمع الذي صار إليه.

قال في المعتبر : ولو قيل الدليل على ما فصّله الشيخ ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه غيره؟ قال : يصلّي فيه إذا اضطرّ إليه (3).

قلنا : الاضطرار يكفي فيه عدم التمكّن من غيره (4). وهذا كلام جيّد.

حجّة القول الآخر : ما رواه عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كلّه يصلّي فيه أو يصلّي عريانا؟ فقال : إن وجد ماء غسله وإن لم يجد ماء صلّى فيه ولم يصلّ عريانا » (5).

وما رواه الصدوق عن محمّد بن علي الحلبي في الصحيح أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام « عن الرجل يكون له الثوب الواحد ، فيه بول لا يقدر على غسله؟

ص: 628


1- الخلاف 1 : 476 ، والاستبصار 1 : 169.
2- تهذيب الأحكام 1 : 407 ، ذيل الحديث 1279.
3- الاستبصار 1 : 169 ، الحديث 584.
4- المعتبر 1 : 445.
5- الاستبصار 1 : 169 ، الحديث 585.

قال : يصلّي فيه » (1).

وفي الصحيح عن محمّد الحلبي عنه عليه السلام « أنّه سئل عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال : يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله » (2).

وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عنه عليه السلام قال : سألته عن الرجل يجنب في ثوب وليس معه غيره ولا يقدر على غسله؟ قال : يصلّي فيه (3).

وهذه الروايات ظاهرة في تعيّن الصلاة في الثوب ولكنّهم لاحظوا الجمع بينها وبين الروايات التي احتجّ بها الشيخ فصاروا إلى التخيير بين الأمرين وجعلوه طريق الجمع.

وأيّده جماعة بنقل العلّامة في المنتهى الإجماع على جواز الصلاة عاريا حيث قال فيه : لو صلّى عاريا لم يعد الصلاة قولا واحدا (4).

واقتصر البعض على التمسّك بهذا الوجه في الخروج على ظاهر هذه الأخبار قائلا : أنّه لولاه لم يكن عن القول بتعيّن الصلاة في الثوب معدل.

ولي في كلا الوجهين تأمّل ؛ إذ الأخبار الدالّة على جواز الصلاة عاريا لم أتثبّت صحّة شي ء منها.

والإجماع لم أتحقّقه على وجه ينهض حجّة وإن كان الشيخ قد صرّح

ص: 629


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 160 ، الحديث 753.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 40 ، الحديث 156.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 160 ، الحديث 754.
4- منتهى المطلب 3 : 304.

بادّعائه في الخلاف (1) مع ما يظهر من كلام المنتهى (2). واحتجاج الشيخ بالمنع من الصلاة في النجاسة ، وطلبه للدلالة ممّن يجيزها فيها واضح الجواب ، فإنّ الأخبار التي ذكرناها صالحة للدلالة على ذلك متنا وأسنادا.

فالمتّجه العمل بما دلّت عليه. هذا.

وما ذكره ابن الجنيد من إيجاب الإعادة إذا صلّى في الثوب مع حكمه بأرجحيّته بالنظر إلى الصلاة عاريا كأنّه ناظر فيه إلى الوجه الذي أشرنا إلى ظهوره من كلام الشيخ في التهذيب. وقد عرفت ما فيه.

وذكر المحقّق بعد أن عزى إلى الشيخ القول بالإعادة إذا أمكن غسل الثوب : أنّ ذلك رواية عمّار الساباطي. والرواية ضعيفة السند ؛ لأنّ رجالها فطحيّة.

ثمّ قال : والأشبه أنّه لا إعادة ؛ لأنّه صلّى صلاة مأمور بها والأمر يقتضي الإجزاء (3). والأمر كما قال.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما دلّ على ثبوت العفو في الثوب من الأخبار يصلح دليلا في البدن ؛ لما علم من أنّ الحكم في الثوب أقوى ، ولذلك اختلف في العفو عنه ولم يظهر في البدن خلاف.

وثبوت العفو مع القويّ يقتضي ثبوته مع الضعيف بطريق أولى.

ويضاف ذلك إلى ما يظهر من الاتّفاق عليه ، وأنّ الأدلّة على شرطيّة الطهارة من الخبث في الصلاة غير متناولة لحال الضرورة فيبقى عموم الأوامر سالما

ص: 630


1- الخلاف 1 : 475.
2- منتهى المطلب 3 : 304.
3- المعتبر 1 : 445.

عن معارضة ما يقتضي الاشتراط والتخصيص.

ويؤيّد ذلك كلّه ما رواه الصدوق والشيخ عن حريز في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم إذا كان في الصلاة اتّخذ كيسا وجعل فيه قطنا ثمّ علّقه عليه وأدخل ذكره فيه ثمّ صلّى » (1). الحديث.

والأصحاب - لوضوح الحكم عندهم - لم يتعرّضوا لذكر الحجّة عليه. ونحن لم نر بأسا بالإشارة إليها.

تذنيبان :

الأوّل : ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين أنّ لكلّ من البدن والثوب - بالنظر إلى تعذّر الإزالة - حكما برأسه. فإذا تعدّدت النجاسة فيهما واختصّ التعذّر بأحدهما وجبت الإزالة عن الآخر.

قال : ولو اختصّت بأحدهما وكانت متفرّقة وأمكن إزالة بعضها وجب. وبتقدير اجتماعهما فإن كانت دما وأمكن تقليله بحيث ينقص عن مقدار الدرهم وجب أيضا. وإلّا ففي الوجوب نظر. وهذا التفصيل لا بأس به.

الثاني : ذكر الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى : أنّه إذا تعذّر غسل البول عن المخرج وجب مسحه بحجر ونحوه (2).

واحتجّ له الفاضلان بأنّ الواجب إزالة العين والأثر فإذا تعذّرت إزالة الأثر بقيت إزالة العين وسيأتي حكاية كلامهما في بحث الخلوة إن شاء اللّه.

وفهم من هذا الحكم جماعة من المتأخّرين أنّهم يرون وجوب تخفيف مطلق النجاسة عند تعذّر إزالتها ، وأنّ ذلك بدل اضطراريّ للطهارة من

ص: 631


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 64 ، الحديث 146.
2- المعتبر 1 : 126 ، ومنتهى المطلب 1 : 263 ، وذكرى الشيعة : 21.

النجاسات كبدليّة التيمّم للطهارة من الأحداث. وصرّح بالموافقة على ذلك البعض.

وعندي في الكلام من أصله نظر ، لأنّ وجوب إزالة العين والأثر حكم واحد مستفاد من دليل واحد. ومن البيّن أنّ الأمر بالمركّب إنّما يقتضي الأمر بأجزائه على الاجتماع لا مطلقا. وحينئذ فلا بدّ في إثبات التكليف بجزء منها على الانفراد من دليل غير الأمر بالمركّب ، وهو مفقود في المتنازع.

بل ظاهر الأخبار المسوّغة للصلاة مع النجاسة عند تعذّر الإزالة نفي التكليف بأمر آخر سوى الإزالة ؛ باعتبار إطلاق الإذن من غير تعرّض للتخفيف بوجه.

وما ورد في بعض الأخبار من ذكر المسح للبول عن المخرج عند تعذّر غسله لا يصلح شاهدا على العموم ؛ لأنّ الوجه فيه منع النجاسة من التعدّي إلى غير محلّها من الثوب أو البدن ، وهو أمر آخر غير التخفيف.

فرع :
اشارة

قال العلّامة في النهاية : لو كان في ثوبه أو على جسده منيّ أو دم حيض أو بول وهناك ماء لاقاه دم ، أقلّ من سعة الدرهم احتمل وجوب غسله به ؛ لأنّه أزال المانع من الدخول في الصلاة فكان واجبا كالطاهر.

قال : ويحتمل العدم ؛ لبقاء حكم النجاسة المغلّظة وإن زالت العين (1). وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه التحقيق. وما احتمله أوّلا ظاهر الضعف بعيد عن الصواب.

ص: 632


1- نهاية الإحكام 1 : 289.

تتمّة : [ تشتمل ] على مسائل :

[ المسألة ] الاولى :

ذكر جماعة من الأصحاب أنّ اعتبار الطهارة في ملبوس المصلّي ومحموله اللذين يتمّ فيهما الصلاة إنّما هو فيما يقلّه منهما ولو في بعض أحوال الصلاة. فلو تنجّس طرف الثوب الذي لا يقلّه على حال منها - كالعمامة - لم يضرّ ، لانتفاء الحمل واللبس عن موضع النجاسة. وهو حسن ؛ لأنّ أصالة البراءة يقتضيه. والأدلّة الدالّة على اشتراط الطهارة وإيجاب الإزالة لا تصلح لتناول مثله.

وممّن تعرّض لهذه المسألة الشيخ في الخلاف فقال : إذا ترك على رأسه طرف عمامة وهو طاهر وطرفها الآخر على الأرض وعليه نجاسة لم تبطل صلاته. ثمّ حكى عن بعض العامّة القول بالبطلان به. وقال بعد ذلك : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمّة. فمن حكم ببطلان هذه الصلاة فعليه الدلالة (1).

[ المسألة ] الثانية :

قال العلّامة في المنتهى : لو كان وسطه مشدودا بطرف حبل وطرفه الآخر مشدودا في نجاسة وصلّى لم تبطل صلاته لأنّه ليس بحامل للنجاسة وسواء كان الحبل مشدودا في كلب أو سفينة فيها نجاسة ، صغيرين أو كبيرين ، وسواء كان الطرف الطاهر من الحبل مشدودا في المصلّي أو تحت قدميه. لا خلاف بين علمائنا فيه.

ص: 633


1- الخلاف : ..

ثمّ حكى عن جماعة من العامّة المصير إلى خلاف ذلك وأنّ منهم من أبطل الصلاة بحمل الحبل دون الوقوف عليه. ومنهم من قال بالبطلان إذا كان الكلب صغيرا يتحرّك بحركة المصلّي لا إذا كان كبيرا لا يتحرّك ، وأنّهم حكموا بصحّة الصلاة إذا كان الحبل مشدودا في موضع طاهر من السفينة ، وبفسادها إن كان الشدّ في موضع نجس.

ثمّ قال : والكلّ باطل إذ بطلان الصلاة يتوقّف على الشرع ، ولا شرع ؛ إذ المبطلات مضبوطة (1). والأمر على ما ذكر.

وانتفاء التأثير في المسألة الاولى - للوجه الذي أشرنا إليه - يدلّ على عدم التأثير هنا بطريق أولى.

وقد اقتفى العلّامة فيما ذكره هنا أثر الشيخ ؛ فإنّه ذكر المسألة في الخلاف ، واحتجّ لصحّة الصلاة حينئذ بأنّ نواقض الصلاة امور شرعيّة فإثباتها يحتاج إلى أدلّة شرعيّة وليس في الشرع ما يدلّ على أنّ ذلك يقطع الصلاة. ثمّ قال : وأيضا ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام من قواطع الصلاة معروف ولم يذكروا في جملتها شيئا من ذلك ، فينبغي أن لا يكون قاطعا (2).

[ المسألة ] الثالثة :
اشارة

قال الشهيد في الذكرى : لو شرب خمرا أو نجسا أو أكل ميتة غير مضطرّ ، أو أدخل دما نجسا ، أو شبهه تحت جلده أمكن وجوب إخراج ذلك لتحريم الاغتداء به ، وأنّه نجاسة إلّا لضرورة. وبه قطع الفاضل.

ص: 634


1- منتهى المطلب 3 : 318.
2- الخلاف 1 : 503.

ووجه العدم : التحاقه بالباطن ، وعليه يتفرّع صحّة الصلاة فيه. ثمّ قال : وفي الجمع بين بطلان الصلاة هنا وصحّتها مع حمل الحيوان غير المأكول بعد الاجتياز حمله نجاسة باطنة فيهما وإمكان الإزالة (1). هذا كلامه.

ويلوح منه أنّه فهم من حكم الفاضل بوجوب الإخراج القول ببطلان الصلاة مع عدمه في الجميع.

وفي استفادة ذلك من كلام الفاضل نظر ؛ لأنّه احتجّ في المنتهى لوجوب القيّ في صورة شرب الخمر وأكل الميتة بأنّ الشرب محرّم فاستدامته كذلك ؛ لأنّ التغذية موجودة. قال : والظاهر أنّ المنع من الشرب والأكل إنّما هو لذلك (2). واستشكل في النهاية وجوب القيّ (3).

ولا يخفى عليك أنّ الحكم الذي تثبته هذه الحجّة لا تعلّق له بالذات بأمر الصلاة وإنّما هو حكم مستقلّ ، ربّما تعلّق بها بالعرض بناء على كون الأمر بالشي ء مقتضيا للنهي عن ضدّه الخاصّ. وليس هذا محلّ البحث عن مثله.

وعذر الشهيد رحمه اللّه في فهم ذلك من كلامه ذكره للمسألة في جملة من كتبه بغير حجّة. وظاهر الحال أنّه لا يذكر في هذا المقام إلّا ما له تعلّق بالعبارة ولكن بعد الاطّلاع على حجّته يشكل الاعتماد في نسبة الحكم إليه على مجرّد ذلك الظاهر.

وأمّا الحكم بالبطلان في صورة إدخال الدم النجس فمصرّح به في كلام الفاضل.

ص: 635


1- ذكرى الشيعة : 17.
2- منتهى المطلب 3 : 318.
3- نهاية الإحكام 1 : 285.

قال في التذكرة : لو أدخل دما نجسا تحت جلده وجب عليه إخراج ذلك الدم مع عدم الضرر وإعادة كلّ صلاة صلّاها مع ذلك الدم (1). هذا.

واستبعاد الشهيد رحمه اللّه جمع العلّامة بين الإبطال هنا والصحّة مع حمل الحيوان واقع في محلّه وإن كان لإبداء الفرق في الجملة مجال.

لكنّ التحقيق أنّ العمدة في الحكم بالصحّة هناك على أصالة البراءة من التكليف بالاجتناب في حال الصلاة وعدم الدليل عليه وذلك آت هنا.

تذنيب :

موضع البحث في إخراج الدم المحتقن تحت الجلد إنّما هو فيما يدخله الإنسان من خارج تحت جلده وإن كان في الأصل من دمه.

فما يتّفق من احتقان الدم تحت الجلد العارض من دون أن يخرج إلى ظاهر البدن ليس من هذا في شي ء.

وأكثر العبارات المتضمّنة لهذا الحكم ظاهرة في ما قلناه.

ومن جملتها : عبارة الشهيد في الذكرى المحكيّة في أوّل المسألة (2). وقد اتّفق له في البيان والدروس التعبير بما يتناول بظاهره الصورة التي ذكرناها (3). ولعلّه قصور في التأدية ؛ إذ الحكم بذلك فيها مستبعد لا سيّما مع مخالفته لكلامه في غيرهما وكلام غيره. وعلى كلّ حال فالحكم ما قلناه.

ص: 636


1- تذكرة الفقهاء 2 : 497.
2- ذكرى الشيعة : 17.
3- البيان : 94 ، والدروس الشرعيّة 1 : 128.
[ المسألة ] الرابعة :

قال المحقّق في المعتبر إذا جبر عظمه بعظم نجس كعظم الكلب والخنزير والكافر أزاله إن لم يخف الضرر وأبقاه إن خاف وأجزأته صلاته. ثمّ حكى عن بعض العامّة إيجاب قلعه ما لم يخف التلف.

واحتجّ بعد ذلك لما صار إليه : بأنّ إيجاب القلع مع خوف الضرر حرج ، فيكون منفيّا.

وبأنّها نجاسة متّصلة كاتّصال دمه فيكون معفوّا عنها (1).

ولا يخفى عليك أنّ الوجه الثاني من الحجّة إن تمّ اقتضى عدم إيجاب القلع وإن لم يحصل بذلك ضرر.

وقد احتمل الشهيد في الذكرى عدم الوجوب مع الاكتساء باللحم ، وعلّله بالالتحاق بالباطن. وهو ناظر إلى ما قاله المحقّق (2).

واستضعفه بعض الأصحاب من حيث إنّه بعيد عن البواطن المعهودة المختصة بها ويتّجه على هذا المطالبة بالدليل على اعتبار المعهوديّة في عدم تأثير النجاسات المستورة في البواطن.

والتحقيق : أنّ الأدلّة إنّما تدلّ على اشتراط طهارة ظاهر البدن ، وأمّا بواطنه فليس في الأدلّة ما يقتضي اعتبار ذلك فيها. والأصل براءة الذمّة منه إلى أن يقوم على التكليف به دليل واضح.

ص: 637


1- المعتبر 1 : 449.
2- ذكرى الشيعة : 17.

ص: 638

البحث الثاني : في ما تزول به النجاسات وبيان كيفية الإزالة وشرائطها
مسألة [1] :

زوال حكم النجاسة حيث كانت يتوقّف على ذهاب عينها إن كان لها عين ، أو استحالتها. وذلك في مواضع مخصوصة نذكرها. ولا عبرة ببقاء الرائحة واللون.

وقد حكى المحقّق في المعتبر إجماع العلماء على ذلك (1).

ويؤيّده ما رواه الشيخ في الحسن عن ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال : « قلت له : للاستنجاء حدّ؟ قال : لا ، حتّى ينقّي مأثمه. قلت : فإنّه ينقّي مأثمه ويبقى الريح؟ قال : الريح لا ينظر إليها » (2).

وما رواه عن عليّ بن أبي حمزة عن العبد الصالح عليه السلام قال : « سألته أمّ ولد لأبيه ، فقالت : جعلت فداك إنّي اريد أن أسألك عن شي ء وأنا أستحيي منه. قال :

سليني ولا تستحيي. قالت : أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته فلم يذهب

ص: 639


1- المعتبر 1 : 436.
2- تهذيب الأحكام 1 : 28 ، الحديث 75.

أثره؟ قال : اصبغيه بمشق حتّى يختلط ويذهب أثره » (1).

وعن عيسى بن أبي منصور قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته ، فبقي أثر الدم في ثوبها؟ قال : قل لها تصبغه بمشق حتّى يختلط ويذهب أثره » (2).

والمشق - بالكسر - المغرة ، ذكره صاحب الصحاح والقاموس (3).

ولو كان زوال اللون شرطا في زوال النجاسة لم يكن للأمر بالصبغ وجه إذ فائدته إخفاء لون النجاسة عن الحسّ.

مسألة [2] :

ويعتبر في زوال نجاسة البول من غير الرضيع عن الثوب بالماء القليل غسله مرّتين.

وظاهر كلام المحقّق في المعتبر نفي الخلاف فيه عندنا حيث قال : إنّه مذهب علمائنا (4).

وعزى الشهيد في الذكرى إلى الشيخ في المبسوط نفي مراعاة العدد في غير الولوغ (5). وظاهره المخالفة في ذلك.

ص: 640


1- تهذيب الأحكام 1 : 272 ، الحديث 800.
2- تهذيب الأحكام 1 : 272 ، الحديث 801.
3- صحاح اللغة 4 : 1555 ، والقاموس 3 : 283.
4- المعتبر 1 : 435.
5- ذكرى الشيعة : 15 ، والمبسوط 1 : 37.

واكتفى العلّامة فيه بالمرّة صريحا إذا كان جافّا (1).

ويظهر من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء بها مطلقا ، حيث قال : إنّ الواجب هو الغسل المزيل للعين. ومن البيّن أنّ زوال العين معتبر على كلّ حال وأنّ مسمّى الغسل يصدق بالمرّة (2).

وله في المنتهى عبارة تصرّح بالاكتفاء بها مطلقا ، لكنّها اتّفقت بعد حكمه بوجوب المرّتين ، واحتجاجه له بالأدلّة الواضحة. ولم يذكر لما حكم به أخيرا حجّة (3). وهو أمر مستغرب.

ولقد لاح لي في الكلام احتمال يزول به الاستغراب ويبقى معه الحكم الذي جزم به أوّلا على حاله.

وعلى كلّ حال ، فالقول بإجزاء المرّة مطلقا متحقّق في كلام الأصحاب. فقد صرّح به الشهيد في البيان (4). وعزي إلى الشيخ في المبسوط (5) ، كما ذكرنا.

والأظهر اعتبار المرّتين مطلقا.

لنا : ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن البول يصيب الثوب؟ قال : اغسله مرّتين » (6).

وروى بإسناد آخر يعدّ في الصحيح عن محمّد بن مسلم أيضا قال : « سألت

ص: 641


1- قواعد الأحكام 1 : 193.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 80 ، ونهاية الإحكام 1 : 277.
3- منتهى المطلب 3 : 264 - 265.
4- البيان : 93 ، الطبعة المحققة الاولى.
5- المبسوط 1 : 37.
6- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 721.

أبا عبد اللّه عليه السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المركن مرّتين. فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (1).

وما رواه عن ابن أبي يعفور في الصحيح قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن البول يصيب الثوب؟ قال : اغسله مرّتين » (2).

وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن البول يصيب الجسد؟ قال :

صبّ عليه الماء مرّتين فإنّما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ فقال : اغسله مرّتين » (3).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كلام الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم خال من ذكر الحجّة على الاكتفاء بالمرّة مطلقا.

وقد احتجّ العلّامة في المنتهى للاكتفاء بها مع الجفاف بوجهين :

أحدهما : أنّ المطلوب من الغسل إنّما هو إزالة العين والأثر ، والجاف لا عين له فيكفي فيه المرّة.

والثاني : أنّ الماء غير مطهّر عقلا ؛ لأنّه إذا استعمل في المحلّ جاورته النجاسة فينجس وهكذا دائما ، وإنّما عرفت طهارته بالشرع بتسميته طهورا بالنصّ ، فإذا وجد استعمال الطهور مرّة عمل عمله من الطهارة (4).

وهذا الوجه الأخير يمكن التشبّث به في الاكتفاء بالمرّة مطلقا على رأي

ص: 642


1- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 717.
2- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 722.
3- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 714.
4- منتهى المطلب 3 : 264.

من لا يعمل بخبر الواحد. وأمّا القائلون بذلك ليسوا منهم.

ثمّ إنّ الجواب عن الوجهين بالنظر إلى التمسّك بهما في حكم الجافّ ظاهر ؛ فإنّ كون المطلوب من الغسل ما ذكره فقط موقوف على الدليل. وقد حكى الشهيد في الذكرى وبعض المتأخّرين التابعين له ولأمثاله زيادة في حديث الحسين ابن أبي العلاء بعد قوله : « اغسله مرّتين » : صورتها الاولى للإزالة والثانية للإنقاء (1).

ولم أر لهذه الزيادة أثرا في كتب الحديث الموجودة الآن بعد التصفّح بقدر الوسع ، ولكنّها موجودة في المعتبر (2) وأحسبها من كلامه ، وأنّ منشأ الوهم من هناك.

وهذه الزيادة لو ثبتت لصلحت للدلالة على الوجه المذكور فيخصّ بها ما دلّ على المرّتين بما له عين يحتاج إلى الإزالة. ولكنّ الشأن في الثبوت.

وممّا يؤيّد عدمه أنّ العلّامة مع حاجته إليها - كما علمت - نقل الحديث في المنتهى مجرّدا عنها (3). ولهذه القضيّة نظير سبق في بحث البئر.

وأمّا جواب الوجه الثاني فهو : أنّ الأخبار التي ذكرناها عامّة في الجافّ وغيره ، بشهادة ترك الاستفصال ، فيخصّ بها دليل كون الماء طهورا لأنّها أخصّ منه.

ص: 643


1- ذكرى الشيعة : 15.
2- المعتبر 1 : 435.
3- منتهى المطلب 3 : 264.
مسألة [3] :

وأكثر الأصحاب على اعتبار التعدّد في إزالة نجاسة البول من غير الرضيع بالماء القليل عن البدن أيضا ، ومنه مخرجه في حال الاستنجاء. حتّى أنّ المحقّق في المعتبر جمع بين الثوب والبدن حيث قال : إنّ التعدّد مذهب علمائنا (1).

لكنّه جعل المرّتين في الثوب غسلا ، وفي البدن صبّا ؛ مشيا مع الأخبار الواردة بذلك.

وجعل وجه الفرق بين الغسل والصبّ أنّ الغسل يتضمّن العصر ، والصبّ ما لا عصر معه.

قال : وأمّا الفرق بين الثوب والبدن فلأنّ البول يلاقي ظاهر البدن ، ولا يرسب فيه ، فيكفي صبّ الماء ؛ لأنّه يزيل ما على ظاهره. وليس كذلك الثوب ؛ لأنّ النجاسة ترسخ فيه فلا تزول إلّا بالعصر.

إذا تقرّر هذا فاعلم : أنّ جملة ما احتجّوا به من الأخبار لاعتبار المرّتين في البدن مطلقا ثلاث روايات :

إحداها : رواية الحسين ابن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين ، فإنّما هو ماء » (2).

وقد تقدّمت في حكم الثوب.

والثانية : رواية أبي إسحاق النحوي عنه عليه السلام قال : « سألته عن البول يصيب

ص: 644


1- المعتبر 1 : 435.
2- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 714.

الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين » (1).

والثالثة : رواية نشيط بن صالح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال : بمثلي ما على الحشفة من البلل » (2).

والروايات الثلاث مشتركة في عدم صحّة السند. وتختصّ الأخيرة بعدم الصراحة في المطلوب.

وما قالوه من أنّ المثلين فيها كناية عن المرّتين غير واضح ، مع أنّها معارضة برواية نشيط أيضا عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « يجزي من البول أن يغسله بمثله » (3).

وقد اقتصر العلّامة في المنتهى على الثوب ، في العبارة التي حكم فيها بوجوب المرّتين (4). وكذلك صنع في التحرير (5). وجزم في بحث الاستنجاء من المنتهى والنهاية بالاكتفاء فيه بالمرّة إذا زالت العين (6) ، وكذا في المختلف (7). وحكى القول به عن أبي الصلاح وابن إدريس وقال : إنّه الظاهر من كلام

ص: 645


1- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 716.
2- تهذيب الأحكام 1 : 35 ، الحديث 93.
3- تهذيب الأحكام 1 : 35 ، الحديث 94.
4- منتهى المطلب 3 : 263.
5- تحرير الأحكام 1 : 24.
6- منتهى المطلب 1 : 264 ، ونهاية الإحكام 1 : 91.
7- مختلف الشيعة 1 : 272 - 273.

ابن البرّاج وهو قول سلّار أيضا (1).

ووجهه - بعد ظهور عدم نهوض الأخبار بإثبات التعدّد - إطلاق الأمر بغسل البول في الأخبار الواردة في باب الاستنجاء. وأكثرها صحيح السند.

وكذا في رواية عبد الرحمن بن الحجّاج الصحيحة ، قال : « سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل يبول بالليل فيحسب أنّ البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ولا تنشّف؟ قال : يغسل ما استبان أنّه أصابه وينضح ما يشكّ فيه من جسده أو ثيابه » (2). الحديث.

ولا ريب في صدق مسمّى الغسل بالمرّة فيحتاج إثبات الزائد عنها إلى الدليل.

وهذا القول متّجه لو لا ما يشعر به كلام المحقّق من دعوى الإجماع على التعدّد (3) ؛ فإنّه يجبر وهن تلك الأخبار.

مضافا إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز عن زرارة قال : « كان يستنجي من البول ثلاث مرّات » (4). الحديث.

ولعلّ المقتضي للقطع الواقع في طريقه ما مرّت الإشارة إليه عن قرب ؛ إذ من المستبعد كونه حكاية عن فعل زرارة.

ثمّ إنّ مجرّد الفعل وإن لم يدلّ على الوجوب - لا سيّما بقرينة الزيادة على المرّتين - إلّا أنّ فيه إشعارا بحسن ، من أجله جعله مؤيّدا.

وربّما استفيد من كلام المحقّق اختصاص دعوى الإجماع بإزالة البول

ص: 646


1- الكافي في الفقه : 127 ، والسرائر 1 : 97 ، والمهذّب 1 : 39 ، والمراسم : 56.
2- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، الحديث 1234.
3- المعتبر 1 : 435.
4- تهذيب الأحكام 1 : 209 و 354.

عن غير محلّ الاستنجاء حيث حكى في بحث الاستنجاء عن أبي الصلاح أنّه قال : أقلّ ما يجزي ما أزال عين البول عن رأس فرجه (1).

ثمّ احتجّ المحقّق لاعتبار مثلي ما على الحشفة بوجهين :

الأوّل : رواية نشيط السابقة مؤيّدة بما روي من أنّ البول إذا أصاب الجسد تصبّ عليه الماء مرّتين (2).

والثاني : أنّ غسل النجاسة بمثلها لا يحصل معه اليقين بغلبة المطهّر على النجاسة ، ولا كذا لو غسلت بمثليها.

وأشار بعد هذا إلى رواية نشيط المتضمّنة للاكتفاء بالمثل وقال : إنّها مقطوعة السند. فالعمل بالاولى أولى.

ولا يخفى عليك : أنّ الإجماع لو كان متحقّقا عنده هنا لكان أجدر بالذكر في الاحتجاج من الوجهين اللذين استدلّ بهما.

وحينئذ يقوى الاكتفاء بالمرّة المزيلة في غسله عن مخرجه وإن كان اعتبار المرّتين مطلقا أحوط.

تذنيب :

ذكر جماعة من الأصحاب أنّه يكفي في المرّتين التقدير.

فلو اتّصل الصبّ على وجه لو انفصل لصدق التعدّد حسّا أجزأ.

ووجّهه البعض بدلالة فحوى الاكتفاء بالحسّي عليه.

وهو على إطلاقه مشكل ؛ لأنّ دلالة الفحوى موقوفة على العلم بعلّة الحكم في المنطوق وكونها في المفهوم أقوى. وليست العلّة هنا بواضحة.

ص: 647


1- الكافي في الفقه : 127 ، والمعتبر 1 : 126.
2- تهذيب الأحكام 1 : 35 ، الحديث 93.

وربّما كان التعويل في فهمها على الزيادة التي أشرنا إلى إلحاق بعض الأصحاب لها برواية الحسين بن أبي العلاء (1) ، وهي تعليل المرّتين بأنّ الاولى للإزالة والثانية للإنقاء وقد علم حالها.

واعتبر والدي رحمه اللّه الفصل بينهما ووجّهه بتوقّف صدق العدد عليه (2).

وصرّح الشهيد رحمه اللّه في الذكرى بالاكتفاء في المرّتين بالتقدير - عند ذكره لإزالة نجاسة البول عن البدن - فقال : وأمّا البدن فيصبّ عليه مرّتين. إلى أن قال : ويكفي في المرّتين تقديرهما كالماء المتّصل (3).

ثمّ إنّه قال في بحث الاستنجاء من هذا الكتاب : وأمّا البول فلا بدّ من غسله ويجزئ مثلاه مع الفصل ؛ للخبر (4).

وقد حكى الفاضل الشيخ علي في شرح القواعد عن الذكرى الكلام الأخير ، وذكر أنّ ظاهره إرادة تحقّق الغسلتين ، وهو حقّ ؛ لأنّ التعدّد لا يتحقّق إلّا بذلك. بل لأنّ التعدّد المطلوب بالمثلين لا يوجد بدون ذلك ؛ لأنّ ورود المثلين دفعة واحدة غسلة واحدة. قال : ولو غسل بأكثر من المثلين بحيث يتراخى أجزاء الغسل بعضها عن بعض في الزمان لم يشترط الفصل قطعا. وكأنّ مراد الشهيد من الكلام الأوّل هذا المعنى. فلا يتوهّم التنافي بين كلاميه (5).

والذي يقوى في نفسي اعتبار صدق المرّتين عرفا مع التراخي ؛ لأنّ

ص: 648


1- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 714.
2- روض الجنان : 167.
3- ذكرى الشيعة : 15.
4- ذكرى الشيعة : 21.
5- جامع المقاصد 1 : 173.

المقتضي للفرق بين التراخي وعدمه ملاحظة تحقّق المرّتين المأمور بهما. والتراخي بمجرّده غير كاف في صدقهما.

مسألة [4] :
اشارة

والمعروف بين الأصحاب اعتبار العصر أيضا في الثوب.

وكلامهم في مدرك الحكم مختلف ؛ إذ النصوص خالية من التعرّض له في المواضع التي اعتبروه فيها.

فظاهر كلام المحقّق أنّ الوجه في ذلك عدم تحقّق مفهوم الغسل بدونه (1). وقد حكينا هذا عنه آنفا.

وذكر العلّامة في التذكرة والنهاية أنّ الوجه فيه كون الغسالة نجسة فلا تحصل الطهارة مع بقائها (2).

وجمع في المنتهى بين الاعتبار الذي ذكره المحقّق وبين ما ذكره في الكتابين (3).

وعلّله الشهيد في الذكرى بوجوب إخراج النجاسة (4). وتبعه جماعة من المتأخّرين ، لكنّهم أضافوا إليه الوجه الذي ذكره العلّامة في التذكرة والنهاية.

ولا يخفى عليك ما بين الأحكام الثابتة بهذه الوجوه من الاختلاف ؛ فإنّ الذي يقتضيه الوجه الأوّل : وجوب العصر سواء كانت الغسالة طاهرة أو نجسة ، وكون القدر المعتبر منه ما يصدق معه مسمّى الغسل في العرف حتّى لو بقيت

ص: 649


1- المعتبر 1 : 435.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 80 ، ونهاية الإحكام 1 : 277.
3- منتهى المطلب 3 : 265.
4- ذكرى الشيعة : 14.

فيه أجزاء يمكن إخراجها بغير مشقّة لم تضرّ إذا كان مفهوم الغسل قد تحقّق بدون خروجها.

ومقتضى الوجه الثاني : بناء الحكم على الخلاف في نجاسة الغسالة وطهارتها ، فعلى الأوّل يجب العصر وعلى الثاني لا يجب.

وأمّا الوجه الثالث فمقتضاه : عدم وجوب العصر حيث يعلم انتفاء دخول شي ء من أجزاء النجاسة في باطن الثوب ، والاكتفاء بالمرّة الواحدة فيما يجب له التعدّد إذا علم بقرينة الحال خروج الأجزاء بها.

ويظهر من كلام الشهيد في بعض كتبه التزام الأمر الثاني حيث اقتصر على إيجاب العصر مرّة واحدة بين الغسلتين (1). واتّفق في كلام الصدوقين نحوه لكنّهما جعلا العصر بعد الغسلتين (2).

والتحقيق : إناطة الحكم بما يتحقّق معه مسمّى الغسل في العرف ويعلم معه زوال أجزاء النجاسة بأسرها وبناء الزائد عن ذلك على نجاسة الغسالة وطهارتها.

فرع :

قال في التذكرة : لو جفّ الثوب من غير عصر ففي الطهارة إشكال ، ينشأ من زوال النجاسة بالجفاف والعدم ؛ لأنّا نظنّ انفصال أجزاء النجاسة في صحبة الماء بالعصر لا بالجفاف (3).

وقال الشهيد في البيان : لو أخلّ بالعصر في موضعه فالأقرب عدم الطهارة ؛

ص: 650


1- البيان : 93.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 68.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 82.

لأنّا نتخيّل خروج أجزاء النجاسة به (1).

وفي الذكرى : الأولى الشرطيّة يعني في العصر لظنّ انفصال النجاسة مع الماء بخلاف الجفاف المجرّد (2).

وأنت إذا أحطت خبرا بما قلناه في المسألة يتّضح لك الحال في الفرع ؛ لأنّ العصر إن اخذ قيدا في ماهيّة الغسل أو توقّف عليه خروج النجاسة لم يغن عنه الجفاف ، وإن اعتبر لإخراج الغسالة فلا ريب في كون الجفاف مخرجا لها.

وما ذكراه من الظنّ والتخيّل ليس بشي ء. كيف! وهذا الظن في أكثر الصور لا يأتي والتخيّل في الأحكام الشرعيّة لا يجدي.

مسألة [5] :

واعتبر الفاضل في النهاية والتحرير الدلك أيضا في البدن (3).

واحتجّ له في المنتهى برواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال : يغسله ثلاث مرّات. سئل : أيجزيه أن تصبّ فيه الماء؟ قال : لا يجزيه حتّى يدلكه بيده ويغسله » ، الحديث (4).

وجعل وجه الاستدلال به أمرين : أحدهما : أنّه أمر بدلك الإناء لأجل ملاقاة النجاسة له. وهذا المعنى موجود في البدن وغيره.

ص: 651


1- البيان : 94.
2- ذكرى الشيعة : 14.
3- نهاية الإحكام 1 : 287 ، وتحرير الأحكام 1 : 24.
4- تهذيب الأحكام 1 : 283 ، الحديث 830.

والثاني : أنّه أجاب في صدر الحديث بالغسل فلو لم يتضمّن الدلك ثمّ أوجبه بعد ذلك لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وذلك غير جائز.

ثمّ إنّه أورد على نفسه أنّ رواية الحسين بن أبي العلاء (1) الدالّة على حكم البول إذا أصاب البدن إنّما تضمّنت الأمر بالصبّ مرّتين وليس فيها تعرّض لاعتبار شي ء آخر.

وأجاب بأنّه لا منافاة فيها لما ذكره ؛ إذ وجوب الصبّ لا ينافي وجوب الدلك (2).

وضعف هذا الاحتجاج واضح ؛ فإنّه على تقدير صحّة سند هذا الحديث يحتمل كون الأمر بالدلك لخصوصيّة النجاسة أو لخصوصيّة المحلّ أو لهما ؛ إذ القدح بمظنّة علوق بعض أجزاء النجاسة به ، فيحتاج إزالتها إلى الزيادة عن مجرّد الصبّ. والخمر أشدّ لصوقا بمحلّه من البول كما هو ظاهر ، فمن الجائز كون الأمر بالدلك فيه لعدم العلم بزوال عينه بدونه.

وبالجملة فقيام هذه الاحتمالات يرفع المناسبة الملحوظة في الإلحاق. ومع فرض حصول شي ء منها في البول الملاقي للبدن يلزم باعتبار الدلك حينئذ ، ليتحقّق به زوال العين لا لخصوص الدلك.

ولكنّ الحقّ أنّ هذا احتمال بعيد. والغالب في البول - إذا لاقى البدن - زواله بمجرّد وقوع الماء عليه. والعيان في مثله شاهد ظاهر.

ومن هنا يتّجه إبداء الفرق بين الثوب والبدن حيث أمر في الثوب بالغسل وفي البدن بالصبّ ؛ وذلك أنّ زوال البول عن الثوب بعد دخوله في باطنه

ص: 652


1- تهذيب الأحكام 1 : 249.
2- منتهى المطلب 3 : 266.

موقوف على نوع عمل واجتهاد ليبلغ الماء مواضع البول ، وليس البدن بمحتاج إلى ذلك.

وأمّا جعل المحقّق وجه الفرق تضمّن الغسل العصر مطلقا فممّا لا تساعد عليه اللغة ولا العرف. نعم ربّما تضمّنه في بعض الموارد كما إذا كان الثوب غليظا وليس للماء قوّة إخراج النجاسة. وأنت تعلم أنّ ذلك غير كاف في الحكم بتضمّنه إيّاه بقول مطلق.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الفاضل كأنّه استشعر في المنتهى بما يرد على الحجّة التي حكيناها فقال بعد تقريره لها : والأقرب أنّ الدلك في الجسد مستحبّ مع تيقّن زوال النجاسة (1). وما استقربه هو مختار المحقّق في المعتبر (2).

وفي كلام جماعة من الأصحاب نفي اعتباره بقول مطلق. وإذ قد اتّضح ضعف وجه الوجوب فأمر الاستحباب سهل.

مسألة [6] :

وظاهر كلام جماعة من الأصحاب طرد الحكم بالمرّتين من نجاسة البول في غير الثوب والبدن ممّا يشابههما ، فيعتبر الغسلتان في مشبه الثوب من الأجسام التي يمكن إخراج الغسالة منها بالعصر.

ويجب الصبّ مرّتين فيما يشبه البدن من نحو الخشب والحجر اللذين لا مسام لهما ، يثبت فيها الماء.

واستثنى البعض من ذلك الإناء ، فاكتفى فيه بالمرّة. وسيأتي البحث فيه.

ص: 653


1- منتهى المطلب 3 : 266.
2- المعتبر 1 : 435.

وكأنّ النظر في هذه التعدية إلى المناسبة الحاصلة باعتبار المشابهة ، أو تخيّل الأولويّة في غير الثوب والبدن ، لئلّا يكون قياسا.

وإثبات الوجه الثاني مشكل بل هو معلوم الانتفاء.

وأمّا الأوّل فله في الجملة وجه. لكنّه ليس بخارج في التحقيق عن سنن القياس.

ومن ثمّ صرّح بعض الأصحاب بقصر الحكم بالمرّتين على مورد النصّ أعني الثوب والبدن وهو الظاهر من مذهب المحقّق رحمه اللّه حيث لم يتعرّض في اعتبار المرّتين لغيرهما بوجه.

وقال في بحث الأواني من المعتبر : الذي يقوى عندي الاقتصار في اعتبار العدد على الولوغ ، وفي ما عداه على دلك النجاسة وغسل الإناء بعد ذلك مرّة واحدة ؛ لحصول الغرض من الإزالة (1).

وهذا الكلام وإن كان مختصّا بالأواني إلّا أنّ ظاهر التعليل المصير إلى مقتضاه في غير محلّ الدليل. ولا ريب في خلوّ الحكم فيما عدا الثوب والبدن عنه ، بل ورد في بعض الأخبار الصحيحة إطلاق الأمر بالغسل في الفراش. ونحوه إذا أصابه البول من غير تعرّض للتعدّد وسيأتي عن قريب.

مسألة [7] :

واعتبار العصر منوط - في كلام كثير من الأصحاب - بعدم [ انفصال ] الغسالة عن محلّ المغسول بنفسها وإمكان إخراجها بالعصر من غير عسر فهو معتبر عندهم في طهارة ما يشبه الثوب ، سواء أوجب فيه التعدّد أو كفت المرّة. وقد عرفت الوجوه التي بني عليها اعتبار العصر وما يقتضيه التحقيق فيه.

ص: 654


1- المعتبر 1 : 462.

ثمّ إنّه وقع في كلام الأصحاب نوع اختلاف لم أر من تفطّن له ، وفي كلامنا السابق تنبيه عليه وهو : أنّ أكثر العبارات أطلقوا فيها القول باعتباره ، ولم يتعرّضوا لبيان حكمه - بتقدير تعدّد الغسل - أهو التعدّد أيضا أو المرّة كافية.

وربّما استفيد المقصود من بعضها بقرينة ، كحكم المحقّق بتضمّن الغسل للعصر (1) ؛ فإنّه يدلّ على اعتبار التعدّد فيه كالغسل ، وكتعليل العلّامة في بعض كتبه وجوبه بنجاسة الغسالة فيتوقّف الطهارة على إخراجها (2) ؛ فإنّه يقتضي التعدّد أيضا بناء على عدم الفرق بين الغسلتين في التنجيس.

والعاري عن القرينة أكثر إلّا أن [ تعتبر ] القرينة في كتاب على فهم الغرض في كتاب آخر من مصنّف واحد.

ووقع في كلام بعضهم التصريح باعتبار التعدّد حيث يتعدّد الغسل. وفي عبارة الصدوق في من لا يحضره الفقيه ووالده في الرسالة تصريح بإجزاء المرّة حيث قالا في حكم البول إذا أصاب الثوب : وإن غسل في ماء راكد فمرّتين ثمّ يعصر (3). وفي عبارة الشهيد في اللمعة نحوه ، إلّا أنّه جعل العصر بين الغسلتين (4). وأنكره والدي في الشرح (5). ولا وجه له.

والحقّ : أنّ كلا الأمرين محتمل ، وأنّ ترجيح واحد منهما موقوف على تحقيق مأخذ وجوب العصر ، وقد بيّنا ما عندنا في ذلك.

ص: 655


1- المعتبر 1 : 435.
2- منتهى المطلب 3 : 265 و 267.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 68.
4- الروضة البهيّة 1 : 305.
5- الروضة البهيّة 1 : 305.
مسألة [8] :

وأكثر الذاكرين لاعتبار العصر نصّوا على الاكتفاء في ما يعتبر ذلك فيه بالدقّ والتغميز. وفي عبارات العلّامة : التقليب والدقّ. وعلّل الحكم في المنتهى والنهاية بالضرورة (1). ووقع في كلام جماعة من المتأخّرين تبعا للشهيد في الذكرى تعليل الحكم بالرواية (2). وجملة ما وصل إلينا من الأخبار في هذا الباب حديثان ذكرهما العلّامة في المنتهى بعد تعليله للحكم بما حكيناه.

أحدهما : ما رواه المشايخ الثلاثة في الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب عن إبراهيم بن أبي محمود في الصحيح قال : « قلت للرضا عليه السلام الطنفسة والفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما وهو ثخين كثير الحشو؟ قال : يغسل ما ظهر منه في وجهه » (3).

والثاني : ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن موسى بن القاسم عن إبراهيم بن عبد الحميد قال : « سألت أبا الحسن عليه السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو؟ قال : اغسل ما أصاب منه ومسّ الجانب الآخر ، فإن أصبت (4) مسّ شي ء منه

ص: 656


1- منتهى المطلب 3 : 267 ، ونهاية الإحكام 1 : 278.
2- ذكرى الشيعة : 14.
3- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 724 ، والكافي 3 : 55 ، والفقيه 1 : 41.
4- في « أ » : فإن أصيب. وقد جاء في النسخة المحققة من منتهى المطلب : « فإن أحببت مسّ شي ء منه فاغسله ».

فاغسله وإلّا فانضحه بالماء » (1).

وقد ذكر في المنتهى خبر ابن أبي محمود أوّلا وقال بعد ذكره : إنّه محمول على ما إذا لم تسر النجاسة في أجزائه ، وأمّا مع سريانها فيغسل جميعه ويكتفى بالتقليب والدقّ عن العصر. وجعل الخبر الثاني شاهدا على هذا التفصيل (2).

وكأنّ الشهيد من هذا الكلام أخذ الاحتجاج بالرواية ؛ إذ لو كان في البين سواها لكان المنتهى أجدر بتضمّنه من الذكرى لما أشرنا إليه في ما مضى من أنّ العلّامة رحمه اللّه كثير التتبّع للأحاديث الدالّة على الأحكام في هذا الكتاب وأنّه ممتاز عن غيره من كتب الأصحاب بالاستقراء لها غالبا.

ولقد أكثرت التأمّل في الحديث المذكور فلم أجد فيه ما يصلح شاهدا على اعتبار الدقّ أو التغميز ، وفي الحقيقة متنه لا يخلو عن (3) حزازة ، ولكنّه ليس بذلك البعيد عن الفهم ؛ فإنّ الظاهر من قوله مسّ الجانب الآخر : الأمر باختيار الطرف الذي لم تقع الإصابة من جهته هل تبيّن فيه شي ء من النجاسة بنفوذها إليه أو لا؟

وقوله : « فإن أصبت مسّ شي ء منه .. » معناه إن حصل لك إمساس شي ء من أجزاء النجاسة فاغسله وإلّا فانضحه على ما هو الشأن عند الشكّ في إصابة النجاسة. وهو وارد في مواضع متعدّدة وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه. هذا.

والحقّ أنّ التعجّب من الاستناد إلى الخبر المذكور في حكم الدقّ وأخيه

ص: 657


1- الكافي 3 : 55 ، الحديث 3.
2- منتهى المطلب 3 : 267.
3- في « ب » : لا يخلو من حزازة.

إنّما يتوجّه على غير العلّامة ، وإن كان كلامه لا يخلو عن إبهام حيث جعله شاهدا على التفصيل ، وأطلق. ولكنّ الظاهر أنّه أراد من التفصيل ما سوى حكم التقليب والدقّ.

وممّا يرشد إلى ذلك أنّه علّل الاكتفاء بهما بالضرورة كما حكيناه في صدر المسألة ، والتفصيل المذكور وقع في أوّل كلامه قبل ذكر الخبرين.

ثمّ إنّه لمّا ذكر الخبر الأوّل قال : إنّه محمول على ما فصّله وأشار بذلك إلى ما قرّره أوّلا. وإنّما ذكرناه نحن بين الخبرين لأنّه محلّ الحاجة إليه فأقمنا صورة التفصيل مقام تلك الإشارة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في ترك التعرّض لغير الغسل في هذين الخبرين لا سيّما الأوّل الذي هو من الصحيح قرينة واضحة على نفي اعتبار العصر وبدليه زيادة على مفهوم الغسل.

نعم لو ثبت دخول أحدهما في حقيقته لم يكن فيهما ما ينافيه.

مسألة [9] :

والمشهور في كلام المتأخّرين أنّ ما لم يمكن إخراج الغسالة منه - كالتراب - لا سبيل إلى طهارته بالماء القليل.

وهو مبنيّ على مقدّمتين : إحداهما : نجاسة الغسالة ، والثانية : عدم الاكتفاء في إخراجها بالتخفيف اعتمادا على الظنّ والتخيّل اللّذين مرّ القول فيهما.

ولا مساغ للبناء في ذلك على اعتبار العصر في حقيقة الغسل كما بني عليه عدم طهارة ما يمكن إخراج الغسالة منه بدون إخراجها ؛ لأنّ النظر إلى ذلك هاهنا يؤدّي إلى عدم حصول الطهارة له بالكثير أيضا ؛ إذ العلّة في الجميع

ص: 658

واحدة وهي عدم تحقّق مسمّى الغسل فيه بدون العصر. ويحتاج في (1) إثبات طهارته بالكثير إلى تكلّف خروجه بالإجماع ونحوه مع ارتكاب شطط في التزام حصول الطهارة له حينئذ من دون صدق اسم الغسل.

واذا ثبت بناء الحكم على تينك المقدّمتين فالمتّجه عند من يقول بطهارة الغسالة إمكان تطهير هذا النوع بالقليل.

وكذا إذا اكتفينا في خروج الغسالة بالجفاف كما هو مقتضى التحقيق. إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الشيخ رحمه اللّه مع ذهابه في الخلاف إلى نجاسة الغسالة في الجملة (2) قال فيه : إذا بال على موضع من الأرض فتطهيرها أن تصبّ الماء عليه حتّى تكاثره وتغمره وتقهره فتزيل لونه وطعمه وريحه ، فإذا زال حكمنا بطهارة المحلّ وطهارة الماء الوارد عليه. ولا يحتاج إلى نقل التراب ولا قطع المكان. وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة : إن كانت الأرض رخوة فصبّ عليها الماء فنزل الماء عن وجهها إلى باطنها طهرت الجلدة العليا دون السفلى التي وصل الماء والبول إليها ، وإن كانت الأرض صلبة فصبّ الماء على المكان فجرى عليه الماء إلى مكان آخر طهر مكان البول ، ولكن نجس المكان الذي انتهى الماء إليه فلا يطهر حتّى يحفر التراب ويلقى عن المكان.

ثمّ إنّ الشيخ احتجّ لما صار إليه بأنّ في التكليف بما زاد على ذلك حرجا منفيّا بقوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وبالرواية العامّيّة المشهورة المتضمنة أمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله بإهراق الذنوب من الماء على بول الأعرابي لمّا بال

ص: 659


1- في « أ » و « ب » : ويحتاج إلى.
2- الخلاف 1 : 179.

في المسجد ، وقوله لهم بعد ذلك : علّموا ويسّروا ولا تعسّروا (1).

والوجه الأوّل من هذه الحجّة لا ينهض بإثبات الحكم في نحو هذا الموضع ، والرواية لا طريق لنا إلى تحقيق حالها بحيث يمكن الاعتماد عليها ، بل أثر الضعف يبدو منها ؛ إذ راويها أبو هريرة ، والشيخ أعلم بحالها وبوجه الاحتجاج بها.

وبالجملة فالذي يظهر : تصويب كلام الشيخ في الدعوى ؛ نظرا إلى انتفاء الدليل على التكليف بما زاد عليه ، وصدق مسمّى الإزالة والغسل المعتبرين في مثله.

وأمّا دليله فليس على ظاهره بجيّد.

وقد حكى المحقّق في المعتبر محصول كلام الشيخ هنا ، ثمّ استشكله بأنّ الرواية عندنا ضعيفة الطريق ومنافية الأصل ، قال : لأنّا بيّنا أنّ الماء المنفصل عن محلّ النجاسة نجس تغيّر أو لم يتغيّر لأنّه ماء قليل لاقى نجاسة (2).

واقتفى العلّامة في المنتهى أثر المحقّق في مناقشة الشيخ بالوجهين المذكورين (3) ، ونحن معهما على الوجه الأوّل. وأمّا الثاني فقد أسلفنا القول فيه بما لا مزيد عليه في موضعه.

وعزى في المنتهى والمختلف إلى ابن إدريس وفاق الشيخ على ما ذهب إليه هنا (4) ، وقد روى عبد اللّه بن سنان في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام

ص: 660


1- الخلاف 1 : 494.
2- المعتبر 1 : 449.
3- منتهى المطلب 3 : 280.
4- مختلف الشيعة 1 : 490 ، وراجع السرائر 1 : 188.

قال : « سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس؟ فقال : رش وصلّ » (1).

وروى أبو بصير قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصلاة في بيوت المجوس فقال : رش وصلّ » (2).

وفي هذين الخبرين نوع إشعار بالاكتفاء في زوال النجاسة عن الأرض بصبّ الماء عليها وإلّا لم يكن للرشّ في المواضع المذكورة فائدة كما لا يخفى.

وكذا في صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام في السطح يبال عليه فيصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب؟ قال : لا بأس به. ما أصابه من الماء أكثر منه (3).

وقد مرّ هذا الحديث في حكم ماء المطر. ووجه الإشعار فيه تعليل نفي البأس بكون الماء الذي أصاب المحلّ أكثر من البول ، وأنّه ليس بالبعيد كون أداة التعريف في الماء للعهد الذهني لا الخارجي فتأمّل.

مسألة [10] :

واختلف الأصحاب في حكم غير البول من سائر النجاسات إذا أصاب (4) غير الأواني ، فذهب جمع منهم إلى الاكتفاء فيها بالمرّة الواحدة ، وهو اختيار

ص: 661


1- الكافي 3 : 387.
2- تهذيب الأحكام 2 : 222.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 7.
4- في « أ » : إذا أصابت.

والدي رحمه اللّه (1).

وصار قوم إلى اعتبار المرّتين كما في البول ، وهم بين مطلق للقول على وجه يظهر منه العموم ، ومصرّح بالاقتصار على الثوب والبدن على نحو ما مرّ في البول ، بل وعلى الثوب فقط ؛ إذ قد حكينا عن العلّامة في التحرير وفي موضع من المنتهى أنّه قصر اعتبار التعدّد في البول على الثوب فقط. وألحق فيهما غير البول به (2).

لكنّه اعتبر في الإلحاق قيدا لم يعتبره غيره فيما نعلم. وقال في التحرير : يغسل الثوب من البول مرّتين. والثخينة أولى بتعداد الغسل. أمّا ما لا يشاهد من النجاسات فإنّها تطهر بالمرّة (3).

وقال في المنتهى : النجاسات التي لها قوام وثخن كالمنيّ وشبهه أولى بالتعدّد (4).

حجّة الأوّل : إطلاق الأوامر بالغسل منها إذ ليس في الأخبار ذكر للتعدّد إلّا في البول وفي غسل الأواني على بعض الوجوه التي يأتي بيانها. والأمر بالماهيّة إنّما يدلّ على طلب اتّحادها وهو يصدق بالمرّة ، والأصل يقتضي براءة الذمّة من الزائد.

وحجّة الثاني : أنّ إيجاب المرّتين في البول يدلّ على إيجابه في غيره بطريق أولى إذ النجاسة في غير البول أشدّ.

ص: 662


1- الروضة البهيّة 1 : 306.
2- تحرير الأحكام 1 : 24 ، ومنتهى المطلب 3 : 262.
3- تحرير الأحكام 1 : 24.
4- منتهى المطلب 3 : 264.

واستشهد في المنتهى لثبوت الأولويّة بالنظر إلى ما له قوام وثخن - بناء على ما اشترطه في الإلحاق - بقول أبي عبد اللّه عليه السلام في رواية حسين بن أبي العلاء وقد سأله عن البول يصيب الجسد قال : صب عليه الماء مرّتين فإنّما هو ماء (1).

قال العلّامة : هذا يدلّ بمفهومه على أنّ غير الماء أكثر عددا (2).

وأضاف بعض المتأخّرين إلى اعتبار الأولويّة المذكورة - وقبله الشهيد في الذكرى - التمسّك بالخبر المتضمّن لتعليل إيجاب المرّتين بأنّ واحدة تزيل واخرى تطهّر (3).

ثمّ إنّ الوجه في الاقتصار على الثوب ، أو عليه وعلى البدن وفي التعدية إلى غيرهما قد علم ممّا مرّ في البول.

وجواب الأوّلين عن هذه الحجّة منع الأولويّة ، بل البول أغلظ من بعض النجاسات كالدم ، حيث يعفى من قليله ولا عفو عن قليل البول.

والحقّ أنّ إثبات القوّة والضعف في النجاسات موقوف على الدلالة الشرعيّة. ولا ريب أنّ في تعليل الاكتفاء بالمرّتين للبول في الحديث المذكور بقوله : « إنّما هو ماء » دلالة على أنّه أضعف حكما بالنظر إلى الإزالة ممّا له قوام.

ونحن كما ذكره العلّامة ، وإن كان بالنسبة إلى العفو إذ لا منافاة مع اختلاف الحيثيّة ، ولكنّ الشأن في صحّة الحديث لينهض بإثبات الحكم.

وقد روى الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام

ص: 663


1- تهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 714.
2- منتهى المطلب 3 :.
3- في « ب » : والاخرى ، راجع ذكرى الشيعة : 15.

قال : « ذكر المنيّ فشدّده وجعله أشدّ من البول » (1).

وهذا الحديث دليل جيّد على ثبوت الأولويّة في المنيّ فيتّجه المصير إلى التعدّد فيه.

ويبقى الكلام على الاستناد في التعدية مطلقا إلى التعليل بكون المرّة الواحدة للإزالة والاخرى للطهارة. وقد ذكرنا من حال هذا التعليل آنفا ما فيه كفاية ، ومع ذلك فاللفظ الموجود في المعتبر والذكرى : الاولى للإزالة والثانية للإنقاء (2). فالتعبير بالطهارة في كلام هذا المتأخّر شاهد حسن على كثرة المراجعة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ حكم ما يلحق بالبول في إيجاب التعدّد حكمه ، فيراعى في الثوب صدق اسم الغسل ، ويكتفى في البدن بالصبّ. ويبنى اعتبار العصر والدلك على التحقيق السابق.

وكذا الكلام في ما يشبه الثوب والبدن عند من عمّم التعدية.

وما لا يقال فيه بالإلحاق ينظر إلى دليل التنجيس به فإن كان نصّا فهو لا محالة يكون متضمّنا للأمر بالغسل منه فيراعى فيه صدق اسم الغسل. وإن كان إجماعا فيحتمل اعتبار المرّتين استصحابا لحكم النجاسة إلى أن يعلم المزيل ولا دليل على الاكتفاء بما دونهما من جهة النصّ كما هو الفرض.

والنظر إلى عموم كون الماء مطهّرا ليس بسليم من قذى الإشكال وقد أشرنا إلى وجهه في مباحث الماء.

ويحتمل الاكتفاء بالمرّة ؛ اقتصارا في الحكم بالتنجيس على موضع الوفاق

ص: 664


1- منتهى المطلب 3 : 264.
2- المعتبر 1 : 435 ، وذكرى الشيعة : 15.

وهو ما قبل المرّة وتمسّكا فيما بعدها بأصالة البراءة من التكليف بالزيادة أو الاجتناب ونحوه من لوازم النجاسة ، واستضعافا للتعلّق في مثله بالأصل السابق ؛ لأنّه من قبيل الاستصحاب المردود ، كما حقّق في محلّه من مقدّمة الكتاب.

وهذا هو الحقّ وستبنى عليه فوائد جليلة في بقايا أحكام النجاسات فاجعله منك على ذكر فإنّه مدرك قويّ ولم يتفطّن له أحد من الأصحاب فيما أعلم واللّه وليّ التوفيق.

مسألة [11] :
اشارة

لا نعرف خلافا بين علمائنا في اعتبار التعدّد في غسل الإناء بالماء القليل إذا ولغ فيه الكلب. وإنّما اختلفوا في العدد المعتبر ، فالأكثرون على الاكتفاء بالمرّتين مع التعفير بالتراب مرّة.

وقال ابن الجنيد في مختصره : والأواني إذا نجست من ولوغ الكلب أو ما جرى مجراه غسل سبع مرّات اولاهنّ بالتراب (1).

حجّة المشهور وجوه :

أحدها : الإجماع. ذكره الشيخ في الخلاف (2) والشهيد في الذكرى (3). وفي كلام العلّامة في المنتهى إشارة إليه حيث قال : إنّ مذهب علمائنا أجمع إلّا ابن الجنيد إيجاب الغسل هنا ثلاث مرّات إحداهنّ بالتراب (4).

ص: 665


1- غير موجود لدينا اليوم ، راجع مختلف الشيعة 1 : 497.
2- الخلاف 1 : 176.
3- ذكرى الشيعة : 15.
4- منتهى المطلب 3 : 334.

والثاني : ما ذكره الفاضلان في المعتبر والمنتهى والنهاية والتذكرة وتبعهما عليه جماعة من المتأخّرين منهم الشهيدان (1) ، وهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي العبّاس الفضل - على ما في المنتهى ، وما رواه أبو العبّاس الفضل على ما في المعتبر - عن الصادق عليه السلام قال : « سألته عن الكلب؟ فقال : رجس نجس لا يتوضّأ بفضله واجتنب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء مرّتين » (2).

والثالث : إنّ الواجب إزالة عين النجاسة بالماء الطاهر ، وهذا المعنى يحصل بالثلاث يعني الغسلتين مع التعفير والأصل براءة الذمّة من الزائد.

وعلى هذا الوجه اقتصر العلّامة في المختلف (3).

وأمّا حجّة ابن الجنيد فلم يتعرّض لها في الكتاب المذكور. ويلوح في المعتبر أنّها رواية عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « يغسل من الخمر سبعا وكذا الكلب » (4).

وتبعه في ذلك العلّامة في المنتهى ، لكنّه صرّح بنسبة الاحتجاج بها إليه (5) ، ولم يحتجّ له بها في المختلف ، بل جعل حجّته أنّه أنجس من الفأرة والإناء

ص: 666


1- المعتبر 1 : 458 ، ومنتهى المطلب 3 : 336 ، ونهاية الإحكام 1 : 293 ، والروضة البهيّة 1 : 308.
2- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 646.
3- مختلف الشيعة 1 : 495.
4- تهذيب الأحكام 9 : 116 ، الحديث 502.
5- منتهى المطلب 3 : 336.

يغسل منها سبع مرّات (1).

والإشكال واقع في كلتا هاتين الحجّتين.

أما الاولى : فلأنّ العمدة فيها على الحديث ، بناء على عدم الاعتماد على نحو هذا الإجماع ، سيّما بقرينة عدم تعرّض المحقّق له ، واقتصاره على الاحتجاج بالخبر.

وأمر هذا الحديث لا يخلو عن ريب ؛ فإنّ لفظ مرّتين فيه غير موجود في التهذيب ولا في الاستبصار (2) على ما في النسخ التي رأيناها ، ولم نر للحديث ذكرا في غيرهما من بقيّة كتب الحديث المعروفة الآن.

والشيخ في الخلاف ذكره بعد الاحتجاج للحكم بإجماع الفرقة على غير نمط الحجّة ، وكأنّه قصد جعله مؤيّدا حيث إنّ احتجاجه في مقابلة العامّة ، ومنهم من أوجب الزيادة على الثلاث ومنهم من جعل الغسل للتعبّد لا للنجاسة. والخبر صالح لنفي كلا هذين القولين.

وعلى كلّ حال فهو في هذا الكتاب أيضا خال من ذكر المرّتين (3).

والعلّامة في المختلف حكاه أيضا في هذا الباب ، لكن لا يقصد الاحتجاج به للتعدّد كما صنع في المنتهى بل لغرض آخر وليس فيه تعرّض للمرّتين.

فكأنّ المحقّق رحمه اللّه عثر عليه في غير كتب الشيخ. وحيث إنّه ذكره مرسلا فالاعتماد عليه بالنظر إلينا صار مشكلا. وصحّة طريقه إلى أبي العبّاس في كتب الشيخ غير مجدية مع الخلوّ عن موضع الدلالة.

ص: 667


1- مختلف الشيعة 1 : 495.
2- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، والاستبصار 1 : 19.
3- الخلاف 1 : 176.

وأمّا الحجّة الثانية : فحديثها ليس بصحيح السند. والوجه الذي ذكر في المختلف ممنوع بكلتا مقدّمتيه. وهو في الاولى واضح وفي الثانية يأتي في محلّه.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ العمل على المشهور هنا حسن ، لما يظهر من عدم الخلاف في نفي الاكتفاء بما دونه. وللتحقيق حكم آخر.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

حقيقة الولوغ - على ما ذكره جماعة من أهل اللغة - هي : شرب الكلب ممّا في الإناء بطرف لسانه أو إدخال لسانه فيه وتحريكه له على ما ذكره بعضهم (1).

وقد نصّ جماعة من متأخّري الأصحاب على أنّ لطع الكلب للإناء بلسانه في معنى ولوغه وإن لم يصدق عليه اسمه حقيقة ؛ نظرا إلى أنّه أولى بالحكم من الولوغ فيتناوله الدليل بمفهوم الموافقة. ولا بأس به.

[ الفرع ] الثاني :

قال العلّامة في النهاية : لو حصل اللعاب بغير الولوغ فالأقوى إلحاقه به ؛ إذ المقصود قلع اللعاب من غير اعتبار السبب.

قال : وهل يجري عرقه وساير رطوباته وأجزائه وفضلاته مجرى لعابه؟ إشكال. الأقرب ذلك ؛ لأنّ فمه أنظف من غيره ، ولهذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات لكثرة لهثه (2).

ص: 668


1- راجع مختار الصحاح ، وفسّره في المصباح المنير بمطلق الشرب.
2- نهاية الإحكام 1 : 294.

وقال الصدوق في المقنع ، ومن لا يحضره الفقيه : وإن ولغ كلب (1) في إناء فيه ماء أو شرب منه اهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرّات بالتراب ومرّتين بالماء (2). وذكر والده في الرسالة نحو هذا الكلام.

والمشهور بين الأصحاب قصر الحكم على الولوغ وما في معناه وهو اللطع. والوجه فيه ظاهر ؛ إذ النصّ إنّما ورد في الولوغ.

وادّعاء الأولويّة في غيره مطلقا في حيّز المنع وبدونها يكون الإلحاق قياسا.

وقد وافق العلّامة في غير النهاية على ما هو المشهور ، واحتجّ له في المنتهى بأنّ التكليف في ذلك غير معقول المعنى فيقف على النصّ وهو إنّما دلّ على الولوغ.

ثمّ ذكر احتجاج المخالف بأنّ كلّ جزء من الحيوان يساوي بقيّة الأجزاء في الحكم.

وأجاب عنه : بأنّ التساوي ممنوع ، والفرق واقع ؛ إذ في الولوغ يحصل ملاقاة الرطوبة اللّزجة للإناء المفتقرة إلى زيادة في التطهير (3).

وفد اقتفى في الحجّة والجواب أثر المحقّق في المعتبر (4). ومنها يظهر جواب ما ذكره في النهاية.

والعجب أنّه قال فيها بعد تلك العبارة التي حكيناها بسطر واحد : ولو أدخل يده أو رجله أو غيرهما من أجزائه كان كغيره من النجاسات. وقيل بمساواته

ص: 669


1- في « أ » و « ب » : إن وقع كلب.
2- المقنع : 4 ، من الجوامع الفقهية ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 9.
3- منتهى المطلب 3 : 340.
4- المعتبر 1 : 459.

للولوغ (1).

[ الفرع ] الثالث :

أطلق جمع من متقدّمي الأصحاب - منهم الصدوقان في العبارتين المحكيّتين عنهما آنفا (2) ، والشيخ في الخلاف - اعتبار الغسل ثلاثا من الولوغ إحداها بالتراب والاخريان بالماء (3).

ولم يتعرّضوا لبيان محلّ الغسل بالتراب. ولكن تأخيره عن الغسلتين بالماء منفيّ بغير شكّ ، فيبقى الكلام في تقديمه عليهما أو توسّطه بينهما (4).

فبالثاني صرّح المفيد في المقنعة (5) ، وبالأوّل صرّح الشيخ في النهاية (6). وقد مرّ التصريح به في كلام ابن الجنيد أيضا (7) ، وعليه جمهور الأصحاب ؛ تمسّكا بحديث أبي العبّاس السابق فإنّه نصّ فيه كما لا يخفى (8). وما قاله المفيد لا نعرف له وجها.

[ الفرع ] الرابع :
اشارة

أكثر علمائنا على الاكتفاء في التعفير بالتراب وحده.

ص: 670


1- نهاية الإحكام 1 : 294.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 9 ، والمقنع : 4.
3- الخلاف 1 : 178.
4- في « أ » : أو توسيطه بينهما.
5- المقنعة : 65.
6- النهاية ونكتها 1 : 268.
7- مختلف الشيعة 1 : 497.
8- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 646.

وهم مع ذلك بين ساكت عن الحكم حال مزجه بالماء ، ومصرّح بإجزائه.

فممّن صرّح بالإجزاء الشهيد في البيان والدروس (1).

واعتبر والدي رحمه اللّه في الإجزاء مع المزج عدم خروج التراب بذلك عن اسمه (2).

ويعزى إلى الراوندي وابن إدريس اشتراط المزج (3). وجنح إليه العلّامة في المنتهى. وجزم بالعدم في غيره (4).

واحتجّ له بوجهين :

أحدهما : أنّ النصّ خال من ذكر الماء.

والثاني : أنّ الغرض إزالة الأجزاء اللعابيّة الحاصلة من فمه ودلكه بالتراب بحيث تزول تلك الرطوبة.

وحكوا عن ابن إدريس الاحتجاج لما صار إليه بأنّ حقيقة الغسل جريان المائع على الجسم المغسول. والتراب وحده لا يجزي ، فيعتبر مزجه بالماء تحصيلا لحقيقة الغسل.

وأجاب عنه الشهيد في الذكرى (5) - اقتفاء لأثر العلّامة في المختلف (6) - بأنّه لا ريب في انتفاء الحقيقة على التقديرين. والخبر مطلق فلا ترجيح.

ص: 671


1- البيان : 93 ، والدروس الشرعيّة 1 : 125.
2- مسالك الأفهام 1 : 133 ، طبعة مؤسسة المعارف الإسلامية - قم ، 1413 ه ق.
3- السرائر 1 : 91 ، في « ج » : اشتراطه المزج.
4- منتهى المطلب 3 : 339 ، وراجع تذكرة الفقهاء 1 : 85.
5- ذكرى الشيعة : 15.
6- مختلف الشيعة 1 : 495 - 496.

وتحقيقه : أنّ ادّعاء صدق مفهوم الغسل مع المزج (1). وإن كان بالنظر إلى الحقيقة فالمزج ليس بمحصّل لحقيقة الغسل قطعا ، وإن كانت باعتبار المجاز فهو صادق بالتراب وحده.

وليس على ترجيح أحد المجازين دليل صريح.

والإطلاق الواقع في الخبر يدلّ بظاهره على الاكتفاء بأقلّ ما يتحقّق معه الاسم فيحتاج إثبات الزائد عنه إلى دليل. هذا غاية ما يمكن أن ينقّح به هذا الجواب المذكور.

وبعد لنا فيه بحث ؛ لأنّ الباء في قوله : « واغسله بالتراب » من الحديث الذي هو مستندهم يحتمل أن يكون للاستعانة ، مثلها في قولك : « كتبت بالقلم » والظرف حينئذ لغو إذ متعلّقه خاصّ مذكور.

ويحتمل أن يكون للمصاحبة ، نحوها في قولك : « دخلت عليه بثياب السفر » ، والظرف على هذا التقدير حال من الغسل المدلول عليه بالأمر أو من الماء لدلالة الغسل عليه وهو حينئذ مستقرّ لكون (2) متعلّقه أمرا عامّا واجب الحذف وهو الكون أو الاستقرار.

فعلى الأوّل : يتعيّن التجوّز في لفظ الغسل بإرادة الدلك منه لنوع من العلاقة.

وعلى الثاني : لا حاجة إلى التجوّز في الغسل بل يبقى على حقيقته ويحتاج الكلام إلى تقدير المتعلّق للجارّ وهو وإن كان خلاف الأصل إلّا أنّه ليس بالبعيد رجحانه هنا على ذلك التجوّز ؛ إذ مدار وجوه الترجيح في مثله على كثرة الاستعمال وسبق المعنى إلى الفهم ، ولا ريب في قلّة استعمال الغسل

ص: 672


1- في « ب » : صدق مفهوم الغسل للمزج.
2- في « ب » : بكون متعلّقه.

في الدلك بالتراب ، وبعده عن الفهم. وليس الإضمار لمتعلّق الجار بهذه المثابة ، ولا قريبا منها قطعا ، بل هو من المتعارف والشيوع بأيّ مكان. وإذا ثبت رجحانه فمقتضاه الاكتفاء بمسمّى المصاحبة.

وربّما يستبعد ذلك من حيث إنّه لا يتحقّق معه الغاية التي ذكروها أعني زوال الأجزاء اللعابيّة الحاصلة من فمه.

وليس بشي ء ؛ فإنّ النظر إلى نحو هذا التعليل في الأحكام الشرعيّة مع انتفاء النصّ عليه وتخلّفه في أكثر الصور بأهل القياس أليق.

وبالجملة فمجال المقال هاهنا متّسع ، وفي هذا القدر من التنبيه على جهة التحقيق كفاية. وحيث إنّ الأخذ في طريق الاحتياط أمر مطلوب فينبغي أن يكون العمل عليه.

غير أنّ الجمع بينه وبين ما ذكرناه ليس بخال عن إشكال باعتبار اشتراط عدم الخروج بالمزج عن مسمّى التراب كما حكيناه عن الوالد. ولعلّه في الغالب لا يخرج ، وربّما كانت كثرة الماء أبعد عن الخروج من بعض صور قلّته بحسب العرف. فتأمّل.

تذنيب :

قال في التذكرة : إن قلنا بمزج الماء بالتراب هل يجزي لو صار مضافا؟ إشكال.

وعلى تقديره هل يجزي عوض الماء ماء الورد وشبهه؟ إشكال (1).

وبنى الحكم في النهاية على أنّ التعفير هل يثبت تعبّدا أو استظهارا في القلع بغير الماء.

ص: 673


1- تذكرة الفقهاء 1 : 87.

فعلى الأوّل : يتوقّف فيه مع ظاهر النقل.

وعلى الثاني : يجزي عوض الماء غيره من المائعات كالخلّ وماء الورد. ولا يضرّ خروج الماء عن الإطلاق بالمزج بطريق أولى (1).

ولا يخفى عليك أنّ القدر المتحقّق هو التعبّد ؛ إذ لا دليل على قصد الاستظهار. وحينئذ فالمتّجه - على ما هو المشهور من عدم مدخليّة غير المطلق في التطهير من النجاسات - عدم إجزاء المضاف مطلقا ؛ فإنّ إثبات الخصوصيّة هنا يحتاج إلى الدليل ، والمنكرون لإجزاء المضاف مطلقا يدّعون تبادر المطلق من لفظ الغسل عند الإطلاق على ما مرّ تحقيقه.

وقد عرفت أنّ اعتبار المزج إنّما اخذ من الأمر بالغسل فلا خصوصيّة لهذا النوع من التطهير عن غيره.

وأمّا اشتراط عدم خروج المطلق عن اسمه بالمزج فموضع نظر ؛ لأنّ الظاهر من إطلاق الأمر بجعل التراب في صحبة الماء - على ما وجّهنا به اعتبار المزج - عدم الالتفات إلى بقاء الاسم في واحد منهما بعد الاجتماع.

اللّهم إلّا أن يكون خروج الماء عن اسمه مقتضيا لعدم صدق الغسل حقيقة فيستوي الحال في المزج وعدمه ، كما ذكر في الجواب عن حجّة ابن إدريس.

ولا يبعد ادّعاء الصدق على بعض الوجوه بطريق الحقيقة وإن زال اسم الماء عن المجموع بشهادة العرف به.

لا يقال : التزام صدق اسم الغسل المعتبر حينئذ يقتضي التزام مثله في المزج بالمضاف ؛ لأنّ انتفاء اسم المطلق حاصل في الموضعين.

لأنّا نقول : مبنى الفرق - كما عرفت - على تبادر إرادة استعمال المطلق

ص: 674


1- نهاية الإحكام 1 : 294.

من الأمر بالغسل وإن كانت حقيقة الغسل قد تصدق بغيره ، فإذا اقترن إلى الأمر ما يدلّ على إرادة عدم استقلال المطلق بالغسل وجب العمل بمقتضاه واحتيج إلى ملاحظة الجمع بينه وبين حصول حقيقة الغسل ؛ لكون إرادة المجاز على خلاف الأصل.

[ الفرع ] الخامس :

نصّ جمع من الأصحاب على اشتراط الطهارة في التراب ، ومنهم العلّامة في المنتهى ، فقال :

الأقرب اشتراط طهارة التراب سواء أضفناه أو لا ؛ لأنّ المطلوب منه التطهير وهو غير مناسب بالنجس (1).

واحتمل في النهاية الإجزاء ، ووجّهه بأنّ المقصود من التراب الاستعانة على القلع بشي ء آخر. وشبّهه حينئذ بالدفع بالنجس (2).

وقد بيّنا ما في الاستناد إلى التعليل في هذا المقام من الإشكال ؛ إذ هو استنباط محض. ولا ريب أنّ اعتبار الطهارة أنسب وإن كان باب الاحتمال غير منسدّ ، لا لما ذكره العلّامة ، بل من حيث توقّف الاشتراط على الحجّة ؛ إذ الدليل مطلق.

ولعلّ إرادة الظاهر يتبادر إلى الفهم عند الإطلاق.

[ الفرع ] السادس :

ذكر ابن الجنيد : أنّ المرّة الاولى في الغسل من الولوغ تكون بالتراب

ص: 675


1- منتهى المطلب 3 : 343.
2- نهاية الإحكام 1 : 294.

أو ما قام مقامه (1) ، وهو يدلّ على عدم تحتّم التراب وكأنّه يريد بما قام مقامه ما يفيد فائدته في إزالة النجاسة عن المحلّ فهو يرى التخيير بين التراب وغيره ممّا في معناه.

وجمهور الأصحاب على خلافه ؛ إذ لا نعرف القول بذلك لسواه.

وحجّتهم أنّ النصّ ورد بالتراب فمن ادّعى قيام غيره مقامه فعليه الدليل.

ولم يتعرّض ابن الجنيد لبيان الحجّة على ما ذهب إليه.

ويحتمل - على ما يقال عنه من العمل بالقياس - أن يكون بناؤه في ذلك عليه.

[ الفرع ] السابع :

حكى المحقّق في المعتبر عن الشيخ أنّه قال في المبسوط : إذا لم يوجد التراب ووجد غيره - كالإشنان (2) وما يجري مجراه - أجزأ. ثمّ وجّهه المحقّق بأنّ الإشنان أبلغ في الإنقاء فإذا طهر بالتراب فالأشنان أولى.

ثمّ قال : وفيه تردّد ؛ منشأه اختصاص التعبّد بالتراب وعدم العلم بحصول المصلحة المرادة منه في غيره. على أنّه لو صحّ ذلك لجاز مع وجود التراب (3).

وما ذكره المحقّق جيّد ، وبه يظهر أنّ قول ابن الجنيد أقرب إلى الصواب من قول الشيخ ؛ إذ لا وجه له سوى ما قاله المحقّق.

والنظر إلى ذلك يقتضي عدم اعتبار فقد التراب كما ذهب إليه ابن الجنيد.

ص: 676


1- مختلف الشيعة 1 : 497.
2- قال في المصباح المنير : بضمّ الهمزة ، والكسر لغة ، معرّب. ويقال له بالعربية : الحرض. وتأشّن : غسل يده بالأشنان. وقال في المنجد : ما تغسل به الأيدي من الحمض وهو أنواع.
3- المعتبر 1 : 459.

وقد وافق الشيخ على قوله هذا جماعة منهم العلّامة في كثير من كتبه. وتوقّف في النهاية (1).

وقال في المنتهى : إنّ عدم إجزاء غير التراب هو الأقوى ؛ لأنّ المصلحة الثابتة من التعبّد باستعمال التراب لو حصلت بالأشنان وشبهه لصحّ استعماله مع وجود التراب (2).

وانتصر الفاضل الشيخ علي لهذا القول فقرّب دليله واستوجهه ، ثمّ استدرك بأنّ جمعا من الأصحاب ذكروا الاجتزاء بالمشابه مع فقد التراب. قال : والخروج عن مقالتهم أشدّ إشكالا (3).

وهذا عجيب بعد ظهور الخلاف وانتفاء ما يتخيّل منه الإجماع.

[ الفرع ] الثامن :

يعزى إلى الشيخ أيضا القول بإجزاء الماء وحده عند عدم التراب وشبهه (4).

وقد حكى الفاضلان في المعتبر والمنتهى والمختلف عبارته في ذلك ، وليس فيها تعرّض لاشتراط فقد شبه التراب ؛ فإنّ العبارة هكذا : إذا لم يوجد التراب اقتصر على الماء وإن وجد غيره كالإشنان وما يجري مجراه أجزأ.

وظاهرها القول بالتخيير - عند عدم التراب - بين الاقتصار على الماء واستعمال ما يشبه التراب.

ولا نعرف للشيخ موافقا على هذا المعنى. نعم ذكره العلّامة في التذكرة

ص: 677


1- نهاية الإحكام 1 : 293.
2- منتهى المطلب 3 : 338.
3- جامع المقاصد 1 : 194.
4- المبسوط 1 : 14.

والنهاية احتمالا (1).

وأمّا ما عزي إليه من القول بإجزاء الماء عند فقد التراب وشبهه فقد ذهب إليه العلّامة في جملة من كتبه والشهيد (2).

وذكر في المنتهى بعد حكاية كلام الشيخ أنّه يعطي أحد معنيين : إمّا استعمال الماء ثلاث مرّات أو استعماله مرّتين.

قال : ووجه الاحتمال الأوّل أنّه قد أمر بالغسل وقد فات ما يغسل به فينتقل إلى ما هو أبلغ وهو الماء.

ووجه الثاني أنّه أمر بالغسل بالتراب ولم يوجد فالتعدية خروج عن المأمور به ، وتنجيس الإناء دائما تكليف بالمشقّة ، فوجب القول بطهارته بالغسل مرّتين. ثمّ قال وهو قويّ (3). هذا.

والكلام عندي ضعيف ؛ فإنّ مقتضى اشتراط حصول الطهارة للإناء بالغسل المعيّن بالتراب والماء عند عروض هذا النوع من النجاسة انتفاء المشروط عند فقدان الشرط كما هو الشأن في مثله ، ومن البيّن أنّ الشرط إذا كان مركّبا من أمرين أو امور كفى في انتفائه انتفاء جزئه.

وادّعاء قيام البدل عن الجزء المفقود أو سقوط اشتراطه عند تعذّره محتاج إلى الدليل. ألا ترى أنّ الجزء الآخر للشرط هنا وهو الماء لا يتفاوت الحال في انتفاء المشروط عند انتفائه بين إمكان وجوده وتعذّره [ وما ذاك إلّا لفقد

ص: 678


1- تذكرة الفقهاء 1 : 86 ، ونهاية الإحكام 1 : 293.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 86 ، والدروس الشرعية 1 : 125.
3- منتهى المطلب 3 : 337.

الدليل على سقوط اعتباره في حال التعذّر ] (1) أو قيام البدل مقامه وذلك آت في المتنازع.

ثمّ إنّ الوجهين اللذين ذكرهما العلّامة بقصد الاحتجاج للحكم ليسا بشي ء :

أمّا الأوّل فلمنع كون الماء في هذا الغرض أبلغ.

سلّمنا ولكن من الجائز كون التكليف بالتراب للتعبّد فقط ؛ إذ مع ملاحظة الإزالة به وكون الماء أبلغ إنّما يجدي لو ثبت انحصار الغرض منه في الإزالة. واللازم من ذلك عدم رعاية فقدان التراب كما ذكره المحقّق في بدليّة الإشنان ونحوه.

وأمّا الثاني فلأنّ المشقّة الحاصلة بفقد (2) التراب يحصل ما هو أقوى منها عند فقد الماء ، فإن كان مثلها كافيا في رفع التكليف فينبغي القول به حيث لا يوجد الماء ويكتفى بالتراب وحده.

والوجه في قوّة المشقّة مع فقد الماء بالنظر إليها في فقد التراب واضح ، ومع التنزّل فلا أقلّ من المساواة.

وبالجملة فارتكاب هذه التكلّفات في الاستدلال والاعتماد عليها في إثبات الأحكام في نهاية الغرابة.

ولقد كان للعلّامة طريق يمكنه المصير منه إلى ما قوّاه هنا من إجزاء المرّتين حينئذ بالماء أقرب إلى الصواب ممّا تكلّفه وهو :

أنّ اشتراط التراب في حصول الطهارة هاهنا ليس في النصّ ما يدلّ عليه بل ظاهره كونه واجبا فيها للأمر به وهو أعمّ من الشرطيّة. وإنّما استفيد

ص: 679


1- ما بين المعقوفتين غير موجود في نسخة « ج ».
2- في « ب » : بفقدان التراب.

الاشتراط من الإجماع وهو ليس بحاصل في صورة التعذّر فيتمسّك فيها بعموم ما دلّ على كون الماء مطهّرا.

وهذا الدليل وإن كان للنظر في بعض مقدّماته مجال إلّا أنّ المعلوم من طريقة العلّامة الاعتماد على مثله.

وقد استقرب في التحرير - تفريعا على قول الشيخ - عدم الاكتفاء بالمرّتين (1) وقال في القواعد : ولو فقد الجميع - يعني التراب وشبهه - اكتفى بالماء ثلاثا (2).

وصار جمع من المتأخّرين إلى بقاء الإناء حينئذ على نجاسته إلى أن يوجد ما عيّنه الشارع لتطهيره. ونظرهم في ذلك إلى ما قرّرناه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ حكاية المحقّق لكلام الشيخ هنا - كما أشرنا إليه - وقعت في جملة حكايته لكلامه في الفرع المتقدّم ، واقتصر على البحث معه في ذلك. ولم يتعرّض لهذا بوجه. ولعلّه فهم منه ما ذكرناه من التخيير وراعى في جعل متعلق بحثه للإشنان كونه أحد الامور التي صار الشيخ إلى قيامها مقام التراب فيعلم من التوجيه والردّ فيه ما يقال في غيره.

[ الفرع ] التاسع :

ذكر الصدوق في المقنع ومن لا يحضره الفقيه ووالده في رسالته والشيخ المفيد في المقنعة بعد الحكم بغسل الإناء من الولوغ هنا أنّه يجفّف (3).

ولا يعرف الوجه في ذلك. وقد حكاه الفاضلان عن المفيد وحده (4).

ص: 680


1- تحرير الأحكام 1 : 26.
2- قواعد الأحكام 1 : 198.
3- المقنع : 4 ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 9 ، والمقنعة : 68.
4- المعتبر 1 : 458 ، ومنتهى المطلب 3 : 337.

وذكر المحقّق أنّه منفيّ بالأصل وبالنصّ فإنّ ظاهره الاكتفاء بمضمونه (1).

وقال العلّامة ليس التجفيف شرطا عندي في الاستعمال ؛ إذ الماء المتخلّف في المغسول طاهر وإلّا لم يطهّره التجفيف (2).

وينبغي أن تعلم أنّ استفادة شرطيّة التجفيف في الاستعمال - كما أشار إليه العلّامة - ظاهرة في عبارة المفيد حيث قال : ثمّ يجفّف ويستعمل (3).

وأمّا عبارات الصدوقين فليس فيها إلّا التجفيف. وإن كان كلام المحقّق في المناقشة أربط - بالتحقيق - من كلام العلّامة.

[ الفرع ] العاشر :

قال الفاضل في المنتهى والتذكرة والتحرير : لو خيف فساد المحلّ باستعمال التراب فهو كما لو فقد التراب (4).

وكلامه في التذكرة صريح في الاجتزاء بالماء حينئذ. ولكن لم يتعرّض لبيان العدد المعتبر (5).

وفي التحرير نسب القول بإجزاء الماء مع فقد التراب إلى الشيخ (6). واستقرب - تفريعا عليه - عدم الاجتزاء بالمرّتين ، كما ذكرناه (7) آنفا وذكرنا كلامه

ص: 681


1- المعتبر 1 : 458.
2- منتهى المطلب 3 : 337.
3- المقنعة : 68.
4- منتهى المطلب 3 : 338.
5- تذكرة الفقهاء 1 : 86.
6- تحرير الأحكام 1 : 26.
7- في « أ » و « ب » : كما حكيناه آنفا.

في المنتهى أيضا ، وهو محتمل لأن يكون تفريعا على قول الشيخ أو حكما مستقلا. والكلام في هذا الفرع مبنيّ على ذاك.

وعلى كلّ حال فمقتضى ما ذكره في التذكرة إجزاء الغسل بالماء في الصورة المبحوث عنها ، وغاية العدد المعتبر حينئذ أن يكون ثلاث مرّات كما اختاره في القواعد وقد مرّ نقله (1).

ويظهر من جماعة من المتأخّرين الميل إلى البقاء على النجاسة حينئذ ، بل جزم به والدي في الروضة (2) ، وبعض مشايخنا الذين عاصرناهم ؛ نظرا إلى أنّ الدليل اقتضى توقّف حصول الطهارة على التراب والماء.

وليس على استثناء حال التعذّر دليل فيبقى على أصالة النجاسة.

ولبعض الأصحاب هنا تفصيل حاصله : أنّ خوف الفساد باستعمال التراب إن كان باعتبار توقّف إيصاله إلى الآنية على كسر بعضها - كما في الأواني الضيّقة - وأمكن مزج التراب بالماء وإنزاله إليها وخضخضتها به على وجه يستوعبها وجب وأجزأ.

وإن كان باعتبار نفاسة الإناء بحيث يترتّب الفساد على أصل الاستعمال اكتفي بالماء. وكذا إذا امتنع في الصورة الاولى إنزاله ممتزجا على الوجه الذي ذكر.

وفرق بين هذا وبين ما إذا فقد التراب - حيث مال إلى بقائه على النجاسة ثمّ - بأنّ الحكم بذلك هنا يفضي إلى التعطيل الدائم وهو غير مناسب لحكمة الشارع وتخفيفه. وأمّا هناك فحصول التراب مرجوّ فلا تعطيل.

والتحقيق عندي أنّه على تقدير تناول دليل الحكم لنحو هذه الأواني يراعى

ص: 682


1- قواعد الأحكام 1 : 98 ، ومعالم الدين « هذه الطبعة » : 680.
2- الروضة البهيّة 1 : 308.

في تحصيل مسمّى الغسل لها بالتراب أقلّ مراتبه التي من جملتها مزجه بالماء وإدخاله إلى الإناء على الوجه الذي ذكر في التفصيل.

وحصول الطهارة معه حينئذ ليس باعتبار تعذّر الحقيقة كما يظهر من كلام المفصّل بل لكونه بعض أفراد المأمور به على ما حقّقناه آنفا.

وبتقدير حصول الفساد به على كلّ حال يبقى على النجاسة وإن أفضى إلى التعطيل ؛ فإنّ التفات حكمة الشارع إلى التخفيف عن ذي آنية هذه صفتها ممّا لا سبيل إلى العلم به.

[ الفرع ] الحادي عشر :

قال الشيخ في الخلاف : إذا ولغ كلبان أو كلاب في إناء واحد لم يجب أكثر من غسل الإناء ثلاث مرّات. ثمّ ذكر أنّ جميع الفقهاء لم يفرّقوا بين الواحد والمتعدّد إلّا من شذّ من العامّة فأوجب لكلّ واحد العدد بكماله.

واحتجّ الشيخ لما قاله بأنّ النصّ خال من التعرّض للفرق بين الواحد والأكثر والكلب جنس يقع على القليل والكثير (1).

وهذا الكلام جيّد ؛ لأنّ سوق الحديث الذي هو العمدة في الحكم صريح في كون السؤال عن الجنس حيث قال فيه : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه فقال : لا بأس به ، حتّى انتهيت إلى الكلب ، فقال : رجس نجس لا يتوضّأ بفضله ». الحديث (2).

وقد ذكر هذا الحكم أكثر الأصحاب جازمين به ، وزادوا فيه : ما إذا تكرّر

ص: 683


1- الخلاف 1 : 177.
2- تهذيب الأحكام 1 : 225 ، الحديث 646.

الولوغ من الواحد ، وهو أولى بالحكم بعد ثبوته في المتعدّد ، ولم يحتجّوا له بما ذكره الشيخ.

وإنّما علّله الفاضلان في المعتبر والمنتهى : بأنّ النجاسة واحدة فقليلها ككثيرها ، لأنّها لا تتضمّن زيادة عن حكم الاولى (1).

وحجّة الشيخ أوضح وأقوى.

[ الفرع ] الثاني عشر :

حكم جمع من الأصحاب منهم : الفاضلان والشهيدان بالتداخل إذا انضمّ إلى الولوغ نجاسة اخرى (2).

وكأنّ الوجه فيه حصول الغرض من الأمر بالغسل وهو إزالة عين النجاسة به ، وصدق الامتثال بالفعل الواحد ، وأصالة براءة الذمّة من التكليف بالتكرير ، وأنّ تكرّر الغسل بتعدّد نوع النجاسة غير معهود شرعا.

ولم يفرّقوا بين أن يكون عروض النجاسة الاخرى قبل الشروع في الغسل وبعده.

لكن في صورة المتأخّر يراعى حصول العدد المعتبر في تلك النجاسة.

فإن كان ما بقي من غسلات الولوغ مساويا له كفى عنهما وإن كان أقلّ منه وجب الإتيان بالزائد.

وكذا لو كان العدد المعتبر في النجاسة الاخرى زائدا على ما يعتبر هنا سواء كان عروضها قبل الشروع في الغسل أم بعده ؛ فإنّ التداخل يقع في القدر

ص: 684


1- المعتبر 1 : 459 ، ومنتهى المطلب 3 : 339.
2- المعتبر 1 : 459 ، ومنتهى المطلب 3 : 341 ، وذكرى الشيعة : 15 ، والروضة البهيّة 1 : 308.

المساوي. ويجب الإتيان بالزائد. نصّ على ذلك جماعة منهم الفاضل في المنتهى ووالدي في بعض كتبه.

قال في المنتهى بعد الإشارة إلى جملة من الاحتمالات الممكنة هنا مفصّلة : وبالجملة إذا تعدّدت النجاسة فإن تساوت في الحكم تداخلت وإن اختلفت فالحكم لأغلظها (1).

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يتّجه على من ذهب إلى عدم التداخل في تطهير البئر بالنزح - كالشهيدين (2) ؛ نظرا إلى أنّ الأصل في الأسباب أن تعمل عملها ولا تتداخل مسبباتها - وحكم بالتداخل هنا ، سؤال الفرق بين المقامين؟

وله أن يقول : إنّ الأدلّة الدالّة على المقادير المقرّرة (3) في النزح من النصوص وردت معلّقة لها بالأنواع المخصوصة من النجاسات رابطة لتلك المقادير بالأنواع ربط المسبّبات بالأسباب فلذلك عمل فيها بأصالة عدم التداخل.

وأمّا هنا فالنصوص المعتبرة خالية عن اعتبار التعدّد من غير الولوغ فيما عدا الثوب والبدن. فلو قيل بالتعدّد مطلقا لكان مبنيّا على ما لا ينهض باعتباره في موضع النزاع على جهة الاستقلال.

وإذا لم يكن دليل التعدّد حينئذ صالحا لاعتباره مستقلا فإطلاق الأوامر بالغسل أو انعقاد الإجماع عليه لا يصلح دليلا على إيجابه بطريق الاستقلال أيضا ، وإنّما يقتضي إرادة تحصيل ماهيّة الغسل لغرض الإزالة وهو يحصل

ص: 685


1- منتهى المطلب 3 : 339.
2- الروضة البهيّة 1 : 267.
3- في « أ » و « ب » : المقادير المعيّنة في النزح.

مع التداخل.

وهذا الوجه من التفرقة مع قوّته ليس بحاسم لمادّة الإشكال ؛ إذ يبقى السؤال في صورة اجتماع ولوغ الكلب مع ولوغ الخنزير - بناء على ما سيأتي من اعتبار التعدّد فيه أيضا - فإنّ الدليل على إيجاب العدد فيه مثل الدليل على اعتباره في الكلب بالنظر إلى النصوصيّة ، فكلّ منهما سبب مستقلّ كأسباب النزح. وإطلاقهم الحكم بالتداخل يتناوله.

والشهيد يرى التعدّد في الخمر والفأرة استنادا إلى بعض الروايات (1) ، فيأتي السؤال عليه في صور اجتماعهما.

ويظهر منه في البيان القول بعدم التداخل في بعض الصور (2) ، لكن في نسخ الكتاب هاهنا اضطراب وفي الحكم أو التعدّي (3) عنه اختلال ، فلذلك أضربنا عن التعرّض لحكايته والمتّجه عدم التداخل فيما يثبت التعدّد فيه بالنص.

[ الفرع ] الثالث عشر :

ذكر الشيخ في الخلاف وبعده المحقّق في المعتبر : أنّ ماء الولوغ إذا أصاب الثوب أو الجسد لم يعتبر فيه العدد (4).

وأضاف المحقّق إليهما الإناء فحكم بعدم اعتبار التعدّد فيه أيضا إذا أصابه هذا الماء. ولم يتعرّض له الشيخ (5).

ص: 686


1- ذكرى الشيعة : 15.
2- البيان : 100 ، الطبعة المحقّقة.
3- في « أ » و « ب » : أو التأدية عنه اختلال.
4- الخلاف 1 : 181.
5- المعتبر 1 : 460.

ولكنّ الظاهر من كلامه القول بمساواته لهما وأنّ ذكرهما لغرض التمثيل حيث قال : إذا ولغ الكلب في الإناء نجس الماء الذي فيه ، فإن وقع ذلك الماء على بدن الإنسان أو ثوبه وجب غسله ولا يراعى فيه العدد. ثمّ حكى عن بعض العامّة إيجاب غسل كلّ موضع يصيبه ذلك الماء بقدر العدد المعتبر في الإناء.

وقال بعد ذلك : دليلنا إنّ وجوب غسله معلوم بالاتّفاق ؛ لنجاسة الماء. واعتبار العدد يحتاج إلى دليل. وحمله على الولوغ قياس. ولا نقول به (1).

وهذه الحجّة واضحة جيّدة ، وعليها عوّل المحقّق أيضا ، فقال مشيرا إليها : « ولا يعتبر العدد اقتصارا بالحكم على موضع النصّ » (2).

واستقرب العلّامة في النهاية إلحاق هذا الماء بالولوغ ، وعلّله بوجود الرطوبة اللعابيّة (3). وضعفه ظاهر.

[ الفرع ] الرابع عشر :

قال في المنتهى : ليس حكم الماء الذي يغسل به إناء الولوغ حكم الولوغ في أنّه متى لاقى جسما يجب غسله بالتراب ؛ لأنّها نجاسة فلا يعتبر فيها حكم المحلّ الذي انفصلت عنه.

ثمّ حكى عن بعض الجمهور أنّه قال : يجب غسله بالتراب وإن كان المحلّ الأوّل قد غسل بالتراب.

وعن بعض آخر منهم أنّه أوجب غسله من الغسلة الاولى ستّا بناء على قولهم بوجوب السبع في الولوغ ومن الثانية خمسا ومن الثالثة أربعا وكذا

ص: 687


1- الخلاف 1 : 181.
2- المعتبر 1 : 460.
3- نهاية الإحكام 1 : 295.

لو كانت قد انفصلت عن محلّ غسل بالتراب غسل محلّها بغير تراب وإن كانت الاولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب.

ثمّ قال : وهذا كلّه ضعيف ، والوجه أنّه يساوي غيره من النجاسات لاختصاص النصّ بالولوغ (1).

وقد تعرّض لهذا الكلام بالمناقشة الفاضل الشيخ علي في بعض كتبه فقال : أوّلا إنّ عدم اعتبار التراب في هذه الصورة إن كان منوطا بتقدّم تعفير إناء الولوغ على غسله بالماء الذي فرض الملاقاة به فهو حقّ. وكذا إن كان الجسم الملاقى به غير إناء ، وإلّا فالظاهر اعتباره ؛ لأنّها نجاسة الولوغ.

ثمّ ذكر أنّ قوله : « والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات » مشكل ؛ لأنّ حكم النجاسة يخفّ شرعا بزيادة الغسل ويشتدّ بنقصانه فلا تتّجه التسوية (2).

وكلام العلّامة أوجه ؛ إذ الدليل الدالّ على حكم الولوغ ليس بمتناول للصورة التي ادّعي مساواتها له قطعا.

والتعليل بأنّها نجاسة الولوغ إن أراد به كونها مسبّبة عنه فلا طائل تحته. وإن أراد أنّه يصدق عليها الاسم الذي هو العنوان في الحكم فتوجّه المنع إليه واضح جليّ.

وأمّا الإشكال الذي أشار إليه فضعيف جدّا ؛ لأنّ غرض العلّامة من الحكم بالمساواة المذكورة نفي الأقوال التي حكاها عن العامّة ؛ نظرا إلى أنّ الأعداد التي اعتبروها محتاجة إلى الدليل وليس بموجود. والقدر المتحقّق عنده كونها

ص: 688


1- منتهى المطلب 3 : 342 - 343.
2- جامع المقاصد 1 : 190.

نجسة ، فيعتبر في إزالتها ما يعتبر في غيرها ؛ لعدم الدليل على اعتبار عدد معيّن فيها بخصوصها.

والتعلّق في توجيه الإشكال بأنّ حكم النجاسة يخفّ ويشتدّ إنّما يجدي لو كان هناك دليل يمكن الاعتماد عليه في أحكام تلك المراتب. وأمّا مع فقد الدليل فليس إلّا الرجوع إلى الأمر الإجماعي (1) وهو الاتّصاف بالتنجيس واعتبار ما يصدق معه زواله.

ووقع للفاضل الشيخ علي هنا وهم عجيب حيث عبّر عن الحكم بما هذه صورته : « قال الفاضل العلّامة في المنتهى ، والشهيد في الذكرى : أنّه لا يعتبر التراب فيما نجس بماء الولوغ ». ثمّ أخذ في المناقشة التي حكيناها أوّلا وذكر بعدها قول العلّامة : أنّ الوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات. واعترضه بما رأيته (2) ، والحال أنّ كلام العلّامة وما ناقشه به صريحان في أنّ موضع البحث هو الماء الذي يغسل به إناء الولوغ لا ماء الولوغ ؛ إذ هو الماء الذي يكون في الإناء حال ولوغ الكلب فيه وقد ذكرنا حكمه قبل هذا. وكلام الشهيد متعلّق بذلك الماء ، لا بما نحن فيه ؛ فإنّ هذه عبارته في الذكرى : « ولا يعتبر التراب في ما نجس بماء الولوغ » (3). وهي بعينها العبارة التي نسب مضمونها إلى العلّامة وإليه ، وقد عرفت ما بين كلامهما من الاختلاف وما بين الحكمين من الفرق.

ص: 689


1- في « أ » و « ب » : إلى الأمر الإجمالي
2- جامع المقاصد 1 : 190.
3- ذكرى الشيعة : 15.

وممّا يوضحه : أنّ الشيخ في الخلاف يرى طهارة الماء المبحوث عنه هنا (1).

وقد مرّ في مباحث المياه حكاية ذلك عنه. والماء الآخر قد ذكرنا آنفا كلامه فيه.

وما أبعد ما بين قول الشيخ بالطهارة هنا ؛ استنادا إلى أنّ الحكم بالنجاسة يحتاج إلى دليل وليس في الشرع ما يدلّ على نجاسة هذا الماء ، وقول الشيخ علي بوجوب الغسل منه ثلاثا بالتعفير على بعض الوجوه.

[ الفرع ] الخامس عشر :

ذكر جماعة من الأصحاب منهم : العلّامة في المنتهى : أنّه لو كان الإناء ممّا يفتقر إلى العصر لم يحتسب له غسله إلّا بعد عصره (2).

والكلام في اعتبار العصر هنا كاعتباره في المسائل السابقة فليطلب تحقيق الحال فيه من هناك.

[ الفرع ] السادس عشر :

قال الفاضل في نهايته : لو ولغ في إناء فيه طعام جامد القي ما أصابه فمه وانتفع بالباقي ، كالفأرة إذا ماتت في سمن جامد ولا يجب الغسل إن لم يصب فمه أو لعابه الإناء (3). وهذا كلّه واضح.

[ الفرع ] السابع عشر :

قال بعض الأصحاب : لو كان الإناء ممّا لا يدلك بالتراب في العادة كالقربة فهل يجب إيصاله إليه بالمزج بالماء ونحوه؟ أو لا ؛ نظرا إلى المتعارف؟ كلّ محتمل.

وعندي في هذا الكلام نظر ؛ لأنّ اعتبار التعارف في الغسل بالتراب ممّا

ص: 690


1- الخلاف 1 : 181.
2- منتهى المطلب 3 : 342.
3- نهاية الإحكام 1 : 295.

لا وجه له.

نعم ينبغي بناء الحكم على تناول الدليل لمثله نظرا إلى المتبادر من الآنية المسؤول عن ولوغ الكلب فيها ما يكون غسلها بالتراب ممكنا بغير مشقّة أو فساد.

وقد أشرنا إلى هذا الاحتمال في حكم ما يخاف فساده.

مع أنّ احتمال إرادة العموم ليس بذلك البعيد من حيث ترك الاستفصال وإطلاق الحكم ، مع أنّ هذا القائل جزم بوجوب المزج والاتّصال فيما يخاف فساده إذا أمكن ذلك فيه ولم يحصل به إفساد ، وتعارف ذاك هناك ليس بمعلوم.

مسألة [12] :

واختلف الأصحاب في ولوغ الخنزير.

فقال الشيخ : إنّ حكمه حكم الكلب (1).

ونفى ذلك المحقّق وجعله كغيره من النجاسات (2). وسيأتي أنّه يرى الاكتفاء فيها بالمرّة.

وذهب العلّامة وجمهور المتأخّرين إلى وجوب غسل الإناء منه سبعا بالماء (3). وهو أولى.

لما رواه علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألته

ص: 691


1- المبسوط 1 : 15.
2- المعتبر 1 : 460.
3- منتهى المطلب 3 : 341.

عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : يغسل سبع مرّات (1).

احتجّ الشيخ بوجهين :

أحدهما : أنّ الخنزير يسمّى كلبا في اللغة (2) ، فتتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب.

والثاني : أنّ الإناء يغسل ثلاث مرّات من سائر النجاسات والخنزير من جملتها (3).

والجواب عن الأوّل : المنع من صدق اسم الكلب عليه حقيقة.

وعن الثاني - بعد التنزّل إلى تسليمه - : أنّ الخبر الخاصّ أولى بالاتّباع من العموم. مع أنّ ملاحظة هذا الوجه يقتضي الاكتفاء بالماء وحده ، والإلحاق بالكلب يوجب اعتبار التراب فيه ، فلا ينتظم أحد وجهي الدليل مع المدّعى.

وحجّة المحقّق مركّبة من ردّ دليل الشيخ وما سيأتي من الحجّة على إجزاء المرّة في غير ما دلّ - على اعتبار العدد فيه - دليل معتمد.

مضافا إلى ما ظنّه مانعا من التعلّق برواية عليّ بن جعفر في إيجاب السبع هنا حيث أشار إليها وقال : إنّها محمولة على الاستحباب (4). وكأنّ المانع عدم ظهور القائل بمضمونها ممّن تقدّمه من الأصحاب وهو يراعي ذلك ونحوه في العمل بالأخبار.

ص: 692


1- تهذيب الأحكام 1 : 291 ، الحديث 760.
2- راجع لسان العرب : 134 ، وعن الجوهري في الصحاح : الكلب كلّ سبع عقور وغلب على هذا النابح.
3- الخلاف 1 : 187 ، المسألة 143.
4- المعتبر 1 : 459.

والقرينة على هذا أنّه لم يذكره قولا مع حكايته للخلاف ، وأنّ العلّامة قال في المنتهى : لو قيل بوجوب غسل الإناء منه سبع مرّات كان قويّا لما رواه عليّ ابن جعفر وذكر الحديث. ثمّ قال :

وحمله على الاستحباب ضعيف ؛ إذ لا دليل عليه ، مع ثبوت أنّ الأمر للوجوب (1).

مسألة [13] :
اشارة

ويغسل الإناء من الخمر أيضا سبع مرّات عند جمع من الأصحاب منهم : المفيد والشيخ في أحد قوليه وسلّار والشهيد في أكثر كتبه ، وجماعة من المتأخّرين (2).

وذهب المحقّق في غير المعتبر والفاضل في بعض كتبه إلى الاكتفاء فيه بالثلاث (3). وهو مذهب الشيخ في الخلاف. لكن لا على سبيل الخصوصيّة كقول الفاضلين ، بل لأنّ رأيه في هذا الكتاب وجوب غسل الإناء ثلاثا ممّا عدا الولوغ من ساير النجاسات (4).

والمحقّق في المعتبر ، والعلّامة في أكثر كتبه قول بالاكتفاء فيه بالمرّة (5) كغيره من النجاسات سوى الولوغ. وهو اختيار والدي رحمه اللّه إلّا أنّه أطلق القول

ص: 693


1- منتهى المطلب 3 : 341.
2- المقنعة : 73 ، والمبسوط 1 : 15 ، والمراسم : 36 ، وذكرى الشيعة : 15.
3- شرايع الإسلام 1 : 56 ، وقواعد الأحكام 1 : 197.
4- الخلاف 1 : 182 ، المسألة 138.
5- المعتبر 1 : 461 ، وقواعد الأحكام 1 : 197 - 198.

بإجزاء المرّة (1).

وفي عبارتي المعتبر والمختلف التقييد بكونها بعد إزالة العين (2).

وذهب الشهيد في اللمعة إلى إيجاب المرّتين حيث اعتبرهما في غسل الإناء من مطلق النجاسات (3).

احتجّوا للأوّل بما رواه عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال : يغسله سبع مرّات (4).

وللثاني برواية عمّار أيضا عنه عليه السلام أنّه سئل عن قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ فقال : يغسله ثلاث مرّات. سئل : يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال : لا يجزيه حتّى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرّات (5).

وقد حمل الذاهبون إلى الاكتفاء بالثلاث رواية السبع على الاستحباب لضرورة الجمع وهو حسن.

وأمّا القائلون بالسبع فلا يظهر لإطراحهم رواية الثلاث وجه مع تساويهما في السند.

وقد عوّل بعض المتأخّرين في ذلك على كون الشهرة مع رواية السبع. وهو بتقدير صحّته لا يعلم تحقّقه في عصر من تقدّم.

وحجّة من قال بالمرّة مبنيّة على استضعاف الروايتين عن إثبات الحكم

ص: 694


1- روض الجنان : 172.
2- مختلف الشيعة 1 : 499 ، والمعتبر 1 : 462.
3- الروضة البهيّة 1 : 309.
4- وسائل الشيعة 17 : ، الباب 30 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 2.
5- تهذيب الأحكام 1 : 283 ، الحديث 830.

لعدم صحّة سندهما. وإذا لم يثبت الخصوصيّة دخل في ربقة سائر النجاسات.

ولبيان الدليل على إجزاء المرّة فيها محلّ آخر. وكذا الكلام في قول الشهيد بالمرّتين.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

نصّ الشيخان في المقنعة والنهاية وجماعة ممّن قال بوجوب السبع هنا على أنّ حكم غير الخمر من سائر المسكرات حكمه (1). ولم يتعرّض لذلك بعضهم بل اقتصر على ذكر الخمر.

والرواية التي يقال أنّها الحجّة وردت بلفظ « النبيذ » كما رأيت ، فينبغي على تقدير صلاحيّتها لإثبات الحكم أن يكون منوطا بهذا الاسم.

[ الفرع ] الثاني :

استقرب بعض المتأخّرين إلحاق الفقاع أيضا في إيجاب السبع. والبناء في ذلك إمّا على كونه في معنى الخمر أو على إطلاق اسمه عليه في بعض الأخبار كما مرّ في دليل نجاسته.

والوجه الأوّل قياس ، والثاني قد بيّنا ما فيه هناك.

[ الفرع ] الثالث :

ذكر كثير من الأصحاب - الذين نفوا وجوب السبع - أنّها تستحبّ. وقد عرفت أنّهم فريقان : موجب للثلاث ، ومكتف بما دونها.

فنظر الأوّلين في استحباب السبع إلى جعله وجها للجمع بين الحديثين كما أشرنا إليه.

ص: 695


1- المقنعة : 72 ، والنهاية ونكتها 1 : 268.

وأمّا الآخرون فحيث استضعفوا الروايتين عن الصلاحيّة لإثبات الحكم فنظرهم في القول بالاستحباب إلى أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها وأنّ فيه خروجا من خلاف الموجبين.

مسألة [14] :

وأوجب الشيخ في النهاية غسل الإناء سبعا من موت الفأرة فيه (1). ووافقه على ذلك جماعة من الأصحاب.

واكتفى المحقّق في غير المعتبر بالثلاث وكذا العلّامة في جملة من كتبه (2) وبعض المتأخّرين. والشيخ موافقهم في الخلاف بالاعتبار الذي أشرنا إليه في حكم الخمر (3).

وذهب في المعتبر إلى الاكتفاء بالمرّة كالخمر (4) ، وهو اختيار العلّامة في أكثر كتبه ووالدي (5).

وأوجب الشهيد في اللمعة المرّتين على الوجه الذي مرّ في الخمر(6). وذكر أكثر النافين لوجوب السبع هنا أيضا أنّها تستحبّ.

حجّة الأوّل : رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : اغسل

ص: 696


1- النهاية ونكتها 1 : 204.
2- شرايع الإسلام 1 : 56 ، وقواعد الأحكام 1 : 198.
3- الخلاف 1 : 182.
4- المعتبر 1 : 461 ، وروض الجنان : 172.
5- الروضة البهيّة 1 : 309.

الإناء الذي يصيب فيه الجرذ ميتا سبع مرّات (1).

وردّها المحقّق بضعف السند ؛ لاشتماله على جماعة من الفطحيّة ووجود الخلاف في مضمونها ؛ إذ الشيخ في الخلاف يكتفي بالثلاث في جميع النجاسات عدا الولوغ ، وبأنّ ميتة الفأرة والجرذ لا يكون أعظم نجاسة من ميتة الكلب والخنزير ، وبأنّه يحتمل أن يكون الحكم مختصّا بالجرذ فلا يتناول الفأرة (2).

وما ذكره المحقّق أوّلا وأخيرا جيّد.

وأمّا أمر الخلاف في مضمون الرواية وكون ميتة الفأرة لا تزيد عن ميتة الكلب والخنزير فلا يصلحان للردّ بعد فرض صحّة طريق الرواية ، ومع ضعفه لا حاجة إليهما.

وحجّة الثاني بالنظر إلى نفي الزيادة استضعاف الرواية التي احتجّوا لإثباتها بها ، وأنّ الأصل يقتضي براءة الذمّة منها.

وأمّا بالنظر إلى نفي الأقلّ فليس بواضح ؛ إذ لم يتعرّضوا له فيما رأينا.

وربّما لاح من كلام المحقّق أنّ النظر فيه إلى انحصار الخلاف المتحقّق قبل ذلك العصر في السبع والثلاث ، لكنّ الأوّل ضعيف ؛ لما ذكره ، فيتعيّن الثاني.

وقد ذكر في أثناء الكلام على حجّة السبع أنّ الامتثال بالغسل يحصل بالثلاث فلا يجب ما زاد. وهو ظاهر في الإشارة إلى ما قلناه ، وإلّا فلا ريب في حصول الامتثال بما دون الثلاث أيضا.

ثمّ إنّ الكلام في حجّة المرّة والمرّتين نظير ما مرّ في حكم الخمر ، مضافا إليه عدم الالتفات إلى انحصار الخلاف القديم فيما ذكر.

ص: 697


1- تهذيب الأحكام 1 : 284 ، الحديث 832.
2- المعتبر 1 : 461.

وأمّا حكمهم باستحباب السبع فناظر إلى التساهل في دليل السنن مع رعاية الخروج من الخلاف.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ التمسّك في إيجاب السبع بالرواية المذكورة يقتضي قصر الحكم على موردها وهو الجرذ كما نبّه عليه المحقّق رحمه اللّه.

وأمّا تعميمه في مطلق الفأرة فيحتاج إلى دليل آخر لظهور كون الجرذ أخصّ فكيف يتمسّك بدليله في حكم الأعمّ؟

وقد اتّفق للفاضل الشيخ علي في هذا المقام من شرحه للقواعد كلام غريب وذلك أنّه بعد مصيره إلى إيجاب السبع في الجرذ واحتجاجه له برواية عمّار وقوله : « أنّ ضعفها منجبر بالشهرة » قال : وهل يكرّر الغسل من غير هذا الضرب من الفأر؟ الظاهر عدم التفاوت نظرا إلى إطلاق اسم الفأر على الجميع (1).

وليت شعري في أيّ خبر وقع الحكم معلّقا بعنوان الفأر ليتمسّك بصدقه على الجميع في ظهور عدم التفاوت؟ وبتقدير وجوده : فهلّا كان الاحتجاج به أجدر من التشبّث برواية عمّار وتكلّف انجبارها بما هو مثلها في الكسر؟

مسألة [15] :

واختلفوا في غسل الإناء من باقي النجاسات.

فقال الشيخ في الخلاف : يغسل الإناء من ساير النجاسات سوى الولوغ ثلاث مرّات (2). وذكر ابن الجنيد في المختصر نحوه. واختاره الشهيد في

ص: 698


1- جامع المقاصد 1 : 191.
2- الخلاف 1 : 182.

الذكرى والدروس والشيخ علي من المتأخّرين (1).

وذهب الشهيد في اللمعة والرسالة إلى الاكتفاء بالمرّتين (2).

وقال المحقّق : يكفي المرّة. وتبعه جماعة منهم العلّامة والشهيد في البيان ووالدي رحمه اللّه (3).

احتجّ الشيخ في الخلاف بطريقة الاحتياط ؛ فإنّه مع الغسل ثلاثا يحصل العلم بالطهارة وبرواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا كيف يغسل وكم مرّة يغسل؟ قال : ثلاث مرّات (4). الحديث.

ووقع للفاضلين في المعتبر والمنتهى اختلاف في حكاية هذه الحجّة عن الخلاف :

فذكر المحقّق في جملتها إجماع الفرقة وأنّ الشيخ استدلّ به (5). ثمّ قال في جوابه عنها : واحتجاج الشيخ بالإجماع بعيد مع روايته المرّة. ثم قال : إنّا نطالبه بتحقيق الإجماع ولا يكفي روايتهم ما رواه عمّار ؛ لأنّ كلّهم لم يروه ، ولا من يعلم أنّ الإمام في جملتهم. ولا إشارة في قوله : ( مع روايته المرّة ) إلى ما ذكره هو وغيره من أنّ الشيخ في المبسوط قال - بعد حكمه بوجوب الغسل ثلاثا - وقد روي غسلة واحدة.

ص: 699


1- ذكرى الشيعة : 15 ، والدروس الشرعيّة 1 : 125.
2- الروضة البهيّة 1 : 309.
3- البيان : 102.
4- تهذيب الأحكام 1 : 284 ، الحديث 832.
5- المعتبر 1 : 461 - 462.

وقال العلّامة في المنتهى : وقد توهّم بعض الناس أنّ الشيخ استدلّ هنا بالإجماع واستبعده مع روايته للمرّة. والشيخ لم يستدلّ بالإجماع هنا بل بالاحتياط. ولا ريب فيه (1).

والسبب في هذا الاختلاف أنّ عبارة الشيخ لا تخلو عن حزازة على ما في النسخة التي رأيناها للخلاف فكلّ فهم منها معنى. ولهذا الالتباس سكتنا عن التعرّض لما يتضمّن الإجماع منها في حكايتنا للحجّة.

وهذه صورة كلام الشيخ في المسألة : « يغسل الإناء من سائر النجاسات سوى الولوغ ثلاث مرّات. وقال أبو حنيفة : الواجب ما يغلب على الظنّ معه حصول الطهارة. وقال أحمد : يغسل سبعا مثل الولوغ. وقال الشافعي : يجب غسله مرّة وجوبا وثلاثا استحبابا. ثمّ قال الشيخ : دليلنا طريقة الاحتياط فإنّه إذا غسله ثلاث مرّات فقد علمنا طهارته بغسل ثلاث مرّات بإجماع الفرقة وكذلك عند الشافعي وما زاد عليه يحتاج إلى دليل (2).

فقوله : « بإجماع الفرقة » إن كان متعلّقا بقوله : « علمنا طهارته » فالأمر على ما قاله العلّامة. وإن كان متعلّقا بقوله « يغسل ثلاث مرّات » ، فالحكم ما ذكره المحقق. ولكن في قوله : « وكذلك عند الشافعي » قرينة على الأوّل.

وبالجملة فالعبارة قاصرة جدّا. ولعلّ ما فيها من الخلل مستند إلى سهو الناسخ.

وقد اقتفى الشهيد في الذكرى أثر المحقّق ، فذكر أنّ الشيخ نقل الإجماع

ص: 700


1- منتهى المطلب 3 : 348.
2- الخلاف 1 : 182.

على اعتبار الثلاث (1). وأثر هذا الاختلاف عندنا سهل لتساهل الشيخ في أمر الإجماع كما نبّهنا عليه كثيرا ، فلو تحقّق ادعاؤه له لم ينهض حجّة ، واستدلاله بالاحتياط هيّن أيضا (2) فإنّه غير كاف في الخروج عن أصالة البراءة.

وأمّا الرواية التي ذكرها فعدم صحّة إسنادها يمنع من التعلّق بها في إثبات حكم مخالف للأصل.

قال المحقّق رحمه اللّه : رواية عمّار سندها فطحيّة فلا ينهض حجّة ثمّ هي معارضة برواية المرّة على ما ذكره « يعني الشيخ » وهي أولى لأنّها مطابقة للبراءة الأصليّة (3).

وناقشه الشهيد في الذكرى بأنّه قد يعلم المذهب بالرواية الضعيفة وخصوصا مع نقل الشيخ الإجماع (4).

والتحقيق ما قاله المحقّق.

وأمّا حجّة الشهيد على الاكتفاء بالمرّتين فكأنّها مأخوذة من دليل اعتبارهما في غسل البول عن الثوب والبدن بناء على أنّ اعتبار ذلك في البول يدلّ بمفهوم الموافقة على اعتباره في غيره من النجاسات كما سبق نقله ، وأنّ غير الثوب والبدن مثلهما في الحكم ؛ للتقريب الذي أشرنا إليه سابقا مؤيّدا في خصوص الإناء بظهور إرادة التعدّد فيه شرعا ، كما ينبّه عليه حكم الولوغين والخمر والجرذ ، ثمّ يضاف إلى ذلك أصالة البراءة من التكليف بما زاد على

ص: 701


1- ذكرى الشيعة : 15.
2- في « ج » : واستدلاله بالاحتياط هيّن إنصافا.
3- المعتبر 1 : 462.
4- ذكرى الشيعة : 15.

المرّتين ، واستضعاف حجّة الشيخ على الثلاث.

ويرد عليها ما مرّت الإشارة إليه من عدم ظهور الأولويّة التي هي مناط مفهوم الموافقة ، وأنّ المناسبة الملحوظة في التعدية إلى غير الثوب والبدن لا يخرج اعتبارها والاعتماد عليها في الأحكام الشرعيّة عن القياس.

وكذا القول في ظهور إرادة التعدّد في الإناء فإنّه مسلّم في الموارد التي يدلّ على إرادته فيها دليل معتمد ، ولهذا كان حكمها على تقدير التعدّد مطلقا مختلفا. ومتى ثبت الاختلاف في الجملة انسدّ باب النظر في حكم بعضها إلى حكم بعض. وهذا جليّ.

وحجّة القول بالمرّة ظاهرة بعد بيان ضعف الاحتجاج للزائد ؛ فإنّ امتثال الأمر بالغسل يحصل بها ، ومسمّى الإزالة يتحقّق معها ، مع كون مستند الحكم بالتنجيس في أكثر الصور أو كلّها ليس إلّا الإجماع. وظاهر عدم تحقّقه بعد الغسلة الواحدة وزوال العين ، ولا أثر لاستصحاب الحكم السابق في مثله كما بيّنّاه آنفا وسابقا.

وهذا الوجه الأخير خاصّ بنا إذ لم نعهد من الأصحاب التعلّق به في هذا الباب ، وقد أشرنا إلى ذلك في حكم غير البول من النجاسات الحاصلة في غير الإناء وسنعوّل عليه في مواضع اخرى يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العلّامة رحمه اللّه أطلق في المنتهى القول بأنّ المرّة كافية (1).

وقال في التحرير والقواعد : الواجب الإنقاء (2).

ص: 702


1- منتهى المطلب 3 : 345.
2- تحرير الأحكام 1 : 24 ، وقواعد الأحكام 1 : 198.

وفي التذكرة : الوجه المرّة مع حصول الإنقاء (1). وفي النهاية : الأقرب اعتبار زوال عين النجاسة وأثرها (2).

واقتصر في الإرشاد على زوال العين (3).

والمحقّق أطلق في الشرائع ومختصرها كما في المنتهى (4).

ونصّ في المعتبر على اعتبار زوال العين قبلها ، حيث قال - بعد ردّ حجّة الشيخ على إيجاب التعدّد هنا بما حكيناه آنفا - :

والذي يقوى عندي الاقتصار في اعتبار العدد على الولوغ ، وفيما عداه على ذلك النجاسة وغسل الإناء بعد ذلك مرّة واحدة لحصول الغرض من الإزالة ، ولضعف ما ينفرد به عمّار وأشباهه (5).

وعبارة العلّامة في المختلف وقعت على هذا النهج أيضا فقال : والأقرب عندي أنّ الواجب بعد إزالة العين غسله مرّة واحدة (6) ، وكذا عبارة الشهيد في البيان (7).

ولا يخفى عليك أنّ الدليل الذي تعلّق به المحقّق فيما قوي عنده لا يدلّ على أكثر من اعتبار الغسل المزيل. ودليل العلّامة في المختلف قريب منه

ص: 703


1- تذكرة الفقهاء 1 : 85.
2- نهاية الإحكام 1 : 277.
3- إرشاد الأذهان 1 : 239.
4- شرائع الإسلام 1 : 53.
5- المعتبر 1 : 462.
6- مختلف الشيعة 1 : 499.
7- البيان : 102.

فلا ندري من أين مأخذ اعتبار تقديم الإزالة؟

ويوجد في كلام بعض المتأخّرين توجيهه بأنّ سبب التنجيس إذا كان موجودا لم يظهر للماء الوارد معه أثر.

وردّ بأنّ الباقي من البلل وغيره في المحلّ عين نجاسة فيأتي الكلام فيه وهو حسن.

وحاصله نقيض التوجيه بأنّه لو تمّ لاقتضى عدم حصول الطهارة بالغسل مرّة بعد زوال العين ؛ لأنّ السبب المذكور موجود حينئذ فلا يكون للماء الوارد معه تأثير وأنتم لا تقولون به.

لا يقال : إنّ سبب التنجيس هو عين النجاسة المؤثّرة لا ما يتنجّس بها ، وظاهر أنّ البلل وغيره إنّما هو متنجّس لا نجاسة.

لأنّا نقول : ليس المراد من كونه عين نجاسة إلّا أنّه شي ء محكوم بنجاسته ، ومن شأن مثله أن يؤثّر التنجيس كعين النجاسة ، فإنّ منع وجود عين النجاسة من تأثير الوارد لمجرّد كون السبب في التنجيس موجودا ، فليمنع وجود المتنجّس لأنّ له سببيّة أيضا.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ للمتنجّس هاهنا تأثيرا كعين النجاسة ؛ لأنّ الدليل على مساواته لها غير متناول لهذا الحال.

قلنا : ذلك حقّ ولكنّا نقول نحوه في العين ؛ فإنّ الدليل على سببيّتها في التنجيس غير صالح لتناول محلّ النزاع.

وبهذا يظهر قوّة القول بإجزاء المرّة المزيلة. وبه صرّح والدي رحمه اللّه في بعض

ص: 704

كتبه (1). وناهيك بالعلّامة رحمه اللّه رفيقا في القول به (2) ، إذ أكثر عباراته كما رأيت صريحة فيه.

ثمّ اعلم أنّ أكثر القائلين بالمرّة هنا ذكروا استحباب الثلاث لنحو ما قلناه في استحباب السبع للخمر والفأرة.

مسألة [16] :
اشارة

والغسل غير معتبر في نجاسة بول الرضيع على المشهور بين الأصحاب بحيث لا يعرف فيه مخالف.

بل يكفي صبّ الماء على المحلّ المتنجّس به سواء في ذلك الثوب والبدن وغيرهما.

واستندوا في هذا الحكم إلى عدّة أخبار أقواها إسنادا ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن الحلبي في الحسن قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن بول الصبيّ؟ قال : تصبّ عليه الماء فإن كان قد أكل فاغسله غسلا ، والغلام والجارية شرع سواء (3).

وهذه الرواية نصّ في الحكم فليت إسنادها كان صحيحا.

ولعلّ انضمام عدم ظهور المخالف إليها يجبر هذا الوهن مضافا إلى أنّ حسنها بواسطة إبراهيم بن هاشم ، وبعض الأصحاب يرى الاعتماد على روايته لشهادة القرائن بحسن حاله.

ص: 705


1- روض الجنان : 172.
2- نهاية الإحكام 1 : 295.
3- الكافي 3 : 56 ، الحديث 6 ، وتهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 715.

وقد روى الشيخان في الصحيح عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصبيّ يبول على الثوب؟ قال : يصبّ عليه الماء قليلا ثمّ يعصره (1).

وروى الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال : سألته عن بول الصبيّ يصيب الثوب؟ فقال : اغسله. قلت : فإن لم أجد مكانه؟ قال : اغسل الثوب كلّه (2).

وظاهر هذين الخبرين مناف لمدلول الرواية الاولى.

وقد حمل الشيخ في الاستبصار الخبر الثاني على إرادة الصبّ من الأمر بالغسل أو على أنّ المراد بالصبيّ « من أكل الطعام » (3).

وتبعه العلّامة في المنتهى على الوجه الثاني من الحمل ملاحظة للجمع بعد أن نبّه على ضعف السند (4).

ولقد أحسن في ترك التعرّض للوجه الأوّل ممّا ذكره الشيخ فإنّ فيه تكلّفا ظاهرا.

وأمّا الثاني فمتّجه مع تحقّق التعارض. وربّما يتوقّف فيه من حيث اعتضاد هذا الخبر بالأوّل فإنّ الأمر بالعصر فيه يشعر بإرادة الغسل ، وبالأخبار الدالّة على اعتبار الغسل مرّتين في البول بقول مطلق فإنّها شاملة بحسب ظاهرها لجميع أقسامه.

ص: 706


1- الكافي 3 : 55 ، الحديث 1 ، وتهذيب الأحكام 1 : 249 ، الحديث 714.
2- تهذيب الأحكام 1 : 251 ، الحديث 723.
3- الاستبصار 1 : 174 ، الحديث 603.
4- منتهى المطلب 3 : 271.

وقد علم أنّ خبر الحلبي ليس بصحيح السند ، فكيف يعدل من أجله عن هذه الظواهر المتعاضدة؟

وحلّ هذا الإشكال : إمّا بما أشرنا إليه من اتّفاق كلمة الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم على العمل بمضمون الحديث الحسن فيقرب جعل التأويل في ما يخالفه.

أو يمنع تناول الأخبار الواردة بالغسل مرّتين لمحلّ النزاع فإنّ العموم فيها مستفاد من القرائن لا من لفظ موضوع له.

وفي شهادة القرائن بدخول بول الرضيع في العموم نظر. هذا.

ولنا في نسبة المخالف إلى خبر الحسين بن أبي العلاء من حيث الأمر فيه بالعصر تأمّل ، وإن كان العلّامة قد جزم بها في المنتهى ولم يتعرّض لوجه الجمع بينهما كما صنع في الخبر الآخر ، وإنّما قال : إنّ رواية الحلبي هي المشهورة بين علمائنا (1).

ووجه التوقّف في الحكم بالمخالفة مع ظهور الأمر بالعصر في ذلك أنّه معارض بقوله فيه : « يصبّ عليه الماء قليلا » ؛ إذ ظاهره عدم إرادة الغسل.

ولا يبعد أن يكون الغرض من العصر إخراج أجزاء النجاسة كما يشعر به قوله فيه : « يبول على الثوب ». ومن ثمّ لم يذكره في اعتبار العصر سابقا دليلا. والعلّامة في المنتهى تعرّض له هناك وليس على ما ينبغي.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ أكثر الأصحاب ذهبوا إلى قصر الحكم هنا على الصبيّ ، فبول الصبيّة يجب الغسل منه عندهم كالكبير.

وظاهر كلام الشيخ علي بن بابويه في رسالته عدم الفرق بين الصبيّ

ص: 707


1- منتهى المطلب 3 : 268.

والصبيّة حيث فرض الحكم أوّلا في بول الصبيّ. ثمّ قال : والغلام والجارية فيه سواء. وذكر بعد ذلك رواية تتضمّن الفرق وسكت عليها.

ولا يخفى عليك أنّ عبارته المذكورة موجودة بمعناها ، وأكثر ألفاظها في الخبر الذي هو العمدة في مستند الحكم ، فكان اللازم من التمسّك به عدم الفرق.

ولكن حيث إنّ التعلّق بها مراعى بضميمة ما يظهر من الوفاق على الحكم وهو مفقود في الصبيّة فلا جرم كان الاقتصار بالحكم على محلّ الوفاق هو الأنسب.

وقد أشار المحقّق في المعتبر إلى دلالة الحديث على ما ذهب إليه ابن بابويه ثمّ قال : إنّه محمول على التسوية في التنجيس لا في حكم الإزالة مصيرا إلى ما أفتى به الأكثر من الأصحاب (1).

وقال الشيخ في الاستبصار قوله : « الغلام والجارية شرع سواء » ، معناه بعد أكل الطعام (2).

تذنيب :

ذكر جماعة من متأخّري الأصحاب أنّ المراد بالرضيع من لم يغتذ بغير اللبن كثيرا بحيث يزيد على اللبن أو يساويه ولم يتجاوز الحولين.

ويعزى إلى ابن إدريس تعليق الحكم بالحولين مطلقا (3).

وضعفه ظاهر ؛ فإنّ المستند خال من التعرّض له ، وإنّما علّق فيه الحكم نفيا وإثباتا بالأكل وعدمه.

ص: 708


1- المعتبر 1 : 437.
2- الاستبصار 1 : 174.
3- السرائر 1 : 187.

قال المحقّق في المعتبر : المعتبر أن يطعم ما يكون غذاء له ولا عبرة بما يلعق دواء والغذاء في الندرة.

ثمّ قال : ولا تصغ إلى من يعلّق الحكم بالحولين فإنّه مجازف ، بل لو استقلّ بالغذاء قبل الحولين تعلّق ببوله وجوب الغسل (1).

وقال الفاضل في المنتهى : هذا التخفيف متعلّق بمن لم يأكل ، وحدّه ابن إدريس بالحولين وليس شيئا ، إلى أن قال :

بل الأقرب تعلّق الحكم بطعمه مستندا إلى إرادته وشهوته ، وإلّا لتعلّق الغسل بساعة الولادة ، إذ يستحبّ تحنيكه بالتمر (2).

وأرى كلام الفاضلين هنا متقاربا في المعنى.

وأمّا ما حكيناه أوّلا عن جماعة فيلوح منه نوع مخالفة لما ذكره الفاضلان حيث لم يعتبرا زيادة الأكل على اللبن أو مساواته له - كما وقع في كلام الجماعة - بل جعلا الضابط صدق الاغتذاء لا على سبيل الندور.

وما وقع في آخر عبارة المحقّق من ذكر الاستقلال فتجوّز في اللفظ ، إذ لو أراد الحقيقة لخالف ما قرّره أوّلا.

ويحتمل أن يكون أراد منه الحقيقة مبالغة في بيان وجه المجازفة لأنّ إطلاق ابن إدريس تعليق الحكم بالحولين يتناول صورة الاستقلال بالغذاء وترك الرضاع رأسا قبل مضيّهما ، وتسميته في تلك الحال رضيعا مجازفة واضحة. هذا.

وكلام الفاضلين هو المرتبط بالدليل لا ما قاله الجماعة.

ص: 709


1- المعتبر 1 : 436.
2- منتهى المطلب 3 : 271.
مسألة [17] :

وذهب الصدوق رحمه اللّه إلى عدم اعتبار الغسل في نجاسة كلب الصيد واكتفى فيها بالرشّ فقال في من لا يحضره الفقيه :

ومن أصاب ثوبه كلب جافّ ولم يكن بكلب صيد فعليه أن يرشّه بالماء ، وإن كان رطبا فعليه أن يغسله ، وإن كان كلب صيد وكان جافّا فليس عليه شي ء. وإن كان رطبا فعليه أن يرشّه بالماء (1).

والمعروف بين الأصحاب وجوب الغسل من ملاقاة الكلب بالرطوبة وأنّه مع اليبوسة يرشّ من غير فرق بين كلب الصيد وغيره. وهذا هو الأظهر.

لنا ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل؟ قال :

يغسل المكان الذي أصابه » (2).

وفي الصحيح عن الفضل أبي العبّاس قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا أصابك من الكلب رطوبة فاغسله ، وإن مسّه جافّا فاصبب عليه الماء » (3). الحديث.

وعن حريز عمّن أخبره عنه عليه السلام قال : « إذا مسّ ثوبك كلب فإن كان يابسا فانضحه وإن كان رطبا فاغسله » (4).

ص: 710


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 73.
2- تهذيب الأحكام 1 : 260 ، الحديث 758.
3- تهذيب الأحكام 1 : 261 ، الحديث 759.
4- تهذيب الأحكام 1 : 260 ، الحديث 756.

وعن القاسم عن عليّ عنه عليه السلام قال : « سألته عن الكلب يصيب الثوب؟ قال : انضحه وإن كان رطبا فاغسله » (1).

وهذه الأخبار كما ترى مطلقة في الأمر بالغسل مع الرطوبة عامّة في أفراد الكلب بمعونة ترك الاستفصال وقرينة الحال.

وكذا الكلام في الرشّ مع اليبوسة فهي حجّة على الصدوق في نفيه للأمرين في كلب الصيد. ولا نعرف لما صار إليه وجها.

مسألة [18] :

والمشهور بين علمائنا أنّ رشّ الثوب في ملاقاة الكلب باليبوسة على جهة الاستحباب.

ويعزى إلى ابن حمزة القول بوجوبه استنادا إلى الأوامر الواردة به. والتفاتا إلى أنّ الأصل في الأمر الوجوب.

وردّه العلّامة في المختلف بأنّ النجاسة لا تتعدّى مع اليبوسة إجماعا وإلّا لوجب غسل المحلّ فيتعيّن حمل الأمر على الاستحباب (2).

وللنظر في الكلامين مجال.

وأمّا حجّة ابن حمزة فلأنّ الأمر بالرشّ ورد في مواضع كثيرة وسنذكرها ، ولم ينقل عنه التزام الوجوب فيها كلّها بل ظاهر الأصحاب الإطباق على الاستحباب في جملة منها ، وذلك قرينة على إرادته من الأوامر في الجميع ، مع أنّ في الأخبار الواردة - فيما لم ينقل عنه القول بالوجوب فيه - ما هو أقوى

ص: 711


1- تهذيب الأحكام 1 : 260 ، الحديث 757.
2- مختلف الشيعة 1 : 494.

أسنادا ممّا ورد هنا ، فالتفرقة غير واضحة ، والاعتماد في القرينة على ما ذكر ليس بذلك البعيد لشيوع استعمال الأوامر في الاستحباب في كلام الأئمّة عليهم السلام كما نبّهنا عليه في مقدّمة الكتاب (1).

وأمّا كلام العلّامة فلأنّ ثبوت الإجماع الذي ادّعاه إنّما يقتضي نفي اعتبار الرشّ لإزالة النجاسة والحكم بالوجوب لا ينحصر فيه لجواز كونه على سبيل التعبّد لا للنجاسة.

وقوله : « أنّه على تقدير تعدّي النجاسة حينئذ يجب غسل المحلّ » ليس بشي ء. كيف! والدليل قائم على الاكتفاء في زوالها بالرشّ ، والنظير باعترافه موجود على ما عرف في بول الرضيع ، فلا مجال للاستبعاد هذا.

ويمكن أن يستفاد من كلام الصدوق موافقة ابن حمزة حيث قال في صورة الملاقاة باليبوسة في ما لم يكن كلب صيد : « فعليه أن يرشّه بالماء » وذكر الحكم في صورة ملاقاة كلب الصيد مع الرطوبة بتلك العبارة ، مضافا إلى التعبير بنظيرها في حكم الغسل عند ملاقاة النوع الأوّل بالرطوبة ، ومن المعلوم أنّ المراد في الحكمين الأخيرين الوجوب.

ومن المستبعد أن يريد الاستحباب في الأوّل مع اتّفاق النمط في التأدية وعدم الإشارة إلى المخالفة بوجه.

وكلام الشيخ في النهاية صريح في القول بالوجوب أيضا (2). ولا ريب أنّه أحوط.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ أكثر الأصحاب ذكروا الحكم هنا بلفظ الرشّ

ص: 712


1- راجع مبحث « صيغة الأمر » من مقدّمة « معالم الدين ».
2- النهاية ونكتها 1 : 267.

والروايات التي هي المستند إنّما ورد فيها الأمر بالصبّ والنضح ، فكأنّهم يرون ترادف هذه الألفاظ ، فلا حجر في وضع بعضها مقام بعض.

وقد نصّ العلّامة في النهاية على الفرق بين الرشّ والنضح (1). وسيجي ء عن قريب حكاية كلامه في ذلك.

ويشكل بناء عليه التعبير بالرشّ حينئذ مع كون المذكور في الروايات هو النضح. اللّهم إلّا أن يكون الاعتماد في الحكم على صحيحة الفضل (2). وإنّما ذكر فيها الصبّ وهو في معنى الرشّ.

لكن يتّجه على هذا أنّه في النهاية عبّر هنا بالنضح وفي بول الرضيع بالرشّ مع أنّ الصبّ ورد فيهما. وفي أكثر كتبه عبّر بالرشّ فيما مستنده ورد بالنضح. بل صرّح في المنتهى بالاحتجاج للرشّ في بعض المواضع برواية متضمّنة للنضح (3).

وبالجملة فكلامه في غير النهاية ظاهر في مرادفة النضح للرشّ كما يفيده كلام غيره من الأصحاب ، ونصّ عليه جماعة من أهل اللغة.

قال الجوهري : النضح الرشّ (4). وفي القاموس نحوه (5).

ص: 713


1- نهاية الأحكام 1 : 298.
2- راجع الصفحة : 710.
3- منتهى المطلب 3 : 272 - 273.
4- الصحاح 1 : 411.
5- تاج العروس 2 : 239.
مسألة [19] :

وترشّ الثوب من ملاقاة الخنزير جافّا استحبابا في المشهور.

ويعزى إلى ابن حمزة إيجابه كما في الكلب (1). وكلام الشيخ في النهاية يصرّح به أيضا (2) ، وعبارة المفيد في المقنعة ظاهرة في ذلك (3).

ويدلّ على الحكم في الجملة ما رواه عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته ، كيف يصنع به؟ قال : إن كان دخل في صلاته فليمض وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله » (4).

والكلام في مرادفة النضح للرشّ أو مغايرته ، وفي توجيه استفادة الوجوب أو الاستحباب من الأمر على حدّ ما ذكر في المسألة السابقة.

إلّا أنّ الظاهر من الرواية هنا عدم استناد الحكم إلى النجاسة ، فبتقدير الوجوب يكون تعبّدا ، وذلك لأنّه أمر فيها بالمضيّ في الصلاة إذا كان قد دخل فيها ، وظاهره نفي التنجيس.

لا يقال : إنّ الأمر بالغسل مع وجود الأثر ليس إلّا للتنجيس ، والحكم بالمضيّ في الصلاة بعد الدخول فيها شامل له ، كما يشعر به ذكر الحكمين على تقدير عدم الدخول ، فلا يصلح الاستناد في نفي التنجيس حينئذ إلى الأمر

ص: 714


1- مختلف الشيعة 1 : 493.
2- النهاية ونكتها 1 : 267.
3- المقنعة : 70.
4- تهذيب الأحكام 1 : 261 ، الحديث 760.

بالمضيّ وإن لم يعهد في غير هذا الموضع تفاوت الحال - في وجوب إزالة النجاسة مع الإمكان - بالدخول في الصلاة وعدمه. فلعلّ ذلك من خصوصيات هذا النوع منها.

لأنّا نقول : ليس في كلام السائل دلالة على علمه بحصول الأثر من الملاقاة يعني وجدان الرطوبة المؤثّرة قبل دخوله في الصلاة ومقتضى الأصل انتفاؤها فلذلك أمر بالمضيّ حينئذ وهو يدلّ على عدم وجوب التفحّص وأنّه يكفي البناء على أصالة طهارة الثوب عند الشكّ. وهذا الحكم مستفاد من بعض الأخبار في غير هذه النجاسة أيضا.

وأمّا مع عدم الدخول فحيث أنّه مأمور بالنضح وجوبا أو استحبابا يحتاج إلى ملاحظة موضع الملاقاة فإذا تبيّن فيه الأثر وجب غسله.

وهذا التوجيه لو لم يكن ظاهرا لكفى احتماله في المصير إليه لما في إثبات الخصوصيّة من التعسّف.

وروى الشيخ في الصحيح عن موسى بن القاسم عن علي بن محمّد قال : « سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جافّ هل تصلح الصلاة فيه قبل أن يغسله؟ قال : نعم ينضحه بالماء ثمّ يصلّي فيه » (1).

وهذه الرواية وإن ظهر منها اعتبار تقديم النضح على الصلاة لكنّه غير دالّ على كونه بسبب النجاسة ، بل احتمال التعبّد معه باق ، فلا معارض لظاهر الخبر الأوّل.

ص: 715


1- تهذيب الأحكام 1 : 424 ، الحديث 1347.
مسألة [20] :

وحكى العلّامة في المختلف عن ابن حمزة إيجاب رشّ الثوب من ملاقاة الكافر باليبوسة أيضا حيث جمع في نقل خلافه والبحث معه بين الكلب وأخويه ، لكنّه لم يحتجّ له إلّا على حكم البعض.

ثمّ إنّه استقرب الاستحباب وظاهره كون ذلك في الجميع (1).

وقال الشيخ في النهاية : إذا أصاب ثوب الإنسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وكان يابسا وجب أن يرشّ الموضع بعينه فإن لم يتعيّن رشّ الثوب كله (2).

وقال المفيد في المقنعة : وإذا مسّ ثوب الإنسان كلب أو خنزير وكانا يابسين فليرشّ موضع مسّهما منه بالماء. وكذلك الحكم في الفأرة والوزغة (3).

وصرّح سلّار في رسالته بوجوب الرشّ من مماسّة الكلب والخنزير والفأرة والوزغة وجسد الكافر باليبوسة (4).

وحكى المحقّق في المعتبر أنّ الشيخ قال في المبسوط : كلّ نجاسة أصابت الثوب وكانت يابسة لا يجب غسلها وإنّما يستحبّ نضح الثوب (5).

ولا نعلم لاعتبار شي ء من ذلك في غير الكلب والخنزير بالوجوب أو

ص: 716


1- مختلف الشيعة 1 : 493.
2- النهاية ونكتها 1 : 267.
3- المقنعة : 70.
4- المراسم : 56.
5- المعتبر 1 : 440.

الاستحباب حجّة سوى ما رواه الشيخ عن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي على الثياب أيصلّي فيها؟ قال : اغسل ما رأيت من أثرها ، وما لم تره فانضحه بالماء » (1).

والكلام في الأمر بالنضح هنا نظير ما مرّ في الكلب والخنزير. ويزيد أنّ الأمر بالغسل الواقع في صحبته للاستحباب كما سبق بيانه ولا قرينة معه فيقرب كون الآخر مثله.

وما رواه الشيخ أيضا عن عبيد اللّه بن علي الحلبي في الصحيح قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال : يرشّ بالماء » (2).

وهذا الخبر إنّما يصلح دليلا على بعض وجوه ملاقاة الكافر باليبوسة لا مطلقا كما هو مدّعاهم.

ثمّ إنّ الأمر بالرشّ فيه محمول على الاستحباب قطعا لوجود المعارض الدالّ على نفي الوجوب كصحيح معاوية بن عمّار عنه عليه السلام : في الثياب السابريّة يعملها المجوس ألبسها ولا أغسلها واصلّي فيها؟ قال : نعم ». الحديث (3).

وقد تقدّم نقله في حكم ظنّ النجاسة. ووجه الدلالة فيه ما يفيده كلام السائل من استعمال الثياب المذكورة على ما هي عليه لله ، وإقرار الإمام عليه السلام له على ذلك بقوله : « نعم » من دون أن يأمره بشي ء من رشّ أو غيره.

ص: 717


1- تهذيب الأحكام 1 : 261 ، الحديث 761.
2- تهذيب الأحكام 2 : 362 ، الحديث 1498.
3- تهذيب الأحكام 2 : 362 ، الحديث 1497.
مسألة [21] :

وعزى في المختلف إلى ابن حمزة إيجاب مسح البدن بالتراب إذا أصابه الكلب أو الخنزير أو الكافر بغير رطوبة (1).

وقال الشيخ في النهاية : وإن مسّ الإنسان بيده كلبا أو خنزيرا أو ثعلبا أو أرنبا أو فأرة أو وزغة أو صافح ذميّا أو ناصبيّا معلنا بعداوة آل محمّد عليهم السلام وجب غسل يده إن كان رطبا. وإن كان يابسا مسحه بالتراب (2).

وقال المفيد : وإن مسّ جسد الإنسان كلب أو خنزير أو فأرة أو وزغة وكان يابسا مسحه بالتراب. ثمّ قال : وإذا صافح الكافر ولم يكن في يده رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب (3).

وحكى في المعتبر عن الشيخ أنّه قال في المبسوط : كلّ نجاسة أصابت البدن وكانت يابسة لا يجب غسلها وإنّما يستحبّ مسح اليد بالتراب. ولا نعرف للمسح بالتراب - وجوبا أو استحبابا - وجها (4).

وقد ذكر العلّامة في المنتهى استحبابه من ملاقاة البدن للكلب أو الخنزير باليبوسة بعد حكمه بوجوب الغسل مع كون الملاقاة برطوبة.

ثمّ ذكر الحجّة على إيجاب الغسل. وقال بعد ذلك : أمّا مسح الجسد فشي ء

ص: 718


1- مختلف الشيعة 1 : 493.
2- النهاية ونكتها 1 : 267.
3- المقنعة : 70.
4- المعتبر 1 : 440.

ذكره بعض الأصحاب ولم يثبت (1).

مسألة [22] :

ويرشّ الثوب إذا حصل في نجاسته شكّ. ذكره الشيخان في المقنعة والنهاية.

وعبارة النهاية صريحة في كون ذلك على سبيل الاستحباب (2).

وأمّا عبارة المقنعة فمطلقة حيث قال فيها : « وإذا ظنّ الإنسان أنّه قد أصاب ثوبه نجاسة ولم يتيقّن ذلك رشّه بالماء (3).

ونصّ العلّامة في المنتهى والنهاية على الاستحباب - كما صنع الشيخ - لكنّه عبّر عن الحكم بالنضح (4).

وقد ذكرنا أنّ كلامه في غير النهاية ظاهر في موافقة أكثر الأصحاب على مرادفة النضح للرشّ فيكون ما ذكره في المنتهى موافقا لما قاله الشيخ. ويقع الاختلاف بين النهايتين.

وأوجب سلّار الرشّ إذا حصل الظنّ بنجاسة الثوب ولم يتيقّن (5).

والذي وجدناه في الأخبار : النضح عند الشكّ في إصابة بعض أنواع النجاسة المؤثّرة للثوب أو البدن.

فروى الشيخ عن عبد الرحمن بن الحجّاج في الصحيح قال : « سألت

ص: 719


1- منتهى المطلب 3 : 273.
2- النهاية ونكتها 1 : 266.
3- المقنعة : 71.
4- منتهى المطلب 3 : 292 ، ونهاية الإحكام 1 : 281.
5- المراسم : 56.

أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل يبول بالليل فيحسب أنّ البول أصابه فلا يتيقّن فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ولا يتنشّف؟ قال عليه السلام : يغسل ما استبان أنّه أصابه وينضح ما يشكّ فيه من جسده أو ثيابه ويتنشّف قبل أن يتوضّأ » (1).

وكأنّ المراد من التنشّف الاستبراء فيكون الخبر متضمّنا لمسألتين إحداهما حكم الشكّ والاخرى إجزاء الصبّ بغير استبراء. ولا يخفى ما في تأدية السؤال عنهما من الحزازة.

والمراد من التوضّؤ حينئذ الاستنجاء.

وروى في الحسن عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه منّي فليغسل الذي أصابه فإن ظنّ أنّه أصابه منّي ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء » (2). الحديث.

وفي الحسن عن عبد اللّه بن سنان قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : إن كان علم أنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى. وإن كان يرى أنّه أصابه شي ء فنظر فلم ير شيئا أجزأه إن لم ينضحه بالماء » (3).

وقد مرّ في البحث عن اعتبار الدقّ والتغميز في غسل ما يعتبر عصره رواية لا يخلو سندها عن اعتبار ، متضمّنة للأمر بنضح جانب الثوب الذي يشكّ في نفوذ البول إليه من جانبه الآخر بعد الأمر بغسل الجانب الذي أصابه البول.

وأمّا ما ذهب إليه سلّار من إيجاب الرشّ مع الظنّ فلم نقف له على حجّة.

ص: 720


1- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، الحديث 1334.
2- تهذيب الأحكام 1 : 252 ، الحديث 728.
3- تهذيب الأحكام 2 : 359 ، الحديث 1488.

واعتبار العلّامة في نهايته النضح هنا مغايرا للرشّ - على خلاف ما قاله الشيخان - ضعيف ، كاعتباره في حكم الكلب والخنزير ، لما أشرنا إليه هناك من مخالفته لظاهر كلامه في غير هذا الكتاب وكلام أكثر الأصحاب ، ونصّ جماعة من أهل اللغة وأنّه لا شاهد له عليه وسيأتي نقل كلامه في ذلك والبحث معه فيه.

مسألة [23] :

وذكر العلّامة في المنتهى والنهاية استحباب النضح في خمسة مواضع اخرى (1).

وحكى ذلك عنه الشهيد في الذكرى (2) وزاد عليها موضعين آخرين. وفي كلام بعض المتأخّرين ذكر الخمسة بلفظ الرشّ ، وهو بناء على الترادف كما هو المعروف ؛ إذ أكثر الأخبار وردت بالنضح كما في المسائل السابقة ونحن نذكر الروايات الواردة في المواضع السبعة.

فروى عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الفأرة الرطبة وقد وقعت في الماء تمشي على الثياب أيصلّي فيها؟ قال : اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء » (3).

ومورد النضح في هذا الخبر - كما ترى - هو ما لا يرى من أثر الفأرة الرطبة في الثوب.

ص: 721


1- منتهى المطلب 3 : 293 ، ونهاية الإحكام 1 : 289.
2- ذكرى الشيعة : 17.
3- تهذيب الأحكام 1 : 261 ، الحديث 761.

وأمّا ما يرى منه فالحكم فيه الغسل وجوبا أو استحبابا على الخلاف السابق.

ووقع في كلام جماعة إطلاق القول بالنضح من الفأرة الرطبة تبعا لعبارة العلّامة في النهاية وليس بجيّد ، وقد صرّح في المنتهى بما قلناه فقال : ومنها الفأرة إذا لاقت الثوب وهي رطبة ولم ير الموضع (1).

وروى عن عليّ بن جعفر أيضا في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن رجل وقع ثوبه على كلب ميّت؟ قال : ينضحه ويصلّي فيه ولا بأس » (2).

وروى الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن المذي يصيب الثوب؟ فقال : ينضحه بالماء إن شاء » (3).

وفي هذا الخبر نصّ على الاستحباب كما لا يخفى.

وروى عن محمّد بن مسلم في الحسن قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أبوال الدوابّ والبغال والحمير؟ فقال : اغسله فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كلّه ، فإن شككت فانضحه » (4).

وروى عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يصيبه أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال : يغسل بول الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة » (5). الحديث.

ص: 722


1- منتهى المطلب 3 : 293.
2- تهذيب الأحكام 1 : 277 ، الحديث 815.
3- تهذيب الأحكام 1 : 267 ، الحديث 784.
4- تهذيب الأحكام 1 : 264 ، الحديث 771.
5- تهذيب الأحكام 1 : 422 ، الحديث 1337.

وعن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتّى يبتلّ القميص؟ فقال : لا بأس. وإن أحبّ أن يرشّه بالماء فليفعل » (1).

وهذه الروايات أقرب للدلالة على الاستحباب في الموضع السادس الذي هو موردها أعني عرق الجنب ، ولم يتعرّض لها في المنتهى وإنّما جعل المستند فيه رواية علي بن أبي حمزة. والذي يلوح منها نفي الاستحباب وأنّ الثابت هو الإباحة مماشاة للسائل حيث فهم منه الميل إلى التنزّه عن العرق المذكور.

وصورة الرواية هكذا : « سئل أبو عبد اللّه عليه السلام وأنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه قال : لا أرى به بأسا ». قال : إنّه يعرق حتّى لو شاء أن يعصره عصره. قال : فقطّب أبو عبد اللّه عليه السلام في وجه الرجل وقال : إن اتيتم فشي ء من ماء فانضحه به » (2).

وروى الشيخ أبو جعفر الكليني رحمه اللّه في الكافي عن ابن أبي نصر في الصحيح قال : « سأل الرضا عليه السلام رجل وأنا حاضر فقال : إنّ بي جرحا في مقعدتي فأتوضّأ واستنجي ثمّ أجد بعد ذلك الندى الصفرة من المقعدة أفأعيد الوضوء؟ فقال : وقد أيقنت؟ فقال : نعم. قال : لا بأس ولكن رشّه بالماء ولا تعد الوضوء » (3).

ورواه بطريق آخر عن صفوان عن الرضا عليه السلام ورواه الشيخ في التهذيب

ص: 723


1- تهذيب الأحكام 1 : 269 ، الحديث 791.
2- تهذيب الأحكام 1 : 268 ، الحديث 787.
3- الكافي 3 : 20.

أيضا بطريقين عن صفوان عنه عليه السلام (1).

مسألة [24] :

وذكر جماعة من الأصحاب منهم الشيخ والعلّامة : أنّه يستحبّ لمن قصّ أظفاره بالحديد أو أخذ من شعره أو حلق أن يمسح الموضع بالماء (2).

واستند في ذلك إلى رواية عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في الرجل إذا قصّ أظفاره بالحديد أو جزء من شعره أو حلق قفاه فإنّ عليه أن يمسحه بالماء قبل أن يصلّي. سئل : فإن صلّى ولم يمسح من ذلك بالماء؟ قال : يعيد الصلاة لأنّ الحديد نجس » (3).

ورواية عمّار أيضا عنه عليه السلام قال : « الرجل يقرض من شعره بأسنانه يمسحه بالماء قبل أن يصلّي؟ قال : لا بأس إنّما ذلك في الحديد » (4).

والخبر الأوّل كما ترى يقتضي وجوب المسح المذكور ، بل هو نصّ في حصول التنجيس بملاقاة الحديد وقد قال الشيخ في الاستبصار : أنّه خبر شاذّ مخالف للأخبار الكثيرة. قال : وما يجري هذا المجرى لا يعمل عليه. وذكر قبل ذلك أنّ الوجه حمله على ضرب من الاستحباب (5).

وجملة ما وقفنا عليه من الأخبار المخالفة له حديثان أوردهما الشيخ

ص: 724


1- تهذيب الأحكام 1 : 46 ، الحديث 131.
2- الكافي 3 : ، الحديث 3 ، ومنتهى الكلام 3 : 294.
3- الاستبصار 1 : 96 ، الحديث 311.
4- الاستبصار 1 : 96 ، الحديث 310.
5- الاستبصار 1 : 96.

في كتابي الحديث.

أحدهما : رواه عن زرارة في الصحيح قال : « قلت لأبي جعفر عليه السلام : الرجل يقلم أظفاره ويجزّ شاربه ويأخذ من شعر لحيته ورأسه هل ينقض ذلك وضوءه؟ فقال : يا زرارة كلّ هذا سنّة والوضوء فريضة وليس شي ء من السنّة ينقض الفريضة وأنّ ذلك ليزيده تطهيرا » (1).

والثاني : رواه في الصحيح عن سعيد بن عبد اللّه الأعرج قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : آخذ من أظفاري ومن شاربي وأحلق رأسي أفأغسل؟ قال : لا ، ليس عليك غسل. قلت : أفتوضّأ؟ قال : لا ، ليس عليك وضوء. قلت : فأمسح على أظفاري الماء؟ فقال : هو طهور ليس عليك مسح » (2).

وهذا الخبران مع قوّة إسناديهما معتضدان بالأصل ، وطريق خبر عمّار ليس بصحيح ؛ إذ أكثر رواته فطحيّة فلا يصلح معارضا لهما. وبذلك يظهر انتفاء احتمال العمل بظاهره كما ذكره الشيخ.

ويبقى الكلام في حمله على الاستحباب ، فربّما يصار إليه وإن كان حال إسناده ما قد علم لاعتضاده بما رواه الكليني والشيخ بعده بإسناد يعدّ في الصحيح عن محمّد الحلبي قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يكون على طهر فيأخذ من أظفاره أو شعره أيعيد الوضوء؟ فقال : لا ولكن يمسح رأسه وأظفاره بالماء. قال : قلت : فإنّهم يزعمون أنّ فيه الوضوء؟ فقال : إن خاصموكم فلا تخاصموهم وقولوا هكذا السنّة » (3).

ص: 725


1- تهذيب الأحكام 1 : 346 ، الحديث 1013.
2- تهذيب الأحكام 1 : 341 ، الحديث 1012.
3- تهذيب الأحكام 1 : 345 ، الحديث 1010.
مسألة [25] :
اشارة

ويعتبر في إزالة النجاسة بالماء القليل إيراده عليها.

ذكره جمع من الأصحاب منهم الشيخ والمحقّق والعلّامة والشهيد.

قال في الخلاف : إذا ولغ الكلب في إناء ثمّ وقع الإناء في ماء قليل ينجس ولم يجز استعماله ولا يعتدّ بذلك في غسل الإناء (1).

وقال في المعتبر : لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يتحصّل من الغسلات شي ء (2).

وقال في المنتهى : إذا أراد غسل الثوب بالماء القليل ينبغي أن يورد الماء عليه. ولو صبّه في الإناء ثمّ غمسه فيه لم يطهر. قاله السيّد - يعني المرتضى - وهو جيّد. وفرّق - يعني السيّد - بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء عليها (3).

وقال في الذكرى : الظاهر اشتراط ورود الماء على النجاسة لقوّته بالعمل إذ الوارد عامل ، وللنهي عن إدخال اليد في الإناء [ قبل الغسل ]. فلو عكس نجس الماء ولم يطهر. قال : وهذا ممكن في غير الأواني وشبهها ممّا لا يمكن فيه الورود إلّا أن يكتفى بأوّل وروده. ثمّ قال : مع أنّ عدم اعتباره مطلقا متوجّه لأنّ امتزاج الماء بالنجاسة حاصل على كلّ تقدير والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة. وفي خبر الحسن بن محبوب عن أبي الحسن عليه السلام :

ص: 726


1- الخلاف 1 : 179.
2- المعتبر 1 : 460.
3- منتهى المطلب 3 : 268.

« في الجصّ يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى : أنّ الماء والنار قد طهّراه » ، تنبيه عليه. هذا كلامه (1).

وقد جزم في الدروس باعتبار الورود فقال : ويشترط الورود حيث يمكن (2).

وكذا في البيان فقال : يشترط ورود الماء على النجاسة. فلو عكس نجس الماء القليل ولم يطهّره إلّا في نحو الإناء فإنّه يكفي الملاقاة ثمّ الانفصال (3).

وقال بعض الأصحاب - بعد أن حكى كلام الذكرى وقوله فيها بالاكتفاء في الأواني وشبهها بأوّل وروده - : والحقّ أنّه لا يراد بالورود أكثر من هذا ، وإلّا لم يتحقّق الورود في شي ء ممّا يحتاج فصل الغسالة عنه إلى معونة شي ء آخر.

والذي ينبغي تحصيله في هذا المقام أنّ مبنى اعتبار الورود على أنّ انتفاءه يقتضي نجاسة الماء ، ومن المستبعد صلاحيّة ما حكم بنجاسته لرفع حكم النجاسة عن غيره.

ومن أنعم (4) نظره في دليل انفعال القليل بالملاقاة رأى أنّه مختصّ بما إذا وردت النجاسة على الماء فيجب حينئذ أن يكون المعتبر هاهنا هو عدم ورود النجاسة على الماء ، لا ورود الماء على النجاسة ، إذ بين الأمرين فرق واضح.

وإذا ثبت أنّ المعتبر ما ذكرناه لم يحتج إلى استثناء نحو الأواني ولا لتكلّف حمل الورود على ما يقع أوّلا ؛ فإنّ ورود النجاسة في جميع ذلك منتف. والمحذور إنّما يأتي من جهته.

ص: 727


1- ذكرى الشيعة : 15.
2- الدروس الشرعيّة 1 : 126.
3- البيان : 95.
4- في « ب » : ومن أمعن نظره.

فإن قيل : إذا كان مبنى الاعتبار المذكور على رعاية السلامة من هذا المحذور فينبغي أن يكون مختصّا بمن يرى طهارة الماء المستعمل في الإزالة حينئذ. وأمّا على رأي القائلين بنجاسته تعويلا على أنّ الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة بأيّ وجه فرض فاعتبار ذلك مشكل إذ نجاسة الماء حاصلة على كلّ حال ، ومسمّى الغسل المأمور به يصدق وإن كان الوارد هو النجاسة.

والفرق بينه وبين استعمال ما حكم بنجاسته لغير هذا الوجه - من مقتضيات التنجيس - قيام الدليل على عدم صلاحيّة ذاك للاستعمال وانتفاؤه في هذا ؛ فإنّ دليل نجاسته لغير هذا الوجه إنّما يقتضي المنع من استعماله في مغسول آخر ، وأمّا نفس المغسول الأوّل الذي منه نشأ الحكم بالتنجيس فليس في الدليل ما يقتضي المنع من استعماله فيه بالنظر إلى إزالة ذلك الحكم عنه.

قلت : قد مرّ في كلام العلّامة - وهو ممّن يرى نجاسة المستعمل في إزالة النجاسة - أنّ التنجيس إنّما يعرض للماء بعد انفصاله عن المحلّ المغسول. وعلى هذا فلا إشكال في الاعتبار المذكور على القول بالتنجيس أيضا لجواز مراعاة كون (1) الماء في حال الإزالة طاهرا. وطروّ التنجيس بعده ليس بمناف كما لا يخفى.

ولو قيل : بأنّ الماء في حال الملاقاة للثوب أيضا نجس لأمكن توجيه الاعتبار المذكور حينئذ بأنّ الظاهر من حال ما حكم بنجاسته شرعا عدم صلاحيّته لإفادة التطهير.

لكن لمّا انعقد الإجماع على أنّ الماء القليل صالح للإزالة في الجملة ، وكانت القاعدة مقتضية بحسب الفرض لانفعاله بملاقاة النجس كيف اتّفق ،

ص: 728


1- في « ب » : لجواز كون الماء في حال الإزالة طاهرا.

لم يكن بدّ من أن يستثنى بعض حالات نجاسته من الحكم بعدم صلاحيّة النجس لإفادة التطهير. هذا مع معونة نفي الحرج الحاصل من سدّ باب التطهير بالقليل.

وحيث إنّ مسلك الاستثناء بهذه المثابة في المضايقة فينبغي أن يكون مقصورا على محلّ الحاجة متقدّرا بقدر الضرورة ولا ريب أنّ الضرر والحرج يندفعان باستثناء حالة الورود فيقتصر في الحكم عليهما.

ويستأنس لترجيح اختيارها للاستثناء على ما عداها بانتفاء الخلاف في حصول الطهارة معها ووقوع الشكّ فيما سواها.

وهذا غاية ما يمكن تكلّفه في توجيه الاعتبار المذكور على رأي من يقول بنجاسة الغسالة. وبمقدار ما فيه من التعسّف يعلم ما في أصل القول بنجاستها من التوقّف.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ قول الشهيد في الذكرى : « أنّ في خبر الحسن ابن محبوب تنبيها على عدم اعتبار الورود مطلقا » (1). منظور فيه ؛ لأنّ الطهارة المحكوم بها في الخبر مستندة إلى الماء والنار. والنجاسة الحاصلة هناك على ما يقتضيه السؤال عينيّة. وتأثير الماء في النجاسة العينيّة مع بقاء عينها غير معقول ، ومتى حكم بخروجها عن حقيقتها وزوال حكمها لم يبق هناك نجاسة يزيلها الماء. فلا وجه لاستناد (2) التطهير حينئذ إليه إلّا بحمل الطهارة على معناها اللغوي من حيث إفادة الماء نوع تنظيف.

ويقع الإشكال في الإسناد إلى النار فإنّ حمله على إرادة المعنى المتعارف

ص: 729


1- ذكرى الشيعة : 15.
2- في « أ » : فلا وجه لإسناد التطهير.

للطهارة ممكن ، ولكنّ جمعه مع حكم الماء بعد فرض كون المراد فيه خلاف هذا المعنى ربّما كان موجبا لشوب ريب ولعلّه من قبيل الجمع بين إرادتي الحقيقة والمجاز اعتمادا على القرينة الحاليّة فقد بيّنا في مقدّمة الكتاب جوازه مجازا (1). ويحتمل جعله من باب عموم المجاز بإرادة قدر مشترك بين المعنيين.

وقد ذكر المحقّق في الكلام على هذا الحديث - عند الاحتجاج به لتطهير النار كما سيأتي إن شاء اللّه - ما يليق أن يذكر هنا وهو : أنّ المراد بالماء المذكور فيه ما يجبل به الجصّ. قال : وذلك لا يطهّر إجماعا (2).

واقتفى أثره الفاضل في المنتهى فقال : إنّ الماء الممازج هو الذي يحيل به وذلك غير مطهّر إجماعا (3).

وهذا الكلام إنّما يتّجه إذا كان طريق جبل الجصّ بالماء أن يصبّ الماء أوّلا ثمّ يرمى الجصّ فيه كما شاهدناه في البلاد التي يستعمل فيها الجصّ. وأمّا إذا كان جبله بصبّ الماء عليه فتحقّق الإجماع على عدم الطهارة به حينئذ مشكل لما مرّ من أنّ الشيخ رحمه اللّه يقول بطهارة التراب إذا صبّ عليه من الماء القليل ما يقهر النجاسة ويزيل لونها وريحها (4). والمحقّق حكى ذلك عن الشيخ قبل

ص: 730


1- راجع مبحث الحقيقة والمجاز من مقدّمة « معالم الدين » للمؤلّف.
2- المعتبر 1 : 452.
3- منتهى المطلب 3 : 288. وفي النسخة المحقّقة : أنّ الماء الممازج هو الذي يحلّ به ..
4- الخلاف 1 : 494 ، المسألة 235. وجاء فيه : إذا بال على موضع من الأرض فتطهيرها أن يصبّ الماء عليه حتى يكاثره ويغمزه ويقهره فيزيل طعمه ولونه وريحه. فإذا زال حكمنا بطهارة الموضع وطهارة الماء الوارد عليه ، ولا يحتاج إلى نقل التراب ولا قلع المكان.

هذه المسألة بقليل (1). وعزى جماعة إلى بعض الأصحاب الموافقة للشيخ فيه.

والفرق بين التراب والجصّ غير واضح فكيف يتوجّه دعوى الإجماع على عدم حصول الطهارة بذلك؟

وربّما يظنّ أنّ استشهاد الشهيد - لعدم اعتبار الورود بالخبر - ناظر إلى الوجه الأوّل حيث إنّ الورود فيه على الماء ظاهر فهو بتقدير دلالته على حصول الطهارة بمعناها المتعارف نصّ في عدم الفرق بين ورود الماء وعدمه.

وليس هذا الظنّ ببعيد لكن يحتمل أيضا أن يكون نظره إلى الجبل بصبّ الماء على الجصّ لا يقتضي إيراد الماء على جميع أجزاء المحكوم بنجاستها ، بل أكثر الأجزاء إنّما يصيبه الماء بطريق النفوذ والترشّح ، ومثله لا يسمّى ورودا عنده كما يقتضيه كلامه. وإن كان ما حكيناه عن بعض الأصحاب يدلّ على تسمية مثله ورودا فإنّه وقع على سبيل الإنكار لظاهر كلام الشهيد.

وممّا يرجّح كون النظر في الاستشهاد بالخبر إلى هذا الاحتمال أنّ الشهيد رحمه اللّه يتحرّز من المخالفة فيما يتوهّم فيه الإجماع فضلا عن أن يدّعيه الفاضلان وقد عرفت أنّ أقلّ مراتب الإجماع الذي ذكراه أن يكون مورده الصورة التي يقع فيها الجبل بإيراد الجصّ على الماء وهي بعينها الوجه الأوّل فكيف يظنّ أنّ نظر الشهيد إليه.

تذنيب :

قال العلّامة في النهاية : مراتب إيراد الماء ثلاثة : النضح المجرّد ومع الغلبة ومع الجريان.

قال : ولا حاجة في الرشّ إلى الدرجة الثالثة قطعا. وهل يحتاج إلى

ص: 731


1- المعتبر 1 : 448.

الثانية؟ الأقرب ذلك. ثمّ قال : « ويفرّق الرشّ والغسل بالسيلان والتقاطر » (1).

وفي جعله الرشّ مغايرا للنضح نظر ، أشرنا إليه عمّا قريب.

ووجهه : أنّ المستفاد من كلام أهل اللغة ترادفهما. والعرف إن لم يوافقهم فليس بمخالف لهم فلا يعلم الفرق الذي استقربه من أين أخذه؟

فرع :

يكفي في غسل الإناء بالقليل أن يصبّ فيه الماء ثمّ يحرّك حتّى يستوعب ما نجس منه ثمّ يفرّغ.

ذكر ذلك كثير من الأصحاب ورواه الشيخ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سئل عن الكوز أو الإناء (2) ، يكون قذرا ، كيف يغسل؟

وكم مرّة يغسل؟ قال : ثلاث مرّات يصبّ فيه ماء فيحرّك فيه ثمّ يفرّغ ذلك الماء » (3). الحديث.

وهذه الرواية وإن كان سندها ليس بصحيح فهي مؤيّدة بالاعتبار وذلك لأنّ الغسل المأمور به يتحقّق بهذا المقدار. واعتبار الورود ليس بمناف له.

أمّا على المعنى الذي أراده الشهيد فلاستثنائه الإناء منه وتصريحه بالاكتفاء فيه بأوّل وروده وكذا على المعنى الذي حكيناه عن البعض. ولا ريب أنّ الورود في أوّل الأمر يحصل مع الصبّ. وأمّا على ما قلناه فالأمر واضح.

وذكر جماعة من الأصحاب : أنّه لو ملى ء الإناء ماء كفى إفراغه عن تحريكه وأنّه يكفي في التفريغ مطلقا وقوعه بآلة لكن بشرط عدم إعادتها

ص: 732


1- نهاية الإحكام 1 : 289.
2- في « ب » : الكوز والإناء.
3- تهذيب الأحكام 1 : 284 ، الحديث 832.

إلى الإناء قبل تطهيرها.

وزاد البعض اشتراط كون الإناء مثبتا بحيث يشقّ قلعه. والكلام في غير الشرطين حسن ، وأمّا فيهما فالثاني لا وجه له. والأوّل مبنيّ على نجاسة الغسالة.

مسألة [26] :

ويسقط اعتبار التعدّد في الغسل إذا وقع المتنجّس في الماء الكثير سواء كان إناء أو غيره على المشهور بين الأصحاب. لكن لا بدّ في الإناء من سبق التعفير إذا كانت نجاسته من ولوغ الكلب فيه.

وخالف في ذلك الشيخ رحمه اللّه فقال : إنّ إناء الولوغ إذا وقع في الماء الكثير لم يطهر بل تحسب له (1) بذلك غسلة من جملة الغسلات المعتبرة فيه. ويتوقّف طهره على إتمام العدد (2).

ومستند الشيخ في ذلك (3) أنّ الأمر بالعدد متناول للقليل والكثير فلا بدّ للتخصيص من دليل (4).

والجماعة عوّلوا في التخصيص على أنّ اللفظ إذا أطلق ينصرف إلى المعنى المتعارف المعهود (5) وظاهر الحال أنّ المتعارف في مجال الأمر بالتعدّد هو الغسل بالقليل.

ص: 733


1- في « ج » : بل يجب له.
2- الخلاف 1 : 178.
3- في « أ » و « ب » : ومستند الشيخ في هذا.
4- وراجع المبسوط أيضا 1 : 14.
5- في « ج » : « إلى المعنى المتعارف ».

ويعضد ذلك في الجملة من جهة الاعتبار أنّ الماء الكثير إذا استولى على عين النجاسة وإن كانت مغلّظة بحيث اقتضى شيوع أجزائها فيه واستهلاكها سقط حكمها شرعا وصار وجودها فيه كعدمها. فإذا وقع المتنجّس في الكثير واستولى الماء على آثار النجاسة فبالحريّ أن يسقط حكمها ويجعل وجودها كعدمها ، وإلّا لكان الأثر أقوى من العين.

ويؤيّده من جهة النصّ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن أحمد ابن يحيى عن السندي (1) بن محمّد عن علا عن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الثوب يصيبه البول قال : اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (2).

وقد حكى المحقّق في المعتبر عن ابن بابويه أنّه قال : إذا أصاب الثوب بول فاغسله في الماء الجاري مرّة وفي الراكد مرّتين.

وقال المحقّق بعد ذلك : إنّ محمّد بن مسلم روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام هذه الرواية وذكر متن الحديث ثمّ قال : ويمكن أن يكون الوجه فيه أنّ الجاري تتغاير المياه فيه على الثوب فكأنّه غسل أكثر من مرّة (3).

ولا يخفى عليك أن التقريب الذي ذكرناه أوضح في الاعتبار ممّا قاله المحقق.

ثمّ إنّه ذكر في حكم الولوغ أنّه : « لو وقع إناؤه في كثير لم ينجس ويحصل له غسلة واحدة إن لم يشترط تقديم التراب » (4).

ص: 734


1- في « ب » : عن أحمد بن محمّد بن يحيى السندي.
2- تهذيب الأحكام 1 : 250 ، الحديث 717 ، مع اختلاف غير يسير.
3- المعتبر 1 : 437.
4- المعتبر 1 : 460.

قال : « ولو وقع في جار ومرّ عليه جريات قال في المبسوط : لم يحكم له بالثلاث. وفي قوله إشكال ، وربّما كان ما ذكره حقّا إن لم يتقدّم غسله بالتراب. لكن لو غسل مرّة بالتراب وتعاقبت عليه جريتان (1) كانت الطهارة أشبه » (2).

هذا كلامه. وهو صريح في مخالفة المشهور كقول الشيخ ، إلّا أنّه خصّ الحكم بما ليس بجار ، وراعى في الجاري تعاقب الجري بمقدار العدد المعتبر.

وكلام العلّامة في هذه المسألة من المنتهى وقع على طبق كلام المحقّق لكنّه في بعض نسخ الكتاب صرّح بالرجوع عنه أخيرا وهذه عبارته :

« ولو وقع - يعني إناء الولوغ - في ماء كثير لم ينجس. وهل يحصل له غسلة أم لا؟ الأقرب أنّه لا يحصل لوجوب تقديم التراب هذا على قولنا. أمّا على قول المفيد فإنّ الوجه الاحتساب لغسله بغسلة ، ولو وقع في ماء جار ومرّت عليه جريات متعدّدة احتسب كلّ جرية بغسلة ، خلافا للشيخ ؛ إذ القصد غير معتبر فجرى ما لو وضعه تحت المطر.

ولو خضخضه في الماء وحرّكه بحيث تخرج تلك الأجزاء الملاقية عن حكم الملاقاة ويلاقيه غيرها احتسب بذلك غسله ثانية كالجريات.

ولو طرح فيه ماء لم يحتسب به غسلة حتّى يفرغ منه سواء كان كبيرا بحيث يسع الكرّ أو لم يكن ، خلافا لبعض الجمهور فإنّه قال في الكثير (3) إذا وسع قلّتين لو طرح فيه ماء وخضخض احتسب به غسلة ثانية. والوجه أنّه لا يكون غسلة إلّا بتفريغه منه مراعاة للعرف ».

ص: 735


1- في « ب » : وتعاقبت عليه جريات.
2- المعتبر 1 : 460.
3- في « أ » : في الكبير إذا وسع قلّتين. وفي « ج » : في الكرّ إذا وسع قلّتين.

ثمّ قال : « والأقرب عندي بعد ذلك كلّه أنّ العدد إنّما يعتبر لو صبّ الماء فيه. أمّا لو وقع الإناء في ماء كثير أو ماء جار وزالت النجاسة طهر » (1).

وفي التذكرة حكى كلام الشيخ وقال : « إنّه ليس بجيّد وإنّه يلزم عليه فيما لو طرح كرّ في إناء الولوغ أن يكون الماء طاهرا والإناء نجسا (2).

وكأنّ غرضه من الكلام الأخير استبعاد ما ذهب إليه الشيخ.

والحقّ أنّه بمجرّده غير كاف في الاستبعاد ؛ للاعتراف بمثله فيما لو وضع الكرّ في الإناء المذكور قبل التعفير.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كل موضع يستند في اعتبار التعدّد فيه إلى الإجماع يكون الحكم مخصوصا فيه بحال غسله بالقليل إذ لا سبيل إلى العلم بالإجماع في غيره وقد عرفت أنّ من هذه المواضع ولوغ الكلب ، إذ النصّ الذي وصل إلينا فيه خال من التعرّض للتعدّد.

وأمّا ما ثبت اعتبار التعدّد فيه بالنصّ وهو البول إذا أصاب الثوب وولوغ الخنزير فليس بالبعيد الاعتماد في تخصيصه بحال الغسل بالقليل على الوجهين السابقين مع معونة الحديث.

ولو ابقي الحكم فيه على عمومه ؛ نظرا إلى الاحتياط وعدم خلوص الحجّة من شوب الإشكال ، لم يكن بذلك بأس ؛ إذ الأمر سهل.

مسألة [27] :
اشارة

المعروف بين متأخّري الأصحاب أنّ الماء الكثير يختصّ بالصلاحيّة لتطهير

ص: 736


1- منتهى المطلب 3 : 342.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 86.

ما لا ينفصل عنه الغسالة بنفسها أو بالعصر وما يقوم مقامه. وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

ثمّ إنّ هذا النوع ممّا يعرض له التنجيس إمّا مائع أو غيره.

والثاني لا نعلم خلافا بينهم في طهارته بالكثير إذا تخلّله وأصاب جميع الأجزاء المحكوم بنجاستها.

وأمّا الأوّل فكلامهم فيه مختلف ، فقال جماعة : إنّ غير الماء من مطلق المائعات ليس بقابل للتطهير ما دام باقيا على حقيقته.

وظاهر كلام العلّامة في التذكرة إمكان طهارتها أجمع حيث قال : إنّما يطهر بالغسل ما يمكن نزع الماء المغسول به عنه دون ما لا يمكن كالمائعات والكاغد والطين ، وإن أمكن إيصال الماء إلى أجزائها بالضرب ما لم تطرح في كرّ فما زاد أو في جار بحيث يسري إلى جميع أجزائه قبل إخراجه منه فلو طرح الدهن في ماء كثير وحرّكه حتّى تخلّل الماء جميع أجزاء الدهن بأسرها طهر (1). هذا كلامه.

وقد سبق في بحث الماء المضاف حكاية قوله في المنتهى والقواعد بطهارته إذا اختلط بالكثير المطلق وإن سلبه الإطلاق (2) ، وهو في معنى ما قاله في التذكرة بل أصرح منه في الدلالة على صلاحيّة الكثير لتطهير ذلك النوع من المائع مع بقائه على حقيقته.

ووافقه الشهيد في الذكرى على مختار التذكرة لكن في غير الدهن ، فأفرده عن ساير المائعات في الذكر ، ونسب القول بطهره حينئذ إلى التذكرة فقال :

ص: 737


1- تذكرة الفقهاء 1 : 87 - 88.
2- منتهى المطلب 1 : 128 ، وقواعد الأحكام 1 : 185.

لا تطهر المائعات والقرطاس والطين ولو ضربت بالماء إلّا في الكثير. وفي طهارة الدهن في الكثير وجه اختاره الفاضل في تذكرته (1).

ولا وجه للاقتصار في نسبة القول بطهارة الدهن إلى الفاضل على التذكرة ؛ لأنّه ذكر الحكم في النهاية والمنتهى بنحو ما ذكره في التذكرة.

وقال في النهاية : لو صبّ الدهن النجس في كرّ فما زاد ومازجت أجزاؤه أجزاء الماء بالتوصيل فالأقرب الطهارة (2). وفي المنتهى ما يقرب من هذا الكلام (3).

وحيث إنّه لم يتعرّض فيهما لغير الدهن ظنّ بعض الأصحاب أنّه يرى قصر الحكم على الدهن فعدّ ذلك قولا له مغايرا للقول الأوّل. وليس بشي ء.

أمّا أوّلا : فلأنّ الاعتبار يشهد بكون الدهن أبعد المائعات عن قبول الطهارة من حيث اللزوجة المانعة من نفوذ الماء في أجزائه فالقول بإمكان حصول الطهارة له يقتضي القول بذلك في ساير المائعات بطريق أولى.

وليس في كلام الفاضل ما يصلح منشأ لتخيّل القول باختصاص الحكم بالدهن إلّا عدم تعرّضه لغيره.

وشهادة الاعتبار بالأولويّة أظهر من أن يحتاج معها إلى التنصيص على التعميم.

وأمّا ثانيا : فلأنّ غير الدهن من المائعات إذا خالطها الماء على الوجه الذي شرطه عن الصلاحيّة للانتفاع بها في الغالب فليس لبيان حكمها كثير

ص: 738


1- ذكرى الشيعة : 14.
2- نهاية الإحكام 1 : 281.
3- منتهى المطلب 3 : 291.

بخلاف الدهن ؛ فإنّ مخالطة الماء له غير مستقرّة إذ يسرع انفصاله منه [ فتبقى ] الصلاحيّة للانتفاع بحالها ، وهو ظاهر فلذلك اقتصر في الذكر عليه.

وقد ناقشه جماعة بأنّ العلم بوصول الماء إلى جميع أجزاء الدهن غير ممكن بل قد يعلم خلافه ؛ لأنّ الدهن يبقى في الماء مودعا فيه غير مختلط به وإنّما يصيب سطحه الظاهر. وهذا كلام جيّد.

بل التحقيق أنّ العيان شاهد باستحالة مداخلة الماء لجميع أجزاء الدهن وأنّه مع الاختلاط لا يحصل له إلّا ملاقاة سطوح الأجزاء المنقطعة بالضرب ولا سبيل إلى نفوذ الماء في بواطنها ؛ ولهذه العلّة تبقى على الصلاحيّة للانتفاع إذ اختلاطه بالماء إنّما حصل على جهة التفرّق في خلاله فإذا ترك ضربه سارع إلى الانفصال واستقرّ لخفّته على وجه الماء. وهذا من الامور الواضحة التي لا تحتاج إلى كثير تأمّل.

وأمّا غير الدهن من ساير المائعات سوى الماء على ما مضى من الكلام فيه فإنّما يعقل حصول الطهارة لها مع إصابة الماء لجميع أجزائها وذلك إنّما يتحقّق بشيوعها في الماء واستهلاكها فيه بحيث لا يبقى شي ء من أجزائها ممتازا ؛ إذ مع الامتياز يعلم عدم نفوذ الماء في ذلك الجزء الممتاز. وإذا حصل الاستهلاك على الوجه المذكور يخرج المائع عن الحقيقة التي كان عليها كما يخرج عين النجاسة بشيوعها في الماء الكثير عن حكمها. ومثل هذا لا يسمّى تطهيرا في الاصطلاح ؛ إذ الغرض من التطهير عود الجسم المطهّر إلى وصف الطهارة مع بقاء الحقيقة وذلك مفقود في الصور المذكورة.

وقد وقع في عبارات بعض الأصحاب أنّ المائعات إذا امتزجت بالكثير بحيث يطلق على الجميع اسم الماء طهرت وإلّا فلا.

وأنت إذا أحطت خبرا بما قلناه علمت أنّ هذا الكلام ليس على ما ينبغي ؛

ص: 739

فإنّ البول وغيره من الأعيان النجسة إذا امتزجت بالكثير على الوجه المذكور يصير بحكمه ولا يبقى لنجاستها أثر. مع أنّهم لا يسمّون ذلك تطهيرا لها.

فالمناسب للوقوف في التعبير مع القانون الذي جرى عليه اصطلاحهم له : أن لا يعدّ حصول هذا المعنى في المائع تطهيرا له بل يذكر حكمه مع البقاء على حقيقته ، وليس الحكم حينئذ إلّا عدم القبول للطهارة كما هو التحقيق وظاهر كلام الأكثرين ؛ لما عرفت من أنّ القول بالطهارة حينئذ ليس إلّا للعلّامة في بعض كتبه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الذي يستفاد من كلام العلّامة في غير المضاف أنّ الخلاف بينه وبين غيره يؤول إلى اللفظ. وذلك لأنّه شرط في حصول الطهارة تخلّل الماء لجميع أجزاء المائع دهنا كان أو غيره وهم لا ينكرون حصول الطهارة إذا حصل هذا المعنى وإنّما يدّعى عدم إمكان حصوله في الدهن مطلقا وفي غيره مع البقاء على الحقيقة.

وهذه المقدّمة لم يتعرّض لها هو ولكن يلوح من إطلاق كلامه تخيّل إمكان ذلك فيها ، ومن البيّن أنّ الاختلاف في ثبوت هذا الإمكان وعدمه لا ينتظم في سلك الأحكام الشرعيّة.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

قال في التذكرة : العجين النجس إذا مزج بالماء الكثير حتّى صار رقيقا وتخلّل الماء جميع أجزائه طهر ، وهو حسن (1).

ص: 740


1- تذكرة الفقهاء 1 : 88.

وظاهره في النهاية والمنتهى عدم قبوله للتطهير بالماء (1). وليس بالمتّجه.

وقد ورد في بعض الأخبار الأمر ببيعه ممّن يستحلّ أكل الميتة ، وفي بعضها طهارته بالنار ، وسيأتي البحث فيه. وفي بعض آخر الأمر بدفنه.

قال في الذكرى - بعد أن أشار إلى مضمون الروايات كلّها - بأنّها مشعرة بسدّ باب طهارته بالماء إلّا أن يقيّد بالمعهود من القليل (2).

ولا أرى لهذا الكلام وجها فإنّ ما دلّ من الأخبار على طهره بالنار خال من الإشعار قطعا ، وما دلّ على بيعه أو دفنه فالسرّ فيه توقّف تطهيره بالماء على الممازجة والنفوذ في أجزائه بحيث يستوعب كلّ ما أصابه الماء النجس إذ المفروض في الأخبار عجنه بماء نجس وفي ذلك من المشقّة والعسر ما لا يخفى. فلهذا وقع العدول عنه إلى الوجهين المذكورين.

[ الفرع ] الثاني :

قال في المنتهى : الصابون إذا انتفع في الماء النجس ، والسمسم والحنطة إذا انتقعا كان حكمها حكم العجين ، يعني في عدم قبول التطهير بالماء ؛ لأنّ ظاهره ذلك في العجين كما أشرنا إليه وإن لم يصرّح به.

ثمّ حكى عن بعض العامّة أنّه قال : الحنطة والسمسم إذا تنجّسا بالماء ، واللحم إذا كان مرقه نجسا يطهر بأن يغسل ثلاثا ويترك حتّى يجفّ في كلّ مرّة فيكون ذلك كالعصر.

قال العلّامة : وهو الأقوى عندي لأنّه قد ثبت ذلك في اللحم مع سريان

ص: 741


1- نهاية الإحكام 1 : 281 ، ومنتهى المطلب 3 : 289.
2- ذكرى الشيعة : 15.

أجزاء الماء النجسة فيه فكذا ما ذكرناه (1).

وفي كلامه هذا غرابة من وجهين :

أحدهما : حكمه بقوّة ما حكاه على الإطلاق مع تضمّنه للغسل ثلاثا ولا يعهد منه القول به. ولتنزيل الجفاف منزلة العصر وليس بمعهود منه أيضا.

والثاني : تعليله الحكم بثبوت ذلك في اللحم مع أنّه لم يتعرّض لبيان حكم اللحم قبل ذلك فيما رأينا. والاعتماد على كون الحكم في نفسه ثابتا أو مقرّرا في محلّ آخر غير لائق بالنظر إلى المتعارف من مثل هذه العبارات لا سيّما بمعونة بناء الكلام في هذا الكتاب على التوسّع في المباحث والاستقصاء في ذكر المسائل ، وإنّما يحسن الاكتفاء بالإشارة في مقام الاختصار.

والذي يقوى في النظر : أنّه ليس قصده من الحكم بقوّة ما حكاه إلّا إثبات القبول للتطهير. وأمّا اعتبار التعدّد والجفاف فغير منظور إليه.

يرشدك إلى ذاك تعليل الحكم بأنّه قد ثبت مثله في اللحم والثابت هناك على ما قرّره هو وغيره في باب الأطعمة طهارته بالغسل إذا وقع في مرقه ما يقتضي التنجيس ، فلو أراد بقوّته (2) ما زاد على الغسل لم يكن التعليل وافيا بإثبات المدّعى.

ويؤيّد ذلك أيضا أنّه في النهاية اقتصر على الحكم بقبولها للتطهير فقال بعد أن حكم بعدم طهارة الصابون والعجين بالغسل : أمّا السمسم والحنطة

ص: 742


1- منتهى المطلب 3 : 291.
2- في « ب » : فلو أراد بقوله ما زاد على الغسل. وفي « ج » : فلو أراد تقوية ما زاد على الغسل.

إذا انتقعا في النجس فالأقوى قبولهما للطهارة وكذا اللحم إذا تنجّست مرقته (1). هذا.

ولم أقف على دليل يدلّ على ثبوت الحكم في اللحم بالخصوص سوى حديثين رواهما الشيخان في الكافي والتهذيب.

أحدهما : رواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة؟ قال : يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل » (2).

والآخر : رواية زكريّا بن آدم قال : « سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير ومرق؟ قال : يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلاب. واللحم اغسله وكله » (3).

وكلتا الروايتين ضعيفتان ، فالتعويل في الحكم على الثبوت في اللحم ليس بجيّد.

ومع هذا فالحقّ أنّ إمكان التطهير في الكلّ ثابت لكنّه موقوف على العلم باستهلاك الماء الطاهر لأجزاء الماء النجس.

ويزيد في خصوص اللحم زوال الأجزاء الدهنيّة التي حكم بنجاستها في حال المائعيّة إذ لا سبيل إلى طهارتها كما بيّناه.

أمّا ما عرض له التنجيس وهو جامد فإنّما ينجس ظاهره ويطهر بالغسل كسائر الجامدات.

ص: 743


1- نهاية الإحكام 1 : 281.
2- الكافي 6 : 261.
3- تهذيب الأحكام 1 : 279 ، الحديث 820.
[ الفرع ] الثالث :

الثوب المصبوغ بالمتنجّس المائع يتوقّف طهره قبل الجفاف على استهلاك الماء للأجزاء المائعة من الصبغ. وكذا القول في ليقة الحبر (1) المتنجّس.

أمّا بعد التجفيف فيمكن طهارة الثوب مع بقاء أجزاء الصبغ فيه وذلك إذا علم نفوذ الماء في جميع تلك الأجزاء.

وأمّا طهارة الليقة حينئذ فموضع نظر من حيث إنّ الاجتماع الحاصل في أجزائها موجب لعدم نفوذ الماء إلى الأجزاء الداخلة إلّا بعد المرور على الخارجة ، والحال يشهد غالبا بأن تكرّر مرور الماء على أجزاء الحبر يقتضي تغيّره وخروجه عن الإطلاق وحصول الطهارة موقوف على نفوذ الماء باقيا على إطلاقه.

ولو فرض تفريق أجزائها بحيث علم النفوذ قبل التغيّر المخرج عن الإطلاق طهرت كالثوب.

ولو اتّفق في الثوب اجتماع أجزائه على وجه يتوقّف النفوذ إلى باطنها على تكرّر المرور بأجزاء الصبغ فهو في معنى الليقة المجتمعة. هذا.

والحكم يختلف في أنواع الصبغ والحبر من حيث الاختلاف في خفّة الأجزاء وثقلها ؛ فإنّ الخفيف سريع الممازجة بالماء فيوجب تغيّره ولا كذلك الثقيل ، فلا بدّ من الملاحظة والتدبّر في خصوصيّات المحلّ والصبغ والحبر.

[ الفرع ] الرابع :

قال الشهيد في الدروس : الحديد المشرب بالنجس إذا شرب بكثير ففي

ص: 744


1- ليقة الحبر : صوفة الدواة.

طهارته احتمال (1). وذكر نحو هذا في الذكرى إلّا أنّه جعل احتمال الطهارة منوطا بتشريبه بالماء الطاهر كثيرا كان أو قليلا.

وعلّله بملاقاة الطاهر ما لاقى النجس (2).

والكلام من أصله منظور فيه ؛ فإنّ قبول الحديد لشرب الماء أمر مستبعد جدّا.

والذي يقتضيه الاعتبار أنّ الآثار الموهمة لذلك مستندة إلى تجفيف حرارته للأجزاء المائيّة لا إلى شربها. وعلى هذا فالبحث في طريق تطهيره ساقط.

ولو سلّم قبوله لذلك لكان المتّجه على ظاهر كلام الشهيد الاقتصار في احتمال طهارته على تشريبه بالكثير - كما صنع في الدروس - فإنّه لا يرى الاكتفاء في تطهير ما لا ينفصل عنه الغسالة بمجرّد ملاقاة الماء الطاهر ، كما يدلّ عليه كلامه المحكيّ في صدر المسألة بالنظر إلى حكم القرطاس والطين. وأمّا على ما حقّقناه سابقا في اعتبار العصر فالتسوية بين الكثير والقليل متوجّهة.

مسألة [28] :

ويجزي في إزالة الغائط عن مخرجه عوضا عن الغسل بالماء الاستجمار بثلاثة أحجار أو ما يقوم مقامها على تفصيل نذكره.

ويدلّ على الحكم في الجملة مع ما ادّعي من الإجماع عليه في كلام المحقّق وغيره عدّة روايات.

فروى الشيخ عن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : « جرت السنّة

ص: 745


1- الدروس الشرعيّة 1 : 127.
2- ذكرى الشيعة : 15.

في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله » (1). الحديث.

وروى عنه في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : « لا صلاة إلّا بطهور ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنّة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. وأمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله » (2).

وروى الكليني في الحسن عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في قول اللّه عزوجل ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) قال : « كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ثمّ احدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصنعه فأنزل اللّه في كتابه ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (3).

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الأصحاب وإن كانوا متّفقين هنا على أصل الحكم فإنّهم مختلفون في عدّة مواضع من فروعه :

أحدها : ما يقوم مقام الأحجار فذهب الشيخ وجمهور المتأخّرين إلى أنّه كلّ جسم طاهر مزيل للنجاسة.

وادّعى الشيخ في الخلاف على ذلك إجماع الفرقة (4).

وقال سلّار : لا يجزي في الاستجمار إلّا ما كان أصله الأرض (5).

وقال ابن الجنيد : إن لم تحضر الأحجار يمسح بالكرسف أو ما قام مقامه.

ص: 746


1- تهذيب الأحكام 1 : 46 ، الحديث 129.
2- تهذيب الأحكام 1 : 49 ، الحديث 144.
3- الكافي 3 : 18.
4- الخلاف 1 : 106.
5- المراسم : 32 - 33.

ثمّ قال : ولا أختار الاستطابة بالآجر والخزف إلّا إذا لبسه طين أو تراب يابس (1).

ويحكى عن المرتضى أنّه قال في المصباح : يجوز الاستنجاء بالأحجار وما قام مقامها من المدر والخرق (2).

وجملة ما وصل إلينا من الأخبار في هذا المعنى خمسة أحاديث.

الأوّل : ما رواه زرارة في الصحيح قال : « سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول :

كان الحسين بن علي يتمسّح من الغائط بالكرسف ولا يغتسل » (3).

والثاني : ما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز عن زرارة ، قال : « كان يستنجي من البول ثلاث مرّات ومن الغائط بالمدر والخرق » (4).

والثالث : ما رواه الكليني في الحسن عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار .. » الحديث (5). وقد تقدّم.

والرابع : ما رواه الشيخ في الصحيح عن السندي بن محمّد عن يونس ابن يعقوب قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الوضوء الذي افترضه اللّه على

ص: 747


1- غير موجود.
2- في « ب » : المدر والخزف. راجع المعتبر 1 : 131.
3- في « ب » : « بالخزف » بدل « الكرسف ». تهذيب الأحكام 1 : 3. الحديث 1055 ، وفيه : « ولا يغسل ».
4- تهذيب الأحكام 1 : 354 ، الحديث 1054.
5- الكافي 3 : 18.

العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال : يغسل ذكره ويذهب الغائط » (1). الحديث.

والخامس : ما رواه الكليني في الحسن عن ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال : « قلت له : للاستنجاء حدّ؟ قال : لا ؛ ينقي مأثمه. قلت : فإنّه ينقي مأثمه ويبقى الريح؟ قال : الريح لا ينظر إليها » (2).

وبهذه الرواية الأخيرة احتجّ للقول بالتعميم جماعة من الأصحاب. وفي معناها الرواية التي قبلها بل هي أوضح دلالة منها لكنّهما ليستا من الصحيح فيشكل التعلّق بهما في تأسيس حكم شرعيّ.

وساير الأخبار إنّما تدلّ على قيام امور مخصوصة فينبغي الاقتصار على ما دلّت عليه. مع أنّ الحديث المتضمّن للمدر والخرق منقطع الإسناد بحسب الظاهر فينحصر الأمر في الكرسف.

ولكنّ الذي يقوى في نفسي عدم الانقطاع في نحو هذا الخبر ممّا يقع الإسناد فيه إلى المضمر ، كما سبق تحقيقه في بحث الدم إذ الظاهر عود الضمير في مثله إلى المعصوم بقرينة الحال ومعونة ما ظهر من عادتهم في هذا الاستعمال.

ثمّ إنّ بقيّة الأقوال التي حكيناها لم نقف لشي ء منها على حجّة.

وثانيها : اعتبار العدد بالفعل أو القوّة.

فقال جمع من الأصحاب بالأوّل ، وصار آخرون إلى الثاني ، وفرضوا النزاع في الحجر الذي له ثلاث شعب.

فحكى العلّامة عن الشيخ أنّه قال : لو استعمل ذا الجهات الثلاث أجزأ

ص: 748


1- تهذيب الأحكام 1 : 47 ، الحديث 134.
2- الكافي 3 : 17.

عند بعض أصحابنا والأحوط اعتبار العدد (1). ثمّ إنّ العلّامة اختار القول بالإجزاء (2) ، وذكر أنّه اختيار ابن البرّاج أيضا ووافقهم عليه الشهيد والشيخ علي.

وذهب المحقّق وجماعة من المتأخّرين منهم والدي رحمه اللّه إلى عدم الإجزاء (3).

احتجّوا للأوّل بأنّ المراد من الأحجار الثلاثة المأمور بها ثلاث مسحات بحجر كما لو قيل اضربه عشرة أسواط. فإنّ المراد عشرة ضربات بسوط.

وبأنّ المقصود إزالة النجاسة وهي حاصلة بذلك.

وبأنّ الشعب لو انفصلت لأجزأت فكذا مع الاتّصال. قال في المختلف : وأيّ عاقل يفرّق بين الحجر متّصلا بغيره ومنفصلا.

وبأنّ الثلاثة لو استجمروا بهذا الحجر لأجزأ كلّ واحد عن حجر (4).

وبقول النبي صلى اللّه عليه وآله : « إذا جلس أحدكم لحاجته فليتمسّح ثلاث مسحات » (5).

واجيب عن هذه الوجوه كلّها.

أمّا الأوّل : فبظهور الفرق بين قول القائل اضربه عشرة أسواط وبين قوله أخرجه بثلاثة أسواط. والحكم في موضع البحث إنّما ورد بالصورة الثانية. وقد تنبّه لهذه التفرقة المحقّق في المعتبر فقال بعد أن احتجّ لعدم الإجزاء بظاهر الأمر بالثلاثة : ويمكن أن يقال المراد بالأحجار المسحات كما يقال :

ص: 749


1- منتهى المطلب 1 : 274 ، وراجع المبسوط 1 : 17.
2- ذكرى الشيعة : 21 ، والدروس الشرعية 1 : 89 ، وجامع المقاصد 1 : 96.
3- المعتبر 1 : 131 ، وروض الجنان : 24.
4- مختلف الشيعة 1 : 268.
5- عن مسند أحمد 3 : 336.

ضربته ثلاثة أسواط. والمراد ثلاث ضربات ولو بسوط واحد. ثمّ قال : ولعلّ الفرق يدرك بإدخال الباء (1).

وأمّا الثاني : فبأنّه إن اريد الإزالة المعتبرة شرعا فمسلّم ولكنّ المطالبة متوجّهة بإثبات حصولها حينئذ. وإن اريد مطلقا فهو في حيّز المنع.

وأمّا الثالث : فبأنّه قياس لحال الاتّصال على الانفصال ، واستبعاد التفرقة غير مسموع.

ويحكى عن العلّامة قطب الدين الرازي تلميذ الفاضل أنّه قال : أيّ عاقل يحكم على الحجر الواحد بثلاثة؟ (2) وأمّا الرابع : فبالفرق باستجمار الثلاثة واستجمار الواحد من حيث إنّ العدد صادق في الثلاثة دون الواحد.

وأمّا الاستناد إلى حديث المسحات فوقع في كلام الشهيد في الذكرى وتبعه الشيخ علي في شرح القواعد وليس بشي ء (3).

أمّا أوّلا : فلأنّه ليس من أحاديث الأصحاب ولا له ذكر في كتبهم.

وأمّا ثانيا : فلأنّه مطلق وأخبار الأحجار مقيّدة. فالمتّجه حمل الإطلاق على التقييد لا العكس.

ومن الجواب عن احتجاج الأوّلين يعلم (4) حجّة الآخرين.

وقد اعترضوا بأنّ ظاهر أخبار الأحجار لو كان مرادا لم يجزئ غيرها

ص: 750


1- المعتبر 1 : 131.
2- راجع روض الجنان : 25.
3- ذكرى الشيعة : 21 ، وجامع المقاصد 1 : 96.
4- في « ب » : تعلم حجّة الآخرين.

مطلقا.

واجيب بأنّ إجزاء غير الأحجار إنّما يثبت بدليل من خارج ، ولولاه لما كان عن الاقتصار عليها معدل.

وثالثها : إكمال العدد مع حصول النقاء بما دونه فقال أكثر الأصحاب بوجوبه وذهب العلّامة في المختلف إلى الاكتفاء بما يحصل به النقاء (1). وعزى القول بذلك إلى المفيد اعتمادا على نقل ابن إدريس له عنه (2).

حجّة الموجبين إطلاق الأمر بالعدد فيتوقّف الامتثال على حصوله. وأنّ زوال النجاسة حكم شرعي فيفتقر إلى سببه الشرعي ولم يثبت سببيّة ما دون الثلاثة.

واحتجّ العلّامة في المختلف : بأنّ القصد إزالة النجاسة وقد حصل فلا يجب الزائد. وأنّ الزائد لا يفيد تطهيرا لأنّ الطهارة حصلت بإزالة عين النجاسة فلا معنى لإيجاب الزائد. وبحديث ابن المغيرة السابق المتضمّن لقول أبي الحسن عليه السلام أنّه لا حدّ للاستنجاء إلّا نقاء مأثمه (3).

وأجاب عن حجّة الموجبين بأنّ إطلاق الأمر بالثلاثة بناء على الغالب من أنّ الإزالة لا تحصل إلّا بها.

وأنت بعد الإحاطة بأطراف الكلام في الموضعين الأوّلين (4) خبير بما يجيب به الموجبون. وعن كلام العلّامة في هذا الموضع.

ص: 751


1- مختلف الشيعة 1 : 268.
2- السرائر 1 : 96.
3- مختلف الشيعة 1 : 268.
4- في « ب » : في الموضعين الأخيرين.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ لهذه المسألة تتمّات وتفريعات يأتي بيانها في أحكام الخلوة إذ هي بذلك المقام ألصق.

مسألة [29] :
اشارة

ويكفي في إزالة النجاسة عن أسفل النعل والخفّ والقدم مسحه في الأرض أو المشي عليها.

ويعتبر ذهاب عين النجاسة بذلك حيث يكون لها عين.

وهذا الحكم ممّا لا يعرف فيه بين الأصحاب خلاف. إلّا أنّ العلّامة في التحرير استشكل ثبوته في القدم (1). وعزى في المنتهى القول بمساواته للنعل إلى بعض الأصحاب ثمّ ذكر أنّ في رواية صحيحة دلالة عليه. وقال بعد ذلك : وعندي فيه توقّف (2). مع أنّه جزم بالحكم في صدر المسألة وصرّح باستواء الثلاثة فيه. وإنّما ذكر ما حكيناه بعد فراغه من بحث المسألة وانتقاله إلى فروعها فذكر ذلك في جملة الفروع ، وكلامه في سائر كتبه التي رأيناها خال من هذا التوقّف مصرّح بالتسوية بين الثلاثة وكذا كلام جمهور المتأخّرين من الأصحاب.

وأمّا المتقدّمون فمنهم من صرّح بالتسوية ومنهم من اقتصر على الخفّ والنعل ولم يتعرّض للقدم بنفي ولا إثبات ، وجماعة منهم لم يذكروا المسألة من أصلها.

ص: 752


1- تحرير الأحكام 1 : 25.
2- منتهى المطلب 3 : 285.

فأمّا المصرّح بالتسوية فابن الجنيد حيث قال في مختصره : وإذا (1) وطئ الإنسان برجليه أو بما هو وقاء لهما نجاسة رطبة أو كانت رجله رطبة والنجاسة يابسة أو رطبة فوطئ بعدها نحو خمسة عشر ذراعا أرضا طاهرة يابسة طهر ما ماسّ النجاسة من رجله والوقاء لهما. ولو غسلها كان أحوط ولو مسحها حتّى تذهب عين النجاسة وأثرها بغير ماء أجزأه إذا كان ما مسحها به طاهرا (2).

وأمّا المقتصر على الخفّ والنعل فالمفيد وسلّار.

قال في المقنعة : وإذا داس الإنسان بنعله أو خفّه نجاسة ثمّ مسحها بالتراب طهرا بذلك (3).

وقال سلّار في رسالته : إزالة النجاسة على أربعة أضرب أحدها ما يمسح على الأرض والتراب ، وهو ما يكون في النعل والخفّ (4).

إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ الحجّة على الحكم من جهة النصّ عدّة روايات أقواها استنادا ما رواه الشيخ عن زرارة بن أعين في الصحيح قال : « قلت لأبي جعفر عليه السلام : رجل وطئ على عذرة فساحت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل يجب عليه غسلها؟ فقال : لا يغسلها إلّا أن يقذرها ولكنّه يمسحها حتّى يذهب أثرها ويصلّي » (5).

ص: 753


1- في « ب » : وإن وطئ.
2- غير موجود.
3- المقنعة : 72.
4- المراسم : 56.
5- تهذيب الأحكام 1 : 275 ، الحديث 809.

وهذه هي الرواية التي حكينا عن المنتهى الإشارة إليها عند توقّفه في أمر القدم. ولا يظهر للتوقّف وجه فإنّها نصّ فيه وهي أصحّ ما في الباب.

وروى الكليني في الصحيح عن ابن أبي عمير عن جميل بن صالح (1) عن الأحول عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثمّ يطأ بعده مكانا نظيفا؟ فقال : لا بأس ، إذا كان خمسة عشر ذراعا أو نحو ذلك » (2).

وروى عن محمّد بن مسلم في الحسن عن أبي جعفر عليه السلام في جملة حديث قال : « إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضا ».

وكأنّ المراد من هذه العبارة - بمعونة سياق الكلام الواقعة فيه وما يأتي في خبرين آخرين ذكرت فيهما - أنّ النجاسة الحاصلة في أسفل القدم وما هو بمعناه بملاقاة الأرض المتنجّسة على الوجه المؤثّر يطهر بالمسح في محلّ آخر من الأرض فسمّي زوال الأثر الحاصل من الأرض تطهيرا لها ، كما نقول الماء مطهّر للبول بمعنى أنّه مزيل للأثر الحاصل منه.

وعلى هذا يكون الحكم المستفاد من الحديث المذكور وما في معناه مختصّا بالنجاسة المكتسبة من الأرض النجسة.

وروى أيضا في الحسن عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن المعلّى ابن خنيس قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمرّ في الطريق فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافيا؟ فقال : أليس وراءه (3) شي ء

ص: 754


1- في « ب » : عن جميل بن درّاج.
2- الكافي 3 : 38.
3- في « أ » و « ب » : أليس رواه.

جاف؟ قلت : بلى. قال : فلا بأس ، إنّ الأرض تطهّر بعضها بعضا » (1).

وعن إسحاق بن عمّار عن محمّد الحلبي قال : « نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقال : أين نزلتم؟ فقلت : نزلنا في دار فلان. فقال : إنّ بينكم وبين المسجد زقاقا قذرا. أو قلنا له : إنّ بيننا وبين المسجد زقاقا قذرا. فقال :

لا بأس. الأرض تطهّر بعضها بعضا. قلت : فالسرقين الرطب أطأ عليه. فقال : يغرّك مثله » (2).

وروى الشيخ في الصحيح عن فضالة بن أيّوب وصفوان بن يحيى عن عبد اللّه بن بكير عن حفص بن أبي عيسى قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّي وطيت عذرة بخفّي ومسحته حتّى لم أر فيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال : لا بأس فيه » (3).

وهذه الأخبار وإن لم تكن نقيّة الأسانيد فإنّها معتضدة بالحديث الأوّل الصحيح. وكونه مختصّا بالقدم غير ضائر فإنّ ثبوت الحكم فيه يقتضي ثبوته في غيره بطريق أولى. ألا ترى أنّ الخفّ والنعل لا توقّف لأحد من الأصحاب في حكمهما على ما يظهر ، وقد حصل في القدم نوع توقّف.

ثمّ إنّ رواية الأحول تضمّنت اعتبار المشي نحو خمسة عشر ذراعا وقد مرّ ذلك في عبارة ابن الجنيد أيضا. ولعلّ الغرض منه بيان مقدار المشي الذي يحصل به زوال عين النجاسة في الغالب.

ص: 755


1- في « ب » و « أ » : إنّ الأرض تطهّر بعضها بعضا ، الكافي 3 : 39 ، الحديث 5.
2- الكافي 3 : 38.
3- تهذيب الأحكام 1 : 274 ، الحديث 808.

أمّا في الرواية فللتصريح في الخبر الصحيح بأنّ المسح المذهب للأثر كاف فلا بدّ من الجميع (1).

وأمّا في عبارة ابن الجنيد فلأنّه ذكر مضمون الحديث الصحيح في آخر عبارته كما رأيت. ورواية حفص بن أبي عيسى ليست بمفيدة للطهارة لو صحّ سندها كما لا يخفى ، إلّا أنّ الأصحاب ذكروها في دليل الحكم ، ولعلّ فيها نوع إشعار يحسن باعتباره جعلها مؤيّدة.

تذنيبات :
[ التذنيب ] الأوّل :

ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين أنّ إطلاق النصّ والفتوى يقتضي عدم الفرق في الأرض بين الطاهرة وغيرها.

وقد قطع الشهيد في الذكرى وجماعة باشتراط طهارتها (2). وصرّح ابن الجنيد في كلامه المحكيّ سابقا بذلك أيضا.

وإنّما وقع الإطلاق في فتوى المفيد (3) وسلّار (4) ، وفي عبارات الفاضلين (5).

فإطلاق القول بأنّ الفتاوى مطلقة ليس بجيّد.

وأمّا النصّ فأكثره مطلق أيضا. وربّما لاح من بعضه التقييد وذلك في رواية الأحول حيث قال فيها : « ثمّ يطأ بعده مكانا نظيفا ».

ص: 756


1- في « أ » و « ب » : فلا بدّ من الجمع.
2- ذكرى الشيعة : 15.
3- المقنعة : 72.
4- المراسم : 56.
5- المعتبر 1 : 447 ، ومنتهى المطلب 3 : 282.

ولا ريب أنّ اعتبار طهارتها أولى.

[ التذنيب ] الثاني :

ذهب جماعة من متأخّري الأصحاب إلى اشتراط الجفاف في الأرض. وقد مرّ في عبارة ابن الجنيد اشتراطه أيضا.

ونفاه العلّامة في النهاية فقال : لا فرق بين الدلك بأرض رطبة أو يابسة إذا عرف زوال العين. أمّا لو وطئ وحلا فالأقرب عدم الطهارة (1).

ووافقه على عدم الاشتراط والدي رحمه اللّه في الروضة والروض ، لكنّه اشترط عدم خروج الأرض بالرطوبة عن اسمها (2) ، وهو مستدرك. وذكر أنّ الرطوبة اليسيرة التي لا يحصل منها تعدّ غير قادحة على القولين.

والأحوط اشتراط الجفاف.

[ التذنيب ] الثالث :

قال العلّامة في النهاية : لو دلك النعل والقدم بالأجسام الصلبة كالخشب أو مشى عليها فإشكال (3).

ولعلّ منشأ الإشكال من إطلاق الحكم بالطهارة مع المسح المذهب للأثر في صحيح زرارة من دون تعرّض لكونه في الأرض. وساير الأخبار إن لم يكن فيها ما يوافقه فليست مخالفة له ، ولا فيها تقييد يدعو إلى حمل الإطلاق عليه.

ومن أنّ المعروف بين الأصحاب اختصاص الحكم بالأرض بحيث لا يعلم

ص: 757


1- نهاية الإحكام 1 : 291.
2- الروضة البهيّة 1 : 312 ، وروض الجنان : 170.
3- نهاية الإحكام 1 : 291.

بالتعدية إلى غيرها قائل.

ولا ريب أنّ الاقتصار على محلّ الوفاق أولى.

[ التذنيب ] الرابع :

ذكر جماعة من المتأخّرين : أنّ كلّ ما يجعل وقاية للرجل حال المشي ولو من الخشب كالقبقاب حكمه حكم النعل ، وأنّ خشبة الأقطع ملحقة بالقدم ، وقيل بالنعل.

وتردّد والدي في بعض كتبه في إلحاقها بأحدهما نظرا إلى عدم صدق شي ء منهما عليها (1) ، ولكنّه جزم بالحكم في غير موضع وجعلها ملحقة بالنعل تارة وردّد بين ذلك وبين إلحاقها بالقدم اخرى (2).

واستبعد بعض مشايخنا المعاصرين إلحاق القبقاب من حيث توقّفه على صدق اسم النعل عليه ورأى ذلك بعيدا.

والذي يختلج بخاطري تصويب ما حكم به الجماعة هنا مطلقا وإن كان الظاهر من حالهم الاستناد فيه إلى الأخبار الواردة في أصل الباب ، وهي غير ناهضة بإثبات الكلّ لما فيها من الإجمال.

فقد لاح لنا في ذلك وجه احتجاج تقدّم منّا إشارة إليه في البحث عن اعتبار تعدّد الغسل فيما عدا البول من النجاسات وسنوضحه في مسألة تطهير الشمس.

ص: 758


1- روض الجنان : 170.
2- الروضة البهيّة 1 : 313 ، ومسالك الأفهام 1 : 14 ، الطبعة الحجرية.
مسألة [30]
اشارة

وذهب جمع من الأصحاب منهم المحقّق في الشرائع (1) والعلّامة في أكثر كتبه (2) والشهيدان إلى أنّ الأرض إذا أصابتها نجاسة برطوبة مؤثّرة فيها ولم يكن لها عين كفى في زوال حكم تلك النجاسة عنها إشراق الشمس عليها وتجفيفها للرطوبة الحاصلة فيها (3).

وكذا لو كان لها عين وزالت بوجه غير مطهّر وبقي من ذلك رطوبة جفّفتها الشمس.

وألحقوا بالأرض في هذا الحكم كلّ ما لا ينقل ولا يحوّل في العادة كالأشجار والأبنية ، ومن المنقول الحصر والبواري لا غير.

ووقع بين علمائنا في هذه المسألة الاختلاف ، واضطربت فيها الفتاوى فذهب العلّامة في المنتهى إلى أنّ الحكم فيها مخصوص بالبول (4). وحكاه عن الشيخ في موضع من المبسوط (5) ، وذكر أنّه في موضع آخر منه أفتى بخلافه كالخلاف (6).

ص: 759


1- شرائع الإسلام 1 : 55.
2- نهاية الإحكام 1 : 290 ، ومختلف الشيعة 1 : 482.
3- الروضة البهيّة 1 : 314 ، وروض الجنان : 169.
4- منتهى المطلب 3 : 279.
5- المبسوط 1 : 93.
6- الخلاف 1 : 66 ، المسألة 186 ، والمبسوط 1 : 22.

وذهب المحقّق في النافع إلى أنّه مخصوص بالأرض والبواري والحصر (1). وهو قول الشيخ في الخلاف (2). وجمع المفيد في المقنعة وسلّار في رسالته بين التخصيصين المذكورين (3).

وحكى العلّامة في المختلف عن القطب الراوندي أنّه قال : الأرض والبارية والحصير هذه الثلاثة فحسب إذا أصابها البول فجفّفتها الشمس حكمها حكم الطاهر في جواز السجود عليها ما لم تصر رطبة أو لو يكن الجبين رطبا (4).

وذكر المحقّق في المعتبر أنّ الراوندي وصاحب الوسيلة ذهبا إلى أنّ الأرض والبواري والحصر إذا أصابها البول وجفّفته الشمس لا يطهر بذلك ولكن تجوز الصلاة عليها. قال : وهو جيّد (5).

ثمّ إنّه احتجّ بعد ذلك للقول بالطهارة وسيأتي حكاية كلامه فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ أكثر الأصحاب اقتصروا في هذه المسألة على مجرّد الفتوى ، وأطنب جماعة من المتأخّرين في تفصيل فروعها وتقرير سبقها معرضين عن التعرّض لتحقيق دليلها وهو عجيب.

وقد احتجّ العلّامة في المختلف للقول الأوّل برواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سئل عن الشمس هل تطهّر الأرض؟ قال : إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثمّ يبس الموضع فالصلاة

ص: 760


1- المختصر النافع 1 : 19.
2- الخلاف 1 : 495.
3- المقنعة : 71 ، والمراسم : 56.
4- مختلف الشيعة 1 : 483.
5- المعتبر 1 : 446.

على الموضع جائزة (1).

ووجه الدلالة فيها بأنّ السؤال وقع عن الطهارة فلو لم يكن في الجواب ما يفهم السائل منه الطهارة أو عدمها لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. لكنّ الجواب الذي وقع لا يناسب النجاسة فدلّ على الطهارة.

وبرواية أبي بكر عن أبي جعفر عليه السلام قال : « يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر » (2).

وبأنّ المقتضي للتنجيس هو الأجزاء التي عدمت بإسخان الشمس فيزول الحكم.

واحتجّ في المنتهى برواية عمّار السابقة (3) ، ورواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن البواري يصيبها البول هل يصلح الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن يغسل؟ قال : نعم لا بأس » (4).

وبرواية أبي بكر المتقدّمة (5).

وذكر أنّ ابن إدريس قال : إنّها رواية شاذّة. ثمّ قال : ونحن نقول إنّها لا تحمل على إطلاقها بل على الأرض والبواري وشبهها توفيقا بين الأدلّة (6).

وبرواية زرارة قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن البول يكون على السطح

ص: 761


1- تهذيب الأحكام 2 : 372 ، الحديث 1584 ، و 1 : 272 ، الحديث 802.
2- تهذيب الأحكام 1 : 273 ، الحديث 804.
3- تهذيب الأحكام 1 : 272 ، الحديث 802.
4- تهذيب الأحكام 1 : 273 ، الحديث 803.
5- الحديث 804.
6- منتهى المطلب 3 : 276.

أو في المكان الذي اصلّي فيه؟ فقال : إذا جفّفته الشمس فصلّ عليه فهو طاهر » (1).

وبأنّ حرارة الشمس تفيد تسخينا وهو يوجب تبخير الأجزاء الرطبة وتصعيدها والباقي تشربه الأرض فيكون الظاهر طاهرا.

ثمّ إنّه حكى عن الشيخ في المبسوط القول باختصاص الحكم بالبول وقال : « إنّه جيّد ؛ لأنّ الروايات الصحيحة إنّما تضمّنت البول فالتعدية بغير دليل لا يجوز ». قال : « ورواية عمّار وإن دلّت على التعميم إلّا أنّها لضعف سندها لم يعوّل عليها ». وذكر بعد ذلك أنّ غير الأرض والبواري والحصر من الثياب والأواني وغيرها ممّا ينقل ويحوّل لا يطهر. قال : « أمّا ما لا ينقل ممّا ليس [ بأرض ] كالنباتات وغيرها فالوجه الطهارة دفعا للمشقّة » (2).

واحتجّ الشيخ في الخلاف (3) بإجماع الفرقة على ذلك وبروايتي عمّار وعليّ بن جعفر المذكورتين في احتجاج العلّامة. ثمّ قال : ويمكن أن يستدلّ على ذلك بقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فحيثما أدركتني الصلاة صلّيت » (4). قال : وهذا عامّ لأنّه لم يستثن. وذكر المسألة في موضع آخر من الخلاف (5). واحتجّ لها بإجماع الفرقة ، وروايتي عمّار وأبي بكر.

ص: 762


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 157 ، الحديث 732.
2- منتهى المطلب 3 : 279.
3- الخلاف 1 : 186 ، المسألة 236.
4- عن صحيح البخاري 1 : 91.
5- الخلاف 1 : 219.

وحكى المحقّق في المعتبر احتجاج الشيخ بغير رواية أبي بكر ، وقال : إنّ في استدلاله بالروايات إشكالا ؛ لأنّ غايتها الدلالة على جواز الصلاة عليها ، ونحن فلا نشترط طهارة موضع الصلاة ، بل نكتفي باشتراط طهارة موضع الجبهة. وقال :

ويمكن أن يقال : الإذن في الصلاة عليها مطلقا دليل على جواز السجود عليها ، والسجود يشترط طهارة محلّه.

ثمّ قال : ويمكن أن يستدلّ بما رواه أبو بكر الحضرمي وذكر الرواية السابقة ، وبأنّ الشمس من شأنها الإسخان والسخونة تلطّف الأجزاء الرطبة وتصعدها فإذا ذهب أثر النجاسة دلّ على مفارقتها المحلّ والباقي تحيله الأرض إلى الأرضيّة فيطهر لقول أبي عبد اللّه عليه السلام : « التراب طهور » (1).

وهذا الاحتجاج من المحقّق بعد اختياره لمذهب الراوندي يدلّ على التردّد في الحكم أو الرجوع إلى ترجيح جانب الطهارة. ويؤيّد هذا أنّه بعد ذكره لهذه المسألة بقليل ذكر مسألة تطهير الأرض من البول بإلقاء الذنوب.

واستضعف حجّة الشيخ فيها ثمّ قال : وإذا تقرّر هذا فبما ذا تطهر؟ الوجه أنّ طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتّى يستهلك النجاسة أو يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليه الشمس حتّى يجفّ بها (2).

وذكر العلّامة في المختلف : أنّ النافين للطهارة هنا احتجّوا بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال : « سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول أو ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال : كيف تطهر من

ص: 763


1- المعتبر 1 : 446.
2- المعتبر 1 : 448 - 449.

غير ماء؟ » (1).

وبأنّ الاستصحاب يقتضي الحكم بالنجاسة ، وتسويغ الصلاة لا يدلّ على الطهارة ؛ لجواز أن يكون معفوّا عنه كما في الدم اليسير (2).

وهذه الحجج كلّها مدخولة.

أمّا حجّة المختلف فلأنّ روايتي عمّار وأبي بكر ضعيفتان واللازم من جعله المقتضي للتنجيس هو الأجزاء التي عدمت بإسخان الشمس أن يكون المقتضي للطهارة زوال العين كيف اتّفق ، وهو لا يقول به.

وأمّا حجّة المنتهى فرواية عمّار وقد علم حالها. وكذا رواية أبي بكر. ورواية عليّ بن جعفر وإن كانت صحيحة السند إلّا أنّها مخصوصة بالبواري مطلقة في الجفاف (3).

وفي معناها رواية اخرى صحيحة السند عن عليّ بن جعفر أيضا عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن البواري ، بلّ قصبها بماء قذر أيصلّي عليه؟ قال : إذا يبست فلا بأس » (4).

ورواية زرارة معتبرة الإسناد واضحة المتن في كتاب من لا يحضره الفقيه لكنّها مخصوصة بالأرض (5).

ولزرارة رواية اخرى في الكافي والتهذيب صحيحة السند وصورة متنها

ص: 764


1- تهذيب الأحكام 1 : 273 ، الحديث 805.
2- مختلف الشيعة 1 : 483.
3- في « ب » : مطلقة بالجفاف.
4- تهذيب الأحكام 2 : 373 - 374 ، الحديث 1553.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 244 ، الحديث 732.

هكذا : « قلنا لأبي عبد اللّه عليه السلام : السطح يصيبه البول أو يبال عليه ، أيصلّى في ذلك الموضع؟ فقال : إن كان يصيبه الشمس والريح وكان جافّا فلا بأس به إلّا أن يكون يتّخذ مبالا » (1).

وهذه الرواية مع عدم صراحتها في الطهارة تشارك الاولى في الاختصاص بالأرض.

والاعتماد في التعميم على رفع المشقّة مشكل ؛ إذ المعهود فيما يثبت (2) لدفع المشقّة أن يتقدّر بقدرها ، ولا سبيل إلى ادّعاء حصولها في موضع النزاع مطلقا.

وكون حرارة الشمس مفيدة للتسخين فقد بيّنا ما فيه.

وأمّا حجّة الخلاف فحال الإجماع عند الشيخ معلوم ، والروايات ذكرنا ما فيها. واستدلاله بالحديث النبويّ ركيك جدّا.

وقول المحقّق في توجيه الإشكال الذي أورده على استدلال الشيخ : « ونحن لا نشترط طهارة موضع الصلاة بل نكتفي بطهارة موضع الجبهة » (3) عجيب ؛ إذ مقتضاه نفي تأثير الشمس بكلّ وجه وهو خلاف مذهب الراوندي على ما في عبارته التي حكاها الفاضل في المختلف ؛ لتصريحه فيها بجواز السجود على ما جففته الشمس بشرط انتفاء الرطوبة. وفي ذلك نوع خصوصيّة للشمس كما لا يخفى.

وأمّا على ما ذكره المحقّق فلا أثر لها أصلا ولا نعرف ذلك بين الأصحاب

ص: 765


1- الكافي 3 : 302 ، الحديث 23 ، وتهذيب الأحكام 2 : 376 ، الحديث 1567.
2- في « ب » : المعهود فيما ثبت.
3- المعتبر 1 : 446.

في المسألة قولا.

ودفعه للإشكال بأنّ الإذن في الصلاة مطلقا دليل على جواز السجود ، والطهارة شرط فيه إنّما يجدي لو لم يكن بجواز السجود مع الحكم بالنجاسة قائل ، وقد عرفت أنّ الراوندي يقول به.

ولو جعل وجه الدفع دلالة الإذن في الصلاة مطلقا على جواز السجود مع رطوبة الجبهة بعرق ونحوه - بل وعلى المباشرة بباقي المساجد المكشوفة في الغالب كاليدين وإن كانت رطبة - وهو يقتضي الطهارة كان وجها. إلّا أنّ هذا إنّما يتمّ في روايتي عليّ بن جعفر وحديث زرارة المرويّ في الكافي والتهذيب (1).

وأمّا رواية عمّار فظاهرها اشتراط عدم الرطوبة حيث قال فيها : « وإن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلّ على ذلك الموضع ».

وإنّما جعلناه ظاهرا ؛ لأنّ في متن الرواية ركاكة واختلافا يحتمل معهما تعلّق الشرط بما يجفّ بغير الشمس.

واحتجاجه بعد ذلك برواية أبي بكر وما معها يرد عليه ما ورد على احتجاج العلّامة بمثله.

ويبقى الكلام على حجّة النافين للطهارة وقد أجاب في المختلف عن الوجه الأوّل منها بأنّ الرواية متناولة لجواز حصول اليبوسة من غير الشمس (2).

وتحقيقه : أنّ التعارض واقع بين الرواية المذكورة ورواية زرارة الاولى.

ص: 766


1- راجع الصفحة 764 من هذا الكتاب.
2- مختلف الشيعة 1 : 484.

وهما من جهة الاستناد (1) سواء.

ومتن رواية زرارة بعيد عن التأويل لصراحته في الطهارة. فتعيّن جعل التأويل في الاخرى وذلك بحملها على كون النجاسة جافّة ، فيتوقّف طهرها بالشمس على ترطيبها بالماء وتجفيف الشمس لها ، أو يراد من الماء الرطوبة الحاصلة من النجاسة فكأنّه قال : هل تطهر بإشراق الشمس عليها وهي جافّة؟ فأجاب بإنكار تأثيرها في الجافّ.

ويحتمل أيضا أن يكون إنكار الطهارة بغير ماء عائدا إلى مجموع ما وقع عنه السؤال ، بعد حمل المشابهة فيما أشبه البول على المماثلة في النجاسة ، فيتناول النجاسات التي لها أعيان كالدم ، وتأثير الشمس فيما له عين إنّما يتصوّر بعد زوال عينه فيرجع حاصل الإنكار إلى أنّ من النجاسات ما له عين وهذا النوع لا سبيل إلى طهارته بالشمس إلّا بتوسّط الماء ، وذلك يجعله مانعا على وجه يمكن تجفيف الشمس له وتذهب بالجفاف عينه.

وأجاب عن الثاني بأنّ حكم الاستصحاب ثابت مع بقاء الأجزاء النجسة. أمّا مع عدمها فلا. والتقدير عدمها بالشمس (2).

وهذا الكلام من العلّامة غريب ؛ إذ المعروف من مذهبه قبول مثل هذا الاستصحاب والاعتداد به.

نعم هو - على ما سلف تحقيقه في المباحث الاصوليّة واخترناه وفاقا للمرتضى والمحقّق - من الاستصحاب المردود ؛ لأنّ ما دلّ من النصوص على تأثير النجاسات والتأثير بها على وجه يبقى - وإن لم تبق أعيانها -

ص: 767


1- في « ب » : من جهة الإسناد.
2- مختلف الشيعة 1 : 483.

مقصور على البدن والثوب والآنية كما يشهد به الاستقراء والتتبّع. وإنّما استفيد الحكم فيما عدا ذلك من الإجماع.

وأكثر ما يكون الاستصحاب المردود فيما يدركه الإجماع ؛ لأنّ الحكم الثابت به في موضع الحاجة إلى الاستصحاب يكون لا محالة مخصوصا بحال اولى فيطلب بالاستصحاب انسحابه إلى حال ثانية. وقد مرّ أنّ اعتبار الاستصحاب حينئذ إثبات للحكم بغير دليل (1).

ومن هنا يتّجه في موضع النزاع أن يقال : إنّ الدليل الدالّ على تأثّر الأرض والحصر والبواري وكلّ ما لا ينقل في العادة بالنجاسة مختصّ بالحال التي قبل زوال العين عنها وتجفيف الشمس لها ؛ لانتفاء الإجماع فيما بعد ذلك قطعا (2) ، فمن ادّعى ثبوت الحكم في الحال التي بعد فهو مطالب بالبرهان عليه وليس في يده غير الاستصحاب. ولا يقبل منه (3).

فإن قلت : كأنّ الاتّفاق واقع على أنّ للنجاسات المعلومة أثرا في كلّ ما يلاقيه برطوبة مستمرّا إلى أن يحصل المطهّر الشرعي فيفتقر كلّ نوع من أنواع المطهّرات إلى دليل يثبته.

قلت : هذا كلام ظاهريّ يقع في خاطر العاجز عن استنباط بواطن الأدلّة ، ويلتفت إليه القانع بالجمل عن التفاصيل. وما قرّرناه أمر وراء ذلك.

وبالجملة : فالذي يقتضيه التحقيق أنّه لا معنى لكون الشي ء نجسا إلّا دلالة الدليل الشرعيّ على التكليف باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة أو إزالة عينه

ص: 768


1- في « ب » : يكن إثبات للحكم بغير دليل.
2- في « أ » : فيما بعده قطعا. وفي « ب » : فيما ورد بعد ذلك قطعا.
3- في « أ » و « ب » : ولا يقبل.

أو أثره لأجله ، وأنّ ما لا دليل فيه على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى أصالة براءة الذمّة من التكليف فيه بأحدهما.

وأمّا ما يتخيّل من أن يكون كلّ نوع من أنواع النجاسات بمنزلة العلّة الحقيقيّة في التأثير ، فكلّ ما لاقاه برطوبة أثّر فيه النجاسة وتوقّف في عوده إلى الطهارة على طروّ المطهّر فمن الأوهام التي يظهر فسادها بأدنى تأمّل ولا يستريح إلى أمثالها محصّل.

فإن قلت : هب أنّ الأمر فيما استفيد حكمه من الإجماع كما ذكرت - من أنّه يجب الوقوف فيه مع الحال التي انعقد الإجماع على ثبوت التنجيس فيها وبقاؤه فيما بعدها على حكم الطهارة - فلم أدخلت الأرض في جملته مع أنّ الأخبار الواردة في شأنها مع الشمس وإن كانت مختلفة في الدلالة على الطهارة فهي مختلفة على تأثّرها (1) بالنجاسة فيكون من قبيل ما ثبت (2) حكمه بالنصّ.

قلت : القدر المستفاد من الأخبار المذكورة هو ثبوت التنجيس لها في حال وجود عين النجاسة وهو حكم خاصّ كالمستفاد من الإجماع. بخلاف الأخبار الواردة في الثوب والبدن والآنيّة ؛ فإنّ فيها تصريحا بثبوت الحكم حيث لا عين. فاتّضح الفرق.

فإن قلت : ليس في خبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع ما يقتضي كون الحكم خاصّا. أمّا مع إبقائه على ظاهره فظاهر ، وأمّا على تأويله فلأنّه لا عين هناك يستند التنجيس إليها ويصير الحكم خاصّا بسببها.

ص: 769


1- في « ب » : مختلفة على تأثيرها بالنجاسة.
2- في « ب » : من قبيل ما يثبت حكمه.

قلت : لو ابقي حديث ابن بزيع على ظاهره لسقطت هذه المباحث من أصلها ، لكنّ المعارض أخرجه عن الظاهر فانتفى احتمال النظر إليه.

وأمّا خلوّه من المقتضي لكون الحكم خاصّا بحال وجود العين كما في الأخبار الاخر فمسلّم إن أوّلناه بأحد الوجهين اللذين ذكرناهما أوّلا. ولكنّه يصير حينئذ خاصّا بحال جفاف النجاسة بغير الشمس فلا ينافي ما قلناه.

وأمّا على تأويله بالوجه الأخير فاختصاصه بحال وجود العين ظاهر.

فإن قلت : إذا كان الحكم بنجاسة الأرض بعد ذهاب العين في صورة جفافها بغير الشمس ثابتا بالنصّ فالمتّجه عدم طهارتها بالشمس لو عادت إليها الرطوبة بوجه غير مطهّر وجفّفتها الشمس تمسّكا بالاستصحاب المقبول.

قلت : طهارة الأرض بتجفيف الشمس للرطوبة الحاصلة فيها من عين البول ثابتة بخبر زرارة السابق ، فطهارتها بتجفيف الشمس للرطوبة الحاصلة من الماء المنفعل بالبول أولى. وقد مرّ نظير هذا في الدم المعفوّ عنه حيث ألحقوا به في العفو ما يتنجّس به نظرا إلى الأولويّة المذكورة.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

جمهور الأصحاب على أنّ الجفاف الحاصل بغير الشمس لا يثمر طهارة.

وقال الشيخ في الخلاف : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها الشمس أو هبّت عليها الريح حتّى زالت عين النجاسة فإنّها تطهر ويجوز السجود عليها ، والتيمّم بترابها وإن لم يطرح عليها الماء.

واحتجّ للحكم بإجماع الفرقة ، وقوله تعالى ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (1).

ص: 770


1- سورة المائدة : 6 ، وسورة النساء : 43.

قال : والطيّب ما لم يعلم فيه نجاسة. ومعلوم زوال النجاسة عن هذه الأرض ، وإنّما يدّعى حكمها ، وذلك يحتاج إلى دليل (1). هذه عبارته.

وذكر في موضع آخر من الكتاب بعد هذا : أنّ البول إذا أصاب موضعا من الأرض وجفّفته الشمس طهر الموضع ، وإن جفّ بغير الشمس لم يطهر (2).

وقد حكى كلام الشيخ هنا جماعة من الأصحاب منهم العلّامة في المنتهى والمختلف. وذكر أنّ ابن إدريس أخذ على الشيخ ذلك. قال في المختلف : والظاهر أنّ مراد الشيخ بهبوب الرياح المزيلة للأجزاء الملاقية للنجاسة الممازجة لها ، وليس مقصود الشيخ ذهاب الرطوبة عن الأجزاء كذهابها بحرارة الشمس (3).

وفي هذا العمل تعسّف ظاهر. ولو لا مخالفة الشيخ نفسه في هذا الحكم لم يكن بذلك البعيد ؛ لما علم من أنّ الدليل على ثبوت التنجيس في مثله بعد ذهاب العين منحصر في الإجماع ، والشيخ قد ادّعى الإجماع على الطهارة ، فلا أقلّ من أن يكون ذلك دليلا على انتفاء الإجماع على النجاسة.

وربّما يظنّ كون حديث محمّد بن إسماعيل بن بزيع منافيا له من حيث دلالته - بعد التأويل - على نفي الطهارة مع الجفاف بغير الشمس. وليس الأمر كذلك ؛ فإنّه بعد صرفه عن ظاهره محتمل لوجوه من التأويل ولا مرجّح لبعضها على بعض ، وهو على الاحتمال الذي ذكرناه أخيرا مساو لباقي الأخبار ، فلا يكون وجه المنافاة فيه ظاهرا.

ص: 771


1- الخلاف 1 : 218.
2- الخلاف 1 : 495.
3- مختلف الشيعة 1 : 482.

وقد روى الصدوق عن عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ، ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال : نعم » (1).

وهذا الحديث يصلح شاهدا على هذا الحكم بالتقريب الذي مرّ في الاستدلال لتطهير الشمس بالرواية المتضمّنة لتسويغ الصلاة على ما جفّفته وهو : إنّ الإذن في الصلاة مطلقا يقتضي عدم الفرق بين رطوبة الجبهة ويبوستها وذلك دليل الطهارة. إلّا أنّ هذا لو تمّ في ما نحن فيه لاقتضى حصول الطهارة بمطلق الجفاف ؛ إذ لا تعرّض في الخبر للريح ، ولا قائل بالعموم في ما نعلم.

وربّما يجعل ذلك وجها لحمل الخبر على إرادة الجفاف الحاصل بالريح ليسلم من الإشكال المخالفة لما عليه الأصحاب.

وبالجملة فلو لا أنّ الشيخ صرّح بالرجوع عمّا صار إليه في هذا الحكم لكان السبيل إلى توجيهه ميسّرا.

[ الفرع ] الثاني :

عدّ جماعة من المتأخّرين فيما تطهّره الشمس ممّا لا ينقل الثمرة على الشجرة.

وصرّح العلّامة في النهاية بخلافه ، فأخرجها من عداد ما لا ينقل عند تمثيله له (2).

وما ذكره الجماعة أقرب إلى الاعتبار وإن كان إلحاقها بالمنقول إذا صارت في محلّ القطع أولى.

ص: 772


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 245 ، الحديث 736.
2- نهاية الإحكام 1 : 290.
[ الفرع ] الثالث :

ربّما لاح من احتجاج العلّامة في المنتهى لتطهير الشمس بالوجه الاعتباري الذي سبق نقله في حكاية كلامه - أعني كون حرارتها مفيدة للتسخين إلى قوله : « والباقي تشربه الأرض فيكون الظاهر طاهرا » (1) - إنّ الذي يطهر بالشمس ظاهر الأرض دون باطنها. وقد نصّ جمع من متأخّري الأصحاب على أنّ الباطن فيما تطهّره الشمس كالظاهر فيطهر إذا جفّ الجميع بها وكانت النجاسة متّصلة كالأرض التي دخلت فيها النجاسة. أمّا مع الانفصال كوجهي الحائط إذا كانت النجاسة فيهما غير خارقة فتختصّ الطهارة بما صدق عليه الإشراق. وهو متّجه.

مسألة [31] :
اشارة

والمشهور بين علمائنا أنّ النار مطهّرة لما يستحيل بها رمادا من الأعيان النجسة.

واحتجّ لذلك الشيخ في الخلاف بإجماع الفرقة وبما رواه الحسن بن محبوب في الصحيح : « أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عن الجصّ يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ، ويجصّص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب إليه بخطّه : إنّ الماء والنار قد طهّراه » (2).

ويظهر من المحقّق في المعتبر نوع توقّف في الحكم حيث عزاه إلى الشيخ وذكر احتجاجه بما حكيناه. ثمّ قال : وفي احتجاج الشيخ إشكال. أمّا الإجماع

ص: 773


1- منتهى المطلب 3 : 276.
2- الخلاف 1 : 500 ، والكافي 3 : 23 ، وتهذيب الأحكام 2 : 235 ، الحديث 928.

فهو أعرف به ونحن فلا نعلمه هنا. وأمّا الرواية فمن المعلوم أنّ الماء الذي يمازج الجصّ هو ما يجبل به وذاك لا يطهّر إجماعا. والنار لم تصيّره رمادا ، وقد اشترط صيرورة النجاسة رمادا. وصيرورة العظام والعذرة رمادا بعد الحكم بنجاسة الجصّ غير مؤثّر طهارته.

قال : ويمكن أن يستدلّ بإجماع الناس على عدم التوقّى من دواخن السراجين النجسة ، فلو لم يكن طاهرا بالاستحالة لتورّعوا منه (1). هذا كلام المحقّق.

وقد اقتفى الفاضل في المنتهى أثره في الكلام على الخبر فقال : إنّ في الاستدلال به إشكالا من وجهين.

أحدهما : أنّ الماء الممازج هو الذي يجبل (2) به وذاك غير مطهّر إجماعا.

والثاني : أنّه حكم بنجاسة الجصّ ثمّ بتطهيره ، قال : وفي نجاسته بدخان الأعيان النجسة إشكال (3).

وأنت إذا تأمّلت كلامي هذين الفاضلين علمت أنّ منشأ الإشكال من إسناد الطهارة في الخبر إلى الماء ؛ فإنّهما فهما منه الحكم بنجاسة الجصّ نفسه فجاء الإشكال.

والحقّ أنّ ذلك بعيد لخلوّ الكلام في السؤال والجواب عن الإشعار به إلّا من الجهة المذكورة وهي بمجرّدها لا تقتضي المصير إليه.

ص: 774


1- المعتبر 1 : 452.
2- وفي النسخة المحقّقة : هو الذي يحلّ به.
3- منتهى المطلب 3 : 288.

وإنّما يخرج إلى ارتكاب (1) التأويل باعتبار ما في ذلك من المخالفة لمقتضى القواعد ؛ إذ مع طهارة الجصّ لا يفيده الماء تطهيرا ، والعذرة الموقدة عليه إن خرجت عن حقيقتها خروجا يوجب دخولها في حقيقة الأجسام الطاهرة لم يحتج إلى الماء ، وإن بقيت على حكمها هنا لم يفدها طهارة.

والمتّجه عندي في تأويله : حمل الطهارة المستندة إلى الماء على معناها اللغوي ؛ لأنّ الماء يفيد الجصّ نوع تنظيف ربّما تزول معه النفرة الحاصلة من اشتماله على العذرة والعظام المحترقة. وقد أشرنا إلى هذا فيما سبق.

ثمّ إنّ إرادة المعنى المذكور من تطهير الماء له غير منافية لإرادة المعنى الشرعي من تطهير النار ؛ لأنّ ضرورة مطابقة الجواب للسؤال يقتضي حصول الطهارة شرعا للعذرة حينئذ ، ولا وجه له إلّا تأثير النار فيها ، ولا مانع من الجمع بين إرادتي المعنيين مع قيام القرينة على ما بيّناه فيما سلف. ويجوز أيضا جعله من باب عموم المجاز.

ثمّ إنّ قول المحقّق : « إنّ النار لم تصيّره رمادا » إلى آخره ، يريد به أنّ الجصّ لا يطهر بالنار ؛ لأنّه لا يصير بها رمادا ، وقد شرط الشيخ ذلك في حصول الطهارة بالنار. وصيرورة العذرة والعظام رمادا لا يقتضي طهارة الجصّ بعد أن حكم بنجاسته.

ولا وجه لهذا الكلام ؛ لأنّ المستفاد من ظاهر السؤال أنّ العذرة تحرق على الجصّ بحيث يختلط به ؛ وإن غرض السائل معرفة حالها بعد الإحراق ؛ فإنّ بقاءها على النجاسة يوجب نجاسة الجصّ لملاقاتها له برطوبة الجبل. وقد وقع الجواب مصرّحا بطهارتها وهو دليل واضح على الحكم لا غبار عليه.

ص: 775


1- في « أ » : وإنّما يحوج إلى ارتكاب التأويل ، وفي « ب » : وإنّما يخرج على ارتكاب التأويل.

وبهذا يظهر ما في استدلال المحقّق بإجماع الناس على عدم التوقّي من دواخن السراجين ، وما في قول الفاضل أنّ في نجاسة الجصّ بدخان الأعيان النجسة إشكالا فليتأمّل.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ مورد الحديث كما علمت هو استحالة عين النجاسة وقد وقع في كلام أكثر الأصحاب فرض المسألة كما في النصّ.

وعمّم بعضهم الحكم على وجه يتناول المتنجّس أيضا ؛ نظرا إلى أنّ ثبوت ذلك في أعيان النجاسات يقتضي ثبوته في المتنجّس بها بطريق أولى وهو جيّد.

ويؤيّده ملاحظة ما قرّرناه في تطهير الشمس من كون دليل التنجيس في أمثال ذلك غالبا هو الإجماع ، وانتفاؤه بعد الاستحالة معلوم.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

ذكر جمع من الأصحاب أنّ الدخان المستحيل من الأعيان النجسة طاهر أيضا كالرماد ولم نقف فيه على نصّ.

وربّما استفيد حكمه من الرماد بمفهوم الموافقة ؛ لأنّ تغيّر الحقيقة فيه أقوى.

ونقل بعضهم فيه الإجماع ولم يتعرّض له المحقّق في المعتبر ، وذكره في الشرائع في كتاب الأطعمة مع الرماد. وتردّد في طهارتهما (1).

ويعزى إلى الشيخ في المبسوط القول بنجاسة دخان الدهن النجس ؛ معلّلا بأنّه لا بدّ أن يتصاعد من أجزائه قبل إحالة النار لها شي ء بواسطة السخونة (2).

وفي التعليل نظر.

ص: 776


1- شرائع الإسلام 3 : 226.
2- المبسوط 6 : 283 - 284.

وذكر العلّامة في النهاية - بعد أن حكم بطهارة الدخان مطلقا للاستحالة كالرماد - : أنّه لو استصحب شيئا من أجزاء النجاسة باعتبار الحرارة المقتضية للصعود فهو نجس. قال : ولهذا نهي عن الاستصباح بالدهن النجس تحت الظلال لعدم انفكاك ما يستحيل من الدخان عن استصحاب أجزاء دهنيّة اكتسبت حرارة أوجبت ملاقاة الظلّ (1).

ولما ذكره أوّلا وجه. وأمّا كونه هو المقتضي للنهي المذكور ففيه نظر لا يخفى.

[ الفرع ] الثاني :

ألحق بعض المتأخّرين بالرماد الفحم محتجّا بزوال الصورة فيه والاسم.

وتوقّف والدي رحمه اللّه في ذلك (2). وكلام المتقدّمين خال من التعرّض له.

والتوقّف في محلّه وإن كانت استحالته عن عين نجاسة. أمّا إذا كان مستحيلا عن منجّس كالحطب النجس فليس بالبعيد طهارته ؛ نظرا إلى ما قلناه في استحالة هذا النوع رمادا.

[ الفرع ] الثالث :

قال في المنتهى : البخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمع منه نداوة على جسم صقيل وتقاطر فهو نجس إلّا أن يعلم تكوّنه من الهواء كالقطرات الموجودة على طرف إناء في أسفله نجس فإنّها طاهرة (3). وما قاله متّجه.

ص: 777


1- نهاية الإحكام 1 : 292.
2- روض الجنان : 170.
3- منتهى المطلب 3 : 292.
مسألة [32] :

واختلف أصحابنا في طهارة الطين النجس بالنار إذا أحالته خزفا أو آجرا.

فذهب الشيخ في الخلاف والعلّامة في النهاية وموضع من المنتهى والشهيد في البيان إلى طهارته (1).

وتوقّف المحقّق في المعتبر والعلّامة في موضع آخر من المنتهى (2). وجزم جماعة من المتأخّرين ، منهم والدي رحمه اللّه بعدم طهارته.

والأقرب الأوّل.

لنا : أصالة الطهارة بالتقريب السابق في تطهير الشمس ، وملاحظة كون مدرك الحكم بالتنجيس في مثله بعد ذهاب العين هو الإجماع ولا ريب في انتفائه بعد الطبخ. كيف! وقد احتجّ الشيخ في الخلاف للطهارة بإجماع الفرقة (3) فلا أقل من دلالته على نفي الإجماع على ثبوت التنجيس حينئذ ، وقد علم أنّ الاستصحاب فيما مدركه الإجماع مطرح. وإذا لم يكن على الحكم بالنجاسة فيما بعد الطبخ دليل فالأصل يقتضي براءة الذمّة من التكليف باجتنابه أو تطهير ما يلاقيه برطوبة لأجل فعل مشروط بالطهارة.

احتجّ والدي رحمه اللّه بأنّه لم يخرج بالطبخ عن مسمّى الأرض كما لم يخرج الحجر عن مسمّاها مع كونه أقوى تصلّبا منه ، واستوائهما في العلّة المقتضية

ص: 778


1- الخلاف 1 : 499 ، ونهاية الإحكام 1 : 291 ، والبيان : 92.
2- المعتبر 1 : 452 ، ومنتهى المطلب 3 : 288.
3- الخلاف 1 : 500.

لذلك وهي عمل الحرارة في أرض أصابتها رطوبة (1).

والجواب : بعد تسليم عدم الخروج عن الاسم أنّ حجّتنا لا تعلّق لها بذلك ، بل مرجعها إلى أنّ نجاسة ما هذا شأنه إنّما يثبت على حالة مخصوصة وقد زالت. هذا.

وعندي : أنّ ادّعاء عدم الخروج عن الاسم هنا توهّم منشأه النظر إلى الحجر وملاحظة ما ذكر من اشتراكهما في علّة الصلابة وكونها في الحجر أقوى والعرف الذي هو المحكّم عند فقدان الحقيقة الشرعيّة وخفاء اللغويّة ينادي بالفرق ويعلن بصدق اسم الأرض على الحجر دون الخزف.

وقد تنبّه لهذا جماعة منهم المحقّق في المعتبر فقال في بحث التيمّم : أنّ الخزف خرج بالطبخ عن اسم الأرض فلا يصحّ التيمّم به. ثمّ ذكر جوازه بالحجر محتجّا بأنّه أرض إجماعا (2).

لا يقال : هذا مناف لتوقّفه في طهارته.

لأنّا نقول : ليس نظره في التوقّف إلى عدم الخروج عن الاسم ؛ لأنّه توقّف فيما لا ريب في خروجه وقد عرفت كلامه في الرماد وسترى كلامه فيما يستحيل بغير النار.

مسألة [33] :

وذهب الشيخ في باب المياه من النهاية إلى أنّ العجين المعجون بالماء النجس تطهّره النار إذا صار خبزا ، فقال :

ص: 779


1- روض الجنان : 170.
2- المعتبر 1 : 352.

« فإن استعمل شي ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به ويخبز لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز ؛ لأنّ النار قد طهّرته » (1).

وقال في باب الأطعمة من هذا الكتاب : « وإذا نجس الماء بحصول شي ء من النجاسات فيه ثمّ عجن به وخبز لم يجز أكل ذلك الخبز. قال : وقد رويت رخصة في جواز أكله ، وذكر أنّ النار قد طهّرته. والأحوط ما قدّمناه » (2).

واختلف كلامه في كتابي الحديث أيضا فأفتى في الاستبصار بالطهارة وفي التهذيب بعدمها (3).

وجمهور الأصحاب نفوا حصول الطهارة بذلك. وهو الأظهر.

لنا : أصالة النجاسة ؛ إذ المفروض كون الماء نجسا ، والنار لا تخرج من العجين المخبوز جميع الماء ، وإنّما تجفّف بعض رطوبته فيفتقر الحكم بطهارة باقي الرطوبة إلى الدليل.

لا يقال : يلزم على هذا طهر الأجزاء التي تجفّفها النار من رطوبة الماء رأسا لزوال المقتضي لاستصحاب النجاسة حينئذ.

لأنّا نقول : مدار غالب أحكام النجاسات على الإجماع. ومن البيّن أنّ الخلاف هنا منحصر في القول بالبقاء على النجاسة مطلقا والقول بطهارته إذا صار خبزا مطلقا.

والتمسّك باستصحاب النجاسة ينفي القول الثاني. وأمّا احتمال الطهارة إذا صار خبزا يابسا فإنّما ينفيه فرض انحصار الخلاف في القولين لامتناع

ص: 780


1- النهاية ونكتها 1 : 211.
2- النهاية ونكتها 3 : 108.
3- الاستبصار 1 : 29 ، وتهذيب الأحكام 1 : 414.

إحداث الثالث على ما يقتضيه اصول الأصحاب وقد بيّنا هذا في بحث الإجماع من مقدّمة الكتاب.

ويؤيّد ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا وما أحسبه (1) إلّا حفص بن البختري قال : « قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال : يباع ممّن يستحلّ أكل الميتة » (2).

وعن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « يدفن ولا يباع » (3).

احتجّ الشيخ في الاستبصار بما رواه في الصحيح عن ابن أبي عمير عمّن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في عجين عجن وخبز ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة؟ قال : لا بأس. أكلت النار ما فيه » (4).

وما رواه عن أحمد بن محمّد بن عبد اللّه بن الزبير عن جدّه قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن البئر يقع فيها الفأرة أو غيرها من الدوابّ فيموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال : إذا أصابته النار فلا بأس بأكله » (5).

وذكر أنّ الخبرين الأوّلين محمولان على ضرب من الاستحباب أو على تغيّر أحد أوصاف الماء بالنجاسة.

ص: 781


1- في « ب » : وما أظنّه.
2- الاستبصار 1 : 29.
3- الاستبصار 1 : 29 ، الحديث 77 ، وتهذيب الأحكام 1 : 414 ، الحديث 1306.
4- تهذيب الأحكام 1 : 414 ، الحديث 1304.
5- تهذيب الأحكام 1 : 413 ، الحديث 1303.

والجواب : إنّ الأخبار كلّها غير نقيّة الأسناد فيشكل التعويل عليها.

نعم لا بأس لجعلها مؤيّدة لما يقتضيه القواعد وهو هنا النجاسة فينبغي أن يكون الترجيح لما يوافقها والتأويل لما يخالفها. مع أنّ الحديث الثاني من خبري الطهارة ليس بواضح الدلالة باعتبار عدم ظهور المقتضي للنجاسة فيه سوى تعليق نفي البأس عن أكله على إصابة النار له.

وقد أجاب عنه الفاضل في المختلف بأنّه من الجائز أن يكون منشأ البأس مع عدم (1) إصابة النار كراهة ما ماتت فيه الفأرة ونحوها من الماء ولا بأس به.

وأجاب عن الخبر الأوّل بالمنع من كون الماء الذي وقعت فيه الميتة نجسا على الإطلاق لاحتمال بلوغه كرّا (2).

ولتأويله وجه آخر قريب ممّا ذكره وهو حمل الميتة على ما لا يفسد الماء أعني ميتة ما لا نفس له. والكلام في نفي البأس حينئذ كما في الآخر.

مسألة [34] :
اشارة

وتطهر الأعيان النجسة كالعذرة والميتات باستحالتها ترابا أو دودا على المشهور بين الأصحاب.

وتردّد المحقّق في ذلك إلّا أنّه بعد التردّد في استحالتها ترابا حكى عن الشيخ أنّه قال في المبسوط : إذا نبش قبرا وأخرج ترابه وقد صار الميّت رميما واختلط بالتراب فلا يجوز السجود على ذلك التراب لأنّه نجس (3).

ص: 782


1- في نسخة « ب » : مع إصابة النار.
2- مختلف الشيعة 1 : 254.
3- المعتبر 1 : 452 ، والمبسوط 1 : 93.

وذكر أنّه في موضع آخر من الكتاب أفتى في الفرض المذكور بالطهارة.

ثمّ قال المحقّق : ويمكن أن يكون قوله بالطهارة أرجح بتقدير أن تصير النجاسة ترابا ؛ لقوله عليه السلام : « جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا. أينما أدركتني الصلاة صلّيت » (1). وقوله عليه السلام : « التراب طهور » (2).

وجزم العلّامة في النهاية والمنتهى بالطهارة مطلقا (3).

وتوقّف في التذكرة والتحرير والقواعد في صورة الاستحالة ترابا. وجزم بالطهارة في صورة الاستحالة دودا (4).

واحتجّ في المنتهى للطهارة في صورة التراب بنحو احتجاج المحقّق ، وبأنّ الحكم معلّق على الاسم فيزول بزواله (5).

وعندي في التعلّق بالحديثين نظر.

وأمّا الاستناد إلى كون النجاسة معلّقة (6) بالاسم وقد زال ، فجيّد.

وحجّة الطهارة في الصورة الاخرى سبقت في البحث عن أصناف النجاسات.

فرع :

قال في المعتبر لو كانت النجاسة رطبة ومازجت التراب فقد نجس ، فلو استحالت النجاسة بعد ذلك وامتزجت بقيت الأجزاء الترابيّة على النجاسة

ص: 783


1- المعتبر 1 : 452.
2- عن سنن النسائي 1 : 210 ، وسنن أبي داود 1 : 105.
3- نهاية الإحكام 1 : 292 ، ومنتهى المطلب 3 : 288.
4- تذكرة الفقهاء 1 : 51 و 52 ، وتحرير الأحكام 1 : 25 ، وقواعد الأحكام 1 : 195.
5- منتهى المطلب 3 : 288.
6- في « ب » : كون النجاسة متعلّقة بالاسم.

والمستحيلة أيضا لاشتباهها بها.

وهذا الكلام حسن ، لكن لا يخفى أنّ النجاسة الثانية حينئذ عرضيّة قابلة للتطهير.

مسألة [35] :

واختلف علماؤنا في طهارة الخنزير وشبهه إذا وقع في المملحة واستحال ملحا ، والعذرة إذا وقعت في البئر واستحالت حمأة (1).

فذهب المحقّق في المعتبر والعلّامة في المنتهى والنهاية والتحرير إلى عدم حصول الطهارة بذلك (2).

وتوقّف في القواعد والتذكرة (3).

وذهب جماعة منهم فخر المحقّقين والشهيد والشيخ علي ووالدي إلى أنّه مطهّر (4). وهو الأظهر.

لنا : أنّ الحكم بالنجاسة منوط بالاسم كما هو الشأن في سائر الأحكام الشرعيّة فيزول بزواله. والمفروض في محلّ النزاع انتفاء صدق الاسم الأوّل ودخوله تحت اسم آخر ، فيجب زوال الحكم الأوّل ولحوق أحكام الاسم الثاني له.

ص: 784


1- الحمأة : الطين الأسود ، كما في مختار الصحاح.
2- المعتبر 1 : 453 ، ومنتهى المطلب 3 : 287 ، ونهاية الإحكام 1 : 292 ، وتحرير الأحكام 1 : 25.
3- قواعد الأحكام 1 : 195 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 8 ، الطبعة الحجريّة.
4- إيضاح الفوائد 1 : 31 ، وجامع المقاصد 1 : 97.

احتجّ الفاضلان بأنّ النجاسة قائمة بالأجزاء النجسة لا بأوصاف الأجزاء فلا يزول بتغيّر أوصاف محلّها وتلك الأجزاء باقية فتكون النجاسة باقية لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها.

والجواب : أنّ قيام النجاسة بالأجزاء مسلّم لكن لا مطلقا بل بشرط الوصف ؛ لأنّه المتبادر من تعليق (1) الحكم بالاسم ، والمعهود في الأحكام الشرعيّة. ولا ريب في انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه.

واعلم أنّ فخر المحقّقين جعل منشأ الاختلاف في هذه المسألة النظر إلى أنّ العين - وهي الجسميّة الخاصّة - موجودة وإنّما تغيّرت بالصفات فتبقى النجاسة ، وأنّ النجاسة معلّقة بالذات باعتبار الصورة النوعيّة أو باعتبار باقي الأعراض الخاصّة اللاحقة للجواهر المتساوية مع القول بعدم استغناء الباقي. وعلى التقديرين فعلّة النجاسة قد زالت فيزول المعلوم.

قال : وعلى القول باستغناء الباقي ، فالنجاسة باقية ؛ لأنّ نجاسة هذا الجسم قد ثبتت ولم يرد نصّ على الطهارة ، والأصل البقاء (2).

وناقشه في هذا الكلام الفاضل الشيخ علي بما هو أحقّ بالاعتراض. ولطوله أضربنا عن حكايته (3).

والذي أراه أنّ كلام فخر المحقّقين يؤول بحسب المعنى إلى ما قرّرناه في حجّتي القولين ، لكنّه أضاف إلى كلّ من الحجّتين نوعا من التقريب والمناسبة ، فإنّ القول باحتياج الباقي إلى المؤثّر يناسب القول بالطهارة

ص: 785


1- في « ب » : من تعلّق الحكم.
2- إيضاح الفوائد 1 : 31.
3- جامع المقاصد 1 : 181.

من حيث إنّ استمرار حكم النجاسة يحتاج إلى المقتضي حينئذ ووجوده بعد الاستحالة غير معلوم.

والقول بالاستغناء يناسب النجاسة ؛ لأنّ استصحابها حينئذ يكون كافيا.

وما يقال - من أنّ الخلاف في احتياج الباقي وعدمه إنّما هو في العلل الحقيقيّة دون المعرّفة للأحكام لأنّ الحكم بعد ثبوته بدلالة معرّفه مستغن عن التعريف - فليس بشي ء ؛ لأنّ ثبوت الاحتياج في الحقيقة - مع قوّتها - يقتضي الاحتياج في المعرّفة بطريق أولى لضعفها.

بل الحقّ أنّ الاحتياج في المعرّفة ثابت على كلّ حال. وما حقق في استصحاب الحال يرشد إليه.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ عدم المؤثّر في العلل المعرّفة يصدق مع اختصاص دليل الحكم بوقت كما قرّر في الاستصحاب. وأمّا مع عمومه في الأزمان فهو بمنزلة وجود المؤثّر في كلّ وقت.

وعلى هذا فلا مؤاخذة على فخر المحقّقين بحسب المعنى كما ظنّه الفاضل الشيخ علي.

نعم المناقشة متوجّهة عليه باستعارته للألفاظ الكلاميّة في التأدية عن المعاني الفقهيّة من دون ضرورة داعية إلى ذلك أو حاجة (1) تلجئ إليه.

على أنّ التعرّض للمناسبات المذكورة مطلقا ليس بذلك الحسن. وقد اختصّ هو من بين الأصحاب بكثرة الالتفات إليها لأمر ما.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في كلام جماعة من الأصحاب تنبيها على اعتبار كرّية ماء المملحة.

ص: 786


1- في « ب » : وحاجة.

ووجّهه البعض بتوقّف الحكم بطهارة الملح بأجمعه عليه نظرا إلى أنّ الأرض تنجس حينئذ ، ويلزم من ذلك نجاسة ما يلاقيها من الملح. ولم يجعل النظر في نجاسة الملح إلى نجاسة مائه بملاقاة النجاسة له قبل الاستحالة ؛ ذهابا إلى أنّ استحالته ملحا مطهّرة له كما طهرت عين النجاسة.

وفي صدق الاستحالة بالنظر إلى الماء إشكال. بل الظاهر انتفاؤها ، فيتّجه اعتبار كرّيّة الماء في الحكم بطهارة الملح المنعقد منه ما دامت عين النجاسة قائمة.

مسألة [36] :

وعدّ كثير من الأصحاب في باب الاستحالة المطهّرة أشياء لا خلاف بينهم في طهارتها : كاستحالة النطفة حيوانا طاهرا ، والماء النجس بولا لحيوان مأكول اللحم أو جزءا من الخضراوات المسقيّة بها ، والغذاء النجس روثا أو لبنا لمأكول ، والدم النجس قيحا أو جزءا من حيوان لا نفس له كالبراغيث والبقّ.

والوجه في ذلك كلّه - مع الإجماع المدّعى في كثير من صوره - أنّ الاسم الذي هو مناط الحكم بالنجاسة زائل معها فيزول التنجيس.

وبقي منها استحالة الخمر خلّا.

وقد حكى العلّامة فيه اتّفاق علماء الإسلام إذا كانت استحالته من نفسه ، والأخبار الكثيرة ناطقة به.

فمن ذلك ما رواه الكليني في الحسن عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الخمر العتيق يجعل خلّا؟ قال : لا بأس » (1).

وما رواه الشيخ في الموثّق عن عبيد بن زرارة قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام

ص: 787


1- الكافي 6 : 428.

عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلّا؟ قال : لا بأس » (1).

وفي الموثّق أيضا عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « في الرجل باع عصيرا فحبسه السلطان حتّى صار خمرا فجعله صاحبه خلّا؟ فقال : إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به » (2).

مسألة [37] :

ويطهر العصير على تقدير نجاسته باستحالته خلّا كالخمر ، وبذهاب ثلثيه.

والحجّة في ذلك بالنظر إلى الاستحالة بثبوت مثله في الخمر ، والعصير أولى بالحكم منه.

وأمّا بالنظر إلى ذهاب الثلثين فدلالة النصوص على زوال التحريم به. وذلك يقتضي زوال النجاسة أيضا لو كانت.

فروى الشيخ عن عبد اللّه بن سنان في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (3). هذا.

والمعروف بين الأصحاب انّه يطهر بطهارة العصير أيدي مزاوليه وثيابهم وآلات الطبخ ، وأنّ ذهاب الثلثين بأي وجه اتّفق يقتضي الطهارة حتّى لو أصاب شيئا في حال الحكم بنجاسته ثمّ جفّت الرطوبة الحاصلة منه بحيث علم ذهاب ثلثي ما أصاب ، حكم بالطهارة.

ولا يخفى أنّه مع فقد الدليل على أصل التنجيس وانحصار المأخذ في كلام

ص: 788


1- تهذيب الأحكام 9 : 117 ، الحديث 240.
2- تهذيب الأحكام 9 : 117 ، الحديث 242.
3- تهذيب الأحكام 9 : 120.

الأصحاب فكلامهم في الامور المتعلّقة بالطهارة كاف أيضا ، اقتصارا في الحكم بالتنجيس على ما لا بدّ منه حيث يصار إلى الموافقة.

مسألة [38] :
اشارة

وذهب الشيخ أبو علي بن الجنيد إلى أنّ الدباغ مطهّر لجلد الميتة ممّا هو طاهر في حال الحياة لكن لا يجوز الصلاة فيه.

وعزى في الذكرى إلى أبي جعفر الشلمغاني موافقته في الحكم بالطهارة (1). وكان من قدماء الأصحاب.

قال الشيخ وغيره : أنّه كان مستقيم الطريقة ثمّ تغيّر وظهرت منه مقالات منكرة وأنّ له من الكتب التي عملها في حال الاستقامة كتاب التكليف (2).

وجمهور الأصحاب على عدم طهارته بذلك. حتّى أنّ العلّامة في المنتهى والمختلف ادّعى إجماع من عدا ابن الجنيد من علمائنا على هذا (3).

وقال الشهيد في الذكرى لا يطهر جلد الميتة بالدباغ إجماعا فلم يحتفل باستثناء المخالف ؛ نظرا إلى عدم اعتبار مخالفة معلوم الأصل في تحقّق الإجماع ، مع أنّ الظاهر من الصدوق موافقة ابن الجنيد ؛ لأنّه قال في من لا يحضره الفقيه : « وسئل الصادق عليه السلام عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال : لا بأس بأن يجعل فيها ما شئت من ماء

ص: 789


1- ذكرى الشيعة : 16.
2- الفهرست : 146.
3- منتهى المطلب 3 : 352.

أو لبن أو سمن ويتوضّأ منه ويشرب ولكن لا تصلّ فيها » (1).

والمقتضي لعدم نسبة القول بالطهارة إليه أحد أمرين :

أوّلهما : ذكر الحديث مرسلا.

والثاني : عدم التعرّض للدباغ.

والأوّل مدفوع بما تكرّر التنبيه عليه من إعطائه القاعدة في أوّل هذا الكتاب أنّه لا يورد فيه إلّا ما يفتي به. وأقلّ مراتب هذه القاعدة أن يتحقّق في الأحكام المذكورة في أوائل الكتاب ؛ لأنّ احتمال الرجوع عنها إنّما يتصوّر بعد بعد العهد ، والحكم المذكور قريب إليها جدّا.

وأمّا عدم التعرّض للدباغ فالذي يختلج بخاطري أنّ الوجه فيه دلالة استعمالها في الامور المعدودة عليه إذ من المستبعد إعدادها لشي ء منها بدون الدباغ.

وقد حكى في الذكرى صورة ما وقع في عبارة من لا يحضره الفقيه ثمّ قال : ولم يذكر الدبغ. وهو أغرب من الأوّل يعني قول ابن الجنيد وأشذّ ، وما ذكرناه هو الظاهر (2).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العمدة في الاحتجاج هنا لكلّ من القولين حسب ما ذكره المتأخّرون هو الأخبار ، لأنّ الشيخ والفاضلين أضافوا إليها في الاحتجاج لعدم الطهارة عموم قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (3) تعويلا على تناوله لجميع أنواع الانتفاع ، واستصحاب النجاسة لثبوتها قبل الدبغ

ص: 790


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 9.
2- ذكرى الشيعة : 16 ، في ب وج : وهو أقرب من الأول.
3- سورة المائدة : 3.

فكذا بعده.

ويلوح من الشهيد التمسّك بالإجماع كما حكيناه عنه وهو صريح كلام الشيخ في الخلاف (1).

وهذه الوجوه كلّها ضعيفة.

أمّا التمسّك بالآية فلأنّ المتبادر منها بحسب العرف تحريم الأكل ، كما سبق تحقيقه في بحث المجمل من مقدّمة الكتاب.

وأمّا الاستصحاب فلأنّ التمسّك به موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عامّا في الأزمان ، كما أسلفنا القول فيه مرارا ، وقد تقدّم في البحث عن نجاسة الميتة أنّ العمدة فيه على الإجماع وحينئذ فلا استصحاب.

وأمّا الإجماع فلعدم ثبوته على وجه يصلح للحجّة ولهذا لم يتعرّض له المحقّق. وحال الشيخ والشهيد في الإجماع معلوم ؛ إذ قد أشرنا في غير موضع إلى أنّهما داخلان في عداد من ظهر منه في أمر الإجماع ما أوجب حمله على غير معناه المصطلح الذي هو الحجّة عندنا أو أفاد قلّة الضبط في نقله.

ثمّ إنّ الأخبار التي احتجّوا بها لعدم الطهارة كثيرة :

منها : ما رواه عليّ بن المغيرة قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : جعلت فداك ، الميتة ينتفع بشي ء منها؟ قال : لا. قلت : بلغنا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مرّ بشاة ميّتة فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ فقال : تلك شاة لسودة بنت زمعة زوج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتّى ماتت. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ما كان على أهلها

ص: 791


1- ذكرى الشيعة : 16 ، والخلاف 1 : 62.

إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها اي تذكوا » (1).

وما رواه الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام قال : « كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيّا فكتب : لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب » (2).

ومنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال : « سألته عن الجلد الميّت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ فقال : لا ولو دبغ سبعين مرّة » (3).

وعن محمّد بن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الميتة ، قال : « لا تصلّ في شي ء منه ولا شسع » (4).

ومنها : ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّي أدخل سوق المسلمين - أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام - فأشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليس هي ذكيّة فيقول : بلى. فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال : لا ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول قد شرط الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة. قلت : وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة ، وزعموا أنّ دباغ جلد الميت ذكاته ، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلّا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله » (5).

فأمّا ما يدلّ من الأخبار على الطهارة فحديث واحد رواه الشيخ بإسناده

ص: 792


1- تهذيب الأحكام 2 : 204 ، الحديث 799.
2- الكافي 6 : 258.
3- تهذيب الأحكام 2 : 203 ، الحديث 794.
4- تهذيب الأحكام 2 : 203 ، الحديث 793.
5- تهذيب الأحكام 2 : 204 ، الحديث 798.

الصحيح عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى عن الحسين بن زرارة (1) عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في جلد شاة ميّتة يدبغ فيصبّ فيه اللبن أو الماء فأشرب منه وأتوضّأ؟ قال : نعم. وقال : يدبغ فينتفع به ولا يصلّى فيه » (2).

وأنت إذا تأمّلت هذه الأخبار كلّها وجدت ما عدا الأوّلين منها والأخير ليس من محلّ النزاع في شي ء.

والعجب من الشهيد أنّه ادّعى في الذكرى تواتر الأخبار بعدم الطهارة ولم يذكر منها سوى خبر عامّي. وحديثي محمّد بن مسلم وابن أبي عمير مقتصرا من حديث ابن مسلم على بعضه ، فقال : وقول الباقر عليه السلام « لا ، ولو دبغ سبعين مرّة » (3).

وهذا التصرّف في متن الحديث غريب جدّا بل يكاد أن يقطع بعدم جوازه من حيث إنّ كلامه مسوق لإثبات عدم الطهارة وبيان تواتر الأخبار بذلك ، فمن وقف على عبارته غير مطّلع على أصل الحديث لا يرتاب في أنّ النفي الواقع فيه عائد إلى الطهارة والحال أنّه عائد إلى لبسه في الصلاة.

وبالجملة فمفاد هذا الحديث واللذين بعده إنّما هو المنع من لبسه في الصلاة. والإنكار الواقع في خبر عبد الرحمن إنّما هو على تنزيل الدباغ منزلة الذكاة بحيث يسوغ معها استعمال الجلد في الصلاة ، والمخالف موافق على ذلك.

فأمّا الخبران الأوّلان فظاهرهما نفي تأثير الدباغ من حيث النهي عن الانتفاع من الميتة بشي ء.

ص: 793


1- في « ب » : عن الحسين عن زرارة.
2- الاستبصار 4 : 90.
3- ذكرى الشيعة : 16.

والخبر الأخير صريح في جواز الانتفاع بالمدبوغ في الامور المعدودة فيه فالتعارض واقع بينهما وبينه.

والترجيح من جهة الإسناد منتف ؛ لأنّ رواية الفتح ضعيفة.

والخبران الآخران (1) مشتركان في جهالة حال راويهما. وحينئذ فيمكن أن يجعل وجه الجمع حمل الروايتين الأوّلتين على الكراهة أو (2) حمل رواية الطهارة على التقيّة.

ويرجح الثاني رعاية الموافقة لما عليه اتّفاق أكثر الأصحاب.

ويؤيّد الأوّل موافقته لمقتضى الأصل من براءة الذمّة بملاحظة ما قرّرناه من عدم استقامة اعتبار الاستصحاب في مثله ، وطريق الاحتياط لا يخفى.

تذنيب :

اشترط ابن الجنيد في حصول الطهارة بالدباغ أن يكون ما يدبغ به طاهرا فقال في المختصر : وليس يكون دباغها المحلّل لها إلّا بمحلّل طاهر كالقرظ والشث (3) والملح والتراب. فإن دبغت بشي ء من النجس لم تطهر كالدارش (4) فإنّها تدبغ بخرء (5) الكلاب ، وكذلك اللنكا (6).

ص: 794


1- في « ب » : والخبران الآخران.
2- في « ب » : وحمل رواية الطهارة على التقيّة.
3- في « ب » : والشبّ. والقرظ : ورق السلم يدبغ به ، وقيل قشر البلوط. والشثّ : نبت طيّب الريح مرّ الطعم يدبغ به. راجع مختار الصحاح.
4- الدارش : سيأتي تعريفه بعد أسطر.
5- في « ب » : بخرء الكلاب.
6- اللنكا : سيأتي تعريفه بعد أسطر.

ولا نعلم حجّته على هذا الشرط. ويمكن أن يكون الوجه فيه علوق بعض أجزاء النجس به لسريانه في أعماق الجلد.

وروى الشيخان في الكافي والتهذيب عن السيّاري عن أبي يزيد القمّي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام : « أنّه سأله عن جلود الدارش الذي يتّخذ منها الخفاف فقال : لا تصلّ فيها فإنّها تدبغ بخرء الكلاب » (1).

ولا يخفى عدم نهوض التوجيه الذي ذكرناه بإثبات الشرطيّة ، وكذا الرواية لكن لا بدّ للقائل بالطهارة من الموافقة على الشرط المذكور حيث يثبت انحصار الخلاف في القول بالطهارة مع هذا الشرط وعدمها مطلقا ؛ فإنّ القول بالطهارة مطلقا حينئذ يكون إحداثا لقول ثالث.

والقرظ - بالقاف والراء والظاء المعجمة - قال الجوهري : هو ورق السلم يدبغ به.

والشث - بالشين المعجمة والثاء المثلّثة - : نبت طيّب الريح مرّ الطعم يدبغ به. قاله الجوهري (2).

وفي الذكرى بعد أن ضبطه هكذا قال : وقيل بالباء الموحّدة وهو شي ء يشبه الزاج (3).

فأمّا الدارش فذكر الجوهري وغيره أنّه جلد معروف (4).

وكأنّ اللنكا ليس بعربيّ ؛ إذ لم يذكره أهل اللغة.

ص: 795


1- الكافي 3 : 403 ، وتهذيب الأحكام 2 : 373 ، الباب 13.
2- صحاح اللغة 1 : 285.
3- ذكرى الشيعة : 16.
4- الصحاح 3 : 1006 ، طبعة دار العلم للملايين.
فرع :

إذا قلنا ببقاء جلود الميتة بعد الدباغ على نجاستها فهل يجوز الانتفاع بها في اليابس؟

قال الفاضلان : لا ، عملا بعموم النهي (1). ووافقهما الشهيد وبعض المتأخّرين (2). وليس بجيّد ؛ لأنّ الآية غير صالحة لأن يتناول عمومها مثله كما بيّناه.

والخبران العامّان قد علم ضعف إسناديهما.

مسألة [39] :

ويكفي في طهر البواطن كالفم والأنف زوال عين النجاسة منها بغير خلاف نعرفه في ذلك.

وبه رواية رواها الشيخ عن عمّار الساباطي قال : « سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجل يسيل من أنفه الدم ، هل عليه أن يغسل باطنه يعني جوف الأنف؟ فقال : إنّما عليه أن يغسل ما ظهر منه » (3).

وهذه الرواية ضعيفة السند فلا تصلح بمجرّدها دليلا على الحكم ، وقد ضمّ إليها بعض الأصحاب التعليل برفع الحرج. والإشكال بحاله.

والحقّ أنّه يكفي في الاحتجاج له التمسّك بأصالة البراءة (4) فإنّها ملزومة

ص: 796


1- المعتبر 1 : 465 ، ومنتهى المطلب 3 : 358.
2- راجع الذكرى : 16.
3- تهذيب الأحكام 1 : 420 ، الحديث 1330.
4- في « ج » : البراءة الذمّة.

للطهارة. ولا وجه لعدم الاعتداد بها في نحو هذا الموضع إلّا توهّم كون أنواع النجاسات أسبابا مؤثّرة فيما تلاقيه برطوبة مطلقا وقد أسلفنا في مسألة تطهير الشمس أنّ ذلك بعيد عن التحقيق.

وروى الشيخ في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن إسحاق بن عمّار عن عبد الحميد بن أبي الديلم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجل يشرب الخمر فبصق فأصاب ثوبي بصاقه. فقال : ليس بشي ء » (1).

وهذا الخبر يصلح شاهدا على الحكم هنا ومؤيّدا لما ذكرناه.

مسألة [40] :
اشارة

ويكفي زوال العين أيضا في الحيوان غير الآدمي على المشهور في كلام المتأخّرين من الأصحاب من غير تعرّض لحجّته.

ولعلّ الوجه فيه ما قرّرناه في طهر البواطن ، مضافا إلى ظاهر الأخبار الدالّة على طهارة سؤر السباع ، مع قضاء العادة بعدم خلوّ أفواهها من آثار النجاسة.

وقد مرّ في الأسآر كلام للشيخ يتعلّق بهذا الحكم ، ويؤذن بكونه مجمعا عليه (2) ، فلا مجال للتوقّف فيه.

فرع :

قال الشهيد في الذكرى : لو طارت الذبابة عن النجاسة إلى الثوب أو الماء ، فعند الشيخ عفو. واختاره الشيخ المحقّق نجم الدين في الفتاوى ؛ لعسر الاحتراز ، ولعدم الجزم ببقائها لجفافها بالهواء. قال : وهو يتمّ في الثوب دون

ص: 797


1- تهذيب الأحكام 1 : 282 ، الحديث 827.
2- المبسوط 1 : 10.

الماء (1).

ونوقش في ذلك بأنّ المقتضي لعدم تمام الحكم في الماء موجود في الثوب مع رطوبته فلا يستقيم إطلاق القول فيه. وهو جيّد.

ولا يخفى عليك أنّ كلام الشهيد في هذا الفرع مخالف للمعهود من رأيه في المسألة ؛ إذ لا وجه للتفرقة بين الثوب والماء إلّا كون الرطوبة لازمة في ملاقاة الذباب للماء دون الثوب ، ولو كان زوال العين كافيا لم يفرّق بينهما.

اللّهم إلّا أن يحمل الكلام على حصول الجفاف مع بقاء عين النجاسة.

وفيه بعد لا سيّما بملاحظة التعليل بعدم الجزم بالبقاء.

والمتّجه - تفريعا على المسألة - بقاء الثوب والماء على الطهارة إلّا أن يعلم بقاء الرطوبة الحاصلة من النجاسة ، أو علوق شي ء من عينها مع رطوبة الثوب.

والوجه في ذلك أنّ علوق شي ء من النجاسة خلاف الأصل ، فلا بدّ من العلم به. وبقاء الرطوبة وإن كان موافقا للأصل لكنّه معارض بأصالة طهارة الثوب والماء فيتساقطان ويبقى أصالة براءة الذمّة من التكليف بأحكام النجاسة حينئذ.

وقد روى الشيخ في الصحيح عن موسى بن القاسم عن عليّ بن محمّد قال : « سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباههما تطأ العذرة ثمّ تطأ الثوب أيغسل؟ قال : إن كان استبان من أثره شي ء فاغسله وإلّا فلا بأس » (2).

وفي هذا الخبر إشعار ببعض ما قلناه من حيث ترك الاستفصال عن حال الثوب في الرطوبة واليبوسة.

وظنّي أنّ في سنده غلطا ؛ إذ المعروف رواية موسى بن القاسم عن عليّ

ص: 798


1- ذكرى الشيعة : 9.
2- تهذيب الأحكام 1 : 424 ، الحديث 1347.

ابن جعفر مسائله لأخيه موسى عليه السلام بصورة ما وقع في هذا الحديث. ولو لا ذلك لكان الطريق بأسره صحيحا.

مسألة [41] :

وذكر الشيخ في الخلاف أنّ في أصحابنا من قال بأنّ الجسم الصقيل كالسيف والمرآة والقوارير إذا أصابته نجاسة كفى في طهارته مسح النجاسة منه وعزى إلى المرتضى اختياره. ثمّ قال : ولست أعرف به أثرا. وذكر أنّ عدم طهارته بدون غسله بالماء هو الظاهر.

واحتجّ له بأنّ « حصول النجاسة في هذا الجسم معلوم ، والحكم بزوالها يحتاج إلى شرع. قال : وليس في الشرع ما يدلّ على زوال هذا الحكم بما قالوه. وطريقة الاحتياط تقتضي ما قلناه ؛ لأنّا إذا غسلناه بالماء علمنا طهارته يقينا وإن لم نغسله بالماء فليس على طهارته دليل » (1).

هذا كلام الشيخ رحمه اللّه وظاهره عدم انحصار القول بالطهارة في المرتضى ، على خلاف ما يفهم من كلام الفاضلين وسائر المتأخّرين إذ اقتصروا في نسبة القول بالطهارة على المرتضى ، وحيث إنّهم مطبقون على خلافه فربّما يتوهّم انعقاد الإجماع على ذلك ؛ نظرا إلى عدم تأثير مخالفة معلوم الأصل فيه ، أمّا بعد ظهور عدم الانحصار فهذا التوهّم مدفوع.

ثمّ إنّ الفاضلين ومن تأخّر عنهما اقتفوا أثر الشيخ في الاحتجاج لبقاء النجاسة بالاستصحاب إلى أن يدلّ على الطهارة دليل (2).

ص: 799


1- الخلاف 1 : 479.
2- المعتبر 1 : 450.

وزاد المحقّق في المعتبر وبعده العلّامة في المنتهى التعليل بأنّ المسح يزيل عين النجاسة الظاهرة ويبقي أجزاء لاصقة لا يزيل حكمها إلّا الماء.

وبأنّ النجاسة الرطبة يتعدّى حكمها إلى الملاقي فلا يزول بزوال عين النجاسة (1).

وقد تكرّر القول في أمر الاستصحاب. وذكرنا في المباحث الاصوليّة أنّ السيّد لا يعوّل عليه في مثل هذا المقام. والعجب من غفلة الجماعة عن رأي السيّد فيه وأنّ كلامه مبنيّ على أصله فلا يحسن أن يحتجّ عليه بما لا يقبله.

والتعليل ببقاء بعض أجزاء النجاسة مدفوع بأنّ المفروض زوال عين النجاسة بأجمعها فكيف يقدّر (2) بقاء شي ء منها. وتخصيص الحكم بالصقيل ينادي بذلك أيضا إذ يؤمن معه لصوق شي ء من أجزاء النجاسة بالمحلّ.

وقولهم : « بأنّ النجاسة الرطبة يتعدّى حكمها .. إلى آخره » لا يزيد عن أصل الدعوى.

مسألة [42] :

قال ابن الجنيد في مختصره : لا بأس أن تزال بالبصاق عين الدم من الثوب. وظاهر هذا الكلام كون ذلك على جهة التطهير له. وجزم الشهيد بنسبة القول بذلك إليه (3).

وقد روى الشيخ بإسناده الصحيح عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن

ص: 800


1- منتهى المطلب 3 : 286.
2- في « ج » : فكيف نقدّر.
3- ذكرى الشيعة : 16.

العبّاس عن عبد اللّه بن المغيرة عن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه قال : « لا تغسل بالبزاق شي ء غير الدم » (1).

وليس في طريق هذه الرواية من يتوقّف في شأنه سوى غياث راويها. وهو غياث بن إبراهيم التميمي. وقد وثّقه النجاشي (2). والشيخ لم يتعرّض له بمدح ولا غيره في كتاب الرجال ولا في الفهرست بل اقتصر على ذكره (3).

وقال العلّامة : إنّه ثقة وكان ( بتريا ) (4).

وطعن فيه بذلك المحقّق في المعتبر أيضا (5).

وروى الشيخ بإسناد آخر فيه ضعف عن عبد اللّه بن المغيرة عن غياث ابن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عن علي عليه السلام : « لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق » (6).

وذكر العلّامة في المختلف بعد حكايته لعبارة ابن الجنيد أنّه إن قصد بذلك الدم النجس وأنّ تلك الإزالة تطهّره فهو ممنوع. وإن قصد إزالة الدم الطاهر كدم السمك وشبهه أو إزالة النجس مع بقاء المحلّ على نجاسته فهو صحيح (7).

ثمّ ذكر أنّ حجّته الرواية الثانية ولم يتعرّض للأولى.

ص: 801


1- تهذيب الأحكام 1 : 423 ، الحديث 1339.
2- رجال النجاشي : 305.
3- رجال الطوسي : 270 ، والفهرست : 123.
4- خلاصة الأقوال : القسم الثاني نقلا عن تنقيح المقال.
5- المعتبر 1 : 84.
6- تهذيب الأحكام 1 : 425 ، الحديث 1350.
7- مختلف الشيعة 1 : 493.

وأجاب عنها بالطعن في السند ، وبالحمل على أحد الأمرين اللذين احتملهما من العبارة أخيرا.

ولا يخفى ما في الوجهين من البعد عن ظاهر العبارة والرواية لا سيّما بالنظر إلى المتن الأوّل. وحيث لم يثبت صحّة الطريق فلا حاجة إلى ارتكاب كلفة هذا الحمل.

ص: 802

البحث الثالث : في بقايا مسائل متفرّقة من أحكام النجاسات
مسألة [1] :

المشهور بين علمائنا عدم الفرق في النجاسات كلّها بين القليل منها والكثير بالنظر إلى أصل التنجيس وإن كان الفرق بينهما بالنظر إلى العفو ثانيا في الدم كما مرّ تحقيقه ، وفي المسألة أقوال اخر شاذّة صار إليها بعض المتقدّمين.

وقد مرّ منها قول ابن الجنيد بطهارة ما نقص عن سعة الدرهم. وبقي ثلاثة أقوال اخر.

أحدها : ما حكاه العلّامة في المختلف عن ابن إدريس أنّه قال : قال بعض أصحابنا إذا ترشّش على الثوب أو البدن مثل رءوس الإبر من النجاسات فلا بأس بذلك.

ثمّ قال ابن إدريس : والصحيح وجوب إزالتها قليلة كانت أو كثيرة (1).

الثاني : ما حكاه في المختلف أيضا عن السيّد المرتضى أنّه قال في جواب المسائل الميافارقيات نجاسة الخمر أغلظ من سائر النجاسات لأنّ الدم وإن

ص: 803


1- مختلف الشيعة 1 : 490.

كان نجسا فقد ابيح لنا أن نصلّي في الثوب إذا كان فيه دون قدر الدرهم. والبول قد عفي عنه فيما ترشّش عند الاستنجاء كرءوس الإبر (1).

الثالث : ما ذهب إليه الصدوقان في الرسالة وكتاب من لا يحضره الفقيه من طهارة ما كان دون الحمّصة من الدم الذي ليس بدم حيض (2).

قال في الرسالة : وإن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقداره مقدار الدرهم الوافي. والوافي ما يكون وزنه درهما وثلثا. وما كان دون الدرهم الوافي فقد يجب عليك غسله. ولا بأس بالصلاة فيه. فإن كان الدم دون حمّصة فلا بأس بأن لا تغسله إلّا أن يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمنيّ قلّ ذلك أم كثر.

وعبارة الآخر بهذه الصورة (3).

ولم ينقل لشي ء من الأقوال الثلاثة حجّة. وقد احتجّ في المختلف للمشهور بأنّ اسم النجاسة يصدق على القليل فيجب إزالته للعمومات (4).

ولما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج في الصحيح قال : « سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل يبول بالليل فيحسب أنّ البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ولا يتنشّف؟ قال عليه السلام : يغسل ما استبان أنّه أصابه وينضح ما يشكّ فيه من جسده أو ثيابه ويتنشّف قبل أن يتوضّأ » (5). وقد مرّ هذا الخبر في مسائل النضح.

ص: 804


1- مختلف الشيعة 1 : 491.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 72.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 72.
4- مختلف الشيعة 1 : 491.
5- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، الحديث 1234.

وكأنّ وجه الدلالة فيه على المدّعى إطلاق الأمر بالغسل لما استبان أنّه أصاب من غير فرق بين القليل والكثير. والحال أنّ سائر الأخبار الدالّة على نجاسة البول وغيره - وقد مرّت في بابها - تشارك هذا الخبر في إفادة المعنى المذكور ، فلا وجه لذكره بخصوصه من بينها ، كما لا وجه للفرق بين القليل والكثير مطلقا مع كون أكثر الأدلّة عامّة فيهما وانتفاء الدليل الواضح على التخصيص في الكلّ.

نعم ورد في الدم والبول روايات تشعر بالتخصيص لكنّها غير ناهضة بإثبات الحكم.

فأمّا ما يتعلّق بالدم فحديثان :

أحدهما : ما رواه مثنّى بن عبد السلام عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قلت له إنّي حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال : إن اجتمع قدر حمّصة فاغسله ، وإلّا فلا » (1).

وهذا الخبر لو صحّ سنده لكان حجّة فيما ذهب إليه الصدوقان ، لكنّه ليس بصحيح.

والثاني : ما رواه الحلبي قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ فقال : لا وإن كثر. ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله » (2).

وفي طريق هذا الخبر محمّد بن سنان. وضعفه مشهور.

وأمّا ما يتعلّق بالبول فخبران أيضا :

ص: 805


1- تهذيب الأحكام 1 : 255 ، الحديث 741.
2- تهذيب الأحكام 1 : 259 ، الحديث 753.

أحدهما : رواه الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه بإسناد صحيح عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن حكم بن حكيم بن أبي خلّاد أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام فقال له : « أبول فلا اصيب الماء وقد أصاب يدي شي ء من البول فامسحه بالحايط وبالتراب ثمّ تعرق يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ فقال : لا بأس به » (1).

ورواه الكليني في الكافي بإسناد حسن عن ابن أبي عمير عن هشام ابن سالم عن الحكم بن الحكيم الصيرفي (2).

والثاني : ما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان عن العيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال : يغسل ذكره وفخذيه. وسألته عمّن مسح ذكره بيده ثمّ عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال : لا » (3).

وهذان الخبران وإن كان لا بأس بإسناديهما لكن لا يطابق مضمونهما دعوى المخالف.

مع أنّهما معارضان بما رواه الشيخ في الصحيح عن عليّ بن مهزيار قال : « كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنّه بال في ظلمة الليل وأنّه أصاب كفّه برد نقطة من البول ، لم يشكّ أنّه أصاب ولم يره ، وأنّه مسحه بخرقة ثمّ نسي أن

ص: 806


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 69 ، الحديث 158 ، باب من ينجس الثوب والجسد ، وفيه وفي نسخة « أ » : بن أخي خلّاد » بدل « بن أبي خالد » ، وفي كتب الرجال : حكم بن حكيم أبو خلّاد الصيرفي.
2- الكافي 1 : 55.
3- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، الحديث 1333.

يغسله وتمسّح بدهن فمسح به كفّيه ووجهه ورأسه ، ثمّ توضّأ وضوء الصلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب قرأته بخطّه : أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشي ء إلّا ما تحقّق ، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلاة ». الحديث (1).

وبالجملة فالعدول عمّا عليه المعظم لمثل هذه الروايات المجملة مشكل. فالاعتماد حينئذ على المشهور.

مسألة [2] :

إذا كان موضع النجاسة من الثوب معلوما وجب غسل ذلك الموضع بعينه وهو واضح.

وإذا جهل الموضع مع يقين الإصابة غسل كلّ موضع يحتمل كونها فيه.

ولو قام الاحتمال في الثوب كلّه غسل. وهذا ممّا لا خلاف فيه عندنا. وفي المعتبر : هو مذهب علمائنا (2). وفي المنتهى : هو قول علمائنا أجمع (3).

وإنّما خالف فيه جماعة من العامّة ، فقال بعضهم : إذا خفيت النجاسة يتحرّى مكانها فيغسله.

وقال البعض الآخر : ينضح الثوب كلّه.

والحجّة في ما ذهب إليه الأصحاب : أنّ المانع معلوم الوجود ولا يحصل اليقين بزواله إلّا بما قالوه. وورود الأخبار الكثيرة به.

ص: 807


1- تهذيب الأحكام 1 : 426 ، الحديث 1355. وفي نسخة « ب » : إلّا ما تحقّق ، بدل قوله : إلّا ما لحق.
2- المعتبر 1 : 437.
3- منتهى المطلب 3 : 294.

فمنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال في المنيّ الذي يصيب الثوب : « فإن عرفت مكانه فاغسله وإن خفي عليك فاغسله كلّه » (1).

وفي الحسن عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه منيّ فليغسل الذي أصابه ، فإن ظنّ أنّه أصابه منيّ ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء. وإن استيقن أنّه قد أصابه ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه فإنّه أحسن » (2).

وروى في الصحيح عن زرارة قال : « قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من منيّ فعلّمت أثره. إلى أن قال : قلت : فإنّي قد علمت أنّه أصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » (3).

وربّما يتوهّم من هذا الخبر الاكتفاء بالتحرّي كما يقوله بعض العامّة. والتعليل بتحصيل يقين الطهارة يدفعه ويقتضي حمل الكلام على انحصار الاشتباه في ناحية مخصوصة من الثوب.

وقد تعرّض للكلام على هذا الحديث العلّامة في المنتهى فأشار أوّلا إلى إشعاره بالتحرّي ، ثمّ قال : إنّ زرارة لم يسنده إلى إمام فلا حاجة فيه. وذكر أخيرا معنى ما قلناه (4).

ص: 808


1- تهذيب الأحكام 1 : 267 ، الحديث 784.
2- تهذيب الأحكام 1 : 252 ، الحديث 728.
3- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، الحديث 1335.
4- منتهى المطلب 3 : 296.

وينبغي أن يكون الاعتماد عليه ؛ لأنّ عدم إسناده إلى الإمام غير مسموع ، لشهادة القرائن بكون الخطاب فيه للإمام ؛ إذ هو حديث طويل يشتمل على عدّة سؤالات وأجوبتها. واحتمال تدوين مثل هذا مع كونه صادرا من غير الإمام لا يقبله الفهم المستقيم.

على أنّ عدم التصريح فيه باسم الإمام إنّما هو في رواية الشيخ له بالطريق الصحيح. وإلّا فالصدوق في العلل رواه بطريق حسن صرّح فيه بكون الخطاب مع أبي جعفر الباقر عليه السلام.

مسألة [3] :

قال الشيخ في الخلاف : إذا أصاب الثوب نجاسة فغسل نصفه وبقي نصفه فإنّ المغسول يكون طاهرا ولا يتعدّى نجاسة النصف الآخر إليه.

ثمّ حكى عن بعض العامّة أنّه قال : لا يطهر النصف المغسول ؛ لأنّه مجاور لأجزاء نجسة فتسري إليه النجاسة فينجس.

قال الشيخ : وهذا باطل ؛ لأنّ ما يجاوره أجزاء جافّة لا تتعدّى نجاستها إليه. ولو تعدّت لكان يجب أن يكون إذا نجس جسم أن ينجس العالم كلّه لأنّ الأجسام كلّها متجاورة. وهذا تجاهل.

ثمّ قال : وروي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعن أئمتنا عليهم السلام أنّه إذا وقع الفأر في سمن جامد أو في زيت القي وما حوله واستعمل الباقي. ولو كانت النجاسة تسري لوجب أن ينجس الجميع وهذا خلاف النصّ (1).

وما أفاده الشيخ رحمه اللّه في هذه المسألة جيّد واضح.

ص: 809


1- الخلاف 1 : 185.

وقد اقتفى أثره فيه الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى فأوردوا محصول كلامه في الحكم ودليله (1).

ولا يخفى أنّ ما ذكره من لزوم نجاسة العالم بنجاسة جسم فيه محتاج إلى التقييد بحال كونه بأجمعه رطبا. ولظهور ذلك لم يتعرّض له. وكذا الجماعة بعده.

مسألة [4] :
اشارة

جمهور الأصحاب على أنّ أواني الخمر كلّها قابلة للتطهير من أثر نجاسة سواء في ذلك الصلب الذي لا ينشف كالصفر والرصاص والحجر والمغضور ، وغير الصلب كالقرع والخشب والخزف غير المغضور إلّا أنّه يكره استعمال غير الصلب.

وعزى الفاضلان في المعتبر والمنتهى إلى ابن الجنيد القول بعدم طهارة هذا النوع (2) ، ولم أره في مختصره.

وفي المختلف عزى إلى ابن البرّاج القول بعدم جواز استعمال هذا النوع ، غسل أو لم يغسل (3).

احتجّوا للمشهور بأنّ الواجب إزالة النجاسة المعلومة والاستظهار بالغسل. وتحصيل هذا القدر ممكن وما لا يعلم من النجاسة لا يجب تتبّعه. واللازم من ذلك حصول الطهارة حينئذ.

وبأنّه بعد إزالة عين النجاسة يرتفع المانع من الاستعمال فيكون سائغا.

ص: 810


1- المعتبر 1 : 432 ، ومنتهى المطلب 3 : 267 ، وذكرى الشيعة : 15.
2- المعتبر 1 : 467 ، ومنتهى المطلب 3 : 350.
3- مختلف الشيعة 1 : 505.

أمّا المقدّمة الاولى فظاهرة ؛ لأنّا نبحث على تقدير ارتفاع العين عن المحلّ ، وكون المقتضي للمنع ليس إلّا تلك العين.

وأمّا الثانية فلأنّ المنع لو بقي بعد ارتفاع سببه لزم بقاء المعلول بعد العلّة ، وذلك يخرجها عن العلّيّة.

وبما رواه عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : إذا غسل فلا بأس » (1).

ولو كان غير المغضور لا يطهر لوجب الاستفصال في الجواب.

حجّة القول الآخر وجهان :

أحدهما : ما رواه الشيخ في الصحيح عن فضالة بن أيّوب عن عمر (2) بن أبان الكلبي عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن الظروف؟ فقال : نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن الدبا والمزفّت؟ قال : وسألته عن الجرار الخضر والرصاص؟ قال : لا بأس بها » (3).

وعن الحسن بن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن كلّ مسكر. وكلّ مسكر حرام. قلت : والظروف التي يصنع فيها؟ قال : نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن الدبا والمزفّت والخيثم والنقير. قلت : وما ذلك؟ قال : الدبا القرع ، والمزفّت الدبان والخيثم الجرار الزرق ، والنقير خشب كان أهل الجاهليّة ينقرونها حتّى يصير

ص: 811


1- الكافي 6 : 427 ، الحديث 1.
2- في نسخة « ب » : عن ابن أبي عمير عن أبان.
3- تهذيب الأحكام 9 : 115 ، الحديث 235.

لها أجواف ينبذون فيها » (1).

والثاني : أنّ للخمر حدّة ونفوذا في الأجسام الملاقية له فإذا لم تكن الآنية مغضورة دخلت أجزاء الخمر في باطنها فلا ينالها الماء.

واجيب عن الأوّل بأنّ النهي للكراهة.

وعن الثاني بأنّ نفوذ الماء أشدّ من غيره ؛ فإنّ ما يشرب الخمر يشرب الماء فيصل الماء إلى ما يصل إليه الخمر.

مسألة [5] :

ذكر جماعة من الأصحاب أنّه تستحبّ تثنية الغسل وتثليثه في النجاسات التي لم يثبت وجوب أحد الأمرين فيها. ولم نقف لهذا التعميم على حجّة.

نعم في التثنية خروج من خلاف من اعتبرها في جميع النجاسات ، وكذا في التثليث بالنظر إلى الأواني.

ونصّ العلّامة عند ذكره لهذا الحكم في القواعد على كون التثنية والتثليث بعد زوال العين (2).

وقد مرّ في تطهير الأواني أنّ ظاهره - في أكثر كتبه - عدم اشتراط تقدّم زوال العين على الغسل المعتبر فلا وجه لاعتباره هنا خارجا عن التثنية والتثليث.

وذكرنا هناك توجيه بعض المتأخّرين لاشتراط ذلك بأنّ سبب التنجيس إذا كان موجودا لم يظهر للماء الوارد معه أثر وبيّنا ما فيه. هذا.

ص: 812


1- تهذيب الأحكام 9 : 115 ، الحديث 234 ، وفيه : « الحنثم » بدل « الخيثم ».
2- قواعد الأحكام 1 : 195.

وينبغي أن يعلم أنّه وإن لم يشترط تقدّمه على الغسل المعتبر فلا بدّ من حصوله بالمرّة الاولى لأنّ صدق الثانية يتوقّف عليه.

مسألة [6] :

قال العلّامة في النهاية : يستحبّ الحتّ والقرص (1) في كلّ نجاسة يابسة كالمنيّ ..

واحتجّ له بقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله لأسماء : « حتّيه ثمّ اقرصيه ثمّ اغسليه (2). قال : وليس واجبا ؛ لحصول امتثال الإزالة بدونه (3).

وتبعه في ذلك الشهيد في البيان فقال : يستحبّ حتّ النجاسة وقرصها ثمّ غسلها بالماء وخصوصا الدم والمنيّ (4).

والحجّة التي ذكرها العلّامة لهذا الحكم ضعيفة ؛ إذ الرواية عامّيّة ليس لها من طريق الأصحاب إسناد.

وذكر في المنتهى أنّه يستحبّ القرص والحتّ من دم الحيض. قال : وهو مذهب علمائنا ثمّ حكى عن بعض العامّة إيجابه.

واحتجّ لعدم الوجوب بالأصل وببعض الاعتبارات (5).

وانتفاء الوجوب ممّا لا ريب فيه ، وإنّما الشأن في الاستحباب.

ص: 813


1- في نسختي « أ » و « ب » : القرض.
2- في « أ » و « ب » : ثم اقرضيه.
3- نهاية الإحكام 1 : 279.
4- البيان : 92.
5- منتهى المطلب 3 : 263.

وربّما قرب في دم الحيض لاعتضاد الرواية المذكورة بما ادّعاه من كونه مذهبا لعلمائنا.

وذكر في المنتهى أنّ الحتّ يكون بالظفر ليذهب خشونة دم الحيض ، والقرص بعده ليلين للغسل (1).

وفي القاموس : أنّ الحتّ هو الفرك والقشر (2).

وقال الجوهري : الحتّ حتك الورق من الغصن والمنيّ من الثوب ونحوه. وذكر أنّ القرص بالإصبعين ثمّ قال : وفي الحديث : « أنّ امرأة سألته عن دم الحيض فقال : اقرصيه بماء » ، أي اغسليه بأطراف أصابعك (3).

وفي نهاية ابن الأثير : القرص الدلك بأطراف الأصابع والأظفار مع صبّ الماء عليه حتّى يذهب أثره (4). فتأمّل.

مسألة [7] :

وروى الشيخ في الصحيح عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن محمّد بن أحمد عن العمركي البوفكي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يصلح له أن يصبّ الماء من فيه يغسل به الشي ء يكون في ثوبه؟ قال : لا بأس » (5).

ص: 814


1- منتهى المطلب 3 : 262.
2- القاموس المحيط 1 : 145.
3- الصحاح 1 : 246.
4- النهاية 4 : 40.
5- تهذيب الأحكام 1 : 423 ، الحديث 1343.

وقد ذكر العلّامة في المنتهى هذه الرواية وقال : إنّها موافقة للمذهب ؛ لأنّ المطلوب للشارع هو الإزالة بالماء وذلك حاصل في الصورة المذكورة ، وخصوصيّة الوعاء الذي يحوي الماء غير منظور إليها (1). والأمر كما قال.

مسألة [8] :

اشتهر في كلام الأصحاب الحكم باستحباب إزالة طين المطر بعد مضيّ ثلاثة أيّام من وقت انقطاعه وأنّه لا بأس به في الثلاثة ما لم يعلم فيه نجاسة.

والأصل في هذا الحكم ما رواه الشيخ أبو جعفر الكليني في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه السلام « في طين المطر أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام إلّا أن تعلم أنّه قد نجّسه شي ء بعد المطر فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله وإن كان الطريق نظيفا لم تغسله » (2).

قال في المعتبر بعد ذكر الرواية : وفقه هذه أنّ الغيث لا ينجس بملاقاة النجاسة ما لم تغلب على أحد أوصافه ، فإذا مضى ثلاثة أيّام استحبّ إزالته لما يمازجه من الأشياء المستقذرة طبعا ، وإن لم يمازجه شي ء فهو على الإباحة ، فإن تيقّن ملاقاة نجاسة بعد المطر أي بعد انقطاع المطر وجب إزالته (3).

وجعل الحجّة في المنتهى على استحباب الإزالة - بعد الثلاثة - غلبة الظنّ

ص: 815


1- منتهى المطلب 3 : 319.
2- الكافي 3 : 13 ، الحديث 4. وتهذيب الأحكام 1 : 2. الحديث 783.
3- المعتبر 1 : 451.

بعدم سلامته من النجاسة. وقال : إنّ الرواية مؤيّدة لذلك (1). وفيه إشارة إلى قصورها عن إثبات الحكم بمجرّدها لكونها مرسلة. ولا يخفى أنّ الحكم فيها قبل الثلاثة موافق للقواعد فلا يحتاج إلى الرواية.

مسألة [9] :

قال العلّامة في التحرير : لو وقع عليه في الطريق ماء ولا يعلم نجاسته لم يجب عليه السؤال إجماعا ، وبنى على الطهارة (2).

واحتجّ في النهاية والمنتهى للحكم بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد ابن أحمد بن يحيى عن أبي جعفر يعني أحمد بن محمّد بن عيسى عن أبيه عن حفص بن غياث عن جعفر عليه السلام عن أبيه عن عليّ عليه السلام قال : « ما ابالي بول أصابني أو ماء إذا لم أعلم » (3).

و « بأنّ الأصل الطهارة. وهو ظاهر ».

قال في المنتهى : ولو سئل لم يجب على المسؤول ردّ الجواب (4).

واحتجّ له بإطلاق عدم المبالاة مع عدم العلم في الخبر. والأولى التمسّك هنا أيضا بالأصل. ثمّ عزى إلى بعض العامّة إيجاب الجواب محتجّا بأنّه سئل عن شرط الصلاة فيلزم مع العلم أن يجيب ، كما لو سئل عن القبلة.

وأجاب عنه بأنّ الفرق حاصل ؛ لأنّ الشرط مع عدم الجواب في صورة

ص: 816


1- منتهى المطلب 3 : 240.
2- تحرير الأحكام :
3- نهاية الإحكام 1 : 252 - 253 ، وتهذيب الأحكام 1 : 253 ، الحديث 735.
4- منتهى المطلب 3 : 246.

النزاع موجود ، إذ هو عدم العلم بالنجاسة لا العلم بعدمها ، بخلاف القبلة ، وهو حسن.

مسألة [10] :

إذا حكم بنجاسة شي ء لعروض أحد الأسباب المقتضية لذلك توقّف في عوده إلى الطهارة على العلم بحصول أحد الوجوه التي ثبت كونها مفيدة للتطهير أو ما يقوم مقام العلم وهو شهادة العدلين.

ويحتمل الاكتفاء باعتبار العدل الواحد أيضا لعموم مفهوم قوله تعالى ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) (1).

ولا اعتبار بإخبار غير العدل إلّا أن ينضمّ إليه القرائن المفيدة معه للعلم.

ولو أفادته منفردة كفت في الحكم بالطهارة أيضا.

ص: 817


1- سورة الحجرات : 6.

ص: 818

الفصل الثالث : في أحكام الخلوة وآداب الحمّام وسائر أنواع الاستطابة

اشارة

وفيه أنظار

ص: 819

ص: 820

[ النظر ] الأوّل : في أحكام الخلوة
مسألة [1] :

ستر العورة عن الناظر المحترم واجب في حال الخلوة وغيرها.

لما رواه الشيخ عن حريز في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » (1).

وما رواه الشيخ عن أبي بصير قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام يغتسل الرجل بارزا؟ فقال : إذا لم يره أحد فلا بأس » (2).

فأمّا رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن عورة المؤمن على المؤمن ، حرام؟ فقال : نعم. قلت : أعني سفليه؟ فقال : ليس حيث تذهب ، إنّما هو إذاعة سرّه » (3).

ورواية حذيفة بن منصور قال : « قلت لأبي عبد اللّه شي ء يقوله الناس : عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ فقال : ليس حيث يذهبون إنّما عنى أن يزلّ

ص: 821


1- تهذيب الأحكام 1 : 374 ، الحديث 1149.
2- تهذيب الأحكام 1 : 374 ، الحديث 1148.
3- تهذيب الأحكام 1 : 375 ، الحديث 1153.

زلّة أو يتكلّم بشي ء يعاب عليه فيحفظ ليعيّر به يوما ما » (1).

ورواية (2) زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في عورة المؤمن على المؤمن حرام. قال : ليس أن يكشف فترى منه شيئا. إنّما هو أن يروي عليه أو يعيبه » (3). فليس فيها منافاة لما قلناه ؛ لأنّها إنّما تضمّنت تفسير هذا اللفظ المعيّن أعني قولهم « عورة المؤمن على المؤمن حرام ».

ولا يلزم من عدم إرادة تحريم النظر من هذا اللفظ نفي التحريم أصلا.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ المراد بالعورة القبل والدبر ؛ للإجماع على كونهما عورة ، وعدم الدليل على ما زاد عليهما ، فينبغي وجوب ستره بالأصل.

ويؤيّد ذلك ما رواه الشيخ عن عليّ بن إسماعيل الميثمي عن محمّد بن حكيم. قال الميثمي لا أعلمه إلّا قال : « رأيت أبا عبد اللّه عليه السلام أو من رآه مجرّدا وعلى عورته ثوب فقال : إنّ الفخذ ليس من العورة » (4).

وعن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال : « العورة عورتان القبل والدبر مستور بالأليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة » (5).

ص: 822


1- تهذيب الأحكام 1 : 375 ، الحديث 1152.
2- في « ب » : وما رواه.
3- تهذيب الأحكام 1 : 375 ، الحديث 1154.
4- تهذيب الأحكام 1 : 374 ، الحديث 1150.
5- تهذيب الأحكام 1 : 374 ، الحديث 1151.
مسألة [2] :
اشارة

والمشهور بين علمائنا أنّه يحرم استقبال القبلة واستدبارها بالبول أو الغائط في الصحاري والبنيان.

وخالف في ذلك ابن الجنيد والشيخ المفيد وسلّار.

أمّا ابن الجنيد فقال في المختصر : يستحبّ للإنسان إذا أراد التغوّط في الصحراء أن يتجنّب استقبال القبلة.

وأمّا المفيد فقال في المقنعة : ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولكن يجلس على استقبال المشرق إن شاء أو المغرب. ثمّ قال : وإذا دخل الإنسان دارا قد بني فيها مقعد للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضرّه ذلك وإنّما يكره ذلك في الصحاري والمواضع التي يمكن فيها الانحراف عن القبلة (1).

وأمّا سلّار فقال في رسالته : وليجلس غير مستقبل القبلة ولا مستدبرها ، فإن كان في موضع قد بني على استقبالها أو استدبارها فلينحرف في قعوده هذا إذا كان في الصحاري والفلوات. وقد رخّص ذلك في الدور. وتجنّبه أفضل (2).

ووقع في كلام الأصحاب اضطراب في نقل قول المفيد هنا ، فعزى إليه المحقّق في المعتبر القول بالتحريم في الصحاري والكراهة في البنيان بعد حكايته له عن سلّار ، وتبعه العلّامة في المنتهى والتذكرة والشهيد في

ص: 823


1- المقنعة : 39.
2- المراسم : 32 ، الطبعة المحقّقة الاولى.

الدروس (1) ، لكنّهما لم يذكرا الكراهة في البنيان ، وكأنّهم فهموا من كلام المفيد إرادة التحريم من لفظ الكراهة فإنّها تستعمل فيه.

ويبقى على المحقّق : أنّ المفيد لم يتعرّض للكراهة بمعناها المتعارف في البنيان.

وعلى الكلّ : أنّه سوّى بين الصحاري وبين ما يمكن فيه الانحراف من الأبنية فلا يستقيم إطلاقهم نسبة التفرقة بين الصحاري والبنيان إليه.

وقال العلّامة في المختلف بعد حكايته لعبارة المقنعة : « وهذا الكلام يعطي الكراهة في الصحاري والإباحة في البنيان » (2) ، فأجرى الكراهة على ظاهرها وعمّم الحكم بالإباحة في البنيان ، وقد عرفت أنّه مخصوص بما لا يمكن فيه الانحراف.

وظاهر الشهيد في الذكرى موافقة المختلف حيث قال : « وقال المفيد يكره في الصحاري لا في الأبنية » (3). فحكى القول بلفظ الكراهة وأطلق نفيها في الأبنية.

ويحتمل أن يكون غرضه نقل صورة عبارته لا الحكم بإرادة المعنى المتعارف للكراهة منها ، لكن يبقى عليه إطلاق نفي الحكم في الأبنية ؛ لما علمت من تقييد المفيد له.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ حجّة المشهور - على ما في كلام الشيخ والفاضلين - رواية عيسى بن عبد اللّه الهاشمي عن أبيه عن جدّه عن علي عليه السلام قال : « قال

ص: 824


1- المعتبر 1 : 123 ، منتهى المطلب 1 : 238 ، وتذكرة الأحكام 1 : 118 ، والدروس الشرعيّة 1 : 88.
2- مختلف الشيعة 1 : 265.
3- ذكرى الشيعة : 20.

لي النبي صلى اللّه عليه وآله إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولكن شرّقوا أو غرّبوا » (1).

ورواية ابن أبي عمير عن عبد الحميد بن أبي العلاء أو غيره رفعه قال : « سئل الحسن بن عليّ ما حدّ الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها » (2).

الحديث.

ورواية علي بن إبراهيم رفعه إلى أبي الحسن موسى عليه السلام حين سأله أبو حنيفة وهو غلام : « يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال في جملة جوابه له : لا يستقبل القبلة بغائط ولا بول » (3).

وزاد في المختلف : إنّ القبلة محلّ التعظيم ، ولهذا وجب استقبالها في حال الصلاة فيناسب تحريم استقبالها بالحدث ، وإنّ في ذلك تعظيما لشعائر اللّه (4). وتبعه في الوجه الأخير الشهيد في الذكرى (5).

وهذه الحجّة بأسرها ضعيفة.

أمّا الروايات فلعدم صحّة شي ء من طرقها.

وأمّا الوجهان الآخران فحالهما واضح.

وروى الشيخ في الصحيح عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن الهيثم بن أبي مسروق عن محمّد بن إسماعيل قال : « دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام

ص: 825


1- تهذيب الأحكام 1 : 25 ، الحديث 64.
2- تهذيب الأحكام 1 : 26 ، الحديث 65.
3- الكافي 3 : 16 ، الحديث 5.
4- مختلف الشيعة 1 : 266.
5- ذكرى الشيعة : 20.

وفي منزله كنيف مستقبل القبلة » (1).

وكان الفارق بين الصحاري والبنيان ، عول على هذا الخبر فخصّص به الأخبار الاولى.

وفي المختلف عزى الاحتجاج به إلى سلّار. وأجاب عنه بأنّه غير دالّ على أنّه عليه السلام كان يجلس عليه. قال : ولو سلّم فجاز أن يكون قد انتقل إليه الملك على هذه الحال وكان ينحرف عند جلوسه (2). ولهذا الكلام وجه لو كانت حجّة المشهور ناهضة بإثباته.

وكأنّ نظر ابن الجنيد في نفي التحريم مطلقا إلى التمسّك بالأصل وعدم ثبوت ما يخرج عنه. وفي الحكم بالاستحباب إلى أنّ الأخبار المذكورة كافية في إثباته ؛ للتسامح في أدلّة السنن ، ولأنّ الاعتبارين اللذين ذكرهما العلّامة في المختلف يساعدانها عليه أيضا وهو حسن.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

حكى في المعتبر عن الشيخ أنّه قال في المبسوط : إذا كان الموضع مبنيّا على الاستقبال أو الاستدبار وأمكنه الانحراف وجب ، وإن لم يمكنه جلس عليه (3). قال المحقّق : وكأنّه يريد مع عدم التمكّن (4).

ص: 826


1- تهذيب الأحكام 1 : 26 ، الحديث 66.
2- مختلف الشيعة 1 : 266.
3- المبسوط 1 : 16.
4- المعتبر 1 : 124.
[ الفرع ] الثاني :

قال في المنتهى : يكره استقبال بيت المقدس ؛ لأنّه قد كان قبلة ولا يحرم للنسخ (1).

وفي الحكم بالكراهة نظر ؛ لفقد الدليل.

[ الفرع ] الثالث :

احتمل العلّامة في النهاية اختصاص كراهة الاستدبار بالمدينة أو ما ساواها ؛ لأنّ من استدبر الكعبة بالمدينة استقبل بيت المقدس ؛ تعظيما لشأن بيت المقدس (2). وقال الشهيد في الذكرى : إنّ هذا الاحتمال لا أصل له (3).

مسألة [3] :

ويكره استقبال قرص الشمس والقمر بالفرج في البول والغائط.

ذكره أكثر الأصحاب. واحتمل الشهيدان في الذكرى والروض كراهة استدبارهما أيضا ، وعلّلاه بالمساواة في الاحترام (4).

وجزم العلّامة في النهاية بنفي كراهة الاستدبار (5). وفي رسالة سلّار : وقد قيل إنّه لا يستدبر الشمس ولا القمر ولا يستقبلهما (6).

ص: 827


1- منتهى المطلب 1 : 242.
2- نهاية الإحكام 1 : 79.
3- ذكرى الشيعة : 20.
4- روض الجنان : 26.
5- نهاية الإحكام 1 : 82.
6- المراسم : 32.

وقال المفيد في المقنعة : لا يجوز لأحد أن يستقبل بفرجه قرصي الشمس والقمر في بول ولا غائط (1).

وظاهره التحريم ، لكنّه غير معروف بين الأصحاب فلعلّ في الجواز المنفيّ تجوّزا.

وجملة ما احتجّوا به للحكم من جهة النصّ خبران :

أحدهما : رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه ، قال : « نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يستقبل الرجل الشمس والقمر بفرجه وهو يبول » (2).

والثاني : رواه عبد اللّه بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا يبولنّ أحدكم وفرجه باد للقمر فيستقبل به » (3).

وأضاف في المنتهى إلى الخبرين التعليل باشتمالهما على نور من نور اللّه تعالى (4).

ويحكى عن بعض الأصحاب توجيه الحكم بالكراهة في الغائط حيث لم يذكر في النصّ بأنّه أغلظ وهو كما ترى.

مسألة [4] :

ويكره الجلوس للحدث في المشارع والشوارع وتحت الأشجار المثمرة وفي مواضع اللعن ومنازل النّزال.

لما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى

ص: 828


1- المقنعة : 42.
2- تهذيب الأحكام 1 : 34 ، الحديث 91.
3- تهذيب الأحكام 1 : 34 ، الحديث 92.
4- منتهى المطلب 1 : 242.

عن عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما السلام : أين يتوضّأ الغرباء؟ فقال : يتّقي شطوط الأنهار والطرق النافذة وتحت الأشجار المثمرة ومواضع اللعن. قيل له : وأين مواضع اللعن؟ قال : أبواب الدور » (1).

وما رواه عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال : « نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يتغوّط على شفير بئر ماء يستعذب منها أو نهر يستعذب أو تحت شجرة فيها ثمرتها » (2).

وعن علي بن إبراهيم رفعه قال : « خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد اللّه عليه السلام وأبو الحسن موسى عليه السلام قائم وهو غلام فقال أبو حنيفة : يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال : اجتنب أفنية المساجد وشطوط الأنهار ومساقط الثمار ومنازل النّزال ، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول وارفع ثوبك وضع حيث شئت » (3).

وعن إبراهيم الكرخي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ثلاثة ملعون من فعلهنّ : المتغوّط في ظلّ النزال والمانع الماء المنتاب وسادّ الطريق المسلوك » (4).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الصدوق رحمه اللّه قال في من لا يحضره الفقيه : لا يجوز التغوّط في في ء النّزال وتحت الأشجار المثمرة ».

ص: 829


1- تهذيب الأحكام 1 : 30 ، الحديث 78.
2- تهذيب الأحكام 1 : 352 ، الحديث 1048.
3- الكافي 3 : 16 ، الحديث 5.
4- تهذيب الأحكام 1 : 30 ، الحديث 80.

« والعلّة في ذلك ما قال أبو جعفر الباقر عليه السلام : إنّ لله تبارك وتعالى ملائكة وكلهم بنبات الأرض من الشجر والنخل ، فليس من شجرة ولا نخلة إلّا ومعها من اللّه عزوجل ملك يحفظها وما كان منها ، ولو لا أنّ معها من يمنعها لأكلتها السباع وهوامّ الأرض ، إذا كان فيها ثمرتها. وإنّما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يضرب أحد من المسلمين خلاءه تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكّلين بها. قال - يعني أبا جعفر عليه السلام - : ولذلك يكون الشجر والنخل أنسا إذا كان فيه حمله لأنّ الملائكة تحضره » (1).

وما ذكره من نفي الجواز هنا نظير ما ذكره المفيد في المسألة السابقة. والحديث رواه في العلل مسندا (2). وفي طريقه جهالة وهو كما ترى صريح في اختصاص الحكم بحال وجود الثمر. وكذا خبر السكوني (3).

وقطع جماعة من المتأخّرين بعدم الفرق بين حالي وجود الثمرة وعدمها إذا كانت الشجرة ممّا شأنه أن يثمر.

واحتجّ له بعضهم بإطلاق الخبر وأنّ المشتقّ لا يشترط في صدقه بقاء المعنى المشتقّ منه ، وبأنّ ذلك موجب لبقاء النفرة من ثمرتها في النفس.

وللنظر في المقام مجال غير أنّ الأمر في مثله سهل.

مسألة [5] :

وذكر الشيخ في النهاية وبعض الأصحاب أنّه يكره أيضا الجلوس في أفنية

ص: 830


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 32.
2- علل الشرائع : 278 ، الباب 185 ، الحديث 1.
3- تهذيب الأحكام 1 : 353 ، الحديث 1048.

الدور ، وهي جمع فناء بكسر أوّله (1).

قال الجوهري : فناء الدار ما امتدّ من جوانبها (2). وفي القاموس ونهاية ابن الأثير : أنّه المتّسع أمام الدار (3).

وفسّره جماعة من المتأخّرين بما قاله الجوهري ثمّ قالوا : إنّ المراد منه هنا حريم الدار خارج المملوك منها.

ولا نعرف من أين فهموا إرادة المعنى الذي ذكروه والحال أنّ كلامهم خال من بيان الدليل على أصل الحكم. ولا ريب أنّ معرفة المراد يتوقّف على ملاحظة الدليل. وقد مرّ في الخبر المتضمّن لجواب أبي الحسن موسى عليه السلام لأبي حنيفة أمره باجتناب أفنية المساجد لا مطلق الأفنية. وربّما لاح من كلام بعض الأصحاب الاستناد في التعميم إلى رواية عامّيّة. هذا.

وتحقيق المراد من لفظ الفناء سواء كان عامّا أو خاصّا بالمساجد لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ العرف لا يقضي فيه بشي ء. وقد عرفت اختلاف كلام أهل اللغة فيه.

وذكر جمع من الأصحاب أنّه يكره البول في حجرة الحيوان.

واحتجّوا له بنهي النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنه (4) ، وبأنّه لا يؤمن خروج حيوان يلسعه. وقيل : لأنّها مساكن الجنّ. حكاه في الذكرى (5).

ص: 831


1- النهاية ونكتها 1 : 313.
2- الصحاح 6 : 2457.
3- تاج العروس 10 : 284 ، والنهاية 3 : 477.
4- تهذيب الأحكام 1 : 30 ، الحديث 80.
5- ذكرى الشيعة : 20.

وقال العلّامة في المنتهى : حكي أنّ سعد بن عبادة بال في حجرة بالشام فاستلقى ميّتا فسمعت الجنّ تنوح عليه بالمدينة وتقول :

نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمين فلم نخط فؤاده (1)

ويكره البول في الأرض الصلبة وقائما ومطمّحا ومستقبلا للريح ؛ لأنّ ذلك كلّه بمظنّة عود النجاسة.

ويؤيّده بالنظر إلى الصلبة ما سيأتي في استحباب ارتياد الموضع المناسب.

وبالنظر إلى القيام ما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « البول قائما من غير علّة من الجفاء » (2).

وروى الشيخ أبو جعفر الكليني عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : « من تخلّى على قبر أو بال قائما أو بال في ماء قائم وعدّ أشياء إلى أن قال : فأصابه شي ء من الشيطان لم يدعه إلّا أن يشاء اللّه » (3). الحديث.

وروى في الحسن عن ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يطلي فيبول وهو قائم؟ قال : لا بأس » (4). وعلى هذا فنخصّ كراهة القيام بغير حالة الإطلاق.

وأمّا بالنظر إلى التطميح فما رواه الصدوق أيضا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله مرسلا أنّه

ص: 832


1- منتهى المطلب 1 : 246.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 27.
3- الكافي 6 : 533 ، الحديث 2.
4- الكافي 6 : 50 ، الحديث 18.

« نهى أن يطمّح الرجل ببوله في الهواء من السطح ومن الشي ء المرتفع » (1).

وروى الشيخ عن مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : يكره للرجل أو ينهى الرجل أن يطمّح ببوله من السطح في الهواء » (2).

وأمّا استقبال الريح فاستشهد له جمع من الأصحاب بما رواه الشيخ عن عبد الحميد بن أبي العلاء وغيره قال : « سئل الحسن بن علي عليهما السلام ما حدّ الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها » (3).

وهذه الرواية لا تعرّض فيها للبول - كما ترى - لا تناسب المدّعى.

وقد تنبّه لذلك جماعة منهم الشهيد فأطلق في أكثر كتبه كراهة استقبال الريح حال التخلّي محتجّا بالرواية (4).

وذكر بعض الأصحاب في تقريب الاحتجاج بها على الوجه الذي ذكره الشهيد أنّ الغائط فيها كناية عن التخلّي ، وهو متّجه.

ثمّ إنّ الرواية تضمّنت الاستدبار أيضا ولم يذكر أكثر الأصحاب كراهته نظرا إلى أنّ التعليل بمخافة العود غير آت فيه.

وأنت خبير بأنّ الرواية لا تعلّق لها بالتعليل. فالمتّجه بتقدير العمل بها عدم

ص: 833


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 27.
2- تهذيب الأحكام 1 : 352 ، الحديث 1045.
3- تهذيب الأحكام 1 : 26 ، الحديث 65.
4- الروضة البهيّة 1 : 339.

الفرق. وبه جزم الشهيد في الذكرى (1).

وقال العلّامة في النهاية : الظاهر أنّ المراد بالنهي عن الاستدبار حالة خوف الردّ إليه (2).

مسألة [6] :
اشارة

ويكره البول في الماء جاريا كان أو راكدا على المشهور بين الأصحاب ، لكنّها (3) في الراكد آكد.

واحتجّوا له بما رواه الشيخ في الصحيح عن ربعي عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري وكره أن يبول في الماء الراكد » (4).

وما رواه عن مسمع عنه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « أنّه نهي أن يبول الرجل في الماء الجاري إلّا من ضرورة. وقال : إنّ للماء أهلا » (5).

قال في المعتبر : لا تنافي بين الروايتين ؛ لأنّ الجواز لا ينافي الكراهيّة (6).

ص: 834


1- ذكرى الشيعة : 20.
2- نهاية الإحكام 1 : 82.
3- ضمير التأنيث مثبت في جميع النسخ والظاهر أنّه يريد « الكراهة » المفهومة من قوله « يكره ».
4- تهذيب الأحكام 1 : 31 ، الحديث 81.
5- تهذيب الأحكام 1 : 34 ، الحديث 90.
6- المعتبر 1 : 137.

ويظهر من الشيخ علي بن بابويه في رسالته : نفي كراهة (1) البول في الماء الجاري لأنّه قال : ولا يبل في ماء راكد. ولا بأس بأن يبول في ماء جار.

وقد ورد نفي البأس عن البول في الجاري في حديثين آخرين. وظاهر الجميع نفي الكراهة.

وخبر مسمع لا يصلح للمعارضة ؛ لضعفه.

وفي خبر آخر ضعيف أيضا مرسل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قلت : يبول الرجل في الماء؟ قال : نعم ، ولكن يتخوّف عليه من الشيطان » (2).

وروى الصدوق في العلل بإسناد صحيح عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تبل في ماء نقيع فإنّه من فعل ذلك فأصابه شي ء فلا يلومنّ إلّا نفسه » (3). الحديث.

وهذا المعنى سبق في صحيح محمّد بن مسلم المتضمّن لكراهة البول قائما (4) فإنّه ذكر فيه البول في الماء ، وقيّده بالقائم كما قيّده في هذا الخبر بالنقيع.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحكم هنا معلّق بالبول كما رأيت ، وكلام الأصحاب في ذلك مختلف : فمنهم من اقتصر على مضمون الأخبار فلم يذكر غير البول. ومنهم من سوّى بينه وبين الغائط في الحكم من غير تعرّض لبيان وجهه. وذكر الشهيد في الذكرى وبعض المتأخّرين بأنّ ثبوت الكراهة في البول يقتضي

ص: 835


1- في « ب » : نفي كراهيّة البول.
2- تهذيب الأحكام 1 : 352 ، الحديث 1044.
3- علل الشرائع : 283.
4- الكافي 6 : 533.

ثبوتها في الغائط بطريق أولى. وفيه نظر (1).

فرع :

قال بعض المتأخّرين : الماء المعدّ في بيوت الخلاء لأخذ النجاسة واكتنافها - كما يوجد في الشام وما يجري مجراها من البلاد الكثيرة الماء - لا يبعد أن يقال بعدم كراهة قضاء الحاجة فيه. وحيث إنّ دليل الكراهة في الجاري غير ناهض فلا بأس بهذا الاستثناء ، وإلّا فمع ثبوت أصل الحكم وعمومه يحتاج التخصيص إلى دليل.

مسألة [7] :

ويستحبّ لمن أراد التخلّي أن يطلب موضعا يستر فيه عن الناس. ذكره جمع من الأصحاب.

واحتجّ له العلّامة بأنّه أنسب للاحتشام ، وبأنّ فيه تأسّيا بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله فروي عن جابر أنّه قال : « خرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في سفر فإذا هو بشجرتين بينهما أربعة أذرع فقال : يا جابر انطلق إلى هذه الشجرة فقل : يقول لك رسول اللّه ألحقي بصاحبتك حتّى أجلس خلفكما فجلس النبيّ صلى اللّه عليه وآله خلفهما ثمّ رجعتا إلى مكانهما » (2).

مسألة [8] :

وذكر جماعة استحباب ارتياد الموضع المناسب.

ص: 836


1- ذكرى الشيعة : 20.
2- نهاية الإحكام 1 : 79. راجع سنن ابن ماجة 1 : 2. الرقم 339.

والاعتبار يشهد له ، مضافا إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن عليّ بن إسماعيل عن صفوان عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أشدّ الناس توقّيا عن البول ، كان إذا أراد البول يعمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو إلى مكان من الأمكنة يكون فيه التراب الكثير كراهيّة أن ينضح عليه البول (1).

وروى عن سليمان الجعفري قال : « بتّ مع الرضا عليه السلام في سفح فلمّا كان آخر الليل قام فتنحّى وصار على موضع مرتفع فبال وتوضّأ » (2). وقال : « من فقه الرجل أن يرتاد لموضع بوله وبسط سراويله. وقام عليه وصلّى صلاة الليل » (3).

مسألة [9] :

والمشهور بين الأصحاب استحباب تغطية الرأس عند دخول الخلاء.

قال في المعتبر : وعليه اتّفاق الأصحاب (4). ثمّ ذكر الرواية الواردة بذلك وهي رواية أحمد بن أبي عبد اللّه عن عليّ بن أسباط أو رجل عنه عمّن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّه كان إذا دخل الكنيف يقنّع رأسه » (5). الحديث.

وأشار المحقّق بعد هذا إلى قصور الرواية من جهة السند. ثمّ قال : والحجّة

ص: 837


1- تهذيب الأحكام 1 : 33 ، الحديث 87.
2- في « ب » : وروى سليمان الجعفري.
3- تهذيب الأحكام 1 : 33 ، الحديث 86.
4- المعتبر 1 : 133.
5- تهذيب الأحكام 1 : 24 ، الحديث 62.

أنّه يأمن مع تغطية رأسه من وصول الرائحة إلى دماغه. قال : وذكر المفيد رحمه اللّه أنّها من سنن النبيّ عليه السلام (1).

وما حكاه عن المفيد مذكور في المقنعة مع عدّ وجوه اخر علّل بها الحكم. فقال : « وليغطّ رأسه إن كان مكشوفا ليأمن بذلك من عبث الشيطان ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه وهو سنّة من سنن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، وفيه إظهار الحياء من اللّه تعالى لكثرة نعمه على العبد ، وقلّة الشكر منه » (2).

وقال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : ينبغي للرجل إذا دخل الخلاء أن يغطّي رأسه إقرارا بأنّه غير مبرّئ نفسه من العيوب (3).

مسألة [10] :

ويستحبّ تقديم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج. ذكر ذلك الصدوقان والشيخان وتبعهما سائر الأصحاب (4). وعلّله الصدوق والشيخ بالفرق بين دخول الخلاء ودخول المسجد (5).

وقال المحقّق في المعتبر : لم أجد بهذا حجّة ، غير أنّ ما ذكره الشيخ وجماعة من الأصحاب حسن (6). وعنى بذلك اعتبار التفرقة بينه وبين المسجد.

ص: 838


1- المعتبر 1 : 133.
2- المقنعة : 39.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 24.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 24 ، والمقنعة : 39 ، والنهاية ونكتها 1 : 212.
5- تهذيب الأحكام 1 : 25.
6- المعتبر 1 : 134.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يلوح من بعض المتأخّرين القول باختصاص هذا الحكم بالبنيان نظرا إلى مسمّى الدخول. والخروج لا يصدق في غيره.

وقال العلّامة في النهاية : الأقرب عدم الاختصاص بالبنيان فيقدّم اليسرى إذا بلغ موضع جلوسه في الصحراء وإذا فرغ قدّم اليمنى (1). ووافقه والدي رحمه اللّه فقال : إنّ الأصحّ عدم اختصاصه بالبنيان (2).

والتحقيق أنّ الترجيح هنا موقوف على اعتبار المأخذ فإن كان هو التوجيه الذي حكيناه فلا بأس بعدم الاختصاص.

مسألة [11] :

ويستحبّ التسمية عند الدخول والدعاء في المشهور بين الأصحاب لما رواه الكليني في الحسن عن محمّد بن عيسى عن يونس عن معاوية بن عمّار قال : « سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : إذا دخلت المخرج فقل : بسم اللّه اللّهم إنّي أعوذ بك من الخبيث المخبّث الرجس النجس الشيطان الرجيم » (3).

وروى الشيخ في الصحيح عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن محمّد بن الحسين عن الحسن بن عليّ عن أبيه عن آبائه عن جعفر قال : قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « إذا انكشف أحدكم لبول أو غير ذلك فليقل : بسم اللّه ؛ فإنّ الشيطان يغضّ بصره » (4).

ص: 839


1- نهاية الإحكام 1 : 81.
2- روض الجنان : 25.
3- الكافي 3 : 16 ، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 1 : 353 ، الحديث 1047.

وروى عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال : « إذا دخلت الغائط فقل أعوذ باللّه من الرجس النجس الخبيث المخبّث الشيطان الرجيم » (1).

وروى في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أنّه كان إذا أراد دخول المتوضّأ قال : اللّهم إنّي أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبّث الشيطان الرجيم اللّهم أمط عنّي الأذى وأعذني من الشيطان الرجيم » (2).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام « أنّه كان إذا دخل الخلاء يقول : الحمد لله الحافظ المؤدّي » (3).

وعن الصادق عليه السلام أنّه « كان إذا دخله يقنّع رأسه ويقول في نفسه : بسم اللّه وباللّه ولا إله إلّا اللّه ربّ أخرج منّي الأذى سرحا بغير حساب واجعلني لك من الشاكرين فيما تصرفه عنّي من الأذى والغمّ الذي لو حبسته عنّي هلكت ، لك الحمد ، اعصمني من شرّ ما في هذه البقعة وأخرجني منها سالما وحل بيني وبين طاعة الشيطان الرجيم » (4).

مسألة [12] :

ويستحبّ تأخير كشف العورة حتّى تدنو الأرض والاعتماد في الجلوس على الرجل اليسرى.

ويكره مسّ الذكر باليد اليمنى حال البول. ذكر ذلك كلّه جماعة من الأصحاب.

ص: 840


1- تهذيب الأحكام 1 : 351 ، الحديث 1038.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 23 ، الحديث 37.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 24 ، الحديث 40.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 24 ، الحديث 41.

واحتجّوا للأوّل بفعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله.

وللثاني بتعليم النبيّ صلى اللّه عليه وآله أصحابه ذلك.

وللثالث بما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن أبي جعفر عليه السلام مرسلا أنّه قال : « إذا بال الرجل فلا يمسّ ذكره بيمينه » (1).

مسألة [13] :

ويكره أن يستصحب معه ما عليه اسم اللّه كخاتم ومصحف. قاله بعض الأصحاب.

وقال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : ولا يجوز للرجل أن يدخل إلى الخلاء ومعه خاتم عليه اسم اللّه أو مصحف فيه القرآن (2). ولا نعرف للحكم بالكراهة هنا أو بغيرها دليلا سوى ما رواه الشيخ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « لا يمسّ الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم اللّه : إلى أن قال : ولا يدخل المخرج وهو عليه » (3).

وعن أبان بن عثمان عن أبي القاسم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قلت له : الرجل يريد الخلاء وعليه خاتم فيه اسم اللّه تعالى؟ فقال : ما احبّ ذلك. قال : فيكون اسم محمّد؟ قال : لا بأس » (4).

وطريق هاتين الروايتين ضعيف.

ص: 841


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 28 ، الحديث 55.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 29.
3- تهذيب الأحكام 1 : 31 ، الحديث 82.
4- تهذيب الأحكام 1 : 33 ، الحديث 84.
مسألة [14] :

ويكره استصحاب دراهم بيض غير مصرورة. ذكره جماعة من الأصحاب وبه رواية رواها الشيخ بإسناده الصحيح عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن يحيى الخزّاز عن غياث عن جعفر عن أبيه « أنّه كره أن يدخل الخلاء ومعه درهم أبيض. إلّا أنّ يكون مصرورا » (1).

مسألة [15] :

ويكره الأكل والشرب والسواك وطول الجلوس على الخلاء في المشهور بين علمائنا.

لما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن أبي جعفر الباقر عليه السلام « أنّه دخل الخلاء فوجد لقمة خبز في القدر فأخذها وغسلها ودفعها إلى مملوك معه ، فقال : يكون معك لآكلها إذا خرجت ، فلمّا خرج عليه السلام قال للمملوك : أين اللقمة؟ قال : أكلتها يا بن رسول اللّه ، فقال : إنّها ما استقرّت في جوف أحد إلّا وجبت له الجنّة ، فاذهب فأنت حرّ فإنّي أكره أن أستخدم رجلا من أهل الجنّة » (2).

قالوا في توجيه دلالة هذا الخبر على كراهة الأكل حينئذ : أنّ تأخيره عليه السلام أكلها مع ما فيه من الثواب العظيم يدلّ بفحواه على ذلك لا سيّما بمعونة تعليق الأكل بالخروج.

ص: 842


1- تهذيب الأحكام 1 : 353 ، الحديث 1046.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 27 ، الحديث 49.

ولم نقف على خبر يقتضي كراهة الشرب. والمتعرّضون للاحتجاج منهم من اقتصر على حديث اللقمة فاحتجّ به للحكمين ، ومنهم من ضمّ إليه التعليل بتضمّنها مهانة النفس ، ومنهم من قال : إنّ الشرب يلحق بالأكل للاشتراك في المعنى.

وأمّا كراهة السواك وطول الجلوس فاحتجّوا لهما بما رواه الصدوق أيضا في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال : « السواك في الخلاء يورث الخسر » (1).

وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : « طول الجلوس على الخلاء يورث الباسور » (2).

وروى الشيخ عن محمّد بن مسلم قال : « سمعت أبا جعفر ع يقول : قال لقمان : طول الجلوس على الخلاء يورث الباسور. قال : فكتب هذا على باب الحش » (3).

مسألة [16] :
اشارة

والمشهور بين الأصحاب كراهة الكلام على الخلاء إلّا بذكر اللّه تعالى وقراءة آية الكرسي ، وحكاية الأذان ، وردّ السلام ، وفي حال الضرورة. وقال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : ولا يجوز الكلام على الخلاء لنهي النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن ذلك. قال : وروي أنّ من تكلّم على الخلاء لم تقض حاجته. وذكر قبل هذا الكلام

ص: 843


1- في « أ » : يورث البخر. وهو كذلك في من لا يحضره الفقيه 1 : 1. الحديث 110.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 28 ، الحديث 56.
3- تهذيب الأحكام 1 : 352 ، الحديث 1041.

جواز الذكر وحكاية الأذان وقراءة آية الكرسي (1).

وقد احتجّ الفاضلان لأصل الحكم بالكراهة هنا بما رواه الشيخ رحمه اللّه عن صفوان عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال : « نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يجيب الرجل آخر وهو على الغائط أو يكلّمه حتّى يفرغ » (2).

وما رواه عن عمر بن يزيد قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن التسبيح في المخرج وقراءة القرآن؟ قال : لم يرخّص في الكنيف أكثر من آية الكرسي وبحمد اللّه أو آية » (3).

وبالخبر الثاني احتجّ العلّامة في المنتهى لاستثناء قراءة آية الكرسي (4).

واحتجّا لاستثناء الذكر بما رواه سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إنّ موسى قال : يا ربّ تمرّ بي حالات أستحي أن أذكرك فيها. فقال : يا موسى ذكري حسن على كلّ حال » (5).

وما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه قال : « لمّا ناجى اللّه موسى ابن عمران قال موسى : يا ربّ إنّي أكون في أحوال اجلّك أن أذكرك فيها. فقال : يا موسى اذكرني على كلّ حال » (6).

ص: 844


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 31 و 28.
2- تهذيب الأحكام 1 : 27 ، الحديث 69 ، راجع المعتبر 1 : 137 ، ونهاية الإحكام 1 : 84.
3- تهذيب الأحكام 1 : 352 ، الحديث 1042.
4- منتهى المطلب 1 : 247.
5- تهذيب الأحكام 1 : 27 ، الحديث 68.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 28 ، الحديث 58.

وبهذه الرواية احتجّ في المنتهى لاستثناء حكاية الأذان أيضا (1). ولم يتعرّض المحقّق لاستثنائها ، فلا حجّة له في كلامه. وكذا ردّ السلام.

واحتجّ له العلّامة وبعض المتأخّرين بعموم الأمر به (2).

واحتجّ في المعتبر لحال الضرورة بأنّ في الامتناع عن الكلام حينئذ ضررا منفيّا بقوله تعالى ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3).

وقد اعترض على احتجاج العلّامة لاستثناء حكاية الأذان بحديث الذكر من حيث إنّ الحيعلات ليست ذكرا ، فلا يتمّ استثناء حكايته أجمع. وهو متّجه.

ولكن الدليل على هذا الاستثناء بخصوصه موجود في الأخبار فلا حاجة إلى التشبّث بعموم الذكر.

فروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال لمحمّد ابن مسلم : « يا ابن مسلم لا تدعنّ ذكر اللّه على كلّ حال ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت في الخلاء فاذكر اللّه عزوجل ، وقل كما يقول [ المؤذّن ] » (4).

وطريق هذه الرواية في الكتاب المذكور وإن كان غير نقيّ فقد رواها مصنّفه في كتاب العلل بطريق واضح الصحّة (5). وروى فيه أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذّن ولا تدع ذكر اللّه عزوجل في تلك الحال لأنّ ذكر اللّه حسن

ص: 845


1- منتهى المطلب 1 : 248.
2- نهاية الإحكام 1 : 84.
3- المعتبر 1 : 138.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 288 ، الحديث 892.
5- علل الشرائع : 284 ، الحديث 2.

على كلّ حال » (1).

وعن سليمان بن مقبل المديني قال : « قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام : لأيّ علّة يستحبّ للإنسان إذا سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذّن وإن كان على البول والغائط؟ قال : لأنّ ذلك يزيد في الرزق » (2) ، هذا.

والروايات التي احتجّ بها الفاضلان لاستثناء قراءة آية الكرسي ومطلق الذكر ليست بصحيحة الطرق. وفي معناها خبران صحيحان فكانا أحقّ بالذكر.

أحدهما : رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن عمر بن يزيد في الصحيح أنّه « سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن التسبيح في المخرج وقراءة القرآن فقال : لم يرخّص في الكنيف أكثر من آية الكرسي وبحمد اللّه أو آية الحمد لله ربّ العالمين » (3).

والثاني : رواه الكليني عن أبي حمزة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : « مكتوب في التوراة التي لم تغيّر أنّ موسى سأل ربّه فقال : إلهي إنّه يأتي عليّ مجالس اعزّك واجلّك أن أذكرك فيها. فقال : يا موسى إنّ ذكري حسن على كلّ حال » (4).

فرع :

قال في المنتهى : يستحبّ أن يحمد اللّه إذا عطس - يعني المتخلّي - وأن

ص: 846


1- علل الشرائع : 284 ، الحديث 1.
2- علل الشرائع : 284 ، الحديث 4.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 28 ، الحديث 57.
4- الكافي 2 : 497.

يسمّت العاطس لما فيهما من الذكر (1).

والحكم الأوّل واضح. وأمّا الثاني فاستشكله بعض المتأخّرين وهو في محلّه حيث يثبت عموم الكراهة ؛ إذ التسميت غير داخل في مفهوم الذكر.

مسألة [17] :

قال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يقول : « ما من عبد إلّا وبه ملك موكّل يلوي عنقه حتّى ينظر إلى حدثه ، ثمّ يقول له الملك : يا بن آدم هذا رزقك فانظر من أين أخذته وإلى ما صار. فينبغي للعبد عند ذلك أن يقول : اللّهم ارزقني الحلال وجنّبني الحرام » (2).

قال ولم ير للنبيّ صلى اللّه عليه وآله قطّ نجو ؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى وكّل الأرض بابتلاع ما يخرج منه. ثمّ قال :

وكان أمير المؤمنين عليه السلام إذا أراد الحاجة وقف على باب المذهب ، ثمّ التفت عن يمينه وعن يساره إلى ملكيه فيقول : أميطا عنّي فلكما اللّه عليّ أن لا احدّث بلساني شيئا حتّى أخرج إليكما » (3).

وقد روى مضمون ما ذكره أوّلا في كتاب العلل مسندا من طريقين.

أحدهما : عن العيص بن أبي مهيبة قال : شهدت أبا عبد اللّه عليه السلام وسأله عمرو بن عبيد فقال : « ما بال الرجل إذا أراد أن يقضي حاجته إنّما ينظر إلى سفليه وما يخرج من ثمّ؟ فقال : إنّه ليس أحد يريد ذلك إلّا وكّل اللّه عزوجل به

ص: 847


1- منتهى المطلب 1 : 249.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 23 ، الحديث 38.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 23 - 24.

ملكا يأخذ بعنقه ليريه ما يخرج منه أحلال أو حرام » (1).

والثاني : عن أبي اسامة قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فسأله رجل من المغيريّة عن شي ء من السنن فقال : « ما من شي ء يحتاج إليه أحد من ولد آدم إلّا وقد جرت فيه من اللّه ورسوله سنّة عرفها من عرفها وأنكرها من أنكرها. إلى أن قال : قال الرجل : فالإنسان على حال الخلاء لا يصبر حتّى ينظر إلى ما يخرج منه. فقال : إنّه ليس في الأرض آدميّ إلّا ومعه ملكان موكّلان به فإذا كان على تلك الحال ثنيا رقبته. ثمّ قالا : يا ابن آدم انظر إلى ما كنت تكدح له في الدنيا إلى ما هو صائر (2).

وروى هذا الحديث الشيخ أبو جعفر الكليني في الكافي أيضا مسندا عن أبي اسامة (3).

وأمّا ما ذكره عن أمير المؤمنين عليه السلام أخيرا فرواه الشيخ في التهذيب بإسناده الصحيح عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن محمّد بن عيسى العبيدي عن الحسن بن عليّ بن إبراهيم بن عبد الحميد قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا أراد قضاء الحاجة وقف على باب المذهب ، ثمّ التفت يمينا وشمالا إلى ملكيه فيقول : أميطا عنّي فلكما اللّه عليّ ألّا احدث حدثا حتّى أخرج إليكما » (4).

ص: 848


1- علل الشرائع : 275.
2- علل الشرائع : 276.
3- الكافي 3 : 69.
4- تهذيب الأحكام 1 : 351 ، الحديث 1040.
مسألة [18] :
اشارة

ويستحبّ الاستبراء من البول عند جمهور الأصحاب.

وعزى العلّامة إلى الشيخ في الاستبصار القول بوجوبه حيث أدرج لفظ الوجوب في عنوان الباب (1).

والشيخ مصرّح في غير موضع باستعمال لفظ الوجوب فيما هو أعمّ من المعنى المتعارف له. وكيف كان فالوجوب لا وجه له.

ثمّ إنّ كلام الأصحاب في كيفيّته مختلف ، فقال الشيخ عليّ بن بابويه في رسالته : إذا أردت الاستنجاء فامسح من عند المقعدة إلى الأنثيين ثلاث مرّات ، ثمّ انتر ذكرك ثلاث مرّات (2).

وقال ابن الجنيد في المختصر : إذا بال فيستحبّ له أن ينتر ذكره من أصله إلى طرفه ثلاث مرّات ليخرج شي ء إن كان بقي في المجرى (3).

وقال المفيد في المقنعة : إذا فرغ من حاجته وأراد الاستبراء فليمسح بإصبعه الوسطى تحت انثييه إلى أصل القضيب مرّتين أو ثلاثا ، ثمّ يضع مسبحته تحت القضيب وإبهامه فوقه ويمرّها عليه باعتماد قويّ من أصله إلى رأس الحشفة مرّة أو مرّتين أو ثلاثا ليخرج ما فيه من بقيّة البول (4).

وقال الشيخ في النهاية : فإذا فرغ فليمسح بإصبعه من عند مخرج النجو

ص: 849


1- مختلف الشيعة 1 : 270 ، وراجع الاستبصار 1 : 48 - 49.
2- لم نعثر عليه.
3- غير موجود.
4- المقنعة : 40.

إلى أصل القضيب وينتره ثلاث مرّات (1).

وحكى الفاضلان عن المرتضى نحو ما قاله ابن الجنيد (2).

قال المحقّق في المعتبر - بعد نقله لعبارة الشيخين والمرتضى - : وكلام الشيخ أبلغ في الاستظهار (3).

وذكر العلّامة في المنتهى والنهاية والتذكرة وجماعة من المتأخّرين تبعا له في بيان الكيفيّة : أنّها المسح باليد من عند المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا ، ومنه إلى رأسه ثلاثا (4). وفي هذه الكيفيّة زيادة على ما ذكر في العبارات السابقة.

ولم يتعرّض العلّامة لغير عبارة المرتضى عند إشارته إلى الخلاف هنا وهو عجيب. وربّما لاح من ذلك ظنّ موافقة ما ذكره لكلام الشيخين. وليس الأمر كذلك بالنظر إلى عبارة المفيد قطعا.

وأمّا عبارة الشيخ فظاهرها المخالفة وأنّها في معنى عبارة ابن بابويه ولكنّ احتمال الموافقة منها غير ممتنع.

وفي كلام الشهيدين كيفيّة اخرى مغايرة للكلّ ، ذكرها الأوّل في أكثر كتبه (5) ، والثاني في الروضة وهي : مسح ما بين المقعدة وأصل القضيب ثلاثا ، ثمّ نتره ثلاثا ، ثمّ عصر الحشفة ثلاثا (6).

ص: 850


1- النهاية ونكتها 1 : 214.
2- المعتبر 1 : 134 ، ومنتهى المطلب 1 : 255.
3- المعتبر 1 : 134.
4- منتهى المطلب 1 : 254 ، وتهذيب الأحكام 1 : 81 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 131.
5- الدروس الشرعية 1 : 89.
6- الروضة البهيّة 1 : 341.

وقد احتجّ في المنتهى لما اختاره من الكيفيّة بما رواه الكليني في الحسن عن محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : « رجل بال ولم يكن معه ماء؟ قال : يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فإن خرج بعد ذلك شي ء فليس من البول ، ولكنّه من الحبائل » (1).

ولا يخفى عليك أنّ هذا الحديث غير واف بإثبات الكيفيّة التي ذكرها ، وإنّما يصلح دليلا على نفي ما حكاه عن المرتضى حيث لم يذكر في الكيفيّة العصر من عند المقعدة.

ثمّ إنّه عزى إلى المرتضى الاحتجاج بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد ابن أبي عمير عن حفص بن البختريّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام « في الرجل يبول؟ قال : ينتره ثلاثا ثمّ إن سال حتّى يبلغ الساق فلا يبالي » (2).

وأجاب بأنّه لا تنافي بين الحديثين لأنّ المستحبّ الاستظهار بحيث لا يتخلّف شي ء من أجزاء البول في القضيب ، وذلك قابل للشدّة والضعف ، ومتفاوت بقوّة المثانة وضعفها.

وهذا الكلام جيّد فإنّ الحديثين متقاربان من جهة الأسناد. ومقتضاهما تأدّي الوظيفة بالأقلّ. وأفضليّة الأكثر.

والزيادة التي ذكرها الأصحاب لا حرج فيها بعد ظهور كون العلّة هي إخراج بقايا البول ؛ فإنّ لكثرة الاستظهار مدخل في حصول الغرض.

ولكنّ العجب من اضطراب كلامهم في ذلك وخصوصا المتأخّرين مع عدم الدليل على ما قالوه ولكونه مخالفا لكلام القدماء.

ص: 851


1- الكافي 3 : 19 ، وراجع منتهى المطلب 1 : 255.
2- تهذيب الأحكام 1 : 27 ، الحديث 70.

واعلم أنّ جمعا من الأصحاب منهم سلّار في رسالته ، والعلّامة في التذكرة والنهاية ، والشهيد في أكثر كتبه ذكروا التنحنح في الاستبراء (1) ، ولم نقف فيه على أثر ، ولا ادّعاه أحد منهم ، فلا ندري من أين مأخذه؟

ثمّ إنّ العلّامة اقتصر على مجرّد فعله حينئذ ، وجعله الشهيد مثلّثا ، ونسب الحكم باستحبابه ثلاثا في الذكرى إلى سلّار ، وأراه وهما ؛ لأنّه ذكر التنحنح في جملة كيفيّة الاستبراء ، ووقع في عبارته لفظ الثلاث بعده ، وليس قيدا فيه ، بل في النتر المعتبر في الاستبراء. وهذه عبارته : « إذا قضى حاجته فليمسح بإصبعه الوسطى تحت قضيبه من أصله من تحت انثييه ثلاثا ثمّ ينتر قضيبه ثلاثا فيما بين المسبحة والإبهام وهو يتنحنح ثلاثا » (2).

وذكر العلّامة والشهيد في التذكرة والذكرى أنّه يستحبّ الصبر هنيئة قبل الاستبراء ، وكأنّ وجهه انتظار خروج بقايا البول ؛ إذ لا نصّ فيه ، بل يلوح من بعض الأخبار ما ينافيه.

فروى الشيخ في الصحيح عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا انقطعت درّة البول فصبّ الماء » (3).

وفي الموثّق عن روح بن عبد الرحيم قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام وأنا قائم على رأسه ومعي إداوة - أو قال كوز - فلمّا انقطع شخب البول قال : بيده هكذا

ص: 852


1- المراسم : 32 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 131 ، ونهاية الإحكام 1 : 81 ، والروضة البهيّة 1 : 341.
2- ذكرى الشيعة : 20.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 131 ، وذكرى الشيعة : 20.

إليّ فناولته الماء فتوضّأ مكانه » (1).

تذنيب :

الظاهر من كلام أكثر الأصحاب اختصاص الحكم باستحباب الاستبراء بالذكر بل صرّح بذلك جمع منهم.

ويعزى إلى جماعة القول بثبوته للأنثى أيضا وأنّها تستبرئ عرضا.

واختاره العلّامة في المنتهى فقال : الرجل والمرأة في ذلك سواء. وكذا البكر والثيّب ؛ لأنّ مخرج البول غير مخرج البكارة والثيوبة (2). ولم يتعرّض للمغايرة في الكيفيّة.

وما ورد من الأخبار في هذا الباب مختصّ بالذكر فلا نعرف لتعديته إلى الانثى وجها.

وفي مختصر ابن الجنيد : إذا بالت المرأة تنحنحت بعد بولها (3).

فرع :

لا نعرف خلافا بين علمائنا في أنّ البلل المتجدّد بعد الاستبراء لا حكم له ، وأنّ الخارج مع عدم الاستبراء بحكم البول.

والخبران السابقان يدلّان على الحكم الأوّل ، مضافين إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير عن جميل بن صالح عن عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد اللّه عليه السلام « في الرجل يبول ، ثمّ يستنجي ، ثمّ يجد بعد ذلك بللا؟ قال : إذا بال فخرط ما بين المقعدة والأنثيين ثلاث مرّات وغمز ما بينهما ثمّ

ص: 853


1- تهذيب الأحكام 1 : 356 ، الحديث 1065.
2- منتهى المطلب 1 : 256.
3- لا يوجد.

استنجى فإن سال حتى يبلغ السوق فلا يبالي » (1).

وفي الصحيح عن حريز قال : حدّثني زيد الشحّام وزرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « إن سال من ذكرك شي ء من مذي أو وذي فلا تغسله إلى أن قال : كلّ شي ء خرج منك بعد الوضوء فإنّه من الحبائل » (2).

وما رواه الكليني في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن العلاء عن أبي يعفور قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل بال ثمّ توضّأ وقام إلى الصلاة فوجد بللا؟ قال : لا يتوضّأ إنّما ذلك من الحبائل » (3).

والخبران الأخيران وإن كانا خاليين من ذكر الاستبراء فيمكن أن يقيّد إطلاقهما بالأخبار الاوّل. ولو بقيا على ظاهرهما فأولى بالدلالة على المطلوب. هذا. والحكم المذكور موافق لأصالة البراءة ، فلا مجال للتوقّف فيه. وقد ورد حديث يدلّ بظاهره على خلاف ذلك ، وطريقه ليس بنقيّ. وسيأتي الكلام عليه وعلى الحكم الآخر في بحث الوضوء إن شاء اللّه تعالى.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الفائدة المذكورة للاستبراء في الذكر يتأتّى في الانثى على القول باستحباب الاستبراء لها.

وأمّا على القول باختصاصه بالذكر فقال بعض المتأخّرين : أنّه يحتمل قويّا الحكم بطهارة الخارج المشتبه منها ، وعدم ترتّب أثر عليه وإن لم يستبر. وهو متّجه ؛ لأنّ الحكم بالنجاسة وترتّب الأثر منوط بالبول. ومع الاشتباه لا يعلم أنّه بول فلا مخرج في حكمه عمّا يقتضيه الأصل.

ص: 854


1- تهذيب الأحكام 1 : 20 ، الحديث 50.
2- الكافي 3 : 39 ، الحديث 1.
3- الكافي 3 : 19 ، الحديث 2.
مسألة [19] :

ويجب الاستنجاء من البول والغائط عند علمائنا أجمع ، وأخبارنا به مستفيضة.

فمن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « لا صلاة إلّا بطهور ، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، وبذلك جرت السنّة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وأمّا البول فلا بدّ من غسله » (1).

وفي الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : « سألته عن رجل ذكر - وهو في صلاته - أنّه لم يستنج من الخلا قال : ينصرف ويستنجي من الخلا ويعيد الصلاة » (2). الحديث.

وعن السندي بن محمّد عن يونس بن يعقوب قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام الوضوء الذي افترضه اللّه على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال : يغسل ذكره ويذهب بالغائط » (3).

مسألة [20] :

ولا استنجاء في أحد المخرجين بخروج الحدث من الآخر ، ولا من الريح بإجماع علمائنا ؛ للأصل.

وما رواه الشيخ عن عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا بال الرجل ولم يخرج منه شي ء غيره فإنّما عليه أن يغسل إحليله وحده ، ولا يغسل

ص: 855


1- تهذيب الأحكام 1 : 49 ، الحديث 144.
2- تهذيب الأحكام 1 : 50 ، الحديث 145.
3- تهذيب الأحكام 1 : 47 ، الحديث 134.

مقعدته. وإن خرج من مقعدته شي ء ولم يبل فإنّما عليه أن يغسل المقعدة وحدها ولا يغسل الإحليل » (1). الحديث.

وما رواه في الصحيح عن سليمان بن جعفر الجعفري قال : « رأيت أبا الحسن عليه السلام يستيقظ من نومه يتوضّأ ولا يستنجي. وقال كالمتعجّب من رجل سمّاه : بلغني أنّه إذا خرجت منه ريح استنجى » (2).

مسألة [21] :
اشارة

والواجب في الاستنجاء إزالة النجاسة عن الظاهر وهو مذهب أكثر أهل العلم. قاله في المنتهى (3).

وعزى إلى بعض العامّة خلافه وهو باطل.

لما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن إبراهيم بن أبي محمود في الصحيح عن الرضا عليه السلام قال : « سمعته يقول في الاستنجاء : يغسل ما ظهر على الشرج (4). ولا تدخل فيه الأنملة » (5).

وروى الشيخ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال : « إنّما عليه أن يغسل ما ظهر منها - يعني المقعدة - وليس عليه أن يغسل باطنهما ».

ص: 856


1- تهذيب الأحكام 1 : 45 ، الحديث 127.
2- تهذيب الأحكام 1 : 44 ، الحديث 124.
3- منتهى المطلب 1 : 282.
4- الكافي 3 : 17 ، الحديث 3 ، وتهذيب الأحكام 1 : 45 ، الحديث 128.
5- تهذيب الأحكام 1 : 29 ، الحديث 76.
فرعان :
[ الفرع ] الأوّل :

قال في المعتبر : الأغلف إن كان مرتتقا كفاه غسل الظاهر من موضع الملاقاة ، وإن أمكن كشفها كشفها إذا بال وغسل المخرج ، وإن لم يكشفها عند الإراقة فهل يجب عليه كشفها لغسله؟ فيه تردّد ، أشبهه نعم. لأنّها تجري مجرى الظاهر (1).

وذكر العلّامة في المنتهى نحوه ، واستقرب وجوب الكشف للغسل (2) ، وكذا في النهاية (3). وجزم في التذكرة والتحرير بالحكم (4). وكذا الشهيد في الذكرى (5).

قال العلّامة : ولو تنجّست - يعني البشرة - بالبول وجب غسلها كما لو انتشر إلى الحشفة (6). ولما قالوه وجه.

[ الفرع ] الثاني :

قال في الذكرى : لا فرق في عدم غسل الباطن بين الرجل والمرأة بكرا أو ثيّبا. نعم ، لو علمت الثيّب وصول البول إلى مدخل الذكر ومخرج الولد وجب غسل ما ظهر منه عند الجلوس على القدمين (7).

ص: 857


1- المعتبر 1 : 126 ، وفيه : لأنّه يجري مجرى الظاهر.
2- منتهى المطلب 1 : 260.
3- نهاية الإحكام 1 : 91.
4- تذكرة الفقهاء 1 : 125 ، وتحرير الأحكام 1 : 7 ، الطبعة الحجرية.
5- ذكرى الشيعة : 21.
6- منتهى المطلب 1 : 260.
7- ذكرى الشيعة : 21.

وما ذكره من إناطة التفرقة بين الظاهر والباطن بحال الجلوس على القدمين اقتفى فيه أثر العلّامة في التذكرة ، وكأنّ مدركه العرف إذ لم يرد فيه من جهة النقل شي ء.

مسألة [22] :

وذكر جماعة من الأصحاب منهم المفيد في المقنعة ، والشهيد في النفليّة : أنّه يبدأ في الاستنجاء بمخرج الغائط (1). وبه رواية رواها عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي بأيّ ما يبدأ؟ بالمقعدة أو بالإحليل؟ فقال : بالمقعدة ، ثمّ بالإحليل » (2).

وقد أورد العلّامة في المنتهى هذه الرواية ثمّ قال : ويمكن أن يكون الوجه في ذلك افتقار البول إلى المسح من المقعدة. وقبل غسلها لا تنفكّ اليد عن النجاسة. قال : وبعض الجمهور عكس الحكم لئلّا تتلوّث يده إذا شرع في الدبر لأنّ قبله بارز يصيبه إذا مدّها إلى الدبر. ثمّ قال : والوجهان عندي سائغان فإنّ عمّارا لا يوثق بما يفرد به (3).

ونعم ما قال ، غير أنّ الرواية لو كانت ناهضة بإثبات الحكم لكان المناسب توجيهه بأنّ في ذلك استظهارا لخروج بقايا البول ، لا ما ذكره.

ص: 858


1- المقنعة : 40 ، والنفليّة : 90 « في سنن المقدّمات ».
2- تهذيب الأحكام 1 : 29 ، الحديث 76.
3- منتهى المطلب 1 : 284.
مسألة [23] :
اشارة

ويتعيّن الماء في الاستنجاء من البول عند علمائنا. والروايات به كثيرة. وقد مرّ منها صحيحة زرارة (1) ، ورواية يونس بن يعقوب (2). ففي الاولى : « وأمّا البول فلا بدّ من غسله ». وفي الثانية : « يغسل ذكره ».

وصحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا انقطعت درّة البول فصبّ الماء » (3).

وروى الشيخ في الصحيح عن ابن اذينة قال : « ذكر أبو مريم الأنصاري أنّ الحكم بن عيينة بال يوما ولم يغسل ذكره متعمّدا فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام فقال : بئس ما صنع ، عليه أن يغسل ذكره » (4). الحديث.

وفي الصحيح عن زرارة قال : « توضّأت يوما ولم أغسل ذكري ، ثمّ صلّيت ، فسألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ذلك فقال : اغسل ذكرك وأعد صلاتك » (5).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ للأصحاب في كمّيّة ما يزال به البول من الماء خلافا أسلفنا البحث فيه ، وبيّنا أنّ الأظهر الاكتفاء في ذلك بما يزيل العين ، والأحوط المرّتان ، والأكمل الثلاث.

ص: 859


1- تهذيب الأحكام 1 : 47 ، الحديث 134.
2- تهذيب الأحكام 1 : 49 - 50 ، الحديث 144.
3- تهذيب الأحكام 1 : 356 ، الحديث 1065.
4- تهذيب الأحكام 1 : 48 ، الحديث 137.
5- تهذيب الأحكام 1 : 51 ، الحديث 149.
فرع :

قال الفاضلان في المعتبر والمنتهى : إذا لم يجد الماء لغسل مخرج البول أو تعذّر استعماله لمانع كالجرح أجزأه مسحه بما يزيل عين النجاسة ، كالحجر والخرق والكرسف وشبهه ؛ لأنّه يجب إزالة عين النجاسة وأثرها ، فإذا تعذّرت إزالة الأثر تعيّنت إزالة العين (1) ، وقد أشرنا فيما سلف إلى هذا الكلام ونبّهنا على أنّ التعليل في موضع النظر.

ولو جعل الوجه في ذلك عدم تعدّي البول إلى غير المخرج من البدن والثوب لكان وجها.

ثمّ إنّ العلّامة زاد في المنتهى : أنّه لو وجد الماء بعد ذلك وجب عليه الغسل ، ولا يجتزئ بالمسح المتقدّم لأنّه اجتزأ به للضرورة وقد زالت ، ونجاسة المحلّ باقية ؛ لأنّ المزيل لم يوجد ، فلو لاقاه شي ء برطوبة كان نجسا (2).

وهذا الكلام واضح بالنظر إلى القواعد ؛ فإنّ إزالة الأثر لم تحصل لتوقّفها على الماء ، كما هو المفروض ، فتبقى النجاسة إلى أن يغسل المحلّ بالماء ، وليس ذلك أيضا بموضع خلاف بين الأصحاب معروف ، ولكن روى الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير عن حنّان بن سدير قال : « سمعت رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السلام فقال : إنّي ربّما بلت فلا أقدر على الماء ، ويشتدّ ذلك عليّ؟ فقال : إذا بلت وتمسّحت فامسح ذكرك بريقك فإن وجدت شيئا فقل هذا من ذاك » (3). ورواه الكليني في الحسن عن حنّان أيضا (4).

ص: 860


1- المعتبر 1 : 126 ، ومنتهى المطلب 1 : 263.
2- منتهى المطلب 1 : 263.
3- تهذيب الأحكام 1 : 353 ، الحديث 1050.
4- الكافي 3 : 20 ، الحديث 4.

وروى الشيخ عن سماعة قال : « قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام : إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار فيجي ء من البلل ما يفسد سراويلي؟ قال : ليس به بأس » (1).

وربّما لاح من هذين الخبرين نوع منافاة للحكم المذكور ، لكنّهما قابلان للتأويل ، مع أنّ في طريقهما ضعفا.

قال في الذكرى : وخبر حنّان عن الصادق عليه السلام - « يمسحه بريقه فإذا وجد بللا فمنه » - متروك (2).

وروى الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال : يغسل ذكره وفخذيه. وسألته عمّن مسح ذكره بيده ، ثمّ عرقت يده فأصاب ثوبه ، يغسل ثوبه؟ قال : لا » (3).

وقد مرّ هذا الخبر عند الكلام على خلاف بعض المتقدّمين في قليل النجاسة ، وصدره صريح في الموافقة (4) لمقتضى القواعد كما قرّرناه ، دافع لظاهر الخبرين المذكورين. ولعلّ المراد بعجزه كون إصابة اليد للثوب بغير الموضع الذي حصل به المسح. ومنشأ الشبهة المقتضية للسؤال حينئذ احتمال

ص: 861


1- في « ج » : فيجي ء منّي البلل. وفي التهذيب 1 : 1. الحديث 150 هكذا : فيجي ء منيّ البلل ( بعد استبرائي ) ..
2- ذكرى الشيعة : 21.
3- تهذيب الأحكام 1 : 421 ، الحديث 1333.
4- في « ب » : صريح بالموافقة.

سريان النجاسة (1) لليد كلّها بسبب رطوبة العرق.

مسألة [24] :

ويتخيّر في الاستنجاء من الغائط إذا لم يتعدّ المخرج بين الغسل بالماء والاستجمار بالأحجار أو ما يقوم مقامها - على ما مرّ تحقيقه.

والغسل بالماء أفضل ، والجمع بينهما أكمل عند الأصحاب. وقد مرّ الدليل على أصل التخيير.

وأمّا كون الماء أفضل. فاحتجّ له في المعتبر : بأنّه أقوى المطهّرين ؛ لأنّه يزيل العين والأثر ، بخلاف الحجر (2). وأضاف إلى ذلك في المنتهى الاحتجاج بقول أبي جعفر عليه السلام في صحيح زرارة : « يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار » فإنّه يدلّ على أفضليّة غيره عليه. وليس إلّا الماء. ولا بأس به (3).

وروى الشيخ في الصحيح عن البرقي عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يا معشر الأنصار إنّ اللّه قد أحسن عليكم الثناء فما ذا تصنعون؟ قالوا : نستنجي بالماء » (4).

وفي هذا الخبر دلالة على أفضليّة الماء أيضا.

وأمّا كون الجمع أكمل فاحتجّوا له بأنّه جمع بين مطهّرين.

وبما رواه الشيخ عن أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا ، رفعه إلى أبي عبد

ص: 862


1- في « أ » و « ب » : سريان التنجيس.
2- المعتبر 1 : 136.
3- منتهى المطلب 1 : 267 ، وتهذيب الأحكام 1 : 49 ، الحديث 144.
4- تهذيب الأحكام 1 : 354 ، الحديث 1052.

اللّه عليه السلام قال : « جرت السنّة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء » (1).

مسألة [25] :

وإذا تعدّى الغائط المخرج تعيّن الماء للاستنجاء منه بغير خلاف نعرفه لأحد من علمائنا.

وظاهر المحقّق في المعتبر دعوى الإجماع عليه حيث قال : إنّه مذهب أهل العلم. ثمّ احتجّ له بحديثين عامّيين (2).

وأمّا العلّامة فاحتجّ له في المنتهى بعموم الأخبار المتضمّنة للأمر بغسل مخرج الغائط (3).

وقرّب وجه الدلالة بأنّه إذا ثبت وجوب الغسل بالماء من الغائط مطلقا ثمّ قام الدليل على التخيير بينه وبين الاستجمار في غير التعدّي منه صار العموم مخصوصا وبقيت دلالته في المتعدّي بحالها.

وفيه تكلّف لا يخفى.

مسألة [26] :

لا حدّ للاستنجاء من الغائط بالماء إلّا الإنقاء وهو قول جمهور الأصحاب. وقال سلّار : يستنجي حتّى يصر الموضع (4).

ص: 863


1- تهذيب الأحكام 1 : 46 ، الحديث 130.
2- المعتبر 1 : 128.
3- منتهى المطلب 1 : 269.
4- المعتبر 1 : 129 ، وقال في رياض المسائل ( 1 : 204 ) : « وربّما حدّ بالصرير وخشونة المحلّ حتى يصوّت وهو كما ترى.

لنا : إنّ المطلوب زوال عين النجاسة عن المحلّ بالماء ، فإذا زالت خرج المكلّف عن العهدة.

ويؤيّده ما رواه أبو جعفر الكليني في الحسن عن ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال : « قلت له للاستنجاء حدّ؟ قال : لا حتّى ينقى مأثمه. قلت : فإنّه ينقى مأثمه ويبقى الريح؟ قال : الريح لا ينظر إليها » (1).

وما ذكره سلّار لا نعرف به أثرا غير أنّه لا يبعد كون ذلك في الغالب لازما لزوال عين النجاسة.

وقال الفاضلان في المعتبر والمختلف : وما ذكره سلّار يختلف باختلاف المياه في الحرارة والبرودة واللزوجة والخشونة ، فلا يحصل الصرء (2) مع اللزج. وربّما حصل قبل التطهير مع الخشن (3).

مسألة [27] :

وحدّ الاستنجاء بالاستجمار زوال العين وكمال العدد ، على الأظهر والأشهر بين الأصحاب. وقد تقدّم البحث عن ذلك.

ثمّ إن اتّفق زوال العين وكمال العدد بالثلاثة فذاك ، وإلّا استعمل الزائد

ص: 864


1- الكافي 3 : 17 ، الحديث 9.
2- في « أ » : فلا يحصل الصرير.
3- المعتبر 1 : 129 ، ومختلف الشيعة 1 : 272. قال في المصباح المنير « بيت الحش » مجاز لأنّ العرب كانوا يقضون حوائجهم في البساتين فلمّا اتّخذوا الكنف وجعلوها خلفا عنها أطلقوا عليها ذلك الاسم .. ومن ثم قيل للمخرج « الحش » و « الحشيش » اليابس من النبات.

حتّى ينقى المحلّ ، لكن يستحبّ أن لا يقطع إلّا على وتر في المشهور.

لما رواه الشيخ عن عيسى بن عبد اللّه عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء » (1).

قال في المعتبر : والرواية من المشاهير (2).

مسألة [28] :
اشارة

ويعتبر في أداة الاستجمار - على ما فيها من الاختلاف كما سبق بيانه - امور يختصّ أكثرها بالقول بالتعميم.

أحدها : الطهارة فلا يجزي الاستجمار بالمنجّس عند علمائنا أجمع. قاله في المنتهى (3). واحتجّ له مع ذلك بقول أبي عبد اللّه عليه السلام في الرواية السابقة المرسلة : جرت السنّة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار (4). قال : وهذه الرواية وإن كانت مرسلة إلّا أنّها موافقة للمذهب ؛ لأنّه إزالة للنجاسة فلا تحصل بالنجس (5).

وثانيها : أن تكون جافّة. ذكره جماعة من الأصحاب.

واحتجّ له العلّامة في النهاية : بأنّه مع الرطوبة ينجس البلل الذي عليها

ص: 865


1- تهذيب الأحكام 1 : 45 ، الحديث 126.
2- المعتبر 1 : 130.
3- منتهى المطلب 1 : 276.
4- منتهى المطلب 1 : 277 ، وتهذيب الأحكام 1 : 46 ، الحديث 130.
5- في « ب » : لأنّه إزالة النجاسة.

بإصابة النجاسة له ويعود شي ء منه إلى محلّ النجو ، فيحصل عليه نجاسة أجنبيّة ، فيكون قد استعمل النجس.

وبأنّ الرطب لا يزيل النجاسة بل يزيد التلويث والانتشار. ثمّ قال : ويحتمل الإجزاء لأنّ البلل ينجس بالانفصال كالماء الذي يغسل به النجاسة ، لا بإصابة النجاسة (1).

وفي توجيه الاحتمال نظر واضح.

وأمّا الوجهان الأوّلان فيرد عليهما : أنّ عود شي ء من البلل إلى محلّ النجو إنّما يكون مع كثرة الرطوبة لا مع قلّتها. وكذا زيادة التلويث والانتشار.

ووجّه في التذكرة اشتراط الجفاف بأنّ الرطب لا ينشف المحلّ (2). وهو لا يتمّ في غير المسحة الأخيرة ؛ لأنّ الرطوبة حينئذ موجودة.

وثالثها : أن لا تكون صقيلة كالزجاج ولا رخوة كاللحم ، ولا ممّا يتفتّت بالاعتماد عليه كالتراب. والوجه في ذلك كلّه توقّف زوال العين بالمسح على الخشونة والصلابة والاستمساك. وقد استفيد هذا الشرط من تقييد ما يقوم مقام الأحجار - فيما سبق - بكونه مزيلا للعين.

ورابعها : أن لا يكون عظما ولا روثا. فقد حكى في المعتبر اتّفاق الأصحاب على عدم إجزائهما (3).

ورواه الشيخ في التهذيب بإسناد فيه ضعف عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود. قال :

ص: 866


1- نهاية الإحكام 1 : 88.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 127.
3- المعتبر 1 : 132.

أمّا العظم والروث فطعام الجنّ. وذلك ممّا اشترطوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : لا يصلح بشي ء من ذلك » (1).

وخامسها : أن لا يكون مطعوما كالخبز والفاكهة ؛ لأنّ له حرمة تمنع من الاستهانة به ، ولأنّ طعام الجنّ منهيّ عنه فطعام أهل الصلاح أولى بدلالة الفحوى.

وسادسها : أن لا يكون محترما كورق المصحف وكتب الحديث والفقه والتربة الحسينيّة ؛ لأنّ في استعمال مثله هتكا لحرمة الشرع.

فروع :
[ الفرع ] الأوّل :

لو استجمر بالنجس لم يجزئ لفقد شرط الطهارة. وهو واضح وفي حكم المحلّ حينئذ احتمالات :

أحدها : تحتّم الماء ؛ لأنّ الاستجمار إنّما يجزئ من نجاسة المحلّ ، وما حصل باستعمال النجس أمر خارج فلا يتناوله دليل الحكم. وحينئذ يتعيّن الماء. وبهذا جزم الشهيدان رحمهما اللّه.

والثاني : بقاء المحلّ على حاله فيجري فيه الاستجمار ، كما كان قبل استعماله. وهذا الاحتمال ذكره العلّامة في النهاية والمنتهى. ووجّهه بأنّ النجس لا يتأثّر بالنجاسة فيبقى على حكمه (2). وضعفه ظاهر.

والثالث : التفصيل ، فإن كانت نجاسة بغير الغائط تعيّن الماء ، وإلّا أجزأ

ص: 867


1- في « ج » : لا يصلح لشي ء من ذلك.
2- نهاية الإحكام 1 : 88 ، ومنتهى المطلب 1 : 277.

الاستجمار بثلاثة غيره. وهذا مختار العلّامة في القواعد (1).

والأقرب الأوّل.

[ الفرع ] الثاني :

قال في المنتهى : لو استجمر بحجر ثمّ غسله أو كسر ما نجس منه جاز الاستجمار به ثانيا ؛ لأنّه حجر يجزي غيره الاستجمار به فأجزأه كغيره. قال : ويحتمل على قول الشيخ عدم الإجزاء محافظة على صورة لفظ العدد (2). وفيه بعد.

وأراد بقول الشيخ إيجابه كمال العدد وإن حصل النقاء بما دونه.

والاحتمال المذكور قريب وإن استبعده. اللّهم إلّا أن يخرج بالكسر عن اسم الحجر الواحد ، أو كان استعماله في الزيادة على الثلاث حيث لا يحصل النقاء بها.

[ الفرع ] الثالث :

لو استعمل ما منع من استعماله كالمطعوم والمحترم ، قال الشيخ وجماعة : لا يطهر المحلّ به.

ويعزى إلى الشيخ الاحتجاج له بأنّه استنجاء منهيّ عنه (3). والنهي يدلّ على الفساد (4).

وقال العلّامة والمتأخّرون : يطهر ؛ لأنّ الغرض إزالة النجاسة. وقد حصلت ،

ص: 868


1- قواعد الأحكام 1 : 180.
2- منتهى المطلب 1 : 277 ، وراجع الخلاف 1 : 105.
3- في « أ » : بأنّه استنجاء ينهى عنه. راجع المبسوط 1 : 16.
4- المبسوط 1 : 17.

غاية ما هناك أنّه يكون آثما بمخالفة النهي (1).

وهذا أجود بناء على القول بالتعميم فيما يقوم مقام الأحجار.

وأجاب في المختلف عن حجّة الشيخ : بأنّ النهي إنّما يدلّ على الفساد في العبادات ، والاستنجاء إزالة النجاسة وليس عبادة ، وإلّا لاشترط فيه ما يشترط في العبادة ، والتالي باطل إجماعا فكذا المقدّم. وهو واضح جليّ (2).

[ الفرع ] الرابع :

لو استجمر بما يتفتّت بالاعتماد فقد علم عدم إجزائه. ثمّ إن حصل به نقل النجاسة من موضع إلى آخر تعيّن الماء ، وإلّا بقي المحلّ على حكم فيجزي فيه الاستجمار بغيره. ولو اتّفق حصول النقاء به فالظاهر الإجزاء إن قلنا بالتعميم ؛ لحصول الغرض بذلك.

ويظهر من العلّامة في النهاية عدم الاجتزاء به حيث قال : لو استنجى بما لا يقلع لم يسقط الفرض به وإن أنقى العين خاصّة (3).

وهذا الكلام لا يخلو عن غرابة إن لم يكن مصروفا عن ظاهره.

مسألة [29] :

المعروف بين أصحابنا عدم الفرق في الاستجمار بالنظر إلى أصل الإجزاء بين أن يستوعب المحلّ كلّه في المسحات الثلاث وبين أن يوزّعها عليه بأن يمسح ببعض الأدوات جزءا من المحلّ وبالبعض الآخر جزءا آخر.

ص: 869


1- منتهى المطلب 1 : 280.
2- مختلف الشيعة 1 : 267.
3- نهاية الإحكام 1 : 88 ، في « ب » : وإن أنقى العين خاصّة.

واحتجّ لذلك المحقّق في المعتبر : بأنّ امتثال الأمر بالاستجمار بالثلاثة حاصل على التقديرين (1). وهو جيّد.

ثمّ إنّه لم ينقل في ذلك خلافا ، ولكن أورد على الحجّة سؤالا حاصله أنّه مع التوزيع يكون بمنزلة المسحة الواحدة.

وأجاب : بأنّ المسحة الواحدة لا يتحقّق معها العدد المعتبر.

وقال العلّامة في المنتهى - بعد ذكره للمسألة واحتجاجه بنحو ما ذكره المحقّق - : إنّ بعض الفقهاء منع من ذلك ؛ لأنّه يكون تلفيقا فيكون بمنزلة مسحة واحدة ، ولا يكون تكرارا.

قال : وهو ضعيف ؛ لأنّه لو خلّينا والأصل لاجتزأنا [ بالواحدة ] المزيلة ، لكن لمّا دلّ النصّ على التعدّد وجب اعتباره ، وقد حصل (2).

ويظهر من كلام جماعة من المتأخّرين أنّ للأصحاب قولا بعدم إجزاء التوزيع. وأظنّه توهّما نشأ من نسبة العلّامة القول بذلك إلى بعض الفقهاء. والممارسة تطلع على أنّه يعني بمثل هذه العبارة أهل الخلاف.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العلّامة ذكر في النهاية والتذكرة : أنّ الأحسن والأحوط في كيفيّة الاستجمار : أنّ يضع واحدا على مقدّم الصفحة اليمنى فيمسحها به إلى مؤخّرها ، ويديره إلى الصفحة اليسرى فيمسحها به من مؤخّرها إلى مقدّمها ، ويرجع على الموضع الذي بدأ عنه ، ويضع الثاني على مقدّم الصفحة اليسرى ويفعل به عكس ذلك ويمسح بالثالث الصفحتين معا والوسط.

ص: 870


1- المعتبر 1 : 130.
2- منتهى المطلب 1 : 282.

قال : وينبغي وضع الحجر على موضع طاهر بقرب النجاسة ، لأنّه لو وضعه على النجاسة لأبقى منها شيئا ولنشرها فتعيّن حينئذ الماء. ثمّ إذا انتهى إلى النجاسة أدار الحجر قليلا قليلا حتّى يرفع كلّ جزء منه جزءا من النجاسة ، ولا يمرّه لئلّا تنتقل النجاسة.

ثمّ قال : ولو أمّره ولم ينقل فالأقرب الإجزاء ؛ لأنّ الاقتصار على الحجر رخصة ، وتكليف الإدارة تضييق باب الرخصة (1).

ويحتمل عدمه ؛ لأنّ الجزء الثاني من المحلّ يلقى ما تنجّس من الحجر ، والاستنجاء بالنجس لا يجوز. وهذا الاحتمال ضعيف. وما قرّبه هو المعتمد.

وقال ابن الجنيد في المختصر : إذا أراد أن يستطيب بالثلاثة الأحجار جعل حجرين للصفحتين ، وحجرا للمسربة تدنيه ثم تقلبه.

والمسربة - بفتح الراء وضمّها - مجرى الحدث من الدبر ، قاله ابن الأثير في النهاية (2).

ولم نقف في أخبارنا على أثر لهذه الكيفيّة. وما ذكره ابن الجنيد مرويّ من طريق الجمهور. والزيادة التي في كلام العلّامة عليه لا نعرف مأخذها.

واقتصر المحقّق في المعتبر على الحكم بأفضليّة مسح المحلّ كلّه بكلّ حجر (3). وهو الأجود.

ص: 871


1- نهاية الإحكام 1 : 92 ، وتذكرة الفقهاء 1 : 130.
2- النهاية 2 : 357 ، وراجع المصباح المنير : 272 ، طبعة دار الهجرة - قم.
3- المعتبر 1 : 130.
مسألة [30] :

حكى العلّامة عن بعض العامّة أنّهم شرطوا في الاستجمار أن لا يقوم المتغوّط عن المحلّ ؛ لأنّه بقيامه تنتقل النجاسة من مكان إلى آخر ، وأن تبقى الرطوبة في النجاسة ؛ لأنّ الحجر لا يزيل النجاسة الجامدة. ذكر ذلك في المنتهى. وقال : إنّ الشرط الأوّل جيّد على أصلنا (1). وسكت على الثاني.

والتحقيق : أنّ كلا الشرطين في غير محلّه.

أمّا الأوّل : فلأنّه لا حاجة إليه بعد اشتراط عدم التعدّي ، مع أنّ اقتضاء القيام لانتقال النجاسة ليس على إطلاقه بصحيح.

وأمّا الثاني : فلأنّه بعد اليبوسة إن أمكن زوال العين بالاستجمار أجزأ لتناول الأدلّة له ، وإلّا تعيّن الماء ؛ لتوقّف الإزالة عليه ، لا لليبوسة.

وقال في التذكرة : ينبغي للمستنجي بالحجر أن لا يقوم من موضعه قبله لئلّا يتعدّى المخرج (2).

وذكر بعض الأصحاب أنّه يستحبّ إعداد أدوات الاستجمار قبل الشروع في قضاء الحاجة. ولا بأس بذلك.

مسألة [31] :

قال في المنتهى : الاستجمار إنّما يكون في المعتاد كالغائط. أمّا النادر كالدم فلا بدّ فيه من الماء. وغيرهما عندنا طاهر لا يجب فيه استنجاء بحجر

ص: 872


1- منتهى المطلب 1 : 284.
2- تذكرة الفقهاء 1 : 134.

ولا ماء.

ثمّ حكى عن بعض العامّة القول بأنّ الاستجمار يجري في النادر.

واحتجّ بعد ذلك لما اختاره بأنّ الرخصة إنّما شرّعت مع الكثرة لحصول المشقّة بالاقتصار على الماء. وهذا المعنى منتف في النادر (1).

في هذه الحجّة نظر.

والأولى أن يقال : إنّ الدليل على إجزاء الاستجمار غير متناول للدم فيتمسّك في حكمه بالأدلّة الدالّة على وجوب غسله عن البدن فإنّه من جملة أفراد ملاقاته له.

مسألة [32] :
اشارة

ويكره الاستنجاء باليمين ، وباليسار وفيها خاتم عليه اسم من أسماء اللّه أو أسماء أنبيائه أو أحد الأئمّة عليهم السلام أو فصّه من أحجار زمزم. قاله الأصحاب.

واحتجّوا لحكم اليمين بما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « الاستنجاء باليمين من الجفاء » (2).

ولحكم اليسار بما رواه الشيخ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا يمسّ الجنب درهما ودينارا عليه اسم اللّه ، ولا يستنجي وعليه خاتم فيه اسم اللّه » (3). الحديث.

وبأنّه فيه إجلالا لله تعالى وتعظيما فكان مناسبا.

ص: 873


1- منتهى المطلب 1 : 284.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 27 ، الحديث 51.
3- تهذيب الأحكام 1 : 31 ، الحديث 82.

وروى الشيخ عن وهب بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كان نقش خاتم أبي « العزّة لله جميعا ». وكان في يساره يستنجي بها. وكان نقش خاتم أمير المؤمنين عليه السلام « الملك لله » وكان في يده اليسرى يستنجي بها (1).

قال الشيخ : هذا الخبر محمول على التقيّة ؛ لأنّ راويه وهب بن وهب وهو عامّي متروك العمل بما يختصّ بروايته ولم نقف على خبر يدلّ على الكراهة في غير اسم اللّه ، فكان حجّتهم في ذلك ملاحظة أمر التعظيم (2).

وأمّا ما كان فصّه من أحجار زمزم فبه رواية رواها الشيخ بإسناده الصحيح عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن عليّ بن الحسين بن عبد ربّه قال : قلت له : « ما تقول في الفصّ يتّخذ من أحجار زمزم؟ قال : لا بأس به. ولكن إذا أراد الاستنجاء نزعه » (3).

وروى هذا الحديث الشيخ أبو جعفر الكليني في الكافي أيضا ، لكن وقع في نسخة اختلاف. ففي بعضها بدل زمزم زمرّد (4). قال في الذكرى : وسمعناه - يعني الزمرّد - مذاكرة (5).

وقد اورد على رواية زمزم إشكال حاصله أنّ زمزم من جملة المسجد فلا يجوز أخذ الحصا منه كسائره.

واجيب بأنّ ذلك مستثنى ؛ للنصّ. وبأنّ الحكم مبنيّ على الوقوع ، ولا يلزم

ص: 874


1- تهذيب الأحكام 1 : 31 - 32 ، الحديث 83.
2- المصدر.
3- تهذيب الأحكام 1 : 355 ، الحديث 1059.
4- الكافي 3 : 17 ، الحديث 6.
5- ذكرى الشيعة : 20.

من وقوعه جوازه.

واستبعد والدي رحمه اللّه كلا الوجهين لا سيّما الأوّل من حيث إنّ مثل هذا النصّ لا يكفي في معارضة ما وقع الاتّفاق عليه من المنع من أخذ الحصا من المسجد.

قال : ويمكن تقريبه بما يخرج من البئر على وجه الإصلاح فإنّه لا يعدّ جزءا منه ، كالقمامة. وحكى بعد هذا رواية الزمرّد ، ثمّ قال : وهو الأنسب (1). ولعلّ الأوّل تصحيف. والتقريب الذي ذكره متوجّه فالتصحيف في كلّ منهما محتمل.

والزمرّد بالضمات وشدّ الراء : الزبرجد معرّب. قاله في القاموس (2).

تذنيب :

استثنى بعض الأصحاب من كراهة الاستنجاء باليمين ما إذا دعت إلى ذلك ضرورة كمرض اليسار.

وذكر الصدوق في من لا يحضره الفقيه : أنّ به رواية (3).

وقال بعض الأصحاب : أنّه يكره الاستجمار باليمين أيضا.

واحتجّ له بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كانت يمناه لطهوره وطعامه ، ويسراه لخلائه ، وما كان من أذى.

ص: 875


1- لم أعثر على مصدره.
2- تاج العروس في شرح القاموس 2 : 364.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 27.
مسألة [33] :

وذكر بعض أصحابنا أنّه يستحبّ أن يدعو حال الاستنجاء فيقول : « اللّهم حصّن فرجي واستر عورتي وحرّمهما على النار ووفّقني لما يقرّبني منك يا ذا الجلال والإكرام ».

وقال الشيخان في المقنعة والنهاية : إذا فرغ من الاستنجاء قام من موضعه ومسح بيده اليمنى بطنه ، وقال : « الحمد لله الذي أماط عنّي الأذى وهنّأني طعامي وعافاني من البلوى » (1).

ولا نعرف للحكمين مستندا.

نعم روى في الكافي بإسناد ضعيف جدّا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام استنجى فقال : « اللّهم حصّن فرجي واعفه واستر عورتي وحرّمها على النار ».

وروى ذلك أيضا الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا (2).

وروى الشيخ عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال : إذا دخلت الغائط فقل : أعوذ باللّه .. إلى أن قال : وإذا فرغت فقل : « الحمد لله الذي عافاني من البلاء وأماط عنّي الأذى » (3).

ص: 876


1- المقنعة : 40 ، والنهاية ونكتها 1 : 216.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 29.
3- تهذيب الأحكام 1 : 351 ، الحديث 1038.
مسألة [34] :

ويستحبّ أن يدعو إذا خرج من الخلا بما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن آبائه عن عليّ عليه السلام : أنّه كان إذا خرج من الخلا قال : الحمد لله الذي رزقني لذّته وأبقى قوّته في جسدي ، وأخرج عنّي أذاه يا لها من نعمة » ثلاثا (1).

ص: 877


1- تهذيب الأحكام 1 : 351 ، الحديث 1039.

ص: 878

النظر الثاني : في آداب الحمّام
اشارة

روى الشيخ عن عيسى بن عبد اللّه الهاشمي عن جدّه عن عليّ عليه السلام قال : دخل عليّ وعمر الحمّام فقال عمر : بئس البيت الحمّام يكثر فيه العنا ويقلّ فيه الحيا ، فقال عليّ عليه السلام : « نعم البيت الحمّام يذهب الأذى ويذكّر بالنار » (1).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عنه عليه السلام أنّه قال : نعم البيت الحمّام يذكر فيه النار ويذهب بالدرن (2). قال : وقال عليه السلام : بئس البيت الحمّام يهتك الستر ويبدي العورة ونعم البيت الحمّام يذكّر حرّ النار (3).

وحمل الشهيد في الذكرى ما ورد من الذمّ على حال الدخول بغير مئزر (4). وفيه بعد.

والأقرب ترجيح المدح بما رواه في الكافي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « قال أمير المؤمنين عليه السلام : نعم البيت الحمّام يذكّر النار ويذهب الدرن. وقال

ص: 879


1- تهذيب الأحكام 1 : 377 ، الحديث 1166.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 115 ، الحديث 237.
3- في « ب » : وعن الصادق عليه السلام أنّه قال : بئس البيت ..
4- ذكرى الشيعة : 18.

عمر : بئس البيت الحمّام يبدي العورة ويهتك الستر. قال : فنسب الناس قول عمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقول أمير المؤمنين إلى عمر » (1).

فصل :

وروى الشيخ أبو جعفر الكليني عن سليمان بن جعفر الجعفري في الصحيح قال : مرضت حتّى ذهب لحمي فدخلت على الرضا عليه السلام فقال : « أيسرّك أن يعود لحمك إليك؟ قلت : بلى. قال : الزم الحمّام غبّا (2) فإنّه يعود إليك لحمك. وإيّاك أن تدمنه فإنّ إدمانه يورث السلّ » (3). ورواه الشيخ في التهذيب بطريق آخر عن سليمان (4).

وروى الكليني أيضا في الصحيح عن عليّ بن الحكم عن سليمان الجعفري عن أبي الحسن عليه السلام قال : الحمّام يوم ويوم [ لا ] ، يكثر اللحم ، وإدمانه يذهب شحم الكليتين (5).

وروى عن سليمان أيضا قال : من أراد أن يحمل لحما فليدخل الحمّام يوما ويغب يوما. ومن أراد أن يضمر (6) وكان كثير اللحم فليدخل كلّ يوم (7).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن الكاظم عليه السلام أنّه قال :

ص: 880


1- الكافي 6 : 496 ، الحديث 1.
2- غبّا : يوما بعد يوم. راجع المصباح المنير : 442.
3- الكافي 6 : 497 ، الحديث 4.
4- تهذيب الأحكام 1 : 377 ، الحديث 1162.
5- في « أ » : وإدمانه يذيب شحم الكليتين. الكافي 6 : 5. الحديث 2.
6- ضمر الفرس ضمورا : دقّ وقلّ لحمه. المصباح المنير : 364.
7- الكافي 6 : 499 ، الحديث 11.

الحمّام يوم ويوم [ لا ] يكثر اللحم ، وإدمانه يذهب شحم الكليتين (1).

وعن الصادق عليه السلام أنّه قال : استحمّوا يوم الأربعاء (2).

فصل :

وروى الكليني عن رفاعة في الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمّام (3).

وعن سماعة في الموثّق عنه عليه السلام قال : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يرسل حليلته إلى الحمّام (4).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يبعث بحليلته إلى الحمّام (5).

وعنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : من أطاع امرأته كبّه اللّه على منخره في النار. قيل : وما تلك الطاعة؟ قال : تدعوه إلى النياحات والعرسات والحمّامات والثياب الرقاق فيجيبها (6).

وجعل الشهيد في الذكرى هذا الحكم مختصّا بحالة اجتماعهنّ ، فمع الانفراد لا بأس (7). وليس ببعيد.

ص: 881


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 117 ، الحديث 247.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 131 ، الحديث 342.
3- الكافي 6 : 502 ، الحديث 29.
4- الكافي 6 : 502 ، الحديث 30.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 115 ، الحديث 240.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 115 ، الحديث 241.
7- ذكرى الشيعة : 18.

واستثنى من الكراهة مع الاجتماع حال الضرورة وهو حسن. وذكر أنّ الاتّزار عند الاجتماع يحقّق الكراهة وأنّ ذلك مرويّ عن عليّ عليه السلام ولم أقف على الرواية. ولكنّ الاعتبار يشهد له.

فصل :

ويجب على الداخل إلى الحمّام ستر عورته مع وجود الناظر المحترم ، لما مرّ في الخلوة (1).

ويؤيّده ما رواه الكليني عن رفاعة بن موسى في الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلّا بمئزر (2).

وروى في الصحيح عن عليّ بن الحكم عن أبان بن عثمان عن ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام أيتجرّد الرجل عند صبّ الماء ترى عورته؟ أو يصبّ عليه الماء ، أو يرى هو عورة الناس؟ قال : كان أبي يكره ذلك من كلّ أحد (3).

وروى الصدوق عن عبيد اللّه بن عليّ الحلبي (4) في الصحيح قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد؟ فقال : لا بأس (5).

ص: 882


1- في « ب » : كما مرّ في الخلوة. راجع الصفحة : 821.
2- الكافي 6 : 497 ، الحديث 3.
3- الكافي 6 : 501 ، الحديث 28.
4- في « أ » : عبد اللّه بن عليّ الحلبي. وفي « ب » : أبي عبد اللّه بن علي الحلبي.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 84 ، الحديث 183.

وروى محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن ماء الحمّام فقال : ادخله بإزار (1). الحديث.

وروى الشيخ عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال : سألته أو سأله غيري عن الحمّام ، فقال : ادخله بمئزر وغضّ بصرك (2). الحديث.

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : إذا تعرّى أحدكم نظر إليه الشيطان فطمع فيه فاستتروا (3).

وعن مسمع عنه عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنّه نهى أن يدخل الرجل الماء إلّا بمئزر (4).

وعن حمّاد بن عيسى عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال : قيل له :

إنّ سعيد بن عبد الملك يدخل مع جواريه الحمّام ، قال : وما بأس إذا كان عليه وعليهنّ الإزار لا يكونون عراة كالحمير ينظر بعضهم إلى سوأة بعض (5).

وروى الشيخان في الكافي ومن لا يحضره الفقيه بإسنادين صحيح وحسن ، عن حنّان بن سدير عن أبيه قال : دخلت أنا وأبي وجدّي وعمّي حمّاما بالمدينة فإذا رجل في بيت المسلخ فقال لنا : ممّن القوم؟ فقلنا من أهل العراق. فقال : وأيّ العراق؟ فقلنا : كوفيّون. فقال : مرحبا بكم يا أهل الكوفة أنتم الشعار

ص: 883


1- تهذيب الأحكام 1 : 379 ، الحديث 1175.
2- تهذيب الأحكام 1 : 373 ، الحديث 1142.
3- تهذيب الأحكام 1 : 373 ، الحديث 1144.
4- تهذيب الأحكام 1 : 373 ، الحديث 1145.
5- تهذيب الأحكام 1 : 374 ، الحديث 1146.

دون الدثار. ثمّ قال : ما يمنعكم من الأزر (1)؟ فإنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : عورة المؤمن على المؤمن حرام.

قال : فبعث أبي إلى كرباسة فشقّها بأربعة قال : ثمّ أخذ كلّ واحد منّا واحدا ثمّ دخلنا فيها فلمّا كنّا في البيت الحارّ صمد لجدّي فقال :

يا كهل ما منعك من الخضاب؟ فقال له جدّي : أدركت من هو خير منّي ومنك لا يختضب. قال : فغضب لذلك حتّى عرفنا غضبه في الحمّام. قال :

ومن ذلك الذي هو خير منّي؟ فقال : أدركت عليّ بن أبي طالب وهو لا يختضب. قال : فنكس رأسه وتصابّ عرقا ، فقال : صدقت. ثمّ قال :

يا كهل إن تختضب فإنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قد خضّب وهو خير من عليّ ، وإن تترك فلك بعليّ سنّة. قال : فلمّا خرجنا من الحمّام سألنا عن الرجل فإذا هو عليّ بن الحسين ، ومعه ابنه محمّد بن عليّ صلوات اللّه عليهم (2).

فصل :

قال في من لا يحضره الفقيه : روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إنّما كره النظر إلى عورة المسلم ، فأمّا النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة حمار (3).

وهذه الرواية التي أشار إليها مرويّة في الكافي بإسناد حسن عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : النظر إلى عورة من ليس

ص: 884


1- في « ج » : من الإزار.
2- الكافي 6 : 497 ، الحديث 8 ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 118 ، الحديث 252.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 114 ، الحديث 236.

بمسلم مثل نظرك إلى عورة الحمار (1).

وظاهر الشهيد في الذكرى أنّه لا خلاف في وجوب غضّ البصر عن عورة الكافر حيث قال : يجب ستر الفرج وغضّ البصر ولو عن عورة الكافر ، ثمّ قال : وفيه خبر عن الصادق عليه السلام بالجواز (2). ولم يزد على هذا.

وأنت خبير بأنّ إيراد الخبر في من لا يحضره الفقيه يدلّ على أنّ مصنّفه يعمل به كما نبّهنا عليه مرارا ، فيكون القائل بجواز النظر إلى عورة الكافر موجودا.

ورواية الكافي وإن لم تكن صحيحة السند فالأصل يعضدها. والخبر الذي سبق الاحتجاج به لتحريم النظر إلى العورة في بحث الخلوة مخصوص بعورة المسلم.

فصل :

قال في الذكرى : يكره دخول الولد مع أبيه الحمّام (3).

وقال في من لا يحضره الفقيه : من الأدب أن لا يدخل الرجل ولده معه الحمّام فنظر إلى عورته (4).

وروى في الكافي عن سهل بن زياد رفعه ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام لا يدخل الرجل مع ابنه الحمّام فينظر إلى عورته (5).

ص: 885


1- الكافي 6 : 501 ، الحديث 27.
2- ذكرى الشيعة : 18.
3- ذكرى الشيعة : 19.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 115.
5- الكافي 6 : 501.

وعن محمّد بن جعفر عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا يدخل الرجل مع ابنه الحمّام فينظر إلى عورته (1). الحديث.

وقد تضمّنت رواية حنّان بن سدير السابقة دخول عليّ بن الحسين ومعه ولده محمّد بن عليّ عليهم السلام وهو يعطي نفي الكراهة. وجعله الصدوق خاصّا بالإمام ، فقال بعد إيراده للخبر : « إنّ فيه إطلاقا للإمام أن يدخل ولده معه الحمّام دون من ليس بإمام ؛ وذلك أنّ الإمام معصوم في صغره وكبره ولا يقع منه النظر إلى عورة في حمّام ولا غيره » (2).

واقتفى أثره في هذا الكلام الشهيد في الذكرى (3) وله وجه ، غير أنّ الكراهة لم يثبت عمومها ؛ إذ لم نقف في هذا الباب على روايتي سهل بن زياد ومحمد ابن جعفر والطريق فيهما ضعيف جدّا ، وظاهرهما الاختصاص بحالة عدم الأمن من رؤيته لعورة الأب ، فيمكن جعل ذلك طريقا للجمع لو تحقّق التعارض إلّا ما ذكره الجماعة.

فصل :

وروى الشيخ أبو جعفر الكليني عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن المثنّى بن الوليد الخيّاط (4) عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تدخل الحمّام إلّا وفي جوفك شي ء يطفي عنك وهج المعدة وهو أقوى

ص: 886


1- الكافي 6 : 503 ، الحديث 36.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 119.
3- ذكرى الشيعة : 19.
4- في « ب » : الحنّاط.

للبدن ولا تدخله وأنت ممتلئ من الطعام » (1).

وبالإسناد عن عليّ بن الحكم عن رفاعة بن موسى عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه كان إذا أراد دخول الحمّام تناول شيئا فأكله. قال : قلت له : « إنّ الناس عندنا يقولون إنّه على الريق أجود ما يكون ، قال : لا ، بل يؤكل شي ء قبله فيطفي ، المرار ويسكن حرارة الجوف » (2).

وروى في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال : لا تدخلوا الحمّام على الريق ، لا تدخلوه حتّى تطعموا شيئا (3).

فصل :

وروى في الكافي عن أبي بصير قال : دخل أبو عبد اللّه عليه السلام الحمّام فقال له صاحب الحمّام : اخلّيه لك؟ فقال : « لا حاجة لي في ذلك. المؤمن أخفّ من ذلك » (4).

وروى في من لا يحضره الفقيه مرسلا عنه عليه السلام أنّه دخل الحمّام فقال له صاحبه : نخلّيه لك؟ فقال : « لا ، إنّ المؤمن خفيف المئونة » (5).

وروى عن محمّد بن حمران بإسناد يقوى أنّ فيه تصحيفا ، ولولاه لكان صحيحا. قال : قال الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام : « إذ دخلت الحمّام فقل في الوقت الذي تنزع فيه ثيابك : اللّهم انزع عنّي ربقة النفاق ، وثبّتني على الإيمان ».

ص: 887


1- الكافي 6 : 497 ، الحديث 5.
2- في « ب » : فيطفي المرارة. الكافي 6 : 2. الحديث 6.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 116 ، الحديث 245.
4- الكافي 6 : 503 ، الحديث 37.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 117 ، الحديث 249.

« وإذا دخلت البيت الأوّل فقل : اللّهم إنّي أعوذ بك من شرّ نفسي وأستعيذ بك من أذاه ».

« وإذا دخلت البيت الثاني فقل : اللّهم أذهب عنّي الرجس النجس وطهّر جسدي وقلبي ».

وخذ من الماء الحار ، وضعه على هامتك ، وصبّ منه على رجليك. وإن أمكن أن تبلع منه جرعة فافعل فإنّه ينقّي المثانة. والبث في البيت الثاني ساعة.

« وإذا دخلت البيت الثالث فقل : نعوذ باللّه من النار ونسأله الجنّة ، تردّدها إلى وقت خروجك من البيت الحارّ ».

« وإيّاك وشرب الماء البارد والفقّاع في الحمّام فإنّه يفسد المعدة. ولا تصبّن عليك الماء البارد فإنّه يضعف البدن ».

« وصبّ الماء البارد على قدميك إذا خرجت فإنّه يسلّ الداء من جسدك ».

« فإذا لبست ثيابك فقل : اللّهم ألبسني التقوى وجنّبني الردى. فإذا فعلت ذلك أمنت من كلّ الأذى » (1).

فصل :

وروى الكليني في الصحيح عن محمّد بن أبي حمزة (2) عن عليّ ابن يقطين قال : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : أقرأ القرآن في الحمّام وأنكح؟ قال : لا بأس » (3).

وفي الحسن عن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام : أكان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ينهى عن قراءة القرآن في الحمّام؟ فقال : لا ، إنّما نهى

ص: 888


1- في نسخة « ب » وفي من لا يحضره الفقيه 1 : 112 - 114 : « أمنت من كلّ داء ».
2- في « ب » : عن ابن أبي عمير عن علي بن يقطين.
3- الكافي 6 : 502 ، الحديث 31.

أن يقرأ الرجل وهو عريان فأمّا إذا كان عليه إزار فلا بأس » (1).

وعن الحلبي في الحسن أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا بأس للرجل أن يقرأ القرآن في الحمّام إذا كان يريد به وجه اللّه ولا يريد ينظر كيف صوته » (2).

وروى الشيخ في التهذيب عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع في الصحيح عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يقرأ في الحمّام وينكح فيه؟ قال : لا بأس به » (3).

وفي الصحيح عن الحسن بن عليّ بن يقطين عن أخيه الحسين عن أبيه علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يقرأ في الحمّام وينكح فيه؟ قال : لا بأس به » (4).

وروى عن أبي بصير قال : « سألته عن القراءة في الحمّام؟ فقال : إذا كان عليك إزار فاقرأ القرآن إن شئت كلّه » (5).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن عبد الرحمن بن مسلم المعروف بسعدان أنّه قال : « كنت في الحمّام في البيت الأوسط فدخل أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام وعليه إزار فوق النورة ، فقال : السلام عليكم ، فرددت عليه السلام. ودخلت البيت الذي فيه الحوض فاغتسلت

ص: 889


1- الكافي 6 : 502 ، الحديث 32.
2- الكافي 6 : 502 ، الحديث 33.
3- تهذيب الأحكام 1 : 371 ، الحديث 115.
4- تهذيب الأحكام 1 : 375 ، الحديث 1155.
5- تهذيب الأحكام 1 : 377 ، الحديث 1165.

وخرجت » (1).

قال الصدوق رحمه اللّه : في هذا إطلاق في التسليم في الحمّام لمن عليه مئزر ، والنهي الوارد عن التسليم فيه هو لمن لا مئزر عليه (2).

ولم نقف على رواية النهي التي أشار إليها.

فصل :
اشارة

وروى الصدوق في العلل عن عبد اللّه بن أبي يعفور في الموثّق عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إيّاك والاضطجاع في الحمّام فإنّه يذيب (3) شحم الكليتين. وإيّاك والاستلقاء على القفا في الحمّام فإنّه يورث داء الدبيلة (4). وإيّاك والتمشّط في الحمّام فإنّه يورث وباء الشعر. وإيّاك والسواك في الحمّام فإنّه يورث وباء الأسنان. وإيّاك أن تغسل رأسك بالطين فإنّه يسمّج الوجه. وإيّاك أن تدلك رأسك ووجهك بمئزر فإنّه يذهب بماء الوجه. وإيّاك أن تدلك تحت قدمك بالخزف فإنّه يورث البرص » (5).

قال الصدوق رحمه اللّه رويت في خبر آخر : إنّ هذا الطين هو طين مصر وإنّ هذا الخزف هو خزف الشام (6).

وروى في من لا يحضره الفقيه عن الصادق عليه السلام مرسلا أنّه قال : « لا تتّك

ص: 890


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 118 ، الحديث 251.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 118.
3- في « ب » : يذهب شحم الكليتين.
4- في « ب » : يورث داء الوبيلة.
5- علل الشرائع : 292.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 116 ، ذيل الحديث 243.

في الحمّام فإنّه يذيب شحم الكليتين ، ولا تسرّح في الحمّام فإنّه يرقّق الشعر ولا تغسل رأسك بالطين فإنّه يسمج الوجه » (1).

قال الصدوق وفي حديث آخر : يذهب بالغيرة ، ولا تدلك بالخزف فإنّه يورث البرص ، ولا تمسح وجهك بالإزار فإنّه يذهب بماء الوجه (2).

قال : وروي أنّ ذلك طين مصر وخزف الشام (3).

وروى الكليني في الموثّق عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : ألا لا يستلقينّ أحدكم في الحمّام فإنّه يذيب شحم الكليتين ، ولا يدلكنّ رجليه بالخزف فإنّه يورث الجذام » (4).

وروى عن يوسف بن السخت رفعه ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « لا تتّك في الحمّام ؛ فإنّه يذهب شحم الكليتين ، ولا تسرّح في الحمّام ؛ فإنّه يرقّق الشعر ، ولا تغسل رأسك بالطين ؛ فإنّه يذهب بالغيرة ، ولا تدلك بالخزف ؛ فإنّه يورث البرص ، ولا تمسح وجهك بالإزار ؛ فإنّه يذهب بماء الوجه » (5).

وروى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا تغسلوا رءوسكم بطين مصر فإنّه يذهب بالغيرة ويورث الدياثة » (6).

وروى عن محمّد بن عليّ بن جعفر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : « من أخذ من الحمّام خزفة فحكّ بها جسده فأصابه البرص فلا يلومنّ إلّا

ص: 891


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 116 ، الحديث 243.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 116 ، الحديث 243.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 116 ، الحديث 243.
4- الكافي 6 : 500 ، الحديث 19.
5- الكافي 6 : 501 ، الحديث 24.
6- الكافي 6 : 501 ، الحديث 25.

نفسه » (1).

فصل :

ويستحبّ التنّور وغسل الرأس بالخطمي والسدر لما رواه الشيخ أبو جعفر الكليني في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال : « دخلت مع أبي عبد اللّه عليه السلام الحمّام فقال : يا عبد الرحمن أطل. فقلت : إنّما أطليت منذ أيّام فقال : أطل فإنّها طهور » (2).

وعن سليم الفراء في الحسن ، قال : « قال أمير المؤمنين عليه السلام النورة طهور » (3).

وفي الحسن عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أحمد بن المبارك عن الحسين بن أحمد المنقري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « السنّة في النورة في خمسة عشر يوما ، فإن أتت عليك عشرون يوما وليس عندك فاستقرض على اللّه » (4).

وروى الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : السنّة في النورة في خمس عشرة ، فإن أتت عليك عشرون يوما وليس عندك فاستقرض على اللّه (5).

وفي الصحيح عن عمرو بن إبراهيم عن خلف بن حمّاد عن هارون بن حكيم الأرقط خال أبي عبد اللّه قال : « أتيته في حاجة فأصبته في الحمّام

ص: 892


1- الكافي 6 : 503 ، الحديث 38.
2- الكافي 6 : 505 ، الحديث 2.
3- الكافي 6 : 505 ، الحديث 1.
4- الكافي 6 : 506 ، الحديث 9.
5- تهذيب الأحكام 1 : 375 ، الحديث 1157.

يطلي ، فذكرت له حاجتي فقال : ألا تطلي؟ فقلت : إنّما عهدي به أوّل أمس فقال : أطل فإنّ النورة طهور » (1).

وفي الصحيح عن ابن فضّال عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « غسل الرأس بالخطمي في كلّ جمعة أمان من البرص والجنون » (2).

وروى الكليني عن أبي بصير عنه عليه السلام قال : « قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه : غسل الرأس بالخطمي يذهب بالدرن وينقّي الأقذار » (3).

وعن إسماعيل بن عبد الخالق عنه عليه السلام قال : « غسل الرأس بالخطمي نشرة » (4).

وعن منصور بزرج قال : « سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول : غسل الرأس بالسدر يجلب الرزق جلبا » (5).

وعن محمّد بن الحسين العلوي عن أبيه عن جدّه عليّ صلوات اللّه عليه قال : « لمّا أمر اللّه عزوجل رسوله صلى اللّه عليه وآله بإظهار الإسلام وظهر الوحي رأى قلّة من المسلمين وكثرة من المشركين فاهتمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله همّا شديدا فبعث اللّه عزوجل إليه جبرئيل عليه السلام بسدر من سدرة المنتهى فغسل به رأسه فجلا به

ص: 893


1- تهذيب الأحكام 1 : 375 ، الحديث 1156.
2- الكافي 6 : 504 ، الحديث 2.
3- الكافي 6 : 504 ، الحديث 3.
4- الكافي 6 : 504 ، الحديث 5.
5- الكافي 6 : 504 ، الحديث 6 ، وجاء في رجال النجاشي : منصور بن يونس بزرج ، أبو يحيى وقيل أبو سعيد ، كوفيّ ثقة روى عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن عليهما السلام.

همّه » (1).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه أكثر هذه الأخبار مرسلة مع رواية اخرى في السدر عن الصادق عليه السلام قال : « اغسلوا رءوسكم بورق السدر فإنّه قدّسه كلّ ملك مقرّب وكلّ نبيّ مرسل. ومن غسل رأسه بورق السدر صرف اللّه عنه وسوسة الشيطان سبعين يوما ومن صرف اللّه عنه وسوسة الشيطان سبعين يوما لم يعص اللّه ومن لم يعص دخل الجنّة » (2).

فصل :

وروى في الكافي عن الحسين بن موسى قال : « كان أبي الحسن موسى ابن جعفر عليهما السلام إذا أراد دخول الحمّام أمر أن يوقد عليه ثلاثا ، فكان لا يمكنه دخوله حتّى يدخله السودان فيلقون له اللبود ، فإذا دخله فمرّة قاعد ومرّة قائم ، فخرج يوما من الحمّام فاستقبله رجل من آل الزبير يقال له كنيد وبيده أثر حنّاء ، فقال : ما هذا الأثر بيدك؟ فقال أثر حنّاء ؛ فقال : ويلك يا كنيد حدّثني أبي - وكان أعلم أهل زمانه - عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : من دخل الحمّام فاطّلى ثمّ اتبعه بالحنّاء من قرنه إلى قدمه كان أمانا له من الجنون والجذام والبرص والأكلة إلى مثلة من النورة » (3).

وروى الشيخ في التهذيب عن عبدوس بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « من أطلى في الحمّام فتدلّك بالحناء من قرنه إلى قدمه نفي عنه الفقر » وقال : « رأيت أبا جعفر الثاني عليه السلام قد خرج من الحمّام وهو من قرنه إلى قدمه

ص: 894


1- الكافي 6 : 506 ، الحديث 7.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 125 ، الحديث 296.
3- الكافي 6 : 509 ، الحديث 1 ، والأكلة : الحكّة والجرب ( راجع لسان العرب 11 : 23 ).

مثل الورد من أثر الحنّا » (1).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مرسلا أنّه قال : « من أطلى واختضب بالحنّاء آمنه اللّه تعالى من ثلاث خصال ، الجذام والبرص والأكلة إلى طلية مثلها » (2).

وعن الصادق عليه السلام أنّه قال : الحنّاء على أثر النورة أمان من الجذام والبرص (3).

فصل :

وروى الشيخ عن عبد الرحمن بن الحجّاج في الصحيح قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يطلي بالنورة فيجعل الدقيق بالزيت يلتّه به ، يتمسّح به بعد النورة ليقطع ريحها؟ قال : لا بأس » (4).

ورواه الشيخ أبو جعفر الكليني بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن الحجّاج. وفي متنه قليل تغيير حيث قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يطلي بالنورة فيجعل الدقيق بالزيت يلت به فيمسح به بعد النورة ليقطع ريحها عنه؟ قال : لا بأس » (5).

ثمّ قال الكليني : وفي حديث آخر لعبد الرحمن قال : « رأيت أبا الحسن عليه السلام وقد تدلّك بدقيق ملتوت بالزيت ، فقلت له : إنّ الناس يكرهون ذلك ، قال :

ص: 895


1- تهذيب الأحكام 1 : 376 ، الحديث 1161.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 121 ، الحديث 269.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 121 ، الحديث 270.
4- تهذيب الأحكام 1 : 188 ، الحديث 542.
5- الكافي 6 : 499 ، الحديث 12. وفي « ب » : فيتمسّح به بعد النورة.

لا بأس به » (1).

وروى عن أبان بن تغلب قال : « قلت لأبي عبد اللّه إنّا لنسافر ولا يكون معنا نخالة فنتدلّك بالدقيق؟ فقال : لا بأس. إنّما الفساد فيما أضرّ بالبدن وأتلف المال. فأمّا ما أصلح البدن فإنّه ليس بفساد إنّي ربّما أمرت غلامي فلتّ لي النقيّ بالزيت فأتدلّك به » (2).

قال الجوهري : النقيّ مخّ العظم (3).

وروى الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عبد العزيز عن رجل ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : « إنّا نكون في طريق مكّة ، نريد الإحرام ولا يكون معنا نخالة نتدلّك به من النورة ، فنتدلك بالدقيق فيدخلني من ذلك ما اللّه به عليم. قال : مخافة الإسراف؟ فقلت : نعم. فقال : ليس فيما أصلح البدن إسراف. أنا ربّما أمرت بالنقيّ يلتّ بالزيت فأتدلّك به ، وإنّما الإسراف فيما أتلف المال وأضرّ بالبدن » (4).

فصل :

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن الصادق عليه السلام مرسلا أنّه قال : « قال أمير المؤمنين عليه السلام : ينبغي للرجل أن يتوقّى النورة يوم الأربعاء فإنّه يوم نحس مستمرّ » (5).

ص: 896


1- الكافي 6 : 499 ، الحديث 13.
2- الكافي 6 : 499 ، الحديث 16.
3- الصحاح 6 : 2515.
4- تهذيب الأحكام 1 : 376 ، الحديث 1160.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 266.

ثمّ قال الصدوق رحمه اللّه : وتجوز النورة في سائر الأيّام. وروي أنّها في يوم الجمعة تورث البرص (1). وذكر بعد ذلك حديثا بإسناد حسن عن الريّان ابن الصلت عمّن أخبره عن أبي الحسن عليه السلام قال : « من تنوّر يوم الجمعة فأصابه البرص فلا يلومنّ إلّا نفسه » (2).

وروى الشيخ أبو جعفر الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أحمد بن أبي عبد اللّه رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قيل له يزعم بعض الناس أنّ النورة يوم الجمعة مكروهة؟ قال : ليس حيث ذهبت أيّ طهور أطهر من النورة يوم الجمعة؟ » (3).

وروى عن حذيفة بن منصور قال : « سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يطلي العانة وما تحت الأليين (4) في كلّ جمعة » (5).

فصل :

وروى في من لا يحضره الفقيه عن الصادق عليه السلام مرسلا أنّه قال : « من أراد أن يتنوّر فليأخذ من النورة ويجعله على طرف أنفه ويقول : « اللّهم ارحم سليمان بن داود عليه السلام كما أمرنا بالنورة ، فإنّه لا تحرقه النورة إن شاء اللّه » (6).

ص: 897


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 267.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 298.
3- الكافي 6 : 506 ، الحديث 10.
4- في « ب » : الأليتين.
5- الكافي 6 : 507 ، الحديث 14.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 119 ، الحديث 256.

قال : وروي أنّ من جلس وهو متنوّر خيف عليه الفتق (1).

وروى في الكافي عن السيّاري رفعه قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « من أراد الإطلاء بالنورة فأخذ من النورة بإصبعه فشمّه وجعل على طرف أنفه وقال : صلّى اللّه على سليمان بن داود عليه السلام كما أمرنا بالنورة لم تحرقه النورة » (2).

وعن عمّار الساباطي قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « طلية في الصيف خير من عشر في الشتاء » (3).

فصل :

وروى الكليني عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن عليّ ابن الحكم عن سيف بن عميرة قال : « خرج أبو عبد اللّه عليه السلام من الحمّام فتلبّس وتعمّم. فقال لي : إذا خرجت من الحمّام فتعمّم ». قال : فما تركت العمامة عند خروجي من الحمّام في شتاء ولا صيف (4).

وعن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن مرازم قال : « دخلت مع أبي الحسن عليه السلام إلى الحمّام فلمّا خرج إلى المسلخ دعا بمجمرة فتجمّر به ، ثمّ قال : جمّروا مرازم ، قال : قلت : من أراد أن يأخذ نصيبه يأخذ؟ قال : نعم » (5).

ص: 898


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 119 ، الحديث 257.
2- الكافي 6 : 506 ، الحديث 13 ، وفي « أ » و « ب » : كما أمر بالنورة.
3- وفي « ب » : خير من عشرين في الشتاء. الكافي 6 : 3. الحديث 12.
4- الكافي 6 : 500 ، الحديث 17.
5- الكافي 6 : 518 ، الحديث 4.
فصل :

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن الحسن بن علي عليهما السلام أنّه خرج من الحمّام فقال له رجل : طاب استحمامك. فقال له : يا لكع وما تصنع بالاست هاهنا؟ فقال : طاب حمّامك. قال : إذا طاب الحمّام فما راحة البدن منه؟ قال : فطاب حميمك. فقال : ويحك أما علمت أنّ الحميم العرق؟ قال له : كيف أقول : قال : « قل : طاب ما طهر منك ، وطهر ما طاب منك » (1).

وعن الصادق عليه السلام أنّه قال : إذا قال لك أخوك وقد خرجت من الحمّام « طاب حمّامك » ، فقل : أنعم اللّه بالك (2).

وروى في الكافي عن أبي مريم الأنصاري رفعه قال : « إنّ الحسن ابن عليّ عليهما السلام خرج من الحمّام فلقيه إنسان فقال : طاب استحمامك ، فقال : يا لكع وما تصنع بالاست هاهنا؟ فقال : طاب حميمك. فقال : أما تعلم أنّ الحميم العرق. قال : طاب حمّامك. فقال : وإذا طاب حمّامي فأيّ شي ء لي؟ « قل : طهر ما طاب منك وطاب ما طهر منك » (3).

وروى عن محمّد بن يحيى رفعه عن عبد اللّه بن مسكان قال : كنّا جماعة من أصحابنا دخلنا الحمّام فلمّا خرجنا لقينا أبو عبد اللّه عليه السلام فقال لنا : « من أين أقبلتم؟ فقلنا : من الحمّام ، فقال : أنقى اللّه غسلكم فقلنا له : جعلنا فداك ، وإنّا جئنا معه حتّى دخل الحمّام فجلسنا حتّى خرج فقلنا له : أنقى اللّه غسلك ،

ص: 899


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 125 ، الحديث 297.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 125 ، الحديث 298.
3- الكافي 6 : 500 ، الحديث 21.

فقال : طهّركم اللّه » (1).

ص: 900


1- الكافي 6 : 500 ، الحديث 20.
النظر الثالث : في باقي أنواع الاستطابة
اشارة

وآكدها استحبابا السواك. فروى الشيخ أبو جعفر الكليني عن محمّد ابن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال : « قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ما زال جبرئيل يوصيني بالسواك حتّى خفت أن أحفي أو أدرد » (1).

وقال ابن الأثير في حديث السواك : « حتّى كدت أحفي فمي أي استقصي على أسناني فاذهبها بالتسوّك.

وقال : في الحديث « لزمت السواك حتّى خشيت أن يدردني أي يذهب بأسناني » (2).

وروى في الموثّق عن حمّاد بن عيسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أوصاني جبرئيل بالسواك حتّى خفت على أسناني » (3).

وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث وصيّة

ص: 901


1- الكافي 3 : 23 ، الحديث 3.
2- النهاية 1 : 410 و 2 : 112.
3- الكافي 6 : 496 ، الحديث 8.

النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام قال : « وعليك بالسواك عند كلّ وضوء » (1).

وفي الحسن عن ابن أبي عمير عن إسحاق بن عمّار قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام من أخلاق الأنبياء السواك » (2).

وعن جعفر بن محمّد الأشعري عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك. قال : وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة » (3).

وفي الصحيح عن ابن محبوب عن يونس بن يعقوب عن أبي اسامة عنه عليه السلام قال : « من سنن المرسلين السواك » (4).

وروى عن ابن سنان عنه عليه السلام قال : « في السواك اثنتا عشرة خصلة : هو من السنّة ، ومطهرة للفم ، ومجلاة للبصر ، ويرضي الربّ ، ويذهب بالبلغم ، ويزيد في الحفظ ، ويبيّض الأسنان ، ويضاعف الحسنات ، ويذهب بالحفر ، ويشدّ اللثّة ، ويشهّي الطعام ، وتفرح به الملائكة » (5).

وروى هذا الحديث مع جملة ممّا قبله الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسل عنهم عليهم السلام (6).

ص: 902


1- الكافي 8 : 79.
2- الكافي 6 : 495 ، الحديث 1.
3- الكافي 3 : 22 ، الحديث 1.
4- الكافي 3 : 23 ، الحديث 2.
5- الكافي 6 : 495 ، الحديث 6.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 55 ، الحديث 126.

قال الجوهري : يقول في أسنانه حفر وقد حفرت ، يحفر حفرا ، مثال كسر يكسر كسرا إذا فسدت اصولها قال : وبنو أسد تقول في أسنانه حفر وقد حفرت بالتحريك وهي أردأ اللغتين (1).

وروى الكليني في الحسن عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « كان إذا صلّى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فيوضع عند رأسه مخمّرا فيرقد ما شاء اللّه ثمّ يقوم فيستاك ويتوضّأ ويصلّي أربع ركعات ثمّ يرقد ثمّ يقوم فيستاك ويتوضّأ ويصلّي أربع ركعات إلى أن قال : ثمّ قال : لقد كان لكم في رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اسوة حسنة » (2).

وروى عنه عليه السلام أنّه قال : « إذا قمت بالليل فاستك فإنّ الملك يأتيك فيضع فاه على فيك فليس من حرف تتلوه وتنطق به إلّا صعد به إلى السماء فليكن فوك طيّب الريح » (3).

وروى في الحسن عن ابن أبي عمير عن ابن بكير عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السلام في السواك قال : « لا تدعه في كلّ ثلاث ولو أن تمرّه مرّة » (4).

وعنه عليه السلام أنّه قال : أدنى السواك أن تدلك بإصبعك (5).

وروى الشيخ بإسناده الصحيح عن محمّد بن الحسن الصفّار عن إبراهيم ابن هاشم عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام : « أنّ

ص: 903


1- الصحاح 2 : 635.
2- الكافي 3 : 445 ، الحديث 13.
3- الكافي 3 : 23 ، الحديث 7.
4- الكافي 3 : 23 ، الحديث 4.
5- الكافي 3 : 23 ، الحديث 5.

رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : « التسويك بالإبهام والمسحة عند الوضوء مسواك » (1).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن عليّ بن جعفر في الصحيح : « أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما السلام عن الرجل يستاك مرّة بيده إذا قام إلى صلاة الليل وهو يقدر على السواك؟ قال : إذا خاف الصبح فلا بأس به » (2).

وروى فيه مرسلا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال في وصيّته لعليّ عليه السلام : « يا عليّ عليك بالسواك عند وضوء كلّ صلاة » (3).

وعنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كلّ صلاة » (4).

قال : وروي : « لو علم الناس ما في السواك لأباتوه معهم في لحاف » (5).

وروي : « أنّ الكعبة شكت إلى اللّه عزوجل ما تلقى من أنفاس المشركين ، فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليها قرّي كعبة فإنّي مبدلك بهم قوما يتنظّفون بقضبان الشجر ، فلمّا بعث اللّه عزوجل نبيّه محمّدا صلى اللّه عليه وآله نزل عليه الروح الأمين جبرئيل عليه السلام بالسواك » (6).

وروى في العلل بإسناد حسن عن عبد اللّه بن ميمون عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك مع

ص: 904


1- تهذيب الأحكام 1 : 357 ، الحديث 1070.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 55 ، الحديث 122.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 53 ، الحديث 113.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 55 ، الحديث 123.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 55 ، الحديث 124.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 55 ، الحديث 125.

كلّ صلاة » (1).

وقال في من لا يحضره الفقيه : « إنّ الصادق عليه السلام ترك السواك قبل أن يقبض بسنتين وذلك أنّ أسنانه ضعفت » (2).

فصل :

وروى الكليني في الصحيح عن معمر بن خلّاد عن أبي الحسن عليه السلام قال : « لا ينبغي للرجل أن يدع الطيب في كلّ يوم ، فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم ، فإن لم يقدر ففي كلّ جمعة. ولا يدع » (3).

وعن عبد اللّه بن سنان في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ممسكة إذا هو توضّأ أخذها بيده وهي رطبة فكان إذا خرج عرفوا أنّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله برائحته » (4).

وفي الموثّق عن يونس بن يعقوب عن أبي اسامة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « العطر من سنن المرسلين » (5).

وروى عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمّد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ثلاث اعطيهنّ الأنبياء صلّى اللّه عليهم : العطر والأزواج والسواك » (6).

ص: 905


1- علل الشرائع : 293 ، الباب 221 ، الحديث 1.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 54 ، الحديث 121.
3- الكافي 6 : 510 ، الحديث 4.
4- الكافي 6 : 515 ، الحديث 3.
5- الكافي 6 : 510 ، الحديث 2.
6- الكافي 6 : 511 ، الحديث 9.

وعن عليّ بن إبراهيم رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « من تطيّب أوّل النهار لم يزل عقله معه إلى الليل » (1).

وعن يعقوب بن يزيد رفعه عنه عليه السلام قال : « قال عثمان بن مظعون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : قد أردت أن أدع الطيب - وأشياء ذكرها - ، فقال : لا تدع الطيب فإنّ الملائكة تستنشق ريح الطيب من المؤمن فلا تدع الطيب في كلّ جمعة » (2).

فصل :

وروى في الصحيح عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الكحل بالليل ينفع البدن وهو بالنهار زينة » (3).

وفي الموثّق عن حمّاد بن عيسى عنه عليه السلام قال : « الكحل يعذب الفم » (4).

وروى عن عدّة عن أحمد بن أبي عبد اللّه عن أبيه عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي عن أبيه وعمّه قالا : « قال أبو جعفر عليه السلام : الاكتحال بالإثمد يطيّب النكهة ، ويشدّ أشفار العين » (5).

وعن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الكحل ينبت الشعر ويخفّف الدمعة ويعذب الريق ويجلو البصر » (6).

ص: 906


1- الكافي 6 : 510 ، الحديث 7.
2- الكافي 6 : 511 ، الحديث 14.
3- الكافي 6 : 494 ، الحديث 3.
4- الكافي 6 : 494 ، الحديث 5.
5- الكافي 6 : 494 ، الحديث 4.
6- في « ب » : ويجفّف الدمعة .. ويجلي البصر. الكافي 6 : 6. الحديث 10.

وروى في الموثّق عن الحسن بن الجهم قال : « أراني أبو الحسن عليه السلام ميلا من حديد ومكحلة من عظام فقال : هذا كان لأبي الحسن عليه السلام فاكتحل به » ، فاكتحلت » (1).

وفي الصحيح عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يكتحل قبل أن ينام أربعا في اليمنى. وثلاثا في اليسرى » (2).

وعن ابن أبي عمير عن سليم الفراري عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يكتحل بالإثمد إذا آوى إلى فراشه وترا وترا » (3).

فصل :

وروى في الحسن عن عبد اللّه بن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام في قول اللّه عزوجل ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) (4) ، قال : « من ذلك التمشّط عند كلّ صلاة » (5).

وروى عن سفيان السمط قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : الثوب النقيّ يكبت العدوّ ، والدهن يذهب بالبؤس والمشط للرأس يذهب بالوباء. قال : قلت : وما الوباء؟ قال : الحمّى ، والمشط للّحية يشدّ الأضراس (6).

ص: 907


1- الكافي 6 : 494 ، الحديث 2.
2- الكافي 6 : 495 ، الحديث 12.
3- الكافي 6 : 493 ، الحديث 1.
4- سورة الأعراف : 31.
5- الكافي 6 : 489 ، الحديث 7.
6- في « أ » و « ب » : عن سفيان بن الشمط ، وفي « ب » : قال : قلنا : وما الوباء. راجع الكافي 6 : 6. الحديث 1.

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه هذا الحديث مرسلا عن الصادق عليه السلام ، وذكر أنّ في رواية أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي : يذهب بالونا. قال : وهو الضعف واستشهد له بقوله تعالى ( وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي ) أي لا تضعفا (1).

وروى في الكافي عن عمّار النوفلي عن أبيه قال : « سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول : المشط يذهب بالوباء وكان لأبي عبد اللّه عليه السلام مشط في المسجد يتمشّط به إذا فرغ من صلاته » (2).

وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « من سرّح لحيته سبعين مرّة وعدّها مرّة مرّة لم يقربه الشيطان أربعين يوما » (3).

وعن يونس عمّن أخبره عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إذا سرّحت رأسك ولحيتك فأمرّ المشط على صدرك فإنّه يذهب بالهمّ ، والوباء » (4).

وروى هذين الحديثين الصدوق أيضا في من لا يحضره الفقيه مرسلين (5).

وقال أبوه رضي اللّه عنه في رسالته : إذا أردت أخذ المشط فخذه بيدك اليمنى ، وقل : « بسم اللّه » ، وضعه على أمّ رأسك ثمّ سرّح مقدّم رأسك ، وقل : « اللّهم حسّن شعري وبشري وطيّبهما واصرف عنّي الوباء » ثمّ سرّح مؤخّر رأسك وقل : « اللّه لا تردّني على عقبي واصرف عنّي كيد الشيطان ولا تمكّنه من قيادي فيردّني على عقبي » ، ثمّ سرّح حاجبيك وقل : « اللّهم زيّنّي بزينة أهل

ص: 908


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 129 ، الحديث 323.
2- الكافي 6 : 488 ، الحديث 2 ، وفي « أ » : المشط يذهب بالونا.
3- الكافي 6 : 489 ، الحديث 10.
4- الكافي 6 : 489 ، الحديث 8.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 128 ، الحديثان 320 و 321.

الهدى » ثمّ سرّح لحيتك من فوق وقل : « اللّهم سرّح عنّي الغموم والهموم ووسوسة الصدور ووسوسة الشيطان ، ثمّ أمرّ المشط على صدرك ثمّ امسح وجهك بماء الورد ، فإنّه روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « من أخذ في حاجة ومسح وجهه بماء الورد لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة ».

فصل :

وروى الشيخ أبو جعفر الكليني في الحسن عن ابن أبي عمير عن هشام ابن المثنّى عن سدير الصيرفي قال : « رأيت أبا جعفر عليه السلام يأخذ عارضيه ويبطن لحيته » (1).

وعن ابن أبي عمير عن محمّد بن أبي حمزة عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ما زاد على القبضة ففي النار يعني اللحية » (2).

وفي الموثّق عن الحسن الزيّات قال : « رأيت أبا جعفر عليه السلام قد خفّف لحيته » (3).

وروى عن محمّد بن مسلم قال : « رأيت أبا جعفر عليه السلام والحجّام يأخذ من لحيته ، فقال : دوّرها » (4).

وعن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قدر اللحية قال : « تقبض بيدك على اللحية وتجزّ ما فضل » (5).

ص: 909


1- الكافي 6 : 486 ، الحديث 1.
2- الكافي 6 : 487 ، الحديث 10.
3- في « ب » : وقد خفّف لحيته. الكافي 6 : 3. الحديث 4.
4- الكافي 6 : 487 ، الحديث 5.
5- الكافي 6 : 487 ، الحديث 3.

وعن درست عنه عليه السلام قال : « مرّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله رجل طويل اللحية ، فقال : ما كان على هذا لو هيأ من لحيته! فبلغ ذلك الرجل ، فهيأ بلحيته بين اللحيتين ثمّ دخل على النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، فلمّا رآه قال : هكذا فافعلوا » (1).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله مرسلا أنّه نظر إلى رجل طويل اللحية فقال : وذكر نحو الحديث الذي رواه الكليني (2).

وعن الصادق عليه السلام مرسلا أيضا أنّه قال : « ما زاد من اللحية عن قبضة فهو في النار » (3).

وروى عن محمّد بن مسلم أنّه قال : « رأيت أبا جعفر عليه السلام يأخذ من لحيته فقال : دوّرها » (4).

فصل :

وروى في الكافي عن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه عن أبي الحسن عليه السلام قال : « سألته عن قصّ الشارب أمن السنّة؟ قال : نعم » (5).

وروى في الحسن عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

ص: 910


1- الكافي 6 : 488 ، الحديث 12. هيأ من لحيته : أصلحها ، راجع مختار الصحاح : 1. طبعة مصر عام 1355 ه.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 130 ، الحديث 330.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 130 ، الحديث 332.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 130 ، الحديث 333 وفيه : رأيت أبا جعفر الباقر عليه السلام [ والحجّام ] يأخذ من لحيته ..
5- الكافي 6 : 487 ، الحديث 7.

« قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : من السنّة أن يأخذ الشارب حتّى يبلغ الإطار » (1).

وقال في القاموس : الإطار ككتاب ما يفصل بين الشفة وبين شعر الشارب (2).

وعن النوفلي عن السكوني عنه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا يطولنّ أحدكم شاربه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبأ يستتر به » (3).

وفي الموثّق عن ابن فضّال عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ذكرنا الأخذ من الشارب. فقال : نشره ، وهو من السنّة » (4).

وفي الموثّق أيضا عن ابن أبي (5) بكير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : تقليم الأظفار وأخذ الشارب في كلّ جمعة أمان من البرص والجنون (6).

وعن عليّ بن عقبة عن أبيه قال : أتيت عبد اللّه بن الحسن (7) فقلت : علّمني دعاء في الرزق. فقال : قل : « اللّهم تولّ أمري ولا تولّ أمري غيرك » فعرضته على أبي عبد اللّه عليه السلام فقال : « ألا أدلّك على ما هو أنفع من هذا في الرزق؟ تقصّ أظافرك وشاربك في كلّ جمعة. ولو بحكّها » (8).

ص: 911


1- الكافي 6 : 487 ، الحديث 6.
2- قاموس اللغة 1 : 365 ، وعن مجمع البحرين 3 : 208 الإطار : ( حرف الشفة الأعلى الذي يحول بين منابت الشعر والشفة ).
3- الكافي 6 : 487 ، الحديث 11.
4- الكافي 6 : 487 ، الحديث 8. والنشرة : عوذة يعالج بها المجنون والمريض. راجع مجمع البحرين 3 : 494.
5- في « أ » و « ج » : عن ابن بكير.
6- الكافي 6 : 490 ، الحديث 4.
7- في « ب » : أتيت أبا عبد اللّه بن الحسن.
8- الكافي 6 : 491 ، الحديث 12.

وفي الحسن عن ابن أبي عمير عن محمّد بن طلحة قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « تقليم الأظفار وقصّ الشارب وغسل الرأس بالخطمي كلّ جمعة ينفي الفقر ويزيد في الرزق » (1).

وعن ابن أبي عمير عن سفيان ابن السمط عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « تقليم الأظفار والأخذ من الشارب وغسل الرأس بالخطمي ينفي الفقر ، ويزيد في الرزق » (2).

وروى عن عبد اللّه بن سنان عنه عليه السلام قال : « من أخذ من شاربه وقلّم أظفاره وغسل رأسه بالخطمي يوم الجمعة كان كمن أعتق نسمة » (3).

وفي الحسن عن حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « أخذ الشارب والأظفار من الجمعة إلى الجمعة أمان من الجذام » (4).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن عبد اللّه بن أبي يعفور أنّه قال للصادق عليه السلام : جعلت فداك يقال : ما استنزل الرزق بشي ء مثل التعقيب فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. فقال : « أجل ، ولكن اخبرك بخير من ذلك ، أخذ الشارب وتقليم الأظفار يوم الجمعة » (5).

وعن الحسين بن أبي العلاء أنّه قال للصادق عليه السلام : « ما ثواب من أخذ من

ص: 912


1- الكافي 6 : 491 ، الحديث 10.
2- الكافي 6 : 504 ، الحديث 1.
3- الكافي 6 : 504 ، الحديث 4.
4- تهذيب الأحكام 3 : 236 ، الحديث 622.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 127 ، الحديث 310.

شاربه وقلّم أظفاره في كلّ جمعة؟ قال : لا يزال مطهّرا إلى الجمعة الاخرى » (1).

وروى المشايخ الثلاثة في الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب عن عبد الرحيم القصير قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « من أخذ من أظفاره وشاربه كلّ جمعة وقال حين يأخذ : ( بسم اللّه وباللّه وعلى سنّة محمّد صلى اللّه عليه وآله ) لم يسقط منه قلامة ولا جزازة إلّا كتب اللّه له بها عتق نسمة ولا يمرض إلّا مرضه الذي يموت فيه » (2).

فصل :

وروى الشيخان في الكافي ومن لا يحضره الفقيه عن هشام بن سالم بإسنادين حسن وصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « تقليم الأظفار يوم الجمعة يؤمن من الجذام والبرص والعمى وإن لم يحتج فحكّها » (3).

وروى الكليني في الموثّق عن خلف قال : « رآني أبو الحسن عليه السلام بخراسان وأنا أشتكي عيني. فقال : أدلّك على شي ء إن فعلته لم تشتك عينك؟ فقلت : بلى. فقال : خذ من أظفارك في كلّ خميس. قال : ففعلت فما اشتكت عيني

ص: 913


1- الكافي 6 : 490 ، الحديث 8.
2- الكافي 6 : 491 ، الحديث 9 ، وتهذيب الأحكام 3 : 237 ، الحديث 627 ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 126 ، الحديث 303 ، وفيه : بسم اللّه وباللّه وعلى سنّة محمد وآل محمد صلوات اللّه عليهم ، والقلامة : ما سقط من الظفر ، والجزازة : ما سقط من الشارب. وفي « ب » : عتق رقبة.
3- الكافي 6 : 490 ، الحديث 2 ، ومن لا يحضره الفقيه 1 : 126 ، الحديث 301. وفيه : « فإن لم تحتج فحكّها حكّا ». وفي خبر آخر : « فإن لم تحتج فأمرّ عليها السكّين أو المقراض ».

إلى يوم أخبرتك » (1).

وروى عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إنّما قصّ الأظفار لأنّها مقيل الشيطان ، ومنه يكون النسيان » (2).

وعن حذيفة بن منصور عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ أستر وأخفى ما يسلّط الشيطان من ابن آدم أن صار يسكن تحت الأظافير (3).

وعن ابن القدّاح عنه عليه السلام قال : « احتبس الوحي على النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقيل له : احتبس الوحي عنك؟ فقال : وكيف لا يحتبس وأنتم لا تقلمون أظفاركم ولا تنقّون رواجبكم » (4).

قال ابن الأثير : الرواجب ما بين عقد الأصابع من داخل. وأحدها الراجبة (5).

وفي الحسن عن ابن أبي عمير رفعه في قصّ الأظافير : « تبدأ بخنصرك الأيسر ثمّ تختم باليمين » (6).

وروى في من لا يحضره الفقيه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مرسلا أنّه قال : « من قصّر أظفاره يوم الخميس وترك واحدا ليوم الجمعة نفى اللّه عنه الفقر » (7).

ص: 914


1- في « ب » : وأنا بخراسان أشتكي عيني.
2- الكافي 6 : 490 ، الحديث 6 ، وفيه : « إنّما قصوا الأظفار .. ».
3- الكافي 6 : 490 ، الحديث 7.
4- في « ب » : احتبس الوحي عن النبيّ. الكافي 6 : 4. الحديث 17.
5- النهاية 2 : 197.
6- الكافي 6 : 492 ، الحديث 16 ، صحح النصّ كما في المصدر.
7- من لا يحضره الفقيه 1 : 127 ، الحديث 309.

وعنه صلى اللّه عليه وآله قال : « من قلّم أظفاره يوم السبت ويوم الخميس وأخذ من شاربه عوفي من وجع الضرس ووجع العين » (1).

وعنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال للرجال : « قصّوا أظافيركم ، وللنساء اتركن من أظفاركنّ فإنّه أزين لكنّ » (2).

وعن أبي جعفر عليه السلام مرسلا أيضا أنّه قال : « من أخذ من أظفاره كلّ خميس لم يرمد ولده » (3).

قال الصدوق رحمه اللّه : وروي أنّه من يقلّم أظفاره يوم الجمعة يبدأ بخنصره من اليد اليسرى ويختم بخنصره من اليد اليمنى (4).

فصل :

وروى في الكافي عن أبي كهمش عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزوجل : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ) (5) قال : « دفن الشعر والظفر » (6).

وروى في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « يدفن الرجل أظفاره وشعره إذا أخذ منها وهي سنّة » (7). قال : وروي « أنّ من السنّة

ص: 915


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 128 ، الحديث 312.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 128 ، الحديث 315.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 127 ، الحديث 311. وفيه : « كل يوم خميس. وعلّق عليه المحقّق قائلا : ولعلّه تصحيف وفي « الكافي » بإسناده عن أبي جعفر قال : « من أدمن أخذ أظفاره في كل خميس لم ترمد عينه » ..
4- في « أ » : بخنصر من اليد اليسرى. من لا يحضره الفقيه 1 : 4. الحديث 304.
5- سورة المرسلات : 25 - 26.
6- الكافي 6 : 493 ، الحديث 1.
7- من لا يحضره الفقيه 1 : 316.

دفن الشعر والظفر والدم » (1).

فصل :

وروى في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « لا يطولنّ أحدكم شعر إبطه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبأ يستتر به » (2).

وعن عليّ عليه السلام أنّه قال : « نتف الإبط ينفي الرائحة الكريهة وهو طهور وسنّة ممّا أمر به الطيّب عليه وآله السلام » (3).

وعن الصادق عليه السلام : « أنّه كان يطلي إبطيه في الحمّام ويقول : نتف الإبط يضعف المنكبين ويوهي ويضعّف البصر » (4).

وعنه عليه السلام أنّه قال : « حلقه أفضل من نتفه ، وطليه أفضل من حلقه » (5).

وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا يطولنّ أحدكم شعر إبطيه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبأ يستتر به » (6).

وروى في الموثّق عن عليّ بن عقبة عن أبي كهمش قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام :

ص: 916


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 128 ، الحديث 317.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 265. وفيه : « مجنّا » بدل « مخبأ » ، والمجنّ : كل ما وقى من السلاح ، والمخبأ : موضع الاستتار.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 264.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 262.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 263.
6- الكافي 6 : 507 ، الحديث 1.

« نتف الإبط يضعف المنكبين. وكان أبو عبد اللّه عليه السلام يطلي إبطه » (1).

وفي الحسن عن حفص بن البختري : « أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام كان يطلي إبطه بالنورة في الحمّام » (2).

وروى عن سعدان قال : كنت مع أبي بصير في الحمّام فرأيت أبا عبد اللّه عليه السلام يطلي إبطه فأخبرت بذلك أبا بصير فقال له : جعلت فداك أيّما أفضل نتف الإبط أو حلقه؟ فقال : « يا أبا محمّد إنّ نتف الإبط يوهي أو يضعف. احلقه » (3).

وفي الصحيح عن ابن محبوب عن يونس بن يعقوب : « أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام كان يدخل الحمّام فيطلي إبطه وحده إذا احتاج إلى ذلك وحده » (4).

وروى الصدوق في العلل عن عبد اللّه بن أبي يعفور في الموثّق قال : لاحاني زرارة بن أعين في نتف الإبط وحلقه. فقلت : نتفه أفضل من حلقه وطليه أفضل منهما جميعا. فأتينا باب أبي عبد اللّه عليه السلام فطلب الإذن عليه فقيل لنا : هو في الحمّام ، فذهبنا إلى الحمّام فخرج عليه السلام علينا وقد طلي إبطه. فقلت لزرارة : يكفيك؟ قال : لا ، لعلّه إنّما فعله لعلّة به ، فقال : فيما أتيتما؟ فقلت : لاحاني زرارة في نتف الإبط وحلقه. فقلت : نتفه أفضل من حلقه ، وطليه أفضل منهما. فقال : أما إنّك أصبت السنّة وأخطأها زرارة ، أمّا إنّ أفضل من نتفه حلقه وطليه أفضل منهما جميعا ، ثمّ قال لنا : اطليا. فقلنا : فعلنا منذ ثلاث. فقال :

ص: 917


1- في « ب » : عن عليّ بن عيينة عن أبي كهمش. الكافي 6 : 1. الحديث 2.
2- الكافي 6 : 507 ، الحديث 3.
3- الكافي 6 : 508 ، الحديث 4.
4- في « ب » : إذا احتاج إليه وحده. الكافي 6 : 508، الحديث 6.

أعيدا فإنّ الإطلاء طهور ، ففعلنا » (1).

قال العلّامة في المنتهى بعد أن ذكر جملة من هذه الأخبار : المقصود إنّما هو الإزالة فمهما حصلت ، حصلت الأفضليّة ، ومع ذلك فينبغي الإزالة بالنورة لما ورد فيها من الفضل (2).

والأولى أن يقال : إنّ كلّا من النتف والحلق محصّل لأصل المقصود (3) وهو الإزالة ولكنّ الأفضليّة في النورة للأخبار الواردة بذلك وقد ذكرنا أكثرها.

فصل :

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مرسلا أنّه قال : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يترك عانته فوق الأربعين يوما ولا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تدع ذلك منها فوق عشرين يوما » (4).

وعنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « احلقوا شعر البطن للذكر والانثى » (5).

وعن أبي الحسن موسى عليه السلام أنّه قال : « القوا الشعر عنكم فإنّه يحسن » (6).

وروى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني

ص: 918


1- علل الشرائع 1 : 292 ، الباب 220 ، الحديث 1. في « ب » : فطلبنا الإذن عليه .. وطليه أفضل منهما جميعا. وفي « ج » : فخرج علينا وقد أطلى إبطه.
2- منتهى المطلب 1 : 318.
3- في « ب » : محصل للأصل المقصود.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 119 ، الحديث 260.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 120 ، الحديث 261.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 119 ، الحديث 255.

عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يترك عانته ». وذكر الحديث السابق (1).

وروى الشيخ في التهذيب بإسناد صحيح عن أبان قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « القوا عنكم الشعر فإنّه يحسن » (2).

وروى الكليني عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن حمزة الأشعري رفعه قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « أخذ الشعر من الأنف يحسن الوجه » (3). ورواه في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن الصادق عليه السلام (4).

فصل :

قال العلّامة في المنتهى والتحرير : اتّخاذ الشعر يعني شعر الرأس أفضل من إزالته (5). ولم يتعرّض للاحتجاج على ذلك ولكنّه أورد حديثين بعد ذكره للحكم وهما :

قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « الشعر الحسن من كسوة اللّه فأكرموه » (6). وقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : من اتّخذ شعرا فليحسن ولايته أو ليجزه (7).

ص: 919


1- الكافي 6 : 506 ، الحديث 11.
2- تهذيب الأحكام 1 : 376 ، الحديث 1158.
3- الكافي 6 : 488 ، الحديث 1.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 124 ، الحديث 289.
5- منتهى المطلب 1 : 317 ، وتحرير الأحكام 1 : 9.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 129 ، الحديث 327.
7- من لا يحضره الفقيه 1 : 129 ، الحديث 326.

وربّما كان غرضه من إيرادهما الاحتجاج بهما ؛ لأنّه قال بعد ذكرهما : وقد روي خلاف ذلك. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لرجل : « احلق فإنّه يزيد في جمالك » (1).

ثمّ ذكر أنّه يحتمل كون الأمر بالحلق مخصوصا بذلك المخاطب لمعرفته بأنّ الحلق يزيد في جماله (2).

وعندي في هذا الحكم نظر ؛ لانتفاء الدليل الواضح عليه ، وورود عدّة روايات بخلافه.

فروى الصدوق عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي في الصحيح عن أبي الحسن (3) عليه السلام قال : قلت له : إنّ أصحابنا يروون حلق الرأس في غير حجّ ولا عمرة مثلة. فقال : « كان أبو الحسن عليه السلام إذا قضى نسكه عدل إلى قرية يقال لها ساية فحلق » (4).

قال الصدوق رحمه اللّه بعد إيراده لهذا الخبر في من لا يحضره الفقيه : وروي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « حلق الرأس في غير حجّ ولا عمرة مثلة لأعدائكم وجمال لكم » (5).

وقال في موضع آخر في الكتاب : قال الصادق عليه السلام : « حلق الرأس في

ص: 920


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 124 ، الحديث 287.
2- منتهى المطلب 1 : 318.
3- في « ب » : عن الصادق عليه السلام.
4- هكذا في الأصل ، راجع من لا يحضره الفقيه 2 : 523 ، الحديث 3214 ، وفي « أ » و « ب » : « شانه » ، وفي « ج » : « سامه ».
5- من لا يحضره الفقيه 2 : 523 ، الحديث 3125.

غير حجّ ولا عمرة مثلة لأعدائكم وجمال لكم » (1). ثمّ قال : ومعنى هذا في قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله حين وصف الخوارج فقال : « إنّهم يمرقون كما يمرق السهم من الرمية وعلامتهم التسبيب وهو الحلق وترك التدهّن » (2).

وروى الكليني في الحسن عن ابن أبي عمير عن محمّد بن أبي حمزة عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال لي : استأصل شعرك يقلّ درنه ودوابّه ووسخه وتغلظ رقبتك ويجلو بصرك » (3).

قال : وفي رواية اخرى : « ويستريح بدنك » (4).

وقال في من لا يحضره الفقيه : قال الصادق عليه السلام لبعض أصحابه : « استأصل شعرك يقلّ درنه ». وذكر الحديث (5).

وروى أيضا عنه عليه السلام أنّه قال : « إنّي لأحلق في كلّ جمعة فيما بين الطلية إلى الطلية » (6).

وروى هذا الخبر في الكافي عن عدّة عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن

ص: 921


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 124 ، الحديث 124.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 288 ، الحديث 288. وفي المصدر : « وعلامتهم التسبيد ». قال في مختار الصحاح : التسبيد ترك الادهان. وفي الحديث : قدم ابن عباس مكة مسبّدا رأسه. وقال في باب التاء : السبت الراحة والدهر وحلق الرأس وضرب العنق ومنه يسمى يوم السبت لانقطاع الأيام عنده. وجاء في هامش النسخة المحققة : وفي أكثر النسخ « التسبيت » وفي المحكي عن المعرب : السبت القطع ومنه سبت رأسه : حلقه.
3- الكافي 6 : 484 ، الحديث 2.
4- الكافي 6 : 484 ، الحديث 2.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 129 ، الحديث 325.
6- من لا يحضره الفقيه 1 : 124 ، الحديث 286.

الحكم عن سعدان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام (1).

فأمّا ما رواه الكليني عن أبي علي الأشعري عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان عن ابن سنان قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما تقول في إطالة الشعر؟ فقال : كان أصحاب محمّد صلى اللّه عليه وآله مشعرين ، - يعني الطم - » (2) ، فليس فيه دلالة على الأفضليّة كما هو مدّعى العلّامة (3). نعم يدلّ على عدم المرجوحيّة.

قال الجوهري : طم شعره أي جزّه. وطمّ شعره أيضا طموما إذا عقصه (4). والمراد هنا المعنى الأوّل. ومع هذا فخبر الحلق أقوى إسنادا وأكثر اعتضادا كما قد عرفت.

فصل :

وذكر العلّامة في المنتهى والتحرير أيضا : أنّ من الفطرة فرق الرأس (5).

قال ابن الأثير في الحديث : عشر من الفطرة أي من السنّة يعني سنن

ص: 922


1- الكافي 6 : 485 ، الحديث 7.
2- الكافي 6 : 485 ، الحديث 6.
3- منتهى المطلب 1 : 318. قال العلّامة : « واتّخاذ الشعر أفضل من إزالته ». وقال المؤلّف في منتقى الجمان 1 : 118 تعليقا على هذا الخبر : قلت لا يخلو هذا الخبر من إجمال ، والظاهر أنّ المراد من الطمّ فيه الجزّ ، فيدلّ على عدم مرجوحية الإطالة مع الجزّ. ولا تنافي بينه وبين الخبر الأوّل - وهو خبر البزنطي عن أبي الحسن ، الذي مرّ ذكره آنفا - ثم قال : بل يستفاد منهما التخيير بين الأمرين. إلّا أنّ قوّة إسناد الأوّل واعتضاده بعدّة أخبار - لا تخلو عن ضعف في الإسناد - يمنع من التسوية بين الحكمين مطلقا.
4- الصحاح 5 : 1976.
5- منتهى المطلب 1 : 321 ، وتحرير الأحكام 1 : 9.

الأنبياء عليهم السلام التي امرنا أن نقتدي بهم فيها (1).

وقال في صفة النبيّ صلى اللّه عليه وآله أن انفرقت عقيصته فرق (2). أي أن صار شعره فرقتين بنفسه في مفرقه تركه وإن لم ينفرق لم يفرقه (3).

وهذا الحكم كالذي قبله لم يذكر له حجّة ، وإنّما نقل معه خبرا مرسلا رواه الصدوقان في الرسالة ومن لا يحضره الفقيه ، عن الصادق عليه السلام بغير إسناد.

قال : « من اتّخذ شعرا ولم يفرّقه فرّقه اللّه بمنشار من نار » (4).

وروى في الكافي حديثا في معناه بإسناد ضعيف عن أبي العبّاس البقباق ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يكون له وفرة يفرّقها أو يدعها؟ قال : يفرّقها » (5).

وكلام الصدوقين في الكتابين موافق لما قاله العلّامة ، فإنّهما ذكرا أنّ السنن الحنيفيّة عشر سنن ، خمس في الرأس وخمس في الجسد. فأمّا التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والسواك (6) وقصّ الشارب ، والفرق لمن طوّل شعر رأسه.

قال في الرسالة : وإيّاك أن تدع الفرق إن كان لك شعر طويل فقد روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : من لم يفرّق شعره فرّقه اللّه يوم القيامة بمنشار

ص: 923


1- النهاية 3 : 457.
2- في « ب » : في وصفه النبيّ أن تفرّقت عقيصته فرق.
3- في « ب » : وتركه وإن لم ينفرق لم يفرقه.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 129 ، الحديث 328.
5- الكافي 6 : 485 ، الحديث 1.
6- في « ب » : والسواك والاستنشاق.

من نار.

وأمّا التي في الجسد : فالاستنجاء والختان وحلق العانة وقصّ الأظفار ونتف الإبطين.

وروى أبو جعفر الكليني عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الفرق من السنّة؟ قال : لا. قلت : فهل فرّق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : نعم. قلت : وكيف فرّق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وليس من السنّة؟ قال : من أصابه ما أصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يفرّق كما فرّق وإلّا فلا. قلت : كيف؟ قال : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمّا صدّ عن البيت وقد كان ساق الهدي وأحرم أراه اللّه الرؤيا بالحقّ ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) (1). فعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّه سيفي له بما أراه فمن ثمّ وفّر ذلك الشعر الذي كان على رأسه حين أحرم انتظارا لحلقه في الحرم حيث وعده اللّه عزوجل فلمّا حلقه لم يعد في توفير الشعر ولا كان ذلك من قبله صلى اللّه عليه وآله (2).

وعن عمرو بن ثابت عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت : إنّهم يروون أنّ الفرق من السنّة قلت : يزعمون أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله فرّق؟ قال : ما فرّق النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولا كانت الأنبياء تمسك الشعر (3).

وعن أيّوب بن هارون عنه عليه السلام قال : قلت له : أكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يفرّق شعره؟ قال : لا. إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان إذا طال شعره كان إلى شحمة أذنه (4).

ص: 924


1- سورة الفتح : 27.
2- الكافي 6 : 486 ، الحديث 5.
3- الكافي 6 : 486 ، الحديث 4.
4- الكافي 6 : 486 ، الحديث 3.
فصل :

وروى الشيخ أبو جعفر الكليني في الحسن عن الحلبي قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن خضاب الشعر؟ فقال : قد خضّب النبيّ صلى اللّه عليه وآله والحسين بن عليّ وأبو جعفر عليهم السلام بالكتم (1).

وفي الصحيح عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : خضّب النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولم يمنع عليّا إلّا قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقد خضّب الحسين وأبو جعفر عليه السلام (2).

وفي الموثّق عن الحسن بن جهم قال : دخلت على أبي الحسن عليه السلام وقد اختضب بالسواد فقلت : أراك اختضبت بالسواد (3)؟ فقال : إنّ في الخضاب أجرا والخضاب والتهيئة ممّا يزيد اللّه عزوجل في عفّة النساء. ولقد ترك نساء العفّة بترك أزواجهنّ لهنّ التهيئة. قال : قلت : بلغنا أنّ الحنّاء يزيد في الشيب؟ قال : أيّ شي ء يزيد في الشيب؟ الشيب يزيد في كلّ يوم (4).

وفي الصحيح عن العبّاس بن موسى بن الورّاق عن أبي الحسن عليه السلام قال : دخل قوم على أبي جعفر صلوات اللّه عليه فرأوه مختضبا فسألوه فقال : إنّي رجل أحبّ النساء فأنا أتصبّغ لهنّ (5).

ص: 925


1- الكافي 6 : 481 ، الحديث 7.
2- الكافي 6 : 481 ، الحديث 8.
3- إلى هنا انتهت النسخة « ب ».
4- الكافي 6 : 480 ، الحديث 1.
5- في « أ » : أتصنّع لهنّ. الكافي 6 : 5. الحديث 3.

وفي الحسن عن ابن أبي عمير .. (1). عن معاوية بن عمّار عن حفص الأعور قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن خضاب اللحية والرأس أمن السنّة؟ فقال : نعم. قلت : إنّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه لم يختضب. قال : إنّما منعه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : إنّ هذه ستخضب من هذه (2).

وعن ابن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السلام قال : في الخضاب ثلاث خصال : مهيبة في الحرب ، ومحبّة إلى النساء ويزيد في الباه (3).

وفي الصحيح عن عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الوسمة؟ فقال : لا بأس بها للشيخ الكبير (4).

وفي الصحيح أيضا عن محمّد بن مسلم قال : رأيت أبا جعفر عليه السلام يمضغ علكا ، فقال : يا محمد نقضت الوسمة أضراسي فمضغت هذا العلك لأشدّها ، قال : وكانت استرخت فشدّها بالذهب (5).

وفي الحسن عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه قال : الحنّاء يزيد في ماء الوجه ويكثر الشيب (6).

وعن معاوية بن عمّار في الحسن أيضا قال : رأيت أبا جعفر عليه السلام مخضوبا

ص: 926


1- إلى هنا انتهت النسخة « ج ».
2- الكافي 6 : 481 ، الحديث 5.
3- الكافي 6 : 481 ، الحديث 6.
4- الكافي 6 : 482 ، الحديث 2.
5- الكافي 6 : 482 ، الحديث 3.
6- الكافي 6 : 483 ، الحديث 1.

بالحنّاء (1).

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : اخضبوا بالحناء فإنّه يجلو البصر وينبت الشعر ويطيب الريح ويسكن الزوجة (2).

وعنه صلى اللّه عليه وآله أنّه دخل عليه رجل وقد صفّر لحيته فقال : ما أحسن هذا! ثم دخل عليه بعد هذا وقد أقنى بالحناء فتبسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال : هذا أحسن من ذاك. ثمّ دخل عليه بعد ذلك وقد خضب بالسواد فضحك إليه وقال : هذا أحسن من ذاك وذاك (3).

وعنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال لعليّ عليه السلام : يا علي درهم في الخضاب أفضل من ألف درهم في غيره في سبيل اللّه عزوجل ، وفيه أربع عشرة خصلة : يطرد الريح من الاذنين ويجلو البصر ويلين الخياشيم ويطيب النكهة ويشدّ اللثّة ويذهب بالضنى ويقلّ وسوسة الشيطان وتفرح به الملائكة ويستبشر به المؤمن ويغيظ [ به ] الكافر وهو زينة وطيب ويستحي منه منكر ونكير وهو براءة له في قبره (4).

وروى عن محمد بن مسلم أنّه سأل أبا جعفر عليه السلام عن الخضاب؟ فقال :

ص: 927


1- الكافي 6 : 483 ، الحديث 3.
2- الفقيه 1 : 121 ، الحديث 272.
3- الفقيه 1 : 123 ، الحديث 282.
4- الكافي 6 : 482 ، الحديث 12. والفقيه 4 : 123، الحديث 285. الضنى : المرض والهزال والضعف وسوء الحال. وفي الكافي ، الحديث 12 : ويذهب بالغشيان. وفي بعض نسخه : ويذهب بالغثيان.

كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يختضب وهذا شعره عندنا (1).

قال الصدوق : وروي أنّه كان في رأسه ولحيته سبع عشرة شيبة (2).

فصل :

وروى في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : الشيب نور فلا تنتفوه (3).

قال الصدوق رحمه اللّه : والنهي عن نتف الشيب نهي كراهية لا نهي تحريم ؛ لأنّ الصادق عليه السلام يقول : لا بأس بجزّ الشمط ونتفه وجزّه أحبّ إليّ من نتفه.

وأخبارهم عليهم السلام لا تختلف في حالة واحدة لأنّ مخرجها من عند اللّه تعالى ذكره ، وإنّما تختلف بحسب اختلاف الأحوال (4).

وروى عن الصادق عليه السلام مرسلا أيضا أنّه قال : أوّل من شاب إبراهيم الخليل عليه السلام وأنّه ثنى لحيته فرأى طاقه بيضا فقال : يا جبريل ما هذا؟ فقال : هذا وقار ، فقال إبراهيم : اللّهم زدني وقارا (5).

وقد روى الشيخ أبو جعفر الكليني الحديث المتضمّن لنفي البأس عن نتف الشيب بإسناد حسن عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : لا بأس

ص: 928


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 122 ، الحديث 277.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 122 ، الحديث 278.
3- من لا يحضره الفقيه 1 : 130 ، الحديث 328.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 131 ، الحديث 340. والشمط : بياض شعر الرأس يخالطه سواد. راجع مجمع البحرين 4 : 258.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 131 ، الحديث 340. والشمط : بياض شعر الرأس يخالطه سواد. راجع مجمع البحرين 4 : 258.

بجزّ الشمط ونتفه وجزّه أحبّ إليّ من نتفه (1).

وروى الصدوق رحمه اللّه في العلل حديث شيب إبراهيم عليه السلام بإسناد صحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كان الناس لا يشيبون فأبصر إبراهيم عليه السلام شيبا في لحيته ، فقال : يا ربّ ما هذا؟ فقال : هذا وقار فقال : يا ربّ زدني وقارا (2).

وروى بإسناد آخر صحيح عن عليّ بن مهزيار عن الحسين بن عمّار عن نعيم عن أبي جعفر عليه السلام قال : أصبح إبراهيم عليه السلام فرأى في لحيته شيبا شعرة بيضاء فقال : الحمد لله ربّ العالمين الذي بلّغني هذا المبلغ ولم أعص اللّه طرفة عين (3).

وعلى هذا نقطع الكلام في الجزء الأوّل من كتاب معالم الدين وملاذ المجتهدين ويتلوه الجزء الثاني إن شاء اللّه تعالى.

المطلب الثالث في الطهارة من الأحداث وما في معناها وهي : وضوء وغسل وتيمّم. ففيها ثلاثة فصول.

الفصل الأوّل : في الوضوء.

وأنا أحمد اللّه تعالى على جزيل نواله وأتوسّل إليه بنبيّه وحبيبه محمّد وآله أن يمدّني من جوده وإفضاله بالتوفيق لإكماله ، وأن يجعل جدّي في تحقيق مقاصده واجتهادي في تنقيح فوائده وسيلة إلى رضوانه وذريعة إلى عفوه وغفرانه.

ص: 929


1- الكافي 6 : 492 ، الحديث 1.
2- علل الشرائع : 104 ، الباب 95 ، الحديث 1.
3- علل الشرائع : 104 ، الباب 95 ، الحديث 2.

واتّفق الفراغ من تسويده سحر ليلة الأحد الثانية من ربيع الثاني ولي من أوّل الربيع سنة أربع وتسعين وتسعمائة وكتب مؤلفه العبد الفقير إلى رحمة ربّه الغنيّ حسن بن زين الدين بن علي الشامي العاملي عامله اللّه بلطفه وحلمه وعفى عن إساءته وجرمه وغفر له ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات والحمد لله ربّ العالمين وصلواته على نبيّه محمّد المصطفى وعترته الطيبين الطاهرين.

هكذا صورة خطّ مؤلفه أدام اللّه أيّامه وختم بالصالحات أعماله يا ربّ العالمين.

واتّفق الفراغ من كتابته ضحى يوم الإثنين الثامن والعشرون من شهر رمضان المبارك سنة ألف وواحد من الهجرة النبوية على مشرّفها أفضل الصلاة والسلام والتحيّة. وكتب بيده الفانية أقلّ العباد وأحوجهم إلى رحمة ربّه يوم التناد حسن بن أحمد بن محمد بن علي بن سنبغ العاملي عامله اللّه بلطفه الخفي وغفر اللّه له ولهم ولجميع المؤمنين والمؤمنات ولمن دعا لهم بالمغفرة يا ربّ العالمين.

وقد فرغت من تصحيحه وتحقيقه عصر يوم السبت الرابع والعشرون من شهر شوّال المكرّم للسنة الخامسة عشر بعد الألف والأربعمائة من الهجرة النبوية المباركة وأنا أقلّ طلبة حوزتي النجف الأشرف وقم المقدّسة السيّد منذر بن السيّد محسن الحسيني الملقّب ب- ( الحكيم ).

والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 930

مصادر الكتاب ومراجع التحقيق

1 - اختيار معرفة الرجال - ( رجال الكشي ) محمد بن الحسن الطوسي ، تحقيق الشيخ حسن المصطفوي ، طبعة جامعة مشهد.

2 - إرشاد الأذهان إلى الإيمان - العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (م 726 ه- ) ، تحقيق الشيخ فارس الحسّون ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1410 ه.

3 - الاستبصار - محمد بن الحسن الطوسي ( م 460 ه- ) ، تحقيق السيد حسن الموسوي الخراسان ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، طهران.

4 - الانتصار - السيّد المرتضى علي بن الحسين الموسوي ( م 436 ه- ) ، نشر المطبعة الحيدرية ، النجف ، 1391 ه.

5 - إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد - فخر المحققين محمد بن الحسن ابن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي (م 771 ه- ) ، نشر بنياد كوشانپور ، طهران ، الطبعة المحققة الثانية بالاُفست ، 1404 ه.

6 - البيان - الشيخ محمد جمال الدين بن مكي العاملي الشهيد الأوّل (م 786 ه) ، الطبعة الحجرية ، اُفست محمع الذخائر الإسلامية ، قم.

7 - تاج العروس في شرح القاموس - السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي ، الطبعة الاُولى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

ص: 931

8 - تحرير الأحكام - العلّامة الحلّي الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر (م 726 ه- ) ، الطبعة الحجرية ، اُفست مؤسسة آل البيت ، قم.

9 - تذكرة الفقهاء - العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (م 726 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1414 ه.

10 - تمهيد القواعد - زين الدين بن علي العاملي ، نشر مكتب الإعلام الإسلامي ، خراسان.

11 - تنقيح المقال - الشيخ عبداللّه المامقاني ، فرغ منه في عام 1350 ه. ق ، الطبعة الحجرية.

12 - تهذيب الأحكام - شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (م 460 ه- ) ، تحقيق وتعليق اسيد حسن الخراسان ، نشر دار الكتب الإسلامية ، طهران ، الطبعة الثالثة ، 1390 ه. ق.

13 - الجامع للشرائع - الشيخ يحيى بن سعيد الحلّي (م 690 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة سيد الشهداء ، قم ، الطبعة المحققة الاُولى ، 1405 ه.

14 - جامع المقاصد - المحقق الكركي علي بن الحسين بن محمد بن عبد العالي العاملي ( م 940 ه- ) ، الطبعة المحققة الاُولى ، مؤسسة آل البيت ، قم.

15 - جامع أحاديث الشيعة - بإشراف الآقا حسين الطباطبائي البروجردي ، المطبعة العلمية ، قم.

16 - الجُمل والعقود - محمد بن الحسن الطوسي (م 460 ه- ) ، طبعت ضمن مجموعة ( الرسائل العشر ) ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامية ، قم.

17 - جمهرة اللغة - أبي بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري (م 321 ه- ) ، في أربعة أجزاء ، طبعة كلية الثقافة الدينية بالاُفست على الطبعة القديمة.

ص: 932

18 - جواهر الفقه - عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي ( م 481 ه- ) ، تحقيق إبراهيم بهادري ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

19 - خلاصة الأقوال - ( رجال العلّامة الحلّي ) ، الحسن بن يوسف بن علي ابن المطهّر الحلّي ( م 726 ه) ، منشورات المطبعة الحيدرية ، النجف.

20 - الخلاف - شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( م 460 ه- ) ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ، الطبعة المحققة الاُولى ، 1407 ه. ق.

21 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية - الشيخ محمد بن مكي العاملي الشهيد الأوّل ( م 786 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي ، الطبعة المحققة الاُولى ، قم ، 1422 ه.

22 - ذكرى الشيعة - الشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي ( م 786 ه- ) ، الطبعة الحجرية ، اُفست مكتبة بصيرتي ، قم.

23 - رجال الطوسي - الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( م 460 ه- ) ، طبعة المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف ، 1380 ه.

24 - رجال النجاشي - أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي ( م 450 ه- ) ، تحقيق السيد موسى الشبيري الزنجاني ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، 1407 ه.

25 - رسائل المحقق الكركي - الشيخ علي بن الحسين الكركي ( م 940 ه- ) ، تحقيق الشيخ محمد الحسون ، الطبعة الاُولى ، 1409 ه- ، منشورات مكتبة آية اللّه النجفي المرعشي ، قم.

26 - الرسالة العزّية - المطبوعة ضمن ( الرسائل التسع ) للمحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ).

27 - الرسالة العزّية - الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان ( م 413 ه- ) ، لم نحصل عليها.

ص: 933

28 - روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - الشهيد الثاني ( زين الدين بن علي العاملي ) ( م 966 ه- ) ، الطبعة الحجرية ، اُفست آل البيت ، قم.

29 - الروضة البهية - الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي ( م 966 ه- ) ، الطبعة المحققة الاُولى ، جامعة النجف الدينية.

30 - السرائر - محمد بن أحمد بن إدريس الحلّي ( م 598 ه- ) ، الطبعة المحققة الأولى ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

31 - السنن الكبرى - الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ( م 458 ه- ) ، طبعة دار المعرفة ، بيروت.

32 - سنن النسائي - الشيخ أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

33 - سنن أبي داود.

34 - شرائع الإسلام - المحقق الحلّي جعفر بن الحسن بن يحيى ( م 676 ه- ) ، تحقيق عبد الحسين محمد علي ، مطبعة الآداب ، النجف.

35 - شرح الإرشاد - ( غاية المراد في شرح نكت الإرشاد ) ، محمد بن مكي العاملي ، تحقيق رضا مختاري ، نشر مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ، قم ، 1414 ه.

36 - الصحاح - إسماعيل بن محمد الجوهري ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار ، طبعة دار العلم للملايين ، بيروت.

37 - صحيح البخاري - أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي ، طبعة دار الجيل ، بيروت.

38 - علل الشرائع - الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية القمي ( م 381 ه- ) ، منشورات المكتبة الحيدرية ، النجف ، 1385 ه. ق.

ص: 934

39 - غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع - حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي ( م 585 ه- ) ، مطبوع ضمن مجموعة ( الجوامع الفقهية ) ، نشر مكتبة آية اللّه النجفي المرعشي ، قم ، 1404 ه.

40 - الفهرست - محمد بن الحسن الطوسي ( م 460 ه- ) ، تصحيح وتعليق السيد محمد صادق آل بحر العلوم ، نشر المكتبة المرتضوية ، نجف.

41 - القاموس المحيط - محمد بن يعقوب الفيروز آبادي ( 729 - 817 ه- ) ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة الاُولى 1412 ه.

42 - قواعد الأحكام - العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( م 706 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1413 ه.

43 - الكافي - محمد بن يعقوب الكليني ( م 328 ه- ) ، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري ، نشر دار الكتب الإسلامية ، طهران ، الطبعة الثالثة ، 1388 ه.

44 - الكافي في الفقه - أبو الصلاح الحلبي ( م 447 ه- ) ، تحقيق رضا الاُستادي ، نشر مكتبة أمير المؤمنين العامة ، اصفهان.

45 - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل - الإمام جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري.

46 - لسان العرب - ابن منظور محمد بن مكرّم بن علي بن أحمد الأنصاري ( 630 - 711 ه- ) ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

47 - اللمعة الدمشقية - الشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي ( م 786 ه- ) ، المطبوع مع الروضة البهية ، طبعة جامعة النجف الدينية.

48 - المبسوط - الشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن ( م 460 ه- ) ، طبعة المكتبة المرتضوية ، طهران.

ص: 935

49 - مجمع البحرين - فخر الدين الطريحي ( م 1085 ه- ) ، تحقيق السيد أحمد الحسيني ، الطبعة الاُولى ، المكتبة المرتضوية ، طهران.

50 - مجمع البيان - الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ( القرن السادس الهجري ) ، نشر مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، قم ، 1403.

51 - مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - المولى أحمد بن محمد الأردبيلي ( م 993 ه- ) ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة المحققة الاُولى ، 1402 ه- ق.

52 - المجموع - ( شرح المهذّب للشيرازي ) ، الإمام أبو زكريا محيي الدين ابن شرف النووي ، طبعة مكتبة الإرشاد ، جدّة.

53 - مختار الصحاح - محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ، نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر.

54 - المختصر النافع - جعفر بن الحسن الحلّي ( المحقّق الحلّي ) ( م 676 ه- ) ، طبعة دار الكتاب العربي بمصر.

55 - مختلف الشيعة - العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( م 726 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1412 ه. ق.

56 - المراسم العلوية في الأحكام النبوية - الشيخ أبو حمزة بن عبد العزيز الديلمي (سلّار ) (م 462 ه- ) ، تحقيق السيد محسن الحسيني الأميني ، نشر المجمع العالمي لأهل البيت ، 1414 ه. ق.

57 - المراسم في الفقه الإمامي - الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي ( سلّار ) ( م 462 ه- ) ، تحقيق الدكتور محمود البستاني ، منشورات الحرمين ، قم ، الطبعة الثانية ، 1404 ه.

ص: 936

58 - مسالك الأفهام - الشهيد الثاني ( زين الدين بن علي العاملي ) ، الطبعة الحجرية.

59 - المصباح المنير - أحمد بن محمد بن علي المغري الفيّومي ( م 770 ه- ) ، طبعة الاُفست ، منشورات دار الهجرة ، قم ، 1405 ه.

60 - معارج الاُصول - الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الهذلي ( المحقّق الحلّي ) ( م 676 ه- ) ، تحقيق محمد حسين الرضوي ، نشر مؤسسة آل البيت عليهم السّلام ، قم ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1403 ه. ق.

61 - المعتبر في شرح المختصر - نجم الدين جعفر بن الحسن ( المحقّق الحلّي ) ( م 676 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة سيد الشهداء ، قم ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1405 ه. ق. = 1364 ه. ش.

62 - مفتاح الكرامة ( في شرح قواعد العلّامة ) - السيّد محمد جواد الحسيني العاملي ( م 1226 ) ، طبعة مؤسسة آل البيت ، قم.

63 - المقنع - الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق ( م 381 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة الإمام الهادي عليه السّلام ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1415.

64 - المقنعة - محمد بن النعمان العكبري البغدادي ( المفيد ) ( م 413 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

65 - منتقي الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان - الشيخ جمال الدين الحسن بن زين الدين ( صاحب المعالم ) ( م 1011 ه- ) ، تحقيق علي أكبر الغفاري ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، 1403.

66 - منتهى المطلب - الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر ( العلّامة الحلّي ) ( 648 - 736 ه- ) ، تحقيق ونشر مجمع البحوث الإسلامية ، مشهد ، الطبعة المحققة الاُولى ، 1413 ه. ق.

ص: 937

67 - من لا يحضره الفقيه - الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق ( م 381 ه- ) ، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري ، نشر مكتبة الصدوق ، طهران ، 1392 ه. ق.

68 - المهذّب - القاضي عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي ( م 481 ه- ) ، تحقيق مؤسسة سيد الشهداء ، قم ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

69 - الناصريات - المطبوع ضمن ( الجوامع الفقهية ) ، السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي ( م 436 ه- ).

70 - النهاية - النهاية ونكتها ، شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي ، تعليق نجم الدين جعفر بن الحسن الهذلي ( المحقّق الحلّي ) ( م 676 ه- ) ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1412 ه.

71 - نهاية الإحكام - الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر العلّامة الحلّي ، تحقيق السيد مهدي الرجائي ، نشر مؤسسة إسماعيليان ، قم ، الطبعة المحقّقة الاُولى ، 1410 ه. ق.

72 - النهاية في غريب الحديث والأثر - المبارك بن محمد الجزري ( إبن الأثير ) (544 - 606 ه- ) ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي ، طبعة المكتبة العلمية ، بيروت.

73 - وسائل الشيعة - محمد بن الحسن الحرّ العاملي ( م 1104 ه- ) ،

1_ الطبعة المحقّقة الاُولى ، تحقيق الشيخ عبد الرحيم الربّاني الشيرازي ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، في 20 جزءاً.

2 - الطبعة المحقّقة الثانية ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث ، قم ، 1409 ه.

ص: 938

الفهرس التفصيلي

المطلب الثاني : في الطهارة من النجاسات... 435

الفصل الأول : في أصناف النجاسات... 437

مسألة [ 1 ] : بول الآدمي وغائطه... 439

مسألة [ 2 ] : بول وغايط ما لا يؤكل لحمه... 442

فرع [ 1 ] : غير المأكول بالأصالة وبالعارض... 445

فرع [ 2 ] : هل يفرّق بين الخفّاش وغيره؟... 445

فرع [ 3 ] : رجيع مالا نفس له... 445

مسألة [ 3 ] : بول وروث مأكول اللحم... 447

أبوال الدوابّ الثلاث وأرواثها... 447

ذرق الدجاج... 456

مسألة [ 4 ] : المنيّ من الآدمي... 458

مني ما لا نفس له... 460

مسألة [ 5 ] : المذي وحكمه... 461

تذنيب : رطوبة فرج المرأة ورطوبة الدبر... 464

مسألة [ 6 ] : الدم من كلّ حيوان ذي نفس... 465

أقسام الدم :... 468

1 - الدم المسفوح... 468

2 - دم السمك... 468

ص: 939

3 - دم غير السك ممّا لا نفسه له... 473

4 - الدم المتخلّف بعد الذبح في حيوان مأكول اللحم... 475

5 - الدم المتخلّف في غير المأكول... 475

6 - ما عدا الأقسام المذكورة من الدماء... 476

فرع [ 1 ] : الصديد والقيح... 479

فرع [ 2 ] : العلقة... 480

مسألة [ 7 ] : الميتة ممّا لا نفس له... 481

فرع [ 1 ] : أبعاض الميتة النجسة... 482

تذنيب : ما ينفصل من بدن الإنسان... 483

تذنيب آخر : فأرة المسك... 485

فرع [ 2 ] : ما لا تحلّه الحياة من الميتة... 486

تذنيب : اللبن من الميتة... 493

فرع [ 3 ] : الميتة من ذي النفس وإن كان مائياً... 496

فرع [ 4 ] : عدم نجاسة ما لا نفس له سائلة بالموت... 497

مسألة [ 8 ] : الخمر... 499

فرع [ 1 ] : الأنبذة المسكرة من حيث التنجيس... 507

فرع [ 2 ] : الفقّاع... 509

فرع [ 3 ] : العصير إذا غلا واشتدّ ولم يذهب ثلثاه... 512

مسألة [ 9 ] : الكلب والخنزير... 514

فرع [ 1 ] : عموم الحكم بالتنجيس لجميع أجزاء الكلب والخنزير... 517

فرع [ 2 ] : المتولّد من الكلب والخنزير... 520

فرع [ 3 ] : المتولّد من طاهر ونجس العين... 521

فرع [ 4 ] : كلب الماء... 522

مسألة [ 10 ] : الكافر... 523

فرع [ 1 ] : حكم ولد الكافرين... 539

ص: 940

فرع [ 2 ] : حكم ما تحلّه وما لا تحلّه الحياة من الكافر... 541

فرع [ 3 ] : المجبّرة والمجسّمة من فرق المسلمين... 542

فرع [ 4 ] : من لم يعتقد الحقّ من حيث النجاسة... 545

فرع [ 5 ] : ولد الزنا... 546

مسألة [ 11 ] : المسوخ... 547

مسألة [ 12 ] : ما يصيبه الثعلب أو الأرنب أو الفأرة أو الوزغة من الثوب والبدن 550

مسألة [ 13 ] : عرق الإبل الجلّالة... 554

مسألة [ 14 ] : عرق الجنب من الحرام... 556

فرع [ 1 ] : عدم التفرقة في الحكم بين أنواع الجنابة... 561

فرع [ 2 ] : عرق الجنابة من الاحتلام... 562

فرع [ 3 ] : عرق الحائض والنفساء والمستحاضة والجنب من حلال... 562

مسألة [ 15 ] : القئ... 563

مسألة [ 16 ] : لبن الصبيّة... 564

مسألة [ 17 ] : ما يتولّد في النجاسات... 565

الفصل الثاني : في أحكام النجاسات... 567

البحث الأول : ما يتحقّق معه التنجيس وما يجب إزالته وما يُعفى عنه... 569

مسألة [ 1 ] : ملاقي النجاسات مع الرطوبة وبدونها... 569

تذنيب : حدّ الرطوبة التي يتوقّف تأثير النجاسة عليها... 572

مسألة [ 2 ] : كلّ ما حكم بنجاسة شرعاً هل يؤثّر التنجيس في غيره مع الرطوبة؟ 572

1 - مسّ ميت الآدمي رطباً... 573

2 - ملاقي ملاقي جسد الميت... 574

مسألة [ 3 ] : هل يحكم بالتنجيس عند الظنّ بالملاقاة مع النجس؟... 576

فرع : طهارة ثوب الكافر ما لم تعلم مباشرته له برطوبة... 577

ص: 941

فرع آخر : هل يجب إخبار الغير بنجاسة ثوبه؟... 579

مسألة [ 4 ] : إذا علمت الملاقاة بالنجس واشتبه محلّها... 579

مسألة [ 5 ] : وجوب إزالة النجاسات كلها عن البدن للصلاة... 583

مسألة [ 6 ] : أقسام الدم النجس... 584

القسم الأول : ما يجب إزالة قليله وكثيره... 584

القسم الثاني : ما يعفى عن قليله وكثيره في الجملة... 588

فرع [ 1 ] : يستحبّ لصاحب القروح غسل ثوبه كل يوم مرّة... 593

فرع [ 2 ] : لو تعدّى الدم عن محلّ الضرورة فهل يرخّص فيه؟... 593

فرع [ 3 ] : العفو للجسم الملاقي لدم القروح برطوبة... 594

القسم الثالث : ما عدا الأقسام السابقة من ساير الدماء... 594

تذنيب : الدرهم الذي جعل مقداره مناطاً لحكم الدم... 605

فرع [ 1 ] : الرطب الطاهر لو نجس بالدم ثمّ أصاب الثوب... 609

فرع [ 2 ] : إذا أصاب الدم وجهي الثوب... 610

فرع [ 3 ] : حمل الدم اليسير ( في ثوب غير ملبوس ) في الصلاة... 610

فرع [ 4 ] : لو اشتبه الدم المعفوّ عنه بغيره... 611

مسألة [ 7 ] : العفو عن كل ما لا تتمّ الصلاة فيه وحده... 612

فرع [ 1 ] : لو حمل حيواناً طاهراً غير مأكول هل تبطل صلاته؟... 616

فرع [ 2 ] : لو حمل قارورة مسدودة وفيها بول؟... 616

فرع [ 3 ] : أفضلية إزالة النجاسة عمّا لا تتمّ الصلاة فيه... 619

مسألة [ 8 ] : العفو عن نجاسة ثوب المربّية... 620

فرع [ 1 ] : هل يلحق المربّي بالمربية؟... 622

فرع [ 2 ] : إذا كان الولد متعدّداً... 622

فرع [ 3 ] : إذا كان للمربية أكثر من ثوب وتحتاج إلى لبس الجميع... 623

فرع [ 4 ] : هل يُعفى عن نجاسة بدن المربية؟... 623

فرع [ 5 ] : هل يكفي الصبّ مرّة واحدة؟... 623

ص: 942

فرع [ 6 ] : استحباب غسل الثوب آخر النهار... 624

مسألة [ 9 ] : هل يُعفى عن نجاسة ثوب الخصي؟... 624

مسألة [ 10 ] : هل يُعفى عن ما يتعذّر إزالته؟... 626

تذنيب [ 1 ] : حكم البدن والثوب بالنظر إلى تعذّر الإزالة... 631

تذنيب [ 2 ] : إذا تعذّر غسل البول عن المخرج... 631

فرع : لو كان على ثوبه أو جسده منيّ... 632

المسألة الأولى : اعتبار طهارة ملبوس المصلّي ( فيما يقلّه )... 633

المسألة الثانية : لو شدّ طرفه بحبل والطرف الآخر في نجاسة وصلّى؟... 633

المسألة الثالثة : لو شرب نجساً هل يجب إخراجه؟... 634

تذنيب : الدم المحتقن تحت الجلد... 636

المسألة الرابعة : إذا جبر عظمه بعظم نجس... 637

البحث الثاني : ما تزول به النجاسات وكيفية الإزالة وشرائطها... 639

مسألة [ 1 ] : توقّف زوال حكم النجاسة على ذهاب عينها أو استحالتها... 639

مسألة [ 2 ] : ما يعتبر في زوال نجاسة البول عن الثوب... 640

مسألة [ 3 ] : ما يعتبر في إزالة نجاسة البول عن البدن... 644

مسألة [ 4 ] : هل يعتبر العصر في الثوب؟... 649

فرع : لو جفّ الثوب من غير عصر... 650

مسألة [ 5 ] : هل يعتبر الدلك في البدن؟... 651

مسألة [ 6 ] : الحكم بالمرتين من نجاسة البول هل يطّرد في غير الثوب والبدن؟... 653

مسألة [ 7 ] : هل يناط العصر بعدم انفصال الغسالة عن محل المغسول؟... 654

مسألة [ 8 ] : هل يعتبر الدقّ والتغميز؟... 656

مسألة [ 9 ] : هل يطهر ما لم يمكن إخراج الغسالة منه؟... 658

مسألة [ 10 ] : غير البول من النجاسات إذا أصابت غير الأواني... 661

مسألة [ 11 ] : كيفية تطهير الإناء إذا ولغ فيه كلب... 665

ص: 943

فرع [ 1 ] : حقيقة الولوغ... 668

فرع [ 2 ] : لو حصل اللعاب بغير الولوغ... 668

فرع [ 3 ] : هل يعتبر الغسل ثلاثاً من الولوغ؟... 670

فرع [ 4 ] : هل يكتفى بالتراب في التعفير؟... 670

تذنيب : هل يجزي الماء الممزوج بالتراب لو صار مضافاً؟... 673

فرع [ 5 ] : هل يشترط طهارة التراب؟... 675

فرع [ 6 ] : هل يخيّر بين التراب وما في معناه؟... 675

فرع [ 7 ] : إذا لم يوجد التراب ووجد غيره... 675

فرع [ 8 ] : هل يجزي الماء وجده عند عدم التراب؟... 677

فرع [ 9 ] : هل يجفف الإناء بعد غسله من الولوغ؟... 680

فرع [ 10 ] : لو خيف فساد المحل باستعمال التراب؟... 681

فرع [ 11 ] : إذا ولغ كلبان أو كلاب؟... 683

فرع [ 12 ] : إذا انضمّ الولوغ إلى نجاسة أُخرى... 684

فرع [ 13 ] : هل يعتبر العدد إذا أصاب ماء الولوغ الثوب أو الجسد... 686

فرع [ 14 ] : الماء الذي يغسل به الولوغ هل يجب غسله بالتراب؟... 687

فرع [ 15 ] : إذا كان الإناء مما يفتقر إلى العصر... 690

فرع [ 16 ] : إذا ولغ في إناء فيه طعام جامد... 690

فرع [ 17 ] : لو كان الإناء ممّا لا يُدلك بالتراب في العادة... 690

مسألة [ 12 ] : ولوغ الخنزير... 691

مسألة [ 13 ] : كم مرّة يغسل الإناء من الخمر؟... 693

فرع [ 1 ] : غير الخمر من المسكرات... 695

فرع [ 2 ] : هل يلحق الفقّاع بالخمر في وجوب السبع؟... 695

فرع [ 3 ] : هل تستحبّ السبع مرّات؟... 695

مسألة [ 14 ] : كم مرّة يغسل الإناء من موت الفأرة؟... 696

مسألة [ 15 ] : كم مرّة يغسل الإناء من باقي النجاسات؟... 698

ص: 944

مسألة [ 16 ] : هل يعتبر الغسل من نجاسة بول الرضيع؟... 705

تذنيب : مَن هو الرضيع؟... 708

مسألة [ 17 ] : هل يعتبر الغسل من كلب الصيد؟... 710

مسألة [ 18 ] : هل يعتبر رشّ الثوب في ملاقاة الكلب باليبوسة؟... 711

مسألة [ 19 ] : هل يعتبر رشّ الثوب في ملاقاة الخنزير باليبوسة؟... 714

مسألة [ 20 ] : هل يعتبر رشّ الثوب في ملاقاة الكافر باليبوسة؟... 716

مسألة [ 21 ] : هل يجب مسح البدن بالتراب إذا أصابه الكلب؟... 718

مسألة [ 22 ] : إذا حصل الشكّ في نجاسة الثوب... 719

مسألة [ 23 ] : استحباب النزح في خمسة مواضع... 721

مسألة [ 24 ] : هل يستحبّ مسح موضع قصّ الأظفار؟... 724

مسألة [ 25 ] : كيفية إزالة النجاسة بالماء القليل... 726

تذنيب : مراتب إيراد الماء... 731

مسألة [ 26 ] : إذا وقع المتنجّس في الماء الكثير هل يسقط اعتبار تعدّد الغسل؟... 733

مسألة [ 27 ] : هل يختصّ الماء الكثير بالصلاحية لتطهير ما لا ينفصل عنه الغسالة؟ 736

فرع [ 1 ] : العجين النجس إذا مزج بالماء الكثير... 740

فرع [ 2 ] : إذا انتفع السمسم في الماء النجس... 741

فرع [ 3 ] : الثوب المصبوغ بالمتنجّس المائع... 744

فرع [ 4 ] : الحديد المشرّب بالنجس... 744

مسألة [ 28 ] : الاستجمار... 745

مسألة [ 29 ] : كيفية إزالة النجاسة عن أسفل النعل... 752

تذنيب [ 1 ] : هل تشترط طهارة الأرض؟... 756

تذنيب [ 2 ] : هل يشترط الجفاف في الأرض؟... 757

تذنيب [ 3 ] : لو دلك النعل والقدم بالأجسام الصلبة؟... 757

ص: 945

تذنيب [ 4 ] : ما يجعل وقاية للرِجل حال المشي هل يكون حكمه حكم النعل؟ 757

مسألة [ 30 ] : إذا أصابت الأرض نجاسة برطوبة مؤثّرة؟... 759

فرع [ 1 ] : الجفاف الحاصل بغير الشمس هل يفيد الطهارة؟... 770

فرع [ 2 ] : هل تطهّر الشمس الثمرة على الشجرة؟... 772

فرع [ 3 ] : هل يطهر بالشمس ظاهر الأرض فقط؟... 773

مسألة [ 31 ] : مطهّرية النار لما يستحيل بها رماداً... 773

فرع [ 1 ] : هل الدخان المستحيل من الأعيان النجسة طاهر كالرماد؟... 776

فرع [ 2 ] : هل يلحق الفحم بالرماد؟... 777

فرع [ 3 ] : البخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمع منه نداوة على جسم صقيل وتقاطر ، هل يكون نجساً؟        777

مسألة [ 32 ] : الطين النجس هل يطهر بالنار؟... 778

مسألة [ 33 ] : الخبز من العجين بالماء النجس... 779

مسألة [ 34 ] : هل تطهر الأعيان النجسة باستحالتها؟... 782

فرع : لو كانت النجاسة رطبة ومازجت التراب ثمّ استحالت... 783

مسألة [ 35 ] : هل يطهر الخنزير إذا وقع في الملحة واستحال ملحاً؟... 784

مسألة [ 36 ] : من مصاديق باب الاستحالة... 787

مسألة [ 37 ] : هل يطهر العصير على تقدير نجاسته باستحالته خلّاً؟... 788

مسألة [ 38 ] : هل الدباغ مطهر لجلد الميتة؟... 789

تذنيب : ما يشترط في حصول الطهارة بالدباغ... 794

فرع : هل يجوز الانتفاع بجلود الميتة في اليابس؟... 796

مسألة [ 39 ] : مطهرية زوال عين النجاسة من البواطن... 796

مسألة [ 40 ] : هل يكفي زوال عين النجاسة في الحيوان غير الآدمي؟... 797

فرع : لو طارت الذبابة عن النجاسة إلى الثوب أو الماء... 797

مسألة [ 41 ] : الجسم الصقيل إذا أصابته نجاسة... 799

ص: 946

مسألة [ 42 ] : إزالة عين الدن من الثوب بالبصاق... 800

البحث الثالث : في بقايا مسائل متفرقة من أحكام النجاسات... 803

مسألة [ 1 ] : هل يفرق في النجاسات بين القليل منها والكثير؟... 803

مسألة [ 2 ] : إذا كان موضع النجاسة من الثوب معلوماً... 807

مسألة [ 3 ] : لو غسل نصف الثوب المنجس فهل تتعدّى النجاسة إليه؟... 809

مسألة [ 4 ] : أواني الخمر هل تقبل التطهير؟... 810

مسألة [ 5 ] : هل يستحبّ تثنية الغسل وتثليثه في النجاسات التي لم يثبت وجوب أحد الأمرين فيها؟   812

مسألة [ 6 ] : هل يستحبّ الحتّ والقرص في كلّ نجاسة يابسة؟... 813

مسألة [ 7 ] : غسل الشيء بالماء الكائن في الفم... 814

مسألة [ 8 ] : هل تستحب إزالة طين المطر بعد مضي ثلاثة أيام؟... 815

مسألة [ 9 ] : إذا لم يعلم بنجاسة الماء الواقع عليه... 816

مسألة [ 10 ] : متى يحكم بطهارة ما حكم بنجاسته؟... 817

الفصل الثالث : في أحكام الخلوة وآداب الحمّام... 819

النظر الأول : في أحكام الخلوة... 821

مسألة [ 1 ] : وجوب ستر العورة عن الناظر المحترم... 821

مسألة [ 2 ] : حرمة استقبال القبلة واستدبارها بالبول أو الغائط... 823

فرع [ 1 ] : إذا كان الموضع مبنيّاً على الاستقبال أو الاستدبار؟... 826

فرع [ 2 ] : كراهة استقبال بيت المقدس... 827

فرع [ 3 ] : هل تختصّ كراهة الاستدبار بالمدينة؟... 827

مسألة [ 3 ] : كراهة استقبال قرص الشمس والقمر بالفرج في البول والغائط... 827

مسألة [ 4 ] : كراهة الجلوس للحدث في المشارع والشوارع... 828

مسألة [ 5 ] : هل يكره الجلوس في أفنية الدور؟... 830

مسألة [ 6 ] : كراهة البول في الماء... 834

فرع : هل يكره قضاء الحاجة في الماء المعدّ في بيوت الخلاء؟... 836

ص: 947

مسألة [ 7 ] : ما يستحبّ عند التخلّي... 836

مسألة [ 8 ] : استحباب ارتياد الموضع المناسب... 836

مسألة [ 9 ] : استحباب تغطية الرأس عند دخول الخلاء... 837

مسألة [ 10 ] : استحباب تقديم الرجل اليسرى في الدخول... 838

مسألة [ 11 ] : استحباب التسمية عند الدخول... 839

مسألة [ 12 ] : استحباب تأخير كشف العورة حتى يدنو من الأرض... 840

مسألة [ 13 ] : كراهة استصحاب ما عليه اسم اللّه... 841

مسألة [ 14 ] : كراهة استصحاب دراهم بيض غير مصرورة... 842

مسألة [ 15 ] : كراهة الأكل والشرب... 842

مسألة [ 16 ] : كراهة الكلام على الخلاء إلّا بذكر اللّه... 843

فرع : استحباب الحمد عند العطاس... 846

مسألة [ 17 ] : فلسفة النظر إلى الحدث حال الاستنجاء... 847

مسألة [ 18 ] : استحباب الاستبراء... 849

تذنيب : هل يختصّ استحباب الاستبراء بالذكر أو يشمل الأُنثى؟... 853

فرع : البلل المتجدّد بعد الاستبراء وقبله؟... 853

مسألة [ 19 ] : وجوب الاستنجاء من البول والغايط... 855

مسألة [ 20 ] : لو خرج الحدث من أحد المخرجين فقط؟... 855

مسألة [ 21 ] : الواجب في الاستنجاء... 856

فرع [ 1 ] : حكم الأغلف... 857

فرع [ 2 ] : عدم وجوب غسل الباطن... 857

مسألة [ 22 ] : الابتداء في الاستنجاء من البول... 859

مسألة [ 23 ] : تعيّن الماء في الاستنجاء من البول... 859

فرع : إذا لم يجد الماء لغسل مخرج البول أو تعذّر استعماله لمانع... 860

مسألة [ 24 ] : التخيير بين الماء والاستجمار بالأحجار إذا لم يتعدّ المخرج... 862

مسألة [ 25 ] : تعيّن الماء إذا تعدّى المخرج... 863

ص: 948

مسألة [ 26 ] : الإنقاء حدّ الاستنجاء بالماء... 863

مسألة [ 27 ] : حدّ الاستنجاء بالاستجمار... 864

مسألة [ 28 ] : ما يعتبر في أداء الاستجمار... 865

فرع [ 1 ] : لو استجمر بالنجس... 867

فرع [ 2 ] : لو استجمر بحجر ثم غسله... 868

فرع [ 3 ] : لو استعمل ما مُنع استعماله... 868

فرع [ 4 ] : لو استجمر بما يتفتّت... 869

مسألة [ 29 ] : كيفية الاستجمار... 869

مسألة [ 30 ] : هل يشترط عدم قيام المتغوّط عن المحلّ عند الاستجمار؟... 872

مسألة [ 31 ] : هل يكون الاستجمار في خروج الدم؟... 872

مسألة [ 32 ] : ما يكره في الاستنجاء... 873

مسألة [ 33 ] : ما يستحبّ عند الاستنجاء... 876

مسألة [ 34 ] : استحباب الدعاء عند الخروج من الخلا... 877

النظر الثاني : في آداب الحمّام... 879

فصل [ 1 ] : كراهة الحمّام كل يوم... 880

فصل [ 2 ] : إرسال الحليلة إلى الحمّام... 881

فصل [ 3 ] : ما يجب الحليلة إلى الحمّام... 882

فصل [ 4 ] : النظر إلى عورة غير المسلم... 884

فصل [ 5 ] : هل يكره دخول الولد مع أبيه الحمّام؟... 885

فصل [ 6 ] : كراهة الحمّام مع خلوّ الجوف... 886

فصل [ 7 ] : في آداب الحمّام... 887

فصل [ 8 ] : قراءة القرآن والنكاح في الحمّام... 888

فصل [ 9 ] : الاضطجاع في الحمّام... 890

فصل [ 10 ] : استحباب التنوّر وغسل الرأس بالخطمي والسدر... 892

فصل [ 11 ] : الإطلاء والحنّاء في الحمّام... 894

ص: 949

فصل [ 12 ] : جعل الدقيق بالزيت بعد الاطلاء... 895

فصل [ 13 ] : متى تكره النورة؟... 896

فصل [ 14 ] : من آداب الاطلاء بالنورة... 897

فصل [ 15 ] : التعمم عند الخروج من الحمّام... 898

فصل [ 16 ] ما يستحبّ أن يقوله للذي يخرج من الحمّام... 899

النظر الثالث : في باقي أنواع الاستطابة... 901

استحباب السواك وأهميّته... 901

فصل : استحباب الطيب... 905

فصل : استحباب الكحل... 906

فصل : استحباب التمشّط وأوقاته... 907

فصل : استحباب الأخذ من العارض... 909

فصل : استحباب قصّ الشارب... 910

فصل : استحباب تقليم الأظفار... 913

فصل : هل يستحبّ دفن الشعر والظفر؟... 915

فصل : كراهة تطويل شعر الإبط... 916

فصل : هل يكره ترك العانة فوق الأربعين؟... 918

فصل : هل يستحبّ اتّخاذ شعر الرأس؟... 919

فصل : هل يستحبّ فوق الرأس؟... 922

فصل : في خضاب الشعر... 925

فصل : في الشيب وفلسفته... 928

تأريخ انتهاء التأليف والاستنساخ والتحقيق... 930

مصادر الكتاب ومراجع التحقيق... 931

ص: 950

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.