نهج البلاغة في دائرة التشكيك

هوية الکتاب

نهج البلاغة

في دائرة التشكيك

الشيخ يوسف علي سبيتي

نهج البلاغة

في دائرة التشكيك

دار الهادي

للطباعة والنشر والتوزيع

محرر رقمي: روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الشيخ يوسف علي سبيتي

نهج البلاغة

في دائرة التشكيك

دار الهادي

للطباعة والنشر والتوزيع

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى 1427 ه - 2006 م

دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع

ص: 4

هذا الكتاب لماذا؟

كنت ما زلت صغيراً عندما تعرفت على كتاب نهج البلاغة فقد كان جزءاً من مكتبة والدي المتواضعة وإلى جانبه شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الذي كان فقد منه أحد مجلداته الأربعة، وكان يعبّر عن أسفه العميق لذلك فهو لم يكن يعلم كيف فقد منه أو من استعاره ولم يعده، وكان والدي يحدثنا بحكايات عن أمير المؤمنين علیه السلام إكتشفت لاحقاً أنه كان قد أخذها من شرح النهج لإبن أبي الحديد.

ولاحقاً، أصبح هذا الكتاب جزءاً من مكتبتي بعد أن أصبحت طالب علم ثم إن أستاذي الشهيد السيّد عباس الموسوي جعل حفظ خطبه جزءاً من برنامج تثقيفي - أسبوعي، ومازلت أذكر أنه اهتم كثيراً في أن نحفظ خطبتي الجهاد و المتقين.

وفي قم كان شيخي الأستاذ في درس بحث الخارج يهتم في كل خميس من كل أسبوع، وفي الربع الساعة الأخيرة من الدرس في أن يقرأ علينا بعض المواعظ من هذا الكتاب والذي كان يشجعنا دوماً على الإهتمام به وعدم هجرانه، ونقل أن بعض المراجع كان يعقب به بعد كل صلاة وكان يضعه إلى جانب القرآن الكريم.

في كل هذه المراحل لم أشك يوماً في أن نهج البلاغة هو لأمير

ص: 5

المؤمنين علیه السلام وأن الشريف الرضي كان مجرد جامع لهذا الكتاب من أمهات الكتب والمراجع ليس فقط لأن هذا الكتاب هو جزء من التراث الإسلامي والعربي أو أنه محل إهتمام كل مثقف، مسلماً كان أو غير مسلم، بل لأني في المراحل الأولى من معرفتي بهذا الكتاب لم أسمع أحداً يشكك في نسبة هذا الكتاب لأمير المؤمنين علیه السلام.

والمرة الأولى التي سمعت فيها هذا التشكيك أو التوقف كانت في مجلس الدرس بسبب أن هذا الكتاب محذوفة منه الأسانيد التي هي

العمدة في الإستدلال حول أي بحث علمي له علاقة بالإستنباط، لم أعر الأمر كثير إهتمام، فقد كان هذا مجرد بحث علمي لا يقلل من أهمية هذا الكتاب.

لكن هذا التشكيك أو التوقف عاد يطرق مسامعي وفي إحدى

المناسبات شعرت بإستياء كبير عندما سمعت أحد الشعراء الإسلاميين وعلى هامش أحد المؤتمرات الفكرية الذي عقد في بيروت، يشكك في نسبة هذا الكتاب للأمير علیه السلام وهو كان يقصد أكثر من مجرد التشكيك بل كان على ثقة في عدم كون هذا الكتاب أو بعضه للأمير علیه السلام.

والمرة الأخيرة التي سمعت فيها هذا التشكيك والذي أتى بشكل سؤال طرحه أحد طلبة العلوم الدينية - وفقهم الله وأيدهم - على أستاذه، لم أسمع جواب الأستاذ لأني كنت قد ابتعدت عنهم، لكني كنت أفكر بيني وبين نفسي أثناءها إذا كانت الأمور قد وصلت إلى هذا الحد فلا بدّ من عمل ما فكرت وقتها أن أكتب مقالة مختصرة أثبت فيها بطريقة ما صحة نسبة هذا الكتاب للأمير علیه السلام لكن بعد مرور أيام ومطالعة بعض

ص: 6

المصادر، خصوصاً أني كنت قد وجدت هذا التشكيك في بعض المصادر، فقلت إن مقالة أو مقالات لا تكفي فلا بدّ من عمل شيء أكبر وأهم مع أني كنت على وشك الانتهاء من مقالتي تلك فأعرضت عنها، وقلت لابدّ من كتاب، لكن لا بدّ لهذا الكتاب أن يأتي بالجديد، والجديد هو أن أحاول إثبات صحة هذه النسبة من نفس الكتاب فشمرّت عن ساعد الجدّ، ولا أخفي أني واجهتني عقبات وصعوبات، لكن كانت تُذلل بعون الله وتوفيقه

* * *

ليس نهج البلاغة كتاباً في الأدب أو البلاغة والفصاحة، وإن كان هدف الشريف الرضي من جمعه لخطبه وكلماته، هو أن يحتوي على مختار کلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام ... علماً أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها (1).

وليس هو كتاب في الوعظ والإرشاد والتزهيد في الدنيا وليس هو كتاب في السياسة والحكم وكيفية ممارستهما، وليس هو كتاب في الفلسفة يبحث في الوجود والأدلة على الخالق والصانع والمدبر أو الأدلة على التوحيد وليس هو كتاب في التنبؤ عن مستقبل الأيام، وليس هو كتاب في .

ص: 7


1- نهج البلاغة - مقدمة الشريف الرضي: ص 34، تحقيق صبحي الصالح.

الإجتماع الإنساني، وليس هو كتاب في الحِكَم والمراسلات.

هو مزيج من كل هذا فرضت مواضیعه ظروف ومناسبات متعددة، وصاغت أفكاره عقل إنسان تربى في حجر الرسالة المحمدية، فكانت موضوعاته شاملة لكل جوانب الحياة شمول الإسلام فتحدث عن الإنسان والدنيا والآخرة والوجود، وعن بديع الخلق والصنع، وعن الحُكم والسياسة.

ثم إن الأمير علیه السلام في بعض الخطب المبثوثة هنا وهناك إهتم ببيان أمرين أساسيين:

الأول: موقعه وموقفه من الخلافة، وأن هذه الخلافة هي حق شرعي له وحده دون غيره من الصحابة، ويظهر هذا بشكل واضح في الخطبة المعروفة بالشقشقية حيث يقول علیه السلام: «أما والله لقد تقمصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير» (1) ويبيّن علیه السلام هذا الأمر أيضاً عندما بويع بالخلافة فقال علیه السلام: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري».

وبيّن علیه السلام أيضاً، إحتجاجاته مع الخصوم الذين إما نقضوا بيعته أو رفضوا البيعة له أو الإعتراف بخلافته إما من خلال الخطاب المباشر أو المراسلات وبالتحديد مع أهل الجمل وصفّين، وإحتجاجاته مع الذين فرضوا التحكيم ورفضوه لاحقاً عنيت بهم الخوارج من خلال إعلانهم للتمرد والعصيان العسكري. كل هذا موجود في نهج البلاغة.3.

ص: 8


1- المصدر السابق: ص 48، رقم 3.

الثاني: بيّن علیه السلام موقعه وعلاقته برسول صلی الله علیه و آله و سلم في مواضع متعددة مذكورة في نهج البلاغة، كقوله علیه السلام: «وقد علمتم موقعي من رسول صلی الله علیه و آله و سلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ... وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل

أخلاقه

ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثَرَ أمه، يرفع لي في كل يوم من علماً، ويأمرني بالإقتداء به ... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول صلی الله علیه و آله و سلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة» (1).

وبعد أن يذكر في نفس الخطبة حال «الملأ من قريش» وتكذيبهم للرسول صلی الله علیه و آله و سلم وعدم إيمانهم، بعد أن كانوا قد طلبوا بأنفسهم ما يجعلهم يؤمنون، وأنهم طلبوا منه أن يخاطب الشجرة ويأمرها بأن تقف بين يديه، فكان ما أرادوا بما وصف الأمير علیه السلام: «فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها، وجاءت ولها دويّ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير، حتى وقفت بين يديّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه صلی الله علیه و آله و سلم ... فقلت أنا: لا إله إلا الله إني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر من الله تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك» (2)

ويقول في موضع آخر من الخطبة: «ولقد سمعت رنّة الشيطان 2

ص: 9


1- المصدر السابق: ص 300 - 301
2- المصدر السابق: ص 301 - 302

حين نزل الوحي عليه صلی الله علیه و آله و سلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلا أنك لست بنبيّ، ولكنك لوزير وإنك لعلى خير» (1).

ووصف علیه السلام أيضاً، الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم وبعض الأنبياء العظام علیه السلام، وخصوصاً أبو البشر، ووصف القرآن الكريم، بالإضافة إلى مواضيع أخرى متفرقة ومتنوعة، لا يسع المجال لذكرها كلها، يضاف إلى ذلك كله إخباره بالمغيبات في مناسبات عديدة. كل هذا في نهج البلاغة.

فالغاية المبتغاة من هذا الكتاب هو محاولة إستنطاق بعض ما جاء في نهج البلاغة، ليدلنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع، على أنه كلام لا يمكن أن يخرج إلا من لسان أمير المؤمنين علیه السلام أمير البلاغة، أمير الفصاحة، أمير الحكمة. وكما قال بعضهم في وصفه لخطبة الشقشقية: «أنى للرضي ولغير الرضي هذا النَفَس وهذا الأسلوب، وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر» (2).

وأنّى للشريف الرضي - رحمه الله تعالى. إخباره بالمغيبات التي لنا معها موقف خاص، كأحد الأدلة على أن نهج البلاغة هو مجموع بعض خطب ومراسلات وحِكَم الأمير علیه السلام والشريف الرضي لم يكن دوره إلا الجمع لهذه الخطب من مصادرها. .

ص: 10


1- المصدر السابق: ص 301.
2- ابن ابي الحديد - شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 69، دار نوبلیس – بيروت.

نعم قد يشكك في بعض نهج البلاغة، وأنه لا يمكن أن يصدر من رجل مثل الأمير علیه السلام كذمّه للنساء وذمّ رأيهن، أو قوله علیه السلام: «لله بلاء

فلان» وأن المراد به عمر بن الخطّاب، إذ كيف يمدح الأمير علیه السلام خصمه؟!

ومن لم يشكك بنسبة هذا الكلام للأمير علیه السلام حاول تأويل أن المراد بفلان رجلاً آخر، إما أحد أصحابه علیه السلام أو أحد أصحاب النبي الآخرين. وقد عقدت لكلا الأمرين فصلاً خاصاً، أثبّت فيه أنه كلام الأمير علیه السلام وأن الذي فُهم أو وُصف أنه ذمّ للنساء ليس بواقعه ذمّ، وأن المدح هو فعلاً لعمر بن الخطّاب، وبيّنت حقيقة الأمر.

فالهدف من هذا الكتاب إذن هو إثبات أن نهج البلاغة بمجموعه وبكل ما يحويه من خطب ومواعظ وحِكَم ورسائل هو لأمير المؤمنين علیه السلام وليس لأي شخص آخر كلمة فيه أو خطبة أو حكمة، فإن كل كلمة فيه، بل كل حرف، يصدح ناطقاً أنه صدر من شفتي الأمير علیه السلام ومن قلبه ومن عقله بل لا أبالغ إذا قلت أن من يريد أن يتعرف على حقيقة هذا الإنسان وعلى شخصيته العلمية، أو أراد أن يتعرف عليه كحاكم ورجل دولة بكل ما في هذه الكلمة، من معنى ومن أراد أن يتعرف على الظروف التاريخية الخاصة والإستثنائية التي عاشها هذا الإنسان، خصوصاً في فترة خلافته، من أراد أن يتعرف على كل هذا ليس له إلا نهج البلاغة.

أقول قولي هذا مطمئناً إليه وإلى دليله وأترك للقارئ المنصف وللباحث المنصف وللعالم المنصف، خيار أن يوافقني على هذا أو لا. ولا أبالغ إذا قلت أن بعض ما في هذا الكتاب لم يسبقني إليه أحد، من

ص: 11

قراءة لبعض النصوص التي هي السبب في هذا التشكيك، فحاولت. وأرجو أن أكون قد وُفقت. أن أحلل هذه النصوص تحليلا، حاولت أن يكون متناسباً مع شخصية وحقيقة أمير المؤمنين علیه السلام كونه الإمام المعصوم الذي لاينطق عن الهوى، وإن لم يكن وحيا يُوحى، ولا يكفي أن نرفض. عن حسن نية. بعض ما في نهج البلاغة لمجرد كونه بظاهره لا يناسب القول أنه صادر عنه علیه السلام إذا كان تأويل هذه النصوص وتحليلها يجعله يتاسب صدوره عنه علیه السلام والتأويل والتحليل أولى من الطرح والرفض.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كلاً من الأخ العزيز الدكتور الشيخ خنجر حمية الذي قرأ فصل الفلسفة في نهج البلاغة والدكتور حسن عباس نصر الله الذي قرأ فصل الغيبيات في نهج البلاغة ووضع ملاحظاته عليه وتصحيحاته التي أخذت ببعضها، والأخ العزيز الشيخ علي سليم سليم الذي قرأ فصل المرأة في نهج البلاغة الذي أثار عنده جملة من التساؤلات حاولت الإجابة عنها لاحقاً، والدكتور الجرّاح حسين محمد حسين والدكتور عبد الأمير فضل الله، اللذين ساهما في فقرات النصائح الطبية الثلاثة التي جاءت في فصل الحِكَم في نهج البلاغ والشكر أيضاً لكل من أبدى إعجابه بالكتاب وهو في طور الإعداد وشجّع على الإستمرار به والشكر أيضا للقاريء الكريم سلفاً حيث يعطي من وقته لقراءة الكتاب.

ضاحية الحرمان والمقاومة

12 - ج 2 - 1425 ه

30 - حزيران - 2004 م

ص: 12

نهج البلاغة لمن؟

اشارة

يشكك إبن حجر العسقلاني في كتابه لسان الميزان - الذي هو تلخيص لكتاب ميزان الإعتدال - في نسبة نهج البلاغة لأمير المؤمنين علیه السلام وإليك عبارته في ترجمته للشريف المرتضى، فهو بعد ذكره نسبه ونبذة يسيرة من تاريخه ومشايخه الذين حدّث عنهم يقول: «وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، ومن طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علیه السلام ففيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل» (1).

وقال الذهبي في ميزان الإعتدال: «من طالع كتاب نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإن فيه السبّ الصريح والحطّ على السيدين أبي بكر وعمر» (2).

وذكر إبن خلكان في ترجمته للشريف المرتضى: «وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل إنه ليس من كلام

ص: 13


1- الجزء الرابع: ص 223 - 224، رقم 589.
2- ج 3، ص 124، رقم 582، تحقيق علي محمد البجاوي - دار الفكر - بيروت.

علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه» (1).

ومازال يلهج بهذا التشكيك بعض المثقفين من الإسلاميين وغيرهم من العلمانيين. ويستندون في هذا التشكيك إلى كلمات نطق بها أمير المؤمنين علیه السلام بحق المرأة خاصة، يصفها فيها بأوصاف سلبية لا يعقل من كان في مقام أمير المؤمنين علیه السلام أن ينطق بها. ويتخذها البعض كذريعة ليوحي بذلك إلى نظرة سلبية ينظر بها الإسلام إلى المرأة، وأنها أقل درجة من الناحية العقلية والإجتماعية من الرجل، وهذا يتناقض مع ما يجب أن تكون عليه الأمور من المساواة بين الرجل والمرأة. وهذا يعني أن الإسلام لا يساوي بين الرجل والمرأة.

أو أن في نهج البلاغة من المباحث والمطالب الفلسفية مما لم يكن معروفاً في جزيرة العرب في ذلك الوقت. أو أن فيه من الأخبار الغيبية التي يستحيل أن تصدر عن رجل مثل أمير المؤمنين علیه السلام. فهل كان يعلم الغيب؟ إلى غير ذلك من التشكيكات التي تصل إلى حد إتهام الشريف الرضي بوضعه لهذا الكتاب لما عرف عنه من الجدارة العالية في الأدب والبلاغة والفصاحة. أو القول أن بعض ما في نهج البلاغة قطعاً ليس لأمير المؤمنين علیه السلام!

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الشريف الرضي لم يكن الأول في جمعه لخطب أمير المؤمنين علیه السلام، بل يمكن القول أنه الأخير، فقد سبقه إلى ذلك كثيرون ويعتبر صاحب الذريعة أن أول من جمع خطب .

ص: 14


1- وفيات الاعيان: ج 3، ص 313، دار احياء التراث العربي - بيروت.

الأمير علیه السلام هو زيد بن وهب الجهني، الذي شهد صفين والذي جمع خطب الأمير علیه السلام على المنابر في الجمع والأعياد (1).

وممن كان قد سبق الشريف الرضي إلى جمع خطب الأمير علیه السلام المدائني الأخباري وسمّاه إبن النديم «خطب علي وكتبه إلى عماله» (2) ومسعدة بن صدقة وهو عامي المذهب ومن أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام (3)، والواقدي، وقد ينقل الشريف الرضي بعض الخطب عن الواقدي، وكتاب الجمل (4)، والسائب الكلبي النسابة(5)، وغيرهم كثيرون حتى وصلت النوبة إلى الشريف الرضي الذي استفاد كثيراً من تلك الكتب التي جمعت خطب أمير المؤمنين علیه السلام والتي كانت موجودة في المكتبات العامة والخاصة، فمن المكتبات الخاصة مكتبة أخيه المرتضى التي كانت مشتملة على ثمانين ألف مجلد، ومن المكتبات العامة مكتبة سابور المؤسسة للشيعة في كرخ بغداد، ولا يحصى ما فيها من كتبهم (6).

ويظهر من إبن شهر آشوب بحسب تعبير صاحب الذريعة أن جملة من مشهورات الخطب في زمانه بدليل أنه يذكرها بأسمائها في كتاب المناقب، ثم إنه يحيل في كتابه إلى بعض ما ألّف من خطب الأمير علیه السلام مثل نهج 92

ص: 15


1- اغا بزرك الطهراني: الذريعة: ج 7: ص 189
2- المصدر السابق ص 190
3- المصدر السابق ص 191
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق
6- المصدر السابق ص 192

البلاغة وكتاب الخطب لإسماعيل بن مهران والخطب لزيد بن وهب فيظهر منه وجود الجميع في عصره (1).

وإبن حجر في تشكيكه بنسبة نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين علیه السلام لما فيه من التناقض وركاكة العبارة، غير واضح وغير مفهوم ويا ليت بيّن مواضع التناقض هذا، وأين هي العبارات الركيكة؟ حتى تكون حجته أبلغ في هذا التشكيك مع أن نسبته نهج البلاغة إلى الشريف المرتضى، غلط فاحش وبيّن، لأن المعروف والمشهور أن نهج البلاغة قام بجمعه الشريف الرضي، ولسنا ندري ما الذي أوقعه في هذا الغلط؟

أما التعرض للشيخين وغيرهما من الصحابة «فإن ما ورد هو صدى لتلك الحروب الطاحنة لوقعة الجمل وصفين والنهروان ... ولم يتعرض للخلفاء الراشدين إلا تلميحاً وعتاباً وهو الصدى القائم ليوم السقيفة. ولم يقل الإمام مقالة عثمان في عمر كما أورده الدكتور طه حسين في كتابه عثمان: «ولقد وطأكم إبن الخطاب برجله وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه فخفتموه ورضيتم منه بما لا ترضونه منه، لأني كففت عنكم يدي ولساني». ولم يرد في الخطبة الشقشقية إلا ما أثبته التاريخ، وأما تعرضه لعثمان فهو تعرض الناصح المؤمن بأداء رسالته على أكمل وجه. وقد وافانا التاريخ بما وصل اليه الحال في عهده، وللإمام كامل الحق أن يدافع عن حظيرة الإسلام ومبادئه (2).9.

ص: 16


1- المصدر السابق ص 193
2- مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية الأمام: ص 146 - 147: دار الكتاب العربي: بيروت 1979.

والشريف الرضي في خطبة الكتاب، بعد أن بين أنه كان قد ابتدأ بتأليف كتاب خصائص الأئمة عليهم السلام يشتمل على محاسن اخبارهم و جواهر كلامهم وكان قد فرغ من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا علیه السلام. قال: «وكنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبواباً وفصلته فصولاً، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه علیه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب. دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه. وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتاب يحتوي على مختار مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه، من كتب وخطب ومواعظ وأدب، علماً أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب. إذ كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها وعنه أخذت، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وقد تقدم وتأخروا لأن كلامه علیه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي ... وأنه علیه السلام إنفرد ببلوغ غايتها عن جميع الشارد السلف الأولين، الذين إنما يؤثر عنهم القليل النادر والشاذ الشارد ...» (1).

هذا هو وصف الشريف الرضي للأمير علیه السلام في بلاغته وفصاحته. ح

ص: 17


1- نهج البلاغة: خطبة الكتاب: ص 33 - 34 تحقيق صبحي الصالح

تعمّدت أن أنقله بتمامه لأن الشريف الرضي له الباع الطويل والذوق الجميل في البلاغة والفصاحة وكلام العرب «وغير خفي أن من يريد إختيار أنفس الجواهر من بين الجواهر الكثيرة، لا بدّ أن يكون جوهرياً حاذقاً» (1)، فكان في إختياره لمحاسن كلام الأمير علیه السلام كأبي تمّام عندما اختار محاسن الشعر في الشعر العربي «فكان الرضي بإختياره أبلغ منه في كتاباته كما قيل عن أبي تمّام لما جمع ديوان الحماسة من منتخبات شعر العرب، أنه في إنتخابه أشعر منه في شعره» (2) ومع ذلك لم يتهم أبو تمام بوضعه لديوان الحماسة كما اتُهم الشريف الرضي بوضعه لنهج البلاغة؟! «وقد لاقى ديوان الحماسة من القبول عند الناس إقبالاً كثيراً وشرَحَه أعاظم العلماء» (3).

وهنا نقاط عدة في كلام الشريف الرضي لا بد من إبرازها:

أولاً: قوله: «فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه علیه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الكبيرة والكتب المبسوطة» مما يدل على معروفية كلام أمير المؤمنين علیه السلام وأنه متداول بين الناس ومحفوظ أيضا. ويدل على ذلك أيضا ما نقله إبن أبي الحديد عن عبد الحميد بن يحيى الكاتب قوله: «حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت ونقل عن إبن نباته قوله حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة ما حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب» وينقل عن محفن بن أبي محفن قوله لمعاوية ق

ص: 18


1- محسن الامين: أعيان الشيعة: م 9: ص 218
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق

جئتك من عند أعيي الناس فقال له: ويحك كيف يكون أعيي الناس فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره (1).

مع أن الشريف الرضي قد اختار محاسن كلامه علیه السلام مما يعني أن ما لم يكتبه ويجمعه أكثر وما كتب إلا القليل، يقول المسعودي: «والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة. وتداول الناس ذلك عنه قولاً وفعلاً» (2).

ولم يتناقلها الناس ويولوها حفظهم إلا لسموّها ورفيع أدبها وليس للمؤرخ أن يسجّل إلا ما وصل إليه، وقد يتعداه الكثير. وإن زمن المسعودي ليس ببعيد عن زمن الإمام، وذلك ما يجعل الثقة واردة في

روايته (3).

ثانياً: يقول في وصف بلاغة أمير المؤمنين علیه السلام: «مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة و مولدها، ومنه ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها». ووصفه هذا شبيه بوصف إبن أبى الحديد حين يقول: «فهو علیه السلام إمام الفصاحة وسيد البلغاء وعن كلامه قيل دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة، ويكفي هذا الكتاب نهج البلاغة الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يُجارى في الفصاحة ولا يُبارى في البلاغة (4). ت

ص: 19


1- انظر هذه الأقوال في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة: ص 8: دار نوبلیس: بيروت.
2- - المسعودي: مروج الذهب: ج 2 ص 431.
3- مهدي محبوبة: ملامح من عبقرية الأمام: ص 148: دار الكتاب العربي: بيروت
4- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 8 دار نوبلیس: بيروت

ثالثاً: يقول الشريف الرضي: «وأنه علیه السلام إنفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذي إنما يؤثر عنهم القليل النادر والشاذ الشارد» ويقول إبن أبي الحديد: «وحسبك أنه لم يُدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دُوّن له» (1).

فأين كلام إبن حجر وتشكيكه من هذا الكلام؟ بل أين كلام الصحابة حتى يجعله مقياساً ودليلاً على مدّعاه؟ بل كيف يكون الكلام القليل والنادر مقياساً لصحة الجم الكثير وعدم صحته؟ ولماذا لم يُدوّن من كلامهم إلا القليل. إذا كان يمكن إعتباره مقياساً يُقاس عليه، وقاعدة يؤسس عليها الفصاحة والبلاغة؟

نعم قد لا يكون مراد إبن حجر التشكيك ببلاغة وفصاحة أمير المؤمنين علي علیه السلام وإنما يشكك في نسبة هذا الكتاب نهج البلاغة إليه، لكن كيف عُرفت فصاحة وبلاغة أمير المؤمنين علیه السلام خصوصاً في الأزمنة المتأخرة لولا هذا الكتاب، الجامع لخطبه ومواعظه وحكمه؟! ق

ص: 20


1- - المصدر السابق

رد أبن أبي الحديد

في معرض رده على من يشكك بنسبة نهج البلاغة لأمير المؤمنين علیه السلام يقول إبن أبي الحديد: «إن كثيراً من أرباب الهوى يقولون إن كثيراً من نهج البلاغة مُحدَث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بينات الطريق ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام. وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلوا إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأول باطل بالضرورة، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين علیه السلام وقد نقل المُحَدِّثون كلهم أو جلّهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلى غرض في ذلك. والثاني يدل على ما قلنا، لأن من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولَّد، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لأثنين منهم فقط فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين، ألا تری أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحّنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفَسه وطريقته ومذهبه في القريض.

وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي

ص: 21

الأبعاض في الماهية وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور. ولو كان نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن كذلك. فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين علیه السلام واعلم أن هذا القول يترك على نفسه ما لا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبداً وساغ لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع» (1)

التواتر

إبن أبي الحديد في كلامه السابق يستدل على صحة نسبة نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين علیه السلام بدليلين:

الأول: التواتر.

الثاني: الأسلوب الواحد والنسق والواحد والنفَس الواحد، وهو في هذه الأوصاف كالقرآن الكريم لا يختلف أوله عن آخره ولا أوسطه عن أوله.

وما أريد التأكيد عليه هنا هو قضية «التواتر»، مع أن إبن أبي الحديد يعتبر أن التواتر هو لبعض نهج البلاغة وليس لجميعه، وهذا لا يثبت نسبة جميعه إلى أمير المؤمنين علیه السلام فيبقى البعض الآخر خارجاً عن هذا التواتر، لعله لهذا احتاج إلى الدليل الثاني لإثبات مدّعاه فإنه إن لم يثبت بالتواتر

ص: 22


1- شرح نهج البلاغة: ج 5، ص 115، مصدر سابق.

هذا يعني عدم صحة نسبته، فإن هناك دليل آخر وهو الذي أشار اليه بقوله: «وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً ونفَسا واحداً وأسلوباً واحداً ...» إلى آخر كلامه المتقدم.

فهل يعني هذا أن التواتر لا يثبت جميع ما في نهج البلاغة أنه لأمير المؤمنين علیه السلام؟ وهل هناك طريق آخر لإثبات هذا التواتر؟ ما نقلناه عن المسعودي سابقاً قد يساعد على إثبات هذا التواتر عندما قال: «والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وفعلاً».

هذا القول هو تعبير آخر عن دعوى التواتر، لما هو أكثر مما هو موجود في نهج البلاغة، فقد رأينا سابقاً كيف أن الشريف الرضي قد اختار محاسن الخطب والرسائل والحكم، وهو إختيار سوف يكون من الجمّ الكثير الذي حفظه الناس قولاً وفعلاً كما عبّر المسعودي سواء كان حفظهم له في الصدور أو في بطون الكتب.

ويعتبر التواتر إحدى وسائل الإثبات في نسبة كتاب إلى صاحبه، أو نسبة كلام إلى قائله وعادة ما تكون وسيلة الإثبات هذه لكلام أو كتاب يحظى بالأهمية القصوى، لدى العلماء أو عامة الناس خصوصاً إذا نطق بكلامه أمام عدد كبير من الناس، بحيث يتداولونه فيما بينهم، ويسمعه ويعرف به من لم يكن حاضراً مجلس الكلام هذا، بحيث يصبح مشهوراً معروفاً أنه نطق بهذا الكلام أو كتب هذا الكتاب، فلا يدخل الشك في صحة نسبة هذا الكلام أو هذا الكتاب إليه، سواء كان كلاماً في الوعظ والإرشاد، أو في مناسبة حرب أو صلح، أو حوار، أو بيان مسألة علمية أو فقهية

ص: 23

فيقال ويصبح معروفاً أن رأي فلان هو هذا أو ذاك بحيث لا يسأل أحد حول صحة نسبة هذا الكلام إلى فلان أو فلان ويصبح هذا السؤال مستهجناً ومستغرباً لما رسخ في أذهانهم وإن بعد الزمان، من أن الذي نطق بهذا الكلام هو فلان، لكثرة تداول هذا الكلام بين الناس أو بين أهل الإختصاص.

وفيما يتعلق بكتاب نهج البلاغة، فقد كان أمير المؤمنين «علي خطيباً مفوّهاً، وكان كاتباً فصيحاً. فأين ذهبت آثاره في الخطابة والإنشاء؟ وهل يعقل أن تضيع آثاره وحوله أشياع يحفظون كل ما يُنسب إليه؟ هل يعقل أن يحفظ الناس أشعار العابثين والماجنين من أهل العصر الأموي، وينسوا آثار خطيب قُتل بسببه ألوف وألوف من أبطال الحروب؟ ومن الذي أن يتصور الذاكرة العربية تحفظ أشعار النصارى واليهود وتنسى خطب الرجل الذي غُسّل بدمه في يوم من أيام الفتن العمياء؟» (1).

إننا نتحدث عن رجل عاش ظروفاً إستثنائية شهدت تحولات إستراتيجية، قلبت الأمور رأساً على عقب، فيما يتعلق بنظام الحكم والخلافة.

إننا نتحدث عن رجل كان طرفاً في صراع دموي إستمر سنوات، إضطر فيها لأخذ جانب الدفاع عن الإسلام والخلافة، وأتُهم من أطراف الصراع بإتهامات خطيرة، وانقلب عليه بعض الصحابة بسبب تلك الإتهامات. 6.

ص: 24


1- زكي مبارك - عبقرية الشريف الرضي: ج 1، ص 293، المحفوظ في مكتبة الجامعة اللبنانية - كلية الآداب والعلوم الانسانية: رقم 6646.

فهل يعقل أن لا يكون له رأي أو كلام يبيّن فيه حقيقة الحال من هذا الخلط الذي حصل بين الحق والباطل، مما أوجب حصول شبهات؟ أليس من واجبه أن يبيّن على الأقل لأصحابه وعسكره أنه لماذا يقاتل؟! ولماذا يفعل هذا الأمر؟ أو لماذا لا تفعلوا كذا؟ أليس من المنطقي والطبيعي لقائد يجد نفسه في موقع المسؤولية أن يبين لأمته ما يصلحهم ليعملوا به وما يفسدهم ليتناهوا عنه؟ هل من المنطقي والطبيعي أن يقف القائد أو المسؤول موقف المتفرج أمام أمته جماعات وأفراداً لا يتكلم معهم بأي موضوع، ولا ينطق بكلمة صغيرة كانت أو كبيرة حول أي موضوع صغيراً أو كبيراً؟

ثم نقف ونقول بالفم الملآن: أن نهج البلاغة كله أو جله إنما هو كلام اخترعه الشريف الرضي ونسبه إلى أمير المؤمنين علیه السلام؟!

يقول الدكتور زكي مبارك في كتابه عبقرية الشريف الرضي حول دعوى كذب نسبة كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين علیه السلام: «أما ضمير الشريف الرضي فهو عندي فوق الشبهات وهو قد خدم التشيع بالصدق لا بالإفتراء، فإن كان في جمع آثار علي بن أبي طالب خدمة سياسية لمذهب التشيع فهو ذلك، ولكنها خدمة أديت بأسلوب مقبول هو إبراز آثار أمير المؤمنين ولا يُعاب على الرجل أن يخدم مذهبه السياسي بجميع الوسائل والأساليب ما دام في حدود العقل والذوق» (1).

ويقول في موضع آخر: «وأين العقل الذي يقبل القول بأن علياً لم 94

ص: 25


1- المصدر السابق ص 294

يُحي بيانه إلا في الآثار المفتريات؟ أين ونحن نجزم بأن في الشيعة أنفسهم رجالاً من العرب الصرحاء الذين يؤذيهم الكذب والافتعال؟ وهل كان الشيعة إلا قوماً تستهويهم السياسة حيناً، و يأسرهم الصدق في أحايين؟ لا مفر من الإعتراف بأن نهج البلاغة له أصل، وإلا فهو شاهد على أن الشيعة كانوا أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ» (1).

بعد كل الذي تقدم لا يصح القول: أنه إذا كانت «آثار علي بن أبي طالب تعرّضت لمثل ما تعرضت له سائر الآثار الأدبية والسياسية والدينية (2).

فإن ما فات «الشريف من التحقيق لم يقع عن عمد، وإنما وقع عن جهل بما تعرّضت له تلك الآثار من الوضع والإفتراء» (3).

فإذا صح القول الأول بأن آثار وخطب أمير المؤمنين علیه السلام قد تعرضت للدس والإضافات والإفتراء، فإن هذا مما لا يمكن إنكاره، إلا إننا لا نستطيع إتهام الشريف الرضي بالجهل بما تعرضت له هذه الآثار، فهو وإن وقع إختياره على محاسن خطب وكلام الأمير علیه السلام إلا أنه من البعيد أن يختار ما يعتبره من محاسن كلامه ثم يختار ما يقطع بكذبه وإفترائه عن لسان الأمير علیه السلام. كيف؟ وقد نقلنا سابقاً كلام المسعودي وغيره ما يدل على معروفية ومشهورية كلام الأمير علیه السلام وذكرنا أيضا أن أحد دلائل الإثبات التي أشار إليها إبن أبي الحديد لإثبات كلامه علیه السلام هي ق

ص: 26


1- المصدر السابق: ص 293 - 294
2- المصدر السابق ص 295
3- المصدر السابق

التواتر والنسق الواحد فمن البعيد أن لا يعلم الشريف الرضي أن هناك مدسوسات وإضافات وإفتراءات لا علاقة لها بكلام الأمير علیه السلام وهو العالم الحصيف والأديب ثم يكتب ما لا يطمئن بصدوره عن الأمير علیه السلام وإذا كان نفسه لا يكذب ولا يمكن إتهامه بالكذب (1) إلا أنه لا يعني ذلك أن ينقل ما يطمئن بكذبه أو يحتمل كذبه مما ينسب إلى الأمير علیه السلام.6

ص: 27


1- المصدر السابق: ص 296

ص: 28

ص: 29

ص: 30

خطبة الجهاد

إبن أبي الحديد في تعليقه على خطبة الجهاد لأمير المؤمنين علیه السلام يقول: «هذه الخطبة من مشاهير خطبه علیه السلام قد ذكرها الكثير من الناس ورواها أبو العباس المبرّد في أول الكامل» (1).

ثم يقيم مقارنة بين هذه الخطبة وخطبة إبن نباتة (2) في الحضّ على الجهاد، التي يقول فيها كما أوردها إبن أبي الحديد: «أيها الناس إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون، وإلى كم تقرعون بالزجر فلا تعقلون كأن أسماعكم تمجّ ودائع الوعظ، وكأن قلوبكم بها إستكبار عن الحفظ، وعدوكم يعمل في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله، وصرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه وهذه البهائم تناضل عن ذمارها وهذه الطير تموت حمية دون أوكارها،

ص: 31


1- شرح نهج البلاغة ج 1 ص 141: دار نوبلیس بیروت.
2- الخطيب أبو يحي عبد الرحمان بن محمد بن إسماعيل بن نباته، صاحب الخطب المشهورة، كان إماماً في علوم الادب، وكان خطيب حلب، وبها اجتمع بأبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة الحمداني، وقالوا أنه سمع عليه بعض ديوانه، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، فلهذا أكثر الخطيب من خطب الجهاد ليحض الناس عليه ويحثهم على نصرة سيف الدولة وهذا الخطيب لم أر أحداً من المؤرخين ذكر تاريخه في الوفاة سوى إبن الأزرق العارفي في تاريخه فانه قال ولد في سنة 335 ه، وتوفى في سنة 374 ه ابن خلكان: وفيات الاعيان ج 3 ص 156 - 157.

بلا كتاب أنزل عليها ولا رسول أرسل اليها، وأنتم أهل العقول والأفهام، أهل الشرائع والأحكام تندّون من عدّوكم نديد الإبل وتدرعون له مدارع العجز والفشل وأنتم والله أولى بالغزو إليهم وأحرى بالمغار عليهم، لأنكم أمناء الله على كتابه والمصدقون بعقابه وثوابه خصّكم الله بالنجدة والبأس، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس فأين حمية الإيمان؟ وأين بصيرة الإيقان؟ وأين الإشفاق من لهب النيران؟ وأين الثقة بضمان الرحمن؟ فقد قال الله عز وجل فى القرآن (بَلَىٰ ۚ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) (1). فاشترط عليكم التقوى والصبر وضمن لكم المعونة والنصر، أفتتهمونه في ضمانه؟ أم تشكّون في عدله وإحسانه؟ فسابقوا رحمكم الله إلى الجهاد بقلوب تقية ونفوس أبية وأعمال رضية ووجوه مرضية وخذوا بعزائم التشمير واكشفوا عن رؤوسكم عار التقصير، وهبوا أنفسكم لمن هو أملك بها منكم ولا تركنوا إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) (2) فالجهاد الجهاد أيها الموقنون، الظفر الظفر أيها الصابرون، والجنة الجنة أيها الراغبون، النار النار أيها الراهبون. فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان وأوسع أبواب الرضوان وأرفع درجات الجنان، وأن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما مجمع على تفضيلهما إما السعادة بالظفر في العاجل وإما الفوز بالشهادة في الأجل، وأكره المنزلتين إليكم أعظمها 6

ص: 32


1- ال عمران: 125 بقية الآية وياتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الاف من الملائكة مسومين
2- ال عمران: 156

نعمة عليكم، فانصروا الله فإن نصره حرز من الهلكات حريز ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (1) هذا آخر خطبة إبن نباتة (2).

أما خطبة الجهاد التي لأمير المؤمنين علیه السلام فهي: «أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى و درع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه البسه الله ثوب الذل وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالإسهاب، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد وسيم الخف، ومُنع النَّصَف ألا إني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً وقلت لكم أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنت عليكم الغارات ومُلكت عليكم الأوطان، وهذا أخو غامد (3) وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسان بن حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حُجُلَهَا وقُلَبها وقلائدها ورُعُثَها ما تمتنع منه إلا بالإسترجاع والإسترحام، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا أريق لهم دم فلو أن امراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديرا، فيا عجباً، والله يميت القلب ويجلب الهم إجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم ق

ص: 33


1- الحج: 40
2- ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 142 - 143 مصدر سابق
3- أخو غامد الذي وردت خيله الأنبار فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي وغامد قبيلة من اليمن وهي من الازد: أنظر إبن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 144 مصدر سابق

عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضا يُرمى يُغار عليكم ولا تغيرون وتُغزون ولا تغزون ويُعصى الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارَة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارَة القر، أمهلنا ينسلخ عنا

البرد، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحرّ والقُرّ تفرون، فأنتم والله من السيف أفرّ. يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً، وأعقبت سَدَماً، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وجرّعتموني نُغَبَ التّهَمام أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش إن إبن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحد منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فيها مقاماً مني، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع» (1)

وبعد أن يورد إبن أبي الحديد لهاتين الخطبتين يعقد هذه المقارنة فيقول: «فانظر إليها - أي خطبة إبن نباتة - وإلى خطبته علیه السلام بعين الإنصاف تجده بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد، وانظر ما عليها من أثر التوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من الألفاظ، ألا ترى إلى فجاجة قوله: «كأن أسماعكم تمج 8

ص: 34


1- ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 140 - 141 مصدر سابق، نهج البلاغة: ص 69، 71، رقم 27، مصدر سابق، وأوردها الجاحظ بتمامها في البيان والتبيين: ج 2، ص 66، 68

ودائع الوعظ، وكأن قلوبكم بها إستكبار عن الحفظ» وكذلك ليس يخفى نزول قوله: «تندون من عدوّكم نديد الإبل وتدرعون له مدارع العجز والفشل» وفيها كثير من هذا الجنس، إذا تأمله الخبير عرفه ومع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام ألا ترى أن قوله علیه السلام: «أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة» قد سرقه إبن نباتة فقال: «فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان وأوسع أبواب الرضوان وأرفع درجات الجنان» وقوله علیه السلام: «من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم» سرقه أيضا فقال: «صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه» وقوله علیه السلام: «قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم إلى آخره» سرقه أيضا فقال: «كم تسمعون الذكر فلا تعون وتقرعون بالزجر فلا تقلعون» وقوله علیه السلام: «حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان» سرقه أيضا وقال: «وعدوكم يعمل في دياركم عمله ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله» (1).

ويورد إبن أبي الحديد خطبة أخرى لإبن نباتة ليعقد لها مقارنة أخرى، مع خطبة أمير المؤمنين علیه السلام فيقول: «ومن خطب إبن نباتة التي يحرّض فيها على الجهاد» وإن الجهاد كنز وفّر الله منه أقسامكم، وحرز طهّر الله به أجسامكم وعزّ أظهر الله به إسلامكم (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (2)، فانفروا رحمكم الله جميعاً وثبات وشنّوا على أعدائكم الغارات وتمسكوا بعصم الأقدام ومعاقل الثبات، وأخلصوا 7.

ص: 35


1- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 143، مصدر سابق.
2- سورة محمد: الآية 7.

في جهاد عدوكم حقائق النيات، فإنه والله ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا، واعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير إجتهاد، كما لا يصلح السفر بغير زاد، فقدّموا مجاهدة القلوب قبل مشاهدة الحروب، ومغالبة الأهواء قبل محاربة الأعداء، وبادروا بإصلاح السرائر فإنها من أنفس العدد والذخائر، واعتاضوا من حياة لا بد من فنائها بالحياة التي لا ريب في بقائها، وكونوا ممن أطاع الله وشمّر في مرضاته، وسابقوا بالجهاد إلى تملّك جناته، فإن للجنة باباً حدوده تطهير الأعمال، وتشييده إنفاق الأموال وساحته زحف الرجال، وطريقه غمغمة الأبطال، ومفتاحه الثبات في معترك القتال ومدخله من مشرعة الصوارم والنبال» (1).

يقول إبن أبي الحديد في معرض المقارنة: «فلينظر الناظر في هذا الكلام، فإنه وإن أخذ من صناعة البديع بنصيب، إلا أنه في حضيض الأرض، وكلام أمير المؤمنين علیه السلام في أوج السماء، فإنه لا ينكر لزومه فيه لما لا يلزمه إقتداراً وقوة وكتابة نحو قوله «كنز» فإن بأزائه «حرز وعز» وقوله «مشاهدة» بأزاء قوله «مجاهدة» و«مغالبة» بأزاء «محاربة» و «حدوده» بأزاء «تشييده». لكن مثله بالقياس إلى كلام أمير المؤمنين علیه السلام كدار مبنية من اللبن والطين، مموهة الجدران بالنقوش والتصاوير، مزخرفة بالذهب من فوق الجص والاسفيداج، بالقياس إلى دار مبنية بالصخر الأصم الصلد، المسبوك بينه عمد الرصاص والنحاس المذاب، وهي مكشوفة غير مموهة ولا مزخرفة، فإن بين هاتين الدارين بوناً بعيداً وفرقاً عظيماً، وانظر .

ص: 36


1- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 143 - 144 مصدر سابق.

قوله: «ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا» كيف تصيح من بين الخطبة صياحاً، وتنادي على نفسها نداءً فصيحاً، وتعلم سامعها أنها ليست من المعدن الذي خرج باقي الكلام منه، ولا من الخاطر الذي صدر ذلك السجع عنه، ولعمر الله لقد جمّلت الخطبة وحسّنتها وزانتها، وما مثلها فيها إلا كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة، فإنها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر وتنير وتقوم بنفسها، وتكتسي الرسالة بها رونقاً وتكسب بها ديباجة، وإذا أردت تحقيق ذلك فانظر إلى السجعة الثانية، التي تكّلفها ليوازنها بها وهي قوله: «ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا» فانك إذا نظرت إليها، وجدت عليها من التكلف و الغثاثة ما يقوى عندك صدق ما قلته لك. على أن في كلام إبن نباتة في هذا الفصل ما ليس بجيد، وهو قوله: «وحرز طهّر الله به أجسامكم» فإنه لا يقال في الحرز أنه يطهر الأجسام، ولو قال عوض طهّر حصّن الله به أجسامكم لكان أليق، لكنه أراد أن يقول «طهّر» ليكون بأزاء «وفّر» وبأزاء «أظهر» فأدّاه حب التقابل إلى ما ليس بجيد» (1).44

ص: 37


1- المصدر السابق: ص 144

ثم يقول إبن أبي الحديد: «واعلم أني أضرب لك مثلا تتخذه دستوراً في كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وكلام الكتّاب والخطباء بعده كإبن نباتة والصابئ (1) وغيرهما، أنظر نسبة شعر أبي تمّام (2) والبحتري (3) وأبي نواس (4) ومسلم (5). .

ص: 38


1- هو ابو اسحق الصابي ابراهيم بن هلال صاحب الرسائل المشهورة الأديب البليغ، كان صابئيا مشركا وكان كاتب الانشاء ببغداد عن الخليفة عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن نوية الديلحي، كان يصوم رمضان ويحفظ القرآن ويحتاج إليه في الانشاء، جهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يقبل، ولما مات رثاه الشريف الرضي بقصدته الدالية المشهورة التي أولها: أرأيت من حملوا على الاعواد *** أرأيت كيف خبا ضياء النادي وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفاً يرثى صابئاً فقال انمارثيت فضله، وكانت وفاته سنة 384 ه انظر ترجمته في سير اعلام النبلاء: ج 16 ص 523، ج 10 ص 654 ووفيات الاعيان، ج 1 ص 212
2- حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران السورية) ورحل إلى مصر، واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته، فاقام في العراق، ثم ولي بريد الموصل، فلم يتم سنتين حتى توفى بها. الموسوعة الشعرية، 188: 231 ه 803 - 845 م
3- الوليد بن عبيد بن يحي الطائي، ابو عبادة البحتري، شاعر كبير، يقال لشعره سلاسل الذهب، وهو احد الثلاثة الذين كانوا اشعر ابناء عصرهم المتبني وابو تمام والبحتري ولد بمنبج بين حلب والفرات ورحل إلى العراق فاتصل بجماعة الخلفاء، أولهم المتوكل العباسي وتوفي بمنبج، له كتاب الحماسة على مثال حماسة أبي تمام 206 - 284 ه 821 - 897 م.
4- الحسن بن هاني بن عبد الاول بن صباح الحكمي بالولاء، شاعر العراق في عصره ولد في الاهواز من بلاد خوزستان، ونشأ بالبصرة، ورحل إلى بغداد فاتصل فيها بالخلفاء من بني العباس ومدح بعضهم وخرج إلى دمشق ومنها إلى مصر، فمدح اميرها، وعاد إلى بغداد فاقام بها إلى أن توفى فيها 146 - 198 ه 763 - 813 م
5- مسلم بن جبير: شاعر من شعراء الخوارج، كان من أهل الحجاز لم يذكر تاريخ ولادته أو وفاته. المصدر، الموسوعة الشعرية: 1997 - 2001م. الاشراف العام: محمد احمد السويدي: ابو ظبي الامارات العربية.

إلى شعر امرئ القيس (1). والنابغة (2) وزهير (3) والأعشى (4)، هل إذا م

ص: 39


1- امرئ القيس بن حجر بن الحارث الكندي شاعر جاهلي اشهر شعراء العرب على الاطلاق، يماني الاصل مولده نجد، كان ابوه ملك أسد و غطفان، وأمه اخت المهلهل الشاعر، قال الشعر وهو غلام، ابعده ابوه إلى حضرموت بعد أن شبّب وعاشر صعاليك العرب مات في أنقرة تركيا بعد أن قابل قيصر الروم وولاه امارة فلسطين: 130 - 80 ق ه 496 - 544 م.
2- النابغة لقب لثلاثة شعراء هم النابغة الجعدي وهو قيس بن عبد الله بن عُدَس بن ربيعة، الجعدي العامري ابو ليلی شاعر مفلق صحابي. اشتهر في الجاهلية وسمي النابغة، لانه اقام ثلاثين سنة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله وكان قد هجر الاوثان ونهى عن الخمر قبل ظهور الاسلام وفد على النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وادرك صفين فشهدها مع علي علیه السلام، ثم سكن الكوفة فسيّره معاوية إلى اصفهان مع احد ولاتها فمات فيها وقد كف بصره وجاوز المئة: 54 ق ه 50 ق ه 570 - 670 م، والثاني: النابغة الذبياني زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، ابو أمامة. شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، من اهل الحجاز كانت تضرب له قبة من جلد احمر بسوق عكاظ فتقصده الشعراي فتعرض عليه اشعارها فهم الاعش وحسان والخنساء عاش عمرا طويلا، 18 ق ه 605 م. والثالث النابغة الشيباني عبد الله بن المخارق بن سليم بن خضرة بن قيس من بني شیبان شاعر بدوي من شعراء العصر الأموي، مدح الخلفاء الأمويين منهم عبد الملك بن مروان وولده من بعده وله في الوليد مدائح كثيرة، مات في ايامه 125 ه 743 م.
3- زهير بن ابي سلمى ربيعة بن رباح المزين من مضر حكيم الشعراء في الجاهلية، كان ابوه شاعراً، وخاله واخته سلمى والخنساء وابناه كعب وبجير ولد في بلاد مزينة بنواحي في المدينة وكان يقيم في الحاجر من ديار نجد، واستمر بنوه فيه بعد الاسلام كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة، فكانت قصائده تسمى الحوليات: 13 ق ه 609 م.
4- الأعشى - مع يوجد ثلاثة شعاراء أطلق عليهم اعشى الا أن اثنين اضيف اليهما اسم قبيلتهم احدهما اعشى باهلة والاخر اعشی همدان والثالث هو المقصود عرف بلقب الاعشي فاصبح علما له وهو ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس ثعلب الوائلي ابو بصير المعروف باعشى قيس ويقال له اعشى بكر بن وائل والاعشى من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية واحد اصحاب المعلقات وكان كثير الوفود على الملوك من العرب والفرس عاش عمرا طويلا وادرك الاسلام ولم يسلم لقب بالاعشى لضعف بصره وعمي في آخر عمره ولد وتوفي في قرية منفوحة باليمامة وفيه داره وبها قبره 7 ق ه - 628 م. انظر هذه التراجم الموسوعة الشعرية الاشراف العام محمد احمد السويدي ابو ظبى الامارات العربية:1997 - 2001 م

تأملت أشعار هؤلاء وأشعار هؤلاء تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين؟ أو بتفضيل أبي نواس وأصحابه عليهم؟ ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت ولا قاله غيرك، ولا يقوله الامن لا يعرف علم البيان وماهية الفصاحة وكنه البلاغة وفضيلة المطبوع على المصنوع ومزية المتقدم على المتأخر، فإذا أقررت من نفسك بالفرق والفضل وعرفت فضل الفاضل ونقص الناقص فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين علیه السلام إلى هؤلاء هذه النسبة بل أظهر، لأنك تجد شعر امرئ القيس وأصحابه من التعجرف والكلام الوحشي واللفظ الغريب المستكره شيئاً كثيراً، ولا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين علیه السلام شيئاً. وأكثر فساد الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك، فإن شئت أن تزداد إستبصاراً، فانظر القرآن العزيز واعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى درجات الفصاحة وتأمله تأملاً شافياً، وانظر إلى ما خُصّ به من مزية الفصاحة والبعد عن التقعر والتعقيد والكلام الوحشي الغريب، وانظر كلام أمير المؤمنين علیه السلام فإنك تجده مشتقاً من ألفاظه ومقتضبا من معانيه ومذاهبه، ومحذوّاً به حذوه ومسلوكاً به في منهاجه، فهو وإن لم يكن نظيراً ولا نداء يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل، إلا أن يكون كلام إبن عمه علیه السلام وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر ولا لانتقاد الذهب ولكل صناعة أهل ولكل عمل رجال (1).3

ص: 40


1- المصدر السابق ص 143

الموعظة

«سبحانك خالقاً ومعبوداً بحسن بلائك عند خلقك، خلقت داراً وجعلت فيها مأدبة مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وأنهاراً وزرعاً وثماراً، ثم أرسلت داعيًا يدعو إليها، فلا الداعي أجابوا ولا فيما رغبت إليه رغبوا ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا، أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئاً أغشى بصره وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها ولمن في يده شيء منها حيث ما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها، لا ينزجر من الله بزاجر ولا يتعظ منه بواعظ، وهو يرى المأخوذين على الغِرّة، حيث لا إقالة لهم ولا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يُوعَدون فغير موصوف ما نزل بهم إجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيرت لها ألوانهم، ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه على صحة من عقله وبقاء من لُبّه يفكّر فيما أفنى عمره وفيم أذهب دهره ويتذكر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مُصَرّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها تبقى لمن ورائه

ص: 41

يُنَعّمون فيها ويتمتعون بها فيكون المهناً لغيره والعبء على ظهره، والمرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه، فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانُه سمْعَه، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه يردد طرفه بالنظر في وجوههم يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم، ثم ازداد الموت التياطاً به فقُبض بصره كما قُبض سمعه وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله قد أوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، لا يُسعِدُ باكياً، ولا يجيب داعياً. ثم حملوه إلى مَحَطِّ في الأرض، فأسلموه فيه إلى عمله، وانقطعوا عن زورته ... (1).

يقول إبن أبي الحديد حول هذا الكلام: «من أراد أن يتعلم الفصاحة والبلاغة ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض، فليتأمل هذه الخطبة فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام - عدا كلام الله ورسوله - بنسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، ثم لينظر الناظر ما عليها من البهاء والجلالة والرواء والديباجة، وما يحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشية، حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفي البعث والنشور، لهدّت قواه وأرعبت قلبه وأضعفت على نفسه وزلزلت إعتقاده، فجزى الله قائلها عن الإسلام أفضل ما جزى به ولياً من أوليائه، فما أبلغ نصرته له تارة بيده وسيفه وتارة بلسانه ومنطقه وتارة بقلبه وفكره إن قيل جهاد وحرب فهو سيد المجاهدين والمحاربين وإن قيل وعظ وتذكير ق

ص: 42


1- نهج البلاغة: ص 159 - 161: مصدر سابق

فهو أبلغ الواعظين والمذكّرين، وإن قيل فقه وتفسير فهو رئيس الفقهاء والمفسرين وإن قبل عدل وتوحيد فهو إمام أهل العدل والموحدين» (1).

ثم يذكر في مقام المقايسة والمقارنة كلاماً للخطيب المشهور إبن نباتة، ليبين أهمية كلام الأمير علیه السلام وتفوقه على غيره في هذا المقام فيقول: «ونحن نذكر في هذا الموضع فصولاً من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله وهو الفائز بقصبات السبق بين الخطباء، وللناس غرام عظيم بخطبه وكلامه، ليتأمل الناظر كلام أمير المؤمنين علیه السلام في خطبه ومواعظه، وكلام هذا الخطيب المتأخر الذي وقع الإجماع على خطابته وحسنها، وأن مواعظه الغاية التي ليس بعدها غاية. فمن ذلك قوله: «أيها الناس تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل، وابرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل، ودعوا التمثل بجزع الأباطيل والركون إلى التسويف والتعليل، فقد سمعتم ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى، وما وعظكم به من مصارع من سلف من الورى، مما لا يعترض لذوي البصائر فيه شك ولا مراء، وأنتم معرضون عنه إعراضكم عما يُختلف ويُفترى، حتى كأن ما تعلمون منه أضغاث أحلام الكرى، وأيدي المنايا قد قصمت من أعماركم أوثق العُرى، وهجمت على هول مطلع كريه القرى، فالقهقرى رحمكم الله عن حبائل العطب القهقرى، واقطعوا مفاوز الهلكات بمواصلة السرى، وقفوا على أجداث المنزلين من شناخيب الذرى، المنجلين بوازع أم حبوكري، المشغولين بما عليهم من الموت جرى، واكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى، تجدوا ما بقي عبرة لمن يرى، ق

ص: 43


1- شرح نهج البلاغة: ج 4: ص 72: 73: مصدر سابق

فرحم الله امرءً رحم نفسه فبكاها، وجعل منها إليه مشتكاها، قبل أن تعلق به خطاطيف المنون وتصدق فيه أراجيف الظنون وتشرق عليه بمائها مقل العيون ويلحق بمن دثر من القرون، قبل أن يبدو على المناكب محمولاً، ويغدو إلى محل المصائب منقولاً، ويكون عن الواجب مسؤولا، وبالقدوم على الطالب الغالب مشغولاً، هناك يُرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، وتقطع الأسباب وتذهب الأحساب ويمنع الإعتاب، ويجمع من حق عليه العقاب ومن وجب له الثواب، فيُضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» (1).

يقارن إبن أبي الحديد بين كلام أمير المؤمنين عليه السلام وبين هذا الكلام فيقول: «فلينظر المنصف هذا الكلام وما عليه من أثر التوليد أولاً بالنسبة إلى ذلك الكلام العربي المحض، ثم لينظر فيما عليه من الكسل والرخاوة والفتور والبلادة، والمح ما في «بوق الرحيل» من السفسطة واللفظ العامي الغثّ، واعلم أنهم كلهم عابوا على أبي الطيب قوله:

فإن كان بعض الناس سيف الدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول

وقالوا لا يدخل لفظة «بوق» في كلام يفلح أبداً، والمح ما على قوله «القهقرى» متكررة من الهجنة، وأهجن منها أم حبوكرى، وأين هذا اللفظ الوحشي الذي تفوح منه روائح الشيح والقيصوم، وكأنه أعرابي قح قد قدم من نجد، لا يفهم محاورة أهل الحضر، ولا أهل الحضر يفهمون حواره، من هذه الخطبة اللينة الألفاظ التي تكاد أن تتثنى من لينها وتتساقط من ضعفها. ثم المح هذه الفقر والسجعات التي أولها «القرى» ثم «المرا» ثم 76

ص: 44


1- المصدر السابق ص 75 - 76

«يفترى» ثم «الكرى»، إلى قوله «عبرة لمن يرى»؟ هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفاً أو مقصداً رشيقاً؟ أو هل تجد اللفظ نفسه لفظاً جزلاً فصيحاً أو عذباً معسولاً؟ وإنما هي ألفاظ قد ضُم بعضها إلى بعض والطائل تحتها قليل جداً، وتأمل لفظة «مرا» فإنها محدودة في اللغة، فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة، وإن أراد جمع مرية فقد خرج عن الصناعة، لأنه يكون قد عطف الجمع على المفرد، فيصير مثل قول القائل ما أخذت منه ديناراً ولا دراهم في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان» (1).

وبعد أن يورد مجموعة عة أخرى من كلمات وخطب إبن نباتة ليقارن بينها وبين كلام أمير المؤمنين علیه السلام أعرضنا عن ذكرها خوف الإطالة، يورد إشكالاً على هذه المقارنة فيقول: «ولعل عائباً يعيب علينا فيقول شرعتم في المقايسة والمقارنة، بين كلام أمير المؤمنين علیه السلام وبين كلام إبن نباتة، وهل هذا إلا بمنزلة قول من يقول السيف أمضى من العصا؟ وفى هذه غضاضة على السيف (2).

يجيب على هذا الإشكال فيقول: «أنه قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر، ليبيّنوا فضل القرآن وزيادة فصاحته على فصاحة كلام العرب، نحو مقايستهم بين قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 179) (3) وبين قول 9

ص: 45


1- المصدر السابق ص 76
2- المصدر السابق: ص 76
3- سورة البقرة: الآية 179

القائل القتل أنفى للقتل (1) ونحو ایرادهم کلام مسيلمة (2) وأحمد بن سليمان المعري (3) وعبد الله بن المقفع (4)، فصلاً فصلاً، والموازنة والمقايسة بين ذلك وبين القرآن المجيد وإيضاح أنه لا يبلغ ذلك إلى درجة 7.

ص: 46


1- قال في الميزان «ولكم في القصاص حياة» الآية على اختصارها وإيجازها وقله حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها من أبلغ ايات القرآن فى بيانها ... وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة أسلوبها وأعجب من الجميع عندهم قولهم «القتل أنفى للقتل» غير ان الآية انست الجميع ونفت الكل: ج 1 ص 433
2- كان مسيلمة بن حبيب الكذاب قد ادعى النبوة في السنة العاشرة من الهجرة في قومه بني حنيفة من أهل اليمامة، بعد ان ذهب وفد من قومه الى رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي رواية أن مسيلمة كان معهم، وأنهم كانوا يخفونه في ثيابه، وفي رواية أخرى أنه لم يدخل معهم بل بقي في رحالهم، وبعد عودة الوفد الى اليمامة تنبأ وتكذب لهم وقال إني أُشركت في الأمر معه، ثم جعل يسجع السجاعات ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن، أعرضت عن ذكر نموذج لها لسخافتها، أنظر إبن جرير الطبري: تاريخ الأمم والملوك: ج 3 م:2 ص 162: دار القلم: بتصرف
3- هو الشاعر العربي: الاسلامي المعروف ابو العلاء المعري والشارح المعتزلي نسبه إلى جده لأن إسمه هو أحمد بن عبد الله بن سليمان ولد بمعرة النعمان سنة 363 للهجرة واعتل بالجدري التي ذهب فيها بصره سنة 367 حيث كان له من العمر حوالي الاربع سنوات. وقال الشعر وهو ابن 11 سنة، ورحل الى بغداد 398، واقام فيها سنة وسبعة اشهر، ثم رجع الى بلده فاقام ولزم منزله الى ان مات يوم الجمعة الثاني من شهر ربيع الاول سنة 449 في ايام القائم العباسي وكان في ابائه وأعمامه ومن تقدمه من أهله وتاخر عنه من ولد ابيه ونسله فضل وقضاة وشعراء. انظر، ياقوت الحموي: معجم الادباء م 2: ج 3 ص 107 - 108: دار احياء التراث العربي بيروت
4- كاتب، شاعر وأحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي. فارسي الأصل، نشأ بالبصرة وولي كتابة الديوان للمنصور العباسي وترجم له بعض الكتب، واتهم بالزندقة، فقتله في البصرة أميرها سفيان بن معاوية المهلبي، من اثاره: الادب الصغير والدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة في طاعة السلطان. انظر، عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين م 3: ج 6: ص 156 دار احياء التراث العربي: بيروت، وابن حجر العسقلاني: لسان المزان: ج 3 ص 336 - 367.

لي

القرآن الكريم في الفصاحة ولا يقاربها فليس بمستنكر منا أن نذكر كلام إبن نباتة، في معرض إيرادنا كلام أمير المؤمنين علیه السلام، لتظهر فضيلة كلامه علیه السلام بالنسبه إلى هذا الخطيب الفاضل، الذى قد اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه. واعلم أننا لاننكر فضل إبن نباتة وحسن أكثر خطبه، ولكن قوماً من أهل العصبية والعناد، يزعمون أن كلامه يساوي كلام أمير المؤمنين علیه السلام ويماثله. وقد ناظر بعضهم في ذلك فأحببت أن أبيّن للناس في هذا الكتاب أنه لا نسبة لكلامه إلى كلام أمير المؤمنين علیه السلام» (1) 7

ص: 47


1- المصدر السابق: ص 76 - 77

ص: 48

کلمات أثارت جدارً؟!

اشارة

* لست ... أخطئ

* عبد الله بن عباس ... وأقوال البصرة؟!

* من هو ...؟

* الخلافة ... أفضلية ... أم نص؟

ص: 49

ص: 50

لستُ .... أخطىء

من جملة الكلمات المثيرة للجدل، والتي هي المدخل للتشكيك بما في نهج البلاغة قول أمير المؤمنين علیه السلام «فإني لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ» (1) التي تدل بظاهرها على إعترافه علیه السلام بعدم عصمته، كما صرّح بذلك إبن أبي الحديد المعتزلي (2) مما حدا بالبعض رداً لذلك إلى القول بعدم صحة هذه المقولة سنداً (3)

وحيث أننا في هذا الكتاب لا نعطي للبحث السندي أولوية - لا لعدم أهميته - بل لأننا نهتم بالبحث الدلالي، فلن يضيرنا عدم صحة سندها في مكان آخر ما دامت هذه العبارة موجودة في نهج البلاغة في سياق خطبة كان الأمير علیه السلام قد خطبها في معسكره في صفين كما صرّح بذلك الشريف الرضى (4).

هذه الخطبة التي تحدّث علیه السلام فيها عن الحقوق والواجبات القائمة بين

الوالي من جهة والرعية من جهة ثانية. فهو علیه السلام تحدّث:

ص: 51


1- نهج البلاغة: ص 335: مصدر سابق
2- شرح نهج البلاغة
3- جعفر مرتضى العاملي - لست بفوق أن أخطىء من كلام علي علیه السلام، ص 46، مركز الدراسات الاسلامية - بيروت
4- نهج البلاغة: ص 332، رقم 216، تحقيق صبحي الصالح.

أولاً: عن حقه الذي افترضه الله له: «فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً" بولاية أمركم».

ثانياً: عن حقهم عليه «ولكم عليّ من الحق مثل الذي عليكم».

ثالثاً: إن طبيعة هذا الحق أن يكون على نحو متبادل، فلا يحق لأحد

أن يطلب من الآخرين حقاً له ثم لا يعطيهم هذا الحق «لا يجري لأحد إلاجرى عليه، ولا يجري عليه الاجرى له».

رابعاً: بيّن علیه السلام أن هناك حقوق «افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافاً في وجوهها» وأن أعظم هذه الحقوق «حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي» وأن هذه الحقوق المتكافئة جعلها الله واجبة لا يجوز تركها والتغاضي عنها «فريضة فرضها الله - سبحانه - لكلٍ على كلٍ».

ثم بيّن علیه السلام الفوائد العظيمة والجليلة المترتبة على أداء هذه الحقوق «فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة، ويأست مطامع الأعداء» أما إذا اختل هذا النظام الحقوقي المتبادل، فكان الوالي ظالماً وكانت الرعية غير مطيعة فإن المفاسد كثيرة أولها اختلاف الكلمة «اختلفت هنالك الكلمة» وليس آخرها ظهور الجور وترك السنن وتعطيل الأحكام والعمل بمقتضى الأهواء الشخصية حيث لا رادع ولا رقيب ولا حسيب.

فالواجب على كلا الطرفين هو التناصح والتشاور وحسن التعاون، والملفت أن الأمير علیه السلام يؤكد على مبادئ التعاون والتشاور وأنه لا يمكن لأحد الإستغناء عنه مهما علا شأنه «وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته - بفوق أن يُعان على ما حمّله الله من حقه».

ص: 52

عندما يصل الأمير علیه السلام إلى هذا الموقع من خطبته ينبري أحد أصحابه - ولا تقول الرواية من هو - «يكثر في الثناء عليه، ويذكر سمعه وطاعته له» يكمل كلامه ليذكّر بعظمة الله تعالى، وأن هذه العظمة إذا استشعرها الإنسان في نفسه فهي السبب ليصغر في عينه «كل ما سواه».

وبعد أن يعتبر أن من أسخف الأمور عند الولاة أن يظن الناس بهم «حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر» يبيّن أنه يكره «أن يكون قد جال في ظنكم أني أحب الإطراء».

ثم يختم خطبته المباركة بجملة وصايا يريد من أصحابه وعسكره أن يعملوا عليها في تعاملهم وتعاطيهم معه علیه السلام «فلا تكلموني بما تُكَلَم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، وتظنوا بي إستثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ...» (1)

إنه منتهى التواضع ومنتهى الرحمة ومنتهى الثقة بالنفس، لم يحدثنا التاريخ عن حاكم تحدث مع رعيته بهذه الطريقة من التواضع والرحمة ... والديمقراطية، أن يتحدث الحاكم المفترض الطاعة بهذه الطريقة في زمان كان الحاكم هو الآمر الناهي الذي لم يكن ليقبل رداً لطلبه .

ص: 53


1- نهج البلاغة: ص 335، مصدر سابق.

ورداً على كلامه، فإن هذا شيء يدعو إلى التوقف عنده والتأمل في مراميه الحقيقية أن يدعو حاكم رعيته أن تشير عليه بما هو الحق والصواب في زمان كان الحاكم يعتبر كل ما يقوله أو يفعله هو الحق المطلق والصواب المطلق وغيره هو الباطل والخطأ، فإن هذا أمر يدعو إلى الدراسة والتريث في إعطاء أي حكم.

ليس الأمير علیه السلام في هذا الكلام وخصوصاً قوله: «فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ» في مقام إثبات عصمته أو نفيها، إذ ليس الكلام كله في هذه الخطبة من أولها إلى آخرها هو في هذا السياق.

فهو يتحدث عن نفسه كحاكم، يريدأن القواعد الأساسية التي يجب أن يكون عليها الحاكم، فالحاكم وإن كان معصوماً، وهذا ما كان يعتقده على الأقل بعض المستمعين لخطبته، ليس مستبداً أو جائراً أو ظالماً، وليس من حقه شرعاً ولا عقلاً أن يكون مستبداً، لذلك نرى الأمير علیه السلام عندما تحدث عن الحقوق المتكافئة والمتبادلة بين الوالي والرعية إعتبرها فريضة واجبة إفترضها الله تعالى، فالحاكم عندما يعطي حقوق الرعية ليس ذلك منّة منه وتفضلاً وكرماً، بل هي تكليف إلهي على الحاكم أن يلتزم به، وكذلك الحال عندما تعطي الرعية حقوق الوالي من الطاعة.

فكأنه علیه السلام في بعض فقرات هذه الخطبة وخصوصاً الفقرة الأخيرة التي نقلنا معظمها والتي كانت بعنوان وصايا بيّن هذه الحقوق التي للرعية، فمن حق الرعية أمام الحاكم أن ترشده إلى الحق لا بمعنى أنه قد زاغ عن هذا الحق، بل بمعنى إعطاء الرأي والمشورة.

ص: 54

والأمير علیه السلام يريد أن يهدم أي حاجز يمكن أن يتشكل بين الحاكم أي حاكم - وبين الرعية فلا تتوهم الرعية أن عليها الطاعة بشكل أعمى، لا تفهم ماذا يجري؟ وما الذي يريد الحاكم أن يفعله بهم وإلى أين هم سائرون؟! ولا تتوهم الرعية أنها ما دامت أمام حاكم معصوم كأمير المؤمنين علیه السلام فهذا يلغي حقها بالكلام أو المشورة.

أين هم دعاة الديمقراطية من هذا الكلام؟ أين هم دعاة حق المعارضة وإبداء الرأي للحاكم والمشورة من هذا الكلام؟ أين هم دعاة الحقوق السياسية والمدنية من هذا الكلام؟

وبالمقابل بيّن الأمير علیه السلام أن هذا لا يعني هضم حق الوالي والحاكم، فحقه محفوظ ولا يجوز التفريط به أو إلغاؤه، وهو حق واجب على الرعية الإلتزام به وليس منّة منها وأحساناً وتفضلاً. وهذا الحق هو حق الطاعة والإلتزام بأوامره ونواهيه.

إنه التوازن السياسي كل من الطرفين يعرف حدوده ويلتزم بها، فلا الحاكم يتحوّل إلى مستبد وطاغية وجبار لأنه يعلم أنه تحت المراقبة. ولا تدب الفوضى عند الرعية بحجة المعارضة وإبداء الرأي لأنها تعرف أنها تحت المراقبة أيضا والمحاسبة.

إذن لا يجب أن نعطي هذه الجملة محل البحث أكثر مما تحمل من معانٍ، فلا نخرجها عن السياق العام للخطبة، فهي لا تنفي العصمة لأنها ليست في سياق إثبات ونفي العصمة للأمير علیه السلام. مادام أن العصمة ثابتة بأدلة أخرى، ولن تكون هذه الكلمة سبباً لنفي هذا الكلام من رأس بحجة الضعف السندي، فإذا كانت قد رُويت في موضع بالطريق الضعيف، فهذا لا يعني عدم صحة طريق آخر خصوصاً أنها موجودة في كتاب نهج البلاغة.

ص: 55

الدليل على العصمة

ولا بأس بذكر ما دلّ في نهج البلاغة على عصمته علیه السلام ففي خطبة له بيان صفات المتقين وصفات الفسّاق والتنبيه إلى مكان العترة الطيبة، حيث قال علیه السلام: « ... وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمّة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش ...» (1).

قال إبن أبي الحديد حول هذه الفقرة: «أن المراد بالعترة هي عترة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أهله الأدنون ونسله وليس بصحيح قول من قال إنهم رهطه ... وقد بيّن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عترته من هي لما قال: «إني تارك فيكم الثقلين فقال عترتي أهل بيتي» (2)، وبيّن في مقام آخر مَنْ أهل بيته حيث طرح عليهم الكساء (3).

وقال حين نزلت ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 33) (4): «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم ...».

فإن قلت فمَنْ هي العترة التي عناها أمير المؤمنين علیه السلام بهذا الكلام؟

قلت نفسه وولداه.

وقوله: «وألسنة الصدق» من الألفاظ الشريفة القرآنية، قال تعالى (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ 84) (5) لما كان لا يصدر عنهم حكم ولا

ص: 56


1- ص 119 - 120: مصدر سابق
2- رواه مسلم في صحيحه: م 4 ج 7 ص:123 دار المعرفة: بيروت
3- رواه مسلم أيضا في صحيحه: المصدر: ص 130
4- الأحزاب: آية 33
5- الشعراء: آية 84

قول إلا وهو موافق للحق والصواب، جعلهم كأنهم ألسنة صدق لا يصدر عنها قول كاذب أصلاً، بل هي كالمطبوعة على الصدق. وقوله: «فأنزلوهم منازل القرآن» تحته سر عظيم، وذلك أنه أمر المكلفين بأن يجروا العترة في إجلالها وإعظامها والإنقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن.

فإن قلت: فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك؟

قلت: نص أبو محمد بن متويه رحمه الله تعالى في كتابه الكفاية، أن علياً علیه السلام معصوم، وإن لم يكن واجب العصمة، ولا العصمة شرط في الإمامة، لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه، وأن ذلك أمر مختص هو به دون غيره من الصحابة (1).

ذكرنا كلام إبن أبي الحديد بطوله لما يحمل من فوائد جليلة تلقي الضوء على بعض الحقائق التي لا يمكن إنكارها مما نطق بها القرآن العزيز كآية التطهير، وما قاله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حول العترة الطاهرة ولعل إبن أبي الحديد أشار إلى آية التطهير عندما قال: «أدلة النصوص قد دلت على عصمته» إلا أن كلام إبن أبي الحديد لا يخلو من مواقع للنظر، كقوله: «أن الأمير علیه السلام ليس واجب العصمة أو أن العصمة ليست شرطاً في الإمامة» فإن رأي الشيعة ليس كذلك خصوصاً حول الإمامة كوظيفة إلهية مكمّلة لوظيفة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وليست مجرد وظيفة إدارية سياسية في الخلافة والحكم، وقد ذكرنا حقيقة الحال في معنى الإمامة الذي تعتقد به الشيعة الإمامية في كتابنا المعارضة في الإسلام (2).وت

ص: 57


1- شرح نهج البلاغة: ج 3 ص 214 - 215 مصدر سابق
2- تحت عنوان مفهوم الإمامة: ص 37 وما بعدها: دار البلاغة: بيروت

عبد الله بن عباس ... وأموال البصرة؟!

من كتاب له علیه السلام إلى بعض أعماله:

«أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي وأداء الأمانة إليّ، فلما رأيتَ الزمان على إبن عمك قد كَلِبَ، والعدوّ قد حَرِبَ، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فنكت وشغرت قلبتَ لإبن عمك ظهر المجن ففارقته مع المفارقين وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا إبن عمك آسيت ولا الأمانة أذيت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بيّنة من ربك وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرّتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزَلّ دامية المعزى الكبيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله، غير متأثم من أخذهT كأنك - لا أبا لغيرك - حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف نقاش الحساب! أيها المعدود - كان - عندنا من أولي الألباب، كيف تسيغ شراباً وطعاماً، وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً، وتبتاع الإماء وتنكح النساء من أموال اليتامى

ص: 58

المساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد! فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرنّ إلى الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار، ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كان لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة، حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل عن مظلمتهما، وأقسم بالله رب العالمين ما يسُرُّني أن ما أخذته من أموالهم حلال لي، أتركه ميراثا لمن بعدي فضحِّ رویدا فكأنك قد بلغت المدى، ودُفنت تحت الثرى، وعُرضت عليك أعمالك بالمحل الذي يُنادى الظالم فيه بالحسرة، ويتمنى المضيع فيه الرحمة، ولات حين مناص» (1).

لمن بعث أمير المؤمنين هذه الرسالة المليئة بعبارات التقريع والتأنيب؟ ومن هو هذا العامل الذي تحوّل من بطانة الأمير علیه السلام وأوثق الناس عنده إلى أحد الخاذلين والخائنين والمفارقين له؟ من هو هذا العامل الذي خاطبه الأمير علیه السلام بقوله إبن عمك؟ هل هو ابن عمه فعلاً، أم هو ابن إحدى العائلات القرشية. ح

ص: 59


1- نهج البلاغة ص 412 - 414 رقم 41 - تحقيق صبحي الصالح اما معاني بعض الكلمات التي جاءت في الرسالة فهي ... کلب: کفرح: اشتد وخشن. حرب كفرح: اشتد غضبه واستأسد في القتال - فنكت: الجارية إذا صارت ماجنة، ومجون الأمة أخذها بغير الحزم في أمرها كأنها هازلة. شغرت: لم يبقى فيها من يحميها، المجن - الترس، وقلب ظهر المجهن: مثل يضرب لمن يخالف في عهده - انظر معاني الكلمات في الفهرس الملحق نهج البلاغة: ص 690: تحقيق صبحي الصالح

لماذا أخفي إسمه؟ هل أن الشريف الرضي أخفى إسمه لأنه لم يكن على يقين بحقيقة من أرسل له هذا الكتاب؟ وهل أن أمير المؤمنين علیه السلام لم يذكر إسم العامل الذي أرسل إليه هذا الكتاب؟ مع أن العادة تقتضي خلاف ذلك، وهل أن الكتاب الذي قبله بحسب ترتيب النهج هو جزء من هذا الكتاب؟ أو على الأقل مرسل إلى نفس العامل لأن فيه بعض ما في الكتاب محل البحث، حيث يقول الأمير علیه السلام: «أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام» (1).

ولماذا أخفي اسم العامل في هذا الكتاب أيضاً؟ ومن الذي أخفى الإسم في كلا الكتابين؟ أم أن الأمير علیه السلام قد أخفى فعلاً الإسم لمصلحة ما؟

وإذا كان المشهور أن هذا الكتاب إلى عبد الله بن عباس حين كان والياً على البصرة (2) فهل أن الشريف الرضي لم يكن رأيه مخالفاً لهذا المشهور؟ فلذلك أخفى الإسم حفظاً لحق إبن عباس بعدم تشويه صورته الناصعة في مناصرته ومؤازرته لإبن عمه أمير المؤمنين علیه السلام؟

وما علاقة هذا الكتاب بكتاب آخر كان قد أرسله الأمير علیه السلام إلى عبد الله بن عباس كما صرّح بذلك الشريف الرضي «أما بعد فإنك لستَ بسابقٍ أجلَك، ولا مرزوق ماليس لك، واعلم بأن الدهر يومان يوم لك ويوم 9.

ص: 60


1- المصدر السابق: ص 412
2- ابن ميثم البحراني: الشرح الكبير: م 5 ص 89.

عليك، وأن الدنيا دار دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك» (1).

ماذا يريد الأمير علیه السلام من هذا الكلام؟ لماذا قال له: «لست بسابق أجلك، ولا مرزوق ما ليس لك» هل هو مجرد تحذير؟ إستباقاً لأمور يمكن أن تصدر من إبن عباس في ظل تلك الظروف الكالحة، والوهن الذي أصاب معسكر الأمير علیه السلام فخاف أن يضعف إبن عباس ولا يستطيع الإستمرار، وهو يرى الأمور تجري لمصلحة معاوية من قتل محمد بن أبي بكر والأشتر واستيلائه على مصر.

يقول العلامة مغنية: «خشي إبن عباس - كما نتصور - أن يطمع معاوية في البصرة، ويمثّل فيها نفس الدور الذي مثله في مصر، ويكون مصير عاملها كمصير إبن أبي بكر ...» (2).

أم أن الأمير علیه السلام علم بطريقة ما، أن إبن عباس أصبح يتململ من الوضع الذي آلت إليه الأمور، وأنه في صدد أن يستقيل من عمله هذا، فلذلك أرسل له كتاب التحذير هذا، وهو يتضمن الصبر على الحال الذي هو عليه فإن الدهر يومان يوم لك ويوم عليك.

وما علاقة هذا الكتاب بكلام قاله ابن عباس نفسه: «ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، كإنتفاعي بهذا الكلام» (3) أليس هذا الكلام إعتراف من إبن عباس بخطأ ما قد أرتكبه؟ ثم توبته من هذا الخطأ، وإلا .

ص: 61


1- نهج البلاغة: ص 462: رقم 72 مصدر سابق
2- في ظلال نهج البلاغة: ج 3: ص 560، دار العلم للملايين - بيروت.
3- نهج البلاغة: ص 378: رقم 22: مصدر سابق.

فما معنى هذا الإنتفاع الذي يفترضه إبن عباس.

وهل أن الشريف الرضي قد اقتطع كلاماً للأمير علیه السلام كان قد بعثه إلى إبن عباس وذكره الشريف الرضي تحت عنوان مستقل، لكنه في الحقيقة هو جزء من الكلام السابق محل البحث، خصوصاً أن هذا الكلام الذي يشير إبن عباس إلى أنه لم ينتفع إلا به بعد كلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، يحمل في طياته معاني التأنيب؟ وإلا ما معنى أن يقول له الأمير علیه السلام: «وليكن أسفك على ما فاتك منها - أي الآخرة - وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحاً» (1)؟ فهل هذا مجرد وصية من أمير إلى عامله يخاف عليه من الغرق في وحول الدنيا والدنيا حوله فهو الأمر والناهي في عمله والأموال تأتيه من كل حدب وصوب؟ أم أن هذا العامل قد اقترف أمراً لا يمكن السكوت عليه فلا بد من تأنيبه وجعله يثوب إلى رشده؟ وهذا ما حصل من إبن عباس ومعه من أخذه الأموال، ثم موعظة الأمير علیه السلام له ثم توبته وعودته إلى رشده.

أم أن هذا الكلام الذي انتفع به إبن عباس هو جزء من مجموعة كتب كان قد بعثها الأمير علیه السلام إليه وهي كلها تصب في إطار واحد (2) وهو تأنيب إبن عباس على فعل قد اقترفه؟

الأسئلة كثيرة ولا تكاد تنتهي، ومن الصعب أن يصل الباحث إلى رأي جازم في حقيقة هذا العامل الذي أرسل هذا الكتاب له، ولا نقول في حقيقة هذا الكتاب لانه ليس موضوعاً ولا مختلقاً». يقول ابن ابى الحديد 2

ص: 62


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق ص 378 و 412 و 457 و 462

حول صحة هذا الكتاب: « ... وقد أشكل عليّ أمر هذا الكتاب، فإن أنا كذبت النقل وقلت هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين علیه السلام خالفت الرواة، فإنهم أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه، وقد ذكر في أكثر كتب السيرة (1).

والخلاف قائم حول حقيقة هذا العامل فمن قائل بنحو قاطع وجازم أنه عبد الله بن عباس وله أدلته وقرائنه الدالة على ذلك سوف نأتي على ذكرها تفصيلاً، ومن قائل أنه عبيد الله أخوه، ومن متوقف.

أما القائلين بأن المراد به هو عبد الله بن عباس قطعاً وجزماً، فأدلتهم بعض العبارات الواردة في الكتاب وهي:

أولاً: إن الأمير علیه السلام قال مخاطباً هذا العامل بقوله: «أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي».

ثانياً: إن الأمير علیه السلام استعمل في ثلاث مواضع كلمة «إبن عمك» في قوله علیه السلام: «فلما رأيت الزمان على إبن عمك» وفي قوله علیه السلام: «فلا إبن عمك آسيت» وفي قوله علیه السلام: «قلبت لابن عمك ظهر المجن».

ثالثاً: إن الأمير علیه السلام استعمل في تأنيبه كلمة «لا أبا لغيرك» أما غيره من الناس فقد كان يقول لا أبا لك (2) فإن الكلمة الثانية قد تستعمل في مقام الذم والكلمة الأولى ذماً له بمدح غيره، فتكون مدحاً له وتلطفاً مع 9

ص: 63


1- شرح نهج البلاغة: م 8: ص 172: مصدر سابق.
2- أنظر حول هذه الأدلة إبن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: م 8 ص 172: مصدر سابق. وابن ميثم البحراني: الشرح الكبير: م 5: ص: 89

إشعار بالذمّ (1)، وكأن الأمير علیه السلام لم يشأ أن ينال عمه العباس بسوء من اللفظ والكلام بسبب إبنه عبد الله!

إبن أبي الحديد مع أنه متوقف حول هذا الأمر إلا أنه يرفض بإصرار أن يكون المراد به عبد الله بن عباس حيث يقول: «وقال آخرون وهم الأقلون، هذا لم يكن ولا فارق عبد الله بن عباس علياً علیه السلام ولا باينه ولا خالفه ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قتل علي علیه السلام» (2). قالوا: «ويدل على ذلك ما رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لما قتل علي علیه السلام وهو عندي الأمثل والأصوب» (3).

ثم يذكر إبن أبي الحديد أنه ليس لعبد الله بن عباس ثم توقفه فيقول «وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس، صدّني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين علیه السلام فى حياته وبعد وفاته وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين علیه السلام والكلام يشعر بأن المخاطب من أهله وبني عمه فأنا في هذا الموضع من المتوقفين» (4).

الدليل الآخر الذي يسوقه النافون لكون الكتاب لعبد الله بن عباس .

ص: 64


1- شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار: ج 3: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي: طهران إيران
2- ذكر ذلك الطبري في إحدى روايتيه أنظر تاريخ الأمم والملوك: م 3: ج 6: ص 81 دار القلم بيروت وإبن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة: م 2 ج 4 ص 94 دار الكتب العلمية: بيروت
3- شرح نهج البلاغة: م 8 ص 72 مصدر سابق.
4- المصدر السابق.

كما ينقله إبن أبي الحديد كيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجره إلى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيراً من عمال أمير المؤمنين علیه السلام واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أمير المؤمنين علیه السلام، فما باله وقد

علم النبوة التي حدثت بينهما، لم يستمل إبن عباس ولا اجتذبه إلى نفسه؟» (1).

المراد من هذا الكلام أن معاوية لم يأل جهداً لاستمالة عمال أمير المؤمنين علیه السلام حتى بعد وفاته وقد نجح مع البعض منهم. كيف لم يستغل فرصة القطيعة التي حصلت بین الأمير علیه السلام وإبن عباس فيحاول أن يستميله إلى جانبه؟ ذلك ومع لم يحدثنا التاريخ عن هذه المحاولة من طرف معاوية، والأمر سوف يكون مع إبن عباس في هذه الحالة أسهل لانه أصبح خارج دائرة تأثير الأمير علیه السلام مع أن التاريخ يحدثنا بأمر معاكس وهو إن من قرأ السير والتواريخ يعرف مشاقة إبن عباس لمعاوية بعد وفاة علي علیه السلام وما كان يلقاه به من قوارع الكلام وشديد الخصام، وما كان يثني به على أمير المؤمنين علیه السلام ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلوكان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضدّ لما اشتهر من أمرهما (2).

وليس الأمر مجرد صحوة ضمير من إبن عباس باتجاه ما فعله بحق إبن عمه الأمير علیه السلام من خذلانه وتركه، وكان يمكنه أن يستغل الظروف ليستفيد من دنيا معاوية بمال أو جاه كما فعل غيره، وليس مضطراً لإظهار .

ص: 65


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق.

مناقب وفضائل الأمير علیه السلام أمام معاوية، في الوقت الذي كان معاوية يمنع ذكر هذه الفضائل وهذه المناقب، بل كان يعاقب كل من عرف عنه ميل لأمير المؤمنين علیه السلام.

إبن ميثم البحراني بعد أن يسوق الأدلة السابقة لإثبات أن المراد بهذا العامل في هذه الرسالة هو إبن عباس يحاول أن يأتي بما يشبه التأييد من أن «إبن عباس لم يكن معصوماً» وأن نفي كونه هو المراد مجرد استبعاد ويضيف «ثم إن غلظته عليه وعتابه له لا يوجب مفارقته إياه» (1) في معرض رده على من نفى أن يكون إبن عباس قد فارق الأمير علیه السلام أو العكس.

من العجيب أن يصدر مثل هذا الكلام من البحراني، إذ لو لم تكن المفارقة هي هذه فماذا تكون؟ بعد أن ترك إمارة البصرة وأخذ الأموال، مع أن البحراني يورد كتاباً كان قد أجاب به ابن عباس أمير المؤمنين علیه السلام قائلاً له: «أما بعد فقد أتاني كتابك تعظّم فيه ما أصبتُ من بيت مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأكثر مما أخذت والسلام» (2) أو الكتاب الآخر الذي أرسله إبن عباس أيضاً جواباً على كتاب آخر كان قد أرسله الأمير علیه السلام: «أما بعد فإنك قد أكثرتَ عليّ، و والله لأن ألقى الله قد احتويت على كنوز الأرض كلها وذهبها وعقيانها ولجينها، أحب إليّ من أن ألقاه بدم امرئ مسلم، والسلام» (3).

أليس هذان الكتابين يدلان على أن العلاقات بينهما قد وصلت إلى ق

ص: 66


1- الشرح الكبير م 5 ص 90
2- المصدر السابق ص 90
3- إبن أبى الحديد ج 8 ص 172: مصدر سابق

حد القطيعة والمفارقة؟ هذا، بغض النظر عمّ إذا كان هذان الكتابان موضوعين على لسان إبن عباس، فقد يكون الأمر كذلك، خصوصاً الكتاب الثاني فإذا كان المراد تعريضه بالأمير علیه السلام حروبه الثلاثة التي خاضها في خلافته، فإن إبن عباس كان جزءاً أساسياً من هذه الحروب، وإن كان فيها من الإثم على الأمير علیه السلام فعليه مثل ذلك، ثم ما معنى هذه المقايسة والمفارقة فالذنب ذنب سواء كان قتل مسلم أو أكل أموال المسلمين بغير وجه حق؟ ولا ندري ما هو هذا الحق الذي لابن عباس في بيت المال مما يميّزه عن بقية المسلمين كما أشار إلى ذلك في الكتاب الأول. أغلب الظن أن الكتابين هذين موضوعان على لسان إبن عباس وليس إذا صح كتاب أمير المؤمنين علیه السلام له - محل البحث - يعني صحة هذين الكتابين إذ لا ملازمة في البين.

العلامة الأمين، بعد أن يذكر الروايات المتعارضة والأقوال المختلفة في حقيقة حال إبن عباس، يقول: «إنكار أخذ إبن عباس المال من البصرة، وإنكار كتاب أمير المؤمنين علیه السلام إليه المقدم ذكره صعب جداً ... ولا يحتاج فيه إلى تصحيح روايات الكشي، وبعد ما ذكرنا من الشواهد على اشتهار الأمر في ذلك، كما أن إخلاص إبن عباس لأمير المؤمنين علیه السلام وتفوقه في علمه وفضله لا يمكن إنكاره. والذي يلوح لي أن إبن عباس لما ضايقه أمير المؤمنين علیه السلام في الحساب عمّ أخذ ومن أين أخذ؟ وفيم وضع؟ كما يقتضيه عدله، ومحافظته على أموال المسلمين، وعلم أنه محاسب على ذلك أدق حساب، وغير مسامح في شيء، سوّلت له نفسه أخذ المال من البصرة والذهاب إلى مكة وهو ليس بمعصوم ...

ص: 67

فلما كتب إليه أمير المؤمنين علیه السلام ووعظه وطلب منه التوبة، تاب وعاد سريعاً وعدم نص المؤرخين على عوده، لا يضر بل يكفي ذكرهم أنه كان بالبصرة عند وفاة أمير المؤمنين علیه السلام» (1)

أقول: مراد المؤلف من قوله بعد ما ذكرنا من الشواهد على اشتهار الأمر في ذلك قوله في نفس الصفحة «ويظهر أن أمر مفارقته علياً علیه السلام وأخذه مال بيت مال البصرة كان مشهوراً ثم ذكر كلاماً لقيس بن عبادة ولعبد الله بن الزبير يدل على اشتهار الأمر، وأن إبن عباس لم يستنكر أو ينفي كلام ابن الزبير بل قال كان لنافيه حقاً فأخذناه» ونقل عن إبن أبي الحديد قوله السابق أن الأكثرين على القول الأول أي أخذه لهذا المال ومفارقته الأمير علیه السلام بعض الوقت.

العلامة شرف الدين وفي جواب على سؤال حول إبن عباس وبعد أن يبيّن منزلته ومكانته وأقوال بعض الصحابة والتابعين في حقه يقول: «أما ما أخذه من بيت مال البصرة فإنما كان متأولاً فيه لكونه من الخمس الذي افترضه الله تعالى لذوي القربة بقوله عز من قائل: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ) (2) يدلك على هذا رده على من عابه بأخذ المال إذ قال: «إنما كان مالاً جبيناه فأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا» (3).

يضيف العلامة شرف الدين قوله: «لكنه علم أن هذا لا يتفق مع سيرة .

ص: 68


1- أعيان الشيعة: م 8: ص 57
2- الانفال: الآية 41
3- العرفان: م:33 ج 9: تموز 1947 م: رمضان 1366 ه.

أمير المؤمنين صاحب المدرعة التي رقعها حتى استحيي من راقعها ... هذا ما دعى إبن عباس للهرب من أمير المؤمنين علیه السلام وعلى هذا لا يكون سارقاً ولا خوّاناً، وإنما هو متأول، وإن أخطأ وعصى في هربه، وليس الرجل بمعصوم، وقد آب بعدها وأناب وأحسن حسنات لا تحصى» (1).

ويستشهد العلامة شرف الدين على توبة إبن عباس، أن الإمام الحسن علیه السلام أبقاه على ولاية البصرة وكنا قد ذكرنا سابقاً نقل إبن أبي الحديد عن البعض نفيه لمفارقة إبن عباس لأمير المؤمنين علیه السلام وأنه بقي على إمارة البصرة إلى حين وفاة الأمير علیه السلام. وعلى كل حال سواء أخذنا برأي من يقول أنه ترك البصرة بعد أخذه الأموال أو أخذنا برأي من يقول أن الإمام الحسن جعله على إمارة البصرة (2)، فإن هذا لا ينفي توبة إبن عباس. وقد يكون عاد إلى البصرة، ثم عاد إلى الكوفة بعد استشهاد الأمير علیه السلام ثم أعاده الإمام الحسن علیه السلام إلى البصرة (3)، وقد يكون بعد توبته لم تمهله الأحداث للعودة إلى البصرة والياً عليها من قبل الأمير علیه السلام خصوصاً إذا أخذنا بالرواية التي تنقل خطاب إبن عباس في الحشود في الكوفة لتثبيت خلافة الإمام الحسن علیه السلام (4)

العلامة المامقاني له رأي في هذا الأمر لا بأس بنقله: «تحقيق الحال 3

ص: 69


1- المصدر السابق
2- علي بن عيسى الاربلي: كشف الغمة في معرفة الأئمة: الطبري: ج 1 ص 538 وتاريخ الطبري م 3 ج 6 ص 82 دار القلم بيروت
3- المصدر السابق.
4- علي بن عيسى الاربلي: كشف الغمة في معرفة الأمة: ج 1 ص 533

وتنقيح المقال أنه لا شبهة في كون الرجل شيعياً بالمعنى الأعم موالياً تمام الموالاة ... والذي يخالجني في الرجل أمران أحدهما: أخذه لبيت مال البصرة والمضي إلى مكة، فإنه لشيوع نقله وتواتر خبره غير قابل للإنكار ... وإنكاره يشبه المكابرة وغايته ما يمكن أن يوجّه به أنه كان مغرورا بعلمه فاجتهد باستحقاقه وكونه دون حقه، وإن أخطأ في اجتهاده لكونه في قبال النص» (1). ة

ص: 70


1- تنقيح المقال في علم الرجال م 2 195 - طبعة قديمة

من هو ....؟

«لله بلاء (1) فلان، فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السُنّة، وخلّف الفتنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها. أدّى إلى الله طاعته واتقاه بحقه رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضالُّ ولا يستقين المهتديم (2).

أثار هذا الكلام وما زال عاصفة، فمن هو فلان الذي يعنيه الأمير علیه السلام بكلامه؟ ولماذا كنّى بفلان ولم يذكره بإسمه الصريح؟ أم أن الأمير علیه السلام ذكره بإسمه الصريح، إنما النسّاخ على مر العصور تلاعبوا باللفظ وأخفوه؟ أم أن الشريف الرضي أخفى الأسم الصريح وكنّى عنه بفلان؟ وهل يتناسب العنوان الذي وضعه الشريف الرضي وهو من كلام له علیه السلام يريد به بعض أصحابه مع مضمون الكلام؟ وإذا كان علیه السلام يريد بعض أصحابه فعلاً فلماذا إخفاء إسمه الصريح؟ مع أنه علیه السلام أمتدح بعض أصحابه الآخرين ولم يخف أسمائهم.

لن أجيب عن جميع الأسئلة التي تقدمت، بل سوف أجيب عن

ص: 71


1- وفي نسخة إبن أبي الحديد لله بلاد فلان والمعنى لله البلاد التي أنشأته وأنبتته، أما إذا كان اللفظ لله بلاء فلان، فالمعنى لله ما صنع. أنظر شرح نهج البلاغة ج 6 ص 92 مصدر سابق
2- نهج البلاغة: ص 350 رقم 228 مصدر سابق

بعضها لا على الترتيب ولا على سبيل جواب مستقل لكل سؤال، بل سوف يكون إهتمامي منصباً على السؤال الأساسي: من هو؟ مع محاولة مقاربة مرام الأمير علیه السلام من هذا الكلام مهما كان المقصود، تاركاً بعض الأسئلة بلا جواب مفسحاً المجال للقارئ بأن يجيب على طريقته في هذا الأمر.

إدّعى البعض أن المراد الحقيقي والواقعي من هذا الفلان، هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. مما أثار حفيظة البعض الآخر إلى حد القول إن هذا الكلام ليس للأمير علیه السلام بل هو منسوب اليه أو مكذوب عليه، إذ كيف يعقل بنظر هذا البعض أن يمتدح الأمير علیه السلام خصمه السياسي، والذي حرمه من حقوقه التي لاتقف عند حق الخلافه التي هي حق شرعي له علیه السلام؟

سأحاول إثبات أن هذا الكلام لأمير المؤمنين علیه السلام كجزء من هدفي في هذا الكتاب. من خلال أدلة خارجية وداخلية، أعني من نفس هذا الكلام، وهذا الكلام لا يتنافى مع حق الأمير علیه السلام في الخلافة.

إبن أبي الحديد حاول إثبات أن المراد من فلان الوارد في كلام الأمير علیه السلام هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بقوله: «وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان عمر، حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأديب الشاعر (1). وسألت عنه النقيب أبا 4.

ص: 72


1- كان من عظماء وقته في الدين والدنيا، ولم يخل منه سند من أسانيد علمائنا قراً على ... ابن ادريس صاحب السرائر. ويروي عنه ابن ابي الحديد شارح النهج - أعيان الشيعة: م 8، ص 392 - 394.

جعفر يحي بن أبي زيد العلوي (1). فقال لي: هو عمر فقلت له: أيثني عليه أمير المؤمنين هذا الثناء؟ فقال: نعم» (2).

القطب الراوندي قال: «إنه علیه السلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الإختيار والإثرة (3).

إبن أبي الحديد لايرضى ما اختاره القطب الراوندي ويرده بقوله: «وهذا بعيد، لأن لفظ أمير المؤمنين علیه السلام يشعر إشعاراً واضحاً، بأنه يمدح

ولياً ذا رعية رعية وسيرة، ألا تراه كيف يقول: «فلقد قوّم الأود وداوى العمد وأقام السنة وخلّف الفتنة»؟ وكيف يقول: «أصاب خيرها وسبق شرها»؟ وكيف يقول: «أدّى إلى الله طاعته»؟ وكيف يقول: «رحل وتركهم في طرق متشعبة»؟ وهذا الضمير هو الهاء والميم في قوله علیه السلام: «وتركهم» هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا؟ وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس؟ وكل من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله كان سوقة لاسلطان له. فلا يصح أن يُحمل هذا الكلام على أحد من الذين قتلوا أو ماتو قبل وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم.ق

ص: 73


1- نقيب البصرة، ذكره تلميذه الشيخ عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح النهج، فقال: كان أبو جعفر غزير العلم، صحيح العقل، منصفاً في الجدل غير متعصب، فإنه كان علوياً، وكان يعترف بفضائل الصحابة، وكان لا يجحد الفاضل فضله، وذكره تلميذه المذكور في عدة مواضع من شرح نهج البلاغة، وذكر أموراً كثيرة تدل على تشيعه ولم نعثر له على ترجمة في غير شرح النهج، وفيما نقله عنه إبن أبي الحديد لدلالة واضحة على غزارة علمه وسعة إطلاعه المصدر السابق: م 10، ص 293.
2- شرح نهج البلاغة - ج 6 - 92 - مصدر سابق
3- المصدر السابق

العلامة مغنية يقول: «حول هذا الموضوع قيل: المراد بفلان أبي بكر وقيل عمر وهو الأشهر» (1).

ومن الواضح أن الأمير علیه السلام قال هذا الكلام بحق عمر بعد وفاته ويدل عليه قوله علیه السلام: «رحل وتركهم» ولكن ماهو غير واضح متى قال هذا الكلام؟ هل قاله بعد وفاته مباشرة كما ادّعى ذلك إبن جرير الطبري» (2). أم بعد ذلك بزمان؟ أغلب الظن أن الأمير علیه السلام قال هذا الكلام بعد وفاة عمر بزمان لكن هل قاله في زمان خلافته وبالتحديد بعد أو في أثناء الأحداث الجسام التي حصلت؟ أم قاله في أثناء أحداث فتنة الخليفة عثمان بن عفان؟

ولا نعلم ما هي مناسبة هذا الكلام، هل حصل ذكر لعمر في أثناء الأحداث خصوصاً أحداث فتنة الخليفة عثمان؟ وأن الخليفة عثمان لم يسر بسيرته حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت اليه؟ أم أنه حصل ذكر للشورى التي وضعها عمر لاختيار الخليفة، هذه الشورى التي أوصلت عثمان إلى الخلافة فحصل ما حصل وأنه كان يجب على الخليفة عمر أن يعيّن الخليفة الذي يراه مناسباً بدلاً من هذه الطريقة التي قد توصل من لا يستحق إلى هذا المنصب.

وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فإن الأمير علیه السلام أبدى رأيه بكل واقعية، بعيداً عن التحامل وبعيداً عن أي دافع شخصي نابع من مصلحة أو ق

ص: 74


1- في ظلال نهج البلاغة: ج 3، ص 330، مصدر سابق
2- وقد حاول الطبري الايحاء من خلال رواية أن قائل هذه الكلمات هو غير الامير عليه السلام؟ انظر تاريخ الامم واملوك ج 5، م 3، ص28، مصدر سابق

ضرر. فهو بيّن السياسة العامة التي اتبعها عمر فهي بالمقارنة مع سياسة عثمان كانت أفضل وقريبة إلى حد ما من سياسة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم العامة.

يقول العلامة مغنية حول هذا الأمر: «وأياً كان فإن الناس كانوا سعداء مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وما سدّ فراغه أبو بكر ولا عمر ولكن عهدهما كان أفضل من عهد عثمان. الذي فتح على أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، فلا فتنة في عهد الشيخين ولا خلافة موروثة ولا كسروية وقيصرية ولا طاغية يتخذ مال الله دولاً، وعباده خولاً» (1). وهذا ما قصده علیه السلام بقوله «خلّف الفتنة وأقام السُنّة» فإنه «مات قبل حدوثها» (2) أي الفتنة. «وتركها خلفاً لا هو أدركها ولا هي أدركته» (3). الفتنة التي بدأت في زمن عثمان والتي استمرت أو تجددت في زمن الأمير علیه السلام وما بعد ذلك أيضاً.

وأما السُنّة التي أقامها فمراده علیه السلام على وجه التحديد، خصوص السياسة العامة التي اتبعها الخليفة الثاني، والتي كانت مشابهة إلى حد ما للسياسة العامة التي اتبعها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ولم يستطع الخليفة الثاني مخالفتها أو الإبتعاد عنها لقرب عهد الناس برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبسياسته التي كانت قائمة على أساس العدل والمساواة. «وأن المسلمين في أيام الخليفتين كانوا في أوج تحمّسهم لدينهم والإستبسال في سبيل عقيدتهم ... وأن الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغيير والتبديل في أسس السياسة ح

ص: 75


1- في ظلال نهج البلاغة ج 3، ص 330، مصدر سابق.
2- المصدر السابق.
3- فهرس اللفاظ الغربية المشروحة الملحق بنهج البلاغة: ص 671: تحقيق صبحي الصالح

ونقاطها الحساسة لو أرادوا إلى ذلك سبيلاً، لأنهم تحت مراقبة النظر الإسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الإخلاص لمبادئه، وجاعلاً لنفسه حق الإشراف على الحكم والحاكمين، وكان أي زلل وإنحراف مشوّه للون الحكم حين ذاك، كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً على عقب، كما قلبوه على عثمان يوم اشترى قصراً، ويوم ولّى أقاربه ويوم عدل عن السيرة النبوية المثلى» (1).

الشورى وآثارها السلبية

ومع كل هذا المديح الذي تقدم، يختم الأمير علیه السلام كلامه ببيان خطأ سياسي ارتكبه الخليفة الثاني، وهو ما عُرف بالشورى على صعيد تعيين الحاكم بعده والذي أوكل فيه الأمر إلى ستة أشخاص أحدهم الأمير علیه السلام نفسه، وأن الذي يعيّنه هؤلاء الستة أو بعضهم هو الذي يكون الحاكم، بشرط أن لا يكون في هذا البعض أمير المؤمنين علیه السلام فهل أن الطرق المتشعبة التي عناها بقوله علیه السلام: «رحل وتركهم في طرق متشعبة» هي الشورى التي أشرنا إليها آنفا؟ أم أن المراد أمور أخرى تتجاوز قضية الشورى؟ وهل قوله علیه السلام في خطبته المشهورة المعروفة بإسم الشقشقية والذي عنى به الخليفة الثاني: «فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسُّها ويكثر العثار فيها والإعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم، فمُنيَ الناس. لعمر الله - بخبط وشماس وتلوّن واعتراض» (2).

ص: 76


1- محمد باقر الصدر فدك في التاريخ: ص 38 دار التعارف للمطبوعات بيروت
2- نهج البلاغة: ص 48، 49، مصدر سابق.

فقد عنى الأمير علیه السلام في هذه الفترة من خطبته الخليفة الثاني فهو «كان معروفا بالغلظة، قال طلحة لأبي بكر: «ما أنت قائل لربك غداً وقد وليّت علينا فظاً غليظاً؟ ... وكان عمر يتسرع في إصدار الأحكام بإسم الله وشرعه حتى إذا نُبّه إلى خطئه إعتذر وقد أُحصيَ عليه الكثير ... من كانت هذه طبيعته كان أشبه براكب الناقة الشموس إن كفّها بالزمام فرم أنفها وشقه، وإن أرخى زمامها صارت حياته في كف عفريت ... الناس ابتلوا بطبيعة عمر، وهي خليط من الإضطرابات وعنه عبّر الإمام بالخبط، وخليط أيضا من الصرامة واليها أشار بالشماس، ومن التبدل من حال إلى حال وهو المراد من التلون، أما الإعتراض فالقصد منه عدم الإستقامة على حال» (1).

وإذا كان الأمير علیه السلام قدعنى الشورى بقوله: «رحل وتركهم في طرق متشعبة» هذه الشورى التي وصفها علیه السلام بقوله: «حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر» (2). «فكيف أمر عمر بقتل الستة كلهم أو بعضهم بعد أن شهد بأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد مات وهو راضٍ عنهم؟ وما هو السبب لترجيح الثلاثة الذين فيهم إبن عوف على الذين فيهم علي علیه السلام؟ ولماذا لم يجعل الأمر بيد إبن عوف منذ البداية؟ وما الذي دعاه إلى أن يجعل الشورى إلى ستة لا إلى جميع المسلمين، كما فعل رسول الله - على زعمه - أو يختار الأصلح الذي يعرفه ويعتقده .

ص: 77


1- محمد جواد مغنية - في ظلال نهج البلاغة: ج 1 ص 89 مصدر سابق.
2- نهج البلاغة: ص 49، مصدر سابق.

كما فعل أبو بكر؟ وبالتالي إذا كانت الشورى مبدأ إسلامياً إلهياً، فقد أُشير على عمر أن يختار ولده عبد الله، فلماذا خالف الشورى واستبد برأيه؟ فيا لله وللشورى» (1).

هذه الأسئلة التي تثيرها الشورى التي ابتدعها الخليفة الثاني ليس لها أجوبة مقنعة لدى المهتدي الذي عرف الحق هذا إذا وجد لها أجوبة، أما الضالُّ الذي لم يعرف الحق فلن تزيده هذه الشورى وأسئلتها إلا ضلالاً ولن يهتدي إلى الحق سبيلاً.

ومن غير الواضح حقيقة هذه الشورى، فهل شورى جميع المسلمين؟ أم هي شورى أهل الحل والعقد؟ ومن هم أهل الحل والعقد هؤلاء؟ من يختارهم وكم هو عددهم؟ هل هم ستة أشخاص كما فعل عمر؟ ولماذا ستة فقط لا أكثر ولا أقل؟

هذه الشورى التي فتحت الباب أمام طمع الطامعين ممن كان من أعضائها إلى الخلافة، فصار ينظر إلى نفسه على أنه إذا كان يستحق أن يكون له الرأي والمشورة في إختيار الخليفة، فبطريق أولى أن يكون له الحق في هذه الخلافة فصار تارة يستغل فرصة قيام الناس على الخليفة الذي كان قد أختاره - بسبب أخطاء كان قد ارتكبها - فصار يحرّض الناس ويأجج نار الفتنة، لعله يصبح هو الخليفة ويختاره الناس لذلك، وتارة يزاحم خليفة آخر كان قد بايعه مع الناس ونكث ونقض هذه البيعة، لأنه لم يجد نفسه أقل من ذلك الخليفة المنتخب، ولعل الأمير علیه السلام يرمي إلى 1

ص: 78


1- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 1 ص 91

هذا عندما قال: «متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حق صرت أُقرن إلى هذه النظائر» فمتى كان هؤلاء لهم الحق بالخلافة؟ أو كان لهم الحق في إختيار الخليفة؟

قصدت مما تقدم خصوص طلحة والزبير وتحريضهما على عثمان ثم إعلانهما الحرب على أمير المؤمنين علیه السلام بما عرف في ما بعد بحرب الجمل «فانه لما طعن أبو لؤلؤة عمر، وعلم أنه میت دعی علياً وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وقال مات رسول الله وهو راضٍ عن هؤلاء، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم» (1).

أما طلحة فإنه «أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان، وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به علي وعثمان وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي علیه السلام» (2) وفي رواية الطبري: «أنه لم يحضر يوم الشورى فلما قدم قيل له بايع عثمان - إلى أن يقول - : قد رضيت لا أرغب عما قد أجمعوا عليه فبایعه» (3)، ولا ندري لماذا لم يبق على ما أجمع عليه القوم في خلافة الأمير علیه السلام ونكث هذه البيعة؟ إلا أنه عندما قامت الثورة على عثمان كان من أشد المحرضين عليه. وعندما بويع الأمير علیه السلام بالخلافة بايع ثم نكث البيعة وخرج مدّعياً المطالبة بدم عثمان إتهاماً منه للأمير علیه السلام بدم عثمان.؟! 8

ص: 79


1- المصدر السابق
2- إبن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 63
3- مصدر سابق: م 3، ج 5، ص 38

أما الزبير فمع أنه أخذ جانب الأمير علیه السلام في قضية الشورى «فقال الزبير في معارضته: «وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي علیه السلام. وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى علياً قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب لأنه إبن عمة أمير المؤمنين علیه السلام» (1) إلا أنه خرج مع طلحة مطالباً بدم عثمان إتهاما منه للأمير بدمه بعد أن كان قد بايع مع الناس أيضا. وقد شرحنا حالهما تفصيلاً في كتابنا المعارضة في الإسلام تحت عنوان الطلب بدم عثمان.

فإنه لولا هذه الشورى، هل كانا يجرؤان على هذا؟ وهل أن عمر في شوراه هذه قد فتح الباب لهما لكل ما تقدم؟ وهل كان يعلم مسبقاً بما سوف يقدمان عليه؟ وإن كان الأمر كذلك فكيف يقول الأمير علیه السلام: «خلّف الفتنة أو سبق شرها» فكيف يكون عمر قد مات قبل وقوع الفتنة ولم يلحقه شرها، وهو الذي فتح بابها من خلال هذه الشورى؟

لا لم يكن الأمر على هذا النحو، فمن أين للخليفة الثاني أن يعلم بما سوف يحصل من أحداث في مستقبل الأيام؟ فهذا من علم الغيب الذي لا يمكنه الإطلاع عليه، ولا يمكن لأحد أن يدّعي ذلك له، نعم جاء في شرح نهج البلاغة قوله لعثمان: «هيها إليك كأني قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً ...» (2) للتدليل على فراسة الخليفة الثاني إلا أن هذا لم يثبت ق

ص: 80


1- المصدر السابق.
2- ابن ابي الحديد: ج 1 ص 62 مصدر سابق

إذ لم يذكر هذا الكلام الطبري في تاريخه عندما نقل قضية الشورى مع أنه ذكر أن عمر جمع أعضاء الشورى ليبلغهم قراره الذي اتخذه بشأن الشورى (1).

وقد يكون القسم الأول من هذا الكلام صحيحاً، لكن هل السبب في حمل عثمان بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس كنتيجة لحب قريش له؟ أم أن هناك سبب آخر لم يصرح به عمر؟ أم أنه أُخفيَ لسبب ما؟ وهو ضعف إرادة عثمان التي تسمح بحصول هذا الأمر. مع أنه قد صرح بذلك لإبن عوف عندما قال له في نفس المجلس: «لو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك» (2) من غير الواضح لماذا يذكر هنا السبب ولا يذكر النتيجة لا تصريحاً ولا تلميحاً، وهناك يذكر النتيجة ويخفي السبب أو يوهم سبباً ليس هو السبب الحقيقي أو على الأقل ليس هو السبب الوحيد»؟.

أما القسم الثاني من الكلام، على فرض صحته فهل اتخذ قراره بالشورى لكي يزيل عن كاهله أية مسؤوا مسؤولية مما قد يحدث في مستقبل الأيام؟ فلا يتحمل وزر تلك الأحداث، لأنه لم يعيّن واحداً بعينه لهذا الأمر.

والملفت في الأمر مع إعترافه بأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يعيّن أحداً للخلافة وأن أبا بكر قد عيّن «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير مني. يعني رسول الله» (3) .

ص: 81


1- تاريخ الامم والملوك: ج 5: م 3 ص 33 مصدر سابق.
2- ابن ابي الحديد ج 1، ص 62، مصدر سابق.
3- المصدر السابق.

وقد خالف الإثنين معاً، فلم يستن بسنّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بزعمه ويترك الأمر للمسلمين ولم يتبع ما فعله الخليفة الأول فيعيّن من يراه مناسباً لهذا الأمر، مع أنه قد اعترف بأن أمير المؤمنين علیه السلام هو الأصلح لهذا الأمر بقوله: «أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء» (1). «فيا لله وللشورى»، ويا لله لهذا الخطأ السياسي الفادح الذي کان عن قصد أو عن غير قصد سبباً لما حصل بعد ذلك، فهذه هي الطرق المتشعبة التي ترك فيها المسلمين بعد رحيله، ولا ينافي هذا قوله علیه السلام «وخلّف الفتنة» التي يريد الإشارة إلى أنه لم يكن من رجالها الفعليين وكونه السبب بما حصل بسبب الشورى التي قررها غير معني بهذا الكلام بل هو مسكوت عنه. والله العالم بحقائق الأمور.

وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن هذا المديح الذي صدر من الأمير علیه السلام بحق الخليفة الثاني لم يكن المديح الأول، بل سبقه مديح من نوع آخر وهو عندما استشاره الخليفة الثاني للخروج مع الجيش لحرب الروم فكان مما قاله علیه السلام: «إنك متى تسير إلى هذا العدو بنفسك، فتلقاهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ليس بعد مرجع يرجعون إليه» (2).

وكان قد استشاره ثانية للخروج إلى حرب الفرس فقال له: «والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالإجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحا بالعرب ... إن الأعاجم أن ينظروا إليك غدا ق

ص: 82


1- المصدر السابق.
2- نهج البلاغة - ص 193 - مصدر سابق

يقولوا: هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم» (1).

وكان رأي الأمير علیه السلام أن لا يخرج الخليفة بنفسه إلى حرب الروم أو الفرس، بل أن يوكل أمر قيادة الجيش الإسلامي إلى رجل ذي رأي وإرادة وكفاءة «فابعث إليهم رجلاً محرباً» وكان الخليفة قد أخذ برأي الأمير علیه السلام فلم يخرج إلى حرب الفرس بعد إن كان قد قرر المسير بنفسه (2)، أما لماذا كان رأي الأمير علیه السلام كذلك؟ فلما قاله ونقلناه قبل قليل، وقال إبن أبي الحديد: «فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبي الحسن علي بن محمد المدائني أن لا يخرج بنفسه، وقال إنك إن تخرج لا يكن للعجم همة إلا استئصالك، لعلمهم أنك قطب رحا العرب فلا يكون للإسلام بعدها دولة» (3) وهو لا يختلف كثيرا عما هو مذكور في نهج البلاغة فالقضية هي قضية الإسلام، وليست قضية شخص الخليفة، فلم يعد الخليفة يمثل نفسه فهو بنظر الأعداء - وهم الفرس - يمثل دولة الاسلام وهو رأس هذه الدولة، فإذا استأصلوا هذا الرأس لم يعد للجسد أية قيمة:

كان المسلمون يعانون من حالة قلق وإضطراب من حربهم مع الفرس يتبين ذلك من مجموعة من القرائن.

أولاً: أن «أول ما عمل به عمر حين بلغه أن فارس قد ملّكوا يزدجرد أن كتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل، لاتدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي العجل العجل». ق

ص: 83


1- المصدر السابق: ص 203
2- إبن أبي الحديد: ج 5، ص 34، مصدر سابق
3- المصدر السابق

ثانياً: خرج عمر حتى نزل على ماء يدعى صراراً فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم؟ ... فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه فأخبرهم الخبر ثم نظر ما يقول الناس، فقال العامة: سر و سر بنا معك. فدخل معهم في رأيهم وكره أن يدعهم حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: استعدوا وأعدوا فإني سائر، إلا أن يجيء رأي هو أمثل من ذلك. ثم بعث إلى أهل الرأي، فاجتمع إليه وجوه أصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... وأرسل إلى علي علیه السلام.

ثالثاً: تكررت كتب الخليفة الثاني إلى أمراء الجند يحثهم على الثبات

والصبر، وتكررت كتب أمراء الجند يقفون على رأيه في الأمر مع علمهم

بقلة عددهم، فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون الفاً. من هنا، وعندما ولّى الخليفة الثاني سعداً وأراد أن يسرّحه دعاه فقال: «إني قد وليّتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق فعوّد نفسك ومن معك الخير واستفتح به».

وكان الخليفة الثاني قد كتب إلى سعد وهو بشراف: «أما بعد فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين وتوكل على الله واستعن به أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة وبأسهم شديد وعلى بلد منيع (1).

ولم يكن الأمر مع الروم أحسن حالاً، فهذا عمرو بن العاص أمير الجند في فلسطين يكتب إلى الخليفة الثانى يستمد، ويقول إني أعالج حرباً ا.

ص: 84


1- أنظر فيما تقدم من القرائن: إبن حبرير الطبري: ج 4، م2، ص 83، وما بعدها.

كوداً صدوماً (1)

وفي كلا الحالين كان النصر للمسلمين، ففي القادسية ينقل الطبري فيقول: «وثاب الناس ينظرون إليهم فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوعد بعضهم بعضاً وجعل أهل فارس يسؤهم ما يرون» (2) وفي فلسطين كان النصر للمسلمين أيضاً من خلال الصلح الذي عرضه الروم على المسلمين وكان ذلك بحضور عمر نفسه.

وفي الحالين لم يكن إحتمال النصر غائباً عن ذهن الأمير علیه السلام، وهو إنما أراد من نصيحته تلك مجرد إجراء إحترازي ووقائي، تقتضيه طبيعة المعركة والذي يعني أن يكون الإنسان على أتم الإستعداد لكل الإحتمالات حتى لا يفاجئ بما لا تحمد عقباه ولا يدرى ما العمل؟ أما إذا كان مستعداً فلن تربكه المفاجآت فلذلك نجده علیه السلام يقول ذيل نصيحته للخليفة في الخروج لحرب الروم: «فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين» فقد «أشار علیه السلام أن لا يشخص بنفسه حذراً أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس، بل يبعث أميراً من جانبه على الناس ويقيم هو بالمدينة، فإن هزموا كان مرجعهم اليه (3)..

ص: 85


1- المصدر السابق ص 158
2- المصدر السابق ص 93
3- إبن أبي الحديد ج 4، ص 212، مصدر سابق.

الخلافة «الحق الشرعي»

أفضلية ... أم نص؟

«أما والله لقد تقمّصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرخا ينحدر عني السبل ولا يرقى إليَّ الطير ... وطفقت أرتأي بین أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طَخْيَة عمياء ... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً ...» (1).

«مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلتّهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس. كما أنا صاحبهم اليوم والله ما تنقم منا قريش إلا أنّ الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيّزنا» (2)

«لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ...» (3).

«اللهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي. ثم قالوا ألا

إنّ في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه» (4).

ص: 86


1- نهج البلاغة: ص 48: رقم 3: مصدر سابق
2- المصدر السابق: ص 77
3- المصدر السابق: ص 102 رقم 74: من كلام له لما عزموا على بيعة عثمان
4- المصدر السابق: ص 246 رقم 172

من الطبيعي أن يكون للخلافة نصيبها من نهج البلاغة، ومن الطبيعي أن يكون لها نصيب من مواقف وكلمات الأمير علیه السلام يبيّن حقيقتها وعلاقته بها، ودوره فيها.

ففي كلامه علیه السلام الأول المأخوذ من الخطبة المعروفة المسماة الشقشقية واضح منه وصريح حقيقة علاقته بهذه الخلافة، علاقة القطب الذي لا تنفع الرحا إلا به، فكذلك الخلافة لا تنفع إلا مع أمير المؤمنين علیه السلام. وهذا الكلام يدل بظاهره على أن هناك نص من رسول الله صلى الله عليه وآله على خلافة وإمامة أمير المؤمنين علیه السلام وأن الآخرين غصبوا هذا الحق كما اعترف بذلك إبن أبي الحديد، إلا أنه احتاج إلى تأويل هذا الكلام على غير ظاهره لما أحسن الظن بالصحابة وأن ما وقع منهم كان على وجه الصواب، وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام وخافوا الفتنة، وأن كلام الإمام علیه السلام هنا هو للتألم على ترك الأولى، ونظّرا لهذا التأويل، بتأويل معصية آدم بأنها لترك الأولى (1).

أقول: إن سيرة العقلاء قائمة على أن العاقل الذي صدر منه كلام حول قضية ما، فإنه يؤخذ بالمعنى الظاهري لهذا الكلام، وعلى هذا المعنى الظاهري تترتب الآثار وبهذا المعنى الظاهري يطالب إذا أنكر ما قاله، ولا يأوّلون هذا المعنى الظاهري إلا بقرينة عقلية صارفة عنه، أو قرينة لفظية منفصلة أو متصلة، أو إذا كان هذا المعنى الظاهري يخالف ما تسالم عليه العقلاء فيأوّل بطريقة توافق.

وما دام أن كلام الأمير علیه السلام هنا يدل بظاهره على أنه علیه السلام منصوص .

ص: 87


1- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 52، مصدر سابق.

عليه بالخلافة، وأن الأول أخذ ما ليس له فليس هناك ما يصرف عن هذا الظاهر، بل على العكس هناك ما يؤكد هذا الظاهر الذي لا يحتاج إلى التأويل، وهو قوله علیه السلام: «والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا» وقوله أيضا: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري» وقوله أيضا: «وأجمعوا على منازعتي أمراً هولي»، وكونه علیه السلام أحق بالخلافة من غيره وأن الخلافة له وحده، وأن الآخرين ينازعونه هذا الأمر، وأن السبب الحقيقي الذي من أجله نقمت قريش عليه هو إختيار الله تعالى بالنبوة والإمامة، كل هذا يدل ظاهراً وباطناً وصراحة، على أن هناك نص من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وليس لمجرد أنه يمتلك فضائل وميزات جعلته الأفضل باعتراف إبن أبي الحديد (1) وجعلت له الأحقية بالخلافة، فإن هذا لم ينكره أحد وليس هذا محل النزاع، إذ أن محل النزاع مع تسالم الكل على أنه علیه السلام هو الأفضل أن هناك نص صريح عليه أم لا؟ مع إعترافهم أيضاً أن الخلافة لم يأخذها من أخذها وهو متصف بصفات الأفضلية، فلا يدّعى الخصم أنه الأفضل حتى يحاججه الأمير علیه السلام بأنه علیه السلام هو الأفضل لا سواه. فلذلك استحق أن يكون الخليفة وأنه الأحق بالأمر، بل لأن هناك نص استحق بسببه هذا المنصب وهذا الموقع.

والإختيار الذي يعنيه علیه السلام بقوله: «والله من ماتنقم منا قريش إلا أنّ الله اختارنا عليهم» ليس هو إختيار النبوة فقط، وإلا فلا معنى لإدخال نفسه في هذا الإختيار وليس مراده علیه السلام أيضا الإختيار الذي تم له بعد مقتل الخليفة عثمان، لأن هذا الإختيار تم من الناس مباشرة وليس إختياراً .

ص: 88


1- المصدر السابق.

مباشراً من الله تعالى، وظاهر كلامه السابق هو الإشارة إلى الإختيار المباشر من الله تعالى.

إذن هناك أمر آخر يريد الأمير علیه السلام الإشارة اليه والتأكيد عليه في هذا الكلام وفي غيره، هذا الأمر الذي حاولت قريش منذ وفاة الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وإخفائه والتعمية عليه بكل الوسائل والطرق، هو السبب الحقيقي لهذه النقمة التي ظهرت بشكل واضح وظاهر بعد إختياره علیه السلام خليفة بعد وفاة الخليفة عثمان، من خلال إظهار الخلاف عليه وشن الحرب على خلافته، التي حاولت جاهدة إبعادها عنه وإبعاده عنها، ضاربة عرض الحائط نظرية أن الإمامة والخلافة شأن بشري فمن توافق عليه الناس يكون هو الإمام والخليفة وضاربة عرض الحائط نظرية أن الإمامة والخلافة شورى بين المسلمين والمؤمنين فمن يختارونه يكون هو الخليفة والإمام.

والعجيب من إبن أبي الحديد فإنه عندما يصل إلى قوله علیه السلام: «والله ماتنقم منا قريش إلا أنّ الله اختارنا عليهم» يعرض عنه كشحاً ويطوي عنه صفحاً، ولا يتعرض لتفسيره ولا للقول حوله وفيه (1)، مع صراحته في كونه علیه السلام إمام وخليفة باختيار الله تعالى فلذلك كان أولى من غيره وأحق بالخلافة، مما لا يقبل التأويل أو الصرف عن الظاهر، وبماذا يمكنه أن يأوّل هذا الإختيار؟ ولعله لذلك أعرض عن الكلام حوله، وتمسك بغيره من أقوال الأمير علیه السلام حاملاً لها على غير ظاهرها مأوّلاً لها بما يتناسب طريقته ومذهبه، أنه لوكان منصفاً، لوجد أن هذا الكلام مبيّنا ومفسراً 6

ص: 89


1- المصدر السابق ص 176

لغيره من الكلام.

أما القرينة التي ادّعى إبن أبي الحديد كونها صارفة الكلام عن ظاهره والتي هي حسن الظن بالصحابة وأنهم لم يفعلوا إلا الأصلح والأصوب خوف الفتنة فهي بواقعها ليست بقرينة، إذ أن ما يدّعيه بأنه السبب الذي دفع الصحابة العدول عن الأفضل إلى الفاضل، لم يدّعه الصحابة أنفسهم فلم يكن هناك خوف فتنة بل دعواهم كانت باعتراف إبن أبي الحديد نفسه، حيث قال له أبو عبيدة بن الجراح: «يا أبا الحسن إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قريش قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً له واضطلاعا به ...» (1) فلم يجر على لسانه خوف الفتنة والحفاظ على الإسلام، والأمر لا يحتاج إلى حسن الظن حتى نقول أن الصحابة لم يخطئوا. إذن لماذا رفض الأمير عليه السلام هذا الكلام من ابي عبيدة ورفض المبايعة؟ وقال له جواباً على هذا الكلام وعلى موقف الصحابة عموماً: «يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم» (2) بماذا كانوا عليهم السلام أحق من غيرهم بهذا الأمر؟ هل بمجرد القرابة من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ أم أن الأمير علیه السلام عندما كان يتحدث عن القرابة كسبب لهذا الحق، إنما كان يجاري القوم في محاججتهم؟ حيث أن المهاجرين ق

ص: 90


1- المصدر السابق: ج 3: ص 89
2- المصدر السابق

كانوا يعتبرون أنفسهم عشيرة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فهذا عمر يقول: «من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ونحن أوليائه وعشيرته» (1)، ولهذا القول قال الأمير علیه السلام عندما قالوا له إن قريش إحتجت بأنها شجرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «إحتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» (2)

ولم يحدثنا إبن أبي الحديد عن تلك الفتنة التي كان يخافها الصحابة والتي لم يذكروها ولم يشيروا إليها، عندما أعرضوا عن جعل الأفضل خليفة والتي وصفها بقوله: «وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة» (3) عن أية فتنة يتحدث وأنها تؤدي إلى ذهاب النبوة؟ وكيف يكون تنصيب الأفضل خليفة يؤدي إلى فتنة تؤدي إلى ذهاب النبوة؟ ومن الذي سيتحمل وزر هذه الفتنة؟ لماذا لم يفصح إبن أبي الحديد عن كل ذلك؟ وهل أن ما حصل في حربي الجمل والصفين هو مثال لهذه الفتنة؟ عندما جُيشت الجيوش رفضاً لخلافة أمير المؤمنين علیه السلام، مع أنه أنتُخب وبويع من قبل الناس وأهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، بما يتناسب مع نظريتهم في الخلافة وكيفية تنصيب الخليفة. إذا كانت هذه هي الفتنة التي يتحدث عنها إبن أبي الحديد فسوف يكون المسبّب لها هم الصحابة أنفسهم أو بعضهم على أقل تقدير، وأنهم كانوا على إستعداد للحرب إذا أُعلن أمير المؤمنين علیه السلام خليفة، مما سيسبب ذهاب ليس الخلافة فقط بل والنبوة أيضا كما ادّعى إبن أبي ق

ص: 91


1- المصدر السابق: ص 88
2- نهج البلاغة: ص 98: مصدر سابق
3- شرح نهج البلاغة: ج 1: ص 52: مصدر سابق

الحديد، وعلى هذا ينعكس الخوف ويصبح الذي كان يخاف الفتنة واقعاً

ويخاف أن تذهب النبوة التي تعني ذهاب الإسلام هو أمير المؤمنين علیه السلام نفسه وليس أي إنسان آخر لذلك قال: «والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة» (1).

وأما ما ذكره إبن أبي الحديد من أن الأمير علیه السلام عندما ذكر كلامه المتقدم في الخطبة الشقشقية، من تظلّمه مما فعل الصحابة، بأنهم إنما تركوا الأَولى ونظّر له بتأويل نسبة المعصية إلى آدم علیه السلام من أنه ترك الأَولى، قال إبن أبي الحديد: «وقولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى، لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمراً على سبيل الندب ... ومعلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين علیه السلام وحمله على أنه شكى من تركهم الأولى أحسن» (2).

أقول: فرقٌ بين التركين والتأويلين لأن آدم علیه السلام بعد أن علمنا أنه نبي معصوم، وهذا يعني أنه لا يعصي بمعنى ترك الواجب، فهو عندما نُهيَ عن الإقتراب من الشجرة، ومع ذلك أكل إحتجنا إلى التأويل حتى لا ننسب له علیه السلام ما يخالف العصمة، أما الصحابة فأمرهم مختلف تماماً فهم ليسوا معصومين، حتى نضطر إلى تأويل فعلهم أو تركهم، وإنما هم بشر يخطئون ويصيبون، فلسنا نحتاج إلى تأويل فعلهم أو تركهم، وإنما نحمله على ظاهره خصوصاً أن خصمهم صحابي مثلهم فلا يعقل أن يكون كلا الطرفين على صواب، وإلا ما هو تأويل حربهم على أمير المؤمنين علیه السلام .

ص: 92


1- نهج البلاغة: ص 102، رقم 74، مصدر سابق
2- شرح نهج البلاغة: ج 1: ص 2 مصدر سابق.

في الجمل وصفين؟ وهل يحتمل مثل هذا الفعل التأويل؟

والحاصل مما تقدم، هل يمكن القول: أن أمير المؤمنين علیه السلام لم يحتجّ عليهم بوجود النص على خلافته وإمامته؟ نعم لم يذكر ذلك صراحة بأن النص هو كذا وكذا. لكن ألا تكفي هذه الإشارات لاحتمال وجود نص؟ ثم ما فائدة ذكر النص مع إصرار الخصم على دعواه؟ ألن يؤدي إلى تكذيبه؟ لذلك اكتفى بالإحتجاج معهم على طريقتهم بالإقتصار على ذكر القرابة، ولا ندري ما هي الظروف التاريخية التي كانت محيطة بالإمام علیه السلام حتى دفعته لعدم ذكر النص صراحة، ثم ألم يعترف عمر بحق الأمير علیه السلام في الخلافة عندما جعله أحد الستة في الشورى، وإلى هذا يشير الأمير علیه السلام عندما قال له إبن عباس: «ذهب الأمر منا، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان» فقال علیه السلام: وأنا أعلم ذلك، ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهّلني الآن للخلافة، وكان قبل يقول أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته» (1) وإن قال إبن أبي الحديد عن هذا الكلام بأنه غير معروف (2) إلا أن فعل عمر في الشورى وجعله الأمیر علیه السلام أحد الستة في الشورى يحمل هذه الدلالة إذ كيف لا يكون الأمير علیه السلام أهلاً للخلافة سابقاً بوجود مشيخة المهاجرين والأنصار؟ ثم يصبح الآن أهلاً لها بوجودهم أيضاً، وإن كان الذي قال ذلك سابقاً للأمير علیه السلام هو أبو عبيدة، كما أسلفنا إلا أن ذلك كان بمحضر من عمر وشيوخ المهاجرين والأنصار،.

ص: 93


1- المصدر السابق ص 63
2- المصدر السابق.

فلم ينكر عمر قول أبي عبيدة ولم ينكرواهم ذلك أيضاً، وعندما جعل عمر الأمير علیه السلام أحمد الشورى كان كذلك بمحضر وعلم شيوخ المهاجرين والأنصار ورضوا بما كانوا قد رفضوه سابقاً.

بقي أن نذكر أن خطبة الشقشقية التي أخذنا منها مقدمتها وأوردناها في أول هذا البحث، هذه الخطبة التي يصف فيها الأمير علیه السلام الحال الخلفاء الثلاثة والطريقة التي تم فيها إختيارهم للخلافة و ما هي حالهم في هذه الخلافة، هذه الخطبة يقول فيها إبن أبي الحديد: «حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي (1) في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بإبن الخشاب (2) هذه الخطبة ... قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة؟ فقال: لا والله وإني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق، قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النَفَس وهذا الأسلوب، وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر، ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنفت قبل أن يُخلق الرضي بمأتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف 5.

ص: 94


1- لم اجد له ذكراً في كتب التراجم.
2- امام النحو يُضرب به المثل في العربية، حتى قيل انه بلغ رتبة ابي علي الفارسي، ولد سنة اثنتين وتسعين واربعمائة، مات في ثالث رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة - سير اعلام النبلاء - مصدر سابق: ج 15، ص 265.

خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب، قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضى (1).

ثم يقول إبن أبي الحديد حول هذه الخطبة وتعليقاً على الكلام السابق: «وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي (2) إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضا كثيراً منها في كتاب أبي جعفر ابن قبة (3) أحد المتكلمين الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى وقد مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً» (4)

وبعد كل الذي تقدم هل هناك كلام آخر للأمير علیه السلام يشير فيه ولو تلمحياً - لا تصريحاً - إلى أحقيته بالخلافة من خلال وجود نص؟ وهل هناك كلام للأمير يستفاد منه عدم وجود النص أصلاً كما ادّعى ذلك إبن أبي الحديد؟.

ص: 95


1- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 69، أما النقيب أبو أحمد والد الرضي، فهو الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين كانت ولادته سنة 307 ه، وتوفى في جمادى الأولى سنة 400 وقيل توفى سنة 403 ببغداد ودفن في مقابر قريش، ورثاه ولده الرضي وأبي العلاء المعري. انظر ابن خلكان مصدر سابق: ج 4، ص 420.
2- نصر بن الصباح، فاضل، له المسترشد في الأمامة، ونقض المستثبت، انظر - رضا كحالة - معجم المؤلفين: ج 13، ص 89، دار احياء التراث العربي - بيروت.
3- قال عنه النجاشي في رجاله محمد بن عبد الرحمان ابن قبة الرازي أبو جعفر متكلم عظيم القدر، حسن العقيدة، قوي في الكلام كان قديما من المعتزلة، وتبصر وانتقل ... له كتاب الإنصاف في الإمامة وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي أنظر: رجال النجاشي: ص 375 - 376 رقم 1023.
4- شرح نهج البلاغة - مصدر سابق ج 1، ص 69.

في الجواب عن السؤال الأول نقول: قال أمير المؤمنين علیه السلام في خطبة له ما نصه: «حتى إذا قبض الله رسوله صلی الله علیه و آله و سلم رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أُمروا بمودّته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه».

قال إبن أبي الحديد تفسيراً لهذا الكلام: رجعوا على الأعقاب، تركوا ما كانوا عليه، قال سبحانه ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ (1) وغالتهم السبل أهلكهم إختلاف الآراء والأهواء غاله كذا أي أهلكه والسبل الطرق والولائج جمع وليجة وهي البطانة يتخذها الإنسان لنفسه، قال سبحانه ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) (2) ووصلوا غير الرحم أي غير رحم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، فذكرها علیه السلام ذكراً مطلقاً غير مضافٍ للعلم بها كما يقول القائل: أهل البيت. فيعلم السامع أنه أراد أهل بيت الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وهجروا السبب يعني أهل البيت أيضا، وهذا إشارة إلى قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «خلّفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض»، فعّبر أمير المؤمنين علیه السلام عن أهل البيت بلفظ السبب، لما كان النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: «حبلان» والسبب في اللغة الحبل. ومعنى: «قوله أمروا بمودته» قول الله تعالى ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) (3). قوله: «ونقلوا البناء عن رصّ أساسه» الرصّ مصدر رصصت 3

ص: 96


1- آل عمران اية 144
2- التوبة: اية 16
3- الشورى اية 23

الشيء أرصه أي ألصقت بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (1) وتراصّ القوم في الصف أي تلاصقوا، فبنوه في غير موضعه ونقلوا الأمر عن أهله إلى غير أهله» (2).

أما مَنْ هؤلاء القوم الذين عناهم أمير المؤمنين علیه السلام بقوله هذا ووصفهم بما وصفهم به و أشار إلى فعلهم الخطير هذا؟ لماذا اكتفى بالتلميح ولم يفصح عن مراده الحقيقي؟ مما جعل الأمر يحتمل أكثر من معنى، مما قد يوحي أن مراده قومًا دون قوم آخرين، وهذا ما حدا بإبن أبي الحديد مع كل الذي ذكره سابقاً أن يطبّق هذه الأوصاف وتلك الأفعال، من القوم الذين انقلبوا على أعقابهم بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أن يطبقها على خصوص أعداء أمير المؤمنين علیه السلام من أهل صفين فقال: «فإن قلت: أليس هذا الفصل صريحاً في تحقيق مذهب الإمامية؟ قلت: لا، بل نحمله على أنه عنى علیه السلام أعدائه الذين حاربوه من قريش وغيرهم، من أفناء العرب في أيام صفين، وهم الذين نقلوا البناء وهجروا السبب، ووصلوا غير الرحم واتكلوا على الولائج، وغالتهم السبل ورجعوا على الأعقاب، كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، وحبيب بن مسلمة، وبسر بن أرطأة، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص ... فإن هؤلاء نقلوا الإمامة عنه علیه السلام إلى معاوية، فنقلوا البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه» (3). ق

ص: 97


1- الصف اية 4
2- شرح نهج البلاغة - ج 5 ص 46 - مصدر سابق
3- شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 47: مصدر سابق

مرة ثانية يحمل إبن أبي الحديد الكلام على غير ظاهره، ويأوّله بما لا ينفي غيره وظاهر قوله علیه السلام: «حتى إذا قبض الله رسوله صلی الله علیه و آله و سلم رجع القوم على الأعقاب» أن هذا الرجوع وهذا الإنكفاء وهذا الإنقلاب، كل هذا قد حصل بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم مباشرة من دون أي فاصل زمني، ولو كان مراده علیه السلام خصوص أهل صفين، لكان الكلام يقتضي تضمينه قرينة على هذا المراد من مثل قوله بعد أن قبض الله رسوله بزمان رجع قوم على الأعقاب وغير ذلك من قرينة تدل على المدّعى.

أنا لا أريد أن أنفي أن يكون الأمير علیه السلام يعني من ذكرهم إبن أبي الحديد، إنما أريد القول أن هذا الكلام ينطبق على غيرهم أيضاً، ولا وجه للتخصيص، خصوصاً أن بعض من ذكرهم قد نقلوا فعلاً البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه، قبل صفين وقبل المبايعة لأمير المؤمنين علیه السلام.

ثم ألم يعترف إبن أبي الحديد سابقاً أن الصحابة مع علمهم بأن الأمير علیه السلام هو الأفضل إلا أنهم عدلو عنه إلى فاضل آخر لمصلحة اقتضت ذلك؟ بغض النظر عن هذة المصلحة التي اقتضت ذلك، ولننظر إلى الفعل نفسه ألا ينطبق عليه قوله علیه السلام: «ووصلو غير الرحم، وهجروا السبب الذى أمروا بمودته ونقلو البناء عن رصّ أصله فبنوه في غير موضعه»، ألا تنطبق كل تلك الأوصاف على ما فعله الصحابة في السقيفه وغيرها؟ وخالفوا من أُمروا بمودّته وهجروا السبب الذي هو باعتراف إبن أبي الحديد نفسه، أن المراد به هو أهل البيت وذكر تدعيماً لرأيه حديث الثقلين المعروف ألم يقطعوا بفعلهم هذا رحم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ وأن الرحم المذكورة في كلام الأمير علیه السلام المراد بها رحم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كما اعترف

ص: 98

بذلك إبن أبي الحديد أيضا، فمن هو رحم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ ومن هم أهل البيت؟ هل هم أمير المؤمنين وأبنائه عليهم السلام أم غيرهم؟ وما هي هذه المودة التي من أجل تركها وهجران من أمروا بمودتهم يقول الأمير علیه السلام: «أنهم رجعوا على الأعقاب» وأن الرجوع معناه كما فسره إبن أبي الحديد نفسه أيضا، هو تركهم ما كانوا عليه واستشهد له بقوله تعالى:

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) (1)؟

أكتفي بهذا المقدار حتى لا أُتهم بإثاره فتنة ونعرات طائفية، وكل ما أردته هو أن يكون النقاش علمياً محضاً بعيداً عن التعصبات المذهبية والأهواء الشخصية، وأن هذا الكلام الذى يذكره الأمير علیه السلام حول الخلافة ويطعن ببعض الصحابة بسبب فعلهم في السقيفه وغيرها، ما معناه ولماذا؟ ولماذا تحدث الأمير علیه السلام بهذه الطريقة؟ أليس هو صحابيٌ من هؤلاء الصحابة؟ فلماذا كان موقفه مغايراً تمامًا لموقفهم ما هى الأسباب والدوافع؟

الامامة واجب عقلي ام شرعي؟

أما الجواب عن السؤال الثاني فنقول: ففى كلام له علیه السلام رداً على مقولة الخوارج لاحكم إلاالله قال علیه السلام ما هذا نصه: «وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويُبلّغ الله فيها الأجل، ويُجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، وحتى يستريح بر ويستراح من فاجر» (2)

ص: 99


1- آل عمران - 144
2- نهج البلاغه: 82، رقم 40، مصدر سابق

يقول إبن أبي الحديد تعليقاً على هذا الكلام: «هذا نص صريح منه علیه السلام بأن الإمامة واجبة» (1) و بعد أن يورد الإختلاف في أن وجوبها شرعي أم عقلي يذكر رأي البغداديين من مشايخ المعتزلة، ومن البصريين أبو عثمان الجاحظ (2) وشيخه أبو الحسين (3)، فيقول: «وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين، وشيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى أن العقل يدل على وجوب الرئاسة، وهو قول الإمامية إلا أن الوجه الذى

منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذى توجب الإمامية منه الرئاسة، وذلك أن أصحابنا يوجبون الرئاسه على المكلفين من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية، والإمامية يوجبون الرئاسة على الله تعالى من حيث كان في الرئاسة لطف منه وبُعد للمكلفين عن وقائع القبائح العقلية، والظاهر من كلام أمير المؤمنين عليه السلام يطابق ما يقوله أصحابنا ألا تراه كيف علّل قوله لا بد للناس من أمير فقال في تعليله يُجمع الفيء، ويُقاتل به العدو، ويؤمن به السبل ويأخذ للضعيف من القوي وهذه كلها من مصالح الدنيا (4) ق

ص: 100


1- شرح نهج البلاغه: ج 1، ص 215، مصدر سابق
2- عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي، البصري العالم المشهور، صاحب التصانيف في كل فن واليه تنتسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، وكان تلميذ ابي اسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظام المتكلم المشهور، وكانت وفاته في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة، وقد نيّف على تسعين سنة - ابن خلكان - وفيات الاعيان: م3، ص 470 - 474، دار صادر بیروت.
3- ابو الحسين الخياط شيخ المعتزلة البغداديين، عبد الرحيم بن محمد بن عثمان، كان من بحور العلم، له جلالة عظيمة عن المعتزلة، وهو من نظراء الجبّائي. الذهبي: سير اعلام النبلاء: ج 9، ص 281.
4- المصدر السابق

ما يريد أن يقوله إبن أبي الحديد في هذا النص، هو نصرة مذهبه من عدم وجود نص على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من خلال القول أنه لا يجب على الله تعالى أن ينصّب إماما ورئيساً للناس وللبشر. على اعتبار أن الإمامة والرئاسة شأن بشري وإنساني لما في الرئاسة من مصالح دنيوية وليست مصالح دينية وأخروية، ومادام أن الرئاسة والإمامة شأن بشري فلا علاقة لله تعالى في هذا الأمر، فلذلك يمكن القول أن الله تعالى لم ينصّب إماما للناس بعد رسول الله. وأن الرسول أيضاً لم ينصّب للناس إماماً بعده، مع الإشارة إلى أن هذا الوجوب هو وجوب عقلي لا شرعي واستدل على مقولته تلك بهذا النص المتقدم، الذي قاله أمير المؤمنين علیه السلام باعتبار ما قاله علیه السلام في هذا النص إنما هو الإشارة إلى المصالح الدنيوية فقط لا غير.

أقول: لا أرى تعارضاً ولا تناقضاً ولا تنافياً، بين ما ما يذهب إليه البغداديون من المعتزلة والإمامية، بعد إتفاقهم على أن وجوب الإمامة عقلي لا شرعي. فإذا كان العقل يرى أنه يجب على المكلفين تنصيب إمام أو رئيس عليهم، لتأمين مصالحهم الدنيوية ودفع مضارهم الدنيوية أيضا، لماذا لا يرى العقل أيضاً وجوب ذلك على الله تعالى مساعدة للناس في تأمين هذه المصالح ودفع هذه المضار؟ وإذا كان المكلفون العقلاء قد التفتوا إلى وجود مصالح لهم لا بد من تأمينها والى وجود مضار لا بد من دفعها لذلك اتفقوا على أنه لا بد لهم من إمام أو رئيس وظيفته تأمين هذه المصالح ودفع هذه المضار، لماذا لم يلتفت الله إلى ذلك؟ فيرشدهم إلى الكيفية المناسبة والسليمة البعيدة عن المصالح الذاتية والأهواء

ص: 101

الشخصية، لتأمين هذه المصالح ودفع هذه المضار، وهو خالقهم وخالق عقولهم، وهو مودع في عقولهم كل ما يفكرون فيه وكل ما يريدون تحقيقه. أم أن الله تعالى يريد لمادة النزاع أن تبقى قائمة فيما بين المكلفين العقلاء، فلا يتفقون على إمام أو رئيس والكل يدّعى لنفسه هذا الأمر، وأنه الأقدر لهذا الأمر وأنه الأفضل لهذا الأمر؟ هذا ممالا يقبل به عاقل، لأن الله تعالى يريد للناس والمجتمع البشري أن يكون أمره واحد، لا وجود فيه للنزاعات والصراعات أو المضار لأي سبب كان وتحت أي ذريعة.

وما هي الضمانة لو فرضنا أن الله تعالى لا يجب عليه أن ينصّب للناس إماما أن تتحقق مصالح الناس وتدفع مضارهم من خلال تنصيب إمام من قبلهم؟ وبعبارة أخرى: ما هي الضمانة التي ترفع مادة النزاع والصراع بين الناس، لو كان هذا الأمر باختيارهم، أليس ما حصل في السقيفة وما بعدها من إختلاف الصحابة في ما بينهم حول من هو الأحق بالخلافة والرئاسة؟ وفي بعض الحالات نشبت الحروب فيما بينهم كما حصل في الجمل وصفين، أليس كل ذلك دليلاً على أن كون الإمام باختيار الناس لم تكن نظرية صائبة؟ لأنها تبقي مادة النزاع فيما بينهم.

ثم ما هو المانع العقلي من القول بأن وجوب تعيين الإمام أو الرئيس واجب عقلا على المكلفين من أجل تأمين مصالحهم الدنيوية ودفع مضارهم الدنيوية، وواجب عقلاً على الله تعالى من أجل المساعدة على هذين الأمرين؟ وكون الأمور التي ذكرها الأمير علیه السلام في تعليل وجوب وجود الأمام أو الرئيس باعتبارها مصالح دنيوية، والإستدلال من خلال ذلك على كون الوجوب العقلي هو على المكلفين.

ص: 102

أقول: هذا لا ينفي الوجوب العقلي على الله تعالى، أليس الله تعالى أيضا يريد هذه المصالح الدنيوية لبني البشر؟ وإلا كيف خلقهم في هذه الدنيا؟ مع علمه بوجود هذه المصالح. ألا يريد الله لبني البشر أن يعيشوا في هذه الدنيا برغد من العيش بعيداً عن المخاطر، يشعرون بالأمن والأمان على المستوى الإجتماعي أو المستوى السياسي؟ وكون تلك الأمور مصالح دنيوية لا يمنع تدخل الله تعالى في المساعدة على كيفية حصولها.

لا أريد القول: أن البشر لا يحق لهم بالمطلق التدخل في تنصيب الرئيس عليهم لتأمين مصالحهم الدنيوية ودفع المضار. وإلا يقال: أن الطريقة المعمول بها في العصر الحاضر من إنتخاب الشعب لرئيسه أو نوابه، طريقة غير صحيحة وغير شرعية. وهذا مما لا يمكن القبول به لا عقلاً ولا شرعاً، وهذا معناه إتباع الطريقة الأخرى التي هي التسلط والإستعباد.

فقط أريد أن أثبت بالدليل العقلي أنه إذا اعتقدت الإمامية بوجب تنصيب الإمام بعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وأن هذا الوجوب عقلي على الله تعالى أيضا، وليس على المكلفين فقط، أقول إن هذا الإعتقاد ليس له ما يدفعه عقلا للأسباب الآنفة الذكر، حيث أن ما يدعو للقول بالوجوب العقلي على المكلفين هو نفسه يدعو للقول بالوجوب العقلي على الله تعالى.

من هنا يجب التفريق بين منصب الإمامة - الإمام - ومنصب الخليفة، الذي يعني فقط تأمين المصالح الدنيوية. وما تعتقده الإمامية في الإمام هو ليس كونه خليفة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الحكم والحكومة التي تعني تأمين المصالح الدنيوية، بل إن قضية الحكم والحكومة كمصلحة دنيوية هي جزء من وظيفته الأساسية، التي هي كل ما كان للنبي صلی الله علیه و آله و سلم من وظيفة ما عدا

ص: 103

الوحي فكما أن النبي كانت وظيفته تبليغ الشريعة والرسالة الإسلامية وتعليمها للناس والمحافظة عليها من أي تحريف أو تزييف أو إستغلال لمصالح شخصية ضيقة. بالإضافة إلى ذلك كله، الحكم بين الناس وفض الخصومات، واعتباره الرئيس الذي اتفق المكلفون العقلاء على وجوده، سوی أن الله تعالى اختاره لهم كتبي له هذه الوظيفة، ولم يكن لهم حق الإختيار ولا حق الإعتراض. كذلك الأمر بالنسبة للإمام الذي تعتقد الإمامية يكون تنصيبه من الله والنص عليه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حيث أن عمر الإنسان - ولو كان نبياً محدود، والرسالة أو الشريعة التي جاء بها لا نقول بأنها ناقصة تحتاج إلى تتميم بل نقول إنها تحتاج إلى حفظ من التحريف والتزييف وتحتاج إلى مرجعية فيما لو اختلف أهلها فيما بينهم حول تفسير معنى نص من نصوصها، أو حول حكم من أحكامها. وإذا كان الذين عاصروا الرسول صلی الله علیه و آله و سلم الله قد تعلموا منه وأخذوا عنه وامتلأت قلوبهم إيماناً وتسليماً، فإن من أسلم في آخر أيام الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، أو أسلم بعد وفاته يحتاج إلى من يثبت إيمانه ويعلمه أحكام دينه. فلا يكفي أن نقول له تعلّم ممن شئت ممن كان معاصراً للرسول صلی الله علیه و آله و سلم، مع إحتمال إختلافهم فيما بينهم في فهم نصوص الشريعة، خصوصاً أن هناك آيات تحتاج إلى تفسير وتأويل قد يختلفون في تفسيرها أو تأويلها، وبالأخص أن هناك آيات متضمنة لبعض الأحكام الشرعية لا على نحو التفصيل، فقد يختلفون في المراد الحقيقي من هذه الآيات وتفصيلها.

ص: 104

والحاصل مما تقدم

- إن الإمامة لا بمعنى الخلافة، بل بمعناها الأوسع هي شأن إلهي لا بشري، كما كانت النبوة شأناً إلهياً لا بشرياً.

- إن وجود إمام بمعنى الخليفة أو الرئيس، إذا كان واجباً عقلاً على المكلفين لما في الرئاسة من مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية. فلا مانع عقلاً أن هذا الواجب العقلي يكون واجباً على الله تعالى، لنفس الأسباب ما دام أن الله تعالى سيد العقلاء وخالقهم ومودع فيهم ما يرونه صلاحاً لهم ولمعايشهم ولدنياهم.

- إن وجود مصالح دنيوية كسبب لوجود الرئيس في المجتمع البشري، مما يقتضي كون هذا الأمر شأناً بشرياً لا إلهياً، لاينافي ذلك تدخل الله تعالى، لأن الله تعالى أيضاً يريد صلاح المجتمع البشري ويريد له تأمين مصالحه ودفع مضاره الدنيوية، لأن الله يريد للإنسان أن يعمر هذه الدنيا، ولا يتم ذلك إلا من خلال رئيس يسهر على تأمين السبل ويجمع الفيء ويأخذ للضعيف من القوي.

لا مانع من تدخل البشر في نصب وتعيين الرئيس، كما هو حاصل في العصر الحاضر، إذ القضية هنا لها علاقة بالحكم والحكومة فقط، ولا علاقة لها بالإمامة كمنصب إلهي له حيثياته وظروفه. ولا بد من الإشارة إلى أن قضية الحكم خاضعة للظروف التاريخية، أي أنها تختلف من زمان إلى زمان آخر، فما يكون في زمان لا يعني إنسحابه على كل الأزمنة، وما يكون في زمان دون زمان آخر لا يعني خطأ ما إلا من حيث التطبيق، فما دام أن الهدف هو تحقيق العدالة الإجتماعية من خلال نظام الحكم فليس المهم شكل الحكم بل المهم هو الطريقة والكيفية. وقد حققنا ذلك في كتابنا المعارضة في الإسلام فراجع.

ص: 105

ص: 106

الفلسفة في نهج البلاغة

اشارة

* تمهيد

* في التوحيد

* القضاء والقدر

* العلم الالهي

ص: 107

ص: 108

تمهيد

هل من علاقة قائمة؟ بين ما تذرع به الزاعمون بأن نهج البلاغة، كله أو بعضه مدسوس ومنحول، من أن فيه معانٍ وإصطلاحات فلسفية (1) وبين القول: أنّى للمسلمين فلسفة ولم يكن لهم - قبل أن يتصلوا بالأمم - إلا القرآن والحديث (2). أو القول: إن الفلسفة كانت مجهولة عند المسلمين في عهد الإمام (3).

وبكلمة أخرى: إن الذين زعموا أن نهج البلاغة منحول على لسان أمير المؤمنين علیه السلام بسبب ما فيه من معانٍ وإصطلاحات فلسفية وكلامية هل يريدون القول إن القرآن والحديث ليس فيهما فلسفة؟ وأن المسلمين لم يكن لديهم فلسفة قبل إتصالهم بالأمم الأخرى.

وإذا ثبت أن المسلمين لم يكن لديهم فلسفة في زمن الأمير علیه السلام فهل هذا يُسجّل نقطة في غير صالح الأمير علیه السلام في محاولة إثبات صحة نسبة نهج البلاغة له علیه السلام؟ أم أن القضية لا تأخذ هذا المنحى، فحتى لو ثبت أن المسلمين لم يكن لهم فلسفة، فلا يضرّ هذا في الأمر الذي نريد إثباته، ويكفينا أن نثبت أن في القرآن فلسفة.

ص: 109


1- محمد جواد مغنية: موسوعة الإمام علي عليه السلام حياته وفضائله: ص 402.
2- المصدر السابق ص 16
3- المصدر السابق: ص 402

ثم عن أية فلسفة نتحدث؟

إننا نتحدث عن الفلسفة التي هي توضيح الأفكار ثم عرضها على العقل ليحاكمها ويميّز بين سليمها وسقيمها، ويدعم الصحيح بالحجة والمنطق، ثم إيمان القلب بما أرشد إليه العقل، إيماناً لا تزحزحه القوى مجتمعة، ثم العمل بإخلاص على طبق هذا الإيمان، فإذا كانت هذه هي الفلسفة، فالإمام سيد الفلاسفة ومعلمهم الأكبر» (1).

إننا نتحدث عن الفلسفة التي تبحث في الوجود، وتجيب عن الأسئلة التي يسألها كل إنسان بفطرته، حتى لولم يكن له حظ من العلم يسأل عن الخالق والصانع والمدبر، يسأل عن الإنسان من أين أتى؟ وإلى أين هو ذاهب، وما الهدف من خلقه ووجوده في هذا الكون وهذا العالم؟

هذه الأسئلة التي تبدأ مع الإنسان حينما يبدأ بإدراك ما حوله، وأن هناك قوى غيبية يراها بقلبه وعقله، كل هذه الأسئلة هي بدايات للفلسفة التي تتحدث عن هذا الوجود بكل ما فيه.

نعم قد يمثلك الفيلسوف أسلوباً خاصاً وطريقة خاصة للبحث عن هذا الوجود والإجابة عن تلك التساؤلات من خلال «مقاييس صورية وتقسيم الموجودات إلى ذهنية وخارجية وجواهر وأعراض» (2) إلا أنه ليست الفلسفة كل هذا فقط، «وإذا كان الفيلسوف هو الذي يجلس في غرفة مظلمة يفكر في حقيقة العالم وطبيعة الوجود، وينزع بفكره إلى التحليق فوق حياتنا هذه .

ص: 110


1- المصدر السابق ص 23.
2- المصدر السابق.

التي نحياها، ويتخذ من عقله مختبراً يضع له المبادئ والقواعد، ثم يمليها على الناس ألغازاً وطلاسم، إذا كانت هذه هي الفلسفة، فالإمام أبعد الناس عنها وعن الفلاسفة» (1).

وبغض النظر عما إذا كان هناك تلازم بين القول بعدم وجود فلسفة لدى الملسمين وبين دعوى أن نهج البلاغة، كله أو بعضه، منحول على الأمير علیه السلام فإن كلا القولين خاطئ.

أما القول بأنه لم يكن للمسلمين فلسفة لأنه «لم يكن لهم - قبل أن يتصلوا بالأمم - إلا القرآن والسنة فهو صحيح من جهة وغير صحيح من جهة ثانية. نعم لم يكن للمسلمين بحوث فلسفية كتقسيم الموجودات الى جواهر وأعراض، وقدّم العالم وحدوثه وأقسام التقابل وما إلى ذلك من موضوعات فلسفية ... والقرآن لم يعتمد البراهين وتأليف المقايس المنطقية، وإنما اعتمد في مخاطبة العرب على فطرتهم، لأنهم كانوا أمة أمية لا يعرفون أصول المجادلات والموازنات الفلسفية، وإذا لم يكن القرآن كتابا فلسفياً، فمن أين تأتيهم الفلسفة؟» (2).

نعم ليس في القرآن براهين ومجادلات فلسفية على الطريقة المعمول بها في الكتب الفلسفية ذات الاختصاص، إلا أن الصحيح أيضا «أن القرآن خاطب العقل والفطرة، ثم إن العرب الذين خاطبهم القرآن. كانوا على عقائد شتى، فمنهم الدهريون الذين أنكروا الخالق والبعث، ومنهم ف

ص: 111


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق ص 16 - 17: بتصرف

المشركون عبدة الأوثان، ومنهم أهل الكتاب وقد ناقش القرآن هؤلاء جميعاً، وقد قال كلمته الفاصلة فيما كانوا فيه يختلفون، وأثبت الحق بالأدلة المنطقية والبراهين العقلية والشواهد الوجدانية. وهل للفلسفة معنى أو هدف غير ذلك» (1).

وإذا كان للفلسفة «كسائر العلوم موضوع وغاية وموضوعها طبيعة الوجود أي أنها تبحث عن حقائق الوجود في هذا الكون، وما غايتها في معرفة الحقيقة والقرآن تكلم عن الكون وحدوثه وأصله وعن السماء وأجرامها والأرض وآياتها وعن الإنسان وحقيقته وأفعاله، وما إلى ذلك مما أصبح أساساً لكثير من العلوم ... وكفى به مصدراً للعلوم» (2).

أقول: إن الطريقة التي اتبعها القرآن الكريم لإثبات بعض حقائق الوجود، مما كان ينكرها العرب وقت نزوله والتي سوف ينكرها بعض الناس في كل زمان ومكان، وبما أن القرآن كتاب هداية لكل الناس وفي کل زمان فإن الطريقة التي اتبعها لإثبات هذه الحقائق، هي الطريقة التي يفهمها وبعقلها كل إنسان بغض النظر عن مستواه الفكري أو الإجتماعي طريقة تخاطب الفطرة والوجدان طريقة لا يجد الناظر فيها إلا الإذعان والإيمان، طريقة لا تعتمد فقط على المقايس المنطقية التي لا يفهمها إلا ذوو الإختصاص، طريقة لا تعتمد فقط على المصطلحات الفلسفية المحصور فهمها بالفلاسفة والمتفلسفين، طريقة يفهمها الأمي الجاهل والذي ليس له حظ من العلم، ويفهمها أيضا المتعلم، وحتى الفيلسوف، 8

ص: 112


1- المصدر السابق: ص 17
2- المصدر السابق ص 17 - 18

لأن القرآن ليس هدفه إبراز مقدرات علمية وإفحام الخصم فقط، على طريقة المناظرات الكلامية، بل هدفه محاولة صرف المخاطب عما يعتقد من باطل إلى المعتقد الحق، لذلك نرى القرآن الكريم يكثر الحديث حول بعض المخلوقات مع أنها تحت نظر الإنسان بشكل دائم من الدعوة الى التفكير في خلقها، لأن هذا التفكير يساعد الإنسان للوصول إلى أحد أهم الأسئلة التي قد تراوده عن الخالق تعالى والمدبّر لهذا الكون (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿١٧﴾ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿١٨﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿١٩﴾ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿٢٠﴾) (1).

فإن التفكير في هذه المخلوقات العظيمة سيؤدي بالإنسان إلى الإعتقاد الجازم واليقين الذي لا يشوبه شك، بأن لها خالقاً مصوراً مكوناً مدبراً أليست هذه هي الفلسفة الباحثة عن الوجود والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن، لا يسع المجال لذكرها جميعاً، «وهو إستدلال بوجود الفعل على وجود الفاعل المعبّر عنه بإصطلاح الفلاسفة بالدليل الإنّي» (2)

واستدل القرآن أيضا بالدليل الوجداني - الفلسفي - على عدم تعدد الآلهة بقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (3) وهذا ما يسمى بالإصطلاح الفلسفي بالقياس الإستثنائي، وتتمة الدليل. ولكنها لم تفسد فليس فيها آلهة، إلى غير ذلك من الإستدلالات على الكثير من حقائق الوجود. 2

ص: 113


1- الغاشية: الآيات: 17 - 20
2- محمد جواد مغنية: موسوعة الإمام علي عليه السلام: حياته وفضائله: ص 164
3- الأنبياء - آية 22

وأما القول: بأن نهج البلاغة مدسوس على الإمام علیه السلام لا شيء إلا لأنه لا فلسفة للمسلمين، وإلا لأنه فوق مستوى الإمام العقلي والثقافي» (1) أو لأن فيه معانٍ ومصطلحات فلسفية. فإنه سواء ثبت أن للمسلمين فلسفة، وأنها كانت مجهولة عند المسلمين في عهد الإمام أم لم يثبت، فإن هذا لا يقدّم شيئاً أو يؤخر في إثبات أن نهج البلاغة لأمير المؤمنين علیه السلام وإن كان فيه معانٍ فلسفية لأننا نتحدث عن رجل تربى في حجر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «ونفي العلم عن الإمام علیه السلام يستلزم ... نفي العلم عن القرآن وعن محمد صلی الله علیه و آله و سلم» (2).

إننا نتكلم عن رجل وصف علاقته بالرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بقوله: «ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخديجة وأنا ثالثهم، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ربح النبوة» (3).

إنسان هذه علاقته برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - رسول الله الذي كان يتلقى العلم عن طريق الوحي الإلهي - من الطبيعي أن يكون إتباعه علیه السلام له صلی الله علیه و آله و سلم لأخذ هذا العلم، وتلقيه أيضاً، وهو القائل: «سلوني قبل أن تفقدوني» (4) وإن أمره بسؤاله دون أن يحدد نوع المسؤول عنه بعلم خاص بعلم خاص أو بباب خاص،0

ص: 114


1- محمد جواد مغنية - مصدر سابق ص 21
2- المصدر السابق.
3- نهج البلاغة: ص 300 - 301 مصدر سابق.
4- المصدر السابق ص 280

لدليل واضح على أنه سيد الفلاسفة وإمام الحكماء (1).

ثم إننا لا بد أن نلاحظ أيضاً الظروف الموضوعية التي حدت بالأمير علیه السلام لأن يتكلم بالمسائل الفلسفة «والكلامية عندما خرج الإمام علي علیه السلام من المدينة ودخل بلاد ما بين النهرين التي كانت تمتاز بقدمها التاريخي لعدة آلاف من السنين ولوجود الحضارات الفارسية الزرداشية والمسيحية والمانوية تهيأت للإمام على علیه السلام الأرضية المناسبة لطرح المسائل الكلامية، ومن هنا نفهم السر في طرح الإمام لمجموعة من المسائل الكلامية الدقيقة في وسط يمتاز بحضارة عريقة» (2)

ونختم بذكر أقوال العلماء حول الآراء والأفكار الفلسفية والكلامية التي طرحها الأمير علیه السلام.

قال الفيلسوف العلامة الطباطبائي في مقام تبريره لإختيار كلام الأمير علیه السلام في الفلسفة الإلهية وما هو الغرض من ذلك؟: «أنه علیه السلام أول من برهن واستدل في الفلسفة الإلهية في هذه الأمة، فله الفضل والمنّة على كل من سواه من العلماء والباحثين في هذا العلم، فإنه هو الذي فتح باب الإستدلال البرهاني في المعارف الإلهية، ... وأنه علیه السلام قد أتى بمسائل في الفلسفة الإلهية لم يسبقه إلى التنبه إليها أحد، كما أنه فيما أقامه عليها من البراهين ووضعه لها من الحلول كان رائداً متفرداً لم يسبقه لها الأولون، ولم يتنبه لها الآخرون، إلا بعد قرون وقرون وقد بقيت روائع 7

ص: 115


1- محمد جواد مغنية - موسوعة الإمام علي عليه السلام - ص 163 - مصدر سابق
2- فصيلة الفكر الاسلامي: مقالة تأثير الآراء الكلامية الشيعية على المعتزلة عدد 16 س: 4 آذار ایار - 1997

أنظاره العالية رهن الإبهام قروناً متتالية، بعد زمانه، حتى وفق لكشفها، والوقوف عليها، ثلة من جهابذة العالم، وأفذاذ المفكرين ... إنه علیه السلام أول من استخدم الألفاظ العربية لبيان المقاصد الفلسفية، التي لا تفي بها الألفاظ - في اللغة العربية - بمعانيها الشائعة، واستعمالاتها المتعارفة، إلا بعد تجريدها - على نحوٍ ما - عن غواشي المادة، وشوائب الخصوصيات من ذلك قوله علیه السلام: «منعتها منذ القدمة، وحمتها قد الأزلية وجنبتها لولا التكملة» (1) وقوله علیه السلام: «إن قيل كان فعلى تأويل الأزلية، وإن قيل لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم» (2) وقوله علیه السلام: «واحد لا من عدد، دائم لا بأمد» (3) وغير ذلك من الألفاظ كلفظ «الحقيقة» ولفظ «القوة» ولفظ «الإستعداد» و لفظي «العلة والمعلول» وغير ذلك (4).

إبن أبي الحديد له تعليق على الكلمة الأولى التي نقلها العلامة الطباطبائي، فهو يقول: «إختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين، أحدهما قول مَنْ نصَب القدمة والأزلية،والتكملة فيكون نصبها عنده على أنها مفعول ثانٍ، والمفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال، وتكون منذ وقد ولولا في موضع رفع بأنها فاعله، وتقدير الكلام أن إطلاق لفظة منذ على الآلات يمنعها عن كونها قديمة، لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان ... وكذلك إطلاق لفظة قد على الآلات والأدوات تحميها .

ص: 116


1- نهج البلاغة: ص 273، مصدر سابق.
2- الصدوق - التوحيد ص 73
3- المصدر السابق، ص 70
4- علي والفلسفة الآلهية: ص 79 - 80، الدار الاسلامية - بيروت.

وتمنعها من كونها أزلية، لأن قد لتقريب الماضي من الحال تقول: قد قام زید. فقد تدل على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها بقيامه والأزلي لا يصح فيه ذلك، وكذلك إطلاق لفظة لولا على الأدوات والآلات يجنبها التكملة وتمنعها من التمام المطلق، لأن لفظة لولا وضعت لامتناع الشيء لوجود غيره، كقولك: لولا زيد لقام عمرو ... وأنت تقول في الأدوات والآلات وكل جسم: ما أحسنه لولا أنه فانٍ، وما أتمه لولا كذا. فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أن الأدوات والآلات محدثة وناقصة. الوجه الثاني، قول: من رفع القدمة والأزلية والتكملة. فيكون كل واحد منها عنده فاعلاً، وتكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولاً أولاً، ومنذ وقد ولولا مفعولا ثانياً، ويكون المعنى أن قِدَمَ الباري وأزليته وكماله منعت الأدوات والآلات من إطلاق لفظة منذ وقد ولولا عليه سبحانه لأنه تعالى قديم كامل.

ولفظتا «منذ وقد» لا يطلقان إلا على محدث، لأن أحدهما لابتداء الزمان والأخرى لتقريب الماضي من الحال، ولفظة لولا لا تطلق إلا على ناقص، فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام - على هذه الرواية - بيان قِدَم الباري تعالى وكماله، وأنه لا يصح أن يطلق عليه ألفاظ تدل على الحدوث والنقص (1).

قال الشيخ الكليني بعد أن نقل خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام في التوحيد: «وهذه الخطبة من مشهورات خطبه صلی الله علیه و آله و سلم حتى لقد ابتذلها العامة وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها، فلو اجتمع ألسنة الجن ق

ص: 117


1- شرح نهج البلاغة - ج 7 ص 27 - مصدر سابق

والإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى - بأبي وأمي - ما قدروا عليه ولولا إبانته علیه السلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد، ألا ترون إلى قوله: «لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان» فنفى بقوله: «لا من شيء كان» معنى الحدوث وإبطالاً لقول الثنوية ... فدفع بقوله: «لا من شيء خلق ما كان» جميع حجج الثنوية وشبههم، لأن أكثر ما يعتمد الثنوية في حدوث العالم أن يقولوا لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء، فقولهم من شيء خطأ وقولهم من لا شيء مناقضة وإحالة، لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه، فأخرج أمير المؤمنين علیه السلام هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحها، فقال: «لامن شيء خلق ما كان»، فنفى «من» إذا كانت توجب شيئاً، ونفي الشيء إذ كان كل شيء مخلوقاً محدثاً لا من أصل أحدثه الخالق» (1).

وقال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي: «إن عامة ما ذكرنا من كلامه - وما لم نذكره في التوحيد والثناء على الله وتذكيره ومواعظه قد تحلى بها أكثر المتكلمين ... وجميع ما ذكرناه وما لم نذكره من كلامه فهو مشهور مذکور عند أهل الرواية و بالأسانيد المذكورة عند أهل المعرفة معروف» (2).

وقال الشريف المرتضى: «إعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وخطبه، أنها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية ورائه، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه، علم أن جميع ما 4

ص: 118


1- أصول الكافي - ج 1: ص 186: تحقيق محمد جعفر شمس الدين
2- المعيار والموازنة ص 294

أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه، إنما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول (1).

وقال الأديب اللبناني المعروف جورج جرداق: «و الحكمة بما هي نظر نافذ وعقل محيط وحس أصيل وقوة على الحصر والإستنباط والإيجاز، ثم جهد دائب على ذلك جميعاً، إنما هي من آثار الإمام علي، فإن له في ذلك ما يجعل له مركزاً جليلاً بین حكماء الأمم وأفذاذ التاريخ، ولعمري إن أشباه علي في القدرة على استخراج النظريات في الحوادث وإرسالها أمثالاً خالدة لقليل قليل! وقد كان لهذه الحكمة العلوية أبلغ الأثر في توجيه الثقافة الإسلامية في طبعها بطابع إنساني مصدره في الدرجة الأولى، إثنان: محمد بن عبد الله وعلي بن أبي طالب، وقد أكثر الإمام في النظر الفلسفي في شؤون الحياة والكون والمجتمع البشري، وفي أمور التوحيد والألوهية والتطلع إلى ما وراء الطبيعة، فكان كما مر معنا مؤسس علم الكلام وفلسفة الإلهيات في الإسلام، وكان أستاذاً اعترف برشده وأصالته كل من لحق به من أصحاب الآراء والمقولات وهم له أتباع وشارحون، وفي كتابه العظيم نهج البلاغة فيض من فرائد الحكمة التي يجلس بها في الصف الأول بين حكماء الأمم، وحين قال النبي: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ألم يكون يقصد علياً بالذات!؟ (2).

ويقول في موضع آخر: « ... من هنا نشأ علم الكلام أو فلسفة الدين الإسلامي. ومن هنا كان علي أول المتكلمين بل أبا علم الكلام، فإن .

ص: 119


1- أمالي المرتضى - ج 1 ص 103
2- الامام علي صوت العدالة الانسانية: ج 1 ص 102 دار مكتبة الحياة بيروت لبنان.

الأوائل من أصحاب هذا العلم لم يستقوا إلا من معين علي بن أبي طالب ولم تتوفر لديهم أسبابه إلا عن طريقه وإن الأواخر ظلوا يهتدون به ويعتبرونه إمامهم وإمام الأولين، فهذا واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة وهي أول فرقة إسلامية تجاهد لأن تعطي العقل مداه في موضوعات الدين، هو تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأبوه تلميذ علي بن أبي طالب وما يقال في المعتزلة يقال في الأشعرية، فإن الأشاعرة تلاميذ المعتزلة الذين تلقوا علمهم من واصل بن عطاء تلميذ علي بالتسلسل» (1).0

ص: 120


1- المصدر السابق ص 100

في التوحيد

قال علیه السلام في وصيته لولده الإمام الحسن علیه السلام مستدلاً على وحدانية الله تعالى: «واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ورأيت آثار ملکه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده أحد في ملكه» (1).

ما دام أن الخالق والصانع يُستدل على وجوده بآثار صنعه وبما خلق، وما دام «أن الآثار كلها تدل على أن المؤثر واحد، وهي هذه القوانين الطبيعية الدقيقة التي تحكم أجزاء الطبيعة وظواهرها، وتجمعها في مجموعة واحدة شاملة تدل على وحدة التدبير والمدبّر الواحد» (2) فلا معنى لتوهم شريك للباري عز وجل «مع العلم بأن جميع الأنبياء والمرسلين دعوا إلى إله واحد لا ضد له ولا ند» (3) «فهو إله واحد كما وصف نفسه في العديد من الآيات، ثم في سورة خاصة وهي سورة الإخلاص» (4).

وقال إبن أبي الحديد حول هذه الفقرة: «إنه لو كان في الوجود ثان

ص: 121


1- نهج البلاغة ص 396: مصدر سابق
2- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 3 ص: 499.
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق

للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته، إما من مجرد أفعاله، أو من صفات أفعاله، أو من صفات نفسه. أو لا من هذا ولا من هذا فمن التوقيف، وهذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام لأن قوله: «أتتك رسله» هو التوقيف وقوله: «لرأيت آثار ملكه وسلطانه» هي صفات أفعاله وقوله: «ولعرفت أفعاله وصفاته» هي القسمان الآخران، أما إثبات الثاني أي الشريك من مجرد الفعل فباطل لأن الفعل إنما يدل على فاعل ولا يدل على التعدد، وأما صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة ومتقنة، فإن الإحكام الذي نشاهده إنما يدل على عالم ولا يدل على التعدد، وأما صفات ذات الثاني فالعلم بها فرع على العلم بذاته، فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور، وأما التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني وإذا بطلت الأقسام كلها، وقد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل القول بالثاني» (1).

واستدل الأمير علیه السلام بدليل آخر على وحدانية الله تعالى بقوله: «ما وحّده من كيفه ... وبمضاداته بين الأمور عُرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأشياء عُرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصَّرَد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها» (2).

إذا قلت: كيف فلان؟ فإنك لا تسأل عن ذاته، بل عما يعرض لها من الأحوال كالعسر واليسر والصحة والسقم، معنى هذا أن الذات ق

ص: 122


1- شرح نهج البلاغة ج 8 ص 136: مصدر سابق
2- نهج البلاغة - ص 272 - 273 رقم 186 مصدر سابق

المسؤول عنها محل للأحداث وأنها تتغير وتتبدل من حال إلى حال ... والله سبحانه واحد وكامل من كل وجه، يستحيل في حقه التغير والتحويل، لأنه فوق الأشياء وخالق الأحداث والأحوال» (1) «وكل من له ضد ينازعه ويزاحمه، فهو مخلوق ناقص يفتقر إلى خالق كامل لا يضاده ولا يزاحمه شيء، وإلا كان مخلوقا، وأيضا كل من كان له مساوٍ و نظير في شيء فهو لا يمتاز عن شريكه في ذلك الشيء، ومعنى هذا أنهما يستمدان هذا التشابه من مصدر واحد لا شبيه له ولا قرين. وبكلمة ثانية: إن الذي خلق الأشياء والأضداد لا شبيه له ولا ضدّ، لأن الخالق لا يوصف بخلقه» (2). ثم إنه علیه السلام ذكر أمثلة على هذا التشابه وهذا التضاد.

ويقول إبن أبي الحديد حول هذه الفقرة قوله: «ما وحده من كيّفه» وهذا حق لأنه إذا كيّفه فقد جعله ذا هيئة وشكل أو ذا لون وضوء إلى غيرها من أقسام الكيف، ومتى كان كذلك كان جسماً ولم يكن واحداً، لأن كل جسم قابل للانقسام، والواحد حقاً لا يقبل الإنقسام، فقد ثبت أنه ما وحده من كيّفه» (3).

ثم يقول إبن أبي الحديد: «ثم قال علیه السلام: «وبمضادته بين الأمور عُرف أن لا ضد له» وذلك لأنه تعالى كما دلنا بالفعل على أن الأمور المتضادة إنما تتضاد على موضوع تقوم به وتحله دلنا على أنه تعالى لا ضد له، لأنه يستحيل أن يكون قائماً بموضوع يحله كما ضوع يحله كما تقوم المتضادات ق

ص: 123


1- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة. ج 3 ص 67
2- المصدر السابق ص 68
3- شرح نهج البلاغة: ج 7، ص 24 - 25 مصدر سابق

بموضوعاتها، ثم قال: «وبمقارنته بين الأشياء عُرف أن لا قرين له» وذلك لأنه تعالى قرن بين العرض والجوهر، بمعنى إستحالة إنفكاك أحدهما عن الآخر، وقرن بين كثير من الأعراض، نحو الإضافات التي يذكرها الحكماء كالبنوة والأبوة والفوقية والتحتية، ونحو كثير من العلل والمعلومات والأسباب والمسببات، فيما ركّبه في العقول من وجوب هذه المقارنة واستحالة إنفكاك أحد الأمرين عن الآخر، علمنا أنه لا قرين له سبحانه، لأنه لو قارن شيئاً على حسب هذه المقارنة لاستحال إنفكاكه عنه فكان محتاجا في تحقيق ذاته اليه، وكل محتاج ممكن، فواجب الوجوب ممكن! هذا محال» (1)

وبعد أن يعرض للأمثلة التي ذكرها الأمير علیه السلام شارحاً لها يقول «والعجب من فصاحته في ضمن حكمته، كيف أعطى لكل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها ويليق بها، فأعطى المتباعدات لفظة «مقرّب» لأن البعد بأزاء القرب، وأعطى المتباينات لفظة «مقارن» لأن البينونة بأزاء المقارنة، وأعطى المتعاديات لفظة «مؤلّف» لأن الإئتلاف بأزاء المتعادي، ثم عاد فعكس المعنى فقال: «مفرّق بين متدانياتها» فجعل الفساد بأزاء الكون، وهذا من دقيق حكمته علیه السلام وذلك لأن كل كائن فاسد، فلما أوضح ما أوضح في الكون من التركيب والإيجاد، أعقبه بذكر الفساد والعدم فقال: «ومفرّق بين متدانياتها»، وذلك لأن كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات المتضادة الطبائع، فإنه سيؤول إلى الإنحلال والفساد، (2) ووحدانية الله تعالى ليست عددية. ق

ص: 124


1- المصدر السابق ص 26
2- المصدر السابق

وقد بيّن الأمير علیه السلام حقيقة هذه الوحدانية في عدة مواضع بقوله: «لا يُشمل بحد ولا يُحسب بعدّ» (1). وقوله علیه السلام: «من أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه» (2) وقوله علیه السلام: «الأحد بلا تأويل عدد» (3).

ومعنى أن وحدانية الله تعالى ليست عددية أنه «إذا كان وجود شيء بحيث لا يمكن فرض التكرار فيه، نقول فرض التكرار ووجود الفرد الآخر يكون محالاً لا وجوده، إذ لا حد له ولا نهاية، فكل ما فرضناه مثله أو ثانيه إما أن يكون عينه أو لا يكون ثانياً له، ففي هكذا موارد لا تصدق الوحدة العددية، فإن هذه الوحدة ليست في مقابل الإثنينية، فليس معنى أنه واحد أنه ليس إثنين، بل معناه أنه لا يفرض له ثان» (4).

فقولنا: «أنه أحد، أنه ليس بمعنى العدد كما يقول الناس أول العدد أحد وواحد بل المراد بأحديته كونه لا يقبل التجزي، وباعتبار آخر كونه لا ثاني له في الربوبية» (5).

«إن الله واحد لا بقسمة وكثرة، بل بعدم المثيل والنظير، ليس كمثله وهو السميع البصير» (6) ى

ص: 125


1- نهج البلاغة ص البلاغة ص 273 - مصدر سابق
2- المصدر السابق ص 40
3- المصدر السابق - ص 212
4- مرتضى مطهري: في رحاب نهج البلاغة: ص 57 دار التبليغ الاسلامي بيروت لبنان
5- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: ج:5 ص:52 مصدر سابق.
6- محمد جواد مغنية في ظلال نهج البلاغة: ج 3 ص 68 - 69 الآية 11 من سورة الشورى

«ولا يشكل مع غيره جمعاً و لا تثنية لأنه تعالى لا ثاني له» (1). «والمنظور بوصف الأحدية للمبدأ الأعلى، ليس هو أنه واحد في مقابل إثنين وأكثر بل المنظور به البساطة في مقابل التركيب والتجزأ، أي أن جوهره و عنصره متمحضان في لا تعدد فيها ولا تركيب ولا تجزء» (2).

ولا بأس بان نختم بكلام لابن أبي الحديد حول علم الأمير علیه السلام بالعلوم الإلهية، فيقول: «واعلم أن التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهية ما عُرفت إلا عن كلام هذا الرجل وأن كلام غيره من الصحابة لم يتضمن

شيئاً من ذلك أصلا، ولا كانوا يتصوررونه ولو تصوروه لذكروه وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله علیه السلام» (3).بق

ص: 126


1- المصدر السابق ج 2 ص 371
2- محمد الكرمي: بحوث واراء في شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 88 المطبعة العلمية: قم: إيران
3- شرح نهج البلاغة: ج 3: ص 204: مصدر سابق

القضاء والقدر

قال الأمير علیه السلام جواباً لمن سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره؟ «ويحك، لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَعْ مكرَهاً، ولم يرسل الإنبياء لعباً، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثا، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً (ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (1).

الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ هل أفعاله مخلوقة له أم مخلوقة لله تعالى؟ وهل يملك الإنسان من الأمر شيئاً إذا قضى الله أمراً كان مفعولاً؟ وإذا كان الإنسان مختاراً فما هي حدود هذا الإختيار؟ وإذا كان قادراً فما هي حدود هذه القدرة؟ وهل تتعارض قدرة الله تعالى مع قدرة الإنسان؟ أم أن قدرة الإنسان هي جزء من قدرة الله تعالى ولا تنفك عنها؟ ولا يستطيع الإنسان شيئاً من دون قدرة الله تعالى، لكن لا نحو الريشة في مهب الريح، بحيث لا يدري ماذا يفعل؟ ولا إلى أين يريد أن يصل؟ وكون الإنسان حراً مختاراً لا ينافي ولا يناقض قدرة الله تعالى.

ص: 127


1- نهج البلاغة: ص 481 رقم 78 مصدر سابق - والآية 27 من سورة ص

هذه الأسئلة التي تختصر قضية القضاء والقدر، كانت - وما تزال - الشغل الشاغل للإنسانية الحائرة التي تتخبط بين الآراء والمذاهب المختلفة محاولة الإجابة، فلا تجد الإجابات الكافية والشافية.

والأمير علیه السلام يعطي الجواب الكافي والشافي لمسألة القضاء والقدر من خلال الوجدان والفطرة بعيدا عن التعقيدات الفلسفية.

ولا بد من الإشارة إلى أن الأمير علیه السلام كان قد أجاب السائل بجواب قبل ذلك بقوله: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئاً ولا هبطنا وادياً إلا بقضاء الله وقدره» فقال الشيخ: فعند الله أحتسب عناي ما أرى لي من الأجر شيئاً، فقال: «مه أيها الشيخ لقد عظّم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين» فقال الشيخ: وكيف والقضاء والقدر ساقانا (1). فعند ذلك أجابه الأمير علیه السلام بالفقرة السابقة.

والجواب الذي أعطاه الأمير علیه السلام بقوله: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئاً ولا هبطنا وادياً إلا بقضاء الله وقدره» المراد به الإشارة إلى القضاء والقدر بمعناهما العلمي أي «علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلها من حدود وخصوصيات وعلمه سبحانه بحتمية وجود تلك الأشياء عن عللها ومبادئها» (2) ولهذا توهم السائل - كما يتوهم غيره أيضا - أنه ما - أنه ما دام قد ثبت بعلم الله تعالى كل شيء ومنها مجريات الأمور 98

ص: 128


1- ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة ج 9 ص 169: مصدر سابق
2- جعفر السبحاني: الالهيات على هدي الكتاب والسنة: ج 2 ص 198

والأفعال، فالإنسان مجبور لا خيار له أمام ما يجري إذ أن «كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى، غير متخلفة ير متخلفة عن متعلقها» (1) يعني الجبر.

لكن إذا اتضح الحال بطل هذا التوهم حيث أن «علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثر على أي وجه اتفق، وإنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكاملة في نفس تلك العلل» (2).

وحول أفعال الإنسان «فقد تعلق علمه على صدورها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعله بصبغة الإختيار والحرية، فلو صدر فعل الإنسان بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلف عنه» (3).

فالأمير علیه السلام يرفض القول بأن الإنسان مسيّر لا يملك من الأمر شيئاً، أو أن أفعاله مخلوقة لله تعالى على نحو الحتم والجبر، وهذا واضح من قوله: «لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً» مستدلاً على نفي هذا الحتم وهذا الجبر ببطلان الثواب والعقاب، إذ كيف يعاقب الإنسان على

فعل لا يملك معه الإختيار والإرادة؟ ولا يملك معه إلا أن يقوم به.

والله تعالى ما «أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً» إلا لأنهم قادرون ومخيرون ولو كانوا مسيرين ما كلفهم بشيء. كيف وهو القائل (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (4). ومن البداهة أنه .

ص: 129


1- المصدر السابق ص 199
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق ص 199 - 200
4- الآية 286 من سورة البقرة.

لا معنى من التحذير إلا مع القدرة والإختيار (1).

وهذا هو الدليل الأول على كون الإنسان ذو إرادة وإختيار وأنه غير مكره ولا مضطر، إذ لو كان مجبراً على أفعاله لما صح تكليفه ولبطل الثواب والعقاب، إذ هما فرعان عن التكليف فإذا صح الأول صح

الآخر، وحيث أن الأول لا يصح إلا مع الإختيار فصح أن يثاب الإنسان على تلك التكاليف أو يعاقب.

الدليل الثاني: الذي ساقه الأمير علیه السلام لإثبات كون الإنسان مختاراً في أفعاله غير مسلوب الإرادة، قوله علیه السلام: «وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً»، «فإن الإلجاء لا ثواب معه فضلا عن الإكثار منه لفاعل القليل من الخير، فلو لم يكن فعله إختيارياً لما جاز أصل الثواب ولا التفضل بإعطاء الكثير منه» (2).

الدليل الثالث: أن المعصية لم تكن بالغلبة، وأن الطاعة لم تكن بالإكراه «ولم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مُكرهاً». ولكن ليوسع المجال للعبد ويرخي له حتى إذا عاقبه، عاقبه عن حجة تامة أقامها عليه بإعطاء الحرية التحذير من نفسه مع التحذیر بوخامة العاقبة (2).

الدليل الرابع: إرسال الرسل وإنزال الكتب «ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً» «بل أرسلهم لينشروا دعوته بين الناس وتتم الحجة بهم على المكلفين حين يريد الله مؤاخذة العصاة منهم وإثابة ق

ص: 130


1- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 4: ص 261: مصدر سابق (2) محمد الكرمي: بحوث وآراء، شروح موضوعية على نهج البلاغة: ج 4: ص 9
2- المصدر السابق

المطيعين ومع قسرهم على فعل الطاعة وعمل المعصية يكون إرسال الرسل فعلاً لاغياً، إذ لا ثمرة تترتب عليه مع الإلجاء، والكتب المنزلة بمنزلة المذكّر الدائم للمكلفين بما يراد منهم، ومع الإلجاء لا أثر لذلك بالمرة، لأن التذكير إنما ينجح مع المختار الذي يكون قادراً على الفعل والترك، فيكون تذكيره من العوامل المحركة له أما إذا كان منساقاً بالقهر إلى الفعل أو الترك إنتفت فائدة ذلك في حقه» (1).بق

ص: 131


1- المصدر السابق

العلم الإلهي

«يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ومعاصي العباد في الخلوات واختلاف النّينان في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات» (1)

«عالم السر من ضمائر المضمرين، ونجوى المتخافتين، وخواطر رجم الظنون، وعقد عزيمات اليقين ومسارق إيماض الجفون، وما ضمّته أكنان القلوب وغيابات القلوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، ومصائف الذر، ومشاتي الهوام، ورجع الحنين من المولهات، وهمس الأقدام، ومنفسخ الثمرة من ولائج غلف الأكمام، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها، ومختبأ البعوض بين سوق الأشجار والحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحط الأمشاج من مسارب الأصلاب - إلى أن يقول - وأثر كل خطوة، وحسّ كل حركة ورجع كل كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرة، وهماهم كل نفس هامة، وما عليها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة أو قرارة نطفة أو نقاعة دم ومضغة، أو ناشئة خلق وسلالة ...»(2)

يقول إبن أبي الحديد حول الفقرة الثانية: «لو سمع هذا الكلام

ص: 132


1- نهج البلاغة: ص 312، رقم 198، مصدر سابق
2- المصدر السابق: ص 134 - 135

أرسطو طاليس القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات لخشع قلبه ووقف شعره واضطرب فكره ألا ترى ما عليه من الرواء والمهابة والعظمة والفخامة والمتانة والجزالة مع ما قد أشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة. لا أرى كلاماً يشبه هذا الكلام، إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإن هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة وجدول من ذلك البحر وجذوة من تلك النار وكأنه شرح لقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 59). (1)

وحول الفقرة عينها يقول العلامة مغنية: «هذا القسم أو المقطع بكامله يتلخص في أن الله سبحانه بكل شيء عليم، سواء أكان جزئياً أم كلياً، محسوساً أم غير محسوس وما ذكره من الضمائر والخواطر والذر والبعوض ... إلى نقاعة الدم، وناشئة الخلق، كل ذلك مجرد أمثلة، ولا شيء ورائها إلا البيان والإيضاح أن الله يعلم ما في السماوات والأرض» (2).

ويقول الأمیر علیه السلام في موضع آخر حول العلم الإلهي المطلق واللامحدود: «الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور (3).

وتعليقاً على هذه العبارة يقول إبن أبي الحديد: «إعلم أن أمير المؤمنين علیه السلام إنما قال: «بطن خفيات الأمور» وهذا القدر من الكلام ق

ص: 133


1- شرح نهج البلاغة: ج 4 ص 9 مصدر سابق
2- في ظلال نهج البلاغة ج 2 ص 43 دار العلم للملاين: بيروت
3- نهج البلاغة ص 87 رقم 49 مصدر سابق

يقتضي كونه تعالى عالماً يعلم الأمور الخفية الباطنة، وهذا منقسم قسمين، أحدهما: أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة. والثاني: أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة. والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين فنحمله عليهما معاً. فقد خالف في كل واحد من المسئلتين قوم فمن الناس من نفى كونه عالماً بالمستقبلات ومن الناس من نفى كونه عالماً بالأمور الحاضرة سواء كانت خفية أو ظاهرة» (1).

ثم يورد إبن أبي الحديد الآراء المتعددة التي تربو على تسعة آراء وأقوال والتي منها رأي بعض الفلاسفة أن الله تعالى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات وقد أوردنا حقيقة الحال من كلام الأمير علیه السلام أو أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة، أو أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة، أو أنه تعالى لا يعلم شيئاً أصلاً لا كلياً ولا جزئياً إلى غير ذلك من الأمور الباطلة. والقول الحق، هو ما أشار إليه الأمير علیه السلام في هذه الفقرة وغيرها مما تقدم، وتبعه عليه جمهور المتكلمين وهو «أن الباري سبحانه يعلم كل معلوم الماضي والحاضر والمستقبل، ظاهرها وباطنها ومحسوسها وغير محسوسها، فهو تعالى العالم بما كان وما هو حاضر وما سيكون وما لم يكن. أن لو كان كيف كان يكون كقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) فهذا علم بأمر مقدّر على تقدير وقوع أجله الذي قد علم أنه لا يكون (2).

أما دليلهم على هذا العلم بكل أنحائه فهو: «إن حجة المتكلمين على م

ص: 134


1- شرح نهج البلاغة: ج 2: ص 72 مصدر سابق.
2- المصدر السابق ص 72 - 73 والآية: 28 من سورة الأنعام

كونه عالماً بكل شيء إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم، وأنه فَعَله بإختياره، فحينئذ لا بدّ من كونه عالماً، لأنه لو لم يكن عالماً بشيء أصلاً لما صح أن يحدث العالم على طريق الإختيار، لأن الإحداث على طريق الإختيار إنما يكون بالغرض والداعي، وذلك يقتضي كونه عالماً، فإذا ثبت أنه عالم بشيء أفسدوا حينئذ أن يكون عالماً بمعنى اقتضى له العالِمية، أو بأمر خارج عن ذاته مختاراً كان أو غير مختار، فحينئذ ثبت لهم أنه إنما علم لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشيء أزيد منها، فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالماً بكل معلوم، لأن الأمر الذي أوجب كونه عالماً بأمر ما، هو ذاته يوجب كونه عالماً بغيره من الأمور، لأن نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة» (1).

يقول العلامة مغنية تعليقاً على قوله علیه السلام: «الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور»: فهو سبحانه يعلم الأشياء من باطنها وأعماقها ومن جميع جهاتها تماماً كما هي في واقعها وحقيقتها منذ وجدت وفي شتى شؤونها وأطوارها ... وعلمه «جل ذكره» بالأشياء بعد وجودها هو بالذات علمه قبل أن توجد لا تبديل ولا تغيير» (2). ق

ص: 135


1- المصدر السابق ص 73
2- في ظلال نهج البلاغة: ج 1 ص 218، مصدر سابق

أما كيف يحصل هذا العلم؟

«السميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة» (1)

إذا كان السمع والبصر أحد مصادر العلم عند الإنسان، وإذا فقدهما فقد العلم الحاصل بسببهما، فإن الباري عز وجل «عالم بالذات لأن علمه عين ذاته. قال الشيخ محمد عبده: المراد بتفريق آلة: تفريق الأجفان وفتح بعضها عن بعض يريد أن الإنسان إذا أطبق جفنه الأعلى على الأسفل، فلا يرى وإن فرقهما رأى وليس الله سبحانه كذلك، وهذا المعنى غير بعيد عن دلالة كلمة تفريق» (2).

«ويسمع لا بخروق وأدوات» (3).

يقول إبن أبي الحديد حول هذه العبارة: «أنه تعالى يسمع بلا حروف وأدوات، وذلك لأن الباري سبحانه حي بلا آفة وكل حي لا آفة به فواجب أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات ولا حاجة به سبحانه إلى حروف وأدوات كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنّا أحياءٌ بحياة تحلنا، والباري تعالى حي لذاته، فلما افترقنا فيما به كان سامعاً ومبصراً، افترقنا في الحاجة إلى الأدوات والجوارح» (4).

والباري عز وجل «ليس بجسم ومعنى سمعه تعالى علمه بالمسموعات» (5)

ص: 136


1- نهج البلاغة: ص 212، مصدر سابق.
2- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 2 ص 372، مصدر سابق.
3- نهج البلاغة: ص: 374، مصدر سابق.
4- شرح نهج البلاغة: ج 7 - ص 30 مصدر سابق.
5- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ص 71 مصدر سابق

وإنما ذكرنا هاتين الفقرتين لتبيان كيفية حصول العلم الإلهي ولا يعني هذا أن الأمير علیه السلام إقتصر على هذا الأسلوب في الحديث حول العلم الإلهي، بل اتبع أسلوبا آخر لبيان حقيقة العلم الإلهي وعدم محدوديته وأنه تعالى عالم بكل شيء. كقوله علیه السلام: « ... ولا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة وكرور لفظة ولا إزدلاق ربوة ولا إنبساط خطوة في ليل داج، ولا غسق ساج ... علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين وعلمه بما في السماوات العُلى كعلمه بما في الأرضين السفلى» (1).

هذه الفقرة هي جزء من خطبة له علیه السلام أورد فيها «ضروباً من علم التوحيد، وكلها مبنية على ثلاثة أصول ... الأصل الثاني: أنه تعالى عالم لذاته فيعلم كل معلوم ويدخل تحت هذا الأصل قوله علیه السلام لا تخفى عليه خافية من عباده «شخوص لحظة»، أن تسكن العين فلا تتحرك «ولا كرور لفظة» أي رجوعها، «ولا إزدلاق ربوة» صعود إنسان ربوة من الأرض وهي الموضع المرتفع، «ولا إنبساط خطوة، في ليل داج: أي مظلم ولا غسق ساج: أي ساكن ثم قال يتفيأ عليه القمر المنير: هذا من صفات الغسق ومن تتمة نعته، ومعنى يتفيأ عليه: يتقلب ذاهباً وجائياً في حالتي أخذه في الضوء الى التبدر وأخذه في النقص إلى المحاق ... كأنه علیه السلام قال: لا يخفى على الله حركة في ليل ولا نهار يتفيأ عليه القمر وتعقبه الشمس: أي تظهر عقيبه ... ويدخل تحته أيضا قوله علیه السلام: «علمه بالأموات الماضين» (2) الخ الفقرة. ق

ص: 137


1- نهج البلاغة: ص 232 - 233 رقم 163، مصدر سابق.
2- إبن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 88 مصدر سابق

علم حضوري

«العالم بلا إكتساب ولا إزدياد ولا علم مستفاد ...» (1).

«ثم وصف علمه تعالى فقال: إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا بالإستدلال والنظر ولا هو علم يزداد إلى علومه الأولى كما تزيد علوم الواحد منا ومعارفه وتكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها، ثم قال: ولا علم مستفاد أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث متجدد، كما يذهب إليه جهم (2) وأتباعه» (3).

ص: 138


1- نهج البلاغة: ص 330 مصدر سابق
2- الجهم بن صفوان، رئيس الجبرية وتنسب إليه الجهمية، شيخه الجعد بن درهم، قتل على يد نصر بن سيار، وفي رواية أنه قتل على يد سلم بن أحوز، وكان مقتله سنة 127 أو 131 للهجرة انظر حوله، مستدرك بحار الأنوار ج 2 ص 149: تذكرة الحفاظ ج 1 ص 159 - 160 سير أعلام النبلاء ج 5 ص 433 وج 10 ص 29.
3- إبن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: ج 11: ص 62 - 63 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم: دار أحياء الكتب العربية

الحِکَم في نهج البلاغة

اشارة

* تمهيد

* معرفة الله

* العمل والهيبة

* الاستغفار - أمان

* الصدق

* السخاء

* فلتات الوجه واللسان

* التقوى

* اقبال الدنيا وادبارها

* قلب العاقل ولسانه

* قيمة الإنسان الحقيقية

* الحكمة ضالة المؤمن

* الصبر

* فرص الخير

* الجاهل

* القلوب الوحشية

* الظالم والمظلوم

* الوقاية

* رأي العالم الحديث

ص: 139

ص: 140

تمهيد

تستحق هذه الحِكَم أن تكون في كتاب مستقل، فهي بمثابة القانون الذي يحدد مسار الإنسان على المستوى الفردي والإجتماعي، بل فيها بمثابة ما هو تحليل لحقيقة الإنسان على المستويين معاً، فهي لم تكن كلمات خاصة بزمانها أو تخاطب إنسان مرحلتها، بل هي «مرآة صافية

تعكس حقيقة الإنسان وتجاربه وأفعاله من حيث هو إنسان» (1).

إنها كلمات إنسان، خبر النفس البشرية وغاص في بحر مشاعرها وأحاسيسها وإنفعالاتها، عرف ماذا يضرها وماذا ينفعها؟ هذه الحِكَم «حقائق يتمثلها كل إنسان في نفسه ويحياها في سلوكه، وينفعل بها روحاً و جسما» (2).

«وأكثر حِكَم الإمام علیه السلام في النهج وغيره تدخل في علوم ثلاثة الإجتماع. والنفس، والأخلاق، وتشترك هذه الثلاثة في أنها علوم إنسانية» (3).

وحيث أن هذه الحِكَم تحمل المواصفات السابقة، كان لا بد من بحثها في هذا الكتاب، ليتبين لنا أنها لا يمكن أن تكون موضوعة من

ص: 141


1- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 211: مصدر سابق
2- المصدر السابق 212
3- المصدر السابق.

الشريف الرضي أو غيره، فإن الإنسان العادي مهما كانت منزلته العلمية ومهما بلغ ذكائه لا يمكنه وضع حكمة تصلح لكل زمان وفي كل مكان وهذا هو السبب الذي دعاني لإختيار بعض الحِكَم التي رأيت أنها تتناسب وتنسجم مع هذا الزمان ليعرف القارئ أنها من وضع إنسان ربّاني تربى في حجر النبوة ونهل من معينها الذي لا ينضب هذا المعين الذي أريد له أن يبقى صافياً لا كدر فيه هذا المعين الذي أريد له دائم المنفعة ما دامت الدنيا قائمة، وتعمدت إختيار النصائح الطبية الواردة في ضمن هذه الحِكَم وبحثتها وبينت المعنى الحقيقي المراد منها، ولم أجد غضاضة في عرضها على أحد أصدقائي الدكتور المختص حسين محمد حسين الذي أبدى حماسة لهذه الفكرة وتفضل بذكر بعض التوصيات والملاحظات، سوف أضمنها هذا الكتاب في موضعها.

معرفة الله

«عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم» (1).

«هذا أحد الطرق إلى معرفة الباري سبحانه وهو أن يعزم الإنسان على أمر ويصمم رأيه عليه ثم لا يلبث أن يخطر الله تعالى بباله خاطراً صارفاً له عن ذلك الفعل، ولم يكن في حسابه أي لولا أن في الوجود عن ذاتاً مدبرة لهذا العالم لما خطرت الخواطر التي لم تكن محتسبة وهذا فصل يتضمن كلاماً دقيقاً يذكره المتكلمون في الخاطر الذي يخطر من غير موجب لخطوره، فإنه لا يجوز أن يكون الإنسان أخطره بباله وإلا لكان

ص: 142


1- نهج البلاغة ص 511 رقم 250 مصدر سابق

ترجيحاً بلا مرجح لجانب الوجود على جانب العدم، فلا بد أن يكون المخطر له بالبال شيئاً خارجاً عن ذات الإنسان وذلك الشيء المسمى بصانع العالم» (1).

و «المراد بالعقود هنا النوايا وحلها فسخها وعليه يكون عطفها على فسخ العزائم من باب عطف التفسير ... وغير بعيد أن يكون مراد الإمام أن القلب بغرائزه ومشاعره دليل قاطع على قدرة الله وعظمته، بخاصة إدباره بعد إقباله وإقباله بعد إدباره بلا سبب ظاهر» (2).

والعلامة مغنية بعد أن يشير إلى احتمال أن يكون المعنى الظاهر لهذه الحكمة هو أن العزم بيد الله تعالى يلفت إلى أن هذا الظاهر مخالف لظاهر (3) قوله تعالى في الآية 115 من سورة طه والآية 159 من سورة آل عمران والآية 227 من سورة البقرة حيث تقول الأولى (وقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) والثانية تقول (فإذا عزمت فتوكل على الله) والثالثة تقول (وإن عزموا الطلاق).

أقول إن كان مراد العلامة مغنية أن هذا الظاهر الذي احتمله والذي يخالف ظواهر الآيات السابقة، ولذلك نرفض ذلك الظاهر، فنحن نوافقه ونؤكد على هذا، مع أن الفرق واضح، لأن الآيات تتحدث عن مرحلة العزم وعدم نقضه والإصرار عليه، أما كلام الأمير علیه السلام فهو ناظر إلى مرحلة نقض هذا العزم وتركه إلى عزم آخر بمعنى أن الآية الأولى ناظرة 4

ص: 143


1- إبن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: ج 10: ص 22 مصدر سابق
2- محمد جواد مغنية في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 364 - 365 مصدر سابق
3- المصدر السابق ص 364

إلى العزم بمعناه التكليفي، فإن العزم يأتي بمعنى: الصبر «قيل: العزم والعزيمة هنا. بمعنى الصبر، أي لم نجد له صبرا» (1) أي أن آدم علیه السلام لم يصبر على الأمر الذي كان الله تعالى قد عهد به إليه، وهذا غير المعنى الذي استظهره العلامة مغنية من كلام الأمير علیه السلام فلا منافاة بين المعنيين.

يقول العلامة مغنية حول هذه الآية في تفسير الكاشف: «والعهد الذي عهده الله لآدم هو أن لا يقترب من الشجرة المعهودة ولا يستجيب لدعوة ابليس ووسوسته، والمراد بنسي خالف، وبالعزم الثبات» (2).

والآية الثانية تتحدث عن العزم بمعنى «عقد القلب على الشيء تريد أن تفعله» (3) أو «ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله» (4) فهى ناظرة إلى إرادته القيام بهذا الفعل من غير ملاحظة أن هذا العزم يمكن أن يتغير أم لا، فإن هذا أمر مسكوت عنه، وهذا المعنى مأخوذ أيضا في الآية الثالثة، أي إذا أرادوا وعقدوا العزم والقلب على هذا الفعل. .

ص: 144


1- ابن منظور لسان العرب ج 9 ص 194: دار إحياء التراث العربي: بيروت
2- م 5 ص:249 دار العلم للملاين بيروت. ولا بد من الإشارة إلى اننا هنا نتحدث حول: ظاهرة الآية، بغض النظر عن كون عدم الصبر والمخالفة هنا تنافي العصمة ام لا؟ لأن هذا ليس مجال بحثنا فان له مجال آخر، فلاحظ وتدبر وانتبه ...
3- الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن م 12 ص 868.
4- ابن منظور - لسان العرب، ج 9، ص193، مصدر سابق.

العمل والهيبة

«إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقيه، أعظم مما تخاف منه» (1)

الإنسان بطبعه يخاف ويهاب من المجهول، فيتهيب القيام بعمل لا يعلم على وجه اليقين ما هي نتائجه، فيهاب أن يقع ما لا تحمد عقباه، وقد يكون في هذا العمل جوانب إيجابية مع كونه لا يخلو من جوانب سلبية، وقد تكون جوانبه الإيجابية أكثر أو أهم، فاذا وقع الانسان تحت تأثير الخوف والتهيب من الجوانب السلبية، فسوف يكون أسير القلق والإضطراب بين قيامه بهذا العمل أم لا، فهذا القلق النفسي أشد من النتائج السلبية التي قد تكون مجرد أوهام فالحكمة تقتضي الإقدام ولا يعني هذا عدم إعمال الفكر في أهمية العمل بين إيجابياته وسلبياته فليس المطلوب التهور أو الفوضى، فهذا خلاف الحكمة وخلاف التعقل.

وهذه الحكمة - النصيحة - تحتاج إلى حكمة ونصيحة أخرى، فقبل الإقدام على هذا الأمر المُهاب لا بد من مشاورة ذوي العقول واستقبال وجوه الآراء، يقول: أمير المؤمنين علیه السلام.

«من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ» (2)

«ومن استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها» (3)

لأن «الإستبداد بالرأي أن تقدم على أمر مجهول العاقبة عندك، لأنك

ص: 145


1- نهج البلاغة: ص 501، رقم 175، مصدر سابق
2- المصدر السابق رقم: 173
3- المصدر السابق ص 500 رقم 161

ما جرّبت مثله من قبل ولا استشرت الناصح المجرّب. ولا شك أن الإقدام على مجهول مغامرة» (1) غير مأمونة العواقب إن لم تكن مسبوقة بمشاركة الرجال في عقولها بمشاورتها، وإذا بقي القلق والهياب بعد ذلك، هنا تأتي النصيحة الأولى بالإقدام حتى مع الخوف والقلق من المجهول، لأن الإقدام هنا أولى وأفضل من البقاء تحت هاجس هذا الخوف وهذا القلق، «بعد تتبع آراء أهل الخبرة في أي قضية وتدبرها على حقيقتها - استطاع أن يميّز الرأي الأصوب والأرجح» (2).

وقد حثّ الله تعالى في كتابه الكريم على المشورة والشورى، حتى أنه حثّ عليها رسوله الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (3) مع أنه معصوم عن الخطأ والسهو فغيره من البشر بطريق أولى، والعزم الذي أشارت إليه الآية الشريفة لا يعني عدم الأخذ برأي أصحابه إذاكان صواباً، وإلا لا معنى لهذه المشورة، فيصبح المراد إذا رأيت أن ما أشار عليه أصحابك هو الصواب فاعزم عليه فتوكل على الله وقم به، وكذلك إذا وجدت أن رأيهم غير صائب فاعزم على ما تراه صائباً، وتوكل على الله لأنه على كل حال فإن المسدد والموفق لكل الأمور هو الله تعالى.

وفي آية أخرى قرنها الله تعالى بإقامة الصلاة فقال: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) (4). 8

ص: 146


1- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 323 مصدر سابق
2- المصدر السابق ص 327
3- آل عمران آية 159
4- الشورى: اية 38

والأمر الذي حثت الآيتان على المشورة به هو، فيما لا نص فيه بوحي (1) أو غيره. قال العلامة مغنية حول قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم): أن «كلمة أمرهم تومئ إلى الصالح العام، وأنهم يتعاونون يداً واحدة على العمل من أجله ... ولا صلة لهذا التشاور في حلال الله وحرامه لأنهما لله وحده» (2)، وإلى هذا المعنى أشار في مجمع البيان ناسباً القول به إلى أبي على الجبائي في معنى قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمر) حيث يقول: «إن ذلك في أمور الدنيا ومكائد الحرب ولقاء العدو، و في مثل ذلك يجوز أن يستعين بآراهم» (3)

الإستغفار ... أمان

«عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار» (4)

«كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفع أحدهما، فدنوكم الآخر فتمسكوا به: أما الأمان الذي رُفع فهو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأما الأمان الباقي فالإستغفار. قال الله تعالى: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (5).

إنها دعوة للإستغفار وجعله جزء مهماً من ثقافة الإنسان المؤمن،

ص: 147


1- عبد المحسن فضل الله: الإسلام وأسس التشريع: ص 114 دار الأضواء: بيروت. وجميل محمد منيمنة: مشكلة الحرية في الإسلام: ص 46: دار الكتاب اللبناني: بيروت
2- التفسير الكاشف: م 6: ص 529 - دار العلم للملاين: بيروت
3- الطبرسي: ج 2: م 1 ص 869 دار المعرفة بيروت
4- نهج البلاغة: ص 482 رقم 87 مصدر سابق
5- المصدر السابق ص 483: رقم 88 الاية 30 من سورة الانفال

الذي يخطئ ويذنب، وتكرار الذنب لا يجب أن يؤدي إلى اليأس والقنوط وكيف يقنط من يستطيع الإستغفار؟ الإستغفار الذي يبقي الإنسان المذنب على حال من الأمل بغفران الله تعالى، الأمل الذي يدفع إلى العمل الدؤوب الذي يعلم المؤمن أنه يرضي الله تعالى ويبعده هذا الإستغفار شيئاً فشيئاً، وإن طال الزمان، عن الأعمال التي لا ترضي الله تعالى. «لأن القنوط هو قطع الرجاء عن الله واليأس عن رحمته وقد عُدّ من الكبائر الموبقة، لأنه إذا وصل بؤس الإنسان إلى اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، فقد انسدّ عليه باب العمل والرجوع إلى الحق وأسلم نفسه للشيطان ووقع في الهلاك والخسران» (1) فلا يرى أنه سوف ينتفع بعمله ما دام أن اليأس قد أخذ منه مأخذاً، وهذا معناه تركه للعمل، وهذه الثمرة السيئة المترتبة على اليأس أن الإنسان إذا تلبس به اليأس فلن يقوم بأي عمل يمكن أن ينجيه. والمراد من العمل هو العمل العبادي الذي ينجيه يوم القيامة من عذاب الجحيم، لذلك لا معنى لهذا اليأس ما دام أن الله تعالى قد فتح باب التوبة والإستغفار.

واذا كان المراد من الأمان الذي رُفع وهو الأمان من العذاب الدنيوي، فإن الأمان الباقي وهو الإستغفار يشمل العذابين معاً الأخروي والدنيوي. بدليل استشهاده بالآية، ولا معنى لحصر العذاب بالأخروي ما دام أن الله تعالى لم ينزل العذاب على أمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتى بعد وفاته صلی الله علیه و آله و سلم، والمراد بالعذاب الذي لم ينزل هو ما كان ينزل على أمم الأنبياء .

ص: 148


1- الخوئي - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21، ص 132، مؤسسة الوفاء - بیروت.

السابقين الذين لم يؤمنوا برسالتهم وكذبوهم، فكان يُنزل الله تعالى عليهم العذاب بسبب تكذيبهم هذا وبدعاء الأنبياء أنفسهم، كما حصل مع قوم نوح ومع قوم صالح ومع الفراعنة الذين كذّبوا نبي الله موسى علیه السلام وغيرهم من الأقوام مما هو مسطور في محله، الأمر الذي لم يحصل مع قوم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهم خصوص قريش الذين بقى معهم حوالي 13 سنة يدعوهم إلى عبادة الله تعالى الواحد الأحد وترك عبادة الأصنام فلم يؤمن إلا القلة، أما الأكثرية فإنها بقيت على عنادها وتكذيبها، مع ذلك لم يُنزل الله تعالى العذاب عليهم بسبب وجوده صلی الله علیه و آله و سلم بينهم، كما صّرحت بذلك الآية الشريفة التي استشهد بها أمير المؤمنين علیه السلام، لذلك قال بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في قوم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهم قبيلة قريش (1) أما الإستغفار الذي يمنع من العذاب هو الإسلام «وعبرّ عن الإسلام بالإستغفار لأنه من لوازمه» (2).

وحيث أن الآية، تتحدث عن خصوص أهل مكة وأنهم لو أسلموا واستغفروا ربهم عن الكفر والشرك الذي هم عليه لكان ذلك سبباً لرفع العذاب عنهم، كما أن وجود رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سبب آخر لرفع سبب آخر لرفع العذاب عنهم، وحيث أن السبب الثاني قد رُفع بسبب وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بقي السبب الآخر وهو مستمر إلى يوم القيامة، والإستغفار هنا بمعناه الخاص، بعد الإسلام. بق

ص: 149


1- محمد جواد مغنية: التفسير الكاشف: م 3 ص 474 - دار العلم للملاين بيروت ومحمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن ج 9 ص 68 - 69 مؤسسة الأعلى بيروت والطوسي مجمع البيان ج 4 م 2 ص 794: دار المعرفة: بیروت
2- محمد جواد مغنية: التفسير الكاشف م 3 ص 474 مصدر سابق

ولأجل ذلك قال الشريف الرضي: «وهذا من محاسن الإستخراج ولطائف الإستنباط» حيث أن الأمير علیه السلام استفاد هذا الأمر ليجعله مستمرا ما دامت الدنيا وما دام المسلمون فيها، وذلك بقوله علیه السلام: «وقد رُفع أحدهم، فدونكم الآخر فتمسكوا به» فإن الإستغفار سبب دائم وباق. لرفع العذاب الدنيوي عن المسلمين وعن أهل الأرض جميعاً ما دام المسلمون يعيشون عليها وهم يستغفرون.

الصديق

«يابني، إياك ومصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة البخيل، فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذّاب، فإنه كالسراب يقرّب عليك البعيد، ويبعّد عليك القريب» (1).

إنها حكمة ونصيحة إجتماعية تبين من هو الذي يستحق أن يكون

صديقاً ومن هو الذي يجب أن لا يتخذ صديقا، ومعنى هذا أن الإنسان لا بدّ أن يكون دقيقاً في إختياره لأصدقائه، فالصداقة لها شروط وإعتبارات لا تتوفر في كل أحد، وهذه النصيحة تتضمن هذه الشروط للصداقة والصديق أما من هم هؤلاء الذين يجب تجنب صداقاتهم؟ فهم الأحمق والبخيل والفاجر والكذّاب فهؤلاء لا يستحقون عهد الصداقة ولا ينطبق عليهم عنوان الصدق ولا يجوز بحال مصادقتهم، «لأن المصادقة رابطة ودية بين الصديقين، تقتضي المعاونة في الأمور والمشاركة في دفع المحذور» (2)

ص: 150


1- - نهج البلاغة - ص 475 رقم 38 مصدر سابق
2- الخوئي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 21 ص 73 مصدر سابق.

أما الأحمق فهو قد يكون مخلصاً في نصيحته إياك إلا أنه لحمقه يضرك حيث يجب أن ينفعك، «إنه ينصحك بصدق وإخلاص ولكن بلا عقل ولا علم» (1) و «إذا كان الصديق أحمقاً لا يميّز النفع من الضرر ولا الخير من الشر، ويجلبه رابط الصداقة إلى إيصال النفع إلى صديقه، ولكن غباوته وحمقه يجره إلى إيصال الضرر إليه (2).

وإذا كان من جملة آثار الصداقة وفوائدها «الأعتماد على الصديق عند حدوث حاجة ماسة تقتضي الإستعانة المالية أو العملية» (3).

فإذا كان الصديق بخيلاً «فربما يمنع إعانته أحوج ما يكون الصديق» (4)

أما الفاجر فهو «المنهمك في الشهوة، قد خرق ستر الحياء وخلع العفة فلا يبالي بما يصدر منه، ولو كان بيع صديقه بأبخس ثمن، فلا يصلح للصداقة ويجب الحذر منه وسلب الاعتماد عليه» (5).

«وأما الكذاب فهو الذي صار الكذب عادة له، ويحكي عما لا واقع له، فشبهه علیه السلام بالسراب يتلألؤ في البرية كأنه ماء قريب المكان، وكلما أسرع نحوه العطشان يبعد عنه فلا يصل إليه أبداً، والكذاب يعد الإنسان فيخلفه، ويقرّب إليه المقاصد ويجلب الإنسان نحوها، ولكن لا يصل الإنسان إلى تلك المقاصد (6)

ص: 151


1- مغنية - في ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص 240، مصدر سابق.
2- المصدر السابق ص 73 - 74
3- المصدر السابق، ص 74
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق
6- المصدر السابق

والعلامة البحراني يقول: «إن الكذاب يوهم حقيقة ما يقول، فيسهّل الأمور العسرة البعيدة ويجعلها قريبة المنال، ويبعّد الأمور السهلة القريبة ويجعلها بعيدة المنال. بحسب أغراضه وكذبه، مع أنه ليس كذلك في نفس الأمر كالسراب الذي يُظنُّ ماء وليس به» (1).

السخاء

«السخاء ما كان إبتداءً، فأما ما كان عن مسألةٍ فحياءٌ وتذمم» (2).

الأمير علیه السلام في هذه الحكمة يبين متى يكون السخاء سخاءً وكرماً، فهو يكون كذلك من دون السؤال وقبله، فمن يعطي ذوي الحاجة حاجتهم قبل سؤالهم إياها ولا ينتظر أن يسألوه فهو الكريم والسخي، أما إذا أعطى بعد السؤال فليس سخياً ولا كريماً، فهو يعطي «فراراً من الذم وتكلّف وتطبع لسبب أو لآخر» (3) وهذا معنى قوله علیه السلام: «فحياء وتذمم» فهو يعطي بعد السؤال خجلاً من السائل وحتى لا يُعاب، وإلا لو لم يُسأل فهو لا يعطي، أي ليس من طبيعته وسجيته العطاء والبذل، ولعل في هذا الكلام من الأمير علیه السلام الحث على أن تعطي ذي الحاجة من المال ما علمت أنه بحاجة إليه، قبل أن يسألك ولا تنتظر السؤال.

يقول العلامة البحراني حول هذه الحكمة - النصيحة - : «السخاء عبارة عن ملكة بذل المال لمن يستحقه، بقدر ما ينبغي إبتداءً عن طيب نفس وحسن المواساة لذوي الحاجة منه، وبهذا الرسم يتبين أن ما كان من

ص: 152


1- شرح نهج البلاغة م 5 ص 263
2- نهج البلاغة: ص 478: رقم 53: مصدر سابق
3- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة ج 4 - ص 248: بتصرف.

البذل عن مسالة فخارج عن رسم السخاء» (1)

وليس الامير علیه السلام في هذه الحكمة في مقام الذم لمن لا يعطي إلا بعد السؤال، وإنما هو علیه السلام في مقام تفسير معنى السخاء وحقيقته.

والجملة الاخيرة من هذه الحكمة وإن كانت توهم هذا الذم، إلا أن الأمير علیه السلام أيضا في مقام بيّن سببي العطاء وهما الحياء من السائل، أو دفعا للذم من السائل أو الناس، ولا موجب للذم أن يدفع الإنسان عن نفسه الذم.

فلتات الوجه واللسان

«ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه» (2)

هل يتحدث الأمير علیه السلام في هذه الحكمة عن واقع موضوعي، خارج عن إرادة الإنسان وإختياره، في مرحلة من مراحل كتمانه لبعض الأسرار الخاصة به والتي لا يحب إطلاع الآخرين عليها، فلا يريد إطلاعهم ويجهد نفسه بعدم التحدث بها، أم أن هذه الحكمة متضمنة للتحذير من إفشاء الأسرار ومن التحدث بها وأن يعمل جاهداً لنسيانها؟ لأن كثرة التفكير بها قد تصل إلى حد عدم الإختيار في ظهورها على صفحات الوجه أو فلتات اللسان.

العلامة الخوئي يقول: «القلب محفظة للحقائق ومخزن للأسرار ... ولكل شيء ثقل بحسبه ... وللأسرار والحقائق ثقل يقع عبئها

ص: 153


1- شرح نهج البلاغة: م 5، ص 270: مصدر سابق
2- نهج البلاغة: ص 472، رقم 26 مصدر سابق.

على القلوب، وكلما كان السر أستر كان على القلب أثقل، فيضيق ويضغط حتى يختل روحية الإنسان، ومن أهم مسائل علم النفس الحديث معالجة المبتلى به، وأحد طرقه المفيدة جلب إطمئنان المبتلى بحيث يطمئن أن يحدث بكل ما أضمر في قلبه من سر، ولعل الأمر بالإعتراف على الخطايا والمعاصي في حال المناجاة مع الله ... نوع من هذه المعالجة لضائقي القلوب، بما أسرّوا فيها من سيئات يهتموا على سترها عن كل أحد، وإذا ضاق القلب بالستر يترشح من اللسان وإن كرهه الإنسان، وهو الذي يعبّر عنه بالفلتة، كما أنه يظهر على صفحة الوجه» (1).

يقول العلامة مغنية حول هذه الحكمة: «التعبير عما في النفس العديد من الوسائل، منها اللفظ والكتابه والإشارة ... ومنها نظرات العين وإبتسام الفم وصفحات الوجه والعبوس والدموع ... وبالأولى فلتات اللسان. وقال أديب شهير: «يستحيل إخفاء الحقيقة لأن قانون الفعل يقابله قانون رد الفعل، وأن هذا القانون يطبق في المجال النفسي كما يطبق في المجال الميكانيكي، وعليه فإن الإخفاء يصطدم برد فعله، وهو الإظهار بأسلوب أو بآخر، وبالتالي من وضع ستاراً على الواقع هتكه رد فعله لا محالة» (2).

ويقول العلامة البحراني: «الفلتة: الأمر يقع من غير تروٍ، وصفحة الوجه بشرته. ولما كان الإنسان إنما يضمر في نفسه أمراً مهما عنده من عداوة وبغض أو محبة إلى غير ذلك، وكان الوجود النفساني مظهراً له، لم يتمكن المرء أن يحفظ ما أضمره بالكلية، لأن مراعاة ذلك الحفظ إنما .

ص: 154


1- منهاج البراعة ج 21: ص 42 - 43 مصدر سابق.
2- في ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص231، مصدر سابق.

يكون للعقل بحسب ما يراه من المصلحة والعقل قد يشتغل بالتصرف في مهم آخر فيغفل عن ضبط ما أضمره، فينفلت الخيال به من سر العقل فيبعثه في فلتات القول من غير تروٍ، وكذلك لما كان التصورات والأمور النفسانية مبادئ للآثار الظاهرة، كصفرة الوجه وحمرة الخجل، لم ينفك بعض الأمور المضمرة عن ظهور ما يعترف به من الآثار وصفحات الوجه والعين، وشاهد ذلك التجربة» (1).

التقوى

«إتق الله بعض التقى وإن قل واجعل بينك وبين الله ستر وإن رق» (2)

«لا تقطع الصلة بينك وبين الله كلية وتظهر له العقوق والجفاء، واهجر ما نهاك عنه، وإن غلبتك الظروف أو النفس الإمارة على بعض ما يكره سبحانه، فاغلبها أنت على بعض ما يحب، فربما شملك العفو وكنت من الذين (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) ويصدق قول الإمام على عصرنا الذي كثرت فيه المغريات وإثارة الشهوات، ومن كان فيه على شيء من التقى والإيمان فهو يكفيه وينجيه إن شاء الله» (3).

وحيث أن التقوى «من الملكات النفسانية غير قابلة للتجزئة في

ص: 155


1- شرح نهج البلاغة: م 5 ص 351
2- نهج البلاغة: ص 511 - رقم 242: مصدر سابق
3- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 361 - 362، مصدر سابق. والآية: 102 من سورة التوبة.

حقيقتها وإنما تقبل الشدة والضعف» (1) حالها حال الملكات النفسانية الأخرى كالشجاعة والكرم، ومعنى عدم قابليتها للتجزئة أنه شجاع في هذا الموضع وليس شجاعاً في آخر يقتضي الحال فيه الشجاعة.

«فلا بد للمسلم المؤمن أن تكون فيه درجة من التقوى ولو كانت ضعيفة وأمارتها ترك بعض المعاصي لمجرد الخوف من الله وعدم هتك ستر الربوبية والتظاهر بالتمرد والطغيان» (2).

وحيث أن التقوى أو بعضها هي المنجية يوم القيامة أمر علیه السلام بها، فهي «الزاد الى الله ... ولا يجوز ترك الزاد بالكلية في الطريق الصعبة الطويلة» (3).

إقبال الدنيا وإدبارها

«إذا أقبلت الدنيا على قوم أعارتهم محاسن غيرهم، وإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم» (4).

يقول العلامة مغنية حول هذه الحكمة ما نصه: «المراد بإقبال الدنيا على الإنسان أن ينال منها ما يغبط عليه أو يحسد، والمراد باعارته محاسن غيره أن يُرفع فوق منزلته، كمن ساد وما هو بأهل للسيادة. وليس من الضروري أن تنسب إليه فضائل الآخرين، كما توهم الشارحون، بل قد يكون كذلك وقد لا يكون، والمعيار أن يقدر بأكثر من ثمنه، والمراد بسلبه

ص: 156


1- الخوئي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21 - ص 310 مصدر سابق
2- المصدر السابق
3- البحراني - شرح نهج البلاغة: م 5، ص 362
4- نهج البلاغة: ص 470: رقم 9 مصدر سابق.

محاسن نفسه أن تبخس أشياؤه ويبهظ حقه ومقامه والأمثلة على ذلك لا تحصى كثرة، منها أن يؤلف شهير كتاباً فيقبل عليه الناس ويشتروه بأغلى الأثمان، ويكيلوا له المديح بلا حساب، ويستشهدوا بكلماته كدليل على الحق! ولو نسب هذا الكتاب بالذات إلى مغمور مجهول لعرضوا عنه ... وربما سخروا منه» (1).

والأمير علیه السلام في هذه الحكمة يقرر واقع موضوعي موجود في الواقع الخارجي، والسبب لهذا الواقع الخارجي أن الناس بالأعم الأغلب أكثر ما تهتم بالمظاهر الخارجية والعناوين البراقة التي يحملها الإنسان، ولا يكفي عندهم أن يكون مضمونه من علم أو تدبير أو حنكة أو إيمان أو تدين موجود أم لا، فلا نبهارهم بالعنوان الذي يحمله لا يلتفتون بل يغفلون عن أنه يستحق هذا العنوان أم لا؟

وبالعكس لو كان نفس هذا الشخص مغموراً لا يحمل أي عنوان وحتى لو كان يحمل لكنه سُلب منه لسبب من الأسباب الموضوعية أم غير الموضوعية، وحتى لو كان يحمل من المضامين من العلم أو التدين ما

يستحق الإهتمام لأجله، مع ذلك لا يلتفت إليه أحد حتى لو تكلم بالحكمة. وت

ص: 157


1- في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 222 دار العلم للملاين بيروت

قلب العاقل ولسانه

«لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه» (1).

يقول الشريف الرضي تعليقاً على هذه الحكمة: «وهذا من المعاني العجيبة الشريفة والمراد أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية و مؤامرة الفكرة والأحمق يسبق حذفات لسانه وفلتات كلامه على مراجعة فكره ومماحضة رأيه، فكأن لسان العاقل تابع لقلبه، وكأن قلب الأحمق تابع للسانه» (2)

وجاء في كلام آخر للأمير علیه السلام ما هو أكثر تفصيلا فهو يقول: «وليخزن الرجل لسانه، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه، وإن لسان المؤمن من وراء قلبه وإن قلب المنافق من وراء لسانه، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدّبره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شراً واراه. وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه ...» (3).

«قد يصوم المرء ويصلي ويحج ويزكي، وربما جاهد بالنفس والمال، ومع هذا لا يسلم من غضب الله وعذابه، بكلمة يناصر بها ظالماً، أو تخذل مظلوما أو تتهم بريئاً» (4).

أو يغتاب أو يسعى بالنميمة والوشاية بين الناس ليوقع بينهم الخلاف

ص: 158


1- نهج البلاغة: ص 476: رقم 40، مصدر سابق
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق ص 253
4- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 2 ص 534، مصدر سابق

ويزرع الضغينة ويجلب الضرر على الآخرين بعد أن يصورهم بأنه الأعداء لا يريدون نفعاً، أمام من يظن أويتوهم أنه ينال الحظوة عنده، فيكون من المقربين لديه، وقد يكون ذلك بإسم المصلحة الإسلامية العليا؟

فهنا يذكر الأمير علیه السلام «المؤمن مكان العاقل والمنافق مكان الأحمق، ويؤميء هذا إلى أن الإيمان لا يستقيم إلا مع العقل» (1).

قيمة الإنسان الحقيقية

«قيمة كل امرئ ما يحسنه» (2).

قال الرضي: «وهي الكلمة التي لا تُصاب لها قيمة ولاتُوزن بها حكمة، ولا تُقرن إليها كلمة (3).

وقال الجاحظ حول هذه الكلمة: «فلو لم نقف هذا الكتاب الاعلى هذه الكلمة لوجدناها شافيه كافية ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية وغير مقصّرة عن الغاية وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيه عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه» (4)

نعم المعنى ظاهر ولا يحتاج إلى كثير عناية، فإن قيمة الإنسان ليس في ماله أو نسبه أو منصبه أو مركزه، بل لما يحسن أن يقوم به من علم

ص: 159


1- المصدر السابق ج 4 ص 241
2- نهج البلاغة: ص 482: رقم 81، مصدر سابق
3- المصدر السابق
4- البيان والتبين: ج 1 ص 60

وعمل، فإن كان ذو حسب ونسب لكنه جاهل، أو كان ذا مال لكنه لا يحسن أي عمل من الإحسان للآخرين فلا قيمة له، وليس الإحسان للآخرين هو المراد الوحيد للأمير علیه السلام حتى يقال بل لما يحسنه أي ينتجه ويسديه لأخيه من نفع وإحسان (1).

فإن الإحسان للآخرين هو جزء مما يحسنه الإنسان حتى يكون ذو قيمة، إلا إذا كان المراد أن العلم إذا لم يكون فيه نفع للآخرين فلا قيمة لهذا العلم ولا لحامله.

وهذه دعوة ونصيحة وحكمة من الأمير علیه السلام للناس في القيمة الحقيقية التي يحملها الإنسان، والتي يجب أن ينظروا من خلالها لتقويم الأشخاص فلا يكون «التقويم للأشخاص والأفراد في المجتمع ... لنسبه ولقبه ولماله ومنصبه» (2).

في كلام آخر له علیه السلام يتضح مراده أكثر يقول: «لا مال أعود من العقل ... ولا ميراث كالأدب ... ولا حسب كالتواضع ... ولا شرف كالعلم ولا عز كالحلم ...» (3).

فإن من يبحث عن الشرف والعز والحسب ليكون له القيمة والسمعة الحسنة والشأن عند الناس، فإن هذه أدواتها.

«وفائدة المال صرفه لتحصيل الحوائج والوصول الى الراحة والأمان في الآجل والعاجل، وهذه المقاصد إنما تتيسر بمعونة العقل، فإن كان .

ص: 160


1- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 4، 263، مصدر سابق.
2- المصدر السابق.
3- نهج البلاغة: ص 488: رقم 113: المصدر السابق.

صاحبه سفيهاً يصرف المال فيما يضره، وتختل راحته وسعادته» (1).

وإذا كان المال الذي له هذه الفائدة، وهي لا تحصل إلا بالعقل فلولا العقل لما كان للمال أي قيمة، ومعنى هذا أن القيمة الحقيقية للعقل وليس للمال، فإن المال يأتي ويروح لكن العقل إذا ذهب لن يعود، وبالعقل كان الإنسان إنساناً، ولم يكن الإنسان إنسانا بالمال «وكل ذي لب عالماً كان أم جاهلاً يحس ويلمس نعمة العقل ومنافعه ... فأي مال وأي شيء يساوي العقل وعظمته إذا استعمل في رشده، وصرف إلى الخير لا إلى الشر» (2) وإذا فقد الإنسان المال فإنه يستطيع بعقله أن يأتي بالمال، إذا تعلّم حرفة أو صنعة، إما إذا فقد عقله مهما كان يملك من مال وأنفقه لن يستطيع أن يحصل على العقل.

«والأدب هو التحلي بالفضائل والتجنب عن الرذائل، فيوفق صاحبه لنيل المقاصد والوصول الى المآرب، فلا ميراث أنفع منه. والتواضع يوجب جلب الإحترام والإكرام من الناس فهو أحسن الحسب ... والعلم مصباح للهداية، ومقياس يضيء به صاحبه وما حوله، ويوجب توجه النفوس الضالة إليه، فلا شرف أفيد منه» (3).

فمن كان عاقلاً عالماً، ذا فضائل وأخلاق حميدة بعيداً عن الرذائل والقبائح، متواضعاً حكيماً، كان ذا قيمة عند الناس وعند الله تعالى. .

ص: 161


1- الخوئي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج:21 ص 173: المصدر السابق.
2- محمد جواد مغنية في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 286 المصدر السابق
3- الخوئي منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21 ص 173: 174 المصدر السابق.

الحكمة ضالة المؤمن

«خذ الحكمة أنّى كانت، فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن» (1).

«الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق» (2).

المؤمن حكيم يبحث عن الحكمة وعالِم يبحث عن العلم، ولا يهمه أين يكون العلم؟ وأين تكون الحكمة؟ ما دام يريد الإنتفاع في أيامه وأوقاته وهل هناك أنفع من العلم والحكمة؟ ولا يهم بعد عمن يأخذ هذا العلم وهذه الحكمة، ينظر إلى ما قيل لا إلى من قال وهذه سيرة العلماء عبر التاريخ لا يهمهم عمن يأخذون علومهم فإن العلم لا نسب له ولا مذهب له «ما دام إن الحكمة هي عصارة أفكار العقلاء المجربين ... و المؤمن رائده الحقيقة والحكمة يأخذها أنّى كانت وتكون حتى من الملحد والمنافق» (3) فلا يعاب المرء عمن أخذ علمه، بل يعاب على جهله ويعاب على عدم إستفادته من علوم وتجارب الآخرين، فالعقل الانساني والتجربة الإنسانية تحمل الكثير مما يمكن الإستفادة مما هو مشترك بين جميع البشر، فلا يقال: إن هذه التجربة استفادها من الكفار مثلاً. ما دامت لا تناقض ولا تنافي الشرع والإسلام، وكمثال على ذلك تجربة الديمقراطية في العالم الغربي، التي تعطي للشعب دوراً في إختيار حكامه أليست تجربة رائدة على المستوى الإنساني؟ بحيث تخرج الإنسان من نير الإستبداد

ص: 162


1- نهج البلاغة ص 481 رقم 79 المصدر السابق
2- المصدر السابق.
3- محمد جواد مغنية في ظلال نهج البلاغة: ج 4: ص 262

والدكتاتورية، أليست تجربة أعطت الإنسان كرامته وحريته؟ بغض النظر عن بعض المساوئ التي قد تنتج عنها، وبغض النظر عن فلسفتها التي تريد أن تبعد شريعة الله تعالى عن حياة الإنسان، فهي كأسلوب تدبيري وتنظيمي لا نظير لها، ولاتنافي الإسلام والشريعة الإسلامية، بل يمكن القول أنّ جذورها الإنسانية موجودة في الإسلام أيضاً وهي تحتاج إلى بحث مستقل لا يسعه المجال هنا. أسأل الله تعالى التوفيق لتحقيق هذا الأمر بالبحث والدراسة.

فالمؤمن «يأخذ الحكمة من كل من وجدها عنده، وإن كان كافراً أو فاسقاً، كما أن صاحب الضالة يأخذها حيث وجدها» (1).

وشبّه الأمير علیه السلام الحكمة بالضالة، فكأنه علیه السلام أراد الإشارة إلى أن المؤمن يبحث عن الحكمة وما ينفع، كما يبحث عن الضالة التي يفقدها ولاهمّ أين وجد ضالته هذه. ه

ص: 163


1- المجلسي: بحار الأنوار: ج 1: ص 148. ب 4: علامات العقل وجنوده

الصبر

«الصبر صبران: صبر على ما تكره وصبر عما تحب» (1).

«الصبر الأول مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها وثباتها وعدم إنفعالها، وقد يسمى سعة الصدر. الصبر الثاني مقاومة النفس لقوتها الشهوية وهو فضيلة داخلة تحت العفة» (2).

النوع الأول أشق من النوع الثاني، لأن الأول صبر على مضرة نازلة، والثاني على محبوب متوقع لم يحصل (3).

وقالت الحكماء: «الصبر صبران جسمي ونفسي، فالجسمي تحمّل المشاق بقدر القوة البدنية وليس ذلك بفضيلة تامة ... وأما النفسي ففيه تتعلق الفضيلة، وهو صبران صبر عن مشتهى ويقال له عفة، وصبر على تحمّل مكروه أو محبوب» (4).

ولعل الأمير علیه السلام أراد بتقسيمه الصبر إلى هذين القسمين، الإشارة إلى القسم الثاني، وهو النفسي الذي هو صبر عما تحب وصبر على ما تكره.

وفي قوله علیه السلام: «لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان».

إشارة إلى النتيجة الحتمية للصبر وهي نيل المراد والوصول إلى الهدف، مهما طال الزمان ومهما كثرت الصعاب، والأمثلة على ذلك كثيرة

ص: 164


1- نهج البلاغة: ص 478: رقم 55: مصدر سابق
2- الطريحي مجمع البحرين ج 2 ص 579 تحقيق أحمد الحسيني.
3- ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة: ج 9 ص 160: دار بيبوليس بيروت
4- نهج البلاغة: ص 499، وقم 153، مصدر سابق.

على المستووين الفردي والإجتماعي، فهؤلاء شباب المقاومة ومعهم الشعب اللبناني تحمّلوا الصعاب وصبروا حوالي العشرين عاما وهم يقاومون الإحتلال الصهيوني الغاشم والظالم، حتى كانت مقاومتهم وصبرهم سبيلان في أن ينعم جبل عامل والبقاع الغربي بالحرية والأمان والسلام ومعهما لبنان كله، فلولا هذه التضحيات والصبر لما تحررت الأرض من رجس الإحتلال الصهيوني (1).

يقول العلامة مغنية حول هذه الحكمة: «من أمثلة الصبر الأول: جائع لا يجد إلى القوت سبيلاً، ومريض لا يملك ثمن الدواء وسجين لا عم له ولا خال. ومن أمثلة الصبر الثاني فلاح زرع واجتهد أملاً بالحصاد، ولما استوى الزرع على سوقه أتت عليه آفة فأصبح هشيما تذروه الرياح. والصبر ممدوح وحسن إذا كان وسيلة لغاية نبيلة كالصبر في الجهاد المقدس، وفي طلب العلم وقوت العيال، أما الصبر على الفقر مع القدرة على العمل والصبر على الإضطهاد بلا مقاومة فهو مذموم وقبيح شرعاً وعقلاً» (2). .

ص: 165


1- حررت الأرض من رجس الاحتلال يوم 25 ايار: من العام 2000 وقد تحول هذا اليوم الى عيد وطني بمرسوم اصدره رئيس الجمهورية العماد اميل لحود.
2- في ظلال نهج البلاغة ج 4 ص 250: مصدر سابق.

فرص الخير

«إضاعة الفرصة غُصّة» (1).

«الفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير» (2).

«بادر الفرصة قبل أن تكون غُصّة» (3).

الفرصة تأتي مرة واحدة ومن الخطأ الفادح والقاتل تضييعها، خصوصاً إذا كانت هذه الفرصة لها تأثير جذري على حياة الإنسان، والعاقل الحكيم هو الذي يعرف كيف يتحين الفرص، لكن لا بأسلوب إنتهازي، يحوّل الإنسان إلى طمّاع وجشع ليس له هم إلا هم نفسه كيف يصل إلى الموقع الفلاني؟ أو كيف يحصل على الأمر الفلاني؟ وليس مهماً الوسائل إذ قد تكون الوسائل غير مشروعة قد تؤدي إلى ظلم الآخرين، أو قد تجعل من الإنسان بلا قيم ولا مبادئ، ليس له من قيمة إلا المال والجاه والشهرة.

لذلك وصيّته علیه السلام أن ينتهز الإنسان فرص الخير التي لا تضر بالآخرين ولا تظلمهم ولا تؤدي إلى حرمان إنسان من عمل أو مال، «واغتنامها سعادة وكرامة، وفواتها حسرة وندامة» (4) حيث لم يحسن الإستفادة منها، وسوف يبقى هذا الألم في قلبه لأنه لم يستفد منها كما يجب إذ كان يمكن أن يتبدل حاله إلى الأحسن والأفضل سواء على

ص: 166


1- نهج البلاغة: ص 489: رقم 118: مصدر سابق.
2- المصدر السابق: ص 471: رقم 21
3- من وصيته عليه السلام لولده الامام الحسن عليه السلام المصدر السابق: ص 402
4- محمد جواد مغنية: في ظلال نهج البلاغة: ج 4: ص 229 مصدر سابق.

المستوى الدنيوي أو الديني.

والحكمة الثانية جزء من مجموعة حكم جعلها الأمير علیه السلام في فقرة واحدة، حيث سبقها قوله علیه السلام: «قُرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان» وحيث أن «الهيبة والحياء صفتان عامتان ممدوحتان في محلها وأهلها» (1).

إلا أنهما «مذمومتان في غير موقعهما، وكلامه علیه السلام بيان للمذموم منهما ... وموجبتان لفوت الفرص التي ربما لا يمكن تداركها، فنبّه علیه السلام إلى معالجتها التي لو فاتت لا يمكن تداركها بسهولة وربما يتعذر» (2)

يقول العلامة مغنية حول هذه الحكمة: « ... فأقدم على ما يطمئن إليه قلبك، وإن قال الناس وقالوا ... وإن أحجمت خوفاً من قيلهم وقالهم عشت حياتك سلبياً فاشلاً ... على أنك لا تسلم من ألسنة الناس وإن حذرت منها ومنهم ... أما الحياء من الحلال، وبخاصة ما ينفع الناس فهو عجز وخوف وخنوع وإستكانة وخلق من خلق الضعفاء والجبناء هذا النوع من الخوف هو مراد الامام علیه السلام وهكذا يسلبه الجبان الخوف ما يملك من طاقات، ويعيش حبيساً بين جدران الأوهام بلا شخصية ولا إرادة ...» (3). 6

ص: 167


1- الخوئي منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21 ص 37
2- المصدر السابق ص 37 - 38
3- المصدر السابق: ص 216

الجاهل

«لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرّطا» (1).

«وقيل له علیه السلام: صف لنا العاقل، فقال علیه السلام: هو الذي يضع الشيء مواضعه فقيل: صف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت، قال الرضي: يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكان تارك صفته صفة له، إذ كان بخلاف العاقل» (2).

الإفراط والتفريط صفتان متقابلتان والمراد بهما تجاوز الحد المرسوم للأشياء فالأولى منهما يراد بها تجاوز الحد «من جانب الزيادة» (3) والثانية يراد «بها تجاوز الحد من جانب النقيصة أي تركه» (4).

وإذا كان العاقل هو الذي يضع الأمور في نصابها والجاهل بعكسه، وإذا كان الجاهل هو الذي يتجاوز الحد من جانبي الإفرط والتفريط، فإن العاقل ليس كذلك فهو لا يتجاوز الحد من جانبي الإفراط والتفريط «فإن إقامة كل أمر فى محله اللائق من دون زيادة ونقصان هو الصراط المستقيم والعدل المأمور به، وهذه القاعدة عامة بكل شؤون الإنسان مما هو في داخل نفسه، ومما هو خارج عنه يرتبط به من تدبير منزله والمعاشرة مع أهله وجيرانه والمعاملة مع الناس كافة، ورعاية العدالة في الأمور يحتاج إلى علم واسع ودقة نظر عميق، فإذا كان الإنسان جاهلاً لا يقدر على

ص: 168


1- نهج البلاغة: ص 479: رقم 70: مصدر سابق
2- المصدر السابق - ص 510: رقم 235
3- الخوئي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21 ص 104
4- المصدر السابق

رعاية العدالة والإستقامة في الأمور، فيتجاوز الحد فيكون مفرطا أو يقف دونه فيكون مفرّطاً ومقصراً» (1).

القلوب الوحشية

«قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه» (2).

«أي متباعدة بعضها من بعض من الوحشة التي هي عدم الأنس ... والوحشة بين الناس الإنقطاع وبعد القلوب عن المودات» (3).

«أمير المؤمنين علیه السلام جعل أصل طبيعة القلوب التوحش، وإنما تستمال لأمر خارج وهو التألف والإحسان» (4).

هل في هذا القول مخالفة لقول الفلاسفة من أن الإنسان مدني بطبعه واجتماعي؟ بل يمكن القول «إن الإنسان على وزن فعلان مأخوذ من أنس، والإنسي ضد الوحشي» (5).

وإذا كان الإنسان بطبيعته وحشي أو متوحش فكيف صار مدنياً وإجتماعياً؟ وهل المراد بكلمة «وحشية» هو التوحش الذي هو خلاف التمدن؟ وهل هذا القول يناقض قوله علیه السلام في جوابه للخوارج؟ عندما قالوا «لا حكم الا الله» فأجابهم: «أنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر»

ص: 169


1- المصدر السابق: ص 104 - 105
2- نهج البلاغة: ص477 رقم 50 مصدر سابق
3- الطريحي: مجمع البحرين: ج 477: مصدر سابق
4- إبن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة ج 9 ص 157 مصدر سابق
5- الخوئي - منهاج البراعة، د 21 ص 90، مصدر سابق

الذي يتضمن الإشارة إلى طبيعة التمدن والإجتماع لدى الإنسان التي تقضي وجود حاكم بغض النظر عن صفاته الأخرى.

إذا قلنا بأن المراد من كلمة «وحشية» هو التوحش الذي هو خلاف التمدن فالأمر مشكل، فهذا أمر مخالف لما عليه جمهور الفلاسفة، بل مخالف لما عليه الوجدان أيضاً، ومناقض لكلامه الآخر الذي أجاب به الخوارج، إذاً ما هو المراد الحقيقي لهذه الحكمة؟

نعم، ليس المراد من كلمة وحشية هو التوحش الذي هو خلاف التمدن، لأن الإنسان إبن بيئته، وليست بيئته الغابة التي هي مكان سكن الوحوش وهو السبب في التوحش بل بيئته المجتمع والمدينة والقرية والبادية، وكل هذه بيئة الاجتماع والتمدن وهي التي تجعل الإنسان اجتماعياً ومدنياً فالمراد هو حصول الأنس لكن على المستوى الفردي وليس الاجتماعي، فقوله علیه السلام: «قلوب الرجال وحشية» ناظر إلى علاقة الأفراد بعضهم مع البعض الآخر بما هم أفراد، فإن هذه العلاقات لا تكفيها كون الإنسان مدنياً واجتماعياً، لأن هذه المدنية وهذا الإجتماع منظور إليهما من خلال العلاقات الإجتماعية على المستوى الإجتماعي، حيث هناك مصالح متكافئة ومتبادلة ووجود هذه المصالح التي بسببها يحتاج الإنسان إلى إبن جنسه ولا يمكن الإستغناء عنه، فقد تقف هذه العلاقات على حد هذه المصالح فلا تتجاوزها ولا تتطور إلى ما هو الأهم و الأفضل، وليس المطلوب هو بقاء العلاقات على هذا الحد والمستوى، وإلا فلن يحصل تآلف وألفة بين الأفراد فقوله علیه السلام: «أنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر» ناظر إلى هذه العلاقات القائمة على أساس من هذه

ص: 170

المصالح الذي يساعد على تأمينها بطريقة متكافئة وغير ظالمة وجود الأمير والحاكم، وإلا كانت الفوضى.

فلا بد إذن من أن لا تقف العلاقات الإنسانية على مستوى الأفراد عند حدود تأمين المصالح فقط وفقط، بل لا بد أن تتعداها وتتجاوزها، وهذا يحتاج إلى شروط أخرى تحصل بسببها الألفة والمحبة بين الناس، لذلك نراه علیه السلام يقول: «فمن تألفها أقبلت عليه» والألفة هنا ليست بسبب تأمين هذه المصالح، فهناك أسباب أخرى نستفيدها من مجموعة هذه الروايات.

أولاً: ما رواه الكليني في الكافي بسند صحيح عن حبيب الخثعمي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أفضلكم أحسنكم أخلاقاً الموطؤن أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون و توطأ رحالهم» (1).

ثانياً: ما رواه الكليني أيضا عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (2).

ثالثاً: ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر علیه السلام: «أتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجل فقال: يا رسول الله أوصني فكان مما أوصاه أن قال ألق أخاك بوجه منبسط» (3).

رابعاً: ما رواه الكليني عن أبي عبد الله علیه السلام «قال الراوي قلت: ما حد حسن الخُلق؟ قال: تليّن جانبك وتطيّب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن (4). .

ص: 171


1- الحر العاملي - وسائل الشيعة: ج 12، ص 157، ب 105، ح 1، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث.
2- المصدر السابق، ص 158، ح 2
3- المصدر السابق، ص 160، ح2
4- المصدر السابق، ص 160، ح3.

إذن هذه شروط تآلف القلوب فيما بينها وخروجها عن الإستيحاش، فإذا كانت الروايتين الأولتين قد ذكرتا أنه لابد من التآلف بین الناس والمؤمنين خاصة، فإن الروايتين الأخيرتين ذكرتا كيف يحصل هذا التآلف.

أولا: أن يلقى الإنسان أخاه الإنسان بوجه منبسط تعلوه البسمة، فإن هذه البسمة أو الإبتسامة هي الباب الأول والمدخل الأول لحصول الإلفة والتآلف، فلا يلقاه بوجه عبوس فإن هذه سبب لكون القلوب وحشية لا أنس بينها.

ثانياً: أن يكون لين الجانب متواضعاً، فإن هذا الباب الثاني لحصول الإلفة والأنس بين القلوب، فلا يكون متكبراً مغروراً، يأنف من الكلام مع من يعتبرهم ليسوا بمستواه، فإن هذا سبب آخر للوحشة بين القلوب فلا تألف بعضها بعضاً.

ثالثاً: أن يكون كلامه طيباً عذباً يستعمل العبارات الرقيقة فإن هذا الباب الثالث للأنس والإلفة بين الرجال فلا يستعمل الكلمات القاسية الخالية من التودد والمحبة فإن هذا سبب آخر لوحشة القلوب وعدم الأنس بينهما.

ونختم بقول ابن ميثم البحراني: «من لانت كلمته للخلق، وتمرن لسانه بالملاطفة الحسنة لهم بطيب الكلام والإستجابة منهم وتواضع لهم، فإن طباعهم تميل إليه وتشتاق إلى مصاحبته و مخالطته» (1).

ويقول أيضاً: «التودد سبب للإلفة، والإلفة سبب للمحبة والمحبة 0

ص: 172


1- شرح مئة كلمة ص: 90

سبب لاجتماع القلوب والأبدان» (1).

ويقول في تاج العروس ولسان العرب: «الوحشي من جميع الحيوان، - ليس الإنسان - هو الجانب الذي لا يُحلب منه ولا يُركب والإنسي الجانب الذي يركب منه الراكب ويحلب منه الحالب» (2).

فكأن الأميرعلیه السلام استعمل هذه الكلمة واستعارها للاشارة إلى الجانب الذي تؤتى منه القلوب فلا تكون وحشية وهو الإلفة والتألف.

الظالم والمظلوم

«يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم» (3)

«وإنما كان يوم المظلوم على الظالم أشد من يومه على المظلوم، لأن ذلك اليوم، يوم الجزاء الكلي والإنتقام الأعظم، وقصارى أمر الظالم في الدنيا أن يقتل غيره فيميته ميتة واحدة، ثم لا سبيل له بعد إماتته إلى إن يُدخل عليه ألماً آخر، وأما يوم الجزاء فإنه يوم لا يموت الظالم فيه فيستريح، بل عذابه دائم متجدد نعوذ بالله من سخطه وعقابه» (4).

العلامة الخوئي بعد أن يورد رأي إبن ميثم، وأن المراد بيوم المظلوم هو يوم القيامة «وإنما خصّصه لأنه يوم إنصافه وأخذ حقه»، إعتبر «أن الأولى حمله على يوم المجازاة، فقد يتعجل على الظالم في الدنيا، بل لا

ص: 173


1- المصدر السابق ص 91
2- أنظر الزبيدي: ج 4 ص 362 مكتبة الحياة بيروت ابن منظور: ج 15 ص 237 دار إحياء التراث العربي: بيروت
3- نهج البلاغة: ص:511 رقم 241: مصدر سابق
4- ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة: ج 10: ص 20: مصدر سابق

يخلو الظالم من عقوبة وتلاف في الدنيا قبل العذاب والمجازاة في الآخرة (1).

أقول: كلا المعنيين محتملان، وأمثلة نيل الظالم جزاء أعماله في الدنيا كثيرة لا يسع المجال لذكرها، بل إن الظالم يعجّل الله عليه الجزاء والعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وإلى المعنيين أشار العلامة مغنية بقوله: «أبداً لا مفر للظالم من أخذه بظلمه، إما بيد المظلوم وغيره من الثائرين على الظلم وإما من ظالم مثله، وإما بيد الخالق وهي أشد بأساً وأشد تنكيلاً» (2).

إقبال القلوب وإدبارها

«إن للقلوب شهوة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عميَ» (3).

«إن هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة» (4).

نصيحتان لكيفية التعاطي مع القلب الذي يتقلب من حال إلى حال والحكيم الذي يعرف كيف يتعامل مع هذا القلب، فإن الإكراه على أمر يؤدي إلى موته، لأن عمى القلب هو موته، فلا يعود صالحاً لتقبل الحكمة، وهذا القلب إذا بقي على حال واحد فإنه يمل، فإن بقى على

ص: 174


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21: ص 310 مصدر سابق
2- في ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص 361، مصدر سابق
3- نهج البلاغة: ص 503 رقم 192، مصدر سابق
4- المصدر السابق ص 504 رقم 197

حال العلم فقط فإنه يمل، وكذلك إذا بقى على حال العبادة، وأيضا إذا بقي على الشهوة، فلا بدّ من التعاطي مع هذه الأمور بما لا يدخل الملل إليه وإلا عمي أي مات «وكل إنسان في حاجة إلى جديد ومتعة يشعر معها بنعمة الحياة والدنيا العريضة زاخرة بالطيبات التي أحلها الله لعباده» (1) ويمكن أن تكون الأولى نصيحة لكيفية نصح الآخرين ووعظهم، «فإذا أردت أن يستجيب الإنسان لدعوتك، فادخل إلى نفسه من أبوابها وميولها، ودع الإتجاه المعاكس، وما تحفظه من الحكم والنصائح، فإن الرياح لا ترجع عن إتجاهها وترد إلى الوراء بمجرد الكلام (2).

أما النصيحة الثانية فالمراد بها «أن لا يجعل الإنسان وقته كله مصروفاً إلى الأنظار العقلية والبراهين الكلامية والحكمية بل ينقلها من ذلك أحياناً إلى النظر في الحكمة الخلقية فإنها حكمة لا تحتاج الى إتعاب النفس و الخاطر، وأما ... الدعابة ... إن كثيراً من الحكماء والعلماء كانوا ذوي دعابة مقتصدة لا مسرفة، فإن الإسراف فيها يخرج صاحبه إلى الخلاعة» (3).

ثم إن القلب إذا تعب «وأعيي عجز عن أدراك ما نكلفه إدراكه، لأن فعله هو الإدراك، وكل عضو يتعب فإنه يعجز عن فعله الخاص به، فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به وهو العلم والإدراك فذاك هو عماه» (4) فالمطلوب هو التدرج في تلقي العلوم والأخلاق وتهذيب النفس والتدرج 0

ص: 175


1- محمد جواد مغنية في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 338 مصدر سابق.
2- المصدر السابق ص 335
3- ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة: ج 10: ص 4: مصدر سابق.
4- المصدر السابق ص 30

أسلوب تربوي وعلمي حديث معمول به الآن في المعاهد العلمية والتربوية.

يقول العلامة الخوئي حول النصيحة الأولى: «قد تعرض علیه السلام في هذه الحكمة لأمر مهم في جلب العامة إلى العمل، ونجاتها من البطالة والكسل، وهو أن العمل خصوصاً إذا كان شاقاً ومداوما يحتاج إلى رغبة القلب ونشاطه، فإنه إذا اشتاق الإنسان إلى عمل واشتهاه قلبه يسهل عليه وإن كان شاقا. وقد طبّق الإسلام هذا الأصل على أجزاء دستوراته، فشرّع العبادة على أساس النظافة والطهارة، وعلى الإجتماع والإلفة في كمال الإختصار والإقتصاد، فبنى الإسلام على الجمعة والجماعة وشوّق الناس إليها بهذه السياسة» (1) 67

ص: 176


1- الخوئي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة م 21 ص 267

الوقاية

«توقوا البرد في أوله وتلقوه في آخره، فإنه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار، أوله يحرق وآخره يورق» (1).

«امش بدائك ما مشى بك» (2).

«كم من أكلة منعت أكلات» (3).

ثلاثة نصائح طبية لها علاقة بصحة الانسان التي هي إحدى النعمتين المجهولتين والتي هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى. هذه النصائح لها علاقة في كيفية تعاطي الإنسان مع البرد والداء والأكل.

أما البرد فتوقيه في أوله وتلقيه في آخره، لأن البرد كما أنه يحرق الأشجار بتساقط أوراقها، لأن أوله وهو فصل الخريف «فهو فصل البرودة واليبس المنافيان للنشو وحياة الحيوان والنبات» (4)، بخلاف آخره الذي هو فصل الربيع الذي هو «منبع النمو والنفس النباتية وهما الحرارة والرطوبة» (5)، وفي الربيع تلبس الطبيعة حلتها الجديدة بالخضرة والأزاهير والورود فكأن الطبيعة اكتست ثوب الحياة بعد الموت، كذلك يفعل البرد في الأبدان حيث كان «تأثير الخريف في الأبدان وتوليد الأمراض كالزكام والسعال وغيرها، أكثر من تأثير الربيع» (6) لأن الخريف يفجأ الإنسان

ص: 177


1- نهج البلاغة: ص 491، رقم 128، مصدر سابق
2- المصدر السابق: ص 472، رقم 27
3- المصدر السابق: ص 501، رقم 171
4- ابن ابي الحديد - شرح النهج: ج 9، ص 196، مصدر سابق
5- المصدر السابق
6- المصدر السابق

وهو معتاد للحر بالصيف ... أما المنتقل من الشتاء إلى فصل الربيع، فإنه لا يكاد برد الربيع يؤذيه ذلك الأذى، لأنه قد اعتاد جسمه برد الشتاء فلا يصادف من الربيع إلا ما قد اعتاد ما هو أكثر منه، فلا يظهر لبرد الربيع تأثير في مزاجه» (1).

وقال الخوئي في منهاج البراعة: «المستفاد من هذا الكلام دستور صحي لزمن الإنتقال من حرّ الصيف والخريف إلى برد الشتاء، فالبدن يعتاد الحرارة في طول أيام الحر، فإذا جاء البرد يؤثر فيه ويسبب أمراضاً كثيرة، فیلزم حينئذٍ توقي البرد ودفعه بالوسائل المعدّة لذلك من اللباس والمنزل الدفيء، ولكن بعد مرور الشتاء وحلول فصل الربيع اعتاد البدن البرد واستعد لتحمله فالتعرض له وتلقيه بتخفيف اللباس والخروج إلى البساتين والمنتزهات غير مضرّ بل نافع للبدن موجب لنشاطه وتقويته وتجديد قواه، كما أشار إليه بأنه يورق وينفخ روح الحياة في الأشجار» (2).

أما الداء فلا يجب أن يبادر بسببه مباشرة إلى الطبيب، بل يجب أن يصبر ويتحمل «فربما كان الحادث طارئاً، لا يلبث أن يزول ... ومعنى هذا أن الإمام لا يشير باستعمال الدواء إلا للمضطر الذي لا يجد وسيلة إلى الشفاء إلا به لأن الدواء إن أفاد من جهة أضرّ من جهة ثانية» (3) وإلى هذا أشار الأمير علیه السلام بقوله «ربما كان الدواء داءً» (4) والأطباء في الوقت الحاضر عندما يشخصون الدواء لعلة من العلل، يضمّون إليه بق

ص: 178


1- المصدر السابق.
2- ج 21، ص 195 - 196، مصدر سابق
3- محمد جواد مغنية - في ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص231، مصدر سابق
4- نهج البلاغة: ص 402، مصدر سابق

دواءً» آخر خوفاً من مضاعفات الدواء الأول، الذي وإن داوى العلة التي من أجلها أعطي، إلا أنهم يخافون أن يكون له مضاعفات أخرى في موضع آخر، فيعطون دواءً آخر لكي يمنع تلك المضاعفات، وهذ أمر معروف مشهور يعرفه كل أحد ممن اضطره مرضه لمراجعة الطبيب المختص.

ويحتمل أن يكون قوله السلام: «إمش بدائك ما مشى بك» نصيحة خاصة بتلك الأزمنة «وتلك العصور وفي تلك البيئة، التي كانت صنعة الطب إبتدائية جداً، والأطباء الحذّاق قليلون والمريض عندهم كالة إختبار يجرونه من دواء إلى دواء، ومن معالجة إلى آخرى، حتى يبرأ بمصادفة دواء ناجع» (1).

رأي العلم الحديث

كنت قد عرضت هذه الحِكَم - النصائح - على أحد أهل الإختصاص وهو جناب الدكتور حسين حسين، وما كتبته حولها، فكان رأيه كالتالي:

أولاً: حول الحكمة - النصيحة - الأولى كتب ما يلي أنه من الناحية الطبية وما توصلت إليه الأبحاث والتجارب أنه من المعروف أن للبرد تأثيره السيء على صحة الإنسان، وذلك عن طريقين أساسيين هما:

الأول: التأثير الخارجي على الجسد والجلد، وذلك بسبب إنخفاض درجة حرارة الجسم الخارجية، فإذا كان البرد مفاجئاً وقاسياً يترتب على الجسم أن يتعامل مع هذه الحالة بطريقة طارئة، فيتم تجنيد كل الإمكانيات

ص: 179


1- الخوئي - منهاج البراعة: ج 21، ص 44

من أجل الدفاع عن الجسم، فتبدأ الأعضاء بالعمل، من القلب والكلى والرئتين والكبد والدماغ، من أجل توفير الطاقة الحرارية اللازمة للجسم، هذه الأثناء هنا عدة أعضاء مما ذكرنا يمكن أن تصاب بأمراض مختلفة.

الثاني: عن طريق إستنشاق الهواء البارد وهذا له مفعول أساسي وأكبر للبرد، فإن إنخفاض الحرارة داخل الرئة يؤدي إلى إلتهابات عدة في المجاري الهوائية العليا والداخلية، وهذا ممكن أن يؤدي إلى أمراض وإلتهابات أحياناً مميتة من هنا نستخلص أن «أوله يحرق» أما «آخره يورق» فبعد زوال حالة البرد، فهناك عدة أبحاث أثبتت أنه بعد أي نزلة برد طارئة أو مفتعلة يمكن أن تزيد من مناعة الجسم.

أما الحكمة - النصيحة - الثانية، فلم يوافق جناب الدكتور على القول بأنه لا حاجة إلى مراجعة الطبيب بمجرد الشعور بعارض طارىء، فقد يكون هذا العارض إنذاراً لوجود داء ومرض، وأعطى مثالاً إرتفاع في درجة الحرارة من دون بروز أي سبب ظاهري لها وحتى لو انخفضت هذه الحرارة وعادت إلى طبيعتها، ثم بعد أشهر عادت فارتفعت ومن ثم راجعت الطبيب وبعد إجراء الفحوصات اللازمة تبين وجود مرض مزمن، كسرطان الدم مثلاً أو إلتهابات في الدماغ.

فلذلك قال من الناحية الطبية أفهم القول وأعالجه على عكس ما ذكرتم - يقصد ما نقلته عن البعض كشرح لهذا القول - فيجب التعامل معه مباشرة منذ بدايته وحتى نهايته ومن هنا يجب التوجه إلى الطبيب مباشرة من أجل معالجة الأمر ووضع التشخيص السليم، وهذا ما أثبتته التجارب من إجراء التشخيص المبكر والفحوصات الدورية، وهو عنوان «درهم وقاية

ص: 180

خير من قنطار علاج، لذلك يعتبر الدكتور أن حسين مراجعة الطبيب لمجرد ظهور عوارض مرضية والبكور في العلاج خير من الصبر والتحمل، فقد يؤدي الإنتظار إلى إستعصاء المرض ويطول علاجه، بعد أن كان يمكن أن يكون العلاج أسرع وأسهل.

لذلك يعتبر الدكتور حسين أن للحديث مفهوماً آخر، وهو النظر إلى أن الناحية النفسية وهي أن الإنسان يجب عليه أن يتأقلم مع الداء الذي أصابه، مع ملاحظة أن أي مرض يصيب الإنسان لا يشفى منه نهائياً، بل ما يحصل هو محاصرته والحد من مضاعفاته، فالواجب هو التعايش معه وعدم الإستسلام لليأس والقنوط، بل أن يعيش حياته الطبيعية ما دام قادراً على ذلك، بالإضافة إلى ناحية علمية في الموضوع لا بدّ من ملاحظتها أيضاً، وهي من المعروف أن أي داءٍ له عدة أشكال وعدة عوارض وعدة أسباب، وحتى يزول هذا الداء له عدة طرق علاج، وأثناء عملية العلاج يمكن لأي داء أن يؤدي إلى مضاعفات ويتغير في شكله فيجب علينا أن نتعامل معه ما دام لا يزال يشكل خطراً.

الدكتور عبد الأمير فضل الله بعد أن وافق على بعض ما ذكره الدكتور حسين كان له رأيه في هذه الحكم الطبية الثلاثة.

فقد وافق القول بأن قوله علیه السلام: «إمش بدائك ما مشى بك» لا يعني عدم الذهاب إلى الطبيب نهائياً، بل يمكن الذهاب إلى الطبيب وأخذ العلاج ثم تمشي بدائك، وهناك أمراض لا بد من معالجتها وإلا سببت الموت كالملاريا التي تحتاج إلى علاج ومن ثم تمشي بهذا الداء فلذلك لا تجعل الداء يغلبك، بل واجهه وحاول التغلب عليه أو التأقلم

ص: 181

معه من خلال العلاج التدريجي.

إعتبر الدكتور عبد الأمير أن البرد له إيجابيات وله سلبيات، فالتوقي هو بخصوص السلبيات، وأن ليس الإستنشاق عن طريق الأنف أو الفم هو الطريق الوحيد لدخول الهواء البارد إلى الجوف الذي قد يسبب الأمراض، بل هناك طريق آخر وهو الجلد، فهو طريق لدخول الهواء البارد إلى داخل الجسم، مما يؤدي إلى حصول مضاعفات، لذلك لا بدّ من اللباس الثقيل كوقاية.

ويرى الدكتور عبد الأمير أن الوجع نعمة لأنه يكشف عن وجود المرض، فلو لم يوجد الوجع فإن الإنسان يموت وهو لا يدري لماذا؟ كما أن الحرارة هي مؤشر على وجود مرضٍ ما.

وذكر الدكتور فضل الله أن هناك قاعدة كان قد درّسها لهم أستاذهم في جامعة بوردو، وهو أستاذ في علم الصيدلة وكان إسمه prf dangoumou هذه القاعدة تقول «إن كل دواء خطر».

وعلق الدكتور عبد الأمير على قوله علیه السلام: «كم من أكلة منعت أكلات» أن هناك حديث آخر للأمير علیه السلام: «الأكل نصفه يقيت ونصفه يميت» فلذلك لا بد من تجنب التخمة، لأنها تؤدي إلى الأمراض، والتخمة غير محمودة لا عقلاً ولا شرعاً، لذلك يعتبر الدكتور عبد الأمير أن ليس مراد الأميرة هو أنواع الأكل أو أصنافه، وإنما الإشارة إلى كيفية الأكل وطريقته.

ص: 182

المرأة في نهج البلاغة

اشارة

* تمهيد

* المرأة ... شر؟!

* رأي النساء

* حماية المرأة

* عود على بدء

* الغيرة

* النساء نواقص العقول؟!

* العقل ... الدية

* بين الدية والشهادة

* ميراث النساء اقل؟!

* إيمان النساء اقل

* شرار النساء وخيرهن

ص: 183

ص: 184

تمهيد

لماذا تكلم الأمير علیه السلام عن المرأة بهذه الطريقة التي توحي بأن له موقف سلبي منها؟ وأن نظرته إلى المرأة على أنها مخلوق شرير ناقص العقل، ومما يوحي بأن هذه النظرة بأن هذه النظرة هي نظرة الإسلام أيضاً، فهل لهذا الموقف علاقة بظروف خاصة عاشها الأمير علیه السلام مع المرأة؟ خصوصاً وأن عائشة كانت من الذين حرّضوا الناس للخروج عليه بعد مبايعته بالخلافة، وهل أن الأمير علیه السلام من الذين يبنون مواقفهم السلبية على ما يلاقونه من عنت؟ وتكون لهم مواقف غير واقعية يحكمون على الأشياء من خلال نموذج هنا أو نموذج هناك، ويعممون الحكم الصادر عن هذا النموذج ويصبح حكماً عاماً.

وإذا كانت هذه هي نظرة الأمير علیه السلام للمرأة، فإن من النساء زوجته السيدة الزهراء عليها السلام فهل كان ينظر بهذا المنظار إلى السيدة الزهراء عليها السلام أيضا؟

هل كان الأمير علیه السلام يتعامل مع السيدة الزهراء عليها السلام على أنها مخلوق لا يصدر منه إلا الشر وأنها ناقصة العقل؟

وإن من بين النساء والدته السيدة فاطمة بنت أسد رضوان الله عليها، فهل كان ينظر إليها بهذا المنظار، وأنها مخلوق لا يصدر منها إلا الشر

ص: 185

وأنها ناقصة العقل؟ إذا كان الجواب بالنفي؟ لماذا نظر إلى هاتين المرأتين بمنظار غير المنظار الذي نظر فيه إلى بقية النساء؟

أم أن الأمير علیه السلام لم تكن نظرته إلى المرأة كذلك بل هي مخلوق تام الخلقة من الناحية العقلية والجسدية، وأن هذه الأقوال التي توحي بخلاف ذلك لابد من تأويلها بما يتناسب مع الواقع، حتى لا نقع في مطب إتهام الإسلام والأمير علیه السلام بتهمة التخلف وعدم الواقعية.

لا نعرف على وجه التحديد ما هي المناسبات التي تحدث فيها الأمير علیه السلام عن المرأة، سوى ما في وصيته لولده الحسن علیه السلام حين يقول له في جملة ما أوصاه به: «إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن» والتي لنا معها موقف لاحقاً، وسوى ما وصف فيه حال النساء بعد الإنتهاء من حرب الجمل في البصرة، والتي سوف نأتي على ذكرها بشكل مستقل لاحقاً.

قد يقال إن لموقف عائشة منه ومن خلافته، والذي تُرجم بحرب الجمل «البصرة» التأثير الأكبر في موقفه علیه السلام من المرأة بشكل عام

أجاب العلامة مغنية عن هذا فقال: «إن معارضة عائشة وموقفها من الإمام ليس بأعظم من موقف طلحة والزبير اللذين بايعا، ثم نكثا البيعة وحرّضا عائشة على الخروج، وأركباها الجمل الذي خُلع إسمه على تلك الواقعة، ولا أعظم من موقف معاوية وإبن العاص وغيرهما من القاسطين، ولا أعظم من موقف الخوارج المارقين، ولو صح تفسير رأي الإمام في المرأة بكراهيته لعائشة التي فعلت ما فعلت ... لوجب أن يكون رأيه في الرجل، تماما كرأيه في المرأة، لأن طلحة والزبير ومعاوية وإبن العاص

ص: 186

ومن لف لفهم، فعلوا ما فعلت عائشة وزيادة» (1).

سنحاول في هذا الفصل مقاربة المعنى الحقيقي والواقعي الذي يريده الأمير علیه السلام من مجموع الكلمات التي نطق بها لسانه الشريف حول المرأة، بقدر ما يساعد عليه فهمي القاصر الذي لن يصل بحال إلى فهم الأمير علیه السلام.

المرأة ... شر؟!

«المرأة شرٍّ كلها وشر ما فيها أنه لابدّ منها» (2).

لا ليست المرأة شر، بل هي الخير كل الخير، لأنها جزء من هذه المنظومة الكونية، وهذه المنظومة الكونية أبدعتها يد الخالق الحكيم لمصلحة اقتضت ذلك، فهذه المنظومة فيها الخير كل الخير، فلم يخلق الله تعالى مخلوقاً فيه الشر المحض بل فيه الخير، وإذا كان في مخلوق شر فهو بالنسبة إلينا نحن البشر لأننا نرى الأمور بالمنظار الذي يجر إلينا مصلحة ما وليس فيه ضرر علينا فكل ما لا يجر إلينا المصلحة وكل ما يسبب ضرراً ما لنا، فهو الشر، فالشر إذن أمر نسبي، فما نظن أنه شر، من جهة فيه الخير قد نشعر به وقد لا نشعر به. والمرأة خلقها الله تعالى لتكون وعاء الوجود البشري، ولتكون أحد أسباب استمرار هذا الوجود، فهل هناك أعظم من هذا الخير؟

نعم، المرأة شر، بل هي كل الشر، إذا أرادت أن تستعمل طبيعة الشر الكامنة فيها، لمصالحها الخاصة وأهوائها الشخصية، وهذه الطبيعة

ص: 187


1- فى ظلال نهج البلاغه: ج 1 - ص374، مصدر سابق
2- نهج البلاغة: ص 510: رقم 238 مصدر سابق

لیست في المرأة حصراً. بل هي في الرجل أيضا، فهو كل الشر، إذا استعمل هذه الطبيعة للوصول إلى أهدافه بشتى السبل، فالمرأة والرجل إذن هما الإنسان الذي يحمل طبيعة الشر كما يحمل طبيعة الخير، يمكنه هذا الإنسان أن يكون شراً كله، ويمكنه أن يكون خيراً كله، إذا بقيت نوازع الشر كامنة غير ظاهرة لا تحركه بالإتجاه الذي تريده، أما إذا انعكس الأمر وبقيت نوازع الخير هي الكامنة وكانت نوازع الشرهي الظاهرة، والمحرّكة للإنسان رجلاً كان أم امرأة فكان الشر كله.

فالأمير علیه السلام في مقام الحديث عن جانب من جوانب الإنسانية في المرأة كإنسان وهو النزوع نحو الشر، وهذا النزوع موجود في الرجل، فإثبات الأمر للمرأة لا ينفيه عن الرجل، كما يقال في القاعدة الأصولية «أن اللقب لا مفهوم له» أو في القاعدة الفلسفية «إن إثبات شيء لشيء لا ينفي ما عداه». ويمكن الإستدلال على ما ذكرنا بدليلين.

الأول: إن الأمير علیه السلام في موضع آخر يمتدح بعض الخصال التي يمكن أن تتصف بها المرأة ويعتبرها خصال خير، بل هي أفضل ما يمكن أن تتصف بها المرأة من خصال، مع أن نفس هذه الخصال هي خصال شر عند الرجل بل هي أسوأ ما يمكن أن يتصف بها الرجل من خصال والخصال المقصودة هي خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو والجبن والبخل. فإذا كانت المرأة مزهوّة لم تمكّن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها واذا كانت جبانة فرقت من كل شيء يعرض لها (1). 0

ص: 188


1- نهج البلاغة: 509 - 510

فهذا الكلام صريح بأن المرأة فيها خصال الخير والنزوع نحو الخير، وأن الرجل فيه خصال الشر والنزوع نحو الشر، بسبب ما ذكرناه سابقاً من أن كلاً منهما إنسان فيه نوازع الخير ونوازع الشر، ولو كان مراد الأمير علیه السلام من قوله: «المرأة شر كلها» أنها لا تملك أي خصال الخير، أو أنها لا تملك الإستعداد لهذه الخصال لما صح منه علیه السلام أن يمتدح فيها بعض الخصال التي يمكن أن تمتلكها و التي اعتبرها أفضل الخصال، فيكون مراده من قوله: «المراً شر كلها» هو أنها كذلك إذا أماتت في نفسها كل خصال الخير وكل نزوع الى الخير، كما أن الرجل كذلك.

يقول العلامة مغنية حول فقرة «خيار خصال النساء شرار خصال الرجال»: والزهو الذي يقبح في الرجال ويُذم هو ممدوح وحسن في النساء، وأنه حصن لعفافها كما قال الإمام علیه السلام و به أوصى القرآن الكريم الآية 32 من سورة الأحزاب (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) (1) أما بخل المرأة فهو كرم وسخاء على الزوج والأولاد. وكان أستاذنا طيب الله ثراه وأرضاه يقول: تستطيع المرأة الفقيرة التي لا تملك شيئاً من المال أن تعين الزوج بمالها ... قلنا له: كيف يا أستاذ؟ وأنى

لفاقد الشيء أن يعطيه؟ قال: تصبر ولا تضايقه بكثرة الطلب، وتحرص على القليل وتشح به إلا لضرورة (2). .

ص: 189


1- الأحزاب: الآية 32.
2- في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 357 مصدر سابق.

الثاني: ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾) (1) ففي هذا دلالة صريحة على أن النفس البشرية - رجلاً كان أم إمرأة - فيها نزوع نحو الشر ونزوع نحو الخير، ولا يُعقل أن الأمير علیه السلام يتفوه بكلمة مخالفة للنص القرآني. ويقول أن «المرأة شر كلها» ويكون مراده أنه ليس فيها الخير أو النزوع الى الخير أو لا يمكن أن يصدر منها الخير، فإن هذا لا يمكن الركون اليه، ويُجلُّ عنه الإنسان المؤمن العادي فكيف برجل كأمير المؤمنين علیه السلام فلا يمكن إلا القول بأن مراده ما أسلفناه في مقدمة هذا العنوان من أنها إذا أعملت نوازع الشر عندها فلن يصدر عنها إلا الشر. أما إذا أعملت نوازع الخير فلن يصدر عنها إلا الخير، كما أن الرجل كذلك، وكونها وشر ما فيها أنه لا بد منها فلحاجة الرجل الجنسية إليها، فإن المرأة وإن غلبت عليها نوازع الشر، واستعملت خصال الشر لتحقيق مآربها ومصالحها، فإنها تبقى حاجة للرجل لتحقيق رغباته الجنسية والتناسل، صحيح أن هذه الحاجة للجنس والتناسل موجودة عند المرأة كذلك إلا أن العادة جرت أن الذي يطلب تلبية هذه الحاجة وتحقيقها هو الرجل عبر الزواج أو غيره، ومن النادر جداً إن لم نقل أنه أمر معدوم أن تطلب المرأة حاجتها تلك من الرجل، فلعل كلام الامير علیه السلام ناظر الى هذه الخصوصية في لا بدية وجود المرأة والله العالم بحقائق الأمور. .

ص: 190


1- الايتين 7 - 8 من سورة الشمس.

ومن خلال ما تقدم يتضح معنى قوله علیه السلام المرأة عقرب حلوة اللسبة (1) واللسبة اللسعة - لسبته العقرب بفتح السين لسعته (2).

يقول العلامة مغنية حول هذه العبارة: «وشبّهها الإمام علیه السلام بالعقرب لأنها تسرع الى الغضب على الرجل، وتجحد معروفه لأمر تافه، وقد تؤذيه

بكلمة موجعة وحركة نابية بلا سبب موجب ومعقول، فأوصاه الإمام علیه السلام بأن يصبر عليها ويتحملها على عِلاتّها، لأنها مهما تكن فهي أخف وخير من العقرب التي لا يمكن معها العيش بحال» (3).

رأي النساء:

«وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفْنٍ (4)، وعزمهن إلى وهن (5) واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن وإن استطعت ألّا يعرفن غيرك فافعل، ولا تُملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة. ولا تعدُ بكرامتها نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها، وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك

ص: 191


1- نهج البلاغة: ص 479: رقم 61 مصدر سابق، وفي شرح النهج لابن أبي الحديد اللسبة بالكسر: أنظر ج 9 ص 162 مصدر سابق
2- فهرس الالفاظ الغريبة المشروحة الملحق بنهج البلاغة: ص 713 مصدر سابق
3- في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 252 مصدر سابق
4- الأفن: بالسكون: النقص صبحي الصالح: فهرس الألفاظ الغريبة المشروحة الملحق بنهج البلاغة ص 687 - وابن منظور لسان العرب: ج 1 ص 167 دار إحياء التراث العربي بيروت
5- الوهن: الضعف انظر المصدر: ص 687 وفي لسان العرب، الوهن الضعف في العمل والأمر وكذلك في العظم ونحوه ج 15 ص 417

يدعو الصحيحة إلى السَّقم، والبريئة إلى الرّيب» (1).

يقول العلامة مغنية تعليقاً على هذة الفقرة «فأي إنسان جمع في مشورته بين الوعي والإخلاص يصح الأخذ بها والإعتماد عليها رجلاً أو إمرأة، ومتى انتفى هذان سقطت المشورة عن الإعتبار وإن كان المشير رجلاً، أما نهي علي علیه السلام عن مشورة النساء فيُحمل على مشورة الجاهلية، وكان أكثر النساء آنذاك في معزل عن العلم وتجارب الحياة، ولاذنب للمرأة في ذلك إذا قصّر الرجل في تربيتها مع العلم بأنها من طينة الرجل، وطبيعتها واحدة ويشتركان في المسؤولية على قدم المساواة (واكفف عليهن من ابصارهن الخ) ... يشير إلى الآية 31 من سورة النور (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ) ... فإن «المرأة ريحانة» للرقة والحنان والدعة والإطمئنان «وليست بقهرمانة» تتصرف في ما يخص الرجل نيابة عنه «ولا تعدُ بكرامتها نفسها» كرامة المرأة أن تبقى إمرأة، وأن تضع نفسها حيث وضعتها الطبيعة، «وإياك والتغاير في غير موضعه» لك أن تغار على المرأة بصيانتها من التبرج ومخالطة المشبوهين، أما الغيرة برجم الظنون فإنها تشجّع المرأة السقيمة على الخيانة، وتغري البريئة بها، وتقول في نفسها: كنت أحرص على ثقته بأمانتي وعفافي، أما وقد أصبحت عنده في مكان الريب فلم يبق ما أحرص عليه (2).

ولا بد من الإشارة إلى أن الفقرة السابقة هي جزء من مجموعة وصايا

كتبها الأمير علیه السلام لولده الحسن علیه السلام عند منصرفه من صفين كما ذكر ق

ص: 192


1- نهج البلاغة: ص 405، مصدر السابق
2- في ظلال نهج البلاغة: ج 3 ص 531: مصدر السابق

الشريف الرضي (1)، و الفقرة محل الكلام هي في كيفية التعاطي مع المرأة بطريقة متوازنة وعقلانية فهو علیه السلام يوحي بالإمتناع عن مشورتها ثم بمنعها من مجموعة أمور هذا من جهة، ومن جهة أخرى يوحي بالرأفة والرحمة بها فهي ريحانة وليست قهرمانة.

ماذا يريد الأمير علیه السلام أن يقول عن المرأة؟ وهل هذه الوصايا تخص الإمام علیه السلام؟ كونه سوف يحمل في المستقبل مسؤولية الأمة كونه الإمام المعصوم، والمفترض الطاعة بعد والده الأمير علیه السلام ولذلك لابد أن تُعطى له هذه الوصايا، حتى يكون متوازناً في علاقته بالمرأة التي هي زوجته بطبيعة الحال، فلا يجعلها شريكة له في هذه المسؤولية لعدم حاجته إليها. وهل أن هذه الوصايا خاصة بنساء ذلك الزمان؟ حيث أن ثقافتهم كانت في ذلك الوقت محدودة، كما أشار إلى ذلك العلامة مغنية وذكرناه سابقا، بالإضافة إلى أن المسؤوليات كانت محدودة جدا، قد يستطيع الرجل بسببها الإستغناء عن مشورة المرأة خصوصا في شؤون الحكم والمسؤوليات العامة.

أم أن هذه الوصايا وإن خوطب بها الإمام الحسن علیه السلام فهي ليست خاصة به؟ وإن كانت تعنيه أولاً بالذات فهي تعني كل رجل سواء كان في موقع المسؤولية أم لا.

والملفت في الأمر أن الأمير علیه السلام يمنع من مجرد المشورة، لا أنه يطلب المشورة ومن ثم إرجاع الأمر إلى الرجل، وهذا ما يرجّح أن بعض فقرات هذا الوصية الخاصة بأمر النساء هي ناظرة إلى الرجل من خلال .

ص: 193


1- نهج البلاغة ص 391، مصدر سابق.

موقع المسؤولية العامة الذي يمكن أن يحتله كالإمام الحسن علیه السلام أو غيره من الرجال وما يؤكد هذا الذي أرجّحه فقرة «ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها» وهذه لنا معها محطة خاصة، وإلا فان الرجل لن يعدم الحوار والنقاش مع زوجته في المنزل حول شؤون المنزل والأولاد، ولن تبقى المرأة الزوجة ساكتة لا تتكلم ولن يستطيع الرجل أن يمنعها من الكلام، ثم إن المرأة من الطبيعي أن يكون لها الدور، وهو الأساس في تربية الأولاد وإدارة شؤون المنزل من الداخل فلا يعقل منعها من التدخل في شؤون المنزل أو وضع لمساتها على هذا المنزل، وإلا نكون قد منعناها من أبسط حقوقها فلا يعقل أن يكون مراد الأمير علیه السلام هذا الأمر.

وحتى يتضح أكثر ما رجّحته لا بد من الوقوف على قوله علیه السلام: «فإن رأيهن الى أفن، وعزمهن إلى وهن»، إن النقص فى الرأي عند النساء ليس سببه النقص العقلي الذي يمكن أن يدّعيه البعض بالنسبة للمرأة، فليس مراد الأمير القول أن النقص في رأي النساء عائد الى النقص في عقولهن، فلا يريد الأمير علیه السلام القول أنهن ناقصات العقول لذلك كنا ناقصات الآراء، فإن ضم العبارة الثانية وهي قوله «وعزمهن إلى وهن» يصبح لدينا هذه المعادلة، أن هناك خاصية ميّز الله بها النساء وهي العاطفة الجياشة التي تمتلكها المرأة بما يزيد عن العاطفة الموجودة عند الرجل، فهي كالرجل في الناحية العقلية كاملة وتامة والرجل كالمرأة يملك العاطفة، إلا أن العاطفة عند المرأة تأتي بطريقة أزيد وأسرع مما عند الرجل، وهذا يجعلها ضعيفة أمام مشاغل الحياة المتعددة والمتكررة والمتشعبة خصوصاً فيما يتعلق بالشأن العام على مستوى الحكم، فإن إدارة شؤون البلاد تحتاج إلى قرارات

ص: 194

صعبة ومصيرية كإعلان الحرب مثلاً أو المشاركة فيها، لذلك نجد أن الشريعة المقدسة رخّصت للمرأة عدم المشاركة في الحرب فعلياً وعدم حمل السلاح والقتال، لأن هذا يحتاج إلى إرادة صلبة لا تنهار سريعا، والعاطفة عند المرأة ليست نقصاً في عقلها، بل هي حاجة تكوينية للرجل قبل أن تكون للمرأة نفسها، أو بالأحرى هي حاجة إنسانية لولاها لما عمر الكون، فبعاطفة المرأة يتربى الإنسان طفلاً ويافعاً حتى يصبح رجلاً، وبعاطفتها يتحول الرجل إلى إنسان ذي مسؤولية لأنه يعلم أن هناك من يحتاج إليه.

أما قوله علیه السلام: «ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها».

فهو تعبير آخر عن القوامة التي أعطاها الله تعالى للرجل. من خلال قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (1)، هذه القوامة التي تعني أن الرجل هو المسؤول والمدير لشؤون المنزل الزوجي والقوامة لا تعني التسلط والإستبداد والقهر والغلبة كأن الرجل ملك أو مستبد تجب طاعته من دون جدل أو نقاش، بل إن القوامة تعني «تنظيم البيت الزوجي و إدارته، وهو دور لا يحتمل أن يتولى قيادته أكثر من شخص واحد. وإذا كانت مسألة الإدارة إختراقاً لإنسانية الإنسان، لكان علينا رفض كل المواقع التي يكون فيها المدير المسؤول أولاً ويكون الآخرون تحت سلطته» (2).

ومن الطبيعى أن تكون القوامة للرجل، أليس هو الذي يطلب عادة من المرأة أن تشاركه حياته في تكوين الأسره وتربية الأولاد ثمرة زواجهما ت

ص: 195


1- النساء: الآية 34
2- دنيا المرأة: ص 98، دار الملاك - بيروت

وحياتهما المشتركة؟ على أن يتكفل هو بتأمين أسباب العيش الكريم والراحة التامه «لها ولأولادهما من خلال الإنفاق عليها وعلى أولادهما، من دون أن يحمّلها مسؤولية ذلك، حتى تتفرغ هي بالمقابل لتأمين الراحة والسعادة داخل البيت له ولأولادهما أيضاً، وبذلك يتكامل دورهما وتصبح الحياة ذات قيمة خاصة، وذات طعم خاص، وذات لون خاص بعيدة عن الفوضى والمزاجية، فالإسلام لا يريد فقط المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، بل يريد التكامل بينهما بأن يأخذ كل منهما دوره المحدد له.

وليس هذا فقط بل إن الرجل عندما يطلب من المرأة أن تشاركة حياته يتعهد بدفع المهر لها، وهذا ما شرّعه الإسلام حفظاً لكرامة المرأة أمام نفسها وأمام من تقدّم لها طلباً للزواج، وليس هناك بديل عن ذلك، صحيح أن ما تقدمه المرأة للرجل وقبولها بمشاركته حياته واهبة حياتها له ولأولاده متخلية عن كثير من خصوصياتها في سبيل سعادة البيت الزوجي، صحيح أن كل هذا لا يُقدّر بثمن، لكن يبقى إعطاءها المهر مقابل هذا أفضل من لاشيء، لأننا بذلك نضمن أن الرجل يحترم المرأة عندما يجد نفسه أنه ملزم بدفع المهر لها، أما إذا لم يدفع لها شيئاً واكتفى بالإنفاق عليها، فلا ضمانة لها في هذه الحياة الجديدة واستمرارها لأنه بذلك يستطيع الرجل أن يستبدل المرأة بغيرها متى شاء ولأي سبب مهما كان تافهاً، فتصبح المرأة في هذ الحالة في مهب ريح مزاجية الرجل بلا رادع أو ضابط.

وعلى هذا لا يصح قول البعض إن المهر هو البديل الذي ارتضاه الشارع للمرأة حتى تكشف عورتها أمام زوجها (1).16

ص: 196


1- محمد توفيق المقداد: فلسفة المهر في عقد الزواج: نشرة اللقاء العلمائي: ص 16

لأن كشف العورة ليس مطلوباً لذاته، بل هو من مستلزمات العلاقة الزوجية الخاصة، فلا يصح إعتباره جزءً مستقلاً أو هدفاً مستقلاً من أهداف المهر، ولا يصح أيضاً إستدلال هذا البعض على قوله بالآية الكريمة: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿٢٠﴾ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿٢١﴾) (1).

إذن لا تريد الآية الإشارة إلى كشف العورة بكلمة «أفضى» كعمل مستقل، وهذا البعض اعترف بأن المراد بالإفضاء هو الإتصال بالمماسة، كما نقل عن تفسير الميزان، فأحد أهم الأهداف من الزواج - والذي يستلزم دفع المهر - هو العلاقة الجنسية التي تستلزم كشف العورة، فليس كشف العورة هدفاً مستقلاً - يُجعل في مقابلة المهر فليس هو هدف الرجل وليس هو هدف المرأة، وإلّا هل تقبل إمرأة أن يُبذل لها مال بعنوان مهر حتى تكشف عورتها فقط؟ وهل يقبل الرجل أن يبذل للمرأة مالاً بعنوان مهر حتى يرى عورتها فقط؟

ولا يعني قول الأمير علیه السلام لولده الحسن علیه السلام: «ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها» منع المرأة من مزاولة أي عمل أو نشاط حتى خارج المنزل، ألم تخرج السيدة الزهراء عليها السلام إلى مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وتلقي خطبتها المشهورة والمعروفة على مسمع وحضور جميع المسلمين وبعلم الأمير علیه السلام نفسه؟ ألم تكن النسوة يخرجن مع المسلمين في حروبهم المداواة الجرحى وصنع الطعام وخياطة الثياب على مرأى وبعلم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ 1

ص: 197


1- النساء: اية 20 - 21

وللعلامة الطباطبائي كلام لطيف حول قيمومة الرجال على النساء جدير بالذكر ويساعد على توضيح كلام الأمير علیه السلام يقول العلامة الطباطبائي: «إن قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع، إنما تتعلق بالجهات العامة المرتبطة بزيادة تعقل الرجال وشدته في البأس، وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب، ومن غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الإستقلال في الإدارة الفردية، بأن تريد ما أحبت وتفعل ما شاءت، من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شيء من ذلك في غير المنكر، (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) (1)، كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنْفذ للمرأة فيما تملكه إرادة ولا تصرف، ولا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والإجتماعية والدفاع عنها والتوسل اليها بالمقدمات الموصلة اليها» (2)

ويقول في موضع آخر، بعد أن يبين الأهمية التي أولاها القرآن والشريعة للعقل وقوة التعقل، مع عدم إهمال جانب العواطف الحسنة الطاهرة، واستدل على ذلك بتشريعات تحفظ جانب العقل، من حرمة شرب الخمر والقمار وحرمة الكذب يقول بعد كل هذا «والباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يُفوّض زمام الأمور الكلية والجهات العامة الإجتماعية التي ينبغي أن تديرها قوة التعقل، ويجتنب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب إلى من يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف وهو قبيل الرجال 4

ص: 198


1- البقرة الآية 240
2- الميزان في تفسير القرآن: م 4 ص 344

دون النساء» (1).

ويضيف العلامة الطباطبائي: «وأما غيرها من الجهات كجهات التعليم والتعلم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنّة ذلك، والسيرة النبوية تمضي كثيرا منها، والكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن، فإن ذلك لازم ما أعطين من حرية الإرادة والعمل في شؤون الحياة، إذ لا معنى لإخراجهن من تحت ولاية الرجال، وجعل الملك لهن بحيالهن، ثم النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته أيديهن بأي نحو من الإصلاح، وكذلك لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا» (2).

أقول، ليس مراد العلامة الطباطبائي بقوله: «يمتاز بمزيد العقل» أو قوله: «بزيادة تعقل الرجل» القول أن عقل الرجل أزيد من عقل المرأة أو أن عقل المرأة في نقص أو أنقص من عقل الرجل، بل مراده أن للرجل القدرة على التحكم بعواطفه أكثر من المرأة وأن العاطفة عند المرأة أزيد من عند الرجل كما أوضحنا سابقا.

وكل ما تقدم لا ينفي وجود بعض النساء لديهن مزيد تعقل وقدرة على التحكم بعواطفهن وبالتالي القدرة على العمل في الجهات العامة على مستوى المجتمع ككل، والقرآن الكريم أعطى مثالاً له ملكة سبأ، والتاريخ أيضاً حافل بهذا النوع من النساء، إنما كان ذلك في إطار محدود جداً لا 7

ص: 199


1- المصدر السابق ص 346 - 347
2- المصدر السابق: ص 347

يجاوز عدد أصابع اليد الواحدة في كل حقبة زمنية تاريخية، وإنما الأعم الأغلب من النساء والطبيعة التكونية للمرأة، تجعلها تحت سيطرة عواطفها وميولها النفسية الخاصة مما يجعلها تضعف في الأمور المصيرية والدقيقة، التي تحتاج إلى رباطة جأش وقوة بأس وتجنب الإنصياع وراء العواطف والأهواء.

كما أن ما تقدم لا ينفي وجود رجال ينصاعون وراء عواطفهم ويقعون تحت تأثير ميولهم وأهواءهم النفسية ويضعفون أمام الأمور المصيرية والدقيقة، إلا أن الأعم الأغلب في الرجال والطبيعة التكوينية للرجل على خلاف ذلك.

والعلم الحديث اثبت أن هناك اضطرابات نفسية وعصبية تحدث للمرأة وتبدأ قبل ايام عدة قد تمتد إلى ما قبل اثني عشر يوما من بداية الحيض، وهناك اضطرابات جسدية من مثل الصداع والآم الظهر وأسفل البطن، فقد جاء في مقالة علمية في مجلة الرياض «ان هناك العديد من الاعراض التي تحدث اثناء هذه الفترة وهي الصداع ... واضطرابات نفسية حيث يحدث اكتئاباً وتغيراً في المزاج والشعور بالتعب بشكل عام، وضعف في التركيز» (1).

وفي مقالة تحت عنوان «تناذر ما قبل الطمث» جاء فيها «من المعروف ان هذه الاعراض تشغل النساء في كل العالم لانها غالباً ما تكون حادةً، وحتى قد تعيق بعضهن عن العمل كالصداع النصفي أو الشقيقة ... ه

ص: 200


1- العدد 13218 السنة الحادية والاربعين: 1 ايلول 2004 م: 16 رجب 1425 ه

والتوتر النفسي الذي يشاهد بنسبة 100صلی الله علیه و آله و سلم تقريبا خلال هذه الفترة والذي يترجم بسرعة الانفعال، وحتى قد يتظاهر باعراض عصبية اخرى ... من التغير في المزاج، النرفزة، إلى فتور الهمة إلى حد الكآبة احياناً، الأرق الليلي (1).

فهذا يعني أن هناك حالة من التوتر والانفعال تعيشها المرأة كل شهر تمنعها من مزاولة نشاطها خصوصاً الذهني بشكل طبيعي، فلماذا يحملها فوق طاقتها ونعطل الحياة العامة بسبب من هذه الحالة النفسية، أو على الاقل تجعل الأمور تسير بشكل غير طبيعي، مما يؤثر على القرارات المصيرية التي يمكن اتخاذها، الا ينسجم كلام أمير المؤمنين علیه السلام حول المرأة في ما يخص الشؤون العامة مع وضع المرأة النفسي والذهني؟ اليس هذا اراحة للمرأة من ان تحمل ما لا طاقة لها به؟

ولا ينتهي الأمر عند سن اليأس، (وتأتي مرحلة سن اليأس في نهاية

المطاف وهي بالكاد تكون تغييراً مفرحاً، يهبط معدل الهورمونات وبسبب النقص في الاستروجين تضعف الذاكرة) (2).

والامر له علاقة بالاولويات عند المرأة، فقد (طلب من مجموعة من النساء والرجال، ان يختاروا، فى اطار دراسة حديثة، كلمات من لائحة كاملة، تعبر برأيهم عن القيم التي يعتمدونها في حياتهم أو التي يتمنون أن يعتمدوها وقد وقع اختيار الرجال على الكلمات التالية مرتبة حسب اهميتها ر

ص: 201


1- مجلة الغذاء الصحي: السنة السابعة عدد ايار 2005 ص 90 - 91
2- الين ولير: الرجل والمرأة اسرار لم تنشر بعد ص 85 ترجمة فادي عبدوش وعبير منذر: دار الفراشة طريق المطار سنتر زعرور

بنظرهم: الجرأة السيطرة السلطة الاعجاب الطرق العلمية. اما النساء فاخترن الكلمات التالية: الكرم، الانجذاب العطاء، الدفء، العاطفة) (1).

وياتي في هذا السياق (بعض الدراسات التي أُجريت في الولايات

المتحدة الامريكية واستراليا وفرنسا وايطاليا ... عندما سُئل الرجال والنساء الخاضعون للإستفتاء عن الأولويات الأهم في الحياة، اجابوا على النحو التالي: اعلن 87 % من الرجال أن الحياة المهنية تحتل المرتبة الثانية بعد الحياة الجنسية. وعلى خط موازٍ 5 % فقط من النساء ذكر العمل كأولوية في حياتهن) (2).

العلامة شمس الدین (ره) رتب نتيجتين مختلفتين على مقدمتين مختلفتين مع احدى المقدميتين تصلح لكلا النتيجتين، فهو بعد ان اعترف بان اهتمامات المرأة غالباً ما تكون في خصوص حياتها العائلية وشؤونها الخاصة وقلما تعيش الاحداث والمنازعات والاتفاقات على نحو تكون قادرة على ضبط وقائعها ووعيها (3).

وحيث ان الشهادة - كما دلت عليه النصوص الشرعية، وحققه الفقهاء - لا بد ان تكون عن حس في جملتها وفي جميع تفاصيلها (4) والمرأة وان عايشت حدثاً على هذا النحو فان اهتمامات حياتها اليومية ومشاغلها الاساسية في منزلها واسرتها وعلاقاتها الخاصة، اضافة إلى مزاجها الخاص ق

ص: 202


1- المصدر السابق ص 120
2- المصدر السابق: ص 193: 194
3- اهلية المرأة لتولي السلطة:ص 20: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر
4- المصدر السابق

تؤثر بالتأكيد على ذاكرتها ووعيها للوقائع والتفاصيل في موضوع الشهادة (1) وهذا المزاج الخاص الذي عليه المرأة شرحه في موضع آخر من الكتاب بقوله: «فان التكوين النفسي والعاطفي للمرأة يجعلها شديدة التأثر بالمثيرات العاطفية والنفسية سريعة الاستجابة لما تقتضيه هذه المثيرات من ردود افعال سلبية أو اجابية» (2).

وهو قد رتب على كل ما تقدم قضية ان شهادة المرأة منفردة لا تقبل كثير من القضايا المتنازع فيها وعليها وانه لا بد من امرأتين، ولماذا كان الطلاق بيد الرجل وليس المرأة، وعند مناقشته لاحدى الروايات التي استدل بها البعض لعدم اهلية المرأة لتولي مسؤولية الحكم ورئاسة الدولة، رد هذا الرواية وغيرها بقوله ان لسان هذه الروايات ليس نفي الاهلية والصلاحية بل الاعفاء من المشقة وعدم الالزام بتحمل المسؤولية (3).

لا أريد أن أناقش في أهليه أو عدم أهليه المرأة لتولي الحكم ورئاسة الدولة، فقط أريد أن أثير بعض التساؤلات المستوحاة من مجموع هذه النصوص التي تعفي المرأة من مجموعة من المسؤوليات ولتكن من باب الامتنان والاعفاء من المشقة.

وإذا كانت المرأة بسبب من مزاجها الخاص الذي يجعلها سريعة الانفعال والتاثر بالاحداث المحيطة بها سلباً كان الانفعال أو ايجاباً هو السبب في عدم الاكتفاء بشهادتها مستقلة وأنها تحتاج إلى امرأة أخرى 88

ص: 203


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق ص 24
3- المصدر السابق ص 88

لتذكرها ولعلها تكون قد نسيت وإذا كانت اهتماماتها المنحصرة بشؤون البيت والعائلة تكون هي السبب في نسيانها، لماذا إذن حصر هذا الأمر بالشهادة؟ ألا تنسحب هذه الاسباب إلى قضية تولي الحكم ورئاسة الدولة اليس في البين اولوية؟ واي مشقة اعظم من مشقة تولي الحكم ورئاسة الدولة؟ فاذا كان ما هو دون الحكم ورئاسة الدولة طلب ان تعفى المرأة من مشقة مسؤولياتها، فهل يصح بعد هذا تعريضها لمشقة الحكم؟

وهي المشقة التي يعجز عنها بعض الرجال ايضاً، فان تولي مسؤولية الحكم وادارة الدولة تحتاج إلى شروط خاصة قد لا تتوفر في بعض الرجال. وهل ينفع كون رئاسة الدولة مقيدة بمجالس الشورى وبالدستور المراعى الاجراء، في التخفيف من مشقة هذه المسؤولية؟ أو التخفيف من الآثار السلبية المترتبة على المزاج الخاص السريع التأثر بالاحداث خصوصاً اذا كانت جساماً تحتاج إلى مزاج معتدل ومتوازن؟

حماية المرأة

إن التوصيات التي جاءت في كلام الأمير علیه السلام في جمل متعددة ضمن الفقرة السابقة محل الكلام من مثل قوله: «واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن، وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل».

ما هو الذي يخافه الأمير علیه السلام على المرأة؟ وما هو الخطر الذي يتهددها حتى يوصي بهذه الوصاية الشديدة؟ وهل يريد الأمير علیه السلام أن يحبس المرأة أو يسجنها في منزلها لا تخرج منه أبداً؟ وهل أن هذه الوصايا

ص: 204

خاصة بالإمام الحسن علیه السلام. لا تتعداه إلى غيره من الرجال؟ أم أن هذه الوصايا خاصة بالزمان الذي قيلت فيه؟ حيث للناس نظرة خاصة للمرأة يتعاملون معها على أساسها، ولا يتورع بعض الرجال من الإعتداء على المرأة إن كانت خارج منزلها ولوحدها أو التحرش بها. أم أن الأمير علیه السلام يريد الإشارة إلى ما ينظر به الرجل إلى المرأة مما يجعلها محط نظره دائماً بما أودعه الله تعالى لحكمة إستمرار الخلق والتكوين من الإنجذاب لها؟ فكأن الأمير علیه السلام يريد من هذه الوصايا حماية المرأة من الرجل أن لا يتعرض لها بسوء بسبب إفراطه في إنجذابه نحوها، فلا تخرج أو تكثر من الخروج حتى لا تصاب بأذى من طرف الرجل، وليس من الضروري الأذى الجسدي بالإعتداء عليها والتحرش بها بل بالنظرة المريبة أو الملاحقة، خصوصاً في زمان صدور هذه الوصايا، ولا يعني هذا أن هذه الوصايا خاصة بزمان صدورها، لأن الرجل لم تتغير نظرته تلك للمرأة، ولا يعني هذا أيضاً أن الأمير علیه السلام يوصي بعدم خروجها مطلقا، خصوصاً في زماننا هذا حيث هناك الكثير من الأمور التي تلزم المرأة من الخروج من منزلها، هنا تأتي أهمية الحجاب أو الستر أو اللباس الشرعي، الذي يحجب جسد المرأة عن أنظار الرجال المفرطين في الإنجذاب، إذ ما زال الخوف على المرأة من الرجال حتى بالنظرة المريبة قائماً فحجابها حماية لها إذا اضطرت للخروج من المنزل من هنا قد نفهم التشدّد الصادر من الأمير علیه السلام حول خروج المرأة من المنزل، إذ في زمانه المرأة عرضة لأذية الرجال أكثر من أي زمان لاحق.

ومما يؤكد إرادة حماية المرأة في هذه الوصايا قوله علیه السلام: «وليس

ص: 205

خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن» إنها حماية من نوع خاص من الرجال، ممن أفرط في إنجذابه للمرأة، فخروجها يعرضها

للخطر من هذا النوع من الرجال، كما أنه علیه السلام يوصي بعدم دخول هذا

النوع من الرجال عليهن. حتى وإن كن محجبات مستورات، فكلا الحالتين خطر وواجب على الرجل السوي والغيور حمايتها منه.

ومما يشير إلى إرادة الحماية في هذه الوصايا قوله علیه السلام: «المرأة ريحانة وليست قهرمانة» لا يمكن أن نجد أفضل وأجمل من هذا الوصف للمرأة، نعم المرأة وردة جميلة تفوح رائحتها العطرة في بستان البيت والمجتمع، وهذه الوردة تحتاج إلى رعاية وحماية حتى تبقى هذه الرائحة وهذا الجمال قائماً، وهذه الرعاية وهذه الحماية لا تكون إلا بتطبيق هذه الوصايا بما أمكن، حتى لا تذبل هذه الوردة أو يقطفها من لا يعرف قیمتها، وليشم رائحتها للحظات ثم يرميها، وهذه الوردة طرية العود لا تحتمل القسوة، لا قسوة الرجل ولا قسوة الحياة فتحتاج إلى من يعينها ويحميها من هذه القسوة.

ولا تعني هذه الحماية توهين المرأة أو إهدار حقوقها أو الحط من كرامتها، بل إعانتها والوقوف بجانبها أمام المخاطر التي يمكن أن تهددها، حمايتها من الرجل الجاهل والمتسلط والإنتهازي والأناني حمايتها من الرجل الذي لا يرى فيها إلا أداة للمتعة فقط وفقط.

حمايتها من الرجل الذي لا ينظر إلى الجانب الإنساني منها، ويقصر نظره إلى الجانب الأنثوي فقط وفقط.

وهذه الحاجة للحماية لا تقتصر على المرأة لوحدها، بل هي أمر

ص: 206

إنساني يعيش مع الإنسان من أيامه الاولى، وهو ما يمكن تسميته الإحساس بالأمن والأمان، أي الأمن الإجتماعي، فالطفل يحتاج إلى الحماية في كنف والديه ليشعر بالأمن والأمان، وكل فرد من أفراد المجتمع يحتاج إلى الحماية ليشعر بالأمن والأمان ولهذا فإن أفراد المجتمع الإنساني يعيشون في جماعات، فبالإضافة إلى أن هذا شأن الإنسان كونه مدنياً بطبعه، إنما أيضا للإحساس بالأمن والأمان أكثر في عيشه بهذه الطريقة.

والمجتمع ككل يحتاج إلى الحماية ليشعر بالأمن والأمان من أن يختل نظامه الإجتماعي، ولن يحصل هذا إلا بوجود الدولة التي تحافظ على الأمن والإستقرار، والدولة أيضاً تحتاج إلى الحماية لتشعر بالأمن والأمان من أن المجتمع يعطيها الشرعية - لا أقصد الشرعية الدينية من خلال تطبيقه القانون الذي تضعة بعد أن وكلها في هذا الأمر، إذن معادلة الأمن الإجتماعي ومنظومة الحماية الاجتماعية لكل أفراد المجتمع وللمجتمع نفسه حاجة لابد منها، فلماذا نحرم المرأة منها من خلال الدعوة إلى إخراجها من سلطة الرجل؟ فإن هذه الدعوة تحمل في طياتها خطراً على المرأة لايمكن تجاهله ولا يمكن تفاديه لو تحققت، نعم إذا كان المراد من هذه الدعوة هو إعطاء المرأة إستقلالية القرار في شؤونها الخاصة وحياتها من دون إكراه من أي طرف كان حتى والدها أو زوجها، فهذا مطلوب، لكن ما المانع أن يكون بإشراف الرجل وحمايته، إذ أن هذه المرأة إما زوجة أو إبنة أو أخت.

فالمرأة عندما ارتضت لنفسها أن تكون زوجة فمعنى ذلك أنها أصبحت جزءً من كيان يسمى الأسرة، فمن الطبيعي أن لا تتخذ قرارات إذا

ص: 207

كانت تتعلق بالأسرة بمعزل عن رأي الرجل ومشورته، وحتى إذا كانت تتعلق بها خاصة، فمن الطبيعي أن تشاور الرجل لترى إذا كان رأيها صائباً أم لا؟ ليس لأنها لا تستطيع تحديد الرأي الصائب، بل من باب أن تلاقي الآراء والأفكار يعطي قوة ودفعا للرأي الصائب أكثر مما لو لم تحصل المشورة والمشورة حاجة إنسانية في كل المجالات، فإن الإنسان لن يستغني عن مشورة الآخرين وإستمزاج آرائهم في أي موقع كان، فإن المشورة تغني العقل وتجعله أكثر قوة وأشد يقيناً و إطمئناناً.

أما إذا كانت المرأة بنتاً تعيش في كنف أبيها وتحت رعايته وفي حمايته، فمن الطبيعي أن تأخذ رأي أبيها وتشاوره، خصوصاً في القرارات المصيرية كالزواج مثلاً، فهو أكثر منها خبرة في أمور الحياة، كونه عرك الدنيا فعرف كيف يميّز الصالح من الطالح وهى تجربتها في الحياة قليلة إن لم نقل أنها نادرة أو معدومة، وهذا حق أخلاقي للرجل الأب بعد أن قدم الغالي والنفيس في سبيل تربية إبنته وسعادتها، من غير اللائق أن نقول له لا شأن لك في إبنتك ولا حق لك، حتى حق المشورة في الأمور المصيرية نسليه منه ولعل هذا الذي ذكرت يفسر لنا معنى الولاية ولاية الأب على أبناءه ذكوراً وإناثاً، إذ أن هنا جانب أخلاقي لا بد من مراعاته، مع أن حق الولاية بالنسبة للبنت هو في خصوص الزواج، ولا يعني ذلك أن لا حق لها في إختيار الزوج التي تريد والذي تشعر أن سعادتها معه، لكن ما المانع أن يكون ذلك بمشورة الأب ولا يعني هذا أيضا بأن للأب الحق في إجبار إبنته على الزوج الذي لا ترغب فيه ولا تشعر أن سعادتها معه لا ليس للأب الحق في ذلك وولايته تقف عند هذا الحد.

ص: 208

أما إذا كانت المرأة أختاً، نفرض أن أباها متوفى ولا زوج لها، فإنه ليس لأحد الولاية عليها، لا لأخيها ولا لأحد من أقاربها الرجال، فهي في مثل هذه الأحوال ولية أمر نفسها، ومع ذلك ما المانع أن تشاور أقاربها الرجال ممن هو أكبر منها سناً وأكثر تجربة خصوصاً في الأمور المصيرية، وكما أسلفنا فالمشورة أمر إنساني وحاجة لكل إنسان في أي موقع كان.

عود على بدء:

كنا قد ذكرنا سابقاً أن بعض الوصايا التي أوصى بها الأمير علیه السلام ولده الحسن علیه السلام مما له علاقة بالنساء، يمكن أن تكون خاصة بالإمام الحسن علیه السلام بماله من دور قيادي على مستوى الأمة.

هنا فقرتان أخيرتان قد تنحوان هذا المنحى وهما قوله علیه السلام: «ولا تعدُ بكرامتها نفسها ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها».

قد تلجأ بعض النساء للتدخل في بعض الشؤون، خصوصاً إذا كان زوجها له علاقة بالشأن العام فتحاول أن تضع بصماتها في هذا المكان أوذاك، أو تطلب التدخل لمصلحة فلان من الناس خاصة إذا كان من أرحامها، وقد يصل الأمر في بعض الحالات أن تطلب العفو عن فلان، إذا كان مذنباً أو عليه بعض الحقوق يتوجب تأديتها، أو تطلب توظيف بعض الناس من أرحامها أو أقاربها في بعض الوظائف الهامة أو غير الهامة بغض النظر عن كفاءته وقدراته، وقد يتعامل بعض النفعيين والإنتهازيين بهذه الطريقة، فيستغلون وجود إمرأة من أرحامهم وأقاربهم، كزوجة لفلان القيادي ليحصلوا على بعض المنافع والمصالح، لم يكونوا ليحصلوا عليها لولا وجود هذة المرأة أو تلك الزوجة لهذا القيادي أو ذاك.

ص: 209

فالأمير علیه السلام من خلال هاتين الفقرتين يريد القول إن على القيادي واجب، هو أن يجعل زوجته أو أي إمرأة من أرحامه بمنأى عن التدخل في الشأن العام فلا تتدخل فيما لا يعنيها ومجرد كونها زوجة أو قريبة لهذا القيادي أو ذاك لا يعطيها الحق في التدخل لأن الشأن العام والوظائف ملك لكل صاحب كفاءة ومقدرة، ولا علاقة فيها للقرابة أو شفاعة الأقرباء والخدمات والمصالح العامة ملك لكل الناس وليست لفئة من الناس الذين يملكون القرابات، دون فئة من الناس الذين لا يملكونها.

فهي وصايا للإمام الحسن علیه السلام كقيادي له دور على مستوى الأمة، ولكل قيادي له هذا الدور.

وبغض النظر عما ذكرناه، فإن للعلامة مغنية رأي في هذه الوصايا الخاصة من المفيد أن نذكر «كرامة المرأة أن تبقى إمرأة، وأن تضع نفسها حيث وضعتها الطبيعة» (1).

الغيرة

«إياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم، والبريئة إلى الريب».

هذا هو الفكر المتوازن البعيد عن الشطط يضع الأمور في نصابها، ویزنها بميزان الحق والكلام الحق، يعطي كل إنسان حقه ويضعه في الموضع المناسب له، محافظاً على كرامته يحترم الإنسان كإنسان رجلاً كان أو امرأة فليس للرجل الحق لأنه رجل فقط، بل بماله من دور ووظيفة

ص: 210


1- في ظلال نهج البلاغة: ج 3 ص 531

يؤديها ولا حق للرجل في أن يهضم حقوق المرأة، لمجرد أنه رجل وأن يشعر أنه أقوى منها من الناحية الجسدية، ولا يمكن أن نعطيها ما يفوق قدرتها وطاقتها، بل نعطيها ما يتناسب مع دورها ووظيفتها، وليس في ذلك إهانة أو إهدار لكرامتها.

وكأن هذه الفترة السابقة تريد القول إن الغيرة صفة في الرجل حسنة، ويمكن القول إن الغيرة صفة في الرجل «الإنسان» بغض النظر عن دينه ومعتقده، بل حتى لو لم يكن الرجل متديناً، فهو يغار ليس فقط على نسائه بل حتى على أقاربه من الرجال ومن يمتون اليه بصلة إذا كانت الغيرة تعني أن يجهد أن لا يمسهم سوء، يدافع عنهم في مواضع الحاجة.

والغيرة بحسبها، فالغيرة على النساء أولى مراحلها أن لا تخرج نساءه زوجته وبناته سافرات خالعات للستر، فهذا أحد مواضع الغيرة التي يجب أن يهتم به الرجل وهذا لا يعني أن الحاصل في هذا الزمان معناه أن الرجال لا يغارون على نسائهم، فالأب لا يرى حرجاً في خروج إبنته سافرة خالعة للستر والزوج كذلك، والحاصل أن الرجل في هذه الحالة ضعفت غيرته، وإلا لو كانت غيرته قوية لما سمح بأن يرى مفاتن زوجته غيره من الرجال.

فالأمير علیه السلام لايريد القول إن الغيرة أمر غير مرغوب فيه بل يريد القول إن الغيرة الحسنة بشروط في أن تكون في موضعها فلا يكون كثير الشك في كل ما تقوله أو تفعله زوجته أو إبنته يمنعها من الخروج من المنزل حتى للضرورة، يمنعها من التكلم مع أحد حتى الرجال، حتى للضرورة أيضا ويحوّل بيتها إلى سجن لها فيه مجموعة من القيود والممنوعات ... فإن ذلك

ص: 211

ليس بموضع للغيرة، لما فيه من الآثار السلبية التي لا يؤمن عقباها، أدناها أن تتحول الصحيحة والشريفة إلى سقيمة وسيئة.

يقول العلامة مغنيه حول موضوع الغيرة: «لك أن تغار على المرأة بصيانتها من التبرج ومخالطة المشبوهين، أما الغيرة برجم الظنون فإنها تشجّع المرأة السقيمة على الخيانة وتغري البريئة بها، وتقول في نفسها: كنت أحرص على ثقته بأمانتي و عفافي، أما وقد أصبحت عنده في مکان الريب فلم يبق ما أحرص عليه».

النساء نواقص العقول؟!

اشارة

«معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ نواقص العقول، فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأما نقصان عقولهن فشهادة إمرأتين كشهادة رجل واحد، وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال، فاتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر» (1).

من الخطأ القول إن الأمير علیه السلام هو في مقام ذم النساء، لأن الأمور التي عدّدها لا توجب ذماً، فهي خارجة عن أرادتهن، لأنها أمور تشريعية، والمرء لا يُذم على أمر خارج إرادته وإختياره بل يُذم على فعل يختاره ويقوم به بملء إرادته.

والأمير علیه السلام في مقام بيان واقع موضوعي تعيشه المرأة. يجعلها أقل

ص: 212


1- نهج البلاغة: ص 105 - 106: رقم 80 مصدر سابق

مسؤولية من الرجل، في الشؤون الخاصة والعامة، كأن الأمير علیه السلام يريد أن يبين علل هذه التشريعات للمرأة، وما هي الأسباب الموضوعية الموجودة عند المرأة التي أدت إلى هذه التشريعات والتي تبدو وللوهلة الأولى أن الشريعة لم تنصف المرأة، أو أن الشريعة تنظر نظرة دونية ونظرة نقص للمرأة لا تنظرها للرجل لذلك ليس صحيحاً عنوان هذه الكلمة القصيرة «في ذم النساء وبيان نقصهن» (1).

والتي هي في أغلب الظن من وضع الشريف الرضي، نعم الفقرة الأولى من العنوان صحيحة وهي بعد فراغه من حرب الجمل (2)، وهذا يؤكد ما قلته قبل قليل، فإذا كانت المرأة هذه حالها من الناحية التكوينية والتشريعية فكيف نملّكها أمر الأمة، بما يؤدي إلى تجييش الجيوش وسفك دماء المسلمين وإيجاد الفرقة بين المسلمين؟ لا لسبب سوى أنها لا تحب فلاناً أن يكون هو الخليفة، بل تحب فلاناً الآخر، وهل أمر الأمة وأمر الناس يحتمل المزاجية؟ ألم يكن حال عائشة كذلك؟ مع أنها زوجة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وأم المؤمنين، مع ذلك كان حالها في أمر الخلافة ما هو معلوم وما هو مذكور في كتب السير والتاريخ فبعد أن كانت تحرّض على عثمان وعندما بلغها قتله كانت تظهر رغبتها في أن يكون طلحة هو الخليفة، لكن عندما علمت مبايعة الناس لأمير المؤمنين علیه السلام قالت عبارتها المشهورة «لو ددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا» (3)..

ص: 213


1- المصدر السابق ص 105
2- المصدر السابق
3- ذكرنا حالها مع عثمان في كتابنا المعارضة في الاسلام وكيف تحولت من الطعن والتحريض عليه الى المطالبة بدمه كونه قتل مظلوما.

لا أقول إن الأمير علیه السلام كان واقعاً تحت تأثير ما فعلته عائشة، وأنه لولا ذلك لما قال ما قال بل أقول إن هذا الخطاب موجه إلى الناس الذين استطاعت عائشة إستدراجهم لما لها من مكانة عندهم كونها زوج الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وأنهم كانوا على خطأ في إتباعهم رأيها، وأن كل واحد منهم يمتلك العقل الذي يستطيع أن يمّيز فيه بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب، وامرأة هذه حالها من الناحية التشريعية، وإن كانت زوج الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لا يكفي ذلك، حتى يتبعوها على ما تقوله من دون وزن هذا القول إن كان خطأ أم صواباً، وكونها زوج الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لا يجعلها بعيدة عن الخطأ والباطل، والمرأة سريعة الإنفعال والتأثر بالأحداث التي تجري حولها وسريعة التحول من فعل إلى فعل نقيض، ومن قول إلى قول نقيض بسبب إمتلاكها للعاطفة الزائدة التي أودعتها فيها يد الخالق الحكيم لمصلحة اقتضت ذلك لا أقول إن الرجل لا يقع في هذه الحالة من سرعة الإنفعال والتأثر والتحول فإن الرجل أيضا يمكن أن يحصل منه ذلك، فقد يتخذ المواقف نتيجة تسرّع أو تأثر بموقف معين أو إنفعال إنما طبيعة المرأة التكوينية تجعل هذا الأمر فيها أكثر من الرجل.

خلاصة القول: إن الأمير علیه السلام يريد أن يقول إن الشريعة السمحاء، مادامت قد شرّعت أحكاماً خاصة للمرأة تخفيفاً عنها نتيجة طبيعتها التكوينية، فمن غير اللائق أن نحمّل المرأة أكبر من طاقتها فيما يتعلق بالأمور المصيرية على مستوى الأمة والمجتمع، لا أقول إن عمل المرأة خارج المنزل أمر مرغوب عنه، بل أقول يجب أن نخفف من مسؤولياتها ولا نحملها من المسؤوليات مايفوق طاقتها على التحمل، وهذا ما مارسه

ص: 214

المجتمع الإنساني عبر العصور إلى الآن، فهي نادرة حالات تحمّل المرأة مسؤوليات على مستوى الأمة والمجتمع ككل وفي العصر الحاضر الذي يسمى عصر التطور والتحضر الحال لم يتغير. فكم هي الحالات التي تحمّلت فيها المرأة مسؤولياتها على مستوى الأمة والمجتمع؟ وكم هي الحالات التي حمّل فيها المجتمع نفسه المرأة مسؤوليات على مستوى الأمة والمجتمع حتى في بلدان العالم المسمى بالمتحضر والحر؟ أليس في هذا إشارة واضحة على أن المراة لا يجب أن نحمّلها أكثر من طاقتها؟ ولا يجب أن نفسر ذلك على أنه إساءة للمرأة أو نقص فيها، ولا يجب أن نفسر ذلك على أنه نتيجة تسلط الرجل ونظرته الدونية للمرأة، فإن هذا النص واضحة الإشارة فيه إلى أن المرأة لا يصح أن تكون في موضع القرار على مستوى الأمة، فإذا ضممنا إليه الفقرة السابقة من وصية الأمير علیه السلام نفهم معنى القول أن المرأة لا يصح أن تكون قاضياً أو حاكماً شرعياً أو غير ذلك من المناصب الأساسية التي لها علاقة في تحديد المصير على المستوى الشخصي أو الإجتماعي العام الذي يُحدد فيه مصير أمة بأكملها، فإذا كانت المرأة هذه حالتها على المستوى التكويني الذي أنتج حالة تشريعية خاصة، فكيف يصح أن نضعها في مركز القرار على مستوى الأمة؟ وقد أشرنا سابقاً إلى التغيرات التي تحصل للمرأة على المستويين النفسي والجسدي، وقد راعت الشريعة هذه الحالة عندما سمحت لها بعدم أداء العبادات، فكيف نجعلها في موقع القرار على مستوى الأمة؟

نعود إلى كلام الأمير علیه السلام فهل يريد القول إن المراة ناقصة العقل من خلال قوله علیه السلام: «نواقص العقول، وأما نقصان عقولهن فشهادة إمرأتين

ص: 215

كشهادة الرجل الواحد» فهل أن عقل المرأة نصف عقل الرجل كما هو شائع الآن؟ وهل خلق الله تعالى المرأة ناقصة فضلاً عن كونها ناقصة العقل؟ وهل يوجد في خلق الله تعالى من هو ناقص؟ وإذا كان لا يوجد في خلق الله تعالى من هو ناقص، لماذا كانت المراة لوحدها من بين خلق الله تعالى هي الناقصة فقط و فقط؟

لا ليست المرأة ناقصة العقل فهي مخلوق تام الخلقة من الناحية العقلية والنفسية، وليست مخلوقاً ناقصاً وليس في الكون من مخلوقات الله تعالى ما هو ناقص في أصل خلقته وتكوينه، حتى تكون المرأة ناقصة في أصل خلقتها وتكوينها، ونسبة النقص إلى المرأة في أصل خلقتها وتكوينها، هي في حقيقتها نسبة نقص وعجز إلى الباري عز وجل، لأنه عاجز عن خلق مخلوق تام الخلقة؟!

اذن لماذا اعتبر الأمير علیه السلام أن النساء نواقص العقول؟ وهل يريد المعنى الحقيقي للنقص، أم أن هناك معنى آخر يريده الأمير علیه السلام؟

العقل ... الدية

إن المراد من فقرة «نواقص العقول» نواقص الديات، فالعقول جمع عقل والعقل في اللغة في أحد معانيه الدية قال في لسان العرب والعقل: الدية. وعقل القتيل يعقله عقلاً وَدَاه، وعقل عنه: أدّى جنايته (1) أما لماذا سميت الدية بالعقل؟ «إنما قيل للدية عقل، لأنهم كانوا يأتون بالإبل فيعقلونها فناء ولي المقتول، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل دية عقل، وإن

ص: 216


1- ابن منظور ج 9 ص 327 دار احياء التراث العربي بيروت

كانت دنانير أو دراهم، وقال الأزهري: والعقل في كلام العرب الدية، سُمّيت عقلاً لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلاً لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلاً لأن القاتل كان يُكلّف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعلقها بالعُقُل ويسلّمها إلى أوليائه، وأصل العقل مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلاً، وهو حبل تثني به يد البعير إلى ركبته فتشد به قال إبن الأثير: وكان أصل الدية الإبل، ثم قوّمت بعد ذلك بالذهب والفضة والبقر والغنم وغيرها» (1).

والمعقلة الدية، فهذا الإمام الصادق علیه السلام يستعمل هذه الكلمة رداً على سؤال كيف ان المرأة تأخذ سهماً في الميراث والرجل سهمين، فقال علیه السلام «ان المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وانما ذلك على الرجل ...» (2).

قال في لسان العرب «المعقلة الدية ... ودمه معقلة على قومه اي غرم يؤدونه من أموالهم ... والمعاقل الديات معقلة ...» (3).

ومعنى نقصان الديات «العقول» أن دية المرأة على النصف من دية الرجل فإذا كان يجب في قتل الرجل عمداً أو خطأ، أن يدفع لأوليائه دية كاملة، فإنه في قتل امرأة عمداً أو خطأ فإنه يجب عليه أن يدفع نصف هذه الدية، مع الإشارة إلى أن دفع الدية في القتل العمدي إنما يجب إذا تنازل ولي الدم المقتول عن حقه الشخصي في الإقتصاص من القاتل، قال في وت

ص: 217


1- المصدر السابق ص 328
2- الكليني - الكافي: ج 8، ص 85، دار الكتب الاسلامية - طهران
3- ج 9، ص 329، دار احياء التراث العربي - بيروت

الجواهر: «لا خلاف ولا إشكال نصاً وفتوى، في أن دية المرأة المسلمة صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة سليمة الأعضاء أو غير سليمتها، على النصف من جميع الأجناس المذكورة في العمد وشبهه والخطأ، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص، بل هو كذلك من المسلمين كافة» (1).

أما لماذا دية المرأة على النصف من دية الرجل؟ فهذا له علاقة بالعامل الإقتصادي الذي عليه كل من الرجل والمرأة، فالنفقات التي يؤديها الرجل أكثر بكثير من النفقات التي تؤديها المرأة، إذا لم تكن نفقات المراة معدومة فإن الرجل مكلّف شرعاً بالإنفاق على زوجته وأولاده ووالديه إذا كانا فقيرين أما المرأة فهي غير مكلّفة شرعاً بالإنفاق إلا على نفسها وليست مكلّفة بالإنفاق على زوجها وإن كان فقيراً ولا على أولادها ولا على والديها إذا كانوا فقراء.

وبما أن «الدية التعويض الذي يدفع مقابل قتل شخص ما رجلاً كان أم امرأة، وبما أن الرجل يتحمل مسؤوليات مادية أكثر من المرأة، فمن الطبيعي أن تكون الدية التي تدفع تعويضا لمقتل الرجل أكثر من الدية التي تدفع لمقتل المرأة، لأن الخسارة المادية التي تلحق أهل الرجل في حال قتله، أكثر من الخسارة التي تلحق أهل المرأة في حالة قتلها. فإن عمق مسألة الدية الحقوقي لا ينطلق من إنتقاص لقيمة المرأة إنسانياً، وإنما ينطلق من هدف تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات على المستوى المادي، والمسألة ليست أن الرجل يشكل قيمة إقتصادية أكبر، والمرأة ن

ص: 218


1- محمد حسن النجفي: جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام: ج 43: ص 32: المكتبة الاسلامية: طهران ایران

تشكل قيمة إقتصادية أقل، القضية تنطلق من أن النظام الإسلامي حمّل الرجل مسؤولية البيت والزوجة والأولاد، لذلك فإن العدوان عليه يتسبب بخسارة مادية حتى ولو كانت رمزية، أكبر من خسارة فقد المرأة» (1).

صحيح أن فقد الإنسان - رجلاً كان أو امرأة - خسارة لا تعوّض، وصحيح أيضا أن الخسارة هنا ليست خسارة مالية فقط، بل هناك خسارة الوجود وخسارة العطف والحنان اللذان لا يعوّضان، خصوصاً لمن كان عنده أطفال قصّار، إلا أن الصحيح أيضا أننا في حالة القتل نحن أمام خيارين:

الأول: أن نلزم القاتل بدفع الدية حتى نشعره بفداحة العمل الذي أقدم عليه حتى لا يتجرأ غيره على القيام بهذا العمل لما للمال من أهمية في حياة الإنسان، فمن يرى أنه يجب عليه دفع هذا المقدار الكبير من المال لن يقدم على إرتكاب هذه الجريمة كوسيلة من وسائل الردع.

الثاني: أن لا نلزم القاتل بدفع الدية، فنكون بذلك قد وضعنا المجتمع والعائلة في مهب الريح، أما المجتمع فلأننا لم نعاقب القاتل والمجرم، أما العائلة فلأننا عندما لم نعوّض عليها بسبب فقدها لمعيلها الوحيد بما تستطيع أن تكمل مسيرة حياتها من دون إحساس بالقهر والضغط، نجعلها في مهب الفقر والحاجة والتشرد أيضا، وإذا استطعنا أن نحافظ على المجتمع بوسائل ردع أخرى، فكيف نستطيع أن نحافظ على العائلة إذا لم نلزم القاتل الدية؟ .

ص: 219


1- دنيا المرأة: حوار مع اية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله: ص 115 دار الملاك - بيروت.

وليس في الخيار الأول ما يضر على المستوى الإنساني والإجتماعي لأن في العصر الحاضر إحدى وظائف شركات التأمين هي التأمين على الحياة، مقابل دفع إشتراك سنوي ضمن عقد بين المشترك وشركة التأمين، بدفع مبلغ من المال بعد موت المشترك، مع أن موته خسارة لا تعوّض مع ذلك فإن المجتمع الإنساني تقبّل هذه الفكرة وعمل عليها، من دون إحساس أو شعور بأية إشكالية في هذا الأمر، فلماذا لا نعتبر أن الدية هي بمثابة هذا التأمين الذي يدفع لعائلة القتيل؟ مع فارق أن شركة التامين إنما تدفع بموجب عقد بينها وبين المشترك، أما الدية فهي إلزامية للقاتل نتيجة تسببه بفقدان إنسان معيل، مع أن الخسارة في الحالتين لا تعوّض.

بين الدية والشهادة

نعود إلى قوله علیه السلام: «وأما نقصان عقولهن فشهادة إمرأتين كشهادة الرجل الواحد» لنشير إلى أنه ليس مراد الأمير علیه السلام الإستدلال على ضعف عقول النساء، بمعنى أن عقل المرأة أضعف من عقل الرجل - بأن شهادة الإمرأتين تعادل شهادة الرجل الواحد، وأنه لولا أن المرأة لا تعادل الرجل في عقله لما كانت شهادتها لا تعادل شهادة الرجل.

أقول: ليس الأمير علیه السلام في مقام بيان هذا الأمر، من خلال التعليل بأن شهادة الإمرأتين تعادل شهادة الرجل الواحد، لأنه في الواقع ليس هذا تعليل بضعف العقول لدى النساء، وإنما هو مجرد تنظير وبيان مثال له في الشريعة، حيث قد بينا أن المراد بنقصان العقول هو نقصان الديات ونظيره في الشريعة أن شهادة الرجل الواحد تعادلها شهادة الإمرأتين، لا بمعنى أن عقل المرأة أضعف من عقل الرجل، مع أن الرجل الواحد لا تقبل شهادته

ص: 220

بل لا بد من وجود شاهد آخر بمعنى أن الشهادة بواقعها لا تقوم إلا برجلين في بعض الموارد أو بأربعة رجال في البعض الآخر، فهل يدّعي أحد أن الرجل بنصف عقل؟ وأنه يحتاج إلى رجل آخر لتقوية عقله، مع أنه سُمح بشهادة النساء منفردات في بعض الموارد، ولم يحتجن إلى وجود الرجل في هذه الموارد فهل كنّ هنا تامات العقول؟ لا موجب لهذا التفريق والتفصيل.

أما لماذا كانت شهادة الإمرأتين كشهادة الرجل الواحد؟ بعد أن سلمنا أن هذا الأمر لا علاقة له بضعف عقول النساء، وأن النساء تامات العقول، فإن هذا مجرد تدبير قانوني فالشهادة كما أنها لا تقبل من الرجل الواحد العدل، فكان لا بد من رجلين عدلين كذلك بالنسبة للنساء لا تقبل من إمرأة واحدة بل لابد من إمرأتين أو أكثر مقابل الرجلين أو أكثر، وقد أجابت الآية الشريفة عن هذا بقولها: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾ (1) فإن «الإسلام قبل شهادة المراة من حيث المبدأ، غاية ما هناك أنه جعل شهادة إمرأتين مقابل شهادة رجل واحد، ولم يعلّل ذلك بأن المرأة نصف الرجل، بل بالخوف من (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) لأن عالم المنازعات والخلافات بشكل خاص قد يحرّك عاطفة المرأة فطرياً باتجاه متهم أو مدع ويحرّف شهادتها عن الإتجاه الصحيح كون الجانب العاطفى عند المرأة أكثر قوة منه عند الرجل» (2)ت

ص: 221


1- الآية 282 سورة البقرة
2- دنيا المرأة: حوار سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله: ص 116: دار الملاك - بيروت

ولا يعنى هذا أن الرجل قد لا يتحرك عاطفياً بهذا الإتجاه أو ذاك، لكن تحركه هذا بهذا الإتجاه أقل منه في المرأة، ثم مع شرط العدالة في الشاهد الرجل نريد أن نثبت عدم تحركه مزاجياً أو عاطفياً بهذا الإتجاه أو ذاك. وغلبة الجانب العاطفي لا يلغي ما ذكرناه سابقاً، من تفسير العقول الواردة في كلام الأمير علیه السلام بالديات، لأننا نريد الإشارة إلى الجانب الحقوقي من جهة والجانب العقلي من جهة أخرى، الذي نريد أن نثبت أنه تام وكامل من جهة أخرى، وأن كلمة العقل تحمل في أحد معانيها معنى الدية، فيكون كلا المعنيين محتملين، والله العالم.

ميراث النساء أقل؟

«وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال».

يمكن القول إن هذه الفقرة من كلام الأمير علیه السلام أوضح من سابقتها في عدم إرادة الذم منها، وإنما هي لبيان حكم تشريعي وضعته الشريعة المقدسة لاعتبارات لها علاقة بالعامل الإقتصادي الذي يترتب على المرأة، وهو ما أشرنا إليه سابقاً من أن المسؤوليات المترتبة على المراة أقل بكثير مما هو مترتب على الرجل، فليست المرأة مسؤولة عن الإنفاق على أحد، بينما الرجل مسؤول عن الإنفاق على زوجته وأولاده وأبويه أيضاً إن كانا فقيرين «إن إختلاف حصة المرأة عن حصة الرجل في الإرث لا ينطلق من تفاوت بينهما في القيمة الإنسانية ... ولكن خط التوازن بين الأخذ والعطاء، هو الذي يحرّك ويضبط الحقوق المادية لأي طرف فالله سبحانه وتعالى، عندما جعل للمرأة نصف حصة الرجل، لم يكلفها بأي أعباء

ص: 222

مادية، لكنه فرض على الرجل في المقابل جملة من الإلتزامات المادية منها المهر والنفقة على الزوجة والأولاد ... فالمرأة مع وجود الرجل ليست مسؤولة عن الإنفاق على أولادها بل الرجل هو المسؤول عن ذلك، صحيح أن الإسلام أخذ من المرأة نصف حصة الرجل في الإرث، ولكنه أعطاها المهر والنفقة» (1).

إيمان النساء اقل؟

«فأما نقصان إيمانهن فقعود هن عن الصلاة والصيام أيام حيضهن».

قد يبدو للوهلة الأولى أن الأمير علیه السلام في هذه الفقرة هو في مقام ذمّ النساء، لأنه يذكر أنهن ناقصات الإيمان، وأن سبب هذا النقص هو تركهن للعبادة في أيام حيضهن، وترك العبادة لأي سبب كان نقص والواقع أن هذا الأمر لا يحتمل الذمّ، فهو أمر تشريعي مبني على أمر تكويني لا إختياري، ولا إرادة فيه للنساء، والمرء لا يُعاب ولا يُذم على أمر خارج عن إرادته وإختياره، وإذا كان الحيض للنساء حالة تكوينية لها علاقة بوظيفة المرأة التكوينية التي هي الحمل والولادة، وإذا كانت الصلاة أُشترط في صحتها تحصيل الطهارة بالوضوء أو الغسل، وحيث لا يمكن تحصيل الطهارة مع وجود حالة الحيض هذه فلا يمكن إقامة الصلاة فعلى المرأة حال حيضها أن لا تقرب الصلاة، وهذا تشريع يجب على المرأة الإلتزام به فأين الذمّ في هذا؟، «والله كما يُطاع فيما يوجب، يُطاع أيضا فيما يحرّم، فلو لم يكن محرم على المرأة الصلاة أيام الدورة الشهرية لحلت، لكنها لا تصلي طاعة

ص: 223


1- المصدر السابق ص 111 - 112

لله فكيف يكون هذا نقصان دين؟ ثم هل يقتضي هذا إذا سافرنا أن ينقص ديننا، لأن الصلاة تقصر، أو لأننا نفطر بالنسبة إلى الصوم؟ (1)

وأغلب الظن أن الاميرة علیه السلام يريد القول إن طبيعة هذا الأمر يحمل إمكانية نقصان الإيمان بمعنى أن ترك الصلاة والصوم حتى في أيام الحيض - وهو عذر شرعاً لتركهما - قد يؤدي إلى نقصان الإيمان وليس من الضروري أن المرأة إذا تركت هاتين العبادتين هي ناقصة الإيمان فعلاً. وبما أن الإيمان حالة نفسانية، يتفاوت بين إنسان وآخر يثبت ويستقر ويزيد من خلال العبادة والإستمرار عليها فإن الإنقطاع عن هذه العبادة يمكن أن يؤدي إلى نقصان في الإيمان، سواء كان هذا الإنقطاع لعذر أو لغير عذر.

ولهذا نجد في الروايات استحباب أن تتوضأ المرأة الحائض وتجلس في مصلاها مقدار الصلاة، التي كانت تصليها ذاكرة الله تعالى، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إذا كانت المرأة طامئاً فلا تحل لها الصلاة وعليها أن تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة، ثم تقعد في موضع طهارة فتذكر الله عز وجل وتسبّحه وتهلله وتحمده كمقدار صلاتها، ثم تفرغ لحاجاتها (2) وفي رواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «تتوضأ المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل، وإذا حان وقت الصلاة تتوضأ واستقبلت القبلة، وهلّلت وكبّرت وتلت القرآن وذكرت الله عز وجل» (3). 5

ص: 224


1- المصدر السابق ص 43
2- الحر العاملي: وسائل الشيعة ج 2: ص 345 ج 2 تحقيق مؤسسة ال البيت عليهم السلام لاحياء التراث: قم: ايران
3- المصدر السابق ص 346 ج 5

وفتاوى العلماء ناطقة بهذا الإستحباب ومصرّحة به. ففي تحرير الوسيلة «يستحب للحائض أن تتوضأ وقت كل صلاة، وتجلس بمقدار صلاتها مستقبلة ذاكرة لله تعالى» (1) وفي منهاج الصالحين يستحب لها الوضوء في وقت كل صلاة واجبة، والجلوس في مكان طاهر مستقبلة القبلة، ذاكرة لله والأولى لها إختيار التسبيحات الأربع» (2).

ولعل الحكمة في ذلك هو أن تبقى المرأة وهي في حال حيضها، تعيش أجواء الإيمان التي كانت تعيشها في صلاتها، من خلال ذكر الله تعالى، فلا تشعر بتفاوت في إيمانها أو نقص.

أما لماذا استعمل الأمير علیه السلام كلمة النقصان، التي تعطي بظاهرها وجود النقص الحقيقي عند المرأة؟

يمكن القول أن الأمر «منطلق من خلال طبيعة الجانب التعبيري فبعض الأشياء في ذلك الوقت تمثل حالة نقصان مثلاً، أو يعبّر عنها على هذا النحو بشكل عام (3).

شرار النساء وخيارهن

وقوله علیه السلام «فاتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهنّ على حذر ولا تطيعون في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر».

فهذا أمر طبيعي أن يتقي الإنسان من شرار النساء، ويبتعد عنهن ولا يقترن بواحدة منهن، لأنها تحوّل الحياة إلى جحيم، والحياة الزوجية إلى

ص: 225


1- الامام الخميني: ج 1 ص 56 م 16
2- سماحة المرجع الخوئي: ج 1، ص 64، م 235
3- دنيا المرأة ص 42 دار الملاك: بيروت

نكد دائم، لا يعرف ما الذي يرضيها وليس لغرائزها وأهوائها حدود فهي غيورة في غير موضع الغيرة، وكثير التعلّل، قليلة الصبر على مكاره الدنيا. تريد كل شيء لها وحدها، حسودة وحقودة، سليطة اللسان. متسلطة مغرورة متكبرة، هكذا نوع من النساء كيف يمكن العيش معه، بل إن هذا الأمر ينسحب على شرار الرجال، وإذا كان الأمير علیه السلام قد حذّر من شرار النساء فلا يعني هذا عدم وجود شرار الرجال، أو عدم التحذير منهم، فإن الجار السيئ والشرّير يحوّل حياة جيرانه إلى جحيم ونكد دائمين، والزوج السيئ والشرّير أيضا يحوّل الحياة الزوجية إلى جحيم ونكد دائمین، فهو سيئ الأخلاق سليط اللسان متكبر مغرور متسلط، لا يرضيه شيء ولا يعجبه شيء، لا يرى إلا نفسه ويريد أن يكون الآخرون في خدمته ولا يعطي أهمية وقيمة لما تقوم به زوجته في سبيل إسعاده هكذا نوع من الرجال كيف يمكن العيش معهم؟

أما لماذا الحذر من خيار النساء؟ فهو دعوة للاحتياط من حالات الإنحراف الطارئ، بمعنى أن لا يترك الإنسان الحذر حتى من الخيّرات. وقد أعطى الإمام علیه السلام هذا الخط بالنسبة للعلاقات العامة في قوله: «لا تثقن كل الثقة بأخيك، فإن سرعة الإسترسال لا تقال» (1).

فإن الحذر مطلوب في كل شيء، فيجب أن يكون الإنسان واعياً لما يدور حوله، فلا يغرق أمام الكلام المعسول الذي قد يقال له، بل ينظر إلى .

ص: 226


1- المصدر السابق: ص 43: 44 وحول الرواية، انظر - ابن ابي الحديد - شرح نهج البلاغة: ج 10، ص 229، مصدر سابق. وفي الامالي للصدوق نسبه في حديث طويل للامام الصادق علیه السلام انظر ص 669، المكتبة الاسلامية: قم، 1404 ه - ق.

ما وراء هذا الكلام فلعل هناك خديعة أو مكر من حيث لا يشعر أو لا يعلم، فإن بعض الأمور لا تكفيها سلامة النية أو سلامة القلب، بل لا بد أن ننظر إلى الهدف الحقيقي وراء بعض الأعمال أو الأقوال، وهناك بعض الأمور لا تكفيها الثقة بل لا بد من الإستقصاء حولها، لعل هناك أمر خفي غير ظاهر للعيان وليس هذا دعوة لعدم الثقة بالآخرين، بل دعوة للحذر والتنبه والفرق بينهما واضح، فليس كل ما يلمع ذهباً.

أما عدم إطاعة النساء في المعروف حتى في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر، فلأن «العلاقات بين المرأة والرجل عادة علاقة عاطفية، قد لا تقف عند حد، فإن عوّد الرجل المرأة على أن يستسلم لها في الأشياء المعقولة إستسلاماً كلياً، بحيث يطيعها في كل شيء، فيمكن أن يقودها ذلك إلى أن تطمع من خلال هذه السيطرة وهذه الطاعة غير المحسوبة في المنكر، فكأن الإمام علیه السلام يريد أن يقول للرجال: توازنوا في علاقتكم بالنساء بحيث لا تكون الطاعة لهنّ مطلقة، بل يريد من تعويدهنّ على رفض بعض الأشياء، لئلا يعملن على الضغط على عواطفكم وشهواتكم ليطلبن منكم الخضوع لهنّ في المنكر» (1) 43

ص: 227


1- المصدر السابق: ص 43

ص: 228

الغيبيات في نهج البلاغة

اشارة

* تمهيد

* علم غيب ... أم علم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟

* الكوفة

* البصرة

* من هو؟!

* صاحب الزنج

* مروان والاكبش الاربعة؟!

* فتنة بني امية

* ... وظلمهم

* ضلّيل الشام

* الحجاج بن يوسف

* مصير الخوارج

* المهدي الموعود

* فتن مظلمة

* من هم؟

* آخر الزمان

* النبوءة بالموت واشياء أخرى

ص: 229

ص: 230

تمهيد

أخبر الأمير علیه السلام في مناسبات عدّة عن أحداث غيبية سوف تحدث في المستقبل، أشار بعض الباحثين إلى أن بعضها قد حدث فعلاً، وبعضها بقي في دائرة الإحتمال في تطبيقه على هذا الحدث أوذاك، وبعضها حدث في زمن الأمير علیه السلام كقضية المُخدّج ومصير الخوارج مما فصلناه في مطاوي هذا الكتاب.

السؤال هو، لماذا تحدث الأمير علیه السلام عن هذه الأمور الغيبية؟ وما هي الدوافع لهذه الإخبارات الغيبية؟ وإذا كانت هذه الإخبارات قد تحدّث بها الأمير علیه السلام أثناء أو بعد الحروب الثلاثة التي خاضها، فهل لهذه الإخبارات علاقة بهذه الحروب؟

وإذا كانت فما هذه العلاقة؟ وكيف قوبلت هذه الإخبارات؟

لم يكن من السهل أن تخاض ثلاثة حروب متتالية في غضون خمس سنوات هي عمر خلافة أمير المؤمنين علیه السلام وليست صعوبتها في أنها حروب أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح والأنفس، وذهب ضحيتها الخُلّص من أصحاب الأمير علیه السلام كمحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر ومالك الأشتر، وليست صعوبتها في أنها أوجدت حالة من الإهتزاز والإضطراب في جيش الأمير علیه السلام فكل هذا قد تكون نتائج طبيعية في كل

ص: 231

حرب تخاض فلا بد من خاسر ولا بد من ضحايا.

الصعوبة تكمن في بداية هذه الحروب وضد من تخاض؟!

إنها حرب الأخوة في الدين الواحد، إنها حرب المسلم ضد أخيه المسلم، ولهذا كانت الحرب فتنة، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ولهذا كانت الحرب فتنة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى،

ولهذا كانت مليئة بالشبهات وليس الكل يملك من قوة الحجة والبرهان لخوض هذه الفتنة، وليس الكل قادراً على خوض لجج هذه الحروب - الشبهات - لذا نجد البعض يتخذ موقف الحياد من هذه الحروب ويسميها فتنة، كأبي موسى الأشعري ويروي في ذلك حديثاً عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فعندما قال له عمّار بن ياسر: «يا أبا موسى لِمَ تثبط الناس عنّا؟ فوا الله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يُخاف على شيء، فقال: صدقت بأبي أنت وأمي ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب» (1).

والعجب أن لا يكون عمّار وهو من الصحابة كيف لم يسمع بهذا الحديث من قبل؟ وكيف أن طلحة والزبير وعائشة لم يسمعوا بهذا الحديث وجعلوا أنفسهم وقوداً لهذه الفتنة؟ وكيف أن الأمير علیه السلام ومعه الجمُّ الغفير من المهاجرين والأنصار لم يسمعوا بهذا الحديث وجعلوا أنفسهم وقوداً لهذه الفتنة؟

نعم هي فتنة، وقد سمّاها الزبير كذلك عندما قال: «إنّ هذه لهي الفتنة .

ص: 232


1- إبن جرير الطبري تاريخ الأمم والملوك - م 3 ج 5 ص 187 - 188، مصدر سابق.

التي كنا نُحدَث عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها، قال: ويحك إنا نُبصر ولا نَبُصر ما كان أمر قط إلا علمت موقع قدمي فيه، غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل فيه أم مدبر» (1). إنه إعتراف صريح من الزبير أنه لم يكن على بينة من أمره، ولم يكن يعرف وجه الحق فيما يقدم عليه، أو أنه كان يعرف وجه الحق، إلا أنه كان في نزاع بين عقله وهواه، وإذا كان قد سمع من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بهذه الفتنة، لماذا بقي فيها حتى النفس الأخير؟

نعم هي فتنة، وإذا صح الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري عن هذه الفتنة، فهذا معناه أنه أخطأ في فهم الحديث وفي تطبيقه.

أما خطأه في فهمه، فمراد الحديث كما هو واضح، أن القاعد عن إيقاد هذه الفتنة خير من القائم فيها على قدم يعمل على إيقادها وتسعير نارها، والقائم الذي لا يحرك ساكناً لا يخطو خطوة في إيقادها، خير من الماشي و الساعي فيها لتزداد نارها قوة وسعيراً، أما خطأه في التطبيق، فهو لم يستطع أن يميز بين الساعي والماشي والقائم والراكب في إيقاد نار هذه الفتنة وتوسيع دائرتها وبين الماشي والراكب لإطفائها وشتان ما بينها وليسا هما بسيان.

نعم هي فتنة، وقد سماها أمير المؤمنين علیه السلام نفسه بذلك كما سوف نرى بعد قليل. وهي شبهة فهي تشبه الحق في بعض الوجوه، وليس الكل قادراً على تمييز الشبهة عن الحق الخالص، «وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت 3.

ص: 233


1- المصدر السابق: ص 183.

الهدى، واما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى» (1) فمن يكون على يقين من أمره وبينة من ربه يستطيع أن يميز الشبهة عن الحق، إذ أن مقدمات الحق واضحة وعلاماته بينة «لأن من اعتبر مقدمات الشبهة وراعى الأمور اليقينية وطلب المقدمات المعلومة قطعاً إنحلت الشبهة وظهر له فسادها من أين هو؟ (2) أما الذين اختلطت عليهم الأمور، ولا يملكون البصيرة ليميزوا بين الحق والباطل، أو غلب عليهم هوى النفس الأمارة بالسوء، فهؤلاء عميت قلوبهم عن الحق فضُلوا وأضُلوا، فهم يدعون إلى الضلال ودليلهم في هذا الضلال مقدمات باطلة «لأن المبطل ينظر في الشبهة لا نظر من راعى الأمور اليقينية ويحلل المقدمات إلى القضايا المعلومة، بل يغلب عليه حب المذاهب وعصبية أسلافه وإيثار نصرة من قد ألزم بنصرته فذاك هو العمى والضلال، اللذان أشار أمير المؤمنين إليهما فلا تنحل الشبهة له وتزداد عقيدته فساداً» (3).

نعم هي فتنة، ولا تعني كونها فتنة أن يقف الإنسان منها موقف المتفرج، أو يقف على الحياد لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وكونها فتنة لا تعني أن كلا الطرفين على الباطل، بل لا بد أن يكون أحدهما محق والآخر مبطل، فإما أن يقف موقف الإصلاح (فإن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فأصلحوا بينها وإن بغت إحداهما على الآخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) (4) وحيث لا ينفع الإصلاح، فلابد من إتخاذ9

ص: 234


1- نهج البلاغة ص 81 رقم 38 مصدر سابق.
2- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج 1 ص212، مصدر سابق.
3- المصدر السابق.
4- الحجرات: الآية 9

موقف من الفئة الباغية وهذا يعني الوقوف إلى جانب الفئة المبغي عليها والقتال إلى جانبها وهذا صريح الآية.

إذن كانت النفوس حائرة مضطربة والقلوب تتقاذفها المشاعر والأفكار، ولا تستقر على حال، لا تدري ماذا تصنع. وهل هذه الحرب تملك الشرعية؟ وإذا كانت فإلى جانب من هذه الشرعية؟ والشاهد على عدم الإستقرار هذا أنهم بمجرد أن سنحت لهم سانحة لإيقافها، تشبثوا بها وأصرو على عدم الإستمرار فيها، عندما انطلت عليهم خديعة رفع المصاحف في معركة صفين، وكانت حجتهم «ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله عز وجل فنأبى أن نقبله» (1).

وإذا لم يكن كافياً كون أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى الفئتين ليعرفوا أنهم على الحق، كونه الإمام الذي أصرّوا على توليته الأمور بعد مقتل عثمان، وإذا لم يكن كافياً عند البعض الآخر، أنه المنصوص عليه في هذه الإمامة وفي هذه الخلافة، فلا بد من أمر قد يساعد على إذعانهم ورضوخهم وتصديقهم، بأن الحق والصواب إلى جانب الأمير علیه السلام فلا بد من الإشارة إلى أمور لا توجد عند أحد سواه وهي هذه الاخبارات الغيبية.

فهذه الاخبارات الغيبية كان الهدف منها أمرين:

الأول: تثبيت قلوب شيعته وأنصاره وجيشه الذي كان خليطاً من فئات شتى «لأن العارفين بحقيقة حاله كانوا قليلين وكان السواد الأعظم لا يعتقدون فيه الأمر الذي يجب إعتقاده فيه، ويرون تفضيل من تقَدمه من7

ص: 235


1- ابن جرير الطبري - مصدر سابق - م 3 ج 6 - ص 27

الخلفاء عليه، ويظنون أن الأفضلية إنما هي بالخلافة، ويقلد أخلافهم أسلافهم ويقولون لولا أن الأوائل علموا فضل المتقدمين عليه لما قدموهم ... وأكثرهم إنما يحارب معه بالحمية، وبنخوة العربية لا بالدين والعقيدة» (1) فالمعركة كانت بين المسلمين، خصوصاً في معركة الجمل ولم يكن الأمر هيّناً، فكيف يمكن للمسلم أن يقتل أخاه المسلم.

لكن عندما يسمع أحد هذين المسلمين أن قائده يتحدث عن أمور لم يعتد سماعها من أحد من الناس، ثم يرى أن هذه الاخبارات تعود إلى كونها تعُلمٌ من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، كما أجاب الأمير علیه السلام الرجل الذي قال له: «لقد أوتيت علم الغيب يا أمير المؤمنين» (2). فعندما يسمع هذا المسلم أن هذا الرجل الذي يقاتل تحت رايته كانت له الخصوصية التي تسمح له بان يطّلع على أمور لا يمكن لأحد غيره الإطلاع عليها، خصوصاً أن بعض هذه الإخبارات الغيبية قد حصلت ورآها الناس، كقوله علیه السلام حول مصير الخوارج: «لا يفلت منهم عشرة» (3) وإخباره عن المُخدّج ذي الثدية (4) فهنا يحصل العلم واليقين والإطمئنان بأن صاحب هذه الراية، صاحب حق، والآخرون هم على الباطل.

الثاني: إلقاء الحجة على الخصم وتذكيره بأن مثل هذا الذي له هذه الخصوصية خصوصية أن يخبره الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بإخبارات بعضها 0

ص: 236


1- إبن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: م 4، ص 26، مصدر سابق.
2- نهج البلاغة: ص 186.
3- المصدر السابق ص 93 رقم 59
4- إبن جرير الطبري - مصدر سابق: م 3 ج 6 ص 50

سوف يحصل معه مباشرة، وقد حصل فعلاً كقوله علیه السلام في شأن طلحة والزبير: « ... وإنها للفئة الباغية فيها الحماً والحُمّة والشبهة المغدقة، وأن الأمر لواضح ...» (1).

يقول إبن أبي الحديد تعليقاً على هذا الكلام: «لام التعريف في الفئة تشعر بأن نصاً قد كان عنده أنه ستخرج عليه فئة باغية ولم يُعيّن له وقتها ولا كل صفاتها، بل بعض علاماتها، فلما خرج أصحاب الجمل، ورأى تلك العلامات موجودة فيهم قال: «وأنها للفئة الباغية» أي هذه الفئة الباغية، أي الفئة التي وعدت بخروجها ولولا هذا لقال «وإنها لفئة باغية» على التنكير (2).

وما يدل على وجود هذا النص ما ذكره الطبري من حوار بين الأميرعلیه السلام والزبير، قبيل نشوب القتال في معركة الجمل، عندما قال علیه السلام للزبير بعد كلام طويل: «أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بني غنم فنظر إليَ فضحك وضحكت إليه؟ فقلت: لا يدع إبن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إنه ليس به زهو ولتقاتلنَه وأنت له ظالم، فقال: اللهم نعم» (3).

إن مثل هذا الرجل الذي يحمل هذه الخصوصية، مما لم نجدها عند أحد غيره، كيف لا تكون رايته راية الحق؟ ق

ص: 237


1- نهج البلاغة - ص 194 رقم 137 مصدر سابق
2- شرح نهج البلاغة - م 9 ص 37
3- تاريخ الأمم والملوك - م 3 ج 5 ص 200 - مصدر سابق

التكذيب

ومع ذلك فإن هذه الإخبارات الغيبية قوبلت بالتكذيب. قال الأمير علیه السلام: « ... وقد بلغني إنكم تقولون عليّ يكذب، قاتلكم الله، فعلى من أكذب؟ أعلى رسول الله؟ فأنا أول من آمن به، أم على نبيه؟ فأنا أول من صدقه، كلا والله لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها ...» (1).

وقال علیه السلام في موضع آخر: « ... أتراني أكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ والله لأنا أول من صدّقه فلا أكون أول من كَذَب عليه» (2).

وبيّن علیه السلام في موضع آخر منزلته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عندما قال: «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة - إلى أن يقول - وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل» (3).

قال إبن أبي الحديد: «هذا كلام قاله علیه السلام لما تفرس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، من أخبار الملاحم والغائبات وقد كان شكَّ منهم جماعة في أقواله، ومنهم من واجهه بالشك والتهمة» (4).

فهذه الإخبارات الغيبية هي عن الله تعالى بواسطة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «فلو كان كلامه كذباً لكان افتراء على أحدهما وهو منافٍ لكونه أول مؤمن

ص: 238


1- نهج البلاغة ص 100 رقم 71 - مصدر سابق
2- المصدر السابق. ص 81
3- المصدر السابق. 300
4- شرح نهج البلاغة. م 1 ص 208 - مصدر سابق

مصدق» (1) لكن حقيقة الأمر «أنكم كنتم غائبين عنها حين أخبرني بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والإنسان إنما يهون عنده نسبة الأقوال الكاذبة إلى أحد، إذا كان غير معتقد بذلك الشخص غير عزيز عنده، أما من يكون عنده عزيزاً فلا ينسب إليه خبراً كذوباً حتى إذا ظهر كذبه سقطت منزلته عن القلوب فلا أكون أول من كذب عليه» (2).

تجدر الإشارة أخيراً أن أمير المؤمنين علیه السلام قد صدّر بعض هذه الإخبارات الغيبية بكلمة «كأني» كقوله علیه السلام في ذكر الكوفة: «كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي» (3) أو قوله علیه السلام: «لكأني إنظر إلى ضلّيل قد نعق بالشام ...» (4) أو قوله علیه السلام «يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب» (5) أو قوله علیه السلام: «كأني أراهم قوماً» (6).

وصدّر البعض الآخر بحرف التوكيد «إنّ» كقوله علیه السلام: «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم» (7). أو القسم بإسم الجلالة كقوله علیه السلام: «والله لا يفلت منهم عشرة» (8) أو قوله علیه السلام: «كلا والله إنهم نطف في 9

ص: 239


1- حسيني شيرازي. توضيح نهج البلاغة - م 1 ص 277
2- المصدر السابق - ص 193
3- نهج البلاغة - ص 86 رقم 47 - مصدر سابق
4- المصدر السابق - ص 147
5- المصدر السابق - ص 185 رقم 128
6- المصدر السابق ص 186
7- المصدر السابق - ص 92 رقم 57
8- المصدر السابق - ص 93 رقم 59

أصلاب الرجال، وقرارات النساء» (1).

هذه التصديرات بهذه الأحرف للإشارة إلى أن هذه الإخبارات واقعه لا محالة وهي يقينية، لا مجال للظن أو الشك في وقوعها ليس الأمر فيها أنه يمكن أن تقع ويمكن أن لا تقع لأنها أخبار عن ذي علم بواسطة

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

فهو علیه السلام على يقين من وقوعها ولا يشك في صدق الإخبار بها، لذلك استعمل الأحرف والكلمات التي تؤكد هذا الجانب، أي جانب العلم واليقين، ولم يأت بأحرف يتأرجح فيها الحال بين الوقوع وعدم الوقوع مثل كلمة «ربما» أو «يمكن» أو «العل» بل نراه علیه السلام استعمل كلمة «كأني» فهي سواء كانت للتقريب أو التشبيه (2) فهو يشبه الحال بهذه الأخبار الغيبية كمن يراه بعين بصيرته بعدما تأكد له صدق هذا الإخبار، وأن هذا الإخبار يقرب من أن يراه واقعاً لا محالة لذلك، وكذا الحال في استعمال كلمتي «إن» التوكيدية واسم الجلالة بعنوان القسم. والله العالم.

هذا مما ألهمنيه الله في معنى هذه التصديرات مما لم أجده عند أحد من شرّاح النهج. وإن كان فهو غير كاف وغير شاف. 4

ص: 240


1- المصدر السابق - رقم 60
2- ابن هشام - مغني اللبيب - ج 1 ص 253 - 254

علم غيب ... أم علم من رسول الله صلى الله عليه واله؟

«ليس هو بعلم غيب و إنما هو تعلّم من ذي علم و إنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 34) (1) فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل وسخي أو بخيل وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيه فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوارحي» (2).

ويقول علیه السلام أيضا: «والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ألا وإني مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه، والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك كله، وبمهلك من يهلك، و منجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في أذنيّ وأفضى به إليّ» (3).

كل ما كان قد أخبر به أمير المؤمنين من أحداث مستقبلية، مما قد حصل فعلاً بعد ذلك في زمانه علیه السلام ومما قد حصل فعلاً بعد وفاته، وفي أزمنة لاحقة مما سوف نأتي على ذكره. كل هذا لم يجعله في إطار علم

ص: 241


1- لقمان - الآية 34
2- نهج البلاغة - ص 186 - مصدر سابق
3- المصدر السابق - ص 250 رقم 175

الغيب، بل جعله في إطار علم تعلّمه رسولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم من الله تعالى وإخبارات أخبره الله تعالى بوقوعها في مستقبل الأيام والسنين، وعلّمه رسول الله لأمير المؤمنين علیه السلام وأخبره بهذه الأحداث والوقائع.

وأن علم الغيب الحقيقي والفعلي، والذي لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يطلع عليه أحد من عباده، هو ما ذكرته الآية الشريفة وما عدده أمير المؤمنين علیه السلام بعد ذلك تعقيباً على هذه الآية، وما عدا ذلك فليس بعلم غيب. وإن كان علم غيب فعلاً إلا أنه ليس مما يخفيه الله تعالى عن عباده المخلصين، خصوصا النبي صلی الله علیه و آله و سلم و أهل البيت عليهم السلام، لذلك نجد أن الأمير علیه السلام يخبر بما أخبره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من وقائع وأحداث مستقبلية.

يقول إبن أبي الحديد حول هذا الأمر: «يقول علیه السلام أن الأمور المستقبلية على قسمين أحدهما: ما تفرد الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه وهى الأمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) والقسم الثاني ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى إياه وهو ما عدا هذه الأمور الخمسة» (1).

ذكر العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية: «وقد عدّ سبحانه أموراً ثلاثة مما تعلق به علمه وهي العلم بالساعة وهو مما استأثر الله علمه لنفسه لا يعلمه إلاهو ويدل القصر قوله (إن الله عنده علم الساعة) وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام ويختصان به تعالى، إلا أن يعلمه غيره، وعدّ أمرين آخرين يجهل بهما الإنسان، وبذلك يجهل كل ما سيجري عليه من ق

ص: 242


1- شرح نهج البلاغة: ج 4: ص 184: مصدر سابق

الحوادث وهو قوله: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).

وكون تنزل الغيث وما في الأرحام من علم الغيب إنما هو بلحاظ زمان الآية وبلحاظ زمان الأمير علیه السلام حيث لم يكن من وسيلة لمعرفة زمان نزول الغيث وما في الأرحام.

وحتى في زماننا هذا قبل التنبؤ بنزول الغيث بواسطة المراصد الجوية هو من علم الغيب وبعد التنبؤ قد يخرج عن كونه علم غيب، وهو متوقف على صدق التوقعات أم لا.

وعلم ما في الأرحام، هو علم غيب أيضاً قبل الاطلاع على ما في رحم الحامل من قبل الآلات المخصصة لذلك، ويخرج عن كونه علم غيب من جهة معرفة جنس الجنين من ذكر أو أنثى، أما بقية الصفات الأخرى فتبقى في دائرة الغيب، وهذا معنى قول العلامة الطباطبائي (وتنزل الغيث وعلم ما في الأرحام ويختصان به تعالى إلا أن يعلمه غيره)

يقول العلامة مغنية: « ... والإنسان العارف يتنبأ بنزول المطر، وقد يصدق تنبؤه، ولكن بعد اطلاعه ومعرفته بعلامات المطر ...، وأيضاً قد يعلم الإنسان العارف بواسطة الأشعة، ما في الرحم من ذكر أو أنثى ولكن الأشعة تعكس الجنين الموجود بالفعل أما الصفات الأخرى التي سوف يكون عليها في المستقبل، وبعد خروجه من بطن أمه كالطول والقصر، والسواد والبياض والبخل والكرم والجبن والشجاعة ... فعلمها عند الله الذي لا اله إلا هو ...» (1) .

ص: 243


1- في ظلال نهج البلاغة - ج 2 ص 256 - مصدر سابق.

يقول إبن أبي الحديد: «واعلم أننا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب، ولكن كل ذلك مستند إلى الباري سبحانه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه، فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدّعي النبوة لم يجز أن يكون ذلك إلا بإذن الله سبحانه وتمكينه، وأن يريد به تعالى استدلال المكلفين على صدق مدّعي النبوة، لأنه لو كان كاذباً لكان يجوز أن يمكّن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك إضلالاً للمكلفين، وكذلك لا يجوز أن يمكّن سبحانه الكاذب في إدعاء النبوة من الإخبار عن الغيب بطريق السحر وتسخير الكواكب والطلاسم ولا بالزجر ولا بالقيافة ولا بغير ذلك من الطرق المذكورة، لما فيه من إستفساد البشر وإغوائهم، وأما إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدعياً للنبوة نظر في حاله، فإذا كان من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى أنه كرامة، أظهرها الله تعالى على يده، إبانة له وتمييزاً من غيره كما في حق علي علیه السلام» (1).

ويقول في موضع آخر: «واعلم أنه غير مستحيل أن يكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية وكل قوة في نفس فهي متناهية، فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين علیه السلام لا على أن يريد به عموم العالِمية، بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات، مما اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهله لعلمه، وكذلك القول في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه إنما كان يعلم أمورًا معدودة لا أمورًا غير متناهية» (2) 17

ص: 244


1- شرح نهج البلاغة: ج 3 ص 5 مصدر سابق.
2- المصدر السابق: ج 5: ص 117

يقول العلامة الخوئي حول موضوع علم الغيب: «إن الغيب على قسمين: قسم هو الغيب عند الكل، وقسم هو غيب عند بعض شهادة عند آخر والأول قد يُعبّر عنه بالعلم المكفوف، وهو مختص بالله سبحانه، وعليه يحمل الأدلة الدالة على أن الغيب لله والثاني: هو المعبّر عنه بالعلم المبذول وعليه يحمل الأدلة الدالة المثبتة لعلمهم عليهم السلام بالغيب وهذه القسمة مستفادة من أخبار كثيرة مثل ما في البحار عن بصائر الدرجات بإسناده عن بشير الدهان قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: إن لله علماً لا يعلمه أحد غيره، وعلماً قد علّمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه. وعن سماعة عن أبي عبد الله علیه السلام قال: إنّ لله علماً علّمه ملائكته وأنبيائه فنحن نعلمه وعلماً لم يطلع عليه أحدٌ من خلق الله» (1).

«وقال بعض الأعلام في توضيح المرام: إعلم أن المراد بالغيب ما غاب عن الحس، فإذا قيل غيب الله يراد به ما غاب عن بعض خلقه أو كله، لأن الله سبحانه لم يغب عنه غائبة فلا يكون عنده غيب، وأما خلقه فلهم غيب وشهادة وقد يكون غيب عند بعض شهادة عند بعض آخر، وقد يكون غيب عند الكل، والغيب الذي ارتضاهم عليهم السلام له فهو غيب عند غيرهم وشهادة عندهم، والغيب الذي عند الخلق فهو ما دخل في الإمكان و أحاطت به المشيئة، إلا أنه لم تتعلق به تعلق التكوين وهذا لا يتناهى ولا ينفد أبد الآبدين، وذلك هو خزائنه التي لا تفنى ولا يتصور فيها نقص بكثرة الإنفاق، فهو عز وجل ينفق منها كيف يشاء، والذي ينفق .

ص: 245


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 8: ص 220، مصدر سابق.

منه في أوقات الإنفاق وأمكنته، ينزل من الغيب إلى البيوت التي ارتضاهم لغيبه وينزل من أبوابها ما يشاء» (1).

والأمير علیه السلام في كلامه الثاني السابق يقسم «أنه لو شاء أن يخبر كل واحد منه من أين خرج؟ وكيفية خروجه من منزله؟ وأين يلج؟ وكيفية ولوجه وجميع شأنه من مطعمه ومشربه وما عزم عليه من أفعاله وما أكله وما ادّخره في بيته وغير ذلك من شؤونه؟ قال: «إلا أني أخاف أن تكفروا في برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أي أخاف عليكم من الغلو وأن تفضّلوني على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم» (2).

ويأتي في هذا السياق إخباره علیه السلام ربيعة بن أبي شداد الخثعمي بقتله عندما جاءه مبايعاً بعد أن خرجت الخوارج من الكوفة أتى علياً أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، فشرط لهم فيه سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي، وكان شهد معه الجمل وصفين ومعه راية خثعم، فقال له بايع على كتاب الله وسنّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال ربيعة على سنّة أبي بكر وعمر، قال له علي علیه السلام ويلك لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه فنظر إليه علي وقال: «أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت» فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة (3).

واضح من هذا الحوار أن ربيعة عندما بايع الأمير علیه السلام لم يكن على ق

ص: 246


1- المصدر السابق ص 221
2- ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 116: 117 - مصدر سابق
3- ابن جرير الطبري: ج 5 م 3: ص 43 - مصدر سابق

ثقة تامة بما يقوم به، ولا ندري ما هي الظروف التي ألجأته لبيعة الامير علیه السلام. هل هي إنتظار أن يتبدل الحال بحسب وجهة نظره؟ لأنه كان يرى رأي الخوارج إلا أنه أعطى لنفسه فرصة وعندما وجد أن الأمور بقيت على ما هي عليه التحق مع الخوارج عندما خرجوا إلى النهر، فيكون إخبار الأمير علیه السلام له بذلك لعله،يرعوي، وليعرف أن الحق مع الأمير علیه السلام ويعلم حقيقة ما أخبره به عندما يصبح قريباً من الموت، لعله يثوب إلى رشده ويعود إلى معسكر الأمير علیه السلام ويعلم الآخرون غيره ممن سمع هذا الكلام من الأمير علیه السلام عندما يقتل هذا الرجل، حيث أخبر الأمير علیه السلام أن الأمير علیه السلام على الحق والصواب وأن الآخرين هم المخطئون في خروجهم عليه، فيكون ذلك أربط للجأش وأثبت لليقين في هذه المعركة التي يتقاتل فيها الأخوة في الدين الواحد؟!

وأخبر الأمير علیه السلام زرعة بن البرج بمصيره، وكان من الخوارج عندما قال زرعة للأمير علیه السلام: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عز وجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه. فقال له علي علیه السلام: «بؤساً لك ما أشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح) (1).

أي شقاء هذا في رجل يرى أن قتال إمام المسلمين فيه رضوان الله تعالى؟ لا بد من إخبار من يصّرح بهذه العقيدة المنحرفة، الواضح فيها منتهى الغفلة ومنتهى الشقاء، لا بد من إخباره بمصيره لعله يستيقظ من غفلته ومن سباته ويعرف أين الحق واقعاً؟ وأين رضوان الله حقيقة؟

ولما ذكرناه هنا وقبل قليل، نجد أن إخباره علیه السلام لهذين الشخصين 0

ص: 247


1- المصدر السابق ص 41 40

بمصيرهما لا يتنافى مع قوله علیه السلام السابق: «لكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ألا وإني مفضيه إلى الخاصة ممن يوثق ذلك منه» فإن هذين الرجلين وإن لم يكونا من الخاصة، إلا أن مصلحة اقتضت إخبارهما بذلك كما أسلفنا، ثم إن إخباره الخاصة من أصحابه لا يعني عدم إخباره غيرهم إذا كان هناك مصلحة تقتضي ذلك، كما تبين لنا ذلك مما تقدم.

الكوفة

«كأني بك يا كوفة تمدّين مدّالأديم العكاظي، تعركين بالنوازل وتركبين بالزلازل، وإني لأعلم ما أراد بك جبار سوءاً، إلا ابتلاه الله بشاغل ورماه بقاتل» (1).

يقول إبن أبي الحديد تعليقاً على هذا الكلام: قوله علیه السلام: «تمدّين مدّ الأديم» إستعارة لما ينالها من العسف والخبط وقوله: «تعركين» من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم، والزلازل هنا الأمور المزعجة والخطوب المحركة) (2).

ويقول أيضاً: «وقد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت عليهم السلام شيء، نحو قول أمير المؤمنين علیه السلام: «نعمت المدرة» وقوله علیه السلام: «هذه مدينتنا ومقر شيعتنا» وقول جعفر بن محمد الصادق علیه السلام: «إرم من

ص: 248


1- نهج البلاغة - ص 86 رقم 47 - مصدر سابق، والأديم: الجلد المدبوغ و العكاظي نسبة - إلى عكاظ وهي سوق كانت العرب تقيمها بناحية مكة، كانوا يجتمعون بها في كل سنة يقيمون شهراً، ويتبايعون ويتناشدون الشعر ليتعاكظوا أي يتفاخروا أنظر المصدر ص 580 وإبن أبي الحديد مصدر سابق ج 2 ص 66.
2- شرح نهج البلاغة - المصدر السابق.

رماها وعاد من عاداها وقوله علیه السلام: «تربة تحبنا ونحبها» (1).

ويتابع إبن أبي الحديد تعليقه على كلام الأمير علیه السلام: «فأما ماهمّ به الملوك وأرباب السلطان فيها من السوء، ودفاع الله تعالى عنها فكثير، روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتاب المنتظم أن زياداً لما حصبه أهل الكوفة وهو يخطب، قطع أيدي ثمانين منهم، وهمّ أن يخرب دورهم ويحمر نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة، يعرضهم على البراءة من علي علیه السلام وعلم أنهم سيمتنعون، فيحتج بذلك على إستئصالهم وإخراب بلدهم، قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري: فإني لمع نفر من قومي والناس يومئذٍ في أمر عظيم. إلى أن يقول. وخرج علينا خارج من القصر، فقال إنصرفوا فإن الأمير يقول لكم إني عنكم اليوم لمشغول وإذا بالطاعون قد ضربه، فكان يقول إني لأجد في النصف من جسدي حر النار حتى مات» (2).

والكوفة مدينة أختطت وبنيت في سنة 17 ه من الهجرة في خلافة الخليفة الثاني، بعد أن كانت المدائن هي المركز في بلاد ما بين النهرين «العراق» وأمر ببنائها بعد أن وجد أن العرب قد تغيرت ألوانهم في أقامتهم بالمدائن بسبب وخومتها ودجلة، فكتب عمر «إن العرب لا يوافقها إلا ما يوافق إبلها» وبعث سعد «بن أبي وقاص»، حذيفة وسلمان وكانا رائدي الجيش ليرتادا منزلاً برياً بحرياً، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار، فسار في غربي الفرات حتى أتى الكوفة، وخرج حذيفة في شرقي الفرات حتى أتى .

ص: 249


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق. ص 66 - 67، وفي منهاج البراعة، أنه أصابه الفالج - ج 4 ص 266.

الكوفة، والكوفة على حصباء وكل رملة حمراء يقال لها سهلة، وكل حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة. وبنيت الكوفة أولاً بالقصب، ثم أتاها حريق في شوال من السنة السابعة عشر للهجرة، فبنيت باللبن، وأول ما بُني فيها المسجد» (1).

وكان الأمير علیه السلام قد نزل بالقرب منها بذي قار (2) في مسيره إلى البصرة عندما خرج عليه طلحة والزبير، وعندما عاد من البصرة نزلها (3) وعندما عاد من حرب صفين للتحكيم عاد إليها وحولها إلى مركز خلافته، ولعل السبب في ذلك إنشغاله بأمر الشام تارة، وبأمر الخوارج أخرى، فلا يسمح ذلك له بالعودة إلى المدينة المنورة لبعدها وقرب الكوفة من الشام.

إلى ماذا يرمي الأمير علیه السلام بكلامه هذا؟ ما هي الأحداث التي يتوقع حصولها في الكوفة؟ ما هو المستقبل الذي تنتظره الكوفة مما يراه أمير المؤمنين علیه السلام أنه حاصل لا محالة؟ وهل مازالت هذه الأحداث قائمة؟

وإذا كانت الكوفة في ذلك الوقت تعني العراق، فهل مازالت الكوفة، العراق بما يصيبه من آلام ومآسٍ وظلم وإضطهاد؟ وإذا كانت كذلك فمتى يبتلى هذا الجبار الذي يذيق العراق الكوفة بأنواع القهر والظلم والإضطهاد؟ (4). أم أن الأمير علیه السلام يتحدث عن حقبة زمنية خاصة لا تمتد ن

ص: 250


1- إبن جرير الطبري - مصدر سابق - م 2 ج 4 ص 189 - 191 - بتصرف
2- المصدر السابق - م 3 ج 5 ص 190
3- إبن أبي الحديد - مصدر سابق - ج 2 ص 36
4- كنت قد كتبت هذه الكلمات قبل حوالي السنة من سقوط نظام صدّام في العراق، والملفت أن يكون يوم سقوطه متوافق مع اليوم الذي قتل فيه المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وهو 9 نيسان

عبر الزمن.

وهل ما زالت الكوفة العراق تُعاقب بسبب ولائها لأمير المؤمنين علیه السلام؟

كما عُوقبت بسبب ولائها هذا على يد الأمويين وبالأخص معاوية

يقول العلامة مغنية: «وقد تنبأ الإمام علیه السلام للكوفة بأن الطغاة سوف يتسلطون عليها من بعده ويسومون أهلها سوء العذاب ... وقد تحققت نبوءة الإمام على أيدي الأمويين وشياطينهم» (1).

وحول قوله علیه السلام: «و إني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءا إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل» يقول العلامة مغنية: «ويُرجّح في الظن أن الإمام علیه السلام ما أراد التخصيص بالكوفة دون غيرها، وقد أجمع العلماء على أن اللقب لا مفهوم له فكل ظالم يلقى جزاء عمله لا محالة سواء أوقع ظلمه على الكوفة أم على فلسطين وفيتنام ...» (2).

البصرة

«كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة، قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها، وغرق من في ضمنها» وفي رواية: «وأيم الله لتغرقن بلدتكم، حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة، أو نعامةجاثمة» (3).

ص: 251


1- في ظلال نهج البلاغة - ج 1 ص 274 - مصدر سابق
2- المصدر السابق.
3- نهج البلاغة: ص 56، مصدر السابق.

يقول إبن أبي الحديد حول هذه الفقرة: «فأما إخباره علیه السلام أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود، ينفجر من أرضها فتغرق ويبقى مسجدها، والصحيح أن المخبَر به قد وقع فإن البصرة قد غرقت مرتين، مرة في أيام القادر بالله ومرة في أيام القائم بأمر الله (1)، غرقت فلم يبق إلا مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين علیه السلام، وجاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل سنام وخربت دورها و غرق كل من في ضمنها وهلك كثير من أهلها وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم (2).

أشار إلى هذين الغرقين للبصرة إبن كثير في البداية والنهاية حيث قال عند ذكره لحوادث سنة 426 هجرية من خلافة القائم بأمر الله العباسي: «وفي مستهل صفر، زادت دجلة بحيث ارتفع الماء على الضياع ذراعين وسقط من البصرة في مدة ثلاثة أيام نحو من ألفي دار» (3).

وفي حوادث سنة 409 هجرية من خلافة القادر قال إبن كثير: «وفي النصف من جمادى الأولى، فاض البحر المالح وتدانى إلى الأبُلّة، ودخل .

ص: 252


1- القادر بالله هو ابو العباس احمد بن اسحاق بن المقتدر، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، بويع له بالخلافة بعد خلع الطائع، اما القائم بأمر الله فهو ابو جعفر عبد الله بن القادر، ولد في نصف ذي القعدة سنة احد وتسعين وثلاثمائة ولي الخلافة عند موت أبيه - انظر السيوطي - تاريخ الخلفاء: ص 411 و 417.
2- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 84، مصدر سابق.
3- م 5، ج 12، ص 34، دار الكتب العلمية - بيروت.

البصرة بعد يومين» (1) وقال الذهبي في حوادث سنة 409 هجرية: «زاد ماء البحر إلى أن وصل إلى الأبُلّة، ودخل البصرة» (2).

تجدر الإشارة إلى أن الشريف كان قد توفي في العام 404 هجرية، أي قبل خمس سنوات من الغرق الأول، وقبل إثنين وعشرين عاماً من الغرق الثاني، مما يبعد إحتمال الوضع سواء من الشريف الرضي أم من غيره

من هو؟

«أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السبُّ فسبوني، فإنه لي زكاة، ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة» (3).

من هو هذا الرجل؟ الذي تنبأ الأمير علیه السلام بظهوره، ولم يقل بوجوده أو خروجه مما يعني أنه موجود إلا أنه سوف يظهر أي سيغلب (4).

«وكثير من الناس يذهب إلى أنه علیه السلام عنى زياداً، وكثير منهم يقول إنه عنى الحجّاج، وقال قوم أنه عنى المغيرة بن شعبة والأشبه عندي أنه

ص: 253


1- المصدر السابق، ص 7
2- تاريخ الاسلام ج28، ص 29، تحقيق عبد السلام تدمري دار الكتاب العربي - بيروت.
3- نهج البلاغة: ص 92 رقم 57، مصدر سابق.
4- المصدر السابق ص 582، رقم 562

عنى معاوية، لأنه كان موصوفاً بالنهم وكثرة الأكل، وكان بطيناً» (1). الحق ما ذهب إليه إبن أبي الحديد، لأنه بالإضافة إلى ما ذكره كدليل على ما ذهب إليه، هناك السبّ والأمر به لأن أول من أمر به معاوية «أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ علي علیه السلام والبراءة منه، وخطب بذلك على منابر الإسلام وصار ذلك سنّة في أيام بني أمية» (2). وما ذكر أنهم المقصودون بكلام الأمير علیه السلام صحيح أنهم أظهروا السبّ وأمروا به، إلا أن ذلك كان بأمر من معاوية، فإن زياداً كان والياً على العراق من قبل معاوية، «وأراد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من عليّ علیه السلام ولعنه وأن يقتل كل من امتنع من ذلك ويخرب منزله، فضربه الله ذلك اليوم بالطاعون فمات لا رحمه الله بعد ثلاثة أيام وذلك في خلافة معاوية» (3)، وقبله المغيرة بن شعبة، «وهو يومئذٍ أمير الكوفة من قبل معاوية، فقد أمر حجر بن عدي أن يقوم في الناس فيلعن عليا علیه السلام فأبى ذلك فتوعده، فقام فقال أيها الناس إن أميركم أمرني أن ألعن علياً فالعنوه فقال أهل الكوفة لعنه الله وعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد» (4).

وبعدهما الحجّاج وإن «كان لعنه الله يلعن علياً علیه السلام ويأمر بلعنه» (5) إلا أنه كان جزءٌ من الدولة الأموية، التي أصبح فيها هذا اللعن وهذا السبّ سنّة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، وهو جاء في زمان لاحق لمعاوية، واستمر ق

ص: 254


1- إبن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة - ج 2 ص 135، مصدر سابق.
2- المصدر السابق - ص 136
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق

هذا الأمر إلى ما بعد الحجاج، ولم يتوقف نهائياً إلا في زمن عمر بن عبد العزيز لأسباب لا مجال لذكرها هنا وليس موضع بحثها، يقول إبن أبي الحديد نقلاً عن شيخه أبو عثمان الجاحظ، بعد أن يذكر ما فعله معاوية في هذا الأمر وبماذا كان ينطق، مما أرباً بنفسي عن ذكره وكتابته إحتراماً لمقام أمير المؤمنينعلیه السلام «فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز» (1).

ثم يذكر إبن أبي الحديد قصة هذا الخليفة الأموي مع هذا الموضوع وأنه هو الذي أزال السبّ واللعن عن أمير المؤمنين علیه السلام (2).

وأنا أشكك وأتوقف في الرواية التي يذكرها الطبري في تاريخه والتي يقول فيها: «ورجع إبن عباس وشريح بن هانيء بعد التحكيم إلى علي وكان إذا صلّى الغداة، يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمرواً وأبا الأعور السلمي وحبيباً وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد، فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن علياً وبن عباس والأشتر وحسناً وحسيناً» (3).

وسبب هذا الشك وهذا التوقف في هذه الرواية، لأن هذه الرواية تسمح بالقول أن معاوية معذور في سبه ولعنه لأمير المؤمنين علیه السلام، لأن الذي بدأ بذلك هو أمير المؤمنين علیه السلام نفسه وهو الذي فتح على نفسه باب اللعن من قبل معاوية بلعنه له أولاً. ثم إن الأمير علیه السلام إذا كان قد ت

ص: 255


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق
3- م 3 ج 6 ص 40 - دار القلم - بيروت

منع جيشه وعسكره وأصحابه من السبّ (1)، كيف يقوم هو بما هو أشد وأغلظ، وإذا كان قد منع عسكره من السبّ بطريق أولى أن يمنعهم من اللعن أيضاً، وإذا كان القرآن الكريم قد نطق باللعن، مما يعني أنه ليس محرماً، إلا أن اللعن لم يكن تصريحا بالأسماء بل تلميحاً، والقرآن الكريم نفسه منع السبّ بقوله: ﴿ ولا تسبّوا الذين كفروا فيسبّون الله عدواً بغير علم) (2)، وكون اللعن جائز في بعض الموارد وغير محرّم فلا يعني ذلك أن يقوم به الأمير علیه السلام فليس كل جائز مما يمكن القيام به ما دام غير واجب.

بين السب والبراءة

أما تفصيل الأمير علیه السلام بين السبّ له والبراءة منه فيما إذا عُرضا على أحد، بسماحه بالأول ونهيه عن الثاني، فعن هذا يقول إبن أبي الحديد: «روی صاحب كتاب الغارات عن محمد بن علي الباقر علیه السلام قال: خطب علي علیه السلام على منبر الكوفة فقال سيُعرض عليكم سبّي وستُذبحون عليه، فإن عُرض عليكم سبّي فسبّوني، وإن عُرض عليكم البراءة مني، فإني على دین محمد صلی الله علیه و آله و سلم ولم يقل فلا تبرؤوا مني» (3).

ثم يذكر رواية أخرى عن الإمام الصادق علیه السلام من نفس المصدر أيضا قال: قال علي علیه السلام: ليذبحن على سبّي - أشار بيده إلى حلقه - ثم قال

ص: 256


1- في إشارة إلى خطبة له عليه السلام لما سمع أصحابه يسبّون أهل الشام في صفين. أنظر نهج البلاغة - ص 323 رقم 206 - مصدر سابق
2- الأنعام - آية 108
3- شرح نهج البلاغة. ج 2 ص 152 - مصدر سابق

فإن أمروكم بسبّي فسبّوني، وإن أمروكم أن تتبرؤوا مني فإني على دين محمد صلی الله علیه و آله و سلم ولم ينههم عن إظهار البراءة» (1) «وأنه أباح لهم سبّه عند الإكراه، لأن الله تعالى قد أباح عند الاكراه التلفظ بكلمه الكفر فقال: ﴿إإِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) (2)

ثم يفسر إبن أبي الحديد قوله علیه السلام: «فإنه لي زكاة ولكم نجاة» فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك، ومعنى الزكاة يحتمل أمرين إحداهما: ما ورد في الأخبار النبوية أن سب المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته، الثاني: أن يريد أن سبّهم لي لا ينقص في الدنيا من قدري بل أزيد به شرفاً وعلو قدرٍ وشياع ذكرٍ، فالزكاة، بمعنى النماء والزيادة» (3).

أما لماذا سمح علیه السلام بالسبّ ولم يسمح بالبراءة؟ مع أن كلاهما محرم وكبيرة.

يجيب إبن أبي الحديد عن ذلك: «إنّ الذي يقوله أصحابنا في ذلك أنه لا فرق بين السبّ والتبري منه وأن كلاً منهما فسق وحرام وكبيرة، وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف. وإنما استفحش - علیه السلام - البراءة لأن هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز إلا من المشركين، ألاترى إلى قوله تعالى: ﴿براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)، وقال تعالى: (إن الله بريء من المشركين ورسوله). فقد صارت بحكم العرف 4

ص: 257


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق - ص 153 - و الآية 106 من النحل
3- المصدر السابق 153 - 154

الشرعي مطلقة على المشركين خاصة، فإذن يحمل هذا النهي على ترجيح تحریم لفظ البراءة، على تحريم لفظ السبّ، وأنّ كان حكمهما واحد» (1).

يقول العلامة مغنية: «أما البراءة من الإمام أمير المؤمنين علیه السلام فإن فيها روايات متعارضة: بعضها في الجواز وبعضها الآخر في المنع، وإذا عرضناها على كتاب الله ورجّحنا الموافق منها دون المخالف، كما في كثير من الأخبار تعين ترجيح الروايات الآذنة» (2).

ويستدل على ذلك بأدلة ثلاثة:

أولاً: عموم أدلة نفي الضرر.

ثانياً: قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (3).

ثالثاً: إن هلاك الموالي المخلص وإنقطاعه عن مناصرة الولاية والموالين فيه ضرر كبير وأكثر بكثير من كلمة لا تضر ولا تمس عظمة الإمام علیه السلام من قريب أو بعيد (4).

إلا أنه لم يبيّن لماذا نطق أمير المؤمنين علیه السلام بهذا الحكم؟ وهل أن هذا الحكم خاص بزمان ذلك الرجل الذي سيطلب البراءة من الموالين؟

وحتى لو كان خاصاً بذلك الزمان هل أراد الأمير علیه السلام أن يوقع مواليه بالحرج الشديد المؤدي إلى القتل لرفضهم البراءة، كما حصل فعلاً مع .

ص: 258


1- المصدر السابق - ص 154، والآيتان 1 و 3 من براءة
2- في ظلال نهج البلاغة - ج 1 ص 308 - مصدر سابق
3- النحل آية 106
4- في ظلال نهج البلاغة: ج 1، ص 308، مصدر سابق.

حجر بن عدي وأصحابه في مرج دابق؟ لا، لم يرد الأمير علیه السلام أن يوقع أصحابه في الحرج الشديد، وهذا الحكم الذي نطق به الأمير علیه السلام لا نحمله على ظاهره من إرادة النهى التحريمي بقرينة الأدلة التي ساقها العلامة مغنية قبل قليل فبأدلة نفي الضرر والآية.

نقول: إن الأمير علیه السلام لا يريد تحريم البراءة اللسانية التي لا تستبطن البراءة القلبية، فمن تبرأ من الأمير علیه السلام بلسانه وقلبُه مُفعمٌ بالولاية له، لا يقصده الأمير علیه السلام من نهيه هذا، فمراد الأمير علیه السلام هو النهي عن البراءة الفعلية أي البراءة اللسانية والقلبية.

صاحب الزنج

«يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لَجَبٌ، ولا قعقعة لُجُم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام» ثم قال علیه السلام: ويل لسككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة من أولئك الذين لا يُندب قتيلهم، ولا يُفقد غائبهم، أنا كابُّ الدنيا لوجهها وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها» (1).

يقول الشريف الرضي: «أنه علیه السلام يوميء بذلك إلى صاحب الزنج» (2)

أما من هو أحنف الذي يخاطبه الأميرعلیه السلام؟

فعن هذا يقول الخوئي: «قيل كان إسمه صخر وقيل الضحاك بن قيس بن معاوية من بني تميم وكنيته أبو بحر شهد مع أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 259


1- نهج البلاغة - ص 185 - 186 - رقم 128 مصدر سابق
2- المصدر السابق

الجمل ولم يشهد صفيّن مع أحد الفريقين». قال البحراني: «والخطاب مع الأحنف لأنه كان رئيساً ذا عقل وسابقة في قومه، وبسببه كان إسلام بني تميم حين دعاهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلم يجيبوا، فقال لهم الأحنف إنه يدعوكم إلى مكارم الأخلاق فأسلموا وأسلم الأحنف» (1).

إبن حجر العسقلاني يقول عنه: «إنه أدرك الرسول علیه السلام ولم يجتمع به ولقبه الأحنف وهو مشهور به، وكان ممن اعتزل وقعة الجمل ثم شهد صفين» (2).

وذكر الطبري في ثلاثة مواقع إعتزال الأحنف أمر الجمل والبصرة، ويظهر من أحد هذه المواقع أن ذلك كان بأمر من أمير المؤمنين علیه السلام أو على الأقل بإذن منه.

الأول: نزل علیه السلام الزاوية و أقام أياماً، فأرسل إليه الأحنف: إن شئت أتيتك وإن شئت كففتُ عنك أربعة آلاف سيف. فأرسل إليه علي علیه السلام: «كيف بما أعطيت أصحابك من الإعتزال؟» قال: إن من الوفاء لله عز وجل قتالهم. فأرسل إليه: «كفّ من قدرت على كفّه» (3).

الثاني: أرسل عمران بن حصين في الناس يخذّل من الفريقين جميعاً كما صنع الأحنف (4). وعمران بن حصين هذا هو صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكان إسلامه عام خيبر. وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وكان ينزل 0

ص: 260


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - ج 8 ص 205 - 206
2- الإصابة في تمييز الصحابة - ج 1 ص 103 - دار الكتب العلمية - بيروت
3- تاريخ الأمم والملوك: ج 5: م 3 ص199: مصدر سابق
4- المصدر السابق ص 200

ببلاد قومه ثم تحول إلى البصرة إلى أن مات بها (1).

الثالث: لما رجع الأحنف بن قيس من عند علي لقيه هلال بن وكيع بن مالك بن عمرو فقال: أي هلال ما رأيك؟ قال الأحنف: الإعتزال فما رأيك؟ قال: مكانفة أم المؤمنين: فقال الأحنف: يا لزيد اعتزلوا هذا الأمر وولوا هذين الفريقين كيسه وعجزه. وقال هلال بن وكيع: لا تعتزلوا هذا الأمر ونادى يا لحنظلة تولوا كيسه. فكان هلال على حنظلة، وطاوعت سعد الأحنف واعتزلوا إلى وادي السباع (2).

إذن فالأحنف كان قد اعتزل أمر الحرب عن الفريقين في البصرة، فلماذا يحدّثه الأمير علیه السلام بهذا الأمر الغيبي، وبالأحداث التي ستجرى على البصرة؟ هل لأنه كان شاكاً بأمر أمير المؤمنين علیه السلام؟ ولم يكن يكفيه أنه قد بايعه علیه السلام المهاجرون والأنصار، وأن طلحة والزبير قد بايعاه علیه السلام ثم نقضا البيعة ونكثا، فيحتاج إلى أمر آخر يتثبت من أمر أمير المؤمنين، وأنه ليس مجرد خليفة بويع له بالخلافة، ولا يضر أن يكون هذا الإخبار عن أحداث مستقبلية قدلا يشهدها الأحنف، إذ يكفى أن يعلم الأحنف أنه علم غيبي أو تعلّم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتى يعلم من هو أمير المؤمنين علیه السلام، ولذلك نجده يشارك في معركة صفين إلى جانب أمير المؤمنين علیه السلام أم لأن إعتزال القتال كان بأذن من الأمير علیه السلام؟ و إنما خاطبه بهذا الخطاب على طريقة «أكلمك يا جاره لتسمعي يا كنة» فالخطاب ليس للأحنف وإنما هو لمن مازال شاكاً في أمر الأمير علیه السلام. وكيفما كان، نعود إلى تلك الإخبارات. ف

ص: 261


1- إبن حجر العسقلاني: مصدر سابق: ج 5 ص 26
2- ابن جرير الطبري - مصدر سابق - ج 5 ص 201 - بتصرف

أما صاحب هذا الجيش الذي أدعيّ أن المراد به صاحب الزنج فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس وخمسين ومائتين «255 هجرية» رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة، وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصاً الطالبيين، وجمهور النسّابين إتفقوا على أنه من عبد القيس، وأنه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمه أسدية من أسد بن خزيمة جدها محمد بن حكيم الأسدي من أهل الكوفة أحد الخارجين مع زيد بن علي بن الحسين علیه السلام وذكر المسعودى في كتابه المسمى مروج الذهب، أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج تدل على أنه لم يكن طالبياً لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة - فرقه من الخوارج - في قتل النساء والأطفال والشيخ الفاني والمريض، وقد رُوي أنه خطب مرة وقال في أول خطبته: لا إله إلا الله والله اكبر لا حكم إلا لله، وكان يرى الذنوب كلها شركاً ... الخ (1).

أما الأوصاف التي ذكرها الأمير علیه السلام لهذا الجيش سار بالجيش الذي لا يكون له غبار أصلاً أو الغبار الشديد الذي جرت العادة بسطوعه عند مسير الجيوش والفرسان وثورانها من حوافر الخيل «ولا لجب وصياح ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل» (2) إذ لم يكونوا ركباً بل مشاة حفاة يثيرون 3.

ص: 262


1- إبن أبي الحديد مصدر سابق: ج 4 ص 153
2- اللجم جمع لجام، وقعقعتها ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل انظر: نهج البلاغة: فهرس الألفاظ الغربية ص 623.

الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام تشبيه أقدامهم بأقدام النعام و أراد بإثارتهم الأرض بأقدامهم شدة وطئهم لها وكنى بها عنها، وما قيل من أن المعنى أنهم يثيرون التراب بأقدامهم لأن أقدامهم في الخشونة كحوافر الخيل، ففيه أنه لا يلائم ظاهر قوله لا يكون له غبار إلا أن يُحمل المنفيُّ على الغبار الشديد حسبما قدّمنا (1).

اللجب الصوت، والدور المزينة المموهة بالزخرف وهو الذهب وأجنحة الدور التي شبهها بأجنحة النسور رواشينها، والخراطيم ميازيبها وقوله لا يُندب قتيلهم ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم، وذلك لأن أكثر الزنج الذين أشاروا إليهم كانوا عبيداً لدهاقين البصرة وبناتها، ولم يكونوا ذوي زوجات وأولاد، بل كانوا على هيئة الشطّار عزّاباً، فلا نادبة لهم، وقوله ولا يفقد غائبهم يريد به كثرتهم وأنهم كلما قتل منهم قتيل سدّ مسدّه غيره فلا يظهر أثر فقده» (2).

قال إبن أبي:الحديد: «قال أبو جعفر الطبري: ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ، فأتاه كبراؤها أقاموا له الأنزال وبات ليلته عندهم فلما أصبح أهدى له رجل من أهل القرية المسماة جيء فرساً كميتا، فلم يجد سرجاً ولا لجاماً فركبه بحبل وشنقه بحبل ليف قلت «أي إبن أبي الحديد» هذا تصديق قول أمير المؤمنين علیه السلام «كأنه به قد سار مع الجيش الذي ليس له غبار ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام» (3). 56

ص: 263


1- الخوئي - مصدر سابق - ج 8 ص 206
2- أبن أبي الحديد - مصدر سابق - ج 4 ص 152 - 153
3- المصدر السابق - ج 4 ص 156

أما لماذا خرج في البصرة و أعلن دعوته فيها؟

فهذا يتضح من خلال ما تقدم من أنه كان يذهب إلى قول الأزارقة، والأزارقة فرقة من فرق الخوارج الذين كانوا يعتبرون أن الدار دار كفر وأهلها ظالمون وأول ما ظهرت هذه المقولة في إجتماعهم في دار عبد الله بن وهب الراسبي (1). وكانت البصرة معقلهم الأساسي، بعدما أظهروا الخلاف على أمير المؤمنين علیه السلام، ويأسوا من الإعتراف أنه أخطأ بقبوله التحكيم حسب زعمهم، أما قتلهم الذريع للمسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، فلتطرفهم بالقول أن الدار دار كفر وأهلها ظالمون كما أسلفنا، فلذا يستحقون القتل، وكان صاحب الزنج قد أرسل محمد بن مسلم وسلیمان بن جامع ويحي بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم ويعلمهم أنه لم يخرج إلا غضباً لله وللدين ونهياً عن المنكر (2).

وانتهت حركة الزنج في شوال من العام 272 هج، وقتل رؤساؤهم الخمسة الذين كانوا قد وقعوا في الأسر، وهم أنكلاني بن الناجم وعلي بن إبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني ونادر الأسود وذبحوا كما تذبح الشاة (3).

الدكتور حسن عباس نصر الله حاول أن يُطبّق قول الأمير علیه السلام هذا، على عصرنا الحاضر من خلال الإحتلال الإنكليزي عام 1917 أو الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2002، لأن الدبابات والجند يسيرون على الإسفلت

ص: 264


1- ابن جرير الطبري - مصدر سابق - م 3 ج 6 ص 42
2- إبن أبي الحديد - مصدر سابق - ج 4 ص 158
3- المصدر السابق - ص 183 بتصرف

ولا يثيرون الغبار وهذه الأهوال أهم وأعظم من أهوال الزنج.

أقول، سواء أخذنا بمقولة القدماء من أ أن المراد هو صاحب الزنج، أو أخذنا بمقولة الدكتور نصر الله، فإن تطبيق كلام الإمير علیه السلام على هذه الظاهرة أو تلك يبقى في دائرة الإحتمال والتخمين ولاندري حقيقة من هو المقصود فعلاً بهذا الكلام وعدم صحة التطبيق لا يسري على كلام

الأمير علیه السلام.

مروان و الأكبش الأربعة؟!

قالوا: «أُخذ مروان بن الحكم يوم الجمل، فاستشفع الحسن والحسين عليهما السلام إلى أمير المؤمنين علیه السلام، فكلماه فيه، فخلّى سبيله فقالا له يبايعك يا أمير المؤمنين؟ فقال علیه السلام: أولم يبايعني بعد مقتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، إنها كفٌ يهودية، لو بايعني بكفّه لغدر بسُبته، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر» (1).

الذي يهمنا من هذا النص قوله علیه السلام «أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر» أما بقية النص فقد تكلمنا حوله في كتابنا المعارضة في الإسلام لمناسبة اقتضت ذلك والفقرة السابقة محل البحث، هي بمثابة النبؤة لما سيؤول إليه حال مروان مع الخلافة وكذلك أولاده، وما سيؤول إليه أمر الأمة أيضاً من ولايته وخلافته.

ص: 265


1- نهج البلاغة. ص 102 رقم 73 - مصدر سابق

إبن أبي الحديد يعتبر أن هناك فقرة في النص حذفها الشريف الرضي ولم يكتبها وهي قوله علیه السلام: «يحمل راية ضلالة بعدما يشيب صدغاه وأن له إمرة إلى آخر كلامه» (1)، فإنه ولي الخلافة وهو إبن خمسة وستين في أعدل الروايات (2).

في مقام شرحه للفقرة السابقة يقول إبن أبي الحديد: قوله «كلعقة الكلب أنفه»، وكذلك كانت مدة خلافة مروان فإنها تسعة أشهر والأكبش الأربعة بنو عبد الملك الوليد وسليمان ويزيد وهشام ولم يل الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة أخوة إلا هؤلاء وكل الناس فسرو الأكبش الأربعة بما ذكرناه، وعندي أنه يجوز أن يعني به بني مروان لصلبه، وهم عبد الملك وعبد العزيز وبشر ومحمد وكانوا كباشاً أبطالاً أنجاداً، أما عبد الملك فولي الخلافة، أما بشر فولي العراق، أما محمد فولي الجزيرة، وأما عبد العزيز فولي مصر، ولكل منهم الآثار المشهورة، وهذا تفسير أولى لأن الوليد وإخوته أبناء إبنه وهؤلاء بنوه الصلبه ويقال لليوم الشديد يوم أحمر، وكلما أخبر به أمير المؤمنين علیه السلام في هذا الكلام وقع كما أخبر به» (3).

وجاء في الحديث أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً» ذكر ذلك أبو الفرج (4). 0

ص: 266


1- شرح نهج البلاغة. مصدر سابق - ج 3 - ص 137
2- المصدر السابق ص 138
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق - ص 140

وكان مروان بن الحكم قد تولّى الخلافة في العام 65 للهجرة، بعد وفاة يزيد بن معاوية ورفض ولده معاوية بن يزيد تولي الخلافة وكانت الأمور قد استقرت لعبد الله بن الزبير في الحجاز والعراق وبعض الشام وكان ابن الزبير قد طرد بني أمية إلى الشام فقدموا دمشق وفيهم مروان بن الحكم وكان الناس فريقين، حسان بن مالك بالأردن يهوى هوى عبد الله بن الزبير وكان يمنعه من إظهار ذلك أن بني أمية كانوا بحضرته، وكان يعمل في ذلك سراً، وحصل لغطٌ بين الناس في مسجد دمشق لما اجتمعوا للبحث في أمر الخلافة، كل يريدها لمن يهواه، فناس يهوون هوى بني أمية وناس يهوون هوى ابن الزبير. وذكر الواقدي أن مروان بن الحكم قد أطمعه بأمر الخلافة عبيد الله بن زياد حين قدم عليه من العراق، فقال له: أنت كبير قريش ورئيسها يلي عليك الضحاك بن قيس؟ فخرج مروان بن الحكم إلى الضحاك بمرج راهط، فقتلهم مروان والضحاك يومئذ في طاعة ابن الزبير، ثم اجتمع أمر الناس على البيعة لمروان ابن الحكم (1)، وكان هلاك مروان في شهر رمضان بدمشق وهو ابن ثلاث وستين في قول الواقدي، وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه قال: كان يوم هلك إبن إحدى وستين. وقيل: توفي وهو إبن إحدى وسبعين سنة. وقيل: ابن إحدى وثمانين. وعاش بعد أن بويع له بالخلافة تسعة أشهر (2) وكان قد طلب البيعة لولديه عبد الملك وعبد العزيز من بعده (3).3

ص: 267


1- إبن جرير الطبري - مصدر سابق - م 4 ج 7 ص 34 وما بعدها بتصرف
2- المصدر السابق - ص 84
3- المصدر السابق - ص 83

فتنة بني أمية

«ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة: عمّت خطتها، وخصّت بليتها أصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم الله لتجدنّ بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس تعذم بفيها وتخبط بيدها وتزبن برجلها وتمنع دَرْها، لايزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعاً لهم، أو غير ضائر بهم، ولا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون إنتصار أحدكم إلا كإنتصار العبد من ربه والصاحب من مستصحبه ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية، وقطعاً جاهلية، وليس فيها منار هدى ولا علم يُرَى. نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة، ثم يُفرّجها الله عنكم كتفريج الأديم: بمن يسومهم خسفاً، وبسوقهم عُنفاً، ويسقيهم ويسقيهم بكأس مُصَبّرة لا يعطيهم إلا السيف، ولا يُحلسُهُم إلا الخوف، فعند ذلك تود قريش - بالدنيا وما فيها - لو يرونني مقاماً واحداً، ولو قدر جزر جزور لأقبل منهم ما أطلب اليوم فلا يُعطونيه» (1)

هذا الكلام لأمير المؤمنين علیه السلام هو جزء من خطبة ذكرها جماعة من أصحاب السيرة وهي متداولة منقولة و مستفيضة، خطب بها علي علیه السلام بعد انقضاء أمر النهروان (2) بعدما رجع إلى الكوفة، و أغار سفيان بن عوف العامري بأمر من معاوية على الأنبار (3).

ص: 268


1- نهج نهج البلاغة ص 137 - 138 رقم 93 - مصدر سابق
2- إبن أبي الحديد. مصدر سابق - ج 4 ص 20 - 21
3- الخوئي مصدر سابق - ج 7 ص 137

وهذا الجزء من الخطبة المذكور هنا متضمن المجموعة من الأمور.

1 - التحذير من فتنه بني أمية مع ذكر بعض أوصافها.

2 - ما سوف يلاقيه الناس من هذه الفتنة.

3 - أن الناجي الوحيد من هذه الفتنه هم أهل البيت عليهم السلام.

4 - النبوءة بزوال ملك بني أمية على يد بني العباس.

وأنا ذاكرٌ لما في هذه الأمور الأربعة، على نحو الإجمال كبيان لمراد الأمير علیه السلام، مما له علاقة بموضوع الكتاب.

«ومعنى قوله علیه السلام: «عمّت خطتها وخصّت بليتها» أنها عمّت الناس كافة من حيث كانت رئاسة شاملة لكل أحد، ولكن حظّ أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من بليتها أعظم ونصيبهم فيها أوفر» (1) ولا يتنافى هذا مع قوله علیه السلام: «نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة» فإن هذه الفقرة من الكلام جاءت في سياق ذكر أوصاف فتنة بني أمية على المستوى الفكري والعقائدي فليس في هذه الفتنه علم ولا هداية، فمن الطبيعي أن لا يكون لأهل البيت فيها أي نصيب، فهم منبع العلم ومنارات الهدى والقدوة لمن أراد النجاة «هم موضع سره، ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حکمه، وكهوف كتبه وحبال دينه ... هم أساس الدين وعماد اليقين (2)، ولسنا فيها بدعاة أي لسنا من أنصار تلك الدعوة» (3). 20

ص: 269


1- إبن أبي الحديد - مصدر سابق - ج 4 ص 19
2- نهج البلاغة - ص 47 - مصدر سابق
3- إبن أبى الحديد - مصدر سابق - ج 4 ص 20

أما قوله: «عمّت خطتها وخصّت بليتها» فقد جاءت في سياق ذكر ما يقع على الناس من أنواع الاضطهاد والقهر، وأن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم هم أكثر تعرضاً لأنواع هذه العذابات فأقسم علیه السلام لأصحابه أنهم سيجدون بني أمية بعده لهم أرباب سوء، وصدق صلوات الله عليه فيما قال فإنهم ساموهم سوء العذاب قتلاً وصلباً وحبساً وتشريداً في البلاد (1).

ثم قال علیه السلام: «لا يزالون بكم قتلا وإفناءً لكم، حتى لا يتركوا منكم إلا من ينفعهم إبقائه أو لا يضرهم ولا ينفعهم» (2).

ثم تنبأ علیه السلام لهم بانقضاء هذه الفتنة وانتهائها وانفراجها عنهم وانكشافها قوله: «كتفريج الأديم»، الأديم الجلد، ووجه التشبيه أن الجلد ينكشف عما تحته، فوعدهم علیه السلام بأن الله تعالى يكشف تلك الغمّاء كإنكشاف الجلد عن اللحم ويسومهم خسفاً، ويوليهم ذلاً، والعنف ضد الرفق، وكأسٌ مصبّرة ممزوجة بالصبر، ويجوز أن يكون مصّبرة مملؤة إلى أصبارها وهي جوانبها وهذا الكلام إخبار عن ظهور المسوّدة (3) وانقراض ملك بني أمية ووقع الأمر بموجب إخباره صلوات الله عليه، حتى لقد صدق قوله: «لقد تود قريش إلى آخره»، فإن أرباب السيرة كلهم نقلوا أن مروان بن محمد قال يوم الزاب (4) لما شاهد عبدالله بن علي بن عبد لله ة

ص: 270


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق
3- وهم خلفاء بني العباس، وسُمّوا المسوّدة لاتخاذهم السواد شعاراً
4- ذكر هذه الواقعة إبن جرير الطبري في تاريخه م 5 ج 9 ص 130 وما بعدها، وأنها حصلت في عام 132 من الهجرة، ومروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية

بن العباس بأزائه في صف خراسان: «لوددت أن علي بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلاً من هذا الفتى» (1).

يقول العلامة الخوئي - تعليقاً على كلام الأمير علیه السلام - : «وإنما كانت أخوف الفتن لشدّتها وكثرة بلوى أهل الدين بها، وعظم رزء المسلمين فيها، ويكفي في عظمها هتكهم لحرمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقتلهم سبطيه (2) وهدمهم لبيت الله الحرام وإساءتهم الأدب إلى أمير المؤمنين علیه السلام على رؤوس منابر الإسلام ثمانين عاماً حتى راب عليه الصغير وهرم عليها الكبير (3)، وأمرهم للناس للتبري منه علیه السلام، وقتلهم كل من امتنع من ذلك (4)، من واستئصالهم وتخریب دورهم وتشريدهم من البلاد، وجعلهم البدعة سنّة والسنّة بدعة (5).

ويضيف العلامة الخوئي: «ثم أشار علیه السلام إلى براءة ساحتهم من تلك الفتنة بقوله: «نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيه بدعاة» أراد نجاتهم من الدخول فيها من لحوق آثامها وتبعتها وعدم كونهم من الداعين إليها وإلى 89

ص: 271


1- أبن أبي الحديد - مصدر سابق - ج 4 ص 20
2- في إشارة إلى مقتل الإمام الحسن عليه السلام مسموماً على يد زوجته جعدة بنت الأشعث، بإيعاز من معاوية بن أبي سفيان، أنظر المصدر السابق ج 8 ص 125، ومقتل الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء على يد جيش يزيد بن معاوية، الذي كان بإمرة عمر بن سعد، مما هو معروف و مشهور
3- في إشارة إلى السبّ الذي استمر من أيام معاوية، إلى أيام عمر بن عبد العزيز، وهو الذي رفع السبّ، أنظر المصدر السابق ج 2 ص 136
4- كمثل على هذا، قتل حجر بن عدي وأصحابه، في عام 51 هج، أنظر إبن جرير الطبري - مصدر سابق - م 3 ج 6 ص 141 وما بعدها
5- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة. ج 7 ص 88 - 89

مثلها، وليس المراد نجاتهم من أذيتها وخلاصهم من بليتها، لكونهم عليهم السلام أعظم الناس بلية وأشدهم أذية فيها، وكفى بذلك شاهداً شهادة الحسين علیه السلام وأولاده وأصحابه وهتك حرمته ونهب أمواله» (1).

... وظلمهم

«والله لا يزلون حتى لا يدعوا محرّماً ألا استحلّوه ولا عقدًا إلا حلّوه وحتى لا يبقى بيت مَدَرٍ ولا وبرٍ إلا دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باكٍ يبكي لدينه وباكٍ يبكي لدنياه، وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه وإذا غاب اغتابه، وحتى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم بالله ظناً، فان أتاكم الله بعافية فاقبلوا وإن ابتليتم فاصبروا فإن العاقبة للمتقين» (2).

تقدم في الكلام السابق للأمير علیه السلام تحت عنوان فتنة بني أمية وصف لحالة الظلم التي تنبأ بها علیه السلام التي وقعت على الناس من بني أمية، وسابقاً وصفها علیه السلام بقوله: «كالناب الضروس: تعذم بفيها، وتخبط بيدها وتزبن برجلها وتمنع درها» شبّه علیه السلام بني أمية بالناب الضروس، والناب الناقة المسنة والضروس السيئة الخلق تعض حالبها وتعذم بفيها تكدم، والعذم الأكل بخفاء وفرس عذوم يعض بأسنانه، والزبن الدفع زبنت الناقة تزين إذا ضربت بثفناتها عند الحلب تدفع الحالب عنها، والدر اللبن وفي المثل «لا

ص: 272


1- المصدر السابق - ص 91
2- نهج البلاغة - ص 143 - 144 - رقم 98 - مصدر سابق

دَرْ دَرّه» الأصل لبنه ثم قيل لكل خير» (1) ثم قال علیه السلام: «حتى يكون إنتصار أحدكم منهم كإنتصار العبد من مولاه» أي لا إنتصار لكم منهم، لأن العبد لا ينتصر من مولاه أبداً، وقد جاء في كلامه علیه السلام في غير هذا الموضع - أي الكلام المذكور أعلاه - تتمة هذا المعنى إن حضر أطاعه وإن غاب سبّه وهذا أمارة الذل» (2).

وهنا يبين علیه السلام أنهم يستحلوّن المحرمات، وينقضون العهود والمواثيق وأن ظلمهم سوف يدخل كل بيت في كل قرية أو مدينة حتى في البادية بيوت المدر هي البيوت المبنية في القرى، وبيوت الوبر ما يتخذ في البادية من وبر الإبل والوبر لها كالصوف للضان وكالشعر للماعز وقد وبر البعير إذا كثره وبره» (3)، كل ذلك بسبب سوء رعايتهم لأمور الأمة.

يقول العلامة الخوئي: «إعلم أن المقصود بهذا الكلام الإشارة إلى شدة طغيان بني أمية، وما يصيب المسلمين منهم من الظلم والجور والأذية، وصدّر الكلام بالقسم البار تحقيقاً وتصديقاً فقال: «والله لا يزالون» ظالمين «حتى لا يدعو لله محرّماً إلا استحلّوه» أي عدّوه حلالاً واستعملوه استعمال المحللات ولا يبالون به، ويشهد بذلك ما صدر منهم من القتل وإتلاف النفوس التي لا تحصى «ولا يتركوا عقدًا إلا حلّوه» والمراد به إما العقد والعهود المعاهدة بينهم وبين الناس فالمراد بحلها نقضها، وأول ما وقع من ذلك ما كان من معاوية، حيث نقض المعاهدة بينه وبين الحسن علیه السلام 35

ص: 273


1- إبن إبي الحديد - مصدر سابق - ج 4 ص 20
2- المصدر السابق
3- الخوئي - مصدر سابق - ج 7 ص 135

وإما العهود المأخوذة عليهم من الله تعالى، وهو أحكام الدين وقوانين الشرع المبين، فيكون حلّها عبارة عن مخالفتها وعدم العمل بها (1)

ويقول أيضا: «حتى يقوم الباكيان يبكيان: باكٍ يبكى لدينه وباكٍ يبكي لدنياه» لعل المراد بالباكي لدينه من لم يكن متمكناً من إظهار معالم الدين من القيام بوظائف شرع سيد المرسلين والباكي لدنياه من كان مصاباً بنهب الأموال ومبتلى بسوء الأحوال (2).

وعندما كان الحجّاج بن يوسف الثقفي عاملاً لعبد الملك بن مروان على المدينة إنصرف إليها في صفر من العام 74 من الهجرة، «أقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم واستخف فيها بأصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فختم في أعناقهم وأرسل إلى سهل بن سعد فدعاه فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان، قال: قد فعلت قال: كذبت ثم

أمر به فختم في عنقه برصاص (3).

وبلغ من ظلم الحجّاج الذي كان والياً على العراق من قبل عبد بن مروان (4) ومن بعده للوليد بن عبد الملك (5)، أن أرسل عمر بن عبد العزيز وكان والياً على المدينة المنورة من قبل الوليد بن عبد الملك (6)، أرسل إلى الوليد يخبره بعسف الحجّاج أهل عمله بالعراق، 61

ص: 274


1- المصدر السابق - ص 136
2- المصدر السابق
3- ابن جرير الطبري - مصدر سابق - ج 7 ص 206
4- المصدر السابق - ص 210
5- المصدر السابق. م 4 ج 8 ص 64
6- المصدر السابق. ص 61

وإعتدائه عليهم وظلمه لهم لغير حق ولا جناية)(1). وللحسن البصري وصفٌ للأعمال الظالمة والقبيحة التي قام بها الأمويون «قبّحهم الله وبرّحهم، أليس هم الذين أحلّوا حرم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال، قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر ذوات الدين لا يتناهون عن إنتهاك حرمة، ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام فهدموا الكعبة و أوقدوا النار بين أحجارها وأستارها عليهم لعنة الله وسوء الدار» (2).

ما يذكره الحسن البصري من استحلال الأمويين لحرم الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو إشارة إلى وقعة الحرة، التي حصلت في عام 63 من الهجرة (3)، فإن يزيد بن معاوية بعد أن وصلته أنباء خلعه وطرد عامله على المدينة منها، أرسل جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة قائلاً له: إن حدث بك حدث فاستخلف على الجيش الحصين بن نمير السكوني، وقال له: أدع القوم ثلاثاً فإن هم أجابوا، وإلا فقاتلهم فإذا أظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً فما فيها من مال أو رقةٍ أو سلاح أو طعام فهو للجند (4).

وعندما وصل الجيش الشامي إلى الحرّة إقتتل مع الفئة التي أظهرت الخلاف، وهم عبد الله حنظلة الغسيل على الأنصار، ومعقل بن سنان على المهاجرين وعبد الله بن مطيع على قريش من أهل المدينة (5)، فلما 8

ص: 275


1- المصدر السابق - ص 90
2- المصدر السابق - ص 150
3- المصدر السابق م 4 ج 7 ص 8
4- المصدر السابق - ص 6 - 8
5- المصدر السابق - ص 8

انهزم الناس مال عليهم يضربهم بسيفه، أباح مسلم المدينة ثلاثاً، يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة (1).

أما إحراق الكعبة فقد تم على يد الجيش الأموي بقياده الحصين بن نمير، الذي خلف مسلم بن عقبة بعد موته وبعد الإنتهاء من وقعة الحرة المتقدم ذكرها، «وقدم الحصين بن نمير مكة فناوش إبن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتى أحرق الكعبة (2) وقد تم ذلك في العام في العام 64 من الهجرة، حتى إذا مضت ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة 64 رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار (3) وفي تاريخ اليعقوبي كان حريق الكعبة في سنة 63 هجرية (4).

ضليل الشام

«لكأنّي أنظر إلى ضلّيل قد نعق بالشام، وفحص براياته في ضواحي كوفان (5) فإذا فغرت فاغرته واشتدت شكيمته وثقلت في الأرض وطأته، عضّت الفتنه أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها، وبدا من الأيام كلوحها، ومن الليالي كدوحها، فإذا أينع زرعه، وقام على ينعه وهدت شقاشقه، وبرقت بوارقه عُقدت رايات الفتن المعضلة، وأقبلن كالليل

ص: 276


1- المصدر السابق. ص 11
2- تاريخ اليعقوبي - ج 2 ص 166 - تحقيق عبد الأمير مهنا - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
3- إبن جرير الطبري - مصدر سابق - م 4 ج 7 ص 14
4- ج 2 ص 167
5- إسم للكوفة، وهو في الأصل إسم للرملة الحمراء، أنظر إبن أبي الحديد - مصدر سابق - ج 4 ص 36

المظلم، والبحر الملتطم، هذا، وكم يخرق الكوفة من قاصف ويمر عليها من عاصف وعن قليل تلتف القرون بالقرون، ويُحصد القائم، ويُحطم المحصود» (1).

من هو هذا الضلّيل الذي سوف ينعق بالشام داعياً إلى نفسه بالخلافة؟ ومن ثم تحط راياته في الكوفة. هل هو معاوية بن أبي سفيان؟ الذي كان قد دعا إلى نفسه بالخلافة بالشام في أيام أمير المؤمنين علیه السلام. أم هو عبد الملك بن مروان؟

إبن أبي الحديد يذهب إلى الثاني فيقول: «هذا كناية عن عبد الملك بن مروان، لأن هذه الصفات والإمارات فيه أتم منها في غيره، لأنه قام بالشام حين دعا إلى نفسه وهو معنی نعیقه وفحصت راياته بالكوفة تارة حين شخص بنفسه إلى العراق وقتل مصعباً «ابن الزبير» وأخرى لما استخلف الأمراء على الكوفة كبشر بن مروان أخيه وغيره، حتى انتهى الأمر إلى الحجّاج، وهو زمان إشتداد شكيمة عبد الملك وثقل وطأته، وحينئذ صعب الأمر جداً وتفاقمت الفتن مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث، فلما كمل أمر عبد الملك وهو معنى أينع زرعه، هلك، وعقدت رايات الفتن المعضلة من بعده كحروب أولاده مع بني الملهب، وكحروبهم مع زيد بن علي علیه السلام وكالفتن الكائنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر وخالد القسري وعمر بن هبيرة وغيرهم وما جرى فيها من الظلم واستئصال الأموال وذهاب النفوس (2)

ص: 277


1- نهج البلاغة ص 147 - مصدر سابق
2- شرح نهج البلاغة ج 4 ص 36 - مصدر سابق

ولا يرتضي قول من يقول: إن المراد بهذا الضلّيل هو معاوية بن أبى سفيان، فيقول: وقد قيل إنه علیه السلام لكنّى عن معاوية، وما حدث في أيامه من الفتن وما حدث بعده من فتنة يزيد وعبيد الله بن زياد وواقعة الحسين بن علي علیه السلام وكان قد نعق بالشام ودعاهم إلى نفسه والكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد، ألا تراه يقول لكأني أنظر إلى ضلّيل قد نعق الشام (1). أقول: ولا يمكن القول: أنه علیه السلام أراد الكناية عن الإثنين معاً لأنهما كلاهما قد دعا إلى نفسه وكلاهما وقعت في زمانه فتن عديدة. لأنه لو كان مراده علیه السلام الإثنين معاً، لكان يجب أن يأتي بلفظ المثنى لا المفرد فيقول الضلّيلين وغير ذلك. ثم إن معاوية وإن كان قد أرسل براياته إلى ضواحي الكوفة كالأنبار، بشكل غارات سريعة تقتل وتحرق، مما هو مسطور في محله من المصادر التاريخية، إلا أنها لم تكن تبقى طويلا فكانت تعود سريعاً.

وذكر الطبري في تاريخه أن مصعب بن الزبير كان عامل أخيه عبد الله بن الزبير على الكوفة والبصرة (2)، وكان عبد الملك بن مروان خرج من الشام إلى العراق لحرب مصعب بن الزبير فاختلف عليه رؤساء أهل الشام من غير خلاف لما يريده و لكنهم أحبوا أن يقيم ويقدم الجيوش فإن ظفروا فذاك، وإن لم يظفروا أمدهم بالجيوش، فقالوا: لو أقمت مكانك وبعثت على هؤلاء الجيوش رجلاً من أهل بيتك ثم سرحته إلى مصعب. فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث .

ص: 278


1- المصدر السابق
2- م 4 ج 7 ص 181، بتصرف.

من له شجاعة ولا رأي له وإني أجد في نفسي أني بصير بالحرب شجاع بالسيف، فسار عبد الملك حتى نزل مسكن وتدانى العسكران بدير الجاثليق من مسكن، وقُتل مصعب في المعركة التي حصلت بينهما في ذلك الموقع، وبعد أن انتهى عبد الملك بن مروان من أمر مصعب بن الزبير توجه إلى الكوفة فنزل في النخيلة ثم دعا الناس إلى البيعة.

وعندما أراد عبد الملك الرجوع إلى الشام وجّه الحجّاج بن يوسف الثقفي إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، وكانت الحرب بينهما بعد حصار دام ستة أشهر وسبعة عشر ليلة، وقتل ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة من سنة 72 من الهجرة، ودخل الحجّاج مكة فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان.

وخرج في أرض الموصل والجزيرة صالح بن مسرح وكان يرى رأى الصفرية، وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية. وكان خروجه في العام 76 من الهجرة، بعد عام من تولّي الحجّاج أمر العراق من قبل عبد الملك بن مروان، وكان شبيب بن يزيد قد خرج في نفس العام واستطاع الدخول إلى الكوفة ولم يكن الحجاج فيها، إلا أنه عندما علم بخروج شبيب إليها أقبل مسرعا يريد الدخول إليها، يتسابق مع شبيب في الدخول إليها، فدخلها شبيب أولاً حتى انتهى إلى السوق، ثم شّد حتى ضرب باب القصر، واقتحموا المسجد الأعظم، وقتلوا أناسا من جماعة الحجّاج من بينهم صاحب شرطته وخرجوا من الكوفة، ثم إن الحجّاج دعا عبد الرحمن بن محمد الأشعث فقال له: إنتخب الناس واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة آلاف فانتخب فرسان الناس ووجوههم وأخرج من

ص: 279

قومه ستمائة من كنده وحضرموت. وأخذ عبد الرحمن في تتبّع شبيب ومن معه من الخوارج من بلد إلى بلد إلى أن تلاقيا على تخوم الموصل في قرية من قراه ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حتى انهزم عبد الرحمن وجنده وعاد إلى الكوفة، وبعد أن أحسّ الحجّاج بعجزه أمام شبيب وجماعته من الخوارج أرسل إلى عبد الملك بن مروان يستنجده بأهل الشام، فبعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف من مذحج و حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين وجعل أهل الكوفة يتجهزون، ثم إن الحجّاج جعل أمير الجيش عتاب بن ورقاء وتلاقيا قريباً من المدائن وانهزم عتاب بن ورقاء وجيشه وقتل ورقاء. وأراد شبيب الدخول إلى الكوفة للمرة الثانية فقطع الجسر وعسكر دونه ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني خرج أهل الكوفة خشية، إن لم يخرجوا موجدة الحجّاج وعبد الملك بن مروان، وفي اليوم الثالث كان الحجّاج يخرج غلاما من غلمانه فيقتل على يد شبيب وهو يظن أنه الحجّاج، ثم إن الحجّاج خرج بنفسه على رأس جيش الشام والكوفة لملاقاة شبيب والخوارج، الذين معه في أطراف الكوفة عند الجسر فلم يستطيع شبيب الدخول إلى الكوفة وانهزم عنها ثم عاد الحجاج إلى الكوفة.

وفي رواية أن شبيب عاد أدراجه إلى كرمان، وكتب الحجّاج إلى عامله في البصرة، أن يبعث رجلاً شجاعاً شريفاً، من أهل البصرة في أربعة آلاف ليلحق بسفيان بن الأبرد وتلاقوا مع شبيب ومن معه عند جسر دُجيل، واقتتلوا قتالاً شديداً على دفعات، حتى انهزم شبيب ومن معه وغرق في الماء وكانت نهاية حركته في العام 77 من الهجرة وفي رواية أخرى أنه في العام 78 من الهجرة.

ص: 280

وكان المطرف بن المغيرة بن شعبة عامل الحجّاج على المدائن واستطاعت الخوارج استمالته فخلع عبد الملك بن مروان وخرج إلى الجبل فقتل.

و أما عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقد كان عاملاً للحجّاج على سجستان بعد موت عامله عبيد الله بن أبي بكرة وجهّز له جيشاً أنفق عليهم مالاً كثيراً، وأمره بمقاتلة رتبيل، إلا أنه أظهر الخلاف بعد ذلك على الحجّاج والسبب في ذلك كما يقول الطبري من رواية أبي مخنف، أن عبد الرحمن أعدّ خطة لقتال الأعداء أن لا يهاجم دفعة واحدة، بل على دفعات وفي كل عام مرة، إلا أن الحجّاج إعتبر هذا الأمر بسبب ضعف عبد الرحمن وحبه للراحة والموادعة، مما أثار حفيظة عبد الرحمن وإعلانه الخلاف، و بايعه الناس على خلع الحجّاج ثم أراد الخروج إلى العراق، وكان كلما مر بمدينة بايعه الناس على خلع الحجّاج، ووصل الخبر إلى الحجّاج، فأرسل إلى عبد الملك بن مروان يعلمه بذلك ويطلب منه المدد وكان لتحرك عبد الرحمن وقع الصاعقة على عبد الملك والدولة الأموية، إذ أن عبد الملك لما سمع بحركة عبد الرحمن هاله الأمر ونزل عن سريره ورُأيَ مابه من الجزع ثم إن الحجّاج خرج إلى البصرة، أقام بها لملاقاة عبد الرحمن و استطاع عبد الرحمن الدخول إلى البصرة أيضاً، وكانت الحرب بينهما في الزاوية إحدى مناطق البصرة واستطاع عبد الرحمن الإنتصار على الحجّاج والخروج إلى الكوفة وعندما علم أهل الكوفة بخروج إبن الأشعث إليهم وثبوا على عامل الحجّاج وحاصروه ثم صالحوه على أن يخرج من القصر ففعل، ثم تلاقيا في دير الجماجم واقتتلا فكانت

ص: 281

هزيمة إبن الأشعث فيها، ثم تلاقيا في مسكن وهُزم إبن الأشعث أيضا حتى خرج إلى سجستان فدخل على رتبيل وآمنه وتتابعت الكتب من الحجّاج إلى رتبيل حتى يسلمه إبن الأشعث وهدده بالقتل أو أن يكفّ عنه الخراج سبع سنين على أن يدفع له إبن الأشعث، فكان للحجّاج ما أراد و أرسل له رتبيل برأس إبن الأشعث ...

وكان المهلّب أحد الأركان الأساسية للحكم الأموي في زمن خلافة عبد الملك، ولم يكن يقل أهمية عن الحجّاج، فقد حارب الأزارقة الخوارج في مواقع عديدة حيث اقتتل معهم بسولاف ثمانية أشهر.

وكان بشر - وهو أخو عبد الملك وكان والياً على الكوفة قبل الحجّاج - بعث المهلّب إلى الحرورية الخوارج وكان الحجّاج قد أرسل إلى المهلّب أن ناهض الخوارج فناهضهم و أخرجهم عن رامهرمز وذلك سنة 75 للهجرة.

وكان المهلب والياً على خراسان من قبل الحجّاج بن يوسف من سنة 79 حتى سنة 82 حيث توفي. وبعد وفاة المهلب جعل الحجّاج مكانه على ولاية خراسان ولده يزيد بن المهلب ثم عزل يزيد عن خراسان وجعل مكانه أخاه المفضّل، والذي يبدو مما يذكره الطبري أن الحجّاج كان يتوجس خيفة من آل المهلب، وأرسل إلى عبد الملك يحذّره منهم، وأنهم كانوا على طاعة ابن الزبير ولا وفاء لهم وعزل الحجّاج أيضا حبيب بن المهلّب عن كرمان، وعبد الملك بن المهلّب عن شرطته، وكان قد حبس يزيد بن المهلب بعد أن عزله عن خراسان وعزل كذلك المفضّل بن المهلّب بعد أن كان قد ولّاه خراسان، واستطاع يزيد بن المهلّب الهرب

ص: 282

هو وأخوته من من سجن الحجّاج، بعد أن كان قد حبسهم واستجاروا بسليمان بن عبد الملك. وبقي عنده حتى وفاة الحجّاج وذلك في عام 95 للهجرة. وعندما تولى سليمان الخلافة في العام 96 للهجرة بعد وفاة الوليد بن الملك، جعل يزيد بن المهلّب والياً على العراق. ثم ولّاه خراسان وذلك في العام 97 للهجرة وبعد ما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك عزل يزيد بن المهلّب عن العراق ثم حمل إليه. وكان عمر بن عبد العزيز يبغض يزيد وأهل بيته ويقول هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، وكان يزيد يبغض عمر ويقول إني لأظنه مرائياً، وكان عمر يتهم يزيد بسرقة أموال المسلمين.

ومهما يكن من أمر يزيد بن المهلب مع الخلفاء الأمويين، فإنه بعد موت عمر بن عبد العزيز وتولي يزيد بن عبد الملك الخلافة، فإن يزيد خرج إلى البصرة معلناً العصيان والتمرد على خلافة يزيد، واستولى عليها وحبس عامل يزيد عليها عدي بن أرطأة الفزاري (1).

ومما تقدم يتضح أن خروج يزيد وتمرده لم يكن طلباً للعدل ورفضاً للظلم الذي كان يمثله خلفاء آل أمية والذي كان هو ركناً أساسياً من أركانهم ودعامة لا يستهان بها في تثبيت حكمهم، وكان بمثابة خط الدفاع الأول لحكمهم وسلطانهم وإنما كان خروجه لأنه لم يعد له شأن في هذا الحكم وهذا السلطان، وفي ذلك يقول الحسن البصري: بعدما رأى جموع ن

ص: 283


1- أنظر تفصيل ما أجملناه من الوقائع والأحداث تاريخ الطبري م 4 ج 7 من ص 181 إلى ص 258، و م 4 ج 8 من ص 3 إلى ص 40، و أجملنا هذه الوقائع للإشارة إلى صدق ما كان قد تنبأ به الأمير عليه السلام من الفتن المصاحبة لخلافة عبد الملك بن مروان

الخارجين مع يزيد وقد اصطفوا صفين ونصبوا الرايات والرماح ينتظرون خروج يزيد وهم يقولون يدعونا يزيد إلى سنّة العُمرين. فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرّح بها إلى بني مروان يريد بهلاك هؤلاء رضاهم، فلما غضب غضبةً، نصب قصباً ثم وضع عليها خِرَقاً ثم قال إنى خالفتهم فخالفوهم (1).

وأما زيد بن علي رضوان الله عليه فإنه خرج في خلافة هشام بن عبد الملك وكان خروجه في الكوفة والوالي عليها يوسف بن عمر وذلك في العام 122 للهجرة، وكانت بيعته التي يبايع فيها الناس «إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفئ بين أهله بالتساوي ورد المظالم وإقفال المجمر، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا» (2).

وثيقة البيعة هذه بمثابة عريضه بالحقوق والمطالب التي كان يريدها زيد (رض) أن تتحقق، وهى أيضا تحكي صورة الواقع الذي كان يعيشه المسلمون في ظل حكم بني أمية، من عدم السوية في العطاء والظلم، ونصرة أهل البيت عليهم السلام، وبهذا يفترق عما سبق فهو لم يكن جزءاً من الحكم الأموي، بل هو جزء من الظلم الذي لحق بالمسلمين، أراد الخروج لرفعه..

ص: 284


1- المصدر السابق: م 4، ح 8، ص 150
2- المصدر السابق - ص 260 - 267 بتصرف.

الحجّاج بن يوسف

«أما والله ليُسَلّطن عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال (1)، يأكل خضرتكم، ويذيب شحمتكم، إيهٍ أبا وَذَحَة» (2).

قال الشريف: الوذحة: الخنفساء وهذا القول يومى به إلى الحجّاج (3).

إبن أبي الحديد بعد أن يشير إلى أن غلام ثقيف المراد به الحجّاج بن يوسف يقول: «وقال الرضي رحمه الله الوذحة الخنفساء، ولم أسمع هذا من شيخٍ من أهل الأدب، ولا وجدته في كتاب من كتب اللغة، ولا أدري من أين نقل الرضي رحمه الله ذلك» (4).

ثم يورد إبن أبي الحديد الآراء المختلفة حول سبب تكنية الأمير علیه السلام الحجّاج بهذه الكنية، نكتفي بذكر سببين ثم نورد الرأي المختار لإبن أبي الحديد.

أما السببان فهما:

الأول: أنّ الحجّاج رأى خنفساء تدبّ إلى مصّلاه فطردها، فعادت ثم طردها فعادت، فأخذها بيده وحذف بها فقرضته قرضاً، ورمت يده منه ورماً كان فيه حتفه وقالوا: وذلك لأن الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته،

ص: 285


1- الذيال التائه وأصله من ذال أي تبختر وجر ذيله على الأرض والميال الجائر الظالم انظر ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: ج 4 ص 99 مصدر سابق.
2- نهج البلاغة: ص 174 - تحقيق صبحي الصالح
3- المصدر السابق
4- شرح نهج البلاغة: ج 4 ص 99 مصدر سابق.

كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة التي دخلت في أنفه فكان فيها هلاكه (1).

الثاني: أنّ الحجّاج قال وقد رأى خنفساوات مجتمعات: واعجباً لمن يقول أن الله خلق هذه. قيل: فمن خلقها أيها الأمير؟ قال الشيطان، إنّ ربكم لأعظم شأناً أن يخلق هذه الوذح ... فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في عصره فأكفروه (2).

أما الرأي المختار لابن أبي الحديد فهو: «ويغلب على ظني أنه علیه السلام أراد معنى آخر، وذلك أن عادة العرب أن تكنّي الإنسان إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنة التعظيم كقولهم أبو الهول وأبو المقدام وأبو المغوار، فإذا أرادت تحقيره والغض منه، كنّته بما يُستحقر ويُستهان به، كقولهم في كنية يزيد بن معاوية أبو زنة يعنون القرد» (3).

ويضيف إبن أبي الحديد قوله: «فلما كان أمير المؤمنين علیه السلام يعلم من حال الحجّاج بنجاساته بالمعاصي والذنوب التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاة كنّاه أبو وذحة» (4).

وجاء في لسان العرب: «وفي حديث علي كرّم الله وجهه أما والله ليُسلّطنّ عليكم غلام تثقيف الذيّال الميّال، إيهٍ أبا وذحة. والوذحة بالتحريك الخنفساء من الوذح، وهو ما يتعلق بإلية الشاة من البعر فيجف ... الوذح ما تعلق بأصواف الغنم من البعر والبول. وقال ثعلب: ق

ص: 286


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق - ص 100
4- المصدر السابق

هو ما يتعلق من القذر بإلية الكبش الواحد منه وذحة» (1).

وبما نقلناه عن لسان العرب يندفع ما أشكله إبن أبي الحديد على الشريف الرضي حول تفسيره لكلمة وذحة فيكون مراد الشريف الرضي من الخنفساء ليس الحشرة المعروفة، بل ما ذكره ابن منظور من الوذحة الخنفساء من الوذح وهو الإشارة إلى صغر حجمها، خصوصا أن إبن أبي الحديد لم يتبنّ أي من التفسيرات التي ذكرها والتي كان فيها الرأي القائل أن الخنفساء هي سبب موت الحجّاج، إذ لم يعهد أن قرضة الخنفساء في اليد مثلا تسبب الموت.

فبكلام إبن منظور يقوى الرأي الذي اختاره ابن أبي الحديد، ويتضح المراد الحقيقي لتفسير الشريف الرضي لكلمة الوذحة، والله العالم.

مصير الخوارج

«مصارعهم دون النطفة، والله لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة» (2).

«كلا والله إنهم نُطفٌ في أصلاب الرجال، وقرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قُطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين» (3).

نبؤتان نطق بهما أمير المؤمنين علیه السلام حول الخوارج ومصيرهم، وكم سيبقى منهم بعد الحرب والقتال وكم سيُقتل من معسكر الأمير علیه السلام أيضا

ص: 287


1- ابن منظور. ج 15 ص 261 - دار إحياء التراث العربي - بيروت
2- نهج البلاغة: ص 93 رقم 95 - مصدر سابق
3- المصدر السابق ص 93 - 94 رقم 60

فالكلام الأول متضمن لنبؤتين بحسب الواقع:

الأولى: لها علاقة بالخوارج أنفسهم.

والثانية: لها علاقة بمعسكر الأمير علیه السلام.

وكون هذه النبؤة تحققت وحصلت في زمن الأمير علیه السلام لاتضر البحث الذي لأجله عقدنا هذا الكتاب وهو إثبات أن ما في نهج البلاغة هو من كلام الأمير علیه السلام من خلال دراسة هذه الغيبيات وأنها حصلت فعلاً وتناقلها الناس والمؤرخون من بعدهم.

في النبؤة الأولى، قيل له علیه السلام عندما خرج لملاقاتهم في النهروان: أنهم عبروا الجسر (1). الذي كان مُقاماً على النهر، وقد صلّى الأمير علیه السلام ركعتين عند مسيره إليهم عند القنطرة (2). أخبرهم بمصيرهم وبما سيؤول إليه، أمرهم وهل هي نبؤة بمكان مقتلهم؟ «مصارعهم دون النطفة» هل كانوا قد عبروا الجسر فعلاً؟ أم أنهم بقوا دونه ولم يعبروه؟.

بعد الذي حصل في التحكيم وعودة كل فريق إلى معسكره، لم يدخل بعض الخوارج الكوفة مع الناس، بل نزلوا في حروراء مباينين للأمير علیه السلام ومخالفين له، وفي رواية أنهم اجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي وتداولوا فيما بينهم بالذهاب إلى المدائن أو النزول في النهروان، واستقر رأيهم على النزول في النهروان «فأما المدائن فإنّ بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسر النهروان» (3) وكتبوا إلى إخوانهم 2

ص: 288


1- المصدر السابق ص 93
2- الطبري - تاريخ الامم والملوك: م 3 ج م 3 ج 6 ص 47، مصدر سابق.
3- المصدر السابق ص 42

من أهل البصرة اللحاق بهم، ولعل هذا هو السبب الذي دعاهم للنزول في النهروان لقربه من البصرة، بالإضافة إلى أنه لم يكن يمكنهم دخول بلد آخر بعد خروجهم من الكوفة وإظهارهم الخلاف للأمير علیه السلام أما تركهم حروراء فلعله لقربها من الكوفة من جهة، وأنهم يريدون من خلال سيرهم الطويل هذا إسماع صوتهم لمن لم يكن قد سمعه بعد ويمكن أن يكون السبب أمر أخر وهو «فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال» (1).

ومهما يكن، فإنهم ساروا حتى نزلوا في النهروان ولم يعبروا الجسر إلى الجهة الأخرى من النهر، وكذلك الأمير علیه السلام فيكون الجسر الذي صلّى عليه الأمير علیه السلام المقام على النهر هو غير النهر الذي وقعت على أطرافه المعركة، وأن الجسرين لعلهما مقامان على نهرين متفرعين من دجلة أو الفرات، والنهروان إما نهر دجلة أو متفرع عنه، وكان الأمير علیه السلام قد لحق بهم من النخيلة حيث كان معسكراً للإنطلاق لحرب معاوية ثانيةً، بعد أن وصلته أنباء اعتداءاتهم على المسلمين (2).

فكون مصارعهم دون النطفة، أي قبل خروجهم إلى الجهة الأخرى من النهر الذي يعني عدم عبورهم الجسر، وهو المكان الطبيعي لإنتقالهم إلى الجهة الأخرى، والنطفة هي ماء النهر وهى أفصح كناية عن الماء كذا ذكر الشريف الرضي (3)

ص: 289


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق - ص 46 - 47، بتصرف
3- نهج البلاغة - ص 93 - مصدر سابق

ثم لما علموا بقرب وصول الأمير علیه السلام وملاقاتهم لقتالهم ظن البعض أنهم قد عبروا الجسر، بسبب حركة كانوا قد قاموا بها توهم هروبهم من محاربة الأمير علیه السلام، أو إرادتهم القتال في مكان آخر أو الجهة الأخرى من النهر، التي تستلزم عبورهم الجسر إلا أنهم في الواقع لم يعبروا. ينقل ابن أبي الحديد هذه الواقعة عن المدائني في كتاب الخوارج: «لما خرج عليٌّ علیه السلام إلى أهل النهر، أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض حتى انتهى إلى علي علیه السلام فقال البشرى يا أمير المؤمنين. قال: ما بشراك؟ قال: إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك فأبشر فقد منحك الله أكتافهم. فقال: الله أنت رأيتهم قد عبروا؟ قال نعم فأحلفه ثلاث مرات في كلها يقول «نعم» فقال علیه السلام: «والله ما عبروه ولن يعبروه» ... فلما انتهى علیه السلام إلى النهر، وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم و عرقبوا خيولهم وجثوا على ركبهم، وحكّموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم (1).

إذن حقيقة الأمر، أن القوم لما سمعوا بوصول الأمير علیه السلام إليهم إستعدوا للقتال والمواجهة، وقاموا بتحركات لهذا ظنها ذلك الرجل الذي أراد أن يبشر الأمير علیه السلام بتوقع الغلبة عليهم أنها حركة باتجاه الجسر وعبوره وكان على ثقة من هذا إلا أن واقع الأمر لم يكن كذلك، إذ أن القوم كانوا قد كسروا جفون سيوفهم وعرقبوا خيولهم وحثوا على ركبهم و حكموا تحكيمه واحدة أي يقولون: «لا حكم إلا لله» وهو شعارهم الذي عرفوا به استعداد للقتال من دون أن يعبروا النهر..

ص: 290


1- ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 203، مصدر سابق.

أما النبؤة حول الناجين من الخوارج والمستشهدين من معسكر الأمير علیه السلام فقد ذكر المبرّد في الكامل كما نقل عنه إبن أبي الحديد: «فقال علي علیه السلام: لأصحابه أحملوا عليهم والله لا يُقتل منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة. فحمل عليهم فطحنهم طحناً، قُتل من أصحابه علیه السلام تسعة، وأفلت من الخوارج ثمانية (1).

وحول النبوءة الأولى يقول إبن أبي الحديد: «هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لإشتهاره ونقل الناس كافة له، وهو من معجزاته وأخباره المفصّلة عن الغيوب، والأخبار على قسمين أحدهما الأخبار المجملة ولا إعجاز فيها، نحو أن يقول الرجل لأصحابه إنكم ستنتصرون على هذه الفئة التى تلقونها غداً، فإن نُصر جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسمّاها معجزة وإن لم يُنصر قال لهم تغيرت نياتكم وشككتم في قولي فمنعكم الله نصره ونحو ذلك من القول، ولأنه قد جرت العادة أنّ الملوك والرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر والنصر فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبارٍ عن غيب يتضمن إعجازاً. والقسم الثاني في الأخبار المفصّلة عن الغيوب، مثل هذا الخبر فإنه لا يحتمل التلبيس لتقيده بالعدد المعين في أصحابه وفي الخوارج، ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من جهة الله سبحانه» (2).

أما كون الخبر من جهة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «ففي الصحاح المتفق عليها، 3

ص: 291


1- المصدر السابق - ص 204
2- المصدر السابق - ج 3 ص 3

أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بينا هو يقسم قسماً، جاءه رجل من بني تميم يُدعى ذا الخويصرةُ فقال: إعدل يا محمد. فقال علیه السلام: قد عدلت. فقال ثانية: إعدل يا محمد فإنك لم تعدل. فقال صلی الله علیه و آله و سلم: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل. وفي بعض الصحاح أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لأبي بكر وقد غاب الرجل عن عينه: قم إلى هذا الرجل فاقتله. فقام ثم عاد وقال: وجدته يصلي. فقال لعمر مثل ذلك فعاد وقال: وجدته يصلي. فقال لعلي علیه السلام مثل ذلك، فعاد فقال: لم أجده. فقال: رسول الله علیه السلام ولو قُتل هذا الرجل لكان أول فتنة وآخرها أما إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يخرجون على حين فرقة من الناس، تُحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم وصومكم في جنب صومهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم آيتهم رجل أسود أو قال أدعج مخذج، إحدى يديه كأنها ثدي إمرأة (1):

والمخدّج هذا سألت عن مصيره عائشة، وهي التي كانت قد سمعت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الحديث السابق «ففي مسند أحمد بن حنبل عن مسروق قال: قالت: إنك من ولدي ومن أحبهم إليّ فهل عندك علم من المخدج، فقلت: نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر، يقال لأعلاه تامراً ولأسفله النهروان بين الخافيق وطرفاء. قالت: أبغني على ذلك بينة. فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلك، قال: فقلت لها: سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيهم؟ فقالت: نعم سمعته يقول إنهم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة أقربهم عند الله وسيلة» (2)

ص: 292


1- المصدر السابق ج 1 ص 202
2- المصدر السابق

ويظهر أن عَمرْاً بن العاص حاول أن يعطي لنفسه هذه الفضيلة بادعائه أنه قتل المخدّج في الإسكندرية، من غير أن يخبر كيف قتله وكيف وصل المخدّج إليها؟

ففي كتاب صفّين للمدائني «عن مسروق أن عائشة قالت له: عرفتُ أن علياً قتل ذا الثدية، لعن الله عمرواً بن العاص، فإنه كتب إليّ يخبرني أنه قتله بالإسكندرية، ألا إنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول يقتله خير أمتي من بعدي» (1).

وكان الأمير علیه السلام ينتظر مصير هذا الرجل الذي أخبره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن وجوده بينهم صحيح أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يخبر عن مقتل هذا الرجل بخصوصه إلا أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أخبر عن وجوده بينهم، وبما أنه أخبر عن مقتلهم وأن هذا الرجل آيتهم وعلامتهم فلا بد أن يكون بين القتلى لذلك نجد الأمير علیه السلام بعد الإنتهاء من المعركة يبحث عنه بين القتلى.

روى جميع أهل السير كافة أن علياً علیه السلام لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلباً شديداً، وقلب القتلى ظهر البطن فلم يقدر عليه فساءه ذلك، وجعل يقول والله ما كذبت ولا كُذبت أطلبوا الرجل وإنه لفي القوم، فلم يزل يتطلبه حتى يجده، وهو رجل مخدّج اليد كأنها ثدي في صدره (2).

وذكر الطبري في تاريخه عن أبي مخنف: «أن عليا علیه السلام خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي، أبو صبرة، والريّان بن صبرة بن هوذة فوجده الريان بن صبره بن هوذة في حفرة على شاطئ 5

ص: 293


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق: ص 205

النهر في أربعين أو خمسين قتيلاً قال فلما اُستخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعيرات سود فإذا مُدّت إمتدت حتى تحاذي طول يده الأخرى، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة، فلما أستخرج قال عليٌ علیه السلام: الله أكبر والله ما كذبت ولا كُذبت» (1).

أما النبؤة الأخرى، التي تتحدث عن مصير الخوارج في مستقبل الأيام وتحولهم إلى مجرد لصوص وقطاع طرق، يقول إبن أبي الحديد تعليقا على كلام الأمير علیه السلام الثاني المتقدم ذكره: «أما قوله علیه السلام: «كلما نجم منهم قرن قُطع»، فاستعارة حسنة يريد كلما ظهر منهم قوم استؤصلوا، فعبّر عن ذلك بلفظة قرن كما يقطع قرن الشاة إذا نجم. وقد صح إخباره علیه السلام عنهم أنهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان. وأنها دعوة سيدعو إليها قوم لم يُخلقوا بعد وهكذا وقع وصح إخباره علیه السلام أيضا أنه سيكون آخرهم لصوصاً سلاً بين. فإن دعوة الخوارج اضمحلت ورجالها فنيت، حتی أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض، فمن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني في أيام الرشيد بن المهدي، فأشخص إليه يزيد بن مريد الشيباني فقتله وحمل رأسه إلى الرشيد، و خرج في أيام المتوكل عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق و أخاف السبيل وتسمّى بالخلافة فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي الثغري الصامتي فقتل كثيراً من أصحابه وأسر كثيراً منهم ونجا بنفسه هارباً، وقد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج .

ص: 294


1- م 3، ج 6، ص 50، مصدر سابق.

بأعمال كرمان وجماعة أخرى من أهل عُمان لانباهة لهم وقد ذكرهم أبو إسحاق الصابي في الكتاب الناجي، وكلهم بمعزل عن طرائق سلفهم وإنما کدهم وقصدهم إخافة السبيل والفساد في الأرض واكتساب الأموال بغير حلها» (1).

نبؤة ثالثه تنبأ بها الأمير علیه السلام حول مصير الخوارج في مستقبل الأيام، قالها في سياق رده عليهم، بعد أن اتهموه بالكفر لقبوله بالتحكيم ونتائجه: «أما إنكم ستلقون بعدي، ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وأثرَة يتخذها الظالمون فيكم سنّة» (2).

إعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين علیه السلام كانوا أصحابه وأنصاره في الجمل وصفّين قبل التحكيم، وهذه المخاطبة لهم وهذا الإخبار عن مستقبل حالهم، وقد وقع ذلك، فإن الله تعالى سلّط على الخوارج بعده الذلّ الشامل والسيف القاطع والأثرة من السلطان، ومازالت حالهم تضمحل حتى أفناهم الله تعالى و أفنى جمهورهم (3).

ثم يذكر إبن أبي الحديد مجموعة من النماذج والأمثله، حول جماعة متفرقة من الخوارج، وماذا كان مصيرهم أعرضنا عن ذكرها لطولها من أراد الاطلاع والتفصيل فعليه العودة إلى المصدر. 0

ص: 295


1- شرح نهج البلاغة - ج 3 ص 23 - 24 - مصدر سابق
2- نهج البلاغة: ص 93 مصدر سابق والأثرة: الإستبداد بفوائد الملك المصدر ص 583 رقم 596
3- إبن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 160

المهدي الموعود

«يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي ... ألا وفي غدٍ - سيأتي غدٌ بما لا تعرفون. يأخذ الوالى من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها، وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلما مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنّة» (1).

وأخذوا يميناً وشمالاً ضعناً في مسالك الغي، وتركاً لمذاهب الرشد فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد، ولا تستبطئوا ما صد، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد، فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنه لم يدركه، وما أقرب اليوم من تباشير غد، يا قوم هذا إبّان ورود كل موعود ودُنوّ من طلعة مالا تعرفون ألا وإن من أدركها منّا يسري فيها بسراج منير، ويحذو فيها على مثال الصالحين، ليحل فيها ربْقاً، ويُعتِقُ فيها رقاً، ويصدع شَعْباً وَيشْعَب صَدْعاً، في سُترةٍ عن الناس لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره، ثم ليُشْحذَنَّ فيها قوم شحذ القَينِ النّصل تُجلى بالتنزيل أبصارهم، ويُرمى بالتفسير في مسامعهم، ويُغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح» (2).

«قد لبس للحكمة جُنّتها، وأخذها بجميع آدابها من من الإقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها، فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها وحاجته التي يسأل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، وضرب بعسيب ذنبه، وألصق الأرض بجرانه، بقية من بقايا حُجّته، خليفة من خلائف أنبياءه» (3).

ص: 296


1- نهج البلاغة: ص 195 - 196 - رقم 138 - مصدر سابق
2- المصدر السابق: ص 208 رقم 150
3- المصدر السابق ص 263

ثلاثة مواضع متفرقة ومتعددة، يشير فيها الأمير علیه السلام إلى قائم آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فهو وإن لم يذكر إسمه صريحاً، إنما يذكر بعض الأوصاف التي تنطبق عليه بأدنى تأمل، إذ من الواضح أنه علیه السلام عندما يقول: «فيريكم كيف يكون عدل السيرة ويحيي ميت الكتاب والسنّة» أنه يقصده ويريده وليس يريد رجلاً آخر، أو إماماً آخر، حيث لن يتسنى لغيره أن يقيم العدل ويحي ما كان قد مات من الكتاب والسنّة، وكذلك قوله علیه السلام: «في سُترة عن الناس لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره» فهو علیه السلام يشير إلى مرحلة يمر بها القائم علیه السلام، ويكون فيها محجوباً عن الناس لا يعلم أحد مکانه مهما حاول أحد معرفة ذلك، والسُترة عن الناس التي يشير إليها الأمير علیه السلام، لاتعني أنه غير مولود كما ذهب إلى ذلك إبن أبي الحديد بناءً على مذهب المعتزلة، حيث قال: «هذا الكلام يدل على إستتار هذا الإنسان المشار إليه وليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم (1). وإن ظنوا أنه تصريح بقولهم، وذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان ويكون مستتراً مدة وله دعاة يدعون إليه ويقرون أمره، ثم يظهر بعد ذلك الإستتار ويملك الممالك ويقهر الدول» (2).

أقول: هذا الكلام من الأمير علیه السلام لايدل إلا على أن هذا الإنسان مستتر كما أشار إلى ذلك إبن أبي الحديد أما أنه مولود أو غير مولود فهذا الأمر مسكوت عنه في هذه الفقرة من الكلام، فهو لا يدل إلا على ق

ص: 297


1- حيث أن مذهب الاماميه المعروف والمشهور أن القائم عليه السلام مولود، وهو ابن الإمام العسكري، وأنه استتر عن الناس إلى أن يأذن الله تعالى بخروجه
2- شرح نهج البلاغة ج 45 مصدر سابق

مجرد الإستتار، وليس فيه دلالة على أمر آخر وإن كان الذي يقوى في النفس دلالته على أنه مولود حين إستتاره، لكن لا بمعنی قبل ظهوره بقليل، بل هو مستتر من دون الإشارة إلى زمان وقوع الإستتار أو مدة هذا الإستتار.

نعود إلى الفقرات الثلاثة الدالة على أن المراد هو الإشارة إلى المهدي الموعود علیه السلام فقوله علیه السلام: «فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ... بقية من بقايا حجته، خليفة من خلائف أنبيائه» فهذه الأوصاف أيضا لا تنطبق إلا على المهدي الموعود فهو البقية الباقية من حجج الله تعالى، وهو الخليفة الأخير الباقي من خلائف الأنبياء. يقول إبن أبي الحديد: ثم قال: «مغترب إذا اغترب الإسلام» هذا الشخص يخفي نفسه ويحملها إذا اغترب الإسلام وإغتراب الإسلام أن يظهر الفسق والجور على الصلاح والعدل قال: «وضرب بعسيب ذنبه وألصق الأرض» هذا من تمام قوله إذا اغترب الإسلام أي صار غريباً مقهوراً، وصار الإسلام كالبعير البارك يضرب الأرض بعسيبه، وهو أصل الذنب ويلصق جرانه وهو صدره في الأرض، فلا يكون له تصرف ولا نهوض» (1).

وعن مجموع الفقرة الثالثة يقول إبن أبى الحديد بعد أن يورد إختلاف الآراء فيها والأقوال: «وأن الشيعة تزعم أن المراد به المهدي المنتظر» (2)، يقول: «وليس ببعيد عندي أن يريد به القائم من آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم في آخر الوقت، إذا خلقه الله تعالى وإن لم يكن الآن موجودا فليس في الكلام 44

ص: 298


1- المصدر السابق - ص 145
2- المصدر السابق - ص 144

ما يدل على وجوده الآن، وقد وقع إتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن الدنيا والتكليف لا ينقضي إلا عليه» (1).

أقول: من الطبيعي أن لا يكون في الكلام ما يدل على وجوده لأن هذا الكلام وغيره من الفقرات، إنما صدرت من الأمير علیه السلام قبل ولادة القائم بعشرات السنين، فلم يكن موجوداً حين صدور هذا الكلام وما ذهب إليه إبن أبي الحديد من القول: «أنه يخلق في آخر الوقت» فإنما ذلك بناء على مذهبه الموافق لرأى المعتزلة، وغيرها من الفرق الإسلامية القائلة بأنه لم يولد بعد وأنه سوف يولد في أخر الزمان، وهذا بخلاف رأي الإمامية من وجوده وولادته ومن ثم غيبته واستتاره إلى أن يأذن الله بخروجه، وقد أشبع علماء الإمامية القول في هذا الأمر فلا حاجة لنا لذكر مذهبهم وأدلتهم لأن الكتاب ليس معقوداً لمثل هذا الأمر.

وحول الفقرة الثانية يقول إبن أبي الحديد بعد أن يذكر الفتن التي سوف تأتي آخر الزمان والتي تسبق ظهور الأمام المهدي علیه السلام: «ثم ذكر أن مهدي آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وهو الذي عنى بقوله وأن من أدركها منا يسري في ظلمات هذه الفتن بسراج منير وهو المهدي واتباع الكتاب والسنة ويحذو فيها يقتفي ويتبع مثال الصالحين ليحل في هذه الفتن «ربقا» أي حبلاً معقوداً، ويعتق رقاً أي يستفك أسرى وينقذ مظلومين من أيدي الظالمين ويصدع شعباً، أي يفرق جماعة من جماعات الضلال، ويشعب صدعاً يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى والإيمان» (2). 5

ص: 299


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق. ص 45

ثم يشرح أوصاف الجماعة التي سوف تكون مع المهدي الموعود التي ذكرها الأمير علیه السلام فيقول: «ليحرضن في هذه الملاحم قوم على الحرب وقتل أهل الضلال وليشحذنّ عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف ويرقق حده» ثم وصف هؤلاء القوم المشحوذي العزائم، فقال: «تُجلى بصائرهم بالتنزيل أي يكشف الرين والغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن وألهمهم تأويله ومعرفة أسراره، ثم صرّح بذلك فقال: «ويُرمى بالتفسير في مسامعهم ويكشف لهم الغطاء وتُخلق المعارف في قلوبهم ويُلهمون فهم الغوامض والأسرار الباطنية، ويُغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح» أي لا تزال المعارف الربانية والأسرار الإ لهية تفيض عليهم صباحاً ومساءً، فالغبوق كناية عن الفيض الحاصل في الأصال و الصبوح كناية عما يحصل لهم منه في الغدوات، وهؤلاء هم العارفون الذين جمعوا بين الزهد والحكمة والشجاعة، وحقيق بمثلهم أن يكونوا أنصاراً لولي الله الذي يجتبيه ويخلقه في أخر أوقات الدنيا، فيكون خاتمة أوليائه والذي يلقي عصا التكليف عنده» (1).

أما الفقرة الأولى، فقد اتفق الشرّاح على أن هذا الفصل إشارة إلى ظهور القائم المنتظر عجل الله فرجه الشريف كما ذكر العلامة الخوئي (2).

إبن أبي الحديد يقول وفقاً لمذهبه: «هذا إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان وهو الموعود به في الأخبار والآثار» (3).

أما معنى قول الأمير علیه السلام: «يعطف الهوى على الهدى إلى آخره». ق

ص: 300


1- المصدر السابق: ص 45
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 8 ص 348 مصدر سابق
3- شرح نهج البلاغة ج 5 ص 15 - مصدر سابق

يقهره ويثنيه عن جانب الإيثار والإرادة، عاملاً عمل الهدى فيجعل الهدى قاهراً له وظاهراً عليه وكذلك قوله: «ويعطف الرأي على القرآن» أي يقهر حكم الرأي والقياس والعمل بغلبة الظن، عاملاً على القرآن، وقوله: «إذا عطفوا الهدى وإذا عطفوا القرآن» إشارة إلى الفرق المخالفين لهذا الإمام الشاقين له الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى ولا يحكمون بالقرآن بل بالرأي» (1).

ومعنى قوله علیه السلام: «يأخذ الوالي من غيرها عمّالها على مساوئ أعمالها» يقول فيه إبن أبي الحديد: «كلام منقطع عما قبله، وقد تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك وإمرة، فذكر علیه السلام أن الوالي يعني الإمام الذي يخلقه الله تعالى في آخر الزمان، يأخذ عمّال هذه الطائفة على سوء أعمالهم» (2).

وفي معنى قوله علیه السلام: «وتخرج الأرض أفاليذ أكبادها» يقول إبن أبي الحديد: «الأفاليد جمع أفلاذ وأفلاذ جمع وهي القطعة من الكبد وهذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر، وقد جاء ذلك في خبر مرفوع في لفظه «وفاءت له الأرض أفلاذ كبدها» (3).

قال العلامة الخوئي: «إستعار لفظ الكبد لكنوز الأرض وخزائنها والجامع مشابهة الكنوز الكبد في الخفاء» (4). ق

ص: 301


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق ص 17
3- المصدر السابق
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - ج 8 ص 351 - مصدر سابق

أقول: لعل الأمير علیه السلام أراد الإشارة إلى الأنصار والأتباع الذين يخرجون ويظهرون مع الإمام علیه السلام بعد أن كانوا غير ظاهرين وغير معروفين بأشخاصهم وأسمائهم، وهم كنوز إدّخرها الله تعالى لذلك اليوم الموعود، وما التعبير الذي استعمله الأمير علیه السلام وهو قوله: «أفاليذ كبدها» إلا للإشارة إلى ذلك، إذ أن كلمة فلذة الكبد لا تستعمل إلا للأبناء، وكونهم أبناء الأرض للإشارة إلى خفائهم وعدم ظهورهم، فكأنهم مختفون في الأرض، كما أن الكبد مختف في باطن الإنسان والله العالم.

فتن مظلمة

«فتنٌ كقطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة ولا تُرَدُّ لها راية، تأتيكم مذمومة مرحولة، يحفزها قائدها ويجهدها راكبها، أهلها قوم شديد كَلَبُهُم، قليل سَلَبُهُم، يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة عند المتكبرين في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون فويل لك يا بصرة عند ذلك، من جيش من نِقَم الله لارَهَج له، ولا حسَّ وسيُبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر» (1).

عن أي فتن يتحدث أمير المؤمنين علیه السلام؟

لا يبدو من أوصافها أنه يتحدث عن الفتن التي حصلت في زمان خلافته علیه السلام، لأن هذه الفتن قد ردّها بصبره وجهاده وقوه بصيرته، ثم إنه علیه السلام معروف في الأرض وفي السماء.

وهل يتحدث عن فتنة صاحب الزنج الذي عقدنا له بحثناً خاصاً في

ص: 302


1- نهج البلاغة ص 148 - مصدر سابق

هذا الفصل؟

إبن أبي الحديد يجيب بالنفي عن هذا السؤال فيقول: «وفسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج وهو بعيد لأن جيشه كان ذا حس ورهج، ولأنه قد أنذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن، ألا تراه قال: و «فويل لك يا بصرة» عند ذلك ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام» (1).

العلامة المجلسي نفى أيضا أن يكون مراد الأمير علیه السلام هو صاحب الزنج فقال «وقيل إن هذا إشارة إلى صاحب الزنج وجيشه وفيه أن الذين جاهدوهم لم يكونوا على الأوصاف المذكورة (2) مراده أن الذين جاهدوا صاحب الزنج لا تنطبق عليهم الأوصاف التي ذكرها الأمير علیه السلام بقوله: «يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة عند المتكبرين، في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون» الذي يعني أن الذين يجاهدون هذا الجيش الذي يثير الفتنة، يجاهدون في سبيل الله وهذا يعني أنهم أصحاب قضية عادلة ومحقة، وأنهم أيضا مظلومون وأنهم مجهولون وكل هذا لا ينطبق على جيش السلطة الأموية التي حاربت صاحب الزنج وجيشه».

إذن من هم هؤلاء الذين يتحدث عنهم أمير المؤمنين علیه السلام؟ أو أين ستقع هذه الفتنة التي خصّها بالذكر من بين كل الفتن التي أشار علیه السلام إليها؟

يقول إبن أبي الحديد: ثم قال: «هم مجهولون عند أهل الأرض» 49

ص: 303


1- شرح نهج البلاغة ج 7 ص 104 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم
2- بحار الأنوار ج 32 ص 249

لخمولهم قبل هذا الجهاد «ولكنهم معروفون عند أهل السماء» وهذا إنذار بملحمة تجري في آخر الزمان، وقد أخبر النبي صلی الله علیه و آله و سلم بنحو ذلك» (1).

أما إخبار النبي صلی الله علیه و آله و سلم بنحو ذلك، فهو إشارة إلى ما رُوي أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: «تكون في آخر الزمان فتنٌ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً

ويمسي كافراً ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً» (2) وفي حديث آخر: «يكون بين يدي الساعة فتن ... (3) الحديث» وما رواه حذيفة بن اليمان أنه قال: «يا رسول الله إنّا كنا في شر، فذهب الله بهذا الشر، وجاء بالخير على يديك، فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم قال: ما هو؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا تأتيكم مشتبهة» (4).

العلامة التستري لا يستبعد أن يكون المراد من قول الأمير علیه السلام فتن كقطع الليل إلى قوله: «قليل سلبهم» هو وصف التتار واستشهد على ذلك بالقول: «فإن وصف الأتراك بكونهم شديداً كَلَبُهم قليلاً سلبهم معروف ذكره الجاحظ في رسالته في مناقب الأتراك» (5). ويضيف العلامة التستري: أن قوله علیه السلام: «فويل لك يا بصرة وصف الزنج» (6).

كنا قد ذكرنا سابقاً أو صافاً لجيشٍ، طبّقها شرّاح النهج على صاحب ق

ص: 304


1- شرح نهج البلاغة: ج 7، ص مصدر سابق
2- ابن أبي شيبه الكوفي - المصنف - ج 7 ص 215 - دار الفکر - بيروت
3- المصدر السابق ص 225
4- أحمد بن حنبل: مسند أحمد - ج 5 ص 319 - دار صادر، بیروت
5- بهج الصباغة في نهج البلاغة م 5 ص 527
6- المصدر السابق

الزنج، وهي قوله علیه السلام: «كأني به وقد سار بالجيش» الذي «لا يكون له غبار ولا لَجَب، ولا قعقعة لُجُم، ولا حمحمة خيل ...» وقد اتفق الشرّاح كون هذه الأوصاف تنطبق على صاحب الزنج، إلا أنهم هنا فقد ظهر خلافهم والملفت أن إبن أبي الحديد في إستدلاله على أن ليس المراد من قوله علیه السلام: «ويل لك يا بصرة من جيش من نقم الله لا رهج له ولا حس» هو جيش صاحب الزنج، يقول: «إن جيش صاحب الزنج كان ذا حس ورهج»

مع أن الرهج: الغبار (1) والحس: الجلبة والأصوات المختلطة (2)، وقد تقدم أن أحد أوصاف جيش صاحب الزنج «سار بالجيش الذي لا يكون له غبار» والوصف الآخر «ولا لجب» واللجب الصياح إذن لم يكن جيش صاحب الزنج بحسب تلك الاوصاف ذا حس ورهج.

ومهما يكن فإن تلك الفقرة محل البحث لم يتفق الشرّاح، على رأي واحد حول حقيقة المراد من الأوصاف التي جاءت فيها.

ثم ما علاقة قوله علیه السلام في هذه الفقرة: «يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة على المتكبرين في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون» مع قوله علیه السلام في فقرة أخرى: «ألا بأبي وأمي من عدة أسماؤهم في السماء معروفة وفي الأرض مجهولة» (3).

هل يتحدث الأمير علیه السلام في هاتين الفقرتين عن شيء واحد؟ خصوصاً أن ابن أبي الحديد يقول عن الفقرة الأولى: «وهذا إنذار بملحمة تجري في ق

ص: 305


1- شرح نهج البلاغة - ج 4 ص 37 - دار نوبلیس - بیروت
2- نهج البلاغة - فهرس الألفاظ الغريبة المشروحة. ص 61 - مصدر سابق.
3- نهج البلاغة - ص 277 رقم 187 - مصدر سابق

آخر الزمان» وقد تقدمت الإشارة إليه.

لماذا لا يكون المراد من الفقرتين الحديث عن جيش صاحب الزمان علیه السلام الذي يقاتل راية وصفها الأمير علیه السلام بقوله: «تأتيكم مزمومة مرحولة، يحفزها قائدها ويجهدها راكبها قوم شدید كلبهم قليل سلبهم»، هذه الراية «مزمومة مرحولة» أي تامة الأدوات كاملة الآلات، كالناقة التى عليها رحلها وزمامها قد استعدت لأن تركب، «يحفزها» يدفعها، «ويجهدها» يحمل عليها في السير فوق طاقتها، والمراد أن أرباب تلك الفتن يجتهدون ويجدون في إضرام نارها ... و «الکَلَب» الشدة من البرد ونحوه، ومثله الكلبة وقد كلب الشتاء وكلب القحط وكلب العدو، والكلب أيضاً الشر، دفعت عنك كلب فلان أي شرّه وأذاه، قوله علیه السلام: «قليل سلبهم» أي همهم القتل لا السلب (1)

ثم ذكر علیه السلام أوصاف الفئة أو القوم الذين يقاتلون أرباب هذه الفتن فقال: «يجاهدهم في الله قوم أذلة على المتكبرين، في الأرض مجهولون وفي السماء معروفون أو: «ألا بأبي وأمي هم عدة أسماؤهم في معروفة وفي الأرض مجهولة» ألا ينطبق هذا على جيش صاحب الزمان علیه السلام؟ فهم مجهولون لا يعلم أحد لا أسماؤهم ولا أشخاصهم، لكنهم معروفون بأسمائهم وأشخاصهم عند أهل السماء عند الله تعالى علّام الغيوب الذي لاتخفى عليه خافية، وعند ملائكته الذين أطلعهم على أسمائهم وأشخاصهم. ت

ص: 306


1- إبن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة: ج 4 ص 37 دار نوبلیس - بیروت

وهل تنطبق هذه الأوصاف التي ذكرها علیه السلام للفريقين على ما يجري في العراق وفلسطين؟ حيث هناك راية مزمومة مرحولة تامة الأدوات كاملة الآلات ليس لها هم إلا القتل فقط لمجرد القتل، والفتنة يجهدون في إضرام نارها ويعيش الناس بسببهم بشدّة، ويجاهدهم قوم مجهولون وأذلة عند المتكبرين والله العالم بحقائق الأمور.

ثم ذكر علیه السلام أوصاف الزمان وأهله الذي تحصل فيه هذه المواجهة، بين أرباب تلك الفتن والقوم الأذلة المجهولون فقال: «ألا فتوقعوا ما يكون من إدبار أموركم، وانقطاع وصلكم، واستعمال صغاركم، ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حلّه، ذاك حيث يكون المُعطى أعظم أجراً من المعطي ذاك حيث تسكرون من غير شراب من النعمة والنعيم، وتحلفون من غير إضطرار، وتكذبون من غير إحراج، ذلك إذا عضّكم البلاء كما يعضّ القَتَب غارب البعير ما أطول هذا العناء وأبعد هذا الرجاء» (1).

لا يحتاج هذا الكلام إلى كثير تأمل، ليراه المرء أنه ينطبق تمام الإنطباق على زماننا، فأمور المسلمين والعرب مدبرة فهم يسيرون بخطوات مسرعة الى الوراء، وأوصالهم مقطعة فهم دويلات وفرق وأحزاب وفئات لا يكادون يجتمعون الأصل فيهم التفرقة والإستثناء هو الإجتماع، وإذا اجتمعوا فعلى ما يفرقهم وإذا اجتمعوا فعلى ما تقتضيه مصالحهم الخاصة لا مصلحة الأمة والدين.

ولا أريد أن أكمل التعليق على بقية الحديث لأنه يدمي القلب، وأترك ق

ص: 307


1- نهج البلاغة ص 277 رقم 187 - مصدر سابق

القارىء ولن يعدم التعليق وانطباقه على واقعنا المعاش المخزي والمزري؟!

حول هذه الفقرة يقول إبن أبي الحديد: «ثم خرج إلى مخاطبة أصحابه على عادته في ذكر الملاحم والفتن الكائنة في آخر زمان الدنيا، فقال لهم: «توقعوا ما يكون من إدبار أموركم وإنقطاع وصلكم - جمع الصلة - واستعمال صغاركم أي يتقدم الصغار على الكبار وهو من علامات الساعة» قال: «ذاك حيث يكون إحتمال ضربة السيف على المؤمن أقل مشقة من إحتمال المشقة في إكتساب الحلال» وذلك لأن المكاسب تكون قد فسدت واختلطت وغلب الحرام الحلال، قوله: «ذاك حيث يكون المُعطى أعظم أجراً من المُعطي» معناه أن من يعطي ويتصدق في ذلك الزمان يكون ماله حراماً، فلا أجر له في التصدق، ثم أكثرهم يقصد الرياء والسمعة بالصدقة (1).

يقول العلامة مغنية: «تنسدّ أبواب الرزق ومسالكه الاعلى الخونة والقراصنة، ولا يجد الحر الأمين وسيلة للعيش ويكون ضربه بالسيف وطعنه بالرماح أهون عليه وأيسر من الحصول على لقمة الحلال ... يأتي زمان يكون المؤمن المخلص الذي يأخذ الصدقة أفضل عند الله من معطيها ... أما من يأنف من الأخذ ويأبى بطبعه أن يكون كَلاً على غيره وفي الوقت نفسه يتورع عن الحرام بشتى أنواعه، ويبحث جاهداً عن الحلال والعيش بكدّ اليمين ولكن لا يجد السبيل، فيضطر مكرهاً لأخذ الصدقات لا مختاراً، أما هذا الشريف المتعفف فهو أعظم أجراً عند الله ممن يتصدق. لأن الظروف أرغمته على تقبل الذل والعيش على أوساخ الناس ... قد يجوز ق

ص: 308


1- شرح نهج البلاغة - ج 7 ص 34 - مصدر سابق

الكذب مع التورية لدفع الضرر حتى اليمين الكاذبة تسوغ وتحل لنجاة نفس محترمة من الهلاك وخلاصها من طاغية، شريطة أن ينحصر سبيل نجاته بهذا اليمين ... أما الكذب تملقاًورياءً لا لشيء إلا للربح وجلب المنفعة، فهو من أكبر الكبائر» (1).

من هم؟

«كأني أراهم قوما، كأن وجوههم المجانُّ المُطَرّقة، يلبسون السَّرّق والديباج ويعتقبون الخيل العتاق ويكون هناك إستحرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المفلت أقل من المأسور» (2).

يقول إبن أبي الحديد في تفسير بعض كلمات هذه الفقرة: «المَجَانُّ جمع مجن بكسر الميم هو الترس، وإنما سُمّي مجنا لأنه يُستتر به والجنة السترة ... والمطْرقة بسكون الطاء التي قد أطرق بعضها إلى بعض أي ضمت طبقاتها، فجعل بعضها يتلو بعضاً ... ویروى المجان المطرّقة بتشديد الراء أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة والسرق شقق الحرير وقيل لا تسمى سرقاً إلا إذا كانت بيضاً ويتعقبون الخيل أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها واستحرار القتل شدّته» (3).

يقول إبن أبي الحديد تعليقاً على تلك الفقرة: «واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر علیه السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً ووقع في زماننا وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا وهم

ص: 309


1- في ظلال نهج البلاغة - ج 3 ص 81 - مصدر سابق
2- نهج البلاغة ص186. مصدر سابق
3- شرح نهج البلاغة ج 4 ص 184 صدر سابق

التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام وفعلوا ما لم تحتوِ التواريخ منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله ... وبختنصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء والى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم» (1).

يقول العلامة التستري حول هذا الإخبار الغيبي: «لامجال للتشكيك فيه، ففرغ الرضي من النهج في عام 400 من الهجرة، وكان أول واقعة التتار في سنة 617 للهجرة (2). 1

ص: 310


1- المصدر السابق ص 184 - 185
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة م 5 ص 541

آخر الزمان

«وذلك زمان لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نومة إن شهد لم يُعرف وإن غاب لم يُفتقد، أولئك مصابيح الهدى وأعلام السرى، ليسوا بالمسابيح ولا المذابيع البذر، أولئك يفتح الله لهم أبواب رحمته ويكشف عنهم ضراء نقمته، أيها الناس سيأتي عليكم زمان يُكفأ فيه الإسلام كما يُكفأ الإناء بما فيه، أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم، وقد قال جل من قائل: ﴿إإِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ 30) (1).

«فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه وركب الجهل مراكبه وعظمت الطاغية وقلت الداعية وصال الدهر صيال السبع العقور وهدر فنيق الباطل بعد كظوم، وتواخى الناس على الفجور وتهاجروا على الدين وتحابّوا على الكذب، وتباغضوا على الصدق، فإذا كان ذلك كان الولد غيظاً، والمطر قيظاً، وتفيض اللثام فيضاً، وتغيض الكرام غيضاً، وكان أهل ذلك الزمان ذئاباً وسلاطينه سباعاً وأوساطه أكّالاً، وفقراءه أمواتاً، وغار الصدق، وفاض الكذب وأُستعملت المودة باللسان، وتشاجر الناس بالقلوب وصار الفسوق نسباً، والعفاف عجباً، ولُبسَ الإسلام لُبْسَ الفرو مقلوبا» (2).

ص: 311


1- نهج البلاغة 149 - 150 - مصدر سابق والآية 30، من سورة المؤمنون - قال الشريف الرضي: أما قوله عليه السلام كل مؤمن نومة فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر، والمسابيح جمع مسياح وهو الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم، والمذاييع جمع مذياع، وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوّه بها، والبُذُر جمع بذور الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه. المصدر
2- المصدر السابق - ص 157 - 158

عن أي زمان يتكلم أمير المؤمنين؟ هل يتكلم عن زمان خاص؟ وهل يتكلم عن كل زمان توجد فيه تلك الأحوال والأوصاف؟ وهل يتكلم عن علامات آخر الزمان؟ وهل تنطبق تلك الحالات والأوصاف على زماننا؟ لماذا لا؟ أليس فينا في هذا الزمان من أخذ الدين شعاراً، يهجر بسببه الآخرين ممن يعتبرهم إما كفاراً أو ناقصي الإيمان؟ ألا تقوم العداوات في هذا الزمان بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد وبإسم الدين، بسبب ما ينظر أحدهم إلى الآخر أنه ناقص الإيمان وأنه لادين له، لمجرد أنه خالفه في أمور سياسية أو فكرية أو فقهية؟ ألا يُهجر بعض الناس في هذا الزمان بسبب تدينهم وإيمانهم؟ ألا يشعر المرء في هذا الزمان أن أهل الفسق والفجور في علاقاتهم فيما بينهم أفضل - ولو ظاهرياً - من أبناء الدين الواحد و أهله في علاقاتهم فيما بينهم؟ إلا أن يقال أن المراد هو: «أن صاحب الدين مهجور عندهم - أي عند أهل ذلك الزمان - لأنه صاحب دين وصاحب الفجور جارٍ عندهم مجرى الأخ، في الحنوّ عليه والحب له، لأنه صاحب فجور» (1)، مع أن كلا المعنيين يمكن فهمهما من كلام الأمير علیه السلام.

ثم ألا يشعر الآباء في هذه الأيام بالغيظ أي بالغضب «لكثرة عقوق الأبناء» (2) فالولد لا يحترم والديه كثيراً، ولا يسمع كلامهما، ولا يفهم معنى وجودهما وحاجته إليهما حتى لو استقل بنفسه، فهو يحتاج إلى حنانهما وعطفهما ومشورتهما والملفت أن يكون كذلك إذا كان صاحب دين، على ق

ص: 312


1- ابن أبى الحديد شرح نهج البلاغة: ج 4 ص 68، مصدر سابق.
2- المصدر السابق

اعتبار أن دينهما تقليدي ودينه أكثر حركة ودينامكية، وأن دينهما ناقص ودينه كامل لا تشوبه شائبة فهو يجاهد ويكافح ويناضل في سبيل الدين، وهما ماذا قدما لهذا الدين؟ متناسيا مؤمننا هذا أنه لولا تربيتهما الصالحة له ورعايتهما، لما وصل إلى ما وصل إليه ناسياً الحديث القائل: «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله» ناسياً قول زين العابدين الإمام السجاد علیه السلام: «فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه» (1).

وهذا الكلام للأمير علیه السلام يحتمل معنى آخر وهو: أن يشعر الأب بالغيظ والغضب من وجود الأبناء، لأنه لم يعد يحتمل نفقاتهم الكبيرة في هذه الأيام، نتيجة لتطور الحياة المدنية، فإن نظرة واحدة إلى الأوضاع الإقتصادية التي يعيشها الآباء والأمهات التي تثقل كاهلهم بنفقات المدارس والطبابة وغير ذلك من حاجات لاغنى عنها في هذا الزمان لذلك لم يعد الآباء يفكرون بإنجاب أكثر من ثلاثة أو أربعة من الأولاد كحد أقصى، ثم كم من الأمهات اللواتي أجهضن جنينهن أو فكرن بإجهاضه، لأنهن لا يردن هذا الولد ويشعرن بالغيظ والغضب لمجرد أن يعرفن أنهن حوامل، أو لمجرد أن يفكرن بالحمل، أو لمجرد طرح الأمر عليهن؟ والأسباب لذلك عديدة ومختلفة بين الناس. وأليس في هذا الزمان أناس يسيرون بين الناس بالغيبة والنميمة والبهتان؟ شغلهم الشاغل إذاعة أسرار الناس والغيبة للآخرين في المجالس الخاصة والعامة وبعضهم .

ص: 313


1- عباس الموسوي رسالة الحقوق - ص 97 - دار المرتضى - بيروت.

بذريعة الحفاظ على الإسلام والعقيدة الاسلامية والمصلحة الإسلامية العليا، على أساس أن الذي يغتابونه يشكل خطراً - بزعمهم - على الإسلام والمصلحة الإسلامية، ويقدمون التقارير إلى الجهات المعنية بهذه الذريعة أيضاً، ولست أدري هل هي الحفاظ على المصلحة الإسلامية العامة، أم الحفاظ على المصلحة الإسلامية الخاصة؟ ويا ليت الأمر يقتصر على الذين يشكلون خطراً على الإسلام والمسلمين لهان الخطب ولقبل العذر، أما أن يصبح الأمر، ليشمل بعض أهل الدين وبعض أهل العلم، ليُعلم هل يخالفون في فكرة أو رؤية سياسية، أو في فهم بعض الأمور، فهذا مما لا عذر فيه، إذ يتحول الأمر أسلوباً للضغط على ذلك المخالف، من خلال إظهاره أمام الآخرين على أنه ليس مما يوثق به، وعليه فلا يجب التعامل معه، ولا مانع لديهم حتى يتبين أنهم صادقون فيما يقولون من إلصاق بعض التهم بحقه مما ينفر منه الآخرون، وما الذي يمنع أن تتدخل الأهواء النفسية من الغيرة والحسد في هذا المجال ما دام أن الذي يقوم بكل هذا هو إنسان غير معصوم وفي قلبه أمراض تراكمت من عدم تربيته لنفسه، فيبقى الآخرون واقعون تحت رحمة مزاجيته ينتظرون حتى يرضى عنهم، ويا ويلهم إذا غضب أو قاموا بأعمال لا تكون على مزاجه، أو فكروا بأن يتعاملوا معه معاملة الندّ للندّ فعندها الطامة الكبرى والجريمة العظمى، التي يستحقون عليها الإعدام وليس هو إعدام الجسد، بل إعدام الروح والمعنويات. أما إذا سحق شخصيته وذاب بهم تحت أية ذريعة حتى لو كانت ذريعة المصلحة الإسلامية العليا والتي هي بواقعها مصلحة الشخص العليا، فعندها يستحقون أن يدخلوا جنة نعيمه المادي والمعنوي، ويصبح يشار له بالبنان وتسلط عليه الأضواء من هنا وهناك حتى لو كان مستواه

ص: 314

العلمي محدود؟

ومن هم هؤلاء الذين هم مصابيح الهدى وأعلام السرى؟ ومن هم هؤلاء الذين يفتح الله لهم أبواب رحمته ويكشف عنهم ضراء نقمته؟ وكيف يكونون مصابيح الهدى؟ وهم خاملو الذكر، لا يُعرفون إذا حضروا ولا يُفتقدون ولا يُسأل عنهم إذا غابوا؟ هل بمعنى أنهم إذا حضروا في مجلس وهم غير معروفين بأشخاصهم، ولكن من خلال تعاملهم الأخلاقي وتواضعهم وعدم تعاليهم على الآخرين مما يثير إعجاب الحاضرين، ويحاول كل أحد أن يتشبه بهم من خلال هذه الأخلاقية العليا؟ أم بمعنى أنهم خاملوا الذكر على المستوى العام بحيث لا يعرفهم كل الناس؟ وإلا فلا يخلو كل إنسان إلا وله ذكر على مستوى أهل محلته أو أقاربه، فهم مثال وقدوة على هذا المستوى الخاص.

والملفت في الأمر أن الأمير علیه السلام، يحصر النجاة في ذلك الزمان الذي يتحدث عنه بهذا الصنف من الناس وذلك زمان لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نوّمة إنما السؤال هو النجاة ممّ؟ هل هو النجاة في الدنيا من مزالقها وزخارفها وفتنها؟ أم هو نجاة في الآخرة من عذابها وشقائها؟ مع أن السياق يقتضي الأول، إلا أن يقال أن الذي ينجو في الدنيا ينجو في الآخرة، والله العالم.

يقول العلامة مغنية: «يدل سياق الكلام على أن المراد بالزمان المشار إليه، الزمان الذي يعرض الناس فيه عن الدين ويكتفون منه بإظهار الشعائر، كما يدل قول الإمام علیه السلام: «يُكفأ فيه الإسلام» وتتحرك فيه الرغبات وتنطلق الميول والأهواء، ويكثر فيه التنافس والتباهي بأسباب الدنيا

ص: 315

وزينتها كالسيارات والعمارات والأثاث والرياش كالعصر الذي نعيش فيه وليس من شك أن أحسن الناس عاقبة حينذاك، هو الرجل المجهول فهولا ينافس أحداً، ولا أحد ينافسه ويحسده على شيء من الحطام إنه يعمل من أجل قوته بهدوء، ويطيع ربه بلاجعجعة ويشغله الخوف منه عن الناس وما يعبثون وهذا هو الرجل المراد بالنوّمة (1).

وحول قوله علیه السلام: «سيأتي عليكم زمان يُكفأ فيه الإسلام كما يُكفاً الإناء بما فيه» يقول إبن أبي الحديد: ثم ذكر علیه السلام أنه سيأتي على الناس زمان تنقلب فيه الأمور الدينية إلى أضدادها ونقائضها وقد شهدنا ذلك عياناً» (2).

وأخطر ما في كلام الأمير علیه السلام الأوصاف الخاصة لأهل ذلك الزمان الذي يتحدث عنه، فاللئام كثيرون والكرام قليلون أهل ذلك الزمان ذئاب وحكام سباع يعتبرون المواطنين ورعيتهم مجرد ضحية يريدون إفتراسها لاقيمة للمواطن ولاكرامة ولاحرية بل هو مجرد رقم في معادلاتهم الإقتصادية والتجارية، أو ورقة إقتراع في صندوق الإنتخابات ليثبتوا كذباً وزوراً أنهم من الشعب وأن الشعب اختارهم حكاماً لثقته بهم، مع أن الواقع ليس كذلك فهم حكام مستبدون ظالمون جائرون. ق

ص: 316


1- في ظلال نهج البلاغة - ج 2 ص 104 - مصدر سابق
2- شرح نهج البلاغة - ج 4 ص 41 - مصدر سابق

النبؤة بالموت، وأشياء أخرى

« ... دليلها مكيث الكلام بطيء القيام، سريع إذا قام، فإذا أنتم ألنتم له رقابكم وأشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت، فذهب، فلبثتم بعده ما شاء الله حتى يُطلعَ الله لكم من يجمعكم ويضم نشركم فلا تطمعوا فى غير مقبل، ولا تيأسوا من مدبر، فإن المدبر عسى أن تزلّ به إحدى قائمتيه وتثبت الأخرى، فترجعا حتى تثبتا جميعا» (1).

هل تنبأ الأمير علیه السلام بموته؟ وهل يحتاج الموت إلى تنبؤٍ مادام الإنسان يعلم أنه ميت؟ إلا أنه لا يعلم الوقت ولا الكيفية ولا أين يموت؟ ولعله علیه السلام إلى هذا يشير بقوله: «الأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته. كم أطْرَدْتُ الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله إلا إخفاءه. هيهات علم مخزون» (2).

ما هي العلاقة بين هذين الكلاميين؟ في الكلام الأول قال العلامة الخوئي: «اعلم أن هذة الخطبة الشريفة من جملة الأخبار الغيبية لأمير المؤمنين علیه السلام. بما يكون بعده من أمر الأئمة عليهم السلام (3)، وأعلم الناس بموته بعد اشتهار أمره واجتماع الخلق له» (4).

هل كان الأمير علیه السلام يعلم بكيفية قتله والليلة التي يُقتل فيها والساعة أيضا؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا قال في كلامه الثاني: «كم أطْرَدْتُ

ص: 317


1- نهج البلاغة: ص 146، رقم 100، مصدر سابق
2- المصدر السابق: ص 207 رقم 149
3- سوف نأتي لاحقا على ذكر النبوءة بالأئمة علیهم السلام
4- منهاج البراعه في شرح نهج البلاغة: ج 7: ص 157، مؤسسة الوفاء - بيروت

الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر» كذلك «فأبى الله إلا إخفاءه، هيهات علم مخزون»؟!

الذي يدل دلاله واضحة وقاطعة على أنه علیه السلام. إذا كان يعلم إجمالاً بكيفية قتله كما أخبره به الرسول صلی الله علیه و آله و سلم إلا أنه لم يكن يعلم الأمر بالتفصيل، فلم يكن يعلم الليلة ولا الساعة، أم أنه علیه السلام يتحدث عن الموت كحالة إنسانيه مجهولة وأنها علم مخزون الإنسان بشكل عام يجهل وقته وكيفيته؟!

يقول إبن أبي الحديد: «وهذا الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله معرفة مفصلة من جميع الوجوه وأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أعلمه بذلك علماً مجملاً، لأنه قد ثبت أنه صلی الله علیه و آله و سلم قال له: «ستُضرب على هذه - وأشار إلى هامته - فتُخضب منها هذه - وأشار إلى لحيته» وثبت أنه صلی الله علیه و آله و سلم قال له: «أتعلم من أشقى الأولين؟ قال: نعم عاقر الناقة، فقال له: أتعلم من أشقى الآخرين؟ قال: لا، قال: من يضربك ههنا فيخضب هذه» (1).

العلامة الخوئي يعترض على كلام إبن أبي الحديد هذا، محاولاً الإستدلال بمجموعة من الأدلة على أن الأمير علیه السلام كان يعلم بموته تفصيلاً بالوقت والساعة والليلة، منها: إن من يقول: «فاسألوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لاتسألوني عن شيئ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مأة وتضل مأة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت منهم موتاً» (2) إن من بق

ص: 318


1- شرح نهج البلاغة: ج 5: ص 41 مصدر سابق
2- نهج البلاغة ص:137: رقم 93 مصدر سابق

يقول كل هذا لم يكن يعرف زمان موته ومكانه؟ (1).

ومنها: مجموعة الراويات التي يستفاد منها علم الأئمة عليهم السلام بما كان وما يكون ومعرفتهم عليهم السلام بوقت موتهم وموت شيعتهم، وأنهم يعلمون علم المنايا والبلايا والأنساب وهذه الأخبار قريبة من التواتر بل متواترة معنى وذكر نماذج من هذه الروايات في الجزء الثامن من كتابه (2) أما الرواية التي تقول بأن الأمير علیه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها فقد قال عنها بأنها ضعيفة السند معتضدة بأخبار أخر (3)

مع أن الدليل الأول الذي ذكره لامنافاة بينه وبين عدم علم الإمام علیه السلام بالوقت التفصيلي الذي يموت فيه، فدعوى الأولوية بأن من يعرف ما تقدم بطريق أولى أن يعلم بزمان موته ومكانه غير صحيحة، إذ لا أولوية، ولا توجد علاقة ملازمة بين هذين الموضوعين، حتى يقال بأن من يعلم هذا يجب أن يعلم ذاك وحتى لو أخبر الأمير علیه السلام بمن يُقتل ومن يموت، إلا أنه لامانع من عدم علمه بالوقت التفصيلي لزمان موتهم وقتلهم، خصوصاً وأن الأمير علیه السلام لم يبيّن أنه يعلم الوقت الذي يُقتلون فيه.

ومع وجود التعارض بين الراويات المثبتة لعلم الإمام علیه السلام بالوقت التفصيلي بالموت في الساعة واليوم والليلة له ولغيره، والروايات الجاعلة هذا العلم من العلم الغيبي الذي اختص به الله تعالى (4) ففي مقام الجمع 3

ص: 319


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 9: ص 117 - 118 مصدر سابق
2- المصدر السابق - ص 118
3- المصدر السابق ج 9، ص118
4- المصدر السابق: ج 9، ص 223

بين هاتين الطائفتين من الراويات نقول: إن الإمام علیه السلام يعلم إجمالاً بوقت موته ويعلم تفصيلاً بكيفيته، ويبقى العلم التفصيلي بزمان موته محجوباً عنه إلى أن يقرب موته ويدل هذا الجمع رواية سدير «عن أبي عبد الله علیه السلام يقول: إن أبي يعني الإمام الباقر مرض مرضاً شديداً حتى خفنا عليه، فبكى بعض أهله عند رأسه، فنظر إليه فقال علیه السلام: إني لست بميت من وجعي هذا إنه أتاني إثنان فأخبراني أنى لست بميت من وجعي هذا، فبرء ومكث ما شاء الله أن يمكث فبينما هو صحيح ليس به بأس، قال علیه السلام: يابني إن اللذين أتياني من وجعي ذاك أتياني فأخبراني أني ميت كذا وكذا، قال فمات في ذاك اليوم» (1).

وهناك رواية أخرى تدل على هذا الجمع وهى رواية أبي خديجة سالم بن مكرم وهي صحيحة السند «عن أبي عبد الله علیه السلام قال كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه، فأوصاني بأشياء في غسله وفي كفنه وفي دخوله قبره فقلت: يا أباه والله ما رأيتك منذ اشتكيت أحسن منك اليوم، ما رأيت عليك أثر الموت؟ فقال: يابني أما سمعت علي بن الحسين علیه السلام نادی من وراء الجدار يا محمد تعالى عجّل» (2).

وأمير المؤمنين علیه السلام يقول لأصحابه بعد ان اشتهر بكائه في سجوده، .

ص: 320


1- المصدر السابق ج 8 ص 227
2- الكليني: أصول الكافي: ج 1: كتاب الحجه: ص 315 ح 7 ۔ تحقیق محمد جعفر شمس الدين. ولا تنافي بين الروينين، إذ قد يكون تكرر إعلام الإمام عليه السلام بوقت موته، تارة من خلال أبيه الإمام زين العابدين عليه السلام، وأخرى من خلال اللذين أتياه مرة في مرضه الأول ومرة في مرضه الذي توفي فيه، وأغلب الظن أنهما ملكين، وإن لم يصرح عليه السلام عن حقيقتهما.

مما آلم اصحابه فقالوا له: لقد أمرضنا بكاؤك وأمضنا وأشجانا وما رأيناك قد فعلت مثل هذا الفعل قط، فقال كنت ساجداً أدعو ربي بدعاء الخيرات في سجدتي فغلبني عيني فرأيت رؤيا هالتني وفظعتني، رأيت رسول الله قائماً وهو يقول يا أبا الحسن طالت غيبتك فقد اشتقت إلى رؤياك ...» (1).

وتواترت الروايات انه علیه السلام «في رمضان الذي قتل فيه، كان يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد على ثلاث لقم، فقيل له في ذلك فقال: «يأتيني أمر الله وأنا خميص، إنما هي ليلة أو ليلتان فأصيب من الليل ...» (2)

نعم جاء في روايتين أن الإمام السجاد علیه السلام قال في الليلة التي توفي فيها لولده الإمام الباقر «يا بني هذه الليلة التي وعدتها ...» (3).

وأن الإمام الكاظم علیه السلام و قال للجمع الذين أتى بهم السندي بن شاهك ليريهم انه علیه السلام لم يصبه مكروه فقال علیه السلام: « ... إني قد سُقيت السم في تسع تمرات وأني أخضر غداً وبعد غدٍ أموت» (4).

مما يعني أن الإمام علیه السلام يعلم تفصيلا بالوقت الذي يموت فيه، إلا أن الروايتين مرسلتين وقد يقال إنه ليس فيهما دلالة على العلم التفصيلي بوقت الموت إلا أنه بسبب علمه الاجمالي بوقت موته علم بعلامات معينة كانت قد حددت له على أنها الليلة الموعودة، إلا أن الامام علیه السلام لم 49

ص: 321


1- المجلسي: بحار الانوار: ج 42 ص 194
2- المصدر السابق ص 198
3- المصدر السابق: ج 46: ص 149
4- المصدر السابق: ج 46: ص 149

يفصح عنها. أما بالنسبة للامام الكاظم علیه السلام فمن الطبيعي أن يشير إلى الوقت التفصيلي بقوله «وبعد غدٍ أموت» بعد ان اشار إلى انه علیه السلام قد سقي السم، فإن تحديده لهذا الوقت التفصيلي نتيجة لعلمه المسبق بتأثير السم وان الموت يحصل بسببه في اليوم الثالث ألم يمت أمير المؤمنين علیه السلام في اليوم الثالث من ضربه بالسيف المسموم؟

والامام الرضا علیه السلام ذكر ما يدل على علمه التفصيلي بكيفية قتله، وعلمه الإجمالي بوقت الموت، فقد قال لهرثمة بن أعين في حديث طويل « ... يا هرثمة هذا أوان رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدي وآبائي وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الطاغي على سمي في عنب ورمان مفروك ... وأنه سيدعوني في ذلك اليوم المقبل ويقرب اليّ الرمان والعنب ويسألني اكلهما فأكلتهما ثم ينفذ الحكم ويحضر القضاء ...» (1)

الشيخ المفيد له رأي في هذا الموضوع ذكره في المسائل العكبرية، يقول: «والقول بأن أمير المؤمنين علیه السلام كان يعلم قاتله والوقت الذي يقتل فيه، فقد جاء الخبر متظاهراً انه كان يعلم في الجملة انه مقتول وجاء أيضاً بانه كان يعلم قاتله على التفصيل، فأما علمه في وقت قتله فلم يأت فيه أثر على التفصيل ...» (2).

اكتفي بهذا المقدار من الروايات التي تؤيد ما ذهبت اليه من التفصيل بين العلم التفصيلي في كيفية القتل والعلم الاجمالي في أوان الموت. .

ص: 322


1- المصدر السابق: ج 49 ص 293
2- ص 70، الجزء السادس من سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد - دار المفيد - بيروت.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الموضوع ليس من السهولة الخوض فيه وهو يحتاج إلى تفاصيل أخرى ليس هنا مجال بحثها، تتعلق بعلم الإمام علیه السلام بشكل عام وما هي حدود هذا العلم؟ وكيفية حصوله على هذا العلم. وبتعبير آخر: مصادر علم الإمام، وهل يمكن أن يكون الكسب أحد هذه المصادر.

ولا وجه للإعتراض بأن أمير المؤمنين علیه السلام قد أخبر بقتل الحسين إبنه وما قاله في كربلاء حيث مر بها، وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب، فإن كل ذلك إخبار عن كيفية القتل و مكان القتل وهذا لا ننفيه أما الوقت التفصيلي فلم يخبرهم علیه السلام عن الوقت الذي يقتلون فيه قد يقال إن عدم إخبارهم أعم من عدم العلم نقول: نعم فما المانع إذن من إخبارهم عن الوقت التفصيلي للقتل.

والأمير علیه السلام في كلامه السابق الذي أثبتناه في أول البحث، يدل دلالة واضحة على أنه كان في إنتظار ذلك اليوم الذي قتل فيه والذي لم يكن يعلمه على وجه التفصيل فقوله علیه السلام: «أطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله إلا إخفاءه» واضح الدلالة على ما نقوله.

قال إبن أبي الحديد: «كأنه علیه السلام جعل الأيام أشخاصاً يأمر بإخراجهم وإبعادهم عنه، أي مازلت أبحث عن كيفيه قتلي وأي وقت يكون بعينه وفي أي أرض يكون يوماً يوماً، فإذا لم أجده أطردته واستقبلت غده، فأبحث فيه أيضاً فلا أعلم فأبعده وأطرده وأستأنف يوماً آخر حتى وقع المقدور» (1)..

ص: 323


1- شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 41 مصدر سابق.

لابد من الإشارة إلى أننا لا نوافق إبن أبي الحديد على ما قاله من أن الأمير علیه السلام كان يجهل حتى كيفية قتله.

وما يدل على أنه علیه السلام كان يعرف قاتله جاء في تاريخ اليعقوبي: «قدم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الكوفة لعشر بقين من شعبان سنة 40، فلما بلغ علياً قدومه قال: «قد وافى؟ أما أنه ما بقى علىّ غيره هذا أوانه» (1).

وأنه علیه السلام كان يعلم كيفية الموت «قدم علیه السلام على قوم من أهل البصرة من الخوارج فيهم رجل يقال له: الجعد بن بعجة فقال له: إتق الله ياعلي فإنك ميت فقال علیه السلام: بل مقتول ضربة على هذا تخضب يعني لحيته من رأسه عهد معهود وقضاء مقضي، وقد خاب من افترى» (2).

«وعن سعيد بن المسيّب: رأيت علياً على المنبر وهو يقول لتخبضن هذه من هذه - وأشار بيده إلى لحيته وجبينه - فما يحبس أشقاها؟ قال: فقلت لقد ادّعى علي عُّلم الغيب فلما قتل علمت أنه قد كان عُهد إليه» (3).

«وعن عبد الله بن سبع: سمعت علياً على المنبر وهو يقول ما ينتظر أشقاها؟ عهد إليّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم التخضين هذه من هذه، وإشار ابن داود إلى لحيته ورأسه» (4).

فهذه الروايات الأربعة صريحة الدلالة على أنه علیه السلام كان يعلم إجمالاً 41

ص: 324


1- ج 2 ص 212
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 179 ح 703، والمفيد الإرشاد: ص 320
3- تاریخ دمشق: م 42: ص 549
4- تاریخ بغداد م 12 ص 58 ح 6441

بوقت قتله ويعلم من هو قاتله؟ ويعلم بكيفية قتله.

أما علمه التفصيلي بهذا الزمان والوقت فليس في الروايات ما يدل عليه حتى قوله علیه السلام في الرواية الأولى: «قد وافي؟ ... هذا أوانه» إنما هو على نحو الإجمال لا التفصيل، خصوصاً أنه علیه السلام يقول في الروايات الأخرى: «فما يحبس أشقاها» أو «ما ينتظر أشقاها»، فهو علیه السلام كان في إنتظار هذا الوقت غير المعلوم بالتفصيل.

وفي كلامه الآخر الذي يتحدث فيه عن موته يتنبأ بالظرف الذي يكون عليه أنصاره وأصحابه حين يأتيه الموت، لكنه علیه السلام لا يتحدث عن الوقت التفصيلي، أي لا يتحدث عن الليلة والساعة.

يقول إبن أبي الحديد: «إعلم أن هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين علیه السلام وكنّى فيها عن حال نفسه، وأعلمهم فيها أنهم سيفارقونه ويفتقدونه بعد إجتماعهم عليه وطاعتهم له، وهكذا وقع الأمر، فإنه نُقل أن أهل العراق لم يكونوا أشد إجتماعاً عليه من الشهر الذي قُتل فيه علیه السلام وجاء في الأخبار أنه عقد للحسن إبنه علیه السلام على عشرة آلاف ولأبي أيوب الأنصاري على عشرة آلاف ولفلان وفلان حتى اجتمع له مائة ألف سيف وأخرج مقدمته أمامه يريد الشام فضربه اللعين ابن ملجم وكان من أمره ما كان، وانقضت تلك الجموع وكانت كالغنم فقدت راعيها» (1).

إنه القضاء الإلهي المحتوم، الذي لا يعلم سرّه إلا الله تعالى، ماذا لو قُدّر للأمير علیه السلام أن لا يُقتل بسيف إبن ملجم اللعين، وقد اجتمع عليه ق

ص: 325


1- شرح نهج البلاغة: ج 4: ص 34: مصدر سابق

عسکره؟ بعد طول معاناة من إفتراق كلمتهم ورفضهم للخروج معه للحرب، حتى كان يأنبهم أشد التأنيب كما هو واضح في خطبة الجهاد المعروفة، التي عبّر فيها أوضح تعبير عن المعاناة التي عاناها الأمير علیه السلام مع هذا العسكر الذي كان قد ملّ الحرب والنزال بعد حروب ثلاثة متتالية والتي كان آخرها حرب الزملاء والأقران في المعسكر الواحد والصف الواحد أي قلب كبير كان يحمل الأمير علیه السلام حتى تحمّل كل هذا البلاء العظيم منذ أن تولى مقاليد الحكم والسلطة؟ وهو الذي تنبأ بهذه الأحداث بقوله: «إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وأن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت» (1) فهل بعد هذا البلاء بلاء؟ لا نبالغ إذا قلنا: أين منه بلاء الإمام الحسين علیه السلام؟ نعم، الإمام الحسين قتل هو وأصحابه وأهل بيته ولكنها كانت عبارة عن ساعات ثم كانت الراحة الأبدية. أما الأمير علیه السلام فقد استمر الحال معه من تكالب الآخرين على خلافته ومنازعته هذا الحق وأريقت بسببه الكثير من الدماء الطاهرة والذكية من أصحابه علیه السلام وأنصاره وبقية المسلمين، هذا البلاء الذي استمر حوالي الخمس سنوات - لن أتحدث عما قبل ذلك فهذا موضوع آخر - وهو التكالب على خلافته مع أنهم لم يفعلوا كذلك مع من سبقه وحتى الخليفة عثمان الذي اعترض عليه بمجموعة عة من الإعتراضات لم يجّيشوا الجيوش لمحاربته، كما فعلوا مع الأمير علیه السلام. أليس في هذا الموت اليومي المستمر؟! وهو يرى تفرق المسلمين وتمزقهم، وهو الذي كان قد رفع شعار «والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها 2.

ص: 326


1- نهج البلاغة - ص 136 - رقم 92.

جور الاعليّ خاصة. التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (1).

أقول: لو قُدّر للأمير علیه السلام أن لا يُقتل بسيف اللعين إبن ملجم مع هذا الإجتماع الذي حصل لعسكره إستعداداً لحرب معاوية وإزالته عن ولاية الشام ألم يكن قد تغيرت أمور كثيرة وحصلت أمور كثيرة؟ أولها أنه استطاع أن يقف بوجه المشروع الأموي المتمثل في ذلك الوقت بمعاوية، والذي كان هدفه مجرد الحكم والسلطة بإسم الإسلام وباسم الدين. ولم یکن هدفهم الدين فقط وفقط. وإلا لماذا يحارب معاوية الأمير علیه السلام؟ هل الدين والإسلام هما اللذان دفعاه لذلك؟! لا وألف لا، إنها الرياسة والسلطة والحكم ليس إلا، وإلا هل يحتاج الطلب بدم عثمان إلى حرب؟ ألم تكن توجد وسائل أخرى للأخذ بحق هذا الدم؟ وهل استنفذ معاوية كل الوسائل حتى يلجأ إلى الحرب؟

أقول: لو قُدّر للأمير علیه السلام أن لا يُقتل بسيف اللعين إبن ملجم، ألم تكن سياسة العدل والمساواة بين بني البشر هي السائدة الآن وفي كل زمان؟ وليست سياسة أخرى أو سياسات أخرى أقل ما يقال فيها أنها سياسة المحسوبيات والأزلام لكن هيهات أين الحلم الذي يدغدغ المشاعر من الواقع؟ فإن المتكالبين على الدنيا والذين همهم الرياسة والسلطة والحكم، وأحيانا بإسم الدين وبإسم الإسلام موجودون في كل مكان وزمان، وليس في زمان الأمير علیه السلام.4

ص: 327


1- المصدر السابق - ص 102 رقم 74

إنه القضاء الإلهي المحتوم، الذي لايملك الإنسان أمامه حولاً ولا قوة القائم على أساس أن الهدف الحقيقي لهذا الوجود ولهذا الكون ولهذه الدنيا ولهذا الإنسان هو رضوان الله تعالى وهذا لن يحصل إلا بالخلود (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ 55) (1) ومقدار البلاء الذي يصيب الإنسان هو علامة على منزلته، فكلما كان البلاء شديداً كلما كان ذلك علامة على قرب الإنسان من الله تعالى في الآخرة، وفي الخلود في الجنان والرضوان، الأمر فقط يحتاج إلى الصبر على بلاء الله تعالى والتسليم بقضاءه فمن لاصبر له لا إيمان له (2) و (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا لا يُفتنون﴾ (3) نسأل الله العفو والعافية، وشفاعة أمير المؤمنين علیه السلام أمير الصابرين وأمير المحتسبين وأمير المسلّمين لقضاء الله تعالى.

نعود إلى كلام الأمير علیه السلام الغيبي، وأما قوله علیه السلام: «فلبثتم بعده ماشاء الله حتى يطلع الله لكم من يجمعكم ويضم نشركم» ففيه إشارة إلى المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف وهذا ما ذهب إليه إبن أبي الحديد (4) والعلامة الخوئي بعد أن أشار إلى قول يشير به إلى قائم بني العباس بعد إنقضاء دولة أمية ويرجح الأول (5). بق

ص: 328


1- سورة القمر الآية 55
2- المجلسي - بحار الأنوار ج 68 ص 95، مصدر سابق - وفي الكافي بلفظ آخر «فلا إيمان لمن لا صبر له» ج 2، ص 89
3- سورة العنكبوت الآية 1
4- شرح نهج البلاغة - ج 4 ص 34 - مصدر سابق
5- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 7 ص 170 - مصدر سابق

وهل يعني هذا الكلام أن الشيعة مازالوا متفرقين أو بالأحرى المسلمون؟ ألم يجتمعوا على إمام واحد وقائد واحد منذ أن قتل أمير المؤمنين علیه السلام أو منذ وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم؟ وأنه منذ ذلك الحين لم يستطع أي إمام أوقائد من جمعهم ليس لأنه لا يستطيع ذلك وأن ذلك أمر غير متيسر، وإلا لما أمر الله تعالى به؟ وإنما لأسباب خارجية وموضوعيه لها علاقة بإمتثال أمر الله تعالى أو عدم إمتثاله وهذا يعني أيضا أن القائد الوحيد والإمام القادر على جمع المسلمين تحت رايته وفي قيادته وذلك لأسباب موضوعیه وخاصة هو الإمام المهدي الموعود عجل الله فرجه الشريف وأما قوله علیه السلام: «ألا إن مثل آل محمد كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طالع نجم» ففيه إشاره إلى الأئمة سلام الله عليهم أجمعين وتشبيههم بالنجوم إما من حيث أنهم يُهتدى بهم في سبيل الله كما يُهتدى بالنجم ظلمات البر والبحر، وإما من حيث أنهم كلما مضى منهم إمام قام مقامه آخر (1). .

ص: 329


1- المصدر السابق ص 161.

ص: 330

قالوا في نهج البلاغة

اشارة

* السيد القائد

* الشهيد الدكتور علي شريعتي

* المفكر الغربي - هنري كوربن

* الدكتور صبحي الصالح

* الأديب اللبناني جورج جرادق

* الأديب السوري لبيب بيضون

* الأديب اللبناني نصري سلهب

* الدكتور زكي مبارك

* الإمام الشيخ محمد عبده

* الأديب اللبناني سليمان كتاني

* الأستاذ الهنداوي

* الأديب المصري عباس محمود العقّاد

ص: 331

ص: 332

السيد القائد الخامنه اي

نهج البلاغة هو تلك المقتطفات التي جُمعت بهمّة وسعي السيد العظيم الشريف الرضي، وبحمد الله كان حتى يومنا هذا مرجعاً للخواص وللعلماء، وليس مجرد محور للمعرفة والثقافة العامة للناس ... ولعله يمكن القول إن نهج البلاغة بما يتضمنه يعتبر من أكثر المباحث والمعارف الإسلامية عمدة، فكل ما يلزم الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي، موجود في نهج البلاغة من التوحيد والعقائد الإسلامية وأصول الدين إلى الأخلاق والتهذيب وتزكية النفس، فالسياسة والإدارة وقيادة المجالات الواسعة للنشاطات الإجتماعية، إلى تنظيم الروابط الأخلاقية والعائلية إلى الحرب والحكمة والعلم.

نهج البلاغة ليس مثل كتب الحكماء الذين يجلسون - بعيداً عن ضوضاء الحياة وضجيج واقعياتها وقضاياها المختلفة - ليبيّنوا المعارف الإسلامية. بل هو كلام إنسان عميق الغور في معرفة الدين، حمل هموم قيادة مجتمع كبير وهو يمتلك بصيرة بكل المعارف الإسلامية والقرآنية، ينضج قلبه بالمعرفة وهو في مقام المسؤولية يتعاطى مع الشعب ويخاطبه ويجيبه عن أسئلته وإستفهاماته.

إن هذا الكتاب عندما يوضع إلى جانب القرآن، فإنه يعد تالي القرآن فليس لدينا كتاباً آخر له هذا المستوى من الإعتبار والجامعية والأقدمية (1).

ص: 333


1- العودة إلى نهج البلاغة ص 36 - 38 و 59 - ترجمة عباس نور الدين الدار الإسلامية بیروت

الشهيد الدكتور علي شريعتي

غالبا ما يقارنون نثر نهج البلاغة بالنصوص الأخرى، ثم يحكمون بعظمته وجلاله وقيمته فيما يغفلون تماماً عن أخذ عامل الزمن بنظر الإعتبار، بمعنى أن نهج البلاغة قد دُوّن وتكوّن في عصر لم تكن لغة العرب فيه لغة النثر وإنما كانت لغة الشعر، وكان ثمة أشعار محدودة تبلغ حد الجودة، بينما كان النثر فى القرن الأول نثراً بدائياً لا يمكن التعبير عنه بالنص، كما نلاحظ ذلك في بعض الكتب والرسائل الباقية من ذلك القرن، حيث نجدها مجموعة كلمات جافة تفتقر إلى التركيب الجيد، في حين نرى نهج البلاغة نصاً شامخاً وكأنه نثر ينتمي إلى فترة الكمال الأدبي في اللغة، وأرقى مراحل الجمال اللغوي والأدبي ...

لقد دوّن علي علیه السلام الكتب والرسائل وصرح بالخطب والحِكَم في عصر لم يكن فيه أي كتاب ولربما كان محيط علي علیه السلام وأمته وحواريه لم يقرأوا أي كتاب سوى القرآن. في مثل هذا المستوى وفي مجتمع بدوي بالكامل يوجد نثر غاية في الظرافة والعمق وجمال الإيقاع، وغنى المعنى، وجزالة التعبير ... إنه معجزة ... معجزة تتحدث عن إنسان بلغ الذروة في الأدب والفن والبيان ... معجزة تحكي عن إنسان متطور جداً في المجال الأدبي (1).

إذا تأملنا أوائل نهج البلاغة نجد فيه نصوصاً على شكل مقالات كأنها رشحات من دماغ فيلسوف عقلي ثاقب النظر دقيق الفكر ... وإذا أردت

ص: 334


1- الإمام علي في محنه الثلاث ص 139 - 140

مقارنتها على أساس الأصول الفنية فلا تستطيع التصديق أبداً أن يكون فیلسوف بهذا المستوى من العمق ويحمل نظرة كونية بهذه السعة والشمول، ويمتلك نظرة عقلية وإستدلالاً منطقياً بهذا المستوى من القوة والإحكام، وهو في ذات الوقت عامل، فلاح وخطيب إجتماعي ومقاتل وقائد عسكري وأمير حرب متمرس، يخوض ساحات الوغى وميادين الدم والسيف (1).

إن نهج البلاغة يُعدّ ثاني أعظم كتاب عندنا بعد القرآن، ونحن لا نعرفه ولا نقرأه ولا ندري ما فيه تماماً كالقرآن الذي نقدّسه ونقبّله ونتبرك به ليس إلا ... (2).

إن أغلب العلماء والمؤلفين والأدباء العرب المعاصرين - حتى من غير الشيعة - يقرّون بأن نهج البلاغة أجمل وأروع نص عرفه الأدب العربي ... كلام إذا نظرت إليه بمنظار الأدب فهو في قمة الروعة والجمال والبلاغة، وإذا نظرت إليه بمنظار الفكر فهو في غاية العمق والمتانة، وإذا نظرت اليه بمنظار الأخلاق فهو نموذج مثالي ومنهج نموذجي ... يحوي عبارات يذعن القارئ لها ويُقرّ أن ليس لها مثيل ولا نظير في كلام البشر ... كلام علي علیه السلام وكفى (3).86

ص: 335


1- المصدر السابق - ص 141
2- المصدر السابق - ص 185
3- المصدر السابق - ص 185 - 186

المفكر الغربي هنري كوربن

أما ما يرتبط بالمجموعة الموسومة بنهج البلاغة التي تترجم «بطريق نهج البلاغة» في حين أن المراد من هذا العنوان التأثير والكمال، والذي جمعه السيد الرضي. فإن هذا الكتاب مجموعة مهمة من كلمات علي بن أبي طالب، الإمام الأول للشيعة يشتمل على المواعظ والأقوال والكتب وغير ذلك، وهذا الكتاب من أهم الكتب عند الشيعة بعد القرآن والأحاديث النبوية، ليس للحياة المذهبية للتشيع فقط، بل لأفكارهم الفلسفية أيضا، وعليه يمكن إعتبار كتاب نهج البلاغة من أهم المصادر الشيعية في أصول العقائد التي اعتمد عليها مفكرو الشيعة وخصوصاً مفكروا القرن الرابع. والفلسفة الشيعية أخذت ملامحها الخاصة من هذا المصدر. فإن مفكريهم إسستنتجوا المطالب المرتبطة بالإلهيات منه. ومما يؤسف له، أن هذا الكتاب لم يحظّ بتحقيق فلسفي معروف في أوروبا حتى يومنا هذا، فإنه وبالتحقيق الدقيق من خلال شرح وتحليل وتفصيل هذا الكتاب من قبل الشيعة والسنة كإبن ميثم البحراني وإبن أبي الحديد والخوئي وغيرهم، ومن خلال ترجمته إلى اللغة الفارسية وإضافة هذا الكتاب إلى كلمات سائر الأئمة، نفهم السر في إكتساب الأفكار الفلسفية الشيعية تكاملاً وتطوراً جديداً في البرهة التي توقفت حركة الفلسفة عن التطور في العالم السّني بحيث لم تعد الفلسفة السّنية فلسفة حية (1).

ص: 336


1- مجلة الفكر الإسلامي: 164 س 4 شوال: ذو الحجة 1417: آذار أيار 1997: ص 175: 176: نقلا عن تأسيس الشيعة ص 356 والشيعة الإمامية ص 55

الدكتور صبحي الصالح

... وإن نهج البلاغة ليضم - إلى جانب الموضوعات السابقة - طائفة من خطب الوصف تبوئ علياً ذروة بين عباقرة الوصافين في القديم والحديث. ذلك أن علياً - كما تنطق نصوص النهج - قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق، وتحليل نفاذ إلى بواطن الأمور: صوّر الحياة فأبدع، وشخّص الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طبائع الرجال وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين نماذج شاخصة وللأبرار أنماطاً حية، ولم يفلت من ريشته المصوّرة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس، ولا ملك رحيم يوحي الخير ويلهم الشر. على أن المهم في أدب الإمام علیه السلام تصويره الحسّيات وتدقيقه في تناول الجزئيات. وقد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات حملت روعتها ودقة تصويرها بعض النقاد على الإرتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين ... (1).

الأديب اللبناني المعروف جورج جرداق

هو الإمام في الأدب وسرّه البلاغة كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علّم وهدى وآيته في ذلك نهج البلاغة الذي يقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس ... ولا غرو في ذلك، فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم

ص: 337


1- نهج البلاغة - ص 12 - مقدمة التحقيق.

الناس محمد بن عبد الله، وتلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة، أضف إلى ذلك إستعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة والبيئة.

ومن شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّى اتجهت وهذا التسلسل بين الفكرة والفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلة لما بعدها ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يُستغنى عنه في الموضوع المعالج، بل لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. وهو لا يستخدم لفظاً إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل، ولا عبارة إلا وتفتح أمامك آفاقا وراءها آفاق من النظر الجليل.

ويستمر تولّد الأفكار في نهج البلاغة من الأفكار، فإذا أنت أمام حشد منها لا ينتهي، وهو مع ذلك لا يتراكم بل يتساوق، ويترتب بعضه على بعض، ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه علي وبين ما يلقيه إرتجالا فالينبوع هو الينبوع ولا حساب في جريه لليل أو نهار، ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم، وإنك لتدهش أمام هذا المقدار من الإحكام والضبط العظيمين حين تعلم أن علياً لم يكن ليعد خطبه ولو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات فهي جائشة بقلبه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت ولا إجهاد ... (1) .

ص: 338


1- الإمام علي صوت العدالة الانسانية ج 3 - ص 184 - 186 منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت لبنان.

الأديب السوري لبيب بيضون

لا يشك أديب أو مؤرخ أو عالم ديني أو إجتماعي فيما لنهج البلاغة، من قيمة جلّى، وأنه في مصافّ الكتب المعدودة، التي تعتبر من أمهات حضارتنا العربية كيف لا؟ ونهج البلاغة هو كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ذلك الإمام الذي كان قدوة مثالية للمسلمين ونبراساً رائداً للمؤمنين، حتى أن الخليل بن أحمد حين سئل ما تقول في الإمام علي علیه السلام قال قوله المأثور: «إحتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل» دليل على أنه إمام الكل في الكل ... إن نهج البلاغة هو أعظم كتاب أدبي وديني وأخلاقي وإجتماعي بعد القرآن الكريم والحديث الشريف ...

هذا وإن كلام الإمام علي علیه السلام أرحب من أن تسعه المؤلفات أو تستوعبه المجلدات. وما نهج البلاغة إلا غيض من فيض وباقة من بستان استطاع الشريف الرضي أن يجمعها من المصادر التي كانت في زمنه وقبله، وأن يدققها تدقيقاً صادقاً، بما أوتي من أمانة وعدالة، وأصالة أدبية ولغوية ... (1).

الأديب اللبناني المعروف نصري سلهب

... ولا تحسبنّ نهج البلاغة سفر سياسة وإدارة وإيمان فحسب، ولا مجموعة مواعظ في شؤون الحياة وشجونها فحسب، ولا هو كتاب حكم وعبر فحسب، هو ذلك وأكثر من ذلك بكثير.

ص: 339


1- تصنيف نهج البلاغة: ص 41 - 42، مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي - قم المقدسة - إيران.

إن النهج المدرسة ليست بحاجة إلى معلم فالمعلم الكبير يهيمن على كل صفحة من صفحاته بل روحه تخيم فوق كل كلمة من كلماته (1).

الدكتور زكي مبارك

ومهما تكن حال نهج البلاغة فهو وثيقة أدبية وتاريخية وسياسية، قليلة الأمثال هو إن صح صورة من صور النضال السياسي في مطلع العصر الأموي، وإن لم يصح فهو أيضا صورة لذلك النضال حسبما فهمته الأجيال التي سبقت مولد الشريف.

وهو كذلك ثروة أدبية ولغوية تؤرخ اللغة في ذلك العهد، أو تؤرخ ما فهم الناس أنها كانت عليه في ذلك العهد.

وهو أيضا يصوّر ما فهم العرب من أصول السياسة والمعاش وتدبير الملك في أعقاب عصر النبوة.

وإني لأعتقد أن النظر في كتاب نهج البلاغة يورث الرجولة والشهامة وعظمة النفس، لأنه فيض من روح واجه الصعاب بعزائم الأسود (2).

الإمام الشيخ محمد عبده

... وبعد فقد أوفى لي حكم القدر بالإطلاع على كتاب نهج البلاغة ... فكان يُخيّل إليّ في كل مقام أن حروباً شبّت وغارات شُنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة. وأن للأوهام عرامة (3) وللريب

ص: 340


1- في خطى علي - ص 279 - 280 دار الكتاب اللبناني، بيروت 1973 م.
2- عبقرية الشريف الرضي ج 1، ص 296.
3- عرامة: شراسة

دعارة (1). وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة (2) في عقود النظام وصفوف الإنتظام، تنافح بالصفيح الأبلج (3) والقويم الأملج (4). وتمتلج المهج برواضع الحجج (5). فتفل من دعارة الوساوس وتصيب مقاتل الخوانس. والباطل منكسر ومرج الشك في خمود وهرج الريب في رقود. وأن مدير تلك الدولة وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين على بن أبي طالب.

ويقول في موضع آخر

... وأحيانا كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فُصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني فخلعه عن عاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلي. وسكن به على عمار جانب التقديس. بعد استخلاصه من شوائب التلبيس. وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي باعلياء الكلمة وأولياء أمر الأمة، يعرّفهم مواقع الصواب ويبصّرهم مواضع الإرتياب ويحذّرهم مزالق الإضطراب ويرشدهم إلى دقائق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعّدهم شرف التدبير ويشرف بهم على حسن المصير ... (6)..

ص: 341


1- الدعارة: سوء الخلق
2- الذرابة حدة اللسان في فصاحة
3- الصفيح الأبلج: السيف اللامع البياض
4- القويم الأملج: الرمح الأسمر
5- تختلج المهج: تمتص دماء القلوب
6- مقدمة نهج البلاغة - ص؟ - ؟ دار الهدى للمطبوعات - بيروت.

الأستاذ الهنداوي

في كتاب مع الإمام علي ص (200): لا نكاد نرى كتاباً انفرد بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية الواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في نهج البلاغة لذلك نقرر ونكرر أن النهج لا يمكن أن يكون إلا لشخص واحد نفخ فيه نفَس واحد (1).

الأديب اللبناني المعروف سليمان كتّاني

قالوا: إن اليد التي امتدت إلى نهج البلاغة هي يد طويلة، كانت أطول من ثلاثة قرون ولقد امتدت تتلاعب بالحروف، تصوغها كما يشاء فن الإقحام.

فإذا كان الأمر كذلك، فإن للمُقحِم أطول باع في مجال الفن ... إذ أنه تمكّن من درس العصر درساً وافياً وغاص في تحليل نفسية إبن أبي طالب غوصاً يؤهله لأن يندمج فيه تمام الإندماج، وكان بارعاً في فن الإخراج وفن الأداء وفن التقليد وفن التمثيل ... فظهر، وهو يقلد، بمظهر الأصيل، فذاب النزيل في الأصيل، وضاع القصيد من الدخيل. وأي شيء أنزل على نهج البلاغة لم يكن تصويراً صادقاً لتلك النفسية، التي تنزلت في جسد علي بن أبي طالب كما يتنزل نور الشمس في الكأس الشفيف؟

وأي عمل أنجزه إبن أبي طالب في حياته لم يكن تعبيراً متناهي الصدق عن تلك النزعات السامية التي كانت تتأجج بها روحه الصافية ...

ص: 342


1- محمد جواد مغنية - الإمام علي حياته وفضائله: ص 402.

ففاضت في كل تعبير من تعابيره، وفي كل إشارة من إشاراته، وفي كل جملة من کتابه؟

وماذا في نهج البلاغة يدغدغ الشك في ما جاء في نهج البلاغة؟ وهل الكتاب كان غير تقويم للرجل الكبير في نهجه الطويل، الذي زرع عليه الإنسان قيمة تتبلور بالعقل الصحيح وتسمو بالفضيلة، وجعل الفضائل تنمو وتدور على محور واحد هو محور التقوى والإيمان بالله؟

ومتى، وفي أية لحظة من لحظات عمره، لم يعبّر عن هذا النهج الصريح؟ أفي إعلانه الرسالة وإيمانه بها ولقد نذر نفسه للدعوة لها والجهاد في سبيلها؟ أم في تطبيقها دستوراً كاملاً لكل مجاري أفكاره وأقواله وأعماله من حيث كان زهده وتقواه وشجاعته وبطولته؟

فإذا كان الإقحام في نهج البلاغة تكويماً لتعابير تحمل مثل هذه المعاني، لم يسكبها جنان المنسوبة إليه ضمن حروف نبتت من شق قلمه، فإن ذلك لن يضير نهج البلاغة بشيء ... لأن المقحم جاء صادقاً في نحت نفسه قالباً لائقاً بالفكر الأصيل، ولأن البلاغة في مفهومها الحقيقي، ليست مطلقاً في قوة اللفظ والنحت بقدر ما هي تنزيل لسموّ المعاني في قوالب متينة السبك والحبك، وإن هذه الأخيرة تبقى أبداً قوالب جوفاء ما لم تستتم فيها تلك المفاتن.

ونهج البلاغة البلاغة سواء أكان صقل حروفه على يد إبن أبي طالب. وهو الأصوب. أم كان على يد مقحِم فنّان فإنه يبقى دائماً تعبيراً عميق البلاغة عن نفسية رجل واحد سُمّي علي بن أبي طالب (1)..

ص: 343


1- الإمام علي نبراس ومتراس ص 439 - 440، دار المرتضى طبعة ثانية.

الأديب المصري المعروف عباس محمود العقّاد

... ففي نهج البلاغة فيضٌ من آيات التوحيد والحكمة الإلهية، تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيد ...

فديوانه الذي سُمّي نهج البلاغة أحق ديوان بهذه التسمية بين كتب العربية، واشتماله على جزء مشكوك فيه لا يمنع اشتماله على جزء صحيح الدلالة على أسلوبه، وربما كانت دلالة الأخلاق والمزاج فيه أقوى وأقرب إلى الإقناع من دلالة الأسانيد التاريخية لأن طابع «الشخصية العلوية» فيه ظاهر من وراء السطور ومن ثنايا الحروف يوحي إليك حيثما وعيته أنك تسمع الإمام ولا تسمع أحداً غير الإمام، ويعسر عليك أن تلمح فيه غرابة بين صاحب التاريخ وصاحب الكلام ... (1)..

ص: 344


1- عبقرية الإمام علي علیه السلام: ص 194 و 198، طبع سنة 1967 م 1386 ه.

المصادر

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة

أ

* آغا بزرك الطهراني - الذريعة إلى تصانيف الشريعة

* ابن منظور - لسان العرب

* ابن خلكان - وفيات الأعيان وابناء الزمان

* ابن جرير الطبري - تاريخ الامم والملوك

* ابن كثير - البداية والنهاية

* أبو جعفر الاسكافي - المعيار والموازنة

* ابن ابي الحديد - شرح نهج البلاغة

* ابن هيثم البحراني - الشرح الكبير

ج

* جعفر السبحاني - الإلهيات على هدي الكتاب والسنة

* جورج جرداق - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية

ص: 345

ح

* الحر العاملي - وسائل الشيعة إلى مصادر الشريعة

خ

* الخوئي - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة

ز

* زكي مبارك - عبقري الشريف الرضي - محفوظة في مكتبة كلية الآداب - الجامعة اللبنانية الرقم 6646

س

* السيوطي - تاريخ الخلفاء

ط

* الطبري - مجمع البيان

* الطريحي - مجمع البحرين

* الطباطبائي - محمد حسين - علي والفلسفة الإلهية

ع

* علي بن عيسى الاربلي - كشف الغمة في معرفة الأئمة

ک

* الكليني - أصول الكافي - تحقيق محمد جعفر شمس الدين

م

* مغنية - محمد جواد - في ظلال نهج البلاغة

* مغنية - محمد جواد - موسوعة الإمام علي

ص: 346

* محسن الأمين - أعيان الشيعة

* المسعودي - مروج الذهب

* المجلس - بحار الانوار

* مرتضى المطهري - في رحاب نهج البلاغة

* محمد الكرمي - بحوث وآراء في شرح نهج البلاغة

* المامقاني - تنقيح المقال في عالم الرجال

* محمد باقر الصدر - فدك في التاريخ

* محمد جواد مغنية - التفسير الكاشف

دوريات

فصلية الفكر الإسلامي - قم - إيران

العرفان - سنة 1947م - 1366 ه.

ص: 347

ص: 348

الفهرس

هذا الكتاب لماذا؟ ... 5

نهج البلاغة لمن؟ ... 13

رد أبن أبي الحديد ... 21

التواتر ... 22

مقارنة إبن أبى الحديد ... 29

خطبة الجهاد ... 31

الموعظة ... 41

كلمات أثارت جدلاً؟! ... 49

لستُ ... أخطىء ... 51

الدليل على العصمة ... 56

عبد الله بن عباس ... وأموال البصرة؟! ... 58

إلى بعض أعماله: ... 58

من هو ...؟ ... 71

الشورى وآثارها السلبية ... 76

الخلافة «الحق الشرعي» أفضلية ... أم نص؟ ... 86

الامامة واجب عقلي ام شرعي ... 99

الفلسفة في نهج البلاغة ... 107

تمهيد ... 109

ص: 349

في التوحيد ... 121

القضاء والقدر ... 127

العلم الإلهي ... 132

أما كيف يحصل هذا العلم؟ ... 136

علم حضوري ... 138

الحِكَم في نهج البلاغة ... 139

تمهيد ... 141

معرفة الله ... 142

العمل والهيبة ... 145

الإستغفار ... أمان ... 147

الصديق ... 150

السخاء ... 152

فلتات الوجه واللسان ... 153

التقوى ... 155

إقبال الدنيا وإدبارها ... 156

قلب العاقل ولسانه ... 158

قيمة الإنسان الحقيقية ... 159

الحكمة ضالة المؤمن ... 162

الصبر ... 164

فرص الخير ... 166

الجاهل ... 168

القلوب الوحشية ... 169

الظالم والمظلوم ... 173

إقبال القلوب وإدبارها ... 174

الوقاية ... 177

رأي العلم الحديث ... 179

ص: 350

المرأة في نهج البلاغة ... 183

تمهيد ... 185

المرأة ... شر؟! ... 187

رأي النساء ... 191

حماية المرأة ... 204

عود على بدء ... 209

الغيرة ... 210

النساء نواقص العقول؟! ... 212

العقل ... الدية ... 216

بين الدية والشهادة ... 220

ميراث النساء أقل؟ ... 222

إيمان النساء اقل؟ ... 223

شرار النساء وخيارهن ... 225

الغيبيات في نهج البلاغة ... 229

تمهيد ... 231

التكذيب ... 238

علم غيب ... أم علم من رسول الله صلى الله عليه واله؟ ... 241

الكوفة ... 248

البصرة ... 251

من هو؟ ... 253

بين السب والبراءة ... 256

صاحب الزنج ... 259

أما لماذا خرج في البصرة و أعلن دعونه فيها؟ ... 264

مروان و الأكبش الأربعة؟! ... 265

فتنة بني أمية ... 268

ص: 351

... وظلمهم ... 272

ضلّيل الشام ... 276

الحجّاج بن يوسف ... 285

أما السببان فهما: ... 285

مصير الخوارج ... 287

المهدي الموعود ... 296

فتن مظلمة ... 302

من هم؟ ... 309

آخر الزمان ... 311

النبؤة بالموت، وأشياء أخرى ... 317

قالوا في نهج البلاغة ... 331

السيد القائد الخامنه اي ... 333

الشهيد الدكتور علي شريعتي ... 334

المفكر الغربي هنري كوربن ... 336

الدكتور صبحي الصالح ... 337

الأديب اللبناني المعروف جورج جرداق ... 337

الأديب السوري لبيب بيضون ... 339

الأديب اللبناني المعروف نصري سلهب ... 339

الدكتور زكي مبارك ... 340

الإمام الشيخ محمد عبده ... 340

الأستاذ الهنداوي ... 342

الأديب اللبناني المعروف سليمان كتّاني ... 342

المصادر (أ ب) ... 345

الفهرس ... 349

ص: 352

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.