الخطاب في نهج البلاغة

هوية الکتاب

http://www.al - ilmiyah.com info@al - ilmiyah.com sales@al - ilmiyah.com baydoun@al - ilmiyah.com

Title: THE SPEECH IN "NAHJ AL - BALAGA " The structure, The Type and The levels An analytical study

Classification: Literary and linguistic studies

Author: Dr. Husayn al - Umari

Publisher: Dar Al - Kotob Al - Ilmiyah

Pages: 352

Size: 17 * 24

Year:2010

Printed in: Lebanon

Edition: 1st

الكتاب: الخطاب في نهج البلاغة

بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية

التصنيف: دراسات أدبية ولغوية

المؤلف: د. حسين العمري

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

عدد الصفحات: 352

قياس الصفحات: 24*17

سنة الطباعة: 2010

بلد الطباعة: لبنان

الطبعة: الأولى:

الآراء والاجتهادات الواردة في هذا الكتاب تعبّر عن رأي المؤلف وحده ولا تُلزم الناشر بأي حال من الأحوال

محرر رقمي: روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

الخطاب في نهج البلاغة

بُنَيَتة وَأَنمَاطه وَمُسْتَوَيَاتة دراسة تحليلية

الدّكتور حسَين العمَري

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ)

صدق الله العلي العظيم

يس (12)

ص: 3

ص: 4

الاهداء

يا أمير المؤمنين ...

أيّها العزيز ...

لقد مسّنا الضرّ، فتصدّق علينا، وأوفِ لنا الكيل، إنّك من المحسنين ...

* * * * *

إلى والديَّ في العالم الآخر ...

هذا زرعكما قد نضج ... أفلا تكونان من الحاصدين ...

* * * * * *

إلى عائلتي ...

لكم الله من صابرين على هذا الشّقيّ المتمرد الذي هو أنا ...

فعفواً عفواً، وعذراً عذراً ...

العمري

ص: 5

ص: 6

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمِ

المقدمة

الحمد لله الذي خلق فسوّى وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، والصلاة والسلام على خير عباده المصطفى (أرسله بالدين المشهور والعلم المأثور، والكتاب المسطور) (1) محمد وآله الأطهار وصحابته الأبرار، لا سيّما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

وبعد ...

كان نهج البلاغة وما يزال نبعاً ثرّاً ورافداً غزيراً من روافد العربية الشريفة، فهو (يتضمّن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وثواقب الكلم الدينية الدنياوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنه "عليه السلام" ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ) (2) الأمر الذي كان مدعاة لأن أدرس الخطاب في نهج البلاغة من حيث بنيته وأنماطه ومستوياته.

(2)

وقد تعرضتُ لدراسته على وفق خطة علمية تناولت الخطاب في تمهيد عرضت فيه لماهية الخطاب؛ وأنه يتألف من منطوق ومكتوب، وتعرضت لعلاقة الخطاب والصورة في نهج البلاغة.

وفي الفصل الأول تعرضت لدراسة بنية الخطاب السردية والشعرية

ص: 7


1- ابن أبي الحديد 142/1.
2- مقدمة الشريف الرضي لنهج البلاغة 67/1.

والنصية، فكانت البنية السردية تقوم على السرد الاستذكاري والتنبؤي والحكائي، والشعرية تقوم على المظهر الصوري والإيقاعي والجمالي، والنصية تقوم على التماسك والدلالة والبناء.

وفي الفصل الثاني عرضت لأنماط الخطاب في نهج البلاغة فكانت أن بدأت بالخطاب الاجتماعي، وانتهت بالخطاب المعرفي.

وفي الفصل الثالث، عرضت لدراسة مستويات الخطاب فكان المستوى الإبلاغي والإفهامي والحجاجي والتأمّلى.

ثم جاءت بعد ذلك الخاتمة التي عرضت فيها لأبرز النتائج التي توصل إليها البحث وكان من صعوبات العمل هو ما يمر به وطننا الحبيب من ظروف قاسية تكبل خطى الباحث، كما أن ذلك قد أثر سلباً على توفّر المصادر والمراجع

التي تخص البحث.

وبودّي أن أشير إلى قضية مهمة وهي نسبة النهج إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وهذا عمل قد كفانا مؤونته الدكتور عبد الكريم السعداوي في أطروحته للدكتوراه (الغريب في نهج البلاغة) التي نوقشت في قسم اللغة العربية / كلية الآداب / الجامعة المستنصرية 2004، وقد طبعت بكتاب عنوانه غريب نهج البلاغة مؤخراً لذا وجبت الإشارة إلى ذلك.

وبعد أن تم هذا العمل الذي لا أرجو فيه إلا رضا الله عز و جل، وشفاعة نبيه محمد صلى الله عليه وآله، فالحمد الله على ما أنعم، والشكر على ما سلّم، وأي شكر وحمد يليق بجناب وجهه الكريم وفضله العميم.

ولأستاذي وشيخي الحاج الدكتور عبد اللطيف حمودي الطائي الشكر والتقدير، وأسال الله تعالى أن يوفيه أجر العاملين المحسنين، لما بذله معي من جهد وتصويب وحماسة، وقد كان صبوراً على مشاكستي وتقصيري، فنعم الأب الرحيم والشيخ الجليل الفاضل والله أسأل دوام الصحة والعافية له.

ولكل أساتذتي من لحظة أن بدأت أمسك القلم وأخط سواداً على بياض، ولكل من مدّ يد العون لي بكتاب أو نصيحة أو كلمة لهم جميعاً أقول، قد لا

ص: 8

يوفيكم شكري لكم حقوقكم، ولكن أدعو لكم بشفاعة محمد المصطفى صلى الله عليه وآله.

اللهم تقبل مني هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم، واجعلني عندك من المذكورين، آمين رب العالمين.

وبعد فهذا عمل وجهد إن كنت قد وفقت فيه فهو رجائي وأمنيتي، وإن كنت قصرت فإن النقص من كمالات البشر

والحمد لله رب العالمين

د. حسين العمري

ص: 9

ص: 10

التمهيد

يمثل الخطاب (مجموعة من النصوص ذات العلاقات المشتركة) (1) أو هو (جملة من المنطوقات أو التشكلات الأدائية التي تنظم في سلسلة معينة لتنتج - على نحو تأريخي - دلالة ما، وتحقق أثراً معيناً) (2)، وهو بذلك إنما يؤشر إلى طبيعة الخلق فى اللغة، وليس هناك من فرق بين المنطوق والمكتوب في وصفه بالخطاب إذا تحققت فيه شروط يمكن إجمالها في (الاستدلال والاحتجاج وسرد الأدلة والبراهين والحوادث) (3)، زيادة على أشياء أخرى يراها كثير من الباحثين ضرورية للخطاب.

فالخطاب من وجهة نظر بول ريكور هو (الواقعة اللغوية) (4) التي تنطوي في تلافيف أبعادها العلائقية على بعد زمني معين زيادة على الحدث الذي تثبته هذه الواقعة، و(الإسنادية) (5) في الإبقاء بالمعنى الذي تحويه تلك المنطوقات أو النصوص، أي أن محصلة نهائية يمكن القول عنها إن الخطاب هو مجموعة المقولات - شفاهية أو كتابية - التي تنطوي على بعد زمني وأحداث، تكون قادرة على نقل المعنى.

إن الخطاب في نهج البلاغة يمثل أيديولوجيا تنتظم عبر ممارسات غايتها الإخضاع غير القسري الذي لا يمكن أن تمارسه الخطابات الدكتاتورية أو تلك التي تصادر الرأي الآخر أو تسعى إلى مصادرته، ولكنها تؤسس لعملية إقناع عقلية تنشأ أساساً على جذر من الصدق والممارسة العملية التي تتآلف المعتقد، وبذلك

ص: 11


1- النص والخطاب والإجراء 6.
2- النص القرآني من الجملة العالم 17.
3- الأدب والدلالة 16.
4- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى - 12.
5- ينظر: المصدر نفسه 13.

فهي تهيئ لرسوخ غير مهدد بالقلق أو القلقلة.

على أن السعي للإخضاع غير القسري من جهة أخرى، ربما يمثل حافزاً لتكوين خطاب مضاد يسعى في الوقت ذاته إلى إخضاع قسري، تتعدد أشكاله مبتدئاً من السبل اليسيرة المقبولة لإيجاد قبول مزيف يفيد من الأجواء التي ينشأ فيها الإخضاع غير القسري، حينما تكون غير نظيفة بشكل تام وبذلك يسهل نمو الخطاب المضاد الذي يجد في تنافسه مع نقيضه فرصة سانحة لتنشيط أثره في المجتمع، إذ يجد من الجماعات التي تتعصب له على ضوء المصالح الذاتية التي تصطدم بمصالح المجموع، عوناً له وبذلك يخلق تياراً مضاداً قائماً على (الاتجاهات السلبية التي تنفِّس عن المكبوت عندها من مشاعر الكراهية والعدوانية والإحباط) (1)، الأمر الذي يؤدي إلى تصادمية فكرية عميقة قد تحدث شرخاً في العلاقات ما بين أفراد المجتمع.

إن النصوص التي تنتظم في نهج البلاغة بما تكوِّنه من خطاب متعدد الأبعاد، وبما تمثله من منظومة معرفية تتخذ من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة متَّكاً لها، من جهة، وهي تمارس كذلك مسؤولية الكشف عما تكتنهه من إحاطة معرفية شاملة بالحياة البشرية من طرفيها من جهة أخرى، فهي تستجيب بشكل جلي لطموحات الإنسان في التربية والأخلاق والسياسة والاقتصاد والإدارة والفلسفة، وأبعاد الحياة كافة التي تسهم في التطور الحضاري وتنشد الرقي البشري؛ إذ تجد أن هناك تقسيمات للبشر سواء كان ذلك على مستوى الفكر والعلم والالتزام أو غيره، ولا يبعد عن ذلك مقولته الرائدة في الإشارة إلى أن (المرء مخبوء تحت لسانه) (2)، هذه الإشارة تنبئ عن رموز تتألف من خلالها أسس نظرية وتطبيقية تمثل حالة الخطاب التي ينبغي أن يكون عليها، فما يختبئ تحت لسان الفرد وفي تلافيف ذهنه يمثل أكثر من أساس نظري، وأن استخراج هذا (المخبوء) بمثابة 8.

ص: 12


1- سيكولوجية العلاقات بين الجماعات 89.
2- ابن أبي الحديد 282/18.

الأسس التطبيقية التطبيقية التي تقوم عليها حالة الخطاب لدى الفرد، وعليه، فقد حدّد الإمام في قوله آنفاً، عد عدم اختصاص ذلك بشخص دون آخر ذكراً كان أم أنثى، بدلالة كلمة (المرء) وهي تشير - كما أرى - إلى جنس الإنسان لا إلى ذكورية الجنس، هذا أولاً، وثانياً، إن الذهن لا يمكن أن يكون فارغاً مهما كان المستوى العلمي أو الثقافي أو الفكري للفرد، وثالثاً، إن آلة الخطاب التي تفصح عن هذا المكنون أو المخبوء هي اللسان، وهذا لا يعني أن اللسان ينفرد بكونه آلة خطاب وحده، بل هناك أكثر من آلة خطاب؛ إذ تمثل الإشارة والعلامة والحرف وغيرها، آلات خطاب تسعى إلى إيصال وتوصيل ما يبغيه المتكلم إلى المتلقي، وما المسرح الصامت الذي يعتمد لغة الجسد وسيلة خطاب له ببعيد عن ذلك.

وهكذا نرى أن الأسس الثلاثة التي يقوم عليها الخطاب تقابلها هناك ثلاثية تسويقية - إن جاز التعبير - في حالة الاتصال لدى المتلقي هي الحاسة - الفهم - التمثُّل ويمكن بيان ذلك في شكل توضيحي كالآتي:

الصورة

ويمكن تعريف ذلك على أساس أن الحاسة هي خط الاتصال الأول الفاعل لدى الإنسان وهي بدورها توصل إلى منطقة الفهم فيسعى إلى تفكيك ذلك الخطاب ومعرفة محتوياته ومن ثم بعد ذلك يتمثّله من ناحية الاستجابة أو الرفض أو الإهمال.

لقد عُنيَ نهج البلاغة كثيراً بقضية اللسان والكلام والكلمة وكلها - حسبما أرى - تشير إلى أهمية الخطاب في حياة الإنسان من حيث القيمة الثقافية والمعنوية والمادية وفي أبعادها المستقبلية وتأثير ذلك في صياغة حياة أفضل، فهو مرّة يعدّ الكلام سجين الفكر ما لم يخرج إلى الناس فإن خرج أصبح الإنسان سجين الكلام ويوصي الإمام بخزن اللسان وهو هنا الكلام - من حيث مجرى السياق - كما

ص: 13

يخزن الذهب والفضة لأهميته، ثم بعد ذلك يضرب مثلاً لذلك بأن (رب كلمة سلبت نعمة) (1) والنص المشار إليه يقول فيه:

(الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلَمت به صرت في وثاقه، فاخزُن لسانك كما تحزن ذَهَبَكَ وورِقك، فرب كلمةٍ سلبت نعمة) (2).

ومرة أخرى يرى أن القول يؤدي مهمة عبادية وأن الجوارح عليها فرائض لله - بوصفها مخلوقات - سوف تكون بمثابة الشاهد على أفعال الإنسان فيقول (لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم فإن الله سبحانه قد فرض على جوارحك كلها فرائض يحتجُّ بها يوم القيامة) (3)، وفي هذا المضمار يرى أن اللسان له أهميّته كونه الطريق الوسطى في إنكار المنكر كما في قوله (فمنهم المنكرُ للمنكَرِ بيده ولسانه وقلبه فذلك المستكمل الخصال الخير ...) (4) وعليه يمكن القول بأن (في الخطاب المنطوق "أو المكتوب" يكون الخيار الأخير للمجال المرجعي) (5)، فكلاهما لا بد من العودة فيهما إلى المرجعية الفكرية التي أنتجتهما، لأن الخطاب في (الفعل القولي) وفي (الفعل التطبيقي) يشير عمودياً وأفقياً معاً بمعنىّ أي إلى اتحاد المفهومين خاصة من وجهة النظر الدينية، إذا عرفنا أن أهمية اللسان والكلام في الإسلام أخذت بعداً تأسيسياً بُنِيَ على القراءة الواعية والفعل القرائي الواعي الذي نصت عليه أول آية نزلت من القرآن هي (اقرأ) (6).

وهذا يحيلنا إلى الأهمية القصوى التي أولاها الإمام الكلام والخطابَ؛ إذ نجد أن أغلب النصوص التي وردت في نهج البلاغة هي نصوص قولية، وهذا راجعٌ إلى شعور الإمام بأهمية المباشرة مع المتلقي إذ أن خلجات الوجه والإيماء .

ص: 14


1- أين أبي الحديد 265/19.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- المصدر نفسه 266/19.
4- المصدر نفسه 252/9.
5- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى - 68.
6- سورة العلق 1.

والصوت تعطي بعداً مضافاً للخطاب لا وجود له في الخطاب المكتوب؛ لأن (لحظة الخطاب هي لحظة الحوار فالحوار واقعة تربط بين واقعتين هما التكلم والسماع) (1) والواسطة بين هاتين الواقعتين هي اللغة وبها تقوم واقعة الحوار. كما أن اللسان هو ترجمان العقيدة والفكر، بل هو يرقى إلى مستوى التنبؤ والتعبير عن ذلك والإخبار بما يمكن أن نعدّه من المغيّبات مثل قوله (اتقوا ظنون المؤمنين فإن الله تعالى جعل الحق على السنتهم) (2)، وما دام ذلك كذلك فإن المسؤولية الأخلاقية تصبح كبيرة وتَتشِح بغلالة روحية تعطي اللسان مهمة كبرى في هذا الاتجاه.

إن الخطاب في نهج البلاغة يتمثل في شكلين الشفاهي والكتابي أو المنطوق والمدوّن، فالأول يدخل فيه كلام قاله الإمام في أشياء تخص الدولة و سياستها، مضافاً إليه ذلك الكلام الذي كان يقوله؛ إما جواباً على سؤال قد يتعلّق بالربط العقائدي بين القتال وبين شرعيته من وجهة النظر الإجبارية أو الاختيارية وهذا نجده في سؤال أحدهم عن مسيرهم إلى الشام أكان بقضاء من الله وقدر فكان جواب الإمام:

(ويحك! لعلّك ظننت قضاءً،لازماً، وقدراً حاتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعْصَ مغلوباً، ولم يُطَعْ مُكرِهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزّل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلَقَ السمواتِ والأرضَ وما بينهما باطلاً (ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (3)) (4).8.

ص: 15


1- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى - 44.
2- ابن أبي الحديد 177/19.
3- سورة ص (27).
4- ابن أبي الحديد 181/18.

لقد أشار الإمام في مخاطبته الرجل، إلى أكثر من مرتكز عقائدي اختلفت فيه المدارس الفقهية والكلامية الإسلامية، أول هذه المرتكزات هو القضاء والقدر وهل أن الإنسان مجبر أو مخيّر في أفعاله؛ إذ أن الإمام يلوم السائل على هذا المعتقد الخاطئ ويوضح أن لو كان هذا الاعتقاد صحيحاً لما كان هناك موجب للثواب والعقاب ولأصبح هذا الأمر باطلاً ووعده بالجنة ووعيده بالنار ساقطاً ولكن الله عز وجلّ - بين هذا الأمر للعباد في كثير من آياته، كقوله تعالى: (أأَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴿٨﴾ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴿٩﴾ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴿١٠﴾) (1)

وقوله تعالى ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا 3) (2)، فكانت أوامره تخييراً للعباد ونواهيه تحذيراً لهم؛ لأننا لا يمكن أن نجزم بأن (الإنسان مجبر بطبيعة ملكاته العقلية) (3) إذ أن هذا يعدَ مغالطة بسبب (عدم تحديد طبيعة عقل الإنسان التي هي الملكات العقلية عينها) (4).

والمرتكز الثاني هو أن الله عز وجل، لم يكلف الإنسان إلّا باليسير من العمل بدليل قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (5) ولم يفرض على الإنسان المبادلة بالمثل لأن الله عز وجل أعطى كثيراً بدليل قوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ (6) مقابل القليل الذي يعطيه الإنسان لله - على فرض المبادلة بالمثل – وقد أشار الإمام إلى هذا المفهوم في كثير من كلامه وبصور شتى مرّة في الحديث عن الفقر وعن المال أخرى وعن الشبهات في الأموال وغير ذلك.

كما أشار إلى المرتكز الثالث وهو الإيمان بالله ونقيضه فقال)ولم يُعصَ .

ص: 16


1- سورة البلد (8، 9، 10).
2- سورة الإنسان 3.
3- وحدة الوجود العقلية 214.
4- المصدر نفسه والصفحة
5- سورة البقرة (286).
6- سورة إبراهيم (34) - النحل (18).

مغلوباً، ولم يُطع مكرهاً ...) فهو يعني أن الذين يعصونه ليس لقوتهم التي تغلب قوة الباري عز وجل ولم تكن طاعة المطيعين إكراها، إنما الكل وفق الاختيار وليس الجبر في إيمانهم وطاعتهم وعصيانهم وكفرهم حتى أنه سُئِل مرة عن القدر فقال ("طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكوه" فسُئل ثانياً فقال "بحرٌ عميقٌ فلا تلجوه" ثم سُئل ثالثاً فقال "سرّ الله فلا تتكلّفوه") (1) وهكذا فهو يصف القدر بالطريق المظلم مرة والبحر العميق ثانية وفي الثالثة يفصح عن كنهه فيقول هو (سر الله) فكيف لمثل العقل البشري القاصر أو كما يوصف بِ (العقل الجزئي) (2) أن يدرك (العقل العام) (3) الذي هو في منتهى الكمال.

وفي المرتكز الرابع يشير إلى الرسالات السماوية والكتب والأنبياء وأن ذلك لم يكن عبثاً ولا لعباً إنما كان من أجل هدف وغاية سامية وهي عبادة الله الواحد الأحد، وهذا يعني الحفاظ على تلك الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها بإرسال الأنبياء والرسل؛ إذ يقول تبارك وتعالى (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ (4) وهذا المعنى متواتر كثير في كلامه.

والمرتكز الخامس هو مسألة الخلق الذي ابتدأه بالسموات والأرض وما حوتا من مخلوقات عجيبة تدل على عظمة الخالق جل وعلا، وما كانت عملية الخلق باطلة إنما لحكمة أرادها سبحانه ويختم جوابه للسائل بالآية القرآنية المذكورة. إن هذا التفريع في جواب الإمام هو لبيان حقيقة القضاء والقدر وكل ما يتعلق بذلك من أمور قد ينصرف إليها الذهن البشري القاصر عن إدراك كنه الخلق وكيفيته؛ إذ أن الإمام أشار إلى هذه الموضوعات في كثير من النصوص الواردة عنه .

ص: 17


1- ابن أبي الحديد 148/19.
2- وحدة الوجود العقلية 219.
3- المصدر نفسه والصفحة
4- سورة البقرة (213).

وهذا نابع من إدراكه أن المجتمع يحتاج من قياداته أن تبادر إلى شرح مقتضيات الدين والدنيا والخلق والعبادات وكل ما يتعلق بشؤون الحياة، وهو هنا يعنى بالجانب التقريري المباشر في هذا النص الذي يكاد يخلو من العناصر الفنية اللهم إلا السجع الذي وشح به بعض الفقرات (تخييراً، تحذيراً، عسيراً، يسيراً، كثيراً) وكذلك فهو يخلو من الإشارة العاطفية كونه يخاطب العقول خاصة وهو قد ابتدأ بكلمة (ويحك) التي تفيد الدعاء للسائل، وهذا المنهج يعد منهجاً تفسيرياً، إذ أنه بدأ بالاستفهام الإنكاري، فصاغ الحوار بأساليب إنشائية، حتى انتهى بتراتبية فقرات الخطاب التى بدأت من الفردية (المخاطبة) وانتهت بالإشارة إلى عملية الخلق برمَتها وبعدها جاء بشاهد قرآني يضفي على النص مصداقية الفعل ويقينية الإيمان بذلك.

أو نجد له تعليقاً على قول أحدهم حينما سمعه يقول (أستغفرُ الله) فيقول:

(ثكلتك أمّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنَّ الاستغفارَ درجةُ العليين وهو اسم واقعٌ على ستّة معان: أوّلها الندم على ما مضى والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول "استغفر الله") (1).

لقد بدأ بكلمةٍ كانت تقالُ للتوبيخ والتقريع ثم جاء باستفهام إنكاري وبعدها بدأ يشرح فكرة الاستغفار وماهيّته وكيفيّته وكأن كلام الإمام هو بيان وتفسير لقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33) (2) فهو يقرر شروطاً لعملية الاستغفار، وإن تعليق الإمام على القول .

ص: 18


1- ابن أبي الحديد 47/20.
2- سورة الأنفال (33).

قريب من الخاطرة التي هي (انطباعٌ سريعٌ وخاطفٌ عن ظاهرةٍ تستوقفهُ) (1)، إلّا أنه يوشِّحُها بأدوات فنيّة؛ إذ نجد في النص السابق استعارة في قوله ( ... حتى تلقى الله عز وجل أملس ...) وهي استعارة رائعة، فالسطح الأملس الذي لا يثبت عليه شيء، والمعنى واضح كما أننا نجد في قوله آنفاً أنه قد قابل بين (ألم الطاعة) و(حلاوة المعصية) صوتياً ودلالياً في تناسقٍ بلاغي محكم.

وفي نص آخر نجد الإمام يقول في توجيه الخطاب إلى الموتى وقد أشرف على القبور بظاهر الكوفة؛ إذ يبدؤه بنداء إلى هؤلاء على سبيل شخصنة الأموات فيقول: (يا أهلَ الديار الموحشة والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نُكِحت، وأما الأموال فقد قُسِّمَت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟

ثم التفت إلى أصحابه فقال: " أما والله لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى") (2).

يمكن لنا أن نستشفً من النص السالف أن الإمام أراد أن يكون مرآة عاكسة بين حالتين، أو أنه جعل من نفسه مراقباً لهذه الحركة التقاطعية بين الحياة والموت، إذ أن الرواية (3) تشير إلى أنه مرّ بالقبور بعد عودته من صفين، وهذا الموقف ذو دلالات رمزية عقائدية تربوية فدلالاته الرمزية تتمثل في طبيعة الموقف ذاته حيث الحرب وما يتخللها من قتل وترك للدنيا وتوجّه للآخرة يتمثل في هؤلاء الذين هم في القبور ودلالاتها العقائدية تتمثل في الإيمان بالموت ذاته بوصفه حقيقة واقعة لا بد منها يجسدها قوله (أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق).

وأما دلالاتها التربوية تتمثل في هذه الثلاثية (أما الدور فقد سكنت، وأما 3.

ص: 19


1- تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي 228.
2- ابن أبي الحديد 258/18.
3- البيان والتبيين 155/3.

الأزواج فقد نكحت وأما الأموال فقد قسّمت) إذ أنها توحي للمتلقي بضرورة الوقوف عند الحدود التي رسمها الخالق عز وجل وعدم التعدّي والتجاوز على حقوق الآخرين، لأن الإنسان لا بد له أن يترك هذه الأشياء وراءه ويرحل عن هذه الدنيا، وبعد ذلك يتحول الإمام إلى راوٍ للخطاب الآخر الآتي من وراء القبور وهو هنا يبرز لنا بصفة الراوي العليم، نستطيع أن نستشفّ ذلك من قوله (أما والله لو أذِن لهم في الكلام لأخبروكم أن "خير الزاد التقوى"). وهنا لا بد من الإشارة إلى هذه الصبغة الفنية التي توشح بها النص، حيث السجع والتفصيل في إيضاح المطالب في النص الذي ضغطه إلى أقصر ما يمكن على الرغم من أنّه تعرّض إلى موضوعات عدة، إلا أنه استطاع بقدرته الفذة على أعنّة الكلام أن يحول خطابه الانطباعي هذا إلى قطعة فنية تنسرب من بين أحرفها لوعة مكبوتة وأسى دفين ولاسيّما بعد أن استعمل النداء في أول النص والقسم في آخره، ليعبّر به أن ذلك هو الحق وليس غيره.

إن خطاباً متعدد القيم (1) هو الذي يسود نصوص نهج البلاغة؛ لأن مماحكة بلاغية في أي نص - طال أم قصر - من نصوص النهج تدلنا على ثراء صوري ذي معنی ممتد تتجاور فيه الأفكار وتتمازج وتتفاعل فتخرج بذهن المتلقي من دائرة التأثير المباشر إلى دائرة الاندماج المفاهيمي مع النص، ولا يمكن لنا أن نقول أن هذا الخطاب هو خطاب أحادي المعنى أو القيمة؛ لأنه مليء بالأصوات المتناغمة مع الأفكار التي يتضمنها النص، مما يجعلها تبرز بشكل نتوءات صارخة خلال النص.

ومن نصوص نهج البلاغة التي تنتزع المتلقي من دائرة التأثير المباشر إلى دائرة الاندماج المفاهيمي - كما أطلقنا عليها - ما يروى عنه بعد تلاوته (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴿١﴾ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴿٢﴾) (2) فقد بدأ كلامه بجمل تعجبية متلاحقة (يا له .

ص: 20


1- الشعرية 40.
2- سورة التكاثر (1 - 2).

مراماً ما أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه!) (1) ثم بعد ذلك يعبر بتقريرية عالية عن هؤلاء وعلاقتهم بأسلافهم الموتى وأن التفاخر بالأموات لا غناء منه، وبعدها ينتقل إلى قضية مهمة تتعلق بمصير هذه الأجساد من إذابة وتحول إلى شكل آخر من أشكال الحياة وإنبات النبات فيقول (لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة وضربوا منهم في غمرة جهالة، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية لقالت: ذهبوا في الأرض ضلالاً، وذهبتم في أعقابهم جهالاً، تطأون في هامهم وتستنبتون في أجسادهم، وترتعون فيما لفظوا، وتسكنون فيما خربوا ... (2).

فبعد أن يقرر حقيقة الأحياء من أنهم لم ينظروا إليهم بوصفهم عظة وعبرة لمن يأتي بعدهم يعرض فرضية يجد لها مصداقاً في تحولات الأجساد بين ذرات التراب، وفي حوارية الفرضية التي تؤسس لمفاهيم علمية دقيقة استطاع العلم الحديث كشفها، يعرض الجواب، (لقالت: ذهبوا في الأرض ضلالاً)، ألا يمكن لنا أن نستشفّ من بين هذه الكلمات، ماذا يجري على الجسد حين يدفن تحت الأرض من تحلل وتفسّخ وامتصاص وتحول إلى حياة جديدة قد نجدها في إنسان جديد أو حيوان أو نبات هذه الدورة الحياتية التي لا تنتهي يوضحها قوله في الخطبة نفسها إذ يقول (فكم أكلت الأرض من عزيز جسد وأنيق لون، كان في الدنيا غذيّ ترف، وربيب شرف يتعلل بالسرور في ساعة حزنه، ويفزع إلى السلوة إنْ مصيبة نزلت به ...) (3).

وتتوالى الصور الاستعارية والمجازية والتشبيهات التي ترسم صورة مأساوية باكية في مقصدية واضحة (تهدف إلى غايات محددة سلفاً يتقصدها) (4) .

ص: 21


1- ابن أبي الحديد 111/11.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- ابن أبي الحديد 116/11.
4- استقبال النص عند العرب 113.

الإمام في بناء كلامي يحمل دلالات يجهلها أو بعضها المتلقي؛ إذ أن (هيأة الكلام تحدد كل النظم السميائية) (1) كما يرى إميل بنفست.

إن ما تشير إليه النصوص التي تنحو هذا المنحى من وعظ وإرشاد وتذكير بالمصير الذي سيؤول إليه الإنسان عاجلاً أم آجلاً، يمثل توظيفاً صحيحاً وحقيقياً للتأريخ بوصفه وعاءً للتجارب وحافظاً لها تفيد منها الأجيال على قدر ما نستطيع فهمه واستيعابه، ومن خلال التوظيف الوعظي والإرشادي للتأريخ (2)، في الخطاب يتم تجسيم الحاضر والمستقبل؛ إذ أن (التجربة بما هي تجربة، وكما عيشت، أمر شخصي خاص، لكن مغزاها ومعناها يصبحان عامّين وعلى هذا النحو يصبح الاتصال انتصاراً على عدم إمكان نقل التجربة المعيشة) (3).

إن محاولة وصل ما انقطع بين التأريخ وبين الجمهور بصلات فكرية ثقافية تعتمد اللغة خطاباً (4)؛ لأن الخطاب (الفكرة والأداة ... المضمون والشكل) (5) من حيث تركيبه في جمل متتابعة بصورة كلية، يمثل جهداً فردياً للمرسل باتجاه المتلقي، من أجل صيرورة جديدة تحمل في طياتها تباشير المستقبل.

وفي نهج البلاغة كان الوعي الحقيقي والعمق الفكري هو الذي يبدو مائلاً في حركة النص التحتية؛ إذ نجد هناك أن (النص يولد متكاملاً في تأديته الوظيفية الخاصة به "في الوقت الذي يبرهن فيه" على جدارات أسلوبية) (6)، الأمر الذي جعل الإمام الشيخ محمد عبده في شرحه له يقول عنه في مقدمته (فتارة كنت أجدني في عالم تغمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية وتدنو من القلوب الصافية توحي إليها رشادها وتقوّم منها .

ص: 22


1- في أصول الخطاب النقدي الجديد 33.
2- ينظر: دراسات في نهج البلاغة 399.
3- نظرية التأويل 44.
4- ينظر: المصدر نفسه 23.
5- علي بن أبي طالب - سلطة الحق - 286.
6- علي بن أبي طالب - سلطة الحق - 286.

مرادها) (1) ويستمر الشيخ محمد عبده في كلامه (وطوراً كانت تتكشّف لي الجمل عن وجوهٍ باسرة، وأنياب كاشرة، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضَّت للاختلاب فخلبت القلوب عن هواها وأخذت الخواطر دون مرماها وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فضل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى) (2).

إن هذا الوصف لنصوص نهج البلاغة ينبئ عن المستوى التأثيري الذي اضطلعت به في عملية توصيلية مؤثرة ما زالت تتناغم مع فكر المتلقي حتى اللحظة وهذا متأتٍّ من أن صاحبه في المستوى الإبداعي ذاته في خطابه - الشفاهي والكتابي - لا فرق بينهما، وفي سلطته النفسية على ذاته التي تتمثل كل ما تفوه به في سلوكيات وممارسات كانت تمثل الرؤية التي ينطلق منها إلى التعامل مع الآخر في شفافية مرهفة، فَ (النص ينقل أفكاره بصدق تام) (3)، وهو في النص السابق، رغم أن الآيات كان الخطاب فيها مباشراً للناس، إلا أن خطاب الإمام كان فيها غير مباشر، خطاباً عن الغائب، أو مجموعة الغائبين، إلا في فقرات قليلة، بينما نجد في نص آخر حينما تلا قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ 3) (4)، إِنَّ خطابه کان موجهاً إلى الإنسان نفسه، وفي كلتا الحالتين يجري الخطاب في جمل قصيرة يغلب عليها السجع، والاستعارات والتشبيهات تأخذ كل جملة بيد أختها لاستتمام المعنى الذي أراد، زيادة على أن هذه الجمل القصيرة تتوافر على إيقاع خطابي خاص يتمثل فيه الفخامة والسلاسة متناغمة مع حركة المعنى داخل هذه التراكيب فمن الاستعارات قوله (فأكلت من لحومهم، وشربت من دمائهم ...) في إشارة إلى الأرض و غيرها، فضلاً عن الحوار الذي يتخلل بعض فقرات كلامه كقوله على لسان الموتى (فقالوا: كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجسام .

ص: 23


1- المقدمة (ب).
2- المصدر نفسه (ج).
3- علي بن أبي طالب - سلطة الحق - 285.
4- سورة الانفطار (6).

النواعم ...) (1).

ومن أنواع الخطاب الشفاهي، الخطاب التصنيفي، الذي يعد ابتكاراً أدبياً سبق به غيره وهو أن يعمد إلى مفردة أو فكرة أو فقرة فيفرّع عليها أو يصنّف منها أو أنه يقسم الأفكار كلاً حسب ما يتّبع ومن ذلك جوابه عن سؤال أحدهم حين سأله عن أحاديث البدع عند الناس فقال:

(إن) في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهما ...) (2) ثم بعد ذلك يصنف رواة الحديث إلى أربعة أنواع، ويبدأ بسرد التفاصيل في تعريف لكل نوع من هؤلاء الرواة وطبيعته وعلاقته بالنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وطريقة سماعه للحديث، فمنهم المنافق الكاذب، ومنهم المتوهّم في رواية الحديث ومنهم من حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، ورابعهم وهو من تصح عنه رواية الحديث؛ لأنه ليس منافقاً ولا كاذباً ولا متوهماً ولا غافلاً بل سمع كل شيء وحفظ كل شيء فهذا يمكن الأخذ عنه بكل ثقة وبعدها يصنف كلام رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم إلى قسمين خاص وعام كما يشير إلى أن الصحابة ليس كلهم كانوا يسألون النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ويستفهمونه بل كانوا ينتظرون مجي الأعرابي والطارئ كي يسمعوا في الوقت الذي يقول عن نفسه إنه لا يمر به شيء إلا سأل النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم عنه وحفظه ولعل الإمام في عمله هذا أول من وضع أساس علم الرواية (رواية الحديث النبوي الشريف) وعلم الجرح والتعديل.

إن إشارته السابقة إلى الصحابة وكيف كانوا يتلقون الحديث، تحمل معنيين يمكن تشخيصهما والإفادة من كشفهما، الأول أن هؤلاء الصحابة الذين لم يكونوا يسألون النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم عن إشكاليات الدين والعقيدة ومعنى أحاديثه، إنما كان فعلهم نتيجة عدم إيمانهم بالدين الجديد أو على الأقل أن إيمانهم كان ظاهرياً، أي .

ص: 24


1- ابن أبي الحديد 115/11.
2- المصدر نفسه 35/11.

أنهم اتخذوا منه وسيلة لقناعتهم بأنه سيسود الجزيرة وبما أنهم يعدون من علية القوم ومن التجار والوجهاء، وأن عدم دخولهم فيه منذ البدء سيحرمهم من الاستيلاء على بعض المناصب، خاصة أن هذا المسلك يتكرر في كل زمان من قبل ذوي المصالح الذاتية والأغراض والأهواء، وهذا سينتهي بهم خارج الحلبة، أي أنهم لن يكونوا في الصف الأول من القادة، بل إن هذا الأمر لن يجعلهم في موضع تقرير مصير الجماعة.

وأما المعنى الثاني أن هؤلاء لم يكونوا يمتلكون الوعي الكافي الذي

يؤهّلهم للسؤال عما يقوله النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم؛ لأنهم أساساً لا يعرفون كيف يسألون وعن ماذا يسألون وهذا بطبيعة الحال، يشير إلى ضحالة الوعي الجمعي الذي يهيمن على المجتمع وعدم وجود مستوى فهم يتناسب والتحول التأريخي الذي كان سببه ظهور الإسلام بوصفه تحولاً حضارياً في حياة المجتمع آنذاك.

وفي الوقت ذاته يشير الإمام إلى أنه يمثل استثناءً من هذه القاعدة التي ذكرها، فهو يتحدث عنهم بصفة الغائب، وتحدث عن نفسه بمفرده، فهو لم يترك شيئاً لم يسأل عنه، بل ذهب إلى أنه يحفظ كل ذلك، وهذا دعاه إلى أن يحتج على بعض الصحابة حينما شرطوا أن يشركهم في المشورة (1) فقال:

(واللهِ ما كان لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استنَّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فاقتديته، فلم أحتج إلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما) (2).

فهو يبين في هذا النص أنه لا يحتاج إلى مشورة أحد أو رأي أحد، فهو متبع للأحكام التي ذكرت في القرآن وهو مقتدٍ بالنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم في سنّته، مما 1

ص: 25


1- هما (طلحة والزبير).
2- ابن أبي الحديد 9/11

يعني في محصلة الكلام أنه كان عارفاً وحافظاً لكل مسألة وحكم وقضاء، وهذا مستوى حجاجي عالٍ يحتاج قراءة دقيقة من المجتمع ذاته، إذ يشير بذلك إلى كونه جامعاً لكل شروط الحاكم دون سواه، كما أنه في مكان آخر يشير إلى حقيقة وجوده بين الناس فيقول (إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضيء به من ولجها فاسمعوا أيها الناس وعوا وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا) (1) وهذا بيان لحقيقته، فقد أشار إلى ظلامية الجهل الذي يهيمن على الناس وأنه السراج الذي يحمل العلم فيضيء لمن أراد أن يستضيء به، ثم تحوّل في خطابه إلى الناس بأن يسمعوا ويعوا، وهذا السمع بآذان القلوب وهي استعارة، فالقلوب ليس لها آذان، إنما إشارة إلى استحضار القلب لكي يفهموا ما يريد منهم الإمام في كلامه، وهو كقوله في مكان آخر (أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ، وامتاحوا من صفو عين قد رُوِّقَتْ من الكدر) (2)، وهذا بالنتيجة مستوى حجاجي عالي المعنى؛ إذ أن ذلك يشير إلى كونه جامعاً لشروط العالم الحاكم دون سواه، مما يعني عدم تولية غير العالم لأن ذلك سيدفع بالناس في مهاوي الزلل لعدم معرفته بتفاصيل الأحكام ومتطلباتها، وهو قد أشار إلى مواصفات الحاكم مخاطباً المجتمع أو الجماعة الحاضرة بقوله (وقد علمتم ...) وهذه دلالة على تواضع المجتمع آنذاك على صفات الحاكم المطلوبة، وهي في الوقت ذاته تمثل إدانة لهذا المجتمع في حالة تولية من لا تتوافر فيه هذه الشروط أو المواصفات، وهو كذلك يعد تحريضاً لهذا المجتمع أن لا يولّي من لا تتوافر فيه هذه الشروط التي نص عليها بعد أن أشار إلى معرفة الناس بها فيقول ( ... وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء، والمغانم، والأحكام، وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب 7.

ص: 26


1- ابن أبي الحديد 72/13.
2- المصدر نفسه 131/7.

بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة) (1).

فهو يشترط في الإمام ألّا يكون:

1 - بخيلاً - لئلا يتحول إلى سارق لأموال الناس بسبب مرض (النهمة).

2 - جاهلاً - لئلا يضل الناس بجهله وكيف له أن يهدي وهو جاهل.

3 - جافياً - بحيث ينفر منه الناس بل يكون ليناً رحب الصدر.

4 - حائفاً - ظالماً لأناس دون آخرين بسبب علاقة معينة.

5 - مرتشياً - وهذا يعني أن من يملك المال لا تقضى له حاجة في مثل هكذا دولة ولا تقام الحدود.

6 - معطلاً للسنة - وهذا يعني أنه يحكم بهواه ولا يطبق الشريعة السمحاء وعندها وعندها تضيع الأمة وتهلك.

وزيادة على ما يراه في نفسه أنه جامع لشروط الحاكم العادل أو الإمام الواجب توليته الخلافة فهو يوجه إدانة صريحة إلى المجتمع في قوله لهم لما عزموا على بيعة عثمان بن عفان (لقد علمتم أني أحق بها من غيري ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه) (2).

وكما خاطب المجتمع أو الجماعة الحاضرة بشكل عام، خاطب هؤلاء بأنهم كانوا يعلمون تحقيقاً بأنه هو أحق الناس بالخلافة، إلا أنهم عدلوا بها إلى غيره، وأحسبه يوجه كلامه إلى جماعة الشورى خاصة، فهم في تلك البرهة الزمنية من عمر الخلافة الإسلامية سوف يؤسسون لبناء منحرف - إن أساؤوا الاختيار - زيادة على ذلك فإنه يشير إلى قضية أخرى تتلخص في قوله (ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة). .

ص: 27


1- المصدر نفسه 201/8.
2- ابن أبي الحديد 133/6.

واتضحت معالم هذا الأمر بعد توليه الخلافة إذ كانت سنوات خلافته الأربع حبلى بالفتن والحروب على خلاف من سبقه فقد كانت أحوال الحكم على أحسن ما يرام وإن دلّ ذلك على شيء إنما يدل على أن المجتمع العربي في الجزيرة لم يفهم الإسلام على أنه تحول حضاري بل فهموه على أنه تحول سلطوي لجماعة دون أخرى مما يستدعي التسابق إلى السلطة على أنها غنيمة، وليست خلافة إلهية في الأرض بما يشيع العدل والأمان فيها ورفع الأذى والظلم عن الناس، وإن نظرة سريعة إلى تأريخ الممالك والدول الإسلامية بعد الخلافة الراشدة تدلنا على مقدار الإسفاف الذي وصلت إليه قيمة الخلافة.

ففي قراءة تحليلية للخطاب نجد أن الإمام قد توافرت فيه كل شروط الحاكم العادل؛ لأنه كان زاهداً عالماً غير محاب للناس عاملاً بكتاب الله وسنة نبيه، وعليه فإن النص المذكور آنفاً يشير إلى أن الإمام هو الأصلح في تولي الخلافة وإقامة العدل والإنصاف ورفع الظلم عن الناس إن الخطاب العلوي ينص على أن هناك نوعين من الأئمة أو الخلفاء، كما في قول الإمام (لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع) (1)، وهذا يعني أن هذا النوع من الخلفاء سيكون حاكماً إلهياً وسيقيم الخلافة الإلهية في الأرض، وأن النوع الآخر الذي يصانع ويضارع ويتبع المطامع فلن يكون حاكماً على وفق المعايير الإلهية وهذا النوع هو الذي قصده في قوله (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ...) (2)، من ذلك يمكن أن نستشف معنىٌ عميقاً في الخطاب وهو أن الإمام الذي لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع سيكون مسدداً من السماء لأنها هي التي جعلته إماماً؛ لأن الإمام حين ذكر النوع الآخر من الأئمة قال عنه (من نصب نفسه ...) وهذا يعني أن النوع الأول نصبه غيره للإمامة وهذا الذي نصبه عارف بمصالح العباد ولن يكون سوى الله عز 8.

ص: 28


1- ابن أبي الحديد 219/18.
2- المصدر نفسه 175/18.

وجل؛ لأنه سيقيم أمر الله في الأرض.

كما أننا يمكن أن نستشف شيئاً آخر من هذين النصين هو أن من نصب نفسه للناس إماماً لن يكون مؤهلاً لذلك؛ لأنه إذا بدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره هذا يعني أن إماماً كهذا لا يصح أن يتولى شؤون الناس؛ لأنه فاقد لأهم شروط الإمامة وهي العلم، وبذلك تصبح عملية توليه الإمامة باطلة من جهتين، الأولى أنه نصب نفسه هو من غير تكليف من غيره، والثانية أنه غير عالم بما هو عليه.

إن قول الإمام (من نصب نفسه للناس إماماً ...) يمكن القول عنه بأنه نهي لمن يريد أن ينصب نفسه إماماً للناس؛ لأن من كان يحتاج إلى التعليم لا يصح أن يكون إماماً؛ لأن الإمام لا يمكن أن يكون جاهلاً ولأن (شر الناس إمام جائر ضلَّ به وضُلَّ به) (1) لجهله وعدم معرفته لحدود الله وتطبيقه للشريعة و(إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ...) (2)؛ لأن الأعلم بأمر الله لن يحتاج إلى سواه من البشر، وبالنتيجة لن يضل لأنه مسدد من الله عز وجل. ويمكن الإشارة إلى أن هناك معنىً ضمنياً يشير إليه هذا النص والنص الذي سبقه، وهو أن من يتصدى للحكم بنفسه دون أمر من الله فهو باغٍ على الأمة وغير معترف بشرعة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهو منتهك لحرمة الدين ومصالح الناس؛ لأنه يبتغي المصلحة لنفسه أولاً، ولأن الله سبحانه أعلم بالناس وهو الذي يعلم من يصلح ممن لا يصلح، ونتيجة لذلك فإن قوله (أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه "أي الإمامة أو الخلافة") دال على أنه قد قرن القوة بالعلم وهي من متطلبات القيادة كما قال الله تعالى ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (3) مما يعني أن العلم والقوة هما هبة من الله تبارك وتعالى، وهذا يشير إلى أن الولاية أو الخلافة لا يمكن أن تكون من حق أي شخص، إنما هي من نصيب أشخاص خولهم الله وجعلهم أولي قوة وعلم قادرين .

ص: 29


1- المصدر نفسه 200/9.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- سورة البقرة (247).

على تلبية مصالح الناس وخدمتهم والسهر على مصالحهم ورعايتهم على وفق ما يريد الله سبحانه كما يشير إلى أن الخلافة أو الإمامة ليست قطيعة لأحد يهبها لمن يشاء أو هو حر التصرف في ذلك، إنما هي أمانة ومسؤولية كبرى إذ يقول في كتاب إلى الأشعث بن قيس عامله على أذربيجان:

(وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة ...) (1) وبناء على ما تقدم يمكن فهم خطابه للناس حينما قال (فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بیده لا تسألوني عن شيءٍ بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور، وحوازب الخطوب، لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين) (2)، على أنه مستوى عالٍ من العلم وينسجم مع منطوق الآية المتقدمة (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)، زيادة على قوة الدليل والحجة التي تنبثق من بين أثناء النص.

وفي محاولة فهم محتوى النص السابق لا يحتاج الأمر إلى إعمال فكر وتدبر كبير، إذ أن موقفه هذا يدل على أنه أعلمهم بأمر الله وهو أقواهم عليه بدليل قوله في الخطبة نفسها ( ... أيها الناس، فإني فقأتُ عين الفتنة، ولم يكن المجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كلبها) (3) وهو بذلك يشير إلى أنه القوي الأمين العالم المتبحر الزاهد العابد ولا يمكن أن يوزن بغيره، من الصحابة أو غير الصحابة، فلم يجرؤ أحد على أن يقف هذا الموقف بل كانوا كلهم عيالاً عليه وعلى علمه (4)، فهو لا يحتاج إلى تعليم نفسه وتأديبها لأنه شخصية توافرت على كمالات جسدية وعلمية وألطاف الهية لا يحتاج معها إلى البشر .

ص: 30


1- ابن أبي الحديد 29/14
2- المصدر نفسه 35/9
3- المصدر نفسه والصفحة.
4- ابن أبي الحديد 42/1 وما بعدها.

العاديين، كما أن ذلك يلغي فكرة الدكتور عبد القادر فيدوح الذي يروي في عصمة الإمام وتنصيبه فكرة باطنية تتبناها بعض الفرق لغلوها في معتقداتها، بل هو توجه كان موجوداً منذ العصر الإسلامي الأول وهي ليست فكرة تنبئ عن طابع ثيوقراطي فج (1) قائم على منهج تأويلي فعال؛ لأن ذلك لو صحّ، فإن الدول أو الحكومات التي أقامها بعض الأنبياء تندرج تحت هذا العنوان؛ إذ يصل الأمر إلى الرد على كثير من الأمور العقائدية فيصبح التشكيك وارداً فيها وبذلك تنتهك حرمتها وقدسيّتها، لاسيّما ونحن نجد في تراثنا العربي والإسلامي كثيراً من الشخصيات الصوفية التي تتحدث عن مراحل الكشف التي وصلوا إليها ومعاينتهم للذات المقدسة على وفق طرق يصفونها حتى وصل الأمر بابن عربي الصوفي الكبير أن يصف نفسه بأنه خاتم الولاية المحمدية وذهب إلى أكثر من ذلك إذ يرى نفسه في الرؤيا أنه لبنة من ذهب مرة ومن فضة مرة أخرى في بناء الكعبة ويؤول ذلك إلى أن لبنة الذهب تمثل منزلة الولي الذي يأخذ عن الباري عز وجل مباشرة ولبنة الفضة تمثل تابعيته لخاتم الأنبياء، ويضيف إلى ذلك في مفهوم تأويلي باطني بأن أفق الولاية أوسع من أفق النبوة لأن (الولاية لها مستند في الأسماء الإلهية هو الولي، وليس ثمة اسم إلهي تستند إليه النبوة) (2).

إن هذا المفهوم الذي يمثل اعتقاداً راسخاً لدى بعض الناس، يضارع في مرتكزاته المفهوم الذي ينطلق منه الإمام عليّ علیه السلام في توجيه الناس إلى شخصه وما يملكه من ملکات في شخصيته وهو بطبيعة الحال أولى بذلك من سواه لقربه النسبي والسببي من النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ولكثرة ما روي عن علومه وانطوائه على علم غزير أشار إليه بقوله (بل اندمجتُ على مكنون علمٍ لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة) (3) وقوله في مكان آخر ( ... إن الذي أُنَبِّئكم به عن النبي .

ص: 31


1- نظرية التأويل في الفلسفة الإسلامية 69.
2- هكذا تكلم ابن عربي 65.
3- ابن أبي الحديد 204/1.

الأمي صلى الله عليه وآله والله ما كذب المبلغ، ولا جهل السامع ...) (1) أي أن كل ما يخبر به من أحداث وما لم يظهره من العلم، إنما هو من النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم علمه الله إياه فعلّمه للإمام وهو ما أشار إليه بقوله ( ... وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه صلى الله عليه وآله فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمّ عليه جوانحي) (2).

إن هذه الإشارات الدالة على غزارة علم الإمام وتوجيهه الخطاب إلى الناس لبيان ما هو عليه من علم ودراية وتسديد إنما هو دعوة للناس لاتباعه وهم على بيّنة من فضائله ومزاياه ولكي لا يكونوا غافلين في اتباعهم إيّاه عن كل ما يلزمهم في إمامته لهم من عدالته وعلمه وقدرته من جانب، ومن جانب آخر لكي يقيم عليهم الحجة في إبراز ما عنده من مزايا لهم تجعله متفوقاً على أقرانه من الصحابة ليتّبعوه، وإلّا كيف سينصح الناس باتباعه وهو غير مفضٍ لهم بما عنده من ملكات تفرّد بها عن غيره من الصحابة، وفي إشارة إلى أنه ليس وحده قد تفرد بهذه الملكات، وإنما هناك غيره فتكلم بلغة الجماعة فقال:

(أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا الله وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم بنا يستعطى الهدى، ويُسْتَجلى العمى، إن الأئمة من قريش غُرِسوا في هذا البطن من هاشم؛ لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم) (3) ويفهم من هذا النص أن هناك جماعة ادعوا أنهم راسخون في العلم من غير آل البيت ولذلك يصفهم بالكذب والبغي عليه وأهله وأنهم يحسدونه وأبناءه على هذه النعم العظيمة وهو يقصد بذلك نعمة العلم؛ إذ أن المعروف أن الإمام كان أقضى الصحابة بدليل قول النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم 9.

ص: 32


1- ابن أبي الحديد 76/7.
2- المصدر نفسه 166/8.
3- المصدر نفسه 67/9.

(أقضاكم علي) (1)، وهو هنا لا يحدث عن نفسه، بل إنه يشير إلى أبنائه بأنهم علماء رفعهم الله وأعطاهم وأدخلهم في خيمة العلم دون غيرهم، ثم أشار إلى أنهم الوسيلة لكل خير بقوله (بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى)، وقد قدّم (شبه الجملة) على الجملة الفعلية (يستعطى الهدى) (يُستجلى العمى) في إصرار خطابي واضح ومقصود على أنهم دائماً في المقدمة مثلهم كمثل الوسيط، لمنزلتهم التي حباهم بها الله سبحانه وتعالى، هذا على صعيد العلم، وعلى صعيد الولاية، أردف بقوله (إن الأئمة من قريش غرسوا في هذه البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم)، في بيان جلي عن أنهم هم الذين يصلحون للإمامة والخلافة والولاية، وبتوكيدية مباشرة أشار إلى أن الإمامة في قريش وأفصح عن أنها في (هذا البطن من هاشم) وهي تشير إلى معنيين الأول أنه يشير إلى آل عبد المطلب بوصفهم ينتمون إلى هاشم الجد الأكبر، وهذا بعيد عن تمثيل الفكرة، لأنَّ من هؤلاء أبا لهب وسواه من بني هاشم الذين عارضوا الرسالة الإسلامية منذ البدء، والآخر فهو يدل دلالة واضحة إلى نفسه بقوله (غرسوا في هذا البطن من هاشم) كأنما يريد أن يقول أنهم يخرجون من صلبه هو لا من صلب غيره، وهذا أقرب إلى احتمالية التصديق لتمثيل الفكرة التي تعرض لها بالبيان في خطابه الموجه للآخر.

إن أهمية السياق في بنائية الفكرة التي تنتظم عبر كلمات تتشكل فيه، تشير إلى أن الخطاب يجري في فضاء اجتماعي، ولا بد من توظيف اللغة، بصورة تنتظم فيها وتكتسب دلالتها في إطار توجه معرفي يخلق لدى المتلقي أصداءً تتجاوب مع ما يطمح إليه المرسل في الوقت الذي ينشأ فيه تداول لخطاب منطوق يرتكز في دلالاته على التفاعل الذي يجري بين مرسل الخطاب ومتلقيه.

إن الخطاب يدرك بوصفه فعل ذات متوجهة إلى آخر في ظرف معين، وهو ما يسميه بنفست (تجلي اللغة في تبادل قولي حي) (2)، وهذا يعني أننا (ننتقل 9.

ص: 33


1- المصدر نفسه 44/1.
2- نقلاً عن سياق التلفظ وقيمته في تحليل الخطاب - مجلة فصول ع 62 - 2003، 49.

تحليل وصفي لأوضاع اللغة إلى تحليل ديناميكي لعملياتها) (1)؛ إذ أن مقصدية الخطاب في تحصيل المعنى مرتبطة بالسياق والعلاقات القائمة بين المفردات التي تكوّن الجمل وهذه بدورها (تستمد صلابتها من البنية الأيديولوجية المغلقة) (2) التي ينشأ فيها الخطاب الذي يستمد مشروعيته من طبيعة تصور الفكرة التي يعالجها والسياق الذي يندرج فيه؛ إذ أنه في بنياته الذاتية يتجه إلى اكتساب طبيعة كلية شاملة منطلقاً من منظور شمولي في إعادة بناء المسارات التي يراها منحرفة عن المنهج الذي يدعو إليه أو تصحيحها على الأقل، وما دام الخطاب هنا يهدف إلى عملية تغييرية فلا بد أن يكون تأثيره جماعياً وليس فردياً؛ لأن التأثير الفردي سينتج عنه فراغ سلبي ناشئ عن أن الدوافع الآنية والغرائز التي تتحكم بمشاعر العامة ستكون هي المقياس الأساسي لمستوى التأثّر والتأثير. إن المهمة الكبرى التي حاول الخطاب في نهج البلاغة الاضطلاع بها هي مهمة تغييرية جذرية ثورية تتناول مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة فضلاً عن ممارسة توجيهية الثقافة المجتمع عن طريق الخطاب الذي يطمح المرسل من خلاله إعادة صياغة الواقع وتوصيل المعرفة إليه بغية تملكه على وفق ما يراه فاعل الخطاب؛ (إذ أن الخطاب هو المكان الذي يتكون فيه فاعله ومن خلال هذا الخطاب فإن الفاعل يبني عالمه كشيء ويبني ذاته أيضاً) (3) بحضوره سواء كان الخطاب مباشراً أم غير مباشر، إذ أن الإمام في بداية خلافته أوضح منهجه التغييري الشامل قائلاً:

(ذمّتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم إن من صرَحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن الشبهات ألا وإن بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه والذي بعثه بالحق لتبلبلنَّ بلبلةً ولتغربلنَّ غربلةً، ولتساطنَّ سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقنَّ سابقون كانوا .

ص: 34


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- بلاغة الخطاب وعلم النص المقدمة.
3- بلاغة الخطاب وعلم النص 98.

قصروا، وليقصّونّ سباقون كانوا سبقوا) (1).

فهو يبدأ خطابه إلى الجمهور بالإشارة إلى حقيقة مهمة تمثل لديه الهدف الأساس في العملية التغييرية التي يسعى إليها الإمام، وهذه الحقيقة هي أن المجتمع في الجزيرة قد عاد إلى سيرته الأولى، جاهلية عمياء يوم بعث الله إليهم نبيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنهم لم يفيدوا شيئاً من الإسلام بوصفه تحولاً جذرياً في مفاهيمه وأفكاره، ويسمّى ذلك (البلية)؛ إذ أنَّ العصبية القبلية مازالت تسيطر عليهم، ومازال المجتمع يتوزع على طبقات متفاوتة في الميول والاتجاهات وهم على أقسام ثلاثة (2):

الأول / يتمثل في بني أمية ومن تابعهم وهؤلاء كانوا هم بطانة الخليفة عثمان بن عفان عفان لأنهم بنو عمه وقد قربّهم كثيراً بل إن الإمام علي علیه السلام أشار إلى أمر مهم جداً هو أنه (أي عثمان) أقطعهم القطائع (3).

الثاني/ يتمثل في الذين كانوا يعدون أنفسهم الطبقة الأولى في المجتمع بعد البطانة وهؤلاء كانت فائدتهم في أن عثمان بن عفان كان يعطيهم عطاءٌ جزيلاً على خلاف الآخرين من الفقراء والذين لا يجدون موطئ قدم لهم لدى السلطة.

الثالث / يتمثل في الذين يؤمنون بعدالة الإمام ويشايعونه، لأنه بنظرهم ينهج نهج الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وهؤلاء لا يعدون ذوي تأثير في الحياة السياسية آنذاك إلا بقدر ضئيل؛ لأنهم ليس لديهم القوة المالية أو النفوذ الذي يمكنهم من فرض إرادتهم؛ زيادة على أن الصنفين الأوَّلين يمسكان بزمام المجتمع مادياً في نفوذ امتدَّ عبر سنين طويلة إذ أنهم يمثلون محاكاة للواقع القبلي الذي كانت ترزح تحته الجزيرة العربية قبل الإسلام من حيث طاعتهم لزعماء القبائل بغض النظر عن مدى ارتباط هؤلاء الزعماء مع الدين وتطبيقه بوصفه تحوّلاً حضارياً، مما جعل بعض أتباعه المخلصين يشير عليه بقوله (يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء 1.

ص: 35


1- ابن أبي الحديد 253/1
2- ينظر: مع الإمام علي في منهجيته ونهجه 98.
3- ينظر: ابن أبي الحديد 192/1.

الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم واستمل من تخاف خلافه من الناس) (1) كما يفعل غيره من الخلفاء والولاة بتقسيم المجتمع إلى طبقات استندوا فيها على المنزلة الاجتماعية فكان زعماء القبائل يأخذون عطاءً أكثر من أتباعهم وحينما جاء الإمام إلى السلطة بعد مطالبة الناس إياه بتولي الخلافة شرع في توضيح سياسته الإدارية والاقتصادية مما أفزع الطبقات العليا في المجتمع التي كانت تهيمن على أمور السلطة ومقدراتها حتى دعاهم ذلك إلى إعلان أكثر من حرب وإشعال أكثر من معركة لإعاقة الخليفة الجديد عن تطبيق سياسته في جوانبها كافة وأحسب أن ذلك كان ضمن تخطيط مسبق من تلك الجهات؛ لأنها إذا تركت الخليفة الجديد يطبق سياسته فهذا يعني انكشاف كثير من الزيف والخداع الذي كان يمارسه الولاة والقادة في الحكومات السابقة.

إن دخول خطاب جديد يناقض خطابات سابقة قامت - بنظر الخطاب الجديد - على أساس التهميش والإقصاء السياسي والإذعان الاجتماعي مما وفّر لهذه الخطابات سياقاً سياسياً / اجتماعياً تأريخياً بقصد الذيوع والانتشار؛ إن ذلك أثار مشکلات معرفية على مستوى الفهم الفكري للمجتمع؛ إذ أن (آليات الاستبعاد والإقصاء التي يمارسها خطاب ما ضد خطاب آخر تعني حضور هذا الخطاب الآخر بدرجات بنيوية متفاوتة في بنية الخطاب الأول) (2) وهذا يعني أن (كل الخطابات تتساوى من حيث هي خطابات وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاكه للحقيقة ...) (3) إلا أن يكون قد أتى بالدليل القاطع على مصداقيته وزيف الآخر وبطلانه حينها، لا يمكن القول إن هناك تجاوزاً من قبل طرف على طرف آخر، إن ما يحدث هو توجيه صحيح لقنوات المجتمع المعرفية بغية نزع فتيل المباغضة بين هذه الخطابات بما يؤهلها للذوبان فيما بينها باتجاه بيان الحقيقة وإظهارها بشكلها الصحيح. .

ص: 36


1- ابن أبي الحديد 250/1.
2- النص والسلطة والحقيقة 8.
3- المصدر نفسه والصفحة.

الخطاب وثقافة الصورة:

تمثل الصورة - بمفهومها العام - البعد المعرفي المتوسط بين الواقع والمتخيّل، بين الحس والعقل؛ لأن الإنسان يعيش وسط عالم من الصور، ونتيجة لذلك تتحدد رؤيته للعالم وطبيعة العلاقات فيه، وأن الخطاب الذي ينمو بين مرسلٍ ومتلقٍّ، إنما يتم بين صورة كل طرف في ذهن الطرف الآخر، وهذا يعني أن هناك حواراً ينشأ بين الطرفين عبر منظومة صورية، ينسلّ الخطاب تحت مظلتها، محرِّضاً أو منبِّهاً شاكراً أو داعياً، مضلِّلاً أو مرشداً.

وفي نهج البلاغة تمثل الصورة بكل أبعادها جزءاً حيوياً من الخطاب، بل هي مرتكز أساسي تبنى عليه الأفكار، وتنمو ظلاله وسط النسيج الكلامي مما يضفي على الخطاب في سياقاته كافة بعداً جمالياً ترتكز عليه علاقة الإنسان بالعالم، ويمكن أن تتمثل هذه العلاقة في النصوص التي تناول فيها الإمام علي علیه السلام بعض المخلوقات بالوصف أو ما يمكن أن نطلق عليه الرسم بالكلمات مما يجعل النص ينبض بالحركة واللون معاً، وهو لا يمثل إعادة إنتاج لعالم الأشياء المتحركة، بقدر ما يبين أو يشير إلى عظمة المبدع وأن ذلك لم يأت على أساس المحاكاة أو الاتباع، إنما كان ابتداعاً يدلّ على قدرة خارقة لا يمكن تصورها فهو (الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدارٍ احتذى عليه من خالق معبودٍ كان قبله ... فصار كل ما خلق حجّةً له ودليلاً عليه وإن كان خلقاً صامتاً، فحجّته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة) (1).

إن التصوير لدى الإمام يتحرك بأشكاله كافة على مستوى النصوص كلها فهو يكاد يكون إحدى السمات البارزة التي اتصف بها الخطاب العلوي، ففي أكثر النصوص تناولاً لقضية علمية نجد الصور الاستعارية تنتظم في جمل كثيرة، وهو يصف الأرض ودحوها على الماء فيقول (كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ولجج بحارٍ زاخرة، تلتطم أواذيُّ أمواجها وتصطفق متقاذفات اثباجها، وترغو

ص: 37


1- ابن أبي الحديد 318/6.

زبداً كالفحول عند هياجها، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، وسكن هيجُ ارتمائه إذ وطئته بكلكلها، وذلّ مستخذياً إذ تمعّكت عليه كواهلها ... وجعل ذلك بلاغاً للأنام، ورزقاً للأنعام ...) (1)، ويبدو من هذه الصور الاستعارية المتراكمة (أمواج مستفحلة، تلتطم، تصطفق ترغو، جماح، وطئته بكلكلها، مستخذياً، تمعّكت ... إلخ) التي تنتشر على مساحة النص بكامله، أن تحويل الثقافة المعرفية إلى صور بصرية بلباس لغوي بلاغي، وضمن واقع حياتي معيش، إنما يمثل حالة إنتاج جديد للصورة وإدراكها في الوقت ذاته؛ بغية إيصالها إلى المتلقي عن طريق تشغيل المنظومة الثقافية للأفراد؛ إذ أن الاستعارة المفاجئة المتدفّقة تحرك الإحساس وتعد من أقوى الوسائل فعالية في نقل الانفعالات (2)، ولاسيّما أن الخطاب شفاهي وأن الصورة التي تقترن بالفكرة تمتلك القدرة على تحريك الناس، خاصة وأن هذه الصور مستلَّة من الواقع الاجتماعي الذي يتعامل به المجتمع المخاطب، على أن هذا الإطناب الصوري في نصوص الخطاب العلوي إنما يتجه إلى غاية محددة هي دينية بالأساس ونعني بها الإشارة إلى وحدانية الخالق المطلقة وأن كل صورة من هذه الصور هي أثر دال على تلك الوحدانية.

إن هذا الرسم الصوري الذي يتم بالكلمات إنما يشير إلى أن العلاقة بين الإنسان وبين الفن كانت قبل أن يتعرف هذا الإنسان على تأريخه، بمعنى آخر، إن هذه الملازمة للفهم من التصوير، توحي إلى الحس البشري بالتناغم مع العقل لأجل الخير، ولأن هذا الاستمتاع بالجمال الكوني يسبغ على العقل استشعاراً بتفرّد الخالق، وتفكراً حدسياً في محاولة سبر أغواره، مما يفسح المجال أمام الخير لأن يتجلى بكل مظاهره الجمالية.

ففي خطبة يصف فيها الأرض أيضاً:

(وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال وأرساها على غير قرار وأقامها .

ص: 38


1- ابن أبى الحديد 338/6.
2- ينظر: الصورة والثقافة واتصال مجلة فصول ع 62 - 2003،137.

بغیر قوائم، ورفعها بغير دعائم وحصّنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج أرسى أوتادها وضرب أسدادها واستفاض عيونها، وخدَّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضَعُفَ ما قوّاه) (1).

يرى غيورغي غاتشيف أن (الرسم هو أقرب الفنون إلى الأدب) (2) وهذا يعني أننا يمكن أن نقول أن الرسم هو (شعر صامت) والشعر (رسم صائت) (3)؛ لأن اللوحة لا تتجزّأ إلى مقاطع أو أجزاء قابلة للمقارنة مع الكلمات والأصوات) (4).

إن هذا المقطع من الخطاب يمكن أن نعدّه من التصوير المشهدي السمعي الذي لا يمكن للعين المبصرة أن تدركه بواقع الحال إلا أن إدراكه يتم عبر سمعية تداولية توائم بين المنطوق وحجم الحدث بما يجعله متصوّراً ذا أبعاد محددة ذهنياً إذ أن وجوده بحسب مقتضيات الواقع البصري للإنسان غير ممكن بل يمكن إحالته إلى ما سمّاه أرنهايم بِ (التفكير البصري) (5) وهذا يبين لنا أن هناك تفكيراً متحرّكاً منتجاً للصور الأمر الذي يستدعي من الذهن المتلقي تركيب هذه الصور المرسومة بوساطة الحروف والخروج منها بلوحة تحكي قصة خلق عظيمة؛ إذ أن مجرد التفكر بإنشاء الأرض وإمساكها من غير اشتغال يوحي للذهن البشري بأن ينقل ذلك إلى التصور الحسي بوجود أدوات تمسك هذا الجرم من أن تعاني من اشتغال عما سواه، وأن عملية رفعها بغير دعائم، قريبة من الإمساك، وهكذا فيما يخص المنع من السقوط وإرساء الأوتاد، وخدّ الأودية.

إن هذه الصور المتعانقة وغيرها مما يؤلف لوحة كاملة، إنما تنتمي إلى (اللغة التشكيلية) - إن صح التعبير - إذ أن اللغة أحياناً بما تحمله من طاقة، تقوم مقام الرسم بكل أدواته، بحيث يحتل المشهد البصري المكانة ذاتها التي يقوم بها .

ص: 39


1- ابن أبي الحديد 66/13.
2- الوعي والفن 64.
3- حياة الصورة وموتها 35.
4- المصدر نفسه 37.
5- نقلاً عن ثقافة الصورة مجلة فصول ع 92 - 2003، 117.

النص، وهذا يمكن أن نجده في اللوحات التي تتناول الطبيعة موضوعاً لها؛ إذ تحاول أن تحاكي تلك التفصيلات في تناغمها وتنافرها وانسجامها وحركتها. إن الخطاب العلوي في نقله لهذه الصور بصورة سمعية مستعملاً اللغة ومعتمداً على طاقاتها المعبّرة التي لا تمانعه في ذلك، إنما يمثل دور الموصل والمنبّه في آن؛ لأن وصفاً واحداً لمشهد معين يدل على مدى معرفته بتفاصيل ذلك المشهد مما لا يتأتى لأحد غيره إلا من كان يماثله أو أفضل منه وإن وصفه للملائكة في صور متعددة لخير دليل على ذلك، فمرّة يصفهم بقوله:

(ثم فتق ما بين السموات العلا فملأهن أطواراً من ملائكته، سجودٌ لا يركعون، وركوعٌ لا ينتصبون وصافون لا يتزايلون، ويسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العين ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ...)

وبعد أن يرسم لهم هذه الصور المختلفة، يبيّن مواقعهم فيقول (ومنهم أمناء على وحيه والسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العليا رقابهم والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لتوائم العرش أكتافهم ناكسة دونه أبصارهم متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزّة وأستار القدرة، لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر) (1)، إن استعماله للفظة التصوير في النص يمثل المنقذ للمتلقي لأن يستحضر ذهنه وأن يرسم أو يحاول ذلك في لملمة للفكر ومحاولة سبر أغوار عالم غير مرئي، يعتمد فيه على المشهد السمعي المرسوم بالكلمات؛ إذ أن هذا التقسيم لعالم الملائكة الذي يقوم على أساس الوظيفة المؤداة أو العمل المطلوب منهم لا يمكن أن يصدر عن عقل لم ير هذه الأفواج من الملائكة وهي على تلك الهيئات ولاسيّما أن الملائكة هم أرواح ربائية بدليل وصفه ملك الموت بقوله.

ص: 40


1- ابن أبي الحديد 106/1.

(هل يُحَسُّ به إذا دخل منزلاً؛ أم هل تراهُ إذا توفى أحداً؟ بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه؟ أيلجُ عليه من بعض جوارحها؛ أم الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هو ساكنٌ معه في أحشائها) (1).

فهو في هذا المقطع من الخطاب الموجه إلى الآخر يتساءل منكراً حصول الرؤية أو حتى مجرد الإحساس بملك الموت، وسواء كان هذا الإحساس ملموساً مادياً أم محسوساً معنوياً، فهو لا يحصل لأي إنسان إلا من كان يرى بعين البصيرة أو أن الله عز و جل آتاء تلك المنزلة الكريمة التي لا يمكن تحصيلها لأي بشر وهذا الأمر نجده في الحوار الذي دار بين الإمام وسائل سأله:

السائل: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟

الإمام: مام أفأعبدُ ما لا أرى؟

السائل: وكيف تراه؟

الإمام: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ...) (2).

إن تردد هذا المعنى في أكثر من خطاب وهذا الوصف في المعاينة العقلية، وهذه الاستضاءة الإيمانية لا يمكن أن تنم عن عقل عاجز أو أنه يتقول أشياءً من بنات الخيال بل يقوم ذلك على أساس علمي صرف بالأشياء، وإن الإيحاء بهذه الصور إنما يتم عن معرفة دقيقة بتفاصيل تلك الصور التي لم يظهرها بأدق تفاصيلها، إذ أن ذلك قد يعود بالضد من المسعى الذي يسعى إليه الإمام في إشاعة روح القرب أو التقرب إلى الله عز و جل ومحاولة التأثير على المتلقين بموجب هذه الصور لأجل تنشئة المجتمع على وفق ثقافة تعتمد ثقافة الصورة بوصفها مورداً رئيساً تُجاري ثقافة الكلمة المكتوبة؛ إذ أنهما بالنتيجة صنوان في مسار واحد.

إن معرفة هذا المفهوم (ثقافة الصورة) ومدى توظيفه جمالياً ومعرفياً يحيلنا .

ص: 41


1- المصدر نفسه 185/7.
2- ابن أبي الحديد 51/10.

إلى (أن نذهب إلى ما هو أبعد من النص) (1) من أجل تحديد (الروابط بين النص والقيم من جهة، والمؤسسات والممارسات الأخرى في الثقافة من جهة أخرى) (2)؛ إذ أن (الجمال ينشأ من الغريزة الاجتماعية) (3) في الوقت الذي تنشأ المعرفة من المحصّلة الجمعية أو الوعي الجمعي لدى المجتمع، وبتآلف هذين العنصرين يمكننا معرفة اللذة التي يستطيع الخطاب أن يوجدها فينا طبعاً يتم ذلك بإيحائية قائمة على الرسم الذهني للصور التي يتناولها الخطاب، مع ما لهذه الصور من رهبة وقدسية تجبر المتلقي على محاولة تلمّس الفعل الإيجابي في سلوكه اليومي والاتجاه بأفكاره إلى أنماط علوية تحفزه إلى معانقة الأفكار التي يعرضها الإمام على الحاضرين فهو يقول في وصف خلق آدم صلی الله علیه و آله و سلم:

(ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبحها، تربةً سنّها بالماء حتى خلصت ولاطها بالبلّة حتى لزبت فجبل منها صورةً ذات أحناءٍ ووصول وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت وأصلدها حتى صلصلت لوقت معدود وأجل معلوم) (4).

إن استعماله للفظة (صورة) مع تفصيلاتها (أحناء، وصول أعضاء، فصول) إنما يماثل عملية الرسم على لوحة، وبالاعتماد على ثقافة المتلقين الشفاهية لأجل أن يصوغوا هذه المعرفة التصويرية بشكل يجعلها وثيقة الصلة بحياتهم من حيث الانتماء الإنساني أولاً، ومن حيث استيعابهم لدقائق الخلق الموضوعي ثانياً، كما أن استعماله لمفردات بعينها مثل (لاطها، لزبت) في نسق تعبيري كقوله (تربةً سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالماء حتى لزبت) يشير فيه إلى الكيفية التي ستكون فيما بعد في تراتبية العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة موحياً من خلال النص أنها الطريقة المثلى في التكاثر البشري، كما أن استعماله للأداة (حتى) إنما يشير إلى 1.

ص: 42


1- دليل الناقد الأدبي 80.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- علم الجمال 52.
4- ابن أبي الحديد 110/1.

غائية الفعل الذي يمثل المنحى التصويري الأول على وجه الأرض، وأن النص المذكور، يمكننا معرفة ماهية صورته المرسومة بتتبع ما تبقى من النص فيقول:

(ثم نفخ فيه من روحه فتمثّلت إنساناً ذا أذهانٍ يجيلها، وفِكَرٍ يتصرف بها، وجوارح يخدمها ...) (1) فهو إذن يشير إلى أن هناك مدة زمنية غير معروفة بقي فيها ذلك الجسد من دون روح، بدلالة استعماله أداة العطف (ثم) التي تفيد التراخي في وقوع الحدث، زيادة على أن هذا التمثيل الصوري الذي يسبق نفخ الروح في هذا الجسد المصوّر، يشكل ملحماً جمالياً يستدعي من المتلقي وقفة تأملية تتزاحم فيها الأفكار والخيالات في كيفية الخلق وطبيعته؛ (لأن الفن تعبير عن الروح، وأعلى أشكال الجمال، ولأنه تجسيد حسي للمطلق) (2)، وأنه كذلك (منطلق نحو القداسة والعالم الآخر) (3).

إن الإحساس الذي يتملّك المتلقي في وقفته أمام الصورة المجسّمة، إنما ينتج عنه هذا التأمل الذي يذهب به إلى استيحاء الصورة نفسها في تغذية أفكاره وثقافته والمزاوجة بين ما يراه بصرياً، وما يراه ذهنياً؛ إذ أن ذلك سيمثل له مثيراً إيحائياً مهما؛ لأن (العمل الفني المثمر حقاً هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس أدبي آخر) (4)، فإذا كان ذلك كذلك، فإن حاسة البصر وإن كانت تمثل البوابة الأولى للتذوق والاستقراء، إلا أن العين الداخلية تملك من الاستقراء الذهني ما يجعلها تستمع إلى أصوات وحركات وتشم روائح تنبعث من الصورة تتفاعل في بوتقة الخلق (لتصبح طاقة من الانفعالات الذي يحدد لنا بدوره إيقاعاً ونغماً، نتبعه بأعيننا) (5).

إن هذا التعالق التصويري بين الصورة والتصور لا يمثل هتكاً للحدود .

ص: 43


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- علم الجمال 36.
3- النظريات الجمالية 92.
4- قصيدة وصورة 7.
5- كيف تقرأ صورة 42.

القائمة بين الفنون وإنما يشير إلى مكامن الإبداع التي يختزنها العقل البشري، وهذا بدوره يشير إلى أن هناك مبدعاً خالقاً أبدع هذا العقل على غير مثال سابق، وجعل الإبداع جزءاً من مكوناته إلا أن استغلاله يبقى رهن الواقع الذي يعيشه، والثقافة التي يحياها والمنهج الذي يسير عليه ومجموعة الأفكار التي يعتقدها من حيث هي تمثل لديه نبع عطاء ثر لا ينفد، وهذا - بمجموعه - يمثل التقاءً جمالياً تدركه النفس الإنسانية وفي الوقت ذاته، ترتاح إليه وتجد فيه منفذاً روحياً تمارس عن طريقه حريتها في التلقي والتفاعل إحساساً منها في أن ما تتلقّاه خطاب ينداح في عوالم سماوية، مما يسبغ عليه صفة الإبهار والقداسة في آن معاً؛ ويمارس القيادة الفكرية عليها وهي منصاعة دون أدنى تردد لما يمثله من كشف لحجب لا يستطيع أي إنسان أن يفعل ذلك إلا من كان على شاكلة هذا الخطيب؛ إذ أنه يصف الجرادة كما يصف الملائكة، ويصف النملة كما يصف بداية خلق آدم، ويصف الطاووس والخفاش كما يصف أي شيء آخر غير مرئي، وهذا نابع عن قدرة ذهنية وبصرية تستطيع أن تفكك الصورة المجسمة وتعيدها إلى أصلها الذهني، وتفعل العكس في إحالة الخطاب إلى صور متعالقة ومتعانقة في عملية بثّ حي يراه المتلقي في ذهنه فيتصوره أو يرسم له صوراً متعددة.

ص: 44

الفصل الأول / بنية الخطاب

مدخل

من خلال الكشف الحاصل حول ماهية الخطاب في نهج البلاغة يمكن تصوّر البنية التي يقوم عليها هذا الخطاب، بما يسهل عملية الفرز في بنيته بأنواعها الثلاثة، البنية السردية والبنية الشعرية والبنية النصية وبما تقوم عليه من مرتكزات تضمن استمرارية الفعل الخطابي إبان اللحظة الآنية التي يكون فيها الخطيب في حالة توتر أدبيّ، في الوقت الذي يكون فيه متحفزاً لاستكمال الصورة التي يبتغيها، أو المعنى المراد من وراء سردية الخطاب أو شعريته أو اختزاله تبعاً للموقف الذي هو فيه.

إن بنية الخطاب العلوي، أفادت من الطبيعة التكوينية المطلعة، وهذا ما تشير إليه النصوص التي تنتظم عبر الخطاب بأشكاله كافة، على مفردات كونية سابقة، أو المحاولات الكاشفة لما يأتي في استشراف لما يكتنهه الزمن في متغيراته، كل ذلك كان يجري على وفق سردية وصفية أو استذكارية أو استشرافية، وفي توظيف من خلال الخطاب المباشر أو غير المباشر، وفي المنطوق غالباً، لأجل العظة والعبرة، مع ما يمثله في بعض فقراته من إشارات ذات دلالة حجاجية إلى ما اطّلع عليه من علوم قد تنتمي - عند بعض الناس - إلى ما يسمى علم الغيب، وعند البعض الآخر لا يعد كذلك بقدر ما هو وحيٌ وإلهامٌ نبوي، وأشار الإمام إلى ذلك بقوله: " لقد علّمني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب" (1)، وفي جوابه لأحد أصحابه حينما قال له:

ص: 45


1- تصنيف نهج البلاغة / 364.

" لقد أعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السلام وقال للرجل وكان كلبياً: يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلّم من ذي علم، وإنما علم الغيب، علم الساعة وما عدده الله سبحانه - في إشارة إلى الآية الكريمة - (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (1)، فيعلم الله سبحانه وتعالى ما في الأرحام، من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون للنار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحدً إلّا الله، وما سوى ذلك فعلمٌ علّمه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمَّ عليه جوانحي. (2)

إنّ هذه الإشارات ذات الدلالة الحجاجية هي - في واقعها - توجيه للربط بین خطاب السلطة وقوة المعرفة، مما يسهم في إيجاد جسر يوحّد بين الاتجاهين ويعمل على إقناع المتلقي بجدوى الاتباع من خلال تسويق الأفكار في أسلوب تصويري سردي يتكئ في بعض مقوماته إلى ما يحدثه من انسجام بين (خطاب المؤلف وخطاب الآخر)(3) عبر تبديد كثافة خطاب الآخر لأجل محوه وإحلال البديل عنه، لا سيّما إذا عرفنا أن هناك إشاراتٍ أو نصوصاً يذكر فيها من يسميهم أدعياء العلم وهم ليسوا منه بشيء، فهو يقول عنهم:

(فيا عجباً! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفّون عن عيب يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات المعروف فيهم ما عرفوا 2.

ص: 46


1- سورة لقمان الآية 34.
2- ابن أبي الحديد 100/8.
3- المبدأ الحواري، 92.

والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرىّ ثقات، وأسبابٍ محكمات) (1).

إنه يصفهم بأسلوب سردي مبيّناً من خلاله طبيعة هؤلاء، فهم ليسوا على بيّنة من العلم وهم أئمّة أنفسهم، وقد أطلق عليهم صفة (الفرق، جمع فرقة) وهي الجماعة، وأحسبه يشير إلى أن هناك أشخاصاً من الصحابة جعلوا من أنفسهم فقهاء في الدين وهم ليسوا كذلك لأنهم لا يتّبعون النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في أحكامهم وإنما تعويلهم على ما علموه وهو آراؤهم وفي استعماله للفظة - آرائهم - إشارة خفية إلى أن الرأي ليس بالضرورة صائباً، وإنما احتمالات الخطأ فيه كبيرة؛ لأنه لا يقوم على اقتصاص أثر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ناهيک كلام عن الاقتداء بعمل الوصي وهو يقصد نفسه.

البنية السردية للخطاب:

إن البنية السردية للخطاب في نهج البلاغة لا تقوم على أساس إمتاع الجمهور بحكايات وقصص ينسجها السارد أو الخطيب لاستعراض مهاراته الخطابية، أو أنّه يسرد الأحداث لغرض دعائي صرف زيادة على أن معرفة الظروف المكانية والزمانية المحيطة بالعملية الخطابية، ومعرفة هوية المخاطبين والصِّلات القائمة بين السارد أو الخطيب وبين الجمهور المتلقي، إنما يسهم في معرفة الخطوط التي يقف على جانبيها الطرفان (السارد - المتلقّي) أو ما يسمى عند الدكتور محمد الناصر العجمي (المؤتي - المؤتى إليه) (2).

ومن وجهة نظرنا نرى أن التعامل السردي بين الطرفين ليس على أساس الفوقية الانتمائية (3) التي تجبر الآخرين على الاتباع والانقياد السلطوي، وإنما على أساس المواصفات التي تسوده بعيداً عن التزلفات القبلية أو الاجتماعية التي قد

ص: 47


1- ابن أبي الحديد 297/6.
2- في الخطاب السردي، 42، وينظر 64 وما بعدها من المصدر نفسه.
3- نعني بهذا المصطلح: الشعور بالعنصرية الاجتماعية التي تعطي صاحبها أفضلية القيادة أو تمنحه تعالياً على الناس.

تسبب انهياراً للقيم الدينية، والعودة بالمجتمع حديث التدين إلى منزلقات التقوقع، وهذا ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في كثير من مواقفه الخطابية وسرده لأحداث التأريخ وبيان أن عدم اتباع الرسل بالشكل الأمثل وتطبيق تعاليمهم، إنما سيؤدي بالمجتمع إلى الانحدار، وبناءً على ذلك يمكن توضيح ما تقوم عليه سردية الخطاب كالآتي:

مقومات البنية السردية للخطاب:

1 - التوجيه المعرفي:

ونعني به بشكل مبسط استعمال الباث أو السارد المعرفة لتوجيه المتلقي الوجهة التي يراها مناسبة لأجل استقبال ما يرد بعد ذلك من أفكار.

لقد مارس الإمام علي علیه السلام هذه العملية منذ بدء توليه الخلافة، إذ يقول في خطبة له ( ... إني لعلى بيِّنةٍ من ربّي، ومنهاج من نبيِّ، وإنّي لعلى الطريق الواضح القطه لقطاً ...) (1).

يتبيّن في هذا المقطع من الخطبة أنّه يشير إلى أنه يمثل الجهة الشرعية الوحيدة التي تمتلك هذه المواصفات، فهو على بينةٍ من ربّه، وهو على منهاج من نبيّه، وهذان يمثلان المعرفة الكاملة، فإذا كان الله عزّ وجلّ أعطاه البينِّة والدليل، فهو لا يحتاج إلى أحد آخر يفسر له الأحكام والآيات، وإنما يمتلك ذلك بطريق إلهاميّ،و الجانب الآخر هو إشارته إلى المنهاج النبوي، وهذا يعني أنه قد حفظ السنة النبوية بتقريراتها كافة مع أوامرها ونواهيها، فهو يمتلك منهاجاً نبوياً زيادةً على البيّنة الربانية، وهذا يفضي إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن أن تشتبه عليه الأمور أو يقع في دائرة الشك، فهو يقول: (وإنّي لعلى الطريق الواضح القطه لقطاً)، في هذه الجملة تكتمل الصورة المعرفية التي بناها بشكل أنيق؛ لأنه يصرّح بأنه الطريق الواضح وهو يعني بذلك الحق وقد عبّر عنه بالمفرد، فقال (القطه لقطاً) واللقط الوقوع على الشيء المتفرد البارز من دون الأشياء الأخرى.

ص: 48


1- ابن أبي الحديد 54/7.

إنّ الجهد المعرفي الذي أراد الإمام علي من خلاله أن يبعد بذهن المتلقي عن الأفكار والمعارف النمطية التي درج عليها المجتمع، في محاولة لإعادة صياغة التوجه الفكري والمعرفي لما يراه هو من انحراف عن جادة الإسلام الحقيقي من وجهة نظره؛ لأن الأساس المعرفي للأفكار النمطية هو التصنيف (1)، الأمر الذي أدى إلى سيادة مجموعة من هذه الأفكار ذات التجانس الاجتماعي ملبية حاجة فئة محدودة من الناس وليس المجتمع بشكل كامل، وهذا بحد ذاته يعدّه الإمام ثلماً في التطبيق العملي للرسالة، وقد أشار إلى ذلك بقوله:

( ... ولكنّا أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل عليه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل ...) (2) وهكذا فهو يصنف ما دخل على الدين إلى زيغ واعوجاج وشبهة وتأويل منحرف يلبّي حاجة تلك الفئة التي أرادت أن تجعل الدين مطيّة أطماعها وحاجاتها الدنيوية مما أدخل الزيخ والاعوجاج على المنهج النبوي إذن هو يستشعر الواجب المطلوب منه وهو إعادة تصحيح المسار الفكري الذي يسير عليه المجتمع، وقد أشار أكثر من مرّة إلى أن ما يقوله ويفعله هو الحق ولا شيء غيره، وأنه هو المعيار الذي تحتكم إليه الأفكار، فهو يمثل الفيصل الحازم بين جهتين (الحق والباطل)، إذ يقول:

( ... ولقد كنت أتبعهُ - أي النبيّ - اتّباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاورني كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول الله – صلى الله عليه وآله - وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوّة ...) (3) وهذا يعني أن مسيرته مع النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم و كانت مسيرة موجهة توجيهاً صحيحاً من قبل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فهو يأمره بالاقتداء به، ويأخذه معه إلى غار حراء، .

ص: 49


1- سيكولوجية العلاقات بين الجماعات 151.
2- ابن أبي الحديد 231/7.
3- ابن أبي الحديد 148/13.

ويساكنه في البيت نفسه، مما أدى إلى تشرّب الإسلام في روح الإمام وجسده حتى ملك عليه مشاعره وأحاسيسه وقدراته كلها فأصبح هو الدين نفسه، وهو القائل:

( ... ولقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه - صلى الله عليه و آله - فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: "هذا الشيطان قد آيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلّا أنك لست بنبيّ، ولكنّك لوزير وإنك لعلى خير ...) (1)

إن هذا النص المقتطع من خطبته المسماة (القاصعة) يدلّنا دلالة أكيدة على أنه كان بالمنزلة العظمى من النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وأنه كان يتمتّعُ بمزايا - وفقاً لهذا النص - لم يتمتّع بها أحد غيره، فهو يسمع ما يسمع الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم، ويرى ما يرى، وأن الفارق بينهما هو النبوة فقط، إلّا أنه كان وزيراً، وهو على خير، إنّ استعمال أدوات التوكيد في النص تشير إلى أن التوجيه إلى مكانة الإمام ليست ترفاً اجتماعياً اقتضته ضرورات العلاقة النسبية والسببية بينهما؛ بل هو تشريع إلهيّ محض لا يمكن للنبي أن يتفوّه به لو لم يكن مأموراً به من الباري عزّ وجلّ، وإلّا فما الداعي لأن يتقوَّل أحد على أحد، وجواز الأمور الصغيرة كجواز الأمور الكبيرة في الوضع والانتحال إن كان هناك وضعٌ فعلاً.

كما أن الإشارة الواردة إلى نزول الوحي وإلى أن الإمام يرى ما يراه

الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم و أنه قد سمع رنة الشيطان، فما الذي رآه إذن؟ مادام هو قد سمع الرنة، فإنه قد رأى شيئاً آخر، وما دام تقرير النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم إنه يسمع ما يسمع ویری ما يرى فهما قد سمعا هذه الرنة، وهما قد رأيا الوحي، ولا ضير في القول إنهما كانا يسمعان ويريان كل الأشياء، وهذا يحيلنا إلى أن نستبطن النص فنقول إن هذا الأمر لم يكن محدداً بزمان أو مكان وإنما كان مطلقاً؛ لأن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم لم يحدد ذلك فيقول ما دمت معي، أو أن هذا في حياتي فقط، إنّما في الأمر استمرارية الفعل والزمان والمكان، وهذا ما يمكن أن نستشفّه من (مظاهر وصف الكلام من ة.

ص: 50


1- المصدر نفسه والصفحة.

زاوية المتقبّل للرسالة الإخبارية، الذي هو سمة "الاستكشاف" التي يكتسبها الحدث اللغوي) (1) لما يقرره السارد للخبر؛ إذ أن (السردية ليست مجردة من أي بعد معياري أو تقييمي أو توجيهي) (2)، وإنما يقودنا تحليلنا هذا إلى القول أن ممارسة السرد تكمن في تجريب فكري يمكن بوساطته أن يقيم السارد عالَماً جديداً وأن يرسم صورة للذات تمكنه من تحقيق ما ما يصبو إليه؛ لأن عملية السرد لتأريخ معين تمارس في الوقت ذاته لإحداث خلخلة في المفهوم العام وهي تعطي كذلك زخماً باتجاه معرفي يمارس الإقناع ويستحث المتلقي إلى تقييم جديد ضمناً أو صراحةً، وبهذا فإن السرد يمكن أن يكون توجيهاً في معرفة العالم واتِّباعه، ومعرفة الجاهل وتجنّبه، كما في قول الإمام (إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجلٌ وكله الله إلى نفسه فهو جائرٌ عن قصد السبيل، مشغوفٌ بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنةٌ لمن افتتنَ به ضال عن هدي من كان قبله مُضلَّ لمن اقتدى به في حياته، وبعد وفاته، حمّال خطايا غیره رهن بخطيئته ...

ورجلٌ قمشَ جهلاً، موضِعٌ في جُهّال الأمة، عادٍ في أغباش الفتنة، عمٍ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً وليس به بكّر فاستكثر من جمع؛ ما قلّ منه خير مما كثُرَ، حتى إذا ورد من ماءٍ آجن، واكتثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيَّاً لها حشواً رثاًّ من رأيه ثم قطع به فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب. جاهل خبّاط جهالات، عاشٍ ركّاب عشوات، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم) (3).

إن الإشارات الواردة في النص تمثل سرداً معيارياً قائماً على التصنيف، .

ص: 51


1- التفكير اللساني في الحضارة العربية 98.
2- رحلة ختامية في الزمان والسرد 85.
3- ابن أبي الحديد 262/1.

وتقييمياً في بيان حال أولئك الذين يعدّهم الإمام أدعياء العلم، وتوجيهياً في صحة الاتّباع؛ لأن الفائدة المتوخاة من ذلك تنطبق على الجماعة كما تنطبق على الفرد. لقد كانت هذه الإشارات ذات الدلالات المتعددة في مقومات البنية السردية للخطاب، تمثل المحرك والمثير لعملية التفكير بشكل جدّي فيما مضى وما عليه الحاضر الآن لأن الجماعة أو الفرد لا يمتلكون القدرة على التفكير فيما هم عليه آنذاك من دون هذه الإشارات ونتيجة لذلك يحصل تطور نوعي في المعرفة مما يؤدي إلى توجيه الأفراد توجّهاً صحيحاً ينسجم مع الخطاب المعروض عليهم والذي يبتغي إحداث تطور نوعي لصالحه في توجهات المجتمع.

لذا وجدنا ذلك في بداية تولّيه الخلافة وهو ما يزال بعد في المدينة؛ حدد طبيعة المجتمع، فوضع يده على الداء، قائلاً: ( ... ألا وإنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه صلى الله عليه و آله ...) (1) وهو بهذا التشخيص الدقيق، يحدد المرحلة التطورية التي ما زال المجتمع يراوح فيها نتيجة عدم التفاعل مع الدعوة الإسلامية بوصفها تحوّلاً حضارياً يسعى إلى الارتقاء بالسلوك الإنساني إلى مستواه اللائق زيادة على أن ذلك يمثل انتكاسة كبرى بحد ذاتها، بسبب الأفكار النمطية لتي كان يروج لها أصحاب المصالح الضيقة، وما دخل على الإسلام من زيغ واعوجاج وشبهة وتأويل منحرف، كما عبر عن ذلك الإمام نفسه (2)، بل إن ذلك يدفعنا إلى القول إن المدة الزمنية التي مرت قبل تولي الإمام الخلافة لم تكن إلاّ زمناً ذهب هدراً من حياة المجتمع والدليل على ذلك هو قوله الآنف الذكر، فهو قد شبَّة حالة المجتمع (بالبليّة) وأنها عادت إلى ما كانت عليه يوم بُعِثَ النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و فهم أصبحوا في تناحر وسعي إلى مصالح ذاتية وصراع سلطوي وانتماءات قبلية غُلِّبَتْ على الدعوة الإسلامية، علماً أن التشبيه بين ما كان قبل تولّيه الخلافة وحين تولّيه لا يعدّ حكماً قطعياً على ما سبق، إذ أن القول يمكن أن يحمل 7.

ص: 52


1- ابن أبي الحديد 235/1.
2- المصدر نفسه 231/7.

على التشديد في المشاكلة والمشابهة بين الحالتين.

2 - المصداقية:

أشار الدكتور محمد الناصر العجيمي إلى أن المصداقية (تخص الأحكام التقويمية القائمة في صلب النص خلافاً للمنظور التقليدي الذي يستند في أحكامه إلى مقاييس مرجعية خارجية) (1) أي أن المصداقية هي جزء من النص أو أنها تمثل مرتكزاً مهماً في تقويم النص، والحكم على صدقيته، وبطبيعة الحال، هذا ليس أمراً سهلاً؛ لأنه يبحث في الحقيقة التي يتضمنها الخطاب بين المرسل والمرسل إليه؛ لأن (الحقيقة ليست مضموناً مستقلاً بذاته بيِّنَ الحدود خاضعاً إلى مقاييس خارجية) (2)، وإنما تخضع لتراكمات اللغة والدلالات الناشئة ذلك، كما أن عن الظروف المكانية والزمانية التي تحيط بعملية الخطاب، ومستوى الفهم لدى المتلقين، ومدى إمكانية تقبل السامعين ومحاولة معرفة تصوّراتهم، كل ذلك وسواه يسمهم في تكوين ما يسميه رولان بارت (أصداء الصدق) (3)، مما يعطى الخطاب زخماً في بيان مصداقيته، الأمر الذي يعيننا على معرفة القيم والحقائق التي يؤمن بها السارد أو الباثّ للخطاب ويتبنّاها؛ لأن (الحوار الاجتماعي يتردد في الخطاب ذاته، في لحظاته كلها، ما اتصل منها بالمضمون أو ما ارتبط بالشكل) (4).

إن مصداقية الخطاب تكتسي في مجمل أبعادها بالجدلية والإقناع؛ لأن خاصية الإقناع التي يمارسها السارد قد تستهدف بيان وجهة نظر مغايرة لما يراه المتلقي أو لما درج عليه، وإن وجهة النظر التي تتشكل من خلال الاستغراق في السرد، تمثل إحدى غايات الخطاب في بناء مصداقيته وهكذا نجد أن الإمام في قوله لَمّا أراده الناس على البيعة للخلافة:

ص: 53


1- في الخطاب السردي، 64.
2- في الخطاب السردي، 65.
3- نقلاً عن المصدر نفسه 65.
4- بلاغة الخطاب وعلم النص، 298.

(دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفات قد أغامت والحجة قد تنكّرت واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّى أميراً) (1).

بني النص السابق على فقرات ثلاث، تبدأ الأولى من جملة (دعوني) والثانية تبدأ من جملة (واعلموا) والثالثة من جملة (وإن تركتموني)، وهذه الفقرات تنتظم عبر سردية جدلية حاول السارد من خلالها إقامة الحجة على الجماعة في أنّه غیر آبه بما يريدون وأنه مستغنٍ عن ذلك، كما أشار إلى أنه إذا استجاب فهذا إلزامٌ لهم بحجّته زيادة على أنّه أوضح طريقه بأن يركب بهم ما يعلم، وهذه الجملة تعطي مرتكزاً مهماً في النص، بل إنها تعد الأساس الذي بُنِيَت عليه الفكرة، فلأنّه يعلم علماً لا يعلمه أحد من هؤلاء - على الأقل جماعة الحضور - فهذا يعطيه الأفضلية في التقدم على سواه، كما أنه استعمل جملة (واعلموا) ليعطي البرهان المؤكد في مسألة الحجاج والجدل المنطقي الذي يقوم عليه السرد.

إن الانسجام الحاصل بين مكونات الخطاب فى فقراته الثلاث جاء نتيجة تآلف مقومات هذا الانسجام في مسار يكمل بعضه بعضاً، وفي سياق ذي أثرٍ بالغ في إنضاج تحليل الخطاب وملامسته، مما يؤدي إلى ظهور مصداقيته ماثلةً في أثناء الجمل المكونة له زيادةً على الزمان والمكان اللذين يُعدّان جزءين مُهمّينِ في السياق قد دفعا بعموم المتلقين إلى دعوته إلى ذلك ولولا حصول الصدق الكامن في نفوسهم قبل الخطاب لما جاؤوا بهذا الانشداد والضغط عليه لتولي الخلافة، كما أن شعور الإمام علي علیه السلام بمصداقية الجمهور العام واندفاعه بهذا الاتجاه، أدى به إلى المكاشفة والمصارحة، وكأنّه بذلك يضع برنامج العمل القادم، خاصةً إذا عرفنا أن الخطاب مقصود لعموم المتلقّين بعيداً عن الفردية، وأن جمهور المتلقّين 3.

ص: 54


1- ابن أبي الحديد 27/3.

لديهم فهم مسبق عن مقوماته وإمكاناته التي تؤهّله للقيادة؛ لأن (فهم الخطاب يعد بالأساس عملية سحب للمعلومات من الذاكرة وربطها مع الخطاب الموجه) (1)، بمعنى أن فهم الخطاب يقتضي إجراء استمزاج للمعلومات المختزنة مع الخطاب المنظور والوصول إلى نتائج تمكّن المتلقّي من إعطاء حكم حقيقي لما يجري في

محيطه.

إن مصداقية الخطاب في وضع مضطرب كالذي كان الإمام يعيشه لا بد أن تتعزّز وبحسب الظرف المحيط به، على أن تعزيز المصداقية كان يتم عبر وسائل لم تكن مضمونة النجاح؛ لأنها تجابه ما لم يكن منسجماً مع أهداف الخطاب الذي كان يطرحه الإمام على الجمهور، فكان دائم التذكير بذلك عبر سرودات مجتزأة أو قصيرة قد ترد في أثناء خطاب عام أو موقف معين، فيقول:

(أيّها الناس، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ...) (2).

ويقول في مكان آخر حينما دخل عليه عبد الله بن عباس بذي قار فوجده يخصف نعله فقال لابن عباس: ما قيمة هذه النعل؟ فردَّ عليه ابن عباس: لا قيمة لها فقال الإمام:

(والله هي أحبُّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيمَ حقّاً أو أدفع باطلاً) (3).

إن تركيز الإمام في خطابه ينصب على ثنائية التناقض في الحياة البشرية، الموت والحياة الحق والباطل الخالق والمخلوق وكثير من ذلك في سردياته حينما يتوجه إلى جمهور المتلقّين، فمثلاً يقول:

( ... فأقبلتم إليّ إقبال العود المطافيل على أولادها، تقولون البيعة البيعة، قبضت كفّي فبسطتموها ونازعتكم يدي فجاذبتموها ...) (4)..

ص: 55


1- براون ديول، نقلاً عن لسانيات النص - مدخل إلى انسجام الخطاب - 62.
2- ابن أبي الحديد 250/2.
3- ابن أبي الحديد 174/2.
4- المصدر نفسه 27/7.

أو قوله مخاطباً معاوية بن أبي سفيان:

(وأما قولك: إنا بنو عبد مناف، فكذلك نحن ولكن ليس أميّة كهاشم ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمدخل، ولبئس الخلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم) (1).

إن السرد - مهما كانت طبيعته - يمثل لمن يريد الإقناع والحوار الوسيلة المثلى لعرض الأفكار وبسط الآراء من خلال مدلولات تواضع عليها الجمهور كما أن هناك من الخفايا التي قد يتناساها الجمهور ذاته بفعل الزمن مرة، أو بفعل الثقافة التي يوجهها الحاكم مرة أخرى التي لا بد أن تعرض وتبسط للجمهور في خطابٍ تصحيحي لمرحلة سابقة، وهذا ما أشار إليه الإمام علي في نصه السابق فهو وإن أقامه على أساس ثنائية الضديّة، قاصداً بذلك شخصاً بعينه، إلّا أن ذلك يعني - من وجهة نظرنا التحليلية - إدانة لممارسات حصلت وتحصل يومياً بفضل قوة السلطة والمال لدى الطرف الآخر، ومن جهة أخرى، فإن المصداقية التي تؤطر النص السردي تمثل إجهاضاً لفكرة الغلبة على السلطة من جهة معادية، إذ أن هذا التعداد للآباء والأبناء والأحفاد يعني بيان حالتين متضادتين في كل المحاور والاتجاهات، إذ يقول في نص آخر مخاطباً معاوية:

( ... فإنا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك، وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذّب، ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ...) (2).

يشير الإمام هنا إلى مفصل مهم في توجيه خطابه السردي وهو أنهم 5.

ص: 56


1- المصدر نفسه 89/15.
2- ابن أبي الحديد 138/15.

(صنائع الله) (والناس صنائع لهم) وهذا يعني أنهم الوسيط بين الله والناس، ألم يقل (نحن النمرقة الوسطى بها يلحق التالي، وإليها يرجع الغالي) (1)، بمعنى الأوسط في الاتباع والعدالة والعلم والإمامة والهداية والاقتداء، ولا يجوز لأحد الأخذ عن غيرهم أو اتباع سواهم وجعله إماماً من دونهم، فإن ذلك يعد تمرّداً وعصياناً، وهذا ينسجم تماماً مع ما يعرضه الإمام في نصوصه، فهو لم يبارح أفكاره التي عرضها منذ البدء، بل إنه استمر في محاورة الجمهور في كل الميادين والاتجاهات وتحت أي ظرف؛ إذ أنه كان يشعر بواجبه الشرعي في توجيه الجماعة الحاضرة وبيان مصداقية خطابه سلسلة من الحوارات الخطابية فكان لا بد لمثل ذلك أن ينتج عنه احتمالان إما الامتثال أو التمرد، وكان الاحتمال الثاني هو الذي بدأ يرشح في تصرفات الجمهور منذ اللحظات الأولى لتوليه الخلافة؛ لأن الصراع الذي واجه الإمام ليس صراعاً عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً، إنما كان صراعاً فكرياً بالدرجة الأولى، فإن التأسيس لثقافة تنسجم مع روح الإسلام ودعوته التي جاء بها النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم بكافة مفرداتها قد بدأ بها الإمام منذ توليه الخلافة، ولا يمكن ينجح أن هذا المسعى وسط مجتمع يعيش حروباً متواصلة ناهيك عن ثقافة مبتورة انتقائية طغت على المجتمع لعقود من الزمن، وهناك جيل من الولاة والأمراء الشباب الطامحين إلى المجد والسلطة والشهرة، فضلاً عن السعايات والولاءات القبلية التي باتت تهدد الولاء الديني، بل إنها كانت قد بدأت تحقق انتصارات، خاصة في معركة صفين وما تلا ذلك من انهيارات في الولاء للدولة الشرعية وانحياز كثير من القيادات العسكرية والعشائرية باتجاه الطرف الآخر، وهذا ناتج - كما قلنا - بسبب الصراع الفكري بين الإرادة الشرعية الممثلة بالإمام وبين إرادات برزت إبان هذه المدة مستغلّةً عدم وعي الجمهور من ناحية والثقافة المبتورة من ناحية أخرى مما حدا بالإمام إلى أن يصرح بذلك بقوله:

( ... لم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحد، إني أريدكم لله 8.

ص: 57


1- المصدر نفسه 218/18.

وأنتم تريدونني لأنفسكم أيّها الناس أعينوني على انفسكم وأيمُ الله لأنصفنَّ المظلوم ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً ...) (1).

وهذا النص السردي يبدأ بإشارة ذات معنيين بارزين، الأول يتضمن قولاً للخليفة عمر بن الخطاب في قوله: (لقد كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرَّها) (2) الذي يمثل اعترافاً بخطأ جسيم وقع دون تدبّر، وهذا يعني حسب قول الإمام إدانة لجمهور المتلقين لسببين أولهما انقيادهم لبيعة خاطئة وعدم تولية القادر على الإمساك بزمام الأمور منذ البدء وقبل أن يتطلع إليها من هو غير كفء ولا يصلح لذلك؛ وأن الإمام يقول في مكان آخر:

( ... فيا لله وللشورى، متى اعترض الرّيب فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقرَنُ إلى هذه النظائر ...) (3)

وهذا إشعار من الإمام بأهمّيته وأنه هو الذي يصلح للخلافة وليس سواه وثاني السببين أن المجتمع هو الذي أجبره على تولّي الخلافة وأنهم انثالوا عليه كعرف الضبع - حسب تعبير الإمام - ثم إن الإمام بين حقيقة مهمة، وهي أنه يسير في طريق والمجتمع يسير في طريق مختلف، وهذا ما دعاه إلى القسم لبيان مصداقية ما هو فيه، وواضح الثنائية الضّدية التي تتعامد في خطاب الإمام؛ لإيجاد حالة من التساوق الغرضي والتوازن على مستوى الأفكار فضلاً عن التوازن في التعبير.

3 - الوضوح والغرض:

لم يكن الخطاب لدى الإمام عليّ علیه السلام بمثابة الحيلة للتلاعب بالكلمات والألفاظ مستغلّاً قدرته الخطابية في إغواء المتلقّين أو الانحراف بأفكارهم عبثاً، أو أنه كان مغامراً سلطوياً ينشد السلطة بأيّة وسيلة، إنما كان واضحاً شديد الوضوح في

ص: 58


1- ابن أبي الحديد 26/9.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- المصدر نفسه 180/1، وفيه إشارة إلى مبدأ الشورى الذي أمر به الخليفة عمر قبل وفاته لتعيين الخليفة.

غرضيّة إنسانية لا تمت للأنانية الذاتية بأية صلة، فهو يقول في نص يصف فيه الإمام

الحق:

(أيّها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم أَظأَرُكم على الحق وأنتم تنفرون منه نفور المعزى من وعوعة الأسد، هيهات أن أطلع بكم سرار العدل، أو أقيم اعوجاج الحق. اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنَرِدَ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب، وسمع وأجاب، لم يسبقني إلاّ رسول الله صلى الله عليه وآله بالصلاة) (1).

تقوم العلاقات بين الجمل على أساس تأدية المعنى، ويجري توظيف ذلك سردياً في تعالق نصّيّ تتبادل فيه الجمل أدواراً بناء على تحديد وظائفي يقوم به السارد لهذه الجمل، لقد بدأ الإمام بالنداء في جمل متكافئة، ثم استعان بجمل خبرية تقوم على التصوير البياني، بعدها تحوّل في التفات خاشع نتلمّس من ورائه نفساً شعارها الزهد ومنهجها العدل وإقامة الدين ثم أشار في تقريرية مباشرة إلى ذكر حقيقة يرددها دائماً، أنه أول المؤمنين والمصلين ولم يسبقه إلا رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

من هذه الحقيقة التي يشير إليها دائماً، يحاول أن يبيّن بوضوح غرضه من ذلك أن السابق إلى الإيمان وإقامة الصلاة يجب أن يكون السابق في تولي خلافة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ولأن فهم الدين على حقيقته يحتاج قلباً صافياً وروحاً لقيّة تتلبّس بالإيمان ويتلبّس بها لكي يكونا حالة واحدة وفي مقابل ذلك فهو يريد من المتلقّين الطاعة والامتثال لما يأمرهم به ويدعوهم إليه وهذا سيخلق حالة توازن نوعي في العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم، لا أن يقوم الجمهور المتلقّي بحالة نقيضة تسعى إلى الهدم حينها ستكون العلاقة سلبية بين الطرفين، وقد تنتهي إلى ما أشار 8.

ص: 59


1- ابن أبي الحديد 201/8.

إليه الإمام بقوله ( ... هيهات أن أطلع بكم سرار العدل، أو أقيم اعوجاج الحق ...) في دلالة واضحة على سيرة المجتمع الذي كان الجور فيه متفشِّياً وضياع الحقوق حالة مستشرية.

إن سياق النص وهو ينضبط فيه إيقاع السرد في وضوحه يدل بما لا يقبل الشك في أن المجتمع يسير باتجاه عكسي من حركة التأريخ؛ لأن توظيف الأحداث في نصوص الخطاب (العلوي) ينمَ عن ذلك، لاسيّما وهو يمارس الخطاب في فضاءات مفتوحة على الرأي الآخر شريطة أن يكون السعي في سبيل خدمة المجتمع هو الهدف المنشود من وراء ذلك، وإلّا فإنّ غير ذلك ليس مسموحاً به لما له من تأثير مباشر على سيرة المجتمع.

لقد كان للسرد في بنيات الخطاب أثر كبير في بيان وضوح الهدف وغرضيته إذ أن الانتقال من مستوى إلى آخر مع تعدد وجوه السرد، يمثل في حد ذاته تقليباً للأمر المراد بيانه، وهذا ينتج عنه وضوح الخطاب والغرض المنشود من ذلك في بيان حاله وحال المتلقّين، فهو يقول في ذلك:

(فقُمتُ بالأمر حين فشلوا، وتطلَّعتُ حين تقبَّعوا، ونَطَقْتُ حين تعتعوا، ومضيتُ بنور الله حين وقفوا، وكنتُ أخفضهم صوتاً، وأعلاهم فوتاً فطِرتُ بعنانها واستبددتُ برهانها كالجبل لا تحرّكه القواصف، ولا تزيله العواصف لم يكن لأحدٍ فيّ مهمز ولا لقائلٍ فيّ مغمز، الذليلُ عندي عزيزٌ حتى آخذَ الحق له والقويَ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه.

رضينا عن الله قضاءه وسلّمنا لله أمره أتُراني أكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وآله؟ والله لأنا أوّل من صدَّقه، فلا أكون أول من كذب عليه، فنظرتُ في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا الميثاق في عنقي لغيري) (1).

هنا الإمام نفسه يمثل محور السرد في هذا النص الذي يبدو أنه متعدد .

ص: 60


1- ابن أبي الحديد 224/2.

الوجوه، وأنه - كما يرى أغلب شُرّاح النهج (1) - لم يكن في مقام واحد، وإنما جمعه الشريف الرضيّ من عدّة خطب فصيَّرَهُ كلاماً واحداً. ودليلنا على ذلك أن بدء الكلام لا يناسب نهايته، وإن كانت القضايا التي عالجها موصولة ببعضها كون محورها واحد؛ لأنها تتعلّق بشخصية الإمام وإيمانه وتصديقه وأحقيّته في الخلافة، فهو يُنبِتُنا في نهاية النص بأن ذلك كان مفاجئاً له، أي استخلاف سواه في إشارة إلى خلافة أبي بكر - كما أحسب - إذ أنه كان يرى أن بيعته أولى، وأن الميثاق يجب أن يكون له في عنق غيره لا العكس، وهكذا يبدو الإمام واضحاً في خطبه، مبيّناً غرضية هذه الكلمات من خلال إشاراته الدالة إلى شخصيته وكوامنها من علم وأرجحيّة إيمان وشجاعة وما يمتلك من خصائص ومميّزات تجعله مؤهَّلاً للقيام بأمر الخلافة خير قيام، وهكذا فإن (الخطاب ليس مجرد تعبير عن الذات، بل هو إضافة إلى ذلك، وربّما بعد ذلك، إنجاز وإنتاج لها) (2)، إذ أن قابلياته كما يراها تأتي من سلطة علوية أهّلتهُ لذلك وزودتهُ بكل إمكانات التفوّق، نرى ذلك من كثرة القضايا التي عرضت للخلفاء في حياتهم فكانوا يلجؤون إليه حتى وصل الأمر بالخليفة عمر بن الخطاب أن يكون دائم الترديد لكلمة أصبحت مشهورة (لولاك يا عليّ لهلك عمر) (3).

تتعالق الجمل في النص الذي ذكرناه آنفأ فيما بينها من خلال سرديّة إيضاحية لأن الباث أو السارد هو الذي يصنع الأحداث وهو محور السرد في الوقت نفسه، وقد بدت العبارات مستوفية هيكليتها التصويرية التي يصف بها حياته ومضبوطة غاية الضبط، في الوقت الذي تمثل في هذه الجمل السردية أسلوباً تحفيزياً للمتلقّي، زيادة على ما فيها من جماليات واقعية تجعلها أقرب إلى نفسية المتلقي. .

ص: 61


1- كما في شرح النهج للإمام محمد عبده وغيره من الشروح.
2- سياق التلفظ وقيمته في تحليل الخطاب، 57.
3- شرح ابن أبي الحديد 44/1.

أنماط السرد:

اشارة

يتّصف التعامل مع الزمن السردي في نهج البلاغة بمواصفات ربما لم تكن موجودة في غيره من الكلام المسرود؛ لأنه ( ... كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في جميع فنونه ومتشعّبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ و آداب ...) (1)، كما عبر عن ذلك الشريف الرضيّ، وهو بذلك أضاع فرصةً كبيرة على الباحثين، لأنه قال " مختار" وهذا يعني أنه عمد إلى النص الواحد فجعله أشلاء لينتقي منه ما يراه مناسباً على وفق مفهومه الخاص عن خطب النهج وبلاغتها، وهذا ما جعله جهداً، على الرغم من جلالته وعظمته، ناقصاً مبتوراً؛ إذ جعل من نفسه وذوقه حكماً يحذف ما يشاء ويبقي ما يريد وهذا، قطعاً، إجحافٌ علميَ بحق العلم وأهله.

إن ما يتّصف به التعامل مع الزمن السردي ما لا يغيب عن ذهن الباحث أن اقتطاع أجزاء من الكلام المسرود، يعني قطع الزمن السردي وعدم الاسترسال فيه، مما يترتّب على ذلك من تعطيل مفروض للزمن السردي فرضته عملية الاختيار للنصوص، مما أوجد مما أوجد سرودات مقتطعة تعيق عمل الباحث في هذا الباب، وتقف بوجه الصيرورة الزمنية المتكاملة للسرد وعدم وجود تراتبية فيه وفق نسق زمني متسلسل يفضي إلى النهاية المطلوبة.

وبالرغم من ذلك فإننا نستطيع أن نجد أو نتلمّس أنماطاً من السرد، مثّلت اشتغالات زمنية شغلها الخطاب السردي وهذه الأنماط هي:

1) السرد الاستذكاري (المختزل):

بما أن السرد يتصل بالزمن بوصفه يمثل مقطعاً زمنياً تجري فيه أحداث تُروى، فإننا ربّما نكون أمام (سرد استذكاري يتشكّل من مقاطع استرجاعية تحيلنا

ص: 62


1- مقدمة النهج للشريف الرضي 11، وما يعضد رأينا هذا، ذكر ابن أبي الحديد لتتمات كثيرة من الخطب التي ذكرها الشريف.

على أحداث تخرج عن حاضر النص لترتبط بفترة سابقة على بداية السرد) (1)، لكنها لا تخضع للتسلسل الحدثي الذي يستغرق زمنه السردي، إنما يمثل هذا السرد، هنا في الخطاب العلوي، تشكّلات سردية في مقاطع زمنية أسهم السارد في اختزال كثير من تفصيلاتها؛ إذ أن الخطاب السردي محكوم بغائية منطقية على العكس مما يرد في السرديات الأخرى (الرواية أو القصّة أو غيرها) التي يجري فيها ذكر شخصيات بعينها والأحداث التي مرّت بها، أو هي اختفت عن مسرح الأحداث ثم ظهرت مرّة أخرى بشكل جديد.

إن السرد الاستذكاري (المختزل) - كما سمّيناه - في الخطاب العلوي لم يكن لدواعٍ فنيّة أو جمالية في النص، وإن ورد ذلك فهو من عفو الخاطر نظراً للطبيعة الأدبية للنص، ومن حيث إن الكلام يشهد انزياحات تضفي عليه تلك الجمالية أو الفنية؛ إلّا أن ذلك لم يكن مقصوداً لذاته وإنّما تتم الإحالة إلى الأحداث السابقة للتذكير بموعظة والترهيب من عقاب والترغيب في ثواب؛ لأن النص السردي - أي نص - لا بد أن يحمل من صاحبه شيئاً كثيراً وإن كانت شخصيّته تختفي خلف الشخصيات المتحاورة في النص؛ ولأن النصوص النصوص السردية في نهج البلاغة هي تشكّلات سردية في مقاطع زمنية عانت من مقص الراوي الذي حاكمها وفق رؤيته الجمالية والذوقية هو لا رؤية النص نفسه، فإن الشخصيات التي يرد ذكرها في بعض النصوص، هي شخصيات معروفة للمتلقّين وقد مارست تأثيراً على نمط الحياة من حيث التفكير والتدبير، بل وأسهمت في تشكيل ثقافة المجتمع، وما زالت ذات تأثير فاعل في الساحة الفكرية والثقافية وحتى التشريعية؛ إذ أن أفعالها وأقوالها ما زالت تمثل منهلاً تشريعياً تسير عليه ملايين الناس، هذا في جانب، ومن جانب آخر لم يتم النص السردي العلوي - على الأغلب – باستحضار شخصيات بعينها، بل كان استحضار سير جماعات من البشر على وفق المنظور الديني، كانت في زمن سحيق، وتلك تمثل نقاط استذكار وعظيَّة، وبذلك فهو يلغي .

ص: 63


1- بنية الشكل الروائي، 119.

ما يسمّيه بعض النقاد (مدى المفارقة) (1) الذي يقصد به المدى الزمني المحدد الذي يدخل ضمن الاستذكار، مما يصبح من العسير تعيين المديات الزمنية التي عاشتها تلك الجماعات التي ربّما لم تذكر بالاسم، إنما بالإشارة إلى ما كانوا عليه وأصبحوا فيه من عظة وعبرة لغيرهم.

وتتجلّى البراعة الأدبية في السرد في إعادة صياغة تلك الأحداث وتوظيفها في سياق أدبي سردي بغية إنشاء تواصل حيّ بين الماضي والحاضر عبوراً إلى المستقبل غير المنظور من خلال المتلقّي بوساطة (ذكر أحداث حصلت قبل زمن السرد) (2)، ولعل هذا يفسر لنا هيمنة نمط السرد التتابعي في بناء الحدث في سرديات النهج، يقول في أحد المقاطع السردية:

( ... ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربةٌ سنّها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلّة حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول. أجمدها حتى استمسكت وأصلدها حتى صلصلت لوقتٍ معدود وأجل معلوم) (3).

هذا المقطع السردي من جملة مقاطع سردية انتظمت في نص طويل تحكي قصة الخلق من السموات والأرض والكواكب والملائكة و آدم وذريّته وإرسال الأنبياء، كل ذلك في زمن غير معلوم - للمتلقي على الأقل - فهو يبدأ بوصف الخالق عز و جل وبعده يباشر في السرد بقوله ( ... أنشأ الخلق إنشاءً وابتدأه ابتداءً، بلا رويّة أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركةٍ أحدثها، ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها ...) ويتخلل النص السردي توقفات يعرض فيها السارد مقاطع وصفية تنبئ عن وضع السارد وكأنه مطلع على كل شيء؛ إذ أن الانطلاق في السرد من بدء الخلق بهذا التفصيل معنى هذا أن السارد كان شاهداً على ذلك أو عالماً به؛ لأن النص .

ص: 64


1- بنية الشكل الروائي، 122.
2- مدخل إلى نظرية القصة - تحليلاً وتطبيقاً - 97.
3- ابن أبي الحديد 110/1.

السردي في صيرورته الكلية التي تتكون من أجزاء يدلنا دلالة أكيدة في أن هذا التسلسل في سرد أحداث الخلق يشير إلى حالة المشاهدة أو الإخبار الحقيقية، بل إن النص السردي العلوي يتناول في بنيته الجزئية فقرات كلامية، إذ أنّ موضوعية الخلق وتراتبية الخلائق حسب إيجادها تعد من مشكلات علم الكلام والفلسفة وللعلماء فيها كلام طويل لا يعنينا هنا.

إن طبيعة النص السردي العلوي تقوم على أكثر من صفة اتّصف بها فمن قصر العبارات إلى هذا الإثراء المشبع في مقاطع النص مع استغلالٍ لزمن السرد وكأنه يمسه مسّاً خفيفاً فهو لا يذكر الزمن بشكل مباشر ولا يتركه نهائياً.

وهو بعد أن يسرد لنا كيف بدأ الخلق ينتقل باستعماله أداة العطف (ثم) التي تعطينا هنا معنى زمنياً قد يتسع أكثر مما نتصور وقد يضيق أقل من ذلك، ينتقل إلى إنشاء الأجواء والأرجاء والهواء والأمطار والرياح وغيرها، كل ذلك في تراتبية عجيبة ينتقل فيها المتلقي إلى أماكن لا يستطيع تحديدها وإلى أزمنةٍ قد تفقد في أثناء ذلك حدودها فتصبح ضمن دائرة المطلق، وهو في هذا السرد المدهش ينقل المتلقي من حدثٍ إلى حدث من دون أن يشعره بهذه الانتقالات الكبرى على مستوى الخلق عن طريق توظيفه اللغة بما تملك من قواعد وصيغ وأصوات ودلالات (1)، وبما لا يجعل المتلقي إلّا منغمساً في أتون الإبداع.

وهو في هذا النص يضع أكبر جهد في المقطع الذي يتناول فيه خلق آدم وما تلا ذلك في إشارة واضحة إلى أهمية المقصد السردي على مستوى الخلق الإلهي بوصف الإنسان هو الذي يتولى إدارة الأرض وإعمارها في غائية لا يمكن إغفالها؛ إذ يستمر في سرده، قائلاً:

(رثم أسكن آدم داراً أرغد فيها عيشه و آمن فيها محلّته، وحذّره إبليسَ وعداوته، فاغترّهُ عدوّةُ نفاسةً عليه بدار المقام، ومرافقة الأبرار، فباع اليقين .

ص: 65


1- ينظر القرآن وعلم القراءة / 121.

بشكّه والعزيمة بوهنه واستبدل بالجذل وجلاً، وبالاغترار ندماً، ثم بسّط الله سبحانه له في توبته، ولقّاه كلمة رحمته ووعدهُ المردَّ إلى جنته، وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرّيّة، واصطفى من ولده أنبياء أخذَ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدّل أكثرُ خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقّه، واتّخذوا الأنداد معه واجتالتهم الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته. فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيَّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة: من سقفٍ فوقهم مرفوع ومهادٍ تحتهم موضوع ومعايش تحييهم، وآجالٍ تفنيهم وأوصاب تهرمهم، وأحداثٍ تتتابعُ عليهم ...) (1).

وهذا يعني أن السرد في نهج البلاغة لم يكن يسعى إلى إحداث المتعة والتسلية لدى جمهور المتلقِّين إنما كان يدور في فلك غايات أخلاقية ودينية، يرى من واجبه (السارد) أن يبثّها للجمهور لكي يسهم في تحصيل مفهوم أخلاقيّ انضباطيّ لما يريده الخالق عزَّ وجلّ، ولكي يمارس من وراء ذلك سلطة التوجيه للمجتمع باتجاه الانعتاق من المادة، والتوجّه إلى مقصديّة الخلق من خلال الاتباع الحقيقي والانصياع الكامل للنبوّات بوساطة التنبيه على جدية الخلق والهيمنة الربانية على ما فى هذا الكون، وقد كان لاستعماله الجمل القصيرة التي تمثل في هذا النص ثوابت لا يمكن القفز فوقها، أثّر في توجيه المتلقي والنقر على أسماع الناس للعودة إلى جادة الصواب والحق.

إن ممارسة عملية السرد لوقائع حدثت في أزمنةٍ غابرة تتصف بأنها تعتمد على بعدين في السرد أولهما؛ أن هذه الوقائع والأحداث يمكن سردها في أزمنة متعددة وأمكنة متعددة، وثانيهما أن السارد لها لا يمكن أن يعتمد على روايات غير صحيحة، أو مشكوك فيها أو أنه يوغل في تفاصيل لا يقبلها ذهن المتلقّي، من حيث أنه (السارد) لا يريد أن تتحول تلك الحقائق التي وقعت في زمن ما إلى وقائع تميل .

ص: 66


1- ابن أبي الحديد 114/1د.

في سردها إلى الجانب الخرافي بما يشحنه فهم العامّة الناقص الذي يميل إلى المبالغات الساذجة، إنما أراد لها أن تبقى في دائرة الواقع الممكن للتأثير على سلوك الفرد والجماعة في إبقاء الارتباط بالدين قوياً؛ لأن السارد هو في الوقت ذاته حاكمٌ سياسيّ ودينيّ؛ إذ يرى أن ذلك من صلب المسؤولية تجاه الناس، في توجيههم وتربيتهم وتعليمهم، فيقول في نصّ سرديّ آخر:

( ... جعل نجومها (1) أعلاماً يستدلُّ بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار، لم يمنع ضوءَ نورها ادلهمامُ سُجُفِ الليل المظلم، ولا استطاعت جلابيب سواد الحسنادس أن تردَّ ما شاع في السموات من تلألؤ نور القمر، فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسقٍ داجٍ ... أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش، وأسبغ عليكم المعاش، فلو أن أحداً يجد إلى البقاء سلَّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الذي سُخَّرَ له مُلكُ الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة، فلما استوفى طعمته واستكمل مدَّته رَمَتهُ قِسِيّ الفناء بنبال الموت وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة، وورثها قومٌ آخرون ...) (2) وبعد أن سرد قصة أنموذج الخير وكيف كانت نهايته مع ما له من الحظوة الإلهية والملك الدنيوي، جاء بأنموذج معاكس للأول فقال ( ... وإن لكم في القرون السابقة لعبرة! أين العمالقة وأبناء العمالقة، أين الفراعنة وأبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيين، وأطفؤوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين أين الذين ساروا بالجيوش وهزموا الألوف، وعسكروا العساكر، ومدّنوا المدائن! ...) (3).

إن هذه الضديّة في السرد تنشئ علاقات تواصلية مع المتلقي، وتشيع فيه الثقة التي يجب أن تبنى بين السارد (الحاكم) وبين المتلقي (المحكوم)، لأجل بيان .

ص: 67


1- يقصد السموات.
2- ابن أبي الحديد 69/10.
3- المصدر نفسه 74/10.

الحاجة إلى مسألة يسهم في صنعها الطرفان، ألا وهي محاولة إعادة تنشئة الجمهور على وفق ما يراه السارد من وجهة نظر موضوعية تتعلق بالبناء الأخلاقي للمجتمع، لأن مفهوم السرد من دعاماته الأساسية أن يكون عرض النص السردي من قبل السارد بأشكال متعددة (1)، فكيف إذا تعددت الأحداث في النص الواحد، هذا يضفي على العملية بعداً آخر زيادةً على البعد الاستذكاري، وهو البعد الزهدي الذي يقوم على أساس المناظرة بين ما هو واقع منظور وما هو ماضٍ سحيق، مما يؤجج الحالة الانفعالية لدى المتلقي التي من روافدها التوقع والخوف والفزع (2)، وهذا ناتج عن ممارسة الشد الفني من قبل السارد والانتهاء به إلى الغاية المطلوبة.

لقد كان لسرد الأحداث دون النظر إلى تراتبية حدوثها أو الأخذ بنظر الاعتبار زمنها أي أن السارد لا يقيم وزناً لزمن الحدث، أو أنه حينما استعرض الأحداث ليس على سبيل التعاقب الحدثي أو التسلسل الزمني، وإنما يجري تشكيل الأحداث وفق رؤيته هو، فحين ذكر العمالقة، عرج على الفراعنة ثم أصحاب الرس، والكل قد اختلفوا مكاناً كما اختلفوا زماناً، وهذا لا يعني أن ذكرهم هكذا يدل على تسلسل زمني، كما أن ذكر النبيّ سليمان علیه السلام قبل هؤلاء لا يدل على أنه قد سبقهم زمناً؛ لأنّ (في السرد ينكسر الزمن يتحرر من خَطِيّته، وعليه فالأحداث لا تتوالى ... بل تتقاطع وتتزامن وفق رؤية السارد) (3) الذي يركّبها كما يريد هو في بنية سردية غير خاضعة لزمن معيّن، وبذلك فهو يصبح بعمله هذا سارداً تسجيلياً للأحداث، وهذا لا يعني أن تغييراً كبيراً أو لافتاً للنظر لم يحدث على طبيعة تلك الجماعات أو الشخصيات التي تتناوب في السرد، بل إن هناك إشارات يوردها السارد تمثل في العرف السردي محصلة نهائية للعملية السردية أو الغاية التي تنتظم عبر الإشارات السردية، يقول الإمام في نص آخر:

( ... ولقد قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وإنّ رأسه لعلى صدري .

ص: 68


1- ينظر: في بنية الخطاب السردي، 45.
2- ينظر: بناء الرواية، 3 وما بعدها.
3- تقنيات السرد الروائي، 100.

ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي، ولقد وُلِّيتُ غسله - صلى الله عليه وآله - والملائكة أعواني فضجّت الدار والأفنية، ملأٌ يهبط، وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم، يصلّون عليه حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحقُّ به منّي حيّاً وميِّتاً؟ فانفذوا على بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوّكم، فوالذي لا إله إلّا هو إني لعلى جادة الحق، وإنّهم لعلى مزلّة الباطل، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم) (1).

في هذا النص السردي، يبدو الزمن قريباً، وإنّ كثيراً من المتلقِّين قد عاشوا لحظته الزمنية التي وقع فيها الحدث، وهو حينما يستعيد هذه الأحداث يعد نفسه محورها الرئيس، وحين يرسم هذه الصورة التي تم فيها الحدث، إنما يشير إلى الثراء المعنوي الذي لم يتح لأيّة شخصية أخرى ولاسيّما وهو يشير إلى أحداث متداخلة جزئية، تؤلف الحدث الأكبر الذي هو وفاة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم بما يعزز الفكرة التي ما فتئ يدافع عنها ولم يترك مناسبة واحدة إلّا وأشار إليها، من أجل أن يجعلها حقيقة ثابتة لن يختلف عليها اثنان فتراه ينهي النص السردي باستفهام إنكاري، يتضمّنُ المعنى الذي يمكن أن يستله القارئ من بين حروف الكلمات، أن لا أحد هناك أقرب إلى نهج النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم منه، زيادة على أن النص السردي يكشف عن تفاصيل ذات مساس بحياة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم لم يذكرها بهذا التفصيل أحد غير الإمام (السارد)، من هنا فإنَّ النص يتفتح على تأويليّة خصبة في فهم أبعاده الفكرية في ضوء القرائن الماثلة في بنية النص، خاصة وأن السارد يشير إلى أنه على الحق بعد القسم الذي يقسم، وهذا يعني أن إقامة الحجة على المتلقين ماثلة للعيان.

إنّ المساحة المكانية والزمانية التي يشغلها السرد في الخطاب العلوي لیست بذات الأبعاد التي يمكن أن تحسب بالسنين أو الأيام أو الشهور؛ لأن الصيرورة الزمنية للسرد في الخطاب العلوي تنفتح أفقياً وفق مديات غير منظورة، وعمودياً ضاربةً جذورها في عمق التأريخ الإنساني، وهذا بحد ذاته، يعد إبداعاً على .

ص: 69


1- ابن أبي الحديد 140/10.

المستوى السردي، كما أن اضمحلال الحساب الزمني يوضح لنا طبيعة التداخلات السردية التي لا تعرقل حركة الخطاب السردي وإنما تسهم في تعزيزها، كما نرى ذلك في النص الآتي:

(الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر الدال على قِدَمِهِ بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده وباشتباههم على أن لا شبيه له ...) (1) ويستمر في سرد وصفيّ للذات الإلهية المقدسة وبيان وحدانيته التي يسرد عليها البرهان تلو البرهان، وانتقاله مباشرةً إلى مقطع سردي في وصف النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ثم ينتقل في سرد يتَّخِذُ مساراً آخر لا يتّسقُ وما بدأ به فيقول في وصف النملة:

( ... انظروا إلى النملة في صغر جثّتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر كيف دبَّت على أرضها وصُبَّت على رزقها تنقل الحبة إلى جحرها وتعدّها في مستقرّها ... ولو فكّرت في مجاري أكلها، وفي علوّها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً ... ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلّتك الدلالة إلّا على أن فاطر النملة هو فاطر النحلة لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حيّ ...) (2).

إن هذه الانتقالات السردية التي تنتظم عبر النص، تمثل نقاط ارتكاز يتوخى من ورائها السارد البرهنة على أن الوحدانية هي للخالق الأوحد الفرد الصمد، أولاً، وثانياً، أن هذه التفرعات السردية، تثبت جدلاً، إمكانية السارد في التحول من نقطة إلى أخرى بانسيابية تامة وكونها تداخلات سردية لا تعرقل أو توقف حركة الخطاب السردي، إنما يمثل ضرورة في تفعيل الخطاب السردي وبيان أهمية هذه التداخلات التي تضفي على حركة الخطاب فاعلية أكثر وتزيد من خصوبته، كما أنه يعطي .

ص: 70


1- المصدر نفسه 35/13.
2- ابن أبي الحديد 43/13.

دلالات على مستوى النص السردي ككل.

(2) السرد التنبُّؤي (الغيبيّ):

استعمله الدكتور حسن بحراوي بعنوان (السرد الاستشرافي) (1) يعني (الدلالة على كل مقطع حكائي يروي أو يثير أحداثاً سابقة عن أوانها أو يمكن حدوثها) وأبرز ما يتّصف به هذا النوع من السرد (أن المعلومات التي يقدّمها لا تتصف باليقينية) (2) على العكس مما نراه نحن هنا في نصوص نهج البلاغة، فالسرد التنبؤي (الغيبي)، قد امتاز عن غيره بأنه يتصف باليقينية التي لا تشوبها شائبة، بل إن السارد الذي هو الإمام علي علیه السلام كثيراً ما ينص على أن ما يخبر به عن المستقبل إنما هو علم يقيني تعلّمهُ من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ودعا له بأن يعيه صدره وتضطم عليه جوانحه (3)، وكما يقول هو عن نفسه (تاللهِ لقد عُلِّمْتُ تبليغ الرسالات وإتمام العدات وعندنا - أهل البيت - أبواب الحكم وضياء الأمر) (4)، وهو يعني بذلك أنه لديه علم تحصيلي لم يكن لأحد أن يحصل عليه إلّا أن يكون قد استوفي شروط التحصيل التي استوفاها هو؛ إذ يشير إلى ذلك في سردية أخرى فيقول ( ... وليس كل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من كان يسأله ويستفهمه ... وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلّا سألته عنه وحفظته) (5) فهو يذكر أنه كان يسأله عن كل شيء وما إن يخبره الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم بشيء إلّا وحفظه، وهذا النص السردي يتواءم مع النص الذي أشرنا إليه آنفاً من أن النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد دعا له بالنباهة والحفظ.

تمثل التطلعات إلى حركة الزمن في تأدية وظيفته على وفق ما يرى السارد أو يتمنّاه أهم وسيلة من وسائل السرد التنبّؤي؛ إذ أن حركة الزمن المستقبلية - من

ص: 71


1- بنية الشكل الروائي، 132.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- ابن أبي الحديد 100/8.
4- المصدر نفسه 224/7.
5- المصدر نفسه 33/11.

وجهة نظر السارد - تحمل في طياتها تغييرات جوهرية تحمل المتلقي على التوقع أو الانتظار لما سيحصل مستقبلاً سواء كان ذلك على المستوى الشخصي، أم على مستوى المجتمع، فمما يرد على المستوى الشخصي، نجد أن النص السردي الآتي يحمل في طياته جزءاً من أمنيات السارد التي هي في نظره حقائق ملموسة ستجد صداها عند بعض الناس، فيقول:

(وأيمُ اللهِ لتجدنُ بني أمية أرباب سوء بعدي، كالناب الضروس، تعذم بفيها، وتخبط بيدها وتزبن برجلها وتمنع درّها لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلّا نافعاً لهم، أو غير ضائرٍ بهم، ولا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا كانتصار العبد من ربّه والصاحب من مستصحبه ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، وقطعاً جاهلية، ليس فيها منار هدىً ولا علمٌ يرى.

نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة، ثم يفرّجها الله عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفاً ويسوقهم عنفاً، ويسقيهم بكأس مصبّرة، لا يعطيهم إلا السيف ولا يجلسهم إلا الخوف، فعند ذلك تودّ قريش - بالدنيا وما فيها - لو يرونني مقاماً واحداً، ولو قدر جزر جزور، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونيه!) (1).

في هذا النص السردي إشارة واضحة إلى أن أمر الخلافة ستنتهي إلى بني أمية من بعده علماً أنه في تلك الحال كان على رأس الخلافة وما زال يقاتلهم، إلاّ أنه يذكر هذا الأمر بصراحة، ويسرد وصفاً دقيقاً للخلافة الأموية، إلى أن ينتهي الأمر بانقلاب الناس عليهم وبمن يقابلهم العنف بالعنف والقتل بالقتل، وحينذاك، تتمنى قريش أن يروه ليعطوه ما هو أحوج إليه اليوم في خلافته ليقيم العدل وينشر السلام والأمن بين الناس، وهكذا نرى أن السارد - الإمام - يقيم النص السردي التنبؤي على أكثر من قاعدة؛ لكي يجعل المتلقي في دائرة المحاسبة والتوقع على حد سواء، إلّا أن المجتمع لم يخرج بعد من النمط البدوي القائم على الأنوية القبلية 7.

ص: 72


1- ابن أبي الحديد 36/7.

التي تسد عليه منافذ الوعي وتمنعه من التحاور مع ما يعرضه الإمام - السارد - من أحداث مستقبلية.

تشير الجمل الأخيرة في النص السردي التنبؤي الذي ذكرناه قبل قليل، إلى إشكالية الفكرة لدى القبيلة (قريش) هل هي قريش الواقفة على قمة السلطة ممثلة بشخص الإمام بوصفه من قريش ومن يتبعه منهم، وهذا لا يتساوق مع مفهوم السرد الذي تشير إليه الأحداث المتوقعة، أو قريش المتمردة ممثّلة ببني أميّة ومن يتبعهم من القرشيين، وهو ما يمكن أن ينسجم مع الفكرة التي تشير إليها الجملة الأخيرة من النص السردي ( ... لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونيه ...) فما يطلبه هو الطاعة كونه الخليفة الشرعي ولا يحق لأحد منازعته.

وقد يذهب السرد التنبّؤي في مسرودات نهج البلاغة مذهباً آخر في تثبيت حقائق تعد مشوّشة في نظر بعضهم من ذلك ما ذكر عن أحد أصحابه قال له في معركة الجمل (وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك فقال الإمام: أَهَوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سیرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان ...) (1).

ينتظم النص عبر حوار سردي بين الإمام وصاحبه حتى ينتهي الأمر إلى تثبيت الحقيقة المشوشة بوساطة التنبّؤ وجعلها عامة وليست خاصة لشخص معين مما يعني أن السرد التنبّؤي ينهض بوظيفته الإرشادية إلى أن هذا المنهج لن يكون منقطعاً، وأنه يمثل حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها ولاسيّما أن الجملتين تحملان من الإيحائية السردية التي تشي بالغلبة وإن كان ذلك بعد حين.

إن السرد التنبّؤي في نصوص نهج البلاغة نلحظ فيه تحوّلات تتناسب والمقام الذي يرى السارد فيه أهمية عرضه للمتلقي؛ لأن مسألة الإخبار بما سيحدث مستقبلاً لا تعد من مهمات الحاكم، إذ أن الحاكم أو الخليفة ليس مجبراً 1.

ص: 73


1- ابن أبي الحديد 232/1.

أن يخبر الرعية بأحداث مستقبلية، إلّا أن يكون هذا الحاكم أو الخليفة يعدّ نفسه حاكماً إلهياً أي أنه يحكم باسم السماء، إذ يرى الإمام نفسه أنه الحاكم الحق الذي جرى تنصيبه ليس فقط بإجماع الناس عليه، وإنما ما ورد من أحاديث وإشارات فضلاً عن الآيات القرآنية التي تشير إلى أهمية وجوده على قمة السلطة بعد النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم وعليه فهو في أثناء السرد بعد أن كان يلح على مجموعة المتلقين بأن يقول (سلوني قبل أن تفقدوني) (1) (يقول ... ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور، وحوازب الخطوب، لأطرق كثير من السائلين، وفشل كثير من المسؤولين ...) (2).

وبذلك فهو يؤسس لفكرة مقدسة في نظره، وهي أن هذه العلوم لا يمكن أن يكون لها محصول يقيني إلّا عن طريقه، أو ممَّن هم على شاكلته، زيادة على أن التكوين النفسي للشخصية يُعَدّ ذا أثر كبير في مسألة السرد التنبؤي، إذ أننا نجد في أثناء مسرودات نهج البلاغة إيحائية بأن هذه الأحداث ستقع - يقينيّاً - لا على سبيل الفرضية أو التوقع غير المرتبط بإدراك السارد لما يتفوّه به، فهو دائم التركيز على أن ذلك لم يكن ولن يكون من قبيل الرجم بالغيب، وإنما هو علمٌ تعلَّمهُ من رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهو يقسم على ذلك مرّات عدّة كما في نصّه السردي الآتي:

(والله لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ َبرسول الله صلى اله عليه و آله ...) (3).

إن السرد التنبّؤي - من وجهة نظرنا - يمثل انتهاكاً للحاجز الزمني أفقياً والاطلاع على مجريات الأحداث كمشاهدة الواقع أو المعاينة على وجه الحقيقة ليس تصوراً تغيب عنه التفاصيل الكثيرة؛ لأن إطلاق هذه الكلمة بصدد إخبار المتلقين - لكل فرد منهم - عن مخرجه ومدخله وجميع شأنه، يمثل اطّلاعاً يقينياً لا ترقى إليه المعارف الوضعية، ولا يدانيه الشك، إنما ينتقل إلى مصاف التطلع .

ص: 74


1- المصدر نفسه 36/7.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- ابن أبي الحديد 11/10.

السماوي المقرون بالفيض الإلهي، خاصة إذا قارنّا ذلك بما يصفه السارد بأنه أمر الهيّ له في قوله:

(ألا وقد قطعتم قيد الإسلام، وعطّلتم حدوده وأمتَم أحكامه، ألا وقد أمرني ربّي بقتال أهل البغي والنّكث والفساد في الأرض، فأما الناكثون فقد قاتلت وأما القاسطون فقد جاهدت، وأما المارقة فقد دوَّخت، وأما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقةٍ سمعت لها وجبة قلبه ورجّة صدره ... وقد علمتم موضعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ... ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، اء فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوة ...) (1).

إن هذا التركيز في السرد على الطبائع الشخصية ومكوناتها والتأثيرات الخارجية التي تنتمي إلى المحيط المقدس، أدت نتيجة الممارسات العملية المنضبطة، إلى صياغة نفسية تمتلك رؤية عميقة تجعلها قادرة عن طريق التوظيف الصحيح لما تعلّمه في المدرسة النبوية الصافية على استقراء المستقبل والتنبؤ بمجريات الأحداث التي تعني من ضمن مكوناتها، تعدو الأمكنة والفضاءات، والشخوص وبناء على ذلك، فإن زاوية النظر في هذه الأحداث لن تكون محدَّدة بمكان دون آخر، وأن الزمن لن يكون متقطّعاً في السرد - كما يرى بعض الباحثين الغربيين. (2)، بل سيكون تداخلاً بين الزمان والمكان والحدث، ولو عدنا إلى المقطع السردي ( ... مخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ...) لوجدنا أن (مخرجه ومولجه) .

ص: 75


1- المصدر نفسه 148/13.
2- ينظر: بنية النص السردي 63.

مكان وزمان متداخلان، و (جميع شأنه) مجموعة أحداث تتداخل مكانياً وزمانياً أيضاً، ينتج عنها استشراف مستقبلي يراه السارد - الإمام - بشكله الواقعي المتحقق؛ لأن تصور الفضاء السردي لا يمكن أن يحصل دون تصور الحركة التي تجري فيه (1).

وكما يراه على مستوى الفرد يراه على مستوى الجماعة، يقول في نص سردي تنبّؤي آخر مخاطباً الأحنف بن قيس أحد زعماء قبائل بني تميم آنذاك، وقد عرف هذا الرجل بالحلم، ومن خلاله إلى أهل البصرة بوصفه وجهاً من وجوهها البارزين:

(يا أحنف كأني به - شخص لم يذكره - وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام ويلٌ لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم ...) (2).

نرى أن السرد في هذا النص في الوقت الذي يسرد فيه حادثة كبرى يتنبّأ بحصولها، إلا أن النص يتغاضى عن التفصيلات الدقيقة، ويتناول الحدث الأكبر فيشير إلى أبرز معالمه (المكان،الفاعلون النتائج)، أما الزمان فلا مشاحَّة أن الحدث يتداخل مع الزمن في حالة حدوثه في فضاء مكاني معين - كما أسلفنا - فإن البعد المكاني في فضاء الحدث السردي سيكون عمودياً على البعد الزمني المنفتح أفقياً أمام السارد - الإمام - في سرده التنبؤي فهو بمثابة من يقرأ كتاباً مفتوحاً، ويمكن تخيّله بالرسم الآتي: 8.

ص: 76


1- ينظر: بنية النص السردي 63.
2- ابن أبي الحديد 100/8.

الصورة

إن تغاضي النص السردي في النهج عن بعض التفصيلات - أحياناً - ليس من قبيل عدم المعرفة - من وجهة النظر المحققة - وإنما لجعل المتلقي متلهّفاً لتفصيلات ذلك ودفعه باتجاه التساؤل، أو هي محاولة من السارد لجعل المتلقي متمسّكاً به لأنه يمثل الباب أو المدخل الذي يمكن أن يلج من خلاله إلى أشياء كثيرة تعد في عرف المتلقي غيباً، وعند مراجعة النص السابق نجد أن السارد قد مارس عملية تلخيص للأحداث أو ما اصطلح عليه عند الباحثين تسريع السرد الذي يعنون به الاستعراض السريع لأحداث مضت (1)، إلّا أنه - أي السارد - مارسه هنا في أحداث مستقبلية؛ لأنها - كما أسلفنا - واقع منظور لديه؛ لأن المصداقية التي ينتظم الخطاب السردي عبر وسائلها المبثوثة في ثنايا الخطاب، تثبت للمتلقي واقعية السارد وثقته في وقوع تلك الأحداث، ففي إحدى نصوصه السردية التي يخبر بها عن أمور مستقبلية، يقول مشيراً إلى أن ما يسرده هو علم عن رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم و أنه لم يكن كذباً ولا جهلاً، إنما حقيقة ثابتة:

(أيها الناس لا يجرمنَّكم،شقاقي، ولا يستهوينّكم عصياني ولا تتراموا بالأبصار عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إن الذي أنبّئكم به عن النبي الأميّ صلى الله عليه وآله، ما كذب المبلّغ، ولا جهل السامع، لكأني 5.

ص: 77


1- ينظر: صنعة الرواية 63، بنية الشكل الروائي 145.

أنظر إلى ضلّيل قد نعق بالشام وفحص براياته في ضواحي كوفان ...) (1).

بدأ الخطاب بأسلوب النداء، والمنادى (الناس) ويبدو لي أن اللفظ عام، كما أن السارد - الإمام - عطف بجمل إنشائية لبيان حالة المتلقين حين سماعهم النص السردي وما ينتابهم من الدهشة والاستغراب لحظة السرد التنبّؤي، وفي رأينا أن هذه الحالة تنمُّ عن تعجب ممزوج بالتلهف لرؤية ما سيقع من أحداث؛ لأن عملية السرد جاءت بعد القسم المؤكد برفع شبهة الكذب اعلان المبلغ (النبي صلی الله علیه و آله و سلم) وشبهة الجهل عن السامع (الإمام نفسه) وجاء بالجملة (لكأنِّي أنظر ...)، هذا يعني أن السارد - الإمام - يسرد حقائق يراها من حيث هي واقعة لامحالة، كما أن عنصر المفاجأة لم يغب عن السرد، وإن كان ذلك غير وارد له هو - كما نرى - فهو يقول بعد أن يستعرض الحدث:

( ... فإذا فغرت فاغرته واشتدت شكيمته وثقلت في الأرض وطأته، عضَت الفتنة أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها، وبدا من الأيام كلوحها ومن الليالي كدوحها ...) (2).

إن هذا التحول في السرد التنبؤي على مستوى الحدث، لا يمثل انتهاكاً للزمن السردي، أو البنية الزمانية التي تحتوي الحدث، وإنما يمثل إشارة إلى التشظّي الحدثي والتشعّب الذي هو جزء من بنائية السرد ومكونات الحديث؛ إذ أننا نرى تحولاً آخر مباشرةً في السرد فيقول:

(فإذا أينع زرعه وقام على ينعه و هدرت شقاشقه وبرقت بوارقه عقدت رايات الفتن المعضلة وأقبلن كالليل المظلم والبحر الملتطم ...).

إن النص السردي التنبؤي، مع احتوائه على عنصر المفاجأة، أو ما يمكن أن نسميه افتراضية الحدث، لا يتضمّن لحظةً زمنيةً خارج تلك التي يستعيرها من قراءته 7

ص: 78


1- ابن أبى الحديد 76/7
2- ابن أبي الحديد 76/7

الخاصة (1)، وعليه، فإن زمنية التلقي لا تختلف عن زمنية الواقع الذي يحتوي الحدث، بالرغم من أن الميزة الأساسية للزمن في السرد إنما تتمثل في بنيته

المعقدة، وهي التي تتيح للسارد أن يقف خارج الزمن الطبيعي الذي يجري تقطيعه على يدي السارد - الإمام - تلبية للحاجة القائمة التي يراها هو؛ إذ أن هذا التقطيع للأحداث الذي يقوم على وصف ما يجري كما في المقطع [ ... فإذا فغرت فاغرته ...] والمقطع [ ... فإذا أينع زرعه وقام على ينعه ...] لا بد أن يفضي إلى نتيجة وجب على السارد - الإمام - أن يعرضها بأسلوبه هو وكما يراه مناسباً، وهنا يتردد ذكر المكان الذي سيكون مسرحاً للأحداث ومكاناً للفعل المستقبلي.

لقد تمثل في هذا النص الانتقال من مشهد إلى آخر، وقد استطاع السارد - الإمام - من تلخيص الأحداث، رغم أن ذلك يحصل في تلك التي تكون قد حدثت بالفعل في زمن مضى، أما على صعيد السرد التنبّؤي الذي يشير السارد إلى أنه سيحصل في المستقبل فقد كان افتراضاً، إلا أن السرد في نصوص نهج البلاغة قد ضم هذه الميزة رغم أن ذلك يدخل في زمن تخيّلي (2)، زيادة على الانتقال المشهدي في المقاطع السردية، وهذا بحد ذاته يُعَدّ إنجازاً متقدّماً على مستوى السرد الشفوي الذي كان يمثل جزءاً من الخطاب السردي القائم على حضور المتلقين أو ما يسمى بالخطاب المباشر.

3) السرد الحكائي:

يمثل هذا النمط السردي في الخطاب العلوي جانباً من التنوع الذي يظهر في نهج البلاغة؛ إذ أن هذا التنقل السردي في النهج يعد من الظواهر اللافتة للانتباه بما يمثله من قدرة على السبك الحكائي واستعمال الألفاظ بشكل يؤدي ما يريده السارد في أقصر نص ممكن من دون أن يخل ذلك ببنائية النص، أو أحد عناصره الأساسية التي يقوم عليها.

ص: 79


1- ينظر: بنية الشكل الروائي 194 والرأي لجيرار جينيت.
2- ينظر نفسه 145 والرأي للألمانية كيت همبركر.

إن استعمال السرد الحكائي في الخطاب العلوي، دليل آخر على التمثل لمظاهر الكلام السردية كافة؛ لأجل إيصال ما يريد السارد إلى المتلقي بشكل أفضل.

إن السرد الحكائي يعد جزءاً من الخطاب التأريخي التقليدي؛ لأنه ينهج في بنياته اللفظية معتمداً على الأفعال الماضية - غالباً - بدلالتها النحوية (1)، وإن كان السارد قد عاش تلك الأحداث إلّا أن الحكاية تعتمد الفعل الماضي باعتباره التجسيد الحقيقي لزمنها نجد ذلك واضحاً في أكثر من حكاية سردية يوردها السارد - الإمام - بوصفه راوياً ثانوياً وليس رئيساً؛ إذ أن السرد الحكائي مرتبط بأهداف يحددها السارد الثانوي لأنه يراها من وجهة نظره تهم المجموع لأنه يمثل الشخص المسؤول الأول عن حماية الجماعة، فمرّةً يسرد الحكاية مبتدئاً بأسلوب تهكمي ممزوج بالألم إذ يقول:

(ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها إن لم تكوني إلّا أنت تهبّ أعاصيرك فقبَّحك الله ...) فهو قد انتقل هنا من خطاب الغيبة إلى خطاب الحاضر، وفي ذلك من التهكّم ما لا يخفى على المتلقي وبما يشي بالألم، ثم يسرد الحكاية:

(أنبِئتُ أن بسراً قد أطلع اليمن وإني والله لأظُنّ أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعبٍ لخشيت أن يذهب بعلاقته ...) (2).

وهكذا تكون النهاية للحكاية السردية مفتوحة على احتمالات شتى وإن كانت تكملة الحكاية دعاء على هؤلاء، إلا أن ذلك لا يفيد موضوعة السرد الحكائي بشيء - من وجهة نظرنا - وهو قد استعمل الفعل الماضي، حتى في الصيغ 1.

ص: 80


1- ينظر: تحليل الخطاب الروائي 145.
2- ابن أبي الحديد 303/1.

الأخرى مثل [اجتماعهم تفرقكم معصيتكم طاعتهم، أدائهم، خيانتكم صلاحهم فسادكم] فهي قد جاءت من أفعال ماضية، كما أنه قد استعمل الفعل المضارع حين عبر عن قضية مستقبلية، فضلاً عن أنه أفاد في السرد من الفعل الماضي (أنبِئتُ) وهذا يعطينا معنى حكائياً في السرد يدخل في مفهوم الإبلاغ والإخبار أو ما اصطلح عليه (الإيصال) (1)، على أن هذا التكثيف في المدلولات السردية التي ترد في أثناء الحكاية، ينم عن خوف حقيقي على مصير الخلافة أو الدولة التي تتبنى المنظور الذي يتبناه الإمام - السارد الثانوي - .

وهذا المفهوم يرد في أكثر من حكاية نجدها في نصوص نهج البلاغة؛ يقول في معرض خطاب له، إذ تأتي الخطابة متداخلة في كلام أشمل منها وكأنها الشاهد على ما يقول:

( ... فهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقُلُبَها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجل منهم كلم ولا أُريقَ لهم دم، فلو أن امراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً ...) (2).

وبعد ذلك يتحول من السرد الحكائي إلى الخطاب العام الذي يستعرض حالة الناس، وهذا لا يعني تفكك أجزاء الكلام بعضها عن بعض، إنما هناك سداء تلتحم عليه أجزاء الكلام في وشائج تنطق عن المعنى المطلوب، كما أن تحديد الرؤية لدى المتلقي يكمن في الطبيعة الاستفزازية التي ينتظم من خلالها النص السردي، ونتيجة لذلك، سيكون هناك هاجس التأنيب لدى المتلقي لعلّ عن طريق ذلك، يستطيع السارد - الإمام - أن ينقله إلى الموقع الذي يراه مناسباً - من وجهة .

ص: 81


1- مستويات التعبير في ألف ليلة وليلة، أطروحة دكتوراه، 13.
2- ابن أبي الحديد 61/2.

نظره - لأن مستوى الثبات والتغير في الموقف السردي، منوط بالسارد نفسه، بما يمثله من قوة السلطة. وفي حكاية أخرى، نجد تكثيف الفكرة بشكل مركزي جداً، والبناء اللفظي يخرج عن الدائرة السابقة، فيقول في خطابه للخوارج:

(فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم قد طوحت بكم الدار واهتبلكم المقدار ...) (1).

إن بناء الخطاب السردي في هذه الحكاية القصيرة جداً، يرتكز على اللفظة (نذير) التي تعطي مصداقية الفعل في الوقت الذي تحمل فيه مصداقية القول، كما أنها صيغة مبالغة جاءت من الفعل الماضي، زيادة على أن تكرار الإشارة إلى المكان المحتمل تحمل في طياتها، إنذاراً حقيقياً لهذه الجماعة، وإن كان الخطاب تشم منه رائحة السلطة، إلا أنه لا يعني البغض والشماتة بأنهم ليسوا أقوياء في موقفهم، كما لا يعني القمع، إنما يعني التنبيه والتحذير على سبيل الواجب الذي يشعر به الحاكم تجاه رعيته.

وفي نص آخر ينتظم السرد على موضوعة العدل والمساواة، مما يجعله يطيل السرد في تفصيل أكثر من سابقاتها من الحكايات وهذا يعني أن السارد يدرك الأهمية القصوى للسرد الحكائي وما يتطلبه من إيجاز أو إطناب بحسب ما تفرضه ظروف السرد فيقول:

(والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من برّكم صاعاً ورأيتُ صبيانه شعث الألوان من فقرهم كأنما سُوِّدت وجوههم بالعظلم وعاودني مؤكداً، وكرّ عليّ القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي فظنّ أني أبيعه ديني واتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضح ضجيج ذي دنف من المها، وكاد أن يحترق من ميسمها فقلت له، ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئنّ من 2.

ص: 82


1- ابن أبي الحديد 210/2.

حديدة أحماها إنسانٌ للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه، أتئنّ من الأذى، ولا أئنّ من لظى ...) (1).

إن التسلسل الحدثي في النص السردي الحكائي لا يعني أنه يأتي اعتباطياً، وهذا التفصيل في بعض الحكايات لا يعد إثراءً في غير محله، بل إن الفكرة التي لا بد للحكاية أن تؤديها إلى المتلقي تمر عبر هذه القنوات اللفظية على وفق تسلسل حدثي معين؛ إذ أن هذه الحكاية تنتابها أحداث عدّة، حتى تصل إلى عقدة الحكاية، حينما يقوم الحوار مقام السرد في الجملة ( ... فقلت له، ثكلتك الثواكل يا عقيل ...)، إن هذا الاستتباع الذي يؤدي إلى إعلان ما يمكن أن يسمی (تشكل الصورة) (2)، ينبع من أهمية إدراك التشكيل اللفظي للسرد الحكائي في منظومة بلاغية غايتها تكثيف المعنى بإيحائية ظاهرة، ووفق رؤية سردية يراها السارد - الإمام - أنها تقوم بمهمة توصيل الفكرة إلى المتلقي، إدراكاً منه - أي السارد - لأهمية قول الحقيقة دون مجافاةٍ أو محاباة لأحد.

وقد تتشكل الحكاية السردية على وفق مفهوم زهدي تربوي يتنافس عليه الأنبياء مقابل حياة مترفة يحياها الطغاة والجبابرة هادفاً من وراء هذه الحكاية السردية بيان الحالة الضدية في حياة الطرفين وهذه الضدية تعتمد الفكرة العمودية - كما نرى - من وراء السرد الحكائي فيقول:

( ... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون - صلى الله عليهما - على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصيّ، فشرطا له - إن أسلم - بقاء ملكه، ودوام عزه، فقال: "ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذلّ! فهلاً ألقى عليهما أساورة من ذهب " إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه ...) (3).3.

ص: 83


1- المصدر نفسه 188/11.
2- الأدب والدلالة 68.
3- ابن أبي الحديد 116/13.

إن هذا البعد العمودي أو الفكرة العمودية تنتظم في النص الحكائي المسرود؛ لما يظهره النص من إشارات واضحة تنبئ عن هذه الفكرة في الوقت الذي يقوم فيه المتلقي بتفكيك النص والتعرف على بنيته الفكرية التي تنسرب من تحت حروفه؛ إذ أن الإشارة الواضحة في نهاية النص باستعمال السارد للجملتين الأخيرتين (إعظاماً للذهب وجمعه واحتقاراً للصوف ولبسه) يكون قد أتمّ الفكرة المقصودة، وإن كان هذا يعد تدخّلاً من السارد في سرد النص الحكائي، زيادةً على أن السارد أناب نفسه عن بعض شخصيات الحكاية بينما ترك الشخصية الرئيسية الأخرى التي تقف من الشخصيات الأخرى بالضد تتحدث عن مكنوناتها أو عما تعتقد وبأسلوب تهكّمي ساخر، ثم يأتي تعليق السارد الذي عبرنا عنه بأنه تدخّل في السرد ليشكل خاتمة للنص المسرود تمثل - من وجهة نظرنا - انفتاحاً أفقياً للرؤية باتجاه العالم.

البنية الشعرية

لم تكن العلاقة بين الخطابي والشعري علاقة تخاصمية، أو علاقة تضاد (1)، بل كانت علاقة تقاربية جمعية - في بعض الأحيان - إذ أن المبدع قد يكون جامعاً بين الخطابة والشعر كما أن من وجهة نظر بعض الباحثين، أنهم يرون أن هناك درجة يلتقي فيها الشعر والخطابة، وأن هناك من الباحثين من يرى أن الشعر خطبة (2)، وهذا ناشئ لدى الباحثين القدامى - مثلاً - أن الخطيب والشاعر كليهما يتواصلان مع الجمهور المتلقي بشكل مباشر مما يجعلهما في حالة توتر وانفعال الأمر الذي يدفعهما باتجاه التفاعل النفسي مع المتلقين، وإن كان الخطاب - عموماً - يقصد الإمتاع؛ إذ أنه يوظف المكونات البلاغية كماً ونوعاً إلى حد ما (3)، إلا أن الخطاب في نهج البلاغة، يفلت من قبضة المنطق والبرهان الذي يمسك بخناق

ص: 84


1- الشعرية العربية / الأنواع والأغراض 121.
2- منهاج البلغاء 361.
3- ينظر: الشعرية العربية 120.

مثيلاته من الكلام، فمع أنه يتناول موضوعات تنحو منحى علمياً، فقهياً أو أخلاقياً، أو غيرها من الموضوعات التي تهيمن عليها اللغة العلمية الصرفة، لكن الملاحظ على نصوص النهج أنها تتصف بكثرة الاستعارات والتشبيهات والصور، رغم أن هذه الجماليات اللفظية تكثر في الشعر لا في النثر؛ لأن (الشعر مجاله العواطف لا العقل والإحساس لا الفكر، وإنما يعنى بالفكر على قدر ارتباطه بالإحساس ولا غنى للشعر عن الفكر ... فالفكر من أجل الإحساس شعر) (1) وهكذا، فإن هناك خيطاً رابطاً بين الشعر والفكر تتعلق به الروح وتنساب مع الوصف، مكونة بذلك شعرية تنتاب تلك الموضوعات العلمية الصرفة.

إن هذه الظاهرة التي تكاد تبرز في كل نصوص نهج البلاغة، تشكل صفة ملازمة لهذه النصوص، كما تزرع في نفسية المتلقي إحساساً بالمتعة وانسجاماً روحياً ينسكب مع انهمار الكلمات في الحاسة السمعية التي تحيل كل ذلك إلى الذهن في حالة من حالات السكر اللغوي، خاصة في تلك الموضوعات التي تهيمن فيها الصورة؛ لأن (الصورة إبداع ذهني صرف وهي لا يمكن أن تنبئق من المقارنة، وإنما تنبثق من الجمع بين حقيقتين واقعتين تتفاوتان في البعد قلة وكثرة) (2).

يمثل النص المتميز، حقلاً من الاحتمالات والممكنات في الحدوث أو عدم الصيرورة، تبعاً للتركيب اللغوي الذي تلقي عليه الشعرية عباءتها، أي أن هناك أبعاداً يمكن للمتلقي أن يكتشفها في نصوص نهج البلاغة، وهناك أبعاداً أخرى تمثل اللامنظور الأبدي الذي يخرج من دائرة الرؤية العقلية إلى فضاء اللانظر اللامتناهي، وإن كان وجوده في نظام لغوي مسيطر عليه (لسانياً) لكنه هارب (خيالياً)، أي أن هناك حداً فاصلاً بين الواقع والمتخيّل، لا يمكن إدراكه إلا من خلال صرف الذهن إلى مكونات الظن العتيدة، خاصة إذا أردنا أن ننبش مقتنيات النصوص التي تذهب بنا بعيداً في متاهات بدء الخلق والخليقة، بل إنها ربما لما .

ص: 85


1- الشعر غاياته ووسائله 72.
2- التحليل النفسي للأدب 71 والرأي لشاعر فرنسي معاصر اسمه بول ريفوردي.

تزل في سلة الأسرار تحتاج إلى من يخرجها من الخفي إلى الجلي، فهو يقول: ( ... ثم أنشأ الهواء من تحتها فتيق والماء من فوقها دقيق، سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء ...) (1).

إن الخطاب في نهج البلاغة في بنيته الشعرية قد أمسك بكل عناصر الصورة والاستعارة والتشبيه والإيقاع والوزن - أحياناً - لكن الذي ذهب فيه حتى النهاية هو الخيال أو المتخيّل الكوني، بل ربما يصل به الأمر إلى عدم التصريح بما يريد قوله - وإن كان بعد كلام طويل - لاعتقاده بأن ذلك فوق متصور البشر من ذلك ما يصف به الموت وسكراته التي يمر بها الإنسان في لحظاته الأخيرة من الدنيا فيقول:

( ... وإن للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا) (2).

إن هذا النص تتمثل فيه البنية الشعرية في انتمائه إلى (الواقع المتخيل) الذي هو - من وجهة نظرنا - ينتمي إلى الواقع من طرف وإلى الخيال من طرف آخر، فالنسق التركيبي للنص يعد بنية لفظية لم تأت بصورة فنية شكلاً، إلا أنها جاءت بمضمون يدق عن الوصف، لأن الوصف حين يكون شعرياً، هو لما يشعر به الإنسان أو لما يتخيله أو يتخيل حدوثه، إلا أن الإمام، جعل من هذا القالب اللفظي الذي احتضن فكرة وصف الموت بمثابة شعرية واقعية امتلكت التعبير عن الفكرة من خلال وظيفته الشعرية التي هي ليس (في الشعر فحسب حيث تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى للغة، وإنما بها أيضاً خارج الشعر حيث تعطى الأولوية لهذه الوظيفة أو تلك على حساب الوظيفة الشعرية) (3).

يشير كمال أبو ديب إلى أن (قد يكون ثمة فارق نوعي - مثلاً - في طبيعة اللحظة، أو الموقف أو المعاينة التي يصدر عنها الشعر في مقابل تلك التي يصدر .

ص: 86


1- ابن أبي الحديد 100/1.
2- المصدر نفسه 116/11.
3- قضايا الشعرية 35.

عنها النشر) (1)؛ وهذا - بطبيعة الحال - على وفق ما يراه النقاد القدامى من أن الغضب أو الطمع أو غيرها من دوافع الشعر، والحال مختلف جداً في الخطاب العلوي؛ إذ أن ما يجعل تلك النصوص الواردة في نهج البلاغة تتسم بالروح الشعرية يعود - حسبما نرى - إلى طبيعة نفس الإمام لما تتصف به من شفافية مفرطة في السمو والنبل، وهو ما تؤكده الوقائع التي جرت له في حياته، وهذا التسامي الذي يلف سيرته، قد طبع كلامه بتلك السمة الشعرية التي - كما يبدو - أسهمت في صياغاته اللفظية في لغة تشع بالموسيقى و الإيقاع المتناغم، فضلاً عن أفكارها التي تخترق أقنعة المادة فتجوب في سماوات الفعل الروحاني المضمَّخ بعطر الجلالة ورائحة النبوة؛ لأن الشعرية هي (شيء أقرب إلى الروح الفلسفية ... - وهي تتجه - إلى التعبير عن الكلي وليس الجزئي) (2)، وهذا يعني أن التعبير الخلاق لا ينتج إلا عن روحية خلّاقة تتناغم وحركة الكون اللامتناهي والدليل على ذلك - من وجهة نظرنا - أن الكلمة تتصف بالخطورة والشفافية في آنٍ معاً، بوصفها تمثل الحلقة المثلى في الانتقال من المحظور إلى المباح على وفق نمط شفاف ومرهف، كما ورد ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى (فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ (3).

وفي نصوص نهج البلاغة نجد أن إيقاع الذات الفاعلة واضح في الخطاب لأن هذا التصعيد في كثافة العمل الأدبي يمثل الواجهة البارزة في نصوص نهج البلاغة، زيادة على ما أشرنا إليه آنفاً من أن الروحية الخلافة التي تتناغم مع حركة الكون في وجوده المنفتح زمنياً دون النظر إلى وحدة المكان المحدد، تعدّ المنتج الطبيعي للبنية الشعرية في الخطاب؛ لأن الفحص الدقيق لها يظهر أنها (خصيصة علائقية، أي أنها تجسد في النص، لشبكة من العلاقات التي تنمو بين مكونات أولية .

ص: 87


1- في الشعرية 15.
2- جمهورية أفلاطون 9 - 15.
3- البقرة 37.

سمتها الأساسية أن كلّاً منها يمكن أن يقع في سياق آخر دون أن يكون شعرياً، لكنه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسية ذاتها، يتحول إلى ما عليه خلق للشعرية ومؤشر على وجودها) (1).

وبحسب نيتشه الذي يقول إن (كل شعر ذو منشأ ديني) (2)، بمعنى أن الشعرية هي لطافة روحية تنبت في أعماق النفس الإنسانية وتتدلّى غصونها كلمات نابضة بالصور تنتظم في علاقات متجانسة كلية؛ لأنها (انتقال حاد من كون إلى كون، أي خلق لمسافة توتر شاسعة بين كونين) (3) مما يشير إلى أن هذا الخلق هو الشعرية ذاتها.

مما تقدم يمكننا أن نقول إن الشعرية مصطلح قديم حديث، تبدأ أولى معطياته من أرسطو، وأن هناك تنوعاً في المفهوم بين سر الإبداع وتصوره وبين البحث عن قوانينه في نظريات وآراء عرضها الباحثون القدامى والمحدثون (4).

ولكي نبين الشعرية في نصوص نهج البلاغة ينبغي أن نميط اللثام عن عناصرها التي يمكن إجمالها في ما يأتي:

1) المظهر الإيقاعي.

2) المظهر الصوري.

3) المظهر الجمالي.

أولاً: المظهر الإيقاعي:

اشارة

يعد الإيقاع ذو أثر فاعل في شعرية النص النثري لا يقل شأناً عن عناصر الشعرية الأخرى التي أشار إليها النقاد، بل إن ابن رشيق القيرواني ذهب إلى أنه

ص: 88


1- في الشعرية 14.
2- عصر السريالية 68.
3- في الشعرية 28.
4- أمثال أرسطو والجرجاني والقرطاجني من القدامى ومن المحدثين جاكوبسون وجان كوهن وكمال أبي ديب وغيرهم.

(أعظم أركان "الشعرية" وأولاها به خصوصية وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة ...) (1)، ويقول ابن سينا إن من الأسباب المولدة لذلك (حب الناس للتأليف المتفق والألحان طبعاً، ثم قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان، فمالت إليها الأنفس وأوجدتها ...) (2)، أي أن هناك حاجة نفسية للميل بهذا الاتجاه، وأن هذا الترابط الوثيق بين الألفاظ والإيقاع ناشئ عن طبيعة غريزة كل إنسان وقريحته (الأن الأقاويل التي ليست بشعرية ولا خطابية ينحى بها نحو الشعرية) (3) من خلال المواءمة بين السياق الجامع للألفاظ وبين إيقاعها على وفق ما يختلج هذا الإيقاع في الوجدان، مما يهيئ النفس لاستقبال ذلك؛ لأن له مهمة عضوية أساسية يمكن حصرها في مستويات ثلاث مستوى النغم الذي يتجسد على شكل وحدات موسيقية منتظمة، ومستوى التنظيم للعلاقات بين الكلمات والصور، ومستوى التعبير أو الإيحاء الذي ينبعث من المستويين السابقين في المقاطع المنفردة أو النص ككل (4).

إن الإيقاع ينشأ (من تكرار ظاهرة صوتية على مسافات معينة وبطبيعة مغايرة

للظواهر الصوتية الأخرى في النص) (5) ويشترط في ذلك (انعدام الانتظام المطلق أي وجود فجوة مسافة توتر بين المكونات الإيقاعية) (6)، وبذلك يخرج عن دائرة القافية أو الوزن المقيد للنص الشعري إلى شعرية النص بعيداً عن القوالب التي تحدد حركة الألفاظ أو تكبتها، خاصة إذا كان النص خطاباً مباشراً، مما يحتم على الخطيب أن يجعل الفن مرتكزاً أساسياً في النص، ومن أدوات الفن الإيقاع. وفي نصوص نهج البلاغة يمكن أن نشير إلى أن الإيقاع يأتي على ثلاثة أنواع: .

ص: 89


1- العمدة 134/1.
2- منهاج البلغاء - اقتباساً - 117.
3- نفسه 119.
4- ينظر: أفق الحداثة وحداثة التمط 105.
5- في الشعرية 52.
6- نفسه.

1) الإيقاع الخارجي. 2) الإيقاع الداخلي. 3) الإيقاع المتداخل.

1) الإيقاع الخارجي:

إن الحركة الإيقاعية التي تسود النص أو الخطاب في نهج البلاغة هي بمثابة تجاذب وتعانق بين الألفاظ ودلالاتها المعنوية، وكلّاً تعيش اللحظة الشعرية التي تنبثق عن هذا التجاذب والتعانق وفق كيان رؤيوي لغوي إيقاعي موحد، مؤدّية بذلك نمطاً من الانصهار بين اللفظة والإيقاع في سياق مضبوط النظم، متلاحم النسج، مكوّنة أشبه ما تكون بالقصيدة من حيث الفواصل المقفاة وهذا ما يطلق عليه الإيقاع الخارجي، الذي يقوم على أساس التوازن بين الجمل والعبارات) (1).

وطبقاً لما ورد، فإننا نستطيع أن نقول - باطمئنان - إن الخصائص الإيقاعية تنبع من التناغم الذي تحدثه الألفاظ فيما بينها من خلال التوافق النغمي بين الحروف، وكذلك فيما تؤديه تلك الألفاظ من انفعال ذاتي يحمل في ثناياه طاقة توصيلية إلى المتلقي. ومن النصوص التي يتمثل فيها الإيقاع الخارجي قوله:

( ... ما لي أراكم أشباحاً بلا،أرواح، وأرواحاً بلا أشباح ونساكاً بلا،صلاح وتجاراً بلا أرباح، وايقاظاً،لوماً، وشهوداً غُيَّباً، وناظرة عمياء، وسامعة صمّاء، وناطقة بكماء! ...) (2).

هذا النص يستغل هذا التشاكل الصوتي بين الحروف والكلمات في أنساق تحمل تموجات صوتية تترجم الحالة النفسية في تعاقب منسجم مع العواطف والمشاعر التي يريد الإمام نقلها إلى المتلقي، فالمقطع ( ... أشباحاً بلا أرواح، وأرواحاً بلا أشباح، ونساكاً بلا صلاح وتجاراً بلا أرباح ...) يمثل تلك الحسرة على ضياع هؤلاء أو تضييعهم أنفسهم في ما لا ينفعهم، وأنهم غائبون عن اللحظة الوجودية، التي هي فرصتهم - من وجهة نظر الخطيب - في أن يكونوا

ص: 90


1- ينظر أدب الشريعة الإسلامية 183.
2- ابن أبي الحديد 146/7.

سعداء، ثم يردف بمقطع يتصاعد فيه الإيقاع إلى أن يبلغ القمة في ثلاثية حسّيّة ( ... عمياء، صماء بكماء ...) في أداء تصويري متدافع مع سرعة اندفاع الهواء أثناء التلفّظ، وتتكرر هذه (النواة الإيقاعية) (1) في كثير من النصوص في نهج البلاغة؛ إذ تبدأ تتفرع هذه النواة بإيقاع مطرد وفق نسق صوتي يتناغم والمعنى الذي تؤديه.

وفي نص آخر ينحو منحى في الزهد فيقول:

( ... إن الموت هادم لذاتكم ومكدر شهواتكم ومباعد طياتكم ... فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله واحتدام علله وحنادس غمراته، وغواشي سكراته، وأليم إزهاقه، ودجو إطباقه، وخشونة مذاقه ... فعليكم بالجد والاجتهاد والتأهب والاستعداد والتزود في منزل الزاد ...) (2).

يعتمد هذا النص على فواصل مقفاة وعبارات متوازنة في تكرارية موسيقية لحروف وأصوات أسهمت في تنشيط الإيقاع التصاعدي في النص، الذي يشبه المعادلة الصوتية، مما يؤكد المشاعر المتعددة التي تنتاب المتكلم أو الخطيب حين استغراقه في توصيل الرسالة التي يرى نفسه ملزماً بأدائها، وهذا يعني أن عليه - أي المتكلم - أن تكون لغته مشحونة إلى حد التوتر للتأثير على سامعيه من خلال الجذوة الإيقاعية التي تتوقد بين كلمات النص.

إننا نجد أن الإيقاع يلتحم مع مفردات النص تبعاً لأجوائه والفكرة التي تجوس خلال العلاقات القائمة بين الألفاظ، ففي نص آخر يبيّن من خلاله غائية الخلق يقول:

( ... فبعث الله محمداً - صلى الله عليه وآله - بالحق، ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بيّنه وأحكمه ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه، وليقروا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ .

ص: 91


1- الشعرية العربية 280.
2- ابن أبي الحديد 6/13.

انكروه ...) (1).

نرى أن النص يبنى على أكثر من فاصلة مستعملاً الكلمات ذات الأصوات الدالة على الخضوع والتذلل والحسرة في إيقاع يزاوج بين المعنى واللفظ كما نلاحظ أنه قد تخلّى عن الأداء التصويري مكتفياً بالأداء النفسي الذي يرشح من العبارات المتعانقة في النص، وهذا ما نجده في نص آخر في قوله:

( ... وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات و مجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب،تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللاً ...) (2).

إن فكرة النص تقوم على نبذ التكبر ونفيه عن المؤمنين، وهي حالة نفسية إلا أنه جاء بكل هذه الألفاظ في عبارات وجمل تنبثق إرهاصاتها من خلال التشابكات اللغوية التي يحتضنها هذا الوجدان الطافح بالعاطفة الفياضة، وهذا الحرص على التكرار والتوزيع في المرتكزات الصوتية في إيجاد الإيقاع الذي يتسم بالتقنين مما يجعل (عملية التحول بالصوت إلى دالٍّ مدرك عملية قصدية يشحنها (الخطيب) بالتوتر الذاتي حسب المقتضيات بحيث يجعل من الصوت صدى للمعنى) (3)، وبذلك تتعاضد العبارات وفق نمط إيقاعي منظَّم.

2) الإيقاع الداخلي:

رأينا في إيقاع الخارجي أنه يتناول الفواصل المقفاة بين العبارات والجمل وقيامه على التوازن بين تلك الجمل في نسق موسيقي يتصاعد مع الحدة النفسية للخطيب وفق الموقف الذي يفرض عليه، أما الإيقاع الداخلي، فإننا لا نتفق مع من

ص: 92


1- المصدر نفسه 81/9.
2- ابن أبي الحديد 123/13.
3- الاسلوبية الصوتية 96.

يقول بأنه (مازال يعتوره الغموض واللبس والخلط) (1) كلياً؛ لأن النص النثري في نهج البلاغة يمتلك طاقة إيقاعية داخلية تبرز من خلال سير الكلمات في نسق محكم مشحون بالعاطفة الجياشة، خاصة تلك المواقف التي تحتاج إلى مثل هذا الشحن العاطفي، المتمثل في قوله:

( ... أيها الناس أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً) (2).

وفي موقف آخر يقول:

( ... إن في الفرار موجدة الله والذل اللازم والعار الباقي، ... من رائحٌ إلى الله كالظمآن يرد الماء، الجنة تحت أطراف العوالي اليوم تبلى الأخبار، واللهِ لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم ...) (3).

إننا نلحظ هذه الموسيقى المعبرة التي تنهض من بين ثنايا النصين لتحدث سيولة إيقاعية تخرج عن نطاق التقنين الذي رأيناه في الإيقاع الخارجي، إلى فضاء الروح المتوثبة التي تفيض مشاعراً وأحاسيسَ، حتى إنها تحاكي في بعض مقاطعها قصيدة النثر في تحشيد الأفكار في صور فنية وأساليب بلاغية ممتعة. وفي نص آخر يذهب إلى موضوع آخر إلا أنه بالطاقة الروحية نفسها التي تنتظم إيقاعاً خفياً في توشيج عميق للفكرة ذات الأبعاد المتعددة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين العبد وربه فيقول:

( ... واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلّا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحيّر فيه رأيك ويضل فيه بصرك .

ص: 93


1- الصوت الآخر - الجوهر الحواري للخطاب الأدبي 288.
2- ابن أبى الحديد 26/9.
3- المصدر نفسه 6/8.

تبصره بعد ذلك ...) (1).

إننا نرى هنا أن النص ينساب في إيقاع نفسي مرن يقع تحت هيمنة الاطمئنان الذاتي إلى طبيعة العلاقة بين العبد وبين الخالق عز وجل، التي تنشأ في تراتبية أشار إليها النص في (النعماء، الابتلاء، الجزاء)؛ لأن ما يحمله النص من إحساس الخطيب بحروفه وكلماته التي جاءت بشكل متجاوب ومتسق إنما يرتبط (بحركة الانفعال التي تقوم عليها الصورة الإيقاعية - الرؤيوية) (2) متمثلة بحركة الالتفاتات الواعية التي يقوم عليها النص، وهذا ما نلمسه في قوله:

( ... اليمين و الشمال مَضَلَة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة، ومنها منفذ السنة، وإليها مصير العاقبة.

هلك من ادّعى وردى من اقتحم من أبدى صفحته للحق هلك، وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف قدره لا يهلك على التقوى سنخ أصل، ولا يظمأ عليها زرع قوم ...) (3).

يكاد هذا النص أن يكون نصاً شعرياً أكثر منه نثرياً لغلبة الشعرية عليه، فهو قد حشد في كل مقطع فكرة تكاد تكون مستقلة عن سابقتها ولاحقتها، إلا أنها تنتظم عبر سلك فكري واحد قاعدته الجملة الأولى [اليمين والشمال مضلّة] وتفرعاته الجمل الأخرى، مما يعني أنها جميعاً تستند إلى عمود فقري واحد أفضى إلى إشاعة هذه الأبعاد المتعددة والمنفتحة في القيمة الفنية فضلاً عن القيمة الفكرية للنص.

إن إيقاع الجملة والعلاقات القائمة الأصوات والمعاني والصور مضافاً بين إلى ذلك الطاقة الإيحائية التي يمتلكها الكلام وتلك الأصداء التي يخلقها لدى المتلقي عن طريق الإيقاع المتنوع الذي يتجلى في التوازي والتكرار والنبرة .

ص: 94


1- ابن أبي الحديد 183/11.
2- رماد الشعر 289.
3- ابن أبي الحديد 254/1.

والصوت وتزاوج الحروف في المد وغيره (1)، كل ذلك يسهم في خلق إيقاع يستبطن بشكل خفي في النص، إذ يقول في أحد نصوصه:

(ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه واستجلب خيله ورجله، وإن معي البصيرتي؛ ما لبَّستُ على نفسي ولا لُبِّسَ علىَّ، وأيم الله لأفرطنَّ لهم حوضاً أنا ماتحه لا يصدرون عنه، ولا يعودون إليه) (2).

يركز النص على استغلال الأصوات بين الكلمات مما يخلق إيقاعاً داخلياً موحياً من خلال هذه الأصوات والتكرار اللفظي [لبَّستُ، لُبِّسَ] وهذا يجعلنا نقول إن الإيقاع الداخلي ليس زينة خارجية أو شيئاً عرضياً يحدث، إنما هو موجود في الصياغات والجمل والعبارات المتكونة من الألفاظ، إلا أن الاستعمال لهذه الألفاظ في الجمل والعبارات والصياغات اللفظية المحكمة النسج مضافاً إلى ذلك الإحساس بالإيقاع النفسي، كل ذلك يعطي النص إيقاعاً داخلياً وينقله من حالة الكلام العادي إلى مستوى الكلام المتسم بالشعرية.

3) الإيقاع المتداخل:

وهذا النمط من الإيقاع رأينا أن نفرزه عن الإيقاع الخارجي والداخلي؛ لأننا رأينا أن النصوص في نهج البلاغة، يعمد في بعض منها الإمام علي علیه السلام إلى أن يزاوج بين التقفية بين الفواصل وبين إرسال النص من غير أن يقيده بقيود السجع وهو ما يمثل - من وجهة نظرنا - انتقالات في الخطاب قد تفرضها طبيعة الخطاب أو متطلبات السياق بعيداً عن الزخرف اللفظي، وبما يتناسب مع شخصية الخطيب فيقول:

( ... فانظر أيها السائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمَّ به، واستضئ بنور هدايته وما كلّفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أثره، فكِل علمه إلى الله سبحانه، فإن

ص: 95


1- ينظر: أفق الحداثة وحداثة النمط 98.
2- ابن أبي الحديد 235/1

ذلك منتهى حق الله عليك ... قدّرَ ما خلق فأحكم تقديره ودبّره فألطف تدبيره ووجّهه لوجهته، فلم يتعد حدود منزلته، ولم يقصر دون الانتهاء إلى غايته ولم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته ... وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم - يقصد الملائكة - في حظائر القدس، وسترات الحجب وسرادقات المجد، ووراء ذلك الرجيج الذي تستك منه الأسماع، سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها ...) (1).

هذا النص المقتطع من خطبة الأشباح يمثل حزمة صوتية تناوب فيها الخطاب من إيقاع داخلي إلى إيقاع خارجي ثم عاد إلى الإيقاع الداخلي، وبهذا يتداخل الإيقاع بحسب الحاجة إليه سواء كان ذلك الخطاب سرداً أو حواراً، أو ردّاً على سؤال - كالنص المذكور - في عرض للأفكار التي ربما أحوجه الخطاب إلى أن يتخذ أسلوب العرض المشهدي في وصفه للملائكة، الأمر الذي يتطلب منه صياغات مؤثرة تنتسب إلى الشعرية في إيقاعات تتناسب وموضوع الخطاب وحالة المتلقي فضلاً عن ظرف الخطاب وطبيعته، والكم المعرفي الذي يعد حافزاً باطنياً في استثمار المعلومات التي سبق أن اختزنها - فطرياً أو اكتسابياً - عن طريق إعادة عرضها في وصف تمثيلي (2) في صياغات نابعة من طبيعة الفكر التأملي في هذا التنوع العجيب في الانتقال بالخطاب الواحد من مظهر إلى مظهر وفق إيقاع يتكثف في (نسيج العلاقات بين هذه " الصياغات "؛ حين يتخذ الإيقاع شكل التوتر المتجول في النص ككل والذاهب في أكثر من (اتجاه) (3) ولكن بعيداً عن الترهل في الأداء أو في نسج الأفكار، كما في النص الآتي الذي يتكئ فيه على إيقاع تتناغم فيه الجمل موسيقياً فيقول:

( ... والله ما كتمت وشمة ولا كذبت كذبة، ولقد نبّئت بهذا المقام وهذا .

ص: 96


1- ابن أبي الحديد 327/6.
2- ينظر: الثقافة والمعرفة البشرية 222.
3- في معرفة النص 101.

اليوم، ألا وإن الخطايا خيلٌ شُمسٌ حُملَ عليها أهلها، وخُلعَتْ لُجُمُها فتقحَّمَت بهم في النار، ألا وإن التقوى مطايا ذُلُلٌ حُمِلَ عليها أهلها وأُعطوا أَزِمّتها، فأوردتهم الجنة، حق وباطل، ولكلٍّ أهلٌ فلئن اَمِرَ الباطلُ لقديماً فعل، ولئن قل الحقُّ لربّما ولعلّ، ولقلّما أدبرَ شيءٌ فأقبل) (1).

يبدو أن هناك تفريعاً اعتمده النص لأجل النفاذ إلى الفكرة المعروضة عن طريق الإشارة التي حملها القَسَم الذي يبدأ به النص، التي تعني أن كلّاً مأخوذ بذنبه، وأن هذا الأمر لا يعفي كبيراً ولا صغيراً، مما جعل النص يستدير باتجاه التصوير وإنشاء الجمل المتقابلة بالصورة والمعنى فضلاً عما تحويه من إيقاع صوتي بين بعض الكلمات، سواء كان هذا الإيقاع جناسياً مثل (خطايا، مطايا) أو موسيقياً مثل (شُمسٌ ذُلُلٌ)، أو تكرارياً بنفس اللفظ كالجملة (حمل عليها أهلها) في الحالتين، وفي الوقت الذي لم يبدأ فيه النص بالفقرات المسجوعة، انتهى إلى السجع في الفقرات الأخيرة، وهو بذلك يمزج بين الإيقاع الخارجي المتمثل بالسجع وبين الإيقاع الداخلي المتمثل في وجود التقطيع الموسيقي في الجمل والعبارات التي تشكل النص.

ثانياً: المظهر الصوري:

اشارة

تمثل الصورة أو المظهر الصوري أحد الملامح الرئيسة في الخطاب في نهج البلاغة، بل إنه يكاد أن يكون المهيمن الأكبر في بناء الخطاب؛ إذ لا يخلو نص من ذلك، بل تكاد الصور تنتظم في السطر الواحد في تضامن عجيب وبشكل يبهر المتلقي - سامعاً أو قارثاً - لأنها تنقله من حالة الرؤية البصرية المباشرة إلى حالة الرؤية الذهنية بما ينسجم وما يراه الخطاب العلوي من آفاق.

إن عملية التحول في النص من الإطار السطحي الضيق إلى فضاء منفتح تنبثق فيه الأفكار متناغمة مع بناء الصورة في النص تعدّ نمطاً من أنماط الشعرية لأن (الصورة التي يسعى "المبدع" إلى خلقها لا تعني زخرفة لفظية فحسب، بل هي خلق

ص: 97


1- ابن أبي الحديد 253/1.

فني واندماج بين نسقين الحسي الذي يتجلى ببراعة استخدام اللفظة زخرفياً و معمارياً وبلاغياً، والنسق الذهني أو المعنوي حين ترتفع الألفاظ إلى مستوى التأمل المعنوي العميق والنظرة البعيدة المدى في فهم الصورة كلّاً متكاملاً) (1) بمعنى أن الصورة هي تكثيف يستقطر الحسي - المعنوي في إيحائية ترتكز على التعبير المعنوي الذي تقوم به الكلمات في سياقها الذي يخرج بها عن الخط الاعتيادي المألوف إلى الخط الذي ينفتح على الأفق اللا مرئي؛ لأن الصورة لها دلالات معنوية ونفسية يحملها السياق.

إن الصورة ليست زينة يزين بها المبدع النص، إنما تمثل محوراً تقوم عليه القيمة التعبيرية للنص، وعليه، فإن الإشارة إليها وتحليلها تعنى اتجاه النص إلى روح الشعر، مما يضفي عليه (أي النص) سمةً شعرية تنقله إلى الفضاء الذهني المنفتح الذي تعني فيه الصورة أنها (ما تنقش بها الأعيان وتميزها عن غيرها) (2)، وقد وردت لفظة الصورة في لفظة الصورة في نهج البلاغة من دون (أل) التعريف في قول الإمام عن خلق آدم، فيقول:

( ... فجبل منها - أي عناصر الأرض - صورة ذات أحناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت وأصلدها حتى صلصلت، لوقت معدود، وأجل معلوم ...) (3).

فالصورة التي ذكرها هنا هي صورة آدم علیه السلام وهي المظهر الخارجي والداخلي المادي فقط، أي ما يتعلق بالجسد ومكوناته الداخلية والخارجية وهي تعد صورة ابتكارية في أصل الخلق من قبل الباري عز وجل وفي اللفظ الذي حوى عملية الخلق من قبل الإمام، فقد جاء الوصف الصوري في جمل مترادفة، كل جملة أشارت إلى جزء من عملية الخلق، بمعنى آخر أنها ترمز إلى العلاقة بين الله عز وجل (الخالق) وبين الإنسان (المخلوق) كونها علاقة فيض وتقديس.1.

ص: 98


1- التحليل الجمالي والنقدي للأدب 89.
2- الكليات 559
3- ابن أبى الحديد 110/1.

فالصورة في الخطاب العلوي تنطلق من مهمة توصيلية للأفكار وليس لغرض المماحكة الفنية، كما أن الصورة تبنى على مرتكزات فكرية ذات غايات (يتم من خلالها ربط الشيء والكائن والمفهوم والحدث بعلامة قابلة لأن توحي بها) (1) باعتبار أنها لا تطمح إلى المطلق، وأنها تقوم بالربط، مما يعني أنها نسبية، لا تخضع للتحديد الدقيق؛ لأنها تتشكل من اللغة، واللغة مجموعة من العلاقات التي تعتمد على الخيال والفكر والشعور، كونها مكونات أساسية للصورة التي تسهم في (إخراج الكائن من ذاته وتشجيعه على الارتباط بالآخر) (2) في علاقة تكاملية، وهي في بعض حلقاتها تعد علاقة تابعية تتبنى المسلك التعبدي بين الله والإنسان وهذا يمثل الغاية القصوى التي سعت إلى إيجادها الصورة في الخطاب العلوي.

إننا يمكن أن نقسم المظهر البصري في نهج البلاغة - مستندين في ذلك إلى المعطيات البلاغية التي تعد أساساً للصورة الشعرية - إلى ما يأتي:

1 - الصورة البصرية:

لا شك في أن للحاسة البصرية أثراً مهماً في التمييز بين الصور ومدى التأثر بها، إذ تعمل الصورة البصرية على استجلاب الانتباه الذهني في محاولة ينتج عنها الإمتاع الجمالي (الانطباعي) ومن ثم الذهاب بعيداً في مكونات الصورة لعرض التحليل والوصول إلى مكنوناتها، أو للاستدلال من وراء ذلك عبر شبكة من العمليات الذهنية التي ستكون اللغة فيها العامل الأول من خلال الاستبطان الفكري، الذي يحيل إلى عامة النص وليس إلى جزئيات النص التي تعتمد التلوينات الفنية كالتشبيه والاستعارة والجناس، وغيرها، مما يجعلها لأن تكون هذه التلوينات جسراً معرفياً، ففي وصف الطاووس يقول:

( ... تخال قصبه مداري من فضّة وما أُنبت عليها من عجيب داراته

ص: 99


1- علم الدلالة 15.
2- الخوف من الصورة / ميشيل مافيزولي ترجمة فريد الزاهي مجلة أوان / 12 ع 9. 2005 م (2) الآداب جامعة البحرين.

وشموسه خالص العقيان وفلز الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جنيّ جني من زهرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشئ الحلل، أو كمونق عصب السيمن، وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوصٍ ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال ويتصفح ذنبه وجناحه، فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه؛ فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوتٍ يكاد يبين عن استغاثته ويشهد بصادق توجعه ... وإذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرةً وردية وتارة خضرة زبر جدية، وأحياناً صفرة عسجدية، فكيف تصل إلى صنعه عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ...) (1).

من خلال هذا الوصف يستنفر الخطاب حاستنا البصرية إلى تشكيل الألوان ذهنياً والعودة بها إلى رسم اللوحة التي أشار إليها الإمام علي علیه السلام في بدء وصفه للطاووس فهو يقول:

( ... وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض، وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها ... كوّنها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة، وركبها في حقاق مفاصل محتجبة ... فمنها مغموس في قالب لونٍ لا يشوبه غير لون ما غمس به، ومنها مغموس في لون صبغٍ قد طوق بخلاف ما صبغ به.

ومن أعجبها خلق الطاووس، الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد بجناجٍ اشرب قصبه وذنبٍ أطال مسحبه ... يختال بألوانه، ويميس بزيفانه ... أُحيلُك من ذلك على معاينةٍ لا كمن يحيل على ضعيفٍ إسناده ...) (2).

فهو يحرك لدينا الحاسة البصرية من أجل أن يتحرك لدينا الإدراك، وتحويل هذه الأشياء إلى الإحساس الذي يتحول بفعل تدخل الوعي إلى انفعال ووجدان ة

ص: 100


1- ابن أبي الحديد 208/9.
2- المصدر نفسه والصفحة

ومشاعر غامرة بالانتشاء الوجودي في هذا الكون أي أنه حينما يفعل ذلك، يحيلنا إلى مستوى من الشعرية التي تعجز الكلمات عن الإحاطة بها، وبهذا الانتشاء الوجداني المنبعث من الملامسة العقلية التي تتخذ من العاطفة والخيال والإدراك ممراً لها في رؤية الأشياء، خاصة وأن الخطاب في جزء منه بيّن العجز البشري عن بلوغه أو وصفه بما يستجلي حقيقته؛ لأن (عالم الصور عالم إبداعي، لا يكتفي فيه الوعي بإدراك العالم، بل يعيد إنتاجه وخلقه، من صورة مطابقة إلى صورة خلاقة) (1)، مما يعني أن الصورة شكل يمارس الجاذبية ويفتنُّ من خلال تحريك الخيال المدرك للأشياء.

إن استعمال النص للصورة الفنية من التشبيه إلى الاستعارة إلى الكناية وغير ذلكمن الفنون البلاغية إنما يعبر عن مستوى متقدم من تعانق الفنون فيما بينها، خاصة تلك التي تستوعبها الحواس الخمس وأولها وأعظمها هي حاسة البصر التي تستطيع أن تلم شتات التصور والوصف في حزمة الرؤية الحسية أو الباطنية لأجل إعادة الإنتاج في وضع انفعالي شعوري عال.

وفي الوقت الذي نراه يخاطب الآخر بقوله (أحيلك من ذلك على معاينه لا كمن يحيل على ضعيف إسناده) في وصف الطاووس، في محاولة منه لرسم صورة بصرية حسية، والإحالة للتأكد من صدق قوله نراه في وصف الملائكة لا يحيلنا على المعاينة، ولم يشر إلى ضعف سند الراوي.

وفي وصفه للخفاش يقول في معرض خطابه ( ... ومن لطائف صنعته، وعجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش ... فهي مسدلة الجفون بالنهار على حداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدلّ به في التماس ارزاقها؟ فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته ولا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دجنته ... غير ذوات ریش ولا قصب إلا أنك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما لها جناحان لما .

ص: 101


1- عالم الأشياء أم عالم الصور /د. حسن حنفي مجلة فصول 23 ع 62 - 2003.

يرقًا فينشقًا، ولم يغلظا فيثقلا ...) (1).

في هذا النص يشير إلى الصورة المألوفة للكل، فمرة يعبر عنها بلسان الجمع المتكلم (ما أرانا من غوامض الحكمة)، ومرة يعبر عنها بصيغة المخاطب (إلا أنك ترى مواضع العروق ...) فهي صورة حسية بصرية مألوفة تعج بها الجزيرة آنذاك، على عكس صورة الطاووس التي حكى عنها هو بوصفه معايناً لها وليس وصفاً روائياً أو حكاية تتناقلها الألسن من دون تمحيص وتدقيق.

وكما في وصفه للطاووس والخفاش، نجده في وصفه النملة والجرادة على التوالي في خطبة واحدة فقد استعمل أسلوب الشاهد البصري، كما في وصفه النملة:

( ... انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر ... ولو فكّرت في مجاري أكلها، وفي علوّها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً ... ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي ...) (2).

فالخطاب هنا يأتي بصيغة الطلب الاستدلالي (انظروا إلى النملة ... الخ) مما يشير إلى أن الصورة حسية بصرية، كما في وصف الجرادة إذ يقول:

(وإن شئتَ قلتُ في الجرادة، إذ خلق لها عينين حمراوين وأسرج لها حدقتين قمراوين وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السويّ، وجعل لها الحسَّ القويَّ، ونابين بهما تقرض ومنجلين بهما تقبض يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبَّها، ولو أجلبوا بجمعهم ...) (3)..

ص: 102


1- ابن أبي الحديد 140/9.
2- ابن أبي الحديد 43/13.
3- المصدر نفسه والصفحة.

إن الخطاب بتوجيه المتلقي إلى استغلال الحاسة البصرية في التعبير عن معنى ثقافي معين، إنما يمثل منهجاً ابتداعياً في الخطاب العلوي؛ إذ يرسم الصورة ثم يحيل إلى أن ذلك ممكن الملاحظة، بل إن ذلك يعدّ مستوىّ متقدماً من مستويات الشعرية في فهم واقع الحياة على حقيقته المثلى.

2 - الصورة الذهنية:

كان للصورة البصرية أثرها الفاعل في شعرية الخطاب العلوي - كما رأينا - مما جعلها رافداً من روافد إيصال الخطاب إلى المتلقي، بالاعتماد على تحفيز الحاسة البصرية في التقاط مفردات الصورة المرئية، أما في الصورة الذهنية فإن الخطاب العلوي يركز على التحفيز الذهني لأجل تشكيل صورة ذهنية عن مخلوقات لا يستطيع النظر أو البصر أن يحيط بأبعادها لسبب أو لآخر، وهذا يعني أن الصورة الذهنية جزءٌ من الصورة الشعرية التي عدّها الدكتور أحمد مطلوب (الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة ... بعد أن كان بعض المتقدمين یعدها زينة وتزويقاً) (1) وليس عنصراً أساسياً في شعرية النص الأدبي.

إن الصورة الذهنية - حسبما نرى - هي إعادة إنتاج تجربة عقلية بوساطة العاطفة من خلال تجسيم المشهد الخيالي لفظياً، وهذا يعني أن وصف الملائكة في الخطاب العلوي يدخل تحت عباءة الصورة الذهنية؛ لأن (التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء، وما يتعلق بها من أوصاف غيرها، والتنبيه للهيئات التي يكون عليها التئام تلك الأوصاف وموصوفاتها، ونسب بعضها إلى بعض والتفطن إلى ما يليق بها من ذلك بحسب المواضع والأغراض) (2) يؤدي إلى استنباط تركيب لفظي يتواءم فيه المعنى والمبنى عن طريق الرسم بالكلمات) (3).

وحين يصف الإمام علي علیه السلام الملائكة نجده لا يأتي بالألفاظ التي رأيناه يستعملها في الصورة البصرية مثل (انظروا) و(أرانا) وغيرها من الألفاظ الدالة على

ص: 103


1- فصول في الشعر 162.
2- نفسه 160.
3- ينظر: المصدر نفسه 163.

المعاينة البصرية، إنما يعدل إلى أوصاف يحيلها إلى الذهن - بعد أن يرسمها بالكلمات - ليعيد تشكيلها وفق المفهوم الذي يتوصل إليه أو ليحاول أن يتلقّف الرسم المعروض لفظياً، لا على أساس إعادة الإنتاج، إنما على أساس يقينية الواصف وصدقه ومصداقية الوصف، وبما يحمله من معانٍ ومعلومات لا يستطيع المتلقي الحصول عليها إلا من خلال ما هو معروض لفظياً في رسم صورة ذهنية ذات معطيات ماورائية، أو أنها تقوم على محاولة سبر أغوار عوالم أخرى غير منظورة.

إن الخطاب العلوي في عرضه لهذه الصور إنما يراعي مستوى المتلقي من حيث الاستيعاب والفهم والإدراك؛ إذ أننا نجده يعمد إلى تقسيم الملائكة إلى أقسام أربعة، ولكل قسم صورة أو هيأة تتناسب وعمله، فهو يقول:

( ... ثم فتق ما بين السموات العلا، فملأهنّ أطواراً من ملائكته منهم سجودٌ لا يركعون، وركوعٌ لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون) ثم ينتقل مباشرة من الوصف الحسي الذي تتشكل صورته ذهنياً على أساس المادة إلى الوصف المعنوي الذي يتناول فيه ما يمكن تسميته بالمعطيات النفسية، فهم (لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان) وتأتي الانتقالة الأخرى في فرزهم بحسب التكليف في أداء الأعمال الموكلة إليهم، وكأن الخطاب العلوي في تدرجه الوصفي، يعمد إلى تهيئة المتلقي لجزئيات الصورة الذهنية من أجل أن يستتم رسمها لفظياً، مستغلاً بذلك الإمكانيات التي تتيحها اللغة في دلالاتها العميقة ومن ثم الصعود بالمتلقي إلى مدارج أكثر تجريداً في تحديد الصورة الشعرية (الذهنية منها تحديداً) بغية الولوج إلى عالم أرحب من شفافية الوجود، يقول الإمام في تقسيم الملائكة:

( ... ومنهم أمناء على وحيه والسنةٌ إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره).

(ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه).

(ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسةٌ

ص: 104

دونه أبصارهم متلفعون تحته بأجنحتهم مضروبةٌ بينهم وبين من دونهم حجب العزّة وأستار القدرة لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يُجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر) (1).

فنراه يطنب في وصف القسمين الأول والرابع من الملائكة ويوجز في وصف القسمين الثاني والثالث، وهذا راجع - حسبما نرى - إلى أهمية ما يقوم به القسمان (الأول والرابع) من تكليف ربّاني، فملائكة العبادة موزعون على أصناف، منهم الساجد ولا يركع، ومنهم الراكع ولا يسجد، ومنهم الواقف لا يقعد، ومنهم المسبّح لا يمل ولا يسأم، وملائكة القسم الرابع الذين يحملون العرش وقد صوّرهم في هيئة يستطيع فيها الذهن أن يتخيّلهم ذهنياً فهم أعناقهم في السماء وأقدامهم ثابتة في الأرضين السفلى، وأركانهم أي أطرافهم تخترق الأقطار (2)، وإن أكتافهم قد خلقت لتتناسب وحمل العرش الإلهي، وهذا ما لا يمكن أن يدخل في مساحة الصورة البصرية إطلاقاً.

وفي صورة ذهنية أخرى يرسمها الإمام علي علیه السلام عن الجنة؛ إذ يشير في ذلك صراحة إلى أن ذلك لا يمكن أن تراه بالمعاينة أي الرؤية البصرية، فيقول:

( ... فلو رميت بِبَصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لَعَزَفَت نفسَك عن بدائع ما أُخرِجَ إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها، ولَدَهِلَت بالفكر في اصطفاق أشجارٍ غُيِّبَت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غُلف أكمامها تجنى من غير تكلّف فتأتي على مُنيَّة مجتنيها، ويطاف على نُزّالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقة، والخمور المُرَوَّقة ...) (3). .

ص: 105


1- ابن أبي الحديد 106/1.
2- جمع قطر، وهذا برأينا إعجازٌ رياضيٌ فما من أحد يستطيع أن يجمل المساحة التي يتمدد فيها هؤلاء الملائكة ولن يكون هناك مقياس لذلك.
3- ابن أبي الحديد 166/9.

إن وصفه للجنة يدخل في التصور القلبي وهو هنا يرسم لوحة مليئة بالألوان والحركة المصاحبة لتلك الألوان، كما أنه يشير إلى حركة تقترب من حركة الإنسان لهؤلاء الذين يطوفون على سكان الجنة بالعسل المصفّى والخمر المروّق، إن هذه الصورة الذهنية التي يتم عرضها في عالم إنساني تميل انفعالاته باتجاه الشهوات والغرائز وبما تحمله من شعرية ذات أبعاد تنتمي إلى الواقع المنظور لفظياً، إنما تسعى إلى بلورة الخطاب باتجاه تكوين رؤية تتناسب وأهمية الصورة المشار إليها؛ لأنها تحاول المبادلة بين الواقع واللاواقع؛ فالصورة الشعرية (ليست هي الإدراك أيّاً كان ما تحمله من محتوى لأنها تطرح موضوعها على أنه غير واقعي) (1)، وهي تجمع بين الإدراك الحسي والرؤية العقلية والبعد الجمالي وهي تعتمد على ما تتيحه اللغة من إمكانات يتجول فيها الذهن للإمساك بما يمكن تسميته بالعلاقة بين الواقع واللاواقع؛ لأن العلاقة القائمة بين الإنسان وبين العالم علاقة شعرية على أنها علاقة معرفية، فالصورة والرسم والصوت أول مصادر التعبير عن العلاقة بین الإنسان والعالم (2). وحينما يرسم صورة يوم القيامة وهو ما لا سبيل إلى رؤيته بصرياً، مما يدع مجالاً للذهن لتصوره بما يصفه الإمام في خطابه، فيقول:

( ... في يومٍ تشخص فيه الأبصار، وتظلم له الأقطار، وتعطّلُ فيه صُروم العشار، ويُنفَخ في الصور، فتزهق كل مهجة وتبكم كل لهجة، وتُذلّ الشوامخ، والصم الرواسخ فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومعهدها قاعاً سَملقاً، فلا شفيعٌ يشفع، ولا حميمٌ ينفع ولا معذرة تُدفع) (3).

اعتمد الإمام في رسم هذه الصورة على الجزئيات التي باجتماعها يمكن رسم صورة ذهنية مضافاً إليها هذه الحركية الصوتية التي تساعد الذهن على توظيف هذا التداعي الشعوري الذي حركته الألفاظ بسبيل النفاذ من تشاؤمية النص شكلياً .

ص: 106


1- اللغة العليا 160.
2- ينظر: عالم الأشياء أم عالم الصور / 26.
3- ابن أبى الحديد 133/1.

إلى الدلالات التي يمكن أن يثيرها في المشاعر والعودة إلى الذات والانكفاء عليها بالمحاسبة واللوم والتقريع كل ذلك يأتي في سياق تصوره هذه الوقائع التي تتألف جميعها لتكوّن مشهد يوم القيامة في تصوير مرعب مخيف، فالأبصار شاخصة، والأجواء مظلمة، والأرواح زاهقة، والألسن مبكمة، والجبال ذليلة محطّمة، حتى تنتهي إلى تلك النتيجة التي تجعل الإنسان يلوم نفسه، أن لا شفيع ولا حميم ولا معذرة، وتلك مأساوية الحدث الكبرى.

وفي نص آخر يبدو - من وجهة نظرنا - فيه استدلال على المفارقة بين الصورة البصرية والصورة الذهنية، لما بين الصورتين من تباعد في الماهية وإن كانتا على خط واحد في الشعرية التي تطغى على النص العلوي، إلا أن هذا التباعد في ماهية الصورتين يشير إليه - كما نرى - هذا النص فيقول:

( ... وكل شيء من الدنيا ساعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر) (1).

هذه المفارقة التي يحيلنا إليها النص المتمثلة في حاستين مهمتين لدى الإنسان وهما [السمع والبصر] خاصة إذا عرفنا أن السمع يحيلنا إلى الذهن في محاولة رسم وإعادة تشكيل الصورة الذهنية، بينما حاسة البصر تجعلنا نتفاعل مع الصورة المعروضة بوصفها محسوسة الأبعاد، أو مسيطر عليها عن طريق النظر فتكون الاستجابة الحضورية سريعة على العكس من الصورة الذهنية التي لا وجود لما يماثلها في العيان مما يستدعي الاقتناع بالخبر دون البحث عن ماهيات هذا الخبر.

3 - الصورة الكلية:

هل أن الصورة الكلية، تلك الصورة التي تجمع الصفات الذاتية للعلاقة التصويرية بين طرفين؛ القائمة على أساس المشابهة (2)؟ أو المحاكاة لأن (المعاني

ص: 107


1- المصدر نفسه 196/7.
2- ينظر الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي 194.

هي الصور الحاصلة في الأذهان الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان) (1)؟ فإذا كانت هذه الأشياء لها وجود خارج الذهن؛ حينها لم تدرك صورتها بوصفها تفتقد إلى الوجود العياني المحدد بالنظر ناهيك عن حدودها الذهنية، ومن وجهة نظرنا أن الصورة الكلية، هي الصورة التي تمثل كونية الوجود أو الوجود الكوني بكل تفصيلاته، وبالنتيجة تتخطى حدود الذهن فيُصبح معيار الاقتناع بها لا محدوديتها مقابل محدودية الزاوية البصرية أو الذهنية التي لن تستطيع أن تلم بها، وبهذا يمكن تعريفها بأنها ما يقع خارج دائرة الذهن منتهكة حجاب الوهم الذي يتراءى له أنه يسيطر على شتاتها فيقع في فخ التوهم، الأمر الذي يعني أن هذه الصورة لا تصدق إلا في مواضع يكاد فيها التشبيه والتمثيل والاستعارة والمظاهر البلاغية كافة تسقط في أتون الوهم؛ لأن الصورة الكلية برأينا، تبتعد وتقترب في الوقت ذاته من التخييل الذي عليه الأفكار الشعرية من خلال الإيهام والتوهم؛ لأن عمل المخيلة في الشعر (تصوير الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثيلها في الأذهان على ما هي عليه تمويهاً وإيهاماً) (2)، مما يعني أن (التخييل ... يرجع إلى ما مضى من تناسي التشبيه، وصرف النفس عن توهمه) (3)، والابتعاد بها عن مناطق الخلخلة الفكرية التي قد تجرفها إلى حافات التوهم المفرط، والشواهد على ذلك كثيرة، خاصة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأحاديث الأئمة والصالحين زيادة على ما ورد في نهج البلاغة، وهو يعتمد خاصية نفي النفي التي تعني الإثبات لدى الفلاسفة، يقول الإمام علي علیه السلام وهو يتناول الصورة الكلية في تعبير خطابي يتخذ من الشعرية سمة مميزة له، قائلاً:

( ... فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، و و من ثناه فقد جزَّاه، ومن جزّاه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدّه، ومن قال "فيمَ؟" فقد ضمنه، ومن قال "علامَ؟" فقد 9.

ص: 108


1- منهاج البلغاء وسراج الأدباء 18.
2- نفسه 120.
3- أسرار البلاغة 279.

أخلى منه. كائنٌ لا عن حدث موجود لا عن عدم مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّدٌ إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده) (1).

في هذا النص تتمثل الصورة الكلية في خطاب اعتمد الجمل القصيرة، لاستنهاض المتلقي وبث الروح في المجتمع، وإعادة الحياة إلى هذا الكائن الذي بدأ يفقد الاتصال بالخالق عز وجل، من خلال إشاعة مفاهيم التوحيد، وعلى عكس ما وجدنا في الصورة البصرية التي كان فيها الخطاب العلوي يعول كثيراً على الألفاظ الدالة على البصر [أرانا انظروا معاينة، نَظَرتَ ... إلخ] نجده هنا في الصورة الكلية ينفي ذلك كل النفي، إذ كيف يتسنى للجزء أن يدرك الكل؟ وأنى للمحدود أن يدرك اللامحدود؟ وأن في قوله (ومن قال "علام؟" فقد أخلى منه) دلالة لا تقبل الرد على أن من يتصوره يجلس على العرش أو الكرسي فقد جعله في موضع دون آخر (2)، وفي قوله (بصير؛ إذ لا منظور إليه من خلقه) يشير إلى أنه بصير بالمخلوقات قبل وجودهم، وأن استعماله للصيغة (منظور) اسم المفعول من الفعل (نظر) يعني أن الخلق لا يمكن لهم رؤيته بالنظر البصري. كما أن الإشارة إليه تعني محدوديته، وهكذا فإن هذه الألفاظ تدل على أن ما نتخذه من ألفاظ وعبارات في وصف الخالق عز وجل لا يمكن أن نقصد منها الدلالة في إطلاقها مما تعارفنا عليه من صفات المخلوقين، إنما لبيان عدم محدودية الخالق عز وجل.

وفي نص آخر يقول في بيان الصورة الكلية هذه موضحاً أن لا قدرة للأبصار على إدراك تلك الصورة:

( ... والرادعُ أناسيَّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه ...) (3).

ثم ينتقل بعد ذلك إلى تفصيل أكثر في أبعاد الصورة فيقول: .

ص: 109


1- ابن أبي الحديد 96/1.
2- ينظر شرح ابن أبي الحديد 95/1.
3- ابن أبي الحديد 309/6.

... هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته وحاول الفِكرُ المَبَرَّأُ من الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولّهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، رَدَعَها وهي تجوب مهاوي سُدَف الغيوب، متخلّصةً إليه سبحانه، فرجعت إذ جُبهَتْ بأنه لا ينال بجور الاعتسافِ كنه معرفته ولا تخطر ببال أولي الرّويات خاطرةً من تقدير جلال عزّته ...) (1).

فهو إذن يرسم لنا صورة البحث عن الصورة الكلية، في ألفاظ تتحرك وفق منظور لا مرئي، بل إن هذا النسيج من الجمل وهذه الصور الجزئية، يحيلنا إلى أن نسبح مع الألفاظ في تجاويف الغيب الذي لن تخطر طبيعته ببال أحد منا.

وفي عودة إلى ما قلناه في بدء كلامنا عن الصورة الكلية، نرى الإمام علي علیه السلام في خطابه يقول:

( ... لا تقع الأوهام له على صفة، ولا تُعقَدُ القلوب منه على كيفية ولا تناله التجزئة والتبعيض ولا تحيط به الأبصار والقلوب ...) (2).

فهذه الصورة قد احتوت كل شيء، وأصبح كل شيء تابع لها؛ إذ أن وقوع الأوهام يعني اصطياداً لصفة وهي لا تمسك بصفة له تستطيع أن تضع لها حدوداً، وقد أشار ابن أبي الحديد إلى أنه قد ذكر في هذا النص مسائل في التوحيد هي نفي الصفات عن الباري عز وجل ونفي الكيفية عنه، وأنه ليس بجسم ولا عرض وغير متبعّض، وأنه لا يرى ولا يدرك ويقول في نص آخر مبيناً هذه الحقائق بطريق آخر وهو يجيب سائلاً سأله أن يصف الله سبحانه كأنه يراه عياناً:

( ... فانظر أيها السائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به واستضيء بنور هدايته ...) (3)؛ لأن القرآن بوصفه كلام الله فلن يكون هناك أصدق منه في .

ص: 110


1- ابن أبي الحديد 316/6.
2- المصدر نفسه 269/6.
3- المصدر نفسه 313/6.

وصفه، وكما يوصي السائل بأن ( ... لا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين ...) (1)، وهذا نفهم منه أن الصورة الكلية لا يمكن أن تدرك بالجزئيات أو ببعض آثارها؛ لأنها تتجاوز كل ذلك وتخرج خارج دائرة التوهم وغير خاضعة له، كما عبر عن ذلك الإمام بقوله حين سُئِلَ عن التوحيد والعدل:

(التوحيد أن لا تتوهّمه والعدلُ أن لا تتهمهُ) (2).

وهذا يعني أن التصور الذهني للإنسان في محاولة معرفة محدودية الصورة الكلية يذهب هباء، لأن ذلك غير ممكن إطلاقاً، ليس لأن الصورة الكلية غير ذات علاقة بالواقع الإنساني، بل لأن الواقع الإنساني، أثر من آثارها وفيض من فيوضاتها ونفحة من نفحات تلك الصورة الكلية، على العكس من الصورة البصرية التي تقدم نفسها على أنها جزء من الواقع ليس بالضرورة وجوبي الوجود إنما يمثل شاهداً على النشاط الحركي للحياة وتحولاً من تحولاتها نستدل على ذلك بقول الإمام علي علیه السلام وهو يخاطب الباري عز وجل بقوله في مناجاة عزَّ نظيرها:

( ... كذب العادلون بك، إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزَّؤوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدَّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح علومهم ... وإنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول، فتكون في مهب فكرها مكيَّفاً، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرَّفاً ...) (3).

وفي مكان آخر، يبيّن مصداقية عدم إدراك الصورة الكلية فيقول:

( ... هو الله الملك الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون، لم تبلغه العقول بتحديدٍ فيكون مشبَّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلاً ...) (4). 9.

ص: 111


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- ابن أبي الحديد 189/20.
3- المصدر نفسه 320/6.
4- المصدر نفسه 140/9.

إن التشبيه والتمثيل وهما من فروع البلاغة والصورة الشعرية بالأخص هنا في هذا النص هما جز آن من تكوين إنساني يشيران إلى ضعف التصور والتمثيل للحاجة البيانية التي لا بد لهما منها، وهذا يشير إلى نقص حاد في هذه الأجزاء؛ لحاجتها للمثل والشبه لجلاء الصورة وبيانها واستكمال كيفيتها، بينما الصورة الكلية قد انتهكت هذه الأجزاء؛ لعدم حاجتها إليها ولاسيّما وهي ناتجة عنها ونفحة من نفحاتها.

وفي نص آخر يوضح الإمام هذه الحقيقة الجلية بقوله لمن سأله (هل رأيت ربَك فقال: أفأعبد ما لا أراه؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس بعيد منها غير مباين متكلم لا برويّة مريدً لا بهمّة صانع لا بجارحة لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء بصيرٌ لا يوصف بالحاسة رحيمٌ لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، وتجبُّ القلوبُ من مخافته) (1). وهو هنا قد نفى الصورة البصرية والذهنية، وأوضح مقومات الصورة الكلية في رموز وشفرات لا يمكن لأي عقل جزئي حلها أو تحديدها.

ثالثاً: المظهر الجمالي:

إذا كان الفن منطلقاً نحو القداسة والعالم الآخر (2)، كما يقول – شوبنهاور – وهو لغة وأسلوب كما يعبر عن ذلك ميرلوبونتي (3)، في الوقت الذي يكون فيه حرية وإبداع أو تخيل وواقعية أو حقيقة وشعر، وسوى ذلك مما عرضه الفلاسفة والمفكرون (4)، فإن الجمال هو المظهر والسمة البارزة التي تشير إلى طبيعة هذا الفن وماهيته، فضلاً عن بيان قدرته على حمل الأفكار والتوصيل إلى المتلقي، ولأن

ص: 112


1- ابن أبي الحديد 51/10.
2- ينظر: النظريات الجمالية 35 وما بعدها.
3- ينظر: فلسفة الفن في الفكر المعاصر، 367.
4- المصدر نفسه والصفحة.

الخطاب هو فن الإقناع كما يعبر عنه، فلا بد من أن يتخذ سمة جمالية تحبّبه إلى نفس المتلقي وتجعله مستساغاً، بل ربما تصبح هذه السمة الجمالية قوة جاذبة للإصغاء والتمتع النفسي في حدائق الألفاظ والمعاني، مبهورة مرة، ومصدقة أخرى، ومتذكرة ثالثة؛ وكل ذلك يحمل بين ثناياه قوة إقناعية تلتمس سلطتها من قوة الباث وقدرته على التلاعب بنسج الكلمات وبيان صورها الحاملة لما يريد من أفكار.

وفي الخطاب العلوي تناغمت الصورة الشعرية مع الإيقاع الذي ينتاب الخطاب، وفق ما يراه الخطيب، مما أضفى عليه (أي الخطاب) مسحة جمالية كانت عنصراً فعالاً في شعرية النص، وقد جعلته على تخوم مملكة الشعر، فهو ربما في النص الواحد يحاكي الحالة النفسية التي تثيرها المعاني التي تنبعث من بين الكلمات، فقوله ( ... فاز معوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال، ولا يغلبنَّكم فيها الأمل، ولا يطولنَّ عليكم فيها الأمد ...) (1) يحمل من قصر النَّفَس في كلمَتَي [الأمل - الأمد] في دلالة على قصر عمر الإنسان وبذلك يختلف عن قوله ( ... فوالله لو حننتم حنين الولَّه العجال، ودعوتم بهديل الحمام، وجارتم جؤار متبتلي الرهبان وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصتها كتبه وحفظتها رسله لكان قليلاً فيما أرجو لكم من ثوابه، وأخاف عليكم من عقابه ...) (2).

مع أن هذه الفقرة من الخطاب تأتي بعد سابقتها مباشرة، إلا أنها تتخذ سمة أخرى غير التي رأيناها في سابقتها، فهذه تحمل من طول النفس الذي أسهم في إطالته كثرة استعماله لحرف الألف في كلمات كثيرة، في مدود أضفت سمة بكائية عليها مثل (العجال، الحمام، جؤار الرهبان الأموال الأولاد، التماس، ارتفاع، غفران ثوابه عقابه).

إن الشعور بالجمال يقوم على أساس الانفعال؛ إذ أن الموقف الجمالي هو .

ص: 113


1- ابن أبي الحديد 262/3.
2- المصدر نفسه والصفحة.

موقف منزه عن الغرض، والتجربة الانفعالية تنتقل عبر شعور يتغلغل رويداً رويداً في النفس وهو شعور يرتبط بفكرة الإخلاص في العمل الفني (1) الذي يعد التعبير بالكلمة أحد مصاديقه.

إن الجمال هو القيمة المحدودة للتعبير، وبالنتيجة فإن الجمال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتصوير، سواء كان هذا التصوير بصرياً أو ذهنياً أو عقلياً كلياً أو غير ذلك، مما يعني أن الوظيفة الجمالية أن الوظيفة الجمالية في الخطاب بوصفه لفظاً ومعنى دائمة التغير وهي ليست جامدة؛ لأن القيمة الجمالية تجدد مع تجدد الصور الداخلة في التركيب اللفظي للخطاب، وهي بمثابة أعمدة الخطاب أو المرايا العاكسة للأفكار التي تنشأ انفعاليّاً نتيجة التنوع الوظيفي للخطاب من خطاب سياسي أو اجتماعي أو أي خطاب له علاقة ببنية المجتمع ويرتبط به ارتباطاً متحركاً (2) لأنها تتغير دائماً.

وفي النص الآتي تتجلى جمالية الخطاب في تكثيف المعنى وفي انتهاكه للقيم الأسلوبية المتعارف عليها في حشده للفصاحة في لفظة واحدة وهي تعبيره عن الماء بالنطفة حينما أبلغه جنده عن الخوارج وأنهم عبروا النهر فقال: (مصارعهم دون النطفة، والله لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منا عشرة) (3).

فبعد أن أشار إلى أن مصارعهم قبل أن يعبروا، جاء بقسم بياني للتأكيد على تفصيل ما يجري في الحادثة، مؤسس على أسلوب النفي في الجملتين في تركيز واضح منه على مجريات الحرب وهذا استشراف دقيق يضفي على النص جمالية الاستمتاع من المتلقي والتطلع إلى صحة الخبر.

إن جماليات النص تتجلى في اللفظ والمعنى والإيحاء الذي يراه فيه المتكلم جزءاً من الخطاب، وبما يعرض شخصيته بكل أبعادها، وبكل أفكارها، لأن (الأفكار الخيالية، وكل سورات المخ، مباحة للعبقرية) (4) وبما يفسح المجال .

ص: 114


1- ينظر: النقد الفني، دراسة جمالية نقدية، 267.
2- ينظر: النظرية الأدبية المعاصرة، 38.
3- ابن أبي الحديد 5/5.
4- النقد الفني - دراسة جمالية ونقدية - 236.

للانفعال في أن يأخذ مساحة واسعة من الخطاب بغية أن يسهم في التوصيل الصحيح إلى المتلقي عن طريق الشعور المرهف والإحساس المشحون بمصداقية التعامل بناءً على مصداقية الاعتقاد ففي خطاب عن الموت نرى كيف شحن هذه الكلمات بمظهر جمالي مدهش وعاطفة منزهة عن الفرضية أو النفعية الشخصية فيقول:

( ... واستعدوا للموت فقد أظلّكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدى وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة، الجديرة بقصر المدة.

وإن غائباً يحدوه الجديدان - الليل والنهار - لحريٌّ بسرعة الأوبة.

وإن قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحقٌّ لأفضل العدّة.

(فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً ...) (1).

تتوضح جمالية النص في أسلوب عرض فكرة الموت وما بعده، إذ يبدأ النص بأسلوب الأمر لأن الموت قد أظلَّ الناس أي صار لهم ظلاً والذي يجلس تحت الظل ربما تأخذه غفوة الراحة، إلا أن الخطاب يتوجه بالانتباه في صورة تشبيهية رائعة، بعدها ينتقل إلى وصف الموت فيصفه بالغاية مرة والغائب أخرى والقادم ثالثة، حتى ينتهي إلى الأمر بالتزود في الدنيا اليوم للنجاة غداً.

وقد يعرض الأمر بشكل آخر، فيقول:

( ... أسهروا عيونكم، وأضمروا بطونكم واستعملوا أقدامكم، وأنفقوا أموالكم، وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم ولا تبخلوا بها عنها فقد قال الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (2)، وقال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ .

ص: 115


1- ابن أبي الحديد 118/5.
2- سورة محمد الآية 7.

وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ 11)(1)، فلم يستنصركم من ذُلّ ولم يستقرضكم من قُلّ: استنصركم و (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 7) (2) واستقرضكم و (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) (3) وإنما أراد أن (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (4).

إن قصر الجمل والسجع الذي تضمّنه النص، كما أن هذا التعالق في المعنى بين التراكيب، وهذا الإيجاز في التعبير، إنما يمثل نمطاً جمالياً يهيمن على النص بالكامل، بل إنه أسهم بقوة في إبراز المعنى المقصود أو الفكرة التي أخذت تتوثب من بين الكلمات المتجاورة وبأسلوب رشيق لم يكن مترهلاً من حيث التعبير، ولا مُسِفَاً من حيث الألفاظ، فضلاً عن عن أن المعنى، رغم أنه متداول ونعني به الموت، إلا أنه أضاف إليه هذه المسوغات التي جعلت منه موضوعاً مخيفاً مرعباً خاصة إذا عرفنا أن ما سبق من الخطبة نفسها، قد كثَّف من خلاله، هذه الأفكار المخيفة؛ إذ يقول:

( ... واعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار ... أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه والعثرة تدميه والرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار ...) وفي التفاتةٍ رائعة أعطت الكلام جمالية لكنها مفزعة، فيقول مخاطباً الجسد البشري ( ... أيها اليفن الكبير الذي قد لهزه القتير، كيف أنت إذا التحمت أطواق النار بعظام الأعناق!؟ ونشبت الجوامع حتى أكلت الحوم السواعد!؟ ...) (5).

إنَّ حركة الفكرة بين هذه التراكيب لم تكن قد أخلت بهذا التماسك .

ص: 116


1- سورة الحديد الآية.11.
2- سورة الفتح الآية 7.
3- سورة المنافقون الآية 7.
4- سورة الملك الآية 2.
5- ابن أبي الحديد 184/10.

التركيبي للنص، وإن كان النص، بعضه يغني عن كلّه إلا أن كلّه لم يكن مملّاً إطلاقاً وهذا يعني أن جمالية النص قد استوفت شرائطها من حيث اللفظ والمعنى والإيحاء الذي ينساب من بين الفقرات المنسجمة فيما بينها؛ لأن هذا الانسجام الذي يهيمن على النص هو ملمح جمالي بحد ذاته، كما أن جمهور المتلقين، وإن كانوا ينتمون إلى الجماعة المؤمنة، إلا أنهم تبدو حاجتهم أشد إلى مثل هذه المواقف، ليس لبيان الوجهة الأخلاقية أو الدينية أو المنفعة الاجتماعية من وراء ذلك، وإنما لتوخي النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها هذا الاستمتاع الجمالي بهذا العرض الفكري عن طريق اللغة، وتقليب الأساليب البلاغية في النص الواحد، فهو يمثل مدعاة إلى الالتزام فضلاً عن التخويف والتحذير الذي تحمله الألفاظ وهي تقترن بمصداقية الباث ومعرفته وملكته القرآنية التى يجري توظيف الآيات الكريمة من خلالها عبر فقرات النص، مما يجعلها وقوداً محرّكاً للأفكار، وانفعالاً يضفي جمالاً وبهاءً على الخطاب، وفي تكثيف الفكرة في نص قصير يكاد النص يفيض جمالاً من استعماله لتلك الألفاظ التي تتعانق فيما بينها من حيث القوة والعنف وإبراز لون العقاب المنتظر، في كتاب له بعثه إلى عامله على البصرة زياد بن أبيه فيقول:

(وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لكن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدنَّ عليك شدّةً تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام) (1).

وقوله إليه أيضاً:

(فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدّم الفضل ليوم حاجتك. أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين، وأنت عنده من المتكبرين!، وتطمع - وأنت متمرّغٌ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة - أن يوجب لك ثواب المتصدقين! وإنما المرء مجزيٌّ بما أسلف، وقادمٌ 5.

ص: 117


1- ابن أبي الحديد 106/15.

على ما قدّم والسلام) (1).

يسير هذان الكتابان على منوال واحد، ولعلهما كتاب واحد، إلا أن الشريف الرضي جعلهما كتابين، ولم نجد ما يشير إلى أنهما كتاب واحد، لكن نَفَسَ الخطاب واحد والقضية التي يعالجانها تبدو واحدة؛ إذ أن جمالية الألفاظ وروعة الإيقاع بين الكتابين يسيران في طريق واحد، وكأن الثاني قد جاء تعقيباً على ما معروض في الكتاب الأول، بل لعلّ استعماله للحرف (الفاء) في (فَدَعْ) يمثّل سلكاً موصلاً بين الكتابين ليصبحا كتاباً واحداً كما أن تدرّجه في التعبير من القسم إلى موضوع الكتاب وهو بمثابة الخبر الذي جاء بين جملة الشرط وجوابها، ثم بعد ذلك يصل إلى الأمر بما يجب عليه فعله وبعدها يستنكر عليه ما هو فيه من تضاد في القول والفعل؛ إذ أن الجملة (أترجو أن يعطيك الله أجر المتصدقين، وأنت عنده من المتكبرين ...) تنبئنا عن الدقة في استعمال الألفاظ؛ لأنه (أي المخاطب) لو كان مقبول السيرة من قبل الخليفة، لقال عنه (أترجو الله ...) إلا أنه قال (أترجو أن يعطيك الله ...) وهذا ليس رجاءً لله وإنما رجاء للعطاء، وتلك سمة التجار وليس سمة العباد أو الزهاد.

إن الاستمتاع الجمالي في النص يتأتى من حركة الفكرة بين تراكيب النص كما أن هذا الانفعال الذي يهيمن على مجريات الألفاظ في تراتبية لن تكون نفعية أو ذاتية، إنما هي تراتبية جمعية - إن صح التعبير - لأن الانفعال واقع تحت المصلحة العامة، وقوله ( ... إنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدَّنَ عليك ...) يحدد هذا المسار في حياة الوالي المشار إليه، فمصدر الانفعال هو المصلحة العامة للمسلمين، مع إباحة الأخذ للوالي حسب حاجته من دون التطلع إلى نعمة العيش وحرمان الأرامل والضعفاء، مما يجعل الأموال حكراً على الوالي وبطانته، كما أن هذا السجع الذي ينتاب النص جعله نصاً حركياً أكثر - أي متحركاً - يمارس هيمنته على المتلقي ويفضي به إلى بسط مفهوم العدالة .

ص: 118


1- ابن أبي الحديد 107/15.

والمساواة، وعدم الانجرار إلى آفاق النفس الضيقة، بل يذهب به إلى فضاء أرحب من الجمال في الحياة.

إنَّ البراعة في خرق تقنيات التقاليد البلاغية والفنية بشكل أعم، إنما تمثل انحيازاً إلى جانب جمالية النص، من خلال تصوير الحياة أو الطبيعة أو السلوك الإنساني على وفق أساليب يألفها المتلقي، أو هي تحمل في طياتها سرّاً عبقرياً تجعل هذا المتلقي مشدوداً إليها في كل حين ومكان؛ إذ أن النصوص التي وردت في النهج سواء كانت خطباً أم رسائل أم حكماً وأمثالاً وكلمات قصار، إنما تحمل في تراكيبها طاقة مختزنة تعبر عن مطالب إنسانية ذاتية أو عامة، كما أنها تحمل في طياتها عرضاً لصور، ربما تكون مألوفة للمتلقي، إلا أن إعادة عرضها على وفق أسلوب جديد، يمثل جذباً غير عادي ونمطاً مستحدثاً من الخطاب يوفر للمتلقي، زيادة على المسحة الجمالية والاستمتاع باللحظة التي تغلّف النص وتتخلله، (هندسة المعاني بحسب هندسة الألفاظ وفي تحقيق إيقاعية ونغمية موسيقية تمثل إيقاعية الشعر و نغمه) (1)، وتبعث على النشوة والاستدراج في منظومة جمالية تتخطى حدود التقليد الشائع إلى مناخات توفر للمتلقي فضاءات رحبة كانت مفترضة، إلا أن إمكانية الخطيب هي التي تخترق الدائرة المغلقة وتسبح في عوالم روحانية تمارس تأثيراتها على الأفراد، ما يجعلها تمثل مركزاً أو قطباً جاذباً؛ إذ أن الخطاب العلوي يركز بصورة مستمرة على القيم النبيلة والتسامي على كل ما هو وضيع أو غیر شريف وكذلك يشير إلى التربية النفسية الذاتية والانطلاق منها إلى الآخر في محاولة لسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها أصحاب السلوك المنحرف زيادة على أن الخطاب العلوي يتصف بتعددية الإشارات فهو لا يتناول جانباً واحداً من السلوك، إنما ينطلق من البنيات الكبرى في السلوك بوصفها القاعدة التي تؤسس لسلوك جمعي ينتظم فيه أفراد المجتمع على وفق نسق معرفي يلتقون فيه جميعاً ويصدرون عنه جميعاً، وهذا لا يعني الخضوع أو الحجر على العقل البشري لئلاً .

ص: 119


1- جماليات النثر العربي - الفني، الموسوعة الصغيرة ع 17/424.

تتوفر لديه حرية العطاء والتفاهم مع الآخر، بل إنّه يشير إلى مرتكزات ينطلق منها المجتمع وهي بمثابة خط الشروع في حركة الحياة، فهو يقول:

(كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه ومفتون بحسن القول فيه، وما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له) (1).

تتحدد جمالية هذا النص في مرتكزاته التي تنتشر على مساحته النصية بين الكلمة والنسق الثقافي الذي يمثل الكفة التي تجعل الميزان يميل باتجاه محدد، كما أن هذا التسلسل في الوصف يؤكد سمة جمالية مهمة تشير إلى أن المعنى لا يتم إلا على وفق هذا التدرج من الحالات النفسية والاجتماعية فالاستدراج هو مقدمة للغرور والغرور مقدمة للافتتان ومن هذه الحالات الثلاث ينتج أمر مهم جداً، وهو الابتلاء من قبل الخالق عز وجل، الذي يمثل الوجه الآخر لهذه الحالات التي وصفها الإمام، كما أشار إلى أن ذلك يتم عبر الإملاء له أي بالسكوت عنه مدة من الزمن لعله يرتدع إذ أن ذلك يعد استدراجاً وغروراً وافتتاناً؛ لأنها كلها تساوي الإملاء، مما يسبغ على هذه الوقائع إدانة صريحة توجه إلى الفرد بشكل لا يقبل الجدل والمماحكة أو المماطلة أو المراوغة، وهذا يسبغ على النص والانفعال به لذّة أو نشوة جمالية تتمرد فيها الروح أو يتمرد فيها العقل على القيود الدنيوية، ويعود إلى المنبع الأول الذي يعد النبع الصافي والمورد العذب.

إن هذه المزاوجة بين الألفاظ التي ترتبط التي ترتبط في نسق علائقي يؤدي إلى نمو الفكرة المطلوبة، جاءت إدراكاً من الإمام عليّ علیه السلام لأهمية هذه الحالات في حياة الفرد، وبالنتيجة في حياة المجتمع؛ إذ أنها تسهم بشكل حقيقي في توجيه حياة الفرد والمجتمع.

يتصف الخطاب العلوي بإثارته لموضوع القيم النبيلة ومحاولة دفع المجتمع باتجاه التفاعل معها وتطبيقها بما يعود عليه بالمنفعة، فيقول:

(لا مال أعوَدُ من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل 8.

ص: 120


1- ابن أبي الحديد 226/18.

كالتدبير ولا كرم كالتقوى ولا قرين كحسن الخلق ولا ميراث كالأدب، ولا قائد كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا زرع كالثواب ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزهد في الحرام ولا علم كالتفكر ولا عبادة كأداء الفرائض ولا إيمان كالحياء والصبر ولا حسب كالتواضع ولا شرف كالعلم ولا عزَّ كالحلم ولا مظاهرة أوثق من المشاورة) (1).

تقوم بنية النص في مظهرها الجمالي على اتساعها إلى الحد الذي حوت فيه المرتكزات التي تقوم عليها الفضائل، فضلاً عن تلك التي يقوم عليها الاعتقاد الديني، أو هي تتناول جانبي الحياة الإنسانية (لأنها تتمحور إما في الجانب الحسي، أو في الجانب الروحي، فإن الإدراك الجمالي وحده يعيد للإنسان كليّته؛ لأنه يطلب الاثنين معاً: الحس والروح) (2)، فالنص يبدأ من المال بوصفه وسيلة الحياة المادية إلّا أن هذا النفي له من مملكة السلوك، والتعويل على العقل كونه يمثل المال الذي لا ينفد، يعد تصحيحاً لمفهوم ربما كان سائداً في المجتمع أو سيسود يوماً ما، بل إن المفردات التي تعد ذات بعد اقتصادي مثّلت في النص ثوابت مهمة وهي (مال، ميراث، تجارة زرع) قد جاءت بصيغة النكرة ابتعاداً بها عن الفاعلية التي ستكون عليها في مجتمع تشيع فيه الفضائل وتسمو الأخلاق وانتهى النص إلى أن يبرّز أثر الاعتقادات في توجيه الحياة الدنيوية للمجتمع وهي سمات حضارية تبتعد به عن التعالي القبلي وقدسية رابطة الدم وتنحاز إلى إعلاء شأن المنهجية الحضارية المتمثلة في (الحسب والشرف والعز) وهي محاولة لدفع المجتمع باتجاه عناصر وجدانية تنبع من الذات؛ لتشكل دائرة جمالية تمثل حصيلة الجهد المعرفي لدى الإنسان. .

ص: 121


1- ابن أبي الحديد 221/18.
2- النظريات الجمالية 96.

البنية النصية

مدخل

اشارة

إذا كانت السردية (البنية الأساسية في تجربة الزمن) (1)، وأن الشعرية (لغة داخل اللغة) (2) بما تكثفه من معانٍ معان تنشأ من خلال تراكيب سياقية يتألف فيها الذاتي والموضوعي في الخطاب، بما يحقق تطوراً تصاعدياً في أهداف الخطاب وبيان اقعيته من جهة، وانتمائه إلى عالم المثل العليا من جهة أخرى، فهذا يعني أن البنية الكلية للخطاب تتحدد في البنية النصية أو بنية النص؛ إذ أن الخطاب العلوي لم يكن معنياً بالنطق والكتابة كونهما يمثلان متعة لصاحب الخطاب في استعراضية القدرات والملكات إنما كانت الوظيفة التي أنشئ من أجلها الخطاب هي وظيفة النص التي يمكن تحصيلها عن طريق تداولية الخطاب، كما أن تشكل النص في بنيته ليس خروجاً عن اللغة المألوفة وقواعدها، بل إن الانحرافات التي ترد في النص هي التي تسهم بشكل واضح في تشكل بنيته وفهمها لا على أساس ما يبدو لحواسنا، بل على ما موجود في ذاته، وأن النظر إلى ما وراء النص يعني معرفة ضرورية في الاتساع في الأدوات والوسائل.

إن اتساع دائرة الخطاب عبر نصوص مروية سواء كانت ملفوظة أو مكتوبة لم تكن لتخرج الإمام عن دائرة الخطاب في بنيّته النصية، ففي حين نجد الخطاب ينبض بأعمق المشاعر الإنسانية، نجده في مكان آخر تنزل الكلمات فيه كأنها الصواعق في خوف مهول وجوّ مرعب، وهو في كل ذلك يعبر عن شخصية واحدة تعددت مواهبها ومواصفاتها وكان الهدف واحداً في كل بنيات الخطاب وأنماطه ومستوياته.

لقد شغل الحب الإلهي مساحة غير قليلة من الخطاب العلوي، وكذلك الزهد وذم الدنيا، والتنفير عن الرذائل، والدعوة إلى الفضائل، كما أن رواية التأريخ

ص: 122


1- بنية اللغة الشعرية 129.
2- الوجود والزمان والسرد 115

أو ما يسمى بالمرويات الكبرى التي تعد خطابات من الدرجة الثانية) (1) كانت إحدى مكونات الخطاب العلوي مبيّناً من خلالها مستويات الظلم الاجتماعي، وموضحاً مقاصد العبرة والموعظة في اتباع واقتفاء سير الصالحين فضلاً عن الأنبياء والمرسلين في التأريخ.

ولعل شعور الغربة أو الاغتراب الذي أشار إليه الإمام علي في أكثر من نص، مثّل فورة من فورات العاطفة الربانية التي تنسجم مع البنية النصية للخطاب العلوي، فهو يقول:

(أين الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحكموه وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ... لا يبشّرون بالأحياء، ولا يعزّون عن الموتى مره العيون من البكاء خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء صفر الألوان من السهر على وجوههم غبرة الخاشعين أولئك أخواني الذاهبون فحقّ لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدي على فراقهم) (2).

يقوم النص على أساس التساؤل المتفجّع على واقع مرير انتهى إليه أمر الخلافة في عهد الإمام علي علیه السلام، وهو يسير من فتنة إلى فتنة ومن حرب إلى حرب وهذا يعني تعطيلاً للحياة ولمسارها الصاعد.

إن الإمام في خلافته، لو ترك له الخيار لكان قد تفرع إلى العدل وإقامة الحق والنظر في أمور الناس إلا أن ذلك لم يحصل، بل إن أصحابه كانوا يرون أن خروجه معهم للقتال ضرورة، فقد قالوا له إن سرت سرنا معك، فكان جوابه لهم:

( ... وإنما أنا قطب الرحى، تدور عليَّ وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها، ثم شخصتُ عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال طعّانين عيابين، حيّادين روّاغين ...) (3). ة.

ص: 123


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- ابن أبي الحديد 226/7.
3- المصدر نفسه 222/7. الخطاب في نهج البلاغة.

يبدو أن قاعدة التكرار في الخطاب العلوي ليس قولاً يقصد من ورائه ملء الفراغ الزمني من حيث الخطاب الملفوظ، أو إشغال الفضاءات النصية من حيث الخطاب المكتوب، إنما يشير إلى تحديد المعنى المراد، وهذا بحد ذاته يمثّل مرتكزاً مهماً في البنية الكلية للخطاب لتعزيز تداولية الخطاب من حيث إن الجامع بين الموضوعات المنضوية في البنية الكلية هو انتماؤها إلى مصدر واحد.

إن الخطاب العلوي في تذكّره لأسماء من الصحابة كانوا النموذج في الالتزام بتعاليم الدين الحنيف ومقارنتهم بما آل إليه الواقع أيام خلافة الإمام والخروج بنتيجة فجائعية تصل بالإمام إلى أن يبكي أثناء الخطاب، إنه لدليل واضح على اغترابه وغربته الروحية التي كان يعيشها الإمام، يقول مكرراً الأسلوب ذاته في الحديث عن أصحابه:

( ... أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟ أين عمّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وأُبردَ برؤوسهم إلى الفجرة!).

ويضيف في مشهد حزين إذ يقبض على لحيته ويطيل البكاء ثم يقول:

(أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه! أحيوا السنة، وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه) (1).

قد يصح رأي عالم اللغة دي سوسير في تعريفه للغة حينما تكون نظاماً من القيم المجردة فحسب (2)، إلّا أن هذا النظام من القيم المجردة، هل ينطبق على كلام الإمام علي علیه السلام في هذا النص؟ وكيف؟ وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول إن القيم المجردة التي هي تعني استبدال الكلمة بأخرى (3)، لا يمكنها أن تفي بغرضية الخطاب العلوي، فضلاً عن أنها كانت جزءاً من بنيته النصية، لأن هذا التحشيد .

ص: 124


1- ابن أبي الحديد 79/10 وما بعدها، وهؤلاء الصحابة استشهدوا في الحروب التي خاضها الإمام.
2- ينظر: اللغة والاقتصاد 383.
3- ينظر: المصدر نفسه والصفحة.

للعاطفة المغتربة في محيطها يُلزم الذات صاحبة الخطاب بألّا تكون عرضة للاختراق الجهوي أو الفكري، فالخطاب العلوي حافظ على بنيته النصية بوصفها جزءاً من كيانه العام، بالرغم من أن هذه القيمة المجردة تتحول إلى قيمة انفعالية باستعمال اللغة تتجدد في اعتماد الذات وارتكازها على محور دائري يمكن من خلال رصد الجزئيات وإحالتها إلى كم انفعاليّ هائل يعبر عن اغتراب هذه الذات؛ لأن التكرار في أداة الاستفهام (أين) ينبئ عن حزن دفين انغمرت فيه الذات، فضلاً عن هذا الإيقاع التصويري الذي بدأ من كلمة التحسر (أوه) وتلته الأفعال التي تنتهي بالفاصلة نفسها وهى (فأحكموه، فأقاموه، فاتّبعوه) كما أن تكرار حرف الواو الممدود صوتاً أخفى إيقاعاً بكائياً يستشعر الغربة الروحية بأبعادها المختلفة.

إن التفاعل الذي يحدثه النص مع المتلقي يتكون من (دلالات وبنيات "كبرى وصغرى" يتم إنتاجها من خلال ذات النص) (1): لأن إنتاج النص مرتبط بزمن محدد، أما (التأثير الذي يحدثه فلا يرتبط بزمان بعينه بل تحدث تلك العملية في أزمنة عدة) (2) مما يفسح المجال أمام تأويلات تتعدد بتعدد القراءات، كما أن النص قد ينغلق على ذاته حين يعجز المتلقي عن النفاذ إليه، أو عدم معرفته بما يريده النص أو الخطاب؛ لابتعاده الروحي عن الإمام؛ لأن التفاعل حين ينقطع بين الطرفين يخفقان في إضافة خطوة أخرى تدل على انفتاح المتلقي، وتشجّع صاحب الخطاب على المواكبة ببث النص أو النصوص؛ لأن اللغة في سياقاتها النصية هي المدخل إلى العوالم الكامنة فيها، وهي وعاء البنية النصية سواء كان المصاحب لها أو المنتج بواسطتها.

يقول الإمام واصفاً حال المجتمع الذي انقطع عنه فلم يعد يفهمه:

( ... ولوددتُ لو أن الله فرَقَ بيني وبينكم، والحقني بمن هو أحق بي منكم قومٌ والله ميامين الرّأي مراجيح الحلم، مقاويل الحق متاريك البغي، مضوا قدماً .

ص: 125


1- علم لغة النص - المفاهيم والاتجاهات - 144.
2- علم لغة النص - المفاهيم والاتجاهات - 144.

على الطريقة، وأوجفوا على المحجة، فظفروا بالعقبى الدائمة، والكرامة الباردة) (1).

إذا كان النص وحدة ملتحمة الأجزاء، تتتابع الجمل فيها وفق نظام بما يؤدي إلى فهم النص جملة بعد جملة؛ لأن بنية النص لغوية منطوقة في المقام الأول، فإن قول الإمام المذكور آنفاً ينسجم مع ما هو معروض من عدم فهم المتلقي لغايات الخطاب حتى وصل الأمر إلى هذا الاغتراب الاجتماعي فجعله يتمنى أنه فارقهم إلى غير رجعة، وقد بني النص على المرتكزات الآتية حسب نظرية (بتوفي) في التحليل الدلالي للنص (2):

جملة مفيدة + حرف توكيد + موضوع + محمول.

أي أن الجملة الفعلية التي بدأ بها النص هي (لوددتُ) ثم حرف التوكيد (أنَّ) بعدها يأتي الموضوع وهو (الله فرق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحق بي منكم) ثم جاء بالمحمول (قوم والله ميامين الرأي ...)، وهذه الجمل والصفات التي يسمّيها علماء النص (بنيات صغرى) (3) هي تمثل مكملات معنى النص، وهي في الوقت ذاته تكمل البنية الكبرى للمعنى المطلوب من وراء النص؛ لأن هذه الإفاضة في الوصف تدل على أن ما يحمله النص من ذات المتكلم يتطلب التوسعة في المعنى وتقليبه باتجاه معين بما يشكل كماً من المعلومات التي تتضام بقوة في بنية واحدة تكون موضوع النص أو الخطاب أو المعنى الكلي.

1 - التماسك النصي:

بالرغم من أن أغلب النصوص التي وردت في نهج البلاغة لم يكن الشريف الرضي قد أوردها بشكل كامل إنما عمد إلى أن يحكّم ذوقه البلاغي والجمالي في النص، إلا أن هذا لم يؤثر سلباً على تماسك النص أو الخطاب من حيث حمله للمعنى أو تأديته له بشكل لا يخل في بنية النص؛ لأن تبلور التراكيب النصية في كيفيات وظيفية أعطى هذا التماسك آصرة وقوّة جعلت منه مترابطاً

ص: 126


1- ابن أبي الحديد 217/7.
2- ينظر: علم لغة النص 211.
3- علم لغة النص 144.

عضوياً في بنياته الكبرى والصغرى، ففي قول الإمام علي في الاستسقاء:

(اللهم قد انصاحت جبالنا واغبرّت أرضنا وهامت دواّبنا وتحيّرت في مرابضها وعجّت عجيج الثكالى على أولادها وملّت التردد في مراتعها والحنين إلى مواردها ...) (1).

إن فهم النص يترتب على أساس تماسكه في بنياته الصغرى حتى يصل إلى البنيات الكبرى، التي هي تمثل إجمال المعنى المراد من وراء الخطاب؛ لأنه (في الحقيقة مفهوم علوي يتضمن مكونات خاصة ببراغماتية النص، وكذلك عوامل غير لغوية كثيرة) (2)، بما يضمن مبدأ التماسك العضوي بين جمله، وهو هنا لا یستتم بنيته الكبرى التي أنشئ من أجلها، لأن ما ورد في بداية النص يمثل شكوى، بعد ذلك ينصرف إلى بيان الحال بقوله:

(اللهم فارحم أنين الآنّة وحنين الحانّة اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في مواجها اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، وأخلفتنا مخايل الجود، فكنت الرجاء للمبتئس والبلاغ للملتمس).

يستمر النص في تحولاته دون أن يعطي نفسه مرة واحدة، إنما هو يستمر في إشاراته التي يبثها من خلال جمله القصيرة حاثّاً الخطى باتجاه المعنى أو المغزى المراد، إلا أن ذلك يترافق مع (اتساع الحركة التركيبية) (3) التي لا تريد بالنص أن يخرج خارج الإطار الاتصالي الشائع، فهو ما إن يصل إلى هذه النقطة في الخطاب حتى يعود ملتمساً توصيل الأفكار التي يتحرك النص أو الخطاب فوقها ملامساً بنيته الكبرى، أو الموضوعة التي أُنشئ من أجلها بقوله:

( ... ندعوك حين قنط الأنام، ومُنع الغمام، وهلك السوام، ألا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنبات المونق سحّاً وابلاً، تحيي به ما قدمات، وتردّ به ما قد فات ...). 1.

ص: 127


1- ابن أبي الحديد 205/7.
2- مدخل إلى علم النص - مشكلات بناء النص - 74.
3- بلاغة الخطاب وعلم النص 231.

إن تسلسل الوحدات اللغوية في النص أنشئ على أساس سببي من حيث تماسكه النصي؛ إذ أن النص يتكون من:

1 - تراكیب جملية تحوي عرضاً مقترناً بحدث، وهي في قوله (ندعوك حين قنط الأنام، ومُنِعَ الغمام وهلك السوام ...).

2 - تراكيب جملية تحوي التماساً غير مقترن بحدث وهي في قوله ( ... ألا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا ...).

3 - تراكيب جملية تحوي طلباً مقترناً بحدث، وهي في قوله (وانشر علينا رحمتك؛ بالسحاب المنبعق ... و ترد به ما قد فات).

إن التحولات النصية أسهمت بما لا يقبل الجدل في تماسك النص؛ لأن (تماسك النصوص ظاهرة تركيبية عميقة) (1)، وإن النص يعد (كمّاً من المنطوقات في وظيفة) (2)، وهذا يعني أن التماسك يبدأ من تكوين النص ذهنياً؛ إذ أن هناك نسيجاً فكرياً يتخلل التراكيب النصية مما يجعلها تلتزم بالبنية الكبرى كونها (تتابعاً متماسكاً من الجمل) (3) من حيث تواصلية الخطاب القائمة على بنية تحتية متماسكة.

إن ما ورد من تكملة للنص السابق لا يعدو أن يكون محمولاً تابعاً يبتغي المتكلم من ورائه إكمال خاصية النص الذي هو يمثل متوالية جملية تنفتح على آفاق غير محدودة من الإشارات والرموز ذات الطبيعة الحركية التي تجد الألفاظ فيها حريتها من حيث التكوين الفكري المقترن بالسطح اللغوي للنص.

يقول الإمام علي علیه السلام في متوالية الدعاء هذه:

( ... اللهم سقيّاً منك مُحیِيَةً مُروِيَةً، تامة عامة، طيبة مباركة هنيئة مريئة مريعة زاكياً نبتها ثامراً فرعها ناضراً ورقها تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميت من بلادك).

ثم يكرر لازمة الخطاب أو النص فيقول:

( ... اللهم سقياً منك تعشب بها نجادنا، وتجري بها وهادنا، ويخصب بها .

ص: 128


1- مدخل إلى علم النص 56.
2- المصدر نفسه 58.
3- المصدر نفسه 58.

جنابنا وتقبل بها ثمارنا وتعيش بها مواشينا وتندى بها أقاصينا، وتستعين بها ضواحينا من بركاتك الواسعة ...) (1).

إن النص والخطاب هو فعل لغوي ينجزه مبدع لقارئ أو متلقٍّ، مما يثير انتباه المتلقي لتحصيل المعنى، ومن خلال فعل الإثارة هذا يتحقق الانسجام النصي، وعليه فإن التحليل النصي يأخذ في الاعتبار إمكانية المتلقي في التفاعل مع النص.

وانطلاقاً من أن النص هو تكوين لغوي أنشئ ليكون التزاماً بقصد معين أو هدف محدد يتبناه مجموعة من الأفراد فيما إذا كان هذا النص ذا بعد اجتماعي أو سياسي، فإن نهج البلاغة يكاد يكون أغلبه في هذا الاتجاه، كونه صدر عن الإمام الذي كان يمثّل راعياً مسؤولاً عن الأمة، فكان لا بد للنص أو الخطاب أن يحمل أهدافاً محددة بما يتلاءم مع الصياغة النصية التي هي الشكل الخارجي.

يقول الإمام عن تسويته بالعطاء بين الناس ومعاتبة بعض صحابته له:

(أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلّيتُ عليه! والله لا أطور به ما سمر سمير وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً! ولو كان لي لسوّيتُ بينهم، فكيف وإنما المال مال الله! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه عند الناس ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه وعند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودّهم، فإن زلّت به الفعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خليل، وألأم خدين) (2).

يتحدد التماسك في النص على مستوى الدلالات حينما تكون العلاقات قائمة بين المفاهيم والذوات (3) على أساس من التصور بأن تتابع الجمل يمثل البنية الكبرى المتحققة بالفعل، وهي تقسم بدرجة قصوى من التماسك والانسجام، وبناءٌ على ما تثيره البنيات الصغرى أو الأجزاء المكونة التي تعد متتاليات جملية تمتلك .

ص: 129


1- ابن أبي الحديد 205/7.
2- ابن أبي الحديد 88/8.
3- ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص 254.

تلك البنيات التي تتأسس على انسجامية النص نفسه وهذا ما يمكن ملاحظته في النص المذكور آنفاً؛ إذ يبدأ بالتساؤل الاستنكاري؛ لأن ذلك يخالف منهج العدالة الذي يسير عليه الإمام، علماً أن جواب التساؤل المنفي مؤكد بالقسم، ثم يأتي النص بفرضية غير متحققة على صعيد الواقع، إلا أن البنية الكبرى التي تنتج عن هذا التتابع الجملي وفي المفهوم العام عن سلوك الشخص القائل، ربما تصبح هذه الفرضية ممكنة التحقق بناءً على معطيات النص الفكرية التي تتسبب في انسجام النص عمودياً، بالرغم من أن النص ظاهرياً غير منسجم بشكل أفقي نتيجة للحذف الحاصل في رواية النص، إلا أن الانسجام العمودي المتحقق كان بسبب أن أية (بنية كلية ما لمتتالية من الجمل) (1) يتحقق من خلالها شروط الانسجام العمودي، لأن البنية الكلية للنص هي موضوعة المال وكيفية التصرف به فردياً أو جماعياً شريطة مراعاة الجانب الديني فضلاً عن الجانب الدنيوي.

إن إنتاج النص يتم بوساطة اللغة؛ لأن النص (ليس مظهراً لسانياً) (2) فقط أي أنه ليس إنتاجاً لغوياً بعيداً عن المكونات الأخرى له، إنما هو يتكون من البنية الفكرية عمودياً من جهة، ومن جهة أخرى من دلالات تلك البنية الفكرية أفقياً وهذان هما أساس الانسجام النصي، باعتبار أن اللغة هي المظهر الشكلي للنص، أما الفكر الدال على العمل الذي ينشأ من تراكمات الجمل وفق منظور خطابي صحيح متبعاً حركة اللغة في بناء أنساقها، فهو المتن الذي يسند ظاهر اللغة، في علاقة أزلية لا ينفك فيها أحدهما عن الآخر.

2 - الدلالة النصية:

إن النظر إلى النص بأنه (إنتاج دائم) كما ترى جوليا كرستيفا (3)، هذا يعني أن نظرية النص أو التحليل الدلالي لا يوجد تمييزاً بين الأنواع الأدبية، بسبب أن النصوص ليست على مستوى واحد من الأهمية، كما أن انفتاح النص أو الخطاب

ص: 130


1- لسانيات النص 42.
2- انفتاح النص الروائي 20.
3- المصدر نفسه 22.

خارج كينونته اللغوية (1) يحقق وجوداً يفرض نفسه على حركة الزمن بما يمتلكه من فعالية تتناغم وحركة المعنى الذي ينحدر من البنية الدلالية التي تنهض من بنيات النص المكونة له مجتمعة بتفاعلها مع حركة الواقع؛ لأنه (يدور على مبدأ الاتصال النفعي والتداولي) (2) بوصفه خطاباً يتناول حركة الواقع اليومي في بعض مفرداته، مما يعني أن النص نظام، ولكنه نظام على نحو مخصوص في انتمائه إلى صنف من أصناف الخطاب، بما يوفر للدلالة أن تأخذ معناها من انتماء النص (3)، زيادة على طبيعة الأداء التي يتم بها النص، يقول الإمام علي علیه السلام مخاطباً الصحابي أبا ذر الغفاري لما أخرج إلى الربذة:

(يا أبا ذر إنك غضبت لله فارجُ من غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وأغناك عما منعوك. وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حسداً، ولو أن السموات والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثم اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً.

لا يؤنسنَّك إلا الحق، ولا يوحشنَّك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ولو قرضتَ منها لأمّنوك) (4).

لا تنحصر دلالة النص هنا بين المرسل والمتلقي، لأنه في طبيعته الأدائية التي يمكن تصورها بناء على تركيب النص بوصفه فعلاً كلامياً ودلالياً، قد أدى إلى صياغة نماذج مفاهيمية تتعلق بالواقع وحركته وتأثير المحيط، زيادة على الأفكار التي يتبناها المرسل والمتلقي والواقع المهيمن؛ لأن تأثيره قد أدى إلى صياغة هذه المفاهيم، فالنص يبدأ من الطبيعة الإبلاغية (إنك غضبت لله فارج من غضبت له) وبذلك فهو يشرع منهجية الفعل وما يترتب عليه، ثم ينتقل إلى تقرير حقيقة إلا أن هذا التقرير يتجه فيه دلالياً لإبراز خطين بالضد من بعضهما، بين الدين والدنيا، بين 8.

ص: 131


1- ينظر: وجود النص - نص الوجود 94.
2- اللسانيات والدلالة - الكلمة - 43.
3- ينظر: المصدر نفسه 13 - 14.
4- ابن أبي الحديد 193/8.

الباقي والفاني بين ما في اليد وما في الضمير، إلى أن ينتهي إلى تقرير حقيقة أخرى تعد نتيجة للأولى فهو يقول:

(فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك(فحاجتهم إلى ما عندك دائمة وحاجتك إلى ما في أيديهم مؤقتة، وكل ذلك ينتمي إلى المنظور الديني الذي ينطلق منه النص، بعدها ينتقل النص إلى فرضية تشبه المثل لتعضد الفكرة المعروضة التي ما تزال رهن الغيب، بما يتناسب طردياً والسلوك المائل أمامه، يشير إلى ذلك بقوله (وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حسداً) في صيرورة كلية تشرف على المستقبل لتقرأ نهاياته المفضية إلى الحقيقة المثلى.

كما أن النص ينتهي إلى ما يشبه الوصية في صيغة الطلب لتماثل الفرضية الأخرى التي أشارت إلى أن الحق يعني الأمان، وأن الباطل يعني الخوف وفي ذلك تتعانق الدلالة النصية ليس فقط بين المرسل والمتلقي، وإنما تنفتح زمنياً باتجاه الماضي والمستقبل فضلاً عن الحاضر، وتنفتح فكرياً لتؤشر إلى ذلك التعامد الفكري والتقاطع بين المبادئ والقيم؛ لأن النص في دلالاته يعيد إنتاج نفسه بناءً على معطيات شموليته لكلام المتكلم وبنيته المستوعبة له دلالياً، متّخذاً متخذاً من الألفاظ دائرته الصغرى، ومن الواقع الذي أشار إليه النص دائرته الكبرى للانطلاق باتجاه الصيرورة الكلية في إنتاج الخطاب، وهذا تقريباً ما يعنيه الجرجاني في حديثه عن النص كونه أمراً كلياً فهو يقول (ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل إن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل) (1) مما يعني أنه يبتغي من وراء ذلك إقامة توازن بين عالم واقعي فعلي يمكن تسميته بالواقع الكلي، وبين عالم إبداعي تحققه الألفاظ في بنية النص.

إن الخاصية الدلالية للخطاب تعتمد على فهم كل جملة من مكونات النص من حيث العلاقة الرابطة مع الجمل الأخرى، وهذا ما تلمحه في الإمام علي علیه السلام

عن الباري عز و جل:

(الحمد لله الذي بطن خفيّات الأمور، ودلّت عليه أعلام الظهور وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره ... 9

ص: 132


1- دلائل الإعجاز 49

لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عما يقوله المشبهون به والجاحدون له علوّاً كبيراً) (1).

يقوم النص على نواة دلالية كبرى تتعلق بالوجود الإلهي المقدس، وأن اعتماد النص على هذه التراكيب أوجب استعمال الفعل (دلّت) كونه يصرّح بأن هناك دالاً ومدلولاً في النص، في قصدية دلالية تتجاوز الممكن إلى اللامتناهي، والمحدود إلى اللامحدود، والمألوف إلى غير المألوف، في بنية لغوية ارتكزت على جمل منفية جعلت منها منطلقها في الإثبات، فقوله (فلا عين من لم يره تنكره ولا قلب من أثبته يبصره) يعلن بما لا يقبل الجدل أن عدم رؤيته بالعين البشرية لا يعني عدم الوجود، وكذلك قلب المثبت لوجوده، بعد ذلك ينتقل إلى أن يقلب التصورات الحاصلة نتيجة الاستقراء النصي لكي لا يقع في دوامة الوهم أو التوهّم، فيقول (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) وكأنه بذلك يشير إلى الاستدلال المنطقي بالأشياء على وجودها، وهذا يعني أن ليس هناك صناعة من دون صانع، وبالنتيجة لم يترك النص عائماً دلالياً، بل ذكر في بدء النص أن الله (بطن خفيات الأمور ودلت عليه أعلام الظهور) إذ أن استعمال النص لمفردتين ترى فيهما العين تضاداً لفظياً قد يربك الاستنتاج للدلالة اللغوية، إلا أن البحث العميق في مدلولات الألفاظ تبعاً للسياق الذي جاءت فيه، فإن مساحة الوعي الذهني في البحث عن الدلالة تتوصل إلى نتيجة مفادها أن (بَطَنَ، الظهور) تشم منهما رائحة الدلالة الوجودية التي تحيط بالمكان دون استطاعتها أن تحيط بالمحيط بها.

وهذا المنظور الدلالي كشف عنه النص نفسه في قوله (فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود) مما يعني أن البدائل الدلالية المختزنة داخل النص تمارس فعلها الدلالي خلف الألفاظ في إشارات ترسلها إلى ذهن المتلقي على وفق مديات تبتعد وتقترب بحسب الوعي الذي يتفاعل مع المعاني 3.

ص: 133


1- ابن أبي الحديد 169/3.

ودلالاتها داخل النص.

3 - بناء النص أو الخطاب:

إن النص حين ينمو - في بنائه - فكرياً ولغوياً، فهو يمثل حالة تشجير استدلالي، يتراكم فيه المعنى متشعباً من خلال الألفاظ التي تتسق في سياقات تفضي إلى ذلك التراكم المتشعب، ففي النص المذكور آنفاً نجد ذلك واضحاً، إذ يمكن التحقق منه كالآتي:

الصورة

فكان التركيب اللفظي (الحمد لله الذي) هو الجذر الكلامي الذي انبثقت منه كل التفرعات الكلامية بما ينشئ تشجيراً نصياً يقود إلى تشجير دلالي

ص: 134

واستدلالي في الوقت ذاته. ويمكن أن نلحظ ذلك في نص آخر أنشئ على بنائية النص أو الخطاب ذاتها، ففي قول الإمام علي علیه السلام:

(الحمد الله الذي لم يسبق له حالٌ حالاً، فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كلّ مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غیره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مال غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمّه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره باطن وكلّ باطن غيره ظاهر) (1).

كما في النص السابق نجد في هذا النص أن التركيب (الحمد لله الذي ...) يمثل الجذر الذي تنتمي إليه شجرة النص، أو هو المرجع الذي تستقي منه الجمل المكونة للنص شرعية وجودها في شجرة النص التي ربما تجاوزت مرحلة التفرع الأولى - كما في النص السابق - إلى مراحل أخرى في تفريغ النص، وكأن ذلك إشارة إلى قدرة النص على التوالد الجملي في بنائه التشجيري الذي هو بدوره يمثل دليلاً آخر على الثراء النصي أو الخطابي وهذا ما نلحظه في ترسيمة النص التي ذكرنا فيها التفرع الجديد دون تكرار ما سبق:

الصورة

نرى أن الخطاب قد عاد إلى تفرعه الأول فأنشأ عليه تفرعاً جديداً مما يعني 5.

ص: 135


1- ابن أبي الحديد 124/5.

أن التفرعات الأخرى يمكن أن يعيد الخطاب توالدها في متتالية جميلة تحاكي قضية الوجود وانفتاحه.

كما أن النص أو الخطاب عمد إلى إنشاء شجيرات جميلة متجاورة تتعاطى فيما بينها الدلالات والمعاني فضلاً عن البناء النصي أو الخطابي الذي ينمو على وفق مثال جديد من الإحالات التي أسهمت في أن يكون منفتحاً عمودياً في مراحل ثلاث من التفرعات في شجرة النص أو الخطاب كما في قوله:

(لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوف من عواقب زمان ولا استعانة على ندّ مثاور، أو شريك مكاثر، ولا ضدَّ منافر، ولكن خلائقٌ مربوبون وعباد داخرون لم يحلل في الأشياء فيقال: هو فيها كائن، ولم ينأَ عنها فيقال: هو منها بائن) (1).

لعل حركة العلاقات اللفظية داخل النص تعطي بعداً للذهن في التفتيش عن المنطلقات الأساسية للنص أو الخطاب في بناء منظومته الشجرية من الجمل وفق تشكیل متراص ينمو ويتفرع باتجاه كوني متفتّح في وضع يشير إلى وحدانية الوجود التي تتخذ من الأشياء ثوابت في الدلالة على ذلك، ناهيك عن مهمة الألفاظ في نظامها المتسق، فالنص السابق يذكر - بناءً على جذر نصي سابق - أن الله عز و جل لم يخلق ما خلق لسبب من الأسباب التي ذكرها الخطاب أو النص، إنما (خلائق مربوبون وعباد داخرون) وهذه هي الغاية من الخلق (2)، ولكي نبيّن ما أراده النص في بنائه الشجري، يمكن إيضاح ذلك وفق الترسيمة الآتية: .

ص: 136


1- ابن أبي الحديد 124/5.
2- تناول ابن أبي الحديد هذا الموضوع كلامياً في شرحه 125/5 وما بعدها.

الصورة

وبذلك يتحقق الانفتاح النصي أو الخطابي الذي أشرنا إليه آنفاً متّخذاً من الفضاء الكلامي الذي يمنحه التشجير النصي للرؤية طريقاً في الدلالة والاستدلال في تشكيل الخطاب، كما أن النص في طريقة التشجير هذه لا يمكن أن يلغي دور الروابط بين الجمل، فهي التي اتخذت منها هذه الطريقة دالاً في سلوك المعنى، ومحاولة استنباط ما يمكن استنباطه من المعنى.

وقد يذهب النص أو الخطاب العلوي في طريق دائري بعيداً عن التشجير النصي، أي ما يمكن أن يسمى (دائرة نصية) في عرض الأفكار، مما يعني أن الفهم النصي لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال هذه التعبيرات الجملية التي تمثل - من وجهة نظر الخطاب العلوي - أنها هي الركيزة الأساس في بناء الفكر الديني، مستغلاً الطاقة التي تختزنها اللغة في تراكيبها، ومستفيداً من ضمير الشأن (هو) الذي يشكل في المفهوم النصي - هنا - ممثلاً تعبيرياً (1) متعدد الأبعاد في استبدال الألفاظ .

ص: 137


1- ينظر: مدخل إلى علم النص 62.

التي أفادت من حرف الواو الذي يعد رابطاً اتصالياً فيما بين الألفاظ.

زيادة على ذلك فإن النص أو الخطاب العلوي في قول الإمام:

(لأنسبنَّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل) (1).

قد أفاد الاسمية في بسط الفكرة التي تناقلتها هذه الألفاظ بعناية شديدة، بالرغم من أنها تقابل بين المفهوم العملي للنص، والمفهوم الفلسفي له بسبب أن النص انفتح باتجاه فلسفي بعيداً عن الطابع العملي، إلا أن ترسيمة النص تعيد إليه نشاطه العملي، كما يأتي:

الصورة

إن بناء النص على أساس تتماهى فيه المفردات في مسيرة كروية يعني أن أي انقطاع في هذه البنائية النصية سينجح عنه انقطاع في التطبيقات العملية للإسلام؛ لأنه (أي الإسلام) يتضافر وجوداً لغوياً وعملياً مع كل المرتكزات التي بني عليها النص.

إن نسقية (الإسلام) في تصدره بناء النص، حينما يشير الإمام إلى أنه 8.

ص: 138


1- ابن أبي الحديد 251/18.

سینسبه نسبة لم ينسبها أحد قبله، إنما يشير إلى ارتكازية الدين بوصفه فكراً عملياً تطبيقياً شاملاً لأن هذه النسبة توزعت بين سلوك قلبي وآخر تطبيقي ظاهري مما يفيد أن كل لفظة من هذه الألفاظ تقوم مقام الأخرى في إفادة المفهوم الحركي للإسلام.

إن الإدراك السليم للبنية النصية يعد شرطاً ضرورياً للوصول إلى تحليل علاقات النص، وضبط خواصه؛ لأن الوقوف عند الجمل المكونة للنص أو الخطاب بمستواها اللغوي الصرف، بعيداً عن مواقعها النصية، لن يكون ذا إسهام فعال في الكشف عن الخواص النوعية في بنية النص أو الخطاب، وهذا يعني أن معرفة مواقع الألفاظ في النص وشبكات الاتصال التي تتدرج من خلالها في إقامة العلاقات السياقية، يعد أمراً مهماً في التحليل بغية التعرف على الأجزاء المكونة لها وظيفياً وبنيوياً، وشرطاً ضرورياً لإمكانية البحث واكتشاف النسيج البنائي للنص أو الخطاب.

وفي قول الإمام علي علیه السلام)فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الأول الذي لا غاية له فينتهي، ولا آخر له فينقضي) (1).

الصورة

ص: 139


1- ابن أبي الحديد 47/7.

ففي هذا النص أقام السبب على التسبيب دون أن يهتزّ المعنى المراد والذي يتضمنه النص في أثناء العلاقة الرابطة بين ألفاظه كما أن تكرار حرف (لا) النافية مثّل عقدة لفظية لا يمكن تجاوزها من حيث تأدية المعنى أو القفز فوقها لبناء النص بشكل آخر، وهذا يعني أن الرابط اللفظي يعد مرتكزاً مهماً في بناء النص أو الخطاب فضلاً عن نسقيته النحوية التي تعد لازماً علائقياً في الكلام.

إن العمل على بنية النص بشكل معقد ومتعدد المستويات في النماء النصي بما يؤدي إلى تداخل المضامين وتقاطعها لكن بشكل يحافظ على تناسق بنية النص وانسجامه كل ذلك يعد من الأمور المعقدة على المتكلم لاسيما وهو يقف أمام قوم عرفوا بالبلاغة والفصاحة، كما جرى للإمام علي علیه السلام، كما يمثل طاقة كبرى في المحافظة على نسيج النص بالرغم من تفرعاته وانتشاره على ذلك النسيج الذي هو بمثابة الأرض التي تنبت عليها الألفاظ مكونة سياقات نصية تتبارى فيما بينها لأداء المعنى، يقول الإمام علي علیه السلام:

(الحمد لله الأول فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه) ثم يصف النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم فيقول:

(مستقرّه خير مستقرّ، ومنته أشرف منبت، في معادن الكرامة ومماهد السلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار وثنيت إليه أزمّة الأبصار، دفن الله به الضغائن، وأطفأ به النوائر، ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، وأعزّ به الذُّلّة، وأذلّ به العزةَ، كلامه بیان وصمته لسان) (1).

يبدو أن النص - ظاهراً - قد انقطع بعضه عن بعض؛ لأنه بدأ بالتحميد ثم انتقل إلى وصف النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم من دون ذكره صراحة في النص، إلا أن الشريف ذكر ذلك بقوله (ومنها في ذكر الرسول صلى الله عليه و آله) مما يعني أن الانتقاء على وفق الذوق الجمالي والبلاغي كان هو الحكم، مما سبب هذا الانقطاع الشكلي في النص، إلا أننا إذا عدنا إلى استقراء بنية النص في مضمونه، هل يمكن .

ص: 140


1- ابن أبي الحديد 52/7.

أن نجد أنّ هذا الانقطاع يصل إلى المضمون؟ إِنَّ الباحث المنصف لا يستطيع أن يساير تلك الفكرة؛ لأن بناء النص جاء على وفق محددات وصفية تتنامي مع جمله بما ينسجم مع المقام الإلهي والنبوي في اقترانهما القدسي؛ إذ أن جملتي (فلا شيء قبله فلا شيء بعده) يقابلها في المفهوم النص قوله عن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم (مستقره خير مستقر، ومنبته أشرف منبت ...) وأن جملتي (فلا شيء فوقه، فلا شيء دونه) يقابلها في المفهوم النصي قوله ( ... صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمة الأبصار ...) وهذا يعني أن التقابل في المفهوم النصي قد أسهم بفاعلية كبرى في ردم الانقطاع الشكلي الذي عانى منه النص، لكن الانسجام والتماسك النسيجي في النص، كان بمثابة سداء لحمة النص في بنيته.

ص: 141

الفصل الثاني / أنماط الخطاب

مدخل:

إذا كانت الحضارات الشرقية ومنها الحضارة الإسلامية حضارة الكلمة كما عبر عن ذلك الدكتور حسن حنفي (1)، وإذا كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وخطابات الخلفاء الراشدين تمثل عنوان هذه الحضارة، فهذا يعني أن الخطاب العلوي وهو جزء من هذه المنظومة التي أطلق عليها حضارة الكلمة، وهذا يعني أيضاً أن هذا الخطاب الذي اتّصف بالأدبية من حيث الشكل على الأقل ليس (مجرد لهو فردي للخيال، أو نزوة منعزلة لذهن منفعل) (2)، بل هو صياغة لمتطلبات حياة المجتمع على وفق أسس علمية صحيحة، وتخطيط منهجي يخضع لرؤية تتجاوز الأطر الضيقة وتنفتح على أفق أوسع يستشرف الحياة في حاضرها ومستقبلها، في الوقت الذي تقرأ فيه الماضي في توظيف العبرة والموعظة واستنطاق التجربة، بما يعد في المحصلة النهائية توظيفاً للماضي من أجل الحاضر والمستقبل.

ولأن الخطاب العلوي هو جزء من هذه الحضارة، فإن الواجب الديني والأخلاقي يحتم على الإمام علي علیه السلام بوصفه رمزاً أساسياً من رموز هذه الحضارة وفاعلاً في دفع عجلتها بما ينسجم مع الدعوة الإلهية والتأسيس لدولة تقوم على النظم القانونية والإدارية والاقتصادية والتربوية وغيرها من أسس إقامة الدولة يحتم على الإمام أن ينشط ومن خلال عرضه للأفكار في بيان ما يراه مناسباً لبناء

ص: 142


1- تحليل الخطاب الأدبي – أبحاث مختارة، 17.
2- النقد الفني - دراسة فلسفية ونقدية، 693.

نظام قائم على الأسس الصحيحة في العلاقة بين أفراد المجتمع، وفي واجبات الفرد تجاه المجتمع، وحقوق الفرد من المجتمع، وفي كل ذلك، لا بد من وجود محددات للحقوق والواجبات تحمل المجتمع على السعي لضمان ذلك. لقد أفاد الإمام علي كثيراً من القرآن الكريم، بل يندر أن تجد نصاً من نصوصه يخلو من شاهد قرآني، وقد أفاد كذلك من الحديث النبوي الشريف في وضع ما يراه مناسب مناسباً في الجوانب كافة من إقامة الدولة الجديدة، مراعياً بذلك سياسة القرآن ومتطلبات العصر، فضلاً عن إشاراته المستقبلية وإخباره عن حوادث الدول، كل ذلك في لغة اتّسمت بالبلاغة العالية والصور والتشبيهات والاستعارات، كما بيّنا ذلك في الفصل الأول، وبالرغم أن الخطاب في نهج البلاغة متداخل بعضه ببعض، فقد حاولنا فرز ذلك على وفق أنماط الخطاب التي يمكن حصرها في الآتي:

1) الخطاب الاجتماعي: علاقة السلطة بالمجتمع - العلاقات الفردية والاجتماعية

2) الخطاب السياسي: السلطة والمعارضة - الأسس الكلية للخطاب السياسي.

3) الخطاب الاقتصادي: الثروة ومصادرها – العدالة في التوزيع.

4) الخطاب الإداري.

5) الخطاب العسكري: تعبئة الجيش وعقيدته - جغرافية حركة الجيش والموقع الأفضل - منهجية السلم والحرب.

6) الخطاب الفقهي: صناعة الفتوى - علم الحديث ورواته.

7) خطاب الزهد: زهد العالم - الزهد الإيجابي والسلبي - علاقة الزاهد بالمجتمع.

8) خطاب الدعاء: علاقة العبد بربه وكيف يراها - نمطية الدعاء.

9) الخطاب التربوي والأخلاقي: أسس التربية - الدين والتربية - المنهج في التربية.

10) الخطاب الطبيعي: أوليات الخلق - ما يتعلّق بالكون - البحار والجبال.

ص: 143

11) الخطاب النفسي: التقوى والنفس – الهوى والوازع الديني.

12) الخطاب المعرفي: الفيض المعرفي - المعرفة والسلوك.

أولاً / الخطاب الاجتماعي:

يمثل الخطاب الاجتماعي نمطاً خطابياً في نصوص نهج البلاغة أفرز من خلاله الإمام علي علیه السلام نظرياته - إن صح التعبير - الاجتماعية، وكيف يتم التعامل مع المجتمع، وما يمكن أن ينظم العلاقات بين أفراد المجتمع بل إنه ذهب إلى أكثر من ذلك؛ إذ أشار في كلماته إلى أهمية العلاقة الأسرية بما فيها علاقة الزوجين وعلاقتهم بالأطفال، وأنه تعرض إلى مبادئ في التربية والأخلاق، سنعرض لها في الخطاب التربوي والأخلاقي إن شاء الله.

إن الخطاب الاجتماعي في نهج البلاغة بُنِيَ على أساس النظرية الإسلامية بوصفها المعين الرئيس الذي يمتح الإمام على أفكاره منها؛ إذ جاء منسجماً معها في المبادئ والفروع، بل إنَّ الإمام استطاع أن يعطي للمنهج الاجتماعي زخماً دافعاً لتطبيق تلك المبادئ التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة ونبذ الظلم الاجتماعي.

لقد أفاد الإمام من كونه خليفة، في أن يعرض آراءه الاجتماعية، والعلاقة بين السلطة والمجتمع وأن يشرح الحقوق والواجبات فيما بين هذين الطرفين، إذ أنهما طرفا معادلة الحكم، ثم إنه أعطى الصورة الحقيقية للعلاقة بين الأفراد داخل المجتمع، مثلما أوضح حقوق المجتمع على الأفراد، وهذا هو نسيج الدولة في مفهومها المحدد [أفراد - مجتمع - سلطة - حاكم]، وقد عرفها هوبز بأنها (تكوين صناعي بمقتضى تعاقد إرادي، بمعنى أن المجتمع لم ينشأ تلقائياً، وإنما إرادة الناس هي السبب في وجود المجتمع، وإن مسؤولية الحكم والحكومة إنما هي توفير الفرصة لإشباع غرائز الأنانية لدى الأفراد في المجتمع، وعلى هؤلاء الأفراد الالتزام بالقوانين التي تصدرها الحكومة) (1).

ص: 144


1- التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره، 236.

إن هذا التكافؤ في الحقوق والواجبات أشار إليه الإمام علي علیه السلام وحدده في منهجية للحكم واضحة وفي تنظيم للعلاقة الاجتماعية بين الحاكم والمجتمع ويمكن تتبع هذه المنهجية في ما يأتي:

أ - علاقة السلطة بالمجتمع:

يمثل الحاكم من وجهة نظر الإمام حارساً والسلطة أمانة وإن أي تجاوز للحقوق من قبل الحاكم يعدّ خيانة للأمّة، فهو يقول في رسالة له إلى الأشعث بن قيس عامله على أذربيجان:

( ... وأن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة وأنت مسترعى لمن فوقك ليس لك أن تفتات في رعية ولا تخاطر إلا بوثيقة ...) (1).

وهكذا فإن الإمام يشير إلى ضرورة وسمة يجب توافرها في الوالي وهي سمة الأمانة، كما أنه يوجب على الحاكم ضرورة عدم استعماله الخونة وتكليفهم بأعمال، لأن ذلك بمثابة الخيانة للنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهو صاحب الدعوة وإن كان غائباً عن مسرح الحياة؛ إلّا أنه يعيش برسالته.

إننا نجد الإمام يقرن هذا الكلام بالتطبيق وليس شعاراً يرفعه لإيهام الجماهير، ففي كتابه إلى المنذر بن الجارود العبدي الذي كان والياً لبعض الأعمال، يقول:

(أما بعد، فإن صلاح أبيك غرّني منك، وظننت أنك تتبع هديه، وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رُقي إليّ عنك لا تدع لهواك انقياداً، ولا تبقي لآخرتك عتاداً، تعمّر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر أو يُنقَذَ به أمر أو يُعلى له قدر أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية

****

(1) ابن أبي الحديد 29/14. والأشعث من بني كندة زوّجه أبو بكر أخته أم فروة بعد حرب الردة، المصدر نفسه 273/1

ص: 145

فأَقبِل إليَّ حين يصلك كتابي هذا، إن شاء الله) (1).

نجد هنا أن الإمام قد حدد السبيل الذي يجب على الوالي أن يسلكه تجاه الناس ناهيك عن السبيل الذي عليه أن يتخذ فيما بينه وبين الباري (عزّ وجل) بوصف الوالي أميناً على مصالح جماعة من الناس أوّلاً، وعلى مصالح نفسه ثانياً بوصفه مسلماً ويؤمن بالرسالة المحمدية التي تعد في المرتبة الأولى قبل الانتماء إلى العشيرة، فيقول الإمام علي علیه السلام (وتصل عشيرتك بقطيعة دينك) وعليه فإن الانتماء القبلي يمكن أن يتعارض مع المصلحة الإسلامية العليا إذا لم يكن في خدمة الدين عقائدياً، وإلّا فالأولى عدم إشراك من كان يحمل هذه الصفة في تسيير أمور المسلمين أو الدفاع عن ثغورهم، أو جباية الأموال أو تقريبه من ذوي السلطة؛ لأن ذلك يعد منفذاً له لتنفيذ مآربه الخاصة به وبعشيرته كما نرى ذلك واضحاً من النص السابق؛ إذ يمثل هذا المنهج أسلوباً جديداً في تنظيم العلاقة الاجتماعية بين السلطة والمجتمع، لما وجده الإمام من استهتار بحقوق الناس وانتشار المحسوبية في السلطة آنذاك، فكان لا بد أن ينتهج نهجاً مغايراً لما سبقه، ومثلما يعرض آرائه في الولاة والولاية كذلك فإنه يبيّن الحقوق والواجبات المتبادلة بين الوالي والرعية، فيقول:

( ... أيّها الناس إن لي عليكم حقّاً، ولكم عليّ حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقّي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم ...) (2).

تتحدد حقوق الرعية في نقاط أربع كما يرى ذلك الإمام:

1) النصيحة للمجتمع ويتم ذلك في عدم خيانة الأمانة التي وضعها .

ص: 146


1- ابن أبي الحديد 41/18. وهذا الرجل وصفه الإمام ب (إنه لنظّارٌ في عطفيه، مختال في برديه، تفّالٌ في شراكيه) وهو من بني عبد القيس، أبوه الجارود الصحابي المعروف. المصدر نفسه.
2- ابن أبي الحديد 151/2.

المجتمع في عنق الحاكم وأن لا يقطع أمراً دونهم، وأن لا يضلل الجماهير أو يمارس الخداع والكذب من أجل الرغبات الشخصية أو الفئوية؛ لأن الإمارة أمانة.

2) توفير الفيء لأفراد المجتمع، وهذا جانب مهم في أمانة الوالي لأن الأموال هي ملك المجتمع والحاكم أو الوالي هو أمين على ذلك وأن يؤدي لكل ذي حق حقه بغض النظر عن أي شيء آخر.

3) تعليم المجتمع، وهو حق على الوالي أو الحاكم أن يقوم به لأن ما من حاكم يريد الخير لمجتمعه إلّا ويبادر لنشر العلم وإجلال أهله لكي ينشر الوعي بين الأفراد؛ إذ أن المجتمع المتعلم يكون محصّناً ضد كثير من الأمراض الاجتماعية والفكرية على عكس المجتمع الجاهل الذي يكون عرضةً لهذه الآفات.

4) تأديبهم كيما يعلموا وهذا أيضاً من حقوق المجتمع على الحاكم وهو إشاعة روح المحبة والتسامح والفضيلة وتربية الذات الإنسانية لأفراد المجتمع وبناؤها بناءً يقوم على المثل العليا والقيم الجميلة وبنأى بها عن الانحراف؛ إذ أن ذلك من شأنه أن يخلق مجتمعاً نموذجياً في أخلاقه وقيمه.

وهو بعد أن يحدد حقوق الرعية على الحاكم وقد جاء بها قبل حقوق الحاكم على الرعية؛ لأن الحاكم يخرج من بين أفراد المجتمع، ولأن المجتمع هو سابق على وجود الحاكم وأن الحاكم إذا خان الأمانة يجب على المجتمع تغييره.

أشار إلى حقوق الحاكم وحددها بأربع أيضاً وهي:

1) الوفاء بالبيعة له، والأمر واضح في وجوب الإيفاء بالبيعة تجاه الحاكم، إن كان قد بايعه الناس اختياراً، وما دام أميناً على مصالحهم.

2) النصيحة في المشهد و المغيب، وهذا حق للراعي على الرعية، مادام أميناً مؤدياً أمانته وحقوق الرعية مما يجعل النصيحة للحاكم في المشهد والمغيب بإبداء الرأي الناصح الصادق الناظر لمصالح الرعية عامة، وقد أوضح هذا الأمر بقوله: ( ... فلا تكفّوا عن مقالة بحق، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطى، ولا آمن من ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك بها مني، فإنما أنا

ص: 147

وانتم عبيدٌ مملوكون لربّ لا رب غيره ...) (1).

3) إجابة دعوة الحاكم حين يدعو إلى جهاد أو غيره مما يراه في صالح الأمة بوصفه أميناً على مصالحها.

4) طاعة أوامر الحاكم التي قد تتمثّل بقوانين تصب في مصلحة المجتمع أو أوامر أخرى يراها ذات منفعة للناس.

إنَّ مطالعةً لحقوق الرعية على الراعي وحقوقه عليها تثبت تلك النظرة الصادقة التي كان يتمتع بها الإمام علي علیه السلام، وإن سيرة خلافته تثبت أيضاً أنه لم يناقض فعله قوله، إنما كان قوله وفعله مصداقين لحياته واعتقاده، وأنه كانت سريرته توافق علانيته، كما أنه بتفصيله تلك الحقوق، كان يسعى إلى إقامة مجتمع تسوده العدالة والأمن والرفاه الاجتماعي، وهذه ليست مثالية بل هي في صلب الواقع؛ إذ أننا نرى أن كثيراً من مجتمعات اليوم تعيش مستقرة آمنة لا لشيء إلّا لأنها قد تبادلت مع حكامها الأمانة والصدق والوفاء بالبيعة والنصيحة.

إن الإمام علي علیه السلام يشير إلى أن هذه الحقوق مفروضة من قبل الله - عزّ وجلّ - وأن كل أمة لا بد لها من نظام يسود المجتمع ويحرص على مصالح الناس ويرعى شؤونهم وفيه عزهم، وأن صلاح الرعية بصلاح الحكام، كما أن صلاح الحاكم هو باستقامة الرعية، فيقول:

( ... وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق، حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الراعي، فريضة فرضها الله سبحانه من تلك لكلِّ على كلّ، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزّاً لدينهم فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عزّ الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمح في بقاء الدولة، ويئست مطامع 1.

ص: 148


1- ابن أبي الحديد 78/11.

الأعداء ...) (1)، ثم ينقل لنا الصورة المعكوسة فيقول:

( ... وإذا غلبت الرعية راعيها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى، وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عُطّل، ولا لعظيم باطلٍ فُعِل، فهنالك تذلّ الأبرار، وتُعز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحد - وإن اشتد على رضا الله حرصه وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما الله أهْلَهُ من الطاعة له ...).

لقد أجمل الإمام في هذه الكلمات مبادئ العدل كافة، بما لا يدع مجالاً لتهرب الحاكم أو استهتار الرعية، وقد ربط صلاح الحاكم باستقامة الرعية، وصلاحها بصلاحه، وفي الجانب الآخر، ربط بين غلبة الرعية على الراعي، وظلم الراعي لها، مما يؤدي إلى حدوث الصورة السلبية التي تكون سبباً في تدمير المجتمع وتفشّي الظلم وتعطيل الأحكام، وانتشار الفساد والتهافت على فعل الباطل وغلبة الأهواء، وهذا ينم عن وجود نظرة ثاقبة لدى الإمام لأن هذه الأمور لا تحصل بين ليلة وضحاها، وإنما تحتاج إلى زمن طويل، مما يعني أن النظم الاجتماعية التي عمل على تثبيتها الإمام علي علیه السلام، كان يعلم أنها ستؤتي ثمارها لو عمل بها، ولكنها على الرغم من محاربتها من قبل بعض الناس إلّا أنها كانت وما زالت تمثل القمة في الرؤية الواعية للسلطة العادلة.

إن الإمام لم يترك الأمر سائباً دون أن يضع له محددات تمثل الرابط الأساس للعمل أو العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ لأن أي خلل في العلاقة بين الطرفين سينقلب إلى ظلم وجور وضياع للحقوق ومن هذه المحددات، زيادة على ما تقدم، قال يخاطب أصحابه:

( ... وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم 1.

ص: 149


1- ابن أبي الحديد 70/11.

الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر. وقد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أني أحبّ الإطراء واستماع الثناء، ولست - بحمد الله - كذلك ... فلا تكلّموني بما تُكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يُتَحفّظُ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقَّ قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يُعرضَ عليه كان العمل بهما أثقل عليه ...) (1).

في هذه الكلمات يضع الإمام الركيزة الصحيحة في تعامل الناس مع الحاكم؛ لأن الرعية متى ما تصاغرت أمام الحاكم وخاطبته بالمداورة والمصانعة خوفاً من بطشه، فإنها في هذه الحالة تعطي للحاكم جرعة من أجل أن يكون دكتاتوراً يرى نفسه أعلى مقاماً من الرعية، وحينها لا يرى إلّا نفسه وكل الناس عبيداً له فينتشر الظلم والجور والاستخفاف بالحقوق؛ لأن (شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلَّ به فأمات سنّةً مأخوذة، وأحيى بدعة متروكة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا،عاذر فيلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها) (2)؛ إذ أن هذا الإمام الجائر هو الوليد المشوّه لحركة المجتمع الخاطئة غير المنضبطة، (فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقّها عزَّ الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت مناهج العدل، وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء) (3).

إن الحركة المنضبطة للمجتمع فضلاً عن هذا التكافؤ في الحقوق وأدائها بين طرفي المعادلة، لا يمكن أن ينتج إلّا مجتمعاً حضارياً تنتشر فيه العدالة والمساواة ويشيع فيه الرخاء والاطمئنان. 1.

ص: 150


1- ابن أبي الحديد 78/11.
2- ابن أبي الحديد 9 / 200.
3- المصدر نفسه 70/11.

2) العلاقات الفردية

أخذت العلاقات الفردية بين أفراد المجتمع حيّزاً كبيراً من تفكير الإمام ونظراته الاجتماعية التي تنسجم وما جاءت من أجله الدعوة الإسلامية؛ لأنه يبتغي من وراء ذلك إعادة المجتمع إلى المنابع الحقيقية في الإسلام وإشاعة روح التعاون والتناصح بين أفراد المجتمع، عن طريق بناء علاقات صحيحة قائمة على مبادئ الإسلام بين الأفراد، وحينها سيصبح المجتمع في بناء سليم.

إنّ الإمام علي علیه السلام يجمل لنا أسس العلاقات الفردية في كلمات قصيرة في ألفاظها، إلّا أنها تحمل من الفضائل شيئاً كثيراً، فيقول:

(خالطوا الناس مخالطةً إن مُتّم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنّوا إليكم) (1).

وقد يشير إلى مبدأ آخر من مبادئ العلاقات الفردية، وكيف يكسب الإنسان الفرد الآخرين بالتآلف ويصف قلوب الناس بأنها وحشية فيقول:

(قلوب الرجال وحشية، فمن تألّفها أقبلت إليه) (2).

ويقول:

(مقاربة الناس في أخلاقهم أمنٌ من غوائلهم) (3).

ويفصل القول في ذلك في وصيته لابنه الإمام الحسن بن علي علیه السلام بقوله:

( ... احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل وعند تباعده على الدنو، وعند شدّته على اللين وعند جرمه على العذر حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك ...) ثم يردف ذلك بقوله ( ... وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله ...) ثم يضيف شارحاً طبيعة العلاقات الفردية بوصفها أساساً تبنى عليه العلاقات الاجتماعية، فيقول:

ص: 151


1- المصدر نفسه 85/18.
2- المصدر نفسه 142/18.
3- ابن أبي الحديد 20 / 5.

( ... لا تتّخذنُ عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وأمحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة، وتجرَّع الغيظ، فإني لم أر جرعةً أحلى منها عاقبة ولا الذّ مغبة ولِنْ لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً، ومن ظن بك خيراً فصدِّقْ ظنه ولا تضيَعنَ حقّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من ضيّعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ولا ترغبنَّ فيمن زهد عنك، ولا يكوننَّ أخوك أقوى على قطيعته منك على صلته ولا تكوننَّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرنَّ عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرَّته ونفعك، وليس جزاء من سرَّك أن تسوءه ...) (1).

بهذه الكلمات، وضع الإمام مبادئ العلاقات الفردية بين أفراد المجتمع، لأجل بنائه بناءً صحيحاً، ولم يغفل العلاقات الفردية في ساحة الحرب، بل أشار إلى العلاقة بين الأفراد وهم في ساحة الجهاد فقال:

( ... وأيّ امرئٍ منكم أحسَّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحدٍ من إخوانه فشلاً، فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّلَ بها عليه، كما يذبُّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله ...) (2).

إن الإمام بكلماته هذه، إنما يؤسس لمنهج قائم على تعاليم الإسلام الحنيف في إنشاء مجتمع رآه بدأ ينحرف باتجاهات ستكون في خطرها عليه أعظم كارثة من أي مرض آخر؛ لأن الأمراض الاجتماعية هي السبيل الأمثل لأعداء المجتمع في تفكيكه والقضاء على مكامن القوة فيه. 7.

ص: 152


1- المصدر نفسه 81/16.
2- ابن أبي الحديد 234/7.

إنّ المنهج العلوي في العلاقات الفردية أشار كذلك إلى علاقة الجار بجاره، وعلاقة المسافر بالمسافر فيقول:

(سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار) (1).

وفي الخصومة أشار إلى أن لا يذهب الفرد بعيداً في خصومته، فقد يصل حد الإثم إذا بالغ في ذلك وقد يقع تحت طائلة الظلم إذا قصّر في خصومته، وهو إنما يدعو إلى أمر وسط فيقول:

(من بالغ في الخصومة فقد أثم، ومن قصّر فيها ظُلِم، ولا يستطيع أن يتّقي الله من خاصم) (2).

وقوله أيضاً:

(أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً، ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) (3).

وهكذا بيّن يقظة الضمير الإنساني وبيّن القانون الذي أرسى أساسه الإسلام يستطيع الإنسان الفرد أن يعيش وسط مجتمع متآلف تواضَعَ على عدم غلق الباب أمام إصلاح ذات البين، بل إن الإمام يجعلها طبقاً لحديث نبوي شريف يرويه في ثنايا وصيته لأبنائه حين استشهاده أفضل من عامة الصلاة والصيام، إذ يقول مخاطباً الحسن والحسين عليهما السلام وباقي ولده:

(أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدّكما صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام) (4).

إن الإمام علي علیه السلام لم يجعل الوصية خاصة بل انتقل بها من الخاص إلى 7.

ص: 153


1- المصدر نفسه 88/16.
2- المصدر نفسه 166/19.
3- المصدر نفسه 129/19.
4- ابن أبي الحديد 7/17.

العام في قوله (ومن بلغه كتابي ...) وهو لم يترك المنهج الذي عمل عليه في بدء خلافته إنما كان في سعي دائم لكي يكون المجتمع على وفق ما أراده له متآلفاً متحابّاً تسوده الطمأنينة والتسامح والتواصل، وإن هذا الانفتاح في الخطاب، إنما يؤشر إلى شعور الإمام ومعرفته بأهمية ما أوصى به وأن ذلك لا يخص زماناً دون زمان، أو جماعة دون أخرى؛ لأن صيغة الخطاب حملت بين طيّاتها عمقاً أخلاقيّاً يحتاجه كل مجتمع.

ثانياً / الخطاب السياسي:

1 - السلطة والمعارضة:

بما أن الخطاب أي خطاب (هو شكل من أشكال التعبير عن الواقع) (1) بمعنى أنه إحدى صور التعبير عن طبيعة هذا الواقع ووعي السلطة الحاكمة فضلاً عن قناعة الجماهير المحكومة ومدى التواصل الحاصل بين السلطة والجماهير من خلال الخطاب ولأن الخطاب السياسي هو جزء حي من الواقع فإننا نرى أن هذا الخطاب السياسي في نصوص نهج البلاغة، يمثل خطاب الخلافة لا خطاب الفرد؛ لأن مصدر الخطاب وهو الإمام علي علیه السلام إنما جرت مبايعته برغبة عارمة من الجماهير وليس عن طريق توصية من شخص سبقه أو من مجموعة من الأشخاص الذين لا يمثلون رأي الناس عامة ولم يجر تكليفهم من قبل الجماهير كما هو الحاصل اليوم.

لم يكن الإمام محتكراً للسلطة، إنما كان يعبر عن حاجته إلى الاستشارة كما رأينا فيما سبق، إنْ عَجَزَ هو عن إبداء الرأي في الوقت الذي نراه يعطي الحرية في الرأي لعموم الناس في مسألة مهمة تتوقف عليها مصلحة الأمة تلك هي قضية التحكيم في معركة صفين، وسنعرض لذلك لاحقاً إن شاء الله.

كما أن الإمام علي علیه السلام لم يجبر أحداً على بيعته، ومن الذين بايعوه ثم عادوا أو نكثوا بيعته قادة معركة الجمل، بل ذهبوا إلى حمل السلاح بوجهه مما

ص: 154


1- تحليل الخطاب العربي - بحوث مختارة، 187.

استوجب منه مقاتلتهم بعد نصحه لهم ومحاولته حقن الدم إلا أن ذلك لم يجد نفعاً (1) كما أن هناك من امتنع عن البيعة أصلاً لكن الإمام لم يجبرهم على بيعته (2).

إن الخطاب السياسي في نهج البلاغة لم يكن بلاغاً سلطوياً يبتغي السيطرة المطلقة على الأمة من دون إعطائها حقها في المعارضة أو إبداء الرأي أو حرية العقيدة أو أيّ حق آخر يمكن أن يكفله الإسلام، فهو لم يعمل بما يعرف اليوم - قانون الطوارئ - مثلاً، خاصة وأن مدّة حكمه التي امتدت أربع سنوات ونيّف كانت أياماً قلقة في حياة الدولة، فقد حدثت أثناء خلافته حروباً عدة (3)، من حرب الجمل إلى صفين إلى النهروان ولم تكن قد شغلته عن أي شيء يمكن أن يقدمه حاكم أو خليفة مثل - علي بن أبي طالب - في قابلياته الفكرية والعلمية، وفي هذه الحال، وهو لم ينس وأجبه العلمي والفقهي والفكري تجاه المجتمع؛ إذ يقول:

(أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، قبل أن تشعر برجلها فتنة تطأ في خطامها وتذهب بأحلام قومها ...) (4).

إلّا أن ذلك لم يكن ليفتح أذهان الناس إلى خطورة المقام والمقال وضرورة استغلال هذه الفرصة التي لم يحدث ما يماثلها من أحد من الصحابة أو العلماء، فيقول (سلوني).

لقد عمل الإمام علي علیه السلام طيلة مدة حكمه على سياسة الناس سياسة لا تخرج عن منهج الإسلام وهو يبتغي من ذلك إشاعة العدالة والإنصاف بين أفراد المجتمع، بما يمكنهم من أخذ كل ذي حق حقه، كما أنه لم يضيّق على أحد في حرية الرأي، ففي بيعته للخلافة من قبل عامة الناس امتنع عن بيعته جماعة من المسلمين، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن 3.

ص: 155


1- يراجع في ذلك الذهب 370/2، الإمامة والسياسة 68 وغيرهما.
2- ينظر: مروج الذهب 361/2.
3- ينظر علي وقانون الطوارئ - مجلة المنهاج ع 8، 1997، 52.
4- ابن أبي الحديد 77/13.

مسلمة الأنصاري وغيرهم (1)، مع أن بداية الحكم أي حكم، يعمد إلى إجراءات احترازية يتخذها بغية السيطرة على الأوضاع العامة، إلا أن الإمام علي علیه السلام لم يفعل ذلك حرصاً منه على الحرية الشخصية.

وفي معركة الجمل، وقبل بدء المعركة، والصفوف واقفة قد تأهّبت للحرب، يخرج الإمام حاسراً ويطلب من الزبير أن يخرج إليه، فيحاوره ويسمع منه ويذكّره بموقف منه مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم فينصرف الزبير بعدما سمع من الإمام تلك القصة (2)، ألا يمثل هذا الغاية في إبداء الرأي وحرية الحوار.

وفي حوارية أخرى بين الإمام والزبير وطلحة في بدء خلافة الإمام حينما عتبا عليه من ترك مشورتهما، تبين لنا حرص الإمام علي علیه السلام على حرية الرأي وعدم التنغيص على الناس حريتهم ماداموا لم يتسبّبوا في أذى المسلمين الآخرين فإن أصبحت مصلحة المجتمع منهم في خطر حينها يجب إيقافهم أو ردعهم،

فيقول عن ذلك:

( ... إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنهم إن تمّموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين ...) (3).

فهو وإن يقرر الصبر على هؤلاء ما لم يكن هناك ضرر يلحق بالمسلمين وبمصالحهم ويؤدي إلى فرقتهم، وهو يعلل ذلك الأمر بأنهم إذا أصرّوا على تمام حركتهم التي تعد فتنة وخروجاً على الخليفة الذي أسهموا في بيعته؛ فإن نظام المسلمين سينقطع وينهار وتحدث الفرقة بينهم.

ومن هؤلاء الذين حملوا السلاح ضده وكانوا ممن ألّبَ عليه، بل إنهم كانوا سبباً في مقتل الخليفة عثمان بن عفان - كما تشير المصادر التأريخية (4) - مروان بن الحكم الذي أُخِذَ أسيراً في معركة الجمل واستشفع الحسن والحسين إلى الإمام .

ص: 156


1- ينظر: مروج الذهب 361/2.
2- ینظر مروج الذهب 371/2.
3- ابن أبي الحديد 225/9.
4- يراجع ذلك في مروج الذهب 352/2.

وكلّماه في تخلية سبيله ففعل وقالا له يبايعك يا أمير المؤمنين فقال:

(أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته! إنها كف يهودية، لو بايعني بيده لغدر بسبَّته ...) (1).

وهو هنا يشير إلى أنه كان قد بايعه في بدء خلافته، إلّا أنه نكث بيعته وخرج لقتاله في معركة الجمل مع طلحة والزبير وعائشة، وأن تعبير الإمام عن عدم حاجته إلى بيعة مروان؛ لمعرفته بغدره ولم يؤذه بشيء، وهذا غاية في احترام حرية الرأي حتى لهؤلاء الذين يحملون السلاح بوجهه.

كما أنه قد جاءه أحدهم مدافعاً عن خروج أصحاب الجمل على الإمام وأنه لا يراهم على ضلالة في خروجهم هذا مع أنهم قد بايعوا الإمام ثم نكثوا فقال: أتراني أظنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال له الإمام:

( ... لأنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرتَ، إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه) فقال الرجل: فإني أعتزل مع سعد بن مالك وعبد الله بن عمر فقال له الإمام:

(إن سعداً وعبد الله لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل) (2).

وهذا يعني أنهما وقفا على هامش المسؤولية التأريخية بالرغم من أنهما كانا من الصحابة، وأن فعلهما دليل على الأنانية الشخصية - برأينا - لأن عدم نصرهما الحق وعدم خذلانهما الباطل يعني أنهما خذلا الحق ونصرا الباطل، وهذا المعنى يفهم من سياق النص.

وفي سياسته التي كان يحرص فيها على اتخاذ الأمناء من الوزراء والعمال وغيرهم من قبله أو من قبل ولاته، كان يوصي باتخاذ ذوي الأخلاق وأبناء البيوتات الصالحة وأهل العقل والرأي، فيقول عن اتخاذ المستشارين: .

ص: 157


1- ابن أبي الحديد 117/6.
2- ابن أبي الحديد 120/19، من الواجب الإشارة إلى أن سعد بن مالك أبي وقاص، ذكره ابن أبي الحديد 182/1.

( ... ولا تدخلَنَّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يُضَعِّفك عن الأمور، ولا حريصاً يُزيّن لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله ... والصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضهم على ألّا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزّة ... وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك) (1).

كما يوصي بعدم اتخاذ الوزراء الذين عملوا للأشرار لأنهم قد تلوّثوا بالآثام والظلم، فيقول:

( ... إن شرّ وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكوننَّ لك بطانة فإنهم أعوان الأئمة، وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم و آثامهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آئماً على إثمه أولئك أخفٌ عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأخشى عليك عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمُرِّ الحق لك، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع ...) (2).

إن هذه الآراء في الوزراء والبطانات التي يمكن أن يتّخذها الحكام دليل عمل يومي، سينشر العدل بين الناس وسينعم المجتمع بحياة عن نظيرها.

الأسس الكلية للخطاب السياسي:

1 - القرابة:

لم يجد الإمام علي علیه السلام ما يمكن تسميته بالأسس الكلية لخطابه السياسي، منذ وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وتولي أبي بكر الخلافة في قصة السقيفة المشهورة التي كان

ص: 158


1- ابن أبي الحديد 30/17، 36، 38.
2- ابن أبي الحديد 34/17، 35.

سبب مبايعته فيها أن عمر بن الخطاب قال له: أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها فامدد يدك للبيعة (1)، فما كان من الإمام علي علیه السلام إلا أن يقول لهما في مواجهته لهما:

(واعجباً أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة) (2).

لكي يفند الحجة التي احتج بها الخليفة عمر في بيعة أبي بكر، وهي صحبته

للرسول صلی الله علیه و آله و سلم؛ لأن الإمام لأن الإمام صحبه منذ الطفولة زيادة على صلة القرابة التي لا ينكرها أحد.

لقد كانت (القرابة) المرتكز الوحيد الذي استندت إليه قريش في استحواذها على الخلافة، وعليه فقد أراد الإمام أن يجعل هذا المرتكز لصالحه؛ لأنه الأقرب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إذ أنه حين بلغه خبر السقيفة، قال:

ما قالت الأنصار؟

قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير، قال:

(فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وصّى بأن يُحسَنَ إلى محسنهم، ويُتجاوز عن مسيئهم).

قيل وما الحجة في ذلك؟

فقال الإمام: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم. ثم قال: فماذا قالت قریش؟

فقالوا: احتجَّت بأنها شجرة رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقال: احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (3).

ويعني بالثمرة نفسه وأهل بيته بوصفهم أقرب الناس إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأعلم بتفاصيل الرسالة السمحاء والقرآن إذ يقول الإمام عن نفسه: .

ص: 159


1- ابن أبي الحديد 22/2 في كلام طويل عن حادثة السقيفة.
2- المصدر نفسه 334/18.
3- المصدر نفسه 5/6.

( ... وقد علمتم موضعي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، وأنا ولد يضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويُمِسَّني جسده ويشمّني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلةً في فعل ...) (1).

ويستمر في الحديث عن علاقته بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم بما تمثله من خصوصية تجاوزت مرحلة القرابة النسبية إلى القرابة الرسالية - إن صح التعبير - فيقول:

( ... ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة ...) (2).

وهنا هو يثبت أسبقيته بالإيمان بالرسالة المحمدية، وعناية النبي صلی الله علیه و آله و سلم به مما يعني تهيئته لأمر عظيم يتمثل في قيادة الدولة، وكما يوضح ذلك قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم له حينما سأله عن رنّة الشيطان، فيقول:

( ... ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلی الله علیه و آله و سلم فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى ...) (3).

فهو بشهادة النبي يسمع ما يسمع النبي صلی الله علیه و آله و سلم ويرى ما يرى وهذه منزلة لم يبلغها أحد، وهذا النص يمثل دعامة من دعامات خطابه السياسي بإثبات أسبقيته في الإيمان وقربه من النبي صلی الله علیه و آله و سلم وقرابته الرسالية فضلاً عن قرابته النسبية التي أشار إليها .

ص: 160


1- ابن أبى الحديد 147/13 - 0148
2- المصدر نفسه 148/13.
3- المصدر نفسه والصفحة.

مرّات عديدة في خطابه، فلنستمع إليه وهو يروي لنا قصة وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم ودفنه، مما يشير مرة أخرى إلى تلك العلاقة الخاصة بينه وبين النبي صلی الله علیه و آله و سلم التي تؤهَله لأن يجعل منها مرتكزاً مهماً في طروحاته السياسية للجمهور، فيقول:

(ولقد قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي ولقد وليت غسله صلی الله علیه و آله و سلم والملائكة،أعواني فضجَّت الدار والأفنية ملأٌ يهبط وملاٌ يعرج، وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم، يصلون عليه، واريناهُ في ضريحه ... فمن ذا أحقّ به مني حيّاً وميّتاً؟) (1).

وفي كتاب له بعثه إلى معاوية بن أبي سفيان يقول مبيّناً أحقّيته بالقرابة والطاعة فيقول:

( ... فإسلامنا قد سمع، وجاهليتنا لا تُدفع، وكتاب الله يجمع لنا ما شذَّ عنّا، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (2) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ 68) (3) فنحن مرّةً أولى بالقرابة، وتارةً أولى بالطاعة ...) (4).

فالقرابة تعد في نظرنا - مرتكزاً - أساسياً في الخطاب السياسي العلوي بوصفها تمثل عمقاً فكرياً يتكئ عليه الإمام في عرض أفكاره وطروحاته السياسية، لما تشكله القرابة من بعد مقدس في التأثير على الناس.

2 - البيعة العامة:

تعد البيعة العامة أو الإجماع العام على شخصية معينة بمثابة المشروعية الحقيقية لوجوده في السلطة وما يصدر عنه كونه حاكماً يجري اختياره عن طريق التفويض أو الانتخاب الحر، ليس عن طريق التملك القهري ثم دعوتهم إلى

ص: 161


1- ابن أبي الحديد 140/10.
2- سورة الأنفال 75.
3- سورة آل عمران 68.
4- ابن أبي الحديد 138/15.

تفويضه أو شخصاً يختاره هو، فهذا يعني إلغاء للإرادة العامة.

نخلص من ذلك إلى أن المرتكز الثاني في الخطاب السياسي العلوي هو أن (إمامة عليّ بالتفويض) (1) من قبل العامة حينما اختاره الناس بعد وفاة الخليفة الثالث، وهذا يعني مرتكزاً مهماً في خطابه السياسي ومعالجة المشكلات التي واجهته، فيقول عن بيعته:

( ... والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها ...) (2).

مما يعني أنه لم يكن محباً لتولي السلطة لما يراه من اعوجاج في سيرة المجتمع وتفشي الأمراض الاجتماعية نتيجة السير الخاطئ في السلطة التي سبقته، إلا أنه يجبر في النهاية على البيعة فيقول:

( ... وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها ...) (3)، كل ذلك من أجل إقامة الحجة عليهم كي لا يدع مجالاً للشك من قبل بعضهم، الأمر الذي دعاهم فيه إلى أن تكون بيعته وسلطته على وفق ما يعلم هو لا كما يريدون فيقول:

(دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت له العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكّرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ...) (4).

فهو يبين الحالة الاجتماعية والسياسية التي عليها المجتمع آنذاك، وأن هذه الأحداث التي حدثت قد تسببت في كثير من اللبس ما يصعب على الفرد التمييز، خاصة وأن كثيراً من الأطراف تعمل لحسابها الخاص بناء على منفعتها الشخصية دون النظر إلى مصلحة الأمة، وأن كثيراً من الأموال هدرت لمصالح أناس لم 7.

ص: 162


1- الاقتصاد في الاعتقاد 203.
2- ابن أبي الحديد 9/11.
3- المصدر نفسه 5/13.
4- ابن أبي الحديد 27/7.

يكونوا ليستحقونها، كما أن هناك استئثار شنيع دعا الناس إلى الثورة ضد الخليفة عثمان بن عفان، مما استدعى من الإمام أن يصرّح بذلك مباشرة، فيقول:

(والله لو وجدته قد تُزُوِّجَ به النساء، ومُلِكَ به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق) (1).

وهذه واحدة من سمات شخصيته أنه لا يمالئ ولا يداهن إنما غايته إحقاق الحق وردع الباطل من أيّة جهة أو أي شخص بعيداً عن المحاباة، فيقول لابن عباس وهو يشير إلى نعله في قصة معروفة:

(والله لهي أحبّ إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقّاً أو ادفع باطلاً) (2).

إذن ليس هناك من غاية لديه في الخلافة، إلا إقامة الحق ودفع الباطل ونشر العدالة وليس غايته التسلط على رقاب الناس وإشباع رغباته كما يفعل غيره من الناس.

إن البيعة العامة التي جرت كانت تمثل مرتكزاً حجاجياً ضد هؤلاء الذين كانوا يراوغون أو يشككون فيها، وقد وصفها الإمام علي في خطابه أكثر من مرّة، فيقول عنها:

( ... وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب) (3).

مما يعني أن بيعته كانت شاملة ولم تخضع لسن الانتخاب كما هو معمول به اليوم، إنما هبَّ إليها الناس من الطبقات كافة، كما أنه يشير بذلك إلى رضا الناس وفرحهم ببيعته، وقد أشار في مكان آخر إلى أن بيعة الناس إياه لم تكن عن طريق القهر والتسلط أو نتيجة إغراء مادي، فيقول:

( ... وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين، بل طائعين مخيّرين ...) (4). .

ص: 163


1- المصدر نفسه 250/1.
2- ابن أبي الحديد 147/2.
3- المصدر نفسه 5/13.
4- المصدر نفسه 8/14.

وهذا ما أشرنا إليه من أن بيعته قد اشتملت على حرية الرأي وبيّنا أن هناك من الصحابة من لم يبايعه فتركه إيماناً منه بالحرية الشخصية ما دامت لا تضر بالمجتمع ومصالحه، ويقول في هذا المورد أيضاً:

( ... وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب، ولا لعرض حاضر ...) (1).

يكون سبباً في بيعتهم إياه، وهذا يمثل مرتكزاً هاماً في الخطاب السياسي العلوي؛ إذ أن ما كان قد استجدَّ أيام خلافته من حروب، أدت به إلى أن يبيّن هذا الأمر، فهو يقول في كتاب له إلى معاوية:

( ... إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ...) (2).

وبالرغم من أن بيعة الخلفاء الثلاثة لم تذكر عنها المصادر التأريخية أنها حصلت بالطريقة نفسها التي حصلت بها بيعة الإمام علي علیه السلام مما يضفي على هذه البيعة مشروعية أكثر من سابقاتها لأنها كما عبّر الإمام خرج إليها الناس بطبقاتهم كافة.

3 - النصيّة:

وهذا المرتكز الذي كان يشير إليه الإمام منذ وفاة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وتولي أبي بكر الخلافة في بيعة السقيفة (3)، يعد أهم المرتكزات والأسس الكلية التي يقوم عليها الخطاب السياسي العلوي فقد أشار إلى ذلك مرّات عدة منوّهاً مرّة، وناقداً أخرى، ومشيراً إلى أن الظلم قد وقع عليه خاصة دون غيره، ومنبّهاً إلى ضرورة الرجوع إلى الأعلم الذي وصّى به النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم فحينما وردت إليه أخبار السقيفة أشار إلى أن قريش قد احتجَّت بالشجرة وأضاعت الثمرة، وهذه إشارة واضحة إلى نفسه بأفضليته على غيره في تولي الخلافة دون الرجوع إلى الرأي

ص: 164


1- المصدر نفسه 100/17.
2- ابن أبى الحديد 31/14.
3- وقد وصفها الخليفة عمر بأنها فلتة وقى الله شرّها ابن أبي الحديد 20/2 وما بعدها في تفصيل كثير.

العام، بل إن ذلك أصبح مرتهناً منذ كان النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم يتعبد في غار حراء، وإلى ذلك أشار الإمام بعد أن ذكر رنّة الشيطان، فيقول رواية عن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم:

( ... إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنك لست بنبي، ولكنك وزير، وإنك لعلى خير ...) (1).

وهذه تمثل شراكة في ما بعد النبوة طبقاً لمنطوق القرآن الكريم (2)، وحينما نزلت الآية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] جمع النبي صلی الله علیه و آله و سلم بني هاشم وقال لهم "أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فأجابه الإمام علي إلى ذلك فقال له الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: "إن هذا أخي ووصبي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا" (3).

وهذا أمر صادر من النبي صلی الله علیه و آله و سلم لم يجر تنفيذه سواء كان بحديث أو آية نزلت؛ إن الذي حدث بعد ذلك تعزيزه بأحاديث، خاصة حديث الغدير الذي أشار إليه أغلب المؤرخين في تنصيبه ومباركة الصحابة له على هذه النعمة، (4) كما أن الإمام قد نوّه في بدء خلافته عن أنه لم يكن يخطر بباله أن يستبعد المسلمون أهل البيت والإمام علي خاصة عن خلافة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم بعد وفاته بناء على ما شهدوه من حديث الغدير الذي أشرنا إليه آنفاً، الذي شهده الصحابة بأجمعهم بما فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وسواهم من الصحابة، فيقول الإمام في هذا الصدد:

( ... فلما مضى صلى الله عليه و آله تنازع المسلمون هذا الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أهل .

ص: 165


1- ابن أبي الحديد 148/13.
2- كما ورد في قصة موسى وهارون عليهما السلام وشراكتهما في الأمر.
3- الكامل في التأريخ 487/1 - 488.
4- ينظر: الغدير في الكتاب والسنة والأدب 11/1 وما بعدها.

بيته، ولا أنهم مُنَحُّوه عني من بعده ...) (1).

وقد يذكر الإمام الخلفاء بالاسم ناقداً إياهم على ما سلبوه من حقه في الخلافة فيقول:

(أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلّي منها محل القطب من الرحي، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلىّ الطير ...) (2).

ويقصد بذلك أنه تقمصها أي أنها ليست له لعلمه أنها لا تصلح إلّا لي وأن محلي منها محل القطب الذي يقف في مرتكز الدائرة التي تمثلها الرحى، ثم عقَّب بوصف نفسه بأنه في مكان لا يرقى إليه الطير فضلاً عن أنه ينحدر عنه السيل ويستمر في نقده للخليفة أبي بكر بقوله:

( ... حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ... فيا عجباً بینا هو يستقيلها في حياته! إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدَّ ما تشطّرا ضرعيها ...) (3).

وهذا يعني توجيه الإدانة إلى الخليفة الأول إذ أنه أشار إلى مسألة مهمة ذكرها المؤرخون عن أبي بكر أنه قال بعد توليه الخلافة (أقيلوني بيعتي) (4)، إلّا أنه قبيل وفاته وصى بالخلافة بعده لعمر بن الخطاب وهذا يمثل مطعناً على أبي بكر إذ أنه لم يترك الناس كما تركهم النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم - من وجهة نظره - ، دون أن يوصي لهم بخليفة وبذلك فهو يخالف السنة النبوية، وعليه فإن الإمام يوجه له نقداً شديداً على مسلكه هذا.

و على المنوال نفسه يوجه نقده للخليفة الثاني عمر بن الخطاب حينما دنت وفاته جعلها في ستة من الصحابة - بمثابة الشورى - أحدهم الإمام علي صلی الله علیه و آله و سلم وعن ذلك يقول الإمام: .

ص: 166


1- ابن أبي الحديد 116/17.
2- المصدر نفسه 154/1.
3- ابن أبي الحديد 162/1.
4- الإمامة والسياسة 20/1.

( ... حتى إذا مضى لسبيله - يعني عمر - جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى! متى اعترض الرِّيبُ فيَّ مع الأول منهم - يعني أبا بكر - حتى صرت أقرن إلى مثل هذه النظائر، لكنني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغى رجلٌ منهم لضغنه ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ ...) (1).

وفي ذلك نقدٌ لاذع للخليفة عمر؛ إذ أنه يقول عنه (زعم أني أحدهم) وهذا يعني بطلان التسوية التي أرادها عمر بين الإمام والخمسة الآخرين؛ لأنه يتفوق عليهم في كثير من المواصفات التي تجعل الإمام يتميز عنهم، ثم يتساءل الإمام مستنكراً أن أصبح يقرن به من لا يدانيه في علمه وتقواه وحرصه على الإسلام والمسلمين ونصّيّة النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم عليه في الخلافة، ومع ذلك فقد سايرهم إلا أنهم لم يكونوا يعملون لصالح الإسلام والمسلمين، إنما كانت تتقاذفهم الأهواء والعصبيات، وهو المقصود بقوله ( ... فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهن ...). ويتناول ما أسفرت عنه الشورى من تولية الخليفة عثمان بن عفان فيقول:

( ... إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكَبَتْ به بطنته ...) (2).

وهذا أقوى نقد يوجهه الإمام للخلفاء الذين سبقوه، كما أنه يصوّر لنا نهاية الخليفة الثالث عثمان بن عفان التي جاءت نتيجة ما جنته يداه من استخفاف بأموال المسلمين وتفويض ذلك إلى عشيرته وتسليطهم على الناس.

وربما ذكر ذلك الإمام - أي أمر الخلافة - على سبيل بيان الظلم الذي وقع عليه خاصة وأن حقه قد غصبته قريش، فيقول:

( ... اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا 1.

ص: 167


1- ابن أبي الحديد 180/1.
2- ابن أبي الحديد 191/1.

رحمي وصغَّروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه) (1) وهذا دليل على تناقضهم، فمع أخذهم حقه ادعوا بأن هذا الحق لهم وليس له (2) وقد يرد عنده في موضع آخر متظلماً، لكنه ترك حقّه طلباً للأجر عند الله وهذا يمثل تسامياً على كل ما هو دنيوي من أجل غاية أسمى ألا وهي نصرة الدين، فيقول حين بيعتهم عثمان:

( ... لقد علمتم أني أحقُّ بها من غيري؛ ووالله لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلّا علي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه و زبرجه) (3).

أو أنه يذكر ظلم قريش له وسلبه حقه في الخلافة إلّا أنه لم يستطع المطالبة بحقه، لأنه لم يجد أعواناً على ذلك إلا أهل بيته فصبر مجبراً، فيقول:

(اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنتُ أولى به من غيري وقالوا: ألا إن في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تُمنعه، فاصبر مغموماً، أو مت متأسفاً، فنظرتُ فإذا ليس لي رافد، ولا ذابَّ ولا مساعد، إلا أهل بيتي، فضننتُ بهم عن المنيّة، فأغضيتُ على القذى، وجرعتُ ريقي على الشجا، وصبرتُ من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشفار) (4).

وقد يأتي هذا التظلّم من قريش بأنهم سلبوه سلطان ابن أمّه يعني النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنهم قد أجمعوا على حربه في خلافته فيقول:

( ... فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وآله - قبلي فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني1

ص: 168


1- المصدر نفسه 233/9.
2- ابن أبي الحديد 8/6 وما بعدها.
3- المصدر نفسه 133/6.
4- ابن أبي الحديد 84/11

سلطان ابن أمّي ...) (1).

أو أنه يذكر أهل البيت عامة، وأنهم فيهم الوصية ووراثة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم فيقول:

(لا يقاس بآل محمد صلی الله علیه و آله و سلم من هذه الأمة أحد، ولا يُسوّى بهم من نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن إذ رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله) (2).

إن الإمام يشير إلى خلافته ويصفها بأنها عودة حق مسلوب إلى أهله، وأنه نقل من مكانه الحقيقي إلى أمكنة لا تصلح أن يكون فيها، وهذا إشارة إلى انتقال الخلافة خارج البيت النبوي، كما يشير الإمام إلى تقديم أهل البيت على الآخرين ففي كتاب له إلى معاوية يفصّل فيه القول في ما تميَّزَ به أهل البيت فيقول:

( ... ألا ترى - غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدّث - أن قوماً استشهدوا في سبيل الله ولكل فضل، حتى إذا فُعِلَ بواحدنا ما فُعِلَ بواحدهم، قيل: الطيار في الجنة وذو الجناحين، ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمة (يشير إلى نفسه)، تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجُّها آذان السامعين ... فإنا صنائع ربَّنا، والناس بعدُ صنائعٌ لنا ...) (3).

يقول ابن أبي الحديد في شرحه لقوله ( ... فإنا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائعٌ لنا ...) (هذا الكلام عظيم عالٍ عن الكلام، ومعناه عالٍ عن المعاني) ويضيف (يقول عليه السلام: ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت وباطنه أنهم عبيد الله وأن الناس 5.

ص: 169


1- المصدر نفسه 115/16.
2- المصدر نفسه 1 / 144.
3- ابن أبي الحديد 137/15.

عبيدهم) ليس بمعنى العبادة المتعارف عليها، إنما هو إشارة إلى إحسانهم للناس كما قال الإمام (لا يقاس بآل محمد صلی الله علیه و آله و سلم من هذه الأمة أحد ولا يسوّى بهم من نعمتهم عليه أبداً ...) (1).

إن تعبير الإمام بأنهم (صنائع ربّهم) إنما أخذه من قوله تعالى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) (2) في خطابه لموسى عليه السلام، مما يدل على أن هذه المقامات الرفيعة خاصة بأولياء الله وأنبيائه ومن هم بدرجتهم من العباد.

ثالثاً / الخطاب الاقتصادي

اشارة

تعد الثروة إحدى أهم المصادر الجاذبة للأفراد والجماعات، بما توفره من وجاهة اجتماعية زيادة على الحاجات والغرائز التي لا تنتهي لدى الفرد، كما أن الثروة أو المال يمثل سلطة تنشأ وسط البؤر الفقيرة، فتكون بذلك مدعاة للتبجيل لأصحابها؛ ولأنها كذلك فقد أصبحت مركز استحواذ يستهوي غالبية الأفراد، دون النظر إلى مشروعية تكوين الثروة، إلا أن يكون ذلك على وفق شريعة سمحاء أو نظام يقوم على أساس التوزيع العادل للثروة، وعدم السماح لتكوين ممالك مالية تنتهي إلى أن تصبح مراكز جذب واستعباد للآخرين الفقراء.

إن الخطاب الاقتصادي العلوي بوصفه يمثل الشريعة الإسلامية والنظام المُمَثَّل بشخصية الخليفة الذي هو الإمام علي صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن بعيداً عن تلك المقاصد في إيجاد منهجية عادلة تحافظ على الثروة من استيلاء ذوي النفوس الضعيفة عليها، من جانب، وإيجاد سبل حقيقية لإنشاء مجتمع تتوفر فيه العدالة، ولا يسمح بتكوين إمبراطوريات صغيرة تتحكم بمقدرات الغالبية العظمى من الأفراد من جانب آخر، فكان لا بد من صياغة خطاب اقتصادي يتولى تنظيم ذلك على وفق منهجية علمية دقيقة تقوم أساساً على محاربة الفقر بوصفه الموت الأكبر، كما قال الإمام علي علیه السلام

ص: 170


1- المصدر نفسه 144/1.
2- سورة طه (39).

(الفقر الموتُ الأكبرُ) (1)، والتوزيع العادل للثروة، ومراعاة حقوق الأفراد جميعاً بما فيهم العجزة والمسنين وذوي العاهات وغيرهم.

إن مسؤولية الحاكم لا تقف عند حد معيّن أمام الرعية، ولن يكون لديه عذر عن عدم معرفته بأحوال رعيته أو ولاته وعمّاله، إذ يقول الإمام في كتاب له إلى عامله عبد الله بن العباس:

( ... فاربع أبا العباس، رحمك الله، فيما جرى على يدك ولسانك من خير وشر؛ فإنّا شريكان في ذلك وكن عند صالح ظنّي بك ولا يفيلن رأيي فيك ...) (2).

إن متابعة مثل هذه الأمور تنم عن سعي من قبل الحاكم - الذي هو الإمام علي - إلى تصحيح مسارات ولاته وعمّاله ممن يجد فيهم انحرافاً أو ميلاً عن تلبية مطامح الناس وحاجاتهم بما تنسجم مع أهداف الدعوة الإسلامية والمنهج الصحيح الذي أراده الله - عزّ وجلّ - في أن يشيع بين بني البشر.

إنّ مرتكزات الخطاب الاقتصادي العلوي يمكن إجمالها فيما يأتي:

1 - الثروة ومصادرها:

على الرغم من أن الثروة ومصادرها لم تكن بالتعقيد الذي نراه في الوقت الحاضر، إلا أن ذلك لا يعني قلّة الثروة أو قلّة مصادرها، فقد كانت الأموال من الضخامة ما جعل بعض الناس يروي عنهم أنهم كانوا يملكون ما لم يكن متناسباً مع ذلك العصر، والروايات في ذلك كثيرة لا مجال لذكرها هنا.

لقد كانت السياسة الاقتصادية للإمام عليّ علیه السلام تقوم على ضرورة إحداث تعددية في مصادر الثروة، كما أنه سعی، وفقاً للتعاليم الإسلامية ونظرته الثاقبة، إلى ضرورة عدم حصر الثروة بأيدي بعض الناس، وجعل المجتمع بين طبقتين – السادة والعبيد - بل وضع لذلك أنظمة وتعليمات أصدرها لولاته وعماله لأجل أن ينعم الناس - بغض النظر عن أي شيء - بالحياة الكريمة.

ص: 171


1- ابن أبي الحديد 309/18.
2- المصدر نفسه 96/15.

إن تعددية مصادر الثروة يمثل إدراكاً واعياً لضرورة ذلك في حياة المجتمع، وإن أول ما سعى الإمام علیّ علیه السلام إليه هو عنايته بالزراعة والصناعة والتجارة، وأن لا يسعى الولاة إلى جمع الخراج دون العناية بالثروة وتنميتها لكي يكون ذلك في خدمة المجتمع، فيقول:

( ... وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً ...) (1).

يعني بذلك العناية بالأرض وزراعتها وتنمية الزراعة عن طريق استثمار الأرض، لما تمثله الزراعة من أساس حقيقي لبيت المال: لأن (العمران محتملٌ ما حمّلته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها) (2) في إشارة مهمة إلى ضرورة قيام الدولة بمساعدة المزارعين على زراعة أرضهم وتوفير العناية لذلك، لأن ذلك يعني زيادة في الدخل الناتج مما يجعل الخير عاماً وأن المزارعين إذا (شكوا ثقلاً أو علّة، أو انقطاع شرب أو بالّة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح أمرهم، ولا يثقلنَّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم) (3)في إشارة واضحة إلى قيام الدولة بمساعدة هؤلاء في تنمية زراعتهم، لأن ذلك سيعود بالنفع العام، فيقول:

( ... فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجّحك باستفاضة العدل بينهم معتمداً فضل قوّتهم ...) (4).

لأن ذلك الذخر الذي يتحدث عنه الإمام، يقصد منه إنماء الزراعة وعدم .

ص: 172


1- ابن أبي الحديد 56/17.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- المصدر نفسه 56/17.
4- ابن أبي الحديد 56/17.

تحميل المزارعين ما يثقل كاهلهم من خراج؛ لأنّ ذلك سيوقف عملية زيادة الإنتاج ويؤدي إلى الضرر العام في الوقت الذي يعد دفع هؤلاء إلى تنمية القدرات الإنتاجية زينة لولاية الوالي أو الحاكم مع كونه يمثل دافعاً لمحبة الناس له وتبجيله.

وللتجارة والصناعة نصيب في الخطاب العلوي لما تمثله من رافد مؤثر في الحركة الاقتصادية للمجتمع ولأنها تقوم بسد حاجته وتهيئة المستلزمات الضرورية من البلدان الأخرى والأماكن التي يرتادها هؤلاء التجار فيقول الإمام:

( ... ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيراً، المقيم منهم، والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلّابها من المباعد والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترؤون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته وتفقّد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك ...) (1).

وفي الوقت الذي يوصي بهؤلاء خيراً، فإنه ينبّه إلى ضرورة الانتباه إلى أن لا يحتكروا السلع والمنافع لأن ذلك مضر بالمصالح العليا للمجتمع، وهذا يمثل عيباً على الولاة في حالة عدم متابعتهم لذلك ووضع الحد الذي يمنع من الاحتكار فيقول:

( ... واعلم - مع ذلك - إن في كثير منهم (أي التجار) ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرةٍ للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله - منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكّل به، وعاقبه من غير إسراف) (2)، لكي تستقيم الحياة في المجتمع وينعم الناس في بلادهم وثرواتهم، من خلال التكافل الاجتماعي الذي يعد التسامح في البيع ومناسبة الأسعار للفريقين - .

ص: 173


1- المصدر نفسه 64/17.
2- المصدر نفسه 64/17 - 65.

كما عبّر عنه - والعدل في الموازين، وعدم الإجحاف بحق أحد، كل ذلك يعد وجوهاً من وجوه التكافل الاجتماعي، الأمر الذي يضفي على البلاد استقراراً اقتصادياً واجتماعياً.

كما أن الإمام يشير إلى الخراج وبيت المال والقائمين، بوصفه يمثل خزينة الدولة - في عرفنا الحاضر - فإن صلاحه وصلاح القائمين يعني صلاح الدولة والمجتمع، وفسادهم يعني نشر الخراب والفساد في الأرض وتفتت المجتمع و انتقاض نظامه، فيقول:

( ... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم، صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج واهله) (1).

ولأن جباية الخراج تمثل مصدراً مهماً من مصادر الثروة، فقد كانت عناية الإمام بذلك بشكل لا يجحف بالناس، إنما سلك مسلكاً يدل على حفظ حقوق الناس واحترام الملكية الفردية وعدم غصب الأفراد على إعطاء الحقوق الشرعية، وأن لا يكون المال المأخوذ أكثر من الحق المفترض، يقول في وصيته التي تمثل قانوناً في الأخلاق والاقتصاد للقائمين على جباية الصدقات:

(انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروّعنَّ مسلماً، ولا تجتازنَّ عليه كارهاً، ولا تأخذنَّ منه أكثر من حق الله في ماله) (2)، مراعياً بذلك الحقوق المعنوية للناس، فيقول في ذلك:

( ... فإذا قدمتَ على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امضِ إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، ولا تُخَدِّج بالتحية لهم)، وبعد أن يوصيه باتباع الأخلاق الحسنة معهم، يفضل القول في كيفية أخذ الأموال منهم، فيقول: .

ص: 174


1- ابن أبي الحديد 56/17.
2- المصدر نفسه 115/15.

( ... ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته، لأخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه فإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده، أو تعسفه، أو ترهقه فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلّا بإذنه، فإن أكثرها له) (1).

على أن هذه الصدقات التي يجمعها جباة الأموال، يشترط فيها اشتراطات عديدة لما في ذلك من النفع العام للمسلمين، مبيّناً الطريقة التي يستوفون بها هذه الأموال فيقول:

(فإذا أتيتها (الماشية والإبل) فلا تدخل عليها دخول متسلطٍ عليه، ولا عنيفٍ به ولا تنفَّرَنَّ بهيمةً ولا تفزعنَّها، ولا تسوءنٌ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيّره ... فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله فاقبض حق الله منه ... ولا تأخذنّ عوداً ولا هرمةً ولا مكسورةً ولا مهلوسةً ولا ذات عوار، ولا تأمننَّ عليها إلّا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليّهم فيقسمه فيهم ...) (2)، مما يدل على حرصه على أن تكون أموال المسلمين لا يشوبها الفاسد، ولا أن تجمع من أرذل الأموال؛ لأن ذلك سيكون سبباً في عطبها وعدم نفعها في حال توزيعها على الناس بوصفها جزءاً من الخراج الذي يعد أحد مصادر الثروة.

2 - العدالة في التوزيع:

لا يقصد بذلك أن يتم تقسيم الإمكانات بصورة متساوية بين الأفراد (3)؛ لأن ذلك ينتفي بعدم تكافؤ الأفراد في الإمكانيات العقلية أو التحصيلية، إن العدالة في التوزيع تقوم على أساس إعطاء كل ذي حق حقه، وعدم السماح بحدوث خلل

ص: 175


1- ابن أبي الحديد 115/15.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- ينظر: العدالة والتنمية في منهج الإمام علي علیه السلام المجلة المنهاج ع 2002، 27، 50.

يؤدي إلى انهيار البناء الاجتماعي، ونجد هذا الأمر لدى الإمام عليّ علیه السلام حين توليه الخلافة في تطبيقه لمبدأ من أين لك هذا فقال:

( ... والله لو وجدتُه قد تُرُوِّجَ به النساء، ومُلِكَ به الإماء لرددتهُ، فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل، فالجور أضيق ...) (1).

إذ أن إشارته إلى استرجاع الأموال والقطائع التي أعطاها الخليفة الثالث إلى ذويه تمثل إرهاصاً بالنهج الذي سيتبناه في تطبيقه العدالة بين الناس؛ لأن العدل في نظر الإمام أشرف الأشياء وأفضلها نلحظ من إجابته حين سُئلَ عن العدل والجود، أيهما أفضل فقال:

(العدل يضع الأمور مواضعها والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائسٌ عام والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما) (2)، وقد عبر عن العدل بأنه (سائسٌ عام) مما يعني أن سياسة المجتمع لا تقوم إلّا على أساس العدل؛ لأن به تنتظم شؤون الرعية وتصلح أحوالها، على عكس الجود الذي عبر عنه بأنه (عارض خاص)؛ لأنه ليس منهجاً ثابتاً وإنما يمثل حالة استثنائية قد يتطلبها ظرف معين أو حالة خاصة، وعليه (لا يمكن اعتماد الجود والإيثار مبنيين رئيسين للحياة العامة، وسن القوانين والمقررات على أساسهما؛ لأن الجود والإيثار يكتسبان صفتهما الواقعية إذا ما كان وراءهما والدافع لهما الكرم والمروءة والعفو والمحبة، بعيداً عن القانون والمقررات) (3)، بينما العدل يمثل (نظام العالم وقوام الوجود) (4)؛ لأنه تنتظم به الأمور الدينية والدنيوية، وإن إشارات الإمام علي علیه السلام إلى ذلك كثيرة، فيقول عن توزيع الأموال:

( ... لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف والمال مال الله ...) (5) حينما 8.

ص: 176


1- أبن أبي الحديد 250/1.
2- ابن أبي الحديد 75/20.
3- العدالة والتنمية في منهج الإمام علي علیه السلام 53.
4- ابن أبي الحديد 75/20.
5- المصدر نفسه 88/8.

عاتبه بعض صحابته على التسوية في العطاء بين المسلمين، ويضيف مبيناً هذا الأمر:

(ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله ...) (1)، من ذلك نفهم معنى العدالة التي كان يسعى لتحقيقها لأنها ترتبط بمفهوم اجتماعي وهو حرصه على عدم تكديس الثروة بيد بعض الناس وترك الآخرين يسحقهم الفقر، وهذا ما وجده حين توليه الخلافة فعمل على إصلاح ما فسد فيصف حال الناس ويقول:

( ... اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلّا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتّخذ البخل بحق الله وفراً، أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً!؟) (2).

كما أنه كان يرى أن تحقيق العدالة لا يأتي من القاعدة، إنما يجب أن يبدأ من القمة من الحاكم والولاة والعمال؛ لأنهم هم المسؤولون عن المجتمع، فلم يترك شيئاً من ذلك إلا أشار إليه في خطبه ورسائله وكلماته القصار، فهو يقول عن نفسه:

( ... أأقنعُ من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش) (3).

فالمواساة جزء من العدالة التي كان يسعى لتحقيقها، شعوراً منه بالمسؤولية الشرعية والأخلاقية، فهو يقول:

(ولو شئت لاهتديتُ الطريقَ إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة. ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالشبع ...) (4)..

ص: 177


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- ابن أبي الحديد 187/8.
3- المصدر نفسه 220/16.
4- المصدر نفسه والصفحة.

إذن هو إحساس بالمسؤولية الكبرى أو سعي دائم إلى تحقيق العدالة التي يتساوى فيها الحاكم والمحكوم بغض النظر عن أي شيء آخر، وهذا الأمر هو الذي دعاه إلى قبول الخلافة حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان، ويشير إلى ذلك بقوله:

(أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظة ظالم، وسعب مظلوم لألقيتُ حبلها على غاربها ولسقيتُ آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) (1).

إن هذا السعي الدائب لتصحيح المسار المنحرف الذي وجد المجتمع عليه لم يكن ابتداعاً جديداً على الشريعة الإسلامية، إنما هو نهجٌ إسلاميٌّ حقيقيٌّ في الدفاع عن الضعفاء، فيقول الإمام مستشهداً بقول النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم:

(فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول في غير موطن: لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي؛ غير متتعتع) (2).

وهذا ما دعا الإمام إلى أن يضع حقوق الفقراء والضعفاء نصب عينيه وأن يصدر أوامره على أساس إعطاء هؤلاء حقوقهم، فيقول:

( ... ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعترّاً ... واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلّات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ... وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه ... واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك ...) (3). .

ص: 178


1- المصدر نفسه 195/1.
2- ابن أبي الحديد 66/17 والمتتعتع: المتردد المضطرب في كلامه عيَّا، الصحاح، مادة تعع.
3- المصدر نفسه 66/17.

وهو بذلك يقسم هؤلاء إلى طبقات أو فئات ويشير إليهم وهم:

1 - المساكين والمحتاجين.

2 - الفقراء والمرضى.

3 - اليتامى والأرامل.

4 - المسنين أو كبار السن.

5 - أصحاب الحاجات الخاصة.

لقد كان اهتمام الإمام علي علیه السلام بهذه الفئات ناتجاً عن وعيه لما رآه في المجتمع من سلب لحقوق هؤلاء وتمتع بعض الفئات الخاصة بالأموال، الأمر الذي دفع بالإمام إلى أن يصرح بأن الغاية من تولّيه الخلافة هو إقامة العدل وإحقاق الحق ودفع الباطل:

إن تطبيق العدل في المجتمع له آثار مهمة في حياة الفرد والمجموع، فهو يجعل كل فرد يشعر أنه موضع اهتمام الدولة، كما أنه يمثل دافعاً إلى انتظام الحياة الاجتماعية، ويؤدي إلى أن ينتظم الأعمال والوظائف، ويحصل رضا الرعية على سياسة ولاتها (1).

رابعاً / الخطاب الإداري:

اشارة

غير بعيد عما سبق من أنماط الخطاب، يعد الخطاب الإداري في نهج البلاغة واحداً من هذه الأنماط التي بيّن من خلالها الإمام علي علیه السلام بوصفه رجل دولة بتعبيرنا الحاضر - مقاصده وآراءه وطروحاته الإدارية التي يرى أنها تخدم كيان المجتمع وتحفظ له وجوده في الوقت الذي تنشر فيه العدل والتسامح والرحمة.

فكان لا بد والحال هذه من تركيبة إدارية ضمن مواصفات تنسجم والمفردات الإسلامية التي نادت بها الشريعة المحمدية، طبقاً للحديث المشهور (كلكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيته) (2)، وبناء على ذلك كان لا بد من بيان حال الرعية من جهة كونها طبقات متفاوتة في أغلب الأشياء، فيقول في عهده لمالك

ص: 179


1- ينظر: العدالة والتنمية في منهج الإمام علي علیه السلام 54.
2- صحيح البخاري، دار الفكر، ج 87،1981/3.

الأشتر:

( ... واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلّا ببعض، ولا غنى عن بعضها بعض) ويبدأ بتفصيل تلك الطبقات، فيقول:

( ... فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وكلٍّ قد سمّى الله سهمه ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيّه - صلى الله عليه وآله - عهداً منه عندنا محفوظاً) (1).

إن هذا التنظيم الإداري يتيح للدولة أن تقوم بواجبها تجاه مواطنيها، وهذه الفئات التي ذكرها الإمام تشكل أعمدة المجتمع و هي كالآتي:

1 - (جنود الله):

وهم حماة الدولة والمجتمع؛ لأن بهم تصان الثغور وتحفظ الأعراض ويصان الكيان الاجتماعي، (فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلّا بهم)، فهم عماد المجتمع، وقد بدأ بهم للدلالة على أهمية الجند في حماية أمن الدولة والأفراد، ولما يمثله من قوة يهابها الآخرون.

وقد أشار الإمام إلى أن الجند لا يصلح إلا بأن يولّى عليهم من كان (أنصحهم لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً..) تقديراً منه للمهمة الخطيرة التي يتولاها قائد الجند؛ فيجب أن يكون ( ... ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويراف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف ...) ثم يبيّن له الفئة الاجتماعية التي يمكن أن يختار منها ما يريد، فيقول: (ثم الصق بذوي الأحساب، وأهل البيوتات الصالحة

ص: 180


1- ابن أبي الحديد 39/17.

والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف)، لأن هؤلاء قد عاشوا في بيئة صالحة غير ملوثة، وأن من لم يكن منهم له دين يمنعه، فإن له حسباً يدافع عنه.

كما أن الإمام يشير إلى جانب مهم، وهو أن يتفقد الحاكم من أمور هؤلاء القادة للجيش كما يتفقد الوالدان من ولدهما، وفي هذا التشبيه الدلالة الإنسانية تسبق الدلالة السياسية أو الإدارية، فإن الوالدين لا يمكن لهما إلّا أن يكونا رحيمين بولدهما، وبذلك فهو يضع أساساً إنسانياً للتعامل مع الجند رغم أن هذه الفئة تتطلب الشدة - كما هو معروف - في القيادة، إلا أن الإمام لم يترك شيئاً يؤثر على معنويات الجند فيقول:

(وتفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمنَّ في نفسك شيء قوّيتهم به، ولا تحقرنَّ لطفاً تعاهدتهم به ... وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم؛ فإن كثرة الذكر الحسن فعالهم تهز الشجاع، وتحرّض الناكل إن شاء الله ...).

ثم يشير إلى مسألة مهمة ذات أثر كبير في نفسية المقاتلين فيقول:

(ولا يدعونَّك شرف امرئٍ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئٍ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً) لما لذلك من تأثير سيئ على روحية المقاتل خاصة وإن جل الجند هم من العامة.

2 - كتاب العامة والخاصة:

وهؤلاء يمثلون جزءاً مهماً من الجهاز الإداري للدولة، لأنهم بيدهم أسرارها وإليهم ترد كتب العمال والولاة، وهم الوزراء الذين يدير عن طريقهم الحاكم أو الوالي سلطته (1)، وإليهم يعود النظر في أعمال الناس ومشاكلهم، وعنهم يقول الإمام:

(ثم انظر في حال كتّابك، فولّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك

ص: 181


1- ينظر علي إمام المتقين 284.

التي تُدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة، فيجترئ بها عليك في خلافٍ لك بحضرة ملأ، ولا تقصّر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك ...) (1)، كما يشدد الإمام على حسن اختيار الكتاب، فيقول:

( ... ثم لا يكون اختيارك إياهم " الكتاب" على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فإن الرجال سيتعرّضون لفراسات الولاة بتصنّعهم وحسن حديثهم ... ولكن اختبرهم بما وُلُوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجهاً ...) (2)، لأن هؤلاء المتصنعين لا يمكن أن يحصل من ورائهم المجتمع على أية فائدة، بل إنهم نفعيّون، ونهى الإمام واليه عن الركون إلى فراسته، إنما أمره بتجربة هؤلاء في ولايات صالحة سابقة.

3 - قضاة العدل:

لغرض إشاعة العدل بين الناس وقطع دابر الأعمال التي تسيء إلى المجتمع كان لا بد من وجوب وجود قضاة يقضون بالحق بين الناس وإشارة الإمام إلى القضاة جاءت لتبين وجهة نظره في القضاء والقضاة فيقول:

( ... ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى بالزلة، ولا يحصر من الفيء للحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه إلى طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل) (3).

ويشير إلى ضرورة متابعة هؤلاء القضاة في جميع أمورهم، فيقول:

ص: 182


1- ابن أبي الحديد 59/17.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- ابن أبي الحديد 46/17.

(ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل، يزيح علّته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً

في أيدي الأشرار، يُعمَلُ فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا) (1).

إن هذا الكلام يدل دلالة أكيدة على حرص الإمام على إقامة العدل بين الناس وعدم سماحه بضياع حقوقهم حين تولية أناس غير جديرين بهذا المنصب الذي يصفه الإمام في قوله لشريح القاضي بأنه لا يجلس إلّا أحد ثلاثة، نبي أو وصي نبي أو شقي، فيقول:

(يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقيّ) (2).

وعلى هذا الأساس كان تحذير الإمام لواليه من تولية القضاء أيّاً كان دون النظر إلى مواصفات القاضي التي حددها في نفس الوالي معتمداً بذلك على مواصفات حددها بدقة متناهية وهي أن لا يكون ممن تضيق به أمور القضاء فيحار في أصولها وفروعها حين ورودها عليه، وأن لا يكون لجوجاً عند عرض الخصوم لديه، وأن لا يتمادى في زلّته إذا زلَّ؛ لأن الرجوع إلى الحق أفضل من التمادي في الضلال، وأن لا يضيق صدره من رجوعه إلى الحق إذا عرفه، ولا ينظر إلى الأطماع لأنها من أرذل الأمور، وهو ما عبّر عنه بِ (لا تشرف) مما يعني النظر إليها من أعلى المنازل التي هي النزاهة وأن من صفاته أن يتحرّى الأمر من جميع جوانبه، وأن يقف عند الشبهات التي لا نصّ فيها حتّى يرجع إلى أصل الحادثة لئلاً يقضي بما يوقعه في الإثم.

كما أشار الإمام علي علیه السلام إلى ضرورة أن يأخذ بالحجة والدليل القاطع وأن لا يتبرّم بمراجعة الخصوم؛ لأن ذلك ينتهي به إلى ضياع الحقوق وأن يكون صابراً حتى تتكشّف له الأمور، وصارماً حين يتّضح الحق، ثم عمد إلى بعض .

ص: 183


1- ابن أبي الحديد 47/17.
2- فروع الكافي 403/7.

المواصفات النفسية التي قلّما يسلم منها بشر، وهي أن لا يزدهيه الإطراء ولا يستميله الإغراء؛ إذ أن النفس البشرية جبلت على حب المدح والفخر.

وأمر الوالي، زيادة على ذلك، أن يتعاهد هؤلاء القضاة أثناء مباشرتهم القضاء لئلاً ينحرفوا كما أمره بأن يجعل لهم من الميزات المادية والمعنوية ما يحصنهم ضد المغريات، وهي أن يوسع لهم في بذل الأموال لكي لا تكون به حاجة إلى غيره من الناس وأن يجعل له منزلة لديه لا يطمع فيها غيره من الخاصة فضلاً عن العامة، معللاً ذلك بأن لا يكون لأحد عليه سبيل لدى الوالي من الذين يجعلون الناس عرضة لأطماعهم ووشايتهم.

4 - الولاة والعمال:

وإليهم يشير بقوله (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختياراً، ولا تولّهم محاباةً وإثرةً، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقاً وأصحّ أعراضاً، وأقلّ في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً) (1).

إن هذا التقسيم الإداري يأتي استكمالاً لما يسمى بلغة اليوم بناء المؤسسات في الدولة على أسس صحيحة بعيداً عما يمكن أن يحدث خللاً في أجهزتها الإدارية، فهو يشير إلى ضرورة أن يكون استعمال العمال قائماً على أساس الاختيار الناتج عن الكفاءة والدين، لا على أساس المحاباة أو الاستبداد؛ لأن ذلك طريق لظلم الرعية وخيانتهم، ويشير إلى مواصفات العمال الذين يتولون أعمال الرعية، أن يكونوا من أهل التجربة وذوي الأخلاق من أولي السابقة في الإسلام فهم أكرم أخلاقاً وأصحّ أعراضاً ولن يكونوا تحت طائلة الطمع، كما أنهم سيكونون ذوي نظر في عواقب الأمور.

ولم يترك الإمام وصاياه وأوامره في اختبار العمال، دون أن يضع لذلك

ص: 184


1- ابن أبي الحديد 054/17

إشارات ضابطة للسلوك البشري، فيقول:

(ثم أسبغ عليهم الأرزاق؛ فإن ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجةً عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك ...) (1).

إذ لا بد من إعطائهم من الأموال ما يكف أيديهم من تناول أموال الناس سواء كان ذلك من بيت المال أو أخذ الرشاوى أو الاستحواذ على أموال لا تخصّهم، فعبّر عن ذلك ب (ما تحت أيديهم)، وهذا في الوقت ذاته يمثل حجة عليهم إذا خانوا الأمانة أو خالفوا.

كما أنه أشار إلى حلقة مهمة في النظام الإداري، ألا وهي بث العيون على هؤلاء العمال؛ لكي يكون ذلك حافزاً لهم على عدم الخيانة ورأفتهم بالرعية، ثم يشير إلى ضرورة التحفظ من هؤلاء الأعوان والعمال من خلال هؤلاء المراقبين والعيون الذين يحصون عليهم زلأتهم وخياناتهم - إن وجدت - فإن كانت الأخبار التي وردت تثبت خيانة أحدهم، فإن ذلك يعدّ شاهداً عليهم فيستحقون العقوبة التي حددها بقوله:

(فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب عمله، ثم نصبته بمقام،المذلة ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التهمة) (2).

إن الشيء اللافت للنظر أننا نجد أن هذه التعليمات التي مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرناً، كأنها شرعت لمجتمعات اليوم، بل إنها قد سبقت زمنها بكثير، وهي ما تزال وستستمر؛ لأنها اخترقت الحاجز الزمني وتعاملت مع الإنسان بكل كيانه، فلم تغفل منه جانباً، وهي تمثل منهجاً كاملاً في الإدارة.

5 - عمال الخراج:

أو ما يطلق عليه في وقتنا الحاضر (وزارة المالية)، فإنها تعد أساساً مهماً

ص: 185


1- ابن أبي الحديد 54/17.
2- المصدر نفسه 54/17.

تقوم عليه الدولة والمجتمع، وقد قال عنه أمير المؤمنين في كتابه لمالك الأشتر:

(وتفقد أمر الخراج بما يُصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله) (1).

لقد أجمل الإمام نظرته إلى الخراج وأهله في هذه الكلمات إذ يقول (فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم) وهذا يعني أن يتولّى الخراج الأمين المؤتمن صاحب الدين، لأن في جمع الخراج مسؤولية كبرى فالخراج (عبارة عن الأجرة التي تستلمها الدولة عن الأراضي التي تدخل في حساب المسلمين، نتيجة جهاد إسلامي مشروع، ولما كان الانتفاع بسبب تلك الأمور سمّوها - المنفعة - خراجاً) (2)، وما دام الأمر كذلك، فقد شدد الإمام عليّ على قضية الخراج ونبّه ولاته وعماله إلى خطورة سعي بعضهم إلى التنعّم بأموال المسلمين، ففي كتاب له إلى أحد ولاته:

(بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد سخطت ربّك وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك، أنّك تقسّم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأُريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقاً لتجدنَّ لك علىَّ هواناً ولتخفَّنَّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربّك ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً.

ألا وإن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء يردون عندي عليه ويصدرون عنه) (3)، وهذا ما قصده في إشارته اللطيفة ( ... ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم) أي بالقائمين على الخراج فإذا ذهب كلّ والٍ أو عامل بما لديه من الخراج انتشر الفساد في الأرض، وتقوّض العدل، وأصبح الناس بين .

ص: 186


1- المصدر نفسه 56/17.
2- نظرية الحكم والإدارة 18/17.
3- ابن أبي الحديد 136/16.

مترف يتقلب في النعيم، ومسحوق لا يجد ما يسد رمقه ولما كان الأمر يتطلب أن يقول الحاكم ويصدر أمره بذلك فقد كتب إلى عماله على الخراج يقول: ( ... واعلموا أن ما كلِّفتُم يسير وأن ثوابه كبير ... فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجكم، فإنكم خزّان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة، ولا تحشموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعنَّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً، ولا تضربنَّ أحداً سوطاً لمكان درهم ولا تمسّنَّ مال أحدٍ من الناس مصلَّ ولا،معاهد، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يعدى به على أهل الإسلام فإنه لا ينبغي أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام، فيكون شوكةً عليه، ولا تدَّخروا أنفسكم نصيحةً، ولا الجند حسن سيرة، ولا الرعية معونة ولا دين الله،قوة، وأبلوه في سبيل الله ما استوجب عليكم، فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا وأن ننصره بما بلغت قوتنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)(1).

يبدأ كتابه بالإشارة إلى أن هذا العمل يسيرٌ في أدائه كبيرٌ في ثوابه، وعليه فإن العمال واجب عليهم أن ينصفوا الناس من أنفسهم وأن يصبروا على قضاء حوائجهم؛ لأن هؤلاء العمال لأن هؤلاء العمال هم خزان الرعية على أموالهم وأمناء عليها، وهم وكلاء الأمة الذين لا يمكن لهم أن يخونوها وهم سفراء الأئمة لأنهم ينطقون عنهم ويأتمرون بأمرهم، ثم يبيّن في كتابه ما يمكن تسميته بخطوط الخراج الحمراء التي لا يمكن لعمال الخراج تجاوزها، طبعاً، منظور إليها من الوجهة الإنسانية من قبل الإمام من جانب، وإنها جزء من الملكية الخاصة أو الحرية الشخصية التي لا يمكن المساس بها من جانب آخر؛ لأن الغاية في هذه التشريعات أو الوصايا هو إقامة مجتمع يقوم على أساس احترام حق الإنسان الفرد بغض النظر عن دينه ومعتقده وعشيرته، إذ يقول الإمام علي (ولا تمسَّنُ مال أحد من الناس، مصلٍّ أو معاهد) وفي هذا إشارة واضحة إلى ضرورة احترام الإنسان مسلماً كان أو غير 7.

ص: 187


1- ابن أبي الحديد 18/17.

مسلم، إلا أن يكون في ذلك خطر على المسلمين، فإن الواجب يفرض على عمال الخراج حماية المجتمع منه إذ يقول:

(إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام، فيكون شوكة عليه)، وفي ذلك بعد نظر ومفهوم عسكري أمني لأجل حماية المجتمع الإسلامي من الأخطار.

لم يكن غائباً عن فكر الإمام علي علیه السلام ما للأبعاد الاجتماعية الناتجة عن وضع الأشياء في موضعها ففي ثواب المحسن وعقاب المسيء، أوصى الإمام بأن يكون المحسن والمسيء بمنزلة واحدة لأن ذلك فيه أبعاداً خطيرة على مستوى العلاقات الاجتماعية التي ستفضي إلى انهيار كامل للنظام الاجتماعي، فيقول في ذلك:

(ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه) (1) إن مبدأ الثواب والعقاب الذي يتضمنه النص يشير إلى أن المحسن أولى بالمجازاة على فعله والإشادة به والتفضل عليه، ترغيباً للآخرين في فعل الخير، على عكس المسيء الذي يجب أن يخضع للعقوبة لإساءته، ولدفع الآخرين لكيلا يقعوا في خطأ مماثل، وفي كلتا الحالتين لا يجب المساواة فيهما؛ لأن في ذلك تثبيطاً للمحسن عن الإحسان وتشجيعاً للمسيء على الإساءة، وهذا يعني تهدُّلاً في العلاقات الاجتماعية يؤدي إلى نقض البيئة الاجتماعية التي يقوم عليها بناء الدولة.

ولأن الإحسان يؤلف القلوب ويقوي الوشائج فقد أشار الإمام إلى ضرورة الإحسان إلى الرعية، لأن ذلك مدعاة إلى حسن الظن بين الطرفين (الوالي والرعية) كما أن إشارته إلى نقض السنة الصالحة وابتداع سنة جديدة غير صالحة مضرّة بسابقتها تعني عدم الأخذ بالأسباب الحقيقية لصلاح المجتمع، ويعقب ذلك دعوته 7.

ص: 188


1- ابن أبي الحديد 36/17.

إلى عدم ترك مشورة ما يسمون اليوم بالخبراء، فيقول:

(وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك).

يفسر ابن ميثم البحراني قوله هذا بأن (العلماء هم أهل الشريعة وقوانين الدين والحكماء هم العارفون بالله وأسراره في عباده وبلاده العاملين بالقوانين الحكمية العملية التجريبية والاعتبارية وبتصفّح أنواع الأخبار في تثبّت القواعد والقوانين التي يصلح عليها أمر البلاد وما استقام بها الناس منها) (1) مما يشير إلى أن الإمام يدرك أهمية المجالس الاستشارية أو مراكز البحوث التي تنتشر في كثير من دول العالم، قبل أن تعمل بها هذه الدول في عصرنا الحاضر، إذ أن مدارسة العلماء العاملين بالقوانين الحكمية العملية التجريبية والاعتبارية - كما يشير البحراني - ومناقشتهم تمثل مرحلة متقدمة في التفكير الإداري والتنظيمي للدولة في الجزيرة العربية أو في مصر التي ولّى عليها مالك الأشتر الذي وجّه إليه الإمام خطابه هذا.

خامساً / الخطاب العسكري:

لقد كان للطبيعة الجهادية التي برزت في صدر الإسلام أثر كبير في بيان مقدار أهمية الجند والعناية بهم والإحسان إليهم؛ لأنهم يمثلون الدرع الواقي للدولة والحصن الحصين الذي يدافع عن المجتمع الإسلامي، وقد أدرك الإمام علي علیه السلام بفكره الثاقب أن لا وجود للدولة التي لديها جيش ضعيف، فسعى إلى أن يكون الجنود في مقدمة ما يعتنى به من فئات المجتمع.

إن الإمام علي علیه السلام يقول في عهده لمالك الأشتر عن الجند (فالجنود ياذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلّا بهم ...) (2) إن هذا التحديد لواجبات الجنود أو الجيش - بشكل عام - يمثل رؤية واقعية للمهام؛ لأنهم مما يفتخر به أمام الأعداء، وبهم يعز الدين؛ لأنهم

ص: 189


1- شرح نهج البلاغة 185/6.
2- ابن أبي الحديد 39/17.

الفئة المجاهدة التي تشيده وتحميه وتدافع دونه وهم سبل الأمن؛ لأنهم يحفظون أمن المجتمع ويسهرون على حمايته، واختتم ذلك بقوله إن الرعية لا تقوم إلّا بهم مما يعني أن الجيش هو صمام الأمان للمجتمع والدولة وبه يحرز كل شيء.

ثم أشار الإمام إلى مسألة مهمة، ألا وهي أرزاق هؤلاء؛ لأنهم يمتهنون هذه المهنة فيجب توفير الأموال لهم ولعوائلهم، فيقول في ذلك الإمام (ثم لا قوام للجنود إلّا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به علی جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم) (1)؛ لأن الإخلال بحقوقهم يعني نشر الفساد والفوضى في المجتمع.

ولأن الجيوش لا بد لها من قادة يقودونها فإن الإمام أعطى المواصفات التي يمكن توافرها في الأشخاص الذين تناط بهم هذه المهمة الخطيرة فيقول في هذا الباب:

( ... فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف ثم ألصق بذوي الإحساس وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم وشُعب من العرف) (2).

لقد أشار الإمام إلى صفات ذاتية وصفات موضوعية، فمن الصفات الذاتية أن يكون:

1 - أنصح الجند لله والرسول والإمام.

2 - أطهر الجند جيباً.

3 - أفضلهم حلماً.

4 - بطيء الغضب.7

ص: 190


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- ابن أبي الحديد 41/17

5 - يستريح إلى العذر.

6 - يرأف بالضعفاء.

7 - ينبو على الأقوياء.

8 - لا يثيره العنف.

9 - لا يقعد به الضعف.

وفي السياق ذاته، يؤكد على الصفات الموضوعية؛ لأنها ذات تأثير على شخصية قائد الجند ويوجزها بما يلي:

1 - من ذوي المروءات والأحساب.

2 - من أهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة.

3 - من أهل النجدة والشجاعة.

4 - من أهل السخاء والسماحة.

وعليه، فسيكون قائد الجند محصناً ضد الإغراءات أو الانحدار باتجاه متدنٍّ بما ينعكس سلباً على وضعية جنوده لما له من تأثير عليهم. إن الحصيلة التي يمكن الخروج بها من هذا النص هي أن معانٍ أساسية يجب التركيز عليها كيما تكون متوافرة في شخصية قائد الجند؛ لأنها ذات تأثير مباشر على المجتمع، خاصة وأن المجتمع ما يزال تتحكم القبلية والانتماء القبلي في علاقاته، ولم يرق إلى مستوى الإمام عقائدياً إذ أننا نجد أن الإمام ابتدأ بالصفات الذاتية التي تتواءم والعقيدة الإسلامية، ثم أشار إلى الصفات الموضوعية التي تمت بأكثر من صلة إلى المفهوم القبلي.

تعبئة الجيش وعقيدته:

يبرز الإمام عليّ علیه السلام في هذا الجانب قائداً عسكرياً من الطراز الأول، فهو يشير في كلام إلى جنوده في ساحة المعركة إلى ضرورة تطبيق تلك الخطط الحربية؛ لأنها سبب من أسباب النصر فيقول:

(فقدِّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبي للسيوف عن الهام والتووا في أطراف الرماح فإنها أمورُ للأسنّة، وغضّوا الأبصار

ص: 191

فإنه أربط للجأش واسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم) (1).

إن من الضرورات في ساحة الحرب أن يتقدم أهل الدروع ويتأخر الذين لا يلبسون دروعاً حمايةً لهم، ثم إن وصيّته لجنوده بأن يعضّوا على الأضراس فإنه يجعل السيف غير قاطع إذا وقع على رأس أحدهم (وهذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه؛ لأنه إذا عض على أضراسه تصلّبت الأعصاب والعضلات المتصلة بدماغه وزال عنها الاسترخاء فكانت على مقاومة السيف أقدر وكان تأثير السيف فيها أقل) (2)، ووصاياه تلك تمثل خطة حربية ساعة الاشتباك مع العدو، أما في كيفية إدارة المعركة، فإنه قال لأصحابه حين طالبهم بالجهاد فاشترطوا عليه إن سرت سرنا معك، فأجابهم بأنه رأس الدولة لا يباشر هذه الأمور عن قرب، إنما يباشرها رجل من شجعانهم وذوي بأسهم والإمام من وراء ذلك، فيقول:

(ما بالكم! لا سدّدتم لرشد ولا هديتم لقصد أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج! وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم ولا ينبغي لي أن أدع الجند وبيت المال وجباية الأرض، والقضاء بين المسلمين، والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى، أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ وإنما أنا قطب الرّحا، تدور عليَّ وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها ...) (3).

وفي ما يسمى بلغة اليوم الاستحضارات العسكرية قبل بدء المعركة يوصي جيشه قائلاً:

(وأكملوا اللامة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلّها، والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر ونافحوا بالظبا وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين الله،7.

ص: 192


1- ابن أبي الحديد 5/8.
2- المصدر نفسه 136/5.
3- ابن أبي الحديد 222/7.

ومع ابن عم رسول الله فعاودوا الكرّ واستحيوا من الفر فإنه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب) (1).

وهو بذلك يمزج بين العدة العسكرية والعدة العقائدية، أي أنه حين يوصي جيشه بإكمال عدتهم وقلقلة السيوف في الأغماد وغيرها من الأغماد وغيرها من العدة العسكرية التي يجب أن يتحلى بها المقاتل في ساحة المعركة؛ فإنه يشير إلى أن الله يشهد على جهادهم وأنهم مع ابن عم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأنه هو ابن عمه ووصيّه وفي ذلك حافز لجنوده على الإقدام، ويحذرهم من الفرار؛ لأن في ذلك عاراً لأبنائهم وناراً لهم يوم القيامة، وهذه هي العدة العقائدية التي أراد أن يذكر بها جنوده لئلا يجبنوا أو يتراجعوا.

إن الإمام علي يستعمل في الخطاب العسكري الجمل القصيرة ذات الوقع الصادم، مما يشي بجوٍّ قتالي بدأ أو أوشك على ذلك، كما أن ما تحمله هذه الجمل من حزم وحسم إنما ينبئ عن صلابة حادة في مواجهة العدو، فيقول لابنه محمد لما أعطاه الراية يوم الجمل:

(تزول الجبال ولا تزل، عضَ على ناجذك، أَعِر اللهَ جمجمتك، تِدْ في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم، وغضَّ بصرك، واعلم أن النصر من عند الله) (2).

وفي هذا النص يتكرر لديه ما وجدناه في نصوص أخرى تنسج على المنوال نفسه مثل قوله (عضّ على ناجذك) و(غُضَ بصرك)، وهذا يعبر عن مبدئية إيمانية واعية لأهمية الحالة النفسية للمقاتل؛ إذ يجب شحن همّته بدافع الإيمان والصبر ومنازلة العدو بروح يعمرها الإيمان والوعي بما تقوم به؛ بأنه في سبيل الله ومن أجل رفعة مبدأ الحق.

وإلى جانب ذلك، فإن الإمام يركز على قضية أخرى ذات أهمية كبرى في 1.

ص: 193


1- المصدر نفسه 136/5.
2- المصدر نفسه 227/1.

تعبئة الجيش وتذكيره بمهمته الجسيمة التي انطلق من أجلها، في الوقت الذي يذكِّر فيه المقاتلين بالأشياء التي ستحصل لهم لو أنهم فروا من المعركة فيقول واصفاً أعداءه:

(إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعنٍ دراك، يخرج منه النسيم، وضربٍ يفلق الهام ويطيح العظام ويندر السواعد والأقدام، وحتى يُرموا بالمناسر تتبعها المناسر، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب، وحتى يُجَرَّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم وبأعنان مساربهم ومسارحهم) (1).

أي أن قتاله لهم لا ينتهي عند ساحة المعركة، إنما يتجاوز ذلك إلى كل مكان من أرضهم ويمثّل مأوىُ لفتنةِ أو مادّاً لها بالعتاد والعدد ويذكر مقاتليه بعواقب النكول فيقول:

(وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الآخرة، وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم. إن في الفرار موجدة الله والذلّ اللازم والعار الباقي، وإن الفارّ لغير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه، الرائحُ إلى الله كالظمآن يرد الماء الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار. والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم) (2).

ينتهي هذا النص إلى تقرير جملة حقائق موضوعية تمثل مرتكزاً فكرياً عند الإمام فهو يبدأ بالقسم وينتهي به وهذا يعني أن النص يعبّر عن حقائق ملموسة واقعية فبعد أن يشير إلى حقيقة الموت والغضب الإلهي وأن الموت في سبيل الله ينتهي إلى الجنة يعبر عن حقيقة موضوعية، هي أن أعداءه لم يحبّوا أوطانهم إلى درجة تدفعهم إلى الموت في سبيل الله لأنهم لا يدافعون عن وطن لهم وعقيدة ومبدأ، إنما هم متهمون في ذلك؛ إذ يقول (والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى دیارهم)، أي أنهم لم يحبوا ديارهم وأهلهم كمحبته للقائهم في سبيل الله، وبذلك .

ص: 194


1- ابن أبي الحديد 8/8.
2- المصدر نفسه 6/8.

يضعنا الإمام أمام معادلة تشير إلى أن المعركة بين الحق والباطل ليس إلّا.

وفي السياق نفسه، يأتي النص الذي وصى به أصحابه في معركة صفّين وهو ما نعدّه من ضمن بناء العقيدة للجيش وتذكير جنوده بأن ما يقومون به ليس قتالا بين المسلمين إنما بين المسلمين الذين يمثلهم جيش الإمام وأتباعه وجيش آخر أظهر الإسلام وأبطن الكفر وهم بذلك الفعل منافقون فلما اشتدت قوتهم أظهروا ما أبطنوا فيقول:

( ... وأعطوا السيوف حقوقها، ووطئوا للجنوب مصارعها واذمروا أنفسكم على الطعن الدعسيّ، والضرب الطلحفي، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل.

والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر فلما وجدوا عليه أعواناً أظهروه) (1).

هذا النص يشير إشارة واضحة إلى أن معاوية وبطانته لم يكونوا مسلمين وإنما كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهناك كثير من الحوادث التي روتها كتب التأريخ عن سلوك مشين سلكه أبو سفيان وهو أبو معاوية، ولعنه من قبل

النبي صلی الله علیه و آله و سلم ذكره ابن أبي الحديد في شرحه) (2).

جغرافية حركة الجيش والموقع الأفضل:

لم يقف الخطاب العسكري العلوي عند حدود المعركة أو استحضاراتها، بل كان يوجه في حركته باختيار المواقع التي تمتلك تحصينات طبيعية كالجبال والأنهار والمرتفعات وكذلك زمن الحركة وزمن نزول الجيش في هذه المواقع والطريق الذي يسلكه الجيش في حركته، وكيف عالج الهنات التي تحدث أثناء حركة الجيش، كل ذلك لم يترك منه الإمام شيئاً يدور في ذهنه إلّا نبّه عليه جنوده.

فقد كتب إلى جيشه يبين لهم المواقع المحصنة طبيعياً وكيف ينزلون بها

ص: 195


1- ابن أبي الحديد 87/15
2- ذكر لذلك حديثاً عن رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم لعن فيه أبا سفيان وابنه معاوية 61/4.

ويبثون العيون أو الأرصاد والأماكن التي يوجد فيها هؤلاء الرقباء فيقول:

( ... فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءاً، ودونكم مردّاً، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلّا يأتيكم العدو من مخافة أو أمن واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كِفَّةً، ولا تذوقوا النوم إلّا غراراً أو مضمضةٌ) (1).

وفي وصيته لأحد أمراء جيشه يبين فيها وقت الحركة ووقت المقام وهو بذلك يمزج بين البعد المهني الصرف وبين البعد الإيماني، فيقول:

(اتَّقِ الله الذي لا بد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه ولا تقاتلنَّ إلا من قاتلك وسر البَرْدَيْن، وغوِّر بالناس ورفِّه في السير، ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكناً، وقدره مقاماً لا طعناً، فأرح فيه،بدنك، وروِّح ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر، أو حين ينفجر الفجر، فسر على بركة الله) (2).

وكتب إلى عماله الذين يمر الجيش بالأماكن التي هي تحت أيديهم، وما يحدثه الجيش أثناء حركته في هذه الأماكن من الأذى للناس فيقول:

( ... فإني قد سيّرتُ جنوداً هي مارَةٌ بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرّة الجيش إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه، فنكّلوا من تناول منهم ظلماً عن ظلمهم، وكفّوا أيدي سفهائكم عن مضادّتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم، وأنا بين أظهر الجيش، فارفعوا إليّ مظالمكم، وما عراكم مما يغلبكم 5.

ص: 196


1- ابن أبي الحديد 67/15.
2- المصدر نفسه 69/15.

من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا بالله وبي فأنا أغيَره بمعونة الله إن شاء الله) (1).

في هذا النص - كما في غيره - يطبق الإمام العدل، حتى لو كان الذي يسيء جيشه الذي هو حصن الرعية ودرعها وزين الولاة - كما وصفه - ويحدد من خلال النص ما يمكن أن يتغاضى عنه الناس وهو ما سمّاه (جوعة المضطر)، في مقابل ذلك أمرهم بالتنكيل بمن يظلم الناس من أفراد الجيش، ونهاهم عن التعرض للجيش بما يسيء إليه.

منهجية السلم لا الحرب:

من خلال استقراء النصوص التي تندرج ضمن الخطاب العسكري لدى الإمام عليّ علیه السلام، يتبيّن أن الحرب لم تكن خياره الأول، ولم يكن يسعى من خلالها إلى صنع مجد تأريخي، وتحقيق انتصار في ساحة الميدان بغية تعزيز مكانة السلطة أو توسيع رقعة الملك؛ لأن دوافع نشوب الحرب عند الإمام عليّ علیه السلام لم يكن التشفي والانتقام والقهر وغايته الإخضاع لسلطان الحاكم (2)، إنما كان دافعه في ذلك تأديبي لا تسلطي حواري لا تمنعي يبدأ بالإشارة إلى المشتركات بينه وبين الآخرين الذين قاتلوه ويذكرهم تعاليم الدين الحنيف وأنه إمام مفترض الطاعة بموجب بيعتهم له، وأن خروجه حاسراً إلى الزبير في معركة الجمل (3)، لهو دليل على عمق إيمانه بشرعة السلم وبغضه للحرب إلا أن يجبر عليها، فهو يوصي ابنه الإمام الحسن فيقول:

( ... لا تدعُوَنْ إلى مبارزة وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي باغٍ والباغي مصروع ...) (4).

إن منهجية السلم لدى الإمام علي علیه السلام ليس ضرورة تجبره الحاجة إليها، بل هي مبدأ ثابت لا يحيد عنه في أقسى حالات الحرب، وأن اتباع السلم ما استطاع

ص: 197


1- المصدر نفسه 112/17.
2- ينظر: دراسات في نهج البلاغة 121.
3- ينظر: شرح ابن أبي الحديد 220/1.
4- ابن أبي الحديد 55/19.

إلى ذلك سبيلاً، كان الغاية من ذلك اهتداء الناس به وانقيادهم إليه دون حرب وسفك دماء، فهو يقول لأصحابه حين استبطؤوه في قتال أهل الشام:

(أما قولكم: أكل ذلك كراهية الموت؛ فوالله ما أبالي، دخلت على الموت أو خرج الموت إليّ، وأما قولكم شكّاً في أهل الشام! فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشوا إلى ضوئي وذلك أحب إليّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها) (1)، إذن الحرب إجبار والسلم خيار؛ لأن الغاية هي الهداية، وليس القتل والتدمير، وما قوله للخوارج بأن يكونوا فرقتين من شهد صفين ومن لم يشهدها لكي يكلم كل فرقة بكلامها (2)، لم يكن ذلك إلا دليل على حبه للحوار والتهدئة والسلم وبيان الحجة في فعل هذا الأمر أو ذاك، فيقول:

( ... فإذا طمعنا في خصلة يلمُّ الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها، وأمسكنا عما سواها) (3).

على أن هذه الخصلة التي ذكرها في معرض كلامه لم تكن إلا السلم والاهتداء إليه؛ لكي لا يتفرق المسلمون تبعاً للأهواء الضالّة والمصالح الفئوية الضيّقة، ولكي لا يكونوا حطباً لحرب لم يكونوا فيها على بيّنة، إنما أوقدها الذين أوقدوها لغايات وأطماع وتشتت الأهواء، ولأن الإمام علي علیه السلام بنى منهجه على كراهية الحرب وحب الصلح والسلم، فإنه يقول لجيشه في معركة صفين:

(لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن 7.

ص: 198


1- المصدر نفسه 11/4.
2- كلمهم بذلك حين أنكروا التحكيم بعد أن أجبروا الإمام عليه ابن أبي الحديد 231/7.
3- ابن أبي الحديد 232/7.

شتمن أعراضكم، وسبين أمراءكم) (1).

إن هذا الحرص الشديد على كراهية القتال كان منهجاً لدى الإمام لم يحد عنه في كل حروبه ومعاركه ولم يبادر إلى شن حرب أو اغتيال شخص مناوئ له أو أن يغدر بعدوه، كل ذلك ما هو إلا تعبير عن حب السلم وكراهية الحرب؛ ولأن السلم هو منهجه، كان يوصي عماله بأن لا يتركوا فرصة سانحة للسلام والصلح، (لأن الحرب ليست مطلوبة لذاتها، وإنما هي وسيلة كريهة لحماية الحق) (2)، وقد كتب إلى مالك الأشتر في عهده إليه بالمبادرة إلى الصلح كلما لاحت له بوادره؛ إذ يقول له:

( ... ولا تدفعنَّ صلحاً دعاك إليه عدوك والله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارعَ ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَّةً دون ما أعطيت ... فلا تغدرنّ بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنَّ عدوك) (3).

فالسلم لدى الإمام علي قائم على المبدئية الإنسانية التي ينظر من خلالها إلى عدوه، كما ينظر إلى نفسه، فوصيته لعامله بالوفاء ونبذ الغدر لم تكن تدخل ضمن أخلاقية المحاربين الشرفاء فقط، إنما تتعدى ذلك لتأخذ بعداً إنسانياً حرصاً على الآخر أياًّ كان، وكأني به يرى أن الفتح ليس بالسيف إلا أن يكون مجبراً، إنما الفتح فتح أخلاقي يقوم على التقوى واحترام الآخر والسعي إلى الحفاظ عليه وهدايته وإن كان يحمل السلاح ضده فهو يذكّر معاوية بمسؤوليته عن جيشه وأنه سيكون سبباً في هلاكهم مخدوعين، فيقول:

(وأرديت جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك 7.

ص: 199


1- ابن أبي الحديد 79/15.
2- دراسات في نهج البلاغة 132.
3- ابن أبي الحديد 82/17.

تغشاهم الظلمات وتتلاطم الشبهات فجازوا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولوا على أدبارهم وعوّلوا على أحسابهم إلا من فاء من أهل البصائر فإنهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من مؤازرتك، أزحمتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد فاتّق الله يا معاوية في نفسك، وجاذب الشيطان قيادك فإن الدنيا منقطعة عنك، والآخرة قريبة منك) (1).

وزيادة على تذكيره معاوية بمن تحت يده من المخدوعين، فإنه يذكره بنفسه وأن ذلك مسؤولية كبرى عليه أن يلتفت إليها قبل أن تفلت الأمور منه ويؤول إلى الآخرة محمّلاً بخطايا لا يستطيع حملها، ولا يفوتني الإشارة إلى أن الإمام علي علیه السلام ينحو على معاوية باللائمة؛ لأنه أمات في قلوب أتباعه الدين وأيقظ في نفوسهم الحمية الجاهلية، نستشفّ ذلك من قولك ( ... ونكصوا على أعقابهم، وتولّوا أدبارهم، وعوّلوا على أحسابهم). إن هذا الفهم القائم على القراءة الدقيقة للواقع الإسلامي، وحرص الإمام على هداية الآخرين رغم أنهم يحاربونه، إنما كان يشير إلى رؤية نبوية تستدل بنور الإسلام وتستضيء بهدي القرآن لا لأجل مصالح شخصية آنية إنما حبّاً بهداية الناس جميعاً إلى طريق الحق ونبذ الباطل.

سادساً / الخطاب الفقهي:

يعرّف ابن خلدون الفقه بأنه (معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحذر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلّة) (2)، إذن هو يبنى على دعامتين رئيستين هما (الكتاب والسنة) زائداً ما نصبه الشارع من الأدلة، وهذا يعني إشارة إلى أن هناك من الأحكام ما لا نصّ فيه (قرآناً أو سنّةً)، ولا بد من الوقوع على الدليل القاطع لإصدار الفتيا أو الحكم الفقهي، أي أن ذلك دعوة إلى الاجتهاد بناء على المعطيات المستقاة من الكتاب والسنة، كما أشار ابن خلدون إلى موارد الخطاب الفقهي

ص: 200


1- المصدر نفسه 102/16.
2- المقدمة 445.

ولخَصها في ما يأتي:

1 - الواجب.

2 - المحذور منه.

3 - المندوب إليه.

4 - المكروه فعله.

5 - المباح.

مما يعني أن كل ذلك قد وجد في كتاب الله وسنة نبيه؛ لأنه قال معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، مما يعني أن هذه الأحكام موجودة وإن لم يرد فيها نص صريح، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجودها، إلا أن المعول عليه في ذلك هو وجود الشخص المؤهل لاستنباط الحكم الفقهي لكي لا يضل الناس بمن لا دراية له في هذا الباب.

إن الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة لم يترك هذا الجانب في خطابه إلى المتلقي، إنما كان يتعرض له بقدر الحاجة إليه وهو قبل أن يصبح خليفة، كان عوناً لمن سبقه من الخلفاء في كثير من القضايا الفقهية التي لو لم يكن الإمام صاحب الكلمة الفصل فيها؛ لسبَّبت إحراجاً كبيراً لمن يفتي بغير علم أو يجتهد دون دليل فقهي يستند عليه، وما قضيّة استفتاء عمر من الإمام حول حليّ الكعبة (1)، إلا واحدة من الشواهد الدالة على تبحر الإمام في الفقه واستخراجه الحكم الفقهي دون أية صعوبة تذكر.

إن الخطاب الفقهي لدى الإمام علي علیه السلام كان يقوم على التفكير، (فالمزية التي امتاز بها الإمام بين فقهاء عصره ... أنه لم يقصر "الفقه" على العبادة وإجراء الأحكام، "إنما" (امتاز الإمام بالفقه الذي يراد به الفكر المحض) (2)؛ لأن استنباط الأحكام الفقهية يعتمد على الربط الجدلي بين النص والواقعة وإذا لم يوجد نص بذلك، أفضى إلى مشرعة الاجتهاد التي يعد العقل عمادها الرئيس يقول الإمام 2.

ص: 201


1- صحيح البخاري 81/3، ابن أبي الحديد 30/19.
2- عبقرية الإمام علي نقلاً عن علي سلطة الحق، 202.

(اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية فإن رواية العلم كثير ورعاته قليل) (1)، في النص تتضح علاقة العقل بالعلم وهي علاقة تكاملية؛ لأن العقل هو موطن التفكير وإن العلم منوط بالتفكير، فهما كالوجهين لعملة واحدة - كما يقال - ولأن الحكم الفقهي يحتاج إلى التفكير بوجود الدليل لاستنباط الحكم.

لقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى تعريف الفقيه بشكل محدد فقال:

(الفقيه كل الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يؤيّسهم من روح الله ولم يؤمنهم من مكر الله) (2) وبذلك فهم يحدد إمكانية وجود الفقيه على أساس هذه القواعد الثلاثة، ومن يفتقد واحدة منها فقد خرج عن دائرة التعريف، وإذا خرج عنها فهذا يعني انحيازه إلى الحكم بالهوى وعدم اتباع التعاليم الصحيحة التي أرادها الإسلام والقرآن الكريم للناس، فينحو باللائمة على هؤلاء العلماء الذين يختلفون في الأحكام والفتاوى ويذمّهم، مبيّناً أن ذلك الاختلاف لا يمكن أن يكون؛ لأن الكتاب والنبي واحد وقبل ذلك فالله واحد، ويصف هؤلاء بأنهم (ترد على أحد أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ...) (3)، وهذا في منتهى الجهل؛ لأنهم لا يمكن أن يكونوا جميعاً على صحة في استنباط الحكم، فربهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، فكيف يكون ذلك! إذ يشير إلى أمور - إن وجدت - فلهم العذر في اختلافهم في الفتيا، فيقول:

( ... أفأمرهم الله - تعالى - بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى، أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول - 1.

ص: 202


1- ابن أبي الحديد 202/18.
2- المصدر نفسه 194/18.
3- المصدر نفسه 266/1.

صلى الله عليه وآله - عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (1)

يقول ابن أبي الحديد في تعليقه على هذا النص (لا ينبغي أن يحمل جميع ما في الكتاب العزيز على ظاهره، فكم من ظاهر فيه غير مراد) (2)، مما يعني أن فهم النص لأجل استنباط الحكم الفقهي لا يقف عند الظاهر، ولا بد من الاجتهاد في ذلك، إلّا أنه ليس كل مجتهد مصيب في حكم، على خلاف ما يرى بعض الأصوليين أن الحق لدى كل واحد من المجتهدين ما يؤدي إليه اجتهاده بغض النظر عن أي شيء آخر (3) وبذلك تختلط الأحكام لدى هؤلاء المجتهدين وأن كل واحد منهم لعدم معرفته أصول الاستنباط وفهم الدليل من الكتاب والسنة يصفه الإمام بأنه (تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج منه المواريث) (4)، على أن هذه الوجوه التي عددها الإمام في خطابه تعد باطلة بأجمعها كما أشار إليها؛ لأن الله عز وجل جعل القرآن كتاباً وافياً بكل شيء.

إن الإمام في إشاراته تلك، إنما يريد أن يذكر حقيقة نستطيع أن نستشفّها من وراء النص بأن هناك أناساً قد منحهم الله - عزّ وجل - ملكة الاستنباط الفقهي هم المؤهلون لهذه المهمة الجليلة، ووصفهم بأنهم مستحفظون، وأنهم يتواصلون بالموالاة ويفجرون عيون العلم فيقول:

( ... واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه يصوتون مصونه ويفجرونه عيونه، يتواصلون بالولاية، ويتلاقون بالمحبة ... فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنّب من يرديه وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصرّه وطاعة هادٍ 1.

ص: 203


1- ابن أبي الحديد 266/1، سورة الأنعام (38).
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- ينظر: شرح النهج للبحراني 519/1 وقد ذكر أن هذا ما يذهب إليه الإمام الغزالي وجماعة من الأصوليين.
4- ابن أبي الحديد 262/1.

أمره ...) (1).

فهو يصفهم بأنهم يصونون علم الله الذي استحفظهم إياه، ويفجرون عيون هذا العلم باجتهادهم ومعرفتهم الدليل الفقهي، وأنهم يتواصلون واحد بعد الآخر، وهم يظهرون أحكام الشريعة كما جاء في القرآن والسنة النبوية؛ لأنهم قد فهموا ما أراد الله سبحانه وتعالى في كتابه، ولم يأتوا بآراء تخرج عنه أو يقيسوا شيئاً على شيء؛ لأنهم (يتساقون بكأسٍ روية) (2)، وهي إشارة إلى أن هذا التسامي و أخذ هو العلم بعضهم عن بعض ما يفيد معنى التسلسل الزمني الذي يفضي إلى أن هؤلاء العلماء يتوارثون العلم على وفق ترتيب ينتظم عبر الزمن؛ لأنهم (على ذلك عقد "الله" خلقهم وأخلاقهم، فعليه يتحابون وبه يتواصلون، فكانوا كتفاضل البذر ينتقى ...) (3).

إن التواصل هو (انتقال التجارب الفعلية بالمعنى الدقيق للانتقال) (4)، وهذا يعني أن الفكرة تنتقل من عقل إلى عقل آخر؛ لأن الحقيقة العلمية هي عقل واحد ذو وجوه عديدة (5)، وبالنتيجة فإن الحكم الفقهي لهؤلاء العلماء لا يبنى لديهم على الرأي، إنما هم علموا علماً، وصفهم فيه بأنهم (فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا ...) (6)، وهذا التفات بالخطاب عن الغائب وكان قد سبقه بكلام ذكر فيه نفسه وآل بيته فيقول ( ... نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً ...).

ص: 204


1- المصدر نفسه 51/11.
2- ابن أبي الحديد 51/11.
3- المصدر نفسه والصفحة.
4- مبادئ النقد الأدبي - دراسة أدبية - 167.
5- ينظر المصدر نفسه 168.
6- ابن أبي الحديد 136/9.

وفي ذلك إشارة إلى الحديث الشريف (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) (1)، ما يعني أن العلم لديهم قد جبلهم الله على ذلك، وأن الفقه في الدين هو أصل في العلوم، وأن الإمام يصف أهل البيت بوصفهم أساس الدين والعلماء فيه فيقول:

(هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماعٍ ورواية فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل) (2).

حرص الإمام علي في خطابه الفقهي فضلاً عن أنماط الخطاب الأخرى، على تبيان حقيقة، حاول الآخرون غمطها ودفنها وهي ما تزال وليدة، هذه الحقيقة تتعلق بمكانة آل البيت وموقعهم من الدين والرسالة الإسلامية، فهم (لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه) على العكس من غيرهم الذين يقضي كل واحد منهم بحكم أو فتوى تناقض الآخر ويصونهم الحاكم بأجمعهم، كما أن الإمام يشير إلى أن آل البيت قد (عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية) وهذه تعضد قوله في أن رواة العلم كثير لكن رعاته قليل، مما يعني أن التفاعل العقلي في مفهوم نقل الخبر هو المعوّل عليه؛ لأن من لا يفهم ما حمّل من علم إنما مثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

لقد أشار الإمام عليّ إلى أن من الناس من يضع نفسه مع العلماء وهو ليس منهم، وفي ذلك ضلال له، وللآخرين، فيقول عنه:

(وآخر قد تسمّى عالماً وليس به فاقتبس جهائل من جهّال، وأضاليل من ضُلّال، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقول زور قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحق على أهوائه، يؤمّن الناس من العظائم، ويهوّن كبير الجرائم، يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول اعتزل البدع وبينها اضطجع؛ .

ص: 205


1- المصدر نفسه 128/9، شرح البحراني 313/3.
2- ابن أبي الحديد 237/13.

فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصد عنه، وذلك ميّت الأحياء) (1).

إن مثل هذا وسواه من الذين يسمّون أنفسهم بالعلماء، فهم وعّاظ السلاطين الذين يفتون لهم بما يرغب هؤلاء السلاطين لا بما ينسجم مع الشريعة الإسلامية، وبذلك فهم ضالون مضلون يعملون بالهوى ولم يتعلموا الأحكام من مصدرها المؤتمن، الذين هم آل البيت (2)؛ إذ يقول عنهم الإمام:

( ... فأين تذهبون! وأنّى تؤفكون والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم، وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم، وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش) (3).

وهذا يشير إلى حقيقة مهمة هي أن آل البيت هم صنو القرآن، وأن الأخذ عنهم هو بمثابة ورود الماء العذب، وقد سبق ذلك قوله في ثلاثية جميلة يتعانق فيها المعنى؛ إذ يقول: ( ... وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق ...) في إعلان صريح عن انضباطهم وانقيادهم للحق وأنه (جعل الحق معهم حيثما داروا وذاهباً حيثما ذهبوا ... وقد نبّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على صدق هذه القضية بقوله" وأدر الحق معه حيث دار") (4).

إذن هو استدلال في توجيه الخطاب الفقهي إلى من يمكن أخذ الأحكام الفقهية عنهم، وبطبيعة الحال، فقد نبّه الإمام إلى خطورة ما يراه الناس، كونه غير قائم على الدليل الشرعي الناهض، في أنهم يعملون بالرأي في مسائل وقضايا لا يدرك قعرها، ولا يمكن أن يصلوا إليها، من بعد أن يشير إلى أن النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد .

ص: 206


1- المصدر نفسه 289/6
2- المصدر نفسه 291/6.
3- ابن أبي الحديد 289/6.
4- المصدر نفسه 289/6.

قال بضرورة متابعة أهل بيته بوصفهم الثقل الأصغر، حسب تعبير الإمام في خطابه إلى الناس كافة، وكأنه بذلك يختصر الزمان والمكان في تلك اللحظة الخطابية، كما يشير التعبير، فيقول:

(أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله إنه يموت من مات منا وليس بميّت ويبلى من بلى منا وليس ببالٍ فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون واعذروا من لا حجة لكم عليه، وهو أنا ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر، قد ركزت فيكم راية الإيمان، و وقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر، ولا تتغلغل إليه الفكر) (1).

إن تصريح الإمام بأنه قد دلّ الناس على حدود الحلال والحرام (2)، ينبئ بما لا يقبل الشك، بأنه أفقه الناس بعد رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم لأنه بقوله (ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي ...) أشار إلى مطلق الأحكام في الفقه والقضاء، وبعدما بيّن هذه الأمور، نهاهم عن استعمال الرأي في ما يتعلق (بالخوض في صفات الله تعالى والبحث عن ذاته على غير قانون وأستاذ مرشد) (3)، مما يوجب الوقوع في متاهات ومزالق تكون نتيجتها الانسلاخ عن الدين والانحياز إلى دائرة الضلال.

علوم الحديث ورواته

إن الخطاب الفقهي في نهج البلاغة أثار قضية مهمة أبرزت أهميتها السنين التي تلت خلافته، بل لعلها ما تزال تتفاعل في الأوساط العلمية الفقهية خاصة

ص: 207


1- المصدر نفسه 289/6 - 290.
2- ذكر ابن أبي الحديد في شرحه 43/1 وما بعدها أن جميع المذاهب الإسلامية قد نهلت من علومه الفقهية فضلاً عن الصحابة أمثال عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وغيرهما.
3- شرح البحراني 406/2.

والدينية عامة، تلك القضية هي رواية الحديث التي فضل القول فيها بحسب المقام حينها، وقد تطرق إلى أهمية الرواية والرواة وأنواعهم وصفاتهم وبيان من هو على الحق ومن هو على الباطل كما أشار إلى ضرورة تقييد العلم - الفقهي خاصة - نظراً لما له من أهمية في البدايات الإسلامية الأولى في حياة المسلمين وهم بحاجة إلى من يبيّن لهم أحكام الدين الجديد والسنة النبوية والتفسير، في حركة ثقافية دينية واسعة، وما صاحبها من نزوع كثير من الصحابة أو التابعين إلى طلب العلم أو إلى تأسيس مدارس فقهية ترتب عليها نشر للأحكام التي قد يصل ببعضهم إلى الاجتهاد بالرأي في حالة عدم التوصل إلى الدليل الفقهي الذي يقوم عليه استنباط الحكم وكل ذلك قد تعرّض له الإمام في خطابه الفقهي، في استشراف ينم عن رؤية صادقة وفراسة تنبئ عن اطلاع قلّ نظيره مما يستوجب وقفة لبيان ذلك.

يقول الإمام علي عن رواة الحديث في جواب لسائل سأله عما في أيدي الناس من أحاديث البدع واختلاف الخبر فيصف ذلك بِ (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذبا وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهما) (1)، وهذا التفصيل لما في أيدي الناس من الأخبار حدده الإمام عليّ علیه السلام بقاعدتين، موجزة ومفصّلة، فأما القاعدة العامة فإنه أوصى الناس أو أهل العلم خاصة لقوله (اعقلوا الخبر عقل رعاية لا عقل رواية فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل) (2)، ما يعني أن عرض الخبر على منطوق الكتاب والسنة ومفهومهما في تجرد عقلي، فما كان موافقاً لأحكامهما فتجب روايته، وما كان مخالفاً فيجب نبذه، وهذا - حسبما نرى - هو المفهوم الذي يشير إليه النص.

وأما القاعدة المفصلة، فإنه أشار إلى رواة الحديث وعدد لهم أصنافاً أربعةً لا خامس لهم، فيقول: 8.

ص: 208


1- ابن أبي الحديد 32/11.
2- المصدر نفسه 202/18.

(وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس ...) (1).

يفصح النص عن مهمة هؤلاء وهي (أتاك بالحديث) وهذا تفصيل واضح عن رواية الحديث في تصنيف لرواته إلى أربعة أصناف لا خامس لهم، وهم:

- رجلٌ منافق مظهر للإيمان متصنّع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، ووصفهم بما وصفهم به لك ثم بقوا بعده، فتقرّبوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولّوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا وإنما الناس مع الملوك والدنيا، إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.

- رجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمّد كذباً فهو في يديه، ويرويه ويعمل به، ويقول أنا سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو هو علم أنه كذلك لرفضه.

- رجلٌ ثالث سمع من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم شيئاً، يأمر به ثم إنه نهى عنه، وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

- آخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنّب عنه، وعرف الخاص والعام، والمحكم والمتشابه فوضع كل شيء موضعه) (2).

يتحدد الراوي الثقة في الصنف الرابع فقط - بحسب النص - فالأول منافق، اتخذ من صحبته للنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ستاراً فأطلق العنان لرواية حديث كاذب .

ص: 209


1- ابن أبي الحديد 32/11.
2- المصدر نفسه 32/11.

أو موضوع أو ملفّق فأخذه عنه المسلمون كونه شهر بصحبته للنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهذا يشير إلى أن الصحبة لم تكن ولن تكون كافية في إضفاء القداسة على الأشخاص وعدم محاكمتهم من خلال سلوكهم إبان حياة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أو أن تفتعل المبررات لسلوكيات منحرفة عن الدين مما يفضي إلى انحراف في حياة المجتمع قد يمتد لقرون طويلة وما تعيشه المجتمعات الإسلامية اليوم هو نتائج ذلك الانحراف.

وأما الصنفان الآخران فهما إما متوهم في الحفظ أو حفظ منسوخاً ونسي ناسخاً، وكلاهما سيوقع المسلمين في ورطة كبيرة، وسيكون لتلك الروايات رواة كثر من بعد هؤلاء، مما سيجعل الأمر أكثر صعوبة في تعديل الرواية.

من هنا نفهم ضرورة الوقوف عند إشارات الإمام علي علیه السلام إلى أن رواة العلم كثير ورعاته قليل، وأهمية إعادة قراءة الموروث الثقافي والفكري والديني للمسلمين ومحاولة فرز الخطاب الذي نشأ آنذاك، ووضع اليد على النقاط التي كانت سبباً في تفرقة المسلمين. وبالنتيجة الكشف عن الزيف الذي لحق بالأفكار وأسهم في تشويهها ومعالجة ذلك على وفق مقتضيات مصلحة المسلمين عامة.

ثم بيّن الإمام في النص نفسه، أن الكلام كان من رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم له وجهان عام وخاص ولعلّ في ذلك إشارة خفية إلى أن هذين الوجهين لا يعلمهما إلّا من ارتضاه النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم لعلمه وعاءً، وهو ما ذكره في نهاية النص بقوله: (وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلّا سألته عنه وحفظته) (1) وفي هذا تنبيه على أفضليته فقهاً وقضاءً؛ لأنه سأل عن كل ما يمر به وحفظه، وهذا أقصى الغاية في رعاية العلم فضلاً عن روايته.

سابعاً / خطاب الزهد:

مثّل خطاب الزهد - تنظيراً وتطبيقاً - في نصوص نهج البلاغة - منهجاً سلوكياً أفاد من النضج الروحي الذي بثّه الإسلام في نفس الإمام عليّ علیه السلام، بوصفه

ص: 210


1- ابن أبي الحديد 33/11.

تلميذاً قرآنياً محمدياً، شرب من نبع صافٍ، وأن الزهد في حياته صار مضماراً اعتاده في حياته، وأصبح تياراً فكرياً من بعده له عشاقه ومتّبعوه (1)، ويعدّ الإمام عليّ علیه السلام واضع الأسس الأولى النظرية والتطبيقية لخطاب الزهد.

إننا يمكن أن نتلمّس الأسس النظرية لخطاب الزهد بما يجعله يتحول إلى تيار ثقافي فكري يؤمن به ويطبّقه كثير من الذين عاشوا عصر الإمام أو جاؤوا بعده، ويمكننا أن نتلمس ذلك في كثير من نصوصه التي بثّها على الناس، مبيّناً فيها أهمية الحياة كونها معبراً إلى الآخرة، وأنها متجر أولياء الله، أو أنها مزرعة الآخرة (2)، واضعاً ذلك في صور متضادة من لدن المتلقين وهي مشفوعة بعاطفة جياشة لتحبيب حياة الزهد والتقشّف إلى الناس، ولاسيّما أن عصر الإمام كان عصر الثروة والانغماس في الدنيا، وقد وصل الأمر في ذلك إلى صراعات سياسية هنا وهناك؛ لم يكن ذلك إلّا بسبب انهمار الثروات الطائلة على المسلمين وركونهم إلى حب الدنيا والموادعة في الحياة.

إن الجانب النظري في خطاب الزهد الذي يستند في مقوماته إلى العقل إنما يمثل إرهاصاً من أن الزهد سيتحول فيما بعد إلى ما عرف بالتصوّف، الذي ذهب به أهله بعيداً عن المدرك العقلي، حتى دخلوا به طرقاً متشعبة أصبحت فيما بعد تنحو منحىً آخر، أبعده عن مشروعيته الدينية، بما دخله من أفكار تدعو إلى الحلول والتناسخ وغيرها، وعليه فإن وصف الإمام عليّ علیه السلام الجانب النظري مشيراً إلى حياة الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم، بوصفه صاحب المدرسة الزهدية الكبرى إنما يستنطق أصحاب العقول في ذلك، فيقول:

( ... ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلّك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصته وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظرٌ بعقله أكرم الله محمداً صلى الله عليه وآله بذلك أم أهانه؟ فإن قال .

ص: 211


1- ابن أبي الحديد 45/1.
2- أشار إلى ذلك في بعض خطبه، سنأتي عليها فيما بعد.

أهانه، فقد كذب - والله العظيم - بالإفك العظيم وإن قال: أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره قد بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه، فتأسى متأسِّ بنبيّه واقتصّ أثره وولج مولجه ...) (1).

إن إشارته إلى النظر العقلي في قوله (فلينظر ناظر بعقله ...) تشير إلى أن العقل الأساس الذي يستند عليه الزهد، وأنه إن لم يكن مستنداً إليه، سيكون عبادة لا تقوم على أساس يقيني، بل قد تذهب بصاحبها في اتجاهات منحرفة، كما أن ضربه الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم مثلاً للزهد لبيان أن زهده كان ينطلق من أساس عقيدي يؤمن بأن يكون الأساس العقيدي نفسه الذي يرتكز على العقل وما جاء به النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم من الدين الحنيف، كما أن الإمام عليّ علیه السلام يبرز هذا المنهج في حديثه عن الحياة والعلاقة مع الباري - عزّ وجلّ - فيقول عن الدنيا:

(ألا إن الدنيا دار لا يسلم منها إلّا فيها ولا ينجي بشيء كان لها، ابتُلي الناس بها فتنة، فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه فإنها عند ذوي العقول كفيء الظل، بينا نراه سابغاً حتى قلص، وزائداً حتى نقص) (2).

إن رسم صورة الدنيا وتشبيهها بالظل عند ذوي العقول، إنما يعني أن هؤلاء نظروا إليها بعين العقل لا بعين الرغبة؛ لأنهم حينما رأوها كفيء الظل، فهذا يعني أنهم لم يثقوا بها بل عرفوها معرفة الخبير المجرب، فلم يركنوا إليها، وهذا أساس نظري؛ إذ يقول في إحدى حكمه:

(مثل الدنيا كمثل الحيّة هيِّنٌ مسّها والسم الناقع في جوفها يهوي إليها الغر الجاهل، ويحذرها ذو اللبّ العاقل) (3).

إذن فهو منهج نظري يضع الإمام محدداته بوجود العقل؛ لأنه الضابط .

ص: 212


1- ابن أبي الحديد 179/9.
2- المصدر نفسه 114/5.
3- المصدر نفسه 228/18.

الأمين لكل الانفعالات الإنسانية، ولكي يكون الزهد فاعلاً إيجابياً في حياة الفرد والمجتمع وليس سلبياً، فقد كان الإمام عليّ علیه السلام يشير في أكثر من موضع إلى فلسفة الزهد الإيجابي الذي يدفع بصاحبه إلى ممارسة أثر فاعل في الحياة، على خلاف الزهد السلبي الذي يقبع أصحابه في صوامعهم بعيداً عن حركة الواقع اليومي للناس. يقول الإمام في أصحاب الزهد الإيجابي:

( ... رجالٌ غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد فارَّ، وخائف مقموع، وساكتٍ مكعوم، وداعٍ مخلص، وثكلان موجع ...) (1).

إن تعداده لهذه الأنواع يبين حالة الزهاد الإيجابية، في أنهم قد شمّروا عن سواعدهم للدخول في معترك الحياة العملية، حتى وصل الأمر لأن يكون القمع والإسكات والتشريد نصيبهم لأنهم زهدوا في الدنيا وحملوا لواء التغيير فيها. ويقول الإمام عن هؤلاء ذوي الاتجاه السلبي فيصف الواحد منهم بأنه تراجع عن ميدان الحياة العامة (فقصرته الحال على حاله فتحلّي باسم القناعة وتزيّن بلباس أهل الزهادة وليس من ذلك في مراحٍ ولا مغدى) (2).

إن إشارات الإمام في خطاب الزهد، إنما تدل على أنه يخاطب ذوي العقول في تحليل لمكونات هذه الحياة معرفياً (3)، بما يشكل لديهم زاداً سلوكياً ينهض بالرؤية المتحققة للزهد بوصفه عبادة لا تقل أهمية عن أية عبادة أخرى، وبما يسهم في فهم أعمق لهذا الكون والحياة الدنيا خاصة.

ولعل المعطى الاجتماعي هو من المعطيات الرئيسة لعلاقة الزاهد بالمجتمع، كون العلاقة بينهما إيجابية المعنى لا سلبية، بما يجعل من الزهد تشريعاً اجتماعياً تتعاطاه الفئات الاجتماعية من أجل إيجاد حالة من النضج الفكري 3.

ص: 213


1- ابن أبي الحديد 138/2.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- تيار الزهد الإسلامي، مجلة المنهاج ع 233، 63.

والعقلي على مستوى التطبيق، يقول الإمام معرّفاً الزهد:

(أيها الناس الزهادة قصر الأمل والشكر عند النعم، والتورّع عند المحارم، فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم ولا تنسوا عند النعم شكركم فقد أعذر الله إليكم بحجج مسفرة ظاهرة، وكتب بارزة العذر واضحة) (1).

إن تشريع المجتمع للزهد كيما يكون حالة عامة، فإنه بذلك يباشر في تنظيم جهد إصلاحي يشمل الحياة عامة، بما يمكن أن يندرج تحت عنوان (التبشير الأخلاقي الذي يسعى إلى جعل القيم الأخلاقية قانون المجتمع) (2)، معتمداً الصبر عند الإغراءات المادية، والشكر على كثرة النعم التي ينعمها الله بوصفهما مرتكزين يساعدان على ترويض النفس البشرية وضبط إيقاعها السلوكي بما يضمن صيرورة مجتمع يقوم على بناء القيم الأخلاقية لا على هدمها، وحينها تصبح الدنيا والزهد فيها كسلوك جمعي وسيلة إلى تحقيق الغاية المنشودة، ألا وهي تحقيق ما يمكن تسميته بِ (الصلح الاجتماعي) (3)، ومن هنا كان سعي الإمام عليّ علیه السلام في زهده وهو يتولى الخلافة، فلم يكن قبوله بالسلطة حبّاً فيها أو حبّاً بجمع المال، إنما يحدد هدفه بدقة فيقول:

(اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا، منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك ...) (4).

إن الهدف - لدى الإمام - من وراء توليه الخلافة، وهو الزاهد، لم يكن التسلط من أجل غايات ومصالح شخصية دنيوية، إنما كان لدفع الظلم عن الناس وإبراز معالم الدين ونشر الإصلاح في المجتمع، وهو ما قصدناه من مفهوم الصلح .

ص: 214


1- ابن أبي الحديد 183/6.
2- تيار الزهد الإسلامي 234.
3- نعني به: الانقياد إلى الطريق الصحيح وبناء مشروعية الزهد على أسس صحيحة لإصلاح المجتمع بما يضمن عدم الإضرار بعضهم ببعض.
4- ابن أبي الحديد 201/8.

الاجتماعي. وسيتبيّن الواجب الشرعي المنوط بالزاهد العالم من خلال قول الإمام في وجوب نصرة المظلوم وردع الظالم: (

(أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارّوا على كظَة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) (1).

وهذا يعني أن الزاهد يمكن أن يكون حاكماً، لأن الزهد هو عملية ترويض للنفس على ممارسة قيم الإنصاف والعدالة بما يضمن عدم الانجرار إلى حيث الانحياز التام إلى جانب الثروة وشهوة السلطة بوصفها غاية الطغاة وليس خدمة الناس؛ إذ يقول الإمام في ذلك ( ... ولكنهم حليت الدنيا بأعينهم، وراقهم زبرجها) (2) فيدفعهم ذلك إلى تعطيل الحدود والحكم بالرأي وتغليب المصالح الشخصية على مصالح العامة وغيرها من الأعمال التي يحاول الزهد محاربتها، بوصف الزاهد ثائراً يبتغي تحقيق العدالة، ووضع الأمور في نصابها من خلال تربية المجتمع وفق قيم الزهد الإيجابي وليس السلبي الذي يريد به أهله الانسحاب من الحياة والركون إلى الاتكالية بما يوفر للانحراف فرصة الإمساك بزمام المجتمع، وقد قال الإمام عن هؤلاء (خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل) (3)، وهم بذلك قد وفّروا للانحراف فرصة أن يربو فيصبح تياراً جارفاً، خاصة وأن عامة المجتمع تميل إلى ظواهر الأشياء وتتعاطى معها بسذاجة شديدة.

لم يكن الزهد الإيجابي إلا نمطاً من أنماط التغيير الثوري الذي يسمو به أصحابه إلى محاكاة النبوّات التي تتعاطى مع الحياة والدنيا والمباهج الدنيوية بشكل يحيلها إلى كابوس يجثم فوق صدور هؤلاء، فتكون عملية إزالة هذا الكابوس حالة .

ص: 215


1- المصدر نفسه 195/1.
2- ابن أبي الحديد 194/1.
3- المصدر نفسه 93/18.

من حالات الثورة ضد الواقع المبتذل، يقول الإمام في ذلك:

( ... وكونوا عن الدنيا نزّاها، وإلى الآخرة ولّأهاً، ولا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا، ولا تشيموا بارقها ولا تجيبوا ناعقها، ولا تستضيئوا بإشراقها، ولا تفتنوا بأعلاقها فإن برقها خالب ونطقها كاذب، وأموالها محروبة، وأعلاقها مسلوبة ...) (1).

لا يتحقق الزهد في الدنيا، إلا بمتابعة هذه الوصايا التي تعد المنهج الأمثل في التخلص من كابوس الحياة الدنيا، والخروج إلى فضاء الحرية الإنسانية الممتزجة بالشعور الرائق.

ولعل خطاب الزهد لدى الإمام علي علیه السلام يتناغم في منهجيته تنظيراً وتطبيقاً مع قول الإمام عن الزهد بادئاً بالدعاء في جملة خبرية تمتدّ إلى أفق بعيد في النص الذي يعتمد على قصر الجملة والسجع الذي يأخذ بأعناق تراكيبه الجملية مكوناً إيقاعها ما يشبه القصيدة في تناغم إيقاعها وقوافيها المتعددة فيقول الإمام:

(رحم الله امراً سمع حكماً فوعى، ودُعِيَ إلى رشاد فدنا وأخذ بحجزة هادٍ فنجا)،

راقب ربّه وخاف ذنبه.

قدم خالصاً، وعمل صالحاً

اكتسب مذخوراً، واجتنب محذوراً.

رمى غَرَضاً، وأحرز عِوَضاً.

كابر هواه، وكذّب مناه،

جعل الصبر مطية نجاته، والتقوى عدّة وفاته،

ركب الطريقة الغرّاء، ولزم المحجة البيضاء، 3

ص: 216


1- المصدر نفسه 88/13

اغتنم المهل، وبادر الأجل، وتزوّد من العمل) (1).

ابتدأ النص بفقرات ثلاث وانتهى بثلاث أيضاً، أما الأشطر الأخرى فقد كانت ثنائية البناء، وهو يتأسس على بؤرة يمثلها لفظة (امرؤ) ليصبح مركزاً لدائرة الكلمات أو الجمل التي تعدّ أشبه ما تكون بأنشودة زهدية أراد بها الإمام أن تماثل عملية الزهد في بناء مقاطعها الصغيرة والخفيفة، وفي سلوكها المتقشّف والناظر إلى الهدف الأبعد وهي تسابق نفسها في الوصول إليه.

الصورة

ثامناً / خطاب الدعاء:

يمثل خطاب الدعاء في نهج البلاغة، بعداً معرفياً تأسس على نمط من الرؤية الكونية ونموذج من الأداء التعبيري يفضي إلى كينونة أدبية بمستوى من الحساسية الجمالية، أو كما سمّاه الإمام عليّ علیه السلام باب الدعاء الذي ينفتح على باب

ص: 217


1- ابن أبي الحديد 138/6.

الإجابة، فيقول:

(ما كان الله عزّ وجل ... ليفتح باب الدعاء على عبدٍ ويغلق عنه باب الإجابة ...) (1)؛ لأن ذلك خلاف ما جاءت به الشريعة السمحاء، وهذا يعني أن خطاب الدعاء في نهج البلاغة هو تجمع لخطابات سماوية ونبوية اتسعت فيها الرؤية التعبّدية، فجاءت بهذا المناخ العاطفي المتلهّف، ورغم أن الوظيفة التعبدية هي الطاغية في خطاب الدعاء، إلا أنه يمثل كينونة نصيّة جديدة تعتمد على خاصية الاندماج الكوني، والمقاربة الذاتية التي تتخذ من الروح جسر اتصال وتواصل مع المبدع العظيم؛ لشعورها بالنقص العام أمام الفيض الغامر، يقول الإمام عليّ علیه السلام في العلاقة الرابطة بين العبد وربه، التي تؤهّله لممارسة الدعاء (اللهم إنك أعلم بي من نفسي ...) (2)، فهي علاقة الصانع بالمصنوع، وعلاقة الباني بالبناء، وهو أدرى وأعلم بما في هذا البناء من نزعات تتمرد أحياناً وتستكين أخرى؛ لتمارس سلوك الرجوع للتزود من الإفاضات الإلهية بما يجعل الانشداد إلى الله عزّ وجلّ مستديماً، فيقول الإمام في ذلك:

(اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع على ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة. إن أو حشتهم الغربة آنسهم ذكرك وإن صُبَّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأن أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك) (3).

يقوم النص الدعائي هذا على أساس التوالد القيمي بين الألفاظ (4)، بما يجعلها تنسلّ من بين أضلاع بعضها بعضاً، رغم أن النص يبدأ ببيان حال الأولياء، .

ص: 218


1- ابن أبي الحديد 72/20.
2- المصدر نفسه 204/18.
3- المصدر نفسه 222/11.
4- ينظر: اللسانيات ونظرية التواصل 52.

وهذا إن دل على شيء، إنما يدلّ على وحشة هؤلاء الأولياء مما حولهم والتفاتهم إلى الله عزّ وجلّ فهو آنس الآنسين لهم، هذا من ناحية الشكل، ينتقل بعد ذلك إلى المضمون بدءاً من قوله (تشاهدهم في أسرارهم ... إلى قوله وقلوبهم إليك ملهوفة) بما يعزز التوالد القيمي بين الألفاظ التي تنشئ فيما بينها علاقة أشبه بتلك العلاقة الروحية بين الله والعبد التي تترجمها الجمل التي يتكون منها النص، وهي تشير إلى علم الله سبحانه بأحوال هؤلاء الأولياء الباطنية، وبما أن الله عزّ وجلّ يشاهدهم في أسرارهم فأسرارهم مكشوفة له، هذه المقابلة المتولدة عن الارتباط بين المعاني والألفاظ، تمثل وجهاً متكرراً في خطاب الدعاء، إذ يمكن القول إن النص بُنِيَ على خاصية الاشتراك الدلالي بين الكلمات لأجل بيان مقدار التعلق بين الله وبين أوليائه.

إن الخطاب الدعائي في نهج البلاغة يتشكل في مظاهر متعددة يمكن قراءتها من خلال متابعة منطوقات الدعاء ومقدار تعلّقها بشخص الإمام وبما يمثّله من ثقل عرفاني سلوكي أصبح فيما بعد النبع الثرّ الذي يغرف من معينه كل السالكين لهذا الطريق (1).

يتحدد المظهر الأول في خطاب الدعاء على أساس - التائه والدليل - إذ يشير إلى ذلك بقوله (اللهم إن فههت عن مسألتي، أو عميت عن طلبتي، قدلّني على مصالحي وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكرٍ من هداياتك، ولا يبدعٍ من كفاياتك) (2).

ففي هذا النص الذي تنتظم فيه العبارتان - فههت عن مسألتي، عميت عن طلبتي - والتي تقابلها العبارتان - دُلّني على مصالحي، وخذ بقلبي إلى مراشدي - يتبين لنا أن الفهم الباطني والبصر القلبي، وما ينتابهما في الإنسان الذي تتحكم فيه الغفلة والعمى القلبي أحياناً، مما يجعل الإنسان يتوجّه إلى الباري عزّ وجلّ .

ص: 219


1- ينظر شرح ابن أبي الحديد 43/1.
2- ابن أبي الحديد 205/11.

لملاحظة ما يعتور سلوكه من نقص يستوجب اللجوء إلى مصدر الفيض الكامل فنراه يقرع باب الدعاء بقوله:

(اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك) (1).

- تبتدئ مقاطع النص الثلاثة بكلمة (اللهم) التي تعد إعلاناً للتبعية وإيذاناً سرمدياً بالحاجة الملحة التي تتخذ من العلاقة بين (الله والإنسان) بمثابة انطلاقة روحية تستفرغ جهدها في السلوك المستقيم. كما أن لفظة (اللهم) توحي بمظهرية المتبوع، إلا أنها تستبطن شخصية التابع لتشكل ثنائية شبه ضديّة تتجاوز اللحظة الآنية التي هي لحظة الخطاب إلى زمن منفتح إلى الأمام والخلف على حد سواء.

- أما المظهر الثاني في خطاب الدعاء فيتحدد في ثنائية الغني والفقير إذ يقول الإمام في دعائه:

(اللهم صُن وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار، فأسترزق طالبي رزقك وأستعطف شرار خلقك، وأبتلى بحمد من أعطاني، وأُفتتن بذمّ من منعني وأنت من وراء ذلك كله وليّ الإعطاء والمنع "إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ") (2).

يمكن أن نتلمّس في هذا النص - شكلياً - بنية أخرى غير ما وجدناه في النص الذي سبق، فهنا يبدأ بجمل إنشائية تعقبها جمل خبرية تحتمل معنى التعليل السلوكي، ثم يأتي الاستشهاد الذي يحمل المعنى الدلالي للنص بالكامل، وهو الجزء من الآية القرآنية، على أن النص يقوم على قطبية المخاطب ودوران المخاطب حوله أي متبوع وتابع.

- والمظهر الثالث في خطاب الدعاء يعتمد محوراً ثلاثياً يتأسس على اشتراك في صنع الحدث فيصبح فاعلاً فيه مما يستوجب من الداعي أن يوضح شكواه للأقوى لبيان حاجته إلى المساعدة فيقول الإمام:

(اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي .

ص: 220


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- ابن أبي الحديد 205/11.

وأكفأوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقاً كنتُ أولى به من غيري ...) (1) وهذا هو أصل قضية الدعاء وهي أشبه ما تكون بإقامة الدعوى القضائية إذ يبدأ النص بقوله (اللهم إني أستعديك ...) بعد ذلك يذكر فحوى الدعوى (فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري) وعليه فإن خطاب الدعاء في محوره الثلاثي الأبعاد، يقوم على أساس تداعي الأضداد، فهو يطلب الاستعداء على طرف ثالث، وبذلك شكل خطاب الدعاء هذا ثلاثية يمكن الإشارة لها بالرسم الآتي:

الصورة

ولأننا نرى أن علاقة اللغة بالواقع هي علاقة إشارية في الوقت الذي تكون فيه تعبيرية محضة (2)، فإن إشارة الإمام إلى قول قريش بطريق الحكاية عنهم ( ... وقالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أو مت متأسّفاً) (3)، إنما تمثل لب النص الدعائي أو هي الموضوعة الكبرى في الدعاء فإنه ينحو منحى فردياً تتألق فيه الجمل الوصفية لبيان القدرة الإلهية وبما تعرضه من تجلّيات هذه القدرة، فيقول الإمام: 1.

ص: 221


1- المصدر نفسه 195/11.
2- ينظر: المقاربة التداولية 29.
3- ابن أبي الحديد 84/11.

(اللهم أنت أهل الوصف الجميل والتعداد الكثير، إن تُؤَمّل فخير مأمول، وإن تُرجَ فخير مرجوّ، اللهم فقد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، ولا أثني به على أحد سواك ولا أوجّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الريبة، وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين والثناء على المربوبين المخلوقين ...) (1).

يتجلّى، من سياق النص، أن بناءه قد تم من خلال تبيان القدرة الإلهية وصفاتها، في جمل خبرية وإنشائية متعانقة فيما بينها وهي تشير في ذلك إلى ضعف الداعي وقوة المدعوّ، وأن عرض القضية التي قيل من أجلها الدعاء تكاد لا تظهر بشكل مباشر في النص، إنما تفهم من خلال جريان الكلام الذي ينساب في جمله المتعددة بما يشبه التوالد اللفظي.

أو تتعالق الجمل الطلبية في هذا المعنى الفردي لتبين مقدار الحاجة التي تلجئ الإنسان إلى المتفضل الذي بيده كل شيء، فيقول الإمام في الاستسقاء:

(اللهم إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان، وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك، اللهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين اللهم إنا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك، ألجأتنا المضايق الوعرة وأجاءتنا المقاحط المجدبة وأعيتنا المطالب المتعسّرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة ...) (2).

يبدأ الدعاء بعرض ما استوجب منهم الخروج إلى الاستسقاء بوصف لحالهم، ثم تتوالى الجمل الطلبية التي تتفرع عن بداية الموضوع في توالد للجمل وتقليب لهذه التفريعات صوتياً ودلالياً إذ أسهم السجع الذي ورد في النص الدعائي بإضفاء جوّ من التذلّل والاستكانة من جانب العباد بما يجعل الخطاب مكتملاً في البدء والعرض والخاتمة. .

ص: 222


1- المصدر نفسه 26/7.
2- ابن أبي الحديد 61/9.

وفي مظهر آخر من مظاهر الدعاء الذي ينحى منحى فرديّاً، إلا أنه هنا يشير إلى الطلب الفردي الذي يخص ذات المخاطِب وحده وليس المجموع فيقول الإمام:

(اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عُدتُ فعُد عليّ بالمغفرة،

اللهم اغفر لي ما وأيتُ من نفسي، ولم تجد له وفاءً عندي،

اللهم اغفر لي ما تقرّبتُ به إليك بلساني، ثم خالفه قلبي،

اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ، وسهوات الجنان وهفوات اللسان) (1).

بني النص على أساس الضعف البشري ومكاشفة الخالق والاعتراف بحضرته، كما أن النص يعرض لنا فكرة العبودية بأجلى أشكالها؛ إذ يستعرض الحالات التي يكون عليها الإنسان المسلم سواء كانت ظاهرية كإشارته إلى رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ، أو باطنية كقوله يصف مخالفة القلب وسهواته، وكل ذلك ينفتح فيه النص بجمل ذات تركيبات تترابط فيما بينها لتؤدي المعنى المطلوب.

وفي نمط آخر من مظاهر خطاب الدعاء الذي ينهج فيه نهجاً مغايراً لما سبق من مظاهر خطابه الدعائي ما علّم فيه الناس الصلاة على النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم؛ إذ يبدأ الدعاء بكلمات تبين صفات البارئ عزّ وجلّ ثم يعقبها بجمل وصفية تخص الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم تستغرق النص كلّه تقريباً فيقول:

(اللهم داحي المدحوّات وداعم المسكوكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيّها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك على محمد وآله والدافع جيشات الأباطيل والدافع صولات الأضاليل، كما حُمّل فاضطلع قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكل عن قُدُم، ولا واهٍ في عزم واعياً لوصيّك .

ص: 223


1- المصدر نفسه 141/6.

حافظاً لعهدك ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهُدِيَت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام بموضحات الأعلام، ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق.

اللهم افسح له مفسحاً في ظلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك.

اللهم وأعلِ على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتغائك له مقبول الشهادة، مرضيّ المقالة، ذا منطق عدل، وخُطَبِهِ فصل.

اللهم اجمع بيننا وبينه في برد العيش وقرار النعمة ومنى الشهوات، وأهواء اللذات ورخاء الدعة ومنتهى الطمأنينة، وتحف الكرامة) (1).

يقوم النص على ثلاثة مستويات الأول ما وصف به الله عزّ وجلّ، والثاني، ويقسم إلى قسمين قسم يصف به النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وآخر يدعو له، والثالث يخص الداعي، وبذلك تترابط جمل النص وفق تراتبية تتصل بالعقيدة أكثر من أي شيء آخر، فكان لا بد من تقديم الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم والدعاء له بوصفه سبب الهداية، وحامل أمانة الدين، وقد ذكر أكثر من عشرين وصفاً للنبي صلی الله علیه و آله و سلم ثم دعا لنفسه بعد ذلك بوصفه تابعاً للنبي صلی الله علیه و آله و سلم وجزءاً منه؛ لقوله (واجمع بيننا وبينه) والجمع يتم عادة بین الأجزاء المتشابهة، ثم ذكر أين يجمع بينه وبينه وفي ذلك إشارة إلى ما يمكن أن ينتهي إليه من نعيم مقيم في دلالة أكيدة على حسن المنقلب.

تاسعاً / الخطاب الأخلاقي والتربوي:

لم يكن الخطاب الأخلاقي والتربوي في نهج البلاغة ابتداعاً من دون نسق سابق عليه يرتوي من معينه إلّا أنه ونتيجة للتفاعل بين الشريعة الإسلامية السمحاء وصاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام وبين تلميذه الأمين النابه الإمام علي علیه السلام،

ص: 224


1- ابن أبي الحديد 110/6.

بات يفتتح عوالم جديدة ويرتاد منابع أخلاقية كانت مجهولة لكثير من الناس، إما لأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يذكراها مفصّلة اعتماداً على العقلية المنتجة للفرد المسلم، أو أن حاجة المجتمع لم تكن ماسة إليها، ثم أصبحت ذات أهمية، فكان لا بد أن يفترعها ويشير إلى أهميتها في حياة الفرد والمجتمع، ولم يكن ذاك إلا الذي تشرّب مبادئ الإسلام فملكت عليه مشاعره وأحاسيسه فغدا يتنفّسها سلوكاً وتطبيقاً قبل أن تنبجس على لسانه حكماً ومواعظ، تؤمن لمن يستقرؤها منهلاً عذباً يربو على الامتياح.

ولكي نكون موضوعيين في عرض الخطاب الأخلاقي والتربوي في نهج البلاغة، لا بد لنا من الاستماع للإمام علي علیه السلام وهو يتحدث عن مرحلة تلمذته على يدي النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم فيقول:

( ... ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به ...) (1).

إن الإشارة إلى مفهوم التبعية من منظور الخطاب العلوي، ليس بمعنى التبعية العمياء، إنما بمعنى التفاعل الإنساني مع ما يعرض من ممارسات أخلاقية، وقد عبر الإمام عن ذلك بقوله (يرفع لي في كل يومٍ من أخلاقه علماً) وهذا يعني التلقي من الأعلى إلى الأدنى، ثم يتبع ذلك فيقول (ويأمرني بالاقتداء به) وهذا يشير إلى ضرورة التفاعل والانفتاح على عوالم جديدة من السلوك الأخلاقي؛ إذ لم يقل تقليده إنما دعاه إلى الاقتداء وهو يعني الاستنطاق السلوكي لأجل الوقوف على جادة الحق والسير فيها دون خوف، ويقول في موضع آخر عن نفسه في مرحلة تلقيه عن النبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم:

(ولقد عَلِمَ المستحفظون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله - أني لم أردّ على الله ولا على رسوله قط) (2)، وهذا راجع إلى التمسك بالأخلاق 0.

ص: 225


1- ابن أبي الحديد 148/13.
2- ابن أبي الحديد 15 / 140.

العالية والسلوك التربوي الذي يرتكز على قاعدة من الإيمان لا يشوبها شك أو عصيان أبداً؛ إذ يقول في ذلك:

( ... وضعني - يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - في حجره وأنا وليد يضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في عمل) (1).

وهذه إشارة وافية على الالتزام بالأخلاق الكريمة والسلوك النبيل، لأن الكذب هو مفتاح الشر، وأن الخطل في الأعمال ثلم كبير في السلوك العملي للإنسان، كما أن توكيد هذا التصنيف السلوكي يشير إلى أهمية الاقتداء والتعلم الأخلاقي والتربوي الذاتي، فضلاً عن الانتهال من منابع صافية، وكذلك يثبت حقيقة التربية التي يجب أن تبدأ من الذات إلى الآخر عن طريق التأثير النفسي والمادي؛ لأن (من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، ولیكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم) (2) كما يقول الإمام عليّ علیه السلام:

يتناول النص مفهوماً دينياً، فيوظفه توظيفاً تربوياً، إدراكاً منه لتلك العلاقة الضمنية بين المفهوم الديني والمفهوم التربوي والأخلاقي؛ لأن الإمام - بالمفهوم الديني - هو الذي يقود المجتمع وعنه يصدر الناس في جوانب حياتهم كافة، فإذا كان ذا نهج تربوي منحرف، فإن ذلك سينعكس سلباً على سلوك المجتمع. وقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى أن التأديب من قبل (الإمام - الحاكم) يجب أن يكون عن طريق سيرته لا أن يكون بلسانه فقط، إن هذا الربط الجدلي بين المفهوم الديني والمفهوم التربوي والأخلاقي، إنما يشير إلى أهمية أن يكون الدين مصدراً مأموناً في تنمية الخلق القويم والتربية الصالحة، وليس مصدر خداع للناس من أجل التسلط والقهر مما يفضي إلى انحدار أخلاقي فظيع ينهار بسببه البناء الاجتماعي 8.

ص: 226


1- المصدر نفسه 148/3.
2- المصدر نفسه 175/18.

دفعة واحدة.

يقوم الخطاب التربوي والأخلاقي في نهج البلاغة على أساس التناغم الديني، مما يحرك الوجدان باتجاه التعرف على المفردات الأخلاقية والتربوية التي تحيي المجتمع وتجعل للمنهج الأخلاقي التربوي متّسعاً من التطبيق في حياة الناس، زيادة على أن هذه المفردات تنسجم أصلاً مع التوجهات المعرفية التي جاءت بها الشريعة، فيقول الإمام علي علیه السلام في تصحيح لمفهوم العصبية القبلية أو التعصب القبلي أو أي نوع آخر من التعصب:

(فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة، فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء للذمام، والطاعة للبر والمعصية للكبر والأخذ بالفضل، والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق، والكظم الغيظ، واجتناب الفساد في الأرض) (1).

يتمثل في هذا النص (المفهوم الثقافي) (2) الذي يركز على ما تعارف عليه المجتمع سابقاً من الفضائل والشيم لإشاعتها بين الأفراد بوصفها تتواءم مع ما ترمي إليه الشريعة الإسلامية من إشاعة الأخلاق الحميدة.

إن إشارة الإمام إلى ضرورة تصحيح كثير من المفاهيم التي درج عليها الناس، وخاصة في الجانب التربوي والأخلاقي، إنما تمثل شعوراً بالمسؤولية الأخلاقية والشرعية تجاه المجتمع؛ إذ يقول عن ذلك:

( ... فأما حقكم عليَّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا) (3). .

ص: 227


1- ابن أبي الحديد 125/13.
2- علم اللغة الاجتماعي 135.
3- ابن أبي الحديد 151/2.

لقد ربط النصيحة والتعليم والتأديب وتوفير الفيء للناس، بوصف هذه الأشياء كلّاً لا يتجزأ، على أنها من واجبات الحاكم تجاه المجتمع، وهي حقوقهم عليه، ولما للتعلم والتأدب من أهمية في توجيه السلوك العام للناس، وأن ذلك جزء من التكوين الثقافي للمجتمع بما يغني الجانب الأخلاقي والتربوي له.

إننا نرى أن الخطاب العلوي في هذا الجانب لم يكن ليغفل عن الربط بين الجانب العقائدي وبين الجانب التربوي والأخلاقي بل العلمي والتعليمي، وقد كان يعد ذلك أجزاءً تكمل بعضها بعضاً، وأن ذلك يمكن أن يصدر عن مورد واحد مشيراً إلى ذاته وما تحمله من منهج تربوي أخلاقي علمي تعليمي قد تفرّد به فيقول:

(أيّها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ، وامتاحوا من صفو عينٍ قد رُوِّقَتْ من الكدر، ... فبادروا العلم من قبل تصويح نبته ...) (1).

إن هذه المقاطع الثلاث كلها تشير إلى جهة واحدة، وهذه الجهة مرة هي شعلة مصباح واعظ، وثانية صفو عين ذهبت عنها كل شائبة، وثالثة مبادرة العلم قبل أن يذبل نبته؛ لأن النور والصفاء والخضرة كلها تشير إلى العلم وأهميته في بناء الأخلاق والحياة، وأثره في إشاعة التربية بين الأفراد، وأن المجتمع المتعلم الواعي سریع الاستجابة لداعي الأخلاق على العكس من المجتمع الجاهل الذي يكون وسطاً مناسباً لنمو الانحراف عن جادة الأخلاق الرفيعة.

لا يمكن أن نعد المحرض الديني هو الكلي في إشاعة الأخلاق والتربية الصحيحة في المجتمع؛ لأن ذلك يمثّل سلباً لما تواضع عليه الناس من قيم ومثل أخلاقية كان دافعها اجتماعياً صرفاً، إلا أنها تواءمت مع الدين في الهدف فأصبح بذلك الوجود واحدا، وصار بعد ذلك المنهج متماسكاً، يقول الإمام علي علیه السلام في إشارة إلى الرافد الديني وتماسكه مع الرافد الاجتماعي:

(فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، تستقيل بجد رأيك 7

ص: 228


1- ابن أبي الحديد 131/7

من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته ... واعلم يا بني أنه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ولرأیت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ...) (1).

إن هذا المزج بين الديني والاجتماعي، يعني أن الخبرة الاجتماعية تمثل رافداً مهماً من روافد الخطاب التربوي والأخلاقي في نهج البلاغة على أن هذه الخبرة تقوم على أساس التوصيف الذي نجد له مصاديق في نهج البلاغة، يشير من خلالها الإمام علي إلى ضرورة مراعاتها والعمل بموجبها؛ لأن في ذلك تقويماً أخلاقياً وتربوياً سيسعد المجتمع من ورائه، فيقول:

(إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب وأكرم الحسب حسن الخلق ...) (2).

إن هذا التوصيف يمثل منهجاً تربوياً لتوجيه المجتمع نحو سلوك متّزن يمارسه الأفراد بغية الوصول إلى حالة من التكامل التربوي؛ إذ يشير الإمام إلى هذا بقوله مخاطباً الناس:

(أيّها الناس، تولّوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها) (3).

إن هذا الخطاب عام في بنيته لا يختص بقوم دون آخرين إنما ينفتح على الاتجاهات كافة في محاولة تأسيس المنهج التربوي والأخلاقي الذي أشرنا إليه آنفاً كما يقول في هذا المنوال أيضاً:

(كفاكَ أدباً لنفسك اجتنابُ ما تكرهُهُ من غيرك) (4).

في محاولة من الإمام لتنشيط الذائقة الأخلاقية والتربوية لدى الفرد بما يعود نفعه على المجتمع بشكل عام، وبما يقوّي العزم على فعل الخير واجتناب الأفعال الرذيلة، ويقابل هذا الخطاب خطابٌ آخر يقول فيه: .

ص: 229


1- المصدر نفسه 25/16 - 60.
2- ابن أبي الحديد 124/18.
3- المصدر نفسه 228/19.
4- المصدر نفسه 40/20.

(احصد الشر من صدر غيرك، بقلعه من صدرك) (1).

يتماثل النصّان في إشارتهما إلى قضية مهمة تتناول العلاقات الاجتماعية التي تبنى على ملاحظة سلوك الآخر وتعميق ما هو جيد واتباعه، ونبذ ما هو رديء واجتنابه، بوصف ذلك جزءاً من الخطاب الأخلاقي والتربوي الذي سعى الإمام علي علیه السلام إلى إيجاد منهج فيه يوائم بين الديني والاجتماعي في توظيف يتناغم فيه النص الديني مع التجربة الاجتماعية؛ لأنه بسبيل تنشئة مجتمع تقوده الأخلاق وتحكمه التربية الصحيحة.

إن موائمته بين الديني والاجتماعي تكثر في حكمه في نهج البلاغة بوصفها جزءاً من الخطاب العلوي، كما أنها لقصرها وتكثيفها تتناقلها الألسن أكثر من غيرها من الخطابات، فنجده يقول: (الحلمُ عشيرة) (2)، ففي هذا النص تتم الموائمة بين (الحلم) بوصفه خلقاً نبوياً وبين (العشيرة) بوصفها مفهوماً اجتماعياً ينتمي إلى العصبية القبلية التي تنهض بمعنى القوة، وهو بهذه المناسبة بين المفهومين إنما يدفع بالخطاب الأخلاقي والتربوي إلى مراتب عليا من الشعور بالمسؤولية الاجتماعية فضلاً عن المسؤولية الدينية، لكي تنتجا سلوكاً متّزناً، وإن تكرار لفظة الحلم في خطابه كقوله (إن لم تكن حليماً فتحلَّم، فإنه قلّ من تشبّه بقومٍ إلّا أوشك أن يكون منهم) (3) أو قوله ( ... ولا عز كالحلم) (4)، ويترجم ذلك كله قوله (أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل) (5)، مما يعنى أن (الحلم غطاء ساتر والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خُلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك) (6).

إن هذه الإشارات وغيرها في الإشادة بالحلم، ومحاولة ترويض المجتمع .

ص: 230


1- المصدر نفسه 329/18.
2- ابن أبي الحديد 59/20.
3- المصدر نفسه 22/19.
4- المصدر نفسه 221/18.
5- المصدر نفسه 21/19.
6- المصدر نفسه 59/20.

بهذا الاتجاه، إنما تعني دقة الخطاب الأخلاقي والتربوي في نهج البلاغة وأن الإمام علي قد وضع يده على الداء المميت في المجتمع وأشار إلى أهمية التسامح والتعايش السلمي بناء على أسس صحيحة لا على أساس خاطئ يقتضي خرقاً لقيم اجتماعية تنتمي إلى الفضيلة.

عاشراً/ الخطاب الطبيعي:

(1)

يبدو أن الإبداع (قوة فعالة مشحونة بقوة خصوبة التفكير التي تحفّز المبدع على الإنتاج الإبداعي) (2)، وعلى هذا النسق في الإبداع كان الإمام علي علیه السلام فلم يقتصر في خطابه في نهج البلاغة على جانب من جوانب الإبداع، فقد كان رجل الدولة والفقيه والإداري الحازم والزاهد المتألّه والعارف الذي نهلت من نفئاته الروحية المذاهب، والعسكري المحنّك والداعية في الأخلاق، وما كان ليقف وهو المبدع في خصوبة فكره الخلّاق، عن الإشارة إلى ما في الكون من تجلّيات في تكوينه المادي في دلالة واستدلال على عظمة الخالق (عز وجل)، إلا أنَّ المعجب في ذلك كيف تسنّى لرجل في الجزيرة العربية لم يسافر خارجها ولم يصعد في السماء ليرى كيف تكوّنت؟ وهذه الأجرام والكواكب ممّا جاءت؟ ناهيك عن إشاراته فى الملائكة والجبال والأمطار والأرض وطبقاتها، كل ذلك جرى على لسانه في خطاب أدبي لم يمنعه جفاف هذه العلوم من أن يحوّلها إلى أنساق من الخطاب الذي يتوشّح بغلالة رقيقة من الوجدان المنفعل في إيقاعه وصوره وجمالياته.

يقول الإمام علي علیه السلام في وصف السماء ونشأتها:

(ثم أنشأ سبحانه فَتقَ الأجواء، وشقَّ الأرجاء، وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تيّاره متراكماً زخّاره حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها بردّه، وسلّطها على شدّه، وقرنها إلى حدّه، الهواء من تحتها فتيق،

ص: 231


1- ارتأينا تسمية ما ورد من نصوص في نهج البلاغة يتحدث فيها الإمام عن العلوم الطبيعية كالأنواء والجيولوجيا وغيرها.
2- الاتجاه النفسي في نقد الشهر العربي 49.

والماء من فوقها دفيق ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبّها، وأدام مَرَبَّها، وأعصف مجراها وأبعد منشأها فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضه مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوله علی آخره وساجيه على مائره حتى عبَ عبابه ورمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق وجوّ منفهق فسوّى منه سبع سموات ...) (1).

يبدأ النص - بيقينية المتكلم - مع بدء خلق السماء، وكيف أجرى هذا الماء الذي حملته الريح العاصفة فأثبتها مكانها والماء فوقها، فكانت بمثابة الوعاء الذي احتوى على الماء المتلاطم التيار، المتراكم الزخار، وقد جعل هذه الريح العاصفة والزعزع القاصفة ثابتة يمر الهواء من تحتها منبسطاً ينساب بسهولة، ما يعني أن الريح غير الهواء، وقد جاءت اللفظتان معرّفتين ب (أل التعريف)، على أن ورودهما هكذا، أحسبه إشارة إلى اختلافهما من حيث التكوين والفعل، كما أنه قد ذكر ريحاً أخرى وذكر لها صفات أنها عقيمة وملازمة لهذا الماء، وأن الخالق عز وجل قد أمرها بأن تفعل بهذا الماء ما يفعل بالسقاء حين مخضه واستخراج الزبد منه، إلا أن إشارته إلى (إثارة موج البحار) تثير إشكالاً هو هل أن هذه البحار هي التي نعهدها الآن في الكرة الأرضية؟ أم أن هذه البحار هي التي يمكن أن نستشفّ وجودها في الفضاء حين فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء ثم أجرى فيها ذلك الماء المتلاطم التيار المتراكم الزخار، فهل هذا يعني أن هذا الماء من نوع خاص؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة تقوم على الدليل العلمي الملموس الرصين، ولا أريد هنا أن أعيد ما ذكره شرّاح النهج؛ إذ أنهم تكلموا بما رأوه مناسباً.

ثم ذكر كيفية خلق السماء فيقول: (فسوّى منه "الماء" سبع سماوات، جعل سفلاهن موجاً مكفوفاً، وعلياهن سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً، بغير عمد يدعمها، ولا دسارٍ ينتظمها ثم زينها بزينة الكواكب وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجاً .

ص: 232


1- ابن أبي الحديد 100/1.

مستطيراً وقمراً منيراً، في فلكٍ دائر ورقيم مائر) (1).

وقد أعاد هذا المعنى في نص آخر يذكر فيه خلق السموات فيقول:

(وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبساً جامداً، ثم فطر منه أطباقاً، ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها، فاستمسكت بأمره، وقامت على حدّه ...) (2).

يتماثل النص مع سابقه في الإشارة إلى كيفية خلق السماء من ذلك الماء المتراكم الزاخر المتلاطم التيار - كما في النص الأول - في وصف لعملية الخلق كيف تمّت بمراحلها المختلفة، فيقول في مكان آخر ذاكراً عملية الخلق هذه:

(ونظم بلا تعليق رهوات فُرَجها، ولاحم صدوع انفراجها، ووشّحَ بينها وبين أزواجها وذلّلَ للهابطين بأمره والصاعدين بأعمال خلقه، حزونة معراجها، وناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرا أشراجها وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها وأقام رصداً من الشهب الثواقب على نقابها وأمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره، وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها وقمرها آية ممحوة من ليلها وأجراهما في مناقل مجراهما، وقدّر سيرهما في مدارج درجهما ليميّز بين الليل والنهار بهما) (3).

إن هذا التفصيل في كيفية خلق السماء منذ البدء وحتى كينونتها بهذا الشكل الذي هي عليه، إنما يشير بلا مراء إلى أن ما يقوله الإمام لم يكن كلاماً من صنع الخيال، فهو يصف الأحداث التي وقعت ويتطرق إلى تتابع عملية الخلق بمراحلها المختلفة، وهو لم يستعمل في ذلك رواية أو حكاية، وكأن ذلك مصداق لقوله في نص آخر:

(أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق 6.

ص: 233


1- ابن أبي الحديد 151/1.
2- المصدر نفسه 41/11.
3- ابن أبي الحديد 324/6.

الأرض) (1).

ذكر ابن أبي الحديد في شرحه أن قوله (سلوني قبل أن تفقدوني أجمع الناس كلهم على أنه لم يقله أحد من الصحابة ولا من العلماء غيره) (2) في إشارة إلى أنه ينظر من مقام سامٍ لم يبلغه أحد غير الأنبياء إذ يقول الإمام في هذا الباب (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة، وأحلام رزينة) (3).

إن الخطاب العلوي في ذكره مجريات عملية الخلق يدفع (الافتراض القائل بأن الكون أزلي وموجود منذ القدم) (4)، وهو (افتراض لا يستند على قاعدة علمية، وغير مدعوم بأدلة مقنعة) (5)، مما يعني أن الخلق ووجوده يدل على وجود خالق موجود، وأن هذه المخلوقات حادثة وليس أزلية، وهذا يشير بالنتيجة إلى ضرورة وجود أزلي غير حادث، لأن كل حادث محتاج إلى أزلي وليس إلى حادث مثله (6).

إن الخطاب الطبيعي تجاوز عملية نشوء الخلق وكيفية بداية ذلك، إلى الحديث عن قدرة الباري عز وجل، ولكي يوضح هذه القدرة في بعض تفاصيلها، أشار إلى إمكانية السمع والبصر لدى مخلوقاته مقارنة بكونه عز وجل السميع البصير، فيقول:

( ... وكل سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات، ويصمّه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام ...) (7).

يتحدث النص عن الباري عز وجل بأنه لا يخفى على سمعه لطيف 5

ص: 234


1- المصدر نفسه 77/13.
2- المصدر نفسه 81/13.
3- المصدر نفسه 77/13.
4- قضية الخلق بين الماديين والمثاليين 49.
5- المصدر نفسه والصفحة.
6- ينظر: الحكمة النظرية والعملية في نهج البلاغة: 56 وما بعدها.
7- ابن أبي الحديد 124/5

الأصوات وكبيرها، ولا يذهب عنه الصوت البعيد فكل هذه الأصوات بمنزلة واحدة، مما يعني أن المخلوقات لها قدرة محدودة على السمع والبصر وضمن مسافات محدودة لا تستطيع وراء ذلك سمعاً ولا بصراً؛ لأن قوله (وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات، ويصمّه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد عنها) واضح في هذه الصفة؛ لأن كل ذي سمع من هذه المخلوقات يسمع ضمن مجال معيّن، فإذا بعد عنه الصوت خارج مجال سمعه لن يسمعه حينها، وكذلك فيما يخص مجال الرؤية أو البصر، فإن قوله (وكل بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ولطيف الأجسام) قد قرن فيه بين تعدد الألوان ولطافة الأجسام في إشارة جلية إلى الإمكانية المحدودة لذوي البصر من المخلوقات، في رؤية الألوان الظاهرة أو البارزة دون الألوان الخفية أو غير البارزة، وكذلك في رؤيتها للأجسام الدقيقة التي تتناهى في الصغر وهو ما قصده بقوله (ولطيف الأجسام).

ولعل صياغة اللفظ في المقطع الأول تشير إلى الضرر الذي يلحقه كبير الأصوات بالسمع دون اللطيف؛ إذ أن استعماله للفعل (يصمّ) مرة لازماً في قوله (يصمّ عن لطيف الأصوات) وأخرى متعدياً في قوله (يصمّه كبيرها) في زيادة في بناء الفعل، تدل بما لا يقبل الجدال على ضرر سيحدثه هذا الصوت في الحاسة السمعية للمخلوقات حين سماعها له.

ومثلما أشار إلى خلق السماء وبدء الخلق، كذلك ذكر كيفية خلق الأرض، وأن الله عز وجل خلقها من حيث تنهض بمصالح العباد، وصالحة للسكنى والحياة، عن طريق إيجاد المياه فيها بسبب الأمطار، وأهمية الجبال في ذلك، كما أشار إلى عيون الماء التي تخرج من الجبال، وأشار إلى حركة الأرض وأنها ليست حركة واحدة، بل عبر عن ذلك بِ (حركاتها)، وتكلّم عن الأمطار وكيفية تكوّنها وأثرها في الحياة. يقول الإمام علي علیه السلام في صفة خلق الأرض:

(كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ولجج بحار زاخرة ... فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ... وسكنت الأرض مدحوّة في لجّة تياره ... فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها فجرّ ينابيع العيون من عرانين

ص: 235

أنوفها، وفرّقها في سهوب بيدها وأخاديدها، وعدّل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ... فسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع أديمها ...) (1)

يتصف النص بكثرة الاستعارات التي وشَّحت الجمل بحلة زاهية من جمال اللفظ وعذوبته فضلاً عن المحتوى العلمى الذي أشار إليه النص، وقد سبق غيره في بيان حركة الأرض بقوله ( ... وعدّل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ... فسكنت من المَيَدان ...)؛ إذ أن هذه الإشارة العلمية التي اكتنزت نظرية علمية كبرى، ألا وهي أن الأرض متحركة بأكثر من حركة، ولفظة (حركاتها) تشير إلى ذلك بلا لبس، وأن الجبال لها أثر بالغ في تنظيم هذه الحركة، إنما تعني أن الإمام علیه السلام لم يكن ينطلق من فراغ في قوله (سلوني قبل أن تفقدوني)، بل كان ذا علم غزير لو أتيح له من يسأله عن ذلك، إلا أن المجتمع لم يكن ذا وعي ليفيد من هذه الطاقة العلمية الجبارة، فهو يقول عن كيفية تكون الأمطار وكيف يسقي الجبال بمياه الأمطار، لتعذر ذلك بمياه الأنهار، وأن الله عز وجل جعل سكانها على وفق ما يراه من أسباب العيش والسكنى، يقول:

(وفسح بين الجو وبينها "الجبال"، وأعدّ الهواء متنسّماً لساكنها، وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها، ثم لم يدع جرز الأرض التي تقصر مياه العيون عن روابيها ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها وتستخرج نباتها، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه ...) (2) ويستمر في رسم صورة جذابة لكيفية تكون الأمطار وكيف تخرج بعد ذلك النباتات من رؤوس الجبال لتحوّل الطبيعة الجرداء إلى حدائق نضرة تبهج النظر.

إن الخطاب الطبيعي في نهج البلاغة قد جاء منسجماً في لباسه الأدبي مع توجهات اعتماد الخطاب العلوي على ثوابت من حيث العناية باللغة والصورة التي لا تنفك تبرز في كل أنماط الخطاب، بما يضفي على جفاف النص لمسة جمالية 6

ص: 236


1- ابن أبي الحديد 338/6
2- ابن أبي الحديد 338/6

تجعله مستساغاً للمتلقي، وما ذاك إلا لأنه قد صدر عن نفس تستشعر الوجود بكل تفصيلاته وتلوّناته.

حادي عشر / الخطاب النفسي:

يقوم الخطاب النفسي في نهج البلاغة على أساس تصنيفي من حيث التكوين الأول للطبيعة البشرية، ويصاحب ذلك إشارته إلى أثر ذلك في السلوك البشري وطبيعته ومقدار هذا التأثير السلوكي على الحالة النفسية للأفراد أو الجماعات.

يقول الإمام علي علیه السلام عن تكوينية النفس البشرية ومن أين جاءت وتأثير ذلك على اختلاف طبقاتهم:

(إنما فرّق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ أرض وعذبها، وحزن تربة وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون وعلى قدر اختلافها يتفاوتون) (1).

نرى أن هذا التفصيل في التصنيف قد جاء بشكل جمعي، أي على أساس الجماعات لا على أساس الأفراد؛ لأن الرواية التي ورد من خلالها النص، تشير إلى مذاكرة جرت بين أصحابه حول اختلاف الناس، في إشارة إلى المجموع، ولذلك فإن الإمام قد استعمل كلمة (أرض، تربة) بصيغة التنكير للتدليل على أنه لم يقصد أرضاً بعينها أو يقصد جنس الأرض، كما أنه أشار إلى موضوع الكم والنوع بقوله (فهم على حسب أرضهم يتقاربون وعلى قدر اختلافها يتفاوتون)، فالألفاظ (حسب يتقاربون) تفيد معنى الكم وكأنه يقصد بذلك بقعة من الأرض - ربما تصغر أو تكبر - إلا أن ذلك ينعكس على نفوس ساكني تلك البقعة، وأما النوع فقد استعمل له (قدر، يتفاوتون) وهما يفيدان معنى النوع في الأرض، وأن ذلك يتسبب في عدم سلوكهم سلوكاً واحداً، إنما يجعلهم يتفاوتون في السلوك.

بالرغم من أن كثيراً من النظريات التي تطرق إليها علماء النفس تناولت

ص: 237


1- ابن أبي الحديد 16/13.

السلوك البشري بالتحليل، إلا أن الأبحاث التي قام بها هؤلاء الباحثون - حسب علمنا - لم تتضمن في مفرداتها البحث عن الأصل التكويني للأفراد، وحتى النظريات الحديثة في علم النفس الاجتماعي (1) لم تباشر في نبش السلوك الإنساني وأسباب توافق الأفراد فيما بينهم في الانتماء إلى منهج سلوكي معين؛ لأن هذا يعني أن الفرد (عضو في جماعة سيكولوجية تنظم أفعاله واتجاهاته عن طريق نتاج جماعي من غير الممكن تجاهله) (2)، كونه ينتمي إلى جزء من الأرض التي عاشت عليها تلك الجماعة.

ثم يفصل الإمام علي علیه السلام القول في الأشكال الجسدية تبعاً للحالة النفسية التي تهيمن على قابلياته وإمكاناته، فيقول:

( ... فتام الرداء ناقص العقل، وماد القامة قصير الهمة، وزاكي العمل قبيح المنظر، وقريب القعر بعيد السبر، ومعروف الضريبة منكر الجليبة، وتائه القلب متفرق اللب وطليق اللسان حديد الجنان) (3).

لعل الملاحظة هنا (القناة الوحيدة والموثوقة التي يمكن الاعتماد عليها) (4) في معرفة الحالة النفسية بشكل نسبي بسيط جداً، أما أن يصل التفصيل إلى هذا الحد الذي يفرز من بين الأفراد حالات يمكن أن نقول عنها سائدة في المجتمع، فهذا يحتاج إلى تجارب متعددة وعيّنات تخضع لهذه التجارب لأجل الوصول إلى مثل النتائج هذه التي يمكن عدّها حاسمة في هذا الباب؛ إذ أن النص بنيت فقراته بسبيل بيان الحال الغالب، مما يعطي مجالاً للشذوذ عن القاعدة العامة.

إن تحليلنا لهذا النص وسواه فيما سميناه بِ (الخطاب النفسي) في نهج ن.

ص: 238


1- ينظر: سيكولوجية العلاقات بين الجماعات - المقدمة - 8 السيكولوجيا وعلم الجمال، 33 وما بعدها.
2- سيكولوجيا العلاقات بين الجماعات 13.
3- ابن أبي الحديد 16/13.
4- علم النفس الإسلامي - حقيقة أم وهم - حميد لطفي - مجلة المنهاج ع32 / ص 15، بيروت، لبنان.

البلاغة ليس قائماً على فراغ، إنما ما يصدق على الجزء يصدق على الكل؛ إذ أن قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم للإمام علي علیه السلام (إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك لوزير، وإنك لعلى خير) (1) وقول الإمام عن نفسه (والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فئ برسول الله صلى الله عليه وآله ... والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق، ما أنطق إلا صادقاً، ولقد عهد إلىَّ بذلك كله ... وما أبقى شيئاً يمر على راسي إلا أفرغه في أذني، وأفضى به إليّ ...) (2).

يوضح لنا المنهجية التي تقوم عليها قراءة الإمام للمجتمع، سواء كانت هذه القراءة تتعلق بالجانب النفسي أم بالجوانب الأخرى.

يبدو لنا أن البنائية الضدية التي يقوم عليها التوصيف في النص المتعلق بتصنيف الأفراد هي التي تأخذ بالمعنى المطلوب؛ إذ يقول الإمام (فتامّ الرداء ناقص العقل) وهذا يعني أن من كان على هذه الشاكلة قد استغنى بشكله دون المضمون، وكذلك الآخرين، وبذلك فقد استعمل الإمام الألفاظ التي تشير إلى هذا تضاد بين الأوصاف، في ملاحظة دقيقة لهذا التناقض بين هذه التصنيفات الأمر الذي يحيلنا إلى ما أوردناه من نصّي قول النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم للإمام وقول الإمام عن نفسه، فمن قول النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم للإمام (إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى) ومن قول الإمام عن نفسه (والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه، شأنه لفعلت) فإن جملة (وترى ما أرى) لم تحدد أبعاد هذه الرؤية، هل أنها بصرية؟ أم قلبية؟ أم تتجاوز هذين الحدين بناء على مقتضيات النبوة وما يرشح منها من بدهيات الوعي، كما أن قول الإمام عن معرفته بحال الناس بوصفهم أفراداً ( ... وجميع شأنه لفعلت) هذا يعني أن أفق القول مفتوح حتى النهاية ومن خلال المواءمة بين القولين يتضح لنا مصداق ما قلناه عن مقدرة الإمام في تصنيف الناس بناء على معرفته بهم وأول هذه المعرفة الضدية القائمة بين الشكل والمضمون. .

ص: 239


1- ابن أبي الحديد 148/13.
2- المصدر نفسه 11/10.

إن ما ذكرناه آنفاً لا ينفي وجود تناسب بين الوصفين الأخيرين في النص (وتائه القلب متفرّق اللب وطليق اللسان حديد الجنان) مما يحيل إلى نسبية النتائج التي يثبتها قول الإمام علي بهذا الصدد، وقد أشار إلى ذلك ابن أبي الحديد في شرحه (1) في تفصيل لم نعتمد عليه لأنه قد ذهب مذهباً كلامياً فيه وتناوله البحراني في شرحه (2) أيضاً وقدم لذلك تعليلات أعرضنا عن الاعتماد عليها؛ لأنها لا توافق ما نحن عليه من منهج تحليلي، إلا أنهما قد أشارا كلاهما إلى مبدأ التأويل في النص لما يحمله من ظاهر وباطن.

التقوى والنفس:

تمثل التقوى في الخطاب العلوي مبدأ ثابتاً بوصفه ينتمى إلى المنظومة العقائدية الإسلامية، أو هي عنوان الانضباط السلوكي في الحياة الدنيا، بما يعنيه من التزام بمبادئ الدين الحنيف عن طريق الرياضة النفسية وقد عبر الإمام عن ذلك فى منهجه هذا بقوله:

( ... وأيمُ الله - يميناً أستثني فيها بمشيئة الله - لأروّضنَّ نفسي رياضةً تهشُّ معها إلى القرص إذا قدرتُ عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مادوماً ...) (3)، وقد سبقت الإشارة إلى علاقة التقوى بالرياضة النفسية في النص نفسه بقوله (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق ...) (4) مما يعني أن التقوى رياضة نفسية يمارسها العبد في الحياة لأجل تعزيز الاستقامة السلوكية وبما يفضي به إلى حيازة مرضاة الله - عز وجل - عن طريق هذه الاستقامة، لأن التقوى في نظر الإمام هي ( ... دواء داء قلوبكم ... وطهور دنس أنفسكم) (5) من كل شائبة تتسبب في الانحراف النفسي سواء كان على مستوى الفرد

ص: 240


1- ابن أبي الحديد 17/13.
2- المصدر نفسه 133/4.
3- ابن أبي الحديد 226/16.
4- المصدر نفسه والصفحة.
5- المصدر نفسه 147/10.

أم الجماعة، وبهذا فهو يحقق الانفتاح على ما وراء الحياة الدنيا من خلال هذه الاستقامة في السلوك وتطبيق مبدأ التقوى الذي ربطه مع الاستقامة ربطاً محكماً من خلال قوله:

( ... فاتّقى عبد ربه نصح نفسه وقدّم توبته، وغلب شهوته ...) (1). ا

لذي رسم من خلاله منهاجاً تقوائياً يعتمد بالأساس على النفس ونصيحتها، فضلاً عن التوبة والغلبة للشهوة، وهذا يعني تحقق مبدأ الاستقامة عن طريق تطبيق هذا المنهاج السلوكي في مفردات الحياة البشرية، ويمكن فهم هذا المنهاج في التقوى وفاعليته النفسية، حينما يُسأَلُ عن الإيمان فيحدد ذلك من خلال التصنيف القائم على المزاوجة بين المفهوم الديني للألفاظ والوعي النفسي في التعامل على أساسها، بما يفضي إلى تبيين المهمة النفسية الخطيرة التي تلعبها هذه المفاهيم في إعادة صياغة السلوك على وفق ما ينسجم مع الدين الحنيف، فيقول:

(الإيمان على أربعة دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد والصبر منها على أربع شُعَب: على الشوق والشفق والزهد والترقب؛ فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات) (2).

ويستمر في تصنيفه هذا بما يثبت منهجية التقوى التي تعني ديمومة الاستقامة وصولاً إلى جعلها سلوكاً فردياً وجماعياً لا انفكاك منه، وبما يوفر مناخاً نفسياً يعتمد المنهجية الصحيحة في الحياة للمجتمع ككل، وبما يبعده عن خط الترهّل في السلوك لكيلا ينحدر إلى الفوضى، يقول الإمام علي علیه السلام في هذا المورد (وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة ...) فعُمِلَ بالهوى وعُطِّلَت الأحكام، وكثرت علل النفوس) (3)، وهذه إشارة واضحة إلى 1

ص: 241


1- المصدر نفسه 118/5
2- ابن أبي الحديد 113/18.
3- المصدر نفسه 70/11

انتشار الأمراض النفسية في المجتمع بسبب عدم وجود منهجية صحيحة في التقوى والاستقامة في السلوك الفردي فضلاً عن السلوك الجماعي.

الهوى والوازع الديني:

تتعدد الإشارات في هذا الجانب من الخطاب النفسي في نهج البلاغة، لسببين: الأول؛ لأن الإمام علي صلی الله علیه و آله و سلم هو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وهذا يوجب عليه النصيحة لهم في الدين والدنيا وإرشادهم إلى مواطن الصلاح، فما يشير به من منهاج في بناء الشخصية السوية يقول:

(يا أيّها الإنسان ما أجرأك على ذنبك، وما غرّك بربك وما آنسك بهلكة نفسك؟ أما من دائك بلول، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك؟) (1).

ينحو النص منحى نفسياً في عملية توبيخ وتقريع تستبطن في أثنائها توجيهاً إرشادياً إلى ضرورة إيجاد منهجية نفسية تقوم على المفهوم الديني، الغرض منها الابتعاد عن الأهواء النفسية وما يمكن أن يدفع بها إلى منزلق العصيان، وبذلك تصبح عرضة للانهيار النفسي والوجداني، الأمر الذي يتسبب في كثير من الأمراض النفسية التي إن استشرت في المجتمع ستؤدي بالنتيجة إلى انهيار اجتماعي عام.

إن الإشارات التي بثها الإمام علي علیه السلام في خطابه النفسي تتوسل بالذات الإنسانية لكي تصنع لنفسها طريقاً تتجنب فيه المنزلقات النفسية، يقول الإمام (فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإن هذه النفس أبعد شيء منزعاً، وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى) (2)، إذن، فالهوى هو باب المعصية والنفس ما تزال تطمع في ذلك، وهذا يمثل - من وجهة نظر الإمام - أمراضاً نفسية ولا بد من منهجية التقوى للقضاء على هذه الأمراض، ولأن (من حاسب نفسه

ص: 242


1- المصدر نفسه 182/11.
2- ابن أبي الحديد 16/10.

ربح، ومن غفل عنها خسر) (1) كما يقول الإمام، مما يعني فسح المجال أمام النفس المتعددة الأغراض والشهوات أن تذهب إلى نهاية الطريق في المعصية فلا بد من التوجيه والإرشاد للنفس ومحاسبتها وفق منظور ديني، وقد سمّى الإمام ذلك بالمخادعة فيقول (وخادع نفسك في العبادة، وارفق بها ولا تقهرها وخذ عفوها ونشاطها) (2).

لقد حدد الإمام في خطابه، المنهاج الذي ينبغي على الفرد اتباعه لكي تتخلص النفس من الانحرافات التي تتسبب في ظهور أمراض نفسية تؤثر على التماسك الاجتماعي، فضلاً عن الانهيارات التي تحدث في صميم المجتمع نتيجة لتلك الانحرافات التي أراد الإمام علي صلی الله علیه و آله و سلم من خلال خطابه بهذا الشأن، أن يضع القواعد الأساسية لبناء الشخصية المثالية التي تخلو من الانحرافات النفسية.

ثاني عشر / الخطاب المعرفي:

اشارة

إن المعرفة، بوصفها فعلاً إنسانياً، نشأت مع نشأة الإنسان ووعيه بذاته ومحاولاته في معرفة كيفية عمل العقل البشري (3)، فهي تمثل (حيوية الأفكار التي يؤمن بها، وجدّية المبدأ، وإرادة المفاهيم وقوة السير) (4) باتجاه معرفة ما في هذا الكون، ولاسيما يتعلق بمعرفة الإله والذات الإنسانية ومعطياتها ومكوناتها ومصادر معرفتها ونمو تلك المعرفة واستعمالها، بما يشيع الوعي بين أفراد النوع الإنساني، وبما يضيف من فهم لوظائف الإدراك والتفكير والفهم، وما إلى ذلك من الظواهر العقلية الأخرى التي تشير إلى التطور المعرفي في حياة الإنسان.

لقد اشتمل الخطاب المعرفي في نهج البلاغة على جوانب مهمة من جوانب التمثيل المعرفي منها ما يتعلّق بمعرفة الخالق عز وجل، ومنها ما يتعلّق

ص: 243


1- المصدر نفسه 23/19.
2- المصدر نفسه 32/18.
3- ينظر: علم المعرفة، آفاق جديدة في دراسة العقل، د. محمد طه، عالم الفكر ع 1 مج 35 / 2006 - ص 168.
4- المنهج الحركي في القرآن الكريم /102.

بالمعرفة الإنسانية لفهم الذات، ومنها ما يتعلّق بتلك التي تنظم العلاقة بين الإله والإنسان، وأن هناك كذلك ما يمكن أن نسميه بالفيض المعرفي الذي أفاضه الخالق عزّ وجل على وفق منظور الخطاب العلوي بوصفه ينطلق من مكونات النظرية الإسلامية التي تتعبد بالتوحيدية للخالق عز وجل، ولأنّ مشكلة المعرفة نشأت مع الإنسان فإنه حاول معرفة ما يدور حوله من أصوات وتجليات كونية كما حاول معرفة تلك المهارات التي تسهم في اكتناز المعرفة لديه، بما يعزز هذا الجانب المهم في حياته.

إن الخطاب المعرفي بما يحدده من أشكال المعرفة الإنسانية، إنما ينزع إلى ضرورة أن يكون مستوى هذه الأشكال المعرفية بمستوى الحدث الفكري المنتج لها والمهيمن عليها؛ لأن الإمام علي علیه السلام في خطابه المعرفي قد وضع يده على منبع خصب في الفكر البشري، بما يشكل منحَى جديداً في بث المعرفة والتوجيه إليها وبيان طرق تحصيلها وموانعها وروادها والأماكن التي يرتادونها طلباً لتلك المعرفة، وبما يسدد تلك الخطى صعوداً إلى عالم المعرفة الأول، كما يراه الإمام علي علیه السلام في خطابه المعرفي هذا، وبناء على ذلك، فإننا يمكن أن نتناول الخطاب المعرفي في نهج البلاغة من جوانب هي كالآتي:

1 - الفيض المعرفي:

إن الاستناد إلى خلفية الكشف عن الفيض المعرفي، تمثل من وجهة نظرنا إطاراً موحياً تنفذ من خلاله المعرفة الربانية التي يفيضها الخالق عز وجلّ على العباد الذين يرتضي لهم ذلك على وفق أنماط وأنساق لا يمكن لغيرهم فهمها أو استكناهها بوصفها عملية تتجاوز الحدود المادية الملموسة إلى فضاءات ذات مديات لا تدخل ضمن المنظور البشري، وبالنتيجة فإن هذا الانطلاق المعرفي يشير إليه الإمام علي بقوله:

(أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه،

ص: 244

لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة الموصوف أنه غير الصفة ...) (1).

بما أن (المعرفة التامة هي غاية العارف ونهاية مراتب السلوك) (2)، فقد جعلها هي المبدأ العقلي الأول في الفيض المعرفي؛ لأن (أوّليتها في العقل هو إشارة إلى كونها علة غائية) (3)، مما يعني أنها وإن تقدّمت في النص، إلا أنها كونها هي الغاية في الوعي الذي يتخذ من المعرفة منهجاً له؛ فإنها لن تحصل إلا بتوافر المراحل الأخرى التي ينتظم على أساسها الفيض المعرفي، وبذلك فهي تميل إلى ضرورة التصديق؛ لأن ذلك يمثل كمالاً معرفياً من كمالات المعرفة كيما يجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة أخرى ترقى في سلم المعارف بحثاً عن الكمال الذي يمثل الإخلاص المرحلة الأعلى فيه، التي تنتهي به إلى ضرورة التسليم المطلق للباري عز وجل، وعن ذلك يقول الإمام:

(الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار ...) (4).

إن هذا التلازم بين مراحل المعرفة، يمثل الطاقة الفاعلة في بنائية النص، التي هي (الكيفية المجردة المتعالية عن الزمان والمكان) (5)، بما تنتهكه من حجب وأستار وصولاً إلى تلك الكمالات التي أشار إليها النص، مما يعني في الوجه الآخر، الاعتراف الإنساني بالعجز أمام هذا التكامل المعرفي الذي يسعى إليه، وإذا كانت المعرفة أول الدين - كما يقول الإمام - فإنه يشير في مكان آخر إلى ضرورة الابتعاد عن التوهم، في محاولة معرفة الذات الإلهية؛ لأن ذلك يمثل تجاوزاً للحدود المعرفية المرسومة للعقل الجزئي (6)، فيقول: .

ص: 245


1- ابن أبي الحديد 92/1.
2- شرح البحراني 224/1.
3- المصدر نفسه والصفحة.
4- ابن أبي الحديد 251/18.
5- التراث والقراءة / 261.
6- ينظر: وحدة الوجود العقلية / 137.

(خرّت له الجباه، ووحدته الشفاه حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانةً له من شَبَهِها لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ولا بالجوارح والأدوات لا يقال له "متى؟" ولا يُضربُ له أمدٌ بِ "حتى"، الظاهر لا يقال: " ممَّ؟ " والباطن لا يقال:

"فيمَ؟" لا شبحٌ فيُتَقصّى، ولا محجوبٌ فيُحوى) (1).

ويقول كذلك:

( ... فمن وصف الله سبحانه فقد قرَنَه ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزَّاه، ومن جزَّاه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدّه فقد عدَّه، ومن قال: " فيمَ؟" فقد ضمَّنه ومن قال: " علام " فقد أخلى منه كائنٌ لا عن حدث، موجود لا عن عدم مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعلٌ لا بمعنى الحركات والآلة بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده ...) (2).

إذا كان هذا المنظور لمعرفة الخالق عز وجل، فهل أن تلك المعرفة ممكنة للإنسان؟ وإذا كانت ممكنة، فكيف تتم؟ لقد أشار الإمام - كما سبق - إلى أن المعرفة هي أول الدين، إلا أن ذلك لا يتأتّى إلا بما يسمح به الخالق عز وجل، يقول في ذلك الإمام علي علیه السلام:

( ... لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته ...) (3).

وهذا النص لا يبتعد عن المفهوم المعرفي الذي أشرنا إليه من قول الإمام أن أولية الدين هي معرفة الباري عز وجل؛ فإن الله سبحانه لم يحجب معرفته الواجبة على الإنسان حجباً تاماً، إنما أفاض ذلك بحسب ما يراه متحمّلاً الإنسان، وبما يراه مناسباً زمانياً ومكانياً، في الوقت الذي حجب العقول عن أن 3.

ص: 246


1- ابن أبي الحديد 194/9.
2- المصدر نفسه 92/1.
3- ابن أبي الحديد 169/3.

تحدد صفاته، ولهذا قال (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) مما يعني أن وصف الخالق هو شأن رباني، لا أحد يستطيعه أو يدرك كنهه، يقول الإمام في ذلك:

(لا تقع الأوهام له على صفة ولا تعقد القلوب منه على كيفية، ولا تناله التجزئة والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب) (1).

وقوله:

(الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوصُ الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل محدود) (2).

تتمثل القراءة لهذين النصين وغيرهما في أن الفيض المعرفي على الإنسان يعني أنه لم يكن للعقل المحدود سبيل لإدراك صفة الخالق عز وجل مطلقاً؛ لأن محدودية العقل الجزئي لا تمنحه قدرة على الإحاطة باللامحدود من حيث معرفته، سواء كانت هذه المعرفة من جهة العقل أو القلب أو عن طريق الفكر وإشغاله بالسعي خلف هذه المعرفة كونها غير متحصّلة وحسب تعبير الإمام (لا تقع الأوهام له على صفة ...) فهي إشارة إلى أن الوهم في ارتفاعه طلباً لهذه المعرفة لن يقع على صفة له، كما لا يمكن للقلوب أن تنعقد على حال له لاستحالة ذلك وقصورها عن بلوغه.

إن العجز ملازم للمعرفة الناقصة، ويقول الإمام في هذا الشأن، متوجّهاً بالخطاب إلى الباري عز وجل في اعتراف كامل:

(فلسنا نعلم كنهَ عظمتك إلا أنّا نعلم أنّك حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينته إليك نظر، ولم يدرككَ بصر، أدركت الأبصار، واحصيت الأعمال، وأخذتَ بالنواصي والأقدام. وما الذي نرى من خلقك، ونعجب له من قدرك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيّب عنا منه وقصُرت أبصارنا عنه، وانتهت 1.

ص: 247


1- المصدر نفسه 269/6.
2- المصدر نفسه 81/1.

عقولنا دونه وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه أعظم) (1).

إن هذا الخطاب الاعترافي يمثل - في نظرنا - وجه المعرفة الحقيقي في عدم بلوغ المعرفة الإلهية إلا بما تفيض من الباري عز وجل على الإنسان؛ إذ أن ما ذكره الإمام من عدم معرفة كنه العظمة الإلهية، ثم أورد الاستثناء بمعرفته أنه حي قيوم ... إلى آخر النص، إنما يشير إلى هذه الاعتبارات التي سماها بعض شراح النهج (الصفات الحقيقية اللازمة الوجود) (2) التي يعني بها أن كل حي موجود، والقيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره، وهو بذلك واجب الوجود وأنه لا تأخذه سنة ولا نوم ولا ينتهي إليه نظر ولا يدركه بصر وهذه سمّاها (الاعتبارات السلبية) (3) وسمّى إدراكه للأبصار وإحصائه للأعمال وأخذه بالنواصي والأقدام (الاعتبارات الإضافية) (4) بدلالة الإحاطة والمقدرة الإلهية بهذه الأشياء، لا بدليل الإضافة التي هي الزيادة في الصفات المنسوبة.

2 - المعرفة والسلوك:

يتمثل السلوك في السير في الطريق المستقيم للوصول إلى الله بالمعرفة؛ وأن ذلك لن يتأتى إلا بهذه المعرفة وهي لن تكون إلا بطريقين، (طريق التفكير الفلسفي أو طريق الشهود العيني) (5)، وهذان الطريقان، نجد من خلال تفكيك الخطاب المعرفي قد سلكهما الإمام، وبذلك فقد أصبح لديه ملكة الحضور اليقيني - إن صح التعبير - بدليل قوله:

(ما شككتُ في الحق منذ أريته) (6).

مما يعني أن المعرفة لديه تتلازم طردياً مع الرؤية أو المشاهدة اليقينية،

ص: 248


1- ابن أبي الحديد 171/6.
2- شرح البحراني 349/3.
3- المصدر نفسه والصفحة.
4- المصدر نفسه والصفحة.
5- الحكمة النظرية والعملية في نهج البلاغة / 40.
6- ابن أبي الحديد 300/18

وهذا ينتج عنه معرفة أخرى تعدّ هي إحدى نتائج المعرفة الأولى، فيقول:

(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلى الله عليه وآله ألا وإني مُفضيهِ إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه) (1).

إن هذه الإحاطة العلمية التي لدى الإمام، لا تعدو أن تكون كشفاً ربّانياً يقوم على الانقطاع إلى الله عز وجل فتحصل حينذاك إماتة للشهوات وإحياء للعقل بما يضمن المعرفة الشهودية المباشرة، يقول الإمام في ذلك عن السلوك المعرفي:

(قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دقّ جليله ولطف غليظه وبرق له لامع كثير البرق فأبانَ له الطريق، وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربّه) (2).

إن إحياء العقل وإماتة النفس يمثل تصويراً مجازياً لحالة السلوك المعرفي بالإشارة إلى قتل الغرائز والشهوات والانعتاق الروحي لكي ينفتح الطريق أمام السالك لبلوغ الهدف الأسمى في المعرفة، والإمام يذكر ذلك في حالتين متناقضتين فيقول:

(الدنيا دار ممر لا دار مقر والناس فيها رجلان رجل باع نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فأعتقها) (3).

إن الأساس المعرفي في السلوك في هذا النص يقوم على أساس انتقالات اللغة كيما يتحدد المعنى المطلوب الإشارة إليه فإن النص يشير إلى رجلين أحدهما (باع نفسه فأوبقها) والآخر (ابتاع نفسه فأعتقها) وإن ما بين (باع) و(ابتاع) بون شاسع في السلوك يترجمه هذا الفرق في بناء الكلمة؛ إذ أن الأولى تعني البيع، .

ص: 249


1- ابن أبي الحديد 11/10.
2- المصدر نفسه 97/11.
3- المصدر نفسه 264/18.

والثانية تعني الشراء، مما يترتب على الأولى عبودية الإنسان للشهوات الدنيوية، وعلى الثانية تحرره من هذه العبودية ليكون بمثابة العتق لنفسه.

إن عملية الإحياء التي قصدها الخطاب العلوي، إنما تتم عبر سلسلة من الأنماط السلوكية التي تتخذ من المعرفة سبيلاً لها ومنهجاً عملياً ولا يمكن أن تكون تلك المعرفة للباري عز وجل نافعة أو أنها تصل إلى الهدف المطلوب، إلا بمعرفة الذات (الأنا) إن صحّ التعبير، فيقول الإمام علي علیه السلام متوجهاً بالخطاب إلى الإنسان:

(أيها المخلوق السويّ، والمنشأ المرعيّ، في ظلمات الأرحام، ومضاعفات الأستار، بُدِئتَ من سلالة من طين، ووضعت في قرارٍ مكين إلى قدرٍ معلوم وأجلٍ مقسوم تمور في بطن أمّك جنيناً لا تحير دعاءً، ولا تسمع نداءً ثم أخرجك إلى دار لم تشهدها ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك وعرّفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك!

هيهات إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد!) (1).

إن فهم الترابط بين السبب والمسبب من خلال الإدراك لماهية هذا الترابط، إنما يمثل جهداً معرفياً يحث على السلوك بطريق إعمال العقل في هذا الوجود ومحاولة التواصل عبر دائرة الفهم الفلسفي لهذه الأشياء، بغية تحقيق الهدف المرجو من ذلك، ألا وهو المعرفة. .

ص: 250


1- ابن أبي الحديد 197/9 - 198.

الفصل الثالث / مستويات الخطاب

مدخل

لم يكن الخطاب في نهج البلاغة أحادي القيمة، بل كان متعدد الأبعاد والقيم وعليه فإن ذلك ينتج عنه تعدد مستوياته بما يضمه بين ثناياه من رؤى وتطلعات بعضها كان واقعاً معيشاً وبعضها ينتمي إلى الماضي القريب، مما يمثله من إرث منتهب أو حق براه له حاول صاحب الخطاب الإشارة إليه والاستدلال على أحقيته به دون غيره، وبعض من ذلك لا ينتمي إلى هذا أو ذاك، إنما يمثل واجباً شرعياً وتفانياً أملته على صاحب الخطاب أرجحيته العلمية وانتماؤه الديني بعيداً عن التنطّع المدلّ أو الانقياد للهوس العلمي - إن صح التعبير – وقسم رابع أبتعد عما سبق من حيث وظيفته التي عمل عليها أو أراد له ذلك منتج الخطاب، وهو ما عبر حواجز الذات المادية إلى الفضاء الأرحب متأملاً الكون وطبيعته، ومنبّهاً إلى ضرورة استكناه هذا الكون وملاحظة الوجود بكل منطلقاته مستوحياً من كل ذلك ما يطلق استدلالاً على واجب الوجود الذي أفاض على هذه المخلوقات روح الحياة.

إن الخطاب في نهج البلاغة يمكن أن يقال عنه أنه إنجاز (يتوسّل به المبدع عما تموج به نفسه ... " أو" ذاته من انفعالات) (1) تشحن الألفاظ بمعطيات تستهدف نقل مقتنيات الخطاب إلى المتلقي بالدقة التي يمكن أن توفّرها اللغة بوصفها الأداة الفاعلة والناقلة في الوقت ذاته، بغية (إشراك الذات المتلقية في بناء المعنى بوساطة فعل الإدراك، وإن هذا الإسناد إلى الذات في تقرير المعنى والكشف عنه هو ما

ص: 251


1- نظريات معاصرة، 34.

اصطلح عليه هوسرل بالقصدية) (1) التي يحملها الخطاب بوصفها المهيمنة (2) الكبرى على الخطاب من حيث إنها تبغي من خلال ذلك (استمرار التواصل وصحة تمثل "المتلقي" مضمون "الخطاب" الحقيقي) (3): لأنه يظل قادراً على تحريك السواكن؛ وعلى اقتراح التأويل وإحداث رد الفعل بما يمكّن المتلقي من المشاركة والتفاعل والإضافة التي (تضيف قدراً من التحديد إلى المواضيع التي يعرضها النص في خطوط عامة) (4) ما بحسب يراه صاحب الخطاب في تقديم ما ینیر الأفكار عبر مستويات من ذلك الخطاب لأن معرفة الحقيقة وبثّها إلى المتلقي تعتمد بشكل أساس على معرفة النفوس، وهذه ليست مطلوبة لذاتها، إنما لتوليد الانفعال؛ لأن (الفن ليس هو الطبيعة، إنما هو الطبيعة معدّلة بفعل اندماجها في علاقات جديدة تتولد عنها استجابة انفعالية جديدة) (5).

إن معطيات الخطاب في نهج البلاغة تتمثل في مستويات سنتحدث عنها تباعاً، وقبل ذلك سنشير إلى كلمة (مستوى) التي تعني من حيث العودة إلى الجذر اللغوي الاعتدال (6)، والاستقرار في (استوى على ظهر دابته) (7)، زيادة على الاقتران بدلالة المساواة أو التساوي التي هي (اتفاق الشيئين في الكمية) (8)، كما أن لفظة (مستوى) يذهب الدكتور فاضل السامرائي إلى أنه (يحمل معه عنصر الذات) (9) بوصفه مصدراً ميمياً من حيث البنية الصرفية، وهذا يحيلنا إلى أن نعتقد بأن (المستوى) مادام يحمل فيه عنصر الذات بما ينطوي عليه من دلالة ارتباط الذات .

ص: 252


1- نظرية التلقي - أصول وتطبيقات، 32.
2- ينظر: اللسانيات ونظرية التواصل، 47.
3- المصدر نفسه، 49.
4- المعنى الأدبي، 41.
5- الفن خبرة، 137 - 138.
6- لسان العرب مادة (سوى).
7- المصدر نفسه.
8- المعجم الفلسفي، 367/2.
9- معاني الأبنية في العربية، 34.

بالفعل الخطابي، فهو يشترط الارتباط بكيان الخطاب نفسه بوصفه يمثل وظيفة من وظائفه (1).

إن استقلالية الوظائف التي يقوم بها الخطاب والتي سنشير إليها بأنها مستويات الخطاب لا يعني أنها تنفصل عن بعضها انفصالاً تقاطعياً، إنما ينهج في اعتمادها الخطاب نهجاً يعلن التساوي النوعي فضلاً عن التجانس في عرض الأفكار التي يروم الإدلاء بها، وعليه يمكن تقسيم مستويات الخطاب في نهج البلاغة إلى ما يأتي:

1 - المستوى الإبلاغي.

2 - المستوى الإفهامي.

3 - المستوى الحجاجي.

4 - المستوى التأمّلي.

أولاً - المستوى الإبلاغي: (مفهوماً واصطلاحاً).

يعود الجذر اللفظي لمصطلح الإبلاغ إلى الفعل (بلغ) الثلاثي، وتجمع المعجمات العربية (2) في إثبات الدلالة التي ينصرف إليها اللفظ وهو الوصول إلى الشيء، حينما نقول بلغت الشيء أو المكان إذا وصلت إليه، وأن (الإبلاغ) المصدر الذي جاء من الفعل (أبلغ) فهو يعني الإيصال وإلى هذا المعنى أشارت المعجمات ومادام الإبلاغ هو الإيصال فإن ذلك يشير إلى الدلالة التي يحملها مصطلح (الإبلاغ) بوصفه يحدد وظيفة الخطاب.

إن الدلالة الاصطلاحية للإبلاغ لا تكاد تفترق عن المعنى اللغوي للمصطلح، فكلاهما يعني الإيصال، إلا أن المعنى الاصطلاحي يتأسس على أساس الاستعمال الأدبي في مهمات النص الذي يرتبط بالتعامل عن طريق الألفاظ لأجل تأدية المعاني التي تعد من صنف الأخبار أي أن هناك بعداً نفعياً اجتماعياً، قبل أن يكون فردياً، مما يستوجب أن تكون الفعالية اللغوية ذات صفة حيادية بصرف النظر عن طبيعة الخطاب أو دلالته أو ما يحمله من أبعاد معرفية أو أيديولوجية، وهذا يعني بالنتيجة أن (الإبلاغ) بوصفه مصطلحاً لا يمثل كينونة الخطاب وتوجهاته

ص: 253


1- ينظر: قضايا الشعرية، 30: 33.
2- ينظر: مقاييس اللغة الصحاح لسان العرب مادة (بلخ).

وإجبار المتلقي على اعتناقه بقدر ما هو عملية إيصالية تنحصر مهمتها في التوصيل على وفق سنن تحقق النفعية الاجتماعية.

إن التعثر في تحديد مفهوم الإبلاغية لدى بعض الباحثين (1)، ناتج عن الخلط بين الوم بين الوظيفة التي يمكن أن تؤديها الإبلاغية وبين المكنون في الخطاب من معطيات؛ لأن (تصنيف الخطاب عمودياً بين الإبلاغ النفعي والإبلاغ الإنشائي، أي أن احترام المواضعة المتصلة بدلالة الألفاظ وصيغ الترتيب، يبلغ أقصاه في الخطاب العادي الذي يهدف إلى مجرد الإبلاغ) (2).

إن الذي يستعمل اللغة يقسم استعماله لها إلى وحدات متمايزة ذات أنواع محددة تسهم في بيان وظيفة كل وحدة، وهذه الوحدات هي هنا مستويات الخطاب، ومنها المستوى الإبلاغي؛ لأنه لا بد من التمييز بين موضوع الخطاب الذي نتحدث عنه وبؤرة الخطاب) (3) بوصفهما لا ينضويان كلاهما تحت الإبلاغية؛ لأن ذلك يعني خلطاً في الوظيفة.

إن المستوى الإبلاغي لا يقوم على أساس الجزئية اللفظية التي يتم التعامل من خلالها مع الخطاب؛ لأن الربط بين القصد والخطاب في مستواه الإبلاغي يجري لأجل غاية توصيلية، وهذا ما يؤيده (الرأي الذي يرى أن اللغة تؤدي وظيفة التوصيل والتوصيل لا يحدث إلا من خلال معرفة القصد الخاضع لأسس تركيب الكلام ... فاستعمال الكلام في غير ما وضع له مع عدم مراعاة إرادة قصد معيّن يؤدي إلى الانحراف عن المقاصد اللغوية إلى مقاصد أخرى) (4) لا يتبناها الخطاب وليس من وظائفه التي يريد تأديتها.

إن تأدية الخطاب لوظائفه من خلال مستواه الإبلاغي، وعن طريق المنحى 8.

ص: 254


1- ينظر: مستويات التعبير في ألف ليلة و ليلة - أطروحة دكتوراه - 13 وما بعدها.
2- التفكير اللساني في الحضارة العربية، 129.
3- الثقافة والمعرفة البشرية، 177.
4- الإبلاغية في شعر خالد علي مصطفى الدكتور عبد الرزاق الحربي، مجلة كلية الآداب الجامعة المستنصرية ع 32 - 175/1988.

القصدي (يكون أكبر من الألفاظ المتواضع عليها ... في بعض التراكيب اللغوية) (1)، بما معناه أن ذلك يتم عن طريق المجاز لا الحقيقة بما يمثله من بلاغة عالية تسهم في خلق نوع من العلاقة التي تقوم بين الألفاظ في تراكيبها بغية توصيل ما يريد الخطاب على أساس ما يقصده المتكلم أو الخطيب لا على أساس ما دلّت عليه تلك الألفاظ؛ لأن وظيفتها هنا بمثابة القاعدة التي ينطلق منها الخطاب أثناء عملية الاتصال بين المرسل والمتلقّي.

إن الوظيفة الإبلاغية للغة تقوم على (قصد المخاطبة باعتبار أن تجسيم سنن الموافقة في خطاب إبلاغي إنما يتخذ لنفسه غاية هي تكريسه للمحاورة يعززه قصد الفائدة، إذ أن علة الحدث الإبلاغي وغايته لا تتمثّلان إلا في إيصال شحنة دلالية لتتحقّق عملية الإخبار) (2) التي يقوم بتأديتها الخطاب في مستواه الإبلاغي.

إن العملية التوصيلية التي ينهض بها الخطاب في مستواه الإبلاغي تنحصر في نقل محتوى الخطاب الذي ينحو منحى إبلاغياً دون زيادة من القائم بالخطاب، أو دون تغيير يعود عليه نفعياً، بقدر ما يحمله من أمانة غايتها الإيضاح وبيان الحقائق بناء على أن المتلقي خالي الذهن مما ينقل إليه - افتراضياً - لأنه يتلقى الخطاب حرصاً منه على استقبال النص المبلغ إليه بما يحقق دلالات مضافة لما يمتلكه من معارف وإشارات سابقة، الأمر الذي يجعل الخطاب في مستواه الإبلاغي يسير على وفق موضوعية يكشف فيها عن نفسه دون تدخل الخطيب ذاتياً، إلا بما يجعل الخطاب يعبر عن فحواه وبما يحتويه من دلالة مضافة لفحوى الخطاب.

إن المستوى الإبلاغي في الخطاب يعد حدثاً لغوياً؛ لأنه لا يخرج عن هذا الإطار كونه ضمن شمولية ما يعنيه الحدث اللغوي، فهو إحدى وسائل المتكلم لتوصيل أفكاره أو رغباته، في الوقت الذي يعد مثيراً للسامع لاختيار سلوك معين أو عمل ما زيادة على أن المستوى الإبلاغي لا يخرج عن دائرة الإخبار للسامع عن موضوع خارجي يثير المتكلم والمتلقي على حد سواء. .

ص: 255


1- المصدر نفسه والصفحة.
2- التفكير اللساني في الحضارة العربية 147.

يتبين مما تقدم أن المستوى الإبلاغي في الخطاب العلوي، إنما يمثل وجهاً من وجوه الخطاب في سعيه لتوصيل رسالة يتبنى إرسالها الخطاب إلى المتلقي؛ سواء كان ذلك الإيصال والتوصيل شفاهياً أو كتابياً بحسب الخطاب نفسه، وبحسب الظرف المحيط به، ففي الخطاب الشفاهي نجد الإمام يحرص على نقل حقائق موضوعية بعدها من بديهيات المعرفة بسير التأريخ وتوالي الأحداث التي بعضها لم يمضيَ عليه زمن طويل يجعلها عرضة للنسيان أو أهواء الرواة، إنما كان هو يمثل شاهداً عليها، كما يمثل غيره من المتلقين شهوداً على تلك الأحداث، بما يضفي عليها طابع الجدّة في صيرورتها الزمنية، وكونها ما تزال ذات تأثير فاعل في حياة الأفراد والمجتمع الإسلامي ككل، وكما أن بعضها يضرب في أعماق الزمن فصارت بمثابة الموعظة التي تحتاج إلى زمن يعيد إنتاجها بشكل يتناغم مع الواقع الذي عليه المجتمع، دون المساس بجوهريتها الموضوعية التي تتأسس على مبدأ التأثير السلوكي الجمعي فضلاً عن الفردي. إن انتقالات الخطاب في نهج البلاغة تحوي كثيراً من النصوص التي تندرج ضمن المستوى الإبلاغي؛ لأن ذلك يدخل ضمن إعادة إنتاج الخطاب - كما قلنا - دون الخضوع لتشعبات الزمن وقيود المكان التي تقلل من فاعلية الخطاب أو تحجِّم أثره في المتلقي.

ففي كلامه عن بعث النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وكيف كان الناس متفرقين تتقاذفهم الأهواء، لا يقعون على طريق رشاد، إلى أن جاءهم الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم برسالته فأنقذهم من وهدة الكفر وطرق الضلالة يقول:

( ... إلى أن بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وآله لإنجاز عدته، وإتمام نبوّته مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورة سماته، كريماً ميلاده وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من

ص: 256

الجهالة ...) (1).

نجد أن الخطاب يبنى على ثلاث ركائز يمكن تفصيلها في:

1 - بعث النبي وصفته وهو قوله (إلى أن بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه و آله ... مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورة سماته كريماً ميلاده ...) وهذا معلل بإنجاز ما وعد الله سبحانه عباده ولإتمام النبوّة التي تعد من الأهداف الرئيسة في الحياة الدنيا، فضلاً عن كونها متمماً لما سبقها من النبوّات التي كانت تبشر بها على لسان الأنبياء الذين سبقوا النبي امام محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

2 - وصف الناس حال البعثة الذي يوجزه في قوله (وأهل الأرض يومئذ ...).

3 - هداية النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم لهم وإنقاذه إياهم من الكفر والإلحاد والشرك.

تتضمن الإشارات الواردة في النص بيان حال الناس فهم على أصناف ثلاثة:

- ملل متفرقة.

- أهواء منتشرة

- طرائق متشتتة.

وهذه الأصناف الثلاثة من حيث البناء الاجتماعي تنقسم على ثلاث وجهات من حيث العقيدة الدينية وكأنها تبنى فكرياً على ضوء البناء الاجتماعي، فيصفهم قائلاً ( ... بين مشبّه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره ...).

إن هذا التصنيف من خلال الخطاب في مستواه الإبلاغي لا يعدو كونه تصنيفاً موضوعياً يقوم على معرفة ما كان سائداً أيام البعثة الأولى وهو بمثابة إعادة بث الرسالة التي يعلمها الجميع إلا أن الإمام استعمل اللغة في مستوياتها التعبيرية العالية وفي فعالية تستنطق الحدث الاجتماعي - الديني ليفصح عن نفسه وطبيعة .

ص: 257


1- ابن أبي الحديد 125/1.

ارتباطه السردية في التعريف بذلك الواقع وصولاً إلى تقديم خطاب منسجم متكامل في مستوياته التعبيرية كافة وأولها المستوى الإبلاغي الذي نحن بصدده؛ لأن العملية السردية هي (مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل - ألسنياً - جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع) (1)، كما أن عملية السرد وتحليل النصوص تقوم بأكملها على المستوى الإبلاغي.

سمات المستوى الإبلاغي

اشارة

تمثل سمات المستوى الإبلاغي جزءاً لا ينفصل عنه بوصفه جزءاً من خطاب أشمل ولأدائه لوظيفة نقل رسالة هي إحدى مكونات الخطاب العام في نهج البلاغة مما يعني وجوب التطرق إليها ومحاولة تحديدها بناءً على ما يعلنه الخطاب العلوي ويظهره للمتلقي، فضلاً عن امتداده في كثير من نصوص نهج البلاغة، سواء كانت المنظومة أو المكتوبة، وعليه يمكن تحديدها في الآتي:

1 - الموضوعية:

بما أن الموضوع هو (الشيء الموجود في العالم الخارجي، وهو ما ندركه بالحواس ونتصوره ثابتاً ومستقراً ومستقلاً عن غائبنا وآرائنا) (2)، فهو يمثل الثقل التعبيري في الخطاب العلوي كونه ينقل الموضوع خارج الذات بشكل أمين ودقيق؛ إذ أن (الخطاب الموضوعي، أقصى إنتاج تنمحي معه كل علامات الفاعل في التعبير) (3) الموضوعي، بما يشتمل عليه من نقل محايد دون أن يشوبه انحراف نحو مقصد ذاتي، زيادة على اختفاء كل اثر دال على الذاتية أو الذات الناقلة للرسالة، مع افتراض الصدق افتراض الصدق في خطاب الناقل مع قيامه بنقل مجريات الرسالة وما تتضمنه من أحداث تحت أحداث تحت حكم الموضوعية في أدائها.

إن المبالغة في تحديد الموضوعية في المستوى الإبلاغي يأتي لضرورة

ص: 258


1- فى الخطاب السردي، 35.
2- المعجم الفلسفي 446/2.
3- معجم المصطلحات العربية المعاصرة، 231.

التوصيل إلى المتلقي دون اللجوء إلى نفي العاطفة عن الخطاب؛ لأن الانفعال بحد ذاته لا يعني انحيازاً عن الموضوعية إنما يسبب الانحياز عنها هو التدخل في صياغة الرسالة زيادة على إشراك الذات دون مسوّغ في نقل الرسالة المراد توصيلها إلى المتلقي.

كما أن تحديد الموضوعية لا يعني إخراج النص أو الخطاب أو الرسالة عن أدبيتها كيما تكون كلاماً ينحاز إلى الجانب المنطقي أو العلمي الصرف، وأن مطاوعة اللغة العلمية في نهج البلاغة لسلاسة الخطاب الأدبي، يعد هذا الأمر امتلاكاً لناصية اللغة وهيمنةً على أساليبها ومستوياتها التعبيرية بما يمثل في المحصلة النهائية، أن هناك مثالية موضوعية في الخطاب تخرج عن دائرة عدم انصياع اللغة إلى فضاء التحكم الحضاري بها من قبل الإمام، مما يوفر لها انسيابية شفافة تتمثل الرسالة المراد إيصالها إلى المتلقي.

يقول الإمام علي علیه السلام في وصف القرآن الكريم ونزوله على النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم: (ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقده وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه وبنياناً لا تهدم أركانه وشفاءً لا تخشى أسقامه وعزاً لا تهزم أنصاره وحقاً لا تخذل أعوانه فهو معدن الإيمان وبحبوحته وينابيع العلم وبحوره ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون وعيون لا ينضبها المانحون ومناهل لا يفيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون وأعلام لا يعمى عنها السائرون، و آكام لا يجوز عنها القاصدون.

جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء ... و علماً لمن وعی، و حديثاً لمن روی،

ص: 259

وحكماً لمن قضى) (1).

إننا يمكننا ملاحظة السياق الموضوعي الذي جرى فيه ومن خلاله إيصال الرسالة التي أراد الإمام علي علیه السلام إيصالها إلى المتلقي واصفاً القرآن الكريم بلغة قد امتلأت بالصور المعبرة عن المعنى المطلوب دون الانحياز إلى جانب الذاتية الناقلة، وفي انفعالية تستشف من بين التراكيب، وعلى هذا تكون الإبلاغية متحققة بموضوعية عالية في النص الذي يتصف بفنية تصويرية بقدر تحققها في النص الذي يتصف بنمطية عادية في تراكيبه؛ لأن حضور التعبير الذي قد لا ينتمي إلى الصياغة الأدبية أمر محكوم بالسياق العام الذي يحتويه ولا يقلل من قيمته.

إن استعماله للجمل الاسمية بشكل لافت للانتباه يمثل الموضوعية التي تتجلى من خلالها إبلاغية النص أو الخطاب، وهذا الوصف ينطبق على أغلب النصوص التي يصف فيها القرآن الكريم، منطلقاً من أن صاحب الخطاب، حينما يتحدث عن قضية ما، يندمج مع لوازمها، فهو يقول في مكان آخر في وصف القرآن الكريم:

( ... كتاب ربكم، مبيناً حلاله وحرامه وفضائله وفرائضه، وناسخه و منسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه و عامه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه بين مأخوذ ميثاق علمه، وموسّع على العباد في جهله وبين مثبّت في الكتاب فرضه ومعلوم في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه ومرخص في الكتاب تركه وبين واجب لوقته وزائل في مستقبله ومباين بين محارمه من كبير أوعد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه وبين مقبول في أدناه، وموسّع في أقصاه) (2).

يتسم النص بالموضوعية التي وإن كان الانفعال يتخلل التراكيب فيه إلا أن ذلك ليس دافعاً ذاتياً، إنما يدخل في صلب الموضوعية التي أشرنا إليها في كلام .

ص: 260


1- ابن أبي الحديد 152/10.
2- ابن أبي الحديد 126/1.

سابق؛ (لأن الطبيعة الباطنة للانفعال تظل على ما هي عليه سواء أضفى عليها "القائم بالإبلاغ" صبغة موضوعية أم لا) (1)، كما أن هذا المنطق العلمي الذي جاء النص أو الخطاب متلبساً به، لا ينفى عنه أدبيته، إنما يشير إلى موضوعيته وابتعاده عن الذاتية؛ لأن النص ينحو إلى الإخبار بحقيقة موجودة وواقعة وهذا يعني أن (الإخبار ... يقوم على ملاحظة نوع من النسبة المنطقية) (2) في النص أو الخطاب لكي يحافظ على موضوعيته وإبلاغيته في آنٍ واحدٍ.

ولعل وجود بعض السمات الفنية في النص أو الخطاب الموضوعي لا ينفي عنه صفته الإخبارية التي تنتمي إلى إبلاغية الخطاب؛ لأن ذلك ربما يأتي للمحافظة على إدامة الصلة بالمتلقي، مادام الإخبار يتعلق بتقديم أحداث أو وصف لها في لحظة ما من الزمن دون تدخل من المتكلم أو حامل الرسالة (3) إن ذلك يحيلنا - بطبيعة الحال - إلى الإشارة إلى أن الإخبار حينما يكون الجزء البارز من الخطاب من خلال السرد فإن ذلك يعني أنه سرد موضوعي بعيد عن الذاتي الذي يركب الأشياء على وفق رؤية يراها هو من حيث أهميتها له.

إن استعمال الجمل الاسمية في المستوى الإبلاغي لا يعني عدم استعمال الجمل الفعلية فيه، كما أن وجود الموضوعية التي نتحدث عنها لا يعني عدم وجود إشارة للذات أو الذاتية في الخطاب في مستواه الإبلاغي، إنما يجري ذلك في توظيف من خلال الإخبار لما يمكن أن يعزز قيمة الخبر ويضفي على موضوعيته مصداقاً انفعالياً بما يجعله مستساغاً لدى المتلقي، أو مقبولاً، يقول الإمام في وصف القرآن:

(إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالاً ويموتون ضلّالاً، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تُلي حقّ تلاوته ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب .

ص: 261


1- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، 77.
2- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، 113.
3- ينظر في أصول الخطاب النقدي الجديد، 39.

إذا حُرِّفَ عن مواضعه ...) (1).

لقد جاءت الجمل الفعلية التي تحمل صيغة النفي لتعطي ما بدأ به النص من إثبات، ثباتاً أكثر لأن موضوع النص هو الكتاب ولما يحمله من أهمية قصوى في حياة المسلمين وهو دستورهم المقدس إلا أن الشكوى التي وردت على لسان الإمام إنما تمثل شكوى الحرص على مصلحة الجماعة لا مصلحة الفرد / الذات وبذلك فإن الموضوعية هي أساساً تقوم على مبدأ الاستبدال أو المعاقبة (2) بين الجمل، ونجد ذلك واضحاً في النص السابق إذ أن الجمل الفعلية المنفية قامت مقام الجملة الفعلية المثبتة التي تصدرت النص، وهذا يعني أن الجمل التي يتكون منها النص أو الخطاب هي بمثابة رموز بعضها يحل لغز بعض.

2 - التوجيه:

ونعني به ما تعنيه اللفظة ذاتها معجمياً (3)؛ لأن المعنى الذي تذهب إليه اللفظة مرتبط بتحديد اتجاه معين وما دام كذلك فإن المراد هو الخط الذي يتساوق مع تحديد الاتجاه الذي يشير إليه الخطاب بوصفه يتضمّن رسالة من قبل المرسل إلى المتلقي تبعا للمخطط الذي جاء به جاكوبسن (4)

الصورة

وهذا يعني أن التناسب الطردي بين اعتباطية أي نظام علاميّ وسعة

ص: 262


1- ابن أبي الحديد 262/1.
2- علم لغة النص - المفاهيم والاتجاهات - 30.
3- مقاييس اللغة مادة (وجه).
4- السيمياء والتأويل 48.

إبلاغه) (1) في الخطاب إنما يشير إلى حالات الثراء اللغوي، مما يجعل اللفظة التي عبّرنا بها عن مفهوم معين تعد سمة بارزة من سمات المستوى الإبلاغي في الخطاب العلوي، ذات بعد اتساعي مع التعبير الذي تنتظم من خلاله لتؤسس فكرة تنهض بالمعيار المشار إليه من المعنى.

إن السياق الإخباري الذي ينتظم فيه الخطاب بمستواه الإبلاغي، يعني ارتباط الكلام بالواقع الخارجي بعيداً عن الذات الناقلة للخطاب، قريباً من جماعة المتلقين؛ لأن (احترام المواضعة المتصلة بدلالة الألفاظ وصيغ الترتيب يبلغ أقصاه في الخطاب العادي الذي يهدف إلى مجرد الإبلاغ) (2) لتلك الرسالة التي تهم المتلقين؛ إذ نجد أن الإمام علي علیه السلام يقول:

(إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة ...) (3) يعتمد النص على الإشارة التوجيهية التي يبثها السياق من بين الجمل التي يتكون منها، فهو يقول إن ذكر الله عز وجل بكل ما يندرج تحت ذلك من عظمة وكبرياء وسواه من الصفات الإلهية إنما يمثل جلاءً للقلوب التي صدئت بفعل الشرور التي غرقت فيها والأعمال السيئة، ويصور حالة جلاءُ القلوب، فيشير إلى حاستي السمع والبصر لأهميتهما في تحديد الرؤية الذهنية لطبيعة الذكر وأهميته في انقياد تلك القلوب بعد أن سمعت وأبصرت الطريق الصحيح، ثم يعرّج النص إلى موضوع آخر يبدو من ظاهر النص أو الخطاب أن علاقته بما سبق من التراكيب غير متينة وأنه منقطع عنها في المعنى، إلا أنه من وجهة نظرنا يمثل بؤرة الخطاب التي تتفرع عنها تراكيب الجمل في بناء النص ونسقيته لاستيفاء الفكرة التي أشار إليها الإمام، في قوله:

( ... وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يَقَظَةً في الأسماع .

ص: 263


1- التفكير اللساني في الحضارة العربية، 116.
2- المصدر نفسه 129.
3- ابن أبي الحديد 135/11.

والأبصار والأفئدة ...) (1) وهذا النص يمثل تفريعاً على مقدمته التي ذكرها قبل قليل، وهو يربط بينهما بهذه الحواس التي كانت وما تزال تعد الفاعل الوسطي بين مسألتين (الذكر والاهتداء)، وهؤلاء العباد الذين يشير إليهم إنما يمثلون هنا الدليل وسط متاهة الكفر والعصيان، فيقول عنهم:

( ... يذكّرون بأيام الله، ويخوّفون مقامه بمنزلة الأدلّة في الفلوات من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشّروه بالنجاة، ومن أخذ يميناً أو شمالاً ذمّوا إليه الطريق، وحذروه من الهلكة وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلّة تلك الشبهات ...). إن الطاقة الإبلاغية التي يحملها النص في أثنائه تتحول دلالياً باتجاه التصريح الذي يريده الخطاب وإن لم يصرح به مباشرة، فهو يضع فرضية لذلك فيقول:

( ... فلو مثّلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة، ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا المحاسبة أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة أمروا بها وقصّروا عنها ...) ويستمر في بيان حال هؤلاء الذين يوجّه الخطاب جماعة المتلقين إليهم حتى يصل إلى تعليل ما هم فيه وتوكيد تلك الحال فيقول:

( ... لرأيت أعلام هدىً، أو مصابيح دجىً، قد حفّت بهم الملائكة وتنزّلت عليهم السكينة وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات في مقعدٍ أطلع الله عليهم فيه ...) ثم ينتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها الخطاب في إشاراته التوجيهية فيقول بصيغة المفرد وهو يعني الجميع ( ... فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك) ذلك هو المغزى من الخطاب أو الرسالة التي يراد للمتلقي أن يتلقّاها ويفهمها بصيغتها التوجيهية لأجل تصحيح المسار السلوكي للفرد ومن ثم للمجتمع، وبالنتيجة فإن قدرة المتكلم على تصريف أنماط اللغة تبرز مظهر التبادل بين أجزاء الكلام أو الخطاب. .

ص: 264


1- ابن أبي الحديد 135/11.

وقد ينحو التوجيه منحىّ آخر في الخطاب العلوي في الإشارة إلى الترغيب والتخصيص على اتباع سلوك الهداية والاستقامة، فيقول:

( ... طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربّها فرضها وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها، في معشرٍ أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم " أولئكَ حزبُ الله الا أنَّ حزبَ اللهِ همُ المفلحونَ ") (1).

تتمثل البداية في كلمة تحمل معنى الغبطة مشفوعاً بالدعاء، على أن ما أورده النص من أعمال تقوم بها تلك النفس يشير ببساطة إلى ضرورة اتخاذ الموقف نفسه والاتجاه الوجهة ذاتها؛ لأن ذلك يعني الولوج إلى باب التوبة ومن ثم الفوز المبين.

وقد يأتي التوجيه إلى السلوك القويم عن طريق التوبيخ ودفع المتلقين إلى التنافس أو المنافسة؛ لأن الإمام علي علیه السلام أكثر معرفة بجماعة المتلقين عنه، فيقول مذكراً إياهم بعصر الإسلام الذهبي:

( ... لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شُعثا غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كان بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت عيونهم حتى تُبَلّ جيوبهم ومادوا كما يميد الشجرُ يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب) (2).

يعتمد النص على لفت الانتباه إلى الاقتداء بالنموذج أو المثل الأعلى من خلال سرد مواصفات هذا المثل الذي يبدو في هذا النص بمثابة القدوة التي ينتهي إليها مَنْ دونها لأن أولئك يُعدّونَ هم المعايير في السلوك والطاعة الإلهية. 7.

ص: 265


1- ابن أبي الحديد،226/16 سورة المجادلة (22).
2- المصدر نفسه 59/7.

إن هذا السرد في طبيعة هؤلاء الصحابة الذين ذكرهم الإمام الذي جاء بصيغة الإدلاء بالخبر دون التدخل الذاتي، إنما يشير إلى إمكانية اتّباعهم والاقتداء بسلوكهم من قبل المتلقين بوصفهم ينهجون النهج نفسه ويؤمنون بالدين ذاته، أولاً، وثانياً، إن إيضاح الخطاب بعدم وجود من يشبههم، وإن كان يمثل خيبة أمل ذاتية في ظاهرها، إلا أنها تمثل خيبة أمل جماعية انطلق الإمام في تشخيصها من تحديده لضرورات العمل المقرون بالإيمان بالعقيدة الإسلامية وبذلك خرج عن الدائرة الذاتية إلى الدائرة الجماعية في الإبلاغ موجهاً إلى ضرورة اتباع هؤلاء الصحابة ومحاكاتهم في سلوكهم وأخلاقهم، خاصة وأن الإمام قد أبرز صفاتهم الجسدية الظاهرة زيادة على إشارته إلى هذا التفاعل الروحي المقترن بحركة الجسد الذي تحدده جملتا (إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تُبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف) مما يضفي على هذا النص الإبلاغي سمة الحيوية والحركة المنتجة التي تتوجه إليها أنظار المتلقين في محاولة من الإمام للتأثير على هؤلاء بغية توجيههم على الطريق السليم الذي يعني تبني الدين بوصفه عقيدة وسلوكاً يوجب على معتنقيه التفاعل معه بإيجابية قصوى يمكن ملاحظة الإشارة إليها في النص، في قوله ( ... لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً ...)، مما يجعل المتلقي يتحسّر على مثل هذا السلوك الرفيع.

3 - الوعظية:

لا مناص من تحديد سمة الوعظية التي يتسم بها المستوى الإبلاغي في الخطاب العلوي، لا على أساس أن الوعظ هو ما يهيمن على الخطاب، إنما على أساس أن الوعظية هي جزء متمم لتنظيم طبيعة العلاقة بين العبد وربه كما أنها تنهج في اتباعها أو تطبيقها، نهجاً يختلف نوعاً ما عن سمة التوجيه، في محاولة استقراء سير الماضين والوقوف على مواطن العظة والعبرة من حيث الالتزام واللّا التزام المقرونين بالنظرية الدينية أو ما يمكن أن يصطلح عليه (بالتديّن)، لأجل إقامة علاقة ذات بعد ينسجم والنظرية الدينية في ما تتبنى من أفكار ومعتقدات عن طريق الممارسة التي يتزود بها مع الخالق من خلال المعرفة بتلك الانحرافات أو

ص: 266

السنن أو التقاليد المعروفة.

إن الوعظية تأتي في الخطاب العلوي بناءً على الطبيعة التكوينية لمنتج الخطاب أولاً، ولأن العقيدة الدينية التي يؤمن بها، يعد نفسه حاملاً لها وناطقاً عنها. كما عرفنا في الفصول السابقة - ثانياً، وبالمحصلة النهائية فإن الوعظية سمة بارزة في الخطاب العلوي لما تمثله من تذكير بالخالق ومحاكاة الوقائع التي مرّت عبر القرون للخروج بإيجابية فاعلة تترك أثرها في الحياة ربما على شكل أحكام عبادية تنمّ عن فهم خاص للشريعة لم يتوفر لكثيرين عاشوا العصر نفسه، وكل ذلك يأتي في إبلاغية تتوخى عمومية المصلحة لا خصوصيتها؛ في تعبير موضوعي يبتعد عن الذاتية أو الدعاية للذات.

يقول الإمام علي علیه السلام مبيناً أركان الدين الحنيف ومقاصدها:

(إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقام الصلاة فإنها الملّة وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جُنّة من العقاب وحج البيت واعتماره، فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب وصلة الرحم فإنها مثراة في المال، ومنسأة في الأجل، وصدقة السر فإنها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان) (1).

يتمدد النص - الخطاب في إبلاغية قصدية واضحة تتجلى في الإشارة إلى أفضلية العمل الذي يمكن أن يكون مقبولاً من الباري عز وجل؛ وهذا يبدأ بالإيمان، مما يعني أن كل شيء يفعله الإنسان المسلم لا يصاحبه إيمان بالله ورسوله يعد باطلاً في قصديته؛ لأن تراتبية الفقرات أو الجمل تشير إلى هذه القصدية، فالجهاد هو أعلى شيء في الإسلام يمكن أن يبذل فيه الفرد المؤمن نفسه، وأن الإخلاص في الدين والإيمان هو الفطرة بعينها وأن شعار المسلم هو الصلاة.7.

ص: 267


1- ابن أبي الحديد 173/7.

إن الخطاب العلوي في تعداده لهذه الأركان والفرائض وبيان القصد من ورائها، يؤكد جانباً مهماً في وعظية هذا الخطاب هو أن الإيمان بالله وبرسوله يتخذ طريقين مادياً ومعنوياً، أي أن هناك من الأعمال ما يتصل بالمردود المادي ومنها ما يتصل بالمردود المعنوي؛ إذ أن الجهاد والصلاة والزكاة والصوم والحج والصدقة تذهب إلى المعنى المادي بسبب مباشر أو غير مباشر، أما ذروة الإسلام والفطرة ونفي الفقر ورحض الذنب وإنساء الأجل وتكفير الخطيئة تذهب إلى المعنى المعنوي بسبب مباشر أو غير مباشر؛ لأن صيرورة النص تتحرك على وفق منظومة فقهية تتخذ من الوعظ سمة بارزة لها، كما أنها تنفلت من المصلحة الذاتية باتجاه الموضوعية الجماعية سعياً إلى امتلاك الحقيقة المفتوحة على استباق الفهم في الذات وفي كثافة اللغة (1) بما يشكل دائرة معارف تظهر فيها انحناءات العقيدة وسماحتها بجلاء، وبما يسهم في بيان الصورة التي يمكن أن يتلقاها المسلم عن دينه ومعتقده، مما يجعل معرفته تنساق في إطار وعظي؛ لأن (الخطاب الشفاهي يمكن للمتحدثين وجهاً لوجه أن يحيلا إلى ما يتحدثان عنه معاً، إلى العالم المحيط والمشترك) (2) في تشكيل دائرة الفكر التي تعد نبعاً تستقي منه الأفهام وبما يشيع الحياة من خلال هذه الإبلاغية الوعظية التي تنتظم عبر الوسيط (اللغة) في جدلية لغوية يمكن أن تشم رائحتها عبر النص المشار إليه سابقاً أو غيره من النصوص التي ترد في هذا المضمار في نهج البلاغة، يقول الإمام علي علیه السلام في المعنى ذاته (فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق والصيام ابتلاءً لإخلاص الخلق، والحجّ تقربةً للدين، والجهاد عزاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحةً للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الرحم منماةً للعدد والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة، وترك الزنا تحصيناً للنسب، وترك .

ص: 268


1- ينظر: اللغة والتأويل 87.
2- المصدر نفسه 77.

اللواط تكثيراً للنسل، والشهادات استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشريفاً للصدق والسلام أماناً من المخاوف والإمامة نظاماً للأمة، والطاعة تعظيماً للإمامة) (1).

إن تأسيس الإيمان يتأتى لا على أساس البرهانية القصدية؛ لأن الفهم المرتبط بحركة النص لا يذهب بهذا الاتجاه، إنما تتحدد حركة النص في سطح الألفاظ دون الغوص في معانيها العميقة؛ لأن النص يحدد فرائض وأحكاماً ويعطي في وجهه الآخر أسباباً وغائية الفعل المأمور به بما يجعل النص - كما قلنا - تتحدد حركته ومعناه في قرب الفهم دون الذهاب بعيداً في بنيته اللفظية أو السياقية، بل إن النص في عرضه الوعظي يملأ مساحة الفهم المستقبِل المبنية على وجودية الإيمان بوصفه رأس الأعمال الصالحة، وأن كل عمل من دونه يعد عبثياً من وجهة نظر الشريعة؛ لأن ذلك مرهون بالمعرفة الوجدانية للخالق عز وجل بوصفه مصدر الفيض في الهداية وجعل هذه الأعمال مسبَّبَةً منطقياً، لكي لا تبقى عرضةً للاهتزاز الفكري أو العقائدي من جهة، ولكي تصبح فيما بعد حججاً جدلية ترتبط بالوعظ كونه ينتمي إلى هذا الجانب في بعض فقراته.

قد تختلف بعض الألفاظ في النصين السابق واللاحق، إلا أن ذلك يمثل عرضاً لأفكار تتلبس بلباس أدبي يتم عرضها على جمهور عريض من المتلقين يتداخل فيها الوعظي والجدلي والفقهي، إلا أنها جميعاً تأتي باتجاه وعظي، نظراً للحالة التي يعيشها المجتمع وبما ينسجم مع البنية العامة للخطاب بوصفه يمثل رسالة سماوية، يرى فيها الإمام نفسه مسؤولاً عن ضرورة إيجاد النموذج الذي يحتذى؛ لأن ذلك يمثل عرضاً لمختلف الأسئلة المحركة للقضايا الإيمانية مما يحول الجدل من أسئلة تبحث عن أجوبة إلى إجابات مقنعة تحتاج إلى تطبيق عملي لكي تنتج مجتمعاً ناضجاً ذا توجّه صحيح يعظ بعضه بعضاً وهو يطلق عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يقول الإمام في ذلك بعد أن يسرد وصاياه في 9.

ص: 269


1- ابن أبي الحديد 76/19.

ضرورة الحفاظ على تلك الفرائض:

( ... وعليكم بالتواصل والتباذل وإياكم والتدابر والتقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيُولّى عليكم شراركم ...) (1).

إن تحقيق الغاية الوعظية من خلال الخطاب يمثل غائية المستوى الإبلاغي في الخطاب العلوي كونه ينسجم مع معطيات النظرية الأخلاقية الإسلامية التي جاءت سواءُ عن طريق الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أو القرآن الكريم والشواهد على ذلك كثيرة، لاسيما إذا عرفنا أن (الخطابة تعليق للحقيقة وفتح للذات على المعنى المستعاد من قبلها) (2)، لأن الخطاب حمل إشارات للفهم أو مفاتيح لمنافذ لتفكيك البنية العامة للخطاب، وهذا يعني أن الغاية المتحققة من وراء الخطاب تمثل ملمحاً دالاً لدى المتلقين للاندماج في دائرة الإيمان التي يسعى الخطاب العلوي إلى إحكامها من خلال التنظير لها وبيان جدلية الاتّباع وأحقيَته في الإيمان به.

ثانياً - المستوى الإفهامي: (مفهوماً واصطلاحاً).

لعل المفهوم العام للفظة (الإفهام) يتعلق بالمرسل نفسه دون المتلقي، أي أن دائرة التحليل تنفتح على الرسل والرسالة دون النظر إلى المرسل إليه، كون فعل الإفهام واقع عليه، إلا أن ذلك يعد من وجهة نظرنا قتلاً للعملية الإيصالية التي تبنى على مرتكزاتها الثلاث التي تحددت بمثلث - أصبح معروفاً - أضلاعه المرسل والمرسل إليه وما بينهما هي الرسالة، وهذا يعني أن عملية الإفهام لا تقع على طرف واحد وإنما ينهض بها الطرفان بوصفهما فاعلين في العملية الإيصالية أو الإفهامية؛ لأن (معنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلّم السامع بها شيئاً لا يعلمه) (3) أو قد أشكل عليه الفهم، فكان محتاجاً إلى الإفهام الذي هو بمعنى الإيضاح والشرح والتفصيل، وبهذا يكاد المعنى الاصطلاحي أن يقترب من المعنى

ص: 270


1- ابن أبي الحديد 7/17.
2- اللغة والتأويل 103.
3- دلائل الإعجاز 375.

المعجمي، بل ربما يتطابقان، وهو ما أشارت إليه بعض المعجمات في مفرداتها (1)، كما أن فعل الإفهام يستوجب أن يكون لدى المتلقي استعداد لذلك؛ لأن الخطاب (هو حسب أصل اللغة توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، واللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه ...) (2)، وبهذا يتم المعنى الذي أشرنا إليه قبل قليل في أن المتلقي يجب أن يكون واعياً لما يسمع أو أو يرى من خطاب، بما معناه أن العجز الناتج عن التفاعل مع أحداث الخطاب، بإيجابية، إنما يمثل وأداً - دون وجه حق - لكثير من الأفكار التي تحملها الرسالة من المرسل إلى المتلقي، إلا أن ذلك لا يعني أن الجمهور يمتلك وعياً واحداً متساوياً في مرتكزاته الذهنية وآفاقه المتطلّعة إلى أهداف وغايات قد لا تتناسب ومتبنيات الخطاب في إفهاميته، بل قد تبتعد عنه في مناورة تحركها الدوافع الذاتية الضيقة، بعيداً عن مصلحة المجموع والرؤية المحركة لذلك تنشد من ورائه وضع الموانع أمام هذا الخطاب.

إن اعتماد المشافهة في الخطاب العلوي، ولاسيّما مع المجموع بشكل كثيف في نهج البلاغة لأن (الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار) (3)، مما يكسب المشافهة أو الخطاب الشفاهي أهمية قصوى في المستوى الإفهامي؛ لأن من (يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً ولكل حالة من ذلك مقاماً حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات) (4) بغية الوصول إلى إفهام هذه الطبقات من السامعين، إنما يمارس عملية الخطاب بأدق حالاتها، كما أنها ستكون صعبة للغاية وسط طبقات متعددة من المتلقين سواءً كان ذلك من جانب الوعي، أم من جانب التفاعل مع الخطاب، وأن كلا الجانبين يعدّان ضروريين في المستوى الإفهامي للخطاب. 1.

ص: 271


1- ينظر لسان العرب مادة (فهم).
2- كشاف اصطلاحات الفنون 175/2.
3- الوساطة بين المتنبي وخصومه 412.
4- البيان والتبيين 138/1.

إن الوظيفة الإفهامية التي يضطلع بها الخطاب العلوي في نهج البلاغة، تتعلق بالآخر أو المتلقي الذي يتوجب على صاحب الخطاب أن يفهمه أمراً يلفت انتباهه إليه، وقد تتداخل الوظائف في المستوى الإفهامي في الخطاب العلوي، تبعاً للموقف الذي يملي على الإمام اتخاذ موقف معين أو حادثة تأريخية تتطلب الإشارة إلى مرجعيتها مكانياً أو زمانياً، أو ما تعنيه سواء كان ذلك من جانب اللغة أو التفسير أو الإشارة إلى تأويل بعض الآيات القرآنية التي ربما أشكل معناها على جمهور المتلقين فمثلاً نجد الإمام علي علیه السلام حينما يذكر النبي موسى علیه السلام ويشير إلى مخافته التي يذكرها القرآن الكريم بقوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ) (1)، يعطي هذه الآية تفسيراً وتأويلاً يذهب بعيداً عن السياق الظاهري الذي تنتظم فيه الآية مما دعا ابن أبي الحديد إلى أن يقول في شرحه للنهج (هذا كلامٌ شريف جداً) (2)، وقد وردت الآية في ثنايا كلام الإمام بصيغة النفي والجزم فقال (لم يوجس موسى على نفسه خيفة، أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال) (3) رغم أن القرآن الكريم أوردها بصيغة الإثبات، إلا أن الإمام أخرجها من دائرة التأويل القريب الذي يعد طعناً وشكاً في نبي وشكاً في نبي الله موسى علیه السلام إلى التأويل البعيد بما يتناسب ومكانة النبي موسی علیه السلام، فقد أشار إلى أن خيفته لم تكن على نفسه، إنما كان مشفقاً من الفتنة التي ستقع حين يلقي السحرة عصيهم في القصة التي أوردها القرآن الكريم.

إن هذا الانتقال في التأويل من الظاهر البسيط إلى العميق الواعي، إنما يمثل ملمحاً بارزاً من ملامح المستوى الإفهامي في الخطاب العلوي لشعور الإمام بأهمية إفهام المتلقي بالركائز الصحيحة في التأويل، لخطورة ما يرد على أذهان الناس وأن ذلك سيجري لديهم على كثير من الذي يتبنّونه من أفكار أو معتقدات ربما تسبب إساءة إلى المعتقد الديني أو تنتقص من رموز هي في حقيقتها تمثل مشاعل مضيئة في طريق الحق، على أن الإشارة إلى ورود النص القرآني بصيغة .

ص: 272


1- سورة طه الآية (67).
2- ورد ذلك في شرحه للنص 202/1.
3- ابن أبي الحديد 199/1.

الإثبات والنص العلوي بصيغة النفي لا يعني التعارض بين المفهومين، إنما لبيان المفهوم الأحق بالاتباع والتأويل الصادق لإبعاد شبهة الخوف عن نبي الله موسی علیه السلام تعظيماً لمنزلته وتشريفاً لشخصه وتبياناً لكيفية التعامل مع النبوات السماوية والأنبياء بأشخاصهم وسلوكهم، كما أن هذا التأويل يوحي بأن الأنبياء هم أشخاص مصطفون وقد اجتباهم الله عز وجل وهم مسددون؛ لأن الإشارة إلى هذه الحالة النفسية التي تنتاب الفرد العادي لن تنتاب الفرد - النبي بوصفه شخصاً يتصل بسبب إلى السماء.

وقد يتبنى الخطاب العلوي في مستواه الإفهامي منطلقات الرد على تساؤل بعض الصحابة أو أسئلتهم، إذ يجيب أحدهم حين سأله عن الإيمان، فقال:

(الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد والصبر منها على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهد والترقب؛ فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.

واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين. والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم وغور العلم، وزهرة الحكم، ورياضة الحلم، فمن فَهِمَ عَلِم غور العلم، ومن علم غور العلم صَدَرَ عن شرائع الحكم، ومن حَلُمَ لم يفرّط في أسره، وعاش في الناس حميداً.

والجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شَنِئ الفاسقين وغضب الله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة) (1). 8

ص: 273


1- ابن أبي الحديد 113/18

يقوم المستوى الإفهامي في هذا النص على مبدأ التنويع في حقول فهم العمل العبادي التي تتمثل في شعب الإيمان الأربع، وهذه الشعب تنفتح على أفق أوسع في الوعي الديني لتضرب في عمق الارتباط بالمنهج التعبدي الواعي، على أن الحصيلة المتوخاة من وراء ذلك هي انطلاق العمل العبادي من منهجية واعية ملتزمة بالشرائع بوصفها نمطاً سلوكياً صالحاً للتطبيق زمانياً ومكانياً؛ لأنها لا تنظر إلى المتلقي على أساس اعتبارات عرقية أو لونية أو أي شيء آخر، إنما على أساس الانتماء الديني - إن صح التعبير - ليس إلّا.

إن إحالات المعنى في النص، تتوقف على أساس الانتقال في فهم الإيمان وقيمه التطبيقية والفكرية بحسب التدرج الذي يرتبه النص؛ لأن الاندماج المعرفي في مصطلحات النص التي تتفرع بشكل شبكة دائرية من المفاهيم السلوكية المرتكزة على فهم رصين إنما يمثل (منظومة الحدث الكلامي) (1) التي تفضي إلى أن تكون الوظيفة الجزئية مقرونة بالمعرفة الكلية على أساس من منطقية الأشياء وبرهانية الأسباب كما يشير النص نفسه.

إن الترابط الوظيفي بين مفهوم الإيمان وبين هذا التشعب في مصطلحاته ونظام أفكاره أو ما يسمى بِ (المنطق الثقافي) (2)، يهدف إلى وحدة خصوصية وبنائية لتكوين نظري معطى القوة النظرية لنوع الأسئلة التي يطرحها الخطاب عن موضوعة الإيمان لأن الإجابة عن سؤال السائل تحتمل أسئلة شتى تتعلق بوعي السائل أو (المتلقي) ومدى إمكانية التطبيق لما شرعه الخطاب من بنية فكرية وعقائدية يرتكز عليها مفهوم الإيمان، وبالنتيجة يقوم عليها المستوى الإضافي في الخطاب العلوي؛ لأن غاية الخطاب تتحدد عبر مستوياته مجتمعة في أداء متناغم، وفي بناء منسجم محكم.

سمات المستوى الإفهامي

لا بد من البحث في سمات المستوى الإفهامي بوصفها المنقذ الذي يجب ولوجه لمعرفة طبيعة الخطاب العلوي في مستواه هذا أولاً، ولأن السمات هي التي

ص: 274


1- التفكير اللساني في الحضارة العربية 336.
2- في أصول الخطاب النقدي الجديد 53.

تعطي هذا المستوى من الخطاب أبعاداً في تأصيل الفهم لدى المتلقي، ثانياً، زيادة على ما تؤشر إليه هذه السمات من حركية في محاولة سبر أغوار العمق الدلالي للنص بغية النفاذ إلى إمكانية حدسية لتمييز مختلف الأشكال الذاتية للوعي) (1)؛ لأجل التوصل إلى قراءة صحيحة للخطاب العلوي في تجليه اللغوي بمستوياته كافة ومنها المستوى الإفهامي.

ويمكن تأشير السمات الآتية التي تبرز في المستوى الإفهامي من الخطاب

1 - الإيضاح:

لعل الإيضاح الذي يعمد إليه الخطاب العلوي يندرج في إطار صياغة المفهوم العام النظري للدين أو للمنظومة الدينية وفقاً لما تمليه الحاجة من إعادة تنسيق المفاهيم وإظهارها بالشكل الذي يراه الإمام صحيحاً للمتلقي، وعليه فإن استقراء الخطاب العلوي يجعلنا نقول إنه (يتضمن معناه في داخله؛ لأن شكله اللساني يتضمن بنفسه ذلك المعنى ويحتويه) (2)، وبذلك فهو يحقق هدفين في آن معاً، أولهما، أن الخطاب العلوي أراد تجاوز حدود الزمان والمكان في سياقاته الثقافية فضلاً عن إيمائيته الناطقة من بين الكلمات وثانيهما، تحفيز المتلقي إلى إعادة قراءة الدين بشكل دقيق وصحيح، يقول الإمام علي علیه السلام في ذلك حينما سمع بعض أصحابه يسبون أهل الشام في معركة صفين:

(إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به) (3).

يتناول النص ظاهرة عرفية تكاد أن تكون قانوناً يُحتفى به أو يتسابق الناس إلى تطبيقه وهذه الظاهرة هي ظاهرة (السباب) بين الفرقاء أو الخصوم - أياً كانوا .

ص: 275


1- اللغة والتأويل 24.
2- المصدر نفسه 27.
3- ابن أبي الحديد 19/11.

فهم ليس لديهم سوى أن يسبّوا بعضهم بعضاً وأن يتشاتموا فيما بينهم، وأحسب أن غرض الهجاء في الشعر قد أخذ يمتح من هذه الظاهرة وأن يتبناها في ثنايا قصائد الشعراء، وإن استمزاج الرأي الحصيف ينبئ عن قابلية فكرية تستبطن الخطاب العلوي في وضوحه وتوجيهه إلى ضرورة اتباع منهج جديد تكاد الجزيرة العربية لم تألف مثله آنذاك لأن ذكر أعمال الآخر وبيان صفته أقدر على إقناع الجمهور وتعريفهم بمكامن الخطأ والصواب لدى الأطراف المتقابلة؛ إذ أن المنحى هو إعادة صياغة الفكر الاجتماعي القائم على أهداب ثقافة غائمة وتحويل وجهته باتجاه بناء ثقافة واضحة وصريحة بغية تنمية الفكر لدى المجتمع بشكل صحيح، فالإمام حين يقول (ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر) فهو يوضح الأسلوب الواجب اتباعه في إظهار الحقائق للناس، ويعقب بعد ذلك (وقلتم مكان سبّكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم) في محاولة منه لاستبدال النظام اللغوي الذي تنتهجه هذه الظاهرة الاجتماعية التي أشرنا إليها آنفاً بنظام لغوي آخر ينتمي إلى ظاهرة حضارية أراد دفع المجتمع إليها وباتجاهها؛ لأن معرفة الألفاظ في سياقها العام الجديد يمنحها فاعلية ثقافية أكثر مما يمكن أن تنتمي إلى الذاكرة التي تحاول أن تستبق الفعل اللغوي مما يعني انهيار المنظومة الفكرية وإلى ذلك يشير الإمام في بناء الظاهرة الحضارية الجديدة فيقول (حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به) وبذلك تتبين الغايات والأهداف التي سعى إليها النص.

وفي مكان آخر يقول الإمام لتوضيح العلاقة الجدلية بين الدنيا والآخرة، لغرض إنشاء طبقة اجتماعية تتبنى مفاهيم الحب والإيثار لا الاستئثار بالسلطة والأموال فيقول:

(إن المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ لله آباؤكم! فقدّموا بعضاً يكن لكم قرضاً، ولا تخلفوا كلّاً فيكون فرضاً عليكم). (1)

إن هذا التعارض بين الألفاظ يعني تعارضاً في المعاني والمفاهيم التي بني .

ص: 276


1- ابن أبي الحديد 5/11.

عليها النص، فإن استعماله (ما ترك) ومن الجانب الآخر (ما قدّم) يعني تقاطعاً حاداً بين مفهومين متضادين عمودياً وأفقياً، وأن ما بين (تَرَكَ) و(خَلَفَ) بون شاسع من المعنى الذي يقيّده السياق ويطلقه الاستعمال الجملي في دلالاته العميقة التي تبحر في سواحل الألفاظ بما يطلق عليه (المفهوم الكلي) (1) الذي يتمسك به النص في مفهومه العام؛ لأن إسناد القول (ما ترك) إلى الناس يعد نظرة قاصرة وقصيرة الأجل في الوقت ذاته، وإن إسناد القول (ما قدّم) إلى الملائكة يذهب بعيداً في تلافيف الماورائية التي تعني الصلة اللامرئية المتمردة زماناً ومكاناً وتلتصق مباشرة بالكلي الذي يستوعب كل شيء.

وإلى هذا المفهوم ذهب الإمام في قوله (أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل ... أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء ومن خالف وقع في

التيه) (2).

إن الخطاب باستعماله لجملة النداء (أيها الناس) يعقبها بعد جملته الإنشائية (لا تستوحشوا في طريق الحق لقلة أهله) مستعملاً كلمة (الناس) في جملة خبرية إنما أراد في الأولى الجزء وأراد في الثانية الكل، وهذا التضاد بين (شبعها قصير) و (جوعها طويل) يترجم الحالة التي أشرنا إليها آنفاً كما أن استعماله لجملة النداء (أيها الناس) مرة أخرى يحمل من الدلالة الموضعية - إن صح التعبير - لغرض الإحالة إلى معنى يتطلبه واقع الخطاب، ولكي يعطي الكلام بعداً عبر زماني، قال (من سلك الطريق الواضح ورد الماء)؛ لأن ورود الماء يأخذ غايته الزمنية من السلوك البشري للطريق الصحيح، كما أن الانحدار أو الوقوع في دائرة التيه يمثل نمطاً خارج نطاق التصور السوي، فهو يقول (ومن خالف وقع في التيه) إذ يبدو لي أن هناك حذفاً في هذه الجملة؛ لأن المخالفة تتم لشيء معلوم وليس لشيء مجهول وهذا يعني أن القصدية واضحة في المخالفة؛ مما دعا الإمام إلى أن يصف المخالفة .

ص: 277


1- الصيغة الإنسانية للدلالة 168.
2- ابن أبي الحديد 201/10.

بأنها وقوع في التيه وهو يحمل من الدلالة الزمنية المنفلتة شيئاً كثيراً.

وقد يبحث الخطاب في مرتكزات في الشريعة لكي يجعل منها منطلقاً إفهامياً، أو أن يجعله بمثابة الحد الذي ينفتح على أشياء جديدة تمثل إغناء للفكرة الأصلية، فيقول:

( ... ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام، فمن أعطاها طيب

النفس بها فإنها تجعل له كفارة ومن النار حجازاً ووقاية فلا يتبعنّها أحدٌ نفسه ولا يكثرن عليها لَهَفَه، فإن من أعطاها غير طيب النفس بها، يرجو بها ما هو أفضل منها، فهو جاهل بالسنة مغبون الأجر، ضال العمل، طويل الندم ...) (1).

فالزكاة هي قربان المسلم وهي مشروطة بطيب النفس بما يضمن للمسلم الذي يعطيها كفارة للذنوب و وحاجزا ووقاية من النار يوم القيامة، ثم يعود يعود الخطار ليوضح الحالة النفسية التي قد تنتاب أولئك الذين لا يعطون الزكاة عن طيب خاطر، مما يعني بالنتيجة أن ذلك جهل بالسنّة؛ إذ يفضي إلى الأجر المغبون، كما يدل على ضلالة العمل وطول الندم في الآخرة.

وقد يرى الخطاب العلوي في أسلوب الالتفات في الخطاب طريقاً للفهم والإفهام والوضوح في أداء الرسالة التي يروم الخطاب إيصالها، كما في قوله:

( ... إن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم ونهارهم لطف به خبراً، وأحاط به علماً) (2) ثم ينتقل مباشرة من الخطاب عن الغائب إلى الخطاب مع الحاضر وهذا يسمى أسلوب الالتفات (3) في الخطاب فيقول (أعضاؤكم شهوده وجوارحكم جنوده وضمائركم عيونه وخلواتكم عيانه) (4)، فالخطاب توجه به إلى الجماعة الحاضرة بالرغم من أنه كان يتكلم عن الجماعة الغائبة؛ لأن هذا الانتقال في الخطاب يقول عنه البلاغيون إنه لغاية (5) أو .

ص: 278


1- ابن أبي الحديد 158/10.
2- المصدر نفسه 159/10.
3- المثل السائر 135/2.
4- ينظر: المثل السائر 136/2.
5- التفكيكية 60.

رسالة أراد الخطاب إيصالها.

إن استعمال الخطاب لهذه الجمل القصيرة في تكثيف الفكرة لدى المتلقي وإيضاح المطلوب منه من خلال عرض الجمل المضادة التي تشير إلى ما يسمى السلوك البشري عن طريق استقراء لواقعية الصور الاستعارية في النص وهو ما يدعوه هوسرل بِ (المعنى الحقيقي) (1) الذي يستبطن الجمل المكونة للنص، إنما يشير إلى أن إمكانية الخطاب في استعمال أقل الألفاظ في معنى يطول الحديث عنه، لكن ذلك لا يلغي وضوح الخطاب ومستواه الإفهامي المتقدم في الطرق على أسماع المتلقي واستفزازه بطريقة تنتمي إلى العنف اللغوي (2)، بل يقرع الأسماع بتلك الألفاظ التي تستبطن اللوم والتقريع والتوبيخ في الوقت الذي يظهر على شكلها الخارجي انسيابيتها اللغوية وانسجامها الصوتي وتأديتها للمفهوم المراد في تجاذب حركتها السياقية مع الفهم العام بما يجعلها مقبولة ومستساغة.

2 - التفصيل:

إن انتظام عناصر الخطاب (انتظاماً مخصوصاً يسمح باستكشافها طبق معايير مختلفة) (3) إنما يمثل بنية في الخطاب العلوي يقوم عليها في مستواه الإفهامي بما يتشعب فيه وفي طبيعة هي أقرب إلى الانشطار الفكري الذي يأخذ حيزه اللفظي في مرحلة متقدمة غايته الاقتراب من ذهنية المتلقي، ومحاولة دفعه باتجاه التفاعل مع الخطاب نفسه كما في قوله حين سمع أحد الحاضرين يقول (أستغفر الله):

(ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها، والخامس 8.

ص: 279


1- ينظر عنف اللغة 28 مقدمة المترجم.
2- ينظر: المصدر نفسه 28، مقدمة المترجم.
3- النقد والحداثة 78.

أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول "استغفر الله ") (1).

يعتمد الخطاب إنشاء بنيات داخلية داخل البنية الكبرى الغاية من ذلك - كما أرى - محاولة إشاعة الفهم لدى المتلقي وتوجيهه بشكل صحيح إلى حيث ما مطلوب منه، هي من من البواعث الرئيسة للخطاب لملء فراغ الفهم لدى الآخر، فأول ما يبدأ به النص أو الخطاب هو أن الاستغفار درجة العليين، وهذا يعني أنَّ هذه الدرجة ليست في متناول الجميع بل هي لها ركائزها التي تقوم عليها، وأول هذه الركائز هو الباعث النفسي فإن حالة الندم على ما فعل الإنسان وعزمه على ترك ذلك، مقرون بعدم العودة إليه مطلقاً، يمثل حالة نفسية يتأسس عليها فعل آخر وهو فعل الاستبراء إن صح التعبير؛ إذ يشير بصراحة إلى تأدية الحقوق إلى أهلها، وهذه الحقوق ربما هي مادية أو ربما هي معنوية، فلا تتم عملية الاستغفار إلا باتباع هذه المراحل التي حددها الخطاب، وهذا يعني أن الإمام علي علیه السلام يسعى في خطابه إلى بناء مفهوم قائم على أساس التعامل بجدية مع الأشياء، والمقاربة الواعية للعمل التعبدي الذي يقوم به الفرد المسلم؛ لأن الإمام معني بطرح هذه الأفكار في كل مناسبة تسنح له الفرصة في بيان ذلك. فنرى أن النص لا يفارق جانباً من مرتكزاته التي يقوم عليها وبتمامها تكون عملية الاستغفار ممكنة؛ لأن عملية اشتقاق المعاني من بين جمل النص وإنتاجها النص المكتمل من حيث الشكل والمضمون تمثل عقدة الفهم في الخطاب العلوي، فهو دائماً يغلف الخطاب بستر رقيق من الغموض مما يعني (ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه) (2) لتحريك فهم المتلقي باتجاه الحوار مع الخطاب العلوي؛ لأنه (بناء وتركيب وتأليف وصياغة، وأن هذا البناء هو كلٌّ متكامل ... وجوهري في قيمه الدلالية) (3) التي يحاول الخطاب تأصيلها عن طريق السياق اللغوي بما يضمن التعبير عن حاجة المجتمع إلى التواصل في .

ص: 280


1- ابن أبي الحديد 47/20.
2- استقبال النص عند العرب 271.
3- في بناء النص ودلالته 4.

تصحيح الأفكار ومن خلالها تصحيح السلوك الاجتماعي العام بإشاعة المفاهيم لبعض الأفراد أمام الجمهور مما يعني إيصال الرسالة عبر قنوات متعددة.

وكما أن الخطاب يمارس مهمة التأسيس لمكوناته، فإنه يبني بعض تراكيبه على أساس التوليد أو التوالد الجملي - إذا جاز الوصف - بما يضمن استمرارية الفكرة التي تهيمن على الخطاب من جهة وديمومة الانشداد الذهني من قبل المتلقي من جهة أخرى، يقول الإمام علي في بيان مراحل البلاء:

(ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب ...) ثم يعرج مباشرة إلى بيان مراحل النعمة فيقول (ألا وإن من النعم سعة المال وأفضل سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب) (1).

إن توالد الأفكار الذي أشرنا إليه آنفاً، يمكن ملاحظته من خلال النص السالف الذكر؛ إذ بني النص على أساس الانحدار في مراحل البلاء التي وصفها الخطاب بأن بعضها أشد من بعض حتى يصل إلى أشدها وهو مرض القلب الذي لا يعني به المرض المعروف إنما يعني به مرض الكفر والشرك بالله عز وجل، في الوقت الذي يتدرج فيه الخطاب في وصف مراحل ترقّي النعم إلى أن تصل إلى أفضلها التي هي تقوى القلوب ويعني بها الهداية والإيمان، وبذلك فإن الخطاب العلوي يقيم ثنائية ضدية تتدرج في اتجاهين متعاكسين تماماً، من دون الإخلال بوصف أي اتجاه الأمر الذي يوفر للمتلقي حرية الاختيار القائم على مستوى الوعي والفهم للمهمة الكبرى التي أنيطت بالإنسان المسلم، ومحاورة العقل المنتج للخطاب والاستفادة منه في (نسق قائم على الوحدة الدلالية لِ (الجمل المركبة) من خلال العلاقات المتبادلة بين أجزائه، ولا يقوم هذا النسق على العلاقات المتوافقة فحسب، بل يقوم - بالمثل - على الاختلافات) (2) بين هذه الجمل؛ إذ أنها تنحو باتجاه المعنى الذي تعطيه أو تؤشر إليه من خلال سياقها الذي تنتظم فيه مما يجعلها متضادة تبعاً للمعنى الذي تؤديه، كما في النص المشار إليه آنفاً. .

ص: 281


1- ابن أبي الحديد 276/19.
2- اللغة المعيارية واللغة الشعرية 38.

إن الخطاب العلوي يشير إلى كثير من الحقائق التي يشوبها الغموض، إلا أنها - من وجهة نظر الخطاب - تحتاج إلى البحث والتنقيب وإن من واجب العقل البشري أن يسأل ويتساءل عن ماهية هذه الحقائق ومحاولة تصورها وإدراكها وكيفية حدوثها، ومن هذه الحقائق التي أشار إليها الإمام علي علیه السلام هي مسألة الخلافة، فإنه أراد أن يصحح ما قد درج لدى المجتمع، وأن يعيد صياغة المفهوم العام عن أحقية الخلافة لمن! فيقول:

(أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلّي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده:

شتَانَ ما يومي على كورها *** ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدّ ما تشطّر ضرعيها ...

... حتى إذا مضى لسبيله - يعني عمر بن الخطاب - جعلها في ستة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى

صرت أقرن إلى هذه النظائر! ... فصغا رجلٌ منهم لضغنه ومال آخر لصهره مع هنٍ وهن إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته ...) (1). .

ص: 282


1- ابن أبي الحديد 154/1 وما بعدها.

بني هذا النص على محاور في الخطاب، بعضها موضوعي وبعضها ذاتي أما الموضوعي هو تناوله لأمر الخلافة فابتدأه بالقسم مما يشير إلى أن الخطاب يطمح إلى إعادة صياغة الأفكار والأحداث بشكل جديد، ثم أشار إلى محور ذاتي يقول فيه (وإنه ليعلم أن محلّي منها محل القطب من الرحا) وهذا تفريع على ما سبق؛ إذ أن الخليفة أبا بكر يعلم أن محل الإمام هو أنه قطب الخلافة، وهذا دليل ثباته وحركة الآخرين حوله، كما أنه يشير إلى أنه لا يمكن للطير أن يرقى إليه في إشارة إلى علو شرفه وهكذا فإن الأولى بالاتباع الثابت لا المتحرك، بما فيهما من معان، وهذا يستبطن معنى جديداً أن الإسلام يحتاج إلى من يفهمه فهماً عُلوِياً انتهالياً من الأعلى لا بحثاً عنه عند الآخرين وهذا المنحى الانحرافي عن الثابت أو القطب - كما يراه الإمام - سيولد ثقافة وفهماً منحرفاً في المجتمع، أشار إليه بقوله ( ... أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ...) مما يعني أن الالتفاف الزمني حول هذا المنحى الانحرافي سيبعد ويطول مع الأجيال، الأمر الذي يؤسس لثقافة انحرافية تذهب بالمجتمع بعيداً عن جادة الصواب، وقد بيّن الخطاب أن ذلك ما كان ليحصل لولا أن العلاقات الاجتماعية كانت ذات أثر كبير في توجيه الخلافة وتناولها بين البيوتات القرشية.

3 - التكرار:

عرّفه العلماء بأنه (الإتيان بشيء مرة بعد أخرى) (1) غايته الإفهام والتفهيم

وبيان الحاجة إلى ترداد الكلام، لأكثر من مرة وهو ما عناه ابن منظور في قوله بأن الكر الرجوع إلى الشيء (2)، لأن التكرار (يعد عاملاً مهماً في التدليل على المعنى زيادة على ما هو متعلق بالتركيب الجملي الذي يعد هو الآخر فاعلاً في توجيه المعنى توجيها) (3) يتوخاه النص ويسعى إليه. .

ص: 283


1- التعريفات 98.
2- لسان العرب مادة (كرر).
3- أدب عبد الله بن المقفع - دراسة أسلوبية - رسالة ماجستير، 21.

إن التكرار قد لا يحدث بشكل لفظي، أي أن تتكرر الألفاظ نفسها، إنما يكمن ذلك في تكرارية المعنى الذي يدور حوله النص، أو النصوص؛ لأنه (ذو مدلول غايته الإفهام والإيضاح مرة والانحراف بالدلالة إلى معنى آخر يقتضيه السياق مرة أخرى) (1)، ونتيجة لذلك، فإن التكرار الذي يحصل في المعنى وإن كان هناك صياغات لفظية جديدة، إلا أن ذلك لا يقدح في المعنى أو يغض منه دلالةً وإيضاحاً وإفهاماً؛ لأن إخراج المعاني بلباس جديد يعطيها من الطرافة والجدة شيئاً كثيراً، كما أنه يكون سبباً لتقبل المتلقي للمعنى في حلّته الجديدة ويجعله متشوّقاً لسماعه.

يقول الإمام علي علیه السلام في وصف القرآن الكريم (وكتاب الله بين أظهركم ناطقٌ لا يعيا لسانُه، وبيتٌ لا تهدم، أركانه، وعزّ لا تهزم أعوانه) (2).

فهو ناطق بآياته وقصصه التي تُتلى على الناس كل يوم وبذلك يكون ناطقاً فصيحاً، وهو بناء شامخٌ لا يمكن أن تقع أركانه أو تهدم، وهو عز لمن اعتزّ به وخدمه وحمله حقاً، ثم يصفه بهذا المعنى إلا أنه يأتي به بشكل آخر في ألفاظه فيقول:

(وعليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين والنور المبين، والشفاء النافع، والرّيَ النافع والعصمة للمتمسّك والنجاة للمتعلق، لا يعوجٌ فيقام ولا يزيغ فيستعتب ولا يُخلِقُهُ كثرة الرد وولوج السمع من قال به صدق، ومن عمل به سبق) (3).

وهكذا فإن المعنى المراد هنا هو المعنى ذاته الذي ذكره في النص السابق إلا أنه ذكره هنا بشيء من التفصيل أما هناك في النص السابق فقد أجمل في ذكره مما يعني أن الخطاب أن الخطاب مادام غايته الإفهام والإيضاح فهو يتوسل عن طريق اللغة وبما .

ص: 284


1- المصدر نفسه 22.
2- ابن أبي الحديد 209/8.
3- المصدر نفسه 155/9.

تختزنه من طاقات لفظية أو معنوية تتماس مع الواقع من خلالها، مما يجعل الخطاب يعيد تشكيل المفاهيم بصياغاته الجديدة بتوسط الذات والموضوع بوصفهما يمثلان وجهين لعملة واحدة وأن كلاهما ينطق عن الآخر، حينها يصبح الخطاب وعياً ذاتياً مقترناً بأسلوب تغييري يقوم على استعادة الموضوع كلما سنحت الفرصة لذلك بغية تحقيق فهم بدرجة أعلى وهو ما يطمح إليه الخطاب العلوي في مستوياته كافة، يقول الإمام:

( ... ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم ...) (1).

وبهذا النص يكرر المعنى الذي أراد توصيله إلى المتلقي من أن الذات والموضوع هما يمثلان شيئاً واحداً إن القرآن ناطق، لكن كيف يكون نطقه؟ إذن نطقه يتم عبر ذات ترى نفسها هي الناطقة عنه، يقول يقول عن هذا المعنى ذاته:

( ... وإني لمن قومٍ لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار عُمّار الليل ومنار النهار متمسكون بحبل القرآن يحيون سنن الله وسنن رسوله ...) (2).

فإذا جمعنا هذا النص إلى سابقه، نجد أن المعنى واحد، بل أضاف إليه بعداً آخر ينتمي إلى السلوك العملي وهو إحياء السنن الإلهية وسنن الرسول، مما يوفر معنی مضافاً ينبثق من بين ثنايا التركيب، يمكن ملاحظة ذلك بعد ربط الإحالات التي وردت في النص بعضها ببعض بشبكة تخطيطية ليتبيّن لنا أن هؤلاء القوم يتصفون بهذه الصفات خاصة إذا عرفنا أن هذا النص قد جاء في سياق أعم يتكلم فيه الإمام في ذم الكبر وإبليس وتركه السجود لله عز وجل وتحذير الناس من سلوك طريقته، ونتيجة لذلك فإن الخطاب العلوي يعيد رسم هيكلية الإيمان على وفق ما يراه صحيحاً ومنسجماً مع مبادئ الشريعة الإسلامية؛ إذ يصف أولياء الله والقرآن .

ص: 285


1- ابن أبي الحديد 167/9.
2- ابن أبي الحديد 160/13.

بأنهما صنوان لا يفترقان وأن هؤلاء هم ينطقون عن القرآن؛ لأنهم تعلّموا منه و درسوه واستظهروه ولم يشغلهم سواه، فقام الكتاب بهم و به عملوا فأحيوا ما أحيا وأماتوا ما أمات من السنن البالية والأحكام والأعراف التي تتعارض وهذا الكتاب فيقول:

(إن أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس إلى ظاهرها واشتغلوا بأجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، ورأوا استكثار غيرهم منها استقلالاً، ودركهم لها فواتاً أعداءُ لما سالم الناس، وَسَلَّمُ لما عادى الناس بهم عُلِمَ الكتاب وبه عُلِموا، وبهم قام الكتاب و به قاموا ...) (1).

إن تركيب النص - الخطاب قد اعتمد على التضاد الثنائي الذي أسهم في تثبيت المعنى الذي يسعى إليه الخطاب، زيادة على أن التراكيب قد تعانقت من خلال حرف العطف الذي يعد هنا رابطاً أساسياً برز في النص بوصفه ركيزة في المعنى، كما أن الصيغة الإخبارية التي جاءت بها جمل النص جعله نسيجاً واحداً بتفصيلاته ليصبح كلّاً واحداً يؤدي معنى كلياً عمل الخطاب على تأويله إلى المتلقي لأجل إفهامه أهمية القرآن الكريم والحاملين له العاملين به.

كما يمكن أن نرى توجيهاً آخر لتكرار المعنى فى وصف القرآن وهو ما أشار به الإمام علي علیه السلام على عبد الله بن عباس حين أرسله لمحاججة الخوارج إذ يقول:

( ... لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً ...) (2).

إن الإشارة التي تحملها الجملة الخبرية (فإن القرآن حمّال ذو وجوه ...) بعد ما سبقتها جملة النهي الإنشائية إنما تؤكد ما في القرآن من معانٍ ظاهرة وأخرى .

ص: 286


1- المصدر نفسه 67/20.
2- ابن أبى الحديد 56/18.

عميقة، وأن هذا التماهي بين الظاهر والعميق في النص القرآني يتيح المجال لأكثر من قراءة بل ربّما تتعامد القراءات للنص ولم تصل إلى ما يريده النص القرآني وهذا ما دعا الإمام إلى أن يجعل ابن عباس يحاججهم بالسنة النبوية لوضوحها وكونها هي التي تترجم المعنى القرآني الأقرب إلى ذهنية المتلقي المسلم، كما أنها تتناغم والفطرة الإنسانية؛ لأن الدافع النفسي لهؤلاء في التعامل مع النص القرآني يجعلهم يرتكزون إلى رأيهم الذي به تأوَّلوا القرآن الكريم على العكس من تعاملهم مع السنة النبوية التي لن تترك للمتأوّلين مجالاً في الرأي، وهذا المعنى هو الذي قصده الإمام علي في رسالته إلى معاوية بن أبي سفيان حينما كتب له:

( ... وقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي، فجعل أحدنا حجة على الآخر، فعدوت على الدنيا بتأويل القرآن، وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني ...) (1).

أي أن الإشارة (2) التي تحملها الجملة ( ... فعدوت على الدنيا بتأويل القرآن ...) هي من باب جر من باب جر التأويل للنص القرآني ليلائم توجهات معاوية السياسية، وهذا الأمر هو الذي دفع الإمام علي علیه السلام إلى أن يوصي عبد الله بن عباس أن يحمل الخوارج على السُّنّة ليقطع الطريق على التأويل المنحرف للنص القرآني من وجهة نظر الإمام.

إن توجيه الخطاب باتجاه تعزيز الفهم لدى التلقي تمثل مهمة شاقة؛ لأن فتح الثغرات في الثقافة المستديمة ومحاولة خلخلتها وإقامة بناء بديل ليس بالمهمة السهلة، إنما المعوّل فى هذا الأمر - كما نرى - على الزمن وقدرته على حمل الخطاب لأن المرتجى أن تكون النتائج متطابقة مع الهدف الأول، وهذا لا يسمح له بالتكون في زمن قصير بل يعتمد الامتداد الأفقي للزمن بما يفتح له آفاق السيرورة والتحول. 4.

ص: 287


1- المصدر نفسه 103/17.
2- ذكر ابن أبي الحديد في شرحه كيف أن معاوية تأوّل الآية (ومن قُتلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً) الإسراء/33 لأهل الشام بأنه هو ولي دم عثمان وعليهم وجوب طاعته /شرح النهج / 104.

تتمثل تكرارية المعنى في الخطاب العلوي على محاور عدة، فمرّة يتناول وصف القرآن الكريم وما بالسلوك الفردي أو الجمعي تجاهه ومستوى التعامل الفئوي أو الحزبي بما يلبي مصلحة الفئة أو يتسبب في إشاعة ثقافة منحرفة تعتمد القراءة المعكوسة للنص القرآني، ومرة أخرى يتناول بتكرار المعنى إلى أن يكون المجتمع منسجماً مع ما يريده القرآن بوصفه (الثقل الأكبر) (1) كما وصفه الإمام عليعلیه السلام في أحد نصوصه، فيتكلم عن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وصفته وأخلاقه وطبيعة هذه البعثة إذ يقول في هذا المنحى:

( ... وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع والضياء اللامع، والأمر الصادع ...) ثم يبين الغاية من ذلك فيقول ( ... إزاحة للشبهات واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثلات ...) وبعد هذا يصف الحالة التي كان عليها الناس وقت مبعث النبي صلی الله علیه و آله و سلم فيقول ( ... والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين واختلف النجر، وتشتّت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر ...) ينتقل مباشرة إلى بيان هذه الحالة وطبيعتها وكيف أن الناس كانوا في ضلالة وعمى فيقول ( ... فالهدی،خامل والعمى شامل عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه وتنكرت معالمه و درست سبله وعَفَتْ شُرُكُه، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ووردوا مناهله بهم سارت علامه وقام لواؤه في فتنٍ داستهم بأخفافها ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها فهم فيها تائهون حائرون، جاهلون مفتونون في خير دار و شر جیران نومهم سهود، وكحلهم دموع بأرضٍ عالمها مُلجَم، وجاهلها مُكرم) (2)، وهكذا يرسم النص صورة لحالة الناس قبل البعثة النبوية الشريفة وكأن النص يولد بعضه بعضاً بوصف التالي إنتاجاً للذي سبق من الأحداث مما يفضي إلى أن يسير المجتمع بشكل مقلوب بالرغم من أن المكان 1

ص: 288


1- قالها مخاطباً المسلمين في خلافته، ابن أبي الحديد 289/6.
2- ابن أبي الحديد 142/1

يعاكس السلوك البشري تماماً في شرفيته؛ إذ يقول (في خير دار وشر جيران) وهذا ما يجعل البعد المأساوي يهيمن على الجو العام في بكائية تتفجّر ألماً حين يُلجَم العالم ويُكرم الجاهل، وهذا أقسى ما ينحدر إليه أي مجتمع.

وقد يتكرر المعنى في صيغة أخرى تتجاوب مع أصداء الوعي في محاولة التأثير على نمطية هذا الوعي وإعادته إلى ما يراه الخطاب العلوي طريقاً صحيحاً باستبعاده تلك الصور القائمة عن حياة المجتمع لحظة التذكير بها مستغلاً طاقة اللغة الإيمائية وقدرة الخطاب المشحون بانفعال المشفق على ألّا تتكرر مأساوية الجاهلية، فيقول:

(إن الله بعث محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم – نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين ... مُنيخون بين حجارةٍ خُشُن، وحياتٍ صُمَّ، تشربون الكدر، وتأكلون الجشبَ، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة) (1) يتحول الخطاب العلوي في بعض مقاطعه إلى أشبه ما يكون بالسمفونية عالية التنغيم؛ إذ أن الالتحام الحاصل بين حالة الخطاب وحالة المجتمع الواقعية التي تتولد عن هذا الوصف الذي تناول به حياة العرب قبل البعثة، إنما يشي بنوع من الاستهزاء أو التهكم بتلك الحياة التي لا تعني شيئاً بوصفها خالية من المعايير الدالة على حضارية المجتمع، كما نص على ذلك قول الإمام ( ... بأرضٍ عالمها مُلجَم، وجاهلها مُكرم)، وقوله الذي ينحو فيه المنحى نفسه حين يتكلم عن المعنى ذاته:

(إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدّعي نبوّةً، فساق الناس حتى بوّأهم محلّتهم، وبلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم ...) (2). 2.

ص: 289


1- المصدر نفسه 18/2.
2- المصدر نفسه 147/2.

وقد ورد هذا النص هذا النص في مكان آخر من نهج البلاغة بزيادةِ في ألفاظه التي يتكرر فيها المعنى الذي يشير إليه فيقول ( ... وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدّعي نبوةً ولا وحياً، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، حتى أراهم منجاتهم ...) (1)، إن هذا التكرار في المعنى الذي يعرضه الخطاب العلوي، إنما يمثل إصراراً على بلورة فهم مبدئي لخرق المألوف من الثقافة الهامشية التي يراها الإمام قد استشرت في أذهان المجتمع؛ لأن (مهمة النص هي تقريب الذات من العالم عن طريق القراءة) (2) المتصلة بالواقع ومحاولة موائمة الخطاب مع الواقع بغية تغييره باتجاه ما يريده الخطاب.

إن ارتباط الخطاب بتلك المهمة الصعبة في تغيير المسار الثقافي لا يعدو كونه التصاقاً بالمبدأ الذي ينادي به، واجتهاداً في التغيير بغض النظر عن النجاح الآني؛ لأن المراهنة على الزمن القريب خطأ جسيم من جهة الخطاب؛ لأن ذلك يحتاج إلى زمن طويل للتفاعل والانفعال بالخطاب من جهة المتلقي، والوقوع على مصاديق له تدفع بالمتلقي إلى إعادة القراءة واستكناه هذا الثبات الذي احتواه الخطاب؛ لأن الثبات جزء من مكونات الخطاب.

وكما كان الخطاب، يكرر المعنى في بعثة النبي صلى الله عليه وآله، وحال الناس قبل البعثة تناول الناس بعد البعثة وحالهم بعد رحيل النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم مستشرفاً المستقبل، وكأنه يضع النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وبعثته بمثابة النقطة التي تتعامد عليها أنواع السلوك البشري، وهي المنار الذي كرره بصياغات متعددة؛ إذ يقول في ذلك:

( ... ثم إن الله سبحانه بعث محمداً - صلى الله عليه وآله - بالحق، حين دنا من الدنيا الانقطاع، وأقبل من الآخرة الاطلاع وأظلمت بهجتها بعد إشراق وقامت بأهلها على ساق وخشُنَ منها مهاد وأزف منها قياد في انقطاع من .

ص: 290


1- ابن أبي الحديد 90/7.
2- اللغة والتأويل 25.

مدتها، واقتراب من أشراطها وتصرُّمٍ من أهلها وانفصامٍ من حلقتها، وانتشار من سببها، وعفاءٍ من أعلامها وتكشّفِ من عوراتها، وقصرٍ من طولها ...) (1).

يعمد الخطاب العلوي هنا إلى إذابة الفواصل الزمنية، والنظر إلى الزمن في أفقيته المنظورة المعلنة، مما يتشكل من ذلك السلوك المقترن بهذا الزمن من حيث انفلاته وعدم السيطرة على حركته المعكوسة، التي يشير إليها الخطاب في (وأظلمت بهجتها بعد إشراق)، كما أن الانحياز المكاني باتجاه منحرف لا يغفله الخطاب فيعبر عنه بِ (وقامت بأهلها على ساق) مما يعني أن ذوبان الفاصلة الزمنية المقترن بالانحراف المكاني إنما يعبر عن رؤية ممحصة تستشرف المستقبل كما كانت هي ترى الواقع، ومن هنا يقوم الخطاب من خلال وسائله التعبيرية واستعماله للغةِ والمراهنة على طاقتها الكامنة التي يمكن أن تتفجر وقتما يشاء الخطاب نفسه، بإعادة تشكيل الواقع كما يراه هو محوِّلاً إياه إلى مستوى مفتوح من الفهم الذي يسعى إليه.

ثالثاً – المستوى الحِجاجي (مفهوماً واصطلاحاً).

يبدو أن مفهوم (الحِجاج) واصطلاحه يندرجان في معنى واحد فكلاهما يعنيان القصد، وقد أشارت إلى ذلك معجمات اللغة؛ قال الجوهري إن (حجَّ في الأصل القصد وفي العرف قصد مكة للنسك) (2)، و(الحُجَّة البرهان وحاجَّه فحجَّه ... غلبه بالحجة) (3) و (رجلٌ محجاجٌ أي جَدِلٌ) (4)، من هنا تبيّن لنا أن لفظة (الحجاج) تعني الوصول إلى القصد بالبرهان والحجّة، وهذا يعني أن المعنى الأصلي للفظة لا يبتعد كثيراً عن معناها الاصطلاحي، وفي هذا المعنى وردت آيات في القرآن الكريم تشير صراحة إلى معنى المحاججة، منها قوله تعالى (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) (5) بمعنى إيراز

ص: 291


1- ابن أبي الحديد 151/10.
2- الصحاح مادة (حجج).
3- المصدر نفسه والصفحة.
4- المصدر نفسه والصفحة.
5- سورة الأنعام (80) أو قوله تعالى (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه.) البقرة /258.

الحجة والمقابلة بمثلها وهي تقصد إلى الإقناع أي أن الطرفين يحاول أحدهما إقناع الآخر بصواب رأيه، وأنّ ما عدّه أفلاطون عيباً في الخطابة بشكل عام؛ لأنها تهتم بالإقناع بدل البحث عن الحقيقة (1)، لا أحسبه صواباً في كل خطاب؛ إذ أن الخطاب القرآني في جانب منه يعنى بالبحث عن الحقيقة وفي جانبه الآخر (أعني الكافرين) يعنى بالجحد والمراوغة ومحاولة طمس الحقيقة.

إن الخطاب العلوي في نهج البلاغة يكاد يتخذ من المنهج القرآني طريقاً له في إبراز الحجج والبراهين التي تعضد ما يراه الإمام صواباً، إذ أن المحاججة هنا الغاية منها (الإقناع الذي يتناول الاعتقاد لا المعرفة حول الحق والباطل) (2)؛ إذ أن الأمر يتناول كيفية الإقناع مما يعني أن الطرف الآخر في الخطاب - وهو المتلقي - لم يكن على ما يرام من حيث فهم الخطاب والتجاوب معه، وهذا يتطلب عرض الأدلة والبراهين والحجج التي تسند الخطاب وتعزز مصداقيته بالرغم من أن هناك بعض الأشياء التي تتعلق بصاحب الخطاب تسهم في عملية الإقناع التي يتحرك باتجاهها الخطاب ومنها (الأخلاق إذا كان كلامه يلقى على نحو يجعله خليقاً بالثقة) (3)؛ لأن استشعار الثقة جزء مهم في عملية الإقناع.

إن المستوى الحجاجي في الخطاب يقوم في بنياته الفكرية على وسائل تسهم في إحداث الإقناع لدى المتلقي، زيادة على ما تحدثه البنيات النفسية كالأخلاق والثقة والطيبة النفسية من أثر تصديقي للخطاب، وإن الوسائل التي يقوم عليها الخطاب تتمثل في أن يكون المتكلم قادراً على فهم الحالة الذهنية للمتلقي، وقادراً على التفكير المنطقي (4)، كما أن فهم الانفعالات النفسية للمتلقي، تعد من المقومات الأساسية في عملية وضع الخطاب لأجل تعزيز فرصته في الإقناع، كل .

ص: 292


1- ينظر: في بلاغة الخطاب الإقناعي 13.
2- المصدر نفسه 24، بمعنى أن الاعتقاد يعني البحث عن الحقيقة والإيمان بها، كما أن المعرفة. لا تعني الاعتقاد بالشيء المعروف.
3- في بلاغة الخطاب الإقناعي 24.
4- ينظر: المصدر نفسه 25.

ذلك يأتي ضمن سياق حجاجي يتبناه القائل؛ لأن الإفصاح عن الحقيقة والدفاع عنها يمثل أعلى درجات الحجاج من وجهة نظرنا، على العكس من المماطلة والمراوغة بحجج وبراهين واهية أو عن طريق التلاعب بالكلمات والتحريف بما يلبي الحاجة الفئوية الضيقة.

تتمخض بعض المواقف في الخطاب عن دلالات يحملها السياق تترجم الحالة التي عليها القائل أو ما يريد أن يصل إليه من غايات لا تتواءم مع المنطوق النصي الذي يروى، حتى لو كان هذا المنطوق النصي من المقدس الذي لا يمكن لأحد أن يتلاعب فيه إلّا بدلالته الواقعية، نجد ذلك واضحاً في قضية استشهاد الصحابي عمار بن ياسر في معركة صفّين (1) وكان في جيش الإمام علي علیه السلام.

إن محاولة الإقناع المنطقي في المستوى الحجاجي للخطاب ربما لا تنجح في الوصول إلى الأهداف المرجوة، وأن من هذه الأهداف هو محاولة الهدم الثقافي وتغيير القناعات لدى المتلقّين على الأقل في الزمن المنظور، وهذا واضح كثيراً في الخطاب العلوي، ليس لأن الخطاب كان يفتقر إلى الحجة والدليل بل بسبب أن الوعي الثقافي لم يكن ناضجاً بالمستوى الذي يؤهله لتقبل ما يدلي به الإمام من خطاب حجاجي يروم من خلاله بيان كثير من الأمور التي تشتبه على المتلقين، كما أن هؤلاء المتلقين لم يكونوا متساوين في فهم طبيعة الأحداث التي تتمخض عنها حركة المجتمع ولا سيّما في طبقاته العليا التي تمثل الأقطاب المتنفذة أو التي تؤثر في التوجه السياسي والديني للمجتمع زيادة على أن ما يعتمل في الخفاء لا يمكن أن يطلع عليه الناس البسطاء، وهؤلاء هم الوقود لأي حركة تنشأ، لا لشيء إلا لأنهم يثقون بالقيادات العليا في المجتمع، وهذه القيادات هي الفاعلة في إرادة المجتمع وتوجيهها، كما أن هذا التدافع الذي بدا واضحاً بعد مقتل الخليفة 0.

ص: 293


1- كما فعل معاوية حينما قتل عمار بن ياسر؛ إذ تلاعب بالحديث النبوي لعمار (يا عمار تفتلك الفئة الباغية) فأوّله معاوية بأنهم الفئة التي تبغي الطلب بدم عثمان، وأن عماراً قتله الذي أخرجه، وعلّق على ذلك الإمام بقوله فرسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم قاتل حمزة - ابن أبي الحديد 272/20.

عثمان بن عفان وانتهازية بعض الأفراد من الصحابة كان له أثره البارز في أن يكون هناك أكثر من نقطة جذب وسط هذا المجتمع المائج بالأفكار المتضادة، ووسط هذا التموج الفكري كان لا بد للإمام عليّ علیه السلام من أن يطرح نفسه على أنه المحق من دون هؤلاء جميعاً، ولا بد أن يسخّر ما يمتلكه من طاقة حجاجية في محاولته تصحيح المسار الثقافي الذي درج عليه المجتمع من قبل ففي قوله (لرجل أفرط في الثناء عليه وكان له متهماً، أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك) (1) مستوى حجاجي ينتمي إلى التربية فضلاً عن قانونية المدح، إن صح التعبير - لأن المدح للحاكم وإن كان هذا الحاكم في الذروة من المثالية والالتزام، إلا أن سكوته على مادحه إنما يشيع في أوساط المجتمع رغبة الحاكم في المدح وحينها يتحول من جانب الصدق إلى جانب التزلف والكذب وهذا الأمر لا يراه إلا من كان عارفاً بقدراته النفسية مستوعباً لطبيعة الأحداث التي تحيط به، في الوقت الذي يرفع فيه شأن الأفراد بعيداً عن التزلف والمديح الكاذب ومحاولة استدرار عطف الحاكم، كما أن هناك إيحاء بضرورة الالتزام لجانب الصدق في القول والعمل، وأن كون الفرد في مستوى من مستويات المسؤولية يترتب عليه من وراء ذلك الانشداد إلى الحق فقط؛ لأن ذلك مدعاة إلى أن لا تضيع حقوق البسطاء من الناس بين موائد المترفين.

إن النص في تبنيه لمسافة تمثل مجال الحركة الفكرية بين لفظي (دون - فوق) إنما يرسم المسار الصحيح للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في وضوح وصراحة تامة لا تقبل المراوغة والخداع والوصولية التي ربما عدها بعض المحيطين نمطاً من أنماط السياسة أو التكتيك السياسي بغية تهيئة ما سيكون مناسباً، وقد ينحو المستوى الحجاجي في الخطاب العلوي منحى باتجاه ضبط السلوك الفردي من حيث مواجهة الخليفة بما يمكن أن يعد من الحقائق لا محاولة التلاعب بالأفكار والتغابي عن كثير من الأمور التي تتسبب في تفكيك عرى المجتمع وإظهار .

ص: 294


1- ابن أبي الحديد 18 م 186.

الخليفة أو الإمام بمظهر عدم العارف بقضيته أو مصلحة المجتمع، وهذا ما نلاحظه في اعتراض الأشعث بن قيس على الإمام في خطبته عن التحكيم وأن الأشعث قال له: يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك، فخفض الإمام إليه بصره ثم قال: (وما يدريك ما عليَّ وما لي! عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك ابن حائك، منافق ابن كافر والله لقد أسرك الكفر مرّة والإسلام أخرى ...) (1)

إن استغلال الإشارة البصرية بوصفها جزءاً من الخطاب، تدل هنا على مقدار الاستهانة بالقول الموجه إلى أمير المؤمنين وإظهار الحجم الحقيقي للقائل بوصفه خارجاً عن الدين منافقاً، ولكي يعرف الناس حقيقته قال له الإمام (وما يدريك ما عليَّ مما لي) ثم أعقبها بهذا الدعاء (عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين) الذي جاء بصيغة تقرير الحقيقة ثم ذكر بعدها حقيقته الشخصية وتأريخه الذي ربّما كان غائباً عن الحاضرين مما يعني في تفصيلاته أنه أراد إسقاطه من نظر الآخرين، لكي لا يرى نفسه أنه من علية القوم على وفق النسق الاجتماعي السائد في أن زعماء القبائل هم في كل زمان ومكان أهل الحظوة والتقدير بغض النظر عن مدى قربهم أو بعدهم عن المفهوم الديني من حيث الإيمان بالرسالة الإسلامية وتطبيقها تطبيقاً عملياً على أرض الواقع وأن يجعلوها منهاج عمل يومي في حياتهم، بل يتكئون على المكانة القبلية التي أتيحت لهم بناءً على الموروث الطبقي، وبذلك فإن الإمام في خطابه الحجاجي أراد أن يسحب الورقة التي يتستر بها الأشعث حينما قال له (والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى) ثم أردف له قوله (وإنّ امراً دل على قومه السيف، وساق إليهم الحتف لحريّ أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد) (2)، وبذلك يوضح طبيعة الغدر التي تبرز هنا بأنها سمة واضحة في شخصية الأشعث، مما يوجب الالتفات إلى ذلك من قبل الناس وأن يكونوا منه على حذر شديد؛ لأن .

ص: 295


1- ابن أبي الحديد 269/1.
2- المصدر نفسه والصفحة، وقد ذكر الشارح تفصيل قصة الأشعث بن قيس التي أشار إليها الإمام في كلمته.

من يفعل ما فعل الأشعث بقومه إنما ينبئ عن سلوك مشين وطبيعة متدنيّة في الخلق فضلاً عن فساد الدين وارتباك العقيدة لديه.

لقد حفل الخطاب العلوي في مستواه الحجاجي بكثير من المواقف التي أفرزتها الطبيعة المتحركة للمجتمع وعدم ثباته باتجاه معين؛ لأن استغلال العاطفة الدينية لدى المتلقين والربط بينها وبين الحركة السياسية التي كانت متأججة آنذاك، يعدّ وجهاً من أوجه الصراع السياسي، لأن الحجاج أو بيان البراهين والحجج التي تثبت صحة هذا الرأي أو ذاك تنوعت بشكل تناول بعض الجزئيات في حياة الأفراد فضلاً عن بعض المعتقدات التي تعدّ جزءاً من المعتقد لدى فئات دون غيرها، ومن ذلك أن عمرو بن العاص أرسل إلى الإمام علي علیه السلام يعيبه بأشياء منها أنه يسمي حسناً وحسيناً ولدي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الإمام لرسول ابن العاص: (قل للشانئ بن الشانئ لو لم يكونا ولديه لكان أبتر كما زعمه أبوك) (1).

إن نظرية الخطاب الحجاجي لا يمكن أن تنمو إذا شاع لدينا تصور أن الدليل أو الحجة هو مجرد صيغة مبسطة وبديهية في الوقت ذاته (2)، بل إن هدف هذه النظرية (هو البحث عن سبل التأثير عبر الخطاب بشكل فعال في الأشخاص) (3) وهذا يعني أن تقنيات العرض والتقديم التي يقدمها الخطاب في مستواه الحجاجي تعتمد اعتماداً كلياً على ما يقدّمه صاحب الخطاب من خلال الربط بين الشكل والمضمون ولا يمكن الفصل بينهما؛ لأن الانسجام الذي يلف شكل الخطاب بمضمونه يشتمل على وسائل الإقناع التي هي تعد جزءاً لا يتجزّأ من الخطاب الحجاجي، وعليه فقد ورد النص السابق بأن أشار الإمام إلى حقيقة قرآنية في قوله تعالى ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ 3) (4) في خطابه للنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وبذلك فقد جاء الخطاب منسجماً مع التوجه القرآني أولاً، ومنسجماً مع بناء العقيدة التي ترى .

ص: 296


1- ابن أبي الحديد 272/20.
2- ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص 74.
3- المصدر نفسه 77
4- سورة الكوثر /3.

في أن الحسن والحسين علیهما السلام ولدا رسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنه لم يكن أبتراً وإنما كان نسله منهما وبهذا فإنَّ التأصيل للفكرة - المعتقد التي أخذت طابعاً حجاجياً قد أفضت إلى مستوى أعلى من الثبات والبرهان.

سمات المستوى الحجاجي

كما رأينا في المستويين السابقين من الخطاب العلوي بأن لهما سمات تفصح عن مكونات الخطاب، كذلك للمستوى الحجاجي سمات تفصح هي الأخرى عن مكنونات الخطاب العلوي بما ينسجم مع بناء الخطاب بوصفه توجهاً مباشراً أو غير مباشر إلى جمهور المتلقين، ويقيم معهم حواراً قائماً على الإقناع مستعيناً بالمعطيات التي تقوم على معرفة أحوال السامعين ومراعاة الواقع الثقافي الذي يندفع بأكثر من اتجاه؛ لأن (لكل زمان طريقة ولكل إنسان خليقة) (1) وبذلك يجري التعامل مع المتلقي بما يصدر عن الذات القائلة التي تبرز ما لديها من حجج بغية أن تحوز على إقناع الجمهور على أننا يمكننا تحديد سمات المستوى الحجاجي كما يأتي:

1 - البرهانية:

إن هدف الخطاب في مستواه الحجاجي ليس بيان البرهان الذي يعضد الفكرة أو القضية المعروضة على المتلقين بقدر ما أن هذا البرهان هو الوسيلة الإقناعية التي هدفها الحصول على تأييد هؤلاء، فضلاً أن عن مجرد العرض الخارجي للاستدلال يعدّ سطحياً بالقياس إلى الاستنتاج العلمي الصارم الذي يقوم على استقراء الاحتمالات في معالجة الأمور بغية توفير الأرضية المناسبة لعرض الأفكار والقضايا التي يؤمن بها القائل على المتلقين وهنا يمكن القول بأن الخطاب ينتقل في تلك اللحظة إلى التفسير والفهم من قبل المتلقي؛ لأن العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى في الخطاب في مستواه الحجاجي ليست علاقة تخمينية، وإنما تقوم على أساس التصديق بطبيعته العلمية مستفيداً من (هوامش المعنى الضمني المحيط

ص: 297


1- الخطابة 4.

بالنواة الدلالية) (1) للخطاب بأنماطه كافة؛ إذ أن التداخل الوظيفي بين هذه الأنماط يمثل رؤية عامة ناشئة عن مصدر يعد نفسه قطباً للمعرفة بأشكالها المتعددة وهو يبرهن على ذلك في أغلب الميادين التي طرقها وفي أسلوب حاول التأثير على المشاعر وضرورة أن يكون البرهان متلبساً بنسق من التعبير يستجلب الأسماع وصولاً إلى إدراك كنه المعنى الذي هو وظيفة عقلية بلا شك، وأن الخطاب العلوي في مستواه الحجاجي كان غير مفارق لذلك النمط التعبيري في محاورة أو محاججة أو إفهام أو إبلاغ، فهو يتخذ أحياناً من البرهان الظاهري وسيلة إقناعية في خطابه من مثل ذلك احتجاجه على الخوارج حين اتهموه بالكفر:

(أصابكم حاصبٌ، ولا بقي منكم آثرٌ (2) أَبَعْدَ إيماني بالله، وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وآله أشهد على نفسي بالكفر لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين) (3).

يبدأ الخطاب بالدعاء عليهم وهذا التعبير الدعائي يستبطن الحجاج على هؤلاء وتفنيد رأيهم بالإشارة إلى ضرورة استقراء الواقع بشكل أدق؛ إذ يستتبع هذا الدعاء، استفهام إنكاري قرن فيه الإمام الإيمان والجهاد بوصفهما ركيزتين أو دعامتين لم يقم الإسلام إلا بهما، ثم جاءت بعد ذلك الجملة الخبرية (أشهد على نفسي بالكفر) بصيغة التساؤل، مما يعني أن الخطاب قد شهد تحولات شكلية من جملة إلى جملة إلا أن الحجاج بقي يتصاعد مع المنطوق إلى أن وصل ذروته في برهانه الظاهري في الآية القرآنية التي اعتمدها بوصفها شاهداً برهانياً أولاً، ونتيجة حتمية تأخذ من طرفي الحجاج سلباً وإيجاباً بغية تعزيز روحية الخطاب لتعزيز مصداقيته ثانياً.

وقد يتّخذ من البرهان التعريفي وسيلة إقناعية تعزز منطق الخطاب .

ص: 298


1- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى - 126.
2- بمعنى راوٍ للحديث.
3- ابن أبي الحديد 98/4.

الحجاجي من مثل قوله لمن قال له إنك تعرّض بابنك محمد (1) للقتل وتقذف به في نحور الأعداء دون أخويه (الحسن والحسين) فقال: (هذا يدي - يعني محمداً - وهذان عيناي - يعني الحسن والحسين - وما زال الإنسان يذبّ بيديه عن عينيه) (2).

اعتمد النص على البنية التعريفية من خلال الإشارة إلى أولاده الثلاثة وبذلك حقق الخطاب إقناعيته المقبولة عن طريق المنطق الحجاجي الذي لا يعد إسرافاً في الكلام بقدر ما هو تعيين لما ينبغي عليه، ولاسيّما أن الأمر متعلق بالذات امتداداتها النسبية من جانب، وأن هناك بعداً حجاجياً آخر يكاد يبرز من بين ثنايا الخطاب هو أن (الحسن والحسين) عليهما السلام حينما وصفهما بعينيه يعني أن مقامهما مقام العين المبصرة التي يعد العلم أحد مصاديقها لأنهما ينتميان إلى النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم في الوقت الذي لم يحقق أخوهما الثالث هذا الانتماء، وبذلك يتحقق البعد الحجاجي الذي نستطيع أن نستشفّه من الخطاب؛ لأن المعنى كما يقول بول ريكور (هو جزء من المعرفة الذاتية، أي أنه طريقة من طرق الحضور الواعي للذات) (3) بما يعتمل في الداخل مما يوفر له فرصة الظهور عن طريق الكلام.

كما أن الخطاب في مستواه الحجاجي قد يستعمل البرهان بالتضاد كاحتجاجه على عمرو بن العاص حينما بلغه أنه (أي عمرو) يصف الإمام بأن فيه دعابة، فقال الإمام في ذلك:

(عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام بأن فيّ دعابة وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس! لقد قال باطلاً، ونطق آثماً، أما - وشرّ القول الكذب - إنه ليقول فيكذب، ويَعِدُ فيخلف، ويُسْأَلُ فيبخَل، ويُسْأَلُ فيُلحف، ويخون العهد، ويقطع الإلّ، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القومَ سبَّته. .

ص: 299


1- المعروف بابن الحنفية.
2- ابن أبي الحديد 272/20.
3- المشروع الفكري وأسطورة أوديب - قراءة في فكر طه حسين - 124.

أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة ...) (1).

يبدأ النص باستعراض تأريخ الشخصية موشحاً بصفات تمثل الضد في الحجاج الغاية من ذلك إيجاد المهاد النظري ذلك إيجاد المهاد النظري لإصدار الحكم من قبل المتلقي بوصفه الحكم غير المعلن إلى أن ينتهي إلى المقابلة بالسلوك بما يجعل فرصة المتلقي في استقراء الحجاج واضحة وجلية وأن تهيئة الأفكار للوصول إلى نقطة اللاتلاقي بين الطرفين تمثل قمة الحجاج بين نمطين من الخطاب أفادا مما لديهما من براهين سلوكية لتعضيد الفكرة المرتجى إقناع المتلقي بصوابها؛ لأن الخطاب هنا يتحول إلى شيء يتوجه إلى وعي السامع فيشتبك في حوار وجدل بغية استدامة التغيير في قناعته.

إن ممارسة الخطاب العلوي في مستواه الحجاجي إيقاظ الفكر أو الوعي لدى المتلقي إلى جملة من السلوكيات المنحرفة التي تنسجم والخطاب الديني الذي يرسم أخلاقية المؤمن وطبيعته في حياته، إنما ذلك يمثل نوعاً من الحجاج بذاته؛ لأن برهانه ينبض من بين ثنايا النص فللخطاب طاقة ذاتية تمكنه من أن يشمل كل من توفَّرت له شرائط السماع موضوعياً بما يعزز خاصيّة الانتشار بين الأفراد، وبالنتيجة يتحقق الهدف المطلوب من ذلك.

إن الخطاب العلوي في مستواه الحجاجي تناول كثيراً من الظواهر التي كان فيها الإمام نفسه قطباً يدور حوله الكلام وإليه يرد ومن ذلك أنه أقام الحجة على رجل يسمّى كليب الجرمي حين بعثه قوم من أهل البصرة يستعلمون حال الإمام مع أصحاب الجمل، فلما بين له ذلك وصدعه بحجته وأقنعه، طلب منه أن يبايعه فرفض الرجل بحجة أنه رسول قوم ولا يحدث حدثاً حتى يرجع إليهم فقال الإمام:

(أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعاً؟ .

ص: 300


1- ابن أبي الحديد 220/6.

قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال الإمام: فامدد إذاً يدك.

فقال الرجل: فوالله ما استطعتُ أن أمتنع عند قيام الحجة عليَّ فبايعته عليه

السلام) (1).

وهذا البرهان أو الحجة التي أقامها الإمام على هذا الرجل يمكننا أن ندعوه بالبرهان الحضوري لأنه أقام عليه الحجة وهو يسمع ويرى حتى انتهى به الأمر إلى البيعة بعد أن أقنعه بصواب ما هو فيه؛ إذ اعتمد الإمام في عرض حجته على فرضية ذات علاقة بحياة الفرد العربي وأنه لا غناء له عن ذلك مما أوجب على الرجل إجابته إلى البيعة.

إن وضع الأفكار الحجاجية في قوالب لفظية واستغلال تلك الطاقة الحجاجية التي تتيحها اللغة للمتكلم، يعد منهجاً نجده واضح التفاصيل في الخطاب العلوي بما يمتلكه الخطاب من تنقلات بين الإنتاج والتوصيل في الوقت الذي يعتمد فيه على الإمكانات التي تجعل الفهم الديني أعظم البراهين في قدرة الخطاب العلوي على الإقناع، وإن بَعُدَ الزمن وتقادمت الأيام ولم يتحقق الهدف المرجوّ آنيّاً، إلا أنّ التعامل الواعي مع اللغة أعطاها هذا الدفق المشحون بواقعية العرض وجمالية التعبير فضلاً عن برهانية الحجاج في الخطاب.

كما أن الخطاب العلوي قد اعتمد البرهان الإشاري في مستواه الحجاجي بغية الحصول على إقناع المتلقي نجد ذلك في قول النبي محمد علیه السلام للإمام وقد ذكره الإمام في معرض كلامه عن طبيعة العلاقة بينه وبين النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم والمميّزات التي لم تتوفر لسواه من الصحابة وهي بذلك تؤهله لأن يكون خليفة دون سواه؛ إذ أن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم قال له حين سمع رنّة الشيطان عند نزول الوحي:

(إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست ينبي، ولكنك الوزير وإنك لعلى خير) (2)، وفي هذا البرهان إشارة إلى أكثر من قضية أما الأولى فهي ما 3.

ص: 301


1- ابن أبي الحديد 228/9.
2- ابن أبي الحديد 148/13.

يخص الخلافة وأحقية الإمام في ذلك. وأما الثانية فهي علمه؛ لأن النبي صلی الله علیه و آله و سلم في كلامه هذا يشير إلى أن الإمام علي علیه السلام يتلقى علومه من طرق السمع والبصر على ظاهر اللفظ، كما أن استبطان النص على الوجه التأويلي الذي يتيحه السياق ينتج عنه أنه يرى كل ما يراه النبي صلی الله علیه و آله و سلم ويسمع ما يسمعه، وأن الفارق في ذلك النبوة، فكانت منزلته الوزارة التي تلي النبوة في القرب والبعد النظري، ثم أكمله بأن ذكر أنه على خير وهذا كله إخبار من قبل النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم عن حالة الإمام علي علیه السلام، أما ذكره من قبل الإمام فهو يعني الإشارة عن طريق البرهان إلى ما لديه من مواصفات لم يمتلكها غيره، وقد جاء الكلام مبنياً على مقدمات صغرى حتى انتهى إلى المقدمات الكبرى التي تتعاضد فيما بينها لتكوّن برهاناً إشارياً يدعم بنية الخطاب العميقة في قصديتها التي تشير إليها.

كما أننا نجد أن الخطاب يميل إلى استعمال البرهان المضمر في أثناء الكلام ليدفع الخطاب إلى مستوى أعلى في التفاعل الفكري وبما ينسجم مع الطبيعة التي عليها الإمام من حيث المعرفة التي توفّرت لدى المتلقين مما يفتح المجال واسعاً أمام السامع في ربط الخطاب بعضه ببعض بناء على مقدماته ونتائجه، كما في قول الإمام:

(أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتِل ... ألا وإني أقاتل رجلين رجلاً ادعى ما ليس له وآخر منع الذي عليه) (1).

كما سبق القول، فإن النص هنا على مقدمات تبدو لا علاقة لها بالإضمار البرهاني في الوجدان الذاتي؛ لأن الكلام يجري بصيغة الغائب، إلى أن يصل إلى نقطة ينتقل فيها الخطاب من الغائب إلى المتكلم وبما يفصح عن غائية الخطاب التي بني عليها في بدء السياق ويمكن ملاحظة ذلك كالآتي: .

ص: 302


1- ابن أبى الحديد 250/9.

الصورة

مما يعني أن الذي لم يكن قوياً في ذاته وغير عالم بمكنونات الرسالة لن يستطيع مقاتلة من ادعى ما ليس له ومن منع الذي عليه؛ لجهله بأحكام الدين، لأن الخلافة لا تعني فقط الحكم السياسي وإنما تعني كل شؤون الحياة الأخرى بدلالة قوله (أعلمهم بأمر الله فيه) الذي يعني أن الذي يتصدى لهذا الأمر يجب أن يتوافر على صفات ومميّزات لا توجد لدى الآخرين وأن هذه الأحقية التي أشار إليها بقوله (إن أحق الناس بهذا الأمر ...) يثبتها ما نصّ عليه من خلال السياق.

2 - الانسجام:

يسعى الخطاب العلوي إلى استغلال ما تتيحه التضمينات والاقتباسات سواء كانت قرآنية أم أحاديث نبوية أم شعر أم أمثال وحكم من طاقة حجاجية تعضد المعنى المعروض على المتلقي، على أن هذا الاقتباس أو التضمين ليس اعتباطياً، إنما قصدياً بما يحقق الانسجام بين الخطاب والنص المقتبس أو ما يمكن أن نسميه (الشاهد) الذي يعدّ في حالة ظهوره بين جمل الخطاب بمثابة الوتد الذي يسبب الترابط، بل إن الاقتباسات في الخطاب العلوي بلغت أعلى درجات الانسجام مع الخطاب وبما يشعر المتلقي أنها ليس اقتباساً بل إنها جزء من النص وهذا يمثل بطبيعة الحال هيمنة على ما تعطيه اللغة من إمكانات للقائل، أو أنه إشارة إلى قدرته على تصريف الكلام على وفق ما يريد من تصميم منطقي بما يثبت سلطة

ص: 303

الخطاب على المتلقي.

ومن أمثلة الانسجام التي حققها الخطاب العلوي في مستواه الحجاجي قوله عن الأحداث التي تلت توليه الخلافة:

( ... فلما نهضتُ بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83) (1) بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها ...) (2).

لقد حقق الخطاب انسجاماً بين المعلن والمضمر من الأهداف التي سعى الخطاب إلى تثبيتها من خلال السياق الذي انتظم فيه الكلام؛ لأنهم حين سمعوا كلام القرآن وعرفوا معناه أصرّوا على حب الدنيا لأنها حليت في أعينهم؛ وهذا هو الوجه الآخر للنص؛ إذ ينسجم مع الوجه الأول للنص الذي ذكر هذه الفئات الثلاث ونتيجة لذلك فإن الحجاج الذي تضمره الآية هو أن الإمام من الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، وما دام هو ليس من العالين أو المفسدين في الأرض، بل من المتقين إذن فإن هذا التعارض في المعلن والمضمر يمثّل منطقاً حجاجياً يظهر من خلاله إيمان الإمام علي علیه السلام وضلالة الذين عارضوه، وعليه فإن البناء المنطقي للنص أفاد الصياغة البلاغية باستعماله التشبيه والاستدراك في نظم الكلام بما يحقق نمط الانسجام بين الأفكار الحجاجية التي تواترت داخل النص.

وقد يرد النص القرآني منسجماً مع إثبات الحجة في تفنيد الرأي المعارض فيتحقق الحجاج في انسجام النص بعضه مع بعض قال الإمام علي علیه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا:

( ... أم أنزل الله سبحانه وتعالى ديناً تاماً فقصّر الرسول - صلى الله عليه 1.

ص: 304


1- سورة القصص 83.
2- ابن أبي الحديد 193/1.

وآله – عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (1) وفيه تبيان كل شيء، وذكر أن الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (2) وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به) (3).

بُنِي النص على مقدمات عدة، ثم عمد الإمام إلى نقضها وتفنيدها جملة واحدة، فبعد أن استعرض الإمام أسباب اختلاف العلماء في الفتيا، والعلل التي يمكن أن تشفع لهم في هذا التناقض في فتاواهم أقام الدليل القرآني على خطأ هؤلاء الناس عن طريق عرض الحجج والأدلة القرآنية التي تعدّ هنا - بانسجامها مع النص - ركائز الحجاج، وفي التفاتة في الخطاب أشار الإمام إلى أن هذا الفهم للقرآن ومدى اتساق الأحكام والفتاوى معه إنما يتم عن طريق الوعي العميق للظاهر والباطن في القرآن الكريم، إذ عبر عن ذلك بقوله (وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به)، وهذا يعني أن هؤلاء قد يقعون في الخطأ القاتل لعدم فهمهم ما حواه القرآن من علوم، بسبب أن اختلافهم في الفتيا هو عدم الفهم الصحيح للقرآن ومعانيه.

كما قد يرد النص القرآني في انسجامه مع النص العلوي لإقامة الحجة الظاهرة على الناس؛ لأن مطابقة الفعل للقول سبب في الابتعاد عن الضلالة أو ما سمّاه الإمام (المروق) في خطابه لهم، فقال:

( ... وإني متكلم بعدة الله وحجته، قال الله جلّ ذكره: ﴿إإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي .

ص: 305


1- سورة الأنعام (38).
2- سورة النساء (82).
3- ابن أبي الحديد 266/1.

كُنْتُمْ تُوعَدُونَ 30) (1) وقد قلتم (ربُّنا الله) فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره وعلى الطريقة الصالحة من عبادته ثم لا تمرقوا منها ولا تبتدعوا فيها ولا تخالفوا عنها، فإن أهل المروق منقطعٌ عند الله يوم القيامة) (2).

بُني النص على أساس أن الحجاج أو الدليل الذي ساقه النص لا علاقة له بالمتكلم؛ لأنه قال (وأنا متكلّم بعدة الله وحجته ...) وهذا يعني أن الإمام هنا لا يقيم الدليل من أجل حق له، وإنما من أجل حق يتعلق بالجماعة وهو هنا مبلّغ فقط وأن هؤلاء المخاطبين هم غافلون عن أنفسهم، أو أنهم حسبوا أن الإيمان قولي لا فعلي، لكن الإمام يحيلهم إلى ما شرطوا على أنفسهم حينما قالوا (ربُّنا الله)؛ لأن الواجب يحتّم عليهم الاستقامة على وفق ما شرطوا على أنفسهم من اعترافهم بالربوبية الإلهية، كما أن في النص إشارات زمنية يحملها حرف العطف (ثمَّ) للتدليل على إعادة النظر من قبل الجماعة في مجمل حركتهم اليومية، لأن ذلك هو معنى الاستقامة التي تشير إليها الآية الكريمة، وأن الإمام كشف لهؤلاء طبيعة المسؤولية التي تقع على عاتقهم في حالة عدم الاستقامة؛ لأن هذا يعني الانحياز إلى جانب الوقوع في المروق أو الابتداع أو المخالفة، وأحسب أن هذه المراحل الثلاث أحدهما تؤدي إلى الأخرى، الأمر الذي جعل النص يبني النتائج على أول مرحلة لأنها هي الطريق إلى مراحل الانحراف الأخرى.

إن الرؤية الحجاجية في النص أسهمت كثيراً في انسجاميته بغية تحقيق حالة التكافؤ بين الخطاب المعروض والمنهج الذي جاءت في ثناياه الآية مما يعني تمركزاً منطقياً في ذهنية المتكلم لا يشذ عن مسؤوليته العامة كونه - كما وصف نفسه - المتكلم بحجة الله على الناس.

إن انسجام النص من حيث احتوائه على آيات قرآنية أو أحاديث نبوية شريفة أو شعر أو حكم وأمثال بين طياته، يمثل حالة تماسك ينتج عنها قوة 0.

ص: 306


1- سورة فصلت (30).
2- ابن أبي الحديد 22/10.

حجاجية يفرضها السياق وتسهم في محاورة المتلقي، باعتبار أن الخطاب موجّه إليه، وهو المعني بذلك، بغض النظر عن تعددية المكان والزمان ففي النص نفسه، يعمد إلى توظيف الحديث النبوي في مهمة أخلاقية يتناولها الخطاب في أثناء الوعظ، يقول الإمام:

( ... ثم إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها واجعلوا اللسان واحداً، وليخزن الرجل لسانه، ... وإن لسان المؤمن من وراء قلبه وإن قلب المنافق من وراء لسانه؛ لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلامٍ تدبَّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً واراه وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله:" لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبهُ، ولا يستقيمُ قلبهُ حتى يستقيمَ لسانه") (1).

لا يذهب الخطاب بعيداً في بناء الأفكار التي تقوم على الحجاج؛ لأن المهمة الأخلاقية التي يتناولها الخطاب تكاد تكون عنصراً مهماً في انسجام الخطاب، زيادة على أن الحديث النبوي الشريف عن طريق تضمينه، إنما يمثل تعضيداً للأفكار من جانب، وإدانة من جانب آخر، وكلا الجانبين يذهبان باتجاه إقامة الحجة على المتلقي؛ لأننا نفهم من خلال سياق الخطاب، أن هناك ظاهرة أخلاقية سيئة بدأت تبرز في السلوك الجمعي وهي (النفاق) مما جعل الإمام يضع يده عليها ويبدأ يذكّر الناس بضرورة الالتزام بالسلوك الإسلامي الذي ينبذ الظواهر، الأخلاقية السيئة، كما أن اللجوء إلى التذكير بالحديث النبوي الشريف هو بمثابة الاحتجاج على هذه الظواهر، كما أن الخطاب قد استعمل أداة التحقيق (لقد) حينما ذكر الحديث فقال ((ولقد قال رسول الله ...) وهذا يفيد في تعزيز الحجاج من أن الرسالة المحمدية لم تترك شيئاً لم تتناوله لا سيّما وأن النص ذكر في بدايته بما لا يقبل الجدل أن الله قد أخذ على الناس الحجة وأن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد ذكر ذلك بشكل مباشر؛ إذ بدأ النص بقوله (انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله واقبلوا .

ص: 307


1- ابن الحديد 25/10، والحديث النبوي الشريف في مسند الإمام أحمد 198/3.

نصيحة الله، فإن الله قد أعذر إليكم بالجلية، وأخذ عليكم الحجة، وبيّن لكم محابَّهُ من الأعمال ومكارهه منها، لتتّبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: "إنّ الجنة حُفّتْ بالمكاره، وإن النار حُفَّتْ بالشهواتِ ...") (1).

مما يعني أن ترتيب الوقائع والأحداث في الخطاب حسب وقوعها، له أهمية في انسجام الخطاب؛ لأن خلخلة الترتيب يؤدي غالباً إلى عدم الانسجام، إلا أن الخطاب العلوي أفلت من ذلك؛ إذ أنه توخّى من النصوص القرآنية والنبوية شهوداً على قضية واحدة مما أعطى الخطاب فاعلية أكثر وانسجاماً وبالنتيجة حجاجية أعلى وبما يوفر له حرية استعمال الألفاظ لكي تقترن بعضها ببعض في بناء محبوك، ونجد ذلك واضحاً في التعبير (وأن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول ...) وفي التعبير (لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله ...) وما بينهما قوله (وإني متكلم بعدة الله وحجته، قال الله جل ذكره ...)؛ إذ أن هذه التوافقية في استعماله للأفعال لم يكن تكرارًاً بقدر ما هو (مقتضيات تداولية) (2) تتجلى فيها وظيفة الربط الفكري والتعبيري والحجاجي، كما أن استعماله لكلمتي (المؤمن والمنافق) بمثابة نقل اللفظة إلى المعنى الذي يتساوق مع مدلولها الفعلي في أثناء السياق.

إن هذا الانسجام في الخطاب وتوظيفه لنصوص قرآنية أو نبوية أو شعرية إنما غايته الاحتكام إلى القرينة الخارجية ليحتكم إليها المتلقي لفك التراكم الدلالي (3) في الخطاب، وبما يوفر فهماً لأبعاد الخطاب نفسه، ففي قوله محتجّاً على قريش لما فعلته معه بالرغم من أن بني هاشم هم السبب فيما فيه قريش وغيرها من العرب من الجاه والسلطة والمال. .

ص: 308


1- ابن أبي الحديد 16/10، والحديث النبوي الشريف في صحيح البخاري 186/7.
2- لسانيات النص - مدخل إلى انسجام الخطاب - 180.
3- ينظر: التفكير اللساني في الحضارة العربية 320.

( ... ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنَّهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم والله ما تنقم منا قريش إلّا أنّ الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيِّزنا ...) (1).

يتبنى الخطاب العلوي في انسجاميته (التبعية المفهومية) (2) التي تشير إلى أن المعاني المحمولة من قبل فقرات الخطاب هي تبعيات المواقف التي يتبناها الخطاب في مقابل المواقف التي يصرّ عليها الطرف الآخر، وبذلك فقد خلق الخطاب لنفسه مجالاً حجاجياً انطلق عن طريقه لتوجيه الإدانة الصريحة لموقف قریش زيادة على أن الدليل الذي جاء به الخطاب على أفضلية المتكلم هو الواقع الذي يمثل الإدانة في الوقت ذاته، وهذا يعني أن الخطاب منسجم مع ذاته ومع الواقع من حيث السعي إلى الحيلولة دون إعادة الزمن إلى الوراء، فقد بدا مستفهماً منكراً على قريش موقفها منه، وبعد أن استعمل الكلام مؤكداً بأكثر صيغة توكيدية ذكر سبب الأفضلية مقيماً الحجة على هذه الأفضلية التي هي السبب في كل ما يجري من صراع بين الدليل واللادليل بين السبب والنتيجة بين الإيمان والكفر حتى انتهى الخطاب إلى جعل التشبيه الذي جاء به في النص، فضلاً عن القسم، حجةً ودليلاً على صدق الخطاب وواقعيته الحجاجية.

وكما في التوظيف القرآني في الخطاب العلوي، فإن التوظيف الشعري المقترن بالقرآن الكريم نهجاً حجاجياً أفاد منه الخطاب في مستواه الحجاجي في تعزيز البرهان وانسجامه الداخلي، كما قال في كتاب إلى معاوية جواباً له:

( ... ثم ذكرتَ ما كان من أمري وأمر عثمان فلك أن تُجابَ عن هذه لرّحِمِكَ منه فأيُّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله منْ بذل له نصرته فاستقعدُه واستكفّه، أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه، حتى أتى قدره عليه! كلّا والله لقد (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ .

ص: 309


1- ابن أبي الحديد 147/2.
2- لسانيات النص 61.

الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا 18) (1) وما كنت لأعتذر من أني كنتُ أنقمُ عليه أحداثاً؛ فإن كان الذنبُ إليه إرشادي وهدايتي له؛ فرُبَّ ملومٍ لا ذنبَ له "وقد يستفيدُ الظَّنَّةَ المتنصِّحُ " وما أردتُ (أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (2)) (3).

يؤدي السياق الذي يجري من خلاله الخطاب، دوراً مزدوجاً يقوم على (حصر التأويل الممكن ويدعم التأويل المقصود) (4) الذي ينتج عنه انسجام الخطاب، بما يجعل الحضور الكلامي منطقياً قائماً على الجدل والمحاججة وإبعاد الشبهات كما أن استعمال النص لأكثر من آية ونص شعري ومثل كقوله في بدء الرسالة (لقد حنَّ قدحٌ ليس منها) إنما يشير إلى مجموعة استدلالات كان المتلقي على علم بها لأنه متلقٍّ خاص وليس عموم المتلقين، وهكذا فإن للسياق الذي جاء فيه الخطاب أثر فاعل في انسجاميته ولن يكون الإلمام به سهلاً دون معرفة السياق الذي انتظمت فيه الاستدلالات التي ذكرها.

3 - القياس:

لعلّ أرسطو أول من أشار إلى ذلك في مختلف أنواع الخطب (5)، كما أن القياس هو دعوة للعقل إلى التفاعل مع العالم الخارجي المحيط به (6) بما يحويه من قيم وقوانين سماوية أو وضعية زيادة على ما فيه من أعراف اجتماعية وثقافية؛ لأنه يمكن أن يتسع ليشمل كل أنواع الاستقراء والاستنتاج التي تقوم على الاحتمالية في 1.

ص: 310


1- سورة الأحزاب (18).
2- سورة هود (88) - لم يشر ابن أبي الحديد ولا محقق الكتاب إلى أنها آية بل جعلاها من كلام الإمام.
3- ابن أبي الحديد 137/15، وقد تضَمن النص شطراً من بيت شعر أوله: وكم سقت في آثاركم من نصيحةٍ، صفوة الشروح / 629.
4- لسانيات النص 52.
5- الخطابة 152 وما بعدها.
6- ينظر: في نهج بلاغة الخطاب الإقناعي 71.

بيان الحكم الناتج عنه.

ومن أمثلة القياس في الخطاب العلوي قول الإمام علي علیه السلام في ذم أهل العراق:

(أما بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمّت أملصت ومات قيِّمها وطال تأيُّمها، وورثها أبعدها.

أما والله ما أتيتكم اختباراً، ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد بلغني أنكم تقولون: عليٌّ يكذب، قاتلكم الله تعالى! فعلى من أكذب! أعلى الله فأنا أول من آمن به! أم على نبيّه! فأنا أول من صدّق به! كلّا والله، لكنها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها ويلُ أمّه كيلاً بغير ثمن لو كان له دعاء، ولتعلمنَّ نبأه بعد حين!) (1).

بني النص على القياس من الأصغر إلى الأكبر، ومن الخاص إلى العام وفيه مقدمات، أولها أن أهل العراق كالمرأة الحامل، والمقدمة الثانية أن هذه المرأة حينما حملت فلما أتمّت مدة الحمل أملصت أي أسقطت حملها، والمقدمة الثالثة "مات قيّمها وطال تأيُّمها وورثها أبعدها ".

فأهل العراق ما داموا كالمرأة الحامل هذه فهم قد فقدوا كل ما صار بحوزتهم من انتقال الخلافة إلى بلدهم، بعد أن أصبحوا هم مركز الدولة الإسلامية؛ لأنَّ سيرتهم الأبعد مكاناً ونهجاً وسلوكاً.

ثم ينتقل الخطاب في قياسه وهو كذلك قياس الأصغر على الأكبر، والخاص على العام في قوله (ولقد بلغني أنكم تقولون: عليٌّ يكذب) وهذه مقدمة أولى ثم يتبعها بدعاء وهو بمثابة الفصل بين مقدمات الخطاب الحجاجي؛ إذ عقب ذلك بمقدمة ومصداقها معها فقال (فعلى من أكذب! أعلى الله ورسوله فأنا أول من آمن به) وتليها المقدمة الثانية ومصداقها أيضاً (أم على نبيه! فأنا أول من صدّق به) ثم جاء بكلام فسّر فيه العلاقة بين مقدمات الخطاب وأسبابه ونتائجه، فقد أشار .

ص: 311


1- ابن أبي الحديد 101/6.

الخطاب إلى أن هؤلاء (أي أهل العراق) هم مقلّدون؛ لأن هذه التهمة لم يكونوا أهلها، بل كانوا ببغاوات يرددون ما يقول الآخرون عن الإمام وكأنه لم يكن بين ظهرانيهم فيعرفوه معرفة حقيقية، فكانوا يتهمون الإمام بالكذب ليس عن تجربة وإنما يرددون ذلك مع أعدائه، وقد وصف ذلك بأنه (كيلٌ بغير ثمن)، كما أن هذه المقدمات في الخطاب تنتهي إلى نهاية مفادها تقديراً:

إن أهل العراق يقولون: عليّ يكذب علیها السلام لهجة غابوا عنها + كيلاً بغير ثمن علیها السلام لا يعلمون حقيقة أمر الإمام.

الإمام علي أول من آمن بالله وأول من صدّق رسوله، والذي كان هكذا لا يمكن أن يكذب، فأهل العراق هم الذين يكذبون؛ لأنهم رددوا هذا الكلام دون معرفة صحيحة، ونتيجة لذلك فإن أعداء الإمام هم الذين يكذبون؛ لأنهم ليس لهم ما للإمام من أولية الإيمان وأولية التصديق.

ومن القياس في الخطاب العلوي الذي اعتمده في بيان مستواه الحجاجي قوله:

( ... أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قَوِيَ عليكم، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليُضَعَّفَنَّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد ...) (1).

وهذا ما يمكن أن نسميه القياس الفرضي؛ لأنه يُدخل الفرضية في الحجاج لإقامة الدليل في بيان سلوك هؤلاء، مما يعد مقدمات الخطاب التي تقوم عليها المحاججة وبيان العلة في سلوك الناس مسلكاً خاطئاً، فقوله ( ... لو لم تتخاذلوا ... ولم تهنوا ...) مقدمة أولى وقوله ( ... لم يطمع فيكم ... ولم يقوّ من قوي عليكم) يمثل النتيجة التي تنتهي إليها عملية التخاذل والوهن كما أن قوله ( ... لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليضعفنَّ لكم التيه ...) فيه مقدمة كبرى وقسم توثيقي، 9.

ص: 312


1- ابن أبي الحديد 217/9.

تشير المقدمة الكبرى التي حاول النص أن يبني عليها هرمية الحجاج، إلى متاه بني إسرائيل وهو حقيقة وجودية إلا أن الخطاب العلوي حمل المتلقّين على الصفة نفسها وجعل تخاذلهم ووهنهم هو بمثابة التيه، ثم فتح الخطاب باتجاه أوسع وهو مضاعفة التيه بسبب تركهم الحق وراء ظهورهم ومتابعة الباطل، الأمر الذي دعاهم إلى مقاطعة الأقرب، وصلة الأبعد، وبذلك تتحقق حجاجية الخطاب في أن التيه عن الحق هو سبب التخاذل والانهزام بالاعتماد على فرضيات الخطاب وتعالق المعاني المنبثقة من السياق.

ومن القياس في الخطاب العلوي في مستواه الحجاجي قول الإمام في الخوارج:

(لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه) (1).

وهذا النص يضمر قياساً يمكن التعرف عليه من خلال وضع احتماليات القياس وبما يسهم في فك منطقية الحجاج فقوله (ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه) يضمر مقدمة كبرى هي لب الحجاج، وهي أن الإمام على الحق وأن هؤلاء الخوارج قد وقعوا في شبهة فضلّوا طريق الحق (2)، وبالقياس إلى هذه المقدمات الثلاث ننتهي إلى أن الذي يطلب الحق فيُخطوه لا يجوز مقاتلته من قبل الذي يطلب الباطل فيدركه، وأن الأولى بمقاتلة مخطئ الحق، الذي هو على الحق، وهو كذلك الأولى بمقاتلة مصيب الباطل؛ لأن ذلك يحتاج إلى معرفة ربانية وعلم يقين بما يمكن أن يكون عليه الحال حين وقوع القتال بين من طلب الباطل فأصابه وبين من طلب الحق فأخطأه.

كما أن الخطاب العلوي قد استعمل في مستواه الحجاجي قياساً تفاضلياً، ونعني يه الأفضلية الشخصية بما يمتلك من مؤهلات يجعلها في مقام أرفع بحيث .

ص: 313


1- المصدر نفسه 66/5.
2- ينظر: المصدر نفسه والصفحة.

تكون بمقام المتبوع لا مقام التابع، ومن ذلك قوله عن الخلافة:

( ... أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلّي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير ...) (1).

في هذا النص جاءت النتائج قبل المقدمات النظرية للخطاب وهذا ما يبنى عليه قياس الأفضلية، لأن تعداد المقدمات قبل النتائج لن يجعله قياساً تفاضلياً، إنما ذكر النتيجة المقررة واقعاً لبيان حجية المقدمة النظرية، وهذا يعني أن العلم بالشيء وفعل ما يناقضه إنما يقيم الحجة على الفاعل بما يستوجب معه الإدانة، ولذلك سعى الخطاب العلوي إلى ذكر حقيقة هي أن أبا بكر يعلم أن محل الإمام من الخلافة محل القطب من الرحى، وهذا يعني بالنتيجة علم أبي بكر بأفضلية الإمام عليه، إلا أنه سعى إلى الفعل الذي يقوّض هذه الأفضلية، بل إن وصف الإمام نفسه بأنه (لا يرقى إليه الطير) علم أبي بكر بذلك، ووصف عملية تولي أبي بكر الخلافة بمثابة (التقمّص) هذا يعني أنها لم تكن من نصيبه وإنما أخذ ما ليس له بحق بدلالة الفعل (ليعلم) وأداة التوكيد الملاصقة له.

ومما يمكن أن يدخل في قياس الأفضلية أو التفاضلية قول الإمام عن قريش في موضوع الخلافة وكيف أنهم أخذوها، قال الإمام:

( ... فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وآله - ،قبلي، فَجَزَتْ قريشاً عني الجوازي! فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أمي ...) (2).

اعتمد الخطاب في مستواه الحجاجي هنا على إبراز النتائج التي أرادها الخطاب، لأن قياس التفاضلية هنا أظهره مقروناً بالنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ليكسبه قوة في إبطال ما يسعون إليه، ولأن الدعوى تتصل بإقامة الدين ذكر أن حربهم له كحربهم6

ص: 314


1- ابن أبي الحديد 154/1.
2- ابن أبي الحديد 115/16

لرسول الله محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وأن قوله (فجزت قريشاً عني الجوازي) يجري مجرى المثل (1) جاء به لتعزيز الحجاج المرجوّ من القياس التفاضلي الوارد في النص؛ لأن ذكره قضية الخلافة وسلبها من قبل قريش محتجّاً عليهم بأن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم هو أخوه وابن أمه إنما يمثل أقصى حالات القياس؛ لأنه أولى من كل أحد بالنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهو بذلك يفاضلهم فيفضلهم بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم، وهذا يعني أن كل النتائج التي ترتبت على هذه المقدمات في الخطاب تعد غايات حجاجية تثبت أحقية الإمام وتبطل كل عمل تقوم به قریش ضده.

ومن الخطاب العلوي ما جاء فيه لفظة القياس لنفي القياس قول الإمام في آل بيت النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم:

( ... لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة ...) (2).

نفى الخطاب العلوي هنا القياس بين الناس وبين آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم؛ إذ ذكر الأسباب وعطف بالمسببات وهذا يعني أن المقايسة تتم بشروط يتوافق فيها طرفا المقايسة، فإذا مالت الكفة إلى جانب دون الآخر انتفى القياس أصلاً، وهذا الذي أراده الخطاب حين ذكر أن آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم لا يقاس بهم من كانوا هم سبب نعمته لأنهم قد امتلكوا خصائص لم تتوفر لسواهم فكانوا بذلك أهلاً لتلك الأفضلية.

رابعاً / المستوى التأمّلي: مفهوماً واصطلاحاً

إذا كان أفلاطون قد جعل الخطاب (عنصراً لتأمل أخلاقي له مدى كوني) (3)، وأرسطو جعله (أداة عملية للتمويه) (4)، فإن الخطاب العلوي جعل التأمل

ص: 315


1- المصدر نفسه 117/16.
2- ابن ابي الحديد 1 / 144.
3- التداولية من أوستن إلى كوفمان 21.
4- المصدر نفسه والصفحة.

يرشح من بين تعبيراته كافة، فهو في كلماته التي نطق بها أو كتبها في عهوده ومواثيقه كان ينحو منحىّ تأمليّاً، لا كما هو مألوف لدى غيره في التأمل الفلسفى للوصول إلى حقائق الأشياء، بل إنه يستجلي هذه الحقائق لمعرفته بها ولكونه يرغب من الآخرين أن يكونوا على المنهاج نفسه على الأقل؛ لأن الإمام علي علیه السلام عبّر عن تأمله المعرفي المقترن باليقين فقد قال الإمام (ماشككتُ في الحق منذ أريتُهُ) (1)، وهذا يعني أن هذه الرؤية هي بمعنى المعرفة (2) التي لا يشوبها شك ولا يمكن أن تخضع للحدس والظن والتشكيك؛ إذ أن النص في إشارته إلى الرؤية يعني أنه خرج من دائرة الظن الكبرى إلى دائرة التعامل الواقعي مع الألفاظ فى دلالاتها ومعانيها؛ لأن الرؤية التي أشار إليها النص لا يمكن حملها على أساس الرؤية البصرية، وإنما تدركه القلوب عن طريق التأمل الروحي الذي أشار إليه الإمام بقوله لأحدهم حين سأله هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فكان جوابه:

(أفأعبدُ ما لا أرى!) (3) وهذا معناه أن التأمل الروحي للإمام بلغ حداً لا يمكن التكهّن به عن طريق مستويات الوصول العادية التي درج عليها من هم دونه في هذا الباب؛ لأننا يمكننا القول بأن الجواب يتوافق تماماً مع النص السابق فى إشارته التأملية تلك، وحين يستتم جوابه للسائل بقوله (وكيف تراه؟) كان جواب الإمام يمثل انتهاكاً لكل مستويات اللغة؛ لأنها لا تستطيع أن تتحمل أكثر من قابلياتها التعبيرية الكامنة فيها، فقال (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس بعيد منها غير مباين ... لطيف لا يوصف بالخفاء كبيرٌ لا يوصف بالجفاء بصيرٌ لا يوصف بالحاسة رحيمٌ لا يوصف بالرقّة، تعنو الوجوه لعظمته، وتجبُ القلوب من مخافته) (4).

يستند النص إلى ركيزتين مهمتين فيه هما الإدراك واللا إدراك - إن صح 0.

ص: 316


1- ابن أبي الحديد 300/18.
2- المصدر نفسه والصفحة.
3- المصدر نفسه 51/10.
4- ابن أبي الحديد 51/10.

التعبير؛ لأن قوله (لا تدركه العيون ...) بالضد من قوله (تدركه القلوب) وبين مشاهدة العيان وحقائق الإيمان مجال فسيح للتأمل؛ لأن صرف النظر هنا إلى النظر القلبي ليس بالأمر الهيّن فالشعور الباطني الذي يقدّم الحقائق الثابتة دون التشكيك فيها، إنما يمثل ماهية التأمل الروحي؛ لأن (حدس "التأمل" هو كشف وإلهام يمكن "المتأمل" من رؤية ما لا يرى ومعرفة ما خفي واستتر) (1)، فالحدس التأملي يُبنى على معطيات ذاتية لدى المتأمل الروحي تشمل الخيال والرؤى والإلهام، وهذه المعطيات تمنحه الطاقة الروحية لاقتناص الكليات والخروج بتجربته من الفردية إلى الموضوعية، وحينذاك تصبح تجربته شاملة وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله (قريب من الأشياء غير ملامس بعيد عنها غير مباين) ثم أردف ذلك بقوله عن الباري عز وجل (لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء) مما يعني أن لفظتي (لطيف، كبير) دلّتا على مدى التنافر بين المعنيين إلا أن ذلك لم يحطّ من قيمتهما السياقية في النص؛ لأن (لطيف) يمكن أن يذهب فيها المتلقي إلى معنيين، أحدهما أنه (لا يرى لعدم صحة رؤية ذاته) (2)؛ لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب أخرجه من دائرة الأجسام اللطيفة في استحالة رؤيتها (3)، وثانيهما أن (لطيف) هي من الأسماء التي وردت في القرآن الكريم، وهي تعني الرحمة الإلهية بالعباد، وهذا يشير إلى أن إدراك هذه الحقائق لا يمكن أن يتم بوساطة التصوير البصري، إنما يجري على وفق إطلاق الحدس التأملي الذي يتحول بالنتيجة إلى نص منطوق أو مكتوب تتضح رؤية التأمل من خلاله بما تحمل من إشارات تخاطب الوجدان والشعور، وتفتح المجال رحباً أمام الخيال لكي يسبح في عوالم سديمية ربما يصح لها أن تنتمي إلى عالم الأحلام وليس إلى عالم اليقظة؛ لأن التأمل في حالة الرؤية التي ذكرها النص يتحول إلى طاقة تصويرية داخلية تنتزع آفاقها من الواقع المنظور لتتداخل مع اللامرئي، وهذا يعني البحث عن الجذر الذي تنتمي إليه روحياً. ة.

ص: 317


1- اشتعال الذات 80.
2- ابن أبي الحديد 52/10.
3- ينظر: المصدر نفسه والصفحة.

في كلامه عن الباري عز وجل، يستشف هذا التأمل الذي تحمله الكلمات في سياقها، قال الإمام علي علیه السلام:

(الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه،العادون ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعدُ الهمم ولا يناله غوصُ الفطن الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته ووتّد بالصخور ميدان أرضه ...) (1).

إن عمارة النص تمكننا من أن نتصورها تأملياً على أنها يمكن أن تبنى بأكثر من طريقة، ليس لأن النص يعاني من ضعف التصور أو عدم الترابط الفكري، بل إن النص يتصف بالمرونة الفكرية التي يستطيع من خلالها المتأمل أن يعيد صياغته على وفق ترسيمة تخرجه من دائرة الكلمات المتراصة إلى فضاء التشكيل المتفرع في دائرة الوجود الكبرى من دون أن يمسك بنهاياتها حدّ التصور أو التأمل البشري إنما تبقى مفتوحة إلى ما لانهائية الوجود كما بدأت من لا محدودية الصفة، ولا معدودية الزمن، مروراً بالحمد والمدح اللذين توهّم في شرحهما ابن أبي الحديد حينما قال (الذي عليه أكثر الأدباء والمتكلمين أن الحمد والمدح أخوان لا فرق بينهما) (2) وهو صحيح من حيث اللفظ أما من حيث المعنى فأحسب أن ذلك مختلف، إذ أن الحمد عن نعمة سابقة، والمدح على نعمة مأمولة؛ لأن التناظر في الحروف لا يعني بالضرورة التماثل بالمعنى، كما أن سياق النص يومئ إلى أن (الحمد) صادر عن الذات المتكلمة، أما قوله (لا يبلغ مدحته القائلون) فإنه يشير إلى أن المدح صادر عن غيره، وهو داخل في ذلك، وهو ما يكون عن نعمة متوقعة ومأمولة.

من ذلك نستطيع القول إن قراءة ثانية تجعل النص مركباً تركيباً جديداً يتمثل فيه بناء النص من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس تبعاً لإيراد السبب والنتيجة، وكما .

ص: 318


1- ابن أبي الحديد 81/1.
2- المصدر نفسه والصفحة.

أشرنا قبل قليل إلى ترسيمة النص التي يمكن تخطيطها وفقاً لما يراه المتأمل في لحظة التلقّي الوجداني، إذ ستكون كالآتي:

الصورة

بما يمكننا أن نفهم النص على أن توالي النعم من الباري عز وجل وهذه القدرة التي لا يستطيع الإنسان أن يتصورها بعقله القاصر لا يمكن تأملها إلا لأن تكون سبباً لئلا يجد القائلون مجال قولٍ لكي يستطيعوا الوفاء لله تبارك وتعالى بالحمد والمدح، ولا المجتهدون بأداء حقه، وصولاً إلى النتيجة الكبرى الأولى التي هي عدم إحصاء النعم الإلهية بما يفضي إلى نتائج كبرى جديدة في وضعها العمودي الممتد بین لحظة الوعي الداخلي والإحساس بالوجود.

ترتبط عملية الحدس التأملي ارتباطاً وثيقاً بالعفوية في الخطاب والتلقائية، بناء على انصهار الذات في بوتقة الشعور بالفناء والذوبان في التأمل الوجودي، وبما يحقق أعلى مستوى من الانثيال في اللغة لكي يترجم ذلك الإشراق المنبعث من داخل الروح كالبرق الخاطف، يقول الإمام علي علیه السلام في ترنيمة تكاد تنطق عن نفسها:

( ... اللهم لك الحمد على ما تأخذ وتعطي وعلى ما تعافي وتبتلي

ص: 319

حمداً يكون أرضى الحمد لك، وأحب الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك.

حمداً يملأُ ما خلقتَ، ويبلغُ ما أردتَ

حمداً لا يحجبُ عنك، ولا يُقصَرُ دونك

حمداً لا ينقطعُ عددُهُ، ولا يفنى مدَدُهُ،

فلسنا نعلم كنه عظمتك، إلا أنّا نعلمُ أنك حي قيوم، لا تأخذه سنةٌ ولا نوم لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر، أدركت الأبصار وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام وما الذي نرى من خلقك، ونعجب له من قدرتك، ونَصِفه من عظيم سلطانك، وما تغيّبَ عنّا منه وقصرت أبصارنا عنه وانتهت عقولنا دونه وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه، أعظمُ.

فمن فرّغ قلبه وأعمل فكره؛ ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذراتَ خلقك، وكيف علّقتَ في الهواء سمواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيراً وعقله مبهوراً، وسمعهُ والهاً، وفكره حائراً ...) (1).

إن هذا النص يمكن أن يقال عنه إنه فعل دعائي - نسبة إلى الدعاء - لكنه بقوة ما يتضمنه من فعل كلامي ارتقى إلى مستوى التأمل؛ وهذا يمكن ملاحظته من خلال استعراض فقراته، فقد بدأت بهذا الاستهلال التعبدي (اللهم لك الحمد ...) ثم تم استدعاء صفات هذا الحمد بعد ذلك يبحر في تأمل يتجلّى من خلاله ذلك المقدس الذي يتلاشى من دونه العقل والبصر والفكر وتهيم فيه الموجودات؛ لأن المعنى المطلوب من وراء هذا الرصف في الكلمات هو الحقيقة، وعبر هذا التأمل الذي تعيش فيه الكلمات وتنبثق من خلاله الإشارات وهي تمثل (رؤيا أو وحياً مغروساً في وعي الفرد من الخارج بوساطة قوة مطلقة القدرة فكأنه تعبير مجازي عن قوة الخيال الفردي ومقياس لقدرته) (2)، يمكن الوقوف على حافة التأمل الذي يعني في أسمى لحظاته، انفتاحاً روحياً إلى الأعلى، وعلى كل ما هو لا نهائي في .

ص: 320


1- ابن أبي الحديد 171/9.
2- الوعي والفن 131.

الوجود.

سمات المستوى التأملي

وللمستوى التأملي سماته، كما للمستويات الأخرى التي تعرضنا لها بالدرس والتحليل، ويمكن تحديد سمات هذا المستوى في الآتي:

1 - :التصوير

يعد التصوير في المستوى التأملي - من وجهة نظرنا – سمة تتخذ من التصوير الفني المتعارف عليه بلاغياً، قاعدة انطلاق له في محاولته المزاوجة بين التصوير الذهني والتصوير اللغوي؛ لأن ذلك يمثل تصويراً لتفاعل المتأمل مع العالم الواقعي من جهة ومحاولة التخلص من هذا البعد المادي والتجرد بعيداً عنه على الأقل روحياً من جهة أخرى.

إن التصوير في المستوى التأملي يعتمد اللغة في تركيباتها المعروفة وسيلة له مستنداً إلى طاقات اللغة التي تمنحها؛ وإن المهم في هذا التصوير ما يمنحه للمتلقي من تصورات وأحاسيس ورؤى يبنيها عبر تفاعله مع الأفكار والسمات الجمالية التي يزخر بها النص (1)، زيادة على المتعة الأدبية التي يستشعرها المتلقي من وراء ذلك، وهكذا فإن التصوير في هذا المستوى تصبح وظيفته الأساسية هي (استشفاف الجوهر والتعبير عنه وتقديمه مباشرة دون تفسير وبرهان) (2)، إن الخطب في مستواه التأملي (ينقل تجربة في الباطن الخفي ... وهي تجربة متعالية، على الرغم من تأصلها في الزمان لا نقدر أن نؤطّرها، فضلاً عن أنها تتجاوز حدود الطاقة اللغوية، فهناك محدودية للكلمات أمام لا محدودية التجربة اللغة تجيء من العالم والتجربة تجيء مما وراءه، وهذه التجربة رؤيا في اتساع دائم) (3).

إن هذه اللامحدودية هي المحور الذي يدور حوله الخطاب العلوي في مستواه التأملي، يقول الإمام علي علیه السلام في إشارته إلى اللامحدودية في وجود الحق تعالى:

ص: 321


1- ينظر: اشتعال الذات 29.
2- الوعي والفن 145.
3- الصوفية والسريالية 238 - 239.

(الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور، ودلّت عليه أعلام الظهور وامتنع على عين البصير فلا عين من لم يره تنكره ولا قلب من أثبته يبصره، سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه، وقرُبَ في الدنوّ فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به ... فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عما يقوله المشبّهون به والجاحدون علوّاً كبيراً) (1).

إن هذا التصوير اللامحدود الذي يشير إليه النص، إنما ينطلق من ركيزتين أساسيتين هما: البصيرة القلبية والنظر الروحي؛ لأن قوله (فلا عينُ من لم يرهُ تنكره) يعني أن رؤيته لا تتم بالعين المتعارف عليها أي الحاسة المعروفة، وإنما تتم عبر عين روحية أشار إلى ذلك الإمام بقوله: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ...) (2)، وهذا يؤكد (الإطلاق الذاتي وعدم تناهي الذات) (3)، بمعنى أن الإحاطة بتلك الصورة محال مطلقاً، فالعين الحاسة لا يمكن لها أن تحتوي ما لا حدود له، في الوقت الذي نرى فيه أن تلك الصورة - مع جواز التعبير - هي حقيقة الحقائق، فكيف لما هو محدود أن يدرك ما ليس محدوداً؟

إن الخطاب العلوي في مستواه التأملي يمثل التأسيس الأول للنظرية الصوفية الإسلامية وإلى ذلك يشير ابن أبي الحديد بقوله (ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون ... ويكفيك دلالة على ذلك أن الخرقة التي هي شعارهم ... وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام) (4)، مما يفيدنا في القول بأن المستوى التأملي في الخطاب العلوي هو أقرب إلى (أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوّراته المحدودة بحدود مداركه .

ص: 322


1- ابن أبي الحديد 169/3.
2- المصدر نفسه 51/10.
3- الحكمة النظرية والعملية في نهج البلاغة 93.
4- مقدمة الشرح 45/1.

واستعداداته) (1) في فهم هذا الكون وتجليات الخلق ومحاولة صياغة كل ذلك القهم والإدراك عن طريق اللغة، على أن ذلك لا يتم إلا بالتأمل في التجلّيات الفلسفية والجمالية التي تنبثق عن هذا التفاعل الإنساني.

إن إشارات الخطاب العلوي في تأمله تتجه إلى أن العقل يقف قاصراً أمام الاكتناه وأمام الإحاطة العلمية لذات الحق تعالى فلا يمكنه إدراك كنه الذات المقدسة؛ لأن المحيط المحض لا يقع مطلقاً تحت إمكانية إحاطة المحدود إطلاقاً، وإلى ذلك يشير الإمام علي علیه السلام في كلامه بقوله:

(الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته وردعت عظمته العقول فلم تجد مَساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته، هو الله الحق المبين، أحقّ وابينُ مما ترى العيون، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مُشَبَّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقديرٍ فيكون ممثّلاً ...) (2)

إن العروج في المستوى التأملي يقدم حركة ذهنية تقف اللغة فيها تحت الهامش؛ بمعنى أن اللغة لا تستطيع مواكبة هذا العروج في التأمل؛ لأن الأوصاف انحسرت عن ذلك الكنه المعرفي، وانحسارها ذاتي إدراكاً منها بعدم القدرة على ضبط مكامن الصورة في أوصافها الكلية، الأمر الذي يحيل الإدراك اللامحدود إلى تجليات تأملية تنسج من أهداب الخيال تصويراً يبرز لديها عظمة الباري عز وجل رادعاً للعقول من أن تبلغ غاية ملكوته؛ لأن اكتشاف الذات بالتأمل يعد منهجاً نتحسس من خلاله وجودنا فإذا كان بلوغ غاية الملكوت هو آخر درجات التأمل فالنتيجة هي أن هذه العقول مازالت تفتقر إلى كثافة مطلقة تجعلها خارج الزمن (3)، لكي تكتشف ضعفها الباطني الذي يمنعها من أن تكون مطلقة الرؤيا، وهذا ما أشار إليه قوله ( ... أحقّ وأبين مما ترى العيون لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مُشبَّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلاً)؛ إن قوله هذا يحدد عن طريق الإشارة 3.

ص: 323


1- بنية الخطاب النقدي 94.
2- ابن أبي الحديد 140/9.
3- ينظر آفاق الفكر المعاصر 93.

والرمز والتجريد، تلك الدلالات والمعاني المنزوية وراء حجب اللغة؛ لأن اللغة لن تستطيع أن تعبر ما لم يكن تحت تصرفها في إطار نظرية المعرفة الإنسانية، وهذا يجعلها بالنتيجة غير قادرة على استكناه التصور التأملي في أعلى درجاته.

إن البحث عن التصوير في الخطاب العلوي في مستواه التأملي، من حيث معاضدته لمكونات الخطاب بحثاً في خصوصيات نص مفرد قائم بذاته، وأن ما يكشف عنه البحث هي الخاصية والصفة التي تتساند مع مكونات جنس أدبي تسانداً ينتج تصويراً فنيّاً (1)، وبذلك يكون مستوى التأمل فسيحاً وتكون وظيفته المطلوبة إبراز أو تقريب وصف الحقيقة الكلي عن طريق التصوير إلى ذهن المتلقي الجزئي بما يجعل وجه الحقيقة متجلياً في الدلالة والمعنى والمضمون والشكل الفني.

إن التعويل على الإمكانات اللغوية والبلاغية والصيغ التعبيرية والأساليب الفنية في تشكيل الخطاب في مستواه التأملي، يمثل نهجاً يريد الخطاب يريد الخطاب من خلاله بيان قدرته على التصوير الذي يستند في تكوينه إلى الترميز والبناء الإشاري وعبر هذا التشابك بين طاقات اللغة وترميزها يتمكن من تصوير الذات الإلهية وعلاقتها بالإنسان بوصفه مخلوقاً محدوداً، على أن ذلك يعد من المدارات التصويرية التي ضرب فيها الخطاب العلوي في مستواه التأملي بسهم وافر، يقول الإمام علي:

(هو القادر الذي ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته وحاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته - ردعها وهي تجوب مهاوي سُدّف الغيوب، متخلِّصَةً إليه سبحانه، فرجعت - إذ جبهت - معترفةً بأنه لا يُنال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرّديّات خاطرةٌ من تقدير جلال عزّته ...) (2).

إن توالي الصور في النص يعني أن خصبها متسق في استنباتها، فتفرع عن 6.

ص: 324


1- ينظر: اشتعال الذات 86.
2- ابن أبي الحديد 316/6.

أشكال وألوان متعددة في تداخل عجيب بوشائج تجعلها تنتمي إلى التأمل في أرقى درجاته لولا أن نماءها العضوي يتم في إطار التركيبات اللغوية، وهي متسقة الخطوط لا يكاد يقع منها المتلقي على فجوة أو ثغرة ينفذ منها إلى ما يمكن أن يكون شرخاً فكرياً في الخطاب في مستواه التأملي، فهو يقول (الحمد لله الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته ...) فالارتماء هنا يذهب إلى جولان الخيال متوهّماً إدراك اللامحدود، وبمتابعة الجملة التي تأتي بعدها يمكن القول أن هناك صراعاً خفياً بين الأوهام والخيالات من جانب، والروح الخالي من شوائب ما علق بها من وساوس من جانب آخر، على أن هذا الصراع لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة على صعيد تصوير الذات المقدسة، وكلما اشتد عشق النفوس والقلوب وذهبت كيفما تشاء فإنها لن تستطيع أن تأتي بشيء إلا بما تجود به اللغة في تركيباتها بما يدفع إلى التشتت الفكري، وبما يضفي على الخطاب هالة من التلاحم الكلامي المعنوي؛ لأن ذلك يرجع إلى محاولة اقتناص الأفكار التجريدية وتمثلها من خلال تحويلها إلى صيغ في اللغة تتناغم والعقل الإنساني في أرفع درجاته التأملية.

إن التصوير في الخطاب العلوي في مستواه التأملي، تصوير لغوي يستند إلى طاقة الخيال لتكوين صورة الحسية والمجردة على السواء، لأنه نابع عن الإنسان ومعبر عنه بوساطة اللغة لا يمكنه أن يتعدى الحدود الحسية للخيال، بالرغم من أنه مكون جوهري في التصوير في المستوى التأملي بما يجعله ينفتح على مختلف العوالم الواقعية والإيهامية التي يوردها الخطاب ويسعى إلى تصويرها عبر مختلف الإمكانيات التي تمنحها له اللغة إلا أن هذا التصوير هو بمثابة استشعار المتأمل في أعماقه ووجدانه لما يراه بحقيقة إيمانه لا مشاهدة عيانه - كما عبّر الإمام - وبذلك يتضح الرابط بين العبد وبين الخالق عز وجل يقول الإمام علي علیه السلام:

(فانظر أيها السائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به واستضى بنور هدايته، وما كلّفك الشيطانُ علمه، مما ليس في الكتاب فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمّة الهدى أثرهُ، فَكِلْ علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك

ص: 325

منتهى حق الله عليك ...) (1).

تتبين أهمية النص في أنه يشير بوضوح العيان، إلى أن المراوحة بين الحقيقة والوهم في عملية صراع ملتهب هي لب المستوى التأملي في الخطاب، وهي تخلص من ذلك إلى معرفة الحقيقة المقدسة بكيفية مجردة متعالية عن الزمان والمكان والإنسان.

2 - الإشارة أو الرمز:

تتشكل الإشارة في الخطاب العلوي في مستواه التأويلي عن طريق (الإشارات اللغوية التي تنتج معانٍ ثوانٍ لا يمكن الوصول إلى أبعادها ... إلا عبر طاقة التأويل) (2)، وأن هذه الإشارات أو الرموز التي تنبثق من بين تراكيب الخطاب من سماتها أنها شفافة وفي الوقت ذاته، قادرة على مخاطبة وجدان المتلقي وخياله وذهنه.

إن توظيف الإشارة في الخطاب بوصفها (وسيلة لتهجّي اللامنطوق، وهو يتحدث عن شيءٍ ما لا يمكنه أن يعبر بألفاظ ويلجأ إلى وصف يجتاز الإحساسات ويسمح بقياس المسافة الكائنة بين التداول العام لهذه الألفاظ والحقيقة التي تدفعه لإظهارها) (3)؛ إذ يمكن أن يتم ذلك من خلال التعبير المغمور بالإشارات التي لا تزيد العبارة إلا غموضاً وانغلاقاً؛ لأن الأمور الذوقية يستحيل إدراك خصائصها بالعبارات النطقية، مما يعني أن لغة الإشارة تؤدي وظيفة تعبيرية تسمو على اللغة المباشرة؛ لأن الإشارة (هي البؤرة التي تتجمع عندها ملكات الإدراك الإنساني في الحدسية والذهنية والوجدانية لدى المتلقي لتكوين عالمه التخيّلي ولبناء معانيه الخاصة التي توحي بها) (4) الإشارة تلميحاً لا تصريحاً.

إن الذوق والتأويل والتخييل تمثل أهم المرتكزات التي يتم عن طريقها .

ص: 326


1- ابن أبي الحديد 313/6.
2- اشتعال الذات 39.
3- الخطاب الصوفي، نص حركة الجسد، 53.
4- اشتعال الذات 40.

تلقي الإشارة التي يحملها الخطاب في مستواه التأملي؛ لأن الإشارة تكون بمثابة الدليل على عجز الخطاب عن التعبير عن كنه الذات إلا أنها تحاول عكس جانب أو أكثر من جوانب الحقيقة، فالخطاب (يجسد خبرته في رموز) (1) للمتلقي بما يحفزه على محاولة الإمساك بدلالات هذه الرموز وأبعادها، وصولاً إلى تحويلها إلى لغة مفهومة ومدركة منطقياً أو عملياً أو فنياً وجمالياً (2).

يقول الإمام علي علیه السلام في توجيه الخطاب إلى الباري عز وجل، وفي ذلك يمكن رؤية الإشارة المنطقية:

(فأشهد أن من شبّهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا نِدَّ لك، وكأنه لم يسمع تبرّؤ التابعين من المتبوعين، إذ يقولون (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٩٧﴾ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٩٨﴾) (3) كذب العادلون بك، إذ شبّهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزّؤك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم) (4).

تتشكل البنية الرمزية أو الإشارية في الخطاب بكيفيات متنوعة، ولأن الدلالة الرمزية أو الإشارية هي طاقة إيحائية تتضمن معنى مقصوداً وآخر غير مقصود فإن النص المذكور يحمل من منطقية الإشارة في خطابه المباشر إلى الباري عز وجل؛ إذ أنه بعد أن قدّم قوله (فأشهد أن من شبّهك بتباين أعضاء خلقك ... لم يعقد غيبَ ضميره على معرفتك ...) الذي يحمل من إمكانية البحث العقلي للوجود وبطابع كلي تنطق عنه دعوته وشهادته بالكف عن النظر إلى العالم الخارجي والنظر التأملي في الأنا المفكرة (5)؛ لأن استعمال الآيات القرآنية 6.

ص: 327


1- موسوعة المصطلح النقدي 64.
2- ينظر: الرمز الشعري عند الصوفية 19.
3- سورة الشعراء 97 - 98.
4- ابن أبي الحديد 360/6.
5- ينظر: الفينومينولوجيا - المنطق عند أدمون هوسرل - 56.

في خطاب التأمل إنما يفصح عن توجه منطقي يحمل سمة حجاجية وتوظيفها في أثناء البنية الإشارية أو الرمزية للدلالة على لامحدودية المطلق، ولاسيّما أن الخطاب في تكملته التي يقول فيها (كذب العادلون بك، إذ شبّهوك بأصنامهم ... وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم) التي تتخذ من التعليلية منهجاً في إبراز التفكير أو التأمل الذاتي الذي هو ملاحظة الذهن لعملياته الباطنية، مما ينتج عنه كثافة العمليات الاستدلالية التي يقوم بها الذهن نفسه فتصبح هذه العمليات أفكاراً تؤدي إلى المعرفة.

كما أن استعمال النص لبعض الأساليب البيانية أو الألفاظ الدالة على التشبيه (شبّهك، كأنّه شبّهوك ...) إنما يستند إلى الطاقة الإيحائية التي تكتنزها هذه الأساليب فتتحول إلى إشارات موحية تكتنفها ظلال من المعاني والدلالات التأملية، وهذا واضح في قول الإمام (وأشهد أنّ من ساواك بشيءٍ من خلقك فقد عدل بك والعادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك ونطقت عنه شواهد حجج بيّناتك، وأنت الله الذي لم تتناهَ في العقول، فتكون في مهبِّ فكرها مكيَّفاً، ولا في رويّات خواطرها محدوداً مصرَّفاٌ) (1).

إذ أن استعمال النص للأساليب البيانية كالاستعارة وغيرها وهي تتواءم داخل النص مع بيان الحجة وإظهارها تدل على لا محدودية الباري عز وجل مما يعني أن النص ينزع نحو البعد الحجاجي في الخطاب، بالرغم من أن ذلك لا يفسد الإشارية المنطقية التي تغلّف النص أو الخطاب، كما أن النمط التقريري الذي يسير فيه الخطاب لم يغب عن الذهن بما يولّد اتجاهاً في النظر إلى الإشارة المنطقية على أنها تشكل الرابط الموضوعي بين المعايير المثالية التي يستند إليها الخطاب في مستواه التأملي.

وقد تقوم الإشارة المنطقية على أساس التوالد الجملي في النص نفسه بما يوفّر جوّاً تأمّلياً تنمو فيه الإشارة بحسب تكاثر الجمل التي تشغل مساحة ذهنية .

ص: 328


1- ابن أبي الحديد 320/6.

كبرى لدى المتلقي كما في قول الإمام علي علیه السلام عن معرفة الخالق عز وجل:

(أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ...) (1) وبذلك فإن الخطاب العلوي في هذا المجال (يلامس الحقيقة نفسها في مستوى الفكر الخالص) (2) ثم يستمر في هذه الملامسة التي تحمل إشارات منطقية يتبناها النص في قوله:

(فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزَّاه، ومن جزّاه فقد جهِلَه، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه ومن قال " فيمَ؟ " فقد ضمّنه، ومن قال " علامَ؟ " فقد أخلى منه ...) (3).

يتشكل الخطاب في مستواه التأملي هنا من الإشارة التي تتحول إلى حقائق مجردة تنشأ بالضّد من تراكيب اللغة باستعمالاتها؛ لأن الباري عز وجل لا يمكن أن يتخيّله الخيال البشري أو أن يكون قادراً على أن يُلِمَّ بوجوده.

إن الرمز أو الإشارة في منحاها العملي أو الفعلي تسعى من خلال الخطاب لتأسيس منهج عملي يقوم على النصح والإرشاد والتهويل والتخويف في الوقت الذي لا يغفل الخطاب فيه الترغيب والتذكير بما عند الباري عز وجل كل ذلك يتم عبر استثمار طاقات اللغة الكامنة في مستوياتها كافة تركيباً وأداء، كما أن ذلك لم يكن مانعاً من أن تعتمد الإشارة العملية على المظاهر والحالة النفسية التي يعانيها المتأمل، إما خوفاً من الباري عز وجل وإما رجاءً له، وكل ذلك ينتظم من خلال رصد الخطاب لتلك السلوكيات التي تعدّ إشارات عملية على العلاقة الربانية بين الباري عز وجل وبين الذين سلكوا سبيل التأمل بغية المعرفة الكلية، يقول الإمام 1.

ص: 329


1- ابن أبي الحديد 92/1.
2- الفينومينولوجيا - المنطق عند أدمون هوسرل - 279.
3- ابن أبي الحديد 29/1.

علي علیه السلام:

(أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال، ووقت لكم الآجال، والبسكم الرياش وأرفَعَ لكم المعاش، وأحاط بكم الإحصاء، وأرصد لكم الجزاء، وآثركم بالنعم السوابغ والرِّفَد الرَوافع، وأنذركم بالحجج البوالغ، فأحصاكم عدداً، ووظَف لكم مدداً، في قرار خبرةٍ ودارِ عبرةٍ، أنتم مختبرون فيها، ومحاسبون عليها) (1).

حين يبدأ النص بالوصية فذلك ما تقتضيه منهجية الخطاب بوصفه تربوياً يلج من باب التذكير بالنعم الإلهية، وهذه أولى الإشارات العملية في مبادلة السلوك البشري الذي يجب أن ينسجم مع هذا التفضل الإلهي على البشر، كما أن النص أقام شيئاً من الموازنة بين الإنعام والمحاسبة بين التذكير والزجر، بين الترغيب والترهيب، لكي يحمل النص إشارات عملية تمثل مرتكزاً مهماً في عمارة مضمون النص، يقول الإمام علي علیه السلام في الحض على ذلك:

(فيا لها أمثالاً صائبة ومواعظ شافية لو صادفت قلوباً زاكية وأسماعاً واعية و آراءً عازمة، والباباً حازمة ...) (2).

وقد يعمد الخطاب العلوي في مستواه التأملى إلى الإشارة العملية في ضرب المثل الذي يعبر عن الفكرة التي يدور حولها النص، مما يجعلها إشارةً أو رمزاً يجب اتباعه أو محاكاته في سلوكه، يقول الإمام علي علیه السلام بعد التحذير الذي يسبق المثل المشار إليه:

(واعلموا أن مجازكم على الصراط ومزالق دحضه، وأهاويل زَلَلِهِ، وتارات أهواله) ثم يأتي بالمثل فيقول (فاتقوا الله تقية ذي لبٍّ شَغَلَ التفكّر قلبه، وأنصَبَ الخوفُ بدنه، وأسهر التهجّد غرار نومه وأظمأ الرجاءُ هواجرَ يومه، وظلف الزهدُ شهواته، وأوجفَ الذكرُ بلسانه وتنكّب المخالج عن وضح السبيل، وسلك أقصد 6.

ص: 330


1- ابن أبي الحديد 193/6:أرفغ: من الرفغ وهو ترف العيش وسعته وخصبه، اللسان، مادة رفغ.
2- المصدر نفسه 201/6.

المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تقتله فاتلات الغرور، ولم تَعْمَ عليه مشتبهات الأمور، ظافراً بفرحة البشرى وراحة النعمى، في أنعم نومه، وآمن يومه) (1).

إن اعتماد النص توظيف المثل بوصفه نهجاً إشارياً أو رمزياً، إنما ينطلق من أن التأمل يعدّ بعداً روحانياً يتعاطى مع الواقع، لأنه مجال العمل المادي والحياتي المعيش، وبذلك يخلق نوعاً من الموازنة بين ما هو فانٍ وما هو باقٍ، كما أن النص في استعماله المثل في قوله (فاتقوا الله تقيَّة ذي لبٍّ شغف التفكّر قلبه ...) إنما يشير إلى مبدأ التأمل الفكري الذي يترجم تلك العلاقة القائمة بين الباري عز وجل وبين العبد عن طريق هذه الجمل والألفاظ في سهولتها وفي تراكيبها بحيث تشتمل على مرتكزات سلوكية يومية تستقي منها مادة النص في حسن المعنى وسعة إيصال المفهوم، كما أن الخطاب العلوي في اعتماده الإشارة العملية، قد يشير إلى الزمن بوصفه وعاءً للسلوك الفردي والجماعي، فيقول:

(الآن عباد الله والخناق مهمل والروح مرسل في فينة الإرشاد، وراحة الأجساد وباحة الاحتشاد ومهل البقية، وأَنْفِ المشيّة، وإنظار التوبة، وانفساح الحوبة قبل الضنك والمضيق والروع والزهوق، وقبل قدوم الغائب المنتظر، وأخذَةِ العزيز المقتدر) (2).

يكشف النص عن ضرورة استغلال الزمن بشكله الأمثل - عملياً - لأن فسحة الحياة هي قصيرة بالقياس إلى ما ورائها، كما أن هذا الزمن الذي يسمى عمر الإنسان له ما بعده من حساب ثواباً أو عقاباً وبذلك يحقق النص في مستواه التأملي، من خلال نظرته إلى الزمن وتفصيلاته، يحقق الغاية المرجوّة، وهي الاتصال الروحي في التطبيقات السلوكية اليومية بما يحمل من إشارات أو رموز عملية يوظف النص مكنوناته البلاغية لأجل تعزيز المنهج الإشاري في الخطاب مستمداً - أحياناً - من النص ذاته الإشارة في ثوبها الذوقي الجمالي، بما يضفي 6.

ص: 331


1- ابن أبي الحديد 207/6 - 208.
2- المصدر نفسه 217/6.

على الكلام سحراً إبداعياً جاذباً، كل ذلك يتم عن طريق توظيف ما تتيحه اللغة من إمكانيات وطاقات كامنة في السياق نفسه بعد تحريضه المتلقي على إعادة قراءة الخطاب العلوي ذوقياً وجمالياً وحينها تتوفر لدى المتلقي سمات إشارية يمكنه معرفتها من النص نفسه، يقول الإمام:

(عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به، فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد ...) (1).

فالنص ينطلق من مبدأ تحذيري بعدها حبّب إلى الناس هذا الإنسان الموصوف، وبذلك فهو يعتمد المبدأ الذوقي كما أن استعمال الخطاب للجملتين (فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد) أعطى للخطاب بعداً إشارياً رمزياً يتمثل في أن العبد المحبوب هذا قد نظر إلى الموت على أنه قريب فكانت سيرته سيرة مدبر من الحياة الدنيا، كما أنه هوّن الشديد وهذه رياضة نفسية في تهوين الشدائد ويستمر الخطاب في عرض جمالي ذوقي، فيقول الإمام:

(نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فراتٍ سُهِّلَت له موارده فشرب نهلاً وسلك سبيلاً جدداً).

(قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى عن الهموم ... وصار من مفاتيح الهدى ومغاليق أبواب الردى ...).

(قد أبصر طريقه، وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره ... قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور ...).

(مصباح ظلمات، كشّاف عشوات مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات ... يقول فيُفْهِم، ويسكت فيسلم).

(قد أخلص لله فاستخلصه فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه، قد ألزم .

ص: 332


1- ابن أبي الحديد 282/6.

نفسه العدل، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه).

(يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمّها، ولا مظنّةً إلا قصدها قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه، يحل حيث حلّ ثقله، وينزل حيث كان منزله) (1).

إن النص بما يحمل من سمات ذوقية جمالية تتناغم وإيقاع المفردات في ثناياه، تحول إلى منظومة روحية تحاكي إيقاع الكون الذي هو أثر من آثار الذات المقدسة، وعليه فإن إشارة النص إلى نوعية العبد الذي أحبه الله، إنما يمثل تحريضاً على أن يتمنى كل فرد أنّه ذلك العبد المحبوب، وكأن الصورة تبدو مقلوبة، إذ أن المتعارف عليه أن المحبوب هو الباري عز وجل؛ لأن التأمل الحقيقي هو الذي يؤدي إلى ذلك، إلا أن النص أشار إلى أن هناك عبداً من أحب عباد الله إليه، وهذا يشير إلى مدى الإخلاص الذي اتصف به هذا العبد المؤمن، لكي يصل إلى هذه الدرجة من القرب إلى الباري عز وجل، وهذا يعني أن صورة العالم قد توحدت في شخص هذا العبد، وتحول إلى روح خالصة قد تلاشت وفَنَتْ في الحب الإلهي، وهو ما أشار إليه بقوله ( ... قد أخلص لله فاستخلصه ...) مما يعني أن ذلك التلاشي والفناء في الذات الإلهية لم يكن ليأتي اعتباطاً لولا أن هذا العبد قد رأى الباري عز وجل إخلاصه، فلما حصل منه هذا الأمر استخلصه الباري عز وجل لنفسه فكان الموصوف من خلال النص قد فني وتلاشى وتحطّمت لديه القيود المادية وأصبح (قد نصب نفسه لله في أرفع الأمور) في رياضة نفسية ومجاهدة حتى يصل إلى ذلك المقام الصعب الذي لا تثبت العقول في قصوره واكتناهه (2).

3 - الخيال:

إذا كان الخيال عند أفلاطون (ملكة غير محددة وغير مضبوطة، ولا يمكنها أن تمارس إلا بمحاكاة ما هو موجود سلفاً، إنها الوسيط بين الحواس وبين العقل 6

ص: 333


1- المصدر نفسه 6 /282.
2- ينظر: ابن أبي الحديد 285/6

في شكل تمثيل منحرف) (1) فهذا يعني أن أفلاطون جعل من الخيال الإنساني مجرد صور قائمة على المشابهة لأشياء تمثل واقعاً مجرداً، مما يعني أن الخيال بمعناه هذا هو مجرد ظلٍّ لعالم المثل، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف نفسر العلاقة التي تقوم بين التصوير والخيال، كون الأول جزءاً من الثاني؟ وهل أن هناك حدوداً يقف عندها المتأمل لفرز الصورة عن الخيال؟ كما أننا هل يمكن أن نقف مع أفلاطون في تعريفه للخيال؟

إن الخيال في ضوء الفهم التأملي له، يمكن القول إنه يتشكل من صور تمثل ظلالاً وأشباحاً لما هو أعلى منزلة بما يعد انعكاساً على شكل تمثّلات بنيت على صور واقعية حسّيَة من جانب ومن جانب آخر ترتبط بعالم غير محسوس ينتمي إلى اللارؤية العيانية، وهذا ما نلحظه في الخطاب العلوي في مستواه التأملي؛ إذ أن الخطاب العلوي في أحيان يجعل الحواس منطلقاً لبيان الصورة الخيالية التي هي في الوقت ذاته، منفصلة عن عالم الواقع بالرغم من أنها تتفاعل مع معطياته وتقوم بمحاكاتها، فضلاً عن أن ذلك لا يمثل طعناً في مصداقيتها؛ لأن المخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط لأمور أو تنقبض عن أمور (2) لم ترها معاينة إنما كان تصديقها مُخْبَراً عنه عن طريق الكتاب والسنة فهي إذن واقعية الوجود وهي تنتمي إلى الخيال من جهة أن البشر لم يعاينوها بالمحسوس، فهي خيالية الصورة ومن ذلك الملائكة، فقد تحدث عنهم الخطاب العلوي بتفصيل لم تعهده الأذن البشرية بشكل عام، فكان هذا من باب الخيال، قال الإمام علي علیه السلام في ذلك:

(ثم خلق سبحانه لإسكان سمواته، وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته خلقاً بديعاً من ملائكته وملاً بهم فروج فجاجها وحشی بهم فتوق أجوائها، وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم في حظائر القدس، وسترات الحجب وسرادقات المجد، ووراء ذلك الرجيج الذي تستكّ منه الأسماع، سبحاتُ نورِ .

ص: 334


1- نقلاً تهن اشتعال الذات 59.
2- ينظر: أسرار البلاغة 246 وما بعدها.

تردع الأبصار عن بلوغها فتقف خاسئة على حدودها.

وأنشأهم على صور مختلفات وأقداء متفاوتات أولي أجنحة تسبّحُ جلال عزّته ... ومنهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى، فهي كرايات بيضٍ قد نفذت في مخارق الهواء ... قد ذاقوا حلاوة معرفته وشربوا بالكأس الروية من محبَّته ... فحنّوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم ... ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السعي على اجتهادهم ... ولم يفرّقهم سوء التقاطع، ولا تولاهم غلّ التحاسد ... فهم أُسَراءُ إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغٌ ولا عدولٌ، ولا ونىّ ولا فتور، وليس في أطياف السماء موضع إهابٍ إلا وعليه ملك ساجد، أو ساعٍ حافد، يزدادون على طول الطاعة بربّهم علماً، وتزداد عزّة ربهم في قلوبهم عِظَماً) (1).

لا شك أن هذا الوصف للملائكة ينتمي إلى واقعية الوجود، أما رؤية الملائكة فلن تحصل للبشر عامة إنما لأفراد معدودين، وهؤلاء هم الذين يتحدثون عن هذه المخلوقات، وأن هذا التفصيل الذي جاء به كلام أمير المؤمنين (لو فرضنا أن العرب تقدر " فيه" على الألفاظ الفصيحة المناسبة، أو المقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي عبّرت هذه الألفاظ عنها؟ ومن أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هذه المعاني الغامضة السمائية) (2)؛ لأن هذا التفصيل في الملائكة وصورها وعبادتها ووجودها في تلك الأمكنة التي أشار إليها الإمام، لم يكن معروفاً لدى المسلمين، وبذلك فقد (ثبت أن هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلا لعليّ وحده) (3) ويضيف ابن أبي الحديد قائلاً:

(وأقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب اقشعرّ جلده، ورجف قلبه ...) (4)

إن الخيال يعد قوة من القوى النفسية التي تمثل موقعاً بين الحس والفكر (5) .

ص: 335


1- ابن أبي الحديد 327/6 - 329.
2- المصدر نفسه 329/6.
3- المصدر نفسه والصفحة.
4- ابن أبي الحديد 330/6.
5- ينظر اشتعال الذات 60.

لأنه يقوم على التصوير الحسي بالرغم من أن سعة الخيال وقدرته على أن يأتي بما لا نظير له في الوجود المنظور وفقاً لمعرفة لدى صاحبه، وهذا ما نجده في قول الإمام علي علیه السلام عن الموت وما بعده:

فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لَجَزِعتم ووهلتم وسعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يُطرح الحجاب) (1).

يعبر النص عن شيء يدور في الخيال لم يطّلع عليه أحد؛ لأن الموت وصفه الإمام بأن (للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا) (2) وهذا يعني أن اللغة لا تستطيع أن تكتنه الموت عن طريق الألفاظ؛ لأن ذلك فوق مستوى العقل البشري في هذه الدنيا، وإلى الخيال ذاته يشير الإمام علي في قوله حكاية عن الموتى:

(فلو مثلتهم بعقلك، أو كُشِفَ عنهم محجوبُ الغطاء لك، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكّت واكتحلت أبصارهم بالتراب فحّسفت وتقطّعت الألسن في أفواههم بعد ذلاقتها، وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها ... مستسلماتٍ فلا أيدٍ تدفع ولا قلوب تجزع لرأيت أشجان قلوب وأقذاء عيون لهم في كل فظاعة صفةٍ حالٌ لا تنتقل وغمرة لا تنجلي ...) (3).

إن الخيال هنا ينهض بفكرة الموعظة والعبرة التي تبين ما يجري على لأموات بعد الموت، وبذلك فإن توفير فرصة لمراجعة الذات تتم عبر توظيف الأحداث عن طريق اللغة بما تحويه من تراكيب وما تستطيع أن تسمح به في المجال الذوقي والبلاغي، وهذا يمكن تسميته بالخيال الزمني؛ لأنه يدخل ضمن نطاق الزمن، لأن الحياة وما بعدها يدخلان في الحساب الزمني الذي ربما يطول أو يقصر بحسب ما تقتضيه مشيئة الباري عز وجل. .

ص: 336


1- ابن أبي الحديد 275/1.
2- ابن أبي الحديد 11 /116.
3- المصدر نفسه 115/11.

كما أن هناك من الخيال ما يتجاوز الحدود الزمنية التي تدخل فيها الحياة والموت، وهو ما يتعلق بوجود الباري عز وجل؛ إذ يقول الإمام علي علیه السلام:

(وإنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات فلا شيء إلا الله الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الأمور) (1).

إن الخيال هنا غير ملزم بزمان أو مكان أو تصور أو ظن أو توهم إنما يخرج من كل هذه الدوائر التي تتبع الخيال قرباً وبعداً، أو تعد جزءاً منه أو امتداداً له، وهو بذلك ينفلت من حدود الرسم الذهني؛ ف (الحضرة الخيالية شاملة لكل المدارك البشرية) (2)، وهذا يعني أن الخيال من هذا النوع هو أبلغ من المعرفة العقلية المجردة (3)؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما كانت الإشارات الواردة في الخطاب العلوي تنص على عبادة الباري عز وجل على أساس الرؤية بحقائق الإيمان لا الرؤية بمشاهدة العيان. 9.

ص: 337


1- المصدر نفسه 68/13 - 69.
2- اشتعال الذات 73.
3- ينظر: الخيال في مذهب ابن عربي 19.

الخاتمة

كان طوافاً بكعبة البلاغة وبيتها المعمور حتى نَجَزت بحمد الله هذه الدراسة التي تعرضت فيها لدراسة الخطاب في نهج البلاغة، وكان أن وجدت أن الخطاب العلوي قد اكتسب من صاحبه ما قامت عليه شخصيته، بل كان مرآةً ناصعة البياض لأفكار الرجل الذي عاش في صحراء قاحلة، فكان الخطاب شعرياً كنفسه سردياً فى استعراضه لأحداث الماضين وفي بناء نصه قام فيه على أسٍّ متين.

وفي البنية السردية أوضحت أن السرد في نهج البلاغة مثّل أسلوباً بارزاً في الخطاب، وأوضحت أن بنيته تقوم على أنماط سردية واضحة في (النهج) وذكرت أن هذه الأنماط هي السرد الاستذكاري، الذي تناول فيه السارد أحداثاً، منها ما هو ضمن الزمني البشري، ومنها ما هو خارج ذلك، وتطرقت إلى أن السارد قد نقل لنا أحداثاً لم تكن مشهودة من قبل، وخاصة فيما يتعلق بالخلق وبداياته الأولى، وأوضحت أن السارد ينقل تلك الأحداث كأنه يراها.

وفي السرد التنبّؤي بيّنتُ أن السارد لم يختلف في إجمال السرد وتفصيله عن السرد الاستذكاري، في هذا النمط من السرد فهو في الاستبصار ذاته وفي المعرفة ذاتها من اطلاء اطلاعه على مجريات الأحداث جملة وتفصيلاً، كما أشرت إلى استعمال السارد في الخطاب العلوي للسرد الحكائي الذي جرى توظيفه في أثناء الخطاب لغايات معينة يراها السارد مهمة له.

وقد قامت بنية الخطاب الشعرية على المظهر الصوري، ووجدته يتناوب على أنواعٍ ثلاثة من الصور البصرية والذهنية والكلية، وفصلت القول في ذلك وبينت أن الصورة البصرية ليست كالذهنية، وأن هاتين ليستا كالكلية؛ لأن الأخيرة تحتوي الكون بأجمعه ولا يمكن لأثر من آثارها أن يحيط بها، والمظهر الإيقاعي ويقوم على داخلي وخارجي ومتداخل والمظهر الجمالي الذي برز في اللفظ والمعنى والإيحاء.

وفي أنماط الخطاب، فقد وجدت أن الخطاب العلوي لم يغفل جانباً مهماً من الحياة إلا وشرع بتناوله لما يراه مناسباً للمتلقي، فقد كان الخطاب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإداري والعسكري وخطاب الزهد والدعاء والخطاب

ص: 338

النفسي والتربوي والطبيعي والمعرفي في عرض الجوانب الحياة كافة.

وفي مستويات الخطاب بيّنت أن الخطاب قام على مستويات أربع، هي الإبلاغي والإفهامي والحجاجي والتأملي وتوصلت إلى أن المستوى الإبلاغي قام على سمات هي الموضوعية والتوجيه والوعظية، وشرحت ماذا یعنی ذلك في الإبلاغ، وفي المستوى الإفهامي وجدت أن سماته التي يقوم عليها هي الوضوح والتفصيل والتكرار وبيّنت ماذا يعني ذلك.

وفي المستوى الحجاجي أبرزت سماته التي يقوم عليها وهي البرهانية والانسجام والقياس وذكرت ماذا يعني ذلك في الخطاب بمستواه الحجاجي.

وفي المستوى التأملي بيّنت ماذا يعني وما سماته التي يقوم عليها ووجدت أنها تنحصر في التصوير والإشارة والخيال، وأوضحت أن ذلك مما يمكن أن يلحظ في الخطاب العلوي في مستواه هذا وكل ذلك يستحق أن يدرس بمفرده لما يحويه من مادة علمية تستحق أن تكون رسائل وأطاريح تتزيّن بها مكتبات جامعاتنا، وللوقوف على هذا الإرث العظيم وما فيه من نظريات وآراء عرض لها أمير المؤمنين علیه السلام رغم انشغاله بالفتن والحروب التي أثيرت ضده.

هذه أبرز النتائج التي توصل إليها البحث، ولعلني جئت بشيء جديد ينتفع به في دراسات لاحقة لهذا السفر العظيم الذي يحق لأمة العرب والإسلام أن تفخر به بعيداً عما يقول المتقولون والمحرفون. كما أنني أود أن أشير إلى أن قراءة متأنية لما ورد من آراء تجعل القارئ يعي أن التعامل مع هكذا نصوص يحمل حساسية خاصة كونها تنتمي الى الصدر الأول من المسلمين الذين كان بعضهم يرى الدين يمكن التعامل معه على أساس الظرف الذي يعيشه الإنسان بما يجعله تحت رحمة السياسة، وبعضهم الآخر يرى أن الدين يجب أن يكون هو الحاكم فوق السياسة، ومن هنا منشأ الاختلاف الذي لا يفسد الود بين المسلمين إذ أننا نحتاج النقد لذواتنا بتجرد ومحاكمة تراثنا وفق نظرة موضوعية لا تعطي التقديس لأحد الا بما يستحق.

ولله الحمد حمداً لا يعلم أمده إلا هو عزَّ وجلّ ...

ص: 339

تقريظ

وإذا كان من كلمة أخير تفرضها عليّ طبيعة عملي وطبيعة تعاملي مع آثار طلاب الدراسات العليا، فإنني أقول وبكل اطمئنان وبكل ثقة، إن هذه الدراسة نادرة في هذه الأيام وأن صاحبها يتفرّد بسمات لا نجدها في أطاريح أخرى على كثرتها، لما فيها من أسلوب ينم عن استيعاب لموضوعه وإيمان بما جاء به، يدافع عنه ويتحمل مسؤوليته وحتى إن كنا نختلف معه في جوانب لا تمس العقيدة ولا الإيمان بها، وإنما هي مجرد قضايا سياسية ينبغي أن يُنظر إليها من هذه الزوايا وإلا أدخلنا أنفسنا في متاهات النقاش الذي يخرج عن حدود الخاصة من العلماء الذين يرون في أساليب الحوار مجرد وجهات نظر لها ما يسوغها إلى ما يدخل في إطار العامة الذين قد تترك لهم الأمور لكي يخربوا ولكي يزهقوا الأرواح. لقد كان الباحث يملك صفات المحلل المقتدر الذي بظواهر من خلال نصوص، هي نصوص الإمام علیه السلام والتي لا تعطي نفسها بسهولة، ويتعامل مع روح سمحة استوعبت الحياة كل الحياة، ما أحوجنا في مثل هذه الظروف الى التعامل معها لأنها المثال الحي الذي يرتفع به الإنسان الى مستوى أسمى وفوق هذه الفوضى التي خُلق الإمام علیه السلام لوأدها وانتشال العامة الى حيث ينبغي أن يكونوا. إن فهم النص على غير طبيعته وتفسيره وفق الأهواء التي تتلاءم مع العامة أودى بالقيم التي جاء بها الإسلام وجاء بها الإمام علیه السلام لتكون في محصلتها مصدر أحقاد وضغائن ودمار لا يخص، وإنما يعم ولتكون الخلاصة هذه الأرواح البريئة التي لم تكن سبباً في هذا الدمار.

إن الدراسة التي نحن بصددها هيأت مجالاً رحباً من آثار الإمام علیه السلام وجعلته بهذا المستوى الذي يمكن أن يكون عوناً للقراء واستيعاب ما فيه من روح إنسانية عالية يمكن أن تشكل وقفة لمراجعة كثير من هذه الانحرافات العالقة في نفوس الأشرار والمنحرفين وإلا فما فائدة أن نسمع ولا نعي وأن نقرأ ولا نستفيد وإلا فإن كل الأديان السماوية وكل الأنبياء وكل الصالحين والعلماء والمفكرين كانوا يقولون كلمة واحدة هي (يا إنسان كن إنساناً)، ومع هذا لا يريد أن يكون إنساناً ويأبى أن يكون إنساناً، لا نريد أن نطيل وإنما نختصر فنقول إنه كان باحثاً أتوقع له مستقبلاً علمياً ينفع به من هم بحاجة إليه وبخاصة حينما ينظر نظرة علمية وهو يتعامل مع نصوص تملك حرية الرأي لمرونة فيها أو هكذا أرادها صاحبها أن تكون ... وشكراً.

أ.د. عناد إسماعيل الكبيسي

ص: 340

المصادر والمراجع.

- الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي - د. عبد القادر فيدوح منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1992.

- أدب الشريعة الإسلامية - د. محمود البستاني مؤسسة السبطين العالمية، قم، إيران ط 1، 1424 ه.

- استقبال النص عند العرب - د. محمد رضا مبارك - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،لبنان، ط 1 1999.

- أسرار البلاغة - عبد القاهر الجرجاني، تحقيق ه. ريتر مكتبة المثنى، بغداد ط 2 1979.

- اشتعال الذات سمات التصوير الصوفي في (الإشارات الإلهية) للتوحيدي، محمد المسعودي الانتشار العربي، بيروت، ط 1 207.

- آفاق الفكر المعاصر غایتان بيكون ترجمة لجنة من الأساتذة الجامعيين منشورات عویدات، بیروت، 1965م.

- أفق الحداثة وحداثة النمط، سامي مهدي بغداد 1988.

- الأدب والدلالة تزفيتان تودوروف، ترجمة د. محمد ندیم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط 1 1996.

- الاقتصاد في الاعتقاد - الإمام الغزالي محمد بن محمد مكتبة الحسين التجارية، مصر، د.ت.

- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري، تحقيق د. طه محمد الزيني، دار الأندلس، النجف، د.ت.

- انفتاح النص الروائي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ط 1 1989.

- البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر، بیروت، ط 4 د.ت.

- بلاغة الخطاب وعلم النص، د. صلاح فضل سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،الكويت، 1413 ه - 1992 م.

- بناء الرواية، أدوين موير ترجمة إبراهيم الصيرفي الدار المصرية للتأليف والترجمة 1965م.

- بنية الخطاب النقدي، دراسة نقدية، د. حسين خمري دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1990/1م.

- بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي المركز الثقافي العربي، ط 1990/1م.

- بنية اللغة الشعرية جان كوهن ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال ط 1، 1986.

ص: 341

- بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي د. حميد الحمداني المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2000/3م.

- تحليل الخطاب الروائي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 1988م.

- تحليل الخطاب العربي، أبحاث مختارة جامعة فيلادليفيا / كلية الآداب، عمان، ط1 / 1998م.

- تصنيف نهج البلاغة لبيب وجيه بيضون، مكتب الإعلام الإسلامي، ط 4 / 1408ه.

- تاريخ الادب العربي في ضوء المنهج الاسلامي، د. محمود البستاني، مجمع البحوث الإسلامية، بيروت، 1990.

- التفكيكية، دراسة نقدية بيير ف. زيما تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1 /1417 ه - 1996م.

- تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، د. يمني العيد، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط 1990/1م.

- التحليل الجمالي والنقدي للأدب، د. عناد غزوان دار آفاق عربية، بغداد، 1985.

- التحليل النفسي للأدب، د. عز الدين اسماعيل بيروت، دار العودة، د.ت.

- التراث والقراءة - دراسة في الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب يحيى بن الوليد المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 2003/1.

- التعريفات الشريف الجرجاني أبو علي بن محمد بن علي، دار الشؤون الثقافية العامة،بغداد 1406 ه - 1986م.

- التفكير الاجتماعي، نشأته وتطوره، د. عبد الباقي زيدان، ط 3، 1401 ه - 1981.

- التفكير اللساني في الحضارة العربية - د. عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، ليبيا تونس 1981.

- التفكيكية، دراسة نقدية بيير ف. زيما تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1 /1417 ه - 1996م.

- الثقافة والمعرفة البشرية، ميشيل توماسيللو، ترجمة شوقي جلال عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2006م.

- جماليات النثر العربي - الفني - طراد الكبيسي، الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2000م.

- جمهورية أفلاطون، نقلها إلى العربية حنا خباز، دار القلم، بيروت، ط 2/ 1980م.

- الحكمة النظرية والعملية في نهج البلاغة جواد آملي، نقله إلى العربية باسم محمدي، منشورات ذوي القربي، قم، إيران 2000م.

- حياة الصورة وموتها ريجيس دوبري ترجمة فريد الزاهي أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002.

ص: 342

- الخيال في مذهب محيي الدين بن عربي محمود قاسم معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1969.

- دراسات في نهج البلاغة الشيخ محمد مهدي شمس الدين المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط 1422/4 ه - 2001م.

- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر القاهرة مكتبة الخانجي، د.ت.

- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، نشر السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة 1401 ه. 1981 م.

- رماد الشعر، دراسة في البنية الموضوعية والفنية للشعر الوجداني الحديث في العراق د. عبد الكريم راضي جعفر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1998/1م.

- الرمز الشعري عند الصوفية، عاطف جودة نصر دار الكندي، بيروت، ط 1 / 1978 م.

- السيكولوجيا وعلم الجمال - ل. س. فيغوتسكي، ترجمة د. أحمد محمد خنبة دار علاء الدین دمشق، سوريا، ط2000/1 م.

- السيمياء والتأويل، روبرت شولتز، ترجمة سعيد الغانمي المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1 / 1424 ه - 1994 م.

- سيكولوجية العلاقات بين الجماعات قضايا فى الهوية الاجتماعية وتصنيف الذات د. أحمد زايد عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2006م.

- شرح ابن أبي الحديد تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم دار الكتاب العربي بيروت لبنان.

- شرح ميثم البحراني دار انتشار طهران ایران.

- شرح نهج البلاغة للامام الشيخ محمد عبده بيروت لبنان.

- الشعرية العربية والأنواع والأغراض رشيد يحياوي أفريقيا الشرق، ط1991/1م.

- الشعرية العربية جمال الدين بن الشيخ، ترجمة مبارك حنون، محمد الولي، محمد أوراغ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء.

- الشعر غاياته ووسائله دراسة و تحليل - د. مدحت تیار، 1987.

- صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1981.

- صحیح البخاري، لمحمد حمد بن اسماعیل، مصر، 1305 ه.

- صفة الرواية، بيرسي لويوك ترجمة عبد الستار جواد، دار الرشيد للنشر بغداد العراق، 1981م.

- صفوة الشروح في نهج البلاغة أركان التميمي دار انتشار طهران ایران.

- الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) اسماعيل بن حماد و الجوهري، تحقيق احمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين بيروت ط 4، 1407 ه - 1981م.

- الصوت الآخر - الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، فاضل ثامر - دار الشؤون الثقافية، بغداد ط 1 / 1992م.

ص: 343

- الصوفية والسريالية ادونيس دار الساقي، بيروت، لبنان ط 1 1992م.

- الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي الولي محمد المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، ط 1990/1م.

- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، د. جابر احمد عصفور، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1974م.

- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده لابن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بیروت، 1972م.

- عصر السريالية دالاس فاولي ترجمة خالدة سعيد، بيروت، ط 1981/2 م.

- علم الدلالة، بيير جيرو، ترجمة أنطوان أبو زيد، منشورات دار عويدات، بیروت ط1 1986م.

- علم الجمال دني هويسمان، ترجمة ظافر الحسن منشورات عويدات،بیروت 1981.

- علم اللغة الاجتماعي، د. هدسون ترجمة د. محمود عبد الغني عباد، مراجعة د. عبد الأمير الأعسم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، ط1987/1م.

- علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات د. سعيد حسن بحيري، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط 1424/1 ه - 2004م.

- علي إمام المتقين عبد الرحمن الشرقاوي، بيروت لبنان، 1985م.

- علي بن أبي طالب سلطة الحق، عزيز السيد جاسم، مؤسسة الزمان، د.ت.

- عنف اللغة، جان جاك لوسركل، ترجمة وتقديم د. محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، د.ت.

- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، عبد الحسين احمد الأميني النجفي، عني بنشره: حسن إيراني دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1387/3 ه - 1967 م.

- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان د.ت.

- فروع الكافي للعلامة الكليني، تحقيق محمد جواد الفقيه مراجعة د. يوسف البقاعي مج 7، كتاب القضاء والأحكام، دار الأضواء للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1413 ه - 1992م.

- فصول في الشعر، د. أحمد مطلوب، منشورات المجمع العلمي، مطبعة المجمع العلمي، بغداد، 1420 ه - 1999 م.

- الفن خبرة جون ديوي، ترجمة زكريا إبراهيم، مراجعة وتقديم زكي نجيب محمود دار النهضة العربية، القاهرة د.ت.

- الفينومينولوجيا، المنطق عند أدمون هوسرل، يوسف سليم سلامة دار التنوير بيروت، 2007م.

- فلسفة الفن في الفكر المعاصر زكريا ابراهيم مكتبة مصر القاهرة، 1966م.

ص: 344

- في أصول الخطاب النقدي الجديد مجموعة باحثين ترجمة وتقديم د. المديني دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 1987/1م.

- في بلاغة الخطاب الإقناعي، د. محمد العمري، أفريقيا الشرق، بيروت، لبنان، ط 2/ 2002م.

- في الخطاب السردي، نظرية قريماس محمد الناصر العجمي، الدار العربية للكتاب 1993م.

- في الشعرية د. كمال ابو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط 1987/1م.

- في معرفة النص دراسات في النقد الأدبي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3 / 1985م.

- قصيدة وصورة د. عبد الغفار مكاوي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1987.

- قضايا الشعرية، رومان جاكوبسن، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط 1988/2م.

- قضية الخلق بين الماديين والمثاليين، عبد الرسول مهدي عبرة، ط1979/1م.

- القرآن وعلم القراءة، جاك بيرك، ترجمة د. منذر عياشي، تقديم د. محمد عطام دار التنوير، بيروت، ط 1996/1م.

- الكامل في التأريخ لابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم عز الدين راجعه وصححه د. محمد يوسف الدقاق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407ه - 1987م.

- الكليات أبو البقاء الكفوي، تحقيق د. عدنان درويش محمد المصري، بيروت، ط 1 / 1986م.

- كشاف اصطلاحات الفنون، محمد علي الفاروقي التهانوي، تحقيق د. لطفي عبد البديع مراجعة أمين الخولي الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972م.

- كيف تقرأ صورة هيأة الكتاب، القاهرة، المكتبة الثقافية، 1970.

- لسان العرب لابن منظور، ترتيب يوسف خياط ونديم مرعشلي، دار لسان العرب بیروت، د.ت.

- لسانيات النص، مدخل الى انسجام الخطاب، محمد خطابي المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، المغرب، دت.

- اللسانيات والدلالة - الكلمة - د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط 1 1996.

- اللسانيات ونظرية التواصل، رومان باكوبسن نموذجا، د. عبد القادر الغزالي دار الحوار، سوريا، اللاذقية، ط 2003/1م.

- اللغة العليا، جان كوهن، ترجمة د. أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1995م.

ص: 345

- اللغة والاقتصاد فلوريان كولماس، ترجمة د. أحمد عوض، مراجعة عبد السلام،رضوان المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عالم المعرفة 1421 ه - ت 2 2000.

- اللغة والتأويل، مقاربات في الهرمينوطيقا الغربية والتأويل العربي الإسلامي، عمارة الناصر، دار الفارابي،بيروت، ط 1 / 1428 ه - 2007م.

- مبادئ النقد الأدبي دراسة أدبية آي ريتشاردز ترجمة د. ابراهيم الشهابي، دمشق سوريا 2002م.

- المبدأ الحواري، دراسة في فكر باختین تزفيتان تودوروف ترجمة فخري صالح دار الشؤون الثقافية العامة، ط 1992/1 م.

- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لضياء الدين ابن الأثير، قدمه وعلق عليه: د. أحمد الحوفي - د. بدوي طبانة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، د.ت.

- المعجم الفلسفي مراد وهبة دار الثقافة الجديدة، ط1979/3م.

- المقاربة التداولية، فرانسواز ارمینكو، ترجمة د. سعيد،علوش، مركز الإنماء القومي د.ت.

- مدخل إلى علم النص - مشكلات بناء النص - زتسيسلاف داورزتباك، ترجمه وعلّق عليه أ.د. سعيد حسن بحيري، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة ط 1 1424 ه - 2003م.

- مدخل إلى نظرية القصة تحليلاً وتطبيقاً، سمير المرزوقي وجميل شاكر، تقديم د. محمد عكام الدار التونسية، ط 1 / 1990م.

- معاني الأبنية في العربية، د. فاضل صالح السامرائي، جامعة الكويت، 1401 ه - 1981م.

- مع الإمام علي في منهجه ومنهجيته محمد تقي الحكيم، بيروت، المطبعة الدولية، 2002.

- معجم المصطلحات العربية المعاصرة، د. سعيد علوش، الدار البيضاء، منشورات المكتبة الجامعية 1984م.

- المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، وليم راي ترجمة د. يوئيل يوسف عزیز دار آفاق عربية بغداد 1985م.

- مقدمة ابن خلدون دار القلم بيروت، لبنان، ط1978/1م.

- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة دار القرب الإسلامي، تونس، 1981م.

- موسوعة المصطلح النقدي، التصور والخيال ر.ل. بريت، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، دار الرشید، بغداد 1979 م.

- مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر،بیروت لبنان د.ت.

- المنهج الحركي في القرآن الكريم عبود الراضي، دار المنتدی،بیروت لبنان ط3 /

ص: 346

2006م.

- النص القرآني من الجملة الى العالم، د. وليد منير، المعهد العالمي للفكر الاسلامي القاهرة، 1997.

- النص والخطاب والإجراء، بوجراند، ترجمه د. تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط 1 1998

م.

- النظريات الجمالية كانط هيجل شوبنهاور، إ. نوكس عزبه وقدم له محمد شفيق شیا منشورات بحسون الثقافية ط 1 / بيروت 1985.

- النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلون، ترجمة سعيد الغانمي، دار الفارس، عمان، ط 1/ 1998م.

- النقد الفني، دراسة جمالية وفنية جيروم ستولنيتز، ترجمة د. فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بیروت، ط 1981/2.

- نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 2003/1م.

- نظريات معاصرة، د. جابر عصفور، دار المدى، ط 1، 2000م.

- نظرية التلقي أصول وتطبيقات، د. بشری موسی صالح، بغداد، ط1، 1999 م.

- نظرية الحكم والإدارة، عبد المحسن فضل الله دار التعارف،بیروت، لبنان، د.ت.

- النقد والحداثة د. عبد السلام،المسدي، بيروت، دار الطلبة، ط 1983/1 م.

- الوجود والزمان والسرد - فلسفة بول ريكور - تحرير: ديفيد وورد ترجمة وتقديم سعيد الغانمي المركز الثقافي العربي ط 1 1999.

- الوساطة بين المتنبي وخصومه علي بن عبد العزيز الجرجاني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1966م.

- الوعي والفن، غيورغي غاتشيف ترجمة نوفل نيوف، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،الكويت، عالم المعرفة، 1990.

- وجود النص - نص الوجود، مصطفى الكيلاني، سلسلة توافقات الدار التونسية للنشر، مطبعة تونس قرطاج، د.ت.

- وحدة الوجود العقلية: عبد الجبار الوائلي، دار النضال،بيروت، لبنان، ط 1994/2م.

الدوريات:

- الإبلاغية في شعر خالد علي مصطفى، د. عبد الرزاق الحربي، مجلة كلية الآداب، الجامعة المستنصرية، ع1988/32م.

- الأسلوبية الصوتية بين النظرية والتطبيق د. ماهر مهدي هلال، مجلة آفاق عربية، ع 1992/12م.

- تأسيس تيار الزهد الإسلامي في الثقافة العربية الإسلامية، د. زهير الغزاوي مجلة المنهاج ع 1422/23 ه - 2001م، بيروت، لبنان.

ص: 347

- الخطاب الصوفي نص حركة الجسد، ميشال دو سارتو ترجمة محمد شوقي الزين مجلة كتابات معاصرة،بيروت، ع 44 / تموز 2001م.

- الخوف من الصورة، ميشيل مافيز ولي ترجمة فريد الزاهي مجلة أوان كلية الآداب جامعة البحرين، ع 9، 2005م.

- رحلة ختامية في الزمان والسرد بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي مجلة أوان، ع9 / 2005م.

- سياق التلفظ وقيمته في تحليل الخطاب تعميماً والخطاب السردي تخصيصاً، محمد الناصر العجمي، مجلة فصول، ع2003/62م.

- الصيغة الإنسانية للدلالة مصطفى ناصف، مجلة فصول، ع 1986/2، القاهرة.

- عالم الأشياء أم عالم الصور، د. حسن حنفي مجلة فصول، ع62 / 2006 م.

- علم المعرفة، آفاق جديدة في دراسة العقل، د. محمد طه، عالم الفكر، ع 1 مج 35، الكويت، 2006م.

- علم النفس الإسلامي، حقيقة أم وهم حميد لطفي مجلة المنهاج، ع 2001/32م.

- علي وقانون الطوارئ، د. محمد طي مجلة المنهاج، ع 1418/8ه - 1997م،بیروت، لبنان.

- العدالة والتنمية في منهج الإمام علي علیه السلام د. صادق البختياري مجلة المنهاج ع 1423/27 ه -

2002م، بیروت لبنان.

- اللغة المعيارية واللغة الشعرية، يان بوركافسكي، ألفت الروبي، مجلة فصول، ع 1/ 1984م، القاهرة.

- المشروع الفكري وأسطورة أوديب، قراءة في فكر طه حسين، د. هدى وصفي، مجلة فصول، ع1983/1، القاهرة.

الرسائل والأطاريح:

- أدب عبد الله بن المقفع دراسة اسلوبية رسالة ماجستير عبد الحسين عبد الرضا العمري كلية الآداب الجامعة المستنصرية، 2004 م.

- مستويات التعبير في ألف ليلة وليلة، أطروحة دكتوراه، فائز هاتو الشرع، كلية الآداب الجامعة المستنصرية، 2005م.

ص: 348

فهرس المحتويات

الإهداء ... 5

المقدمة ... 7

التمهيد ... 11

الخطاب وثقافة الصورة ... 37

الفصل الأول / بنية الخطاب ... 45

مدخل ... 45

البنية السردية للخطاب ... 47

مقومات البنية السردية للخطاب ... 48

1 - التوجيه المعرفي ... 48

2 - المصداقية ... 53

3 - الوضوح والغرض ... 58

أنماط السرد ... 62

1) السرد الاستذكاري (المختزل) ... 62

2) السرد التنبؤي (الغيبيّ) ... 71

3) السرد الحكائي ... 79

البنية الشعرية ... 84

أولاً: المظهر الإيقاعي ... 88

1) الإيقاع الخارجي ... 90

2) الإيقاع الداخلي ... 92

3) الإيقاع المتداخل ... 95

ثانياً: المظهر الصوري ... 97

1 - الصورة البصرية ... 99

2 - الصورة الذهنية ... 103

3 - الصورة الكلية ... 107

ثالثاً: المظهر الجمالي ... 112

البنية النصية ... 122

مدخل ... 122

ص: 349

1 - التماسك النصي ... 126

2 - الدلالة النصية ... 130

3 - بناء النص أو الخطاب ... 134

الفصل الثاني / أنماط الخطاب ... 142

مدخل ... 142

أولاً / الخطاب الاجتماعي ... 144

أ - علاقة السلطة بالمجتمع ... 145

2) العلاقات ...الفردية ... 151

ثانيا / الخطاب السياسي ... 154

1 - السلطة والمعارضة ... 154

الأسس الكلية للخطاب السياسي ... 158

1 - القرابة ... 158

2 - البيعة العامة ... 161

3 - النصيّة ... 164

ثالثاً / الخطاب الاقتصادي ... 170

1 - الثروة ومصادرها ... 171

2 - العدالة في التوزيع ... 175

رابعاً / الخطاب الإداري ... 179

1 - (جنود الله) ... 180

2 - كتاب العامة والخاصة ... 181

3 - قضاة العدل ... 182

4 - الولاة والعمال ... 184

5 - عمال الخراج .... 185

خامساً / الخطاب العسكري ... 189

تعبئة الجيش وعقيدته ... 191

جغرافية حركة الجيش والموقع الأفضل ... 195

منهجية السلم لا الحرب ... 197

سادساً / الخطاب الفقهي ... 200

ص: 350

علوم الحديث ورواته ... 207

سابعاً / خطاب الزهد ... 210

ثامناً / خطاب الدعاء ... 217

تاسعاً / الخطاب الأخلاقي والتربوي ... 224

عاشراً / الخطاب الطبيعي ... 231

حادي عشر / الخطاب النفسي ... 237

التقوى والنفس ... 240

الهوى والوازع الديني ... 242

ثاني عشر / الخطاب المعرفي ... 243

1 - الفيض المعرفي ... 244

2 - المعرفة والسلوك ... 248

الفصل الثالث / مستويات الخطاب ... 251

مدخل ... 251

أولاً: المستوى الإبلاغي: (مفهوماً واصطلاحاً) ... 253

سمات المستوى الإبلاغي ... 258

1 - الموضوعية ... 258

2 - التوجيه ... 262

3 - الوعظية ... 266

ثانياً - المستوى الإفهامي: (مفهوماً واصطلاحاً) ... 270

سمات المستوى الإفهامي ... 274

ثالثاً – المستوى الحِجاجي (مفهوماً واصطلاحاً) ... 291

سمات المستوى الحجاجي ... 297

رابعاً - المستوى التأمّلي: مفهوماً واصطلاحاً ... 315

سمات المستوى التأملي ... 321

الخاتمة ... 338

تقریظ ... 340

المصادر والمراجع ... 341

فهرس المحتويات ... 349

ص: 351

THE SPEECH

IN “NAHJ AL - BALAGA”

The structure, The Type and The levels An analytical study

by

Dr. Husayn al - Umari

دار الكتب العلمية

Dar Al - Kotob Al - ilmiyah

DKi

أسسها محمد علي بيضون سنة 1971 بيروت - لبنان

Est. by Mohammad Ali Baydoun 1971 Beirut - Lebanon

Etablie par Mohamad Ali Baydoun 1971 Beyrouth - Liban

ص: 352

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.